وقفات تربوية في ضوء
الكتاب والسنة
لفضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل
موقع فضيلة الشيخ عبد العزيز بن ناصر الجليل http://islamlight.net/aljiliyl/
شبكة نور الإسلام
www.islamlight.net
مقَدّمَة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد : لقد اقتضت إرادة الله عز وجل وحكمته البالغة أن يخلق الثقلين من الجن والإنس في هذه الدنيا للابتلاء والاختبار؛ فأرسل إليهم الرسل، وأنزل إليهم الكتب ليعرفوه سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وليأمرهم بتوحيده وعبادته وحده لا شريك له؛ قال تعالى : (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ )) (الملك:2) .
وقال تعالى: (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )) (النحل:36 ) .(1/1)
ثم إن الله عز وجل قضى أن يكون من عباده المؤمن به والكافر. وكتب الصراع بين أوليائه وأعدائه ليبلو بعضهم ببعض، فكانت سنة الابتلاء، وسنة الصراع بين الحق والباطل؛ قال تعالى : (( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْض)) (محمد: 4) . وروى الإمام مسلم في صحيحه عن عياض بن حمار المجاشعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته : (( ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا. كل مال نحلته عبداً حلال. وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي مالم أنزل به سلطاناً. وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم؛ عربهم وعجمهم؛ إلا بقايا من أهل الكتاب. وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك. وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظانَ.... الحديث ))(1). والشاهد من الحديث القدسي السابق قوله سبحانه (( إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك )) أي لأمتحنك بما يظهر منك من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة وغير ذلك من الجهاد في الله حق جهاده، والصبر في الله تعالى، وغير ذلك. وأبتلي بك من أرسلتك إليهم؛ فمنهم من يظهر إيمانه، ويخلص في طاعته، ومنهم من يتخلف وينابذ بالعداوة والكفر، ومنهم من ينافق. وإن الله عز وجل، بما له من الأسماء الحسنى والصفات العلى، كتب النصر والغلبة لأهل الحق من أوليائه الصالحين المصلحين، وكتب المهانة والذلة على أعدائه من الكافرين والمنافقين.
__________
(1) مسلم ( 2865 ) ك الجنة وصفة نعيمها .(1/2)
وهذه سنة لا تتخلف إلا إذا تخلفت أسبابها حيث يديل الله سبحانه أعداءه الكفرة على عباده المؤمنين، ويسلطهم عليهم ويظهرهم، فتظهر من ذلك الشرور والمصائب كما هو الحاصل في واقعنا المعاصر ؛ حيث الاستضعاف والذلة للمسلمين، والغلبة والقهر للكافرين، وما كان لسنة الله سبحانه أن تتبدل ولا أن تتحول؛ (( فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً )) ( فاطر : 43)
ولكن أسباب تحقيق سنة الله عز وجل في نصر عباده المؤمنين قد تخلفت؛ فحقت علينا سنة الله عز وجل في التغيير (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) (الرعد:11) .
وسنة الله سبحانه لا تحابي أحدا ً. ومع وضوح هذه السنة وجلائها من القرآن، وبمقتضى العقل والحس إلا أننا نجد من هو في غفلة عنها وعن مقتضى أسمائه سبحانه وصفاته العلى؛ حيث أدت هذه الغفلة عند البعض إلى شيء من اليأس والإحباط، أو إلى شيء من العجلة والتسرع أمام ضغط الواقع، وتسلط الأعداء، وانتشار الظلم والفساد. وقد سبق الحديث عن هذه السنة وما يتعلق بها في رسالة { مَتَى نَصْرُ اللَّهِ } وهي الرسالة الخامسة من هذه السلسلة. ولذلك فلن يكون الكلام في هذه الرسالة عن تلكم السنة، وإنما سينصب الاهتمام على سنة عظيمة تنبثق عنها السنة السابقة، والله سبحانه يعرفنا عليها من خلال أسمائه الحسنى وصفاته العلى، حيث إن الجهل بها أو الغفلة عنها بعد معرفتها يسهم أيضاً في مزيد من اليأس والقنوط، أو الجزع والتسخط، أو الاندفاع والعجلة والتهور.(1/3)
وهذه ( السنة ) هي موضوع هذه الرسالة وعنوانها: قوله تعالى: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) ؛ حيث إن تفهم هذه السنة الربانية ضروري في إحسان الظن بالله عز وجل، والثقة بحكمته ورحمته وأنه سبحانه لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير (( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )) (البقرة: 185) .
وهذا بدوره يبث الأمل في النفوس إزاء المصائب، ويبث الأمل في الأمة بأن المستقبل لهذا الدين مهما تسلط أعداؤه عليه وكادوا له كيداً (( إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً )) (الطارق: 15 ـ 17) .
وهو ضروري كذلك لإدراك أن رحمة الله عز وجل سبقت غضبه في كل ما يقدره على عباده المؤمنين (( كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )) (الأنعام:54) .
وما أجمل ما قاله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حول هذا المعنى في كتابه القيم : ( مفتاح دار السعادة ) ؛ قال رحمه الله تعالى : ((قد شهدت الفطر والعقول بأن للعالم رباً قادراً، حليماً، عليماً، رحيماً، كاملاً في ذاته وصفاته، لا يكون إلا مريداً للخير لعباده، مجرياً لهم على الشريعة والسنة الفاضلة العائدة باستصلاحهم، الموافقة لما ركب في عقولهم من استحسان الحسن، واستقباح القبيح، وما جبل طباعهم عليه من إيثار النافع لهم المصلح لشأنهم، وترك الضار المفسد لهم.(1/4)
وشهدت هذه الشريعة له بأنه أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه المحيط بكل شيء علماً. وإذا عرف ذلك فليس من الحكمة الإلهية، بل ولا الحكمة في ملوك العالم أنهم يسوون بين من هو تحت تدبيرهم من تعريفهم كل ما يعرفه الملوك، وإعلامهم جميع ما يعلمونه، وإطلاعهم على كل ما يجرون عليه سياساتهم في أنفسهم وفي منازلهم حتى لا يقيموا في بلد منها إلا أخبروا من تحت أيديهم السبب في ذلك، والمعنى الذي قصدوه منه، ولا يأمرون رعيتهم بأمر، ولا يضربون عليهم بعثاً، ولا يسوسونهم سياسة إلا أخبروهم بوجه ذلك وسببه وغايته ومدته، بل لا تتصرف بهم الأحوال في مطاعمهم وملابسهم ومراكبهم إلا أوقفوهم على أغراضهم فيه.
ولا شك أن هذا مناف للحكمة والمصلحة بين المخلوقين، فكيف بشأن رب العالمين وأحكم الحاكمين الذي لا يشاركه في علمه ولا حكمه أحد أبداً؟! فحسب العقول الكاملة أن تستدل بما عرفت من حكمته على ما غاب عنها، وتعلم أن له حكمة في كل ما خلقه وأمر به وشرعه. وهل تقتضي الحكمة أن يخبر الله تعالى كل عبد من عباده بكل ما يفعل ويوقفهم على وجه تدبيره في كل ما يريده؟ وعلى حكمته في صغير ما ذرأ وبرأ من خليقته؟ وهل في قوى المخلوقات ذلك؟ بل طوى سبحانه كثيراً من صنعه وأمره عن جميع خلقه؛ فلم يطلع على ذلك ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً.(1/5)
والمدبر الحكيم من البشر إذا ثبتت حكمته وابتغاؤه الصلاح لمن تحت تدبيره وسياسته كفى في ذلك تتبع مقاصده فيمن يولي ويعزل، وفي جنس ما يأمر به وينهى عنه، وفي تدبيره لرعيته وسياسته لهم دون تفاصيل كل فعل من أفعاله، اللَّهم إلا أن يبلغ الأمر في ذلك مبلغاً لا يوجد لفعله منفذ ومساغ في المصلحة أصلاً؛ فحينئذ يخرج بذلك عن استحقاق اسم الحكيم، ولن يجد أحد في خلق الله ولا في أمره ولا واحداً من هذا الضرب، بل غاية ما تخرجه نفس المتعنت أمور يعجز العقل عن معرفة وجوهها وحكمتها، وأما أن ينفي ذلك عنها فمعاذ الله إلا أن يكون ما أخرجه كذب على الخلق والأمر، فلم يخلق الله ذلك ولا شرعه.
وإذا عرف هذا فقد علم أن رب العالمين : أحكم الحاكمين، والعالم بكل شيء، والغني عن كل شيء، والقادر على كل شيء. ومن هذا شأنه لم تخرج أفعاله وأوامره قط عن الحكمة والرحمة والمصلحة، وما يخفى على العباد من معاني حكمته في صنعه وإبداعه وأمره وشرعه فيكفيهم فيه معرفته بالوجه العام أن تضمنته حكمة بالغة، وإن لم يعرفوا تفصيلها، وأن ذلك من علم الغيب الذي استأثر الله به؛ فيكفيهم في ذلك الإسناد إلى الحكمة البالغة العامة الشاملة، التي علموا ما خفي منها بما ظهر لهم))(1) ا هـ.
__________
(1) مفتاح دار السعادة ص326 .(1/6)
وأكتفي بهذا القدر في هذه المقدمة لأن التفصيل سيأتي إن شاء الله في ثنايا البحث من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والمواقف العملية التي تظهر لنا منها ثمار هذه السنة الكريمة، وخاصة في واقعنا المعاصر المليء بالشبهات، والشهوات، والمتناقضات، والمكائد والمؤامرات. وقد قسمت الموضوع إلى المباحث التالية : 1- أهمية الموضوع. 2- بعض الآيات الواردة في ذلك. 3- بعض الأحاديث والآثار الواردة في ذلك. 4- بعض الأحداث والمواقف المعبرة. 5- تنبيه واحتراس. 6- من ثمرات هذه السنة. 7- بعض الوسائل الجالبة لفقه هذه السنة. 8- حال المسلمين اليوم في ضوء هذه السنة 9- الخاتمة.وإنه ليس لي في هذا البحث جهد إلا جمع ما قاله أئمتنا من العلماء
والدعاة، ثم الربط بين أقوالهم؛ فجزاهم الله عنا خيراً.
أسأل الله عز وجل أن ينفع به جامعه وقارئه، وأن يرزقنا الإخلاص والصواب فيما نقول ونعمل، ونأخذ ونذر. إنه سميع مجيب.تنبيه : سيتكرر في هذا البحث جملة (هذه السنة )كثيراًَ، والمقصود منها قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) .
* * *المبحث الأولأهمية الموضوع
في هذا المبحث سأحاول جاهداً - إن شاء الله تعالى - أن أفصل ما أجمل في المقدمة السابقة، موضحاً بذلك الدوافع التي دفعت إلى هذا الموضوع، وبيان شيء من أهميته، وذلك من خلال الأمور التالية. الأمر الأول : علاقة هذه السنة بالعقيدة قوة وضعفاً؛ فكلما قوي الإيمان بالله عز وجل في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، كلما قوي الفهم لهذه السنة، وأثمرت في القلب ثمارها الطيبة.
والإيمان بهذه السنة والاصطباغ بها هو مقتضى الرضا بالله رباً ومعبوداً، ومقتضى أسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ حيث إن هذه السنة من ثمرات أسمائه سبحانه الحسنى، والتي منها الحكيم والعليم والكريم واللطيف والبر الرحيم.. وغيرها من الأسماء والصفات التي يجب التعبد لله سبحانه بها.(1/7)
كما يظهر الارتباط بين هذه السنة وبين التوحيد، في أثرها على صدق التوكل على الله عز وجل، وتفويض الأمور إليه، واليقين والثقة بوعده، وإحسان الظن به جل وعلا، وأنه سبحانه لا يريد بعباده المؤمنين إلا الخير والإصلاح.
فمهما ظهر من الشرور والمصائب، فله سبحانه الحكمة البالغة : (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) (آل عمران:66) ،وأما ارتباطها بالأصل الخامس من أصول الإيمان - ألا وهو الإيمان باليوم الآخر - فهذا واضح؛ لأن اليقين باليوم الآخر، ورجاء الأجر من الله عز وجل هناك يقوي الارتباط بهذه السنة في أن الآخرة خير وأبقى، مهما فات من هذه الدنيا. وأما علاقتها بالأصل السادس من أصول الإيمان - ألا وهو الإيمان بالقدر خيره وشره - فهذا ظاهر لا يحتاج إلى تعليق.
الأمر الثاني : ما نراه اليوم في واقعنا المعاصر من الضغوط الشديدة والحرب الشرسة من أعداء هذا الدين من اليهود والنصارى والمنافقين والمفسدين، وما يكيدون به لهذا الدين وأهله من الاستضعاف والتشويه والابتلاء؛ مما أدى أو يؤدي إلى ظهور حالات اليأس والإحباط من تغير الحال، أو الشعور بالهزيمة النفسية والهوان والاستكانة. فكان لابد من التذكير بهذه السنة العظيمة التي تقوي اليقين بوعد الله سبحانه، والثقة بنصره، والاطمئنان إلى قضائه وتدبيره، وأنه سبحانه الحكيم العليم فيما يقضي ويقدر، ولابد أن يأتي الخير بعد الشر عندما يأذن الله سبحانه في ذلك وفق علمه الشامل، وحكمته البالغة، وسننه التي لا تتبدل ولا تتحول. الأمر الثالث : الجهل الحاصل عند بعض المسلمين بسنن الله سبحانه في التغيير، أو التغافل عنها بعد معرفتها. وإن في فهم قوله تعالى: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) (النور:11) خير معين لتفهم سنن الله عز وجل الأخرى كما في قوله تعالى (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) (الرعد:11) .(1/8)
وفي هذه المعرفة فتح بابٍ للمنهج الصحيح في الدعوة إلى الله سبحانه، كما أن فيها وقاية من التخبط والاضطراب في المناهج والاجتهادات، كما أن في دراسة هذه السنة وربط الأحداث والوقائع بها أكبر ضمانة للعقل المسلم من أن يتأثر بالتصورات الجاهلية، والتفسيرات المادية للتاريخ والأحداث التي سيطرت اليوم على كثير من عقول المسلمين المتأثرين بوسائل الإعلام المادية وبالثقافات التي لا تؤمن بالله، ولا باليوم الآخر، ولا بالقدر خيره وشره. الأمر الرابع : التنبيه إلى طلب الخيرة من الله سبحانه في كل الأمور، وتفويض الأمور إلى حسن تدبيره عز وجل واختياره؛ لأنه سبحانه يعلم ولا نعلم، ويقدر ولا نقدر، وهو علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون، ويعلم أين يكون الخير، وأين يكمن الشر. ولذلك جاء التوجيه إلى دعاء الاستخارة في الأمور كلها. وسيأتي ذكر هذا الدعاء في مبحث الأحاديث الواردة في ذلك إن شاء الله تعالى. الأمر الخامس : كثرة المشاكل والمصائب في زماننا هذا، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، والتي أدت إلى ظهور كثير من الأمراض النفسية المعقدة : كالقلق، والاكتئاب، والفصام وغيرها، حتى أصبحت سمة لواقعنا المعاصر.
وقد أسهم في ظهور هذه الأمراض أمور عدة أهمها : عدم معرفة الله سبحانه بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته المعرفة التي تزرع في القلب الاطمئنان والرضا، وتفويض الأمور إليه سبحانه، وحسن الظن به عز وجل، وأن اختيار الله لعبده أحسن من اختيار العبد لنفسه، ولو ظهر ما يكرهه العبد ويؤذيه.(1/9)
إن في تفهم قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) أحسن علاج لهذه، الأمراض وغيرها. الأمر السادس : إن في هذه السنة وتفهمها طريقاً موصلاً إلى الفقه بقاعدة الشرع العظيمة، والتي بنيت عليها أحكام الشرع؛ ألا وهي اليسر ورفع الحرج والمشقة، وأن الله عز وجل لا يريد بعباده إلا اليسر والرحمة : سواء في أحكامه الكونية القدرية، أو الدينية الشرعية.
* * *المبحث الثانيبعض الآيات الواردة في ذلك
ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة ينبه الله سبحانه وتعالى فيها على هذه السنة الكريمة ويلفت الأنظار إليها : إما على إثر حكم تكليفي يشرعه سبحانه، أو بعد حدث من الأحداث، وموقف من المواقف.
وفي هذا المبحث سأذكر إن شاء الله تعالى بعض الآيات المتعلقة بموضوعنا، وبعضها الآخر يأتي ضمن مبحث الثمرات، وأكتفي هنا بما سطره بعض المفسرين الكرام من علماء الأمة حول هذه الآيات، حيث لا مزيد عليها ولا استدراك فرحمهم الله وعفا عنهم.
الآية الأولى والثانية :
قوله تعالى: (( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) (البقرة:216) .
وقوله تعالى : (( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً )) (النساء: 19) .(1/10)
يعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على هاتين الآيتين فيقول : (( فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية : والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية؛ فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه، وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده، ويحب الموادعة والمتاركة، وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده، وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها؛ وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه، ويحب المرأة لوصف من أوصافها؛ وله في إمساكها شر كثير لا يعرفه. فالإنسان كما وصفه خالقه : ظلوم جهول فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضره وينفعه ميله وحبه، ونفرته وبغضه؛ بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه.
فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه، وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه. فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصاً له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيراً له، وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له، فمن صحت له معرفة ربه، والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به، فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته؛ بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب.(1/11)
فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها؛ فانظر إلى غارس جنة من الجنات - خبير بالفلاحة - غرس جنة، وتعاهدها بالسقي والإصلاح حتى أثمرت أشجارها؛ فأقبل عليها يفصل أوصالها، ويقطع أغصانها؛ لعلمه أنها لو خليت على حالها لم تطب ثمرتها؛ فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة حتى إذا التحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل يقلمها، ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك، ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت، بل يعطشها وقتا، ويسقيها وقتاً، ولا يترك الماء عليها دائماً وإن كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها، ثم يعمد إلى تلكم الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقي عنها كثيراً منها؛ لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها كما في شجر العنب ونحوه، فهو يقطع أعضاءها بالحديد، ويلقي عنها كثيراً من زينتها! وذلك عين مصلحتها، فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان لتوهمت أن ذلك إفساد لها، وإضرار بها، وإنما هو عين مصلحتها.
وكذلك الأب الشفيق على ولده، العالم بمصلحته؛ إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده، وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد. وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه؛ كل ذلك رحمة به، وشفقة عليه. وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه. وكذلك يمنعه كثيراً من شهواته حمية له ومصلحة لا بخلاً عليه.(1/12)
فأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأعلم العالمين، الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيراً لهم من أن لاينزله بهم؛ نظراً منه لهم، وإحساناً إليهم، ولطفاً بهم. ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علماً وإرادة وعملاً، لكنه سبحانه تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته - أحبوا أم كرهوا - فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه، وخفي ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته فنازعوه تدبيره، وقدحوا في حكمته، ولم ينقادوا لحكمه، وعارضوا حكمته بعقولهم الفاسدة،وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة !فلا لربهم عرفوا، ولا
لمصالحهم حصلوا. والله الموفق ))(1) اهـ .
وذكر القرطبي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: (( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً )) (البقرة:216) قوله: ((وقال أبو عبيدة : ((عسى)) من الله إيجاب، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم : في أنكم تغلبون، وتَظفرون، وتَغنَمون، وتؤجرون، ومن مات مات شهيداً، وعسى أن تحبّوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم : في أنكم تُغلبون، وتُذلُّون، ويذهب أمركم.
قلت : وهذا صحيح لا غبار عليه؛ كما اتفق في بلاد الأندلس، تركوا الجهاد، وجبنوا عن القتال، وأكثروا من الفرار؛ فاستولى العدو على البلاد، وأي بلاد؟! وأسر وقتل وسبى واسترقّ، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته !
وقال الحسن في معنى الآية : لا تكرهوا الملمات الواقعة؛ فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك، ولرب أمر تحبه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير :
رُبَّ أمرٍ تتّقِيهِ جرَّ أمراً تَرتَضِيهِ خَفِيَ المحبوبُ منه وبَدَا المكروهُ فيهِ(2))) ا هـ .
__________
(1) الفوائد ص91 ـ 93 .
(2) تفسير القرطبي عند الآية ( 216 ) من سورة البقرة .(1/13)
وعند قوله تعالى: (( وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً)) (النساء: 19) .
يقول صاحب تفسير المنار رحمه الله تعالى، بعد أن ذكر ما في إمساك المرأة مع الكُره لها من الخير : »هذا وإن التعليل في الآية يرشدنا إلى قاعدة عامة تأتي في جميع الأشياء لا في النساء خاصة وهي أن بعض ما يكرهه الإنسان يكون فيه خير له؛ متى جاء ذلك الخير تظهر قيمة ذلك الشيء المكروه. وهي قاعدة عرف العقلاء صدقها بالتجارب، ولأجل التنبيه لها قال تعالى (( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً )) ولم يقل : (( وعسى أن تكرهوا امرأة )) .
ثم إن في الصبر على المكروه واحتماله فوائد أخرى غير ما يمكن أن يكون في المكروه نفسه من الخير المحبوب؛ فالصابر المتحمل يستفيد من كل مكروه بصبره وروّيته سواء ترتب عليه في ذاته خير أم لا.
ومن المكروه الذي يترتب عليه خير القتال بالحق لأجل حماية الحق والدفاع عنه؛ فهو بما فيه من المشقة مكروه طبعاً، وناهيك بما يترتب عليه من إظهار الحق ونصره، وظهور أهله، وخذلان الباطل وحزبه))(1) اهـ .
__________
(1) تفسير المنار ( لمحمد رشيد رضا ) عند الآية ( 19 ) من سورة النساء .(1/14)
ونختم الحديث عن هذه الآية من سورة البقرة بتعليق مفيد لصاحب الظلال رحمه الله تعالى حيث يقول : ((إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالماً آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه، وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون، وتقلّب الأمور، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه. وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيّعاً في يد القدر، يعمل ويرجو، ويطمع ويخاف، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل، وهو راضٍ قرير.. إنه الدخول في السلم من بابه الواسع.. فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله، وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها، وأن تطلب منه البرهان!
إن الإذعان الواثق، والرجاء الهادئ، والسعي المطمئن.. هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة.. وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط. في يسر وفي هوادة وفي رخاء؛ يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال؛ فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال.
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني، لا يقف عند حد القتال، فالقتال ليس إلا مثلاً لما تكرهه النفس، ويكون من ورائه الخير.. إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها. ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها.. إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر...
...وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائها الخير العميم. ولذّات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم. وكم من مطلوب يكاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذاً من الله أن فَّوت عليه هذا المطلوب في حينه،وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثاً يكاد يتقطع لفظاعتها، ثم نظر بعد فترة فإذا هي تنشئ له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل.(1/15)
إن الإنسان لا يعلم. والله وحده يعلم. فماذا على الإنسان لو يستسلم؟
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية، لتؤمن، وتسلم، وتستسلم في أمر الغيب المخبوء بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف.. ))(1) .
الآية الثالثة :
قوله تعالى: (( إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )) .
(آل عمران:140 ـ 141)
وهذه الآيات وما بعدها نزلت في غزوة أحد، وما أصاب المسلمين فيها من الشدة والقرح. والشاهد من هذه الآية آخرها، حيث ذكرالله سبحانه أن من وراء هذه الشدة واللأواء خيراً للمسلمين؛ وذلك لفوز بعضهم بالشهادة التي هي خير مما يجمعون، كما أن فيها كشفاً وتمحيصاً للنفوس، وظهورها على حقيقتها؛ وفي هذا خير كثير.
وسيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله في مبحث المواقف والأحداث، وأكتفي هنا بما ذكره بعض المفسرين حول هذه الآية.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية : (( إن الشدة بعد الرخاء، والرخاء بعد الشدة، هما اللذان يكشفان عن معادن النفوس، وطبائع القلوب، ودرجة الغبش فيها والصفاء، ودرجة الهلع فيها والصبر، ودرجة الثقة فيها بالله أو القنوط، ودرجة الاستسلام فيها لقدر الله أو البرم به والجموح !
عندئذ يتميز الصف ويتكشف عن : مؤمنين ومنافقين، ويظهر هؤلاء وهؤلاء على حقيقتهم، وتتكشف في دنيا الناس دخائل نفوسهم. ويزول عن الصف ذلك الدخل وتلك الخلخلة التي تنشأ من قلة التناسق بين أعضائه وأفراده وهم مختلطون مبهمون !
__________
(1) تفسير في ظلال القرآن ، الآية ( 216 ) من سورة البقرة .(1/16)
والله سبحانه يعْلم المؤمنين والمنافقين، والله سبحانه يعلم ما تنطوي عليه الصدور، ولكن الأحداث ومداولة الأيام بين الناس تكشف المخبوء، وتجعله واقعاً في حياة الناس، وتحوّل الإيمان إلى عمل ظاهر، وتحوّل النفاق كذلك إلى تصرف ظاهر، ومن ثم يتعلق به الحساب والجزاء، فالله سبحانه لا يحاسب الناس على ما يعلمه من أمرهم، ولكن يحاسبهم على وقوعه منهم ....
... ثم يمضي السياق القرآني يكشف عن الحكمة الكامنة وراء الأحداث في تربية الأمة المسلمة وتمحيصها وإعدادها لدورها الأعلى، ولتكون أداة من أدوات قدره في محق الكافرين، وستاراً لقدرته في هلاك المكذبين: (( وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )).
والتمحيص درجة بعد الفرز والتمييز، التمحيص عملية تتم في داخل النفس وفي مكنون الضمير،، إنها عملية كشف لمكنونات الشخصية، وتسليط الضوء على هذه المكنونات تمهيداً لإخراج الدخل والدغل والأوشاب، وتركها نقية واضحة مستقرة على الحق، بلا غبش ولا ضباب .
وكثيراً ما يجهل الإنسان نفسه، ومخابئها ودروبها ومنحنياتها، وكثيراً ما يجهل حقيقة ضعفها وقوتها، وحقيقة ما استكن فيها من رواسب، لا تظهر إلا بمثير !
وفي هذا التمحيص الذي يتولاه الله سبحانه بمداولة الأيام بين الناس بين الشدة والرخاء يعلم المؤمنون من أنفسهم ما لم يكونوا يعلمونه قبل هذا المحك المرير: محك الأحداث والتجارب والمواقف العملية الواقعية، ولقد يظن الإنسان في نفسه القدرة والشجاعة والتجرد والخلاص من الشح والحرص،، ثم إذا هو يكشف على ضوء التجربة العملية، وفي مواجهة الأحداث الواقعية أن في نفسه عقابيل لم تمحص، وأنه لم يتهيأ لمثل هذا المستوى من الضغوط. ومن الخير أن يعلم هذا من نفسه، ليعاود المحاولة في سبكها من جديد، على مستوى الضغوط التي تقتضيها طبيعة هذه الدعوة، وعلى مستوى التكاليف التي تقتضيها هذه العقيدة.(1/17)
والله سبحانه كان يربي هذه الجماعة المختارة لقيادة البشرية، وكان يريد بها أمراً في هذه الأرض فمحّصها هذا التمحيص، الذي تكشفت عنه الأحداث في أحد، لترتفع إلى مستوى الدور المقدر لها، وليتحقق على يديها قدر الله الذي ناطه بها .
(( وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ ))..
تحقيقاً لسنته في دمغ الباطل بالحق متى استعلن الحق، وخلص من الشوائب بالتمحيص ))(1) ا هـ .
ويقول الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله عند هذه الآية أيضاً: (( ... فالإنسان يلتبس عليه أمر نفسه فلا يتجلى كمال التجلي إلا بالتجارب الكثيرة، والامتحان بالشدائد العظيمة؛ فالتجارب والشدائد كتمحيص الذهب يظهر به زيفه ونضاره، ثم إنها أيضاً تنفي خبثه وزغله، كذلك كان الأمر في أحد: تميز المؤمنون الصادقون من المنافقين وتطهرت نفوس بعض ضعفاء المؤمنين من كدورتها فصارت تبرا خالصاً، وهؤلاء هم الذين خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم وطمعوا في الغنيمة، والذين انهزموا وولوا وهم مدبرون، محص الجميع بتلك الشدة فعلموا أن المسلم ما خلق ليلهو ويلعب، ولا ليكسل ويتواكل، ولا لينال الظفر والسيادة بخوارق العادات، وتبديل سنن الله في المخلوقات بل خلق ليكون أكثر الناس جداً في العلم، وأشدهم محافظة على النواميس والسنن ))(2) ا هـ .
الآية الرابعة:
قوله تعالى: (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ )) (آل عمران:179) .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: ((أي: لابد أن يعقد سبباً من المحنة، يظهر فيه وليّه وينفضح فيه عدوّه، يُعرف به المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر ))(3) ا هـ .
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآية ( 141 ) من سورة آل عمران .
(2) تفسير المنار : عند الآية ( 141 ) من سورة آل عمران .
(3) تفسير ابن كثير : عند الآية ( 179 ) من سورة آل عمران .(1/18)
ويتحدث صاحب تفسير المنار محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى عن الخير الكامن في الشرور والابتلاءات فيقول معلقاً على هذه الآية: (( الشدائد تميز بين القوي في الإيمان والضعيف فيه، فهي التي ترفع ضعيف العزيمة إلى مرتبة قويها، وتزيل الالتباس بين الصادقين والمنافقين وفي ذلك فوائد كثيرة منها:
ـ أن الصادق قد يفضي ببعض أسرار الملة إلى المنافق؛ لما يغلب عليه من
حسن الظن والانخداع بأداء المنافق للواجبات الظاهرة، ومشاركته للصادقين في سائر الأعمال؛ فإذا عرفه اتقى ذلك .
ـ ومنها أن تعرف الجماعة وزن قوتها الحقيقية لأنها بانكشاف حال المنافقين لها تعرف أنهم عليها لا لها، وبانكشاف حال الضعفاء الذين لم تُربهّم الشدة تعرف أنهم لا عليها ولا لها . هذا بعض ما تكشفه الشدة للجماعة من ضرر الالتباس، وأما الأفراد ، فإنها تكشف لهم حجب الغرور بأنفسهم؛ فإن المؤمن الصادق قد يغترّ بنفسه فلا يدرك ما فيها من الضعف في الاعتقاد والأخلاق لأن هذا مما يخفى مكانه على صاحبه حتى تظهره الشدائد؛ فلما كان هذا اللبس ضاراً بالأفراد والجماعات ولم يكن من شأن الله ولا من حكمته أن يستبقي في عباده ما يضرهم؛ مضت سنته بأن يميز الخبيث من الطيب فتظهر الخفايا، وتبلي السرائر حتى يرتفع الالتباس، ويتضح المنهج السوي للناس ))(1)ا هـ.
الآية الخامسة:
قوله تعالى: (( قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ )) (الأنعام: 12) .
ومناسبة هذه الآية لموضوعنا هي أن رحمة الله عز وجل بعباده هي الأصل في كل ما يقضيه ويقدره .
__________
(1) تفسير المنار : عند الآية ( 179 ) من سورة آل عمران .(1/19)
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى عند هذه الآية: ((فرحمة الله بعباده هي الأصل حتى في ابتلائه لهم أحياناً بالضراء، فهو يبتليهم ليعد طائفة منهم بهذا الابتلاء لحمل أمانته، بعد الخلوص والتجرد والمعرفة والوعي والاستعداد والتهيؤ عن طريق هذا الابتلاء، وليميز الخبيت من الطيب في الصف، وليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة،، والرحمة في هذا كله ظاهرة ... إن الشعور بهذه الحقيقة على هذا النحو ليسكب في قلب المؤمن الطمأنينة إلى ربه ـ حتى وهو يمر بفترات الابتلاء بالضراء التي تزيغ فيها القلوب والأبصار ـ فهو يستيقن أن الرحمة وراء كل لمحة، وكل حالة، وكل وضع؛ وأن ربه لا يعرضه للابتلاء لأنه تخلى عنه، أو طرده من رحمته، فإن الله لا يطرد من رحمته أحداً يرجوها، إنما يطرد الناسُ أنفسهم من هذه الرحمة حين يكفرون بالله، ويرفضون رحمته ويبعدون عنها!
وهذه الطمأنينة إلى رحمة الله تملأ القلب بالثبات والصبر، وبالرجاء والأمل، وبالهدوء والراحة،،، فهو في كنف ودود، يستروح ظلاله، ما دام لا يُبعد عنه في الشرود! ))(1)ا هـ .
الآية السادسة:
قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ )) (النور:11) .
وقد نزلت هذه الآية في تبرئة أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق عائشة رضي الله عنها من الإفك المفترى عليها والتهمة الشنيعة التي ألصقت بها،
وذلك بعد رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من غزوة بني المصطلق ( المريسيع ) .
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآية 12 من سورة الأنعام .(1/20)
ومن هذه الآية أُخذ عنوان هذا البحث: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ )) لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وفي هذه الآية يذكر الله عز وجل أن من وراء هذا الحدث المؤلم خيراً ورحمة، وإن كان مؤلماً للرسول صلى الله عليه وسلم ، ولعائشة رضي الله عنها، ولآل أبي بكر وللمسلمين بعامة، ومن هذا الخير ما ذكره سيد قطب رحمه الله في تفسيره إذ يقول:
((... فهو يكشف عن الكائدين للإسلام في شخص رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأهل بيته، وهو يكشف للجماعة المسلمة عن ضرورة تحريم القذف، وأخذ القاذفين بالحد الذي فرضه الله، ويبين مدى الأخطار التي تحيق بالجماعة لو أطلقت فيها الألسنة تقذف المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي عندئذ لا تقف عند حد إنما تمضي صعداً إلى أشرف المقامات، وتتطاول إلى أعلى الهامات، وتعدم الجماعة كل وقاية،وكل تحرج،وكل حياء))(1)ا هـ.
وذكر الرازي في تفسيره بعض جوانب الخير في هذه القصة عند تفسيره لهذه الآية فقال:
(( ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم تأذى بذلك، وكذلك أبو بكر ومن يتصل به، فإن قيل فمن أي جهة يصير خيراً لهم مع أنه مضرة في العاجل؟ قلنا لوجوه:
أحدها: بأنهم صبروا على ذلك الغم طلباً لمرضاة الله تعالى فاستوجبوا به الثواب: وهذه طريقة المؤمنين عند وقوع الظلم بهم.
وثانيها: أنه لولا إظهارهم للإفك كان يجوز أن تبقى التهمة كامنة في صدور البعض، وعند الإظهار انكشف كذب القوم على مر الدهر.
وثالثها: أنه صار خيراً لهم لما فيه من شرفهم، وبيان فضلهم من حيث نزلت ثمان عشرة آية كل واحدة منها مستقلة ببراءة عائشة، وشهد الله تعالى بكذب القاذفين، ونسبهم إلى الإفك، وأوجب عليهم اللعن والذم، وهذا غاية الشرف والفضل .
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآية ( 11 ) من سورة النور .(1/21)
ورابعها: صيرورتها بحال تعلق الكفر والإيمان بقدحها ومدحها؛ فإن الله تعالى نص على كون تلك الواقعة إفكاً وبالغ في شرحه؛ فكل من يشك فيه كان كافراً قطعاً، وهذه درجة عالية ))(1) ا هـ .
وأختم الحديث حول هذه الآية بلفتة جيدة أثارها المودودي رحمه الله تعالى في تفسيره لهذه الآية حيث يقول: (( .. ومن نواحي الخير في هذا الحادث، على ما تقدم أن المسلمين جميعاً علموا به أحسن العلم أن النبي ? لايعلم الغيب، وأنه لا يعلم إلا ما يخبره به الله سبحانه وتعالى،وأن علمه لا يفوق بعد ذلك علم عامة البشر.
فقد ظل إلى شهر كامل يعاني الألم وفجيعة القلب في أمر عائشة، فيسأل فيها خادم بيتها تارة، وعلياً أخرى، وأسامة بن زيد ثالثة، وأزواجه رابعة، وأخيراً يذهب إلى عائشة نفسها ولا يقول لها إلا: ((إن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ))(2) .
فلو أنهصلى الله عليه وسلم كان يعلم الغيب فلماذا كان يعاني هذا الألم والقلق والأرق الشديد المديد، ولماذا يسأل في عائشة غيره ويلقنها التوبة؟ ولكن لما نزل الوحي، وأحاطه بحقيقة الواقع؛ علم مالم يكن يعلم هو ولا غيره من البشر طول شهر كامل .
فهكذا أراد الله تعالى أن ينقذ المسلمين بالتجربة والمشاهدة المباشرة من الغلوّ في شخص مقتداهم ومرشدهم صلى الله عليه وسلم .
وليس من البعيد أن يكون هذا من المصالح التي لأجلها حبس الله سبحانه وتعالى وحيه عن رسوله إلى شهر كامل. ولو أنه أنزل عليه الوحي يوم وقع هذا الحادث، لما رجع على المسلمين بهذه الفائدة العظيمة))(3)ا هـ.
الآية السابعة:
__________
(1) تفسير الرازي : الآية ( 11 ) من سورة النور .
(2) رواه البخاري في التفسير ( 4757 ) ، ومسلم في التوبة ( 2770 ) .
(3) تفسير سورة النور للمودودي ص126 .(1/22)
قوله تعالى: (( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) (فاطر:2) .
ومن خير ما قرأت حول هذه الآية ما كتبه سيد قطب رحمه الله تعالى حيث عاش مع هذه الآية بكيانه وانفتحت له في هذه الآية معان عظيمة سطرها في ثلاث صفحات كاملة أنصح كل أخ مسلم بقراءتها كاملة، حيث لا يتسع المقام إلا لمقتطفات منها، يقول رحمه الله تعالى: (( وما من نعمة - يمسك الله معها رحمته - حتى تنقلب هي بذاتها نقمة، وما من محنة - تحفها رحمة الله-حتى تكون هي بذاتها نعمة...ينام الإنسان على الشوك مع رحمة الله - فإذا هو مهاد، وينام على الحرير - وقد أُمسكت عنه -فإذا هو شوك القتاد. ويعالج أعسر الأمور- برحمة الله - فإذا هي هوادة ويسر، ويعالج أيسر الأمور-وقد تخلت رحمة الله-فإذا هي مشقة وعسر. ويخوض بها المخاوف والأخطار فإذا هي أمن وسلام، ويعبر بدونها المناهج والمسالك فإذا هي مهلكة وبوار!
ولاضيق مع رحمة الله، إنما الضيق في إمساكها دون سواه، لا ضيق ولو كان صاحبها في غياهب السجن، أو في جحيم العذاب، أو في شعاب الهلاك، ولاوسعة مع إمساكها ولو تقلب الإنسان في أعطاف النعيم، وفي مراتع الرخاء، فمن داخل النفس برحمة الله تتفجَّر ينابيع السعادة والرضا والطمأنينة، ومن داخل النفس مع إمساكها تدب عقارب القلق والتعب والنصب والكدر والمعاناة !...
... المال والولد، والصحة والقوة، والجاه والسلطان ، تصبح مصادر قلق وتعب ونكد وجهد إذا أمسكت عنها رحمة الله، فإذا فتح الله أبواب رحمته كان فيها السكن والراحة والسعادة والاطمئنان ...
...(1/23)
رحمة الله لاتعز على طالب في أي مكان، ولا في أي حال، وجدها إبراهيم عليه السلام في النار، ووجدها يوسف عليه السلام في الجب، كما وجدها في السجن، ووجدها يونس عليه السلام في بطن الحوت في ظلمات ثلاث، ووجدها موسى عليه السلام في اليم وهو طفل مجّرد من كل قوة ومن كل حراسة، كما وجدها في قصر فرعون وهو عدو له، متربص به، ويبحث عنه! ووجدها أصحاب الكهف في الكهف حين افتقدوها في القصور والدور؛ فقال بعضهم لبعض: (( فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ)) (الكهف: )، ووجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار والقوم يتعقبونهما ويقصون الآثار ... ووجدها كل من آوى إليها يائساً من كل ما سواها، منقطعاً عن كل شبهة في قوة، وعن كل مظنة في رحمة، قاصداً باب الله وحده دون الأبواب ))(1) ا هـ .
والشاهد من هذه الآية: أن لا يجزع المسلم من المكروه إذا ظهر له؛ فإنه متى ما فتح الله رحمته فيه كان رخاءً وخيراً وروحاً واسترواحاً، كما يجب عليه أن لا يغتر بالخير والرخاء والسرور الظاهر فإنه متى ما أمسكت عنه رحمة الله عز وجل أصبح شقاء ونكداً وضيقاً.
إن هذه هي الموازين الثابتة التي لا تهتز ولا تتأرجح، والتي يجب أن توزن بها الحياة والأشياء،
* * *
المبحث الثالثبعض الأحاديث والآثار الواردة في ذلك
وفي هذا المبحث أُورد بعض الأحاديث والآثار التي تتكلم عن سنة الله عزو جل في قضائه وحكمه، وأنه سبحانه يريد الخير والرحمة بعباده ولو ظهر للناس خلاف ذلك .
وسأذيل على بعض الأحاديث بما يناسب من التعليقات إن شاء الله تعالى
أولاً: الأحاديث :
الحديث الأول:
__________
(1) في ظلال القرآن : الآية ( 2 ) من سورة فاطر .(1/24)
عن علي بن أبي طالب، عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم ، أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: (( وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللَّهم. أنت الملك لا إله إلا أنت، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي، واعترفت بذنبي؛ فاغفر لي ذنوبي جميعاً إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشر ليس إليك، أنا بك وإليك، تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك ))(1) .
والشاهد من هذا الحديث العظيم ما جاء في آخره: ((والشر ليس إليك )) حيث نفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون في أفعال الله عز وجل شرٌ وإنما هو الخير والحكمة والرحمة، وعلى هذا يعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول: ((فهذا النفي يقتضي امتناع إضافة الشر إليه تعالى بوجه؛ فلا يضاف إلى ذاته ولا صفاته ولا أسمائه ولا أفعاله؛ فإن ذاته منزهة عن كل شر، وصفاته كذلك؛ إذ كلها صفات كمال، ونعوت جلال، لانقص فيها بوجه من الوجوه، وأسماؤه كلها حسنى ليس فيها اسم ذم ولا عيب، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وإحسان وعدل لا تخرج عن ذلك البتة، وهو المحمود على ذلك كله فيستحيل إضافة الشر إليه ))(2) ا هـ.
ويقول أيضاً في موطن آخر: ((فإن الشر لا يدخل في شيء من صفاته ولا في أفعاله كما لا يلحق ذاته تبارك وتعالى؛ فإن ذاته لها الكمال المطلق الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه، وأوصافه كذلك لها الكمال المطلق والجلال التام، ولا عيب فيها ولا نقص بوجه ما، وكذلك أفعاله كلها خيرات محضة لا شر فيها أصلاً.
__________
(1) رواه مسلم : كتاب صلاة المسافرين ـ باب(26)الدعاء في صلاة الليل وقيامه(1/534)(771) .
(2) طريق الهجررتين ص163 ط . الشئون الدينية بقطر .(1/25)
ولو فعل الشر سبحانه لا شتق له منه اسم، ولم تكن أسماؤه كلها حسنى، ولعاد إليه منه حكم ـ تعالى وتقدس عن ذلك ـ وما يفعله من العدل بعباده وعقوبة من يستحق العقوبة منهم هو خير محض؛ إذ هو محض العدل والحكمة، وإنما يكون شرا بالنسبة إليهم؛ فالشر وقع في تعلقه بهم، وقيامه بهم لا في فعله القائم به تعالى .
ونحن لا ننكر أن الشر يكون في مفعولاته المنفصلة: فإنه خالق الخير والشر، ولكن هنا أمران ينبغي أن يكونا منك على بال:
أحدهما : أن ما هو شر أو متضمن للشر فإنه لا يكون إلا مفعولا منفصلاً لايكون وصفاً له ولا فعلا من أفعاله .
الثاني: أن كونه شراً هو أمر نسبي إضافي فهو خير من جهة تعلق فعل الرب وتكوينه به، وشر من جهة نسبته إلى من هو شر في حقه، فله وجهان هو من أحدهما خير، وهو الوجه الذي نسب منه إلى الخالق سبحانه وتعالى: خلقاً وتكويناً ومشيئة؛ لما فيه من الحكمة البالغة التي استأثر بعلمها، وأطلع من شاء من خلقه على ما شاء منها.
وأكثر الناس تضيق عقولهم عن مبادي معرفتها، فضلا عن حقيقتها؛ فيكفيهم الإيمان المجمل بأن الله سبحانه هو الغني الحميد، وفاعل الشر لا يفعله (إلا)(1)لحاجته المنافية لغناه أو لنقصه وعيبه المنافي لحمده؛ فيستحيل صدور الشر من الغني الحميد فعلاً، وإن كان هو الخالق للخير والشر فقد عرفت أن كونه شراً هو أمر إضافي، هو في نفسه خير من جهة نسبته إلى خالقه ومبدعه، فلا تغفل عن هذا الموضع فإنه يفتح لك باباً عظيماً من معرفة الرب ومحبته ويزيل عنك شبهات حارت فيها عقول أكثر الفضلاء، وقد بسطت هذا في كتاب التحفة المكية، وكتاب الفتح القدسي وغيرهما، وإذا أشكل عليك هذا فأنا أوضحه لك بأمثلة :
__________
(1) ما بين المعكوفين تمت إضافته لتصحيح السياق ، ولعل حذفها تصحيف من الطابع .(1/26)
أحدها: أن السارق إذا قطعت يده فقطعها شر بالنسبة إليه، وخير محض بالنسبة إلى عموم الناس؛ لما فيه من حفظ أموالهم، ودفع الضرر عنهم، وخير بالنسبة إلى متولي القطع أمراً وحكماً؛ لما في ذلك من الإحسان إلى عبيده عموماً بإتلاف هذا العضو الموذي لهم، المضرّ بهم؛ فهو محمود على حكمه بذلك، وأمره به مشكور عليه، يستحق عليه الحمد من عباده، والثناء عليه والمحبة .
وكذلك الحكم بقتل من يصول عليهم في دمائهم وحرماتهم، وجلد من يصول عليهم في أعراضهم؛ فإذا كان هذا عقوبة من يصول عليهم في دنياهم فكيف عقوبة من يصول على أديانهم؟ ويحول بينهم وبين الهدى الذي بعث الله به رسله، وجعل سعادة العباد في معاشهم ومعادهم منوطة به؟ أفليس في عقوبة هذا الصائل خير محض، وحكمة وعدل وإحسان إلى العبيد؟ وهي شر بالنسبة إلى الصائل الباغي، فالشر ما قام به من تلك العقوبة، وأما ما نسب إلى الرب منها من المشيئة والإرادة والفعل فهو عين الخير والحكمة فلا يغلظ حجابك عن فهم هذا النبأ العظيم، والسر الذي يطلعك على مسألة القدر، ويفتح لك الطريق إلى الله، ومعرفة حكمته ورحمته، وإحسانه إلى خلقه ... ))(1) اهـ .
الحديث الثاني والثالث: عن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ))(2) .
وجاء في معنى هذا الحديث أيضاً الحديث التالي: عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((عجبت للمؤمن. إن الله لم يقض قضاء إلا كان خيراً له ))(3) .
__________
(1) بدائع الفوائد ( 2 / 211 ) .
(2) رواه مسلم ـ كتاب الزهد والرقائق ـ باب (13) المؤمن أمره كله خير (4/2295)(2999) .
(3) رواه أحمد (1/117،184)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ( 148 ) .(1/27)
في الحديثين السابقين يرشدنا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أن ما يقدره الله عز وجل على عبده المؤمن فهو خير له، فهو لن يعدم أحد الخيرين؛ إما أن تكون سراء فيشكر الله عليها، وإما أن تكون ضراء مكروهة فيصبر ويحتسب الأجر من الله عليها، وكلا الأمرين خير لصاحبهما وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ((وما يصيب الإنسان: إن كان يسره فهو نعمة بينة، وإن كان يسوءه فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه، ويثاب بالصبر عليه، ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها ، (( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) (البقرة: 216)... إلى أن يقول : ...أما نعمة الضراء؛ فاحتياجها إلى الصبر ظاهر، وأما نعمة السراء؛ فتحتاج إلى الصبر على الطاعة فيها، فإن فتنة السراء أعم من فتنة الضراء؛ كما قال بعض السلف: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر ))(1)اهـ .
ويتحدث صاحب الظلال رحمه الله تعالى عند قوله تعالى: ((وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً )) (الانبياء: 35) فيقول: ((والابتلاء بالشر مفهوم أمره؛ ليتكشف مدى احتمال المبتلَى، ومدى صبره على الضر، ومدى ثقته في ربه، ورجائه في رحمته،، فأما الابتلاء بالخير فهو في حاجة إلى بيان: إن الابتلاء بالخير أشد وطأة، وإن خُيّل للناس أنه دون الابتلاء بالشر ..
إن كثيرين يصمدون للابتلاء بالشر ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير .
كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة، ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم، الجامحة في أوصالهم .
__________
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية ( 14 / 305 ، 306 ) .(1/28)
كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان وما يغريان به من متاع، وما يثيرانه من شهوات وأطماع !
كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد والوعيد فلا يرهبهم، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب والمناصب والمتاع والثراء !
كثيرون يصبرون على الكفاح والجراح، ولكن قليلين هم الذين يصبرون على الدعة والمراح، ثم لا يصابون بالحرص الذي يذل أعناق الرجال، و بالاسترخاء الذي يقعد الهمم ويذلل الأرواح !
إن الابتلاء بالشدة قد يثير الكبرياء، ويستحث المقاومة ويجند الأعصاب، فتكون القوى كلها معبأة لاستقبال الشدة والصمود لها، أما الرخاء فيرخي الأعصاب وينيمها ويفقدها القدرة على اليقظة والمقاومة !
لذلك يجتاز الكثيرون مرحلة الشدة بنجاح، حتى إذا جاءهم الرخاء سقطوا في الابتلاء! وذلك شأن البشر .. إلا من عصم الله فكانوا ممن قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( عجباً لأمر المؤمن ...الحديث))وهم قليل!)) (1)ا هـ.
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآية ( 35 ) من سورة الأنبياء .(1/29)
الحديث الرابع: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: ((كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: (( إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللَّهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب. اللَّهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: عاجل أمري وآجله ـ فاقدره لي ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري ـ أو قال: في عاجل أمري وآجله ـ فاصرفه عني واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان، ثم أرضني به . قال: ويُسمي حاجته ))(1).
وفي هذا الحديث إرشاد نبوي كريم إلي الاستعانة بالله عز وجل، واللجوء إليه، وتفويض الأمور كلها إليه سبحانه، وطلب الخيرة منه فيما يُستقبل من الأمور لأنها غيب، ولايعلم عاقبتها إلا علاَّم الغيوب وهو الله سبحانه، والرضى بعد ذلك بما يقدره ويقضيه عز وجل، وفي ذلك التبري من الحول والقوة إلا به سبحانه في جميع الأمور.
__________
(1) البخاري ـ ك التهجد ـ باب ( 28 ) ما جاء في التطوع مثنى مثنى [ ( 3 / 58 )
( 1166 ) فتح ](1/30)
الحديث الخامس : عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللَّهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض فيَّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحداً من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجاً، قال: فقيل يا رسول الله ألا نتعلمها؟ قال: بلى ، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ))(1) .
ويعلق الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى على هذا الحديث بقوله: (( وقوله:((ماض في حكمك عدل في قضاؤك )) تضمن هذا الكلام أمرين:
أحدهما : مضاء حكمه في عبده .
والثاني : يتضمن حمده وعدله ، وهو سبحانه له الملك وله الحمد ، وهذا معنى قول نبيه هود: (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا )) ، ثم قال : (( إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) (هود:56) أي مع كونه مالكاً قاهراً متصرفاً في عباده نواصيهم بيده فهو على صراط مستقيم: وهو العدل الذي يتصرف به فيهم؛ فهو على صراط مستقيم في قوله وفعله وقضائه وقدره وأمره ونهيه وثوابه وعقابه؛ فخبره كله صدق، وقضاؤه كله عدل، وأمره كله مصلحة، والذي نهى عنه كله مفسدة، وثوابه لمن يستحق الثواب بفضله ورحمته، وعقابه لمن يستحق العقاب بعدله وحكمته))(2) .
الحديث السادس: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لما قضى الله الخلق كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي))(3).
__________
(1) رواه الإمام أحمد ( 1 / 391 ) ، وصححه أحمد شاكر في تعليقه على المسند
( 3712 ) ، وصححه الألباني في الكلم الطيب ( 123 ) .
(2) الفوائد ص23 .
(3) متفق عليه : البخاري ـ بدء الخلق [ ( 6 / 331 ) ( 3194 ) فتح ] ، مسلم ـ
كتاب التوبة ( 4 / 2107 ) ( 2751 ) .(1/31)
الله أكبر، ما أعظم رحمة الله وما أوسع مغفرته، وكم يزرع هذا الحديث وأمثاله في القلب من الأنس والطمأنينة والسكينة، ولو كان صاحب هذا القلب في أتون الشدائد والمصائب والمحن، فما دام أن رحمة الله سبقت غضبه فلا خوف ولا قلق؛ لأن رحمة الله عز وجل تحول النقمة والمحنة إلى منحة ونعمة .
((وهذا يريك أن المصائب والآلام حشوها نعم ولذات، وهذا لأن الرحمة لها السبق والغلبة؛ فما في طي النقم والعقوبات من الرحمة أسبق من العقوبة ـ وهي الغاية للغضب ـ فلابد أن يغلب أثرها أثر الغضب كما غلبت الصفة الصفة ))(1) .
الحديث السابع : عن عطاء بن السائب عن أبيه قال : صلى بنا عمار بن ياسر صلاة فأوجز فيها؛ فقال له بعض القوم : لقد خففت أو أوجزت الصلاة فقال : أما على ذلك فقد دعوت فيها بدعوات سمعتهن من رسول اللهصلى الله عليه وسلم ،فلما قام تبعه رجل من القوم هو أبي غير أنه كنى عن نفسه ، فسأله عن الدعاء، ثم جاء فأخبر به القوم : (( اللَّهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي، اللَّهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لاتنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللَّهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين ))(2) .
__________
(1) نسب هذا الكلام صاحب كتاب ( قدر الدعوة ) رفاعي سرور ، ص15 ـ إلى الإمام
ابن القيم ، ولم يذكر المصدر .
(2) رواه النسائي (3/54 ـ 55)، أحمد(4/ 264) ، الحاكم ( 1 / 524 ) ، وصححه الألباني في صحيح النسائي ( 1237 ) ، ( 1238 ) ، وفي صحيح الكلم الطيب ( 87 ) .(1/32)
والشاهد من هذا الحديث ما جاء في أول الدعاء وهو قوله: ((اللَّهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق أحيني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا علمت الوفاة خيراً لي )) ففي هذا القول طلب الخيرة من الله سبحانه : في الحياة أو الممات؛ لأنه وحده سبحانه هو علام الغيوب، والذي يعلم إذا كانت الحياة خيراً للعبد أو الموت. وهذا غاية التفويض والثقة، وإحسان الظن بالله عز وجل ـ كما مر بنا في دعاء الاستخارة ـ كما أن في هذا الدعاء شاهد آخر لموضوعنا، ألا وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (( وأسألك الرضا بعد القضاء )) .
الحديث الثامن : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال : ((قال رجل : لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق؛ فأصبحوا يتحدثون : تُصدّق على سارق ، فقال : اللَّهم لك الحمد، لأتصدقن بصدقة، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية؛ فأصبحوا يتحدثون : تُصدّق الليلة على زانية. فقال : اللَّهم لك الحمد على زانية؛ لأتصدقن بصدقة؛ فخرج بصدقته، فوضعها في يدي غني؛ فأصبحوا يتحدثون : تُصدّق على غني. فقال : اللّهم لك الحمد على سارق، وعلى زانية، وعلى غني ! فأُتي، فقيل له : أما صدقتك على سارق فلعله أن يستعفّ عن سرقته،، وأما الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فينفق مما أعطاه الله ))(1) .
__________
(1) رواه البخاري ـ ك الزكاة ـ باب (14) إذا تصدق على غني وهو لا يعلم [3/340
( 1421 ) فتح ] ، رواه مسلم ـ ك الزكاة 2 / 709 ( 1022 ) .(1/33)
الحديث التاسع : عن أبي النضر قال : قال واثلة بن الأسقع : قُدْ بي إلى يزيد بن الأسود فإنه قد بلغني أن ألماً به. قال : فقدته، فدخل عليه وهو ثقيل. فقلت له : إنه ثقيل قد وُجّه، وقد ذهب عقله. قال : نادوه. فنادوه، فقلت : إن هذا واثلة أخوك. قال : فأبقى الله من عقله ما سمع أن واثلة قد جاء. قال : فمدّ يده، فجعل يلتمس بها، فعرفت ما يريد، فأخذت كف واثلة؛ فجعلتها في كفه ، وإنما أراد أن تقع يده في يد واثلة ؛ ذلكم لموضع يد واثلة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يضعها مرة على وجهه، ومرة على صدره، ومرة على فيه. قال واثلة : ألا تخبرني عن شيء أسألك عنه؟ كيف ظنك بالله؟ قال : أغرقتني ذنوبي وأشفأت [وفي نسخة : أشفيت ]على هلكة لكني أرجو رحمة الله ، قال : فكبر واثلة، وكبر أهل البيت بتكبيره. قال : الله أكبر، سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلم يقول : ((يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي فليظن ظان ما شاء ))(1) .ومناسبة هذا الحديث لموضوعنا هي بيان فضل حسن الظن بالله عز وجل، وأن الله سبحانه لايريد بعبده المؤمن إلا الخير والرحمة، وهذا الظن الحسن بالله مقتضى الإيمان به رباً ومقتضى الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ، فمن رضي فله الرضى، ومن سخط فله السخط.
ثانياً : الأقوال المأثورة.
1 ـ عن محمد بن كعب قال : قال موسى النبي صلى الله عليه وسلم : ((أي رب ،أي خلقك أعظم ذنباً؟ قال : الذي يتهمني ، قال : أي رب وهل يتهمك أحد؟ قال : نعم الذي يستخيرني ولا يرضى بقضائي ))(2) .
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في ( حسن الظن بالله ) تحقيق : مخلص محمد ، وقال عن الحديث :
صحيح الإسناد ورجاله كلهم ثقات . ص15 .
(2) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ( الرضا عن الله ) ص73 ، وقال محققه ضياء السلفي :
إسناده لا بأس به .(1/34)
2ـ عن أبي مجلز لاحق بن حميد قال:قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((ما أبالي على أي حالة أصبحت؛ على ما أحب، أو على ما أكره؛
وذلك [أني ] لا أدري، الخير فيما أحب، أو فيما أكره ))(1) .
3 ـ وقال المبرد: ((قيل للحسن بن علي: إن أبا ذر يقول: الفقر أحب إلي من الغنى، والسقم أحب إلي من الصحة. فقال : رحم الله أبا ذر، أما أنا فأقول : من اتكل على حسن اختيار الله له لم يتمن شيئاً. وهذا حدُّ الوقوف على الرضى بما تصرف به القضاء ))(2) .
4 ـ عن مكحول الأزدي قال : سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول : ((إن الرجل يستخير الله تبارك وتعالى فيختار له فيسخط على ربه عز وجل ! فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو خير له ))(3) .
5 ـ وعن أشعث بن سعيد قال : »قال ابن عون : لن يصيب العبد حقيقة الرضا حتى يكون رضاه عن الفقر كرضاه عن الغنى، كيف تستقضي الله في أمرك ثم تسخط إن رأيت قضاءه مخالفاً لهواك؟! ولعل ما هويت من ذلك لو وفق لك فيه هُلْكك، وترضى قضاءه إذا وافق هواك؟ ما أنصفت من نفسك، ولا أصبت باب الرضا ))(4) .
__________
(1) رواه ابن أبي الدنيا في كتاب ( الرضا عن الله ) ص65، وقال محققه ضياء السلفي :
إسناده رجال موثقون .
(2) سير أعلام النبلاء ( 3 / 262 ) .
(3) الزهد لابن المبارك ( روايه نعيم بن حماد ) ص 32 ، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي .
(4) صفة الصفوة ( 3 / 311 ) .(1/35)
6 ـ اجتمع وهيب بن الورد، وسفيان الثوري، ويوسف بن أسباط. فقال الثوري : قدكنت أكره موت الفجاءة قبل اليوم، وأما اليوم : فوددت أني ميت فقال له يوسف بن أسباط : ولم؟ فقال لما أتخوف من الفتنة.فقال يوسف : لكني لا أكره طول البقاء.فقال الثوري : ولم ؟! تكره الموت؟! قال : لعلي أصادف يوماً أتوب فيه وأعمل صالحاً.فقيل لوهيب : أي شيء تقول أنت؟ فقال : أنا لاأختار شيئاً؛ أحب ذلك إليَّ أحبه إلى الله.فقبل الثوري بين عينيه. وقال : روحانية ورب الكعبة(1) .
قال مصطفى السباعي رحمه الله تعالى : (( ربما كان فيما تستعجل من الخلاص من الآلام والأمراض تعرض لمحنة أقسى وبلاء أشد، فلا تستبطئ وعد ربك بالرحمة، فإنه وعدك بما يراه هو رحمة لك، لا بما تراه أنت رحمة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون ))(2) .
* * *
المبحث الرابع مواقف وأحداث معبرة
وفي هذا المبحث سأتعرض إن شاء الله تعالى لبعض المواقف من السيرة المطهرة وغيرها، والتي ظهرت فيها حكمة الله عز وجل ورحمته، وأن ما اختاره الله عز وجل لعباده خير مما اختاروه لأنفسهم.
أ ـ من السيرة المطهرة :
الموقف الأول : غزوة بدر الكبرى : وهي أشهر من أن تذكر، فلقدكانت فرقاناً بين الحق والباطل. ولكن المراد من الاستشهاد بها هنا هو ما ظهر في هذه الغزوة العظيمة من الفرق بين ما أراده المسلمون قبل الغزوة، وكراهيتهم للقاء عدوهم، ورغبتهم في أن تكون في العير، وبين ما اختاره الله لهم من أن تكون في النفير وفي ذات الشوكة.
__________
(1) نقل هذه القصة ابن القيم في مدارج السالكين ( 2 / 215 ) .
(2) هكذا علمتني الحياة ( 1 / 124 ) .(1/36)
يقول الله عز وجل : (( وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ )) .
(لأنفال: 7 ، 8) فأين الخير الذي علمه الله عز وجل وغاب عن المسلمين آنذاك فأرادوا غيره؟ إن الجواب في الآية نفسها. ويعلق الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه الآية فيقول : لقد أراد الله ـ وله الفضل والمنة ـ أن تكون ملحمة لا غنيمة، وأن تكون موقعة بين الحق والباطل؛ ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه، وأراد أن يقطع دابر الكافرين؛ فيُقتل منهم من يقتل، ويُؤسر منهم من يؤسر، وتذل كبرياؤهم، وتخضد شوكتهم، وتعلو راية الإسلام وتعلو معها كلمة الله، ويمكّن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله، وتنطلق به لتقرير ألوهية الله في الأرض، وتحطيم طاغوت الطواغيت.
وأراد أن يكون هذا التمكين عن استحقاق لا عن جزاف ـ تعالى الله عن الجزاف ـ وبالجهد والجهاد، وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال...
...(1/37)
وينظر الناظر اليوم، وبعد اليوم، ليرى الآماد المتطاولة بين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها يومذاك وما أراده الله لها. بين ما حسبته خيراً لها وما قدره الله لها من الخير.. ينظر فيرى الآماد المتطاولة؛ ويعلم كم يخطئ الناس حين يحسبون أنهم قادرون على أن يختاروا لأنفسهم خيراً مما يختاره الله لهم؛ وحين يتضررون مما يريده الله لهم، مما قد يعرضهم لبعض الخطر، أو يصيبهم بشيء من الأذى. بينما يكمن وراءه الخير الذي لا يخطر لهم ببال، ولا بخيال ! فأين ما أرادته العصبة المسلمة لنفسها مما أراده الله لها؟ لقد كانت تمضي ـ لو كانت لهم غير ذات الشوكة ـ قصة غنيمة. قصة قوم أغاروا على قافلة فغنموها!فأما بدر فقد مضت في التاريخ كله قصة عقيدة؛ قصة نصر حاسم وفرقان بين الحق والباطل. قصة انتصار الحق على أعدائه المدججين بالسلاح، المزودين بكل زاد، والحق في قلة من العدد، وضعف في الزاد والراحلة.
قصة انتصار القلوب حين تتصل بالله، وحين تتخلص من ضعفها الذاتي، بل قصة انتصار حفنة من القلوب من بينها الكارهون للقتال ! ولكنها ببقيتها الثابتة المستعلية على الواقع المادي، وبيقينها في حقيقة القوى، وصحة موازينها، قد انتصرت على نفسها، وانتصرت على من فيها، وخاضت المعركة والكفة راجحة رجحاناً ظاهراً في جانب الباطل؛ فقلبت بيقينها ميزان الظاهر فإذا الحق راجح غالب ))(1) اهـ.
__________
(1) في ظلال القرآن : الآية ( 6 ) سورة الأنفال .(1/38)
الموقف الثاني : غزوة أحد: وهذه الغزوة أيضاً من أشهر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن أشدها على المسلمين حيث استشهد سبعون صحابياً، وشج وجه النبي الكريم صلى الله عليه وسلم . ومع ذلك كان فيها خير للمسلمين ورحمة؛ يدل على ذلك قوله تعالى : (( وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ )) (آل عمران: 166 ـ 167) .
ولقد أحسن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في ذكره لبعض الحكم والغايات المحمودة التي كانت في وقعة أحد أقتطف منها قوله : ((
1ـ فمنها: تعريفهم سوء عاقبة المعصية،والفشل،والتنازع،وأن الذي أصابهم إنما هو بشؤم ذلك،كما قال تعالى: (( وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ )) (آل عمران: ) .
فلما ذاقوا عاقبة معصيتهم وتنازعهم وفشلهم، كانوا بعد ذلك أشد حذراً ويقظة وتحرزاً من أسباب الخذلان.(1/39)
2 ـ ومنها : أن يتميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب فإن المسلمين لما أظهرهم الله على أعدائهم يوم بدر، وطار لهم الصيت، دخل معهم في الإسلام ظاهراً من ليس معهم فيه باطناً، فاقتضت حكمة الله عز وجل أن سبّب لعباده محنة ميزت بين المؤمن والمنافق، فأطلع المنافقون رؤسهم في هذه الغزوة، وتكلموا بما كانوا يكتمونه، وظهرت مخبآتهم، وعاد تلويحهم تصريحاً، وانقسم الناس إلى كافر، ومؤمن، ومنافق، انقساماً ظاهراً وعرف المؤمنون أن لهم عدواً في نفس دورهم، وهم معهم لا يفارقونهم، فاستعدوا لهم، وتحرزوا منهم.
قال الله تعالى : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ )) (آل عمران: 179)، أي: ما كان الله ليذركم على ما أنتم عليه من التباس المؤمنين بالمنافقين، حتى يميز أهل الإيمان من أهل النفاق، كما ميَّزهم بالمحنة يوم أحد، وما كان الله ليطلعكم على الغيب الذي يميز به بين هؤلاء وهؤلاء، فإنهم متميزون في غيبه وعلمه وهو سبحانه يريد أن يميزهم تمييزاً مشهوداً، فيقع معلومه الذي هو غيب شهادة.
3 ـ ومنها : استخراج عبودية أوليائه وحزبه في السراء والضراء، وفيما يحبون وما يكرهون، وفي حال ظفرهم وظفر أعدائهم بهم، فإذا ثبتوا على الطاعة والعبودية فيما يحبون وما يكرهون فهم عبيده حقاً، وليسوا كمن يعبد الله على حرف واحد من السراء والنعمة والعافية.(1/40)
4 ـ ومنها : أنه سبحانه لو نصرهم دائماً، وأظفرهم بعدوهم في كل موطن، وجعل لهم التمكين والقهر لأعدائهم أبداً، لطغت نفوسهم، وشمخت وارتفعت، فلو بسط لهم النصر والظفر، لكانوا في الحال التي يكونون فيها لو بسط لهم الرزق، فلا يصلح عباده إلا السراء والضراء ، والشدة والرخاء، والقبض والبسط، فهو المدبر لأمر عباده كما يليق بحكمته إنه بهم خبير بصير.
5 ـ ومنها : أن النفوس تكتسب من العافية الدائمة والنصر والغنى طغياناً وركوناً إلى العاجلة، وذلك مرض يعوقها عن جدها في سيرها إلى الله والدار الآخرة، فإذا أراد بها ربها ومالكها وراحمها كرامته، قيّض لها من الابتلاء والامتحان ما يكون دواء لذلك المرض العائق عن السير الحثيث إليه، فيكون ذلك البلاء والمحنة بمنزلة الطبيب يسقي العليل الدواء الكريه، ويقطع منه العروق المؤلمة لاستخراج الأدواء منه، ولو تركه، لغلبته الأدواء حتى يكون فيها هلاكه.
6ـ ومنها: أن الشهادة عنده من أعلى مراتب أوليائه، والشهداء هم خواصه والمقربون من عباده، وليس بعد درجة الصديقية إلا الشهادة، وهو سبحانه يحب أن يتخذ من عباده شهداء تُراق دماؤهم في محبته ومرضاته، ويؤثرون رضاه ومحابّه على أنفسهم. ولا سبيل إلى نيل هذ الدرجة إلا بتقدير الأسباب المفضية إليها من تسليط العدو.
7 ـ ومنها : أن الله سبحانه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم، قيض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومن أعظمها بعد كفرهم بغيهم، وطغيانهم، ومبالغتهم في أذى أوليائه، ومحاربتهم، وقتالهم، والتسلط عليهم؛ فيتمحص بذلك أولياؤه من ذنوبهم وعيوبهم، ويزداد بذلك أعداؤه من أسباب محقهم وهلاكهم.(1/41)
وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في قوله : (( وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ )) [آل عمران:141] ))(1) اهـ .
الموقف الثالث : صلح الحديبية :وهذا الصلح هو الذي سماه الله عز وجل فتحاً مبيناً في قوله تعالى : (( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً)) (الفتح:1)،مع أنه لم يكن هناك فتح حسيّ، بل مُنع الرسولصلى الله عليه وسلم من دخول مكة، وأبرم المشركون معه صلحاً ظاهره الضيم والإهانة للمسلمين، حتى شق ذلك على المسلمين، وكرهوه كرهاً واضحاً، ولكن الله العليم الحكيم علم في ذلك خيراً للمسلمين فقدره.
وتم ما أراده سبحانه فكان في ذلك الخير للإسلام والمسلمين؛ قال تعالى: (( لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً )) (الفتح:27) .
ويعلق الإمام القرطبي رحمه الله تعالى على قوله تعالى : (( فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا )) فيقول : (( أي علم ما في تأخير الدخول من الخير والصلاح ما لم تعلموه أنتم. وذلك أنه عليه السلام لما رجع مضى منها إلى خَيْبر فافتتحها، ورجع بأموال خيبر، وأخذ من العدة والقوة أضعاف ما كان فيه في ذلك العام، وأقبل إلى مكة على أهبة وقوة وعُدَّة بأضعاف ذلك.
__________
(1) زاد المعاد ( 3 / 218 ـ 222 ) باختصار .(1/42)
وقال الكلبي : أي علم أن دخولها إلى سنة ولم تعلموه أنتم. وقيل : علم أن بمكة رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموهم (( فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً )) أي من دون رؤيا النبيصلى الله عليه وسلم فتح خيبر؛ قاله ابن زيد والضحاك. وقيل فتح مكة. وقال مجاهد : هو صلح الحديبية؛ وقاله أكثر المفسرين.
قال الزهري : ما فتح الله في الإسلام [فتحاً]كان أعظم من صلح الحديبية؛ لأنه إنما كان القتال حين تلتقي الناس فلما كانت الهدنة وضعت الحرب أوزارها، وأمن الناس بعضهم بعضاً؛ فالتقوا وتفاوضوا الحديث والمناظرة. فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر. يدلك على ذلك أنهم كانوا سنة ست يوم الحديبة ألفاً وأربعمائة، وكانوا بعد عام الحديبية سنة ثمان في عشرة آلاف ))(1) اهـ.ونكتفي بهذه المواقف من السيرة المطهرة لننتقل إلى ذكر بعض المواقف
والأحداث الأخرى والتي تظهر فيها آثار هذه السنة العظيمة (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) .
ب ـ مواقف من السلف :
1 ـ الموقف الأول : محنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه اللَّه تعالى :
وما أظن أحداً من المسلمين يجهل المحنة التي تعرض لها أبو عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى؛ وذلك بما يعرف بفتنة القول بخلق القرآن. وقد تعرض هذا الإمام الجليل لمحنة وبلاء عظيم؛ تلك المحنة كانت مؤذية له رحمه الله، ومؤذية للمسلمين معه، ولكن الله عز وجل ثبته في هذه المحنة العظيمة، وحمى به عقيدة أهل السنة من الانحراف أو الاندثار، ولقد كانت هذه البلية لإمام السنة خيراً له فيما بعد؛ فما كان لينال هذا الشرف العظيم أو المكانة العظيمة بين المسلمين لولا هذا الابتلاء، وما منّ الله به عليه من التثبيت والتضحية.
2 ـ شيخ الإسلام ابن تيمية وسجنه :
__________
(1) تفسير القرطبي ، الآية ( 27 ) من سورة الفتح .(1/43)
وكذلك لا أظن أحداً من أهل العلم يجهل هذا الرجل العظيم، وما ضحى به في سبيل الله عز وجل بعلمه وجهاده وصبره وما لاقى في ذلك من السجن والإبعاد. ولكن كان في ذلك الابتلاء خير له ورفعة كما يقول ذلك هو عن نفسه عندما ورد المرسوم السلطاني بسجنه في قلعة دمشق : »أنا كنت منتظراً ذلك، وهذا فيه خير عظيم ))(1).وقال : (( لو بذلت ملء هذه القلعة ذهباً ما عدل عندي شكر هذه
النعمة، أو قال : ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير))(2)ا هـ.
كما كان في الابتلاء الذي تعرض له خير للمسلمين في عصره وما تلاه من العصور؛ وذلك بانتشار دعوته وعلمه. يقول رحمه الله: (( ومن سنة الله أنه إذا أراد إظهار دينه، أقام من يعارضه؛ فيحق الحق بكلماته، ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق... ))(3) .
ويقول الشيخ شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي ـ أحد تلامذة الشيخ ـ في معرض رسالة بعثها إلى تلامذة الشيخ بدمشق يحثهم فيها على جمع تراث الشيخ : (( والله إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام ـ يعني كلام ابن تيمية ـ ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه، رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم. وهذه سنة الحياة الجارية في عباده، وبلاده، والذي وقع من هذه الأمور في الكون لا يحصي عدده غير الله تعالى ...))(4)اهـ .
وهاهي توقعات الشيخ تتحقق في شتى العصور، وكأن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى حيٌ لم يمت، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
__________
(1) العقود الدرية ص329 .
(2) الوابل الصيب ص44 .
(3) الفتاوى ( 28 / 57 ) .
(4) قطعة من مكتوب الشيخ شهاب الدين أحمد بن مري الحنبلي ص18 .(1/44)
3ـ عن عثمان بن الهيثم قال : »كان رجل بالبصرة من بني سعد، وكان قائداً من قواد عبيد الله بن زياد فسقط عن السطح فانكسرت رجلاه. فدخل عليه أبو قلابة يعوده فقال له : أرجو أن تكون لك خيرة. فقال له : يا أبا قلابة وأي خير في كسر رجلي جميعاً؟ فقال : ما ستر الله عليك أكثر.فلما كان بعد ثلاث ورد عليه كتاب ابن زياد أن يخرج فيقاتل الحسين فقال للرسول : قد أصابني ما ترى، فما كان إلا سبعاً حتى وافى الخبر بقتل الحسين. فقال الرجل : رحم الله أبا قلابة لقد صدق، إنه كان خيرة لي ))(1) .
4 ـ عن مسروق قال : (( كان رجل بالبادية له كلب وحمار وديك، فالديك يوقظهم للصلاة، والحمار ينقلون عليه الماء، وتحمل لهم خباءهم، والكلب يحرسهم، قال : فجاء ثعلب فأخذ الديك، فحزنوا لذهاب الديك، وكان الرجل صالحاً فقال : عسى أن يكون خيراً، ثم مكثوا ماشاء الله، ثم جاء ذئب فخرق بطن الحمار، فقتله، فحزنوا لذهاب الحمار، فقال الرجل الصالح : عسى أن يكون خيراً ثم مكثوا ما شاء الله، ثم أصيب الكلب، فقال الرجل الصالح : عسى أن يكون خيراً ثم مكثوا ما شاء الله بعد ذاك، فأصبحوا ذات يوم، فنظروا فإذا قد سبي من حولهم وبقوا هم، وإنما أخذوا أولئك لما كان عندهم من الصوت والجلبة، ولم يكن عند أولئك شيء يجلب، قد ذهب كلبهم وحمارهم وديكهم ))(2) .
جـ ـ أحداث متفرقة :
__________
(1) صفة الصفوة ( 3 / 238 ) .
(2) الرضا عن الله لابن أبي الدنيا ، تحقيق ضياء السلفي ، وقال المحقق : إسناده صحيح . ص61 .(1/45)
1 ـ وفي معنى القصة السابقة قصة أخرى يتناقلها بعض العامة. ومفادها أن رجلاً من الصلحاء يعيش في حي من أحياء العرب بين بني قبيلته في البادية. وقد عرف بينهم بالرضا بما يقدره الله عز وجل، وبقوله : عسى أن يكون في ذلك خير عندما يحدث مكروه له أو لغيره. وقد نظر بعض أقاربه إلى هذه الصفة عند هذا الرجل بأنها بلاهة أو عدم مبالاة. فقرر بعضهم أن يحتجز بعض إبل هذا الرجل الصالح عندما تروح في المساء، واعتقلوها في بعض الشعاب القريبة منهم ،ثم أقبلت إبل القوم كلها ما عدا بعض إبله، ثم أخبروه بأن قوماً قد سطوا على الذود، واستاقوا بعض إبله؛ فما كان منه إلا أن قال : لا ندري لعل في ذلك خيراً.
وفي الليل جاء قطاع الطريق واستاقوا إبل القوم كلها. فلما أصبحوا ورأوا ما أصابهم قالوا : صدقت يا فلان لقد كان في ذلك خير، وها هي ذي إبلك في الشعب الفلاني لم ينج إلا هي، والخيرة فيما اختار الله عز وجل.
2 ـ نشرت الصحف سنة 1400هـ خبر احتراق الطائرة ترايستار التابعة للخطوط السعودية، كما نشرت بعض الصحف نبأ ذلك المسافر الذي جاء متأخراً بعد إقفال الرحلة وحاول بشتى الوسائل أن يدرك ركوب الطائرة لأنها لم تقلع بعد ولكن موظفي الاستقبال أصروا على منعه لأن الرحلة أغلقت. فرجع حسيراً حزيناً كارهاً لفوات الرحلة عليه. ولكن ما هي إلا دقائق بعد الإقلاع حتى وقع الحادث الأليم والفاجعة الكبيرة. وصدق الله العظيم إذ يقول: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) .
3 ـ في حج عام 1395هـ حصل حريق منى الكبير في يوم النحر، وقد كتب الله لي الحج في تلك السنة مع بعض الإخوان الذين أحسبهم على خير، وقد وصلنا إلى منى في الليل في أول عشر ذي الحجة؛ فلما أردنا نصب خيامنا جاءنا رجال الأمن ومنعونا من المكان بحجة أنه يتبع للإمارة، وحصل أخذ ورد معهم تركونا بعد ذلك ننام على أن نرحل في الصباح إلى مكان آخر، وأشاروا لنا بموقع الربوة في منى.(1/46)
فلما أصبحنا تمت محاولة أخرى معهم لكي نبقى فلم يُجد معهم الأمر شيئاً؛ فذهبنا من مكاننا هذا ونحن كارهون مغتاظون، ثم يسر الله لنا مكاناً مناسباً في ربوة منى فنصبنا الخيام وعوضنا الله به خيراً. فلما جاء يوم النحر ـ وأظن الوقت كان بعد الظهر ـ بدأ الحريق الكبير الذي لم تشهد منى مثله، واستمر إطفاؤه عدة ساعات، وقد أتى على مساحات كبيرة من الخيام، ودمرت سيارات، ونجم عن هذا الحريق ضحايا.
