كيف نكون من
الشاكرين
تأليف الشيخ : عبد الله بن صالح الفوزان
جميع الحقوق لموقع الشيخ : عبدالله بن صالح الفوزان
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، الذي منّ علينا وهدانا، وأشبعنا وأروانا، ومن كل إحسان آتانا.
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ويقول : ( أفلا أحب أن أكون عبداً شكوراً ) . فصلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا فصابروا وصبروا ،وعرفوا قدر النعمة فشكروا.
أما بعد:
فإن الحديث عن نعم الله وعن كثرتها وتنوعها ، وعن عجزنا عن حصرها وتقصيرنا في شكرها من الأهمية بمكان. ذلك أن نعم الله تعالى علينا في زماننا هذا وفي بلادنا هذه - حرسها الله - كثيرة وفيرة متنوعة، خيرات تترى ، وآلاء لا تحصى، فضلاً عن النعم العامة لكل أحد . والناس ما بين جاهل بالنعمة أو مقصر بالشكر. وقليل منهم الذاكر الشاكر.
إن من الناس من لا يدرك حقيقة الشكر ، ولا يدري أركانه التي لا يتم إلا بها ومن الناس من يعرف هذا وذاك ولكنه مقصر ... وإن الله تعالى قد أسدى لكل عبد من العباد من أنواع النعم ما تقصر العقول عن الوقوف على كنهها ، فضلاً عن القيام بشكرها . فالواجب عليه أن ينظر إلى هذه النعم ، ويشكرها ،ويعرف قدره ولا يستحقرها . فإن النعم لا تُعرف أقدراها إلا بعد فقدها.
وعلى كل مسلم أن يحاسب نفسه حساباً صحيحاً على الدوام في معاملته مع الله تعالى ، ليعرف هل هو من الشاكرين . فيزداد من الشكر يزيده الله من فضله. أوهو مسيء غير شاكر فيتحول عن طريقته ويرجع عن غيه ، حتى لا يمسّه الله بسوط عذاب.(1/1)
وإن الموفَّق من عباد الله هو الذي كلما جدَّد له ربه نعمة ، أحدث لها عبودية ومحبة وخضوعاً وذُلاً ، وكلما أحدث له قبضاً ، أحدث له رضىً ، وكلما أحدث ذنباً ، أحدث له توبةً وانكساراً واعتذاراً (1).
ومن فضل الله تعالى ورحمته بعباده أن أوجب عليهم هذه العبادات، من صلاة وصيام وزكاة وحج وجهاد وبر بالوالدين ... إلخ ، أوجبها عليهم بإزاء هذه النعم، ورضي بها شكراً لسوابغ نعمه بفضله وكرمه. وإن كان لا يمكن لأحد استيفاء هذا الفضل العظيم . لكن من أدى هذه العبادات على الوجه المطلوب فهو من الشاكرين لله تعالى . لأن القيام بهذه العبادات وغيرها مما هو داخل تحت معنى العبادة دليل على صلاح العبد وشكره للمعبود.
والداعي لكتابة هذه الرسالة ما رأيت ورآه غيري من نعم الله العظيمة . وتقصيرنا في شكرها . ولا سيما الشكر العملي الذي أخل به كثيرون ، وإننا لنخاف من عقوبة الله تعالى وأخذه لنا على غرة ، فإن سنة الله ماضية ،ولن تجد لسنة الله تبديلاً ، فلا نأمن أن يكون واقعنا سبباً في زوال نعم الله تعالى علينا ، من نعمة الإيمان ، ونعمة المال ، والأرزاق بزوال بعضها أو كلها ، وزوال نعم الأمن، ونعمة العافية في الأبدان وحلول الأمراض ، أو تكون العقوبة بتسليط الأعداء علينا ، أو قيام حروب تأكل الأخضر واليابس، وتكون سبب فتنة ، نسأل الله السلامة، فرحم الله امرأً تأمل في نعم الله تعالى . واستعظم ما أعطاه الله . فقام بوظيفة الشكر . ولم يألُ في ذلك جهداً، لعل الله أن يعفو عنا ويَحْلُمَ علينا.
وقد جعلت هذا الموضوع في عدة فصول :
الفصل الأول : في معنى الشكر والحمد والفرق بينهما .
الفصل الثاني : في حقيقة النعمة وشيءٍ من مباحثها.
الفصل الثالث: في أهمية الشكر ومنزلته ،وفيه تكلمت على أوجه ورود الشكر في القرآن.
الفصل الرابع : كيف نكون من الشاكرين ، وفيه الكلام على شكر القلب واللسان والجوارح.(1/2)
الفصل الخامس: في ذكر شيء من نعم الله تعالى .
الفصل السادس: في التقصير في الشكر وأسبابه.
الفصل السابع : في علاج التقصير في الشكر.
الفصل الثامن: ثمار الشكر الدنيوية والأخروية.
الفصل التاسع: في عاقبة كفر النعمة.
الفصل العاشر : في شكر الإنسان للإنسان.
هذا وقد اختصرت حواشي الكتاب ، فلم أكثر من ذكر المراجع ، واقتصرت في تخريج الأحاديث على الصحيحين إن كان الحديث فيهما أو في أحدهما ، فإن لم يكن فالسنن ومسند أحمد، وقد أكتفي بالسنن ، فإن لم يكن فيهما ذكرت مصدره .
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لمعرفة نعمه، واستحضارها والقيام بشكره والاستعانة بها على طاعته، كما أسأله جلَّ وعلا أن يزيدنا من فضله في الدنيا والآخرة ، وأن يصلح أحوال المسلمين. وصلى الله على نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه.
وكتبه
عبد الله بن صالح الفوزان
القصيم - بريدة ص ب ( 12370 )
الفصل الأول : في معنى الشكر والحمد، والفرق بينهما
الشكر لغة : الثناء على المحسن بما أولاك من المعروف، يقال: شكره وشكر له ، وهو باللام أفصح، و" تكشّر له " مثل: " شكر له " . وأصل الشكر: الظهور، من قول العرب : دابة شكور إذا أظهرت من السَّمن فوق ما تُعطى من العلف ، وناقة شكور: إذا كانت ممتلئة الضّرع لبناً ، والنبتة شكور : إذا كانت تكتفي بيسير من الماء فتصلح وتنمو(1). وفي حديث يأجوج ومأجوج : (وإن دواب الأرض لتَسْمَنُ وتَشْكَرُ شَكَراً من لحومهم ودمائهم ) (2) ومعنى ( تَشْكَرُ ): تمتلئ.
قال ابن منظور: (الشكر : مقابلة النعمة بالقول والفعل والنية ، فيثني على المنعم بلسانه ويذيب نفسه في طاعته ،ويعتقد أنه موليها ، وهو من شَكِرَتِ الإبل تشكر : إذا أصابت مرعى فسمِنَتْ عليه ، والشكور من الدواب: ما يكفيه العلف القليل. وقيل الذي يسمن على قلة العلف ، كأنه يشكر وإن كان ذلك الإحسان قليلاً)(3) .(1/3)
والشكور من أبنية المبالغة . وهو من أسماء الله تعالى - كما سيأتي إن شاء الله - والشكور من عباد الله : هو الذي يجتهد في شكر ربه بطاعته . وأدائه ما وظّف عليه من عبادته .
وأما حقيقة الشكر شرعاً : فهو ما قام على ثلاثة أركان : شكر بالجنان ، وشكر باللسان ، وشكر بالأركان ، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله .
فصار لفظ الشكر يدور حول معنى الزيادة والظهور. وكذا حقيقة الشكر فإنه ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء ً، وعلى قلبه اعترافاً، وعلى جوارحه انقياداً . وقد ذكر العلامة ابن القيم - رحمه الله تعالى - أن الشكر مبني على خمس قواعد لا يكون الشكر تاماً إلا بها :
القاعدة الأولى : خضوع بالشاكر للمشكور.
القاعدة الثانية :حبه له.
القاعدة الثالثة : اعترافه بنعمته .
القاعدة الرابعة : ثناؤه عليه بها .
القاعدة الخامسة : أن لا يستعملها فيما يكره .