وكان من أشد المناطق تأثراً بهذا الحريق تلك المنطقة التي نزلنا فيها ليلة وصولنا إلى منى، والتي نافحنا في عدم تركها حتى أيسنا منها، فرحلنا عنها ونحن كارهون، وعندما مررنا عليها بعد إخماد الحريق رأينا السيارات المحترقة والخيام أثراً بعد عين؛ فحمدنا الله عز وجل أن لم نك بقينا في هذا المكان، وصدق الله العظيم (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) ، وصدق الله العظيم ((وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) (البقرة:216) . * * *
المبحث الخامس احتراس وتنبيه
وفي هذا المبحث أود التنبيه على قضية مهمة يُخشى أن تنشأ من خلال الحديث عن الرضا بقدر الله عز وجل وتفويض الأمور إليه؛ ألا وهي الانحراف بهذا الأمر إلى المفهوم الخاطئ لمسألة الرضا والتسليم لقضاء الله عز وجل، والذي قد يؤدي إلى التواكل والعجز والرضا بالفساد والذلة والمهانة، وترك الأخذ بالأسباب والدعوة والجهاد؛ فنكون قد عالجنا مرضاً وانفتح علينا مرض آخر.(1/47)
من أجل ذلك سأخص هذا المبحث بالحديث عن هذه القضية، وذلك قبل الدخول في مبحث الثمرات والوسائل، والحديث عن الواقع في ضوء هذه السنة، وذلك احتراساً من الفهم الخاطئ الذي قد ينشأ لو لم يحصل هذا التنبيه، فأقول وبالله التوفيق : إن من القواعد المهمة لمطالعة حوادث الزمان : الفهم الصحيح لعقيدة القضاء والقدر، والفهم الصحيح لمقتضى أسماء الله عز وجل الحسنى وصفاته العلى ، والتوازن في هذا الفهم بين الغلو والجفاء. وهذا والحمد لله هو سمة معتقد أهل السنة والجماعة في جميع أبواب العقيدة، ومن ذلك : عقيدة القضاء والقدر، وتوحيد الأسماء والصفات .
ولقد انحرف عن هذه القواعد طرفان من الناس : فمنهم من أنكر الاستدلال بالقضاء والقدر على حوادث الزمان، وتنقص المؤمنين به، ومنهم من فهم القضاء والقدر على أنه تواكل وخمول وخنوع مُذل، وكلا الموقفين منحرف ومجانب للصواب؛ فالإيمان بقضاء الله عز وجل وبعلمه وتقديره للأمور قبل وقوعها، ثم مشيئته، وخلقه لها، وأن له الحكمة البالغة في كل مايقضيه ويقدره، وأن من وراء ذلك رحمته، وإرادة الخير واليسر لعباده؛ كل ذلك مما يجب الإيمان به في باب القضاء والقدر، كما أنه مقتضى الإيمان بأسمائه سبحانه وصفاته .
ولكن هذا الإيمان بهذه القواعد والحقائق لا يعني ترك الأسباب، والرضا بالذلة والهوان وانتشار الفساد. كلا، بل إن الفهم الصحيح للقضاء والقدر يكمن في التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل بكل ما في الوسع والوقوف المطمئن عند حد الاستطاعة؛ وهذا يعني فعل الأسباب التي سخرها الله سبحانه، ومدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره، ما دام أن هناك إمكاناً للمدافعة؛ قال تعالى : (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ )) (البقرة:251).(1/48)
فإذا لم تُجد المدافعة، أو لم يكن ذلك في الإمكان فالواجب الصبر والاستسلام لقضاء الله عز وجل واليقين بأن من وراء ذلك خيراً ومصلحة ورحمة، يجب أن يتجه الجهد إلى التماسها، وتسخيرها في مزيد من الخير والإصلاح، وتغيير الأحوال، ومحاسبة النفوس، وإزالة أسباب المصيبة، وبذل الجهد في دفعها؛ قال تعالى : (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) (الرعد:11) .ويوضح هذا المعنى الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول : (( ودفع القدر بالقدر نوعان :
أحدهما : دفع القدر الذي قد انعقدت أسبابه ـ ولما يقع ـ بأسباب أخرى من القدر تقابله. فيمتنع وقوعه كدفع العدو بقتاله، ودفع الحر والبرد ونحوه.
الثاني : دفع القدر الذي قد وقع واستقر بقدر آخر يرفعه ويزيله، كدفع قدر المرض بقدر التداوي. ودفع قدر الذنب بقدر التوبة. ودفع قدر الإساءة بقدر الإحسان. فهذا شأن العارفين وشأن الأقدار، لا الاستسلام لها، وترك الحركة والحيلة؛ فإنه عجز، والله تعالى يلوم على العجز. فإذا غلب العبد، وضاقت به الحيل، ولم يبق مجال؛ فهنالك الاستسلام للقدر، والانطراح كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف يشاء ))(1) ا هـ .وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير ، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا... الحديث))(2) .
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 20 ) .
(2) رواه مسلم ـ ك ( القدر ) ح ( 2664 ) .(1/49)
ويشرح الإمام النووي الحديث فيقول : ((والمراد بالقوة هنا عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة، فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد، وأسرع خروجاً إليه، وذهاباً في طلبه، وأشد عز يمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في كل ذلك، واحتمال المشاق في ذات الله تعالى، وأرغب في الصلاة، والصوم، والأذكار، وسائر العبادات، وأنشط طلباً لها، ومحافظة عليها ونحو ذلك...
وقوله: (( احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)) معناه : احرص على طاعة الله تعالى، والرغبة فيما عنده، واطلب الإعانة من الله تعالى على ذلك، ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة، ولا عن طلب الإعانة ))(1) ا هـ.
ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن الفرق بين العجز والتوكل فيقول : (( والفرق بين التوكل والعجز أن التوكل عمل القلب وعبوديته ؛ اعتماداً على الله، وثقة به ، والتجاء إليه وتفويضاً إليه، ورضاً بما يقضيه له؛ لعلمه بكفايته سبحانه، وحسن اختياره لعبده إذا فوض إليه مع قيامه بالأسباب المأمور بها، واجتهاده في تحصيلها؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين، وكان يلبس لأمته ودرعه، بل ظاهر يوم أحد بين درعين، واختفى في الغار ثلاثاً؛ فكان متوكلاً في السبب لا على السبب.
وأما العجز فهو تعطيل الأمرين أو أحدهما : فإما أن يعطل السبب عجزاً منه، ويزعم أن ذلك توكل!ولعمر الله إنه لعجز وتفريط، وإما أن يقوم بالسبب ناظراً إليه معتمداً عليه غافلا عن المسبب معرضاً عنه،وإن خطر بباله لم يثبت معه ذلك الخاطر،ولم يعلق قلبه به تعلقاً تاماً بحيث يكون قلبه مع الله، وبدنه مع السبب، فهذا توكله عجز، وعجزه توكل))(2) اهـ.
__________
(1) شرح صحيح مسلم للنووي ( 16 / 215 ) المطبعة المصرية .
(2) الروح : 344 .(1/50)
ويقول الدكتور علي العلياني وفقه الله في حديثه عن أهل التصوف وانحرافهم في موضوع الجهاد في سبيل الله إن من صفاتهم : (( الرضا بما يقع عليهم من مصائب وذنوب فلا يحاولون دفعها عن أنفسهم، زعماً منهم أن دفعها ينافي الرضا بالقدر، فلو وطئ الكفار رقابهم يرضون ويسلمون لأن الله أراد ذلك !...
ويذكر الأستاذ محمود مهدي قصة ملخصها : أن الفرنسيين إبان استعمارهم لتونس كانوا يجدون معارضة شديدة من الناس؛ فتفاهم الفرنسيون مع شيخ الصوفية على أن يدخلوا البلاد؛ فلما أصبح الصباح قعد الشيخ مطرقاً رأسه وهو يقول : لاحول ولا قوة إلا بالله. فلما سأله أتباعه عن الأمر الذي يقلقه قال لهم : لقد رأيت الخضر وسيدي أبا العباس الشاذلي وهما قابضان بحصان جنرال فرنسا ثم أوكلا الجنرال أمر تونس. يا جماعة هذا أمر الله فما العمل؟ فقالوا له : إذا كان سيدي أبو العباس راضياً، ونحن نحارب في سبيله فلا داعي للحرب? ثم دخل الجيش الفرنسي تونس بدون مقاومة(1) .
إلى أن يقول : ...إن عقيدة الصوفية المنحرفة في التوكل والرضا بالقدر جعلت نفوسهم راضية مطمئنة ولو وطئ الكفار على رقابهم. فإن التوكل عندهم عدم ممارسة الأسباب، والرضا معناه أن ترضى بما يحصل لك ولو هو استيلاء الكفار على بلاد المسلمين، وسبي ذراريهم ،وإن أبديت مقاومة فأنت معارض للقدر، وغير متوكل على الله !
فالذي يسافر في البراري الخالية بغير زاد، هل يتصور منه أن يلبس لأمة الحرب ودروع القتال ، وليته إذ لم يفعل ذلك غمس نفسه في القتال حاسراً!! ولكن ماله ولفرقعة السلاح، ولخرير الدماء؛ وحلق الرقص وطقطقة المسابح كفيلة بإنزاله منزلة الصديقين على زعمه، فأي انحراف هذا الذي أصاب الأمة الإسلامية، وأي فرحة للكفار تحصل لهم أشد من فرحتهم بهذا ))(2) ا هـ.
__________
(1) كتب ليست من الإسلام ـ محمود مهدي الاستامبولي ص78 .
(2) أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية ( باختصار ) ، ص ( 488 ) .(1/51)
* * *المبحث السادسمن ثمرات هذه السنة
إن لتفهم هذه السنة الكريمة وتذكرها دائماً أثراً كبيراً في القلب يظهر جلياً في المواقف، وبالذات في مواقف الشدة والبلاء ، فكان لزاماً على المسلم وبخاصة الداعية المجاهد ألا يغفل عن هذه السنة المنبثقة من قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )) الإيمان بهذه السنة واليقين بها كثيرة أذكر منها ما يلي :
1 ـ تحقيق العبودية لله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى : إن الله عز وجل لم يعرفنا على أسمائه وصفاته لنحفظها ونعدها فقط، وإنما المقصود الأسنى من معرفة أسمائه عز وجل وصفاته أن ندعوه بها، وأن نتعبد له سبحانه بها قال تعالى: (( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا )) (الأعراف:180) إن في كل اسم من أسمائه سبحانه عبودية على العبد يجب أن تظهر آثارها في القلب، وعلى الجوارح، وفي المواقف .
فمن الأسماء الحسنى التي يتعبد الله عز وجل بها من خلال معرفة هذه السنة : الحكيم ، العليم، البر، الرحيم، الودود، اللطيف، وغيرها . فعندما يؤمن العبد المسلم بهذه الأسماء فإنها تثمر الإيمان بحكمة الله عز وجل في كل أحكامه الكونية والشرعية، وتضفي على القلب الأنس، وإحسان الظن بالله عز وجل،والرضا بقضائه، وأنه بر رحيم لا يريد بعباده إلا الخير والتيسير والرحمة، وأن من لطفه سبحانه أن يأتي بالخير لعبده المؤمن من حيث يظن أنه شر ومكروه، وهذا من معاني اسمه سبحانه (اللطيف ).
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى : (( ومن معاني اللطيف : أنه الذي يلطف بعبده ووليه فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسباب، لا تكون من العبد على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليوصله بها إلى المحاب الجليلة، والمطالب النبيلة ))(1) .
__________
(1) تفسير السعدي ( 5 / 279 ) .(1/52)
إن اليقين بلطف الله ينفي الشعور باليأس والقنوط من مجيء فرج الله ونصره، وينشئ مكانه الأمل والثقة بوعد الله ونصره كما أنه ينشئ في القلب الافتقار إلى الله عز وجل وتفويض الأمور إليه، وسؤاله عز وجل دائماً حسن العاقبة والاختيار .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : ((والأسماء الحسنى والصفات العلى مقتضية لآثارها من العبودية والأمر اقتضاءها لآثارها من الخلق والتكوين؛ فلكل صفة عبودية خاصة هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني من موجبات العلم بها والتحقق بمعرفتها، وهذا مطرد في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح؛ فعلم العبد بتفرد الرب تعالى بالضر والنفع ،والعطاء والمنع، والخلق والرزق، والإحياء والإماته يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمرته ظاهراً، وعلمه بسمعه تعالى وبصره وعلمه وأنه لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وأنه يعلم السر وأخفى، ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل مالا يرضي الله، وأن يجعل تعلق هذه الأعضاء بما يحبه الله ويرضاه؛ فيثمر له ذلك [الحياء ](1)باطناً، ويثمر له [الحياء]? اجتناب المحرمات والقبائح ، ومعرفته بغناه وجوده وكرمه وبره وإحسانه ورحمته توجب له سعة الرجاء، وتثمر له ذلك من أنواع العبودية الظاهرة والباطنة بحسب معرفته وعلمه ))(2) اهـ .
من هذا النقل القيم يتبين لنا مدى الارتباط بين هذه السنة وبين أسماء الله عز وجل وما تثمره في القلب من أنواع العبوديات كصدق التوكل على الله عز وجل ، وإحسان الظن به سبحانه ، وقوة اليقين والمحبة ، والرضا بقضائه سبحانه ، وأن رحمة الله قد سبقت غضبه وعقوبته في كل ما يقضيه على عبده المؤمن .
__________
(1) بالأصل كتبت : ( الحياة ) .والسياق يناسبه ما أثبته .
(2) مفتاح دار السعادة ص425 .(1/53)
وهذه الأعمال القلبية بدورها تخلص النفس من اليأس والقنوط والإحباط حال الشدائد والاستضعاف؛ فلا يتطرق الوهن ولا الضعف إلى النفوس وهي ترجو الفرج والرحمة من الله عز وجل . وكل ذلك بعد مراجعة النفس وإصلاحها وتغيير ما بها، وبذل ما في الوسع في الدعوة إلى الله ، والجهاد في سبيله، ومحاربة أسباب غضبه وعقابه والتعرض لأسباب رحمته ونصره، وفي الوقت نفسه، تمتلئ مثل هذه القلوب بالعزة والاستعلاء على الكفار وأعداء هذا الدين مهما تسلطوا وبغوا لأن العاقبة للمتقين، والذلة والمهانة للكافرين؛ قال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ )) (المجادلة:20) .
وبقيت كلمة أخيرة في هذه الثمرة أنصح بها نفسي وإخواني طلاب العلم؛ وذلك بأن نحرص أشد الحرص ونحن ندْرس أو نُدَرِّس أبواب التوحيد المختلفة على أن لا نكتفي بالدراسة العلمية الذهنية المجردة فقط، وإنما نسعى جاهدين في ربطها بأعمال القلوب، وما تثمره فيها من أنواع العبوديات المختلفة التي يجب أن يظهر أثرها في المواقف والسلوك وجميع التصرفات، والله المستعان .
2 ـ الصبر على البلايا والمصائب وقوة الاحتمال : وهذه الثمرة لها علاقة بما قبلها، فعندما يعرف العبد ربه بأسمائه وصفاته ويتعبد له بها، فإنها تثمر في القلب ثباتاً، ورباطة جأش ،وصبراً أمام الابتلاءات والمصائب؛ فلا يضعف ولا يخور وهو يعلم أن ربه الرحيم الحكيم، اللطيف الخبير، الودود الغفور هو الذي قدرها عليه، وأنه لم يقدرها ليعذبه ويشقيه، ولكن ليرحمه ويرده إليه، عند ذلك يفوض أمره إلى ربه، ويرضى بما يختار له مولاه سبحانه ويعلم أنه هو الذي يمده بالقوة والعزيمة والصبر وحسن العاقبة .(1/54)
إن هذا الشعور يملأ القلب قوة وصبراً واحتمالاً أمام الشدائد لقوة الرجاء في الله عز وجل، واليقين بفرجه ونصره، واليقين بحسن العاقبة من الله عز وجل فيما أعده للصابرين قال تعالى الله : (( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيما )) (النساء: 104) .
وإن مما يقوي الصبر على الشدائد يقين العبد أن ما أصابه إما أن يكون تكفيراً لذنوبه، أو سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه .وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ((إن كل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه لا يخلو إما أن يكون عقوبة على الذنب؛ فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامى المرض إلى الهلاك .أو يكون سبباً لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه.
فالمكروه يرتفع ويتلاشى، وما يترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع ، فإذا شهد العبد هذين المشهدين انفتح له باب الرضى عن ربه في كل مايقضيه له ويقدره ))(1) اهـ .
فإذا أيقن العبد المبتلى أن العاقبة الحميدة من النصر في الدنيا، والجنة في الآخرة لا يوصل إليهما إلا على جسر التعب والمشقة فإنه بذلك يقوى صبره، واحتماله، وبذله وتضحيته في سبيل الله عز وجل، مع تفقد النفس من الذنوب، وتنقية الصف من المنافقين، فذلك من أسباب النصر.
ويفصّل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذا الأمر في كتابه النفيس مفتاح دار السعادة عندما تحدث عن صبر أولي العزم من الرسل ، وكيف وصلوا بذلك إلى أعلى المقامات في الدنيا والآخرة حتى انتهى إلى محمدصلى الله عليه وسلم فقال : (( ... فإذا جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وتأملت سيرته مع قومه وصبره في الله ، واحتماله مالم يحتمله نبي قبله، وتلوّن الأحوال عليه من سلم وخوف، وغنى وفقر، وأمن وإقامة في وطنه، وظعنه عنه، وتركه لله ،
__________
(1) مدارج السالكين ( 2 / 212 ) .(1/55)
وقتل أحبابه وأوليائه بين يديه، وأذى الكفار له بسائر أنواع الأذى من القول والفعل والسحر والكذب، والافتراء عليه والبهتان، وهو مع ذلك كله صابر على أمر الله، يدعو إلى الله، فلم يؤذ نبي ما أوذي، ولم يحتمل في الله ما احتمله، ولم يعط نبي ما أعطيه؛فرفع الله له ذكره، وقرن اسمه باسمه، وجعله سيد الناس كلهم، وجعله أقرب الخلق إليه وسيلة، وأعظمهم عنده جاهاً، وأسمعهم عنده شفاعة .
وكانت تلك المحن والابتلاء عين كرامته، وهي مما زاده الله بها شرفاً وفضلاً، وساقه بها إلى أعلى المقامات، وهذا حال ورثته من بعده الأمثل فالأمثل، كل له نصيب من المحنة يسوقه الله به إلى كماله بحسب متابعته له، ومن لا نصيب له من ذلك فحظه من الدنيا حظ من خلق لها، وخلقت له، وجعل خلاقه ونصيبه فيها؛ فهو يأكل منها رغداً، ويتمتع فيها حتى يناله نصيبه من الكتاب؛ يُمتحن أولياء الله وهو في دعة وخفض عيش، ويخافون وهو آمن، ويحزنون وهو في أهله مسرور، له شأن ولهم شأن، وهو في واد وهم في واد، همه ما يقيم به جاهه، ويسلم به ماله، وتُسمع به كلمته، لزم من ذلك ما لزم، ورضي من رضي، وسخط من سخط . وهمهم إقامة دين الله، وإعلاء كلمته، وإعزاز أوليائه، وأن تكون الدعوة له وحده؛ فيكون هو وحده المعبود لا غيره، ورسوله المطاع لاسواه،فللَّه سبحانه من الحكم في ابتلائه أنبياءه ورسله وعباده المؤمنين ما تتقاصر عقول العالمين عن معرفته، وهل وصل من وصل إلى المقامات المحمودة والنهايات الفاضلة إلا على جسر المحنة والابتلاء .
كذا المعالي إذا مارُمت تُدركها فاعبرْ إليها على جسرٍ من التعبِ
والحمدلله وحده وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين ))(1) اهـ.
__________
(1) مفتاح دار السعادة ص323 .(1/56)
3 ـ سعادة القلب وطمأنينته وسكينته : عندما يعلم العبد المؤمن أن كل ما يقضيه الله عز وجل هو عين الحكمة والرحمة والخير سواء في العاجل أو الآجل، فإن هذه المعرفة تضفي على القلب شعوراً بالأنس والسعادة والطمأنينة والسكينة، مهما اشتدت المصائب، وتوالت المحن .
وبذلك يسلم صاحب هذا القلب من تلك الأمراض والوساوس التي تفتك بكثير من الناس الذين حرموا مثل هذه المعرفة العظيمة بربهم، نعم سوف لا يخيم على نفسه ما يخيم على النفوس اليائسة من الشعور بالقلق والاكتئاب وانكساف البال، تلك الأشياء التي تجر وراءها من مصائب الدنيا والدين مالا يعلمه إلا الله عز وجل ، وسوف يريحه هذا الشعور من الأفكار المتعبة التي تنشأ من كثرة الاختيارات والترددات والتي هي منشأ القلق والهم والغم .
إن التسخط وعدم الرضى بما قضاه الله عز وجل باب إلى الهم والغم والحزن وشتات القلب، وسوء الحال، والظن بالله ظن السوء، ولا يدفع ذلك كله إلا معرفة الرب عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، والتعبد له سبحانه بها، والعمل بمقتضاها، والذي يولد في النفس الرضى بما يختاره الله عز وجل، وأنه أرحم بعبده من نفسه (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) (آل عمران: 66) .
وأنقل بهذه المناسبة مشهداً من مشاهد هذه الثمرة في العيش مع القرآن والتأثر به، يصفها لنا صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله تعالى وهو يحكي سعادته مع قوله تعالى : (( مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) (فاطر:2)، وذلك بعد أن تحدث عن المعاني الكريمة في هذه الآية(1)، شرع يقول :
((ويبقى أن أتوجه أنا بالحمدلله على رحمة منه خاصة عرفتها منه في هذه الآية ...
__________
(1) انظر ص33 في مبحث الآيات الواردة .(1/57)
لقد واجهتني هذه الآية في هذه اللحظة وأنا في عسر وجهد وضيق ومشقة.. واجهتني في لحظة جفاف روحي، وشقاء نفسي، وضيق بضائقة، وعسر من مشقة.. واجهتني في ذات اللحظة. ويسر الله لي أن أطلع منها على حقيقتها. وأن تسكب حقيقتها في روحي؛ كأنما هي رحيق أرشفه وأحس سريانه ودبيبه في كياني. حقيقة أذوقها لا معنى أدركه، فكانت رحمة بذاتها، تقدم نفسها لي تفسيراً واقعياً لحقيقة الآية التي تفتحت لي تفتحها هذا .
وقد قرأتها من قبل كثيراً ، ومررت بها من قبل كثيراً ، ولكنها اللحظة تسكب رحيقها، وتحقق معناها، وتنزل بحقيقتها المجردة ، وتقول: هأنذا .. نموذجاً من رحمة الله حين يفتحها.
فانظر كيف تكون! إنه لم يتغير شيء مما حولي، ولكن لقد تغير كل شيء في حسي!إنها نعمة ضخمة أن ينفتح القلب لحقيقة كبرى في حسي! إنها نعمة ضخمة أن يتفتح القلب لحقيقة كبرى من حقائق هذا الوجود، كالحقيقة الكبرى التي تتضمنها هذه الآية . نعمة يتذوقها الإنسان ويعيشها؛ ولكنه قلما يقدر على تصويرها، أو نقلها للآخرين عن طريق الكتابة . وقد عشتها وتذوقتها وعرفتها.
وتم هذا كله في أشد لحظات الضيق والجفاف التي مرت بي في حياتي. ها أنذا أجد الفرج والفرح والري والاسترواح والانطلاق من كل قيد، ومن كل ضيق، وأنا في مكاني! إنها رحمة الله يفتح الله بابها، ويسكب فيضها في آية من آياته. آية من القرآن تفتح كوة من النور، وتفجر ينبوعاً من الرحمة، وتشق طريقاً ممهداً إلى الرضا والثقة والطمأنينة والراحة في ومضة عين، وفيضة قلب، وفي خفقة جنان. اللَّهم حمداً لك، اللَّهم منزل هذا القرآن هدى ورحمة للمؤمنين...))(1) .
__________
(1) في ظلال القرآن ، الآية : 2 من سورة فاطر .(1/58)
ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن انشراح الصدر والحياة الطيبة لأهل الإيمان فيقول : (( قال تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (النحل:97) ،فهذا خبر أصدق الصادقين، ومَخْبرُه عند أهله عينُ اليقين، بل هو حق اليقين. ولابد لكل من عمل صالحاً أن يحييه الله حياة طيبة بحسب إيمانه وعمله، ولكن يغلط الجفاة الأجلاف في مسمى الحياة حيث يظنونها التنعم في أنواع المآكل والمشارب والملابس والمناكح، أو لذة الرياسة والمال، وقهر الأعداء، والتفنن بأنواع الشهوات. ولاريب أن هذه لذة مشتركة بين البهائم؛ بل قد يكون حظ كثير من البهائم منها أكثر من حظ الإنسان، فمن لم تكن عنده لذة إلا اللذة التي تشاركه فيها السباع أو الدواب والأنعام فذلك ممن يُنادى عليه من مكان بعيد.
ولكن أين هذه اللذة من اللذة بأمر إذا خالط بشاشته القلوب سلا عن الأبناء والنساء، والأوطان والأموال، والإخوان والمساكن ورضي بتركها كلها، والخروج منها رأساً، وعرض نفسه لأنواع المكارة والمشاق، وهو متحل بهذا، منشرح الصدر به، يطيب له قتل ابنه وأبيه، وصاحبته وأخيه، لا تأخذه في ذلك لومة لائم، حتى أن أحدهم ليتلقى الرمح بصدره ويقول:فزت ورب الكعبة! ويستطيل الآخر حياته حتى يُلقي قُوْْتَه من يده ويقول: إنها لحياة طويلة إن صبرت حتى آكلها! ثم يتقدم إلى الموت فرحاً مسروراً. ويقول الآخر مع فقره: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن عليه لجالدونا عليه بالسيوف. ويقول الآخر: إنه ليمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً. وقال بعض العارفين: إنه لتمر بي أوقات أقول فيها:إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم في عيش طيب))(1) .
__________
(1) مفتاح دار السعادة ، ص38 .(1/59)
وأختم الكلام حول هذه الثمرة بما نقله صاحب كتاب (قصة الإيمان) في وصية الشيخ لتلميذه الذي كان بينهما حوار طويل حول الإيمان بالله عز وجل، وأثره في حياة الإنسان انتهى إلى اهتداء التلميذ إلى ربه وإيمانه بخالقه سبحانه، والاطمئنان إلى حكمته ورحمته .يقول في هذه الوصية (باختصار ) : (( اعلم أن الإيمان بالله (حَقٌّ) و(حاجةٌ وضرورة). فأما أنه حق فقد عرفْتَه مما حدثتُك به في تلك الليالي الطوال التي عشتَها معي.
وأما أنه حاجة وضرورة فإنك تعلمه، يا حيران، حين تدرك، ويدرك المؤمنون والملحدون قاطبةً على السواء، أن الإيمان بالله هو أُسّ الفضائل، ولجام الرذائل، وقوام الضمائر، وسند العزائم في الشدائد، وبلسم الصبر عند المصائب، وعماد الرضى والقناعة بالحظوظ، ونور الأمل في الصدور، وسكن النفوس إذا أوحشتها الحياة.. وعزاء القلوب إذا نزل الموت أو قربت أيامه... والعروة الوثقى بين الإنسانية ومُثلها الكريمة...
إلى أن قال: ((وبدون الإيمان نكون أسوأ حظاً في الحياة، وأدنى رتبة في سلم المخلوقات من أذلّ البهائم، وأضعف الحشرات، وأشرس الضواري.
فالبهائم تجوع كما نجوع، ولكنها في نجْوة من همّ الرزق، وخوف الفقر، وكَرْب الحاجة، وذلّ السؤال ... وهي تلد كما نلد، وتفقد أولادها كما نفقد، ولكنها في راحة من هلع المثْكلة، وجزع الميْتمة، وهمّ اليتامى المستضعفين ... وهي، في أجسادها، تلذَّذ كما نلتذُّ، وتألم كما نألم، ولكنها في راحة مما يأكل القلوب، ويقرّح الجفون، ويقضّ المضاجع، ويقطّع الأرحام، ويفرّق الشمل، ويخرّب البيوت من المهلكات كالحسد، والكذب ، والنميمة، والفرية، والقذف، والنفاق، والخيانة، والعقوق، وكفر النعمة، ونكران الجميل .(1/60)
وهي تعرف بنوع من الإدراك ما يضرها وما ينفعها، ولكنها في نجوة من أعباء التكليف، وأثقال الأوزار، ومضض الشك، وكرب الحيرة، وعذاب الضمير ... وهي تمرض كما نمرض، وتموت كما نموت، ولكنها في راحة من التفكير في عُقبى المرض، وفراق الأحباب، وسكرات الموت، ومصير الموتى وراء القبور ...والضواري تسفك الدماء لتشبع بلا سَرَف، ولكنها لا تسفكها أنفاً، ولا جَنفاً، ولا صلفاً، ولا ترفاً...ولا علواً في الأرض ولا استكباراً...
أما هذا الحيوان الفيلسوف ، الضعيف، الهلوع، الجزوع، المطماع، المختال، الفخور، المترف، المتكبر، المتجبر، السافك الدماء، الذي لا يأتيه شقاء الحياة ـ أكثر ما يأتيه ـ إلا من تفكيره؛ فإنه لا علاج لشقائه إلا بالإيمان؛ فالإيمان هو الذي يقوّيه، وهو الذي يعزّيه، وهو الذي يسلّيه، وهو الذي يُمنيه، وهو الذي يرضيه، وهو الذي يجعله إنساناً يسعى إلى مثله الأعلى لتسجد له الملائكة .. ومن دون هذا الإيمان يكون هذا الإنسان المسكين أتعس الخلائق، وأسوأها حظاً، وأعظمها شقاءً، وأشدها بلاءً، وأحطها رتبة، وأرذلها مصيراً ))(1) .
4 ـ سلامة القلب : عندما يمتلئ القلب بتوحيد الله عز وجل ومعرفته سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ويمتلئ باليقين بوعده، والثقة بحكمته، وانتظار رحمته؛ فإن كل ذلك يضفي على القلب صفاءً ونوراً وطهارة تُسل بها من القلب أمراض كثيرة؛ فيصبح القلب بعدها سليماً صحيحاً، وينعم به صاحبه في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى في وصف إمام الحنفاء عليه الصلاة والسلام : (( إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )) (الصافات:84) ، وقال تعالى حكاية لدعاء إبراهيم : (( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )) (الشعراء: 87 ـ 89) .
ومن أهم مظاهر سلامة القلب التي تحصل بهذه المعرفة ما يلي :
__________
(1) قصة الإيمان، نديم الجسر ، ص :440 .(1/61)
أ ـ السلامة من أمراض الحقد والحسد والشحناء : ذلك لأن الذي يوقن بحكمة الله عز وجل ورحمته في كل ما يقضيه من أقضية كونية وشرعية يعلم علم اليقين أن الله عز وجل الحكمة البالغة في إعطاء من يشاء، ومنع من يشاء، وإعزاز من يشاء، وإذلال من يشاء.
وهذا العلم لابد أن يثمر الرضى بما يقدره الله عز وجل ويقضيه على الناس؛ وبذلك تزول الشحناء والأحقاد المتولدة عن الحسد المتولد أصلاً من معارضة أقدار الله عز وجل والتسخط لها، وفي ذلك يتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن أثر الرضى بقضاء الله سبحانه على سلامة القلب فيقول : (( إن الرضا يفتح له باب السلامة؛ فيجعل قلبه سليماً نقياً من الغش والدغل والغل. ولا ينجو من عذاب الله إلا من أتى الله بقلب سليم كذلك، وتستحيل سلامة القلب مع السخط وعدم الرضا،وكلما كان العبد أشد رضا كان قلبه أسلم. فالخبث والدغل والغش قرين السخط. وسلامة القلب وبره ونصحه قرين الرضا. وكذلك الحسد هو من ثمرات السخط، وسلامة القلب منه من ثمرات الرضا ))(1) اهـ .
__________
(1) مدارج السالكين ( 2 / 207 ) .(1/62)
ب ـ السلامة من أمراض الخوف والطمع : إن المؤمن الراضي بربه والموقن بحكمته وبره ولطفه لاتجده إلا قانعاً بما آتاه الله عز وجل، مطمئناً إلى اختيار الله سبحانه له؛ لأنه عز وجل أعلم بما يصلح للعبد من نفسه، وهذه الثمرة تقضي على هذا الداء الخطير: داء الطمع والحرص والتهالك على الدنيا وزينتها، لأن القلب الراضي المفوض أمره إلى الله عز وجل قد امتلأ غنى وقناعة ومحبة وتوكلاً على الله سبحانه؛ فحري بقلب هذه صفته أن لا يكون فيه محل لمحبة غير الله، وهذه الثمرة يتولد عنها ثمار طيبة منها: عدم الأسى على ما فات، وعدم الفرح بما هو آت قال تعالى: (( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ )) (الحديد:23).
والعبد المؤمن لا يدري أين يكون الخير أهو في الفائت أم الآتي؟ ولكن الله وحده هوالذي يعلم، وهو علام الغيوب .
كما أنها تثمر أيضاً الزهد في الدنيا والحذر منها، فكم فرح بالدنيا أناس فكانت سبب هلاكم وشقوتهم . قال تعالى : (( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ )) (الشورى:27) .(1/63)
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى عند هذه الآية: ((وهذا يصور نزارة ما في هذه الحياة الدنيا من أرزاق ـ مهما كثرت ـ بالقياس إلى ما في الآخرة من فيض غزير . فالله يعلم أن عباده هؤلاء البشر، لا يطيقون الغنى إلا بقدر، وأنه لو بسط لهم في الرزق ـ من نوع ما يبسط في الآخرة ـ لبغوا وطغوا . إنهم صغار لا يملكون التوازن ؛ضعاف لا يحتملون إلا إلى حد ، والله بعباده خبير بصير . ومن ثم جعل رزقهم في هذه الأرض مقدراً محدوداً، بقدر ما يطيقون، واستبقى فيضه المبسوط لمن ينجحون في بلاء الأرض، ويجتازون امتحانها، ويصلون إلى الدار الباقية بسلام ؛ ليتلقوا فيض الله المذخور لهم بلا حدود ولا قيود ))(1) ا هـ .
وكيف يسكن الخوف والهلع في قلب من اطمأن إلى حكم ربه، وأحسن الظن به، وفوض أموره إليه ، إن الخوف والهلع سواءً كان على الرزق أو الأجل لا يكونان إلا عند من لم يعرف ربه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى . أما لو عرف ربه عز وجل، وأنه رحيم ودود، وأنه حكيم عليم، وأنه لطيف خبير معرفة حقيقية يتعبد لربه بها فإن الاطمئنان والسكينة تعمران القلب، وتنفيان كل دواعي الخوف والوجل من المخاليق الضعاف الذين لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فضلاً عن أن يملكوا شيئاً من ذلك لغيرهم ، ويبقى صاحب هذا القلب مطمئناً إلى حسن اختيار الله له، يستشرف رحمة ربه وخيره في كل ما يقضيه الله عليه؛ ولو ظهر في هذا المقضي من الشر والألم ما ظهر، فمن يدري فلعل في طيات المحنة منحة ونعمة، وصدق الله العظيم : (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ )) ، وصدق الله العظيم : (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) (آل عمران:66).
__________
(1) في ظلال القرآن ، عند الآية 27 من سورة الشورى .(1/64)
ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن لطف الله عز وجل ورحمته، وأنه يجب ألا ينشغل المرء بما ضمنه الله له فيقول : ((فرغ خاطرك للهم بما أُمرت به، ولا تشغله بما ضُمن لك؛ فإن الرزق والأجل قرينان مضمونان، فما دام الأجل باقياً كان الرزق آتياً، وإذا سد عليك بحكمته طريقاً من طرقه فتح لك برحمته طريقاً أنفع لك منه؛ فتأمل حال الجنين يأتيه غذاؤه ـ وهو الدم ـ من طريق واحد وهو السرة فلما خرج من بطن الأم وانقطعت تلك الطريق فتح له طريقين اثنين وأجرى له فيهما رزقاً أطيب وألذ من الأول لبناً خالصاً سائغاً، فإذا تمت مدة الرضاع وانقطع الطريقان بالفطام فتح طرقاً أربعة أكمل منها: طعامان وشرابان : فالطعامان من الحيوان والنبات، والشرابان من المياه والألبان وما يضاف إليهما من المنافع والملاذ، فإذا مات انقطعت عنه هذه الطرق الأربعة، لكنه سبحانه فتح له ـ إن كان سعيداً ـ طرقاً ثمانية وهي أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء .
فهكذا الرب سبحانه لا يمنع عبده المؤمن شيئاً من الدنيا إلا ويؤتيه أفضل منه، وأنفع له، وليس ذلك لغير المؤمن، فإنه يمنعه الحظ الأدنى الخسيس ولا يرضى له به ليعطيه الحظ الأعلى النفيس، والعبد لجهله بمصالح نفسه، وجهله بكرم ربه ورحمته ولطفه لا يعرف التفاوت بين ما منع منه، وبين ما ذخر له، بل هو مولع بحب العاجل وإن كان دنيئاً، وبقلة الرغبة في الآجل وإن كان عليا، ولو أنصف العبد ربه ـ وأنىّ له بذلك ـ لعلم أن فضله عليه فيما منعه من الدنيا ولذاتها ونعيمها أعظم من فضله عليه فيما آتاه من ذلك؛ فما منعه إلا ليعطيه، ولا ابتلاه إلا ليعافيه، ولا امتحنه إلا ليصافيه، ولا أماته إلا ليحييه، ولا أخرجه إلى هذه الدار إلا ليتأهب منها للقدوم عليه، وليسلك الطريق الموصلة إليه، فجعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وأبى الظالمون إلا كفورا، والله المستعان ))(1)اهـ
__________
(1) الفوائد ، ص57 .(1/65)
جـ ـ السلامة من أمراض الكبر والخيلاء : إن القلب لا يصدق عليه أن يوصف بكونه سليماً صحيحاً حتى ينضم إلى ما ذكر سابقاً سلامته من أمراض الكبر والفخر والخيلاء؛ فإن العبد المؤمن متى ما عرف ربه عز وجل وتعبد له بأسمائه وصفاته فإن المسكنة والمحبة لله عز جل سوف تملأ القلب؛ وينتج عن ذلك التواضع للحق وإيثاره، والتواضع للخلق، وعدم غمطهم وظلمهم .بل لا ترى من هذه صفته إلا محباً للخير والإحسان للناس، ولا تراه إلا محقراً لنفسه، منشغلاً بعيوبها عن عيوب الناس؛ لأنه يشهد حكمة الله عز وجل في ابتلائه لعبده بالخير والشر؛ ولأن أسباب الكبر والتعالي على الناس لا تخرج عن كونها اغتراراً بنعمة دينية أو دنيوية، وأنه إذا أيقن العبد المؤمن أن هذه النعم إنما أعطاها الله لعبده ليبلوه أيشكر أم يكفر؛ فإن الخوف على النفس من هذا الابتلاء سيشغلها عن التعالي على الناس، أو الفخر عليهم، وكيف يكون ذلك وهو لا يدري أين يكمن الخير أو الشر! ولعل هذه النعمة التي يفتخر بها فتنة له ومتاع إلى حين، أو أن الذي يفخر عليه ممن هو دونه يكون في خير ورحمة مفتوحة من الله عز وجل عليه، والناس يحسبون أنه في ضيق وشر؟!وصدق من قال: ((من عرف نفسه اشتغل بإصلاحها عن عيوب الناس ومن عرف ربّه اشتغل به عن هوى نفسه))(1) .
__________
(1) الفوائد ، ص57 .(1/66)
5 ـ محاسبة النفوس، والانتباه إلى خطر المعاصي وشؤمها على الفرد والمجتمع : إن من ثمار هذه السنة الكريمة أن ينتبه العبد المؤمن إلى نفسه ويحاسبها على تفريطها وذنوبها. وهذا بعض الخير الذي يجعله الله فيما يراه الناس شراً ومصيبة؛ حيث إن المصائب والشرور المقدرة على العبد المؤمن غالباً ما تكون تكفيراً للذنوب، وإيقاظاً له من الغفلة، ومجالاً لتطهير النفس من أدران المعاصي والسيئات، ومتى ما حصلت هذه الثمرة العظيمة في القلب فإن المصيبة والنقمة تصبح في حقيقة الأمر خيراً ونعمة لصاحبها؛ وصدق الله العظيم : (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ )) .
أما إذا حصل العكس من ذلك ـ والعياذ بالله ـ وذلك بأن كانت المصيبة سبباً في مزيد من الغفلة أو التسخط على أقدار الله تعالى؛ فإن المصيبة والحالة هذه لا تعتبر خيراً لمن وقعت عليه، لكنها قد تكون خيراً لغيره عندما يحصل الاتعاظ والعبرة بحال من وقعت له المصيبة . ويوضح هذا الأمر الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول : ((إذا ابتلى الله عبده بشيء من أنواع البلايا والمحن؛ فإن رده ذلك الابتلاءُ والمحن إلى ربه، وجمعه عليه، وطرحه ببابه فهو علامة سعادته وإرادة الخير به ، والشدة بتراءُ لا دوام لها وإن طالت، فتقلع عنه حين تقلع وقد عوض منها أجلّ عوض وأفضله، وهو رجوعه إلى الله بعد أن كان شارداً عنه، وإقباله عليه بعد أن كان نائياً عنه، وانطراحه على بابه بعد أن كان معرضاً، وللوقوف على أبواب غيره متعرّضا وكانت البلية في حق هذا عين النعمة، وإن ساءته، وكرهها طبعه، ونفرت منها نفسه؛ فربما كان مكروه النفوس إلى محبوبها سبباً ما مثله سبب.وقوله تعالى في ذلك هو الشفاء والعصمة : (( وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) (البقرة:216)(1/67)
وإن لم يردّه ذلك البلاء إليه، بل شرد قلبه عنه، ورده إلى الخلق، وأنساه ذكر ربه، والضراعة إليه، والتذلل بين يديه والتوبة والرجوع إليه فهو علامة شقاوته وإرادة الشر به، فهذا إذا أقلع عنه البلاء رده إلى حكم طبيعته، وسلطان شهوته، ومرحه وفرحه، فجاءت طبيعته عند القدرة بأنواع الأشر والبطر والإعراض عن شكر المنعم عليه بالسراء، كما أعرض عن ذكره والتضرع إليه في الضراء، فبلية هذا وبال عليه وعقوبة ونقص في حقه، وبلية الأول تطهير له ورحمة وتكميل، وبالله التوفيق ))(1) اهـ.
قال تعالى : (( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (الأنعام: 42 ـ 43) .
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: (( لقد أخذهم الله بالبأساء والضراء ليرجعوا إلى أنفسهم ويتقوا في ضمائرهم وفي واقعهم؛ لعلهم تحت وطأة الشدة يتضرعون إلى الله، ويتذللون له، وينزلون عن عنادهم واستكبارهم، ويدعون الله أن يرفع عنهم البلاء بقلوب مخلصة، فيرفع الله عنهم البلاء، ويفتح لهم أبواب الرحمة .. ولكنهم لم يفعلوا ما كان حرياً أن يفعلوه ، لم يلجأوا إلى الله، ولم يرجعوا عن عنادهم، ولم تردّ إليهم الشدةُُ وعْيهم، ولم تفتح بصيرتهم، ولم تلين قلوبهم، وكان الشيطان من ورائهم يزين لهم ما هم فيه من الضلال والعناد : (( وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) .
__________
(1) طريق الهجرتين ص297 . ط . الشئون الدينية . قطر .(1/68)
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس ، وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه، فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة، التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة . والشدة ابتلاء من الله للعبد؛ فمن كان حياً أيقظته، وفتحت مغاليق قلبه، وردته إلى ربه؛ وكانت رحمة له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه.. ومن كان ميتاً حسبت عليه، ولم تفده شيئاً، وإنما أسقطت عذره وحجته، وكانت عليه شقوة، وكانت موطئة للعذاب ))(1) ا هـ .
ويقول عز وجل : (( وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ )) (لأعراف:94).
ويعلق الشيخ محمد رشيد رضا على هذه الآية فيقول : (( وما ثبت بالتجارب، وتقرر عند علماء النفس والأخلاق أن الشدائد وملاحج الأمور(2) مما يربي الناس ويصلح من فسادهم؛ فالمؤمن قد يشغله الرخاء وهناء العيش فينسيه ضعفه وحاجته إلى ربه، والشدائد تذكره به، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها بفقدها، فينقلب شاكراً بعد عودها، بل الكافر بالله عز وجل قد تنبه الشدائد والأهوال مركز الشعور بوجود الرب الخالق المدبر لأمور الخلق في دماغه، وتذكره بما أودع في فطرته من وجود مصدر لنظام الكون وأقداره، كما وقع كثيراً ))(3) ا هـ .
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآيتين ( 42 ، 43 ) من سورة الأنعام .
(2) ملاحج الأمور ) : مضايقها ، يقال : لحج الأمر إذا ضاق .:
(3) تفسير المنار : عند الآية ( 94 ) من سورة الأعراف .(1/69)
ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) (الروم:41). فمن أيقظته المصائب، وردته إلى الله عز وجل، وحاسب نفسه علي تقصيرها، وتاب إلى الله وأناب؛ فإن المصيبة في حق هذا خيْرٌ له ونعمة ورحمة، وأما من زادته طغياناً وإمعاناً في الذنوب والمعاصي فإنها في حقه فتنة ونقمة، ولكنها رحمة ونعمة لمن اتعظ بحاله من غيره.
6- التعرف على سنن الله عز وجل في التغيير والسير على هداها: إن إدراك معاني أسماء الله عز وجل وآثارها ومقتضياتها يفتح في قلب المؤمن منافذ عديدة على سننه عز وجل التي لا تتبدل ولا تتحول. وبخاصة إدراك آثار حكمة الله عز وجل و رحمته ولطفه وإحسانه. ولقدمرّ بنا كيف أن فقه قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) يطبع في القلب شعوراً برحمة الله عز وجل وخيره وبره، وأن كل ما يقضيه عز وجل هو عين الخير والمصلحة والحكمة. وهذا الشعور يؤدي بدوره إلى فتح القلب والفكر على سنن الله عز وجل التي تنبثق من هذه المعرفة، وعندما تحصل هذه المعرفة لسنن الله عز وجل في التغيير فإن الفكر البشري ينضبط ويستقيم ولا تتقاذفه الثقافات المادية ذات اليمين وذات الشمال، وبذلك يسلم من التفسيرات المادية للأحداث، والتي تربط كل المتغيرات بأسباب مادية بحتة. كتلك التي تربط النصر والهزيمة بأسباب مادية، أو تلك التي تفسر العقوبات الربانية كالزلازل والأعاصير بظواهر فلكية بحتة، متجاهلين قدر الله وحكمته.(1/70)
كما أن هذه المعرفة تثمر أيضاً الموازين المنضبطة الثابتة التي توزن بها الأمور والأحوال والأشياء، وحق لها أن تكون بهذه المثابة لأنها من عند الله عز وجل الحكيم، العليم الرحيم الودود، الذي يعلم ما كان وما سيكون، والذي له الكمال المطلق وهو الغني الحميد. وهو سبحانه يقول الحق، ويقصّ على عبيده - رحمة منه وفضلاً - جانباً من أسرار سنته وقدره ليأخذ الناس حذرهم وليعتبروا ويتعظوا، وليدركوا الرحمة والخير والحكمة الكامنة وراء هذه السنن الربانية والموازين الإلهية، والتي بدورها تؤدي إلى معرفة المنهج الصحيح للتغيير، كما تؤدي إلى المنهج الصحيح لتقويم الأمور ووزنها بالميزان الحق.
واستناداً إلى المنهج الصحيح والميزان الحق يمكن أن يتوقع المؤمن المهتدي بهدي الله ثم بهذه السنن ما سيكون، وما ينبغي أن يتخذه. كما يمكنه أن يزن المواقف ويحلل الأحداث بحق؛ لأنه يملك ميزان الشرع الذي لا يتذبذب ولا يتأرجح، ولأنه يستند إلى سنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول. ولقد مر بنا في الثمرات السابقة بعض السنن الربانية التي يهتدي إليها القلب العامر بمعرفة الله عز وجل وتوحيده، ولكن نخصّ هنا بعض السنن بشيء من التفصيل وذلك فيما يلي:
أ ـ العاقبة للمتقين: إن وعد الله عز وجل لايتخلف، وكلمته لا تتبدل ولقد قال وقوله الحق: (( وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )) (الصافات: 171 ـ 173) هذا وعد الله سبحانه، ولو تأخر وأبطأ على عباده فإن من وراء ذلك التأخير حكمة وخير. يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية:
(((1/71)
هذا الوعد سنة من سنن الله الكونية. سنة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة، وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان، وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة ينزل عليها الماء. ولكنها مرهونة بتقدير الله، يحققها حين يشاء، ولقد تبطئ آثارها الظاهرة بالقياس إلى أعمار البشر المحدودة ولكنها لا تخلف أبداً ولا تتخلف، وقد تتحقق في صورة لا يدركها البشر لأنهم يطلبون المألوف من صور النصر والغلبة، ولايدركون تحقق السنة في صورة جديدة إلا بعد حين!
ولقد يريد البشر صورة معينة من صور النصر والغلبة لجند الله وأتباع رسله. ويريد الله صورة أخرى أكمل وأبقى. فيكون ما يريده الله؛ ولو تكلف الجند من المشقة وطول الأمد أكثر مما كانوا ينتظرون .. ولقد أراد المسلمون قبيل غزوة بدر أن تكون لهم عير قريش، وأراد الله أن تفوتهم القافلة الرابحة الهينة، وأن يقابلوا النفير وأن يقاتلوا الطائفة ذات الشوكة. وكان ما أراده الله هو الخير لهم وللإسلام. وكان هو النصر الذي أراده الله لرسوله وجنده ودعوته على مدى الأيام.
ولقد يهزم جنود الله في معركة من المعارك، وتدور عليهم الدائرة، ويقسو عليهم الابتلاء؛ لأن الله يعدهم للنصر في معركة أخيرة، ولأن الله يهيئ الظروف من حولهم ليؤتي النصر يومئذ ثماره في مجال أوسع، وفي خط أطول، وفي أثر أدوم.لقد سبقت كلمة الله، ومضت إرادته بوعده، وثبتت سنته لا تتخلف ولا تحيد ))(1) اهـ.
ب- لا سبيل للكافرين على المؤمنين :
ويتعلق بهذه السنة سنة أخرى في معناها وهي قوله تعالى : (( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً )) (النساء:141) .
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآية ( 171 ) من سورة الصافات .(1/72)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى في معنى الآية: (( قيل: بالحجة والبرهان، فإن حجتهم داحضة عند ربهم، وقيل: هذا في الآخرة وأما في الدنيا فقد يتسلطون عليهم بالضرر لهم، والأذى، وقيل: لا يجعل لهم عليهم سبيلاً مستقرة، بل وإن نصروا عليهم في وقت فإن الدائرة تكون عليهم، ويستقر النصر لأتباع الرسولصلى الله عليه وسلم .
وقيل: بل الآية على ظاهرها وعمومها، لا إشكال فيها بحمد الله، فإن الله سبحانه ضمن أن لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً فحيث كانت لهم سبيل ما عليهم فهم الذين جعلوها بتسببهم ترك بعض ما أقروا به، أو ارتكاب بعض ما نهوا عنه؛ فهم جعلوا لهم السبيل عليهم بخروجهم عن طاعة الله ورسوله فيما أوجب تسلط عدوهم عليهم في هذه الثغرة التي أدخلوها، كما أخلى الصحابة يوم أُحد الثغرة التي أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بلزومها وحفظها؛ فوجد العدو منها طريقاً إليهم فدخلوا منها))(1)اهـ.
__________
(1) بدائع التفسير ( 2 / 85 ) .(1/73)
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية أيضاً: (( إنه وعد من الله قاطع، وحكم من الله جامع أنه متى استقرت حقيقة الإيمان في نفوس المؤمنين، وتمثلت في واقع حياتهم منهجاً للحياة، ونظاماً للحكم، وتجرداً لله في كل خاطرة وحركة، وعبادة لله في الصغيرة والكبيرة.. فلن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً... وهذه حقيقة لا يحفظ التاريخ الإسلامي كله واقعة واحدة تخالفها!وأنا أقرر في ثقة بوعد الله لا يخالجها شك، أن الهزيمة لا تلحق بالمؤمنين، ولم تلحق بهم في تاريخهم كله، إلا وهناك ثغرة في حقيقة الإيمان. إما في الشعور وإما في العمل - ومن الإيمان أخذ العدة وإعداد القوة في كل حين بنية الجهاد في سبيل الله، وتحت هذه الراية وحدها مجردة من كل إضافة ومن كل شائبة - وبقدر هذه الثغرة تكون الهزيمة الوقتية ثم يعود النصر للمؤمنين ـ حين يوجدون ))(1) اهـ .
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآية ( 141 ) من سورة النساء .(1/74)
والحاصل مما سبق أن معرفة السنة السابقة لا تفهم حق الفهم إلا بمعرفة الله عز وجل وتوحيده؛ فإنه سبحانه لا يريد بعباده إلا الخير والرحمة، ولو تسلط الأعداء في وقت ما فإن عاقبة هذا التسلط هي الخير والتمكين؛ وذلك أن المؤمنين عندما يتسلط عليهم أعداؤهم وينالونهم بالأذى يدركون من واقع قوله تعالى: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) أن ما أصابهم إنما هو بذنوبهم؛ فيكون الخير في تسلط الأعداء هو تغيير ما بالنفوس من خلل، وإحداث التوبة والاستغفار وترك ما أوجب حلول المصيبة، وهذا خير في حد ذاته لم يكن ليظهر لو استمر النصر والتمكين مع وجود المعاصي، وضعف الإيمان؛ لأنه والحالة هذه يستمر الفساد بدون إصلاح، وتستمر المعاصي بدون توبة؛ حتى تنتهى بأصحابها إلى شر وفساد كبير، ولكن رحمة الله عز وجل لا تتركهم في هذا الانحدار، بل يقدر الله عز وجل بعض المصائب، ومنها تسلط الأعداء ليحصل الرجوع إلى الله، ومحاسبة النفس، وإصلاح ما فسد، وفي هذا خير كثير. وهذا هو معنى السنة الثابتة التي لا تتغير ألا وهي قوله تعالى:
جـ ـ (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) (الرعد:11).
ومثلها قوله تعالى: (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ))ر (الأعراف:96).
وقوله تعالى: (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً * لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً)) (الجن:16 ـ 17) ، والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً.(1/75)
د - قوله تعالى: (( وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ)) (آل عمران:17).
هذه الآية ترسم ميزاناً قويماً ثابتاً في أن إغداق النعم على العبد ليس علامة على كرامة الله له ومحبته، ولايدل على أنه في خير وسعادة، بل الغالب أن وراء الإملاء والنعم شر اً وعذاباً، وفي هذا الميزان توجيه للناس إلى حقيقة الابتلاء بالخير والشر، وأن لا تكون موازينهم في السعادة والتعاسة هي النظر إلى كثرة النعم أو قلتها؛ فكم كان الرخاء سبباً للعذاب: دنياً وأخرى، وكم من أناس صالحين حرموا في هذه الدنيا من نعمة المال والأولاد ولكنهم في خير وسعادة: دنيا وأخرى.
وهذه المعاني العظيمة لا يمكن إدراكها إلا في ضوء التوحيد وأنواره وصدق الله العظيم: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) .والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً أذكر منها قوله تعالى: (( فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)) (التوبة:55)(1/76)
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية: ((إن الأموال والأولاد قد تكون نعمة يسبغها الله على عبد من عباده، حين يوفقه إلى الشكر على النعمة والإصلاح بها في الأرض، والتوجه بها إلى الله، فإذا هو مطمئن الضمير، ساكن النفس، واثق من المصير، كلما أنفق احتسب وشعر أنه قدم لنفسه ذخراً، وكلما أصيب في ماله أو بنيه احتسب؛ فإذا السكينة النفسية تغمره، والأمل في الله يسري عنه.. وقد تكون نقمة يصيب الله بها عبداً من عباده، لأنه يعلم من أمره الفساد والدخل، فإذا القلق على الأموال والأولاد يحول حياته جحيماً، وإذا الحرص عليها يؤرقه ويتلف أعصابه، وإذا هو ينفق المال حين ينفقه فيما يتلفه ويعود عليه بالأذى، وإذا هو يشقى بأبنائه إذا مرضوا ويشقى بهم إذا صحوا . وكم من الناس يعذبون بأبنائهم لسبب من الأسباب !
وهؤلاء الذين كانوا على عهد الرسولصلى الله عليه وسلم - وأمثالهم في كل زمان - يملكون الأموال ويرزقون الأولاد؛ يُعجب الناس ظاهرها، وهي لهم عذاب على نحو من الأنحاء. عذاب في الحياة الدنيا وهم - بما علم الله من دخيلتهم - صائرون إلى الهاوية. هاوية الموت على الكفر والعياذ بالله من هذا المصير. والتعبير: (( وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ )) يلقى ظل القرار لهذه النفوس أو الهلاك؛ ظلاً مزعجاً لا هدوء فيه ولا اطمئنان فيتسق هذا الظل مع ظل العذاب في الحياة الدنيا بالأموال والأولاد. فهو القلق والكرب في الدنيا والآخرة. وما يحسد أحد على هذه المظاهر التي تحمل في طياتها البلاء ))(1) ا هـ .
هـ - ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (( فَأَمَّا الْأِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ...)) (الفجر:15 ـ 17) .
__________
(1) في ظلال القرآن ، الآية ( 55 ) من سورة التوبة .(1/77)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية: ((أي ليس كل من أعطيته ونعّمته وخولته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته علي؛ ولكنه ابتلاء مني وامتحان له: أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأسلبه إياه وأخول فيه غيره. وليس كل من ابتليته فضيقت عليه رزقه وجعلته بقدر لا يفضل عنه فذلك من هوانه علي، ولكنه ابتلاء وامتحان مني له: أيصبر فأعطيه أضعاف أضعاف ما فاته من سعة الرزق أم يتسخط فيكون حظه السخط، فرد الله سبحانه على من ظن أن سعة الرزق إكرام، وأن الفقر إهانة، فقال: لم أبتل عبدي بالغنى لكرامته علي، ولم أبتله بالفقر لهوانه علي.
فأخبر أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه سبحانه يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لإهانته، إنما يكرم من يكرمه بمعرفته ومحبته وطاعته، ويهين من يهينه بالإعراض عنه ومعصيته، فله الحمد على هذا وعلى هذا ، وهو الغني الحميد))(1) اهـ.
و - ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (( وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُون * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ )) (الزخرف: 33 ـ 35) .
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: (( وإن عَرَضَ الحياة الدنيا الذي ضرب الله له بعض الأمثال من المال والزينة والمتاع ليفتن الكثيرين. وأشد الفتنة حين يرونه في أيدي الفجار، ويرون أيادي الأبرار منه خالية، أو يرون هؤلاء في عسر أو مشقة أو ابتلاء، وأولئك في قوة وثروة وسطوة واستعلاء.
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 80 ) .(1/78)
والله يعلم وقع هذه الفتنة في نفوس الناس. ولكنه يكشف لهم عن زهادة هذه القيم وهوانها عليه، ويكشف لهم كذلك عن نفاسة ما يدخره للأبرار الأتقياء عنده. والقلب المؤمن يطمئن لاختيار الله للأبرار وللفجار.
وأولئك الذين كانوا يعترضون على اختيار الله لرجل لم يؤت شيئاً من عرض هذه الحياة الدنيا، ويقيسون الرجال بما يملكون من رياسة، أو بما يملكون من مال يرون من هذه الآيات هوان هذه الأعراض وزهادتها عند الله، وأنها مبذولة لشر خلق الله وأبغضهم عند الله؛ فهي لاتدل على قربى منه ولا تنبئ عن رضى، ولا تشي باختيار ))(1) اهـ.
والآيات في معنى هذه السنة كثيرة جداً أكتفي بما ذكر ونسأله سبحانه حسن العاقبة.
7- التُّؤَدة والأناة وعدم الاستعجال :وهذه هي الثمرة السابعة من ثمار قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ )) فإذا كان العبد لا يعلم أين يكون الخير والشر فيما يقضيه الله سبحانه إلا في ضوء ما علّمه الله عز وجل لعباده من السنن والثواب، فإنه والحالة هذه لا ينبغي له أن يتعجل الأمور أو يحلل المواقف والأحداث قبل دراستها والبحث في جوانبها، متجرداً في ذلك لله عز وجل، مهتدياً بالموازين والسنن الثابتة التي ذكرها الله سبحانه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وإذا وفق العبد إلى هذا الفضل فإنه في الغالب يصدر عن الحق ، وينطق بالحق، وتنشأ عنده صفتا: الحلم والأناة اللتان يحبهما الله عز وجل.. وكم رأينا من أناس تعجلوا أمورهم قبل أوانها فكانت نتيجتها وبالاً وشراً عليهم. وكم سئم أناس من نعمة أنعم الله بها عليهم فتقالّوها وملّوها وأرادوا غيرها فلما جاءهم ما أرادوه وتعجلوه أصابهم منه ضررٌ ونكدٌ وندمٌ.
__________
(1) في ظلال القرآن ، الآيات ( 33 ـ 35 ) من سورة الزخرف .(1/79)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((من الآفات الخفية العامة أن يكون العبد في نعمة أنعم الله بها عليه واختارها له فيملّها العبد، ويطلب الانتقال منها إلى ما يزعم لجهله أنه خير له منها، وربه برحمته لا يخرجه من تلك النعمة، ويعذره بجهله وسوء اختياره لنفسه، حتى إذا ضاق ذرعاً بتلك النعمة، وسخطها وتبرم بها، واستحكم [ملله]لها سلبه الله إياها؛ فإذا انتقل إلى ما طلبه، ورأى التفاوت بين ما كان فيه وما صار إليه؛ اشتد قلقه وندمه، وطلب العودة إلى ما كان فيه ، فإذا أراد الله بعبده خيراً ورشداً أشهده أن ما هو فيه نعمة من نعمه عليه، ورضّاه به، وأوزعه شكره عليه، فإذا حدثته نفسه بالانتقال عنه استخار ربه استخارة جاهل بمصلحته، عاجز عنها، مفوض إلى الله، طالب منه حسن اختياره له. وليس على العبد أضر من ملله لنعم الله، فإنه لا يراها نعمة، ولا يشكره عليها، ولا يفرح بها!بل يسخطها ويشكوها ويعدها مصيبة؛ هذا وهي من أعظم نعم الله عليه. فأكثر الناس أعداء نعم الله عليهم ولا يشعرون ))(1) ا هـ .
__________
(1) الفوائد : ص181 ، وما بين معكوفتين كتب ( ملكه ) . والتصويب من طبعة بتحقيق بشير محمد عيون .(1/80)
ولكن لا يعني ذلك أن يبقى العبد متماوتاً سلبياً بحجة عدم معرفته للعواقب وبحجة التثبت! كلا. ولكن المقصود عدم العجلة في الأمور قبل تبين وجه الرشد فيها. فإذا تبين ذلك بميزان الشرع تحتم العمل والعزيمة عليه. وعن هذا الاحتراس يتحدث ابن القيم فيقول: ((والله يحب مَنْ عنده العلم والأناة فلا يعجل بل يثبت حتى يعلم ويستيقن ماورد عليه، ولا يعجل بأمر من قبل استحكامه، فالعجلة والطيش من الشيطان، فمن ثبت عند صدمة البداءات استقبل أمره بعلم وحزم، ومن لم يثبت لهما استقبله بعجلة وطيش، وعاقبته الندامة، وعاقبة الأول حمد أمره، ولكن للأول آفة متى قرنت بالحزم والعز م نجا منها وهي الفوت، فإنه لا يُخاف من التثبيت إلا الفوت، فإذا اقترن به العزم والحزم تم أمره. ولهذا في الدعاء الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم : ((اللَّهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد))(1)اتان الكلمتان هما جماع الفلاح، وما أتي العبد إلا من تضييعهما أو تضييع أحدهما، فما أتي أحد إلا من باب العجلة والطيش، واستفزاز البداءات له، أو من باب التهاون والتماوت وتضييع الفرص بعد مُواتاتها، فإذا حصل الثبات أولاً، والعزيمة ثانيا أفلح كل الفلاح. والله ولي التوفيق ))(2) ا هـ.
ومن صور الاستعجال التي يمكن معالجتها بهذه السنة مانراه من تعجل بعض الطيبين من الغيورين على هذا الدين في قطف ثمرة جهدهم، وتعريض أنفسهم للابتلاء وتمنيهم لمواجهة الأعداء... وينسون أو يغفلون عن قولهصلى الله عليه وسلم : ((لا تمنوا لقاء العدو، وإذا لقيتموهم فاصبروا))(3)؛
__________
(1) النسائي ( 3 / 54 ) ، أحمد ( 4/ 125) ، وقال شعيب الأرناؤوط : إسناده ضعيف.
(2) مفتاح دار السعادة : 154 .
(3) متفق عليه . رواه البخاري/كالجهاد/ باب ( 156)[6/181(3026)فتح]،ورواه
مسلم /ك الجهاد / باب كراهة تمني لقاء العدو (3/1362)(1742) .(1/81)
لأن المرء لا يدري ما تؤول إليه الحال عند مواجهة العدو، ومشاهدة الأهوال. وقد يتمنى العبد حالة معينة ويستعجلها بتصرفه الجاهل بعواقب الأمور، ولكن الله عز وجل برحمته يحول بينه وبين هذا الأمر لما يعلمه سبحانه من الشر والفتنة على عبده من هذا الأمر؛ فكم من أناس استعجلوا البلاء قبل أوانه فلما أصبحوا تحت وطأته ضعفوا وانتكسوا والعياذ بالله. فحري بالمسلم أن يسأل ربه الدلالة على ما فيه الخير والصلاح، وعلى ما فيه مرضاته عز وجل ورحمته.
وقد ذكر الله سبحانه في كتابه قصة أولئك الذين كرهوا كف اليد عن الكفار، وتمنوا القتال فلما كتب عليهم القتال في الوقت المناسب رغبوا عنه، وهذا من آفة الاستعجال؛ قال تعالى : (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً )) (النساء:77).
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية: »إن أشد الناس حماسة واندفاعاً وتهوراً قد يكونون هم أشد الناس جزعاً وانهياراً وهزيمة عندما يجد الجد وتقع الواقعة.. بل إن هذه قد تكون القاعدة!
ذلك أن الاندفاع والتهور والحماسة الفائقة غالباً ما تكون منبعثة عن عدم التقدير لحقيقة التكاليف، لا عن شجاعة واحتمال وإصرار، كما أنها قد تكون منبعثة عن قلة الاحتمال؛ قلة احتمال الضيق والأذى والهزيمة؛ فتدفعهم قلة الاحتمال إلى طلب الحركة والدفع والانتصار بأي شكل. دون تقدير لتكاليف الحركة والدفع والانتصار.. حتى إذا ووجهوا بهذه التكاليف كانت أثقل مما قدروا، وأشق مما تصوروا.(1/82)
فكانوا أول الصف جزعاً ونكولاً وانهياراً.. على حين يثبت أولئك الذين كانوا يمسكون أنفسهم، ويحتملون الضيق والأذى بعض الوقت؛ ويعدّون للأمر عدّته، ويعرفون حقيقة تكاليف الحركة، ومدى احتمال النفوس لهذه التكاليف. فيصبرون ويتمهلون ويعدون للأمر عدته.. والمتهورون المندفعون المستحمسون يحسبونهم إذ ذاك ضعافاً، ولا يعجبهم تمهلهم ووزنهم للأمور!وفي المعركة يتبين أي الفريقين أكثر احتمالاً وأي الفريقين أبعد نظراً كذلك!
وأغلب الظن أن هذا الفريق الذي تعنيه هذه الآيات كان من ذلك الصنف، الذي يلذعه الأذى في مكة فلا يطيقه؛ ولا يطيق الهوان وهو ذو عزة؛ فيندفع يطلب من الرسول أن يأذن له بدفع الأذى، أو حفظ الكرامة. والرسولصلى الله عليه وسلم يتبع في هذا أمر ربه بالتريث والانتظار، والتربية والإعداد، وارتقاب الأمر في الوقت المناسب ))(1) اهـ.
مما سبق يتبين لنا فضل التؤدة والأناة، وأنها من ثمرة العلم بالله عز وجل وتوحيده وأسمائه وصفاته، وأنه عز جل يقدر الوقت المناسب لنصر أوليائه بعد أن يكونوا قد أخذوا بأسباب النصر وأعدوا عدته، وأنه سبحانه هو العليم الحكيم والبر الرحيم بعباده، فلا يؤخر عنهم شيئاً، ولا يقضي عليهم أمراً إلا وفيه الخير والرحمة، ولكن العبد القاصر، والجاهل بعواقب الأمور يستعجل أمر ربه الرحيم.
__________
(1) في ظلال القرآن ، الآية ( 77 ) من سورة النساء .(1/83)
والله سبحانه العالم بخلقه وما يصلح لهم لا يستجيب لرغباتهم الطائشة، بل يحميهم منها لما يعلم سبحانه فيها من الضرر والشر لهم؛ (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) (البقرة:216)، وصدق الله العظيم في وصفه للإنسان (( خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ...)) (الانبياء:37)فطبيعته العجلة والتسرع، إلا من منَّ الله عليه بتوحيده ومحبته والتسليم له مع فعله للأسباب الممكنة فإنه يسلم من الأفكار المتعبة، والاندفاعات المتهورة، لأنه يفقه قوله تعالى: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) وصدق الرسولصلى الله عليه وسلم : ((التؤدة في كل شيء [خير]إلا في عمل الآخرة ))(1) .* * *المبحث السابعبعض الوسائل الجالبة لفهم هذه السنة والتخلّق بها
1- البصيرة في الدين والتفقه فيه: إن أهم جوانب التفقه في الدين الفقه الواجب المتمثل في: فقه العقيدة، وفقه الأحكام؛ لأنهما من أقوى الوسائل في فهم هذه السنة والتأثر بها. وتفصيل ذلك فيما يلي:
أ- فقه العقيدة ومعرفة الله عز وجل وتوحيده بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته: وهذه أعظم العلوم وأشرفها، وكل الوسائل التي تليها مكملة لها ومساعدة ومقوية لها ولا تصلح بدونها؛ لأن هذه المعرفة أهم وأشرف المعارف والعلوم، وهي أول واجب يجب على المكلف معرفته، وكلما كان العبد أعرف بربه وبأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ كلما كان أقوى إيماناً وتسليماً ومحبة وتوكلاً وتفويضاً.
وهذه المعرفة لا تتأتى إلا بالعلم الصحيح، والبصيرة النافذة في دين الله عز وجل وشرعه، والذي ليس لنا طريق إليه إلا بما جاءنا في كتاب ربنا عز وجل، وما بلغه لنا نبيه الكريم محمد صلى الله عليه وسلم على لسان صحابته الكرام رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان.
__________
(1) رواه أبو داود / ك الأدب / باب ( 11 ) في الرفق ( 5 / 157 ) ( 4810 ) ، وهو
في السلسلة الصحيحة للألباني ( 1794 ) .(1/84)
وما جاء عن غير هذين المصدرين المنضبطين بفهم السلف الصالح فإنه لن يؤدي إلى المعرفة الصحيحة بالله عز جل؛ وبالتالي لن تحصل تلك الثمار المنشودة من ثمار أسماء الله عز وجل وصفاته، والتي يثمرها قوله تعالى (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) .
وقد سبق الحديث عن بعض هذه الثمرات الكريمة ، ولذلك فإن الطوائف الضالة في معرفة الله عز وجل وأسمائه وصفاته كالجهمية والمعتزلة والقدرية وغيرهم هم أبعد الناس عن تذوق طعم هذا الثمار اليانعة لأن الشجرة التي فسد أصلها لا يرجى منها قطف الثمر.
وسوف أقتصر في هذه الفقرة على نقولات للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى تجلي هذه الحقيقة حيث لم أجد - حسب علمي القاصر - من اعتنى بمسألة الأسماء والصفات وآثارها القلبية والعبوديات التي تجب على العبد لله فيها، كما اعتنى بها هذا الإمام الجليل رحمه الله تعالى فتراه يقول: فالبصيرة في الأسماء والصفات أن لا يتأثر إيمانك بشبهة تعارض ما وصفَ الله به نفسه، ووصفه به رسوله. بل تكون الشُبه المعارضة لذلك عندك بمنزلة الشبه والشكوك في وجود الله فكلاهما سواء في البلاء عند أهل البصائر.(1/85)
وعقد هذا أن يشهد قلبُك الربَّ تبارك وتعالى مستوياً على عرشه، متكلماً بأمره ونهيه، بصيراً بحركات العالم علويه وسفليِّه، وأشخاصه وذواته، سميعاً لأصواتهم، رقيباً على ضمائرهم وأسرارهم، وأمر الممالك تحت تدبيره، نازل من عنده وصاعد إليه، وأملاكه بين يديه تنفذ أوامره في أقطار الممالك. موصوفاً بصفات الكمال، منعوتاً بنعوت الجلال، منزها عن العيوب والنقائص والمثال. هو كما وصف نفسه في كتابه، وفوق ما يصفه به خلقه. حي لا يموت،قيوم لا ينام، عليم لا يخفى عليه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، بصير يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء. سميع يسمع ضجيج الأصوات، باختلاف اللغات، على تفنن الحاجات. تمت كلماته صِدْقاً وعدلاً. وجلت صفاته أن تقاس بصفات خلقه شَبها ومثلا، وتعالت ذاته أن تشبه شيئاً من الذوات أصلاً، ووسعت الخليقة أفعالُه عدلا وحكمة ورحمة وإحساناً وفضلا. له الخلق والأمر، وله النعمة والفضل. وله الملك والحمد، وله الثناء والمجد. أولٌ ليس قبله شيء. وآخر ليس بعده شيء. ظاهر ليس فوقه شيء، باطن ليس دونه شيء، أسماؤه كلها أسماء مَدْح وحمد وثناء وتمجيد؛ ولذلك كانت حسنى، وصفاته كلها صفات كمال، ونعوته كلها نعوت جلال، وأفعاله كلها حكمة ورحمة ومصلحة وعدل، كل شيء من مخلوقاته دال عليه، ومرشد لمن رآه بعين البصيرة إليه، لم يخلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً، ولا ترك الإنسان سُدى عاطلا. بل خلق الخلق لقيام توحيده وعبادته، وأسبغ عليهم نِعمه ليتوسلوا بشكرها إلى زيادة كرامته. تعرّف إلى عباده بأنواع التعرفات. وصرّف لهم الآيات. ونوّع لهم الدلالات. ودعاهم إلى محبته من جميع الأبواب. ومدّ بينه وبينهم من عهده أقوى الأسباب. فأتمّ عليهم نعمه السابغة، وأقام عليهم حجته البالغة. أفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وضَمَّن الكتاب الذي كتبه أن رحمته تغلب غضبه.(1/86)
وتفاوت الناس في هذه البصيرة بحسب تفاوتهم في معرفة النصوص النبوية وفهمها، والعلم بفساد الشبه المخالفة لحقائقها.
وتجد أضعف الناس بصيرة أهل الكلام الباطل المذموم الذي ذمه السلف، لجهلهم بالنصوص ومعانيها، وتمكن الشبه الباطلة من قلوبهم. وإذا تأملت حال العامة - الذين ليسوا مؤمنين عند أكثرهم - رأيتهم أتم بصيرة منهم، وأقوى إيماناً، وأعظم تسليما للوحي، وانقياداً للحق))(1) اهـ .
ويتحدث في موطن آخر عن حقيقة العلم بأسماء الله عز وجل وصفاته فيقول:((وأكمل الناس عبودية: المتعبد بجميع الأسماء والصفات التي يطلع عليها البشر. فلا تحجبه عبودية اسم عن عبودية اسم آخر، كمن يحجبه التعبد باسمه "القدير" عن التعبد باسمه "الحليم الرحيم"، أو يحجبه عبودية اسمه "المعطي" عن عبودية اسمه "المانع"، أو عبودية اسمه"الرحيم والعفوّ والغفور" عن اسه "المنتقم"، أو التعبد بأسماء "التودد، والبر، واللطف، والإحسان" عن أسماء "العدل والجبروت، والعظمة والكبرياء" ونحو ذلك.
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 124 ) .(1/87)
هذه طريقة الكُمَّل من السائرين إلى الله. وهي طريقة مشتقة من قلب القرآن. قال الله تعالى: (( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (لأعراف:180) ، والدعاء بها يتناول دعاء المسألة، ودعاء الثناء، ودعاء التعبد. وهو سبحانه يدعو عباده إلى أن يعرفوه بأسمائه وصفاته، ويثنوا عليه بها، ويأخذوا بحظهم من عبوديتها.وهو سبحانه يحب موجب أسمائه وصفاته.فهو "عليم" يحب كل عليم، "جَوَاد" يحب كل جواد، "وتر" يحب الوتر، "جميل" يحب الجمال، "عفو" يحب العفو وأهله، "حَيِي" يحب الحياء وأهله، "بَرٌّ" يحب الأبرار، "شكور" يحب الشاكرين، "صبور" يحب الصابرين، "حليم"يحب أهل الحلم. فلمحبته سبحانه للتوبة والمغفرة، والعفو والصفح: خلقَ من يغفر له، ويتوب عليه، ويعفو عنه. وقدر عليه ما يقتضي وقوع المكروه والمبغوض له؛ ليترتب عليه المحبوب له المرضي له. فتوسطه كتوسط الأسباب المكروهة المفضية إلى المحبوب.
فربما كان مكروه العباد إلى محبوبها سبب ما مثله سبب
والأسباب ـ مع مسبباتها ـ أربعة أنواع: محبوب يفضي إلى محبوب. ومكروه يفضي إلى محبوب. وهذان النوعان عليهما مدار أقضيته وأقداره سبحانه بالنسبة إلى ما يحبه وما يكرهه.
والثالث: مكروه يفضي إلى مكروه.
والرابع: محبوب يفضي إلى مكروه. وهذان النوعان ممتنعان في حقه سبحانه، إذ الغايات المطلوبة من قضائه وقدره ـ الذي ما خلق ما خلق، ولا قضى ما قضى إلا لأجل حصولها ـ لا تكون إلا محبوبة للرب، مرضية له))(1) اهـ .
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 420 ، 421 ) .(1/88)
والحاصل من هذه الوسيلة أن العبد كلما كان أقوى توحيداً وأكثر بصيرة بأسماء الله عز وجل وصفاته؛كلما كان أقوى إيماناً وتعبداً لله سبحانه وكلما كان محباً لربه محسناً الظن بمولاه، وراضياً بما يقضيه عليه، موقناً بحكمة الله البالغة، ورحمته الواسعة فيما يقضيه ويقدره ـ ولو كان مكروهاً للعبد ـ لا تؤثر في قلبه الشبهات، ولا تضره الخطرات، ولا يضعف صبره عند ورود الشهوات.
ذلك أن محبته لربه تجعله يعتقد أن ما يختاره الله سبحانه خير، وأنه أحسن من اختياره لنفسه؛ وذلك لمعرفة العبد لربه سبحانه بصفات الكمال والجلال، وإحاطته بكل شيء ومعرفته لنفسه بصفات النقص والجهل والهوى. كل هذا يؤدي به إلى الاطمئنان لاختيار الله سبحانه، وأن لا يضيق الإنسان ذرعاً بذلك، ولو كان ظاهره الشر والألم وصدق الله العظيم: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) .