فهذه الخمس هي أساس الشكر ، وبناؤه عليها . فمتى عُدِمَ منها واحدة اختل من قواعد الشكر قاعدة . فمن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها ، ومن عرفها ولم يعرف المنعم بها لم يشكرها أيضاً ، ومن عرف النعمة والمنعم لكن جحدها كما يجحد المنكر لنعمة المنعم عليه بها فقد كفرها ، ومن عرف النعمة والمنعم بها وأقرَّ بها ولم يجحدها ولكن لم يخضع له ولم يحبَّه ويرضى به ويرضى عنه لم يشكر أيضاً . ومن عرفها وعرف المنعم بها وأقرَّ بها وخضع للمنعم بها وأحبه ورضي به وعنه واستعملها في محابه وطاعته فهذا هو الشاكر لها . فلا بد في الشكر من علم القلب وعمل يتبع العلم ، وهو الميل إلى المنعم ومحبته والخضوع له .
هذا معنى الشكر ، وبه يتضح أن الشكر يُؤدى بالقلب واللسان والجوارح .
وأما معنى الحمد ، فهو ذكر أوصاف المحمود الكاملة وأفعاله الحميدة ، مع المحبة والتعظيم .(1/4)
وعلى هذا فالحمد بمعنى الثناء عليه بما فيه من خصال الحمد ، كما يكون على نعمه ، ومن أهل العلم من يرى أن الحمد والشكر بمعنى واحد ، قال الطبري - رحمه الله - في تفسيره : ( " ومعنى الحمد لله " الشكر خالصاً لله جلَّ ثناؤه دون سائر ما يعبد من دونه ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ، ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعاته وتمكين جوارح أجسام المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بَسَطَ لهم في دنياهم من الرزق وغذاهم به من نعيم العيش ، من غير استحقاق منهم ذلك عليه. ومع ما نبههم عليه ودعاهم إليه من الأسباب المؤدية إلى دوام الخلود في دار المقام في النعيم المقيم . فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً ) .
والجمهور من أهل العلم يرون أن بين الحمد الشكر فرقاً . فالحمد يكون على النعمة ، وعلى الصفات والأفعال . يقال :حَمِدتُ فلاناً على ما أسدى إليَّ من النعمة . وحمدته على علمه وشجاعته وكرمه .
أما الشكر فلا يكون إلا على النعمة . فيكون الحمد أعم من الشكر . إذ لا يقال شكرته على علمه ، وهذا بالنسبة إلى سبب كل واحد منهما .
أما بالنسبة إلى ما يكون به الشكر والحمد، فإن الشكر أعم؛ لأنه يكون بالقلب واللسان والجوارح ،قال الشاعر :
أفادتكم النعماءُ مني ثلاثة ………يدي ولساني والضمير المحجَّبا (1)
وأما الحمد فإنه بالقلب واللسان دون الجوارح، فما يُحمد الرب تعالى عليه أعم مما يشكر عليه. فإنه يحمد على أسمائه وصفاته وأفعاله ونعمه ، وما يحمد به أخص مما يشكر به، فإنه يشكر بالقلب واللسان والجوارح . ويحمد بالقلب واللسان(2) .
الفصل الثاني :في حقيقة النعمة وشيء من مباحثها
النّعمة : بالكسر : المنة والصنيعة واليد البيضاء الصالحة ، وما أُنعم به عليك من رزق ومال وغيره ، والنعمة : المسرّة(1) .(1/5)
وجاء ذكر النعمة في القرآن الكريم لمعان عدة، منها(2) : النعمة : دين الله وكتابه ، قال تعالى : ( سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم مِّنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللّهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ( [ البقرة : 211] ومنها سعة العيش .قال تعالى ( فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ( [ الفجر : 15]
أي : وسع عليه معيشته . وقال تعالى (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ( [ لقمان : 20 ] .
وكل مطلوب يسمى نعمة . وللإنسان سعادات أبيحت له وهي النعم المذكورة في قوله تعالى : ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا( [ إبراهيم : 34] .