ورحم الله السباعي عندما قال: ((يتساءلون عن حكمتك في المرض والجوع، والزلازل والكوارث، وموت الأحباء وحياة الأعداء، وضعف المصلحين وتسلط الظالمين، وانتشار الفساد وكثرة المجرمين، يتساءلون عن حكمتك فيها وأنت الرؤوف الرحيم بعبادك؟ فياعجبا لقصر النظر ومتاهة الرأي!إنهم إذا وثقوا بحكمة إنسان سلموا إليه أمرهم، واستحسنوا فعاله وهم لا يعرفون حكمتها.
وأنت.. أنت يا مبدع السماوات والأرض، يا خالق الإنسان على أحسن صورة وأدق نظام.. أنت الحكيم العليم.. الرحمن الرحيم.. اللطيف الخبير.. يفقدون حكمتك فيما ساءهم وضرهم، وقد آمنوا بحكمتك فيما نفعهم وسرَّهم،أفلا قاسوا ما غاب عنهم على ما حضر؟وماجهلوا على ما
علموا؟ أم إن الإنسان كان ظلوماً جهولا؟! ))(1) .
__________
(1) هكذا علمتني الحياة ( 1 / 31 ) .(1/89)
ب ـ فقه الأحكام: وهذا هو القسم الثاني من الفقه الواجب في الدين،والذي يساهم في معرفة حكمة الله عز وجل ورحمته فيما يشرعه سبحانه من الأحكام والأقضية التي فيها الخير والمصلحة للعباد ـ ولو ظهر ما ظهر فيها من المشقة والتكليف على بعض الناس ـ فالعبرة بالمحصلة النهائية وما فيها من الخير والرحمة واللطف.
ومن تأمل أحكام الله عز وجل وتشريعاته وجدها مبنيّة على قاعدة عظيمة كريمة هي من لوازم ومقتضيات أسمائه الحسنى وصفاته العلى، وهذه القاعدة هي ما يسميها الفقهاء بقاعدة ( رفع الحرج ) ، وما يتفرع عنها من قواعد التخفيف والرخص ورفع المشقة وجلب التيسير.
إن معرفة القواعد التي تنطلق منها الأحكام الشرعية، ومعرفة العلل والمصالح؛ كل ذلك يساهم بشكل مباشر في تفهم هذه السنة الكريمة (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) ، ويساهم في تطبع القلب بها وتذوق ثمارها. يقول الله عز وجل: (( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )) (المائدة: 6) .
يقول محمد رشيد رضا ( رحمه الله تعالى ) عند هذه الآية:((ما نفاه الله تعالى من الحرج في هذه الآية قاعدة من قواعد الشريعة، وأصل من أعظم أصول الدين تبنى عليه وتتفرع عنه مسائل كثيرة. وقد أطلق هنا نفي الحرج والمراد به أولاً وبالذات ما يتعلق بأحكام الآية، أو بما
تقدم من الأحكام من أول السورة، وثانيا وبالتبع جميع أحكام الإسلام، ولهذا لم يقل ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج فيما شرعه لكم من أحكام الطهارة مثلاً، لأن حذف المتعلق يؤذن بالعموم .(1/90)
وقد صرح بنفي الحرج من الدين كله في سورة الحج فقال: (( وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ )) (الحج:78) .
وإنما صرح في هذه الآية بنفي الحرج من الدين كله لأن سورة الحج من السور المكية التي بينت أصول الإسلام وقواعده الكلية، وهي تدل على أن القيام بما لابد منه من عزائم الأمور ليس من الحرج في شيء لأنه نفى الحرج بعد الأمر بالجهاد في سبيل الله حق الجهاد، وهو بذل الجهد في الطريق الموصل إلى إقامة سنن الله تعالى وحكمته في خلقه، وكل ما يرضيه من عباده من الحق والخير والفضيلة، ولا يصعد الإنسان إلى مستوى كماله إلا ببذل الجهد في معالي الأمور.
وإنما الحرج هو الضيق والمشقة فيما ضرره أرجح أو أكبر من نفعه، كالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة، والامتناع من سد الرمق بلحم الميتة أو الخنزير أو الخمر لمن لا يجد غيرها، وكاستعمال المريض الماء في الوضوء أو الغسل مع خشية ضرره،وكذلك استعماله في البرد بهذا القيد،أو فيما يمكن إدراك غرض الشارع منه بدون مشقة في وقت آخر كالصيام في المرض والسفر. وقد صرح القرآن الحكيم بعد بيان فريضة الصيام والرخصة للمريض والمسافر بالفطر بأنه يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر.(1/91)
وقد بنى العلماء على أساس نفي الحرج والعسر وإثبات إرادة الله تعالى اليسر بالعباد في كل ما شرعه لهم عدة قواعد وأصول فرعوا عليها كثيراً من الفروع في العبادات والمعاملات، منها: إذا ضاق الأمر اتسع، المشقة تجلب التيسير، درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، الضرورات تبيح المحظورات، ما حرم لذاته يباح للضرورة، وما حرم لسد الذريعة يباح للحاجة ))(1) اهـ .
والآيات التي تؤكد هذه القاعدة الكريمة كثيرة جداً منها قوله تعالى: (( وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )) (الأعراف:157) .
وقوله تعالى: (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا )) (البقرة:286)،وقوله سبحانه: (( يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً )) (النساء:28).
والكلام على قاعدة رفع الحرج في الشريعة يطول، وليس هنا مقام تفصيلها، وإنما أردت الإشارة إلى أن الفقه في الدين ومقاصده وحِكَمه يزيد في الإيمان واليقين برحمة الله سبحانه، وإرادته عز وجل الخير واليسر بعباده في كل أحكامه الكونية القدرية والدينية الشرعية؛ ولو ظهر شيء من المشقة والمكروه؛ فإنما العبرة بالنتائج والمآلات، وقد لا تظهر للعبد الضعيف الحكمة والمصلحة في حكم من الأحكام في هذه الدنيا، ولكن المعرفة بالله عز وجل وتوحيده ومعرفة سننه يجعله يوقن ويسلم أن في ذلك الخير والصلاح إما في الدنيا أو الآخرة، وإذا حصل النعيم الأخروي الذي لا ينفد فماذا تساوي كل المشقات والتضحيات والمتاعب التي لا تساوي إلا ساعة من نهار أو أقل من ذلك في جانب نعيم الآخرة؟ إنها لا تساوي شيئاً، بل لا
يذكر العبد منها شيئاً عندما يرى النعيم السرمدي، والراحة الأبدية.
__________
(1) تفسير المنار : عند الآية ( 6 ) من سورة المائدة .(1/92)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((والخيرات واللذات والكمالات كلها لا تنال إلا بحظ من المشقة، ولا يعبر إليها إلا على جسر من التعب، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة؛ فلا فرحة لمن لاهم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولانعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلا، وإذا تحمل مشقة الصبرساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة والله المستعان، ولا قوة إلا بالله. وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلا؛ كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل كما قال المتنبي.
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام))(1) اهـ.
2 ـ الإكثار من قراءة القرآن وتدبر آياته :
قال تعالى: (( كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ )) (ص:29) .
إن في تدبر آيات القرآن الكريم أكبر عون على معرفة الله عز وجل بأسمائه وصفاته، وما تثمره في القلب من التوحيد الخالص لله عز وجل المتضمن لمحبته سبحانه، والتوكل عليه، والتسليم لحكمه، الرضا بقضائه.كما أن في كتاب الله عز وجل من القصص والحوادث الشيء الكثير الذي قصه الله
تعالى علينا لنعتبر وندّكر؛ قال سبحانه: (( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى )) (يوسف: 111) .
وذلك كقصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام،وغزوات الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما فيها من العبر والدروس العظيمة التي تبين سنن الله عز وجل في عباده المؤمنين، وسنته سبحانه في الظالمين، والتي يظهر للمتأمل والمتدبر فيها تلك الموازين والقيم الثابتة التي لاتتغير ولا تتبدل، والتي توزن بها المواقف والأحداث.
__________
(1) مفتاح دار السعادة ( 342 ) .(1/93)
كما يظهر أيضاً من هذه القصص رحمة الله عز وجل وإرادته الخير بعباده، ولو ظهر ما ظهر من الشر والمكروه لهم في بدايات الأمور فإن الخير من وراء ذلك.
وقد سبق تفصيل ذلك في المبحث الثاني: مبحث الآيات الواردة، والمبحث الرابع: مبحث المواقف؛ حيث مر بنا ما ورد في دروس غزوة بدر، وأحد، والحديبية.
كما أن المتدبر لكتاب الله عز جل والمهتدي بهداه ينتفع كثيراً بتتبعه لآيات الأحكام وما فيها من التيسير ورفع الحرج والمشقة، والتي تقوي الإيمان برحمة الله عز وجل ولطفه وإحسانه، وتزيد من يقينه بقوله تعالى: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) .
كما أن ذكر الآخرة وما أعد الله فيها لعباده المؤمنين من الخير العميم والنعيم المقيم يثمر في قلب المؤمن زهادته في متاع الدنيا الزائل، كما يثمر صبره على المصائب والشدائد، فما هو إلاصبر ساعة ويأتي الخلف من الله عز وجل في النعيم الأبدي؛ النعيم الخالص الذي ينسي كل شدة ومصيبة مهما طال أمدها، وبالتالي فإن مكروهاً مؤقتاً يزول ويعقبه محبوبٌ أبديٌ ونعيمٌ سرمديٌ لا يعتبر مكروهاً لزواله وانقراضه.
3ـ الإكثار من الأعمال الصالحة والحذر من الذنوب وآثارها.
قال تعالى : (( مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (النحل:97). في هذه الآية الكريمة يرشدنا الله عز وجل إلى أثر الأعمال الصالحة في الحياة الطيبة السعيدة في الدنيا والعاقبة الحميدة في الآخرة.(1/94)
ولا يقصد بهذه الحياة الطيبة ما يفهمه كثير من أبناء الدنيا الغافلين عن الله عز وجل والدار الآخرة من أنها التنعم بالأموال والأولاد والمأكولات والمشروبات واللذائذ الدنيوية.كلا؛ فهذه يشترك فيها معهم الحيوانات والكفار وغيرهم، ولكن الحياة الطيبة التي تشير إليها الآية الكريمة شيء آخر وشأن عظيم لا يناله إلا المؤمن العامل للصالحات، وذلك فيما ينعم به العبد المؤمن من النعيم القلبي والسرور النفسي ولو كان في ما يظهر للناس فقيراً بائساً مريضاً.. إلخ.
ولما كانت الأعمال الصالحة سبباً في طمأنينة القلب وسكينته وإنابته إلى ربه عز وجل فإنها تكون بذلك من أقوى الأسباب في تفهم سنة الله عز وجل في عباده فيما يقضيه من الخير أو الشر، ويصبح العبد مطمئناً إلى ربه راضياً بما يختاره له سبحانه، مفوضاً أمره إلى مولاه عز وجل، وإلى ذلك يشير الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي الصحيح والذي فيه: ((وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي عليها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه.. الحديث ))(1) .
وفي هذا أعظم هداية، ونورٌ يستضيء به العبد في حياته، وينعم به في قلبه.
كما تجدر الإشارة هنا إلى أثر الأعمال الصالحة في صفاء القلب وسلامته من أدران الشبهات والشهوات، واللذان هما البابان المفتوحان للشيطان؛ لا يدخل على القلب إلا عن طريقهما؛ فإذا أقفل هذان البابان بما في القلب من أنوار التوحيد، وتلاوة كتاب الله عز وجل والأعمال الصالحة فإن القلب بذلك يسلم مما يورده الشيطان من الشبهات والشكوك في قضاء الله وقدره، وعندها يحصل الاستسلام والانقياد وتفويض الأمور إلى الله عز وجل العليم الحكيم البر الرحيم.
__________
(1) رواه البخاري/ ك .الرقاق / باب ( 38 ) التواضع [ 11 / 348 ( 6501 ) فتح ] .(1/95)
وبقي في هذه المسألة أن نشير إلى خطر الذنوب والمعاصي، وأثرها في ظلمة القلب ومرضه،وتعرضه لفتن الشبهات والشهوات حتى يصبح قاسياً صلداً لا تؤثر فيه المواعظ، ولا تنفعه الزواجر،ولذا فإن من الأسباب المعينة على تفهم سنن الله عز وجل، والتخلقّ بها: الحذر من الذنوب والمعاصي، والتوبة السريعة عند الوقوع فيها حتى يبقى للقلب صفاؤه وسلامته.
وقد قصّ الله عز وجل في كتابه الكريم قصة قارون وافتراق الناس إزاءه إلى فريقين: فريق يريد الحياة الدنيا وحظه من العلم والعمل الصالح قليل، وفريق آتاه الله العلم، ونظر بنورالله عز وجل في قارون وماله فوُفّق إلى الميزان الحق، بينما أخطأ الفريق الآخر هذا الميزان، ووزن الأمر بميزان الدنيا الزائلة المضطربة؛ قال تعالى: (( فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ )) (القصص: 79 ،80) .
فهذه الآية ترينا أثر العلم والعمل الصالح والرغبة في الآخرة في النظرة الصحيحة والميزان الحق للأمور، كما ترينا خطر الركون إلى الدنيا وقلة العلم والعمل الصالح وأثر ذلك في اضطراب الموازين واختلال المفاهيم.(1/96)
4 ـ مصاحبة أهل العلم والصلاح والعقل والحكمة: إن التربية بالقدوة والمصاحبة والمعايشة من أهم وسائل التربية التي ثبت جدواها بالدليل والتجربة؛ لأن الإنسان مدني بطبعه؛ يتأثر بمن حوله، ويتحلى بأخلاقهم وأنماط سلوكهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر؛ قال تعالى: (( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولاً )) (الفرقان:27 ـ 29) ، وقولهصلى الله عليه وسلم : (( المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل))(1).
والنصوص في ذلك كثيرة. فمتى ما وفق العبد إلى مجالسة أهل الصلاح، ومن يتصفون بصحة العلم، وحسن الديانة؛ فإن هذا بداية الخير والهداية، وذلك لما يتلقى منهم من العلم والفقه الذي تُنفى به الشبهات، ويتعرف الإنسان به على ربه الكريم الرحيم فيعبده على بصيرة.
وكذلك لما يجده عندهم من القدوة في أخلاقهم وصبرهم ومواقفهم الواضحة من الغير والأحداث حيث يرى الحلم والصبر، وإحسان الظن بالله، والتسليم لقضائه وقدره؛ مما يكون له أكبر الأثر على نفسية المعايش لهم. ومعلوم أنه قد يؤثر في النفس موقفٌ عمليٌ يقفه بعض أهل العلم والصلاح لا تستطيع عشرات الخطب والمحاضرات والكتب أن تزرعه في النفس كما زرعه موقف واحد يشاهده التلميذ المتربي، ويعايشه بسمعه وبصره وقلبه وقالبه.
__________
(1) رواه أبو داود ( 4833 ) في الأدب ) ، والترمذي ( 2379 ) في الزهد ) وقال
شعيب الأناؤوط : إسنتاده حسن .(1/97)
كما أن المصاحب لأهل العلم والصلاح فوق ما ينهل من علمهم وأخلاقهم فهو يلتجئ إليهم بعد الله سبحانه عند الفتن والنوازل التي يجد فيها الشيطان فرصة لإثارة الشبهات، وزعزعة الإيمان، وإساءة الظن بالله. ولكن هذا لا يكون بإذن الله عند من يلتصق بأهل العلم والصلاح فهو يسألهم عما يشتبه عليه في أمر دينه، ويستشيرهم ويستنير برأيهم عند اشتباك الفتن، وتعدد المواقف، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، مما يكون له أكبر الأثر في ثبات القلب، وصحة التوكل، واطمئنان النفس، والتسليم لله عز وجل، وتفويض الأمور إليه بعد استفراغ الجهد في فعل الأسباب التي أذن فيها الشرع، وحث على الأخذ بها.
كما أن في مصاحبة أهل الخير والعلم تربية وتدريب على التأني، والتعقل، وأخذ الأمور بحكمة وهذه الصفات ضرورية أيضاً لسد باب العجلة التي هي طريق إلى الندامة والتسخط غالباً.
ومما يتعلق بصحبة أهل العلم والصلاح؛ مصاحبة من مات منهم قديماً وحديثاً، والعيش معهم من خلال كتبهم وسيرتهم الصالحة، والمواقف المأثورة عنهم، والتي تشهد بقوة يقينهم، وصحة توكلهم، واستسلامهم لربهم، واحتساب الخير والرحمة فيما يقضيه الله عليهم مما تكرهه النفوس وتأباه. نعم إن في قراءة سيرة العلماء الصالحين الصادقين وسيلة من أقوى الوسائل في التأسي بهم، ومحاولة اللحوق بهم، والمرء مع من أحب.
وبما أن الضد بالضد يعرف، فلا شك أن في الحذر من مصاحبة الأشرار من أهل العلم الفاسد، أو العمل الفاسق سلامة من تلوث القلب بشبهاتهم أو شهواتهم التي تكدّر القلب، وتعكر عليه صفاءه وسلامته، وكذلك الحال في الحذر من كتب وسير أهل الشبهات من أهل البدع والكلام فإنها تورث الشبهات، وتقسي القلب، وتجلب الأهواء والأدواء.(1/98)
5ـ مشاهدة بر الله عز وجل وإحسانه وتقصير النفس وعصيانها:إن في مشاهدة آلاء الله عز وجل، ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، ونزولها المدرار المتواتر من الرب عز وجل إلى عبده لهي من أكبر الأسباب الجالبة لصحة المحبة لله سبحانه، والثقة في رحمته، والاستسلام لحكمه. فإذا أضيف إلى ذلك الخير والعطاء تقصير النفس، وعيوبها، وذنوبها فإن العبد والحالة هذه يستحي أشد الحياء من ربه، ويعلم أنه يتقلب في فضل الله ورحمته، وإن أصابه شيء فإنه يوقن بعدل الله وحكمته، وأنه أهل لذلك، وما عفا الله عنه أكثر. حينئذٍ لا يرى العبد لنفسه فضلا على أحد؛ وهذا يدفعه ويوجهه إلى الاعتناء بنفسه، وإصلاح عيوبها، ويلتمس ما يرضي ربه فيتوجه إليه بالعمل، ومن كان هذا شأنه فإنه يعيش مطمئن القلب، بعيداً عما يتنافس فيه الناس، ويتحاسدون، ويتباغضون، يرى أن النعم ليست دلالة على الإكرام، كما أن الضيق في الرزق ليس علامة على الإهانة، بل إنه يزن نفسه ويزن الناس بميزان التقوى الذي هو أساس التفاضل فإذا انضم إلى ما سبق معرفة العبد لعقله الضعيف المحدود وتفكيره القاصر، فإنه يطامن من غلوائه، ويعلم أن الله عز وجل حكيم في كل أحكامه ، عليم بما يصلح عباده وأنه لا طاقة للعقل في إدراك الحكمة في كل شيء؛ عندئذ يحصل الرضا والتسليم لما يختاره الله عز جل، لأنه سبحانه أعلم وأحكم، وأرحم وأبر.يقول ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذه المشاهدة: ((ومنها أنه إذا شهد نفسه مع ربه مسيئاً خاطئاً مفرطاً مع فرط إحسان الله إليه في كل طرفة عين، وبره به، ودفعه عنه، وشدة حاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه نَفَساً واحداً، وهذه حاله معه!فكيف يطمع أن يكون الناس معه كما يحب، وأن يعاملوه بمحض الإحسان!وهو لم يعامل ربه بتلك المعاملة؟!. وكيف يطمع أن يطيعه مملوكه وولده وزوجته في كل مايريد،ولا يعصونه،ولا يخلّون بحقوقه وهو مع ربه ليس كذلك؟!.(1/99)
وهذا يوجب له أن يستغفر لمسيئهم، ويعفو عنه ويسامحه، ويغضي عن الاستقصاء في طلب حقه .فهذه الثمار ونحوها متى اجتناها العبد من الذنب فهي علامة كونه رحمة في حقه ))(1) .
6ـ النظر في أحداث التاريخ، والمواقف التي تبرز فيها حكمة الله عز وجل وحسن اختياره :
يقول الله تعالى: (( قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ )) .
(آل عمران:137 ، 138).
لقد نزلت هذه الآيات في التعقيب على غزوة أحد، ويرشد الله عز وجل المؤمنين فيها إلى السير في الأرض والنظر في سنن الله عز وجل، وحكمته البالغة، والتي تنص على أن العاقبة للمتقين، وأن عاقبة المكذبين الهلاك والخسران، ولو تسلطوا فترة من الزمن، فإن في هذا التسلط حكمة بالغة لأنه سبحانه يريد الخير بعباده المؤمنين: إما لتمحيصهم وتمييز الخبيث من الطيب من بينهم، أو لتقصيرهم وعصيانهم، فيريد الله عز وجل من الابتلاء والتسليط أن يتوبوا ويغيروا ما بأنفسهم، أو غير ذلك من الحكم والغايات النبيلة الشريفة.
__________
(1) مفتاح دار السعادة : 321 .(1/100)
والحاصل أن في النظر في أحداث التاريخ، وتتبع المواقف التي مرت بالمسلمين مع أعدائهم وسيلة من أقوى الوسائل التي تساعد في فقه قوله تعالى: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) ،وذلك لما في هذه الأحداث والمواقف من الأدلة الجلية على حسن اختيار الله عز وجل لعباده، ورحمته بهم. وقد سبق في المبحث الرابع ذكر بعض الأحداث كغزوة بدر وأحد والحديبية، وكذلك بعض المواقف الفردية والتي تدل على أن المؤمنين قد كرهوا شيئاً في بداية الأمر، ولكن الله سبحانه ـ المحيط بكل شيء ـ قدَّره عليهم، فكان في ذلك الخير والرحمة بعد أن كانوا يظنون أنه شر ومكروه، ولو تابع كلٌ منّا نفسه وتأمل ما مرّ به من مواقف لوجد مصداق هذه السنة واضحاً جلياً، وأن ما اختاره الله سبحانه خير مما اختاره العبد لنفسه.
7ـ دعاء الله عز وجل واللجوء إليه وسؤاله الخيرة في الأمور كلها: وهذه مسك الختام في هذا المبحث. فاللجوء إلى الله عز وجل، وسؤاله الدلالة على مافيه الخير من أنجع الوسائل في فقه هذه السنة، وتذوق طعمها، والتعرف عليها؛ لأن العبد الضعيف القاصر المحدود العلم والإدراك، إذا فوّض الأمر إلى ربه ومولاه الغني الحميد، علام الغيوب، القادر على كل شيء والعالم بكل شيء فإنه بذلك يستريح باله، وينتظر اختيار الله له، ويطمئن بعد ذلك إلى ما دله الله عليه، وكم انتفع بدعاء الاستخارة(1) أناسٌ لجأوا إلى الله عز وجل بصدق فهداهم سبحانه إلى الخير والرحمة، ولمسوا ذلك الخير بعقولهم وأيديهم مما كان له أكبر الأثر في زيادة اليقين والاطمئنان إلى قضاء الله وقدره. ومن الأدعية النافعة في هذا الباب الدعاء الذي رواه عمار بن ياسر رضي الله عنه وفيه (( وأسألك الرضا بعد القضاء ))(2) .
* * *
المبحث الثامنحال المسلمين اليوم في ضوء هذه السنة
__________
(1) انظر نص الدعاء وتخريجه ص43 .
(2) انظر نص الدعاء وتخريجه ص46 .(1/101)
تمر بالمسلمين في السنوات الأخيرة حوادث ضخام تتسم بالسرعة والمفاجأة، نسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عاقبتهاخيراً للإسلام والمسلمين. وهذا ما نجزم به في ضوء قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) ، ولو ظهر ما ظهر فيها من المصائب والشرور، فإن العاقبة للمتقين.
وقد برزت هذه الأحداث بشكل جلي بعد حرب الخليج الثانية والتي سبق الإشارة إلى بعض الدروس المستفادة منها في (الرسالة الرابعة) من هذه السلسلة والموسومة بقوله تعالى: (( رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ )).
وفي هذا المبحث سيكون التركيز على أهم الأحداث المؤلمة التي تدور رحاها اليوم في المناطق التي يقطن فيها المسلمون، متلمسين أوجه الخير التي تنطوي عليها هذه الأحداث، وذلك في ضوْء ما تم بسطه في المباحث السابقة، مستلهمين الإعانة والتوفيق من الله عز وجل، فما كان من صواب فهو من الله سبحانه وهو المانّ به، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان وأستغفر الله وأتوب إليه.
والمقصود من هذه المعرفة ليس هو مجرد العلم الذهني فقط، وإنما المقصود الأهم هو : استثمار هذه النتائج في توعية الناس، ومراجعة النفوس ، وتوظيفها في مناهج الدعوة والتغيير، وأخذ العظة والدروس منها، والبحث في أسباب المصائب والشرور حتى يتم تجنبها، ومعرفة أسباب النصر والتمكين؛ فيتوجه الجهد لطلبها وتحصيلها، مع الثقة المطلقة في وعد الله عز وجل ورحمته وحكمته. وأهم الأحداث التي سيتناولها هذا المبحث ما يلي:
1ـ ابتلاء المؤمنين وتسليط الأعداء عليهم في أكثر البلدان: تشهد السنوات الأخيرة حرباً شرسة من أعداء الإسلام بشتى مللهم ، على الدين وأهله تدور رحاها في أكثر بلدان المسلمين؛ فاشتد الخطب على أمة الإسلام وصلحائها فابتلوا بشتى صنوف البلاء. نسأل الله عز جل أن يربط على قلوبهم ويفك أسرهم، ويحسن العاقبة لهم.(1/102)
وهذه سنة الله عز وجل في تمحيص أوليائه، وحتمية الصراع بين الحق والباطل. قال تعالى : (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ )) (الأنعام:112) .
فمن هذه الآية نفهم أن هذه العداوة والصراع سنة من سنن الله عز وجل في عباده المؤمنين وله سبحانه الحكمة البالغة في ذلك كما سيتبين فيما بعد، كما نفهم من هذه الآية أن كل هذا الصراع وهذه العداوة تمت بقدر الله سبحانه وبعلمه، والكل في قبضته وتحت قهره، ولو شاء سبحانه ما فعلوا هذا الكيد، وما استطاعوا إليه سبيلاً.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية: ((والمشهد الذي يرسمه القرآن الكريم للمعركة بين شياطين الإنس والجن من ناحية، وكل نبي وأتباعه من ناحية أخرى؛ ومشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ من ناحية ثالثة.. هذا المشهد بكل جوانبه جدير بأن نقف أمامه وقفة قصيرة:إنها معركة تتجمع فيها قوى الشر في هذا الكون.. شياطين الإنس والجن.. تتجمع في تعاون وتناسق لإمضاء خطة مقررة.. هي عداء الحق الممثل في رسالات الأنبياء وحربه.. خطة مقررة فيها وسائلها: (( يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ...)) ... يمد بعضهم بعضاً بوسائل الخداع والغواية؛ وفي الوقت ذاته يغوي بعضهم بعضاً!وهي ظاهرة ملحوظة في كل تجمع للشر في حرب الحق وأهله.. إن الشياطين يتعاونون فيما بينهم؛ ويعين بعضهم بعضاً على الضلال أيضاً! إنهم لا يهدون بعضهم البعض إلى الحق أبداً. ولكن يزين بعضهم لبعض عداء الحق وحربه، والمضي في المعركة معه طويلاً!(1/103)
ولكن هذا الكيد كله ليس طليقاً..إنه محاط به بمشيئة الله وقدره.. لا يقدر الشياطين على شيء منه إلا بالقدر الذي يشاؤه الله، وينفذه بقدره. ومن هنا يبدو هذا الكيد ـ على ضخامته وتجمع قوى الشر العالمية كلها عليه ـ مقيداً مغلولاً!إنه لا ينطلق كما يشاء بلا قيد ولا ضابط، ولا يصيب من يشاء بلا معقب ولا مراجع ـ كما يحب الطغاة أن يلقوا في روع من يعبدونهم من البشر، ليعلقوا قلوبهم بمشيئتهم وإرادتهم..كلا!إن إرادتهم مقيدة بمشيئة الله،وقدرتهم محدودة بقدَر الله،وما يضرون أولياء الله بشيء إلا بما أراده الله ـ في حدود الابتلاء ـ ومرد الأمر كله إلى الله ))(1)اهـ.
وقبل الدخول في محاولة التعرف على جوانب الخير والحكمة في الابتلاء والتسليط أود التذكير بما ورد في المبحث الخامس تحت عنوان (تنبيه واحتراس ) من أن الرضا والتسليم بما يقدره الله عز وجل، واليقين برحمته في كل أحكامه؛ لا يعني العجز والتواكل، وترك الفساد يسري في الأمة؛بل الواجب مدافعة أقدار الله بأقداره؛وذلك بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإذا قضى الله عز وجل أمراً وجب التسليم به، والتفاؤل بالخير والرحمة من ورائه. كما ينبغي للمؤمن أن يسأل ربه العافية من البلاء، فإذا وقع الابتلاء لزم الرضا والتسليم، والوثوق برحمة الله وحكمته.
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى في ذلك:((ومع هذا فإن العبد المؤمن يرجو ألا يتعرض لبلاء الله وامتحانه، ويتطلع إلى عافيته ورحمته. فإذا أصابه بلاء الله بعد هذا صبر له، وهو مدرك لما وراءه من حكمة؛ واستسلم لمشيئة الله واثقاً من حكمته، متطلعاً إلى رحمته وعافيته بعد الابتلاء.
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآية ( 112 ) من سورة الأنعام .(1/104)
وقد روي عن الفضيل العابد أنه كان إذا قرأ هذه الآية ـ:وهي قوله تعالى: (( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)) (محمد:31) . بكى وقال: اللَّهم لا تبلنا. فإنك إن بلوتنا فضحتنا، وهتكت أستارنا، وعذبتنا..))(1) ا هـ.
وأسوق الآن بعضاً من جوانب الحكمة والرحمة في الابتلاء وأسأله سبحانه التوفيق والسداد:
أ ـ استخراج عبودية المبتلى لله عز وجل في الضراء وظهور انكساره وافتقاره إلى ربه عز وجل، وفي هذا خير للعبد المبتلى، لتنكشف له نفسه على حقيقتها، ويكمل ما نقص فيها من العبودية لله عز وجل، وفي هذا يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تعداده لحكم ابتلاء المؤمنين بتسليط عدوهم عليهم:((ومنها أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء، وفي حال العافية والبلاء، وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم. فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال. لا تحصل إلا بها، ولا يستقيم القلب بدونها ))(2) اهـ.
وبذلك تتهذب النفوس، وتنتصر على ضعفها وتُنقّى من كل زغل وهوى؛ وفي هذا خيركثير.
__________
(1) في ظلال القرأن : عند الآية ( 31 ) من سورة محمد " بتصرف " .
(2) إغاثة اللهفان ( 2 / 190 ) .(1/105)
ب- تهيئة المبتلين لمقامات رفيعة في الدنيا والآخرة لايمكنهم الوصول إليها إلا على جسر التعب والابتلاء، وهذا الأمر مشاهد ومعروف؛ فكم من داعية لم ينتشر علمه، ولم تنتشر دعوته وكتبه في الآفاق إلا بعد ابتلائه وتمحيصه؛ وصبره على ذلك، كما مر بنا في محنة الإمام أحمد، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمهما الله؛ فيقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وإذا تأملت حكمته سبحانه فيما ابتلى به عباده وصفوته بما ساقهم به إلى أجلّ الغايات، وأكمل النهايات التي لم يكونوا يعبرون إليها إلا علي جسر من الابتلاء والامتحان، وكان ذلك الجسر لكماله كالجسر الذي لا سبيل إلى عبورهم إلى الجنة إلا عليه، وكان ذلك الابتلاء والامتحان عين المنهج في حقهم والكرامة؛ فصورته صورة ابتلاء وامتحان، وباطنه فيه الرحمة والنعمة فكم لله من نعمة جسيمة، ومنّة عظيمة تجنى من قطوف الابتلاء والامتحان ))(1) اهـ .
ويلحق بذلك ما يناله المبتلى الصابر من تكفير السيئات ورفعة الدرجات في الآخرة.
جـ- تمحيص الدعاة أنفسهم وتميز الصادق من غيره، فبالابتلاء يعرف الداعية من نفسه مالم يكن يعرفه من قبل، كما تنكشف مواقف الناس من حول الدعاة ويتم تمييز المواقف إزاء المصلحين المبتلين، فيظهر بابتلائهم مَن مِن الناس معهم، ومَن هو ضدهم ومِن أعدائهم، وقد يكون هذا الأمر قبل الابتلاء مختلطاً ملتبساً عليه، وفي هذا التميز خير كثير للدين وأهله؛ لأن في انفصال الدغل ومعرفة القلوب المريضة فائدة كبيرة في فضحهم، وأخذ الحذر منهم، وعدم المراهنة على الأعداد الكبيرة التي لم يتميز طيبها من خبيثها والذين يُظن أنهم في صف الدعوة، فتأتي الابتلاءات ليتميز هؤلاء عن هؤلاء، وتظهر الأمورعلى حقيقتها.
__________
(1) مفتاح دار السعادة ص321 .(1/106)
ومن سنن الله عز وجل في التغيير أن نصره سبحانه لا ينزل إلا بعد التمحيص والتميز؛ قال تعالى : (( مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ ...)) (آل عمران: 179) .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية: ((أي: لا بد أن يعقد سبباً من المحنة، يظهر فيه وليه، ويفتضح فيه عدوه، يعرف المؤمن الصابر، والمنافق الفاجر ))(1)اهـ.
كما أن في الابتلاء خيراً للدعوة نفسها؛ حيث يصلب عودها، ويصلب عود أهلها، ويثبت للناس مصداقيتهم ومصداقيتها، وهذا هو الذي يميز الدعوات الحقة من الدعوات الزائفة قال تعالى: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً)) (الفرقان:31).
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى عند هذه الآية:((فلا يكافح ويناضل، ويحتمل الآلام والتضحيات إلا أصحاب دعوة الحق الجادون المؤمنون،الذين يؤثرون دعوتهم على الراحة والمتاع وأعراض الحياة الدنيا،بل على الحياة نفسها حين تقتضيهم دعوتهم أن يستشهدوا في سبيلها،ولا يثبت على الكفاح المرير إلا أصلبهم عوداً، وأشدهم إيماناً، وأكثرهم تطلعاً إلى ما عند الله، واستهانة بما عند الناس. عندئذ تتميز دعوة الحق من دعاوى اباطل. وعندئذ تمحص الصفوف؛ فيتميز الأقوياء من الضعفاء. وعندئذ تمضي دعوة الحق في طريقها برجالها الذين ثبتوا عليها، واجتازوا امتحانها وبلاءها.
__________
(1) تفسير ابن كثير : عند الآية ( 179 ) من سورة آل عمران .(1/107)
أولئك هم الأمناء عليها، الذين يحتملون تكاليف النصر وتبعاته. وقد نالوا هذا النصر بثمنه الغالي، وأدوا ضريبته صادقين مؤثرين. وقد علمتهم التجارب والابتلاءات كيف يسيرون بدعوتهم بين الأشواك والصخور، وقد حفزت الشدائد والمخاوف كل طاقاتهم ومقدراتهم، فنما رصيدهم من القوة، وذخيرتهم من المعرفة. فيكون هذا كله رصيداً للدعوة التي يحملون رايتها على السراء والضراء ))(1)اهـ.
د- إن في الابتلاء فرصة لإعادة النظر في المناهج والتصورات والمواقف التي قد يشوبها شيء من الخلل والخطأ ومجانبة الصواب فيأتي الابتلاء لينبه أصحاب هذه المناهج الخاطئة إلى مواطن الخلل ونقاط الضعف؛ فيحصل التصحيح، ويُهتدى إلى الحق، ويُعدّل المسار، وهذا خير وأجدى من الاستمرار على الخطأ الذي لم يكن ليعرف لولا الابتلاء الذي يقدره الله سبحانه على عباده وأوليائه ليردهم به إلى الحق وإلى الطريق المستقيم، وفي ذلك خير عظيم.
هـ - في الابتلاء والمعاناة علاج لداء الأشر والعجب والتعالي الذي قد يصاب به بعض الدعاة؛ حيث بالابتلاء تنكسر النفس، وتستكين لربها عز وجل، وتلجأ إليه وتظهر فيه على حقيقتها.
و - كما أن في اقتحام الابتلاء والمرور بالمحنة ما يُسقط حاجز الخوف والهلع الذي قد يكون مضخماً في النفوس بشكل يثير الرعب والأوهام، فإذا بهذه الأمور تزول ويظهر سرابها، ويُعرف المخاليق الضعاف على حقيقتهم، وأنهم لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فضلاً عن أن يملكوه لغيرهم، وصدق الله العظيم : (( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) (آل عمران:175) .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في معنى الآية : ((أي يخوفكم أولياءه، ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة ))(2) اهـ.
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآية ( 31 ) من سورة الفرقان .
(2) تفسير ابن كثير : عند الآية ( 175 ) من سورة آل عمران .(1/108)
ز- بالابتلاء يحصل التنبيه إلى سنة الله عز وجل في كل من ادعى الإيمان، وأنه لابد من الابتلاء للخلق ليتبين الصادق من الكاذب.
وهذا الأمر قد سبق التنبيه عليه في فقرة سابقة، وإنما الذي يراد ذكره هنا هو أنه قد يوجد من بعض الدعاة إلى الله عز وجل من يغفل عن هذه السنة ويتهرب منها وُسْعه وطاقته، فإذا ابتلي حصل له صدمة وكأن الأمر مفاجئ له! فيأتيه ولما يستعد له ويوطن نفسه عليه، فينشأ من ذلك اضطراب وضعف للمبتلى .
أما إذا تذكر هذه السنة، ورأى صوراً منها فيمن ابتلي من الدعاة قبله؛ فإن هذا يساعده على أن يأخذ للأمر أهبته ويستعد له ويعزي نفسه بحتمية هذه السنة، ويسأل ربه الثبات والعافية، كما يسأله الثواب الحسن والأجر الكريم عنده سبحانه يوم يلقاه، فما هو إلا صبر ساعة ثم النعيم المقيم بإذنه سبحانه.
قال الله تعالى: (( الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ* أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ * مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ )) (العنكبوت:1 ـ6).(1/109)
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية: ((فليتأمل العبد سياق هذه الآيات، وما تضمنته من العبر وكنوز الحكم فإن الناس إذا أرسل إليهم الرسل بين أمرين: إما أن يقول أحدهم:آمنا وإما ألا يقول ذلك؛بل يستمر على السيئات والكفر، فمن قال: "آمنا" امتحنه ربه وابتلاه وفتنه والفتنة: الابتلاء والاختبار ليتبين الصادق من الكاذب - ومن لم يقل: "آمنا" فلا يحسب أنه يُعجز الله ويفوته ويسبقه فإنه إنما يطوي المراحل في يديه.
وكيف يفر المرء عنه بذنبه إذا كان تُطوى في يديه المراحل
فمن آمن بالرسل وأطاعهم، عاداه أعداؤهم وآذوه فابتلي بما يؤلمه، وإن لم يؤمن بهم ولم يطعهم؛ عوقب في الدنيا والآخرة فحصل له ما يؤلمه، وكان هذا المؤلم له أعظم ألماً وأدوم من ألم اتباعهم .
فلا بد من حصول الألم لكل نفس آمنت أو رغبت عن الإيمان. لكن المؤمن يحصل له الألم في الدنيا ابتداء ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة، والمعرض عن الإيمان تحصل له اللذة ابتداء ثم يصير إلى الألم الدائم، وسئل الشافعي رحمه الله: أيهما أفضل للرجل يُمكّن أو يبتلى؟ فقال: لا يمكَّن حتى يبتلى... إلى أن قال رحمه الله تعالى:... ومن تأمل أحوال العالم، رأى هذا كثيراً فيمن يعين الرؤساء علي أغراضهم الفاسدة وفيمن يعين أهل البدع على بدعهم هرباً من عقوبتهم، فمن هداه الله، وألهمه رشده، ووقاه شر نفسه، امتنع من الموافقة على فعل المحرم، وصبر على عدوانهم ثم تكون له العاقبة في الدنيا والآخرة كما كانت للرسل وأتباعهم كالمهاجرين والأنصار، ومن ابتلي من العلماء، والعباد، وصالحي الولاة والتجار وغيرهم.
ولما كان الألم لامحيص منه ألبتة، عزَّى الله سبحانه من اختار الألم اليسير المنقطع على الألم العظيم المستمر بقوله: (( مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )) [ العنكبوت :5 ].(1/110)
فضرب لمدة هذا الألم أجلاً، لابد أن يأتي، وهو يوم لقائه، فيلتذ العبد أعظم اللذة بما تحمل من الألم من أجله وفي مرضاته، وتكون لذته وسروره وابتهاجه بقدر ما تحمّل من الألم في الله ولله، وأكد هذا العزاء والتسلية برجاء لقائه ليحمل العبدَ اشتياقُه إلى لقاء ربه ووليّه على تحمّل مشقة الألم العاجل... ))(1) ا هـ.
وفي ختام الكلام عن سنة الابتلاء وما فيها من الحكمة والخير والرحمة أود الإشارة إلى أنه لا يفوز بهذا الخير من الابتلاء إلا من ثبته الله عز وجل وأعانه على الخير بصفات ثلاث، لو تخلف واحد منها أو أكثر فقد لا يكون الابتلاء خيراً له اللَّهم إلا أن يكون الابتلاء قد جعله ينتبه لهذا الخلل فيسعى لسده؛ فعندئذ يكون هذا خيراً له، وقد يكون خيراً لغيره بالعظة والاعتبار.
أما هذه الصفات الثلاث التي إذا تحققت في العبد كان الابتلاء في حقه خيراً له ورحمة فهي كما يلي:
1- أن يكون الأمر الذي حصل بسببه الابتلاء حقاً ومشروعاً وذلك بأن يكون العبد على بصيرة من أمره، ومطمئناً أنه على حق يحبه الله ويرضاه، وليس على باطل يخالف الشريعة زيادة أو نقصاناً.
2- أن يكون قيام العبد في هذا الأمر مخلصاً فيه لله عز وجل، ويبتغي به مرضاته وجنته، وأن لايريد من قيامه هذا عرضاً من أعراض الدنيا الفانية؛ سواء كان مالاً، أم جاهاً، أم ثناءً.
3- أن يكون العبد في قيامه بالأمر مستعيناً بالله عز وجل، متوكلاً عليه، متبرئاً من كل حول وقوة إلا من حول الله وقوته، ويقينه بأنه لو وُكِل إلى نفسه لضاع وهلك فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم(2) .
نسأله سبحانه أن يجعلنا قائمين بالحق، قاصدين وجهه سبحانه، مستعينين به، مفوضين أمورنا إليه.
__________
(1) بدائع التفسير ( 3 / 371 ـ 373 ) ) ( باختصار ) .
(2) انظر : أعلام الموقعين ( 2 / 178 ) ( بتصرف ) .(1/111)
2- أحداث البوسنة والهرسك وما فيها من عبر: لقد بلغت الفواجع التي تعرض لها المسلمون في البوسنة والهرسك من الهول والفظاعة الشيء العظيم الذي سمع به القاصي والداني، والصغير والكبير، ولم يعد خافياً على أحد من المسلمين أو من أعدائهم، نسأله سبحانه أن يمحق الكفرة الذين يصدون عن سبيله، ويؤذون أولياءه، وأن ينزل عليهم رجزه وعذابه، وأن ينصر المستضعفين في تلك البلاد وفي كل مكان بعد أن خذلهم أكثر الناس، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وأن يجعل عاقبتهم خيراً ورحمة.
ولقائل أن يقول: ماذا عسى أن يكون في هذه الأحداث المؤلمة من الخير والرحمة؟ وما رأينا إلا سفك الدماء، وهتك الأعراض، وتشريد الأطفال، وسلب الأموال؟!
إن الجواب على هذا السؤال سهل وميسر في ضوء ما سبق بحثه في المباحث المتقدمة في فقه قوله تعالى : (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )) ، ولن يهضم مثل هذا الكلام إلا المؤمن بالله عز وجل الواثق بحكمته، المدرك لمعاني أسمائه عز وجل وصفاته ولآثارها الكريمة الجليلة.
وكما سبق أن نبهنا فإن التعرف على أوجه الخير والرحمة في هذه الأحداث لا يعني التواكل وترك الدفع. كلا بل يجب إعانة المسلمين هناك بكل ما يمكن لجهاد عدوهم، والدفاع عن الديار والأنفس والأعراض، لكننا يجب أن نستثمر الدروس والعبر من هذه الأحداث لكي تكون رصيداً ورافداً من روافد الدعوة إلى الله عز وجل؛ وذلك بتوظيفها في معرفة الأعداء وشحذ العزائم، واستنهاض الهمم، ووحدة الصف وغير ذلك من الآثار الإيجابية.
وما سيقال هنا من الحكم والغايات المحمودة في أحداث البوسنة يسري أيضاً على مآسي المسلمين الأخرى في شرق الأرض وغربها كمأساة المسلمين في بورما وكشمير، والصومال، وفلسطين وتسلط اليهود فيها.. وغيرها من المآسي والأحداث. ويمكن إجمال الدروس والغايات المحمودة في هذه الأحداث فيما يلي:(1/112)
أ - رجوع الناس في تلك البلاد إلى الإسلام، حيث برز من بينهم من يفهمه فهماً صحيحا بعد أن كان إسلاماً صورياً بالهوية فقط، وما نتج عن ذلك من التمايز عن الكفار بعد أن كانوا في حالة من الانصهار والذوبان معهم دون علم بحقيقة الإسلام وحقيقة الكفر، لكن ما إن اشتعلت الأحداث حتى عرف المسلمون - ولو بالهوية - أعداءهم وبدأ التمايز، وأنه لا التقاء بين الإسلام والشرك والكفر وخاصة بعد انتشار الدعوة هناك، وما ساهم به المسلمون في كل مكان من جهود في الدعوة والتعليم والمال وغير ذلك؛ فأحسّ الناس هنالك برابطة العقيدة بإخوانهم المسلمين، فعرفت عقيدة الولاء البراء.
وظهرت الشعائر الإسلامية، فعمرت المساجد بالصلاة، وبرزت ظاهرة الحجاب بين المسلمات بعد أن كن هن والكافرات سواء. كل ذلك من الخيرالذي ظهر بعد هذه الأحداث.
ولو لم يقدر الله هذه الأحداث المؤلمة لبقي الوضع - والله أعلم - على ما هو عليه قبل الأحداث من الجهل والفساد ومسخ الإسلام في النفوس وعلى أرض الواقع، ولكن الله لطيف خبير، بر رحيم، عليم حكيم.
وهذا الخير الذي حصل من آثار لطف الله ورحمته حيث لم يتركهم سبحانه في انحدارهم الشديد إلى الجهل والفساد والكفر. بل أيقظهم سبحانه بهذه الأحداث المؤلمة التي كانت سبباً في انتباههم من نومهم العميق، وسبباً في شعورهم ببعدهم عن الإسلام، وانحرافهم الشديد عن عقيدته النقية .
وماذا تساوي كل التضحيات إذا كان نتيجتها النجاة من عذاب الهوان والذل في الدنيا، والنجاة من عذاب النار يوم القيامة؟ إنها تصبح ضئيلة بجانب تحصيل هذه المصالح العظيمة. وفي ذلك عبرة للمجتمعات الآمنة في أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وإلا أصابهم ما أصاب غيرهم ،قال تعالى: (( وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) (الاحقاف:27)(1/113)
ب- شعور المسلمين في كل مكان بعداوة الكفار وخبثهم وحقدهم الشديد على الإسلام والمسلمين مهما اختلفت مللهم وأوطانهم شرقاً كانوا أو غرباً.
فالكفر ملة واحدة، والحرب التي يشعلونها حربٌ دينية عقدية مهما أظهروا من دوافع مزورة يغطّون بها كيدهم ومكرهم. وهذا والحمد لله معروف من كتاب الله عز وجل، وما فيه من فضح للكفار من اليهود والنصارى وغيرهم، والتحذير من الاغترار بكلامهم والركون إليهم ، لكن هناك من المسلمين من بعُد عن كتاب الله عز وجل، واغتّر بالكفار وبمعسول كلامهم، فجاءت هذه الأحداث المؤلمة لتؤكد للمسلمين في كل مكان -حتى الذي عشى بصره -أن الكفر ملة واحدة على المسلمين ودينهم.
وقد حذر الله سبحانه المسلمين من هذا الكيد منذ أربعة عشر قرناً من الزمان؛ قال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) (آل عمران:120).(1/114)
كما ظهر من خلال هذه الأحداث كذب الكفار، وافتضاح أمرهم وعدم الاغترار بوعودهم وموازينهم حيث ظهرت المعايير المزدوجة، والموازين الجاهلية، وهذا الأمر والحمد لله يفهمه المسلم من عقيدته قبل هذه الأحداث وذلك من الآية الآنفة الذكر وغيرها.
ولكن - كما أسلفت - هناك من الناس الذين بعدوا عن فهم العقيدة الصحيحة، من لا ينفع معه الكلام، ولا يقتنع إلا بالأحداث، وما أكثر هذا الصنف من الناس الذي لا يستيقظ من نومه إلا بضربات عنيفة تفتح عينيه وتنبهه من نومه العميق.
فجاءت هذه الأحداث لتؤكد لكل من عنده أدنى مسكة من دين أو عقل تهافت الشعارات التي ترفعها المؤسسات الكفرية كهيئة الأمم، أو مجلس الأمن... إلخ من مثل: رفع الظلم عن المظلومين، ورد الطرف المعتدي، والقضاء على أسلحة الدمار الشامل... إلخ.
لقد ثبت من خلال الأحداث أن هذه الشعارات ذات معيارين، فإن كان الخطر من المسلمين - ولو بالهوية - طبقت، وإن كان الخطر على المسلمين ضاعت الشعارات وتلاشت، وتُرك المعتدي يقتل ويهتك ويدمر على مرأى منهم ومسمع.
وهذه المواقف على كل حال لا تستغرب من الأمم الكافرة عدوة الإسلام والمسلمين؛ فلقد حذرنا الله عز وجل منهم، ولكن المستغرب هو أن ينخدع بكلامهم ووعودهم من يدعي الإسلام، ويدعي أنه يفهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعل هذه الأحداث توقظ هذا الصنف من الناس وتساعدهم في الرجوع إلى عقيدتهم، واعترافهم بالجهل الذي كانوا عليه من دينهم. وفي ذلكم خير.
جـ - إحياء شعيرة الجهاد بين المسلمين؛ هذه الشعيرة التي غابت ردحاً من الزمن حتى وصل الأمر في وقت من الأوقات إلى التهيب من الخوض في موضوع الجهاد، والحديث حوله.
أما الآن فأصبح هو حديث المسلمين الجادين في كل مكان، وقد ساهم الجهاد الأفغاني في ذلك - على علاته وسلبياته - مساهمة فعالة، وكذلك ما تزامن معه وما تلاه من حركات جهادية في العالم.(1/115)
هذا، وإن كان هناك بعض التحفظ على بعض هذه الحركات الجهادية لحاجتها إلى مزيد من التأصيل الشرعي، إلا أنه وبشكل عام كان لرفع علم الجهاد أثر عظيم في ارتفاع المعنويات، والأمل في عودة الإسلام عودة صادقة شاملة، كما أن شراسة الحرب الموجهة من قبل الأعداء كان لها دور في استنهاض الهمم، وإيقاظ الأمة، واستنفار روح المقاومة، وشحذ العزائم ضد الكفر وأهله ولو بصورة جزئية للدفاع عن النفس وحماية الأعراض.
ولقد أصبح لدى المسلمين في كل مكان قناعة تامة أن الكفار من الغرب والشرق لا يجدي معهم الكلام والشكوى وإنما الذي يجدي فيهم هو منطق القوة، ورفع راية الجهاد، وإلقاء الرعب في قلوبهم بصيحة: ( اللهُ أكبر ) أما لغة الشجب والاستنكار والتعلق بالسلام العالمي والنظام العالمي القديم والجديد ... إلخ فكل ذلك لا يجدي شيئاً في مداواة الجروح، وحفظ الأعراض وحماية الديار.
ولقد أحست ملل الكفر جميعها بخطر الجهاد، وأثره في إحياء النفوس واستنهاض الهمم، فوجهت حربها على هذه التيارات الجهادية في شخص من أسمتهم بالأصوليين الإرهابيين أعداء السلام! نعم إنهم إرهابيون! ولكن على أعداء الله وأعداء المسلمين، وصدق الله العظيم: (( تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ )) (لأنفال:60) .
وهذه النتائج الطيبة أفرزها التحدي السافر، والصراع المرير، والكيد العظيم من الكفار للمسلمين في كل مكان، وفي ذلك خير إن شاء الله تعالى إن أحسن استثماره، ووُجّه التوجيه الصحيح، وتعاون المسلمون جميعاً تحت راية الجهاد ضد أعدائهم ونبذوا الفرقة التي بينهم. وهذه الثمرة تظهر بجلاء في جهاد المسلمين في البوسنة أمام أعدائهم الصرب الكافرين وجهاد نفر من المسلمين في فلسطين أمام اليهود الكافرين المغتصبين.(1/116)
إن هذا العداء السافر والحقد الدفين من الكفار على المسلمين في البوسنة وغيرها هو الذي حدا بمصلحي الأمة وعقلائها إلى التحذير من هذا الشر المستطير الذي يفاجئنا به الكفار كل مرة في صقع من أصقاع المسلمين؛ بما تحمله هذه المفاجآت من آلام وتضحيات. فبدأت صيحات الخطر من الناصحين لهذه الأمة تنادي بأخذ الحيطة والحذر لحماية ماتبقى من بلدان المسلمين التي لم تتعرض بعد للخطر بأن تعود الأمة إلى الله عز وجل، وتأخذ العبرة بما حدث، وأن لا يأمنوا جانب الكفار والمنافقين أبداً، وإلا فالدور عليهم، والأحد بعده الاثنين، والاثنين بعده الثلاثاء وكما قال القائل: " أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض " .
فلابد من أخذ العدة لمفاجآتهم وذلك بالرجوع إلى الدين، ووحدة الصف، وترك الترف والخلود إلى الأرض، والاكتفاء الذاتي في الحاجات الأساسية كالسلاح والغذاء وغير ذلك، حتى لا يصيبهم ما أصاب غيرهم في البلاد المنكوبة من تسلط الأعداء، ومنع السلاح والغذاء، والمساومة على ذلك؛ فلعل مثل هذه الصيحات أن توقظ الأمة من رقدتها؛ فتعتمد بعد الله عز وجل على نفسها، وتحسن توظيف ما أنعم الله به عليها من مدخرات وطاقات مادية وبشرية تكفي لو استفادت منها في الاستغناء عن الأعداء، وقطع الطريق على كل من يفكر في سوم المسلمين والضغط عليهم؛ الأمر الذي يريده الأعداء لجعل المسلمين عالة عليهم، وتجريدهم من سلاحهم القوي بحجة السلام العالمي، وغير ذلك من الحجج الشيطانية. ولكن (( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين)) (الأنفال:30) .(1/117)
د - لقد أظهرت هذه الأحداث طرفاً من خيرية هذه الأمة، وأن الشعوب رغم ما دهاها في دينها فلا يزال فيها بقية من خير وحب للإسلام، وذلك فيما ظهر من التعاطف الشديد من المسلمين عامة مع إخوانهم المنكوبين، حيث برزت أمثلة رائعة في البذل والتضحية والدعوة إلى الله والتعليم والجهاد وذلك بما وقفه بعض دعاتها وخطبائها وأغنيائها ومجاهديها من المواقف النبيلة التي تعكس الهمّ الإسلامي في النفوس.
وهذا الخير الموجود في هذه الأمة يعد رصيداً مهماً للعودة الشاملة للإسلام إن استغل ووظف في مكانه المناسب.
3- كساد التجارات والنقص الحاصل في الأموال والثمرات: إن من المسلمَّات في عقيدة المؤمن أن شيئاً لا يحدث في هذا الكون إلا وقد علمه الله عز وجل وكتبه وشاءه وأوجده، وله سبحانه في كل ذلك الحكمة البالغة المحمودة؛ فهو الغني الحميد، وهو العليم الحكيم. ومن ذلك النقص في الأموال والأنفس والأولاد.
قال تعالى: (( مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ )) (الحديد:22 ـ 24).
ثم إن التغيير الذي يطرأ في حياة الناس - سواء إلى السراء أو إلى الضراء - مربوط بالسنة العظيمة التي يقول الله عز وجل فيها: (( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )) (الرعد: 11) .(1/118)
وإن التغيرات الحاصلة اليوم في حياة الناس الاقتصادية في أكثر بلدان المسلمين يجب ربطها بالمقدمة السابقة حتى تتم الاستفادة من جوانب الخير والرحمة التي يريدها الله عز وجل من هذه التغييرات التي يضيق بها كثير من الناس ولا ينظرون إلا إلى جانب الشر فيها، ولا ينتفع من هذه التغييرات إلا من فهم المقدمة السابقة في ضوء قوله تعالى: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ )) .
وقبل أن نتعرف على ما قد يكون في هذه التغيرات من عبر وحكم، أقف وقفتين عند آيتين من كتاب الله عز وجل لهما تعلّق ومساس بالموضوع.
الوقفة الأولى: عند قوله تعالى: (( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ )) (لأنفال:25).
يقول القرطبي رحمه الله:((قال ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم العذاب ))(1) اهـ.
وفي هذا المعنى يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وعقوبات الذنوب نوعان: شرعية وقدرية، فإذا أقيمت الشرعية رفعت العقوبات القدرية أوخففتها، ولا يكاد الرب تعالى يجمع على العبد بين العقوبتين إلا إذا لم يف أحدهما برفع موجب الذنب، ولم يكف في زوال دائه.
وإذا عطلت العقوبات الشرعية استحالت قدرية ، وربما كانت أشد من الشرعية، وربما كانت دونها، ولكنها تعم، والشرعية تخص، فإن الرب تبارك وتعالى لا يعاقب شرعاً إلا من باشر الجناية أو تسبب إليها.
وأما العقوبة القدرية فإنها تقع عامة وخاصة؛ فإن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، وإذا أعلنت ضرت الخاصة والعامة، وإذا رأى الناس المنكر فاشتركوا في ترك إنكاره أوشك أن يُعمِّم الله بعقابه))(2) اهـ.
__________
(1) تفسير القرطبي : عند الآية ( 25 ) من سورة الأنفال .
(2) الجواب الكافي ص132 .(1/119)
ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم ، فيما رواه ابن ماجة والترمذي وأبو داود رحمهم الله تعالى - وهذه رواية بن ماجة - عن قيس بن أبي حازم قال: قام أبو بكر فحمد الله وأثنى عليه. ثم قال: يا أيها الناس، إنكم تقرؤون هذه الآية: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ)) (المائدة:105) .
وإنا سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( إن الناس إذا رأوا المنكر لا يغيرونه، أوشك أن يعمهم الله بعقابه ))(1) .
الوقفة الثانية: عند قوله تعالى: (( وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) (الأنعام:129) .
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: »ويدخل في الآية جميع من يظلم نفسه، أو يظلم الرعية، أو التاجر يظلم الناس في تجارته، أو السارق.. وغيرهم. وقال فضيل بن عياض: إذا رأيت ظالماً ينتقم من ظالم فقف، وانظر فيه متعجباً. وقال ابن عباس: إذا رضي الله عن قوم ولّى أمرهم خيارهم، وإذا سخط الله على قوم ولى أمرهم شرارهم ))(2) .
وفي هذا المعنى يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: »وهذا أيضاً باب عظيم من حكمة الله، يطلع الناظر فيه على أسرار من أسرار التقدير، وتسليط العالم بعضهم على بعض، وتمكين الجناة والبغاة! فسبحان من له في كل شيء حكمة بالغة، وآية ظاهرة حتى إن الحيوانات العادية على الناس في أموالهم وأرزاقهم وأبدانهم تعيش في خفارة ما كسبت أيديهم، ولولا ذلك لم يسلط عليهم منها شيء.
ولعل هذا الفصل الاستطرادي أنفع لمتأمله من كثير من الفصول المتقدمة، فإنه إذا أعطاه حقه من النظر والفكر عظم انتفاعه به جداً والله الموفق.
__________
(1) رواه ابن ماجه / ك الفتن / باب ( 20 ) الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (4005)،
وصححه الألباني في المشكاة ( 5142 ) .
(2) تفسير القرطبي : عند الآية ( 129 ) من سورة الأنعام .(1/120)
ويُحكى أن بعض أصحاب الماشية كان يشوب اللبن ويبيعه على أنه خالص؛ فأرسل الله عليه سيلاً فذهب بالغنم؛ فجعل يعجب!فأُتي في منامه فقيل له: أتعجب من أخذ السيل غنمك؟! إنه تلك القطرات التي شبت بها اللبن اجتمعت وصارت سيلاً. فقس على هذه الحكاية ما تراه في نفسك وفي غيرك تعلم حينئذ أن الله قائم بالقسط، وأنه قائم على كل نفس بما كسبت، وأنه لا يظلم مثقال ذرة... )) .
إلى أن قال رحمه الله تعالى: ((... وتأمل حكمته تعالى في محق أموال المرابين، وتسليط المتلفات عليها كما فعلوا بأموال الناس، ومحقوها عليهم، وأتلفوها بالربا؛ جوزوا إتلافا بإتلاف فقل أن ترى مرابياً إلا وآخرته إلى محق وقلة وحاجة ، وتأمل حكمته تعالى في تسليط العدو على العباد إذا جار قويّهم على ضعيفهم، ولم يؤخذ للمظلوم حقه من ظالمه كيف يسلط عليهم من يفعل بهم كفعلهم برعاياهم وضعفائهم سواء. وهذه سنة الله تعالى منذ قامت الدنيا إلى أن تطوى الأرض ويعيدها كما بدأها...))(1) اهـ .
وبعد هاتين الوقفتين ندلف في ذكر بعض ما قد يكون من حكمة الله سبحانه ورحمته في التغييرات الاقتصادية، ونقص الأموال في أيدي الناس، وارتفاع الأسعار في حاجاتهم، وذلك فيما يلي:
أ ـ رجوع بعض الناس إلى ربهم سبحانه، وانتباههم من غفلتهم التي كانوا فيها، والمعاصي التي كانوا عليها، وذلك بما تبقى في قلوبهم من الخير الذي أدركوا به سبب المصيبة؛ وأنه من ذنوبهم وعصيانهم، ولعل هذا النقص والفساد في الأموال أو الكساد في التجارات أن يكون سبباً ليقظة بعض الناس، وإقلاعهم عما كانوا عليه من أكل الربا، أو البيوع المحرمة، أو ظلم الناس وأكل أموالهم بالباطل.
__________
(1) مفتاح دار السعادة : 273 ( باختصار ) .(1/121)
وكم سمعنا من القصص والحوادث في الأنفس والأموال كانت سبباً لرجوع أصحابها إلى الله عز وجل، والإنابة إليه، والإقلاع عما كانوا عليه، وفي هذه الحالة تكون المصيبة منحة ونعمة ورحمة ولو كان الظاهر شراً وألماً، وهذا من معاني قوله تعالى: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ)).
وقوله سبحانه : (( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ )) (الروم:41) .
كما قد يكون في هذا النقص تنبيه لبعض الصالحين الذين انشغلوا بالدنيا وتجارتها عن مجالس العلم وبرامج الدعوة. فلعل في هذه التغيرات فرصة لمراجعة النفس، والرجوع إلى ما كانوا عليه من حماس للدين والدعوة إليه. ب ـ إن العقوبات القدرية التي يقدرها الله عز وجل على عباده ومنها النقص في الأموال والثمرات لتؤكد وتدلل على صدق الدعاة الناصحين الذين أقضّ مضاجعهم واقع المسلمين وما فشا فيهم من المنكرات العظيمة، حيث ظهر ما كانوا يتخوفونه على أمتهم من مغبة هذه المنكرات وعقوبتها، ولكَمْ ارتفعت أصواتهم ناصحين ومحذرين ومنذرين، كما ارتفعت أصوات المصلحين من قبل بالنصح والتحذير؛ قال تعالى: (( وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ * وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ)) ( غافر:30 ـ 33) .(1/122)
فلعل في ظهور هذه العقوبات ما يبعث على اليقظة لمن أراد الله به الخير؛ليدرك ذلك العمل الشريف الذي كان يقوم به الدعاة والمصلحون من الخوف على أمتهم والشفقة عليها من عذاب الله ، وأنهم صمام الأمان لأمتهم، وأنهم دعاة نصح وخير للأمة، وعندئذ تجب محبتهم ومعاونتهم والدعاء لهم. وفي ذلك خير عظيم.
جـ ـ إن الغنى وكثرة الأموال تؤدي في الغالب إلى الطغيان والعلو على الناس؛ قال تعالى: (( كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى )) (العلق:6 ـ 7) ، وقال سبحانه: (( وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ)) (الشورى: 27) .
فلعل ما يحصل من نقص في الأموال مدعاة إلى التطامن والتواضع، والنظر في حق الله في الأموال، والتفكر في الآخرة التي كانت الأموال صارفة عنها وعن الاستعداد لها. فإذا أدت المصيبة في الأموال إلى هذه الثمار الطيبة فهي خير لصاحبها ورحمة، وليست شراً ونقمة.
د ـ إن حياة الترف والإسراف التي يعيش فيها كثير من الناس في هذا الزمان، نتج عنها كثير من الأمراض والآفات النفسية والاجتماعية، تمثلت في مظاهر سيئة يشكوا منها الكثير، منها: انشغال الناس بهذه الدنيا وزخرفها حتى أصبح الناس في دوامة لا يَعرفُ فيها الجارُ جاره، ولا يصل القريب قريبه بل ربما لا يعرفه أحياناً.
ومنها تلك الحياة المترهلة، والعزائم الواهنة، والهمم الخائرة، التي لا تصلح لجهاد ولا لعمل جاد. فلعل فيما يقدره الله عز وجل من ضيق في اقتصاديات الناس، وركود في أسواقهم خيراً، ورحمة لمن أراد الله به الخير فوفقه لمراجعة النفس، ونبذ حياة الترف، وألهمه رشده لتدارك العمر القصير، وترك حياة اللهو واللعب وانتبه لما ينفعه في الآخرة من التزود بالصالحات، وصلة القرابات، ودعوة الناس إلى الخير والإحسان إليهم.(1/123)
هـ ـ إن من سنن الله عز وجل أن الناس يتمحصون في حالات الضيق والشدة، ويتميز الخبيث من الطيب، والعدو من الصديق وصادق المحبة من كاذبها، وتتعرى النفوس وتظهر على حقيقتها، وفي هذه التعرية خير للإسلام وأهله، حيث يُعرف الناس على حقيقتهم، ولا يعول على ما يظهر منهم في حال السلم والرخاء كما يتعرى الظالمون الآثمون الآكلون لأموال الناس بالباطل.
وأخيراً: فلا يعني ونحن نتلمس ما في الضوائق الاقتصادية من خير ورحمة أن نستسلم لهذه المصائب ونترك مدافعتها، كلا بل كما سبق الإشارة إلى ذلك في مبحث سابق فإنه يجب مدافعتها بأقدار الله عز وجل، وأسبابه الشرعية؛ لعل الله سبحانه أن يرفعها.
وإن أكبر ما تدفع به المصائب هو الرجوع الصادق إلى الله عز وجل والتوبة النصوح إليه، وتحكيم شرعه في النفس وجميع شئون الحياة، والإقلاع عن أسباب سخطه وعقابه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبذلك يستجلب الخير والنماء والبركة قال تعالى: (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) (لأعراف:96)
وقال سبحانه: (( وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً )) ( الجن : 16) .
وقال عز من قائل: (( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ )) (المائدة:65 ـ 66) .
* * *
الخاتمة(1/124)
في ختام هذه الرسالة أود التأكيد على بعض الأمور التي مرت بنا في هذه الدراسة المتواضعة، وذلك لأهميتها ومسيس الحاجة إليها، أخص بها نفسي وإخواني الدعاة لعل فيها فتح باب الأمل والعمل، في عصر غيمت فيه سماء المسلمين، وجاءهم العدو من كل مكان، ونجم النفاق، وظن طوائف من المسلمين بالله الظنونا. وإن تسجيل مثل هذه الأمور ما هو إلا تلخيص لأهم ما تم بحثه من مسائل حول قوله تعالى: ((لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ )).
الأمر الأول:
أهمية التوحيد في حياة المؤمن، وأثره في الإخلاص لله عز وجل، ومحبته، وإحسان الظن به، والاستسلام لقضائه، وصدق التوكل عليه. هذا الأثر الذي يطبع في القلب الأنس بالله عز وجل والسكينة والطمأنينة، والسير بخطىً ثابتة لا توثر فيها شبهات المشبهين، ولا تعويق المعوقين، ولا كيد الكائدين. هذا الأثر الذي ينفي اليأس من القلوب كما ينفي الكير خبث الحديد.
الأمر الثاني:
إن الخيرية التي تكون للعبد فيما يقدره الله عز وجل عليه سواء فيما سره من الخير والرخاء، أو ساءه من المكروهات والضراء؛ إن ذلك لا يكون إلا للمؤمن بربه، المتعبد له عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، كما جاء في الحديث (( وليس ذلك إلا للمؤمن ))(1) أما ما سوى المؤمن فإن الضراء لا تزيده إلا جزعاً وكفراً، ولا تزيده السراء إلا كبراً وبطراً، ويكون هذا المقدور شراً وبلاءً له، ولكنه من باب آخر خير ورحمة للآخرين الذين يعتبرون ويتعظون به.
__________
(1) انظر تخريج الحديث بتمامه ص40 .(1/125)
وفي هذا يقول الإمام ابن القيم: (( فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصاً له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيراً له، وإذا تخلى عن طاعته، وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له، فمن صحت له معرفة ربه، والفقه في أسمائه وصفاته؛ علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه، والمحن التي تنزل به، فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب))(1)اهـ.
الأمر الثالث: إن الرضا بما يقدره الله عز وجل على عباده لايعني التواكل والعجز والاستسلام للفساد والمذلة وترك المدافعة والمجاهدة. كلا، بل إن الله عز وجل أمر بمدافعة أقداره بأقداره، ومحاربة الفساد ومجاهدة أعدائه، فإذا قضى الله الأمر، ولم يشأ أن تنفع المدافعة لحكمة يعلمها سبحانه وجب عندئذ التسليم، ورجاء الخير والرحمة من ورائها. وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: ((وهذا التوازن بين الاستسلام المطلق لقدر الله، والعمل الجاهد بكل ما في الطاقة، والوقوف المطمئن عند ما يستطيعون.. هذا التوازن هو السمة التي طبعت حياة تلك المجموعة الأولى وميزتها، وهي التي أهّلتها لحمل أمانة هذه العقيدة الضخمة التي تنوء بها الجبال ))(2)اهـ . الأمر الرابع: إن ما يجري اليوم من الابتلاءات والمحن، وما يتعرض له المسلمون في أكثر البلدان من تسلط الأعداء ورميهم لهم عن قوس واحدة، إن كل ذلك يتم بعلم الله عز وجل وحكمته، ونجزم أن وراءه خيراً ورحمة، وأن العاقبة للمتقين.
__________
(1) الفوائد : 91 .
(2) طريق الدعوة في ظلال القرآن : ص280 .(1/126)
وإن الصحوة العامة التي يشهدها العالم من أبناء المسلمين لهي من أكبر الإرهاصات والبشائر لعودة هذا الدين، والتمكين لأهله في الأرض، وإن كل هذه الابتلاءات، وكل هذا التسلط من قبل الأعداء لم يزد هذه الصحوة إلا نماءً ومضاءً، ولو أن هذه الحرب الشرسة تعرض لها أحد غير المسلمين لانتهى أمرهم منذ أمد بعيد، ولكنه دين الله عز وجل الذي تكفل بحفظه، وتكفل بنصرة أهله المؤمنين الصادقين، وإن الثقة في وعد الله عز وجل والجزم بقرب نصره لهو من لوازم الإيمان بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، ومن لوازم سنن الله عز وجل التي لا تتغير ولا تتبدل، ومن لوازم قوله تعالى: (( لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ)) .
ولقد مرت بالمسلمين في تاريخهم فترات تسلط فيها الأعداء من التتار والصليبيين حتى خُيّل لبعض من عاش في تلك الحقبة من الزمن أن لا فائدة من محاولات التغيير، كتلك الفترة التي سبقت ظهور صلاح الدين الأيوبي رحمه الله تعالى. حيث سيطر أهل البدع، وتمسك الحكام بمواقفهم على حساب الدين والأوطان، وبلغ التفرق بين المسلمين مداه، وذاق المسلمون حياة الذل والمهانة كهذه الحياة التي يعيشها المسلمون اليوم. ومع ذلك جاء الله بنصره العظيم، وقامت دولة الإسلام قوية كما كانت، وخرج الأعداء من ديار المسلمين صاغرين بعد أن قتل منهم من قتل، وأسلم من أسلم، ودفع الجزية منهم من دفع. فلا يأس ولا قنوط من عودة الإسلام في هذا الزمان، ولكن بالسير مع سنن الله عز وجل التي أودعها في كتابه الكريم، والتي هي مقتضى أسمائه سبحانه وصفاته.(1/127)
وإن عزة الإسلام لابد لها من تضحيات، ولابد لها من الابتلاء والتمحيص ليتميز الطيب الذي يستحق نصر الله عز وجل من الخبيث الذي يذهب جفاءً، ولابد لذلك من مخاض ولابد للمخاض من آلام، ولكن ماذا تساوي الآلام وماذا تساوي التضحيات التي يعتز بها دين الله الذي ينتقل فيه الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن سخط الله وعقابه إلى مرضاته وجناته.
إنها والله لا تساوي شيئاً ولو كان فيها الآلام والدماء فهي خير لما تورثه من استقرار لحقيقة الإيمان ولو في قلب واحد من قلوب البشر، فكيف باستقرارها في قلوب الآلاف المؤلفة، وفي الأرض جميعاً؟
ويجلي سيد قطب رحمه الله تعالى هذه الحقيقة فيقول: ((الإنسان ليأخذه الدهش والعجب، كما تغمره الروعة والخشوع، وهو يستعرض ذلك الجهد الموصول من الرسل، صلوات الله عليهم وسلامه لهداية البشرية الضالة المعاندة.
ويتدبر إرادة الله المستقرة على إرسال هؤلاء الرسل واحداً بعد واحد لهذه البشرية المعرضة العنيدة.
وقد يعن للإنسان أن يسأل: ترى هل تساوي الحصيلة هذا الجهد الطويل، وتلك التضحيات النبيلة من لدن نُوح عليه السلام إلى محمد عليه الصلاة والسلام، ثم ما كان بينهما وما تلاهما من جهود المؤمنين بدعوة الله وتضحياتهم الضخام؟(1/128)
ترى هل تساوي تلك الجهود الموصولة منذ ذلك الزمن البعيد، وتلك التضحيات النبيلة التي لم تنقطع على مدار التاريخ: من رسل يُستهزأ بهم، أو يحرقون بالنار، أو يُنشرون بالمنشار، أو يهجرون الأرض والديار، حتى تجيء الرسالة الأخيرة فيجهد فيها محمد صلى الله عليه وسلم ذلك الجهد المشهود المعروض، هو والمؤمنون معه، ثم تتوالى الجهود المضنية والتضحيات المذهلة من القائمين على دعوتة في كل أرض وفي كل جيل.. ترى هل تساوي الحصيلة كل هذه الجهود، وكل هذ التضحيات، وكل هذا الجهاد المرير الشاق؟ ثم.. ترى هذه البشرية كلها تساوي تلك العناية الكريمة من الله، المتجلية في استقرار إرادته سبحانه على إرسال الرسل تترى بعد العناد والإعراض والإصرار والاستكبار من هذا الخلق الهزيل المسمى بالإنسان؟ والجواب بعد التدبر: أن نعم.. ولا جدال.. إن استقرار حقيقة الإيمان بالله في الأرض يساوي كل هذا الجهد، وكل هذا الصبر، وكل هذه المشقة، وكل هذه التضحيات النبيلة المطردة من الرسل وأتباعهم الصادقين في كل جيل ))(1) اهـ .
وإن التضحيات التي تقدمها الصحوة اليوم، وما تتعرض له من حرب وكيد من أعداء الإسلام غرباً وشرقاً هي جزء من هذا الجهد المرير، والصبر النبيل الذي لابد منه للخير المنتظر، والنصر الموعود منه سبحانه لعباده المؤمنين.
(( والذي يجري في الأرض كلها اليوم من محاولات لإبادة المسلمين، سواء في البوسنة والهرسك، أو كشمير، أو فلسطين، أو بورما، أو طاجكستان، أو داخل سجون التعذيب.. لن تكون نتيجته إلا إخراج أجيال أصلب عوداً، وأكثر عناداً وأطول نفساً، وأكثر وعياً بحقيقة المعركة التي تدور في الأرض بين دين الله وأعداء الله ))(2) اهـ.
* * *
وبعد
__________
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن ص140 .
(2) هلم نخرج من ظلمات التيه ، ص 123 محمد قطب .(1/129)
فهذا مايسره الله عز وجل من كتابة حول هذا الموضوع. فما كان فيه من صواب فهو من الله عز وجل، وهو المانُّ به وله الحمد، وما كان فيه من خطأ فمني ومن الشيطان وأستغفر الله منه.
اللَّهم أحسن عاقبتنا في الأموركلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
قل هو نباء عظيم
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد :
فإن المتأمل لحالنا نحن المسلمين اليوم وحال زماننا وما ظهر فيه من الآفات والفتن ، وما حصل فيه من انفتاح كبير على الدنيا وزخرفها ، حتى ظن أهلها أنهم قادرون عليها أو مخلدون فيها .
إن المتأمل لكل ذلك ليشعر بالرهبة والخوف والإشفاق الشديد من هذه الحال ، وما نتج عنها من غفلة عما خلقنا من أجله ، ومن ركون للدنيا واطمئنان بها ، وغفلة شديدة عن الآخرة وتجافٍ عنها ، وعمّا فيها من المشاهد العظيمة والأهوال الجسيمة ، والنعيم المقيم أو العذاب المديد .
وقد وصف الله عز وجل أصحاب هذه الغفلة بقوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)) (يونس: 7 ـ 8)(1/130)
نسأل الله السلامة والعافية،ونعوذ بالله من حال أهل الغفلة وصفاتهم . ولما كان اليوم الآخر أحد أصول الإيمان الستة التي لا يصح إيمان عبد بدونها ، ولما لليوم الآخر من أثر في حياة العبد وطاعته لأوامر الله عز وجل واجتناب نواهيه ، ولما في ذلك من صلاح القلوب وصلاح الناس وسعادتهم في الدنيا والآخرة ، ولما في نسيان هذا اليوم العظيم والغفلة عنه من خطر عظيم على حياة الناس ومصيرهم ؛ حيث الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة ، فلا غرابة إذن أن يرد ذكر هذا اليوم كثيراً في القرآن ، حتى لا تكاد تخلو منه صفحة من صفحاته الكريمة .
والعجب كل العجب أنه مع كل هذا التذكير والتنبيه والتحذير من ربنا الرحمن الرحيم من هذا اليوم العصيب ، وأثره على مستقبلنا الأبدي ، إلا أن حالنا في هذا الزمان حال الغافل اللاهي عن كل هذه المحاذير ، فلا تكاد تجد منا ـ إلا من رحم الله ـ إلا من هو منشغل بالتفاهات من هذه الدنيا الدنية، قد استهلكت عليه وقته ، وأصبح في دوامة مستمرة منذ أن يصبح وحتى ينام آخر الليل .
وما هناك أشد من مرض الغفلة ، ولكن الأدهى والأمرّ أن يكون المرء من أهل الغفلة وهو لا يشعر بذلك ، وهذه الحالة ـ والعياذ بالله ـ قد تتحول إلى جمود وتحجر وقسوة ، ثم إلى لجاج وعناد .