وجميع النعم والسعادات ضربان : ضرب دائم لا يبيد ولا يحول ، وهو النعم الأخروية ، وضرب يبيد ويحول ، وهو النعم الدنيوية .
والنعم الدنيوية إنما تكون سعادة ونعمة إذا تناولها الإنسان على ما يجب وكما يجب ، وتحرّى بها والوجه الذي لأجله خلقت، فمن الناس من تناولها على الوجه الذي جعله الله تعالى لهم . فانتفعوا بالنعمة عاجلاً ، وصارت لهم زاداً إلى نعيم الآخرة . فاكتسبوا المال - مثلاً- من طرق مشروعة ، وأنفقوه في طرق مشروعة ومن الناس من تناول نعم الله على وجه مخالف . فصارت لهم نقمة وشقاوة في الدنيا ، وعذاباً في الدار الآخرة(3).
وهذه مباحث في موضوع النعمة رأيت أن أذكرها في هذا الفصل كما يلي :
المبحث الأول :(1/6)
أسندت النعة في القرآن الكريم إلى الله تعالى إلا في موضع واحد ، وهذا الإسناد إسناد حقيقي ، فإن الله تعالى هو المنعم المتفضل وحده لا شريك له ولا خروج للعبد عن نعمة ربه وفضله وإحسانه طرفة عين لا في الدنيا ولا في الآخرية، لا في الصغر ولا في الكبر، قال تعالى : ( وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ( [ النحل : 53]
وقد أسندت النعمة في موضع واحد من كتاب الله تعالى إلى رسول الله ( في قوله تعالى : ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ( [ الأحزاب :37]
فذكرت الآية نعمتين على زيد بن حارثة - رضي الله عنه - : نعمة الإسلام ، ومتابعة الرسول ( في قوله سبحانه : ( أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ( ، ونعمة العتق في قوله: (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ ( (4).
وإسناد النعمة إلى رسول الله ( ليس إسناداً حقيقياً ؛ فإن الله تعالى هو المتفرد بالإنعام . فالمنعم بالعتق من الرق هو الله تعالى ، وإنما أضيف إلى غيره لكونه طريقاً وسبباً ؛ والسبب لا يستقل بالإيجاد ؛ بل جَعْلُهُ سبباً هو من نعم الله تعالى على زيد رضي الله عنه (1).
المبحث الثاني : النعمة نوعان(1/7)
1- نعمة مطلقة : وهي المتصلة بسعادة الأبد ،وهي نعمة الإسلام و السنة و هي التي أمرنا الله تعالى أن نسأله في صلواتنا أن يهدينا صراط أهلها ، قال تعالى (اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ( ، ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ( [ الفاتحة: 6-7 ] . قال تعالى : ( َمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا( النساء : 69] . وهذه النعمة مختصة بالمؤمنين . وليس لله على الكافر نعمة بهذا الاعتبار . فإن الله تعالى خص أهل الصراط المستقيم بها ، قال تعالى : ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ ( [ الفاتحة : 7 ] .
2- نعمة مقيدة أو مطلق النعمة : وهي المشتركة بين المؤمن والكافر والبر والفاجر ، كنعمة الصحة والغني وعافية الجسد وبسط الجاه وكثرة الوالد والزوجة الحسنة وأمثال ذلك ، ويصح أن يقال: إن لله على الكفار نعمة بهذا الاعتبار ، قال تعالى : (كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا( [ الإسراء : 20 ] وقال تعالى : ( وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ( [ البقرة : 126 ]ذلك أن النعمة من جنس الإحسان بل هي الإحسان ، وإحسان الرب تعالى على البر والفاجر والمؤمن والكافر فكل الخلق في نعمه . وأما الإحسان المطلق فاللذين اتقوا والذين هم محسنون(1) .