وإذا كان الكتاب والسنة قد اهتما غاية الاهتمام بتفاصيل هذا اليوم المشهود ، وبأحوال هذا النبأ العظيم، فإنه من الحمق والجهل أن لا نهتم بما اهتم به كتاب ربنا ـ سبحانه ـ وسنة نبينا محمد لله .(1/131)
والدليل على هذا الحمق أن نجد الكثير منا إلا من رحم الله يكد ويتعب من أجل مستقبل قريب يسعى ـ بزعمه ـ لتأمينه ،وهذا المستقبل بالإضافة إلى ما قد مرّ من عمْر الإنسان لا يتعدى في الغالب الستين أو السبعين سنة ، وقليل من يتجاوز ذلك ، ولنفرض أنه مائة أو أكثر ، فماذا تساوي بالنسبة إلى المستقبل البعيد الأبدي السرمدي والذي لا نهاية له ؟ إنها لا تساوي شيئاً، فلماذا نحن بالمستقبل القريب الفاني مشتغلون وعليه مثابرون ، وعن مستقبلنا الأبدي السرمدي منشغلون ولاهون ؟ إنه لابد من وقفة محاسبة وتأمل.
إن أعظم قضية يجب أن ينشغل بال كل واحد منا بها هي : قضية وجوده وحياته والغاية منها ، وقضية مستقبله ومصيره وشقائه وسعادته ؛ فلا يجوز أن يتقدم ذلك شيء مهما كان شأنه ، فكل أمر دونه صغير ، وكل خطب سواه حقير ، وهل هناك خطب أعظم وأفظع من أن يخسر الإنسان حياته وأهله ، ويخسر سعادته وسعادتهم ؟! فماذا بقي له بعد ذلك ؟ وما قيمة الدنيا الفانية وزخرفها وزينتها وراء ذلك ؟ قال تعالى : (( قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )) (الزمر:15) .
ولو لم يكن في انتظارنا إلا الموت وسكراته وغصصه لكفى به واعظاً ومكدّراً ، فكيف ووراءه يوم البعث والحساب والجزاء والجنة أو النار.
يومٌ تحار فيه العقول ، وتذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت ، ويكون الولدان فيه شيباً . لأجل كل ما سبق ، ولما آنسته من نفسي وكثير من إخواني من قسوة وغفلة القلوب ؛رأيت أن أكتب لنفسي وإخواني المسلمين عن هذا النبأ العظيم ، الذي نحن عنه غافلون ، وبدنيانا عنه مشتغلون.
وقد عنونت له بقوله تعالى : (( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ )) .(1/132)
وتأتي هذه الرسالة ضمن سلسلة الوقفات التربوية في ضوء القرآن الكريم ، التي أسأل الله عز وجل أن ينفعني وإخواني بها ، وأن يحسن القصد فيها . إنه سميع مجيب.
أهمية الموضوعإنه لا يجهل أحد من المسلمين مشاهد اليوم الآخر وعظمة شأنه ، ويكفي أن نتدبر كتاب الله عز وجل لنجد ذلك الاهتمام العظيم بذكر اليوم الآخر ، وتقريره في كل موقع ومناسبة ؛ فتارة يربط بينه وبين الإيمان بالله عز وجل ، وتارة يفصل في ذكره تفصيلاً ؛ قلما يوجد مثله في أمور الغيب الأخرى ، ولقد ورد ذكره في القرآن بأسماء كثيرة ، ومن المعلوم أنه كلما كان للمسمى شأن عظيم كثرت أسماؤه.
وإذا سألنا عن الحكمة في هذا الاهتمام ، فالجواب واضح لمن تدبر القرآن ، ولكن في هذا المبحث سأتطرق ـ إن شاء الله ـ إلى الدوافع التي دفعت إلى إثارة هذا الموضوع في هذا الوقت بالذات .
فمن الأمور التي كان لها الأثر في طرح الموضوع ما يلي :
1 ـ الانفتاح الشديد على الدنيا في هذا الزمان ، وما صاحب ذلك من مكر في الليل والنهار بأساليب ماكرة جديدة، ووسائل دعائية خبيثة ، تزين الدنيا في أعين الناس ، وتصدهم عن الآخرة . فإذا كان الصحابة رضي الله عنهم وهم على ما وصفهم الله عز وجل من الإيمان والتقوى كان بعضهم يوصي بعضاً بالحذر من الدنيا ، والاستعداد للآخرة ،وإذا كان الرسول لله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما كان يذكرهم بالآخرة،ويتخوف عليهم من الدنيا.
إذا كان هذا هو حال سلفنا الصالح مع ما كانوا عليه من الإيمان ، ومع أن الدنيا لم تنفتح عليهم مثل انفتاحها علينا اليوم ؛ فلا شك ولا ريب أننا أحوج منهم بكثير إلى أن نتذكر الآخرة ، ويذكر بعضنا بعضاً عظمة شأنها والاستعداد لها ، وأن يحذِّر بعضنا بعضاً من الركون إلى الدنيا والاغترار بها.(1/133)
ومن المعلوم أنه كلما حصل التثاقل إلى الأرض ، وحب الدنيا وزينتها والتوسع في ملذاتها ، كثر النسيان لليوم الآخر والغفلة عنه ، وهذا هو الحاصل اليوم عند كثير منا إلا من رحم الله .
2 ـ لقد ترتب على الأمر السابق أن قست القلوب ، وتحجرت الأعين ، وهُجِرَ كتاب الله عز وجل ، وإن قرأ أحدنا القرآن قرأه بقلب لاهٍ سابحٍ في لجج الدنيا ، فأنَّى لمثل هذا القلب أن يخشع لذكر الله ؟! وأنَّى للعين أن تدمع للخوف من الله سبحانه ؟وقد زاد هذا الأمر ـ ولا حول ولا قوة إلا بالله ـ حتى آل إلى الصلاة ؛ فقلَّ الخاشعون المطمئنون فيها.وكيف يأتي الخشوع إلى قلب قد سافر في مناكب هذه الدنيا ، ينتقل فيها من واد إلى وادٍ آخر ، ومن شعب إلى شِعب ؟ فكان لابد من التذكير بهذا اليوم العظيم لعل النفوس أن تستيقظ ، ولعل القلوب أن تخشع وتتذكر .
3 ـ لما في تذكر هذا اليوم ومشاهده العظيمة من حث على العمل الصالح، ومبادرة إلى فعل الخيرات ، وترك المنكرات ، فما هنالك من أمر هو أشد دفعاً للنفوس إلى فعل الخير وترك الشر من أمر الآخرة ، والوقوف بين يدي الله عز وجل .
وما تكاسل المتكاسلون في عمل الصالحات ، سواء الواجب منها أو المستحب ، إلا بسبب الغفلة عن الآخرة والانشغال عنها .
قال تعالى في حال المطففين العاصين : (( أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )) (المطففين:5 ـ 6 ) .
وقال عن الطائعين المحسنين: (( في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ )) (النور:36 ،37).(1/134)
وقال عزو جل: (( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ )) (الزمر: 9)
وقال عن الموالين لأعداء الله : (( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ))(المجادلة:22) .
والحاصل أن حالنا اليوم وما اعتراه من ضعف في عمل الصالحات وجرأة على المعاصي والسيئات ، لا يصلحه إلا التذكر الدائم لأحوال الآخرة، ومشاهدها العظيمة ، وأهوالها الجسيمة ، كما أن ذلك يدفع إلى دعوة العاصين للرجوع إلى الله والشفقة عليهم من عذاب الله ونقمته .
4 ـ لما ظهر في عصرنا اليوم من المشكلات المعقدة والأمراض المزمنة التي نشأت عنها تلك الأمراض النفسية المتنوعة ؛ حيث كثر القلق ، وكثرت الهموم والغموم لأهل الدنيا بسبب البعد عن الله سبحانه وعن تذكر اليوم الآخر، الذي في ذكره باب عظيم إلى السعادة والطمأنينة، وسد لباب الهم والحزن ، وعلام يحزن طالب الدار الآخرة ؟!أيحزن على أمر دنيوي حقير يفنى عما قريب ؟!
إن تذكر اليوم الآخر والحياة الواسعة الأبدية هنالك لمن أكبر الأسباب في علاج المصائب وأمراضها ، فالمؤمن بفناء الدنيا وحقارة شأنها وقصر عمرها لا تؤثر فيه المصائب تأثيرها في أهل الدنيا ؛لأنه يحتسب الأجر عند الله سبحانه،ويوقن أنه إن لم تزل عنه الدنيا فإنه زائل عنها لا محالة،وهذا كله يورث الطمأنينة والسعادة في القلب،ولا يذهب القلب حسرات على الدنيا ، كما تفعل بأهلها اللاهين الغافلين عن الحياة الحقيقية ؛الحياة في الدار الآخرة ، والتي هي خير وأبقى ، قال تعالى : (( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ )) (العنكبوت:64)(1/135)
5 ـ وتأتي أهمية هذا الموضوع أيضاً لما تميز به زماننا اليوم من كثرة المظالم واعتداء الناس بعضهم على بعض من أكل أموالهم ، والنيل من أعراضهم ، وظهور الصور الصارخة من التحاسد والتباغض ، والفرقة والاختلاف ، وخاصة بين الدعاة وطلبة العلم ، وإنه لا شيء مثل تذكر اليوم الآخر والوقوف بين يدي الله عز وجل يكون دواءً ومطهراً للقلوب من مثل هذه الأمراض .
6 ـ لما كان عصرنا الذي نعيش فيه اليوم عصر استضعاف للمسلمين ، وتسلط من الأعداء عليهم في أكثر بقاع الأرض؛ فكان لزاماً على أهل الإسلام من علماء ودعاة وأغنياء ومجاهدين ،وغيرهم أن يبذلوا جهدهم في الدعوة إلى الله عز وجل ورد كيد الأعداء بالحجة واللسان والسنان.ولما كان الركون إلى الدنيا والغفلة عن الآخرة من أعظم الأسباب في وهن النفوس وضعفها وعدم مبالاتها؛كان لابد من التذكير بالدار الآخرة، وما فيها من نعيم أو جحيم ؛ لأن في التذكير المستمر بهذا اليوم ، والإنابة إلى الله عز وجل، ورجاء ثوابه أكبر الأثر في الدعوة إلى الله عز وجل، والجهاد في سبيله ، والدفاع عن الدين وأهله ، قال تعالى : (( لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ )) (التوبة:44 ـ 45) .
كما يأتي تذكر هذا اليوم العظيم ليمسح على قلوب المؤمنين المستضعفين المبتلين اليوم في أكثر بقاع الأرض ؛ فتتقوى بذلك قلوبهم ، ويثبتها الله عزوجل بما يفتح عليها من ذكره ، وذكر ما أعد لأوليائه الصابرين من نعيم أبدي ، ينسون فيه أي سوء أو مصيبة أصابتهم في هذه الدنيا .(1/136)
7 ـ لما ظهر في برامج الدعوة والتربية من قلة الاعتناء بهذا الجانب العظيم من التربية وأثره في الاستقامة والدعوة والنصيحة والجهاد ، فالمتأمل اليوم في مناهج التربية والتعليم يلاحظ القصور في هذا الجانب ، وإذا وُجد الاهتمام فهو قليل بالنسبة إلى الجوانب الأخرى .
بل وصل الأمر عند بعض الموجهين في الدعوة إلى الاستهانة بهذا الجانب العظيم ، وصرنا نسمع من يقلل من أهمية الكتاب أو المحاضرة أو الدرس الذي يركز على جانب التذكير والوعظ ، فيقول : هذا كتاب وعظي ، أو هذا درس يغلب عليه الوعظ ، أو هذا مقال عاطفي ...إلخ .والمتأمل لكتاب الله عز وجل وأحاديث الرسول لله يرى جانب الوعظ والربط بالآخرة والثواب والعقاب واضحاً فيهما أشد الوضوح .
* * *
تفسير ( النبأ العظيم ) وما في معناه
ورد ذكر النبأ العظيم في القرآن مرتين : مرة في سورة ص، في قوله تعالى : (( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ )) (ص: 67 ـ 68) .
والأخرى في سورة النبأ في قوله تعالى : (( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ )) ( النبأ:1 ـ 2) .
فما هو تفسير النبأ العظيم في الآيتين ؟ يقول القرطبي رحمه الله تعالى في تفسير آية ( ص ):
((أي قل لهم يا محمد : (( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ )) أي ما أنذركم به من الحساب والثواب والعقاب خبر عظيم القدر ؛ فلا ينبغي أن يُستخف به . قال معناه قتادة .نظيره قوله تعالى :((عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ )) : وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : يعني القرآن الذي أنبئكم به خبر جليل . وقيل : عظيم المنفعة (( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ )) ))(1) اهـ.
__________
(1) تفسير القرطبي عند الآيتين ( 67 ، 68 ) من سورة ص .(1/137)
قال الشيخ السعدي رحمه الله : قل لهم محذراً ومنهضاً لهم ومنذراً : هو نبأ عظيم . أي ما أنبأتكم به من البعث والنشور ، والجزاء على الأعمال ، خبر عظيم ينبغي الاهتمام الشديد بشأنه ، ولا ينبغي إغفاله، ولكن (( أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ )) كأنه ليس أمامكم حساب ولا عقاب ولا ثواب ))(1) اهـ.
مما سبق يتبين أن المراد بالنبأ العظيم: إما أن يكون نبأ الآخرة وما فيها، أو نبأ هذا القرآن العظيم وما فيه . والذي يظهر أن لا تنافي بين القولين ، فمن أعظم الأنباء التي اشتمل عليها القرآن أنباء الآخرة وأحوالها ، وأنباء ما أعده سبحانه لأهل توحيده وعبادته من الجنة والنعيم ، وما أعده لأهل الشرك والجحود من العذاب والجحيم(2) .
أما آية النبأ فالقول الراجح فيها : أنها في نبأ اليوم الآخر . يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى : ((يقول تعالى منكراً على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكاراً لوقوعها : (( عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ *عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ)) أي عن أي شيء يتساءلون من أمر القيامة وهو النبأ العظيم ؟ يعني الخبر الهائل المفظع الباهر . قال قتادة وابن زيد:النبأ العظيم : البعث بعد الموت. وقال مجاهد:هو القرآن.
والأظهر الأول ؛ لقوله: (( الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ)) يعني الناس فيه على قولين : مؤمن به وكافر ))(3) اهـ.
ما ورد في معنى النبأ العظيم من الآيات :
1 ـ قوله تعالى : (( أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )) ( المطففين: 4 ـ 6 ) .
__________
(1) تفسير السعدي عند الآيتين ( 67 ، 68 ) من سورة ص .
(2) انظر تفسير ابن عطية عند هذه الآية .
(3) تفسير ابن كثير عند الآيات ( 1 ـ 3 ) من سورة النبأ .(1/138)
يقول الإمام ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ عند هذه الآية: ((أي : أما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السرائر والضمائر ، في يوم عظيم الهول ، كثير الفزع ، جليل الخطب ، من خسر فيه أُدخل ناراً حامية ؟ وقوله : (( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )) أي : يقومون حفاة عراة غرلاً ، في موقف صعب حرج ضيق ضنك على المجرم، ويغشى من أمر الله ما تعجز القوى والحواس عنه .
قال الإمام مالك : عن نافع ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( يوم يقوم الناس لرب العالمين حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه)) رواه البخاري ))(1) اهـ(2) .
2ـ قوله تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )) (الحج: 1 ـ 2)
روى البخاري رحمه الله تعالى عند هذه الآية بسنده الرواية بهذا الإسناد مختصرة ، عن أبي سعيد؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، فيقول :لبيك ربنا وسعديك ، فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تُخرج من ذريتك بعثاً إلى النار . قال : يارب ، وما بعث النار ؟ قال : من كل ألف ـ أراه قال ـ : تسعمائة وتسعة وتسعين ، فحينئذ تضع الحامل حملها ، ويشيب الوليد ، (( وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ )) ))
__________
(1) رواه البخاري في التفسير ( 4938 ) ، وفي كتاب الرقاق ( 6531 ) .
(2) تفسير ابن كثير عند الآيات ( 4 ـ 6 ) من سورة المطففين .(1/139)
فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ((من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ، ومنكم واحد ، ثم أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، وإني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة « ؛ فكبرنا، ثم قال : (ثلث أهل الجنة) ؛ فكبرنا، ثم قال : ( شطر أهل الجنة ) . فكبرنا ... الحديث(1) .
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية : إن الله ينادي الناس جميعاً إلى تقوى الله ، ويخوفهم من زلزلة الساعة ، ويصف الهول المصاحب لها ، وهو هول عنيف مرهوب ، إنه مشهد عنيف رعيب ، ومشهد ترتجف له القلوب ، يدعوهم القرآن إلى الخوف من الله ، ويخوفهم ذلك اليوم العصيب ، مشهد الزلزلة وهو شيء عظيم ، فإذا الرهبة تشتد من الهول ، إذاً هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت ، تنظر ولا ترى، تتحرك ولا تعي . وبكل حامل تُسقط حملها للهول المروع الذي ينتابها ، وبالناس سكارى وما هم بسكارى ، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة ، وفي خطواتهم المترنحة . مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج ، تكاد العين تبصره لحظة التلاوة بينما الخيال يتملاه ، والهول شاخص يذهله ، فلا يكاد يبلغ أقصاه. وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة ، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية ، في المرضعات الذاهلات عما أرضعن ـ وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية من وعي ـ والحوامل الملقيات حملهن ، وبالناس سكارى وما هم بسكارى ، ولكن عذاب الله شديد ))(2) اهـ.
3ـ قوله تعالى: (( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ)) (مريم:37)
__________
(1) رواه البخاري في أحاديث الأنبياء ( 3348 ) .
(2) اليوم الآخر في الظلال ( 162 / 163 ) .(1/140)
قال الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (( مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ )) : (( أي مشهد يوم القيامة ، الذي يشهده الأولون والآخرون ، أهل السموات وأهل الأرض ، الخالق والمخلوق ، الممتلئ بالزلازل والأهوال المشتمل على الجزاء بالأعمال . فحينئذ يتبين ما كانوا يخفون ويبدون ، وما كانوا يكتمون ))(1) اهـ.
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عند هذه الآية : (( ويل لهم من ذلك المشهد في يوم عظيم ، بهذا التنكير والتفخيم والتهويل. المشهد الذي يشهده الثقلان:الإنس والجن،وتشهده الملائكة في حضرة الجبار الذي أشرك به الكفار،فما أعجب حالهم!! لا يسمعون ولا يبصرون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة ، وهم أسمع شيء وأبصر شيء يوم يكون السمع والبصر وسيلة للخزي ، ولإسماعهم ما يكرهون، وتبصيرهم ما يتقون في مشهد يوم عظيم ))(2) اهـ.
* * *
بعض مشاهد النبأ العظيم
لقد ورد في القرآن الكريم عدة أوصاف ومشاهد لنبأ الآخرة العظيم حريٌّ بالمسلم الموقن بالرجوع إلى الله عز وجل أن يقف طويلاً عندها ، عَلَّ القلوب أن ترق وتنيب ، وعلَّ الجوارح أن تنقاد لربها بالعمل الصالح؛ حتى تحصل لها رحمة الله عز وجل التي ينجي الله بها من شاء من عباده من شر ذلك اليوم ومشاهده العظيمة . ومن أوصاف هذا اليوم أنه :
1 ـ يوم الحسرة : قال تعالى : (( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )) (مريم:39) .
__________
(1) تفسير السعدي عند الآية 37 من سورة مريم .
(2) اليوم الآخر في ظلال القرآن ( 301 ) .(1/141)
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية :(( الإنذار هو : الإعلام بالمخوف على وجه الترهيب ، والإخبار بصفاته ، وأحق ما ينذر به ويخوف به العباد ، يوم الحسرة حين يقضى الأمر ، فيجمع الأولون والآخرون في موقف واحد ، ويسألون عن أعمالهم ، فمن آمن بالله ، واتبع رسله ، سعد سعادة لا يشقى بعدها . ومن لم يؤمن بالله ويتبع رسله شقِيَ شقاءً لا يسعد بعده ، وخسر نفسه وأهله ، فحينئذ يتحسر ويندم ندامة تنقطع منها القلوب ، وتتصدع منها الأفئدة ، وأي حسرة أعظم من فوات رضا الله وجنته ، واستحقاق سخطه والنار ، على وجه لا يتمكن الرجوع ، ليستأنف العمل ولا سبيل له إلى تغيير حاله بالعود إلى الدنيا ؟!!
فهذا قدامهم ، والحال أنهم في الدنيا في غفلة عن هذا الأمر العظيم لا يخطر بقلوبهم ، ولو خطر ، فعلى سبيل الغفلة،قد عمتهم الغفلة ، وشملتهم السكرة ، فهم لا يؤمنون بالله ولا يتبعون رسله ، وقد ألهتهم دنياهم ، وحالت بينهم وبين الإيمان ، شهواتهم المنقضية الفانية ، فالدنيا وما فيها ، من أولها إلى آخرها ، ستذهب عن أهلها، ويذهبون عنها ، وسيرث الله الأرض ومن عليها ، ويرجعهم إليه ، فيجازيهم بما عملوا فيها ، وما خسروا فيها أو ربحوا ، فمن عمل خيراً ، فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك، فلا يلومنَّ إلا نفسه))(1) اهـ.
__________
(1) تفسير السعدي عند الآية ( 39 ) من سورة مريم .(1/142)
وروى البخاري في التفسير باب : (( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ )) عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين ا لجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة ، هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، ثم يقال : يا أهل النار ، هل تعرفون هذا ؟ فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت، قال: فيؤمر به فيذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة ، خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت ، ثم قرأ رسول اللهصلى الله عليه وسلم : (( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ )) متفق عليه(1).
وقد ورد ذكر الحسرة- والحسرات في أكثر من آية في كتاب الله عز وجل منها :
قوله تعالى : (( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ )) (الأنعام:31)
وقوله تعالى : (( أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ )) (الزمر:56)
وقوله تعالى : (( وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ )) ( البقرة : 167) .
والحاصل مما سبق أن من أخبار النبأ العظيم أنه يوم الحسرات والندامات والتأسفات ، ولكن حيث لا ينفع الندم ، ولا تنفع الحسرة .
__________
(1) البخاري في التفسير ( 4730 ) ، مسلم في الجنة وصفة نعيمها ( 2849 ) .(1/143)
والأمور التي يتحسر عليها الإنسان يوم القيامة كثيرة وكثيرة ، نذكر فيما يلي بعضها ، لعلنا نحاسب أنفسنا عليها ، ما دمنا في زمن المهلة وقبل أن يأتي يوم الحسرة ؛ فمن ذلك :
? الحسرة على أعمال صالحة شابتها الشوائب ، وكدرتها مبطلات الأعمال من : رياء أو عجب أو منة ، حيث ضاعت في وقت يكون الإنسان فيه أشد ما يكون إلى الحسنة الواحدة.
? الحسرة على أعمال صالحة كان الاتكاء والأمل بعد الله عليها ، ولكنها ذهبت عن أصحابها في ذلك اليوم العصيب إلى من ظُلموا في مال أو دم أو غير ذلك .
? الحسرة على التفريط في طاعة الله تعالى،وتصرّم العمر القصير في اللهث وراء الدنيا ؛ حلالها وحرامها ، والاغترار بزينتها ، ونسيان الآخرة وأهوالها ، والتفريط في وقاية النفس والأهل من عذاب جهنم ، والافتتان بالأموال والأولاد الذين يتحسر على فقدهم يوم القيامة ، كما قال تعالى: (( فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )) (الزمر:15)
? حسرة الظالمين المفسدين في الأرض ، الذين يصدون عن سبيل الله، يبغونها عوجاً ، حيث ستكون حسرتهم عظيمة ، حين يحملون أوزارهم وأوزار الذين يضلونهم بغير علم ، وحين يسمعون قول الله عز وجل : (( فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ )) (لأعراف:44 ـ45)
? حسرة الأتباع المقلدين لكل ناعق ، وبراءة المتبوع بالباطل من التابع ، والتابع من المتبوع ، وبراءة الشيطان ممن أطاعوه ، ولكن حيث لا ينفع الندم ولا تنفع الحسرات .(1/144)
? الحسرة على أعمال لم يُتبع فيها الرسول لله ، ويحسب أهلها أنهم يحسنون صنعاً ، ولكنها تضيع في وقت الحاجة إليها ؛ كحال أهل البدع والعبادات التي لم يأذن بها الله سبحانه .
? الحسرة على أموال جُمِعَتْ من وجوه الحرام المختلفة : كربا ورشوة وغصب ؛ فبقي وزرها على جامعها ، وصار أجرها لغيره ممن ورثها وعمل بطاعة الله.كان من كلام إبراهيم التيمي ـ رحمه الله تعالى ـ أن يقول: (( أي حسرة أكبر على امرئ من أن يرى عبداً كان الله خوَّلَه في الدنيا وهو عند الله أفضل منزلة منه يوم القيامة ؟!وأي حسرة على امرئ أكبر من أن يؤتيه الله مالاً في الدنيا فيرثه غيره فيعمل فيه بطاعة الله ، فيكون وزره عليه وأجره لغيره ؟!وأي حسرة على امرئ أكبر من أن يرى عبداً مكفوف البصر في الدنيا قد فتح الله له عن بصره وقد عمي هو ، ثم يقول : إن من كان قبلكم كانوا يفرون من الدنيا وهي مقبلة عليهم ، ولهم من القدم ما لهم ، وإنكم تتبعونها وهي مدبرة عنكم ، ولكم من الأحداث ما لكم من الأحداث ما لكم ، فقيسوا أمركم وأمر القوم))(1) .
? حسرة المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ، حين تبلى السرائر ، وحين يعرضون لا تخفى منهم خافية .
? وتبلغ الحسرة ذروتها حين ينادى أهل النار ، ليروا ذبح الموت ، فيوقنون عند ذلك بأبدية العذاب في النار ، حيث لا يُقْضَى عليهم فيموتوا ، ولا يخفف عنهم من عذابها ، كما ورد ذلك في حديث أبي سعيد الخدري والذي سبق ذكره آنفاً (2).
2 ـ يوم التلاق : قال تعالى : (( رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ)) (غافر:15).
__________
(1) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 431 ) .
(2) انظر نص الحديث ص178 .(1/145)
قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في معنى يوم التلاق : قال علي بن أبي طلحة،عن ابن عباس : يوم التلاق : اسم من أسماء يوم القيامة، حذّر الله منه عباده . وقال قتادة والسُّدِّي وبلال بن سعد وسفيان بن عيينة : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض ، والخالق والخلق . وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم .وقد يقال : إن يوم التلاق يشمل هذا كله ، ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمله من خير وشر ، كما قاله آخرون))(1) اهـ.
ومما سبق من أقوال المفسرين في يوم التلاق- يتبين أنه شامل لكل ما فيه معنى التلاقي والاجتماع ، وذلك كما في قوله تعالى : (( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ )) (التغابن:9) وقوله عز وجل : (( وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ )) (الشورى:7) .
يقول القرطبي رحمه الله تعالى :(ويوم الجمع : يوم يجمع الله الأولين والآخرين ، والإنس والجن ، وأهل السماء وأهل الأرض . وقيل : هو يوم يجمع الله بين العبد وعمله. وقيل:لأنه يجمع فيه بين الظالم والمظلوم)(2)اهـ.
ويقرب التصور لهذا الجمع العظيم ما جاء في قولهصلى الله عليه وسلم : (( إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطت السماء وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيه ملك واضع جبهته لله تعالى ساجداً ، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً.. . ))(3) الحديث.
وهذا العدد العظيم من الملائكة الذين مُلِئَتْ بهم السماء الواسعة الأرجاء سيكونون من بين هذا الجمع العظيم .
__________
(1) تفسير ابن كثير عند الآية رقم ( 15 ) من سورة غافر .
(2) تفسير القرطبي عند الآية ( 7 ) من سورة الشورى .
(3) رواه الترمذي / كتاب الزهد / باب ( 9 ) ( 7 / / 74 ) رقم 2313 ، وقال :
حسن غريب ، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي .(1/146)
وأود الوقوف عند معنى من معاني يوم التلاق أو يوم الجمع ، ألا وهو ما ذكره جمع من المفسرين في أن من ذلك التقاء الظالم بالمظلوم واجتماعهما بين يدي الحكم العدل ؛ للفصل بينهما ، وذلك لأذكّر نفسي وإخواني المسلمين بهذا الموقف العصيب ، الذي تُردُّ فيه المظالم إلى أهلها ، ويؤخذ للمظلوم من الظالم ، قال تعالى : (( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)) (طه:111) .
فلا يمكن لمن أيقن بيوم التلاق ويوم الجمع الأعظم أن يسفك دماء الناس، أو يأكل لحومهم وأموالهم بغير حق ، وهو يعلم أن الاستيفاء هناك، ليس بالدينار والدرهم ، وإنما بالحسنات والسيئات ، فليحذر الذين يظلمون الناس ؛ وخاصة من يظلم الذين يأمرون بالقسط من الناس ، ليحذروا يوم التلاق في يوم الفصل ، وليطمئن المظلوم فلن يضيع عند الله شيء ، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون .
3 ـ يوم الآزفة : قال تعالى : (( وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ )) (غافر : 18) .
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في معناها : (( يوم الآزفة: اسم من أسماء يوم القيامة ، وسميت بذلك لاقترابها ))(1) اهـ.
ويقول السعدي رحمه الله تعالى : (( أي يوم القيامة التي قد أزفت وقربت ، وآن الوصول إلى أهوالها وقلاقلها ، وزلازلها ))(2) اهـ.
وقال تعالى : (( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ *وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ *وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ *فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا )) (لنجم: 57 ـ 62)
__________
(1) تفسير الإمام ابن كثير عند الآية ( 18 ) من سورة غافر .
(2) تفسير السعدي عند الآية ( 18 ) من سورة غافر .(1/147)
يقول الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى عند هذه الآية : (( أي اقتربت القريبة ، يعني يوم القيامة. وقال أبو حازم : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثلي ومثل الساعة مثل رجل بعثه قومه طليعة ، فلما خشي أن يسبق ألاح بثوبه: أُتيتم أُتيتم ! )) ثم يقول الرسولصلى الله عليه وسلم : (( أنا ذلك)) ، وله شواهد من وجوه أخر من صحاح وحسان ))(1) اهـ.
وقال السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآيات : (( أَزِفَتِ الْآزِفَةُ)) أي: قربت القيامة ، ودنا وقتها ، وبانت علاماتها.
(( لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ )) أي: إذا أتت القيامة ، وجاءهم العذاب الموعود به .
ثم توعد المنكرين لرسالة محمد لله ، المكذبين لما جاء به من القرآن الكريم ، فقال: (( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ )) ؟ أي:أفمن هذا الحديث ، الذي هو خير الكلام وأفضله وأشرفه، تتعجبون وتجعلونه من الأمور المخالفة للعادة ، الخارقة للأمور والحقائق المعروفة ؟ذا من جهلهم، وضلالهم، وعنادهم. وإلا فهو الحديث ، الذي إذا حدث صدق ، وإذا قال قولاً فهو القول الفصل ، ليس بالهزل ، وهو القرآن العظيم ، الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، الذي يزيد ذوي الإصلاح رأياً وعقلاً، وتسديداً وثباتاً،وإيقاناً، وإيماناً بل الذي ينبغي العجب، من عقل من تعجب منه ، وسفهه وضلاله .
(( وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ )) أي: تستعجلون الضحك والاستهزاء به ، مع أنه الذي ينبغي أن تتأثر منه النفوس، وتلين له القلوب ، وتبكي له العيون ؛ سماعاً لأمره ونهيه، وإصغاءً لوعده ووعيده ، والتفاتاً لأخباره الصادقة الحسنة.
((
__________
(1) تفسير الإمام ابن كثير عند الآية ( 57 ) من سورة النجم .(1/148)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ )) أي : غافلون ، لاهون عنه وعن تدبره، وهذا من قلة عقولكم وزيف أديانكم ، فلو عبدتم الله وطلبتم رضاه في جميع الأحوال، لما كنتم بهذه المثابة ، التي يأنف منها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى : (( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)) الأمر بالسجود لله خصوصاً ، يدل على فضله وأنه سر العبادة ولبها؛ فإن روحها الخشوع لله ، والخضوع له. والسجود أعظم حالة يخضع بها العبد ، فإنه يخضع قلبه وبدنه ويجعل أشرف أعضائه على الأرض المهينة ، موضع وطء الأقدام . ثم أمر بالعبادة عموماً ، الشاملة لجميع ما يحبه الله ويرضاه ، من الأعمال والأقوال ، الظاهرة والباطنة ))(1) اهـ.
ويصف لنا سيد قطب رحمه الله تعالى تجربة وقعت له وهو يسمع سورة النجم ، وكيف عاش معها ، وتأثر بها ، وخاصة الآيات الأخيرة منها ، فيقول : ((كنت بين رفقة نسمر حينما طرق أسماعنا صوت قارئ القرآن من قريب ، يتلو سورة النجم ، فانقطع بيننا الحديث ؛ لنستمع وننصت للقرآن الكريم ،وكان صوت القارئ مؤثراً ، وهو يرتل القرآن ترتيلاً حسناً ، وشيئاً فشيئاً عشت معه فيما يتلوه .
عشت مع قلب محمد لله في رحلته إلى الملأ الأعلى، عشت معه وهو يشهد جبريل عليه السلام في صورته الملائكية التي خلقه الله عليها . ذلك الحادث العجيب المدهش حين يتدبره الإنسان ويحاول تخيله، وعشت معه وهو في رحلته العلوية الطليقة عند سدرة المنتهى وجنة المأوى.
عشت معه بقدر ما يسعفني خيالي ، وتحلق بي رؤاي ، وبقدر ما تطيق مشاعري وأحاسيسي ، وتابعته في الإحساس بتهافت أساطير المشركين حول الملائكة وعبادتها وبنوتها وأنوثتها .. إلى آخر هذه الأوهام الخرفة المضحكة، التي تتهاوى عند اللمسة الأولى .
__________
(1) تفسير السعدي عند الآيات ( 57 ـ 62 ) من سورة النجم .(1/149)
ووقفت أمام الكائن البشري ينشأ من الأرض ، وأمام الأجنة في بطون الأمهات ، وعلم الله يتابعها ويحيط بها ، وارتجف كياني تحت وقع اللمسات المتتابعة في المقطع الأخير من السورة .. الغيب المحجوب لا يراه إلا الله ،والعمل المكتوب لا يند ولا يغيب عن الحساب والجزاء ، والمنتهى إلى الله في نهاية كل طريق يسلكه العبيد ، والحشود الضاحكة والحشود الباكية ، وحشود الموتى ، وحشود الأحياء، والنطفة تهتدي في الظلمات إلى طريقها، وتخطو خطواتها ، وتبرز أسرارها ، فإذا هي ذكر أو أنثى ، والنشأة الأخرى ، ومصارع الغابرين ،والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى !
واستمعت إلى صوت النذير الأخير قبل الكارثة الداهمة : (( هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى* أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ ))
ثم جاءت الصيحة الأخيرة ، واهتز كياني أمام التبكيت الرعيب : (( أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ *وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ *وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ )) ؟ فلما سمعت : : (( فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا)) كانت الرجفة قد سرت من قلبي حقّاً إلى أوصالي . واستحالت رجفة عضلية مادية ذات مظهر مادي ،لم أملك مقاومته ، فظل جسمي كله يختلج ، ولا أتمالك أن أثبته ، ولا أن أكفكف دموعاً هاتنة ، لا أملك احتباسها مع الجهد والمحاولة !(1/150)
وأدركت في هذه اللحظة أن حادث السجود صحيح(1)، وأن تعليله قريب،إنه كامن في ذلك السلطان العجيب لهذا القرآن ، ولهذه الإيقاعات المزلزلة في سياق هذه السورة ، ولم تكن هذه أول مرة أقرأ فيها سورة النجم أو أسمعها ، ولكنها في هذه المرة كان لها هذا الوقع ، وكانت مني هذه الاستجابة .. وذلك سر القرآن .. فهناك لحظات خاصة موعودة غير مرقوبة تمس الآية أو السورة فيها موضع الاستجابة ؛ وتقع اللمسة التي تصل القلب بمصدر القوة فيها والتأثير ؛ فيكون منها ما يكون ))(2)اهـ.
4 ـ يوم التناد : قال تعالى على لسان مؤمن آل فرعون : (( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد )) (غافر: 32 ، 33).
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى : (( ولما خوفهم العقوبات الدنيوية خوفهم العقوبات الأخروية ، فقال: (( وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ )) أي: يوم القيامة ، حين ينادي أهلُ الجنة أهل النار: (( أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً )) (الأعراف: 44 وما بعدها ).
وحين ينادي أهلُ النار أهلَ الجنة : (( وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ )) (لأعراف:50) .
وحين ينادي أهل النار مالكاً : (( وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ )) فيقول : (( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ )) (الزخرف:77) .
__________
(1) يعني حادث سجود المشركين بعد قراءة الرسول صلى الله عليه وسلم لسورة النجم . وحديث سجود المشركين مع المسلمين رواه البخاري في التفسير ( 4862 ) ، ( 4863 ) .
(2) في ظلال القرآن ( 6 / 3420 ، 3421 ) .(1/151)
وحين ينادون ربهم : (( رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ )) فيجيبهم : (( اخْسَأُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ )) (المؤمنون:107 ، 108).
وحين يقال للمشركين: (( ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ )) (القصص: 64) .
فخوفهم رضي الله عنه هذا اليوم المهول ، وتوجع لهم أن أقاموا على شركهم بذلك ؛ولهذا قال : (( يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِين)) أي : قد ذهب بكم إلى النار: (( مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ)) لا من أنفسكم قوة تدفعون بها عذاب الله، ولا ينصركم من دونه من أحد (( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ* فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ )) [الطارق:9 ،10] ))(1) اهـ.
والنداءات يوم القيامة كثيرة ، يضاف إلى ما قاله الشيخ السعدي رحمه الله تعالى قوله عز وجل : (( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)) (القصص:62) ، وقوله سبحانه: (( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ )) (القصص:65) .
وقد سُمي هذا النبأ العظيم بيوم التناد ، وكأنه ممحض وخالص للنداءات لا شيء فيه سواها؛ حيث هي الغالبة على جوِّهِ البارزة فيه . والموفق من عباد الله سبحانه من وفق في هذا اليوم العظيم (يوم التناد) إلى أن يكون من أهل الجنة الذين إن نادوا فإنهم مسرورون بندائهم لأهل النار بأنهم وجدوا ما وعدهم ربهم حقاً ، وإن وجه إليهم النداء والسؤال بما أجابوا به المرسلين فإن نفوسهم تقرُّ بالجواب ؛حيث الاتباع والاستسلام لما جاء به المرسلون .
__________
(1) تفسير السعدي عند الآيتين ( 32 ، 33 ) من سورة غافر .(1/152)
والويل كل الويل،والحسرة كل الحسرة لأهل النار ، الذين إن نادَوا فبئس النداء وبئس الطلب ؛ حيث ينادون شركاءهم فلا يستجيبون لهم ، بل يكفرون بهم ، وينادون أقاربهم من أهل الجنة بشربة ماء، أو طعمة من رزق الجنة ، فلا يجدون إلا التبكيت والحرمان .
وإن نودوا (( مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ )) فلا جواب لديهم ولا حجة ، إلا الخيبة والخسارة . وماذا عسى أن يقولوا؟ أيقولون: إنما أجبنا آباءنا وأحبارنا ورهباننا ومشايخنا ، ولم نلتفت إلى ما جاء به المرسلون؟ إنهم يعلمون أن لا فائدة في هذا الجواب ؛ بل فيه الحسرة والندامة ، فهو سبب خيبتهم وعذابهم؛ ولذلك عميت عليهم الأنباء ، كما أخبر الله عز وجل عن حالهم بقوله : (( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ )) (القصص:66).
فحري بمن أيقن بيوم التناد أن يستعد لذلك اليوم ، بإفراد الله عز وجل بالعبادة وتنقية القلب من جميع الشركاء من دون الله عز وجل ، وإفراد الرسول لله بالمتابعة والانقياد لما جاء به ، حتى إذا جاء النداء العظيم يوم القيامة: (( مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ )) يكون الجواب حاضراً،تقرُّ به العين، وتنعم به النفس ، أما من كانت إجابته لغير المرسلين : كشيخ أو طريقة أو حزب أو غير ذلك ، فيالها من حسرة وخسارة !! نعوذ بالله من ذلك.
5 ـ يوم التغابن : قال تعالى: (( يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ)) (التغابن: 9)،(1/153)
قال السعدي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية : ((يعني: اذكروا يوم الجمع الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ، ويقفهم موقفاً هائلاً عظيماً ، وينبئهم بما عملوا ، فحينئذ ، يظهر الفرق والتغابن بين الخلائق ، ويُرفع أقوام إلى أعلى عليين ، في الغرف العاليات ، والمنازل المرتفعات ، المشتملة على جميع اللذات والشهوات ، ويُخفض أقوام إلى أسفل سافلين ، محل الهم والغم ، والحزن والعذاب الشديد.
وذلك نتيجة ما قدموه لأنفسهم ، وأسلفوه أيام حياتهم ، ولهذا قال : (( ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ )) .أي : يظهر فيه التغابن والتفاوت بين الخلائق ، ويغبن المؤمنون الفاسقين ، ويعرف المجرمون أنهم على غير شيء، وأنهم هم الخاسرون ))(1) اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى عند هذه الآية :((قال المفسرون : فالمغبون من غبن أهله ومنازله في الجنة ، ويظهر يومئذ غبن كل كافر بترك الإيمان ، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان وتضييعه الأيام . قال الزجاج : ويغبن من ارتفعت منزلته في الجنة من كان دون منزلته .
فإن قيل : فأيُّ معاملة وقعت بينهما حتى يقع الغبن فيها ؟ قيل له : هو تمثيل الغبن في الشراء والبيع ؛كما قال تعالى : (( أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى)) (البقرة:16) ، ولما ذكر أن الكفار اشتروا الضلالة بالهدى،وما ربحوا في تجارتهم ، بل خسروا ، ذكر أيضاً أنهم غُبنوا ؛ وذلك أن أهل الجنة اشتروا الآخرة بترك الدنيا ، واشترى أهل النار الدنيا بترك الآخرة ، وهذا نوع مبادلة اتساعاً ومجازاً .
__________
(1) تفسير السعدي عند الآية ( 9 ) من سورة التغابن .(1/154)
وقد فرق الله سبحانه وتعالى الخلق فريقين: فريقاً للجنة، وفريقاً للنار. ومنازل الكل موضوعة في الجنة والنار ، فقد يسبق الخذلان على العبد ـ كما بيناه في هذه السورة وغيرها ـ فيكون من أهل النار ، فيحصل الموفق على منزل المخذول ، ومنزل الموفق في النار للمخذول ، فكأنه وقع التبادل فحصل التغابن. والأمثال موضوعة للبيان في حكم اللغة والقرآن ، وذلك كله مجموع من نشر الآثار ، وقد جاءت مفرَّقة في هذا الكتاب .
وقد يخبر عن هذا التبادل بالوراثة كما بيناه في (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) ، والله أعلم .
وقد يقع التغابن في غير ذلك اليوم على ما يأتي بيانه بعد ؛ ولكنه أراد التغابن الذي لا جبران لنهايته . وقال الحسن وقتادة : بلغنا أن التغابن في ثلاثة أصناف : رجل علم علماً فعلّمه وضيّعه هو ولم يعمل به فشقي به ، وعمل به من تعلمه منه فنجا به . ورجل اكتسب مالاً من وجوه يُسأل عنها وشح عليه ، وفرط في طاعة ربه بسببه ، ولم يعمل فيه خيراً ، وتركه لوارث لا حساب عليه فيه ؛ فعمل ذلك الوارث فيه بطاعة ربه . ورجل كان له عبد فعمل العبد بطاعة ربه فسعد ، وعمل السيد بمعصية ربه فشقي ))(1) اهـ.
ويتضح من أقوال المفسرين أن التغابن مفاعلة من الغبن ، وذلك بوجود طرفين متقابلين : أحدهما غابن رابح مغبوط، والآخر خاسر مغبون. ونحن نرى أثر الغبن على أهله في الدنيا ، وهي تجارات فانية ولها عوض ، فكيف بالغبن الأعظم والخسارة الكبرى عندما يرى أهلُ النار أهل الجنة وقد فازوا برضوان الله والنعيم المقيم ، فيالها من حسرة ، ويالها من خسارة ما أعظمها !!
والموقن بذلك اليوم يسعى جهده في وقت المهلة إلى أن يكون من الغابنين الفائزين مع أهل الحق وأنصار الحق المفلحين ، وينأى بنفسه عن مصير الخاسرين المغبونين من أهل الباطل الصادين عن الحق ، والمفسدين في الأرض.
__________
(1) تفسير القرطبي عند الآية ( 9 ) من سورة التغابن .(1/155)
وقد أنعم الله سبحانه علينا بنعم عظيمة ؛لنستعين بها على طاعة الله عزوجل ومرضاته ، ومن أعظمها نعمتا : الصحة والفراغ اللتان أخبر عنهما النبي لله بقوله : (( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ))(1) ، ويشرح الحديث الإمام ابن حجر رحمه الله تعالى فيقول : (( قال ابن بطال: معنى الحديث: أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفياً صحيح البدن ، فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه ، ومن شكره: امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، فمن فرط في ذلك فهو المغبون .وأشار بقوله ((كثير من الناس)) إلى أن الذي يوفق لذلك قليل .
وقال ابن الجوزي:قد يكون الإنسان صحيحاً ولا يكون متفرغاً لشغله بالمعاش ، وقد يكون مستغنياً ولا يكون صحيحاً ، فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون. وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة الآخرة ، وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الآخرة ، فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو المغبوط، ومن استعملهما في معصية الله فهو المغبون ؛ لأن الفراغ يعقبه الشغل ، والصحة يعقبها السقم ، ولو لم يكن إلا الهرم ، كما قيل :
يسر الفتى طول السلامة والبقا فكيف ترى طول السلامة يفعل
رد الفتى بعد اعتدال وصحة ينوء إذا رام القيام ويحمل
وقال الطيبي : ضرب النبي لله للمكلف مثلاً بالتاجر الذي له رأس مال ، فهو يبتغي الربح مع سلامة رأس المال ، فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ، ويلزم الصدق والحذق لئلا يغبن ، فالصحة والفراغ رأس المال، وينبغي له أن يعامل الله بالإيمان ، ومجاهدة النفس وعدو الدين؛ ليربح خيري الدنيا والآخرة .
__________
(1) البخاري ك / الرقاق ( 4612 ) .(1/156)
وقريب منه قول الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )) الآيات ، وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ومعاملة الشيطان ؛لئلا يضيع رأس ماله مع الربح .
وقوله في الحديث: ((مغبون فيهما كثير من الناس)) كقوله تعالى: (( وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ )) ، فالكثير في الحديث في مقابلة القليل في الآية.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي:اختلف في أول نعمة الله على العبد فقيل :الإيمان، وقيل : الحياة ، وقيل : الصحة.والأول أولى فإنه نعمة مطلقة ، وأما الحياة والصحة فإنهما نعمة دنيوية ، ولا تكون نعمة حقيقة إلا إذا صاحبت الإيمان وحينئذ يغبن فيها كثير من الناس، أي يذهب ربحهم أو ينقص ، فمن استرسل مع نفسه الأمارة بالسوء الخالدة إلى الراحة ، فترك المحافظة على الحدود والمواظبة على الطاعة ، فقد غبن ، وكذلك إذا كان فارغاً ؛ فإن المشغول قد يكون له معذرة بخلاف الفارغ ، فإنه يرتفع عنه المعذرة ، وتقوم عليه الحجة ))(1) .
نسأله سبحانه أن يجعلنا يوم التغابن من الغابنين الفائزين ، كما نسأله عز وجل أن يجعلنا ممن طال عمره وحسن عمله ، وتزود من الفانية للباقية، ومن الممر إلى المستقر .
6 ـ تخاصم أهل النار : وهذا التخاصم من أعظم المشاهد حسرة في يوم النبأ العظيم ، يوم يكفر الظالمون بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضاً .
وقد ورد في أكثر من موطن في القرآن الكريم وصف لتلك المشاهد المخزية ، ذكرها الله عز وجل في كتابه الكريم ، رحمة بعباده ما داموا في دار الدنيا وزمن المهلة ، حتى يتقوا هذه المواقف التي ملؤها الحسرة والندامة.
وقد ورد هذا التخاصم والتحاجج بين أهل النار في موطنين من مواطن يوم القيامة ، موطن قبل دخولهم النار ، وهم موقوفون بين يدي ربهم سبحانه ،وموقف بعد دخولها .
__________
(1) فتح الباري ( 11 / 234 ) .(1/157)
فمن الآيات التي تصف لنا مشهد هذا التخاصم في نار جهنم : ? قوله تعالى : (( وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ* قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ)) (غافر:47 ،48).
? وقوله تعالى : (( هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ* وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ* أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ* إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ )) (ص:59 ـ 64).
? وقوله تعالى : (( قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ * وَقَالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ )) (الأعراف:38 ، 39).(1/158)
? وقوله تعالى : (( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّأُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)) (البقرة: 166 ، 167) .
أما الآيات التي تصف تخاصم الظالمين عند ربهم قبل دخول النار ، فمنها:
? قوله تعالى : (( وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ* قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ* قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ* وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طَاغِينَ* فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ )) (الصافات:27 ـ 32) .
? قوله تعالى : (( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ* وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (سبأ: 31 ـ 33) .(1/159)
وسواء كان تخاصم أهل النار في وقوفهم بين يدي ربهم، أم بعد دخولهم النار فهي حالة واحدة ، تصور ذلك الجو من الحسرة والخزي والندامة الكبرى، التي تخيم على الأتباع والمتبوعين ، على المستضعفين والمستكبرين، ويحسن أن نقف عند الآيات الأخيرة في سورة سبأ، وما توحي به من المعاني والعبر العظيمة، حتى تكتمل الفائدة .
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآيات : ((لما ذكر تعالى أن ميعاد المستعجلين بالعذاب لابد من وقوعه عند حلول أجله، ذكر هنا حالهم في ذلك اليوم ، وأنك لو رأيت حالهم إذ وقفوا عند ربهم ، واجتمع الرؤساء والأتباع في الكفر والضلال ، لرأيت أمراً عظيماً وهولاً جسيماً ، ورأيت كيف يتراجعون ، ويرجع بعضهم إلى بعض القول.
(( يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا )) وهم الأتباع (( لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا )) وهم القادة: (( لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ )) ، ولكنكم حُلْتُم بيننا وبين الإيمان ، وزينتم لنا الكفران ، فتبعناكم على ذلك . ومقصودهم بذلك أن يكون العذاب على الرؤساء دونهم .
(( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا )) مستفهمين لهم ومخبرين أن الجميع مشتركون في الجرم : (( أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ)) أي: بقوتنا وقهرنا إياكم؟! (( بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ )) أي : مختارين للإجرام ، لستم مقهورين عليه، وإن كنا قد زينا لكم ، فما كان لنا عليكم من سلطان.
(((1/160)
وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً )) أي : بل الذي دهانا منكم ، ووصل إلينا من إضلالكم ، ما دبرتموه من المكر في الليل والنهار؛إذ تُحسِّنون لنا الكفر ، وتدعوننا إليه، وتقولون : إنه الحق ، وتقدحون في الحق، وتهجونه ، وتزعمون أنه الباطل ، فما زال مكركم بنا ، وكيدكم إيانا، حتى أغويتمونا وفتنتمونا .
فلم تفد تلك المراجعة بينهم شيئاً إلا براءة بعضهم من بعض ، والندامة العظيمة،ولهذا قال : (( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ )) أي : زال عنهم ذلك الاحتجاج الذي احتج به بعضهم لينجو من العذاب، وعلم أنه ظالم مستحق له ، فندم كل منهم غاية الندم ، وتمنى أن لو كان على الحق ، وأنه ترك الباطل الذي أوصله إلى هذا العذاب، سراً في أنفسهم ، لخوفهم من الفضيحة في إقرارهم على أنفسهم ))(1)اهـ.
ويعلق صاحب الظلال رحمه الله تعالى على هذه الآيات فيقول : ((لو ترى هؤلاء الظالمين وهم (( مَوْقُوفُونَ )) على غير إرادة منهم ولا اختيار ؛ إنما هم مذنبون بالوقوف انتظار الجزاء (( عِنْدَ رَبِّهِمْ ))..ربهم الذي يجزمون بأنهم لن يؤمنوا بقوله وكتبه . ثم ها هم أولاء موقوفون عنده! لو ترى يومئذ لرأيت هؤلاء الظالمين يلوم بعضهم بعضاً، ويؤنب بعضهم بعضاً، ويلقي بعضهم تبعة ما هم فيه على بعض: (( يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ)) ..فماذا يرجعون من القول ؟
(( يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ))
.
__________
(1) تفسير السعدي عند الآيات ( 31 ـ 33 ) سورة سبأ .(1/161)
فيلقون على الذين استكبروا تبعة الوقفة المرهوبة المهينة ، وما يتوقعون بعدها من البلاء!يقولون لهم هذه القولة الجاهرة اليوم؛ ولم يكونوا في الدنيا بقادرين على مواجهتهم هذه المواجهة ، كان يمنعهم الذل والضعف والاستسلام ، وبيع الحرية التي وهبها الله لهم ، والكرامة التي منحها الله إياهم ، والإدراك الذي أنعم به عليهم. أما اليوم وقد سقطت القيم الزائفة ، وواجهوا العذاب الأليم ، فهم يقولونها غير خائفين ولا مبقين (( لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ)) .
ويضيق الذين استكبروا بالذين استضعفوا ، فهم في البلاء سواء ، وهؤلاء الضعفاء يريدون أن يحملوهم تبعة الإغواء الذي صار بهم إلى هذا البلاء ، وعندئذ يردون عليهم باستنكار ، ويجبهونهم بالسب الغليظ.
(( قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ )) فهو التخلي عن التبعة ، والإقرار بالهدى ، وقد كانوا في الدنيا لا يقيمون وزناً للمستضعفين ، ولا يأخذون منهم رأياً ، ولا يعتبرون لهم وجوداً ، ولا يقبلون منهم مخالفة ولا مناقشة، أما اليوم ـ وأمام العذاب ـ فهم يسألونهم في إنكار : (( أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ )) .. (( بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ )) .. من ذات أنفسكم، لا تهتدون ، لأنكم مجرمون !
ولو كانوا في الدنيا لقبع المستضعفون لا ينبسون ببنت شفة ، ولكنهم في الآخرة ؛ حيث تسقط الهالات الكاذبة والقيم الزائفة ، وتتفتح العيون المغلقة، وتظهر الحقائق المستورة .(1/162)
ومن ثم،لا يسكت المستضعفون ولا يخنعون ، بل يجبهون المستكبرين بمكرهم الذي لم يكن يفتر نهاراً ولا ليلاً للصد عن الهدى ، وللتمكين للباطل ، ولتلبيس الحق ، وللأمر بالمنكر ، ولاستخدام النفوذ والسلطان في التضليل والإغواء : (( وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ(1) إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَاداً )) ..
__________
(1) أي مكركم بنا في الليل والنهار. وكأن هذا المكر من المستكبرين المتسلطين مستمر في الليل والنهار ، لا يفتر ولا يتوقف. ولقد كانت صور المكر وقت نزول القرآن وما قبله تتخذ أشكالاً من الأشعار في المنتديات الجاهلية، وتوجيه التهم الباطلة للرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، أو بصد الراغبين في سماع الحق وتفويته عليهم ، أو بإثارة نعرة الآباء والأجداد والتهويل من خطورة تركها. هذا جل ما عند الجاهلية الأولى من مكر الليل والنهار ، ولكن ماذا يساوي ذلك المكر الأول عند مكر الليل والنهار في زماننا الحاضر . إن مكر الليل والنهار = =لينطبق تمام الانطباق بلفظه ومعناه على المكر الموجود في أكثر ديار المسلمين اليوم ، والذي يعمل ليل نهار على مدار الأربع والعشرين ساعة ؛ فما يكاد المذياع يفتر من مكره حتى يأتي دور التلفاز ، وما يكاد التلفاز يفتر حتى يبدأ الفيديو ، ثم البث المباشر ، ثم المجلة الهابطة ، فالقصة الخليعة ، وهكذا دواليك. ولكن هل يعذر المسلم في فتح فكره وبيته لمكر الليل والنهار ؛ كلا والله لا يعذر ؛ لأن المفسدين المتسلطين سيردون عليهم يوم القيامة بقولهم : { أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ }.(1/163)
ثم يدرك هؤلاء وهؤلاء أن هذا الحوار البائس لا ينفع هؤلاء ولا هؤلاء ، ولاينجي المستكبرين ولا المستضعفين؛ فلكل جريمته وإثمه؛المستكبرون عليهم وزرهم ، وعليهم تبعة إضلال الآخرين وإغوائهم، والمستضعفون عليهم وزرهم ، فهم مسئولون عن اتباعهم للطغاة ، لا يعفيهم أنهم كانوا مستضعفين؛لقد كرمهم الله بالإدراك والحرية ، فعطلوا الإدراك وباعوا الحرية، ورضوا لأنفسهم أن يكونوا ذيولاً،وقبلوا لأنفسهم أن يكونوا مستذلين؛ فاستحقوا العذاب جميعاً ،وأصابهم الكمد والحسرة ، وهم يرون العذاب حاضراً لهم مهيئًا ))(1) اهـ.
وبعد هذا البيان من كتاب ربنا عز وجل هل آن لنا الأوان أن نعد لهذا الموقف العظيم عدته ؟ ونعمل جاهدين على الخلاص من صفات أهل هذه المواقف المخزية؟ وذلك بأن نخلص عبادتنا لله وحده ، ونجرد متابعتنا للرسول لله ، ونحذر من كل ناعق ملبس خائن يمكر في الليل والنهار.
? أما آن الأوان للضعفة الأتباع أن يتبرأوا من متبوعيهم ورؤسائهم الظالمين المفسدين،وألا يكونوا أداة لهم في إفساد الناس،أو ظلمهم في دم أو مال أو عرض؛طمعاً في جاه أو دنيا؟!فهذا أوان الإنابة والبراءة من الظالمين قبل أن يتبرأوا منهم في الآخرة بين يدي الله عز وجل أو وهم في النار يختصمون ؟ إن المتبوعين من الرؤساء الظالمين المفسدين لن يغنوا عن اتباعهم شيئاً يوم الهول العظيم ،بل كما مر بنا في سياق الآيات الكريمات ، فإنهم سينقلبون عليهم ويتبرأون منهم ، ويلعن بعضهم بعضاً ، ولكن حيث لا تنفع البراءة هنالك.
__________
(1) في ظلال القرآن عند الآيات ( 31 ـ 33 ) من سورة سبأ .(1/164)
? أما آن الأوان للمرأة المسكينة وخاصة في زماننا اليوم أن تنتبه لهذه المواقف ، فتتبرأ في دنياها اليوم من كل ناعق لها باسم الحرية والتمدن ومتابعة الأزياء والموضات؛حتى لا تحق عليها الحسرة الكبرى عندما يتبرأ منها شياطين الإنس والجن ، الذين أضلوها ولم يغنوا عنها من عذاب الله من شيء؟ بل التبرؤ والتلاعن هو البارز في خصام التابعين من المتبوعين ، قال تعالى : (( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً )) (الأحزاب: 67 ، 68) .
?أما آن لأتباع الأحزاب الأرضية من علمانية وقومية وبعثية ووطنية وغيرها ممن أعطوا ولاءهم لغير الله عز وجل وتنكروا لدينهم ، أو أتباع الطوائف الضالة المبتدعة،أما آن لهم أن يفيقوا ويدركوا خطر هذه المتابعة، وأنها ستنقلب يوم الحسرة الكبرى عداوة بينهم وبين متبوعيهم،قال تعالى: (( وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ )) (العنكبوت:25).
? أما آن لمن أعطوا قيادهم لأهل الفساد وجلساء السوء يسوقونهم إلى مواطن الرذيلة،ويفتحون قلوبهم لألاعيبهم ومكرهم أن ينتهوا ما داموا في زمن المهلة ، ويحذروا من هؤلاء المفسدين ، الذين يزينون لهم فعل الشر، ويزهدونهم في الخير ؟
أما علموا أن مودة هؤلاء وطاعتهم إن لم تنقطع في الدنيا فهي ولا شك منقطعة يوم القيامة ، بل ستنقلب إلى عداوة وبراءة، قال تعالى : (( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ )) (الزخرف:67) .(1/165)
? ولو ذهبنا نتتبع أنواع الحوارات اليائسة وأطرافها المتعددة لطال بنا المقام؛ ففي يوم القيامة يبحث كل إنسان عن أيَّة وسيلة مهما كانت ضعيفة واهية ، لعلها تصلح سبباً لنجاته من غضب الله تعالى وعذابه ؛ لذلك تكثر المناقشات والمحاورات بين الأبناء والآباء ، وبين الأزواج والزوجات ، وبين الحكام والمحكومين ، وبين الكبار المتسلطين والصغار التابعين لهم ، وبين الأغنياء الجبارين والفقراء المنافقين الذليلين ، كل يحاول إلقاء التبعة على غيره، ويتبرأ من تسلطه على غيره وتجبره ، ومن تزعمه بالأفكار المنحلة والمفاسد المضلة على الذين صفقوا له وهللوا لتفاهته وجرائمه ))(1)، ولكن حيث لا تنفع المحاورات ولا الخصومات ولا التنصل من التبعات .
* * *
العقل نحو مشاهد النبأ العظيم
المعاد ثابت عقلاً ونقلاً ، والعقل الصحيح يقتضي وجود يوم يجازى فيه المحسن ، ويعاقب فيه المسيء . وإن من أعظم نعم الله سبحانه على الإنسان أن ركب فيه هذا العقل الذي يميز به الأشياء ، ويعرف به الضار من النافع ، ويهتدي به إلى خالقه وبارئه عز وجل ، وهو وسيلة الفهم عن الله سبحانه وعن رسوله لله صلى الله عليه وسلم يفقه بها الأحكام ، ويعمِّر الأرض، ويتمتع بما سخره الله عز وجل فيها ؛ولذلك كثر في كتاب الله تعالى ذكر أولي الألباب ، وأولي النهى ، وكثرت الآيات التي تمدح المتفكرين والذين يعقلون (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ )) (الرعد: 3)، (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ )) (الرعد:4) . إلى غير ذلك من الآيات التي تمدح أصحاب العقول المهتدية لله عز وجل والمتدبرة لآلاء الله سبحانه وآياته.
والعقل الصحيح لا يعارض النقل الصريح ، ولايترتب عليه إلا الخير في العاجل والآجل ، ولكن الخشية من فساد العقل ومرضه أو صلفه وغروره.
__________
(1) عن كتاب رحلة الخلود لحسن أيوب ص194 .(1/166)
وبما أن مشاهد النبأ العظيم كلها من الغيوب التي لم يعط العقل القوة على إدراكها، فليس لدى العقل أمور يعهدها تشابه مشاهد الآخرة ؛ حتى يقيس عليها ، ولذلك فليس أمام العقل إلا التسليم والإيمان بالغيب ، الذي أخبر عنه علام الغيوب .
وهذا هو أصل الإيمان الذي يميز المؤمن عن الكافر ،قال تعالى: ((الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ )) (البقرة:3)
ويجب على المسلم أن يحذر من الشيطان وخطراته ووساوسه في مثل هذه الأنباء الغيبية،وليعرف العقل قدره ودوره وليتحرزمن غروره وصلفه.
وقد سُئل الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عن معنى قول الحكماء : (( من لم يحترز من عقله بعقله هلك بعقله )) ؟
فأجاب رحمه الله تعالى بقوله : ((الجواب ، وبالله التوفيق : اعلم أن من أجَلِّ نعم الله على الآدمي أن أعطاه هذا العقل ، الذي يعقل به الأشياء ويوازن به بين المصالح والمضار ، ويرجح الراجح من المصلحتين ، ويرتكب الأخف من المفسدتين عند الاضطرار إلى ذلك ، وينظر به عواقب الأمور وما تثمره الأعمال الدينية والدنيوية من الثمرات النافعة أو ضدها ، ويلزم الإرادة بالعمل الصالح ، وباجتناب المضار.وأجل فوائد العقل وأحلى ثمراته : العقل عن الله وعن رسوله الأخبار والتصديق بها والتعبد لله تعالى بالاعتراف بها ، والأحكام الباطنة والظاهرة والتخلق بها ، والعمل الصالح، واجتناب المحرم .
فهذا أجلُّ ثمرات العقل ، فبه عُرِف الله ، وعُرِفَتْ أحكامه ودينه ، وبه عُبِدَ الله وأ ُطِيع، وهذا وجه توجيه الله خطابه في كتابه :لأولي الألباب ، لأولي النهى ، لقوم يعقلون ، لقوم يعلمون .
فالعقل هو الدليل للعبد ، وهو المرشد له في جميع المطالب ، فما دام العقل عقلاً حقيقياً ، فلا يترتب عليه إلا كل خير ونفع عاجل وآجل.(1/167)
وإنما يخشى الشر والضرر من أحد أمرين:إما قصوره وتقصيره ، وإما تعديه ومجاوزته الحد الذي حد له، إذا كان صاحبه في الحالين يعتقد استقامته وكماله ، فحينئذ عليه أن يحترز من كل حالة منهما بما يليق بها ويناسبها.
أما إذا كان الخلل من قصور العقل في معرفة العبد للحقائق ،بأن يظن معرفته بها وهو غالط في ذلك ،فمن هاهنا يقع الخطل والخلل ،فدواؤه في هذه الحال بتنقيح العقل وتصحيحه،بأن يسلك الطريق الموصل لمعرفة تلك الحقيقة التي وقع الغلط فيها ،فإن من سلك الطرق المعوجة لم يهتد إلى الصواب ، وكذك من ضعف سلوكه للطرق النافعة لم يصل إلى الحقيقة ، ذاك يضل عنها ، وهذا يقصر عنها ، ولا فرق في هذا بين الأمور الدينية والدنيوية ، فإن الأمور لا تتم إلا بسلوك طرقها وأبوابها مع الجد التام في تحصيلها ، فهذا من الأمور التي يتحرز منها بالمعرفة والاستقامة .
وأما الأمر الثاني :وهو مجاوزته للحد الذي حُدَّ له ، فهذا خطره كبير؛ وذلك أن العقل من أكبر نعم الله وأجلها على العبد ،فعلى العبد أن يشكر الله على هذه النعمة الكبرى ، ويعترف لله بها ، ويستعين بها على ما خلق له ، وعلى ما ينفع ، فإذا نسي نعمة الله عليه، وطغى بنفسه ، وأعجب بها وتاه بعقله ، سلب هذه النعمة في أمور كثيرة أعظمها أن يسلب إيمانه ، فإن كثيراً من الملحدين وأهل الحيرة والارتياب تاهوا بما أوتوا من ذكاء وفطنة حتى تكبروا على ماجاءت به الرسل ، واحتقروا الرسل ، وما جاءوا به ، وفرحوا بعلومهم، وصارت عقولهم الذكية ـ غير الزكية ـ سبباً لهذا الانحراف العظيم، والإلحاد المفسد للدنيا والآخرة ، فعقولهم التي طغوا بها أوصلتهم إلى هذه الهاوية السحيقة .(1/168)
وقد يرى كثير من أهل المهارة بالأعمال الدنيوية والاختراعات الحديثة ، قدرته على ما يعجز عنه غيره ؛ فيتيه بعقله الفاسد ، ويتوهم أن معرفته بهذه الأمور المادية دليل على تفوقه في العلوم النافعة ، والأعمال النافعة ، ولا يخضع عقله لعلوم الرسل والدين الحق ، فهذه مهالك هلك بها المعجبون بأنفسهم .
وعلى العبد أن يحترز من القدح في حكم الله وشرعه ، أو في قدره ، بأن يقيس حكمة الحكيم الحميد بأفعال القاصرين من العبيد؛ فيضل ويسيء ظنه بالله ، ودواء هذا أن يعلم أن الله حكيم في كل ما خلقه من المخلوقات ، وفي كل ما شرعه من الشرائع ، وإن تتبع ما أوجده الله من الموجودات يجدها في غاية الحكمة ، ويجد آثار الإتقان وحسن الخلق والانتظام التام عليها ظاهرة لا تخفى إلا على من عمي قلبه ، وانقلبت عليه الحقائق .
وما خفي عليه من بعض الجزئيات التي لا يهتدي إلى معرفة الحكمة فيها؛ فليعلم العلم الكلي أن الله لا يخلق شيئاً عبثاً ، وأنه أحسن كل شيء خلقه ،وأتقن جميع ما صنعه ، وكذلك من نظر ما احتوى عليه شرعه العظيم من المحاسن والمصالح والمنافع التي لا يمكن إحصاء أجناسها فضلاً عن أنواعها وأفرادها ؛عرف بذلك أن الله كامل الحكمة .
وأضر الجهل على الإطلاق الجهل بحكمة الله ، وأشد أنواع الغرور القدح فيها ، وما جاء هذا الغرور إلا من إعجاب العبد الجاهل بعقله الفاسد ،فنسأل الله ألا يزيغ قلوبنا عن الهدى والرشاد ؛ إنه جواد كريم))(1)اهـ.
ويحسن أن نورد في هذا المقام كلاماً مفيداً للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الحذر من الخواطر التي لانفع للعبد فيها ، بل قد يكون فيها هلاكه وزيغه ، فيقول رحمه الله تعالى :
((
__________
(1) الفتاوى السعدية ( 52 ـ 55 ) .(1/169)
واعلم أن الخطرات والوساوس تؤدي متعلقاتها إلى الفكر ، فيأخذها الفكر فيؤديها إلى التذكر ، فيأخذها الذكر فيؤديها إلى الإرادة ، فتأخذها الإرادة فتؤديها إلى الجوارح والعمل ، فتستحكم فتصير عادة ، فردُّها من مبادئها أسهل من قطعها بعد قوتها وتمامها .
ومعلوم أنه لم يعط الإنسان إماتة الخواطر ، ولاالقوة على قطعها ، فإنها تهجم عليه هجوم النفس ، إلا أن قوة الإيمان والعقل تعينه على قبول أحسنها، ورضاه به ، ومساكنته له ، وعلى دفع أقبحها وكراهته له ، ونفرته منه ، كما قال الصحابة : يا رسول الله ، إن أحدنا يجد في نفسه ما لأن يحترق حتى يصير حُممة أحب إليه من أن يتكلم به ، فقال: (( أوقد وجدتموه؟ )) قالوا : نعم ، قال: (( ذاك صريح الإيمان))(1) .
وفي لفظ : (( الحمدلله الذي رد كيده إلى الوسوسة ))، وفيه قولان:
أحدهما : أن رده وكراهته صريح الإيمان .
والثاني : أن وجوده وإلقاء الشيطان له في النفس صريح الإيمان ، فإنه إنما ألقاه في النفس طلباً لمعارضة الإيمان وإزالته به .
وقد خلق الله سبحانه النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ، ولابُد لها من شيء تطحنه ، فإن وضع فيها حب طحنته ، وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته ، فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحَبِّ الذي يوضع في الرحى ، ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط ، بل لابد لها من شيء يوضع فيها ، فمن الناس من تطحن رحاه حباً يخرج دقيقاً ينفع به نفسه وغيره ، وأكثرهم يطحن رملاً وحصى وتبناً ونحو ذلك ، فإذا جاءوقت العجن والخبز تبين له حقيقة طحينه ))(2) .
__________
(1) رواه مسلم رقم ( 132 ) في الإيمان : باب بيان الوسوسة في الإيمان ، وما يقوله من
وجدها . والروايه الثانية رواها أبو داود رقم ( 5112 ) في الأدب ـ باب الوسوسة .
(2) الفوائد : ص 308 .(1/170)
مما سبق بيانه من النقولات يتبين لنا ما ينبغي للعقل السليم أن يسلك مع أمور الغيب التي زويت عنه ، ولم يعط القدرة على إدراكها ، ألا وهو التسليم والإيمان بكل ما جاء في كتاب الله عز وجل من الأنباء،وما ثبت عن الرسول لله ، سواء أدركت العقول كنهه وحكمته ، أم لم تدرك.
فهذا هو شأن سلف الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان ؛حيث يقدمون النقل على العقل ، وينتفعون من نعمة العقل التي أكرم الله عز وجل بها الإنسان في تدبر آياته، وزيادة الإيمان، والاستعداد لما وعد الله به عباده من النعيم الذي لا يخطر على قلب بشر بالعمل الصالح والتخفف من الدنيا،وما توعد الله به عبيده الظالمين فيبتعد عن أسبابه وما يقرب إليه.
ولما حكَّم المعتزلة وأضرابهم من أصحاب المدارس العقلية عقولهم، وقدموها على النص؛ إما بردّه أو تأويله؛وقعوا في الضلال البعيد الذي أدى ببعضهم إلى الحيرة والشك والإلحاد ، عياذاً بالله ؛ وما ذاك إلا من غرورهم ورفعهم لعقولهم فوق منزلتها،وفتح الباب للوساوس الشيطانية والخواطر الرديئة لتلعب في عقولهم التي أوتيت ذكاءً ولم تؤت زكاءً . فالعبرة بزكاء العقول ووقوفها عند حدها واستخدامها فيما ينفع العبد في دنياه وأخراه .
أما أن يؤتى العبد ذكاء بدون زكاء فمثل هذا يكون عقله وبالاً عليه في الدنيا والآخرة.والعاقل الحق هو من عرف مولاه سبحانه وأحبه وعظمه في قلبه ولسانه وجوارحه ، واستعد لما أمامه من أنباء الآخرة بالعمل الصالح النافع .
فهذا هو العاقل بحق ولو لم يؤت حظّاً من الذكاء. أما الأذكياء الذين سخروا ذكاءهم فيما لم يخلقوا له،أو جاوزوا بذكائهم حدود عقولهم، وفتحوها للخواطر والأفكار الردىئة الضارة ؛فإنهم تاهوا؛ فضلوا وأضلوا.(1/171)
وقد وصف الله سبحانه في كتابه حال الطائفتين اللتين ضلت إحداهما فتابعت ما تشابه من كتاب الله عزوجل،وهدى الله الأخرى إلى الحق؛ فآمنت بكل ما جاء عن الله سبحانه ، وسألته أن يثبتها على الحق ولا يزيغها عنه ، فقال تعالى : (( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ )) (آل عمران: 7 ـ 9) .
* * *الأحاديث والآثار الواردة في الخوف والتحذيرمن النبأ العظيم
ويتم في هذا المبحث إيراد بعض الأحاديث الصحيحة والآثار المروية عن بعض السلف ، والتي يظهر منها مدى خوف القوم وتحذيرهم من يوم القيامة وأنبائه العظيمة ، كما يظهر مدى الاستعداد له بالعمل الصالح وترك كل ما يلهي ويشغل عن تذكره والتزود له .
( أ ) الأحاديث :
الحديث الأول : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما نزلت : ((وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ(1/172)
الْأَقْرَبِينَ )) صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي : يا بني فهر ، يا بني عديّ ـ لبطون قريش ـ حتى اجتمعوا ، فجلع الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو ،فجاء أبو لهب وقريش ، فقال : (( أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُغيرَ عليكم أكنتم مصدقيّ ؟ )) قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقاً . قال : (( فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد ))(1) .
الحديث الثاني : عن قبيصة بن المخارق، وزهير بن عمرو ، قالا : لما نزلت : (( وَأَنْذِرْ
عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )) قال انطلق نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى رضمة(2)من جبل . فعلا أعلاها حجراً(3) ، ثم نادى : ((يا بني عبد منافاه، إني نذير، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يربأُ(4) أهله ، فخشي أن يسبقوه فجعل يهتف : يا صباحاه ))(5) .
__________
(1) رواه البخاري / ك التفسير ( 4770 ) . ومسلم بنحوه / ك الإيمان ( 208 ) .
(2) رضمة : الرضمة حجارة مجتمعة ليست بثابتة في الأرض كأنها منثورة .
(3) فعلا أعلاها حجراً :أي فرقي في أرفعها .
(4) يربأ: على وزن يقرأ ، معناه يحفظهم ويتطلع لهم. ويقال لفاعل ذلك :ربيئة، وهو العين
والطليعة الذي ينظر للقوم لئلا يدهمهم العدو . ولا يكون في الغالب إلا على جبل أو
شرف أو شيء مرتفع لينظر إلى بعد .
(5) رواه مسلم / ك الإيمان ( 208 ) .(1/173)
الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما أنزلت هذه الآية : ((أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ )) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً؛ فاجتمعوا فعمَّ وخص ، فقال : (( يا بني كعب بن لؤي، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئاً ، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها ))(1) .
الحديث الرابع : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( مثلي كمثل رجل استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش ، وهذه الدواب التي في النار ، يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ، ويغلبنه ، فيقتحمن فيها ، قال : فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزكم عن النار ؛ هلم عن النار ، هلم عن النار ، فتغلبوني ، تقحَّمون فيها))(2).
الحديث الخامس :عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ، ولبكيتم كثيراً ))(3) .
الحديث السادس : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن، واستمع الأذن متى يؤمر بالنفخ فينفُخ )) فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم : (( قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا ))(4) .
__________
(1) رواه مسلم بشرح النووي ( 3 / 80 ) ط10 المطبعة المصرية ومكتبتها .
(2) البخاري بنحوه في الرقاق ( 6483 ) ، ومسلم واللفظ له في الفضائل ( 2284 ) .
(3) البخاري في الرقاق [ ( 11 / 327 ) ( 6486 ) فتح ] .
(4) رواه الترمذي / ك صفة القيامة ( 7 / 145 ) [ 2433 ] ، وقال : حديث حسن .
وذكره الألباني في الصحيحة ( 1079 ) من طرق .(1/174)
الحديث السابع : عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول اللهصلى الله عليه وسلم :يقول: (( يحشر الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً )) قلت :يا رسول الله ، الرجال والنساء
جميعاً ينظر بعضهم إلى بعض ! قال : (( يا عائشة ، الأمر أشد من أن يهمهم ذلك ))(1) .
الحديث الثامن : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي ، فقال : (( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)). وكان ابن عمر يقول : (( إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح ، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء ، وخذ من صحتك لمرضك ، ومن حياتك لموتك ))(2).
الحديث التاسع : عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل ، ألا إن سلعة الله غالية ، ألا إن سلعة الله الجنة ))(3) .
(ب) الآثار عن الصحابة والتابعين : 1ـ عن الضحاك قال:((رأى أبوبكر الصديق طيراً واقعاً على شجرة، فقال:طوبى لك يا طير! والله لوددت أني كنت مثلك ، تقع على الشجرة، وتأكل من الثمر ، ثم تطير ، وليس عليك حساب ولا عذاب ))(4) .
2ـ عن سليمان بن يسار، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين حضرته
الوفاة ، قال له المغيرة بن شعبة : هنيئاً لك يا أمير المؤمنين الجنة ، فقال:يا ابن أم المغيرة وما يدريك ؟ والذي نفسي بيده لو كان لي ما بين المشرق إلى المغرب لافتديت به من هول المطلع(5) .
__________
(1) البخاري في الرقاق ( 6527 ) ، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها ( 2859 ) .
(2) البخاري في الرقاق [ ( 11 / 237 ) ( 6416 ) فتح ] .
(3) الترمذي في صفة القيامة ( 2452 ) ، وقال : حسن غريب ، وهو في صحيح سنن
الترمذي ( 1993 ) .
(4) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 259 ) .
(5) وصايا العلماء للحافظ الربعي . ت مصطفى عبدالقادر عطا ص47 .(1/175)
3ـ وهذا عثمان بن عفان رضي الله عنه كان إذا وقف على القبر يبكي حتى يبل لحيته ، ويقول:(( لو أنني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتهما يؤمر بي لاخترت أن أكون رماداً قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير))(1)
4 ـ عن أبي صالح قال :قال معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه لضرار ابن ضمرة ؛صف لي عليّاً ، فقال : أو تعفني يا أمير المؤمنين ، قال : بل تصفه لي ، قال: أو تعفني ، قال: لا أعفيك ، قال : أما إذ لابد ، فإنه والله كان بعيد المدى شديد القوى ، يقول فصلاً ، ويحكم عدلاً ، يتفجر العلم من جوانبه ، وتنطق الحكمة من نواحيه ، يستوحش من الدنيا وزهرتها ، ويستأنس بالليل وظلمته ، كان والله غزير الدمعة ، طويل الفكرة ، يقلب كفه، ويخاطب نفسه ، يعجبه من اللباس ما خشن ، ومن الطعام ما جشب، ( أي ما غلظ أو ما كان بلا أدم ) كان والله كأحدنا؛ يجيبنا إذا سألناه ، ويبتدينا إذا أتيناه ، ويأتينا إذا دعوناه ، ونحن والله مع تقريبه لنا وقربه منا لا نكلمه هيبة، ولا نبتديه لعظمته ، فإن تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، يعظم أهل الدين ، ويحب المساكين ، لا يطمع القوي في باطله ، ولا ييأس الضعيف من عدله ، فأشهد بالله لرأيته في بعض مواقفه ، وقد أرخى الليل سدوله ، وغارت نجومه ، وقد مَثُل في محرابه قابضاً على لحيته ، يتململ تململ السليم ـ يعني القريص ـ ويبكي بكاء الحزين ،فكأني أسمعه وهو يقول : يا دنيا يا دنيا أبي تعرضت ، أم لي تشوقت ، هيهات هيهات ، غري غيري ، قد بتتك ثلاثًا ، لا رجعة لي فيك ، فعمرك قصير ، وعيشك حقير ، وخطرك كبير ، آه من قل الزاد ، وبعد السفر ، ووحشة الطريق .
__________
(1) الجواب الكافي ص59 .(1/176)
قال : فذرفت دموع معاوية رضي الله عنه ، فما يملكها ،وهو ينشفها بكمه ، وقد اختنق القوم بالبكاء.ثم قال معاوية : رحم الله أبا الحسن ، كان والله كذلك ، فكيف حزنك عليه يا ضرار ؟ قال :حزن من ذُبِحَ ولدها في حجرها ، فلا ترقأ عبرتها ، ولا تسكن حسرتها(1).
5 ـ عن عبادة بن محمد بن عبادة بن الصامت ، قال : ((لما حضرت عبادة بن الصامت الوفاة قال: أخرجوا فراشي إلى الصحن ـ يعني إلى الدار ـ ثم اجمعوا لي مواليّ ، وخدمي ، وجيراني ، ومن كان يدخل عليَّ. فجمعوا له ، فقال : إن يومي هذا لا أراه إلا آخر يوم ىأتي علي من الدنيا ، وأول ليلة من الآخرة ، وإنه لا أدري لعله قد فرط مني إليكم بيدي أو بلساني شيء ،وهو والذي نفس عبادة بيده ، القصاص يوم القيامة ، وأُحَرّج على أحد منكم في نفسه شيء من ذلك إلا اقتص مني قبل أن تخرج نفسي ، فقالوا : بل كنت والداً ، وكنت مؤدباً . قال : وما قال لخادم قط سوءاً ، أغفرتم لي ما كان من ذلك ؟ قالوا :نعم ، فقال : اللهم اشهد ))(2) .
6ـ عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((أنتم أكثر صياماً وأكثر صلاة وأكثر اجتهاداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وهم كانوا خيراً منكم، قالوا : لِمَ يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة ))(3) .
7 ـ عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال ، قال:قال ابن مسعود : (( أغمي على حذيفة أول الليل ، ثم أفاق ، فقال : أي الليل هذا يا ابن مسعود ؟ فقلت : السحر الأكبر الأعلى . فقال :عائذ بالله من جهنم ـ يقول ذلك مرتين أو ثلاثاً ـ ابتاعوا لي ثوبين ، ولا تغالوا فيهما ، فإن صاحبكم إنْ يُرضى عنه يكن خيراً منهما ،وإلا يسلبهما سلباً سريعاً ))(4)
__________
(1) غذاء الألباب للسفاريني ( 2 / 554 ) .
(2) وصايا العلماء ص65 .
(3) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 295 ) .
(4) وصايا العلماء ص47 .(1/177)
8 ـ عن همام قال : (( لما حضر أبا هريرة الموتُ جعل يبكي ، قيل له : ما يبكيك يا أبا هريرة ؟ قال : قلة الزاد وبُعد المفازة ، وعقبة هبوطها الجنة أو النار ))(1) .
9 ـ عن قيس ، أن عبد الله بن رواحة بكى ؛ فبكت امرأته،فقال : ما يبكيك؟ قالت : رأيتك تبكي فبكيت ، فقال :(( إني أنبئت أني وارد ، ولم أنبأ أني صادر ))(2) .
10 ـ عن الحسن ، أن رجلاً من الصدر الأول حضره الموت فجعل يبكي، فقيل له:ما يبكيك ؟ فقال : (( أما والله ما أبكي على شيء تركته بعدي إلا ثلاث خصال : ظمأ الهاجرة في يوم بعيد ما بين الطرفين، أو ليلة أبيت فيها أراوح بين جبهتي وقدمي ، أو غدوة وروحة في سبيل الله عز وجل ))(3) .
11 ـ عن ابن شماسة المهري ، قال: حضرنا عمرو بن العاص وهو في سياقة الموت ، فبكى طويلاً وحول وجهه إلى الجدار. فجعل ابنه يقول: يا أبتاه أما بَشَّرَكَ رسول الله لله بكذا ؟ أما بَشَّرَكَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا ؟ قال : فأقبل بوجهه ، فقال: إن أفضل ما نُعِدُّ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. إني قد كنت على أطباق ثلاث؛لقد رأيتني وما أحد أشد بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منِّي ، ولا أحب إليَّ أن أكون قد استمكنت منه فقتلته ، فلو مت على تلك الحال لكنت من أهل النار .
__________
(1) وصايا العلماء ص82 .
(2) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 357 ) .
(3) وصايا العلماء ص 93 .(1/178)
فلما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه. قال : فقبضتُ يدي. قال : ((مالك يا عمرو؟ )) قال : قلت : أردت أن أشترط. قال : (( تشترط بماذا ؟ )) قلت : أن يغفر لي. قال : (( أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله ؟ وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها ؟ وأن الحج يهدم ما كان قبله ؟ )) وما كان أحدٌ أحب إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أجل في عيني منه ، وما كنت أُطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛لأني لم أكن أملأ عيني منه،ولو مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة .
ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها ، فإذا أنا مت ، فلا تصحبني نائحة ولانارٌ ، فإذا دفنتموني فشنوا علي التراب شناً ، ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور ، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم ، وأنظر ماذا أراجع به رُسُل ربي ))(1) .
12 ـ وأخرج ابن سعد، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، قال : (( لوددت أني هذه السارية ))(2) .
13 ـ وعن زياد بن ماهك قال : كان شداد بن أوس يقول : ((إنكم لن تروا من الخير إلا أسبابه ، ولن تروا من الشر إلا أسبابه ، الخير كله بحذافيره في الجنة ، والشر بحذافيره في النار ،وإن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، والآخرة وعد صادق ، يحكم فيها ملك قاهر ، ولكلٍ بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ، ولا تكونوا من أبناء الدنيا ))(3).
14 ـ وأخرج أبو نعيم عن شداد بن أوس الأنصاري رضي الله عنه أنه كان إذا دخل الفراش يتقلب على فراشه ، لا يأتيه النوم فيقول : (( اللهم إن النار أذهبت مني النوم ، فيقوم يصلي حتى يصبح ))(4).
__________
(1) صحيح مسلم ، كتاب الإيمان ـ باب كون الإسلام يهدم ما قبله ( 121 ) .
(2) طبقات ابن سعد ( 4 / 12 ) .
(3) سير أعلام النبلاء ( 1 / 709 ) .
(4) الحلية ( 1 / 264 ) .(1/179)
15 ـ عن عبد السلام مولى مسلمة بن عبد الملك ، قال : (( بكى عمر بن عبد العزيز ؛ فبكت فاطمة ، فبكى أهل الدار ، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء . فلما تجلَّى عنهم العَبْرُ ، قالت فاطمة :بأبي أنت يا أمير المؤمنين!ممَّ بكيت؟ قال: ذكرت يا فاطمة منصرف القوم من بين يدي الله: فريق في الجنة ،وفريق في السعير ، ثم صرخ وغُشي عليه))(1) .
16 ـ عن محمد بن فروخ من ولد أبي نضرة ، قال : (( زارني رياح القيسي ، فبكى صبيٌّ لنا من الليل ، فبكى رياح لبكائه حتى أصبح ،
فذاكرتُه يوماً ذلك ، فقال : ذكرت ببكائه أهل النار ، ليس لهم نصير، ثم بكى ))(2) .
17 ـ قال محمد بن واسع رحمه الله تعالى : (( إذا رأيت في الجنة رجلاً يبكي ، ألست تعجب من بكائه ؟ قيل :بلى ، قال : فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه ))(3) .
18 ـ قال الأعمش : (( إن كنا لنشهد الجنازة ؛ فما ندري من نعزي من حزن القوم ))(4) .
19 ـ عن سرار أبي عبيدة ، قال: قالت لي امرأة عطاء السليمي: عاتب عطاء في كثرة البكاء،فعاتبته، فقال لي :((يا سرار، كيف تعاتبني في شيء ليس هو إليَّ ؟! إني إذا ذكرتُ أهل النار وما ينزل بهم من عذاب الله وعقابه،تمثلت لي نفسي بهم، فكيف بنفس تُغَلُّ يدُها إلى عنقها ، وتُسحب إلى النار ، ألا تصيح وتبكي ؟ وكيف لنفس تُعَذَّب ألا تبكي ؟ ويحك يا سرار!ما أقل غَنَاء البكاء عن أهله إن لم يرحمهم الله!قال: فسكتُّ عنه))(5)
__________
(1) الحلية ( 5 / 269 ) .
(2) الرقة والبكاء لابن أبي الدنيا ص200 .
(3) إحياء علوم الدين ( 3 / 137 ) .
(4) الزهد لأحمد ص 365 .
(5) صفة الصفوة ( 3 / 327 ) .(1/180)
والآثار في خوف السلف واستعدادهم للآخرة كثيرة جدّاً،فأين نحن منهم؟ نعم؛ أين نحن من حال سلفنا الصالح رحمهم الله تعالى مع أنهم يتميزون عنا بقوة الإيمان ،وكثرة الأعمال الصالحة ، وقلة الذنوب ، وشدة خشيتهم لله تعالى ، كما أن زمانهم يتميز عن زماننا بصلاح أهله ، وبكون الدنيا لم تنفتح فيه انفتاحها علينا اليوم .
فاللائق بنا والحالة هذه أن نكون أشد خوفاً منهم ،وأكثر حرصاً، وأشد حذراً من الدنيا ،التي أخذت زخرفها وازينت .ولكن إلى الله نشكو حالنا، ونسأله سبحانه أن يوقظنا من غفلتنا ،وأن يرزقنا الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور؛ فالعاقل بحق ، والذي يحب نفسه بحق هو الذي يحاسب نفسه،ويحقرها ويسعى لفكاكها من عذاب الله عز وجل.
عن سفيان بن عيينة ، قال : (( كان الرجل من السلف يلقى الأخ من إخوانه،فيقول:يا هذا،اتق الله،وإن استطعت أن لا تسيء إلى من تحب فافعل،فقال له رجل يوماً :وهل يسيء الإنسان إلى من يحب ؟ قال:نعم، نفسك أعز الأنفس عليك ، فإذا عصيت فقد أسأت إلى نفسك ))(1) .
(( لقد عمل القرآن وأحاديث الرسول لله عملها في تربية الجماعة المسلمة؛ حتى أتت بالعجب العجاب! وحتى أنشأت مجموعة من الناس تتمثل فيهم الأمانة والورع ، كما لم يتمثل قط في مجموعة بشرية ، لقد كان المسلم يعيش في حقيقة الآخرة فعلاً ، وكانت الآخرة في حسه واقعاً ، فالآخرة كانت حقيقة يعيشها لا وعداً بعيداً ))(2) .
ويصف لنا الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى جانباً من حياة السلف من الأبرار المقتصدين والسابقين المقربين لعلنا نقتدي بهم ، ونحقر حالنا عندهم، وإن عجزنا عن اللحوق بهم فلا أقل من المحبة الصادقة لهم ، لعل الله سبحانه أن يحشرنا في زمرتهم . قال رحمه الله تعالى ( باختصار ) :
((
__________
(1) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ، تحقيق : عبدالله الشرقاوي ص88 .
(2) اليوم الآخر في ظلال القرآن ص187 .(1/181)
أما الأبرار المقتصدون فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله ، وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه ، فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة ،فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمره الله ، فإذا أدّى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار إلى حين تطلع الشمس ، فيركع الضحى، ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب.فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد ، فأدى فريضته كما أمر ، مكملاً لها بشرائطها وأركانها وسننها وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرب ، فينصرف من الصلاة ، وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثاراً تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها ،قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله ، ونفرته من كل قاطع يقطعه عن الله ، فهو مغموم مهموم كأنه في سجن حتى تحضر الصلاة ، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه ، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة .
هذا وهم في ذلك كله مراعون لحفظ السنن ، لا يخلّون منها بشيء ما أمكنهم، فيقصدون من الوضوء أكمله ، ومن الوقت أوله ، ومن الصفوف أولها عن يمين الإمام أو خلف ظهره ، ويأتون بعد الفريضة الأذكار المشروعة ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه .(1/182)
هذا دأبهم في كل فريضة،فإذا كان قبل غروب الشمس توفروا على أذكار المساء الواردة في السنة نظير أذكار الصباح الواردة في أول النهار لا يخلون بها أبداً ، فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب سبحانه التي قسمها بين عباده ، فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة،وهي كثيرة تبلغ نحواً من أربعين،فيأتون منها بما علموه وما يقدرون عليه فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم وهو يذكر الله، فهذا منامه عبادة وزيادة له في قربه من الله .
فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى ، ومع هذا فهو قائم بحقوق العباد من عيادة المرضى ، وتشييع الجنائز ، وإجابة الدعوة ، والمعاونة لهم بالجاه والبدن ، والنفس والمال ، وزيارتهم وتفقدهم ، وقائم بحقوق أهله وعياله، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نقله فيها الأمر ، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار ، ومحوه ومداواته بعمل صالح يزيل أثره ، فهذا وظيفته دائماً.
وأما السابقون المقربون فنستغفر الله الذي لا إله إلا هو أولاً من وصف حالهم وعدم الاتصاف به ، بل ما شممنا له رائحة ، ولكن محبة القوم تحمل على تعرف منزلتهم ، والعلم بها وإن كانت النفوس متخلفة منقطعة عن اللحاق بهم ، ففي معرفة حال القوم فوائد عديدة :
? منها: ألا يزال المتخلف المسكين مزرياً على نفسه ذامّاً لها .
? ومنها: ألا يزال منكسر القلب بين يدي ربه تعالى ذليلاً له حقيراً ، يشهد منازل السابقين ، وهو في زمرة المنقطعين ، ويشهد بضائع التجار وهو في رفقة المحرومين .
? ومنها: أنه عساه أن تنهض همته يوماً إلى التشبث والتعلق بساقة القوم ولو من بعيد .
? ومنها : أنه لعله أن يصدق في الرغبة واللجأ إلى من بيده الخير كله أن يلحقه بالقوم ويهيئه لأعمالهم فيصادف ساعة إجابة ، لا يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه .(1/183)
? ومنها : أن هذا العلم هو من أشرف علوم العباد ، وليس بعد علم التوحيد أشرف منه ،وهو لا يناسب إلا النفوس الشريفة ، ولا يناسب النفوس الدنيئة المهينة ، فإذا رأى نفسه تناسب هذا العلم تشتاق إليه وتحبه وتأنس بأقله فليبشر بالخير ، فقد أهل له ، فليقل لنفسه : يا نفس قد حصل لك شطر السعادة فاحرصي على الشطر الآخر؛ فإن السعادة في العلم بهذا الشأن والعمل به ، فقد قطعت نصف المسافة، فهلا تقطعين باقيها؛فتفوزين فوزاً عظيماً .
? ومنها : أن العلم بكل حال خير من الجهل ، فإذا كان اثنان ، أحدهما عالم بهذا الشأن غير موصوف به ولا قائم به ، وآخر جاهل به غير متصف به فهو خلو من الأمرين ، فلا ريب أن العالم به خير من الجاهل ، وإن كان العالم المتصف به خيراً منهما ، فينبغي أن يُعطى كل ذي حق حقه ، ويُنزل في مرتبته .
? ومنها:أنه إذا كان العلم بهذا الشأن همه ومطلوبه، فلابد أن ينال منه بحسب استعداده ولو لحظة ،ولو بارقة ،ولو أنه يحدث نفسه بالنهضة إليه.
? ومنها أنه لعله يجري منه على لسانه ما ينتفع به غيره بقصده أو بغير قصده ، والله لا يضيع مثقال ذرة ، فعسى أن يُرحم بذلك العامل.
و بالجملة ففوائد العلم بهذا الشأن لا تنحصر ، فلا ينبغي أن تصغى إلى من يثبطك عنه ،وتقول :إنه لا ينفع ، بل احذره ، واستعن بالله ، ولا تعجز ، ولكن لا تغترّ، وفرّق بين العلم والحال.
وإياك أن تظن أنك بمجرد علم هذا الشأن قد صرت من أهله ، هيهات ما أظهر الفرق بين العالم بوجوه الغنى وهو فقير وبين الغنى بالفعل، وبين العالم بأسباب الصحة وحدودها وهو سقيم وبين الصحيح بالفعل ، فاسمع الآن وصْف القوم ، وأحضر ذهنك لشأنهم العجيب وخطرهم الجليل ، فإن وجدت من نفسك حركة وهمّة إلى التشبه بهم فاحمد الله وادخل ؛ فالطريق واضح والباب مفتوح .
إذا أعْجَبَتْكَ خصال امرئ فكُنْهُ تكنُ مثل ما يُعْجبُك
فليس على الجود والمَكْرُما ت إذا جئتها حاجبٌ يحجُبُك(1/184)
فنبأ القوم عجيب! وأمرهم خفي إلا على من له مشاركة مع القوم ، فإنه يطلع من حالهم على ما يريه إياه القدر المشترك .
وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتألت قلوبهم من معرفة الله وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته؛ فسرت المحبة في أجزائهم ، فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب.
قد أنساهم حبه ذكر غيره ، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه ، قد فنوا بحبه عن حب من سواه ، وبذكره عن ذكر من سواه ، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه ، والتوكل عليه، والإنابة إليه ، والسكون إليه،والتذلل والانكسار بين يديه، عن تعلق ذلك منهم بغيره ،فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه ،واجتمع همه عليه متذكراً صفاته العلى وأسمائه الحسنى ، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، وقد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته ، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه ، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه ، وأسجده بين يديه خاضعاً خاشعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته . فيالها سجدة ما أشرفها من سجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء))(1).
* * *
من ثمرات اليقين بالنبأ العظيم
إن في اليقين باليوم الآخر وأنبائه العظيمة لآثاراً واضحة وثماراً طيبة ، لابد أن تظهر على قلب العبد ولسانه وجوارحه ، وعلى حياته كلها ، ولكن هذا اليقين وحده لا يكفي حتى ينضم إليه الصبر ومجاهدة الشهوات والعوائق؛لأن الواحد منا مع يقينه باليوم الآخر وأهواله إلا أن ثمرات هذا اليقين ضعيفة ، فلابد إذن من سبب لهذا الضعف .
__________
(1) طريق الهجرتين ص 193 ـ 197 .(1/185)
ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى، فيقول : (( فإن قلت : كيف يجتمع التصديق الجازم الذي لا شك فيه بالمعاد والجنة والنار ويتخلف العمل ؟وهل في الطباع البشرية أن يعلم العبد أنه مطلوب غداً إلى بين يدي بعض الملوك ليعاقبه أشد عقوبة، أو يكرمه أتم كرامة ، ويبيت ساهيًا غافلاً ولا يتذكر موقفه بين يدي الملك،ولا يستعد له، ولا يأخذ له أهبته؟
قيل : هذا لعمر الله سؤال صحيح وارد على أكثر الخلق ؛ فاجتماع هذين الأمرين من أعجب الأشياء ، وهذا التخلف له عدة أسباب :
أحدها:ضعف العلم ونقصان اليقين ، ومن ظن أن العلم لا يتفاوت ، فقوله من أفسد الأقوال وأبطلها .
وقد سأل إبراهيم الخليل ربه أن يريه إحياء الموتى عياناً بعد علمه بقدرة الرب على ذلك ؛ ليزداد طمأنينة ، ويصير المعلوم غيباً شهادة . وقد روى أحمد في مسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( ليس المخبَر كالمعايِن ))(1) .
فإذا اجمتع إلى ضعف العلم عدم استحضاره أو غيبته عن القلب في كثير من أوقاته أو أكثرها لاشتغاله بما يضاده ، وانضم إلى ذلك تغاضي الطبع ، وغلبات الهوى ، واستيلاء الشهوة ،وتسويل النفس،وغرور الشيطان ، واستبطاء الوعد ، وطول الأمل، ورقدة الغفلة ، وحب العاجلة، ورخص التأويل،وإلف العوائد ، فهناك لا يمسك الإيمان إلا الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا.وبهذا السبب يتفاوت الناس في الإيمان والأعمال ، حتى ينتهي إلى أدنى مثقال ذرة في القلب .
__________
(1) أحمد بنحوه ( 1 / 215 ، 271 ) ، والحاكم في المستدرك ـ كتاب التفسير ـ تفسير سورة الأعراف ( 2 / 321 ) ، وقال : صحيح على شرط الشيخين ، وصحح إسناده أحمد شاكر ( 1842 ) ، ولكنه بلفظ : (( ليس الخبر كالمعاينة )) .(1/186)
وجماع هذه الأسباب يرجع إلى ضعف البصيرة والصبر ، ولهذا مدح الله سبحانه أهل الصبر واليقين ، وجعلهم أئمة الدين ، فقال تعالى : (( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ )) [ السجدة:24 ] ))(1) اهـ.
وبعد هذه المقدمة التي لابد منها حول ثمرات اليقين بالنبأ العظيم نذكر ما تيسر من هذه الثمرات ، والله ولي التوفيق :
1 ـ الإخلاص لله عز وجل والمتابعة للرسول لله : إن الموقن بلقاء الله عز وجل يوم الفزع الأكبر لا تلقاه إلا حريصاً على أعماله،خائفاً من كل ما يحبطها من أنواع الشرك الأكبر ، أو الشرك الأصغر ؛ حيث إن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال ، فتصير هباءً منثوراً، والشرك الأصغر يحبط العمل الذي حصل فيه هذا النوع من الشرك كيسير الرياء والعجب والمنِّ وطلب الجاه والشرف في الدنيا ، فكلما كان العبد موقناً بلقاء ربه كان منه الحرص الشديد على ألا تضيع منه أعماله الصالحة في موقف القيامة ، يوم أن يكون في أشد الأوقات حاجة إليها ؛ ولذلك فهو يجاهد نفسه بحماية أعماله في الدنيا بالإخلاص فيه لله تعالى، لعل الله عز وجل أن ينفعه بها .
كما أن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل يجعل العبد في أعماله كلها متبعاً للرسول لله غير مبتدع ولا مبدل ؛ لأن الله عز وجل لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً صواباً ، قال تعالى : (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )) (الكهف:110).
2 ـ الحذر من الدنيا والزهد فيها والصبر على شدائدها وطمأنينة القلب وسلامته :
__________
(1) الجواب الكافي ص54 .(1/187)
إذا أكثر العبد ذكر الآخرة وكانت منه دائماً على بال ، فإن الزهد في الدنيا والحذر منها ومن فتنتها سيحلان في القلب ، وحينئذ لا يكترث بزهرتها ، ومن ثم لا يحزن على فواتها ، ولا يمدن عينيه إلى من متعهم الله بها ليفتنهم فيها .
وهذه الثمرة يتولد عنها بدورها ثمار أخرى مباركة طيبة؛منها القناعة، وسلامة القلب من الحرص والحسد والغل والشحناء ؛ لأن الذي يعيش بتفكيره في الآخرة وأنبائها العظيمة لا تهمه الدنيا الضيقة المحدودة ؛ إنها في نظره كالجحر الضيق ؛ فكيف يتنافس مع غيره أو يحسد غيره على جحر ضيق زائل وهو يعيش في هذا الأفق الواسع الرحب، أفق الآخرة والحياة الأبدية فيها . قال أبو الدرداء رضي الله عنه : (( من أكثر ذكر الموت قل فرحه وقل حسده ))(1) .كما يتولد أيضاً من هذا الشعور ، الراحة النفسية والسعادة القلبية وقوة الاحتمال والصبر على الشدائد والابتلاءات ، ذلك للرجاء فيما عند الله عز وجل من العوض والثواب ، وأنه مهما جاء من شدائد الدنيا فهي منقطعة ولها أجل ، فهو ينتظر الفرج ويرجو الثواب الذي لا ينقطع يوم الرجوع إلى الله عز وجل ، قال تعالى : (( إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ )) (النساء:104) .
__________
(1) الزيادة على الزهد لابن المبارك ص37 .(1/188)
وما إن يفقد القلب هذه المعاني حتى يخيّم الهم والتعاسة عليه ، ومن هنا ينشأ القلق والانزعاج والهم والحزن ، أما ذاك الذي عرف الدنيا على حقيقتها وامتلأ قلبه بهم الآخرة وأنبائها ؛ فإن نفسه لا تذهب على الدنيا حسرات ، ولا تنقطع نفسه لهثاً في طلبها ، ولا يأكل قلبه الغل والحسد والتنافس فيها ، ولا يقل صبره ولا يجزع قلبه عند المحن والشدائد ،ومهما حرم في هذه الدنيا الفانية فهو يعلم أن لله عز وجل في ذلك حكمة وهو يرجو العوض يوم القيامة،قال تعالى: ((أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ )) (الزخرف: 32 ـ 35 ) .
قال ابن كثير رحمه الله تعالى : (( أي : لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة أن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه . فيجتمعوا على الكفر لأجل المال .هذا معنى قول ابن عباس والحسن وقتادة والسدي وغيرهم))(1) اهـ.
فنظر المسلم الموقن بثواب الله عز وجل إلى الدنيا نظر المرتفع المستعلي عليها الراجي ثواب الله عز وجل ونعيمه المقيم يوم يلقاه ، وما شيء مثل هذا اليقين ، يريح العبد المؤمن ويُضفي على قلبه السعادة والسكينة والراحة والصبر وقوة الاحتمال .
__________
(1) تفسير ابن كثير عند الآية ( 33 ) من سورة الزخرف .(1/189)
يقول سيّد قطب رحمه الله : (( إن الذي يعيش بلا عقيدة في الآخرة يعيش في عذاب نفسي لا أمل له ولا رجاء ولا عدل ولا جزاء ، ولا عوض عما يلقاه في الحياة .
وفي الحياة مواقف وابتلاءات لا يقوى الإنسان على مواجهتها إلا وفي نفسه رجاء الآخرة ، وثوابها للمحسن وعقابها للمسيء ، وإلا ابتغاء وجه الله والتطلع إلى رضاه في ذلك العالم الآخر ، الذي لا تضيع فيه صغيرة ولا كبيرة ، والذي يُحرم هذه النافذة المضيئة الندية المريحة يعيش ولا ريب في العذاب كما يعيش في الضلال . يعيش فيهما وهو حي على هذه الأرض قبل أن يلقى عذاب الآخرة جزاء على هذا العذاب الذي لقيه في دنياه. إن الاعتقاد بالآخرة رحمة ونعمة يهبها الله لمن يستحقها من عباده ؛ بإخلاص القلب ، وتحري الحق ، والرغبة في الهدى ))(1) اهـ.
كما أن الموقن بلقاء ربه عز وجل لا تلقاه عند النعماء إلا شاكراً لربه سالماً من الأشر والبطر والطغيان عند انفتاح الدنيا عليه ؛ لأنه يشعر بالابتلاء في السراء كابتلائه في الضراء ، فيشكر في السراء ، كما صبر على بلائه في الضراء .
3 ـ التزود بالأعمال الصالحة وأنواع القربات واجتناب المعاصي والمبادرة بالتوبة والاستغفار : سبق أن مر بنا في مقدمة الحديث عن الثمرات أنه لا يمكن أن يوجد اليقين بالآخرة ، وما أعد الله فيها من النعيم لأوليائه ومن العذاب لأعدائه ، ثم مع ذلك يتخلف العمل الصالح الذي يثمر رضا الله عز وجل وجنته . ولو وجد تقصير في العمل الصالح أو جرأة على ما يسخط الله سبحانه فإنما يدل هذا إما على ضعف في اليقين والبصيرة،أو ضعف في الصبر والإرادة ، أما من رجا النعيم في الدار الآخرة فلابد أن يعد لذلك عدته . يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : (( ومما ينبغي أن من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
أحدها: محبة ما يرجوه.
الثاني : خوفه من فواته .
الثالث : سعيه في تحصيله بحسب الإمكان .
__________
(1) اليوم الآخر في ظلال القرآن ص16 .(1/190)
وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني ، والرجاء شيء والأماني شيء آخر ؛ فكل راج خائف،والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة الفوات .
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة ))(1) .
وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة ، فكذلك جعل الخوف لأهل الأعمال الصالحة ؛ فعلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقترن به العمل . قال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)) (المؤمنون:57 ـ 61) .
وقد روى الترمذي في جامعه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله لله عن هذه الآية ، فقلت : أهم الذين يشربون الخمر ويزنون ويسرقون ؟ فقال : (( لا يا ابنة الصديق ، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون ويخافون من أن لايتقبل منهم أولئك يسارعون في الخيرات ))(2)
وقد روي من حديث أبي هريرة أيضاً .
والله سبحانه وصف أهل السعادة بالإحسان مع الخوف ، ووصف الأشقياء بالإساءة مع الأمن ))(3) اهـ.
وقال تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ )) (البقرة : 218) .
__________
(1) مر ذكره وتخريجه وهو الحديث التاسع ص214 .
(2) رواه أحمد ( 6 / 159 ) ، والترمذي ( كتاب التفسير ) باب تفسير المؤمنون ،
الحديث رقم 3175 .
(3) الجواب الكافي ص57 ، 58 .(1/191)
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (( فتأمل كيف جعل رجاءهم إتيانهم بهذه الطاعات ؟وقال المغرورون:إن المفرطين المضيعين لحقوق الله، المعطلين لأوامره ،الباغين المتجرئين على محارمه،أولئك يرجون رحمة الله))(1) اهـ.
وقد وصف الله عز وجل الذين يحذرون الآخرة بأنهم من القانتين العابدين فقال تعالى : (( أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ )) (الزمر:9)
وقد جاء في القرآن الكريم آيات كثيرة تربط بين فعل الواجبات وترك المحرمات وبين الإيمان باليوم الآخر، سواء ما كان منها بين العبد وربه أو بين العبد والخلق ، قال تعالى : (( إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ* إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ* وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ)) ( المعارج : 19- 35) .
__________
(1) الجواب الكافي ص56 .(1/192)
ولما ذكر الله عز وجل أحكام الطلاق والرجعة قال بعدها: (( ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر )) (الطلاق:2) .
فالحاصل أنه كلما كان العبد موقناً بيوم الحساب،متذكراً له دائماً ، شاعراً برقابة الله عز وجل له في السر والعلن ، كلما كان أكثر استعداداً لذلك اليوم بالعمل الصالح مجتنباً لكل ما يسخط الله عز وجل،مبادراً إلى التوبة مما يقع فيه من الذنوب والعصيان.
والمتأمل لحال السلف الصالح ويقينهم بذلك اليوم يرى كثرة أعمالهم الصالحة واجتنابهم لكل ما يغضب الله عز وجل،ومع ذلك فهم يخافون أن تُردّ أعمالهم،ويحقرون أنفسهم مع ما عندهم من الاجتهاد في طاعة الله عز وجل وتجنبهم لمعاصيه ، وإذا وقعوا في ذنب بادروا إلى التوبة الصادقة والإنابة إلى الله عز وجل .
4 ـ الدعوة إلى الله عز وجل والجهاد في سبيله : وهذا يدخل في الثمرة السابقة ؛ حيث إنه من أفضل القربات والأعمال الصالحة ، وقد أفردته هنا كثمرة مستقلة من ثمار اليقين باليوم الآخر ؛ وذلك لما يلي :
أ ـ فضل الجهاد والدعوة إلى الله سبحانه،وأثرهما في إنقاذ الناس بإذن ربهم من الظلمات إلى النور ، ولذلك كان من أحب الأعمال إلى الله عز وجل ، قال تعالى : (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) (فصلت:33)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : أي الناس أفضل؟ فقال : (( رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه)) ، قال: ثم من؟ قال: (( مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه، ويدع الناس من شره ))(1) .
__________
(1) البخاري / ك الجهاد ( 2786 ) . ومسلم / ك الإمارة ( 1888 ) .(1/193)
ب ـ وصف الرسولصلى الله عليه وسلم للجهاد بأنه ذروة سنام الإسلام ، ويوضح شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله تعالى ـ معنى كون الجهاد ذروة سنام الإسلام، فيقول ( باختصار ) : (( .. ولهذا كان الجهاد سنام العمل ، وانتظم سنام جميع الأحوال الشريفة ، ففيه سنام المحبة ، كما في قوله : (( فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ )) (المائدة:54) . وفيه سنام التوكل وسنام الصبر ؛ فإن المجاهد أحوج الناس إلى الصبر والتوكل ؛ ولهذا قال تعالى : (( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ* الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) (النحل:41 ـ 42) .
وقال تعالى : (( قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ )) (لأعراف:128) .
وفي الجهاد أيضاً : حقيقة الزهد في الحياة الدنيا ، وفي الدار الدنيا. وفيه أيضاً حقيقة الإخلاص ، فإن الكلام فيمن يجاهد في سبيل الله ، لا في سبيل الرياسة ، ولا في سبيل المال ،ولا في سبيل الحمية ، وهذا لا يكون إلا لمن قاتل ليكون الدين كله لله ، ولتكون كلمة الله هي العليا.وأعظم مراتب الإخلاص تسليم النفس والمال للمعبود ، كما قال تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ )) (التوبة:111).(1/194)
و ( الجنة ) : اسم للدار التي حوت كل نعيم ؛ أعلاه النظر إلى الله ، إلى ما دون ذلك مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، مما قد نعرفه وقد لانعرفه ))(1) اهـ.
جـ ـ في الحديث عن الجهاد في سبيل الله عز وجل ومحاربة الفساد وتعبيد الناس لرب العالمين أكبر رد على الذين يرون أن التعلق باليوم الآخر، والاستعداد له يعني اعتزال الناس وترك الدنيا لأهلها ، والاشتغال بالنفس وعيوبها ، وترك الحياة يأسن فيها أهلها .نعم، هذا ما يراه بعض المتصوفة وأصحاب الفهم المنحرف لحقيقة الدنيا والآخرة .
إنها النظرة السلبية لحقيقة الآخرة ، وإلا فالدنيا مزرعة الآخرة ، وهؤلاء هم سلفنا الصالح رضوان الله عليهم ، أزهد الناس في الدنيا ، وأكثرهم إنابة إلى الله وذكراً للآخرة؛ولكنهم حيث علمهم رسول اللهصلى الله عليه وسلم بقوله وفعله رأوا أن من أكبر الاستعداد للآخرة وأفضل الأعمال المقربة إلى الله عز وجل الجهاد في سبيله والدعوة إليه سبحانه وأن من اليقين بالآخرة الشفقة على الناس ورحمتهم،وعدم تركهم لأهل الشر والطغيان يفسدون عليهم دينهم؛ فيشقون في الدنيا والآخرة ؛ولذلك شرع الجهاد في سبيل الله عز وجل ؛حتى تكون كلمة الله هي العليا .
(( والذين يفترون على عقيدة الآخرة فيقولون : إنها تدعو الناس إلى السلبية في الحياة الدنيا ، وإلى إهمال هذه الحياة ،وتركها بلا جهد لتحسينها وإصلاحها ، وإلى تركها للطغاة والمفسدين تطلعاً إلى نعيم الآخرة .. الذين يفترون هذا الافتراء على عقيدة الآخرة يضيفون إلى الافتراء الجهالة ؛ فهم يخلطون بين عقيدة الآخرة ـ كما هي في التصورات الكنسية ، وعقيدة الآخرة كما هي في دين الله القويم .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 28 / 441 ـ 443 ) .(1/195)
فالدنيا ـ في التصور الإسلامي ـ هي مزرعة الآخرة والجهاد في الحياة الدنيا لإصلاح هذه الحياة ، ودفع الشر والفساد عنها ، ورد الاعتداء عن سلطان الله فيها ، ودفع الطواغيت وتحقيق العدل والخير للناس جميعاً ، كل أولئك هو زاد الآخرة ؛ وهو الذي يفتح للمجاهدين أبواب الجنة ، ويعوضهم عما فقدوا في صراع الباطل ، وما أصابهم من الأذى.
إن الناس إذا كانوا في فترات من الزمان يعيشون سلبيين ، ويدعون الفساد والشر والظلم والطغيان والتخلف والجهالة تغمر حياتهم الدنيا مع ادعائهم الإسلام ـ فإنما هم يصنعون ذلك كله أو بعضه؛لأن تصورهم للإسلام قد فسد وانحرف ؛ ولأن يقينهم في الآخرة قد تزعزع وضعف!لا لأنهم يدينون بحقيقة هذا الدين ، ويستيقنون من لقاء الله في الآخرة ، فما يستيقن أحد من لقاء الله في الآخرة وهو يعي حقيقة هذا الدين ، ثم يعيش في هذه الحياة سلبيّاً أو متخلفاً أو راضياً بالشر والفساد والطغيان إنما يزاول المسلم هذه الحياة الدنيا ، وهو يشعر أنه أكبر منها وأعلى، ويستمتع بطيباتها أو يزهد فيها وهو يعلم أنها حلال في الدنيا خالصة له يوم القيامة ، ويجاهد لترقية هذه الحياة وتسخير طاقاتها وهو يعرف أن هذا واجب الخلافة فيها، ويكافح الشر والفساد والظلم محتملاً الأذى والتضحية حتى الشهادة، وهو إنما يقدم لنفسه في الآخرة ..إنه يعلم من دينه أن الدنيا مزرعة الآخرة، وأن ليس هنالك طريق للآخرة لا يمر بالدنيا، وأن الدنيا صغيرة زهيدة،ولكنها من نعمة الله التي يجتاز منها إلى نعمة الله الكبرى ))(1)اهـ.
__________
(1) اليوم الآخر في ظلال القرآن ص6 .(1/196)
وصدق الله العظيم : (( لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ )) . (التوبة:44 ، 45)
5 ـ اجتناب الظلم بشتى صوره : وهذه الثمرة أيضاً تندرج تحت الثمرة الثالثة التي تمت الإشارة فيها إلى أثر اليقين باليوم الآخر في ترك معاصي الله عز وجل ، وكل ما نهى الله عنه ، ولكن إفرادها هنا في ثمرة مستقلة جاء لكثرة الظلم والشحناء بين المسلمين في عصرنا الحاضر .
وإنه لا شيء يمنع النفس من ظلم الغير في نفس أو مال أو عرض كاليقين بالرجوع إلى الله عز وجل وإعطاء كل ذي حق حقه ، وإنصاف المظلوم ممن ظلمه ، فإذا تذكر العبد هذا الموقف العصيب الرهيب وأنه لا يضيع عند الله شيء كما قال تعالى : (( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)) (الانبياء:47)
وقوله تعالى: (( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً)) ( طه : 111) .
إذا تذكر هذه المواقف واتعظ بهذه الآيات ، وأيقن بتحققها فلا شك سيمنعه ذلك من التهاون في حقوق الخلق والحذر من ظلمهم في دم أو مال أو عرض،خاصة وأن حقوق العباد مبنية على المشاحة والحرص على استيفاء الحق من الخصم ، وبالذات في يوم الهول الأعظم الذي يتمنى العبد أن يكون له مظلمة عند أمه وأبيه وصاحبته وبنيه فضلاً عن غيرهم من الأباعد، ومعلوم أن التقاضي هنالك ليس بالدينار والدرهم،ولكن بالحسنات والسيئات(1/197)
فياليتنا نتذكر دائماً يوم الفصل العظيم ، يوم يفصل الحكم العدل بين الناس ، ويقضي بين الخصماء بحكمه وهو أحكم الحاكمين ، ليتنا لا نغفل عن هذا المشهد العظيم؛حتى لا يجور بعضنا على بعض ، ولا يأكل بعضنا لحوم بعض، ولا نتكلم إلا بعلم وعدل ، إنه لا شيء يمنع من ذلك كله إلا الخوف من الله عز وجل،وخوف الوقوف بين يديه،واليقين الحق بأن ذلك كائن في يوم لا ريب فيه ، قال تعالى: (( إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ* إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ )) (الدخان:40 ـ 42) ،وقال عز وجل: (( إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ)) (النمل:78) ، وقال سبحانه : (( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ )) (الزمر: 30 ،31) .
يقول ميمون بن مهران : (( يا ابن آدم خفف عن ظهرك ؛ فإن ظهرك لا يطيق كل الذي تحمله عليه من ظلم هذا ، وأكل مال هذا ، وشتم هذا .. كل هذا تحمله على ظهرك فخفف )) .
6ـ حصول الأمن والاستقرار والألفة بين الناس بالحكم بشريعة الله:
إن مجتمعاً يسود بين أهله الإيمان بالله عز وجل واليقين بالآخرة والجزاء والحساب لاشك أن ذلك سيثمر السلام والمحبة بين أهله ؛ لأن تعظيم الله سبحانه وتعظيم الوقوف بين يديه سيجعل هذه النفوس لا ترضى بغير شرع الله عز وجل بديلاً ، ولا تقبل الاستسلام إلا لحكمه .(1/198)
وهذا بدوره سيضفي الأمن والأمان على مثل هذه المجتمعات؛لأن أهلها يخافون الله ويخافون يوم الفصل والجزاء ، فلا تحاكم إلا لشرع الله ، ولا تعامل إلا بأخلاق الإسلام الفاضلة فلا خيانة ولا غش ولا ظلم . ولا يعني هذا ألا يوجد في المجتمعات المسلمة من يظلم أو يخون أو يغش ، فهذا لم يسلم منه عصر النبوة ولا الخلافة الراشدة ، لكن هذه المعاصي تبقى فردية، يُؤدَّب أفرادها بحكم الله عز وجل وحدوده ، إذا لم يردعهم وازع الدين والخوف من الله .
وهذه بدورها ستكون محدودة وليست أصيلة ، أما عندما يقل الوازع الديني والخوف من الآخرة ، ويكون التحاكم إلى أهواء البشر وحكمهم فهذا هو البلاء العظيم والفساد الكبير؛حيث تداس القيم والحرمات ، ويأكل القوي الضعيف ، وبالتالي لا يأمن الناس على أديانهم ولا أنفسهم ولا أموالهم ولا أعراضهم، وكفى بذلك سبباً في عدم الأمن والاستقرار وانتشار الخوف واختلال حياة الناس .
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى:((إنه لابد أن يستيقن الناس أن الله محاسبهم على أساس شريعته هو،لا شريعة العباد ، وأنهم إن لم ينظموا حياتهم ، ويقيموا معاملاتهم ـ كما يقيموا شعائرهم وعباداتهم ـ وفق شريعة الله في الدنيا ، فإن هذا سيكون أول ما يحاسبون عليه بين يدي الله ))(1) .
ويقول أيضاً : (( حقّاً إنه لا يجتمع في قلب واحد الخوف من الآخرة والحياء من الله مع الإعراض عن الاحتكام إلى الله ، وتحكيمه في كل شأن من شئون الحياة ، فالدنيا ليست نهاية المطاف ولا نهاية الرحلة ، ووراءها الآخرة، والمتاع فيها هو المتاع ، فضلاً على أن المتاع فيها طويل كثير ، فهي خير (( خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى )) ، وفي الآخرة الجزاء الأوفى ))(2) .
__________
(1) اليوم الآخر في ظلال القرآن ص 161 .
(2) اليوم الآخر في ظلال القرآن ص69 .(1/199)
7 ـ تقصير الأمل وحفظ الوقت : إن من أخطر الأبواب التي يدخل منها الشيطان على العبد طول الأمل ، والأماني الخادعة التي تجعل صاحبها في غفلة شديدة عن الآخرة ، واغترار بزينة الحياة الدنيا ، وتضييع ساعات العمر النفيسة في اللهث وراءها حتى يأتي الأجل الذي يقطع هذه الآمال ، وتذهب النفس حسرات على ما فرطت في عمرها ، وأضاعات من أوقاتها ، ولكن اليقين بالرجوع إلى الله عز وجل والتذكر الدائم لقصر الحياة الدنيا، وأبدية الآخرة وبقائها ـ هو العلاج النافع لطول الأمل وضياع الأوقات .
يقول ابن قدامة ـ رحمه الله تعالى ـ : (( واعلم أن السبب في طول الأمل شيئان :
أحدهما: حب الدنيا .
والثاني : الجهل .
أما حب الدنيا ؛ فإن الإنسان إذا أنس بها وبشهواتها ولذاتها وعلائقها ، ثقل على قلبه مفارقتها ، فامتنع قلبه من الفكر في الموت ، الذي هو سبب مفارقتها ، وكل من كره شيئاً دفعه عن نفسه، والإنسان مشغول بالأماني الباطلة ، فيمني نفسه أبداً بما يوافق مراده من البقاء في الدنيا ، وما يحتاج إليه من مال وأهل ومسكن وأصدقاء وسائر أسباب الدنيا ، فيصير قلبه عاكفاً على هذا الفكر ، فيلهو عن ذكر الموت ، ولا يقدّر قربه .
فإن خطر له الموت في بعض الأحوال والحاجة إلى الاستعداد له ، سوَّف بذلك ووعد نفسه ، وقال : الأيام بين يديك إلى أن تكبر ثم تتوب، وإذا كبر قال : إلى أن يصير شيخاً ، وإن صار شيخاً ، قال : إلى أن يفرغ من بناء هذه الدار ، وعمارة هذه الضيعة ، أو يرجع من هذه السفرة ، فلا يزال يُسَوِّف ويؤخر ، ولا يحرص في إتمام شغل إلا ويتعلق بإتمام ذلك الشغل عشرة أشغال ، وهكذا على التدريج ، يؤخر يوماً بعد يوم ، ويشتغل بشغل بعد شغل ، إلى أن تختطفه المنية في وقت لا يحتسبه ، فتطول عند ذلك حسرته.(1/200)
السبب الثاني: الجهل ، وهو أن الإنسان يعول على شبابه ، ويستبعد قرب الموت مع الشباب أو ليس يتفكر المسكين في أن مشايخ بلده لوعدوا كانوا أقل من العشر؟وإنما قلوا لأن الموت في الشباب أكثر ،وإلى أن يموت شيخ قد يموت ألف صبي وشاب ،وقد يغتر بصحته ، ولا يدري أن الموت يأتي فجأة ، وإن استبعد ذلك ، فإن المرض يأتي فجأة، وإذا مرض لم يكن الموت بعيداً ، ولو تفكر وعلم أن الموت ليس له وقت مخصوص ، من صيف وشتاء وربيع وخريف وليل ونهار ، ولا هو مقيد بسن مخصوص ، من شاب وشيخ أو كهل أو غيره ، لعظم ذلك عنده واستعد للموت))(1)
ويقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى : ((فإذا علم الإنسان ـ وإن بالغ في الجد ـ بأن الموت يقطعه عن العمل ، عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته ، فإن كان له شيء من الدنيا، وقف وقفاً ، وغرس غرساً ، وأجرى نهراً ، ويسعى في تحصيل ذرية تذكر الله بعده ، فيكون الأجر له . أو أن يصنف كتاباً من العلم ، فإن تصنيفَ العالم ولدُه المخلّد ، وأن يكون عاملاً بالخير ، عالماً فيه ، فيُنقل من فعله ما يقتدي الغير به ))(2) اهـ.
__________
(1) مختصر منهاج القاصدين ص367 ، 368 .
(2) صيد الخاطر ص 20 .(1/201)
وعن قيمة الوقت وتفاوت أهل اليقظة فيه ، يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى :((سبحان من فاوت بين أهل اليقظة في قوة السير وضعفه ، وفي استغراق جميع الأوقات في العبادة وعدمه ،منهم من يكون سيره مستقيماً في ليله ونهاره ، ومع ذلك يتخير من الأعمال أفضلها وأكملها ، ولا ينزل من فاضلها إلى مفضولها ،إلا لمصلحة تقترن بالمفضول ،توجب أن يساوي العمل الفاضل ، ويزيد عليه ، وقد يكون المباح في حق هذا عبادة لكمال إخلاصه ،ونيته بذلك المباح أن يجم به نفسه ،ويتقوى به على الخير ، فتراه يتنقل في مقامات العبودية في كل وقت بما يناسبه ويليق به ، لا فرق عنده بين العبادة المتعلقة بحقوق الله المحضة ، وبين العبادة المتعلقة بحقوق الخلق على اختلاف مراتبهم وأحوالهم .
ولقد ذكرت في هذا المقام كلاماً لبعض الشيوخ لما رأى كثرة المجتمعين ببعض أصحابه قال مؤدباً لهم مقوماً :يا مناخ البطالين. يريد أنهم يقطعون عليه وقته عن الخير ،وكلاماً أيضاً للشيخ أبي الفرج بن الجوزي في سياق الخبر عن نفسه بحفظه الوقت،وأنه رأى مما لابد منه أن ينتابه أناس للزيارة،وأنه لما رأى أن هذه الحال تقطع عليه وقته أعد للوقت الذي يجتمعون فيه إليه أشياء من أمور الخير لا تمنع من زيارتهم ، ولا تقطع عليه وقته ، مثل تقطيع الأوراق ، وصنع المداد ، وبري الأقلام التي لابد له منها لتصنيف العلوم النافعة ، وهي لا تمنع الحديث مع الناس والاستئناس بهم .(1/202)
فقلت : سبحان مَن مَنَّ على هؤلاء السادة بحفظ أوقاتهم ، وبقوة العزيمة والنشاط على الخيرولكن كل كمال يقبل التكميل والرقي إلى حالة أرفع منه فلو أن هؤلاء الأجلاء الفضلاء جعلوا اجتماعهم مع الناس للزيارة والدعوات وغيرها من المجالس العادية فرصة يغتنمون فيها إرشاد من اجتمع بهم إلى الخير والبحث في العلوم النافعة ، والأخلاق الجميلة ، والتذكر لآلاء الله ونعمه ، ونحو ذلك من المواضيع المناسبة لذلك الوقت ، ولذلك الاجتماع؛ بحسب أحوال الناس وطبقاتهم ، وأنهم وطَّنُوا أنفسهم لهذا الأمر، وتوسلوا بالعادات إلى العبادات ، وبرغبتهم إلى الاجتماع بهم إلى انتهاز الفرصة في إرشادهم ، لحصلوا بذلك خيراً كثيراً ، وربما زادتهم هذه الاجتماعات مقامات عالية ، وأحوالاً سامية مع ما في ذلك من النفع العظيم للعباد ؛لأنه ليس من شروط نفع العالم أن يرشد فقط المستعدِّين لطلب العلم من المتعلمين ، بل يكون مستعداً لإرشاد الخلق أجمعين بحسب أحوالهم واستعدادهم ، وعلمهم وجهلهم ، وإقبالهم وإعراضهم ، وأن يعامل كل حالة بما يليق بها من الدعوة إلى الخير والتسبب لفعله ، وتعطيل الشر وتقليله ، وأن يستعين الله على ذلك.
فمن كانت هذه حاله ، لم يتبرم باجتماعه بالخلق مهما كان حريصاً على حفظ وقته ؛ لأن التبرم والتثاقل إنما هو للحالة التي يراها العبد ضرراً عليه ، ومفوتة لمصالحه ، والله الموفق وحده لا شريك له ))(1)اهـ.
__________
(1) الفتاوى السعدية ص49 ـ 51 .(1/203)
8 ـ سلامة التفكير وانضباط الموازين وسمو الأخلاق : لا يستوي من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ويوقن بيوم الحساب والجزاء، ولا يغفل عنه ، لا يستوي هو ومن لا يؤمن بالآخرة أو يؤمن بها ولكنه في لهو وغفلة عنها ، إنهما لا يستويان أبداً لا في الدنيا ولا في الآخرة . أما في الآخرة فيوضحه قوله تعالى : (( لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ )) (الحشر:20) .
وأما في الحياة الدنيا، فلا يلتقي أبداً من يعلم أن له غاية عظيمة في هذه الحياة ، وأن مرده إلى الله عز وجل في يوم الجزاء والحساب والنشور مع من لا يعلم من هذه الحياة الدنيا إلا ظاهرها ، وأنها كل شيء عنده ، وهو عن الآخرة من الغافلين .
إنهما لا يلتقيان لا في التفكير ولا في الميزان ، الذي توزن به الأشياء والأحداث، ولا في الأحكام، وبالتالي فبقدر ما تسمو أخلاق الأول وتعلو همته لسمو منهجه وميزانه بقدر ما تسفل وترذل أخلاق الآخر لسفالة تصوره وفساده ميزانه . قال تعالى في وصف أهل الدنيا : (( يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ )) (الروم:7).
(((1/204)
ومن ثم لا يلتقي إنسان يؤمن بالآخرة ويحسب حسابها ، مع آخر يعيش لهذه الدنيا وحدها ، ولا ينتظر ما وراءها ، لا يلتقي هذا وذاك في تقدير أمر واحد من أمور هذه الحياة ، ولا قيمة واحدة من قيمها الكثيرة ، ولا يتفقان في حكم واحد على حادث أو حالة أو شأن من الشئون ، فلكل منهما ميزان ، ولكل منهما زاوية للنظر ، ولكل منهما ضوء يرى عليه الأشياء والأحداث والقيم والأحوال .. هذا يرى ظاهراً من الحياة الدنيا ، وذلك يدرك ما وراء الظاهر من روابط وسنن ، ونواميس شاملة للظاهر والباطن ،والغيب والشهادة ، والدنيا والآخرة ، والموت والحياة ، والماضي والحاضر والمستقبل ، وعالم الناس والعالم الأكبر الذي يشمل الأحياء وغير الأحياء ))(1) .
__________
(1) في ظلال القرآن عند الآية : ( 7 ) من سورة الروم .(1/205)
إن الإيمان بالحياة الآخرة واليقين بما فيها نعمة عظيمة لا يدركها إلا من رأى وسمع أحوال الغافلين عن الدار الآخرة ؛ حيث فساد الموازين ، واختلال المواقف ، وهبوط الأخلاق ، ولا يمكن أن يتوقع من أهل الدنيا الغافلين عن الآخرة إلا مثل هذا ،فهم لا يرون إلا هذه الحياة الدنيا ، فهم يتنافسون وينطلقون في جميع أمورهم من هذا الجحر الضيق فإن وزنوا أمورهم فبميزان الدنيا يزنون ، وإن اتخذوا مواقفهم وبنوا أحكامهم، فهم من هذه الدنيا ينطلقون ،وإن كان لديهم شيء من الأخلاق فهي بقدر ما يحقق لهم مصالحهم وشهواتهم فحسب ، أما ذلك المؤمن بربه والموقن بلقائه يوم يقوم الناس لرب العالمين ، فيختلف كل الاختلاف عن أهل الدنيا وموازينهم ، فهو يزن الأمور ، ويتخذ المواقف ، ويبني الأحكام انطلاقاً من كونه عبداً لله عز وجل مستسلماً لشرعه ،واقفاً عند حدوده ، ناظراً إلى الدنيا كما وصفها الله عز وجل ،وحذَّر منها ، وأنها مزرعة الآخرة ، وأن التفاضل فيها بالتقوى والعمل الصالح ، لا بالمال والجاه ،وبالتالي فهو صاحب الأخلاق العالية ، التي تلازمه في كل زمان ومكان ؛ لإيمانه برقابة الله عز وجل له في جميع الأحوال ، ورجوعه إليه يوم القيامة ، فهل يستويان مثلاً ؟ وأختم هذه الثمرة العظيمة بمثالين اثنين ، قصهما الله عز وجل علينا في كتابه الكريم يوضحان دور اليوم الآخر في سلامة الموازين .(1/206)
المثال الأول: قصة قارون مع قومه : قال تعالى : (( إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ * قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)). ( القصص : 76-80) .
يذكر الله سبحانه في هذه القصة صنفين من قوم قارون : الصنف الأول الذي يمثله قارون في عتوه واستكباره ، وركونه إلى الدنيا ،وغفلته عن الآخرة ، فكان ميزانه ميزان الدنيا الهابط السافل (( قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي )) فلم ينسب النعمة والعطاء إلى الله عز وجل،بل جحد ذلك ،وخرج على قومه فرحاً بطراً .وهذا هو شأن أهل الدنيا وموازينهم.
كما يتبع قارون في هذه المواقف الهابطة أولئك الذين انخدعوا بزينته وتمنوا مكانه ، فقالوا: (( لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ))؛ حيث جعلوا ميزان الحظ والنصيب هذه الدنيا الفانية .(1/207)
أما الصنف الثاني : فيمثل أهل الآخرة الذين صحت موازينهم ، وربطوها بنظرتهم لهذه الدنيا وفنائها ، وبالآخرة ودوامها ، وأنها أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ، فقالوا لقارون مقولتهم الكريمة: (( لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ...الآيات)) .
كما ظهر هذا الميزان النظيف في نصيحة أهل العلم من قوم قارون لمن اغتر بزينة قارون فقالوا لهم : (( وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)) .
المثال الثاني : قصة موسى لله مع سحرة فرعون : وقد قص الله سبحانه هذه القصة في أكثر من سورة من القرآن ؛ في سورة الأعراف وطه والشعراء.والشاهد منها ما ذكره سبحانه عن موقف السحرة قبل الإيمان بالله عز وجل والدار الآخرة،وموقفهم بعد إيمانهم بالله والدار الآخرة عندما ألقى موسى عليه السلام عصاه ورأوا الآيات الدالة على الإيمان بالله ورسوله، وقد ذكر الله عز وجل في كتابه موقفين لسحرة فرعون.
الموقف الأول قبل إيمانهم بالله والدار الآخرة ، فكانت موازينهم واهتماماتهم موازين الدنيا وزخرفها وفكرهم فيها وحدها . قال تعالى ـ عن حالتهم هذه ـ: (( فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ* قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)) (الشعراء:41 ـ 42) ، فهمهم قبل الإيمان المنصب والأجر ، هذا كل اهتماماتهم .(1/208)
أما بعد وضوح الحق وإيمانهم بالله سبحانه والدار الآخرة ، فكان لهم شأن آخر وميزان آخر ، ألا وهو ميزان الآخرة، والطمع في مغفرة الله والثواب الجزيل في جنات النعيم. قال تعالى عن موقفهم من فرعون عندما هددهم بالقتل والصلب بعد سجودهم لله تعالى: (( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )) (طه: 72 ، 73 ) .
9 ـ الفوز برضا الله سبحانه وجنته والنجاة من سخطه والنار: وهذه ثمرة الثمار ، وغاية الغايات ، ومسك الختام في مبحث الثمار ، قال تعالى : (( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ )) (آل عمران:185).
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند قوله تعالى : (( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ )) : (( أي حصل له الفوز العظيم بالنجاة من العذاب الأليم ، والوصول إلى جنات النعيم التي فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. ومفهوم الآية ، أن من لم يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة ، فإنه لم يفز ، بل قد شقي الشقاء الأبدي ، وابتلي بالعذاب السرمدي ، وفي هذه الآية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه ، وأن العاملين يجزون فيه بعض الجزاء مما عملوه ، ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه ))(1) اهـ.
__________
(1) تفسير السعدي عند الآية رقم ( 185 ) من سورة آل عمران .(1/209)
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، أنت المنان ، بديع السموات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل ، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ، ونسألك ألا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا ، يا حي يا قيوم ، يا أرحم الراحمين .
* * *
من الأسباب الجالبة لتذكر النبأ العظيموالاستعداد للآخرة
يكفي لتذكر النبأ العظيم وإنشاء همّ الآخرة في النفوس أن نتعرف على الثمار السابقة؛ ففيها الدافع القوي لمن وفقه الله عز وجل إلى الانتباه الدائم لرحلة الخلود الطويلة والتمهيد للمستقبل الأبدي السرمدي ، ومع ذلك فيحسن ذكر بعض الأسباب المعينة على تدارك زمن المهلة والانتباه من رقدة الغفلة ، فإذا انضم إلى ذلك صدق العزيمة وعلو الهمة نفعت بإذن الله عز وجل ، نسأله سبحانه أن ينفعنا بها . ومن هذه الأسباب ما يلي
1 ـ معرفة الله عز وجل وتوحيده والبصيرة في الدين : كلما كان العبد أعلم بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته وبأحكامه وشريعته وبالطرق الموصلة إلى رضاه،كلما كان أحرص على ما يقرب إلى الله سبحانه،وكلما كان أكثر استعداداً للآخرة،وكلما كان أعرف بما يرضي الله عز وجل فيفعله،وما يصده عن الله والدار الآخرة فيتجنبه ويحذره،وهذا من أعظم فوائد العلم الشرعي والبصيرة في الدين ، هذا إذا صاحب هذا العلم قوة في العمل والإرادة وعزيمة على ترجمة العلم إلى عمل.(1/210)
وفي هذا الأمر يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ(باختصار): ((السائر إلى الله والدار الآخرة،بل كل سائر إلى مقصد،لا يتم سيره ، ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية ، وقوة عملية.فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك ، فيقصدها سائراً فيها ، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل، فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة ، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتالف، ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره ، ويبصر بذلك النور أيضاً أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها؛فلا يضل عنها ، فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق،ومعاطبها وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية ؛ فإن السير هو عمل المسافر .
وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها ، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح ، وبقي عليه الشطر الآخر ، وهو أن يضع عصاه على عاتقه ، ويشمر مسافراً في الطريق ، قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة ، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى ، واستشعر القرب من المنزل ، فهانت عليه مشقة السفر.وكلما سكنت نفسه من كلال السير ، ومواصلة الشد والرحيل، وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول؛ فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة ، فهو يقول : يا نفس أبشري ، فقد قرب المنزل ، ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول ، فيحال بينك وبين منازل الأحبة ، فإن صبرت وواصلت المسير وصلت حميدة مسرورة جذلة، وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات ، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة ، فإن الدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة ، فالله الله لا تنقطعي في المفازة؛ فهو والله الهلاك والعطب لو كنت تعلمين.(1/211)
فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها ، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه ، ويكون ضعيفاً في القوة العملية يبصر الحقائق ، ولا يعمل بموجبها ، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها ، فهو فقيه ما لم يحضر العمل ، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف ، وفارقهم في العلم ، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم ، والمعصوم من عصمه الله، ولا قوة إلا بالله .
ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية ، وتكون أغلب القوتين عليه ، وتقتضي هذه السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والجد والتشمير في العمل ، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات ، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات ، فداء هذا من جهله ، وداء الأول فساد إرادته ، وضعف عقله. وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم ...
ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ، ورُجي له النفوذ وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته ، فإن القواطع كثيرة ، شأنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين ، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد ، والوقت كما قيل:سيف فإن قطعته وإلا قطعك. فإذا كان السير ضعيفاً والهمة ضعيفة والعلم بالطريق ضعيفاً والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة فإنه جهد البلاء ودرك الشقاء
وشماتة الأعداء ، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب ، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع.والله ولي التوفيق ))(1) اهـ.
__________
(1) طريق الهجرتين ص174 ـ 176 .(1/212)
2 ـ قراءة القرآن وتدبره والإكثار من ذكر الله تعالى وإدامته : قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ )) (يونس:57 ، 58) .
فالقرآن الكريم أكبر المواعظ ، وأنفعها للقلب ، وذلك لمن تدبره ووعاه ، قال سبحانه : (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ )) (قّ:37)
والذي لا يتعظ بمواعظ القرآن ؛ فإنه مريض القلب ، ومن باب أولى ألا يتعظ بغيره . فالإكثار من قراءة القرآن وتدبر معانيه ومواعظه العظيمة من أكبر الأسباب الجالبة لإنشاء هَمِّ الآخرة والاستعداد لها ؛ لأن القرآن الكريم لا تكاد تخلو صفحة من صفحاته من ذكر اليوم الآخر وما فيه من الأهوال العظيمة والحساب والجزاء والجنة والنار ، كما أنه يتضمن ذكر الدنيا وفنائها والتحذير منها .
والحاصل أن الحياة مع القرآن ومواعظه ووعده ووعيده يجعل قلب المؤمن في استعداد دائم متصل بهذا اليوم المشهود،كما يجعله حذراً من الدنيا وفتنتها ومتاعها الزائل.وإن مما يعين على تدبر القرآن والتأثر بمواعظه أن يكون ذلك في صلاة ، وبالذات في صلاة الليل الآخر ، قال تعالى : (( لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ )) (آل عمران:113) ، وقال تعالى : (( إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً )) (المزمل:6)(1/213)
ومما يلحق بالقرآن ،كثرة ذكر الله تعالى في الصباح والمساء ، وفي أحوال اليوم والليلة لما في ذلك من تطرية للقلوب وعلاج لقسوتها ، فإذا رق القلب بذكر الله تعالى أثرت فيه مواعظ الآخرة وامتلأ بحب الله عز وجل وما أعد لأوليائه في الآخرة ، وعكس ذلك القلب القاسي البعيد عن ذكر الله عز وجل.
روى ابن أبي الدنيا : أن رجلاً قال للحسن : يا أبا سعيد ، أشكو إليك قسوة قلبي ، فقال : (( ادنه من الذكر ))(1) .
يضاف إلى ذلك ما تشتمل عليه بعض الأذكار من ذكر للآخرة والمصير إليها والاستعاذة فيها من شرورها ومن عذاب النار ، وما فيها من سؤال الجنة ونعيمها ؛كل ذلك مما يذكر بالآخرة ، ويجعل العبد في منأى عن الغفلة والنسيان ما دام لسانه رطباً بذكر الله تعالى .
3 ـ الإكثار من ذكر الموت وزيارة القبور والمرضى :عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( أكثروا من ذكر هاذم اللذات: الموت))(2) ،وعن أبي هريرة أيضاً قال:قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : ((كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ؛ فإنها تذكركم الموت))(3). ففي الحديثين السابقين إشارة إلى أثر الموت وتذكره في الاستعداد للآخرة ، وعدم الركون إلى الدنيا ، وعدم الاغترار بلذاتها ومتعها ، فإنها زائلة عن قريب بهاذم اللذات ومفرق الجماعات .
ومما يذكر بالموت تشييع الجنائز وزيارة المقابر ، والسلام على الموتى ، والدعاء لهم ، ورؤية القبور المحفورة ، وتمثل الإنسان نفسه فيها ، وهو لا شك سيرقد فيها في يوم من الأيام .
__________
(1) الرقة والبكاء ص72 ، وكتاب الزهد للإمام أحمد ( 2 / 233 ) .
(2) رواه الترمذي في الزهد ( 2308 ) ، وقال : حسن غريب صحيح ، وصححه الألباني في المشكاة ( 1607 ) .
(3) أصله في مسلم / ك الجنائز ( 976 ) .(1/214)
كما أن في زيارة المرضى الذين أقعدهم المرض ، وقربهم من الآخرة مما يذكر أيضاً بالموت والاستعداد للآخرة بتدارك الصحة والعافية ، قبل أن يحال بين العبد وبين ذلك بالمرض أو الموت .
إنه لا شيء في الدنيا أفظع ولا أخطر من ساعة الاحتضار؛ولذلك فالحضور عند المحتضرين من أسباب رقة القلب وإنابته إلى الله والدار الآخرة.
ويصف ابن الجوزي ساعة الاحتضار فيقول :((من أظرف الأشياء إفاقة المحتضر عند موته ، فإنه ينتبه انتباهاً لا يوصف ، ويقلق قلقاً لا يحد ، ويتلهف على زمانه الماضي ، ويود لو تُرِكَ كي يتدارك ما فاته،ويصدق في توبته على مقدار يقينه بالموت،ويكاد يقتل نفسه قبل موتها بالأسف ، ولو وجدت ذرة من تلك الأحوال في أوان العافية حصل كل مقصود من العمل بالتقوى،فالعاقل من مثَّل تلك الساعة وعمل بمقتضى ذلك ))(1) .
4 ـ محاسبة النفس في تقصيرها والتفكر في حقيقة الدنيا وزوالها:
قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ )) (الحشر:18).
وقال سبحانه : (( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ )) (آل عمران:30) .
وعن ثابت بن الحجاج قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم وزنوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر (( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) ))(2).
__________
(1) صيد الخاطر 146 .
(2) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ، ت : عبدالله الشرقاوي ص33 ، وقال المحقق : سند الأثر صحيح .(1/215)
إن من أقوى الأسباب المعينة ـ بإذن الله تعالى ـ على تدارك العمر وتذكر الآخرة والاستعداد لها محاسبة النفس ومجاهدتها ، وتدارك العمر القصير قبل حلول الأجل ، والنظر في سرعة زوال الدنيا وفنائها ، والتفكر في الآخرة وبقائها .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى :
((من حين استقرت قدمه في هذه الدار ، فهو مسافر فيها إلى ربه ، ومدة
سفره هي عمره الذي كتب له ، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه ، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل ، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة ، حتى ينتهي السفر.
فالكيس الفطن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه ، فيهتم بقطعها سالماً غانماً ، فإذا قطعها جعل الأخرى نصب عينيه ، ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه ، ويمتد أمله ، ويحصر بالتسويف والوعد والتأخير والمطل ، بل يعدّ عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته ، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل ، فطوعت له نفسه الانقياد إلى التزود ، فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك، فلا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ، ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته ، فإذا طلع صبح الآخرة وانقشع ظلام الدنيا فحينئذ يحمد سراه وينجاب عنه كراه ، فما أحسن ما يستقبل يومه ، وقد لاح صباحه واستبان ))(1) .
__________
(1) طريق الهجرتين ص176 .(1/216)
ويوضح رحمه الله تعالى ما يعين على المحاسبة فيقول : ((ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً ، إذا صار الحساب إلى غيره ، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً ، ويعينه عليها أيضاً معرفته أن ربح هذه التجارة سُكنى الفردوس ، والنظر إلى وجه الرب سبحانه.وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى ، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم ؛ فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها ، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة ، لاحظ لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز ، لا يتناهى نعيمه أبد الآباد ، فإضاعة هذه الأنفاس ، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً ، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن ))(1)اهـ.
__________
(1) إغاثة اللهفان ( 1 / 80 ، 81 ) .(1/217)
ويتحدث الغزالي رحمه الله تعالى عن إطالة التفكير في الدنيا وفنائها وأثر ذلك في الاستعداد للآخرة ، فيقول : ((ولا يسلم الناس من أهوال يوم القيامة إلا من طال فيها فكره في الدنيا، فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد ،فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة ،ولست أعني بالخوف رقة كرقة النساء تدمع عيناك ويرق قلبك حال السماع ثم تنساه على القرب، وتعود إلى لهوك ولعبك، فما هذا من الخوف في شيء،بل من خاف شيئاً هرب منه، ومن رجا شيئاً طلبه ، فلا ينجيك إلا خوف يمنعك عن معاصي الله تعالى ويحثك على طاعته ، وأبعد من رقة النساء خوف الحمقى إذا سمعوا الأهوال سبق إلى ألسنتهم الاستعاذة ، فقال أحدهم:استعنت بالله،اللهم سلِّم سلِّم، وهم مع ذلك مصرون على المعاصي التي هي سبب هلاكهم ، فالشيطان يضحك من استعاذتهم،كما يضحك على من يقصده سبع ضار في صحراء ووراءه حصن ، فإذا رأى أنياب السبع وصولته من بُعد قال بلسانه : أعوذ بهذا الحصن الحصين ، وأستعين بشدة بنيانه وإحكام أركانه ! فيقول ذلك بلسانه وهو قاعد في مكانه ، فأنَّى يغني عنه ذلك من السبع ؟! وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول: لا إله إلا الله صادقاً ، ومعنى صدقه ألا يكون له مقصود سوى الله تعالى ،ولا معبود غيره ، ومن اتخذ إلهه هواه فهو بعيد من الصدق في توحيده وأمره خطر في نفسه))(1).
__________
(1) إحياء علوم الدين ( 4 / 652 ) .(1/218)
ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أثر النظر والتفكير في إيثار الآخرة على الدنيا ، فيقول : (( لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين : النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها ، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها ، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد ، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف ، فطالبها لا ينفك من همٍّ قبل حصولها ، وهمٍّ في حال الظفر بها، وغمٍّ وحزن بعد فواتها ، فهذا أحد النظرين .
النظر الثاني: في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بُدَّ ،ودوامها وبقائها ، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا ، فهي كما قال سبحانه : (( وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )) (الأعلى:17).
فهي خيرات كاملة دائمة،وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة.فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقلُ إيثاره ، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه ))(1) .
ويبقى في هذه الفقرة إتحاف القارئ بمناذج من محاسبة السلف لأنفسهم، وأخرى من حثهم على محاسبة النفس وما تنطوي عليه من تقصير وتفريط.
أ ـ عن إسحاق بن إبراهيم أنه سمع سفيان بن عيينة يقول :((قال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمرها وأشرب من أنهارها ، وأعانق أبكارها ، ثم مثّلت نفسي في النار آكل من زقومها ، وأشرب من صديدها ، وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : أي نفسي ، أي شيء تريدين ؟ قالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً ، قال:قلت : فأنت في الأمنية فاعملي ))(2) .
__________
(1) الفوائد ص177 .
(2) محاسبة النفس لابن الدنيا . ت :عبدالله الشرقاوي ، وقال المحقق عن الأثر : رجاله
ثقات ص39 .(1/219)
ب ـ وقال ميمون بن مهران : (( لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ؛ ولهذا قيل : النفس كالشريك الخوّان ، إن لم تحاسبه ذهب بمالك ))(1) .
جـ ـ وقال الحسن : ((المؤمن قوّام على نفسه ، يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة .
إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه ، فيقول: والله إني لأشتهيك ، وإنك
لمن حاجتي ، ولكن والله ما من صلة إليك ، هيهات هيهات . حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه ، فيقول: ما أردت إلى هذا ؟ مالي ولهذا ؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً .
إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن ، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ؛ يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه ، وفي بصره ، وفي لسانه ، وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله ))(2) .
د ـ وقال مالك بن دينار : (( رحم الله عبداً قال لنفسه :ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم زمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً ))(3) .
هـ ـ وهذه صورة من صور المحاسبة في حوار مع النفس الأمارة بالسوء يصورها الشيخ السعدي رحمه الله تعالى،فيقول على لسان الإيمان: ((ويحك يا نفس!إذا أردت أن تعصي الله فلا تستعيني بنعمه على معاصيه، فإن المعصية لا تتأتى إلا من القوة والعافية ، ومَن الذي أعطاها ؟ ولا تتحرك إلا من توالي الشبع ، ومَن الذي يسر الأقوات وآتاها ؟ ولا تكون في العادة إلا بخلوة من الخلق،ومَن الذي أسبل عليك حلمه وستره ؟ ولا تقع إلا بنظره إليك ، فإياك أن تستخفي باطلاعه وعلمه .
__________
(1) إغاثة اللهفان ( 1 / 79 ) .
(2) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 503 ) .
(3) إغاثة اللهفان ( 1 / 79 ) .(1/220)
أما تعلمين يا نفس أن من جاهد نفسه عن المعاصي وألزمها الخير، فقد سعى في سعادتها وقد أفلح من زكاها ، وأن من أطاع نفسه على ما تريد من الشر ، فقد تسبب لهلاكها ودساها ؟!
ويحك يا نفس !كم بيني وبينك في المعاملة،أنت تريدين هلاكي ، وأنا أسعى لك بالنجاة،وأنت تحيلين عليَّ بكل طريق يوقع في المضار والشرور، وأنا أجتهد لك في كل أمر مآله الخير والراحة والسرور ، فهلمي يا نفس إلى صلح شريف يحتفظ كلٌّ منا على ما لَهُ من المرادات والمقاصد ، ونتفق على أمر يحصل به للطرفين أصناف المصالح والفوائد .
دعيني يا نفس أمضي بإيماني متقدماً إلى الخيرات،متجراً فيه لتحصيل المكاسب والبركات ، دعيني أتوسل بإيماني إلى من أعطاه أن يتمه بتمام الهداية ، وكمال الرحمة ، وأكمل ما نقص منه ، لعل الله أن يتم علي وعليك النعمة ، ولئن تركتيني وشأني لم تعترضي عليَّ بوجه من الوجوه ؛ لأعطينك كلَّ ما تطلبينه من المباحات ، وكل ما تؤمله النفوس وترجوه ، ولئن تركتيني وشأني لأوصلنك إلى خيرات ولذات طالما تمناها المتمنون ، وطالما مات بحسرتها قبل إدراكها الباطلون.
يا نفس، أما تحبين أن تُنقلي من هذا الوصف الدنيء إلى أوصاف النفوس المطمئنة التي اطمأنت إلى ربها ، وإلى ذكره ، واطمأنت إلى عطائه ومنعه ، واطمأنت في جميع تدبيره ، واطمأنت إلى توحيده والإيمان به حتى سلاها عن كل المحبوبات،واطمأنت إلى وعده حتى كانت هي الحاملة للعبد على الطاعات المزعجة له عن المعاصي والمخالفات ، فلا يزال المؤمن مع نفسه في محاسبة ومنافرة حتى تنقاد لداعي الإيمان ، وتكون ممن يقال لها عند الانتقال من هذه الدار: (( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)) (الفجر:27 ـ30)(1)
__________
(1) الفتاوى السعدية ص59 .(1/221)
و ـ وأختم موضوع المحاسبة وأثره في اليقظة وتدارك العمر بمحاسبة ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ لنفسه ، فيقول : ((تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني ، من بدء الطفولة وإلى الآن ، أرى لطفاً بعد لطف ، وستراً على قبيح ، وعفواً عما يوجب عقوبة، وما أرى لذلك شكراً إلا باللسان .
ولقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً ، ولو كشف للناس بعضها لاستحييت ، ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن فيَّ ما يظن في الفساق ، بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، وقعت بتأويلات فاسدة ، فصرت إذا دعوت أقول : اللهم بحمدك وسترك عليَّ اغفر لي ، ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي ، ثم أنا أتقاضى منه مراداتي ولا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه ، ولا بشكر على نعمة ، فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به.(1/222)
وقد كنت أرجو مقامات الكبار فذهب العمر وما حصل المقصود ، فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فكتبتها هاهنا ، قال لنفسه : يا رعناء تقوِّمين الألفاظ ليقال: مناظر. وثمرة هذا أن يقال:يا مناظر كما يقال للمصارع الفاره:ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء ،وهي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر ، ثم ينسى الذاكر والمذكور إذا درست القلوب!هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له وصار الاسم له. والعقلاء عن الله تشاغلوا بما إذا انطووا نشرهم وهو العمل بالعلم ، والنظر الخالص لنفوسهم، أف لنفسي ، وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم وما عبق بها فضيلة ، إن نوظرت شمخت ، وإن نوصحت تعجرفت ، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ، وسقطت عليها سقوط الغراب على الجيف، فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة ، توفر في المخالطة عيوباً تبلى ، ولا تحتشم نظر الحق إليها.وإن انكسر لها غرض تضجرت ، فإن امتدت بالنعم اشتغلت عن المنعم.
أف والله مني ، اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها ، والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي وأنا بين الأصحاب ، والله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني ، كيف سترني وأنا أتهتك ، ويجمعني وأنا أتشتت ؟! وغداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، ولو عرفوني حق معرفتي بنفسي ما دفنوني ، والله لأنادين على نفسي نداء المتكشفين معائب الأعداء ، ولأنوحن نوح الثاكلين إذ لا نائح لي ينوح عليَّ لهذه المصائب المكتومة ، والخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، وغطاها من علمها .(1/223)
والله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها:اللهم اغفر لي كذا بكذا ، والله ما التفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ووقاية تحميني مع تسلط الأعداء ،ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي وهو رب غني عني،وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه،ولا عذر لي، فأقول : ما دريت أو سهوت، والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، ونور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات ـ والمكتومات تنكشف لفهمي.
فواحسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضا ، واحرماني لمقامات الرجال الفطناء ، ياحسرتى على ما فرطت في جنب الله ، وشماتة العدو بي، واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح عليَّ ، واخذلاني عند إقامة الحجة ، سخر والله مني الشيطان ، وأنا الفطن. اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار ، وقد جئتك بعد الخمسين ، وأنا من خَلِقِ المتاع ، وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم ، فوالله ما عصيتك جاهلاً بمقدار نعمك ، ولا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي ))(1) اهـ.
5 ـ الاعتكاف وترك فضول الاختلاط :
ومما يعين على مجاهدة النفس ، وإنشاء همّ الآخرة فيها إحياء سنة الاعتكاف ، وخاصة في العشر الأواخر من رمضان ، ففي الاعتكاف تحصل للعبد منافع عظيمة منها :
أ ـ التفرغ للنفس ومحاسبتها ، وتفقد أخطائها ومثالبها ومعاصيها في ماضي حياتها ، وأثر ذلك في صدق التوبة وتطامن النفس وتواضعها ، وذلك عندما يعلم المحاسب لنفسه أنها كلها عورة وضعف وخطيئة .
ب ـ الشعور الشديد بالفاقة والفقر إلى الله عز وجل والضرورة القصوى
لإعانته وإغاثته وتوفيقه ، والشعور بخطر الاعتماد على النفس والثقة المفرطة بها .
__________
(1) صيد الخاطر ص464 .(1/224)
جـ ـ فراغ القلب في الاعتكاف من مشاغل الدنيا ومشاكلها ، وأثر ذلك في ملء القلب بذكر الله عز وجل والإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور .
د ـ الحياة مع كلام الله عز وجل والعيش مع كتابه العزيز، وما يحوي من ذكر للآخرة وما فيها ، وذكر أنبيائه وأوليائه ، وأثر ذلك في محبتهم والشوق إلى مصاحبتهم والتأسي بهم ،وبما أصابهم في سبيل الله عز وجل وكيف صبروا وصابروا مع ما في القرآن من ذكر الله عز وجل وأسمائه وصفاته ، والأجر العظيم في تلاوته والقيام به آناء الليل وأطراف النهار .
هـ ـ الانقطاع عن الناس وقلة الاتصال بهم وبكلامهم، وأثر ذلك في صفاء القلب وتقبله للمواعظ والزواجر مع ما في ذلك من ترك لآفات اللسان التي قل من يسلم منها .
و ـ في الاعتكاف نقلة من حياة الترف مع الأهل والأولاد في المساكن المترفة والفرش الناعمة إلى حياة الاعتزال والمسكنة والفراش الخشن والأكل القليل ، وهذا بدوره يؤثر في حياة المعتكف ونظرته للدنيا ، مع ما يصاحب ذلك من النوم القليل ، فكل ذلك يؤدي بإذن الله تعالى إلى تقوية العزيمة وتنشيط النفس ؛ لأن النفس تثقل مع كثرة الفضول من الطعام والنوم والكلام والخلطة .
ز ـ في الاعتكاف فرص للاستزادة من الصالحات كنوافل الصلاة ، والذكر ، وقراءة القرآن ، لوجود التفرغ التام .
ح ـ في الاعتكاف وحبس النفس في مكان معين مجال لتربية النفس على الصبر والمصابرة واكتشاف قوة التحمل والصبر عند النفس ، وفي هذا ترويض للنفس وتوطئة لها على النقلات المفاجئة ـ نسأل الله عز وجل العافية والثبات ـ كما أن في ذلك تذكرًا للصلحاء المبتلين الذين يمضون في معتقلاتهم الأشهر والسنوات فيتوجه بالدعاء لهم بالثبيت وسؤال الفرج لهم.(1/225)
ط ـ كما أن في جلوس المعتكف في خلوته ورؤيته نفسه وحيداً بعد أن ينفضّ الناس ويرجعوا إلى بيوتهم ، إن في ذلك أثراً بالغاً في تذكر ذلك اليوم ، الذي يوضع فيه العبد في قبره وحيداً فريداً ،بعد أن يرجع عنه مشيعوه إلى أهليهم وبيوتهم ، وهذا له أثر في تذكر الموت والقبر ووحشته مما يعود بالفائدة على النفس بالاستعداد لهذا المصرع ، وسؤال الله عز وجل حسن الخاتمة ، وهذا كله يربي على الزهد في الدنيا ، وأنها ظل زائل ومتاع الغرور.
ي ـ في الانقطاع عن الأهل والأولاد في المعتكف مع الشوق إليهم ؛ تذكير بالموت والانقطاع الطويل عنهم ، وهذا بدوره ينعكس على بذل الجهد في إصلاح النفس والأهل،لعل الله عز وجل أن يجمع الشمل في جنات النعيم ، التي لا ينفد نعيمها ولا يفترق أهلها .
ك ـ في الاعتكاف تعود على أعمال فاضلة يحصل فيها التفريط غالباً عند الكثير كأداء السنن الرواتب،والصف الأول ، والطمأنينة في الصلاة ، وأداء الأذكار جميعها ؛ وذلك لعدم المشاغل والمشاكل التي تصرف المصلي عن هذه الفضائل أو بعضها ، ولعلها أن تكون ديدنه بعد الخروج من المعتكف .
ل ـ في الاعتكاف يحصل محاسبة النفس في علاقتها بالخلق وحقوقهم، بداية من الوالدين والأقارب والتقصير الحاصل نحوهم ، وكذلك حقوق الآخرين ، وماذا يحمل في القلب نحوهم ، هل هو النصح والمحبة أم الغش والحقد والحسد . وأكتفي بهذا القدر من منافع الاعتكاف ، ذكرته هنا بمناسبة الحديث عن محاسبة النفس .
6 ـ مصاحبة أهل الخير الذين تذكر رؤيتهم وكلامهم الآخرة ، والقراءة في سير الزاهدين من السلف :
قال الله عز وجل : (( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً )) (الكهف:28) .(1/226)
هذه وصية الله عز وجل لنبيه لله ولأمته من بعده ، وما ذاك إلا لما يكون من أثر الصالحين الذين إذا رُءُوا ذُكِرَ الله عز وجل وذُكِرَتْ الآخرة وهذا واقع ومجرب ، فما أن يعش المسلم بين أهل الخير ويستمع إلى مواعظهم ويرى سمتهم وأخلاقهم إلا ويتأثر بهم ، ويتأسى بفعالهم الطيبة، وتبقى الآخرة في ذهنه دائماً ، والعكس من ذلك فيمن يصاحب أهل الدنيا الغارقين في لججها، والغافلين عن النبأ العظيم ؛ حيث يظهر أثر هذه المصاحبة في قسوة القلب ونسيان الآخرة ، وبالتالي ضعف الاستعداد لها أو عدمه ، وإن هذا الأمر ليتأكد في زماننا هذا أكثر من أي وقت مضى ؛ وذلك لانفتاح الدنيا وانصباب الناس إليها والسعار المحموم حول حطامها .
كل ذلك يؤكد ضرورة الحذر من أهلها وضرورة الالتصاق بأهل الصلاح والزهد والإصلاح ،والمعايشة المستمرة معهم ، والإكثار من سماع المواعظ والقراءة في كتب الوعظ وسير الصالحين والزاهدين من سلف هذه الأمة ،وألا يكتفي بالزيارات المتفرقة أو القراءة المتفرقة ، فإن فائدتها في هذا الزمان قليلة ؛ فالنفس إن لم يتوالَ عليها الوعظ والتذكير فإنها تلهو وتنسى مع الوقت إذا طال بعدها عن ذلك.
وهذا ما يوضحه ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كون المواعظ يزول أثرها بعد إلقائها ، ولا يستمر ذلك الأثر في النفس طويلاً ـ يقول رحمه الله تعالى ـ : (( قد يعرض عند سماع المواعظ للسامع يقظة ، فإذا انفصل عن مجلس الذكر عادت القسوة والغفلة ، فتدبرت السبب في ذلك فعرفته، ثم رأيت الناس يتفاوتون في ذلك ، فالحالة العامة أن القلب لا يكون على صفة واحدة من اليقظة عند سماع الموعظة وبعدها ، لسببين :
أحدهما : أن المواعظ كالسياط ، والسياط لا تؤلم بعد انقضائها إيلامها وقت وقوعها .(1/227)
والثاني : أن حالة سماع المواعظ يكون الإنسان فيها مُزاح العلة ، قد تخلى بجسمه وفكره عن أسباب الدنيا ، وأنصت بحضور قلبه ، فإذا عاد إلى الشواغل اجتذبته بآفاتها ، وكيف يصح مع تلك الجواذب أن يبقى كما كان ؟! ))(1) اهـ.
7 ـ دعاء الله عز وجل واللجوء إليه والاستعانة به سبحانه : إن الخير كله والتوفيق كله بيد الله عز وجل ، فما أفلح عبد ونجا من فتنة الدنيا وأناب إلى الآخرة إلا بتوفيق الله سبحانه وإعانته ، وعلى هذا فإن سؤال الله عز وجل والتضرع إليه سبحانه ، واللجوء إليه من أعظم الأسباب وأنفعها للعبد في توفيقه وفلاحه ، والعبد هالك ومخذول إن وُكل إلى نفسه أو إلى عمله الضعيف .
__________
(1) صيد الخاطر ص11 .(1/228)
وهذا سيد العارفين والخائفين والراجين محمد صلى الله عليه وسلم يقول : (( لن يُدخل الجنة أحداً عملُهُ )) ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : (( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ))(1) .والأدعية الواردة في سؤال التوفيق إلى عمل الآخرة ونعيمها كثيرة ، منها قولهصلى الله عليه وسلم : (( اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري ، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي إليها معادي ، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير ، واجعل الموت راحة لي من كل شر ))(2) ، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : (( ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا مبلغ علمي ))(3)، وقوله صلى الله عليه وسلم : (( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، اللهم أصلح لي شأني كله ، ولا تكلني إلى نفسي طرفه عين أبداً ))(4) .وهذه الأدعية على سبيل المثال لا الحصر ، والمقصود التنبيه إلى دعاء الله سبحانه واللجوء إليه في الوصول إلى رضاه وجنته ، والنجاة من سخطه والنار .
* * *
الخاتمة
نسأل الله عز وجل حسن الخاتمة ، ونسأله سبحانه أن يجعل خير أعمارنا آخرها ، وخير أعمالنا خواتيمها ، وخير أيامنا يوم نلقاه.ثم إنه يطيب لي في ختام هذا الموضوع المهم أن أتوجه ببعض الكلمات إلى ثلاث فئات من الناس هي التي تتألف منها مجتمعات المسلمين اليوم ، ولا يكاد يخرج فرد من الأفراد عنها ، وهذه الفئات هي :
1 ـ الفئة المصلحة الداعية إلى الخير .
2 ـ الفئة المفسدة الداعية إلى الشر .
3 ـ الأتباع والمقلدة .
الفئة الأولى : الفئة المصلحة الداعية إلى الخير :
__________
(1) البخاري في الرقاق ( 6467 ) .
(2) مسلم ( 2720 ) في الذكر والدعاء .
(3) جزء من دعاء رواه الترمذي وحسنه ( 3497 ) كتاب الدعوات .
(4) رواه الحاكم ( 1 / 545 ) ، وحسنه الألباني في صحيح الجامع ( 5820 ) .(1/229)
وهؤلاء هم أشراف المجتمع وأحسنهم قولاً وأثراً على الناس ، وأنبلهم غاية وأسماهم هدفاً ، وهؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل بقوله : (( وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)) (فصلت:33).
وقوله تعالى : (( وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )) (آل عمران:104).
وقوله تعالى : (( التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ_ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ )) (التوبة:112)
وهم الذين عناهم الرسول لله بقوله: (( ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة،لا يضرهم من خذلهم،حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى))(1).
وإلى إخواني هؤلاء أوجه هذه الكلمات بمناسبة الحديث عن النبأ العظيم:
1 ـ اعلموا أنكم سادة المجتمعات وأشرافها بحق ، وكيف لا وأنتم تحملون أعظم رسالة وأنبل غاية ، ألا وهي تعبيد الناس لرب العالمين ، وإخراجهم بإذن الله تعالى من الظلمات إلى النور ، كيف لا وأنتم تضحون بأوقاتكم وأموالكم وراحتكم في سبيل إنقاذ أنفسكم وإنقاذ الناس من عذاب الله تعالى في الدنيا وعذابه الأليم في الآخرة ، أي غاية أشرف وأنبل من هذه الغاية ؟!
__________
(1) مسلم في كتاب الإمارة ( 1920 ) . والروايات في هذا المعنى كثيرة جداً في
الصحيحين وغيرهما .(1/230)
2ـ ولما كان هذا العمل بهذه المنزلة فالله الله أن يضيع سدى أو يصير هباءً بنزغة شيطان أو هوى نفس يلوثان العمل برياء أو إرادة دنيا فانية ، أو ابتداع في الدين بما لم يأذن به الله سبحانه ؛ إنه يمتنع صدور هذه الأمراض من عبد أيقن بالنبأ العظيم،وأيقن بيوم الحسرة التي يتحسر فيها العبد على كل عمل لم يخلص فيه لله عز وجل ، ولم يتابع فيه الرسولصلى الله عليه وسلم .
وإن ذلك ـ والله ـ لكائن في يوم التناد (( وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ )) (القصص:65)، ويا سعد من كان جوابه: أجبناهم بالاتباع والانقياد وعدم الابتداع،ويا خيبة وخسارة من كان حاله،كما قال تعالى: (( فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَسَاءَلُونَ )) (القصص:66).
3 ـ وإن مما يحافظ على شرف الغاية في الدنيا وعظم الجزاء في الآخرة سلامة الصدور ووحدة الكلمة ونبذ الفرقة والاختلاف ؛ لأن مما يضعف أثر أهل الخير على الناس تفرقهم ومنابذة بعضهم لبعض؛لأنهم بذلك ينشغلون بأنفسهم عن دعوة الناس كما أن الناس تضعف ثقتهم بأهل الخير إذا رأت ما بينهم من الأحقاد والإحن.
فالله الله في دعوة الله عز وجل، والله الله في العمل الصالح أن يضيع هباءً منثوراً في يوم الفاقة والحاجة ، يوم يكون العبد في أمسِّ الحاجة إلى حسنة واحدة يثقل بها ميزانه ؛ إنه لا يمكن لمن أيقن بيوم الجزاء والحساب والوقوف بين يدي الديان عز وجل أن ينفق العمر القصير في قيل وقال وأحقاد وأضغان وافتراق على أمور لا يجوز الاختلاف عليها ، وبقدر ما يكون من هذه الأمراض في النفوس بقدر ما يؤخر عجلة الدعوة ، ويفتح المجال للفئة المفسدة لتبث سمومها في الناس وتجرهم إلى الشقاء في الدنيا والعذاب في الآخرة .(1/231)
4 ـ وإن من أخطر ما تفرزه الفرقة والاختلاف بين أهل الخير الظلم والعدوان والانتصار للنفس وحظوظها بتأويل، وأحياناً بدون تأويل، وينبغي لمن أيقن بيوم الفصل وأيقن بيوم التلاق يوم أن يلتقي الظالم بالمظلوم والجائر بالمجور عليه أن يحسب لهذا المقام حسابه ، وألا يتكلم إلا بعلم وعدل، وأن يراعي حرمة مال المسلم وعرضه وجميع حقوقه قبل أن يأتي يوم القصاص (( يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً)) (آل عمران:30)،وقبل أن يتولى الحكم
العدل الفصل بين الخصوم (( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً )) (طه:111).
5 ـ إن اليقين باليوم الآخر وأهواله واليقين بالتبعة الفردية المذكورة في قوله تعالى : (( وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً )) (مريم:95) ؛ إن ذلك كله يفرض على الفئة المصلحة أن يكون الحق رائد كل فرد فيها ، وهذا بدوره يخلص من الحزبية المقيتة ولوثاتها ، وما فيها من التعصب للأشخاص أو الهيئات ، فكل هؤلاء لا ينفعون عند الله عز وجل إذا لم يكن الحق هو الرائد والموجه للجميع .
وهذا يؤكد على الفئة المصلحة والداعية إلى الخير أن تربط الناس والأتباع بالدليل الصحيح من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح لا بآراء الرجال وعقولهم ، وهذا لا يعني التنقص لأهل العلم والدعوة وعدم تقديرهم ، كلا ، فلهم التقدير والمحبة والإجلال ، ولكن فرق بين التقدير والتقديس .(1/232)
6 ـ بما أن من سنة الله عز وجل ابتلاء أوليائه بأعدائه ليبلي المؤمن بلاء حسناً ، فإن مما يثبت به الله عباده المؤمنين ودعاته الصادقين أن يرزقهم الإنابة إلى دار الخلود رجاء ثواب الله عز وجل ، وأن الله تعالى ليس بغافل عن الظالمين ، فهناك يوم القصاص الأعظم ، وذكر هذا اليوم مما يصبِّر به الله سبحانه دعاته المصلحين . وكلما كان ذكر هذا اليوم العظيم في ذهن الدعاة أكثر، كلما كان صبرهم وتضحيتهم أعظم وأكبر وهذا يقود إلى مسألة أخرى وهي :
7 ـ أن ينته أهل الخير والإصلاح إلى دور اليوم الآخر والتذكير به دائماً في تربية النفوس وتهذيبها ، وأن يعنوا به عناية كبيرة في البرامج التعليمية والمناهج الدعوية ، بل ينبغي أن تربط جميع المناهج على اختلافها باليوم الآخر وأعمال القلوب، حتى يكون للمناهج أثرها العملي والتعبدي والأخلاقي ، وينبغي ألا يلتفت إلى من يقلل من شأن الحديث في اليوم الآخر والوعظ بأيامه وأهواله بحجة أنه كلام وعظي أو عاطفي أو إنشائي .
إن هذا غلط كبير وتفريط عظيم في رافد عظيم من روافد التربية والتزكية، هذا وإن كان قصد ذلك المقلل الإشارة إلى أهمية العلم والتأصيل والاستدلال ، وليس هو التهوين من ذلك اليوم العظيم ، إلا أنه ينبغي التنبيه إلى أن العلم والتأصيل والاستدلال ينبغي أن يربط ذلك كله بتعظيم الله عز وجل وعبادته والاستعداد بالعلم والعمل للدار الآخرة ، وهذا لا يتأتى إلا أن يقوم أهل العلم والتوجيه والإرشاد إلى صبغ دروسهم وحلقات تعليمهم بهذا الأمر سواء كان العلم في العقيدة، أو في الفقه وأصوله، أو الحديث ومصطلحاته، أو السيرة والتاريخ ...إلخ.(1/233)
الفئة الثانية : الفئة المفسدة الداعية إلى الشر والصادة عن الخير : وهؤلاء هم سفلة المجتمع وهم أراذل الناس لأنهم خانوا ربهم ، وخانوا أمتهم ، وظلموها ، وعرضوا الناس للشقاء والنكد في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة ، وهؤلاء هم الذين عناهم الله عز وجل في كتابه الكريم بقوله: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ )) (الأنعام:123).
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا )) أي : الرؤساء الذين قد كبر جرمهم ، واشتد طغيانهم (( لِيَمْكُرُوا فِيهَا )) بالخديعة والدعوة إلى سبيل الشيطان ، ومحاربة الرسل وأتباعهم بالقول والفعل. وإنما مكرهم وكيدهم يعود على أنفسهم ؛ لأنهم يمكرون ، ويمكر الله ، والله خير الماكرين.
وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم ، يناضلون هؤلاء المجرمين ، ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله ، ويسلكون بذلك السبل الموصلة إلى ذلك ، ويعينهم الله ، ويسدد رأيهم ، ويثبت أقدامهم ، ويداول الأيام بينهم وبين أعدائهم ، حتى يدول الأمر في عاقبته ، وبنصرهم وظهورهم ، والعاقبة للمتقين ))(1) .
وبمناسبة الحديث عن اليوم الآخر وأهوال النبأ العظيم أوجه الكلمات التالية لأهل هذه الفئة لعل الله عز وجل أن ينفعهم بها :
1ـ أذكركم بموعظة الله تعالى ؛ إذ يقول: (( قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ...)) (سبأ:46) .
__________
(1) تفسير السعدي عند الآية ( 123 ) من سورة الأنعام .(1/234)
فماذا عليكم لو قام كل فرد منكم مع نفسه أو مع صاحبه، ثم فكرتم فيما أنتم عليه من فساد وصد عن سبيل الله عز وجل،هل أنتم مقتنعون بما تفعلون وبما تتسببون به على أمتكم من الشرور؟وهل هذا يرضي الله تعالى ويجلب النعيم لكم في الآخرة ؟ إنكم إن قمتم لله عز وجل متجردين مثنى أو فرادى، وفكرتم في ذلك؛فإن الجواب البدهي هو أن الفساد والإفساد لا
يحبه الله عز وجل، بل يمقته ، ويمقت أهله ، وسيأتي اليوم الذي يمقت فيه أهل الفساد أنفسهم ، ويتحسرون على ما فرطوا وضيعوا وأفسدوا ، وذلك في يوم الحسرة ؛حيث لا ينفع التحسر ولا التندم .
إن الذي يكره الخير وأهله وينشر الفساد ويصد عن سبيل الله تعالى إنما هو بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ، وما الحياة عنده إلا هذه الدنيا ، فهو يسعى ليجمع فيها ويظلم ويبطش ؛ لأنه لا يرجو اليوم الآخر ولا يخافه ، فهذا كافر مرتد ، وإن كان يخفي هذا الكفر ، فهو منافق زنديق ، أو أنه يؤمن بالله واليوم الآخر ، ولكن الدنيا وزخرفها ومناصبها أسكرت عقله ولبه ، فأصبح في غفلة شديدة عن الآخرة ونعيمها وعذابها حتى استمرأ الفساد وصارت الدنيا أكبر همه ؛ يلهث وراءها ، ويجمع حطامها ، ولو كان عن طريق الفساد والإفساد ، ومثل هذا الذي يؤمن بالآخرة ولكنه في غفلة شديدة عنها ، مثل هذا لا عقل له كما أن الأول لا إيمان له ، وقد يخسر إيمانه في النهاية .(1/235)
والحاصل أن تتداركوا ما بقي من عمركم في التوبة إلى الله عز وجل قبل حلول الأجل؛ حيث لا ينفع الندم ، واعتبروا بمن ذهب ممن هو على شاكلتكم بدون توبة، وماذا بقي له من الذكر في هذه الحياة الدنيا .قارنوا من مات من أهل الخير والصلاح كشيخ الإسلام ابن تيمية ، وقبله الإمام أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة ، وبعده الإمام محمد بن عبد الوهاب ، رحم الله الجميع؛ لقد بقي ذكرهم عند الناس كأنهم لم يموتوا مع ما نرجو لهم من الأجر العظيم في الآخرة ، قارنوا هؤلاء بمن مات من أهل الشر والإفساد الذين لم يبق لهم ذكر البتة،لا بل بقي الذكر السيئ ولعنات الأمة
تلاحقهم عند ذكرهم ، مع ما يخشى عليهم من عذاب الله سبحانه يوم يقوم الناس لرب العالمين ، فأي الفريقين أشرف وأهدى سبيلاً ؟
2 ـ نذكركم بيوم الحسرة والندامة يوم يتبرأ منكم الأتباع وتتبرءون من الأتباع ، ولكن حين لا ينفع الاستعتاب ولا التنصل ولا التبرؤ ، بل كما قال تعالى: (( وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ )) (سبأ:33) .
نذكركم بالأثقال العظيمة التي سيحملونها يوم القيامة من أوزاركم وأوزار الذين تضلونهم بغير علم إن لم تتوبوا،قال تعالى: (( وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) (العنكبوت:13)،وقال عز وجل: ((لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ )) (النحل:25)(1/236)
3 ـ لما كان الظلم قرين الفساد والإفساد ، فإنه جدير بالظالمين الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق أن يتذكروا يوم الفصل والحساب (( يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)) (غافر:52) ، ليتذكر الظالمون هذا اليوم المشهود الذي يقتص فيه الحكم العدل من الظالمين للمظلومين. ليتذكروا هذا اليوم العظيم إن كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر ما داموا في دار الدنيا،دار التوبة والاستعتاب ، فو الله إن للظالم ليوماً ينكشف فيه الغطاء ويعض فيه على يديه من الخزي والحسرة.
وإن في كتاب الله عز وجل لغنية عن أي كلام وكفاية عن أي موعظة، قال جل وعلا: (( وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ* مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ )) (إبراهيم:42 ، 43) ، وإن الظالمين جميعهم ، رئيسهم ومرءوسهم ، تابعهم ومتبوعهم،لهم يوم مشهود ويوم عصيب ؛ يوم يلعن بعضهم بعضاً ، ويحيل التبعة بعضهم على بعض ، ولكن حين لا يجدي لهم ذلك إلا الخزي والبوار.
4 ـ إن لم يجد واعظ الله سبحانه والدار الآخرة فيكم شيئاً فلا أقل من أن يوجد عندكم بقية مروءة وحياء تمعنكم من إفساد أخلاق الأمة ، والوقوف في وجه المصلحين الداعين إلى معالي الأمور والأخلاق .
إن المتأمل لحال المفسدين في الأرض اليوم ليأخذه العجب والحيرة من أمرهم. فما لهم وللمرأة الحيية التي تقر في منزلها توفر السكن لزوجها وترعى أولادها ، ماذا عليهم لو تركوها في هذا الحصن الحصين تؤدي دورها الذي يناسب أنوثتها وطبيعتها .(1/237)
ماذا يريدون من عملهم هذا ؟. ثم ماذا عليهم لو تركوا أولاد المسلمين يتربون على الخير والدين والخصال الكريمة ؟ ماذا يريدون من إفسادهم وتسليط برامج الإفساد المختلفة عليهم ؟ هل يريدون جيلاً منحلاً يكون وبالاً على مجتمعه ذليلاً لأعدائه عبداً لشهواته؟ إن هذه هي النتيجة . وإن من يسعى لهذه النتيجة الوخيمة التي تتجه إليها الأسر المسلمة اليوم لهو من أشد الناس خيانة لمجتمعه وأمته وتاريخه .
إن من عنده أدنى مروءة ونخوة ـ فضلاً عن الدين والإيمان ـ لا يسمح لنفسه أن يكون من هؤلاء الخونة المفسدين،وما ذكر من إفساد الأسرة إنما هو على سبيل المثال لا الحصر.
فيا من وصلوا إلى هذا المستوى من الهبوط والانتكاس توبوا إلى ربكم، وفكروا في غايتكم ومصيركم ، واعلموا أن وراءكم أنباء عظيمة وأهوالاً جسيمة تشيب لها الولدان ، وتشخص فيها الأبصار ، فإن كنتم تؤمنون بهذا فاستيقظوا من غفلتكم وراجعوا أنفسكم ، والله جل وعلا يغفر الذنوب جميعاً ، وإن كنتم لا تؤمنون بذلك فراجعوا دينكم ، وادخلوا في السلم كافة قبل أن يحال بينكم وبين ما تشتهون.
5ـ نذكر المنافقين من هذه الفئة بأن الله سبحانه يعلم سرهم ونجواهم، ويعرِّف المؤمنين بسيماهم مهما أظهروا الإسلام في الدنيا ، وفي الآخرة يخزيهم ويفضحهم بين الأشهاد (( يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)) (الحاقة:18)، فتوبوا إلى الله علام الغيوب ما دمتم في زمن التوبة ، وصححوا بواطنكم قبل أن يبعثر ما في القبور ، ويحصل ما في الصدور .(1/238)
الفئة الثالثة : فئة الأتباع وعامة الناس : وهم الذين لم يصلوا في أخلاقهم وأهدافهم إلى مستوى الفئة الشريفة المصلحة،ولم يهبطوا إلى مستوى الفئة المفسدة الوضيعة الخائنة،وإنما هي فئة بين الفئتين ولديها الاستعداد للخير الذي تدعو إليه الأولى ، كما أن لديها الاستعداد لتلقي الشر والإفساد الذي تسعى إليه الفئة الثانية(1)،وهذا يؤكد أهمية الدعوة، وقطع الطريق على الفئة المفسدة ؛حتى لا ينحرف الناس عن
الصراط المستقيم . والملاحظ في هذه الفئة أنها السواد الأعظم بينما يغلب على الفئة الأولى والثانية أنهما قلة ، والدفع بين الفئة المصلحة والمفسدة من سنن الله عز وجل؛حيث الصراع بين الحق والباطل، قال تعالى: (( وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ )) (البقرة: 251). وإلى هذه الفئة من الناس أتوجه بهذه الكلمات :
إن تذكر اليوم الآخر ومشاهده العظيمة من أهم الأسباب التي تقي من شر المفسدين المستكبرين ، فلقد مر بنا في مشاهد النبأ العظيم أنه يوم التناد، ويوم تخاصم أهل النار ، فإذا أيقن العبد بهذه المشاهد، وأن الله سبحانه ينادي عباده: (( مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ )) عندئذ يحذر العبد أن يتبع كل ناعق ملبس ، وإنما يتبع المرسلين وأتباعهم ، كما أن تخاصم أهل النار وما فيه من تبرؤ المتبوعين من الأتباع يجعل العبد يحسب لهذا المشهد حسابه؛حتى لا يعض على يديه حسرة وندامة ، وهذا الشعور المخيف يجعل الإنسان في حذر من أهل الشر والإفساد الذي يزينون له الباطل في الدنيا ، ويوم القيامة يلعن بعضهم بعضاً ، ويتبرأ التابع من المتبوع ، والمتبوع من التابع .
__________
(1) ولذلك يوجد في هذه الفئة الصالحون والفاسدون حسب نشاط أهل الخير وأهل الشر
وقد يوجد من بينهم أهل العزلة والساكتون .(1/239)
فكفى بتذكر هذه المشاهد العظيمة واعظاً ورادعاً لكل من يحب لنفسه الخير؛حتى يحذر من أهل الشر والفساد ، ويلتصق بأهل الخير والإصلاح الذي يسعون لإنقاذ الناس بإذن ربهم سبحانه من شقاء الدنيا وعذاب الآخرة، ويعضّ عليهم ويبذل لهم المودة والنصرة والدعاء؛حيث إنهم أرحم الخلق بالخلق ، وهم صمام الأمان لمجتمعاتهم ، فجدير بمن هذه صفاته أن يُحبَّ ويُوَالى ويُنصر .
لقد أنعم الله سبحانه على عباده بالعقول وإرسال الرسل وإنزال الكتب حتى تبين الرشد من الغي ، ولن ينفع التابعين الذين أعطوا قيادهم لدعاة الشر وألغوا عقولهم ، لن ينفعهم يوم القيامة إلقاء التبعة على المتبوعين من المفسدين ، ولقد قامت حجة الله سبحانه على عباده ، نعم لن يجدي عن الأتباع الذين فتحوا أفكارهم وبيوتهم لأهل الشر ليفسدوا فيها ويمكروا فيها، إذا قامت الخصومات بين يدي الحكم العدل(1). إنهم بذلك يتحولون إلى فئة المفسدين شعروا أم لم يشعروا .
وأخيراً لنسمع إلى تحذير الله عز وجل لعباده من طاعة الشيطان وحزبه وبراءته من أتباعه يوم القيامة ، قال تعالى : (( وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) (ابراهيم:22) .
وبعد:
فهذا ما يسره الله سبحانه لي في هذه الرسالة ، أسأله عز وجل أن ينفعني وإخواني بها ، وما كان فيها من صواب فمن الله عز وجل ، فهو المان به فله الحمد ، وما كان فيها من خطأ فمني ومن الشيطان ، وأستغفر الله ، وأتوب إليه .
__________
(1) انظر ص194 ـ 202 .(1/240)
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير ، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
* * *
إياك نعبد إياك نستعين
مقدمة
إن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا . من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فإن عبادة الله عز وجل ، وتوحيده والاستسلام له أول واجب على المكلف أن يقوم به علماً وعملاً وانقياداً ، كما أنه أول شيء يجب أن يُدعى الناس إليه ، وجميع الرسل صلى الله عليهم وسلم إنما دعوا أول ما دعوا إلى توحيد الله وعبادته سبحانه . قال تعالى : (( وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ )) (النحل:36) .
وقال سبحانه : (( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ )) (الانبياء:25) .
وإن قيمة الإنسان وكرامته الحقيقية لا تتحقق إلا بالعبودية الحقة لله عز وجل ، والتي من أجلها خلقه الله عز وجل، وجاء به إلى هذه الأرض، قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) (الذريات:56).
وقد وصف الله سبحانه نبيه لله بالعبودية في أعلى المقامات ،
فقال: (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ)) (الزمر:36)، وقال تعالى : (( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى )) (الاسراء: 1) .(1/241)
ولا يبلغ الإنسان كماله الحقيقي وشرفه الأسمى في الدنيا والآخرة إلا بإفراد الله عز وجل بالألوهية والعبودية ، وصدق من قال : (( كفاني عزّاً أن تكون لي رباً ، وكفاني فخراً أن أكون لك عبداً )).
ولما كان توحيد الله عز وجل وعبادته بهذه المثابة والأهمية فحري بنا ونحن في زمن المهلة أن نسعى جادين لتحقيق هذا الشرف العظيم ؛ وذلك بجعل هذه الغاية العظيمة هي همنا وقصدنا في محيانا ومماتنا ، وألا يصرفنا عنها صارف من أمور الدنيا الفانية ، بل نوجه دنيانا وما أنعم الله به علينا فيها إلى خدمة هذه الغاية العظيمة والاستقامة عليها؛ فيكون ما سخره الله عزوجل لنا في هذه الدنيا خادماً لهذه الغاية لا مخدوماً، ومملوكاً لا مالكاً .
وإن افتقار العبد إلى عبادة ربه وحاجته إليها لا يعدلها حاجة ، ونعيمه بها لا يعدله نعيم ، ولكن لما كان الإنسان ـ بل كل مخلوق ـ لا يستطيع جلب ما ينفعه ودفع ما يضره إلا بالاستعانة بالله سبحانه والتوكل عليه ، ولما كانت العبادة هي أم المنافع وغايتها ، جاء الإرشاد منه سبحانه إلى ضرورة الاستعانة به عز وجل والتوكل عليه في تحقيق الغاية العظيمة والثبات عليها.
ومن أجمع الأدعية وأنفعها في هذا المقام ما ورد في سورة الفاتحة من الجمع بين العبادة والاستعانة في قوله تعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) (الفاتحة:5) ؛ حيث فرض الله سبحانه علينا أن نناجيه وندعوه بهما في كل صلاة .
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
قوله تعالى في الفاتحة : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ، وعلم القرآن جُمع في الفاتحة ، وعلم الفاتحة في هذين الأصلين:عبادة الله والتوكل عليه.(1/242)
وإذا أ ُفرد لفظ العبادة دخل فيه التوكل ؛ فإنه من عبادة الله تعالى كقوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ )) (البقرة:21)، وقوله تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) ( الذاريات :56) ، وإذا قُرِن به التوكل كان مأموراً به وبخصوصه ))(1) اهـ.
ولقد تكلم أئمة السلف وكتبوا عن هذه الآية العظيمة الجامعة وما تحتويه من معان عظيمة هي مقتضى ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته سبحانه ، ومن أجمل وأروع ما كتب حول هذه الآية ما سطره الإمامان الجهبذان شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله تعالى ، وذلك في كتبهما المختلفة حول هذين الأصلين العظيمين في هذه الآية.
__________
(1) جامع الرسائل والمشائل لابن تيمية ( 1 / 91 ) .(1/243)
ولقد تميزت كتابة هذين الإمامين الجليلين بالذوق والصدق ، وكونهما قد تذوقا طعم ما يكتبانه، وعاشاه قلباً وقالباً ، والقارئ لكتاباتهما يشعر أنه أمام إمامين ربانيين قد اصطبغا بما يكتبان ، وتمثلا ما يقولانه ويكتبانه ، وهذا ـ والله أعلم ـ هو الذي جعل كتابة هذين الإمامين وأمثالهما توثر في النفوس، وتلقى قبولاً عند الناس ؛ فرحمهما الله تعالى وجزاهما عن المسلمين خيراً . إذن فإن الكتابة حول هذه الآية وما يتفرع عنها إنما هو جمع لما كتبه الأئمة الأعلام حول هذين الأصلين العظيمين، ولن آتي بجديد في هذا الأمر، فأنَّى لفقير الحال والمقال مثلى أن يأتي بذلك؟ وإنما سيكون الجهد منصباً على جمع ما تفرق من كتابات لبعض علماء الأمة حول هذه الآية العظيمة ، مع محاولة ترتيب المسائل والعناوين للمادة المجموعة ؛ بحيث يسهل على القارئ متابعة القراءة ، والانتقال بانسياب بين مسائلها محاولاً ـ حسب الاستطاعة ـ ربط بعض المسائل بأحوالنا المعاصرة وما طرأ عليها من مظاهر الانحراف في العبادة والتوكل، سواء أكان من جانب الفهم أم جانب التطبيق ، فهذه بعض الدوافع التي دفعت إلى كتابة هذه الرسالة .
وأخيراً ؛ فإن هذه الرسالة تأتي محصلة ـ أو بمعنى أصح ـ أساساً للرسائل التسع السابقة من سلسلة الوقفات التربوية ؛ حيث تعتبر القطب الذي تدور عليه رحى كل المفاهيم التي خرجت في الرسائل السابقة .
ولكي يسهل على القارئ متابعة هذا الموضوع المهم ، فإنه يمكن تقسيمه إلى المباحث التالية :
1 ـ شرح قوله تعالى : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ، وما ورد في معناها من الآيات والأحاديث .
2 ـ بيان المفهوم الصحيح للعبادة ، ومظاهر الانحراف والضعف في الفهم أو التطبيق .
3 ـ بيان المفهوم الصحيح للتوكل والاستعانة ، وأقسام ذلك ، ومظاهر الانحراف والضعف فيهما فهماً وتطبيقاً .
4 ـ بعض لوازم العبادة الحقة ، والتوكل الصادق ، وبعض ثمارها .(1/244)
5 ـ الخاتمة.
أسأل الله عز وجل أن ينفع بهذه الرسالة كاتبها وقارئها ، وأن يحسن القصد فيها إنه سميع مجيب ، وهو المستعان وعليه التكلان .
* * *
المبحث الأولشرح قوله تعالى: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))
وما ورد في معناها من الآيات والأحاديث
ورد في معنى قوله تعالى : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل جمعت بين العبادة والتوكل على الله عز وجل ؛ إما بصيغة الدعاء ، أو صيغة الأمر بهما ، أو صيغة الإخبار عمن أخذ بهما من أنبياء الله وعباده الصالحين .
فمن هذه الآيات :
? قوله تعالى : (( وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ )) (هود:123) .
? وقوله تعالى على لسان شعيب صلى الله عليه وسلم : (( إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )) (هود:88) ، والإنابة بمعنى العبادة .
? وقوله تعالى: (( قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ )) (الرعد: 30) ، (( والإنابة إلى الله والمتاب إليه هو الرجوع إليه بعبادته وطاعته وطاعة رسوله ))(1) .
? وقوله تعالى : (( وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)) (المزمل:8 ، 9).
? وقوله تعالى: (( قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا )) (الملك:29).
? وقوله تعالى : (( رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ))
(الممتحنة: 4)
__________
(1) قاعدة في التوكل : لشيخ الإسلام ابن تيمية ص149 ، ت : علي الشبل .(1/245)
? وقوله تعالى : (( ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ))
(الشورى: 10) ? وقوله تعالى : (( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ))
(الفرقان: 58)
والآيات التي جمعت بين العبادة والتوكل كثيرة .
أما الأحاديث ، فمنها :
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في استفتاحه لصلاة الليل: (( اللهم لك أسلمت ، وبك آمنت وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، وإليك حاكمت... الحديث))(1) .
2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في دعائه: ((اللهم لك أسلمت،وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني ، أنت الحي الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون ))(2) .
3 ـ وقوله صلى الله عليه وسلم في دعاء السجود: ((اللهم لك سجدت،وبك آمنت،وعليك توكلت ، سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره ، تبارك الله أحسن الخالقين ))(3) .
4 ـ وقوله لله عند ذبح الأضحية : (( اللهم هذا منك ولك ))(4). فإن قوله : (( منك )) هو معنى التوكل والاستعانة، وقوله : (( لك)) هو معنى العبادة ))(5) .
__________
(1) البخاري / ك التهجد من حديث ابن عباس ( 1120 ) ، ومسلم / ك صلاة المسافرين
( 769 ) .
(2) مسلم / ك الذكر والدعاء من حديث ابن عباس ( 4 / 2086 ) ( 2717 ) .
(3) مسلم : كتاب صلاة المسافرين من حديث علي ( 771 ) .
(4) أبو داود / ك الضحايا من حديث جابر ( 3 / 230 ) ( 2795 ) ، وابن ماجه / ك
الأضاحي ( 3121 ) وغيرهما ، وهو في ضعيف سنن أبي داود ( 597 ) .
(5) مجموع الفتاوى ( 14 / 9 ) .(1/246)
5 ـ وقوله لله في دعاء النوم : (( اللهم أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك ، وفوضت أمري إليك ، وألجأت ظهري إليك ، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ، آمنت بكتابك الذي أنزلت ، وبنبيِّكَ الذي أرسلت ))(1) .
ويلاحظ في هذه الأحاديث التي حث الرسول لله على الدعاء بها أنها تجمع بين الأصلين العظيمين : العبادة والتوكل ، كما هو الشأن في الآيات السابقة .
إذن فلابد أن يوجد مقصد عظيم في الجمع بين العبادة والتوكل ، وأنه لا توفيق للعبد ولا ثبات ولا استقامة إلا بالأخذ بهما جميعاً .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : ((والقلب فقير بالذات إلى الله من جهتين؛من جهة العبادة، وهي العلة الغائية ، ومن جهة الاستعانة والتوكل،وهي العلة الفاعلة .
فالقلب لا يصلح ، ولا يفلح ، ولا ينعم ، ولا يسر ، ولايلتذ ، ولا يطيب ، ولا يسكن ، ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحده ، وحبه والإنابة إليه، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات ، لم يطمئن ،ولم يسكن؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة ، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه ، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة .
وهذا لا يحصل إلا بإعانة الله له ، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك السرور والسكون إلا الله ، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) فإنه لو أُعين على حصول كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده،ولم تحصل له عبادة الله ؛ فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب،ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها،إلا بإخلاص الحب لله ، بحيث يكون الله هو غاية مراده ، ونهاية مقصوده، وهو المحبوب له بالقصد الأول ، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله، ولا يُحب شيئاً لذاته إلا الله(2) .
__________
(1) البخاري/ك الوضوء من حديث البراء (247)،ومسلم/ك الذكر والدعاء (2710) .
(2) في الأصل : ( إلا الله ) ، ولعل الصواب ما أثبتناه .(1/247)
ومتى لم يحصل له هذا ، لم يكن قد حقق حقيقة : (( لا إله إلا الله ))، ولا حقق التوحيد والعبودية والمحبة لله ، وكان فيه من نقص التوحيد والإيمان، بل من الألم والحسرة والعذاب بحسب ذلك ، ولو سعى في هذا المطلوب ، ولم يكن مستعيناً بالله متوكلاً عليه مفتقراً إليه في حصوله ،لم يحصل له ؛ فإنه ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن .
فالعبد مفتقر إلى الله ؛ من حيث هو المطلوب المحبوب ، المراد المعبود ، ومن حيث هو المسؤول المستعان به، المتوكل عليه، فهو إلهه الذي لا إله له غيره،وهو ربه الذي لا رب له سواه، ولا تتم عبوديته لله إلا بهذين))(1)اهـ.
سر تقديم العبادة على الاستعانة :
يتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن سر هذا التقديم فيقول :
(( وتقديم العبادة على الاستعانة في الفاتحة من باب تقديم الغايات على الوسائل ؛ إذ العبادة غاية العباد التي خلقوا لها ، والاستعانة وسيلة إليها،ولأن (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) متعلق بألوهيته واسمه " الله "،و (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) متعلق بربوبيته واسمه » الرب « ، فقدم (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) على (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) كما تقدم اسم الله على الرب في أول السورة .
ولأن (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) قسم الرب ، فكان من الشطر الأول الذي هو ثناء على الله تعالى لكونه أولى به ، و (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) قسم العبد ، فكان مع الشطر الذي له ، وهو (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ )) إلى آخر السورة .
ولأن العبادة المطلقة تتضمن الاستعانة، من غير عكس ، فكل عابد لله عبودية تامة مستعين به ، ولا ينعكس ؛ لأن صاحب الأغراض والشهوات قد يستعين به على شهواته ، فكانت العبادة أكمل وأتم ، ولهذا كانت قسم الرب ، ولأن الاستعانة جزء من العبادة ، من غير عكس .
__________
(1) العبودية ص45 ، 46 .(1/248)
ولأن الاستعانة طلب منه ، والعبادة طلب له ، ولأن العبادة لا تكون إلا من مخلص ، والاستعانة تكون من مخلص ومن غير مخلص .
ولأن العبادة حقه الذي أوجبه عليك ، والاستعانة طلب العون على العبادة ، وهو بيان صدقته التي تصدق بها عليك ، وأداء حقه أهم من التعرض لصدقته.
ولأن العبادة شكر نعمته عليك ، والله يجب أن يشكر ، والإعانة فعله بك وتوفيقه لك ، فإذا التزمت عبوديته ، ودخلت تحت رِقّها أعانك عليها ، فكان التزامها والدخول تحت رقها سبباً لنيل الإعانة ، وكلما كان العبد أتم عبودية كانت الإعانة من الله له أعظم.
والعبودية محفوفة بإعانتين: إعانة قبلها على التزامها والقيام بها ، وإعانة بعدها على عبودية أخرى ، وهكذا أبداً ، حتى يقضي العبد نحبه .ولأن : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) له . و: (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) به ، وما (له) يتقدم على ما (به) ؛ لأن ما (له) متعلق بمحبته ورضاه . وما(به) متعلق بمشيئته ، وماتعلق بمحبته أكمل مما تعلق بمشيئته ))(1) اهـ.
مما سبق يتبين لنا سرّ الجمع بين العبادة والاستعانة ، وشدة فاقة العبد وفقره إلى عبادة ربه ، وأنه لا يستطيع ولا يقوى على ذلك إلا بالاستعانة به سبحانه والتوكل عليه وتفويض الأمر إليه عز وجل :(( فقوله : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) تبرؤ من الشرك. وعبادته سبحانه بالأمر والنهي والمحبة والخوف، و: (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) تبرؤ من الحول والقوة.والقيام بعبادته سبحانه بالتفويض والتسليم، وجميع العبوديات داخلة في ذلك ؛ لأن الأول إشارة إلى عبادته سبحانه بما اقتضته إلهيته ، والثاني بما اقتضته ربوبيته ))(2) اهـ.
((
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 75 ، 76 ) .
(2) انظر : مجموع الفتاوى ( 1 / 89 ) .(1/249)
أما تقديم المعبود المستعان على الفعلين بأن قال : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) ولم يقل (نعبدك) ففيه : الأدب مع الله سبحانه بتقديم اسمه على فعلهم ، وفيه الاهتمام وشدة العناية به ، وفيه الإيذان بالاختصاص المسمى بالحصر؛ فهو في قوة : لا نعبد إلا إياك ، ولا نستعين إلا بك ))(1) اهـ.
أما عن معنى العبادة والاستعانة (التوكل ) فيبين ذلك الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول : ((والعبادة : تجمع أصلين : غاية الحب بغاية الذل والخضوع.والعرب تقول : طريق معبد أي مذلّل ، والتعبد : التذلل والخضوع ، فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له ، لم تكن عابداً له ، ومن خضعت له بلا محبة ، لم تكن عابداً له حتى تكون محبّاً خاضعاً .
ومن ههنا كان المنكرون محبة العباد لربهم منكرين حقيقة العبودية ، والمنكرون لكونه محبوباً لهم ؛ بل هو غاية مطلوبهم،ووجهه الأعلى نهاية بغيتهم ؛ منكرين لكونه إلهاً ، وإن أقروا بكونه رباً للعالمين وخالقاً لهم؛ فهذا غاية توحيدهم ،وهو توحيد الربوبية ، الذي اعترف به مشركو العرب ، ولم يخرجوا به من الشرك ، كما قال تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)) (الزخرف:87) ، وقال تعالى : (( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ )) (الزمر:38) ، (( قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ)) (المؤمنون:84،85)
__________
(1) انظر : مدارج السالكين ( 1 / 77 ) .(1/250)
ولهذا يحتج عليهم به على توحيد إلهيته ، وأنه لاينبغي أن يعبد غيره ، كما أنه لا خالق غيره ولا رب سواه.والاستعانة : تجمع أصلين : الثقة بالله ، والاعتماد عليه؛فإن العبد قد يثق بالواحد من الناس ولا يعتمد عليه في أموره مع ثقته به ؛ لاستغنائه عنه. وقد يعتمد عليه مع عدم ثقته به لحاجته إليه، ولعدم من يقوم مقامه ، فيحتاج إلى اعتماده عليه ، مع أنه غير واثق به .
والتوكل: معنى يلتئم من أصلين : من الثقة ، والاعتماد ، وهو حقيقة (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) وهذان الأصلان وهما التوكل والعبادة قد ذكرا في القرآن في عدة مواضع، قرن بينهما فيها ، هذا أحدهما))(1) اهـ.
وسيأتي إن شاء تعالى كلام أكثر تفصيلاً عن مفهوم العبادة الحقة والتوكل الصادق،وما ينافيهما في المباحث القادمة إن شاء الله تعالى .
أقسام الناس في العبادة والاستعانة (التوكل) :
1 ـ منهم من غلب عليه التأله لله وعبادته بالأمر والنهي،مع قيامه بالاستعانة والتوكل على الله عز وجل .
2 ـ ومنهم من أعرض عن عبادته سبحانه والاستعانة به.
3ـ ومنهم من له نوع عبادة بلااستعانة ولا توكل على الله عز وجل
4 ـ ومنهم من له توكل ولجوء إلى الله عز وجل مع تفريطه في عبادة ربه وفي أوامره ونواهيه .
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 74 ) ، وقد سبق ذكر الآيات التي قرن فيها بين العبادة والتوكل .(1/251)
ويجلي هذه المسألة الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول : (( فالناس في هذين الأصلين ـ وهما العبادة والاستعانة ـ أربعة أقسام :أجلها وأفضلها : أهل العبادة والاستعانة بالله عليها ، فعبادة الله غاية مرادهم، وطلبهم منه أن يعينهم عليها ويوفقهم للقيام بها ؛ ولهذا كان من أفضل ما يُسأل الربُّ تبارك وتعالى الإعانة على مرضاته ، وهو الذي علمه النبي لله لِحبِّه معاذ بن جبل؛ فقال : (( يا معاذ ، والله إني لأحبك ، فلا تنس أن تقول في دُبُر كل صلاة : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ))(1) .
فأنفع الدعاء طلب العون على مرضاته، وأفضل المواهب إسعافه بهذا المطلوب. وجميع الأدعية المأثورة مدارها على هذا ، وعلى دفع ما يضاده ، وعلى تكميله وتيسير أسبابه ، فتأملها.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه : تأملت الدعاء فإذا هو سؤال العون على مرضاته ، ثم رأيته في الفاتحة في (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))
ومقابل هؤلاء: القسم الثاني : وهم المعرضون عن عبادته والاستعانة به فلا عبادة ولا استعانة ، بل إن سأله أحدهم واستعان به فعلى حظوظه وشهواته ،لا على مرضاة ربه وحقوقه،فإنه سبحانه يسأله من في السموات والأرض ؛ يسأله أولياؤه وأعداؤه ، ويمُدُّ هؤلاء وهؤلاء ، وأبغض خلقه : عدوه إبليس، ومع هذا فسأله حاجة فأعطاه إياها، ومتعه بها ،ولكن لما لم تكن عوناً له على مرضاته؛كانت زيادة له في شقوته،وبعده عن الله وطرده
عنه ، وهكذا كل من استعان به على أمر وسأله إياه ، ولم يكن عوناً على طاعته ، كان مبعداً له عن مرضاته ، قاطعاً له عنه ولابد.
__________
(1) أبو داود / ك الصلاة من حديث معاذ ( 1522 ) ، والنسائي / ك السهو ( 3 / 53 ) ، وأحمد ( 5 / 244 ، 247 ) ، وهو في صحيح سنن أبي داود ( 1347 ) .(1/252)
وليتأمل العاقل هذا في نفسه وفي غيره ، وليعلم أن إجابة الله لسائليه ليست لكرامة كل سائل عليه ، بل يسأله عبده الحاجة فيقضيها له ، وفيها هلاكه وشقوته ، ويكون قضاؤها له من هوانه عليه وسقوطه من عينه ، ويكون منعه منها لكرامته عليه ومحبته له ، فيمنعه حمايةً وصيانة وحفظاً لا بخلاً ، وهذا إنما يفعله بعبده الذي يريد كرامته ومحبته ، ويعامله بلطفه، فيظن بجهله أن الله لا يحبه ولا يكرمه ، ويراه يقضي حوائج غيره ، فيسيء ظنه بربه .
القسم الثالث : من له نوع عبادة بلا استعانة ، وهؤلاء نوعان :
أحدهما : القدرية القائلون بأنه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف ، وأنه لم يبق في مقدوره إعانة له على الفعل ، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها ، وتعريف الطريق ، وإرسال الرسل ، وتمكينه من الفعل، فلم يبق بعد هذا إعانة مقدورة يسأله إياها ، بل قد ساوى بين أوليائه وأعدائه في الإعانة ، فأعان هؤلاء كما أعان هؤلاء ، ولكن أولياءه اختاروا لنفوسهم الإيمان ، وأعداءه اختاروا لنفوسهم الكفر ، من غير أن يكون الله سبحانه وفق هؤلاء بتوفيق زائد أوجب لهم الإيمان ، وخذل هؤلاء بأمر آخر أوجب لهم الكفر ، فعباده هؤلاء لهم نصيب منقوص من العبادة ، لا استعانة معه ؛ فهم موكولون إلى أنفسهم ، مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد .
قال ابن عباس رضي الله عنهما:الإيمان بالقدر نظام التوحيد،فمن آمن بالله وكذب بقدره نقض تكذيبه وتوحيده .
النوع الثاني: من لهم عبادات وأوراد ولكن حظهم ناقص من التوكل والاستعانة،لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر ،وتلاشيها في ضمنه، وقيامها به،وأنها بدون القدر كالموات الذي لا تأثير له ، بل كالعدم الذي لا وجود له ، وأن القدر كالروح المحرك لها ، والمعول على المحرك الأول .(1/253)
فلم تنفذ قوى بصائرهم من المتحرك إلى المحرك ، ومن السبب إلى المسبب ، ومن الآلة إلى الفاعل ، فضعفت عزائمهم ، وقصرت هممهم ؛ فقل نصيبهم من (( إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ولم يجدوا ذوق التعبد بالتوكل والاستعانة، وإن وجدوا ذوقه بالأوراد والوظائف ، فهؤلاء لهم نصيب من التوفيق والنفوذ والتأثير ، بحسب استعانتهم وتوكلهم ، ولهم من الخذلان والضعف والمهانة والعجز بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم،ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبل عن مكانه،وكان مأموراً بإزالته، لأزاله .
فإن قلت : فما معنى التوكل والاستعانة ؟
قلت : هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله ، وتفرده بالخلق والتدبير والضر والنفع ، والعطاء والمنع ، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس ، وما لم يشأ لم يكن وإن شاءه الناس ؛ فيوجب له هذا اعتماداً عليه ، وتفويضاً إليه، وطمأنينة به، وثقة به، ويقيناً بكفايته لما توكل عليه فيه،وأنه مَلِيٌّ به ، ولا يكون إلا بمشيئته ، شاءه الناس أم أبوه ، فتشبه حالته حالة الطفل مع أبويه فيما ينويه من رغبة ورهبة هما مَليَّان بهما. فانظر في تجرد قلبه عن الالتفات إلى غير أبويه، وحبس هَمِّه على إنزال ما ينوبه بهما . فهذه حال المتوكل، ومن كان هكذا مع الله ،فالله كافيه ولابد ،قال الله تعالى: (( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه )) (الطلاق: 3) .أي كافيه . والحسب : الكافي ، فإن كان مع هذا من أهل التقوى كانت له العاقبة الحميدة ، وإن لم يكن من أهل التقوى فهو :(1/254)
القسم الرابع : وهو من شهد تفرد الله بالنفع والضرر ، وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولم يَدُر مع ما يحبه ويرضاه ، فتوكل عليه واستعان به على حظوظه وشهواته وأغراضه ، وطلبها منه ، وأنزلها به فقضيت له ، وأُسعف بها ، ولكن لا عاقبة له ، سواء كانت أموالاً أو رياسة أو جاهاً عند الخلق أو أحوالاً ؛ من كشف وتأثير وقوة وتمكين ، فإنها من جنس المُلك الظاهر ، والأموال لا تستلزم الإسلام ، فضلاً عن الولاية والقرب من الله ، فإن الملك والجاه والمال والحال معطاة للبر والفاجر ، والمؤمن والكافر .
فمن استدل بشيء من ذلك على محبة الله لمن آتاه إياه ، ورضاه عنه ، وأنه من أوليائه المقربين ؛ فهو من أجهل الجاهلين ، وأبعدهم معرفة بالله ودينه، والتمييز بين ما يحبه الله ويرضاه ويكرهه ويسخطه ، فالحال من الدنيا،فهو كالملك والمال،إن أعان صاحبه على طاعة الله ومرضاته، وتنفيذ أوامره ، ألحقه بالملوك العادلين البررة ، وإلا فهو وبال على صاحبه ومبعد له عن الله ، وملحق له بالملوك الظلمة ، والأغنياء الفجرة ))(1) اهـ.
وانقسام الناس إلى الأقسام السابقة هو فيما يكون في الأمر قبل وقوعه من العبادة والتوكل والاستعانة ، أما بعد وقوع الأمر المقدر ؛ فإن المتعين حينئذ هو تقوى الله عز وجل والصبر على المقدور. والناس في هذا أيضاً على أربعة أقسام :
1 ـ فمنهم أهل التقوى والصبر .
2 ـ ومنهم من له نوع من التقوى بلا صبر .
3 ـ ومنهم من له نوع صبر بلا تقوى .
4 ـ ومنهم من لا تقوى له ولا صبر .
ويوضح هذه الأقسام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فيقول : (( وما يكون بعده (أي بعد وقوع المقدور) من صبر ورضا ، ونحو ذلك فهم في التقوى (وهي طاعة الأمر الديني) ، والصبر على ما يقدر عليه من القدر الكوني أربعة أقسام :
أحدها : أهل التقوى والصبر ، وهم الذين أنعم الله عليهم من أهل السعادة في الدنيا والآخرة.
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 78 ـ 82 ) .(1/255)
والثاني : الذين لهم نوع من التقوى بلا صبر ، مثل الذين يمتثلون ما عليهم من الصلاة ونحوها ، ويتركون المحرمات ، لكن إذا أصيب أحدهم في بدنه بمرض ونحوه أو في ماله أو في عرضه ، أو ابتلي بعدوِّ يخيفه عظم جزعه ، وظهر هلعه .
والثالث : قوم لهم نوع من الصبر بلا تقوى ، مثل الفجار الذين يصبرون على ما يصيبهم في مثل أهوائهم كاللصوص والقطاع الذين يصبرون على الآلام في مثل ما يطلبونه من الغصب وأخذ الحرام ، والكُتّاب وأهل الديوان الذين يصبرون على ذلك في طلب ما يحصل لهم من الأموال الخيانة وغيرها .
وكذلك طلاب الرئاسة والعلو على غيرهم يصبرون من ذلك على أنواع من الأذى التي لا يصبر عليها أكثر الناس، وكذلك أهل المحبة للصور المحرمة من أهل العشق وغيرهم ، يصبرون في مثل ما يهوونه من المحرمات على أنواع من الأذى والآلام .
وهؤلاء هم الذين يريدون علواً في الأرض أو فساداً من طلاب الرئاسة والعلو على الخلق ، ومن طلاب الأموال بالبغي والعدوان ، والاستمتاع بالصور المحرمة نظراً أو مباشرة ، وغير ذلك يصبرون على أنواع من المكروهات ، ولكن ليس لهم تقوى فيما تركوه من المأمور وفعلوه من المحظور ، وكذلك قد يصبر الرجل على ما يصيبه من المصائب، كالمرض والفقر وغير ذلك ، ولا يكون فيه تقوى إذا قدر.
وأما القسم الرابع : فهو شرّ الأقسام : لا يتقون إذا قدروا ، ولا يصبرون إذا ابتلوا ؛ بل هم كما قال الله تعالى: (( إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً )) (المعارج:19 ـ 21) .(1/256)
فهؤلاء تجدهم من أظلم الناس، وأجبرهم إذا قدروا ، ومن أذل الناس وأجزعهم إذا قُهروا ، إن قهرتهم ذلوا لك ونافقوك ، وحابوك واسترحموك، ودخلوا فيما يدفعون به عن أنفسهم من أنواع الكذب ، والذل، وتعظيم المسؤول ، وإن قهروك كانوا من أظلم الناس وأقساهم قلباً،وأقلهم رحمة وإحساناً وعفواً،كما قد جربه المسلمون في كل من كان عن حقائق الإيمان أبعد ، مثل التتار الذين قاتلهم المسلمون ، ومن يشبههم في كثير من أمورهم ، وإن كان متظاهراً بلباس جند المسلمين وعلمائهم وزهادهم وتجارهم وصناعهم ، فالاعتبار بالحقائق : ((فإن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ))(1) .
فمن كان في قلبه وعمله من جنس التتار وأعمالهم كان شبيهاً لهم من هذا الوجه ، وكان ما معه من الإسلام أو ما يظهره منه بمنزلة ما معهم من الإسلام وما يظهرونه منه ، بل يوجد في غير التتار المقاتلين من المظهرين للإسلام من هو أعظم ردة وأولى بالأخلاق الجاهلية ، وأبعد عن الأخلاق الإسلامية من التتار .
وفي الصحيح عن النبي لله أنه كان يقول في خطبته : (( خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل بدعة ضلالة ))(2) .
وإذا كان خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد ، فكل من كان إلى ذلك أقرب وهو به أشبه؛ كان إلى الكمال أقرب ،وهو به أحق. ومن كان بعد ذلك أبعد وشبهه به أضعف ؛ كان عن الكمال أبعد ، وبالباطل أحق.
__________
(1) مسلم بنحوه /ك البر والصلة من حديث أبي هريرة ( 4/ 1986 ) ( تحت 2564 ) .
(2) البخاري بنحوه موقوفاً على ابن مسعود / ك الأدب ( 6098 ) ، ك الاعتصام
( 7277 ) ، ومسلم مرفوعاً / ك الجمعة ( 867 ) .(1/257)
والكامل هو من كان لله أطوع ، وعلى ما يصيبه أصبر ، فكلما كان أتبع لما يأمر الله به ورسوله وأعظم موافقة لله فيما يحبه ويرضاه ؛ وصبراً على ما قدره وقضاه؛ كان أكمل وأفضل ، وكل من نقص عن هذين؛كان فيه من النقص بحسب ذلك .
وقد ذكر الله تعالى : (( الصبر والتقوى )) جميعاً في غير موضع من كتابه، وبين أنه ينتصر العبد على عدوه من الكفار المحاربين المعاندين والمنافقين ، وعلى من ظلمه من المسلمين ، ولصاحبه تكون العاقبة .
قال الله تعالى : (( بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةُ مُسَوِّمِينَ )) (آل عمران:125)
وقال الله تعالى : (( لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ )) (آل عمران:186) .
وقال تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ )) (آل عمران:118 ـ 120)(1/258)
وقال أخوة يوسف له : (( قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ )) (يوسف:90)
وقد قرن الصبر بالأعمال الصالحة عموماً وخصوصاً ، فقال تعالى: (( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ )) (يونس:109) .
وفي اتباع ما أوحي إليه التقوى كلها تصديقاً لخبر الله ،وطاعة لأمره، وقال تعالى : (( وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ * وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ))
(هود:114 ، 115)
وقال تعالى : (( فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِبْكَارِ )) (غافر:55)
وقال تعالى: (( فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى))
(طه:130)
وقال تعالى : (( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ )) (البقرة:45) .
وقال تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) (البقرة:153)،فهذه مواضع قرن فيها الصلاة والصبر))(1)اهـ.
* * *
المبحث الثانيالمفهوم الصحيح للعبادةومظاهر الانحراف والضعف في ذلك
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 10 / 673 ـ 677 ) .(1/259)
سبقت الإشارة في المبحث السابق عند تفسير(( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) إلى بعض معاني العبادة والعبودية ، وهذا أوان التفصيل فيها وبيان أقسامها ومراتبها ومظاهر الانحراف في فهم العبادة وتطبيقاتها.
المفهوم الصحيح للعبادة :
اختلفت أقوال العلماء في مفهوم العبادة وتعريفها ، وهذا الاختلاف هو من اختلاف التنوع وليس التضاد،أي أن هذه التعريفات يكمل بعضها بعضاً وهي تدور بين التعريف اللغوي أو التعريف بلازمها أو أقسامها أو أركانها . والإلمام بكل هذه الأقوال ينتج عنه المفهوم الصحيح للعبادة .
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ((أصل العبادة :محبة الله ،بل إفراده بالمحبة، وأن يكون الحب كله لله ، فلا يحب معه سواه ، وإنما يحب لأجله وفيه ، كما يحب أنبياءه ورسله وملائكته وأولياءه ، فمحبتنا لهم من تمام محبته ، وليست محبة معه ، كمحبة من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحبه .
وإذا كانت المحبة له،حقيقة عبوديته وسرها،فهي إنما تتحق باتباع أمره واجتناب نهيه ))(1) .
ويقول في موطن آخر : (( العبادة تجمع أصلين : غاية الحب بغاية الذل والخضوع .والعرب تقول: طريق معبد أي مذلل، والتعبد التذلل والخضوع ، فمن أحببته ولم تكن خاضعاً له لم تكن عابداً له ، ومن خضعت له بلا محبة لم تكن عابداً له، حتى تكون محبّاً خاضعاً))(2) .
ويعرفها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فيقول :
(( العبادة : اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة ))(3) .
ويشرح الإمام ابن القيم رحمه الله هذا التعريف ، فيقول : (( وبني (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) على أربع قواعد : التحقق بما يحبه الله ورسوله ويرضاه من قول اللسان ، والقلب ، وعمل القلب ، والجوارح.
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 99 ) .
(2) مدارج السالكين ( 1 / 77 ) .
(3) العبودية :ص4 ، ت :بشير عيون .(1/260)
فالعبودية : اسم جامع لهذه المراتب الأربع، فأصحاب (( إِيَّاكَ نَعْبُد)) حقاً هم أصحابها .
فقول القلب : هو اعتقاد ما أخبر الله سبحانه به عن نفسه وعن أسمائه وصفاته وأفعاله وملائكته ولقائه على لسان رسله .
وقول اللسان : الإخبار عنه بذلك ، والدعوة إليه ، والذَبُّ عنه وتبيين بطلان البدع المخالفة له ، والقيام بذكره وتبليغ أوامره .
وعمل القلب: كالمحبة له والتوكل عليه ، والإنابة إليه ، والخوف منه والرجاء له ، وإخلاص الدين له ، والصبر على أوامره ، وعن نواهيه وعلى أقداره ، والرضا به وعنه ، والموالاة فيه ، والمعاداة فيه ، والذل له والخضوع، والإخبات إليه ، والطمأنينة به ، وغير ذلك من أعمال القلوب التي فرضُها أفرضُ من أعمال الجوارح ومستحبها أحب إلى الله من مستحبها، وعمل الجوارح بدونها إما عديم المنفعة أو قليل المنفعة.
وأعمال الجوارح : كالصلاة والجهاد ، ونقل الأقدام إلى الجمعة والجماعات ، ومساعدة العاجز ، والإحسان إلى الخلق ونحو ذلك ، فـ (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) ؛ التزام لأحكام هذه الأربعة وإقرار بها))(1) .
ويقول ابن الجوزي رحمه الله تعالى : (( وفي المراد بهذه العبادة ثلاثة أقوال :
أحدها : أنه بمعنى التوحيد ، روي عن علي وابن عباس وآخرين .
الثاني : أنها بمعنى الطاعة ، كقوله تعالى: (( أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ ))
(يّس:60)
الثالث : أنها بمعنى الدعاء كقوله تعالى : (( إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي )) [غافر: 60] ))(2) اهـ.
وقال الزجاج : ((معنى العبادة في اللغة : الطاعة مع الخضوع))(3) .
متى يكون العبد متحققاً بوصف العبودية ؟
لا يكون العبد متحققاً بوصف العبودية إلا بأصلين عظيمين:
1 ـ متابعة الرسول لله.
2 ـ الإخلاص للمعبود ، فهذا تحقيق (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ )) .
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 100 ) .
(2) زاد المسير ( 1 / 14 ) .
(3) معاني القرآن ( 1 / 48 ) .(1/261)
ويتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن انقسام الناس في هذين الأصلين ، فيقول :
(( والناس منقسمون بحسب هذين الأصلين أيضاً إلى أربعة أقسام :
أحدها: أهل الإخلاص للمعبود والمتابعة ، وهم أهل (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) حقيقة ، فأعمالهم كلها لله ، وأقوالهم لله ،وعطاؤهم لله ، ومنعهم لله ، وحبهم لله ، وبغضهم لله ، فمعاملتهم ظاهراً وباطناً لوجه الله وحده، لا يريدون بذلك من الناس جزاءً ولا شكوراً ،ولا ابتغاء الجاه عندهم ، ولا طلب المحمدة والمنزلة في قلوبهم ، ولا هرباً من ذمهم، بل قد عدوا الناس بمنزلة أصحاب القبور ، لا يملكون لهم ضرّاً ولا نفعاً ، ولاموتاً ولا حياة ولا نشوراً .
فالعمل لأجل هؤلاء ، وابتغاء الجاه والمنزلة عندهم ، ورجائهم للضر والنفع منهم ؛ لا يكون من عارف بهم البتة ، بل من جاهل بشأنهم، وجاهل بربه ، فمن عرف الناس أنزلهم منازلهم ، ومن عرف الله أخلص له أعماله وأقواله وعطاءه ومنعه وحبه وبغضه ، ولا يعامل أحد الخلق دون الله إلا لجهله بالله وجهله بالخلق ، وإلا فإذا عرف الله وعرف الناس آثر معاملة الله على معاملتهم ،وكذلك أعمالهم كلها وعباداتهم موافقةلأمر الله، ولما يحبه ويرضاه.
وهذا هو العمل الذي لا يقبل الله من عاملٍ سواه، وهو الذي بَلا عباده بالموت والحياة لأجله ، قال الله تعالى: (( الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )) (الملك:2). وجعل ما على الأرض زينة لها ليختبرهم أيهم أحسن عملاً.
قال الفضيل بن عياض : هو أخلصه وأصوبه . قالوا : يا أبا علي ، ما أخلصه وأصوبه ؟ قال : إن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً ؛ لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل ؛ حتى يكون خالصاً وصواباً ، والخالص : ما كان لله ، والصواب : ما كان على السنة .(1/262)
وهذا هو المذكور في قوله تعالى : (( فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً )) (الكهف:110) . وفي قوله تعالى: (( وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً )) (النساء:125) .
فلا يقبل الله من العمل إلا ما كان خالصاً لوجهه على متابعة أمره ، وما عدا ذلك فهو مردود على عامله ، يعود عليه أحوج ما هو إليه هباءً منثوراً .
وفي الصحيح عن النبيصلى الله عليه وسلم : ((كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد))(1) وكل عمل بلا اقتداء فإنه لا يزيد عامله من الله إلا بعداً ، فإن الله تعالى يُعبد بأمره، لا بالآراء والأهواء .
الضرب الثاني : من لا إخلاص له ولا متابعة ؛ فليس عمله موافقاً لشرع ، ولا هو خالصاً للمعبود ؛ كأعمال المتزينين للناس ، المرائين لهم بما لم يشرعه الله ورسوله ، وهؤلاء شرار الخلق وأمقتهم إلى الله عز وجل ، ولهم أوفر نصيب من قوله : (( لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) (آل عمران:188) . يفرحون بما أتوا من البدعة والضلالة والشرك ، ويحبون أن يحمدوا باتباع السنة والإخلاص .
وهذا الضرب يكثر فيمن انحرف من المنتسبين إلى العلم والفقر والعبادة عن الصراط المستقيم ، فإنهم يرتكبون البدع والضلالات ، والرياء والسمعة، ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوه من الاتباع والإخلاص والعلم، فهم أهل الغضب والضلال .
__________
(1) البخاري بنحوه من حديث عائشة / ك الصلح ( 2697 ) ، ومسلم / ك الأقضية
( 3 / 1343 ) ( تحت 1718 ) .(1/263)
الضرب الثالث : من هو مخلص في أعماله ، لكنها على غير متابعة الأمر ، كجهال العباد والمنتسبين إلى طريق الزهد والفقر ، وكل من عبد الله بغير أمره ، واعتقد قربه إلى الله فهذه حاله ، كمن يظن أن سماع المُكَاء والتصدية قربة وأن الخلوة التي يترك فيها الجمعة والجماعة قربة ، وأن مواصلة صوم النهار بالليل قربة ، وأن صيام يوم فطر الناس كلهم قربة ، وأمثال ذلك .
الضرب الرابع : من أعماله على متابعة الأمر لكنها لغير الله كطاعة المرائين، وكالرجل
يقاتل رياء وحمية وشجاعة ، ويحج ليقال ، ويقرأ القرآن ليقال ، فهؤلاء أعمالهم ظاهرها أعمال صالحة مأمور بها ، لكنها غير خالصة فلا تقبل ؛ (( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ )) (البينة:5)
فكل أحد لم يؤمر إلا بعبادة الله بما أمر ، والإخلاص له في العبادة ، وهم أهل (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ))(1) اهـ.
انقسام العبودية إلى عامة وخاصة : يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : ((العبودية نوعان : عامة ، وخاصة : فالعبودية العامة : عبودية أهل السموات والأرض كلهم لله ، بَرِّهم وفاجرهم ، مؤمنهم وكافرهم ، فهذه عبودية القهر والملك ، قال تعالى : (( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً)) (مريم:88 ـ 93) فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم .
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 83 ـ 85 ) .(1/264)
وقال تعالى : (( وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ )) (الفرقان:17) ، فسماهم عباده مع ضلالهم ، لكن تسمية مقيدة بالإشارة ، وأما المطلقة فلم تجئ إلا لأهل النوع الثاني ، كما سيأتي بيانه إن شاء الله .
وقال تعالى : (( قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ)) (الزمر:46) وقال : (( وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبَادِ )) (غافر:31) ، (( إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ )) (غافر:48) فهذا يتناول العبودية الخاصة والعامة .
وأما النوع الثاني : فعبودية الطاعة والمحبة ، واتباع الأوامر ، قال تعالى : (( يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ )) (الزخرف:68) . وقال : (( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ )) (الزمر:18) وقال : (( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً)) (الفرقان:63) وقال تعالى عن إبليس: (( وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)) (الحجر:39،40) فقال تعالى : (( إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ )) (الحجر:42)
فالخلق كلهم : عبيد ربوبيته . وأهل طاعته وولايته هم عبيد إلهيته ))(1) اهـ.
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 105 ) .(1/265)
أفضل العبادة وأنفعها : لما كان أهل طاعة الله وولايته هم عبيد إلهيته المنقادون لأمره ، وهم عبيده المحبون له ، المتذللون له ، المدركون للغاية التي من أجلها خُلقوا ؛ فلا جرم كانت أوقاتهم وأعمارهم كلها معمورة بعبادته جلَّ وعلا ، وإيثار مرضاته في كل وقت ومكان ،أطاعوا الله تعالى ورسوله لله في كل حين وحال ، وفي كل حركة وسكنة ، وفي محياهم ومماتهم، في المسجد وفي البيت وفي السوق وفي كل عمل يمارسونه في حياتهم .
وباختصار ، فلقد فهموا وخضعوا لقوله تعالى : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) (الأنعام:162 ـ 163) .
هكذا فهم سلفُ الأمة وصلحاؤها معنى العبادة ، وأن الحياة كلها يجب أن تكون محكومة بدين الله عز وجل .
ثم إنهم بعد ذلك فاضلوا بين العبادات والأعمال الصالحة عند التزاحم وقدموا أحبها لله وأرضاها له عزوجل ، وذلك عندما يضيق الوقت عن القيام بها مجتمعة .
وهذا هو الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، يبين لنا الاختيار الصحيح لأساس التفاضل بين العبادات وأحقها بالإيثار بعد أن ذكر أقوالاً أربعة أيد منها أهل الاختيار الرابع ، فقال :
(( الصنف الرابع:قالوا :إن أفضل العبادة : العمل على مرضاة الرب في كل وقت بما هو مقتضى ذلك الوقت ووظيفته ، فأفضل العبادات في وقت الجهاد ؛ الجهاد ، وإن آل إلى ترك الأوراد ، من صلاة الليل وصيام النهار ، بل ومن ترك إتمام صلاة الفرض ، كما في حالة الأمن .
والأفضل في وقت حضور الضيف مثلاً : القيام بحقه ، والاشتغال به عن الورد المستحب ، وكذلك في أداء حق الزوجة والأهل .
والأفضل في أوقات السحر : الاشتغال بالصلاة والقرآن والدعاء والذكر والاستغفار .
والأفضل في وقت استرشاد الطالب ، وتعلم الجاهل: الإقبال على تعليمه والاشتغال به .(1/266)
والأفضل في أوقات الأذان:ترك ما هو فيه من ورده والاشتغال بإجابة المؤذن .
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس : الجد والنصح في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت ، والخروج إلى الجامع ، وإن بَعُد كان أفضل .
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج إلى المساعدة بالجاه أو البدن أو المال: الاشتغال بمساعدته ، وإغاثة لهفته ، وإيثار ذلك على أورادك وخلوتك .
والأفضل في وقت قراءة القرآن : جمعية القلب، والهمة على تدبره وتفهمه ، حتى كأن الله تعالى يخاطبك به ، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره، والعزم على تنفيذ أوامره أعظم من جمعية قلب من جاءه كتاب من السلطان على ذلك .
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة:الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر دون الصوم المُضعِف عن ذلك .
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة : الإكثار من التعبد ، لا سيما التكبير والتهليل والتحميد ؛ فهو أفضل من الجهاد غير المتعين .
والأفضل في العشر الأخير من رمضان: لزوم المسجد فيه والخلوة والاعتكاف دون التصدي لمخالطة الناس والاشتغال بهم ، حتى إنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم وإقرائهم القرآن ، عند كثير من العلماء .
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته : عيادته،وحضور جنازته وتشييعه ، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذاة الناس لك : أداء واجب الصبر مع خلطتك بهم ، دون الهرب منهم ، فإن المؤمن الذي يخالط الناس ليصبر على أذاهم أفضل من الذي لا يخالطهم ولا يؤذونه .
والأفضل خلطتهم في الخير ، فهي خير من عزلتهم فيه ، وعزلتهم في الشر ، فهي أفضل من خلطتهم فيه ، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله أو قلله ، فخلطتهم حينئذ أفضل من عزلتهم .(1/267)
فالأفضل في كل وقت وحال : إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بواجب ذلك الوقت ووظيفته ومقتضاه ، وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق ، والأصناف قبلهم أهل التعبد المقيد ، فمتى خرج أحدهم عن النوع الذي تعلق به من العبادة وفارقه يرى نفسه كأنه قد نقض وترك عبادته ، فهو يعبد الله على وجه واحد .
وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبد بعينه يؤثره على غيره ، بل غرضه تتبع مرضاة الله تعالى أين كانت ، فمدار تعبده عليها ، فهو لا يزال متنقلاً في منازل العبودية ، كلما رفعت له منزلة عمل على سيره إليها ، واشتغل بها حتى تلوح له منزلة أخرى .