المبحث الثالث :(1/8)
أن النعمة قد تكون ابتلاءً من لله تعالى للعباد ، وفتنة ليتميز الشاكر من غيره. مما يجعل المؤمن على حذر تام من أن يكون من المقصرين بلهوه وغفلته . فقد يكون الابتلاء بالصحة والثراء والراحة . ولكن مَن الذي يستطيع أن يؤدي حق هذه النعم ؟ إنهم قليل ، قال تعالى:( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ( [ الأنبياء : 35] وقال تعالى : (فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ( (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ( ( كَلَّا ( [ الفجر : 15-17].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( يقول الله سبحانه ليس الأمر كذلك.ليس إذا ما ابتلاه فأكرمه ونعمه يكون ذلك إكراماً مطلقاً . وليس إذا ما قَدَرَ عليه رزقه يكون ذلك إهانة ، بل هو ابتلاء في الموضوعين . هو الاختبار والامتحان. فإن شَكَرَ الله على الرخاء وصَبَرَ على الشدة كان كل واحد من الحالين خيراً له، كما قال النبي ( (لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له ،وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراءُ فشكر كان خيراً له ، وإن أصابته ضراءُ فصبر كان خيراً له)(2). وإن لم يشكر ولم يصبر كان كل واحد من الحالين شراً له)(3)
ولهذا فإن المصائب التي تصيب الإنسان نعمة ، لأنها مكفرات للذنوب ، وتدعو إلى الصبر فيثاب عليها، ما لم يدخل صاحبها بسببها في معاصٍ أعظم مما كان قبلها فيكون شراً عليه من جهة ما أصابه في دينه ، فمن الناس من إذا ابتلي بفقر أو مرض ونحوهما حصل له من النفاق والجزع وترْكِ بعض الواجبات وفعل المحرمات ما يوجب له الضرر في دينه . أما من صبرَ فإن جزاءه ما قال الله عنه : ( أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ( [ البقرة : 157](1).
المبحث الرابع :(1/9)
إن هذه النعم التي تفضل الله بها على عباده المؤمنين جزاء لهم على أعمالهم الصالحة ليست جزاء توفية ، بل إنها بعض نعمته العاجلة عليهم. فإذا أطاعوه زادهم إلى هذه النعم نعماً أخرى . ثم في الآخرة يوفيهم أجور أعمالهم تامة غير منقوصة ويزيدهم من فضله. قال تعالى : ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ( [ النحل : 30] وقال تعالى : (وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ( [ النحل : 41] وقال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( النحل [ النحل :97] . وقال تعالى : (وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ( [ النحل :122].
فهذه أربع آيات في سورة واحدة وهي سورة النحل . يتكرر فيها هذا المعنى ، وهو جزاء العبد الصالح في الدنيا ، وثوابه في الآخرة . وهذا التكرار في هذه السورة له - والله أعلم - سر بديع فإنها سورة النعم التي عدد الله فيها أصول النعم وفروعها . فعرّف عباده أن لهم عنده في الآخرة أضعافَ هذه بما لا يدرك تفاوته وأن هذه بعض نعمه العاجلة عليهم ، وعند الله للأتقى مزيد(2).(1/10)
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله (: ( إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة ، فيُعطى بها في الدنيا ، ويُجزى بها في الآخرة . وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها لله في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها ) وفي رواية : ( إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طعمة من الدنيا ، وأما المؤمن فإن الله يَدّخرُ له حسناته في الآخرة ويُعْقِبُهُ رزقاً في الدنيا على طاعته )(3).
المبحث الخامس :
ما يصيب الإنسان إن كان يسره فهو نعمة بيِّنة ، وإن كان يسوؤه فهو نعمة من جهة أنه يكفر خطاياه ويثاب بالصبر عليه - كما تقدم - ومن جهة أن فيه حكمة ورحمة لا يعلمها ، قال تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ( [ البقرة : 216].
وينبغي أن يُعلم أن كلاًّ من نعمتي السراء والضراء تحتاج مع الشكر إلى صبر . لكن لما كان في السراء اللذة . وفي الضراء الألم . اشتهر ذِكْرُ الشكر في السراء ، والصبر في الضراء كما تقدم في الحديث .