فهذا دأبه في السير حتى ينتهي سيره ؛ فإن رأيت العلماء رأيته معهم ، وإن رأيت العباد رأيته معهم، وإن رأيت المجاهدين رأيته معهم ،وإن رأيت الذاكرين رأيته معهم ، وإن رأيت المتصدقين المحسنين رأيته معهم ، وإن رأيت أرباب الجمعية وعكوف القلب على الله رأيته معهم .
فهذا هو العبد المطلق ، الذي لم تملكه الرسوم ، ولم تقيده القيود ، ولم يكن عمله على مراد نفسه وما فيه لذتها وراحتها من العبادات ، بل هو على مراد ربه ؛ ولو كانت راحة نفسه ولذتها في سواه ، فهذا هو المتحقق بإياك نعبد وإياك نستعين حقاً ، القائم بهما صدقاً ،ملبسه ما تهيأ ، ومأكله ما تيسر ، واشتغاله بما أمر به في كل وقت بوقته ، ومجلسه حيث انتهى ووجده خالياً ، لا تملكه إشارة ، ولا يتعبده قيد ، ولا يستولي علىه رسم ، حر مجرد ، دائر مع الأمر حيث دار ، يدين بدين الأمر أنَّى توجهت ركائبه ، ويدور معه حيث استقلت مضاربه ،يأنس به كل محق ، ويستوحش منه كل مبطل ، كالغيث حيث وقع نفع ، وكالنخلة لا يسقط ورقها ، وكلها منفعة حتى شوكها ، وهو موضع الغلظة منه على المخالفين لأمر الله ، والغضب إذا انتهكت محارم الله .(1/268)
فهو لله وبالله ومع الله ، قد صحب الله بلا خَلْق ، وصحب الناس بلا نَفْس ، بل إذا كان مع الله عزل الخلائق من البين ،وتخلى عنهم ،وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها . فواهاً له ، ما أغربه بين الناس ، وما أشدَّ وحشته منهم، وما أعظم أنسه بالله وفرحه به، وطمأنينته وسكونه إليه !! والله المستعان ، وعليه التكلان ))(1) اهـ.
خلاصة ما سبق :
مما سبق بيانه من النقولات يتضح لنا جليّاً معنى العبادة الحقة التي أمرنا الله عز وجل أن نتعبده بها ، ويمكن تلخيص هذا المعنى العظيم وتلك الحقيقة الضخمة فيما يلي :
? العبادة الحقة تعني تمام المحبة مع تمام الخضوع والتذلل لله عز وجل.
? تمام المحبة وكمال الخضوع والتذلل لله عز وجل يعني طاعته سبحانه والانقياد لأمره ، ومحبة ما يحب ، وبغض ما يكره، واتباع رسوله محمد لله فيما أمر ونهى ، وما سن وما شرع من غير زيادة ولا نقصان ؛ وإلا فما قيمة محبة وخضوع لا يثمران طاعة واتباعاً وقبولاً والتزاماً .
? العبادة الحقة تفرض على العبد أن يكون في كل أوقاته وتحركاته وسكناته مصبوغاً بصبغة العبودية لا يخرج عنها في أي لحظة من اللحظات، وسيأتي زيادة بيان حول هذه المسألة قريباً إن شاء الله تعالى .
? من صرف شيئاً من العبادة لغير الله تعالى فهو مشرك تجب البراءة منه ومن شركه ، ولا تصح العبادة إلا بهذه البراءة .
* * *
بعض مظاهر الضعف والانحراففي مفهوم العبادة وتطبيقها
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 88 ـ 90 ) .(1/269)
بعد أن اتضح لنا مفهوم العبادة الحقة كما يريدها الله عز وجل لنفسه، وكما فهمها وحققها رسولهصلى الله عليه وسلم في أعلى مقاماتها، وكما فهمها سلفنا الصالح رضي الله عنهم وطبقوها ، فلابد بعد ذلك من عرض هذه المفاهيم العظيمة والحقائق الضخمة على واقعنا نحن المسلمين في هذه الأزمنة المتأخرة، وهل هذا الفهم الصحيح للعبادة هو السائد اليوم بين المسلمين؟أم أن هذا الفهم قد اعتراه من الضعف والانحراف الشيء الكثير؟
إن المتأمل في حال المسلمين الأليم ، والغربة التي يعيشها أهل الإسلام اليوم ليجد كثيراً من المفاهيم العقدية قد انحرفت عند كثير من عامة المسلمين إلا من رحم الله عز وجل ، فهناك انحراف في معنى التوحيد والعبادة ، وانحراف في عقيدة اليوم الآخر ، وانحراف في عقيدة القضاء والقدر ، وانحراف .. وانحراف .. ولقد ساهم في هذه الانحرافات غزو أعداء المسلمين لديار المسلمين بثقافاتهم الكافرة وأفكارهم المنحرفة ، وقابل هذا الغزو من الأفكار جهلٌ عند كثير من الأجيال المسلمة بدينها وعقيدتها ، وعجز عند أكثر علماء الأمة من تعليم الناس والوقوف في وجه هذا الغزو، ( فوافق الغزو قلباً خالياً فتمكنا ) .
وفي هذه الفقرة من هذا البحث سيتوجه التركيز على بعض مظاهر الانحراف والضعف في مفهوم العبادة ، فمن ذلك ما يلي :(1/270)
1 ـ الانحراف في تطبيق شرطي العبادة : من مظاهر الانحراف في العبادة فهماً وتطبيقاً ما هو منتشر بين أهل البدع والخرافة في القديم والحديث، من ترك لأحد شرطي العبادة أو كليهما واللذين لا تصح العبادة إلا بهما ؛ ألا وهما الإخلاص والمتابعة ، وقد سبق الإشارة إلى أصناف الناس في أخذهم أو تركهم لهذين الشرطين في مبحث سابق ، ولكن المراد هنا إيضاح الانحراف الذي يترتب على ترك هذين الشرطين أو أحدهما ؛ فترك الإخلاص في العبادة نتج عنه صرف العبادة التي هي لله وحده إلى غيره من الخلق الفقراء ـ ولو كانوا أنبياء أو ملائكة أو أولياء ـ وهذا صرف للعبادة عن مستحقها، وحجتهم الداحضة عند ربهم أنهم يؤمنون بأن الله الخالق الرازق بيده الضر والنفع ، ولكنهم يتوسلون بالصالحين ليقربوهم إلى الله زلفى ؛ وهذا هو الشرك الأكبر الذي من أجله أنزلت الكتب وأرسلت الرسل .
فترى هؤلاء يصرفون العبادة بأنواعها المختلفة من ذبح ونذر ، وخوف ، ورغبة ، وغير ذلك من أصناف العبادة إلى غير الله عز وجل ، وهذا من أشد مظاهر الانحراف في العبادة ؛لأنه شرك أكبر يضاد الإخلاص لله عز وجل ، والذي هو شرط من شروط كلمة التوحيد ، وقبول العبادة . ومحل الكلام عن هذا الشرك وأنواعه مبسوط في كتب التوحيد والعقائد ، ككتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى وغيره ، وليس هنا محل التفصيل .(1/271)
أما ترك الشرط الثاني لصحة العبادة (وهو المتابعة) فينتج عنه انحرافات كثيرة في العبادة وتطبيقاتها ، حيث ظهرت ألوان وصور من العبادات التي لم يأذن بها الله عز وجل ، ولم يشرعها الرسول لله لأمته ، وخاصة بين المتصوفة الذين يعطون لمشائخهم حق التشريع ، ويعتبرون أقوالهم وأفعالهم مصدراً من مصادر الاستدلال ، فظهرت بذلك هيئات وصور متعددة للعبادة والأوراد والأذكار كلها مبتدعة سواء في كيفيتها أو كمها أو هيئتها أو طريقة أدائها أو زمانها أو مكانها ، وهذه كلها مردودة على أصحابها ؛ لأنها تشريع لم يأذن به الله ، قال تعالى : (( أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) (الشورى:21)ولقولهصلى الله عليه وسلم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ))(1) .
2 ـ الانحراف في مفهوم العبادة : وهو النظر إلى العبادة على أنها الشعائر التعبدية من صلاة وصيام وحج، وذبح وقراءة قرآن فحسب ، وأن ما سوى ذلك من معاملات وأخلاقيات ومباحات وغيرها كل ذلك لا يدخل في العبادة .
نعم إن هذا المفهوم هو السائد عند بعض المسلمين سواء أقالوه بلسان مقالهم أم بلسان حالهم وأعمالهم ، ولا أدل على ذلك من أننا قد نجد ذاك العبد المصلي الصائم القارئ للقرآن بعد فراغه من هذه الشعائر التعبدية لا يتورع أن يغشّ ، أو يرابي ، أو يظلم ، أو يملأ بيته من آلات اللهو ووسائل الإفساد ما الله به عليم .
وكذلك قد نرى المرأة المصلية الصائمة لا تتورع عن التصرف في نفسها بما يخالف الشرع من سفور أو زينة محرمة أو اختلاط أو غيره . وإذا نصح مثل هؤلاء الناس ، قالوا: بأنهم من المصلين العابدين ، وقد انتهى وقت العبادة !
__________
(1) مر تخريجه ص 319 .(1/272)
وهكذا تنحرف الغايات ، وتنشأ اللوثات ،وتفسد النيات ، وذلك كمن يفصل أمر تعليمه وتعليم أولاده عن غاية العبادة لله عز وجل ، ويربط ذلك بالشهادة والمال والوظيفة ، بل يستخدم أية وسيلة توصله إلى ذلك ، وهذا الفصام النكد هو منشأ الانحرا ف، إنه ينشأ من فهم هؤلاء للعبادة بأنها أوقات محددة في اليوم والليلة أو السنة ، وما عدا ذلك من الأوقات فهو حر يتمتع بوقته ويفعل ما يحلو له .
ونسي هؤلاء الناس أو تناسوا أنهم ما خلقوا إلا للعبادة ، ولا يقبل الله عز وجل منهم في حياتهم إلا أن يُمضوها في عبادته بالمعنى الشامل للعبادة، لا بمفهومهم القاصر لها .
إن العبادة بهذا المفهوم المنحرف تجعل الإنسان في انفصال وانفصام بين حياته في مسجده وخارج مسجده ؛لأنه لو كان مفهوم العبادة التي يريدها الله عز وجل كما فهمها هذا الصنف من الناس لكانت عبثاً ، ولبقي أكثر الأوقات غير معمور بعبادة الله عز وجل،وهذا لا يرضاه الله عز وجل ذلك لأن أوقات الصلوات لا تتعدى ساعتين أو ثلاث في اليوم والليلة، فماذا يكون شأن الساعات الباقية ، هل تنفق في غير عبادة ؟! كلا، فإن الله سبحانه لا يرضى لعباده هذه الحال .
إذن فالواجب على كل مسلم أن يعلم أنه ما خلق إلا للعبادة، وأن وقته يجب أن يكون في عبادة؛سواء ما كان منه في الشعائر التعبدية أو ما كان منه في المعاملات أو ما كان منه في المباحات ، كل ذلك يجب أن يمارسه العبد وشعور العبادة لله عز وجل يصاحبه ، فيراقب ربه في كل أعماله ، وينوي به التقرب إليه عز وجل والاستعانة بها على طاعته .(1/273)
إن هذا الشعور وهذه النية تجعل العبد في كل أعماله ـ حتى في مباحاته ولذاته ـ عبداً لله مسلماً وجهه لربه عز وجل ، وحول هذا المعنى يتحدث الأستاذ محمد قطب حفظه الله ، فيقول : (( كان المفهوم الصحيح في حسِّ الأجيال الأولى أن عبادة الله هي غاية الوجود الإنساني كله ، كما فهموا من قوله تعالى : ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ )) (الذريات:56) .
إن هذه الآية الكريمة كانت تُمثّل في حسهم معنى هائلاً جدّاً ،وعميقاً جدّاً ،وشامل لكل حياة الإنسان ، فالقرآن نازل بلغتهم ، وهم يفهمون إيحاءات تلك اللغة ، ويدركون أسرار بلاغتها، فيدركون من معنى الآية : أن غاية الوجود الإنساني كله محصورة في العبادة لا تتعداها إلى شيء غيرها على الإطلاق .
فالنفي والاستثناء هما أقوى صور الحصر والقصر في اللسان العربي . ومعناهما : النفي البات من جهة ، والحصر الكامل من الجهة الأخرى ، نفي أي غاية للوجود البشري غير عبادة الله ، وحصر غاية هذا الوجود كله في عبادة الله ، و كانوا إلى جانب ذلك يحسون إحساساً صادقاً بعظمة الله جل جلاله فيحسون تبعاً لذلك بما ينبغي للعبد ـ في مقام عبوديته ـ تجاه الله ـ في مقام ألوهيته ـ من إخلاص العبودية له ، وإخلاص العبادة.. سواء .
ومن ثم لم ينحصر مفهوم العبادة في حسهم في نطاق الشعائر التعبدية وحدها، كما انحصر في حس الأجيال المتأخرة التي جاءت بفهم للإسلام غريب عن الإسلام .
إن شعائر التعبد لا يمكن بداهة أن تكون هي كل » العبادة « المطلوبة من الإنسان ، فما دامت غاية الوجود الإنساني ـ كما تنص الآية الكريمة ـ محصورة في عبادة لله ، فأنّى يستطيع الإنسان أن يوفي العبادة المطلوبة بالشعائر التعبدية فحسب ؟!
كم تستغرق الشعائر من اليوم والليلة؟ وكم تستغرق من عمر الإنسان؟(1/274)
وبقية العمر ؟ وبقية الطاقة ؟ وبقية الوقت ؟ أين تنفق وأين تذهب ؟ تنفق في العبادة أم في غير العبادة ؟ وإن كانت في غير العبادة ، فكيف تتحقق غاية الوجود الإنسان التي حصرتها الآية حصراً كاملاً في عبادة الله؟ وكيف يجوز للإنسان ـ من عند نفسه ـ أن يجعل لوجوده ـ أو لجزء من وجوده ـ غاية لم يأذن بها الله ؟
قال الله عز وجل: (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) ( الأنعام : 162- 163) .
تلك هي العبادة التي كلف الله بها الإنسان ، تشمل الصلاة والنسك ـ أيّ الشعائر التعبدية ـ وتشمل معها كل الحياة .. وكذلك فهم الجيل الأول رضوان الله عليهم معنى العبادة .
لم يحصروها قط في داخل الشعائر التعبدية،بحيث تصبح اللحظات التي يقومون فيها بأداء الشعائر التعبدية هي وحدها لحظات العبادة ، وتكون بقية حياتهم خارج العبادة ))(1) .
3 ـ الانحراف في التطبيق : وقد ترتب على الانحراف في مفهوم العبادة ـ كما قدمنا ـ انحراف آخر في تطبيق العبادة ، فحتى الشعائر التعبدية التي حُصرت العبادة فيها فحسب ، هي الأخرى نالها ما نالها من الضعف والميل بها عن حقيقتها وغايتها ، وهذه نتيجة متوقعة وبدهية معروفة ؛ فالانحراف في الفهم لابد أن ينتج عنه انحراف في التطبيق . ويوضح الأستاذ محمد قطب وفقه الله هذا الانحراف فيقول : ((حين صار المطلوب كله هو أداء الشعيرة ، وانحصرت " العبادة " كلها في هذا الأمر ، كان حريّاً بهذا اللون من العبادة أن ينحسر أكثر فأكثر ، حتى يصبح المطلوب هو أداء الشعيرة بأي صورة كانت .. ولو كان أداءً آليّاً بغير روح ، أو أداء تقليدياً يحركه الحرص على التقاليد أكثر مما يحركه الدافع إلى عبادة الله . .
__________
(1) مفاهيم يجب أن تصحح ص174 ـ 179 باختصار .(1/275)
وتلك هي الصورة التي انتهت إليها العبادة في الجيل الذي شهد الانهيار. وصلت الصلاة أن تكون مجرد حركات تؤدى بلا خشوع ولا إخبات ، ولا التفات إلى معنى ما يُتلى فيها من الآيات والذكر ، وينصرف منها المصلي لا تكاد تحس أنها قد تركت أثراً في نفسه ، أو انعكست على تصرف من تصرفاته ، هذا إن لم يكن قد انشغل عنها تماماً ـ وهو فيها ـ بحساب خسائره وأرباحه ، أو شيء من سائر مشاغله اليومية !
وأصبح الصيام مجرد امتناع عن الطعام والشراب ساعات النهار ، مع نهم ضخم إلى الطعام بعد الإفطار يصل إلى حد الإسراف ، كأنما هو شهر الطعام لا شهر الصوم! فضلاً عن البحث عن "المسليات" في ليل الصوم ، من عكوف على المذياع أوالتلفاز ، أو ما هو أعجب من ذلك وأسوأ مما تنشره صحف » محترمة « في البلاد » الإسلامية« » المتقدمة « من إعلانات تقول : إن الراقصة الفلانية " تحيي ليالي رمضان "!! في المسرح الفلاني إلى ما بعد منتصف الليل ، ويعج المسرح » بالصائمين « الذين صاموا من قبل الرقص ومن بعده ، بلا حرج في صدورهم ولا تأثم ، ولا إحساس بالتناقض بين ما يجري في الليل وما يجري في النهار.
فإنما هي ـ حفظك الله ـ ساعة بعد ساعة !.. (( ساعة لربك وساعة لقلبك )) كما يقول التعبير الجاهلي المعاصر !
والزكاة ـ إن أداها صاحب المال ـ لا تمنعه من أكل الربا ولا تحرج صدره منه!فهذه عبادة وهذا عمل! ولا علاقة ولا تداخل بين العبادة وبين العمل! فضلاً عن الألاعيب والحيل التي يسترد بهال "المزكي" جزءًا من المال الذي تصدق به بالتحايل على من أداه إليهم من الفقراء والمساكين!(1/276)
والحج فرصة هائلة للحصول على لقب "الحاج" .. ولا حرج على "الحاج" بعد ذلك أن يحلف اليمين الغموس إذا اقتضت ذلك "مصلحة" التجارة أو أي نوع من التعامل يقوم به! فضلاً عما يقع في الحج ذاته من أمور يذهل لها العاقل،فضلاً عن المسلم المؤمن،من تدافع مقصود بالمناكب ومن " حجاج " يدوسون فوق إخوان لهم في الإسلام وإخوان لهم في الحج حتى يزهقوا أرواحهم غير مبالين ؛ من أجل الانتهاء من الرجم
بأية صورة ، أو الانتهاء من الطواف ! وفضلاً عن جهالة الجاهلين الذين يتركون أركاناً لا يصح الحج إلا بها ، أو يرتكبون مخالفات صريحة دون فدية ولا نسك .. لأنهم لا يعلمون ))(1) .
4 ـ الانحراف في مصدر التلقي : ترتب على الانحراف السابق في مفهوم العبادة انحراف أشد خطراً وأسوأ أثراً ؛ حيث كان الانحراف السابق ذكره منحصراً على مستوى الفرد ، بينما هذا الانحراف الذي نحن بصدده يتمثل في النظم التي تحكم في أكثر بلدان المسلمين اليوم ، والتي يسعى أربابها إلى عزل الدين عن الحياة وتوجيهها وتنظيمها، وحصره بين جدران المسجد وأداء الشعائر التعبدية .
ولسان مقالهم أو حالهم يردد تلك المقولة الجاهلية ، والتي قالها أصحاب مدين لنبيهم شعيب عليه الصلاة والسلام ، ويقولها العلمانيون في زماننا : ما للدين وحجاب المرأة وعملها ، ما للدين والسياسة ، وموالاة الكفار ومحبتهم،ما للدين والاقتصاد،ما للدين والإعلام والتعليم..!! إلخ. الدين أن تعبد الله في المسجد ، وتقرأ القرآن ، وتذكر الله ، أما الحياة فلها نظمها التي تتناسب مع تطورها ..إلى آخر هذا الهذيان والانحراف والفجور .
__________
(1) مفاهيم يجب أن تصحح ص 242 ـ 244 .(1/277)
إن هذا الفهم الأعوج هو ما قاله أهل مدين لنبيهم شعيب لله بعد أن دعاهم إلى التوحيد وترك البخس ، والنقص في المكيال والميزان . قال الله عز وجل: (( قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)) (هود:87) .
إنهم يقولون، يا شعيب،ما دخل عبادتك وصلاتك في حياتنا الاقتصادية وفي اتباعنا لآبائنا، وطاعتهم فيما كانوا يعبدون ؟!سبحان الله! ما أشبه قلوبهم بقلوب الجاهلين في زماننا هذا وما أشبه مقولتهم بمقولة العلمانيين المنافقين المعاصرين ((أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ)) (الذريات:53).
ويتحدث سيد قطب رحمه الله تعالى عند قوله تعالى (( أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)) فيقول : (( فهم لا يدركون ـ أو لا يريدون أن يدركوا ـ أن الصلاة هي من مقتضيات العقيدة ، ومن صور العبودية والدينونة . وأن العقيدة لا تقوم بغير توحيد الله ، ونبذ ما يعبدونه من دونه هم وآباؤهم ، كما أنها لا تقوم إلا بتنفيذ شرائع الله في التجارة ، وفي تداول الأموال ، وفي كل شأن من شئون الحياة والتعامل ، فهي لحمة واحدة لا يفترق فيها الاعتقاد عن الصلاة وعن شرائع الحياة وعن أوضاع الحياة ...
إن بيننا اليوم ـ ممن يقولون : إنهم مسلمون! ـ من يستنكر وجود صلة بين العقيدة والأخلاق ، وبخاصة أخلاق المعاملات المادية .(1/278)
وحاصلون على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم ، يتساءلون أولاً في استنكار : وما للإسلام وسلوكنا الشخصي؟ ما للإسلام والعري في الشواطئ ؟ ما للإسلام وزي المرأة في الطريق ؟ ما للإسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل ؟ ما للإسلام وهذا الذي يفعله المتحضرون ؟!...فأي فرق بين هذا وبين سؤال أهل مدين : (( أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا )) .
وهم يتساءلون ثانياً ، بل ينكرون بشدة وعنف ، أن يتدخل الدين في الاقتصاد ، وأن تتصل المعاملات بالاعتقاد ، أو حتى بالأخلاق من غير اعتقاد .. فما للدين والمعاملات الربوية ؟ وما للدين والمهارة في الغش والسرقة ما لم يقعا تحت طائلة القانون الوضعي ؟ لا بل إنهم يتبجحون بأن الأخلاق إذا تدخلت في الاقتصاد تفسده ، وينكرون حتى على بعض أصحاب النظريات الاقتصادية الغربية ـ النظرية الأخلاقية مثلاً ـ ويعدونها تخليطاً من أيام زمان !.. .
وما تستقيم عقيدة توحيد الله في القلب ، ثم تترك شريعة الله المتعلقة بالسلوك والمعاملة إلى غيرها من قوانين الأرض ، فما يمكن أن يجتمع التوحيد والشرك في قلب واحد . والشرك ألوان ، منه هذا اللون الذي نعيش به الآن ، وهو يمثل أصل الشرك وحقيقته التي يلتقي عليها المشركون في كل زمان وفي كل مكان .
ويسخر أهل مدين من شعيب ـ كما يتوقح بالسخرية اليوم ناس على دعاة التوحيد الحق ـ فيقولون : (( إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ)) .
وهم يعنون عكس معناها ، فالحلم والرشد عندهم أن يعبدوا ما يعبد آباؤهم بلا تفكير ، وأن يفصلوا بين العبادة والمعاملة في السوق ، وكذلك هو عند المثقفين المتحضرين اليوم الذين يعيبون على المتعصبين الرجعيين !! ))(1) اهـ.
__________
(1) في ظلال القرآن : عند الآية ( 87 ) من سورة هود .(1/279)
والحاصل مما سبق : أن حصر العبادة في الشعائر التعبدية فقط هو انحراف بالعبادة عن معناها الصحيح الذي يرضاه الله عز وجل ، وأنه لو كان مفهوم العبادة هو السجود والركوع فحسب ، إذن فما معنى قوله تعالى: (( اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ )) (التوبة:31) ، وما معنى قوله تعالى : (( وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)) (الأنعام:121). حيث يعلق الشنقيطي رحمه الله تعالى على هذه الآية ، فيقول :
(( في فتوى سماوية من الخالق جل وعلا صرح فيها بأن متبع الشيطان المخالف لتشريع الرحمن مشرك بالله ))(1) اهـ.
إذن فإن من أخص خصائص العبادة : الطاعة والاتباع والخضوع والانقياد ، فكما أن العبادة تأتي بمعنى الدعاء والنسك ، فهي تأتي أيضاً بمعنى الطاعة والاتباع ، ولكن الجاهلين أو المتجاهلين يريدون حصرها فقط في الشعائر التعبدية والعبادات الخاصة ثم لا دخل بعد ذلك للعبادة في شئون الحياة وتسيير دفتها .
وإن الذين يرون هذا الفصل المشين والفصام النكد بين الدين والحياة على قسمين :
? إما أن يكونوا جهلة بحقيقة الدين وحقيقة العبادة في الإسلام ؛ إذ لم يكن لهم حظ من العلم الشرعي ينير بصائرهم ، وإنما غاية ما عندهم ثقافات مشوهة من الغرب أو الشرق تسربت إلى قلوبهم على حين غفلة وخواء ، فتمكنت منها .
وهؤلاء وأمثالهم الذين انحرفوا بمفهوم العبادة عن معناها الصحيح بسبب جهلهم قد نرى بعضهم من المصلين الصائمين التالين للقرآن الكريم.
وعلاج هذا الصنف من الناس يكون بالعلم الشرعي ، والرفق بهم حتى يفقهوا هذا الدين بمعناه الصحيح .
? والأخطر من أولئك هم الذين يفهمون حقيقة العبادة وحقيقة دين الإسلام ، ولكنهم يستكبرون عن الانقياد لهذا الفهم ، وينطلقون بخبث وغرض سيئ لإثارة الشبهات وصرف المسلمين عن دينهم وتشويه هذه المفاهيم في نفوسهم .
__________
(1) أضواء البيان ( 7 / 170 ) .(1/280)
وهؤلاء إن صلوا وقاموا ببعض الشعائر فهو نفاق وزندقة. والحذر من هؤلاء يجب أن يكون على أشده ، كما أن فضح أفكارهم وخططهم هو المتعين ، فهم من المنافقين الذين جاء الأمر الإلهي بمجاهدتهم ، قال تعالى : (( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)) (التحريم:9)
5 ـ الانحراف في المفهوم والتطبيق :
ومن مظاهر الانحراف في مفهوم العبادة وتطبيقها ما عرف عن بعض غلاة المتصوفة وزنادقتهم من أن أداء العبادات والطاعات مرتبط بحصول اليقين المطلق ـ زعموا !فإذا وصل العبد إلى هذا المستوى سقط عنه التكليف ولم يعد في حاجة إلى العبادة التي هي من منازل العامة !، أما الخاصة ومن يسمونهم بالأبدال والأقطاب فقد بلغوا درجة اليقين التي ترفع عنهم التكاليف والعبادات ، نعوذ بالله من هذه الحال ، ونبرأ إلى الله عز وجل من أهل الزندقة والإلحاد.
ورحم الله الإمام ابن القيم حيث يوضح معنى اليقين المراد في قوله تعالى : (( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (الحجر:99)، ويؤكد عدم انفكاك العبد عن العبودية لله عز وجل في سائر أحواله وأموره كلها فيقول رحمه الله تعالى: ((قال الله تعالى لرسوله: (( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ)) (الحجر:99)، وقال أهل النار: (( وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ)) (المدثر:47)، واليقين ههنا: هو الموت بإجماع أهل التفسير ، وفي الصحيح في قصة موت عثمان بن مظعون رضي الله عنه : أن النبيصلى الله عليه وسلم قال : ((أما عثمان فقد جاءه اليقين من ربه))(1) أي الموت وما فيه.
__________
(1) البخاري في مواضع منها / ك الشهادات من حديث أم العلاء ( 2687 ) .(1/281)
فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف ، بل عليه في البرزخ عبودية أخرى لمَّا يسأله الملكان » من كان يعبد ؟ وما يقول في رسول اللهصلى الله عليه وسلم ؟ « ، ويلتمسان منه الجواب .
وعليه عبودية أخرى يوم القيامة ، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود،فيسجد المؤمنون،ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود، فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك ، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحاً مقروناً بأنفاسهم لا يجدون له تعباً ولا نصباً .
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه التعبد فهو زنديق كافر بالله ورسوله لله،وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله ، والانسلاخ من دينه ، وكلما تمكن العبد من منازل العبودية كانت عبوديته أعظم ، والواجب عليه منها أكثر من الواجب على من دونه ؛ولهذا كان الواجب على رسول الله صلى الله عليه وسلم
بل على جميع الرسل أعظم من الواجب على أممهم ، والواجب على أولي العزم أعظم من الواجب على من دونهم ، والواجب على أولي العلم أعظم من الواجب على من دونهم ، وكل أحد بحسب مرتبته))(1) اهـ.
6 ـ هذا .. ومن شطحات الصوفية في مفهموم العبادة أيضاً : المقالة المشهورة عن بعضهم من أنهم لا يعبدون الله خوفاً من ناره ، ولا طمعاً في جنته ، وإنما حبّاً له وشوقاً إليه .
وواضح ما في هذا الكلام من تكلف وانحراف عن طريق الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وسؤالهم الله عز وجل جنته والعياذ به من النار .
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 103 ، 104 ) .(1/282)
يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في معرض رده على هذه المقالة : (( ومن قال من هؤلاء :"لم أعبدك شوقاً إلى جنتك ولا خوفاً من نارك" فهو يظن أن الجنة اسم لما يتمتع فيه بالمخلوقات ، والنار اسم لما لا عذاب فيه إلا ألم المخلوقات . وهذا قصور وتقصير منهم في فهم مسمى الجنة ، بل كل ما أعده الله لأوليائه فهو من الجنة ، والنظر إليه هو من الجنة ؛ ولهذا كان أفضل الخلق يسأل الله الجنة ويستعيذ به من النار ، ولما سأل بعض أصحابه عما يقول في صلاته ، قال : " إني أسأل الله الجنة وأعوذ بالله من النار ، أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة معاذ ، فقال : " حولها ندندن "(1) ))(2) اهـ.
وقال من قال من السلف : (( من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ( أي خارجي ) ، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد )) .
إذن فالعبادة الحقة هي التي تجمع بين المحبة والخوف والرجاء والذلة والخضوع كما سبق ذلك في تعريف العبادة وحقيقتها .
* * *
المبحث الثالثالمفهوم الصحيح للتوكل والاستعانة ومظاهر الانحراف والضعف فيهما
__________
(1) ابن ماجه في الإقامة ( 910 ) ، وفي الدعاء ( 3847 ) ، وأبو داود في الصلاة
( 792 ) وهو في صحيح ابن ماجه ( 748 ) .
(2) تفسير : { لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } لابن تيمية : ت :
عبدالعلي حامد ص13 .(1/283)
التوكل يمكن القول بأنه نصف الدين ، ونصفه الثاني هو :(العبادة) ؛ لأن الدين استعانة وعبادة ، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك عند تفسير (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) كما سبقت الإشارة إلى معنى التوكل بشكل مجمل ، وهذا أوان التفصيل في بيان هذا العمل العظيم من أعمال القلوب، وتفصيل مراتبه ، وأقسامه ، وصور الانحراف والضعف في ذلك ، ويحسن قبل الدخول في هذا التفصيل أن نستعرض الآتي : بعض الآيات والأحاديث الواردة في التوكل : فأما الآيات الواردة في التوكل والمتوكلين فهي كثيرة منها :
قوله تعالى : (( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) (المائدة:23) .
وقوله تعالى : (( وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ )) (آل عمران:122) .
وقوله تعالى: (( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه )) (الطلاق: 3) .
وقوله تعالى عن أوليائه: (( رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ )) (الممتحنة:4) .
وقال تعالى لرسولهصلى الله عليه وسلم : ((قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا)) (الملك:29)
وقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : (( فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ))
(النمل:79)
وقال تعالى لرسولهصلى الله عليه وسلم : (( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ )) (الفرقان:58)
وقال تعالى عن أنبيائه صلى الله عليهم وسلم: (( وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا )) ( ابراهيم:12) .
وقال عز وجل عن أصحاب نبيهصلى الله عليه وسلم : (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ))
(آل عمران:173)
وأما الأحاديث فكثيرة أيضاً منها :(1/284)
? في الصحيحين ، في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب : (( هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيرون ، ولا يَكْتَوون ، وعلى ربهم يتوكلون ))(1) .
? وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (( حسبنا الله ونعم الوكيل ، قالها إبراهيم لله حين ألقي في النار ، وقالها محمد لله حين قالوا له : (( إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)) ))(2) .
? وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : (( اللهم لك أسلمتُ وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وإليك أنبت ، وبك خاصمت ، اللهم إني أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلني ، أنت الحي الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون ))(3) .
?وفي الترمذي عن عمر رضي الله عنه مرفوعاً: ((لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير،تغدو خماصاً وتروح بطاناً ))(4) .
? وفي السنن عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من قال ـ يعني إذا خرج من بيته ـ : بسم الله ، توكلت على الله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، يقال له : هُديت ووقيت وكفيت ، فيقول الشيطان لشيطان آخر : كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي ؟))(5).
تعريف التوكل بمعناه الصحيح : التوكل عمل قلبي من أعمال القلوب ، وقد وردت له تعريفات كثيرة يكمل بعضها بعضاً لتنتهي مجتمعة إلى حقيقة التوكل ومعناه .
__________
(1) البخاري/ك الطب من حديث عمران بن حصين (5705)،ومسلم/ك الإيمان(218) .
(2) البخاري / ك التفسير ـ من سورة آل عمران ( 4563 ) .
(3) مر تخريجه ص 298 .
(4) الترمذي في الزهد ( 2345 ) ، وابن ماجه ( 4164 ) ، وأحمد ( 1 / 52 ) ،
وصححه الشيخ شاكر ( 1 / 206 ) ، وهو في صحيح الترمذي ( 1911 ) .
(5) أبو داود / ك الأدب ( 5095 ) ، والترمذي في الدعوات ( 3422 ) ، وهو في
صحيح سنن الترمذي ( 2724 ) .(1/285)
? فمن ذلك ما سبق ذكره عن الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حين قال: ((فإن قلت:فما معنى التوكل والاستعانة؟قلت : هو حال للقلب ينشأ عن معرفته بالله ، وتفرده بالخلق والتدبير ، والضر والنفع ، والعطاء والمنع، وأنه ما شاء كان وإن لم يشأ الناس ، وما لم يشأ لم يكن ،وإن شاءه الناس فيوجب له هذا اعتماداً عليه ، وتفويضاً إليه ، وطمأنينة به ، وثقة به ، ويقيناً بكفايته ، لما توكل عليه فيه ))(1) اهـ.
? ومن ذلك ما نقله الشيخ محمد العثيمين حفظه الله في شرحه لكتاب التوحيد ؛ حيث قال : (( التوكل :هو الاعتماد على الله سبحانه وتعالى في جلب المطلوب وزوال المكروه مع فعل الأسباب المأذون فيها ))(2).
? وقد نقل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في منزلة التوكل تعاريف كثيرة ، قالها بعض أرباب السلوك ، ثم علق عليها بقوله : ((وحقيقة الأمر أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور ، لا تتم حقيقة التوكل إلا بها،وكلٌّ أشار إلى واحد من هذه الأمور،أو اثنين أو أكثر
فأول ذلك : معرفة الرب وصفاته : من قدرته ، وكفايته ، وقيوميته ، وانتهاء الأمور إلى علمه ، وصدورها عن مشيئته وقدرته . وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل .
الدرجة الثانية : إثبات في الأسباب والمسببات .
الدرجة الثالثة : رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل ، فما دامت فيه علائق الشرك ، فتوكله معلول مدخول .
الدرجة الرابعة : اعتماد القلب على الله ، واستناده إليه وسكونه إليه
الدرجة الخامسة : حسن الظن بالله عز وجل .
الدرجة السادسة : استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه وقطع منازعاته ))(3) اهـ.
__________
(1) مدارج السالكين ( 1 / 82 ) .
(2) شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين ( 2 / 185 ) .
(3) مدارج السالكين ( 2 / 117 ـ 121 ) .(1/286)
تباين الخلق في توكلهم على الله سبحانه وأفضلهم في ذلك : يوضح الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى هذه المسألة أتم توضيح ، فيقول: ((فأهل السماوات والأرض ـ المكلفون وغيرهم ـ في مقام التوكل، وإن تباين متعلق توكلهم:
1 ـ فأولياؤه وخاصته يتوكلون عليه في الإيمان ، ونصرة دينه وإعلاء كلمته ، وجهاد أعدائه ، وفي محابّه وتنفيذ أوامره .
2 ـ ودون هؤلاء من يتوكل عليه في استقامته في نفسه،وحفظ حاله مع الله ، فارغاً عن الناس .
3 ـ ودون هؤلاء من يتوكل عليه في معلوم يناله منه ؛ من رزق أو عافية، أو نصر على عدو ، أو زوجة أو ولد ، ونحو ذلك .
4 ـ ودون هؤلاء من يتوكل عليه في حصول الإثم والفواحش ، فإن أصحاب هذه المطالب لا ينالونها غالباً إلا باستعانتهم بالله وتوكلهم عليه ، فأفضل التوكل:التوكل في الواجب أعني واجب الحق ، وواجب الخلق ، وواجب النفس . وأوسعه وأنفعه : التوكل في التأثير في الخارج في مصلحة دينية ، أو في دفع مفسدة دينية ، وهو توكل الأنبياء في إقامة دين الله ، ودفع فساد المفسدين في الأرض ، وهذا توكل ورثتهم . ثم الناس بعدُ في التوكل على حسب هممهم ومقاصدهم ، فمن متوكل على الله في حصول الملك ، ومن متوكل في حصول رغيف ))(1) اهـ.
ويؤكد ابن القيم رحمه الله تعالى في موطن آخر على أفضل وأعظم التوكل ، فيقول :
(( التوكل على الله نوعان :
أحدهما : توكل عليه في جلب حوائج العبد وحظوظه الدنيوية ، أو دفع مكروهاته ومصائبه الدنيوية .
والثاني : التوكل عليه في حصول ما يحبه هو ويرضاه من الإيمان واليقين والجهاد والدعوة إليه.
__________
(1) مدارج السالكين ( 2 / 113 ، 114 ) .(1/287)
وبين النوعين من الفضل ما لا يحصيه إلا الله، فمتى توكل عليه العبد في النوع الثاني حق توكله كفاه النوع الأول تمام الكفاية ، ومتى توكل عليه في النوع الأول دون الثاني كفاه أيضاً ، لكن لا يكون له عاقبة المتوكل عليه فيما يحبه ويرضاه . فأعظم التوكل عليه التوكل في الهداية ، وتجريد التوحيد ، ومتابعة الرسول ، وجهاد أهل الباطل . فهذا توكل الرسل وخاصة أتباعهم ))(1) .
أقسام التوكل وأنواعه
1 ـ توكل الموحدين الصادقين : حقيقته الاعتماد على الله عز وجل والثقة بكفايته مع فعل الأسباب المأذون فيها من غير اعتماد عليها ولا ركون إليها ؛ فخالق الأسباب ومسببها هو الله وحده .
2 ـ التوكل الشركي : وهو قسمان:
أ ـ (( الاعتماد الكلي على الأسباب واعتقاد أنها تؤثر استقلالاً في جلب المنفعة أو دفع المضرة ، وهذا من الشرك الأكبر ))(2) .
ب ـ الشرك الأصغر وهو(( الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك من غير اعتقاد استقلاليته في التأثير، لكن التعلق به فوق اعتقاد أنه مجرد سبب ، مثل اعتماد كثير من الناس على المالية في الراتب ، ولهذا تجد أحدهم يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا الراتب،أو من يقرر الراتب اعتماد افتقار، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر ))(3) اهـ.
3 ـ التوكيل الجائز: (( وهو أن يُوكَّلَ الإنسان في فعل يقدر عليه، فيحصل للموكِّل بذلك
__________
(1) الفوائد / 86 .
(2) انظر شرح كتاب التوحيد للشيخ العثيمين ( 2 / 190 ، 191 ) .
(3) المرجع السابق .(1/288)
بعض مطلوبه ، فأما مطالبه كلها فلا يقدر عليها إلا الله وحده))(1)((كمن وكَّل شخصاً في شراء شيء أو بيعه ، فهذا لا شيء فيه ؛ لأنه اعتمد عليه وكأنه يشعر أن المنزلة العليا له فوقه ؛ لأنه جعله نائباً عنه.وقد وكل النبي لله علي بن أبي طالب أن يذبح ما بقي من هديه ، ووكل أبا هريرة على الصدقة، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له أضحية ))(2) اهـ.
ولكن توكيل المخلوق غايته أن يفعل بعض المأمور ، وهو لا يفعله إلا بإعانة الله له ، فرجع الأمر كله لله وحده .
ضوابط الأخذ بالأسباب : تبين مما سبق أن الأخذ بالأسباب لا ينافي التوكل ، بل إنَّ تركها قدح في حكمة الله عز وجل ونقصان في العقل . ولكن الأخذ بالأسباب لابد له من ضوابط تقي من الوقوع في الشرك الناشئ من التعلق بها والاعتماد عليها . ومن أهم الضوابط ما يلي :
1 ـ (( الاعتقاد بأنها لا تستقل بالمطلوب ، بل تتعاطى من غير ركون إليها، ومع هذا فلها موانع ، فإن لم يكمل الله الأسباب ، ويدفع الموانع لم يحصل المقصود ، وهو سبحانه ما شاء كان وإن لم يشأ الخلق ، وما لم يشأ لم يكن ، وإن شاءه الخلق ))(3) .
2ـ ((ألا يعتقد في الشيء أنه سبب إلا بعلم وتحقق ، فمن أثبت سبباً بلا علم ، أو بما يخالف الشريعة كان مبطلاً في إثباته آثماً في اعتقاده ))(4) .
3 ـ » أن الأعمال الدينية لا يجوز أن يُتخذ شيء منها سبباً ، إلا أن يكون مشروعاً ، فإن العبادات مبناها على التوقيف ، فلا يتقرب إلى الله عز وجل بالأعمال الشركية أو البدعية أو نحوها))(5) .
__________
(1) انظر جامع الرسائل لابن تيمية ( 1 / 89 ) .
(2) انظر شرح كتاب التوحيد للشيخ العثيمين ( 2 / 190 ، 191 ) .
(3) انظر توحيد الخالق للشيخ سليمان بن عبدالله ص169 ـ 172 .
(4) انظر توحيد الخلاق للشيخ سليمان بن عبدالله ص 169 ـ 172 .
(5) انظر المصدر السابق .(1/289)
4 ـ ((إذا لم يوجد من الأسباب في تحصيل المطلوب إلا سبباً محرماً فلا يجوز مباشرته ولا الأخذ به ، وتوحد السبب في حقه في التوكل على الله عز وجل فلم يبق سبب سواه ، فإنه من أقوى الأسباب في حصول المراد ، ودفع المكروه ، بل هو أقوى الأسباب على الإطلاق ))(1) .
5 ـ (( إن كان السبب مباحاً نُظر ؛ هل يضعف القيام به التوكل أو لا يضعفه ، فإن أضعفه وفرق على العبد قلبه وشتت همه فتركه أولى ، وإن لم يضعفه فمباشرته أولى؛لأن حكمة أحكم الحاكمين اقتضت ربط المسبب به ، فلا تعطل حكمته مهما أمكن القيام بها ، لا سيما إذا كان الأخذ بالسبب عبودية لله عز وجل ، فيكون العبد قد أتى بعبودية القلب بالتوكل ، وعبودية الجوارح بالسبب المنوي به القربة ))(2) .
6ـ ((إن القيام بالأسباب على نحو ما سبق هو الذي يحقق التوكل ، فمن عطل الأسباب المأمور بها لم يصح توكله ، كما أن القيام بالأسباب المفضية إلى حصول الخير يحقق رجاءه ، فمن لم يقم بها كان رجاؤه تمنياً، كما أن من عطلها يكون توكله عجزاً أو عجزه توكلاً ))(3) .
7 ـ (( وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده ، فلا يضره مباشرة الأسباب مع خلو القلب من الاعتماد عليها والركون إليها ، كما لا ينفعه قوله : (( توكلت على الله )) مع اعتماده على غيره وركونه إليه وثقته به ، فتوكل اللسان شيء، وتوكل القلب شيء ، كما أن توبة اللسان مع إصرار القلب شيء ، وتوبة القلب وإن لم ينطق اللسان شيء ؛ فقول العبد : توكلت على الله .مع اعتماد قلبه على غيره مثل قوله : » تبت إلى الله « وهو مصرٌّ على معصيته مرتكب له ))(4).
* * *بعض مظاهر الانحراف والضعففي مفهوم التوكل وتطبيقه
__________
(1) انظر الفوائد لابن القيم ص86 ، 87 .
(2) انظر المصدر السابق .
(3) انظر الفوائد لابن القيم ص86 ، 87 .
(4) انظر المصدر السابق .(1/290)
بعد أن اتضح لنا في المبحث السابق حقيقة التوكل والفهم الصحيح له ومراتب الناس فيه ، فيجدر بنا الآن أن نتعرف على بعض مظاهر وصور الانحراف التي طرأت على هذا العمل العظيم من أعمال القلوب، وما كان لهذا الانحراف من أثر سيئ على بعض أبناء الأمة في عجزهم ، أو تعلقهم بغيرهم ، أو تركهم لما يجب الأخذ به ، وما إلى ذلك من الآثار السيئة والنتائج الوخيمة .
هذا ، ولقد كان للفكر الصوفي المنحرف وظهور الفرق أكبر الأثر في انتشار هذه المظاهر من الانحراف ، يضاف إلى ذلك ما ساهم به الغزو الفكري لهذه الأمة من نشر للمذاهب المادية ، والتي لا تربط النتائج إلا بالمادة المحسوسة ، وتلغي جانب الغيب والإيمان بالله عز وجل وقضائه وقدره وملكه وقهره وعظمته ، وما كان لهذه الأفكار كلها أن تؤثر لو كان العلم وفهم العقيدة الصحيحة منتشراً بين الأمة .
ولكن لما وافق هذا جهل عند البعض من المسلمين بحقيقة هذا الدين وأصوله ؛ نشأ من ذلك بعض المفاهيم المغلوطة للتوكل كما نشأ الضعف في التطبيق لهذه العبادة العظيمة .
وفي الفقرات التالية أستعرض بعض صور الانحراف والضعف في هذا الجانب المهم من جوانب العقيدة ، لعلنا نتفقده في أنفسنا أو عند غيرنا حتى نتجنبه ، ونحذر منه ، ونزيل الغبش عنه ، والله المستعان ، وعليه التكلان.
ومن أهم مظاهر الانحراف في ذلك ما يلي :
1 ـ النظر إلى التوكل على أنه تواكل وترك للأسباب ، والذين وقعوا في هذا الانحراف على صنفين :(1/291)
أ ـ صنف يعلم أن التوكل لا ينافي فعل الأسباب ، والأمر واضح عنده بلا شبهة ، ولكنه ينطلق من هذا الفهم المنحرف في تبرير عجزه وكسله وتفريطه ، فهذا عجزه توكل ، وتوكله عجز ، وهذا الصنف من الناس لا ينقصه إلا أن يتقي الله عز وجل ، وألا يبرر شهوته بشبهة ، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله تعالى : (( وكثيراً ما يشتبه في هذا الباب المحمودُ الكامل بالمذموم الناقص ، فيشتبه التفويض بالإضاعة ، فيضيّع العبد حظه ؛ ظنّاً منه أن ذلك تفويض وتوكل ، وإنما هو تضييع لا تفويض . فالتضييع في حق الله والتفويض في حقك .
ومنه : اشتباه التوكل بالراحة وإلقاء حمل الكَلِّ ، فيظن صاحبه أنه متوكل ، وإنما هو عامل على عدم الراحة ...
ومنه : اشتباه الثقة بالله بالغرور والعجز . والفرق بينهما : أن الواثق بالله قد فعل ما أمره الله به ،ووثق بالله في طلوع ثمرته ،وتنميتها وتزكيتها،
كغارس الشجرة ، وباذر الأرض . والمغتر العاجز قد فرط فيما أمر به ، وزعم أنه واثق بالله ،والثقة إنما تصح بعد بذل المجهود ))(1) اهـ.
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا الصنف من الناس : ((وهم من ذلك ملبوس عليهم ، وقد يقترن بالغلط اتباع الهوى في إخلاد النفس إلى البطالة ؛ولهذا تجد عامة هذا الضرب التاركين لما أمروا به من الأسباب يتعلقون بأسباب دون ذلك ، فإما أن يعلقوا قلوبهم بالخلق رغبة ورهبة ، وإما أن يتركوا ـ لأجل ما تبتلوا له من الغلو في التوكل ـ واجبات أو مستحبات أنفع لهم من ذلك ، كمن يصرف همته في توكله إلى شفاء مرضه بلا دواء ، أو نيل رزقه بلا سعي ، فقد يحصل ذلك ، لكن كان مباشرة الدواء الخفيف والسعي اليسير وصرف تلك الهمة والتوجه في عمل صالح ـ أنفع له، بل قد يكون أوجب عليه من تبتله لهذا الأمر اليسير الذي قدره درهم أو نحوه ))(2) اهـ.
__________
(1) مدارج السالكين ( 2 / 123 ، 124 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 18 / 183 ) .(1/292)
ب ـ أما الصنف الثاني فقد أ ُتي من جهله بحقيقة التوكل على الله عز وجل ، وجهله بسنن الله سبحانه في ارتباط المسببات بالأسباب ، وأن الأخذ بالأسباب بضوابطها الموضحة سابقاً لاينافي التوكل ، بل إن تركها قدح في حكمة الله عز وجل ، ونقص في العقل ، وما علم صاحب هذا الفهم أن التوكل عليه سبحانه هو أقوى الأسباب في حصول المطلوب ودفع المكروه .
يقول الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى : ((واعلم أن تحقيق التوكل لا يُنافي السعي في الأسباب التي قدَّر الله سبحانه المقدورات بها ،وجرت سنته في خلقه بذلك ، فإن الله تعالى أمر بتعاطي الأسباب مع أمره بالتوكُّل ، فالسَّعي في الأسباب بالجوارح طاعةٌ له، والتوكل بالقلب عليه إيمانٌ به ، كما قال الله تعالى : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ )) (النساء: 71) ، وقال : (( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ )) (لأنفال:60) ، وقال: (( فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ )) (الجمعة:10] ))(1)
ويتحدث ابن القيم رحمه الله تعالى عن توكل الرسول لله وصحابته الكرام مع أخذهم بالأسباب فيقول : ((وقد ظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين يوم أحد، ولم يحضر الصف قط عرياناً،كما يفعله من لا علم عنده ولا معرفة ،واستأجر دليلاً مشركاً على دين قومه ، يدله على طريق الهجرة ، وقد هدى الله به العالمين ، وعصمه من الناس أجمعين ،وكان يدخر لأهله قوت سنة وهو سيد المتوكلين .
وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد والمزاد ، وجميع أصحابه وهم أولو التوكل حقّاً، وأكمل المتوكلين بعدهم: هو من اشتم رائحة توكلهم من مسيرة بعيدة ، أو لحق أثراً من غبارهم .
__________
(1) جامع العلوم والحكم ص498 ، ت : الأرناؤوط .(1/293)
فحال النبي لله وحال أصحابه محك الأحوال وميزانها ، بها يعلم صحيحها من سقيمها ، فإن هممهم كانت في التوكل أعلى من همم من بعدهم ، فإن توكلهم كان في فتح بصائر القلوب ، وأن يُعبد الله في جميع البلاد ، وأن يوحده جميع العباد ، وأن تشرق شموس الدين الحق على قلوب العباد ، فملأوا بذلك التوكل القلوب هدى وإيماناً ، وفتحوا بلاد الكفر وجعلوها دار إيمان ، وهبت رياح روح نسمات التوكل على قلوب أتباعهم فملأتها يقيناً وإيماناً .
فكانت همم الصحابة رضي الله عنهم أعلى وأجل من أن يصرف أحدهم قوة توكله واعتماده على الله في شيء يحصل بأدنى حيلة وسعي فيجعله نصب عينيه ، ويحمل عليه قوى توكله ))(1) .
2 ـ ويقابل الانحراف السابق انحراف في الجانب المقابل ، ألا وهو الإفراط في فعل الأسباب والتعلق بها محبة وخوفاً ورجاءً ، ومعلوم ما في هذا الانحراف من خطر شديد على التوحيد ، فهو إما شرك أكبر إذا اعتقد فاعل الأسباب أنها تؤثر استقلالاً ، وإما شرك أصغر إذا لم يعتقد ذلك ، ولكنه تعلق بها وحابى من أجلها ، وجعل أكثر اعتماده عليها في حصول المطلوب وزوال المكروه.
__________
(1) مدارج السالكين ( 2 / 134 ، 135 ) .(1/294)
وما أكثر من يقع منا في هذا الضعف القادح في التوكل على الله عز وجل ، ولكن مابين مقل ومكثر ، وإن وجد من يحقق التوكل على الله عز وجل في أمور الدنيا فإن المحققين له في العبادة وأمور الآخرة أقل وأقل، وفي ذلك يقول الشيخ ابن عثيمين حفظه الله :((ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل،وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة التوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة ، وننسى ما وراء ذلك ؛ فيفوتنا ثواب عظيم، وهو ثواب التوكل ، كما أننا لا نوفق إلى كمال العبادة ، كما هو الغالب ، سواء حصل لنا عوارض توجب انقطاعها أو عوارض توجب نقصها ))(1) اهـ.
والتوكل على الله عز وجل يجب أن يكون في جميع الأمور ، ولكن فرق بين من يجعل قوة توكله في أمور الدين وبين من يجعله في أمور الدنيا.
ويصف الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من صرف قوة توكله في أمر دنيوي يناله بأيسر شيء بأنه مغبون؛لأن أمر الدين ونصرته وزيادة الإيمان هي التي ينبغي أن يصرف العبد فيها قوة توكله . يقول رحمه الله : (( وكثير من المتوكلين يكون مغبوناً في توكله ، وقد توكل حقيقة التوكل وهو مغبون ، كمن صرف توكله إلى حاجة جزئية استفرغ فيها قوة توكله ، ويمكنه نيلها بأيسر شيء ، وتفريغ قلبه للتوكل في زيادة الإيمان والعلم ، ونصرة الدين ، والتأثير في العالم خيراً ، فهذا توكل العاجز القاصر الهمة.
كما يصرف بعضهم همته وتوكله ، ودعاءه إلى وجع يمكن مداواته بأدنى شيء ، أو جوع يمكن زواله بنصف رغيف ، أو نصف درهم ، ويدع صرفه إلى نصرة الدين وقمع المبتدعين ، وزيادة الإيمان ومصالح المسلمين ، والله أعلم ))(2) اهـ.
__________
(1) شرح كتاب التوحيد للشيخ ابن عثيمين ( 2 / 190 ) .
(2) مدارج السالكين ( 2 / 125 ، 126 ) .(1/295)
وهنا حديث مشهور يُستدل به على فعل الأسباب ، مع أن فيه دليلاً أيضاً على التعلق بالله وحده في طلب الرزق ، وألا يحمل العبد هم رزقه أو يخاف ممن يقطعه، فمن توكل على الله وحده كفاه ، وهذا الحديث هو ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله لله يقول : ((لو أنكم توكلتم على الله حق توكله ، لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً ، وتروح بطاناً ))(1) .
ففي هذا الحديث وصف لحال الطير الضعيف الذي يبيت ليله لا يحمل هم رزق غده ، ولكنه ينطلق في الصباح غير معتمد على قوته ولا حذره ، فيرزقه الله عز وجل ويكفيه ، فلو أننا فعلنا الأسباب ولم نتعلق بها ، وإنما تعلقنا بالله وحده وفوضنا أمورنا إليه ووثقنا بمعونته وكفايته، لرزقنا كما يرزق الطير ، لكن الكثير منا على خلاف ذلك ، نعم، نقول بألسنتنا : توكلنا على الله ، ونعتقد أن الله وحده هو الخالق الرازق المتصرف في كل شيء، والذي بيده النفع والضر ، ولكن عند التطبيق يظهر الضعف والنقص. فترى بعضنا يعتمد على قوته أو حذره أو ذكائه، أو يعتمد على شخص أو هيئة أو يخاف من جهة معينة أن تقطع رزقه أو تؤخره أو تحوله ولو أننا أيقنا أن ا لمخلوق الضعيف لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً فضلاً عن أن يملكه لغيره ، لنفضنا اليد منه ، ولم تتعلق القلوب به، ولم ترجه ، ولم تخفه وإنما تتوجه القلوب إلى ربها وخالقها ومعبودها سبحانه خالق الأسباب والمسببات،والذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، وهو على كل شيء قدير .
وسيأتي زيادة بيان حول افتقار العبد إلى ربه عبادة وتوكلاً ، ومفاسد التعلق بالمخلوق الضعيف ، وما ينتج عن ذلك من خسارة وخذلان ، وذلك في مبحث تالٍ إن شاء الله تعالى .
__________
(1) مر تخريجه ص347 .(1/296)
3 ـ ومن مظاهر الانحراف في مفهوم التوكل ما ينقل عن بعض غلاة المتصوفة من أن التوكل من مقامات العامة ، لا من مقامات الخاصة ، ومنشأ هذا الانحراف أتى من ظنهم أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا ، كما هو شأن عامة الناس ، وهذا غلط ، فإن أعظم ما يُتوكل على الله فيه الأمور الدينية ، وحفظ الإيمان ، وجهاد أعداء الله عز وجل ، ورجاء ثوابه سبحانه ، ويمكن أن يقال : إن من كان توكله على الله عز وجل في كل أموره، لكنه في أمور الدين والإيمان والآخرة أكثر ، فإنه يكون أكمل وأصح توكلاً ممن قصره على حظوظ الدنيا ومطالبها .
وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى : (( ولكن هذه " المقامات " ينقسم الناس فيها إلى خصوص وعموم . فللخاصة خاصها ، وللعامة عامها ، مثال ذلك أن هؤلاء قالوا : (( إن التوكل مناضلة عن النفس في طلب القوت ،والخاص لا يناضل عن نفسه. وقالوا : المتوكل يطلب بتوكله أمراً من الأمور ، والعارف يشهد الأمور بفروعها منها ، فلا يطلب شيئاً )) .
فيقال: أما الأول ؛ فإن التوكل أعم من التوكل في مصالح الدنيا ، فإن المتوكل يتوكل على الله في صلاح قلبه ودينه،وحفظ لسانه وإرادته، وهذا أهم الأمور إليه ، ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) كما في قوله تعالى : (( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)) (هود:123)، وقوله: (( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )) (هود:88) ، وقوله: (( قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ )) (الرعد:30) .
فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع ؛ لأن هذين يجمعان الدين كله ؛ ولهذا قال من قال من السلف : إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن ، وجمع علم القرآن في المفصل ، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب ، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) .(1/297)
وعلى هذا فالذي ظن أن التوكل من المقامات العامة ظن أن التوكل لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا ، وهو غلط ، بل التوكل في الأمور الدينية أعظم ))(1) اهـ.
4 ـ جبن القلب والخوف من المخلوق : إن مما ينافي حقيقة التوكل الخوف من المخلوق خوفاً يدفع إلى ترك ما يجب أو فعل ما يحرم محاباة للمخلوق أو خوفاً من شره ، ومثل ذلك يكون أيضاً في الطمع والرغبة،فالطمع في نفع المخلوق أو الخوف من شره إذا أدى إلى ضعف التعلق بالله عز وجل وضعف الثقة به سبحانه فإن هذا يقدح في التوكل، ويضعفه إن لم يذهبه،ومن تعلق بشيء وكل إليه ، ومن وكل إلى غير الله عز وجل ضاع وهلك ، وخاب وخسر ، ومما يصلح التمثيل به في عصرنا اليوم على هذا الضعف ،هو ما يعتري بعضنا وهو في دعوته إلى الله عز وجل من خوف على نفسه أو رزقه أو منصبه،الأمر الذي يؤدي بالبعض إلى ترك ما هم عليه من تعليم للعلم أو دعوة إلى الله عز وجل والإحجام عن مجالات الخير ، ونفع الناس بحجة الحذر والبعد عن الفتن .
والله سبحانه أعلم بما في قلوب العالمين .
ثم إنه لو كان يغلب على الظن حصول الأذى والابتلاء لكان لذلك بعض الوجه في الأخذ بالرخصة وترك العزيمة ، أما وإن الأمر على العكس من ذلك ؛حيث يغلب على الظن عدم التعرض للأذى ، فإنه لا تفسير لهذه المواقف إلا ضعف التوكل على الله عز وجل ، والوسوسة الشديدة ، والمبالغة في الخوف، والحذر الزائد من المخلوق الضعيف وتهويل أمره ، وهذا من كيد الشيطان ووسوسته ، وكأننا لم نسمع ولم نع قوله تعالى : (( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )) (آل عمران:175) .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 10 / 18 ـ 20 ) باختصار .(1/298)
يقول صاحب الظلال رحمه الله تعالى : (( والشيطان صاحب مصلحة في أن ينتفش الباطل وأن يتضخم الشر وأن يتبدى قويّاً قادراً باطشاً جباراً ، لا تقف في وجهه معارضة ،ولا يصمد له مدافع ، ولا يغلبه غالب . الشيطان صاحب مصلحة في أن يبدو الأمر هكذا ، فتحت ستار الخوف والرهبة ،وفي ظل الإرهاب والبطش يفعل أولياؤه في الأرض ما يقر عينه ، يقلبون المعروف منكراً ، والمنكر معروفاً ، وينشرون الفساد والباطل والضلال ، ويخفتون صوت الحق ، والرشد والعدل ...
والشيطان ماكر خادع غادر يختفي وراء أوليائه،وينشر الخوف منهم في صور الذين لا يحتاطون لوسوسته ...ومن هنا يكشفه الله ويوقفه عارياً، لا يستره ثوب من كيده ومكره ، ويُعرِّف المؤمنين الحقيقة ؛ حقيقة مكره ووسوسته ؛ليكونوا على حذر ، فلا يرهبوا أولياء الشيطان ولايخافوهم، فهم وهو أضعف من أن يخافهم مؤمن يركن إلى ربه ، ويستند إلى قوته ))(1) اهـ.
* * *المبحث الرابعبعض لوازم العبادة الحقة والتوكل الصادق وبعض ثمارهما
بعد أن تبين لنا المفهوم الصحيح للعبادة كما يريدها الله عز وجل ، وكذلك المفهوم الحق للتوكل باعتباره أثراً عظيماً من آثار العبادة الحقة ، نتعرف الآن على بعض لوازمهما ومقتضياتهما وما تثمرانه في النفس والحياة من آثار عظيمة القدر والنفع في الدنيا والآخرة.
فإن لم تظهر هذه الآثار واللوازم فإن هناك دَخَلاً وانحرافًا في فهم أو تطبيق هذين الأصلين العظيمين ، فالعبرة بما يظهر من الآثار لعبادة الله عز وجل والتوكل عليه، وليست بمجرد قول القائل بلسانه:آمنت بالله، وأنبت إلى الله ، وتوكلت على الله . فالعبرة بالحقائق لا بالصور ، وبالاستسلام والإذعان لا بالقول باللسان فحسب ? ومن هذه الآثار واللوازم ما يلي :
1 ـ الدخول في السلم كافة :
__________
(1) طريق الدعوة في ظلال القرآن ( 2 / 151 ) .(1/299)
والعبودية لله عز وجل تقتضي الدخول في السلم كافة، وإنفاق العمر كله في عبادة الله عز وجل، لا يخرج العبد فيها عن وصف العبودية لحظة واحدة من لحظات العمر ، وهذا يقتضي أن تكون جميع حركات العبد وسكناته منبثقة من العبودية لله سبحانه والاستسلام لشرعه ، فهو عبد مطيع لربه في مسجده ، وفي بيته ومدرسته ، وفي متجره ، وفي عمله ، وفي حكمه وتحاكمه ، وفي حبه وبغضه، وعطائه ومنعه، وبهذا يتحقق وصف العبودية التامة لله عز وجل ، قال تعالى : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ)) (الأنعام:162 ، 163) .
وبهذا الفهم والتطبيق تختفي تلك الصور المنحرفة لفهم العبادة وتطبيقها المنحرف أيضاً مثل أن تحصر العبادة في المسجد أو في شعائر التعبد فقط ، ولا دخل لها بعد ذلك في شئون الحياة ، »كما سبق بيان ذلك في مبحث سابق ))(1) .
2ـ الحكم بشرع الله عز وجل والتحاكم إليه وحده ورفض ما سواه:
إن من لوازم العبودية الصادقة لله عز وجل محبة شرعه وحكمه وبغض ورفْض ما يضاده ؛حيث يمتنع ادعاء محبة الله عز وجل ومحبة ما يكرهه أوترك ما يحبه كما يمتنع ادعاء محبة رسوله لله ومتابعته مع ترك سنته والحكم بشريعته? ولقد مر بنا في بيان شرطي العبادة وقبولها أنها قائمة على الإخلاص لله سبحانه والمتابعة لرسولهصلى الله عليه وسلم .
إذن فالعبودية له سبحانه تقتضي محبة شرعه والحكم به والتسليم له ورفض ما سواه من أحكام البشر الجاهلة الجائرة الفاسدة المفسدة ، قال تعالى: (( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً )) (النساء:65)
3 ـ العزة والشرف والتحرر الحقيقي :
__________
(1) انظر الانحراف في مفهوم العبادة ص328 وما بعدها .(1/300)
إن العزة وكمال الشرف ، والحرية الكاملة من عبودية البشر لا تكون إلا في تحقيق العبادة لله عز وجل والاستعانة به وحده. وعلى العكس من ذلك فإن الذلة والمهانة والرق الحقيقي هو من الابتعاد عن عبادة الله تعالى وطاعته؛لأن أي مكلف يرفض الدخول في عبادة الله عز وجل ، فلابد أن يدخل في عبودية غيره من المخاليق الضعفاء ، ومعلوم ما في استعباد المخلوق لمخلوق مثله من الذلة والرق والظلم والفساد. وهذه سنة الله عز وجل في عباده .
والإنسان لا يبلغ كماله الحقيقي وشرفه الأعلى إلا في العبودية لله وحده والرفض الكامل لعبودية ما سواه ، وهذا الكمال البشري هو الذي وصل إليه أنبياء الله ورسله عليهم الصلاةوالسلام وعلى رأسهم نبينا محمد لله ، وهو الذي خاطبه ربه سبحانه في أعلى مقاماته التي وصل إليها : مقام تلقي الوحي ، ومقام الإسراء ، خاطبه فيهما بوصف العبودية؛لأنها أرقى وأعظم وأشرف منزلة يصل إليها الإنسان .
قال تعالى: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا)) (الكهف:1) ، وقال تعالى : (( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى)) (الاسراء:1) .
يقول سيد قطب رحمه الله تعالى : ((إن الدينونة لله تحرر البشر من الدينونة لغيره،وتخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ، وبذلك تحقق للإنسان كرامته الحقيقية ، وحريته الحقيقية ، هذه الحرية وتلك اللتان يستحيل ضمانهما في ظل أي نظام آخر ـ غير النظام الإسلامي ـ يدين فيه الناس بعضهم لبعض بالعبودية ، في صورة من صورها الكثيرة...سواء عبودية الاعتقاد ، أو عبودية الشعائر ، أو عبودية الشرائع.. فكلها عبودية ،وبعضها مثل بعض ؛ تخضع الرقاب لغير الله ، بإخضاعها للتلقي في أي شأن من شؤون الحياة لغير الله.(1/301)
والناس لا يملكون أن يعيشوا غير مدينين . لابد للناس من دينونة ، والذين لا يدينون لله وحده يقعون من فورهم في شر ألوان العبودية لغير الله في كل جانب من جوانب الحياة !
إنهم يقعون فرائس لأهوائهم وشهواتهم بلا حد ولا ضابط ، ومن ثم يفقدون خاصتهم الآدمية ، ويندرجون في عالم البهيمة : (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ )) (محمد:12)، ولا يخسر الإنسان شيئاً كأن يخسر آدميته ، ويندرج في عالم البهيمة ، وهذا هو الذي يقع حتماً بمجرد التملص من الدينونة لله وحده ، والوقوع في الدينونة للهوى والشهوة ...
وهذا يقودنا إلى قيمة توحيد العبادة والدينونة في صيانة أرواح الناس وأعراضهم وأموالهم ،التي تصبح كلها ولا عاصم لها عندما يدين العباد للعباد في صورة من صور الدينونة ، سواء في صورة حاكمية التشريع ، أو في صورة حاكمية الأعراف والتقاليد ، أو في صورة حاكمية الاعتقاد والتصور ... ))(1) اهـ .وللشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله تعالى كلام نفيس حول هذا الموضوع المهم ، أنقله لأهميته ، قال رحمه الله تعالى عند تفسير (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ))
((بتحقيق العمل بمدلول (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ينجو الإنسان ويسلم من الرق المعنوي الذي هو أفظع وأنكى من كل رق حسي ؛ لأن الرق الحسي يشعر به صاحبه ، فيتمنى انتهاءه ، ويسعى لإزالته والتخلص منه حسب مجهوده ، ولكن الرق المعنوي لا يشعر به صاحبه ، بل على العكس ينقلب تصوره له تحرراً وتقدماً ، فيتمادى باستحسان حالته ، دون أن يخالجه أدنى شيء من الامتعاض والإحساس .
__________
(1) في ظلال القرآن ( 3 / 1939 ، 1940 ) ط / الشروق .(1/302)
وكل من لم ينشغف وينشغل بعبادة الله وبحصر اتجاهه عليها واستعانته به جل وعلا ، فإنه لابد من أن يبتلى بنوع أو أنواع من الرق المعنوي المذيب لشخصيته من حيث لا يشعر ، فمنهم من تسترقه شهواته ، وتجعله عبداً لمرذول أو مرذولة ، لا يرضى هو أن يكونوا من عبيده لو كان متحرراً من الرق المعنوي ، مستبصراً بالبصيرة الفطرية ، ولكن الرق المعنوي يجعله مغرماً بهذا أو هذه أو بهما جميعاً ؛ فيكون منشغفاً بقشر الجمال الذي سلب عقله ، واسترق أحاسيسه وجوارحه؛ يتغنى بأوصافه ، ويفديه بنفسه وروحه التي لا تعدلها الدنيا جميعها ثمناً لو عرف قيمة نفسه ، بل يجهد نفسه في تحصيل الرضا أو طلب الوصال ممن يجب بغضه أو الابتعاد عنه ، لو ملك العقل الفطري الذي يرفعه عن الرق المعنوي ، وأحوال هذا القسم ظاهرة للعيان من أقدم العصور إلى أحدثها ، تشهد عليهم اعترافاتهم في أشعارهم، كما قال قائلهم :
بنفسي أفدي خاله فوق خده ومن أنا بالدنيا فأفديه بالمال
وكما قال الآخر :بنفسي من لو مر برد بنانه على كبدي كانت شفاءً أنامله
ولا شك أن الإنسان عبد لما أحب ، فالمتعلق بحب الشهوات هو للهوى والشهوات رقيق لها دائماً ، والمتعلق بحب المال والمتاع هو عبد لصنوف المال والمتاع ، يعيش منهوماً لا يشبع ، وسكران لا يفيق ، تسترقه وتستعبده مطامعه المسعورة المتكررة .
والمسلم المؤمن الصادق لا يرتبط في جميع أحوال سيره بعجلة أحد ولا تبعية أحد لسلامته من الرق المعنوي بإخلاص مقاصده لله ، وكونه مستعيناً به فقط ، فلا يخشى من أي قوة ، ولا يستعين بكتلة على كتلة أخرى ؛ حتى لا يصغى إلى ما تمليه .(1/303)
وأصحاب الرق المعنوي يعادون الحر الذي على هذه الشاكلة بدافع من طبيعتهم السافلة ، أو بإملاء من أسيادهم الذين يركنون إليهم ، ولا سبيل لتطهير قلوبهم من ذلك إلا بما يحرر أرواحهم من القيام بتحقيق مدلول : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ))(1) اهـ .
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :(( إذ الرق والعبودية في الحقيقة : هو رق القلب وعبوديته ، فما استرق القلب واستعبده ، فالقلب عبده ، ولهذا يقال :
العبد حر ما قنع والحر عبد ما طمع
وقال القائل :
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حراً
إلى أن قال رحمه الله تعالى : كلما قوي طمع العبد في فضل الله ورحمته ، ورجائه لقضاء حاجته ودفع ضرورته ، قويت عبوديته ، وحريته عما سواه ، فكما أن طمعه في المخلوق يوجب عبوديته له ، فيأسه منه يوجب غنى قلبه عنه ، كما قيل : استغن عمن شئت تكن نظيره ، وأفضل على من شئت تكن أميره ، واحتج إلى من شئت تكن أسيره ...
ويقول أيضاً : فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن ، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن ، فإن من استُعبد بدنه واسترق وأسر لا يبالي ما دام قلبه مستريحاً من ذلك مطمئناً ، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص ، وأما إذا كان القلب الذي هو ملك الجسم رقيقاً مستعبداً ، متيماً لغير الله ، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية الذليلة لما استعبد القلب..فالحرية حرية القلب ، والعبودية عبودية القلب ، كما أن الغنى غنى النفس ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( ليس الغنى عن كثرة العرض ، وإنما الغنى غنى النفس))(2)))(3) اهـ.
__________
(1) صفوة الآثار والمفاهيم ( 1 / 231 ـ 237 ) .
(2) البخاري ( 6446 ) الرقاق ، ومسلم ( 1051 ) الزكاة .
(3) العبودية : 32 ، 37 ، 38 .(1/304)
وقال أيضاً : (( وإذا تبين هذا ، فكلما ازداد القلب حبّاً لله ، ازداد عبودية وحرية عما سواه ، وكلما ازداد له عبودية، ازداد له حبّاً وحرية عما سواه ))(1) .
4 ـ سلامة السلوك والتزام أوامر الله سبحانه وترك معاصيه ودوام مراقبته :
وهذا من أعظم ثمار العبادة وآثارها ، وإلا فما قيمة عبادة لا تثمر طاعة المعبود واجتناب معاصيه ، ومحبة محابه وبغض ما يبغضه. وإن التساهل في التزام ما يحبه الله عز وجل من الأخلاق الفاضلة وترك مساوئها يؤول في نهاية الأمر إلى خلل في عبادة الله سبحانه وتوحيده.وإلى هذا نبه العلماء الربانيون وحذروا .
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى : ((التوحيد ألطف شيء وأنزهه وأنظفه وأصفاه ، فأي شيء يخدشه ويدنسه ويؤثر فيه ، فهو كأبيض ثوب يكون يؤثر فيه أدنى أثر ، وكالمرآة الصافية جدّاً أدنى شيء يؤثر فيها ، ولهذا تشوشه اللحظة ، واللفظة ، والشهوة الخفية ، فإن بادر صاحبه وقلع ذلك الأثر بضده ، وإلا استحكم وصار طبعاً يتعسر عليه قلعه ))(2) .
ويقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى : (( إن عبودية الله تقتضي إشغال جميع الجوارح والأحاسيس في طاعة الله وامتثال أمره لينحصر الاتجاه إليه سبحانه وتعالى في كل ما ركبه في جسم الإنسان ، كما تقتضي كفها وصيانتها عن الانشغال بما لا يرضي الله من كل محرم ومكروه ، وعن الانهماك في المباحات المشغلة ))(3) اهـ .
ويقول أيضاً : (( فالعابد لله يراقب الله بمحاسبة نفسه على كل خطرة أو نظرة ، وعلى كل حركة وسكون ليصقل قلبه من سواد المعصية فعلاً ، والتقصير بالطاعة تركاً؛ خائفاً من لقاء الله بقلب أسود ، فإذا تدنس ثوبه ذكر دنس قلبه فسعى لتنقيته وتطهيره قبل ثوبه لقوة معرفته أنه محل نظر الله ))(4)اهـ
__________
(1) العبودية : 45 .
(2) الفوائد ص184 .
(3) صفوة المفاهيم والآثار ( 1 / 162 ) .
(4) المصدر السابق ( 1 / 159 ) .(1/305)
وأنه لا شيء يضبط السلوك ويأطر النفس على محاسن الأخلاق وترك سيئها مثل عبادة الله عز وجل ، والخوف منه سبحانه ، ورجاء ثوابه ومراقبته في كل حين ، وإذا لم يوجد هذا الشعور فإنه لا تنفع أي محاولة مهما كانت في تهذيب سلوك الناس. ولنأخذ على ذلك مثالاً ؛ ألا وهو تحريم الخمر ومحاربة المخدرات ، وما هو الفرق في علاج النفس البشرية والمجتمع الإنساني بين منهج الله عز وجل والمناهج الجاهلية ، فيقول سيد قطب رحمه الله تعالى :
((أما في أمريكا،فقد حاولت الحكومة الأمريكية مرة القضاء على هذه الظاهرة فسنت قانوناً في سنة1919 سمي قانون "الجفاف".من باب التهكم عليه ، لأنه يمنع "الري"بالخمر !، وقد ظل هذا القانون قائماً مدة أربعة عشر عاماً حتى اضطرت الحكومة إلى إلغائه في سنة 1933 .
وكانت قد استخدمت جميع وسائل النشر والإذاعة والسينما
والمحاضرات للدعاية ضد الخمر ، ويقدرون ما أنفقته الدولة في الدعاية ضد الخمر بما يزيد على ستين مليوناً من الدولارات ، وأن ما نشرته من الكتب والنشرات يشتمل على عشرة بلايين صفحة، وما تحملته في سبيل تنفيذ قانون التحريم من مدة أربعة عشر عاماً لا يقل عن250مليون جنيه، وقد أعدم فيها300 نفس ، وسجن كذلك 532،335نفساً ، وبلغت الغرامات16مليون جنيه،وصادرت من الأملاك ما يبلغ400 مليون وأربعة بلايين جنيه .. وبعد ذلك كله اضطرت إلى التراجع وإلغاء القانون .
فأما الإسلام فقضى على هذه الظاهرة العميقة في المجتمع الجاهلي ببعض آيات من القرآن ، وهذا هو الفرق في علاج النفس البشرية وفي علاج المجتمع الإنساني ..بين منهج الله ، ومناهج الجاهلية قديماً وحديثاً على السواء !
لقد تمت المعجزة ؛ لأن المنهج الرباني أخذ النفس الإنسانية بطريقته الخاصة.. أخذها بسلطان الله وخشيته ومراقبته ، وبحضور الله فيها حضوراً لا تملك الغفلة عنه لحظة من زمان..أخذها جملة لا تفاريق.. وعالج الفطرة بطريقة خالق الفطرة.(1/306)
لقد ملأ فراغها باهتمامات كبيرة لا تدع فيها فراغاً تملؤه بنشوة الخمر ، وخيالات السكر ، وما يصاحبها من مفاخرات وخيلاء ..في الهواء..ملأ فراغها باهتمامات ، منها : نقل هذه البشرية الضالة الشاردة كلها من تيه الجاهلية الأجرد ، وهجيرها المتلظي ، وظلامها الدامس ، وعبوديتها المذلة، وضيقها الخانق ، إلى رياض الإسلام البديعة ، وظلاله الندية ، ونوره الوضيء ، وحريته الكريمة ، وسعته التي تشمل الدنيا والآخرة ..
إنها لم تكن كلمات..هي التي حققت تلك المعجزة الفريدة..إنما كان منهج ؛ منهج هذه الكلمات متنه وأصله ، منهج من صنع رب الناس ، لا من صنع الناس ،وهذا هو الفارق الأصيل بينه وبين كل ما يتخذه البشر من مناهج ، لا تؤدي إلى كثير !..
فمتى يدرك هذه الحقيقة البسيطة من يحاولون أن يضعوا لحياة الناس مناهج غير منهج العليم الخبير ؟ وأن يشرعوا للناس قواعد غير التي شرعها الحكيم البصير ؟ وأن يقيموا للناس معالم لم يقمها الخلاق القدير ؟ متى ؟ متى ينتهون عن هذا الغرور ؟؟؟ . ))(1) اهـ .
5 ـ الإقدام والشجاعة ، والثبات على الحق ، والطمأنينة :
الصادق مع الله عز وجل في عبادته واستعانته به سبحانه لا تراه إلا رابط الجأش شجاع القلب ثابتاً على مبدئه مستهيناً بالباطل وأهله ، وكيف لا وهو يأوي إلى ربه القوي العزيز رب كل شيء ومليكه ، يعبده ويستعينه ، ويفوض أمره كله إليه .
__________
(1) في ظلال القرآن عند الآية ( 43 ) من سورة النساء .(1/307)
ولقد قص الله تعالى علينا في كتابه الكريم خبر أنبيائه وصفوته من خلقه، وكيف كان ثباتهم وشجاعتهم وتحديهم لأقوامهم الذين يملكون العدد والعتاد ، ومن ذلك ما ذكره سبحانه عن نبيه ورسوله نوح عليه السلام في قوله تعالى: (( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ )) (يونس:71) .
وكذلك قال عن هود عليه السلام لما قال له قومه : (( إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) (هود:54 ـ 56) .
وقال عن خاتم أنبيائه محمد عليه الصلاة والسلام : (( قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ * إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ )) (الأعراف:195 ، 196) .
وأخبرنا سبحانه عن أصحاب محمدصلى الله عليه وسلم عندما تحزبت عليهم الأحزاب من فوقهم ومن أسفل منهم يوم الخندق، فقال : (( وَلَمَّا رَأى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً )) (الأحزاب:22) .(1/308)
وقال عنهم يوم أحد عندما خوفهم من خوفهم برجوع المشركين مرة أخرى لقتالهم ، وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والجراحات فقال تعالى : (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ )) (آل عمران:174).
والأمثلة في ذلك كثيرة وكثيرة ، ولنرجع إلى ما علق به بعض المفسرين على قصة هود عليه السلام مع قومه ، يقول القرطبي رحمه الله تعالى عن هذه القصة :
(( قوله : (( فَكِيدُونِي جَمِيعاً)) أي : أنتم وأوثانكم في عداوتي وضري.
(( ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ )) أي : لا تؤخرون ، وهذا القول مع كثرة الأعداء يدلّ على كمال الثقة بنصر الله تعالى ، وهو من أعلام النبوة أن يكون الرسول وحده يقول لقومه: (( فَكِيدُونِي جَمِيعاً )) ، وكذلك قال النبيصلى الله عليه وسلم لقريش. وقال نوحصلى الله عليه وسلم : (( فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ )) الآية .
قوله تعالى: (( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ )) أي:رضيت بحكمه، ووثقت بنصره ، ((مَا مِنْ دَابَّةٍ )) أي: نفس تدب على الأرض ، وهو في موضع رفع بالابتداء (( إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا )) أي : يصرفها كيف يشاء ويمنعها مما يشاء ، أي : فلا تصلون إلى ضري ))(1) اهـ .
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذه القصة بقوله :
((
__________
(1) تفسير القرطبي عند الآيات 54 ـ 56 من سورة هود .(1/309)
وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قوماً غلاظاً شداداً حمقى ، يبلغ بهم الجهل أن يعتقدوا أن هذه المعبودات الزائفة تمس رجلاً فيهذي ؛ ويروا في الدعوة إلى الله الواحد هذياناً من أثر المس . يدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة ، فيسفه عقيدتهم ويقرعهم عليها ويؤنبهم، ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي، لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفثأ غضبهم .
إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد، ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب .
إنه الإيمان والثقة والاطمئنان،الإيمان بالله ، والثقة بوعده ، والاطمئنان إلى نصره..الإيمان الذي يخالط القلب ، فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة ؛ لأنها ملء يديه ، وملء قلبه الذي بين جنبيه ، وليست وعداً للمستقبل في ضمير الغيب ، إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب (( قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)) (هود:54) .
إني أشهد الله على براءتي مما تشركون من دونه . واشهدوا أنتم شهادة تبرئني وتكون حجة عليكم : إنني عالنتكم بالبراءة مما تشركون من دون الله، ثم تجمَّعوا أنتم وهذه الآلهة التي تزعمون أن أحدها مسّني بسوء ، تجمعوا أنتم وهي ـ جميعاً ـ ثم كيدوني بلا ريث ولا تمهل ، فما أباليكم جميعاً ، ولا أخشاكم شيئاً .. (( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ )) (هود:56 ) .
ومهما أنكرتم وكذبتم ، فهذه الحقيقة قائمة ، حقيقة ربوبية الله لي ولكم، فالله الواحد هو ربي وربكم ، لأنه رب الجميع بلا تعدد ولا مشاركة (( مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) (هود:56 )
وهي صورة محسوسة للقهر والقدرة تصور القدرة آخذة بناصية كل دابة على هذه الأرض ، بما فيها الدواب من الناس .(1/310)
والناصية أعلى الجبهة ، فهو القهر والغلبة والهيمنة ، في صورة حسية تناسب الموقف وتناسب غلظة القوم وشدتهم ، وتناسب صلابة أجسامهم وبنيتهم ، وتناسب غلظ حسهم ومشاعرهم..وإلى جانبها تقرير استقامة السنة الإلهية في اتجاهها الذي لا يحيد : (( إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) (هود:56 ) ، فهي القوة والاستقامة والتصميم ))(1) اهـ .
وبعد هذه النقولات لنستمع إلى ما يقوله الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى عن أثر العبودية الخالصة والتوكل الصادق في طرد الخوف والهلع وجلب الشجاعة والثبات والإقدام ، فيقول رحمه الله تعالى : (( ولا تستصعب مخالفة الناس والتحيز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك،فإن الله معك وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك،وإنما امتحن يقينك وصبرك ، وأعظم الأعوان لك على هذا بعد عون الله التجرد من الطمع والفزع ، فمتى تجردت منها هان عليك التحيز إلى الله ورسوله ، وكنت دائماً في الجانب الذي فيه الله ورسوله ، ومتى قام بك الطمع والفزع فلا تطمع في هذا الأمر ، ولا تحدث نفسك به ، فإن قلت : فبأي شيء أستعين على التجرد من الطمع ومن الفزع ؟ قلت : بالتوحيد والتوكل والثقة بالله وعلمك بأنه لا يأتي بالحسنات إلا هو ، ولا يذهب بالسيئات إلا هو ، وأن الأمر كله لله ، ليس لأحد مع الله شيء ))(2) اهـ.
أما عن أثر العبادة والاستعانة في الثبات والسكينة وتحمل الشدائد ورد كيد الأعداء وشرورهم ، فهذا أمر قد تكفل الله سبحانه به لمن صحت عبادته وصدق توكله وفوض أمره إلى مولاه سبحانه .
ولما كانت العبادة لا تقوم ولا تقبل إلا بالإخلاص لله عز وجل ، والمتابعة للرسول لله ، فإنه يمكننا القول بأن الثبات والطمأنينة وقوة العزيمة وإبطال كيد الكائدين لابد له من أمور ثلاثة :
1 ـ إخلاص الأمر لله عز وجل .
__________
(1) في ظلال القرآن ، عند الآيات 54 ـ 56 من سورة هود .
(2) الفوائد ص116 .(1/311)
2 ـ أن يكون العمل حقّاً مشروعاً متبعاً فيه الرسول صلى الله عليه وسلم .
3 ـ الاستعانة بالله عز وجل في ذلك والتوكل عليه والتبرؤ من الحول والقوة ، والخلوص من العجب والكبر ، والحذر من الاغترار بالنفس والأتباع .
وبالتأمل في الأمر الأول والثاني نجدهما يمثلان حقيقة العبودية لله سبحانه ، بينما الأمر الثالث يمثل الاستعانة بالله عز وجل ، فآل الأمر إلى قوله تعالى : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ، وعن هذا الأثر العظيم للعبادة والاستعانة يحدثنا الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى ، فيقول :
((إذا قام العبد بالحق على غيره وعلى نفسه أولاً ، وكان قيامه بالله ولله لم يقم له شيء ، ولو كادته السموات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها ، وجعل له فرجاً ومخرجاً ، وإنما يُؤتى العبدُ من تفريطه وتقصيره في هذه الأمور الثلاثة ، أو في اثنين منها ، أو في واحد ، فمن كان قيامه في باطل لم يُنصر ، وإن نُصر نصراً عارضاً فلا عاقبة له وهو مذموم مخذول ، وإن قام في حق لكن لم يقم فيه لله وإنما قام لطلب المَحْمَدة والشكور والجزاء من الخلق ، أو التوصل إلى غرض دنيوي كان هو المقصود أولاً والقيام في الحق وسيلة إليه ـ فهذا لم تضمن له النصرة ، فإن الله إنما ضمن النصرة لمن جاهد في سبيله ، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، لا لمن كان قيامه لنفسه ولهواه، فإنه ليس من المتقين ولا من المحسنين ، وإن نُصر بحسب ما معه من الحق فإن الله لا ينصر إلا الحق ، وإذا كانت الدولة لأهل الباطل ، فبحسب ما معهم من الصبر .
والصبر منصور أبداً ، فإن كان صاحبه محقّاً كان منصوراً له العاقبة ، وإن كان مُبطلاً لم يكن له عاقبة ، وإذا قام العبد في الحق لله ، ولكن قام بنفسه وقوته ولم يقم بالله مستعيناً به متوكلاً عليه مفوضاً إليه ، بريّاً من الحول والقول إلا به ـ فله من الخذلان وضعف النصرة بحسب ما قام به من ذلك .(1/312)
ونكتة المسألة : أن تجريد التوحيد في أمر الله لا يقوم له شيء البتة ، وصاحبه مؤيد منصور ولو توالت عليه زُمر الأعداء ))(1) اهـ .
ويقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى : (صدق الاستعانة بالله يورث طمأنينة القلب،وسكون النفس؛لأن ذلك من آثار صدق الإيمان وقوته،وإذا اطمأن قلب الإنسان وسكنت نفسه حصل له برد الراحة ، وحلاوة اليقين ، وسلم قلبه مما ينتاب قلب غيره من الخطرات الفاسدة أو المفزعة أو المخذلة ، فكان يستقبل الأهوال بشجاعة وثبات ، لا يبالي بالخطوب إذا اعتدت ، ولا يلويه شيطان الهوى والشهوات عن الإقدام على الأهوال ، أو الثبات على الخطوب؛لاستمداده العون من ربه الذي صدق معه في ضراعته باستعانته ، فهو يرى نفسه موصولاً من الله بالمدد الروحي والمعنوي،ويؤمن بأن الله يفتح له كل مغلق فلا يعتوره اليأس،أو يتسرب إليه الجزع ، ولا يصيبه شيء من الضعف أو الحيرة ؛لأنه في كنف الله وعزته ونوره ، فهو من أهل هذه الآية : (( ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ)) (محمد:11)
ويقول أيضاً : (( في حصر الاستعانة بالله قوة معنوية تكسب العابد لله رباطة جأش وعظيم صراحة وجرأة ، فلا يداهن ولا يتصنع للناس في أي حال من الأحوال ، بل يصدع بعقيدته ويجهر بدينه بحدود ما فرض الله دون الخروج إلى حد التهور ،أو يخرجه من المقابلة بالحكمة إلى نقمة الهجوم ومرارة التحدي الذي يحل به الفساد بدل الإصلاح))(2) اهـ.
6 ـ انتفاء الرياء والعجب والكبر :
__________
(1) أعلام الموقعين ( 2 / 178 ) .
(2) صفوة المفاهيم ( 1 / 157 ) .(1/313)
إن من ثمار العبودية التامة لله عزوجل والاستعانة به وحده سبحانه أن يتخلص القلب من هذا الثالوث الفتاك ، الذي يمرض القلوب ، بل يميتها إن لم يتدارك العبد نفسه ، ويعالجها بصدق التعبد لله عز وجل وإظهار الفاقة والافتقار إليه سبحانه ، فيستعين به ويتوكل عليه ، ويرى أن الحمد كله لله ، والفضل بيده وحده ، وأن لا قدرة ولا حول ولا هداية ولا عافية إلامنه سبحانه ، لا يأتي بالحسنات إلا هو ولايذهب بالسيئات إلا هو سبحانه وتعالى .
وإذا أراد العبد وجه الله عزوجل في جميع أعماله انتفى الرياء من القلب، وإذا أيقن العبد بضعفه وافتقاره لربه سبحانه وأنه ضعيف هالك إن لم يعنه ربه سبحانه ويوفقه ، فإن ذلك ينفي العجب ، ويورث التواضع والإخبات للحق، كما يورث التواضع للخلق ، وأن ليس له فضل على نفسه ولا على أحد ، وأن الفضل كله لله ، والخير كله بيده سبحانه فهو المان به وحده .
إن هذا الشعور حينما يسيطر على القلب فإنه لا مكان للعجب ولا للكبر فيه ، وإنما يحل مكان ذلك الإخبات والخضوع لله عز وجل ، مع التواضع للحق والخلق ، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
((وكثيراً ما يقرن الناس بين الرياء والعجب، فالرياء من باب الإشراك بالخلق ، والعجب من باب الإشراك بالنفس ، وهذا حال المستكبر ، فالمرائي لا يحقق قوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) والمعجب لا يحقق قوله: (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) فمن حقق قوله : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) خرج عن الرياء ، ومن حقق قوله : (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) خرج عن الإعجاب، وفي الحديث المعروف : ((ثلاث مهلكات : شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه))(1) ))(2) .
__________
(1) أبو نعيم في الحلية ( 2 / 343 ) ، والبيهقي في الشعب ( 7252 ) وغيرهما ، وله
طرق أخرى هو بمجموعها حسن ، انظر السلسلة الصحيحة ( 1802 ) .
(2) مجموع الفتاوى ( 1 / 277 ) .(1/314)
ويقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى : (( عبودية الله تستلزم الإخبات له ، فالعابد لله يكون مخبتاً له ، والإخبات الاطمئنان ، فهو النزول بالنفس عن الكبرياء والغطرسة ، بأن تُستذل لله وحده ، وترى فقرها وحاجتها إليه ملازمين لها ، ويسمى المكان المطمئن في اللغة » خبتاً «، والإخبات لله هو الذل والاطمئنان عند ذكره خوفاً ووجلاً ))(1) اهـ.
وقد ذكر الحارث المحاسبي رحمه الله تعالى كلاماً جيداً عن آفة العجب، وبم يتخلص منها ، أقتطف منها حديثه عن العُجب بالنفس والعقل والفطنة؛ حيث يقول : ((قلت : فالعجب بالعقل والذهن والفطنة ؟ قال : استحسان ذلك واستعظامه ، ونسيان النعمة بالتفضُّل به ، والاتكال عليه أن يدرك به ما يريد وما يؤمل، من علم أو رأي، أو أحكام دين الله عز وجل ، أو دنيا ، وترك التوكل على الله عز وجل في جميع ذلك ، حتى يخرجه ذلك إلى قلة التثبت لإعجابه بعقله ، حتى يخطئ في دين الله عز وجل ، ويقول عليه بغير الحق ، ويخرجه أيضاً إلى ترك التفهم ممّن علّمه أو أمره أو ناظره ، حتى يحرم الفهم للحق ، ويأبى إلا القول بالخطأ والغلط ، ويخرجه إلى حقرية(2)من دونه ، ممَّن لم يُعطَ من الفطنة مثل ما أعطي ، وإن كان أورع منه وأفضل عملاً ، حتى يُسمي كثيراً ممن هو أورع منه وأفضل منه جهالاً حمقى ، ويراهم كالحمير التي لا تعقل ؛ إذ فضل عليهم بالفطنة والذهن ، ويستطيل عليهم، ويرى ألا قدْر لهم ، ويستصغر ما عملوا من خير ، ويرى أنه خير منه ، وإن ضيّع العمل لفطنته ولعقله .
قلت : فبمَ ينفي ذلك ؟
__________
(1) صفوة الآثار والمفاهيم ( 1 / 112 ) .
(2) كذا : ولعلها : حقره .(1/315)
قال : بمعرفته بجهله مهما أعطي من الفطنة ، وبسهوه وغفلته وقلّة ما يدري بعقله،وإن كان قد أعطي من الفطنة أكثر مما أعطي غيره،فقد وجب عليه في ذلك الشكر ، وإنما فُضِّل بالذهن لتعظم الحجة عليه ، ولتوكيد الطاعة باللزوم لها، ولينظر الله عز وجل كيف استعماله لعقله في الفهم عنه والاشتغال به ، وأن ما أعطي من العقل بيد الله عز وجل ،(و) لو شاء أن يغيّره ويزيله ببعض الآفات، كما رآه فَعَل ذلك بمن هو مثله ومن هو فوقه لفعل ، فلا يأمن من أن يسلبه الله عز وجل عقله.
فإذا عرف ضعفه وجهله وقلة ما يدرك بعقله ، وأن ما فُضّل به منّّة منه ، عليه فيه الشكر وعظيم الحجة ، ووجوب الحق ، وأنه لذلك مضيع ، فإذا عرف ذلك علم أن من لم يؤت من الفطنة مثل ما أوتي أحسنُ حالاً منه ؛ إذ لم يشكر الله عز وجل على ما فضله به عليه ، وأن الحجة عليه أعظم منها على من دونه .
وقد يرى كثيراً ممَّن هو دونه في الفطنة أطوع لله تعالى منه ، وأنه مع ذلك لا يأمن أن يسلبه الله تعالى عقله إن ضيع القيام لله تعالى به فيما وجب عليه من الفهم عنه ، والعقل عنه والعمل به .
فإذا ألزم قلبه هذه المعرفة زال عنه العجب ، وخاف عظيم الحجة ، وواجب الحق ، واهتم بالشكر وأداء الحق ))(1) .
__________
(1) الرعاية للحارث المحاسبي ص360 ، 361 .(1/316)
7 ـ تفريج الكربات والسلامة من مضلات الفتن : لقد مر بنا في الثمرة الخامسة أثر العبادة وصدق التوكل والاستعانة به سبحانه على شجاعة القلب والثبات وعدم الاكتراث بالباطل وأهله ، وهذه الثمرة فرع عن تلك ؛حيث إن الصادق في عبادته وتوجهه لربه والصادق في توكله واستعانته بمولاه سبحانه يصبح محفوظاً من الله عز وجل معصوماً من الفتن وشرورها ، وإن مرت به كربة ثبته الله وصبره عليها ، وسرعان ما تنكشف وتنفرج عن خير وعاقبة حسنة له ، قال تعالى : (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً )) (الطلاق:2 ، 3) .
وقال سبحانه عن نبيه لله وصحابته الأجلاء : (( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ* فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ )) ( آل عمران : 173 ، 174 ) .
وهذا الفضل من الله سبحانه عليهم كان بصدق توكلهم عليه سبحانه وإخلاصهم العبادة له. ويعلق شيخ الإسلام رحمه الله تعالى على آية الطلاق السابقة فيقول :
(((1/317)
قال الله تعالى : (( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً )) (الطلاق:2 ، 3) ، قد روي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لو أخذ الناس كلهم بهذه الآية لكفتهم ))(1)،وقوله: (( مَخْرَجاً)) عن بعض السلف : أي من كل ما ضاق على الناس ، وهذه الآية مطابقة لقوله : ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) الجامعة لعلم الكتب الإلهية كلها ، وذلك أن التقوى هي العبادة المأمور بها ، فإن تقوى ا وعبادته وطاعته : أسماء متقاربة متكافئة متلازمة ، والتوكل علىه هو الاستعانة به ، فمن يتقي الله مثال: (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) ، ومن يتوكل على الله مثال: (( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) كما قال: (( فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ )) (هود: 123) ،وقال : (( عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا )) (الممتحنة:4)،وقال: (( عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)) (هود:88)
ثم جعل للتقوى فائدتين : أن يجعل له مخرجاً ، وأن يرزقه من حيث لا يحتسب ، والمخرج هو موضع الخروج وهو الخروج ، وإنما يطلب الخروج من الضيق والشدة ، وهذا هو الفرج والنصر والرزق، فبين أن فيها النصر والرزق ، كما قال : (( الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ)) ؛ ولهذا قال النبيصلى الله عليه وسلم : ((وهل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم ؟ بدعائهم ، وصلاتهم ، واستغفارهم ))(2) هذا لجلب المنفعة، وهذا لدفع المضرة.
__________
(1) أحمد ( 5 / 178 ) ، والحاكم ( 2 / 492 ) وفيه انقطاع .
(2) البخاري مختصراً في الجهاد ( 2896 ) ، وبنحوه في النسائي ( 6 / 45 ) .(1/318)
وأما التوكل فبين أن الله حسبه أي كافيه ، وفي هذا بيان التوكل على الله من حيث إن الله يكفي المتوكل عليه ، كما قال : (( أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ))؟ خلافاً لمن قال:ليس في التوكل إلاالتفويض والرضا))(1) اهـ.
ومن ذلك قولهصلى الله عليه وسلم : ((من قال : بسم الله توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، فيقال له حينئذ:كفيت ووقيت،وتنحى عنه الشيطان))(2)
وقد ذكر أبو نعيم رحمه الله تعالى في كتابه(حلية الأولياء) قصة تدل على على أثر العبادة الخالصة والتوكل الصادق في تفريج الكربات والسلامة من مضلات الفتن حيث ساق بسنده إلى عون بن عبد الله قال: ((عن عون بن عبد الله بن عتبة، قال : بينا رجل بمصر في بستان زمن فتنة آل الزبير ، جالساً كئيباً حزيناً يبكي ينكث في الأرض بشيء معه ، فرفع رأسه ، فإذا صاحب مسحاة قد مثل له ، فقال : مالي أراك مهموماً حزيناً؟فكأنه ازدراه ، فقال : لا شيء ، فقال : أبالدنيا ؟ فإن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، وإن الآخرة أجل صادق ، يحكم فيها ملك قادر ، يفصل بين الحق والباطل ، حتى ذكر إن لها مفاصل كمفاصل اللحم من أخطأ منها شيئاً أخطأ الحق. قال : فأعجب بذلك من كلامه ، فقال : اهتمامي بما فيه المسلمون. فقال : إن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين، وسل . من ذا الذي سأل الله فلم يعطه ، أو دعا الله فلم يجبه ، أو توكل عليه فلم يكفه ، أو وثق به فلم ينجه ؟ قال : فعلقت الدعاء، فقلت : اللهم سلمني وسلم مني ، قال : فتجلت الفتنة ولم تصب منه شيئاً ))(3) .
8 ـ الرضا بقضاء الله عز وجل والتسليم لأحكامه وتفويض الأمور إليه:
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 16 / 55 ، 56 ) .
(2) تقدم تخريجه ص347 .
(3) حلية الأولياء ( 4 / 244 ) ط . دار الكتاب العربي .(1/319)
وهذا من أعظم ثمار العبادة الصادقة والتوكل الصحيح ، وإلا فما قيمة عبادة وتوكل واستعانة لا تثمر الرضا والتسليم والتفويض ؟ ولا يعني الرضا والتسليم ترك فعل الأسباب ومدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره،وإنما تفعل الأسباب المأذون بها مع عدم التعلق بها،ثم إن لم ينفع الله عز وجل بها من جلب النفع أو دفع الضرفإن المتعيّن حينئذ الرضا والتسليم وحسن الظن بالله عز وجل ، وأن اختياره سبحانه لعبده المؤمن أحسن من اختيار العبد لنفسه (( وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)) (البقرة:216)
وعن هذه الثمرة الجليلة يتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى فيقول: ((التفويض : هو روح التوكل ولُبُّهُ وحقيقته ، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله ، وإنزالها به طلباً واختياراً ، لا كرهاً واضطراراً ، بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كل أموره إلى أبيه ،العالم بشفقته عليه ورحمته، وتمام كفايته ، وحسن ولايته له ، وتدبيره له.
فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه،وقيامه بمصالحه وتوليه
لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها ، فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه، وراحته من حمل كُلَفها وثقل حملها ، مع عجزه عنها ، وجهله بوجوه المصالح فيها ، وعلمه بكمال علم من فوض إليه، وقدرته وشفقته .
فإذا وضع قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة "الرضا" وهي ثمرة التوكل، ومن فسر التوكل بها ، فإنما فسره بأجلّ ثمراته ، وأعظم فوائده ، فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله .
وكان شيخنا رضي الله عنه يقول : المقدور يكتنفه أمران : التوكل قبله ، والرضا بعده ، فمن توكل على الله قبل الفعل ، ورضي بالمقضي له بعد الفعل، فقد قام بالعبودية ، أو معنى هذا .(1/320)
قلت : وهذا معنى قول النبي لله في دعاء الاستخارة: ((اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم))(1)، فهذا توكل وتفويض ، ثم قال: ((فإنك تعلم ولا أعلم ، وتقدر ولا أقدر ، أنت علام الغيوب ))(1) .
فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة ، وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون. ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلاًأو آجلاًوأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلاً أو آجلاً .فهذا هو حاجته التي سألها ، فلم يبق عليه إلا الرضا بما يقضيه له، فقال: ((واقْدُرْ لي الخير حيث كان ، ثم رَضِّني به ))(1)
فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية ، والحقائق الإيمانية ، التي من جملتها : التوكل والتفويض ، قبل وقوع المقدور ، والرضا بعده ، وهو ثمرة التوكل ، والتفويض علامة صحته ، فإن لم يرض بما قضي له ، فتفويضه معلول فاسد ))(2) اهـ.
وهذه الثمرة تعد من أعظم أسباب النجاة من اليأس والقنوط ، وتحصيل أضدادها .
9 ـ موالاة أولياء الله سبحانه والبراءة من الشرك وأهله :
لما كانت العبادة قائمة على تمام الحب مع تمام الذل لله عز وجل، فإنه يمتنع تماماً الجمع بين محبته سبحانه ومحبة ما يبغضه من الشرك وأهله أو كراهية ما يحبه ويبغضه ، وهذا أمر مركوز في الفطر ؛ حيث إن المحبة الصادقة لإنسان ما تعني محبة ما يحب وكراهة ما يكره ،وإلا كانت المحبة مدخولة ، فإذا كان هذا يمتنع مع المخلوقين ، فكيف به مع الخالق عز وجل؟
يقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى :
((
__________
(1) البخاري / ك التهجد من حديث جابر ( 1166 ) وفي الدعوات ( 6382 ) وفي
التوحيد ( 7390 ) .
(2) مدارج السالكين ( 2 / 122 ، 123 ) .(1/321)
عبودية الله لا تسمح للعابد بموالاة أي عدو لله ولو كان أقرب قريب ، فضلاً عن موالاة المحادين لله ورسوله،من دول الكفر أو معتنقي المبادئ الإلحادية باسم التقدم في الحضارة أو الاقتصاد ، فكل من يلقي إليهم بالمودة أو يتفق معهم في ثقافتهم أو تشريعاتهم فهو خارج من عبودية الله إلى عبودية الطاغوت .
عبودية الله تقضي على أهلها ببغض الذين شرعوا ما لم يأذن به الله في
سائر النواحي ،ممن يترسم خطط الملاحدة والمستعمرين ، ولا يلتفت إلى هدي الله ورسوله . وكذلك بغض من يعتقد أو يدعو لحصر الدين في نفوس المؤمنين كأفراد دون تدخله في مشاكل الحياة من حرب وسلم وتحرر واستعمار .
فبغض هؤلاء من لوازم عبودية رب العالمين ، ومنابذتهم وهتك أستارهم وكشف حقيقتهم للناس من الجهاد في سبيل الله ، أما موالاتهم وتحبيذ أفعالهم فهي محادة لله ورسوله ، صاحبها متجرد من ولاء الله ورسوله ، غير محقق للأمر ))(1) اهـ.
ويقول أيضاً رحمه الله تعالى :
((عباد الله لا يتجردون من ولاء الله ورسوله وموالاة أوليائهما السالكين هديهما ، بل يتجردون من ولاء من سلك غير هديهما في نواحي الحكم والحياة ، واتبع غير سبيل المؤمنين ، مما تمليه المذاهب والمبادئ العصرية التي ركزها أعداء الله ورسله من أئمة الكفر وطواغيت البشر ؛ لأن الموالي لهؤلاء والمحبذ لأفكارهم ليس من الله في شيء ، فموالاة الله تستلزم التجرد من ولاء المتبعين غير سبيله ، كما أن موالاتهم والسير في ركابهم يستلزم التجرد من ولاء الله ورسله وأوليائه ، والخروج من عبوديته الشرعية ))(2) اهـ.
10 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله سبحانه:
العابد لربه حقّاً لا يقر له قرار ولا يهدأ له بال وهو يرى المنحرفين
__________
(1) صفوة الآثار والمفاهيم ( 1 / 62 ، 63 ) .
(2) المصدر السابق ( 1 / 73 ) .(1/322)
عن عبادة الله جل وعلا ، بل ينطلق في دعوتهم إلى الخير انطلاق المشفق الرحيم الخائف عليهم من عذاب الله عز وجل ، مبتدئاً بالأقربين من الأهل والأولاد، كما لا يقر له قرار وهو يرى ما يبغض مولاه ومعبوده سبحانه من الشرك أو المعاصي ، وإنما يسعى جاهداً لإزالة ذلك بمجاهدة أهل الشرك والعصيان بالحجة والبيان ثم بالقوة والسنان إذا اقتضى الأمر ذلك ، وكان هو المحبوب والمرضي لله عز وجل في وقته ، ويتحمل في مرضات ربه عز وجل كل الأذى والتضحيات بل وبذل النفس في سبيل معبوده ومحبوبه ومولاه ، وهذا هو العابد لربه حقّاً والمتوكل عليه صدقاً ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى :
((والجهاد : هو بذل الوسع ـ وهو كل ما يملك من القدرة ـ في حصول محبوب الحق، ودفع ما يكرهه الحق ، فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد ، كان تركه دليلاً على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه.
ومعلوم أن المحبوبات لاتنال غالباً إلا باحتمال المكروهات ، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة ، فالمحبون للمال والرئاسة والصور ، لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا ، مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة ، فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى من تحمل المحبين لغير الله ما يحتملون في سبيل حصول محبوبهم دل ذلك على ضعف محبته لله ؛ إذ كان ما يسلكه أولئك في نظرهم ،هو الطريق الذي يسير به العقل .
ومن المعلوم أن المؤمن أشد حبّاً لله ، كما قال تعالى: (( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ )) (البقرة: 165) ))(1) اهـ.
__________
(1) العبودية ص44 .(1/323)
ويقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى : ((العابد لله يجند نفسه لمقاومة كل ثورة على الإسلام وتعاليمه وحَمَلته المخلصين ، مهما اتسمت هذه الثورة بأي اسم قومي أو وطني أو اشتراكي وما إلى ذلك ، ويعاهد ربه بتكريس جميع قواه لدحض المفترين عليه ، المفتاتين على شريعته ؛ حتى يقمعهم ويفضح باطلهم ، ويكون جريئاً مقداماً لا يخرسه خوف بأسهم ولا رجاء مودتهم ولا حب الحياة بمكان يهان فيه شرع الله وتهتك حرماته ؛لأنه إن لم يتصف بذلك ونكص عن مجابهة أولئك كان جرمه أشد من جرم المتولي يوم الزحف ، فكان غير محقق لعبودية الرحمن ؛ لأن الغزو الثقافي والصراع الفكري أشد خطراً من الغزو العسكري ، وأسوأ غلبة في التأثير ؛ إذ فيه تسميم العقول وإذابة للأرواح ، وإذا كان قاتل الجسم يُقتل قصاصاً وتتخذ وسائل الدفاع لاتقاء شره ، فقاتل الأرواح ينبغي الاستعداد له والعمل على قمعه أزود من ذلك بكثير ))(1) اهـ.
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى : (( إن التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ؛ ليعبد الله وحده في الأرض ، وليتحرر البشر من عبادة الطواغيت والأصنام ، ولترتفع الحياة الإنسانية إلى الأفق الكريم الذي أراده الله للإنسان.. إن كل هذه التضحيات التي يقتضيها الجهاد في سبيل الله ليبذل مثلها وأكثر من يدينون لغير الله ، والذين يخشون العذاب والألم والاستشهاد وخسارة الأنفس والأولاد والأموال إذا هم جاهدوا في سبيل الله ، عليهم أن يتأملوا ماذا تكلفهم الدينونة لغير الله في الأنفس والأموال والأولاد ، وفوقها الأخلاق والأعراض.. إن تكاليف الجهاد في سبيل الله في وجه طواغيت الأرض كلها لن تكلفهم ما تكلفهم الدينونة لغير الله ، وفوق ذلك كله الذل والدنس والعار))(2) اهـ.
__________
(1) صفوة الآثار والمفاهيم ( 1 / 76 ) .
(2) في ظلال القرآن ، ط . الشروق ( 3 / 1941 ) .(1/324)
11 ـ وضوح الهدف ونبل الغاية وتوحيد الهمِّ والسعادة بذلك : إن المحقق لمدلول قوله تعالى : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) يصبح هدفه في هذه الحياة واضحاً ومحدداً وغايته نبيلة وشريفة ، كيف لا والغاية له في هذه الحياة أن يعبد الله عز وجل ويتقرب إليه في عمره المحدود ، ثم ينقلب إلى ربه سبحانه ليعيش هناك في الآخرة الأبدية السرمدية في رضوانه سبحانه وجنته ، وأنه إذا تحددت هذه الغاية النبيلة يصير العبد واضح الهدف محدد الغاية ؛ حيث يوجه همه كله لتحقيق هذه الغاية ، ويخضع كل شيء في هذه الدنيا لخدمة هذه الغاية العظيمة ، وبذلك يتوحد الهم في وجهة واحدة لا ثاني لها ، ألا وهي تحقيق العبودية لله سبحانه ، والاستعانة به عز وجل في تحقيقها والقيام بها على أحسن وجه .
وإن العبد بتوحيد همه في عبادة الله وحده يسلم من الصراع والتشتت وكثرة الهموم والأفكار ؛لأن من تعلق قلبه بجهات عدة يسعى لخدمتها وإرضائها يحبها ويذل لها ، إنه بهذا الصنيع يعيش مشوش النفس ، مضطرب الغاية ، غامض الهدف .
وقد ضرب الله سبحانه في كتابه الكريم مثلاً للموحد الذي أسلم وجهه لله وحده ، وللمشرك الذي وجه وجهه لعدة شركاء ، ليسوا متفقين ، وإنما هم متشاكسون لا يدري المشرك من يرضي فيهم ، هذا وإن كان المثال في المشرك بالله الشرك الأكبر ، لكنه يُستأنس به فيما دون ذلك من صور التعلق بغير الله سبحانه ، يقول الله عز وجل : (( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ )) (الزمر:29)(1/325)
يقول الشيخ السعدي رحمه الله تعالى عند هذه الآية : (( ثم ضرب مثلاً للشرك والتوحيد ،فقال : (( ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً )) أي: عبداً (( فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ)) فهم كثيرون ، وليسوا متفقين على أمر من الأمور ، وحالة من الحالات ، حتى تمكن راحته ، بل هم متشاكسون متنازعون فيه ، كل له مطلب ، يريد تنفيذه ، ويريد الآخر غيره ، فما تظن حال هذا الرجل ، مع هؤلاء الشركاء المتشاكسين؟ (( وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ )) أي : خالصاً له ، قد عرف مقصود سيده ، وحصلت له الراحة التامة.
(( هَلْ يَسْتَوِيَانِ)) أي : هذان الرجلان : (( مَثَلاً)) ؟ لا يستويان . كذلك المشرك،فيه شركاء متشاكسون ،يدعو هذا، ثم يدعو هذا ، فتراه لا يستقر له قرار ، ولا يطمئن قلبه في موضع ، والموحد مخلص لربه ، قد خلصه الله من الشركة لغيره ، فهو في أتم راحة ، وأكمل طمأنينة))(1) .
__________
(1) تفسير السعدي ، عند الآية 29 من سورة الزمر .(1/326)
ويعلق سيد قطب رحمه الله تعالى على هذا المثل الذي ضربه الله سبحانه للموحد والمشرك ، فيقول : ((وهذا المثل يصور حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك في جميع الأحوال ، فالقلب المؤمن بحقيقة التوحيد هو القلب الذي يقطع الرحلة على هذه الأرض على هدى لأنه يعرف مصدراً واحداً للحياة والقوة والرزق ، ومصدراً واحداً للنفع والضر، ومصدراً واحداً للمنح والمنع؛ فتستقيم خطاه إلى هذا المصدر الواحد ، يستمد منه وحده ، ويعلق يديه بحبل واحد يشد عروته ، ويطمئن اتجاهه إلى هدف واحد لا يزوغ عنه بصره ، ويخدم سيدًا واحدًا يعرف ماذا يرضيه فيفعله ، وماذا يغضبه فيتقيه..وبذلك تتجمع طاقته وتتوحد، فينتج بكل طاقته وجهده ، وهو ثابت القدمين على الأرض، متطلع إلى إله واحد في السماء ، ويعقب على هذا المثل الناطق الموحي ، بالحمد لله الذي اختار لعباده الراحة والأمن والطمأنينة والاستقامة ))(1) اهـ.وإذا وجه العبد حياته كلها لتحقيق هذا الهدف العظيم،ألا وهو عبادة الله وحده، فإنه يخضع كل شيء في حياته لهذا الهدف ، وإنه بذلك يحفظ وقته وعمره من أن يضيع في غير هذه الغاية فيشح بوقته النفيس وأنفاسه المعدودة من أن تضيع سدى ، بل يشغل جميع أوقاته ودقائق عمره فيما يعود عليه بالنفع في آخرته من عمل صالح ، أو دعوة إلى الله أو جهاد في سبيله ، ويتحسر على فوات الدقائق من عمره أعظم من تحسره على فوات الدنيا بأسرها ؛ولذلك فهو يغتنم ويهتبل نعمة الفراغ والصحة والمال والشباب باستعمالها في طاعة الله عز وجل قبل فواتها ، وحتى أوقات راحته واستجمامه ومتعته ينويها عبادة لله عز وجل ليتقوى بها على طاعة أخرى بعد إجمام النفس ونشاطها .
__________
(1) في ظلال القرآن ، عند الآية 29 من سورة الزمر .(1/327)
كما ينتج من وضوح الغاية وارتباط القلب بها دون غيرها انضباط واتزان في حياة العبد وشخصيته فلا تضطرب موازينه في الحياة ولا يختل سلوكه،ولا تنحرف مواقفه وأحكامه على الأمورذلك لأنه ينطلق في ذلك كله من الغاية العظمى التي من أجلها خلق الله سبحانه الجن والإنس ، قال تعالى : (( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ* مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ* إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) (الذريات:56 ـ58) .
وأضرب مثالين اثنين يظهر فيهما أثر العبادة، وأثر ارتباط العبد في القيام بهما بالغاية العظمى والهدف الأسمى.
المثال الأول : الدراسة وطلب العلم : عندما يضع الدارس وطالب العلم بين عينيه عبادة الله عز وجل وتذكره دائماً أنه عبد لله سبحانه لا ينفك عن هذه العبودية لحظة واحدة، فإنه بذلك ينطلق في أخذه للعلم انطلاق العابد لربه المخلص لمولاه عز وجل، ينوي بعلمه أن يتبصر في دينه حتى يعبد الله على بصيرة وحتى يدعو إلى الله على بصيرة؛ولذا فهو يقبل على العلوم النافعة من الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، ويعرض عما سوى ذلك من المناهج الضالة المضلة .
وما إن تختفي هذه الغاية العظيمة أو يغفل عنها طالب العلم في طلبه حتى تختل النيات وتتلوث المقاصد ، كما هو الحاصل اليوم عند أكثر الدارسين في المدارس والمعاهد والجامعات ؛حيث سيطرت الدنيا على أهداف التعليم فصارت الشهادة مقصودة لذاتها ، وأصبح المنصب والمعاش هو المسيطر على ذهن الدارس وذهن أهله ومربيه ، وبذلك قلّت بركة التعليم في هذه الأزمنة إلا من رحم الله عز وجل ، وصرنا نجد من يمضي في دراسته أكثر من عشرين سنة،ولم يجمع فيها من العلم إلا نتفاً متفرقة .(1/328)
ثم إن هذه الحصيلة القليلة من العلم لا تظهر آثارها العملية على صاحبها، فقل العلم والعمل ، وكل ذلك كان بالغفلة عن الغاية العظمى التي خلقنا من أجلها ، وعدم ربط حياتنا كلها بها .
المثال الثاني : الدعوة إلى الله : والدعوة إلى الله عبادة متى ما توفر فيها شرطا العبادة : (الإخلاص والمتابعة ) فإن الله سبحانه يقبلها ويثيب عليها وينفع الناس بها ، وتستقيم أحوالهم ؛ لأن الداعية يتحرك في دعوته مشدوداً إلى غايته العظمى ألا وهي التعبد لله سبحانه بهذه الدعوة ، فلا تراه إلا سليم القلب ، يحب للناس الخير، يجمع ولا يفرق ، ينطلق منطلق الناصح المشفق الخائف على نفسه وعليهم من عذاب الله ، يريد الأجر من الله وحده ، ويريد الثواب والخير لمن يدعوهم.
ولكن عندما يغفل الداعية أنه في دعوته عبد لله عز وجل ، يتعبد له سبحانه بالإخلاص والمتابعة لرسوله لله ، فمن هنا يبدأ الخلل وتظهر صور من الانحرافات والمواقف الخاطئة ، كما هو الحاصل اليوم ؛ من الحزبيات المقيتة ، والتعصب المذموم ، والتحاسد والتباغض والتشاحن الموجود في صفوف بعض الدعاة والمنتسبين إلى الدعوة ، وكما هو حاصل اليوم من تلك الفرقة المشينة ، والتي ليس لها ما يبررها من الشرع أو العقل، ولكن تلوث القلوب والغفلة عن هدف الداعية في دعوته وأنه عبد لله عز وجل يسعى لمرضاته ويريد جنته .
إن نسيان هذه الأمور العظيمة هو من أعظم الأسباب التي أفرزت هذه الأمراض الفتاكة اليوم بين الدعاة وطلبة العلم،أسأل الله عز وجل أن يطهر قلوبنا من النفاق،وأعمالنا من الرياء،وألسنتنا من الكذب،وأعيننا من الخيانة؛ إنه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ )) (الحشر:10)(1/329)
12 ـ النظرة الصحيحة للدنيا والآخرة : عندما يتضح للعبد هدفه في هذه الحياة وأنه ما جاء إلى الدنيا إلا ليعبد الله عز وجل في عمره المحدود ثم ينقلب إلى ربه سبحانه ليجازيه على عمله وأنه لا طاقة ولا حول ولا قوة له في القيام بذلك إلا بعون الله وتوفيقه.
إذا اتضحت له هذه الغاية ، فإن هذا سينعكس على نظريته الصحيحة لحقيقة الدنيا والآخرة، وسيسلم من ذلك الفصام النكد بين الدنيا والآخرة والذي ما نشأ إلا من فساد في التصور لمفهوم العبادة في الإسلام فقدصرنا نرى من يعتزل الحياة ويترك عمارتها وإصلاحها،ويترك الفساد يدب فيها، كل ذلك بحجة الزهد والإقبال على الآخرة ، وتهذيب النفس وتزكيتها.
وفي مقابل هذا الانحراف نشأ انحراف آخر ؛ ألا وهو الانشغال بالدنيا وزخرفها حتى آل ذلك إلى نسيان الآخرة والاستعداد لها . أما العابد لله عز وجل على بصيرة فإن الله سبحانه يسلمه من هذه الانحرافات والشطحات، فينطلق في هذه الدنيا ناظراً إليها على أنها مزرعة الآخرة ، وأنها متاع قليل سريع الزوال ؛ فيسعى فيها للتزود منها للدار الآخرة والتي هي دار القرار ، وفيها السعادة الحقيقية أو الشقاء الحقيقي .
ولذلك فإن من يحمل هذه النظرة الصحيحة ، لا يعتز بالدنيا ، بل يحذر منها ومن زينتها ، وفي نفس الوقت لا يتعزلها ولا يتركها تأسن وتفسد بحجة الزهد والعزلة عن الفساد ، بل يبذل قصارى جهده في إصلاحها ومحاربة الفساد فيها ، ودعوة الناس إلى عبادة الله عز وجل ، وتحذيرهم من الاغترار بالدنيا ، وحثهم على العمل في عمارة الأرض وإصلاحها ، وتسخير ما يفتحه الله عز وجل من أمور الدنيا في عبادة الله سبحانه ، والتزود منها لدار البقاء والدوام .(1/330)
يقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى : ((عباد الله لا يستحبون الدنيا على الآخرة، فذلك من صفات الكافرين، بل يعتبرونها مزرعة للآخرة ، فيبذلون أقصى مجهودهم بجلائل الأعمال، والمسابقة إلى الخيرات ، وإصلاح الدنيا على وفق شرع الله، فسيرهم فيها وسطٌ بلا إفراط ولا تفريط ، لم يجعلوها أكبر همهم ، ولم يتعلقوا بالمادة هذا التعلق المشين ، ولم يسلكوا الزهد الهندي الذي لم يشرعه الله ، فيعيشوا في بؤس وذلة ، ويضيعوا حق الله مما تقدم ذكره ، وما سيأتي له مزيد . فإنه بسبب هذا الزهد المذموم ، وما قذف به على الشرق من خرافات حصل تفريط كبير في نواحي الحياة ، فأطاحت بحرية أهله ؛حيث ماتت فكرة الجهاد وما يستلزمه من إعداد القوة ، فمسخوا دين العزة والفتح والكرامة إلى دروشة وخنوع لكل مستعبد ، وتفريط في جنب الله ضاعت معه جميع المقومات ))(1) اهـ.
ويقول في موطن آخر : ((إن عبودية الله تجعل المرء دائماً يتذكر الآخرة ولا يذهل عنها لحظة ليعد لها عدتها كيلا يقسو قلبه ويرضى بالحياة الدنيا ويطمئن إليها ، فلا يقوم بحقوق الخالق والمخلوق التي تتطلبها العبودية الشرعية.وليس معنى ذلك الانعزال عن خوض معركة الحياة والقنوع بالفقر والذلة مع التقاعس عن جلائل الأعمال ، بل تحفزه قوة شعوره بأهوال الآخرة للقيام بما أوجب الله عليه وربط به مصيره ، فيكون في هذه الدنيا من خيرة العاملين لإعلاء كلمة الله ، والإصلاح في أرضه ، ومنفعة خلقه ، ورفعة شرعه على كل تشريع ))(2) اهـ.
__________
(1) صفوة الآثار والمفاهيم ( 1 / 73 ) .
(2) المصدر السابق ( 1 / 80 ) .(1/331)
13 ـ الأمن والعدل والاستقرار في المجتمعات : يقول الله عز وجل : (( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ)) (الأنعام:82) ،ويقول تعالى : (( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )) (النحل:112 ) .في الآيتين السابقتين أوضح دليل على أن الأمن والاستقرار والطمأنينة في العباد والبلاد ليس لها طريق إلا تحقيق عبودية الله عز وجل ، والبراءة من الشرك ، وتحكيم شرعه المبرأ من كل نقص وعيب وظلم وجهل ، وبدون ذلك ينتفي الأمن والعدل والاستقرار ، ويحل الخوف والجوع والظلم والاستبداد ، وإن هذه المسألة من الوضوح بحيث لا تحتاج إلى مزيد تفصيل، فما فوق كلام الله سبحانه كلام ، ومن أصدق من الله حديثاً .
والتجارب الطويلة في تاريخ الأمم تشهد بذلك ، فما من أمة وحدت ربها ، وحكمت شرعه وتحاكمت إليه، وحفظت عهده ، ولم تتعد حدوده إلا وذاقت رغد العيش ، وعاشت آمنة مطمئنة في دمائها وعقولها وأعراضها وأموالها ، وفوق ذلك دينها وعقيدتها ، والعكس من ذلك فيمن عتا من الأمم عن أمر ربه وتمرد على شرعه وعبادته ، وهذه سنة الله عز وجل : (( وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً )) (فاطر:43) .(1/332)
يقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى : (( عبودية الله تحقق لأهلها الأمن في الحياة الدنيا وفي الآخرة ؛لأن جميع حركاتهم وسكناتهم منوطة بمراقبة رب العالمين والوقوف عند حدوده بإعطاء كل ذي حق حقه دون غش ولا بخس ولا مماطلة ، وذلك باتباع ما رسمه الله ورسوله من العدل والإحسان والصدق والوفاء والاحترام المتبادل ؛ حيث قال تعالى : (( وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )) (البقرة:195) ، وقال : (( وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) (البقرة:190) ، وقال : (( وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ )) (هود: 85) ، وقال : (( كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْط)) (النساء: 135] ))(1) اهـ.
14ـ شهود نعمة الله عز وجل وشكره عليها : إن قيام العبد بتكاليف العبودية لله عز وجل تقتضي اللهج الدائم بشكره سبحانه والثناء عليه ؛فلولاه سبحانه ما ثبت على الإيمان ، ولا قام بأداء العبادة ولما قوي عليها، فمنه سبحانه الإيجاد والإعداد والإمداد والعون .
وإن شهود نعم الله عز وجل التي لا تحصى ، وأعظمها نعمة التعبد له سبحانه ، ثم النعم الأخرى التي سخرها سبحانه للعبد ليقوى بها على العبادة .
إن شهود ذلك كله يقتضي شكره سبحانه في كل حين وآن ، شكراً عمليّاً، يتبرأ من كل حول وقوة إلا بالله ، وهذا يدفعه إلى مزيد من العبوديات والقربات إليه سبحانه ، ومزيد من التضرع والدعاء واللجوء إليه عز وجل في طلب العون والتوفيق والتثبيت.
وهذا هو شأن العابدين لله حقاً وعلى رأسهم نبينا محمدصلى الله عليه وسلم ؛ حيث كان يقوم في الصلاة حتى تتورم قدماه الشريفتان ، فإذا سئل في ذلك قال: (( أفلا أكون عبداً شكوراً ))(2) .
__________
(1) المصدر السابق ( 1 / 88 ) .
(2) البخاري/ك التفسير ـ سورة الفتح(4836)، ومسلم/ك صفات المنافقين (2819 ) .(1/333)
يقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى :((ويجدد الضراعة الصادقة الخالصة له بـ (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) عازماً عزماً أكيداً على تنفيذ مقتضياتها بكل قوة وتصميم ، ذاكراً للنعمة الكبرى التي ذكره الله بها في الأزل، وأنعم عليه بها بعد إيجاده ، وهي نعمة الإسلام التي لا تعدلها كل نعمة، ولا تقوم الدنيا كلها ثمناً لها ، فيزيد حبه لله ، وتعظيمه له ، وذكره إياه ذكراً صحيحاً نافعاً مؤثراً ، ويزداد حبه لرسوله عليه الصلاة والسلام ، الذي جرت هذه النعمة الكبرى على يديه ، وهذا الإنقاذ الحيوي على يده.
هذه النعمة التي رفعته عن مستوى البهائم الخسيسة وأخرجته من الظلمات إلى النور ، وحررته من رق العبودية ، والخضوع لغير الله ، هذه النعمة التي لولا إكرام الله بها لكانت البهائم أحسن منه حالاً ومآلاً ، فيقوم بشكر الله عليها شكراً عملياً يجعله يعض عليها بالنواجذ ، ويكون قوي الشكيمة في حفظها والاستمساك بها ، والدفاع عنها بصولة ليث غاضب وبذل النفس والنفيس دونها،وصدق العزيمة في تأدية أركانها وواجباتها ...ثم يشهد نعمة الله بتقدير خلقه في أحسن صورة ، وإمداده بالسمع والبصر والفؤاد وسائر الجوارح والأحاسيس والقوى ، وإسباغ نعمه العظيمة عليه ، فلا يغفل عن ذكره أو ينشغل بسواه ، بل يشكر كل نعمة لله شكراً عمليّاً باستعمالها في طاعته والسعي في مرضاته ، وعدم الغفلة عنه ، فكلما ذكر نعمة الإيجاد ذكر الله الموجد له والذاكر له بها ذكراً صحيحاً ، ذكر المحب لحبيبه ، المتفضل على حبيبه ، وضرع إليه بـ (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ضراعة المخلص الصادق المصمم على معاملة الله بمقتضاها ، والاتجاه إليه قولاً وعملاً وقصداً ))(1) اهـ.
__________
(1) صفوة المفاهيم والآثار ( بتصرف يسير ) ( 1 / 172 ، 173 ) .(1/334)
15 ـ التخلص من رواسب الجاهلية(1) وعاداتها وتقاليدها: إن من أهم لوازم العبودية لله عز وجل البراءة من أفعال الجاهلية وأخلاق الجاهلين ، بل إن عقيدة الولاء والبراء في الإسلام تفرض على العبد المسلم أن يتخلص من كل رواسب الجاهلية وعاداتها ، وألا يتشبه بأهل الجاهلية في شيء من الأقوال والأفعال مهما كان ضغط الواقع وإغراءاته ، بل يتميز بشخصيته الإسلامية الموحِّدة ، والتي تحصر كل تلقيها فيما جاء عن الله سبحانه أو عن رسولهصلى الله عليه وسلم .
وللشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله تعالى رسالة نفيسة في المسائل التي خالف فيها رسول الله لله أهل الجاهلية ؛ يحسن الرجوع إليها .
ويتحدث الشيخ الدوسري رحمه الله تعالى عن هذا اللازم المهم من لوازم العبودية ، فيقول :
((الضارع إلى الله صدقاً بـ (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) يتجرد من جميع مؤثرات الجاهلية بكافة أنواعها ، سواء المألوفة عنده في بيئته أو المستوردة عليه ، فينخلع عنها ويتبرأ منها عن بغض وعداء ، مكتفياً بتلقي الهداية في جميع شؤونه من كتاب ربه وسنة نبيه لله ، والجاهلية ليست رسماً خاصّاً أو صبغة خاصة مقصورة على قرن أو قرون مضت . إنما الجاهلية كل سلوك مخالف لملة إبراهيم وشريعة سيد المرسلين في أي ناحية من نواحي الحياة .
__________
(1) لفظة الجاهلية مشتقة من الجهل ، ويعني بها الإعراض عن هدي الله سبحانه ، إما جهلاً أو استكباراً ، وهي من الألفاظ المجملة ، فإذا أريد بها الجاهلية المطلقة في الزمان ، فهذه لم =
= تكن إلا قبل عهد النبوة ؛ ما كان عليه أهل الجاهلية من الشرك والفساد ، أما بعد النبوة فلا يوجد جاهلية مطلقة في الزمان ؛ لأنه لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمة على الحق حتى يأتي أمر الله . ولكن توجد جاهليات مقيدة بمكان دون مكان أو شخص دون شخص ، كما يوجد جاهليات مطلقة في بعض بقاع الأرض دون بعض كما هو الحاصل في جاهليات الغرب والشرق الكافرين(1/335)
والجاهلية التي ينتهجها أكثر الناس اليوم أفظع من كل جاهلية سبقتها؛ لأنها باسم العلم والفن تجعل الناس بمعزل كامل عن منهج الله في الحياة ، بل فيها الاعتداء الكامل على سلطان الله في الأرض ، والسيطرة على عبيده بكل ظلم ومهانة ، والجناية على عقولهم بالدجل والتضليل ، وقتل أرواحهم بالأفكار السامة والعقائد المنحرفة التي تضيع دينهم ودنياهم ، وفيها من الإغراء على كفر النعمة وإنكار الخالق أو التنكر لدينه وشريعته والتنديد بها مما هو تهجم على حكمته واستهانة بعزته .وفيها من التحسين للخلاعة والرذيلة والعمل على إذهاب الحياء ما لا تقبله جاهلية أبي لهب وأبي جهل.
فأكبر مهمة للعابد لله تغيير واقعه مما حل به من أنواع الجاهلية بأي وصف ولقب وأي خطة بل من ضروريات الصدق للضارع إلى ربه بـ (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) أن ينخلع من كل عمل أو قول أو اعتقاد جاهلي ، وأن يتخلص من ضغط أهل مجتمعه ، فلا يصطلح معهم أو يتفق أو يلتقي معهم في أي ناحية ، فلا يتعامل في سوقه معاملة جاهلية مبتعدة عن شريعة الله ، ولا يلتقي مع أي مصرف في عمولته على خلاف شرع الله ، ولا يدخل أولاده في أي مدرسة يكون التعليم فيها على خلاف ملة إبراهيم وشريعة سيد المرسلين ، ولا تجره المصلحة العائلية المزعومة إلى الهزيمة بإدخالهم في أي مدرسة كانت فيها خطر على العقيدة بما يخالف التصور الإسلامي الصحيح، ولا يسمح في بيته لدخول أي لون من ألوان الجاهلية من التبرج وإظهار المفاتن أو تضييق الثياب ، أو الحفلات الحديثة النابية عن أخلاق الإسلام ، فضلاً عن الاختلاط والعياذ بالله ، بل تكون مهمته السامية أن يستعلي على هذا المجتمع ويرتفع عن جميع عوائده ونظمه))(1) اهـ.
__________
(1) صفوة الآثار والمفاهيم ( 1 / 105 ، 106 ) .(1/336)
16 ـ التعلق بالله وحده ، والافتقار إليه عبادة واستعانة ، والاستغناء عما سواه : إن هذه الثمرة تعد من أعظم ثمار العبادة والاستعانة إن لم تكن أعظمها، فمن توجه إلى ربه سبحانه وتعلق به وحده وصدق في ذلك ، واعتقد فقره وفاقته إلى مولاه سبحانه عبادة واستعانة ، إنه بذلك يصبح في غاية الاستغناء عن الناس ؛ وبالتالي يسلم من تلك الأضرار البليغة التي تنشأ من التعلق بالمخلوق الفقير ، وتحصل له المنافع العظيمة التي تنشأ من التعلق بالله وحده .
وعلى قدر تكميل العبد للعبادة والاستعانة يحصل له الاستغناء عن الخلق والتعلق بالله وحده ، ويفوز بمنافع ذلك في العاجل والآجل .
وأنقل بهذه المناسبة بعض النقولات النفيسة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يتحدث فيها عن فقر العبد إلى عبادة ربه وإعانته ، والمصالح العظيمة التي تنتج من ذلك كما يتحدث عن مفاسد التعلق بالمخلوق ومضاره ، وعن المصالح العظيمة في التعلق بالله وحده ، يقول رحمه الله تعالى : (واعلم أن فقر العبد إلى الله أن يعبد الله لا يشرك به شيئاً ، ليس له نظير فيقاس به ؛ لكن يشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب، وبينهما فروق كثيرة .
فإن حقيقة العبد قلبه وروحه ، وهي لا صلاح لها إلا بإلهها الله الذي لا إله إلا هو ؛ فلا تطمئن في الدنيا إلا بذكره ، وهي كادحة إليه كدحاً فملاقيته، ولابد لها من لقائه ، ولا صلاح لها إلا بلقائه .(1/337)
ولو حصل للعبد لذات أو سرور بغير الله فلا يدوم ذلك ، بل ينتقل من نوع إلى نوع ، ومن شخص إلى شخص ، ويتنعم بهذا في وقت وفي بعض الأحوال ، وتارة أخرى يكون ذلك الذي يتنعم به والتذّ غير منعم له ولا متلذّ له .. واعلم أن هذا الوجه مبني على أصلين:أحدهما : على أن نفس الإيمان بالله وعبادته ومحبته وإجلاله هو غذاء الإنسان وقوته وصلاحه وقوامه ، كما عليه أهل الإيمان ، وكما دل عليه القرآن ، لا كما يقول من يعتقد من أهل الكلام ونحوهم : إن عبادته تكليف ومشقة ! وخلاف مقصود القلب لمجرد الامتحان والاختبار ، أو لأجل التعويض بالأجرة ، كما يقوله المعتزلة وغيرهم .
فإنه وإن كان في الأعمال الصالحة ما هو على خلاف هوى النفس ـ والله سبحانه يأجر العبد على الأعمال المأمور بها مع المشقة ، كما قال تعالى : (( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ)) (التوبة:120) الآية ، وقالصلى الله عليه وسلم لعائشة : (( أجرك على قدر نصبك ))(1)ـ فليس ذلك هو المقصود الأول بالأمر الشرعي ، وإنما وقع ضمناً وتبعاً لأسباب ليس هذا موضعها ، وهذا يفسر في موضعه .
ولهذا لم يجئ في الكتاب والسنة وكلام السلف إطلاق القول على الإيمان والعمل الصالح أنه تكليف ، كما يطلق ذلك كثير من المتكلمة والمتفقهة .
وإنما جاء ذكر التكليف في موضع النفي ؛ كقوله : (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )) (البقرة:286) ، (( لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَك)) (النساء:84)، (( لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا )) (الطلاق:7).
__________
(1) البخاري بنحوه/ك العمرة (1787)،ومسلم/ك الحج(2/876)( 126تحت 1211) .(1/338)
أي: وإن وقع في الأمر تكليف؛ فلا يكلف إلا قدر الوسع ، لا أنه يسمى جميع الشريعة تكليفاً مع أن غالبها قرة العيون ، وسرور القلوب ، ولذات الأرواح ، وكمال النعيم ، وذلك لإرادة وجه الله والإنابة إليه ، وذكره وتوجه الوجه إليه ، فهو الإله الحق الذي تطمئن إليه القلوب ، ولا يقوم غيره مقامه في ذلك أبداً .
قال الله تعالى : (( فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً )) (مريم:65)، فهذا أصل.
الأصل الثاني: النعيم في الدار الآخرة أيضاً مثل النظر إليه،لا كما يزعم طائفة من أهل الكلام ونحوهم ، أنه لا نعيم ولا لذة إلا بالمخلوق ؛ من المأكول والمشروب والمنكوح ونحو ذلك .
بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق سبحانه وتعالى ؛ كما في الدعاء المأثور: (( اللهم إني أسألك لذة النظر إلى وجهك ، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ، ولا فتنة مضلة ))(1) رواه النسائي ، وغيره وفي صحيح مسلم وغيره ، عن"صهيب" عن النبيصلى الله عليه وسلم ، قال : (( إذا دخل أهل الجنة الجنة نادى منادياً : يا أهل الجنة ، إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، فيقولون: ما هو ؟ ألم يبيض وجوهنا ، ويدخلنا الجنة ، ويجرنا من النار ؟! قال : فيكشف الحجاب ؛ فينظرون إليه ـ سبحانه ـ فما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظرإليه ، وهو الزيادة ))(2) .
__________
(1) النسائي / ك السهو ( 3 / 55 ) ، وأحمد ( 4 / 264 ) ، ( 5 / 191 ) ، وهو في
صحيح سنن النسائي ( 1237 ) ، ( 1238 ) .
(2) مسلم بنحوه / ك الإيمان ( 181 ) .(1/339)
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم مع كمال تنعمهم بما أعطاهم الله في الجنة لم يعطهم شيئاً أحب إليهم من النظر إليه؛وإنما يكون أحب إليهم لأن تنعمهم وتلذذهم به أعظم من التنعم والتلذذ بغيره ،فإن اللذة تتبع الشعور بالمحبوب ، فكلما كان الشيء أحب إلى الإنسان كان حصوله ألذ له، وتنعمه به أعظم))(1).
ثم يتحدث رحمه الله تعالى عن ضرر التعلق بالمخلوق من عدة وجوه ، فيقول :
(( الوجه الثالث : أن المخلوق ليس عنده للعبد نفع ولا ضرر ،ولا عطاء ولا منع ،ولا هدى ولا ضلال،ولا نصر ولا خذلان،ولا خفض ولا رفع،ولا عز ولا ذل،بل ربه هو الذي خلقه ورزقه وبصّره وهداه وأسبغ عليه نعمه ؛ فإذا مسه الله بضر فلا يكشفه عنه غيره ، وإذا أصابه بنعمة لم يرفعها عنه سواه ، وأما العبد فلا ينفعه ولا يضره إلا بإذن الله ...
الوجه الرابع : أن تعلق العبد بما سوى الله مضرة عليه ؛ إذا أخذ منه القدر الزائد على حاجته في عبادة الله فإنه إن نال من الطعام والشراب فوق حاجته ؛ ضره وأهلكه ، وكذلك من النكاح واللباس ، وإن أحب شيئاً حبّاً تاماً بحيث يخالله فلابد أن يسأمه أو يفارقه ، وفي الأثر المأثور : ((أحبب ما شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه ، وكن كما شئت فكما تدين تدان ))(2) .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 1 / 24 ـ 26 ) .
(2) روى نحوه أبو نعيم في الحلية ( 3 / 202 ، 253 ) ، والحاكم في المستدرك ( 4 / 324 ) وغيرهما ، انظر السلسلة الصحيحة ( 831 ) .(1/340)
واعلم أن كل من أحب شيئاً لغير الله فلابد أن يضره محبوبه ، ويكون ذلك سبباً لعذابه؛ولهذا كان الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ، يمثل لأحدهم كنزه يوم القيامة شجاع أقرع يأخذ بلهزمته ، يقول : أنا كنزك ، أنا مالك. فمن أحب شيئاً لغير الله فالضرر حاصل له إن وجد أو فقد ؛ فإن فقد عذب بالفراق وتألم ، وإن وجد فإنه يحصل له من الألم أكثر مما يحصل له من اللذة،وهذا أمر معلوم بالاعتبار والاستقراء
وكل من أحب شيئاً دون الله لغير الله فإن مضرته أكثر من منفعته ؛ فصارت المخلوقات وبالاً عليه إلا ما كان لله وفي الله ، فإنه كمال وجمال للعبد، وهذا معنى ما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( الدنيا ملعونة ملعون ما فيها ، إلا ذكر الله وما والاه ))(1) رواه الترمذي وغيره .
الوجه الخامس : أن اعتماده على المخلوق وتوكله عليه يوجب الضرر من جهته ؛ فإنه يخذل من تلك الجهة وهو أيضاً معلوم بالاعتبار والاستقراء ما علق العبد رجاءه وتوكله بغير الله إلا خاب من تلك الجهة ؛ ولا استنصر بغير الله إلا خذل ، وقد قال الله تعالى : (( وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً )) (مريم: 81 ، 82) .
وهذان الوجهان في المخلوقات نظير العبادة والاستعانة في المخلوق ، فلما قال : (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) كان صلاح العبد في عبادة الله واستعانته ، وكان في عبادة ما سواه ، والاستعانة بما سواه ؛ مضرته وهلاكه وفساده ...(1/341)
الوجه السادس : أن الله سبحانه غني حميد كريم واجد رحيم ، فهو سبحانه محسن إلى عبده مع غناه عنه ؛ يريد به الخير ويكشف عنه الضر ؛ لا لجلب منفعة إليه من العبد، ولا لدفع مضرة ، بل رحمة وإحساناً . والعباد لا يتصور أن يعملوا إلا لحظوظهم ، فأكثر ما عندهم للعبد أن يحبوه ويعظموه ، ويجلبوا له منفعة ويدفعوا عنه مضرة ما .
وإن كان ذلك أيضاً من تيسير الله تعالى ، فإنهم لا يفعلون ذلك إلا لحظوظهم من العبد إذا لم يكن العمل لله ، فإنهم إذا أحبوه طلبوا أن ينالوا غرضهم من محبته سواء أحبوه لجماله الباطن أو الظاهر ، فإذا أحبوا الأنبياء والأولياء طلبوا لقاءهم ، فهم يحبون التمتع برؤيتهم ،وسماع كلامهم ، ونحو ذلك ...
إذا تبين هذا ظهر أن المخلوق لا يقصد منفعتك بالقصد الأول ؛ بل إنما يقصد منفعته بك وإن كان ذلك قد يكون عليك فيه ضرر إذا لم يراع العدل ؛ فإذا دعوته ؛ فقد دعوت من ضره أقرب من نفعه .
والرب سبحانه يريدك لك ، ولمنفعتك بك ، لا لينتفع بك ، وذلك منفعة عليك بلا مضرة، فتدبر هذا . فملاحظة هذا الوجه يمنعك أن ترجو المخلوق أو تطلب منه منفعة لك؛فإنه لا يريد ذلك بالقصد الأول،كما أنه لا يقدر عليه ، ولا يحملنك هذا على جفوة الناس ، وترك الإحسان إليهم واحتمال الأذى منهم ، بل أحسن إليهم لله لا لرجائهم ، وكما لا تخفهم فلا ترجهم ، وخف الله في الناس ولا تخف الناس في الله ، وارج الله في الناس ولا ترج الناس في الله ، وكن ممن قال الله فيه : (( وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى* وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى )) (الليل:17 ـ 20) ، وقال فيه : (( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً)) (الانسان:9)(1/342)
الوجه السابع : أن غالب الخلق يطلبون إدراك حاجاتهم بك ، وإن كان ذلك ضرراً عليك ، فإن صاحب الحاجة أعمى لا يعرف إلا قضاءها
الوجه الثامن : أنه إذا أصابك مضرة كالخوف والجوع والمرض ؛ فإن الخلق لا يقدرون على دفعها إلا بإذن الله ، ولا يقصدون دفعها إلا لغرض لهم في ذلك .
الوجه التاسع : أن الخلق لو اجتهدوا أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بأمر قد كتبه الله لك ،ولو اجتهدوا أن يضروك لم يضروك إلا بأمر قد كتبه الله عليك، فهم لاينفعونك إلا بإذن الله ، ولا يضرونك إلا بإذن الله ، فلا تعلق بهم رجاءك .
إلى أن يقول رحمه الله تعالى :
... جماع هذا أنك إذا كنت غير عالم بمصلحتك ، ولا قادر عليها ، ولا مريد لها كما ينبغي ، فغيرك من الناس أولى أن لا يكون عالماً بمصلحتك؛ ولا قادراً عليها، ولا مريداً لها.والله سبحانه هو الذي يعلم ولا تعلم،ويقدر ولا تقدر ، ويعطيك من فضله العظيم ؛ كما في حديث
الاستخارة : (( اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك؛ وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ))(1) اهـ.
من كل ما سبق يتبين فضل التعلق بالله وحده ، والاستغناء عما سواه ولو كان هناك مباشرة للأسباب ، فإن الله عز وجل هو خالق الأسباب ، وخالق تأثيرها ، فرجع الفضل كله لله وحده ، فله الأمر كله ، وله الخلق كله، وله الحمد كله وإليه يرجع الأمر كله سبحانه وتعالى .
__________
(1) مجموع الفتاوى ( 1 / 27 ـ 33 ) باختصار ، والحديث سبق تخريجه ص391 .(1/343)
وكلما كان تعلق العبد بربه سبحانه أقوى كانت حماية الله لعبده من الشرور في الدين والدنيا أقوى وأكثر ، وما أشد حاجة العبد إلى ربه في جلب ما ينفعه في دينه ودنياه أو دفع ما يضره في دينه ودنياه ، وخاصة في الأزمنة والأمكنة التي تكثر فيها الفتن ، ويحتاج العبد فيها إلى معرفة الحق والصواب والنجاة من مضلات الفتن ، وهذا من ثمرات الضراعة الصادقة بـ (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )).
17 ـ الفوز برضا الله عز وجل وجنته : وهذه هي الثمرة الكبرى والغاية العظمى من عبادة الله سبحانه والتوكل عليه؛حيث التنعم برضوان الله عز وجل والنظر إلى وجهه الكريم في جنات النعيم ، حيث الأمن التام ، وقرة العين التي لا تنقطع ، والنعيم الذي لا يحول ولا يزول ، وكلما كان العبد أتم تحقيقاً لتوحيد ربه وعبادته وتوكله كان له الأمن التام .
قال الله عز وجل : (( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )) (الأنعام:82) .
* * *
الخاتمة
في ختام هذه الرسالة أحمد الله عز وجل الذي بنعمته تتم الصالحات ؛ حيث أعانني على جمع ما تيسر وما تفرق من أقوال أهل العلم حول قوله عز وجل (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) (الفاتحة: 5) .
وأود في هذه الخاتمة أن ألخص أهم المسائل التي مرت في هذه الرسالة ، مستعيناً بالله وحده ، وعليه التكلان وحده ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب . ومن أهم المسائل ما يلي :(1/344)
1 ـ أهمية فهم هذه الآية العظيمة وما تضمنته من الأصلين العظيمين اللذين تدور عليهما رحى هذا الدين ، وهما العبادة والاستعانة ، ذلك أن الدين كله قائم على العبودية لله وحده ،وهي الغاية التي خلق الله سبحانه الخلق من أجلها ، وهو سبحانه المعين عليها والمتفضل على أهل عبوديته بالقيام بها ، وأنه لا قيام لعبد بواجب العبودية إلا بالاستعانة به سبحانه ، فكان الأمر كله لله وبالله .
ولو تدبرنا هذه الآية من فاتحة الكتاب وفهمناها كما جاء في هذا البحث عن أئمة السلف لكان لنا شأن آخر في صلاتنا وتضرعنا وعبادتنا كلها .
2ـ إن الله عز وجل لا يقبل من عبده المؤمن إلا أن يكون له عبداً في كل آن وحال وفي كل زمان ومكان وشان وهذا هو الفهم الصحيح للعبودية وشمولها لكل حياة العبد وشئونه ، قال تعالى : (( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ )) (الأنعام:162 ـ 163) ، وبذلك يرتفع من حياة المسلم ذلك الفهم المنحرف للعبادة ، والذي يحصرها في شعائر التعبد فقط ، أو بين جدران المسجد فقط ، ثم لا دخل لها بعد ذلك في حياة الناس ولا اقتصادهم ولا إعلامهم ولا في حكمهم وتحاكمهم.
3 ـ إن هذين الأصلين العظيمين هما اللذان يجب أن يبدأ المسلم بهما في حياته تعلماً لهما ، وما يتفرع عنهما ، وعملاً وانقياداً لما يقتضيان ، وأن يكونا في أول ما يدعو إليه المسلم ويبلغ الناس به ؛ذلك لأنهما يمثلان حقيقة توحيد الله عز وجل ، والتوحيد هو أول واجب على المكلف أن يعلمه ويعمل به ، وهو أول ما يدعى الناس إليه ويؤمرون بالدخول فيه كافة بكل شموله وكماله.(1/345)
4 ـ إن الانحراف الذي يطرأ على هذين الأصلين العظمين لهو أشد أنواع الانحراف ؛ ذلك لأن الانحراف في التصور لا يقف عند هذا الحد ، بل لابد أن ينتج عنه انحراف السلوك والممارسات . وأخطر ما يفرزه الانحراف في العبادة ، أما إذا كان في الاستعانة أو التوكل ؛ فإما أن يفرز الشرك بالله بالتعلق بالأسباب والاتكال عليها، أو في المقابل من ذلك حيث التواكل وترك الأخذ بالأسباب.
وكلا الانحرافين خطيرفالأول شرك بالله أصغر أو أكبر (حسب ما في القلب من اعتقاد)، والثاني قدح في حكمة الله عز وجل ونقصانٌ في العقل وتناقض في التصرفات .
5 ـ لقد خرجنا من دراسة هذه الآية العظيمة بأن العبد الضعيف المسكين لا يستطيع أن يقوم بعبادة ربه ولا بشيء من أمور دينه ودنياه إلا بأن يعينه ربه ويقويه ، وهذا يدفع العبد الفقير ـ والذي حاجته إلى ربه ضرورية وفقره إليه فقر ذاتي ـ أن يلجأ إلى الله عز وجل ويظهر فاقته وفقره إليه ويسأله العون والتوفيق والثبات في كل أحواله وشئونه ،وأن يتبرأ من كل حول وقوة ، ويسأل ربه ألا يكله إلى نفسه طرفة عين ولا إلى أحد من خلقه الضعاف المحاويج .
فالموفّق من وفقه الله ، والمخذول من خذله الله عز وجل ، نعوذ به سبحانه من الخذلان ، ونسأله تعالى التوفيق والثبات ، ولا وحول ولا قوة إلا بالله ، ويتأكد هذا أيام الفتن والشدائد ومزلات القلوب والأقدام كما هو الحال في زماننا هذا .فيتعين اللجوء إليه سبحانه وكثرة دعائه والتضرع إليه بمثل هذه الآية العظيمة. وبمثل قوله تعالى على لسان إبراهيم صلى الله عليه وسلم : (( رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)) (الممتحنة: 4)
وقوله تعالى على لسان هود عليه السلام : (( إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )) (هود:5)(1/346)
وقوله تعالى على لسان نوح عليه السلام: ((وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ )) (هود:47).
وقوله تعالى على لسان شعيب صلى الله عليه وسلم : (( وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )) (هود:88).
وقوله تعالى على لسان موسى صلى الله عليه وسلم : (( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ* فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)) (يونس:84 ـ 86)
وقوله تعالى لنبيه محمدصلى الله عليه وسلم : (( وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً )) (الاسراء:74) .
وقوله تعالى على لسان أوليائه المجاهدين : (( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )) (البقرة:250).
وقوله سبحانه : (( رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ )) (آل عمران: 147).(1/347)
ومن الأحاديث وصيته لله لمعاذ بن جبل رضي الله عنه أن يقول دبر كل صلاة : (( اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك))(1) ، وقولهصلى الله عليه وسلم في دعائه: (( يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث ، اللهم أصلح لي شأني ، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً ))(2) .6 ـ إن العبد المؤمن حين يفهم العبادة والاستعانة بذلك الفهم الشامل الصحيح الذي بينه علماء السلف رحمهم الله تعالى ، فإنه ولا شك سيتفقد نفسه وما فيها من الخلل في فهم هذين الأصلين أو في تطبيقهما ، ويسعى عند ذلك لسد هذا الخلل ، ولن يتحقق هذا الفهم إلا بالعلم الشرعي المستمد من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه لله وما فهمه السلف الصالح منها ، ولا يتم التعرف على سبيل المؤمنين حتى تُعرف سبيل المجرمين المنحرفين عن المعنى الصحيح للعبادة والتوكل . وبضدها تتبين الأشياء .
7 ـ إن ما أصاب المسلمين في تاريخهم الطويل ، وما يصيبنا اليوم من المصائب الكثيرة ، إن كل ذلك راجع إلى الضعف الحاصل في عبادة الله عز وجل أو في التوكل عليه والاستعانة به سبحانه ، ولما كانت العبادة لا تصح إلا بالإخلاص والمتابعة ، فإن أمر الخذلان وكثرة المصائب يعود إلى التفريط في الأخذ بهذين الأصلين العظيمين المتمثلين فيما يلي :
1 ـ إخلاص العبودية لله عز وجل.
2 ـ إفراد المتابعة للرسول لله .
3 ـ الاستعانة بالله سبحانه والتوكل عليه .
__________
(1) سبق تخريجه ص305 .
(2) النسائي في عمل اليوم والليلة ( 570 ) .(1/348)
ولو استقرأنا جميع ما أصاب المسلمين في القديم والحديث أفراداً وجماعات ؛لرأينا أن سبب ذلك هو التفريط في هذه الأمور الثلاثة أو في أحدها ، وما يتحلى فرد أو مجتمع بهذه الصفات إلا وينصره الله ويبطل كيد أعدائه.8 ـ وأختم هذه الخاتمة بالحديث القدسي الذي يرويه النبيصلى الله عليه وسلم عن ربه فيقول : ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : نصفها لي ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل )) « قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : ((اقرؤوا يقول العبد: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) يقول الله: حمدني عبدي ، يقول العبد: (( الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ )) يقول الله: أثنى علي عبدي ، يقول العبد: (( مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)) يقول الله تعالى : مجدني عبدي ، يقول العبد (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) ، يقول الله تعالى : هذه الآية بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، يقول العبد : (( اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ )) يقول الله: فهؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل ))(1) .
ففي هذا الحديث القدسي الكريم فضيلة عظيمة لسورة الفاتحة ، وبشارة عظيمة للعبد المؤمن من ربه عز وجل بإجابة دعائه في آخر السورة عندما يطلب العون والهداية إلى الصراط المستقيم ، وهذا غاية ما يريده العبد المؤمن، والضراعة إلى الله سبحانه بـ (( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ )) من أنفع الأدعية وأجمعها . كما يعلمنا هذا الحديث فضيلة الثناء على الله عز وجل قبل الشروع في طلب الحاجة منه سبحانه .
وبعد :
__________
(1) صحيح مسلم عن أبي هريرة ? ، باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ( 395 ) ( 1 / 296 ) .(1/349)
فهذا ما يسر الله عز وجل كتابته حول هذا الموضوع العظيم الشأن الذي لا غنى للعبد عنه، فما كان فيه من صواب فمن الله عز وجل؛ فهو المان به فله الحمد ، وما كان من خطأ وزلل فمني ومن الشيطان، وأستغفر الله منه وأتوب إليه ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه .
* * *(1/350)