أما نعم الضراء فاحتياجها إلى الصبر ظاهر . وأما نعمة السراء فإن الرخاء ابتلاء من الله للعباد وفتنة - كما أسلفنا - والصبر عل الرخاء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق على النفوس من الصبر على الضراء والقيام بواجب الشكر عليه والإحسان فيه أشق على النفوس من الصبر على الضراء ، فكثيرون هم الذين يصبرون على الضراء وعلى الشدائد ويتماسكون لها بحكم ما تثيره في النفس من تجمُّع ويَقَظَةٍ ومقاومة ، ومن ذكر الله تعالى والتجاء له واستعانة به حين تسقط جميع الأسناد في الشدة، فلا يبقى إلا إعانة الله وتوفيقه . فأما الرخاء فَيُنْسِي ويلهي.(1/11)
فإن نعمة المال والرزق كثيراً ما تقود إلى فتنة البَطَرِ وقلة الشكر مع السرف أو البخل . وهكذا جميع نعم الله لا تكاد تخلومن الفتنة إلا من ذكر الله فعصمه الله (1).
المبحث السادس :
أن الله تعالى يذكِّر عباده بنعمه عليهم ويدعوهم إلى تذكرها ، ومعرفته ومحبته وتصديق رسله والإيمان بلقائه . وقال تعالى : (وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم( [ البقرة : 231] . وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ( [ فاطر : 3] وقال تعالى ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَة(ً [ لقمان :2].
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - عند قوله تعالى: (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً( [ لقمان : 20] ( أي : عمَّكم وغمركم بوافر [ نعمه ظاهرة وباطنة ] التي نعلم بها ، والتي تخفي علينا ، نِعمِ الدنيا ونِعمِ الدين ، حصول المنافع ، ودفع المضار ، فوظيفتكم أن تقوموا بشكر هذه النعم ، بمحبة المنعم والخضوع له ، وصرفها في الاستعانة على طاعته ، وأن لا يستعان بشيء منها على معصيته ) (2).
إن نعم الله تعالى على العباد واضحة بينة ، لا تتطلب إلا مجرد الذكر . لأنهم يرونها ويحسونها ولكنهم ينسون فلا يذكرون.
وذِكرُ نعم الله تعالى شامل لذكرها بالقلب اعترافاً ، وباللسان ثناءً ، وبالجوارح انقياداً ، لأن ذكر نعمه تعالى داع لشكره والقيام بطاعته(3) .
يقول بكر بن عبد الله المزني - رحمه الله -0 : ( كن عَدّاداً لنعم الله ، فإنك إن أحصيتها كنت قَمِناً أن تشكرها ، وإذا نسيتها كنت قَمِناً أن تكفرها )(4).(1/12)
الفصل الثالث : في أهمية الشكر ومنزلته
للشكر أهمية كبرى ومنزلة عظمى، فهو قيد للنعم الحاضرة ، ومجلبة للنعم المفقودة . وهو والإيمان صنوان . كما أن الكفر وعدم الشكر صنوان . قال تعالى: (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ( [ لقمان : 12] .
ومما يدل على قيمة الشكر أن إبليس جعل غايته أن يسعى في قطع الناس عنه. قال تعالى : (ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ( [ الأعراف : 17] .
وقد ورد الشكر في كتاب الله تعالى على وجهين :
الأول : من الرب لعبده .
الثاني : من العبد لربه .
أما الأول : فقد ورد في بعض الآيات أن الله تعالى سمى نفسه شاكراً وشكوراً ، فقال تعالى : ( إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ( [فاطر : 34] وقال تعالى : (وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ ( [ البقرة : 158] . وقال تعالى: (وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ ( [ التغابن : 17] .والشكور : من صيغ المبالغة ، كما تقدم.
وشكر الرب لعبده أن يثيبه الثواب الجميل على عمله القليل على قدر إخلاصه ، ذلك أن الله تبارك وتعالى لما كان يجازي عباده على أفعالهم ويثيبهم على أقل القليل منها ولا يضيع لديه تبارك وتعالى عَمَلُ عامل كان شاكراً ذلك لهم أي : مقابلاً له بالجزاء والثواب . قال تعالى: (إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاء وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُورًا ( [ الإنسان : 22] ،وهذا من فضله على عباده المؤمنين أن وفقهم لطاعته ومرضاته ، ثم شكرهم على ذلك بحسن ثوابه وجزيل عطائه منة منه وتفضلاً.(1/13)
وأما الثاني : وهو شكر العبد لربه فهذا قد ورد في القرآن على أوجه كثيرة ، تدل بمجموعها على أهمية الشكر وعظيم منزلته ومنزلة أهله عند الله تعالى : ومن ذلك :
الوجه الأول: أمْره تعالى عباده بالشكر . قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( [ البقرة 172] وقال تعالى: ( وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ ( [ لقمان :12] وقال تعالى : ( بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ ( [ الزمر : 66] وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ ( [ المؤمنون: 78 ] وقال تعالى: (لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ( [ الواقعة : 70]. ولا يأمر الله عباده إلا بما يحقق لهم الخير والسعادة في الدارين . فالسعيد من امتثل أمر ربه فأطاعه فكان من الشاكرين .
الوجه الثاني : التوبيخ على عدم الشكر لله تعالى المنعم المتفضل بهذه النعم العظيمة . قال تعالى: (لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ( [ يس:35] وقال تعالى: (وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ( [ يس :73].
الوجه الثالث : الثناء على الشاكرين . وأن الشكر سبيل رسل الله وأنبياءه وفي هذا حث لهذه الأمة أن تقتدي بهم . قال تعالى: ( إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ( ( شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ( [ النحل:120-121] . وقال تعالى: ( ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا( [ الإسراء :3] وقال تعالى: ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( [ سبأ : 19].(1/14)
الوجه الرابع : أن الشكر نفع للشاكر نفسه وذخيرة له في الدارين . قال تعالى : ( وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ( [ لقمان : 12] وقال تعالى: ( وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ( [ آل عمران : 144] وقال تعالى : ( كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَر ( [ القمر :35].
الوجه الخامس : أن الشكر إذا صدر من المؤمنين فهو مانع من نزويل العذاب . قال تعالى : {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ( [ النساء :147] فالشكر حافظ للنعمة دافع للنقمة.
الوجه السادس: أن الشكر سبب لزيادة النعم وبقائها . والكفر بالنعمة سبب العذاب والزوال . قال تعالى : ( فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ( [ النحل :114] وقال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ( [ البقرة : 172] فأمر تعالى بالشكر عقيب الأمربالأكل من الطيبات . لأن الشكر يحفظ الموجود ويجلب المفقود ، وقال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ( [ إبراهيم : 7](1/15)
الوجه السابع : أن الصفوة المختارة من عباد الله الصالحين يسألون الله تعالى أن يوزعهم شكر نعمه ، لأنهم يعرفون قيمة الشكر وأثره في الدارين . قال تعالى عن سليمان - عليه الصلاة والسلام - : (وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ( [ النمل 19] وقال تعالى عن العبد الصالح : ( حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( [ الأحقاف : 15].
الوجه الثامن : أن الشكر محبوب لله تعالى ، رضيهُ لعباده لرحمته بهم ومحبته للإحسان عليهم ولفعلهم ما خلقوا لأجله . قال تعالى: ( إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ( [ الزمر:7 ] .
الوجه التاسع : أن الشاكرين قليلون. وهذا كثير في القرآن . مما يدل على أنهم هم خواص الله تعالى وخلاصة خلقه وهم الناجون من عذاب الله . وأكثر الخلق هالكون ، قال تعالى: ( وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ( [ البقرة :243] وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ( [ المؤمنون : 78] وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ( [ غافر : 61] وقال تعالى : ( وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ( [ سبأ : 13] وقال تعالى ( وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّه ِ( [ الأنعام : 116].(1/16)
الوجه العاشر : أن الله تعالى جعل الشكر غاية خلقه وأمره ، بل هو الغاية التي خلق عبيده لأجلها . قال تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( [ النحل : 78] وقال تعالى : ( فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ( [ العنكبوت :17].
الوجه الحادي عشر : أن الصابرين الشاكرين هم المنتفعين بآيات الله ، ينظرون بعين البصيرة إلى من قصّ الله أخبارهم في القرآن . كقصة سبأ في سورة سبأ ، وقصة أصحاب الجنة في سورة القلم ، فيعرفون أن تلك العقوبة جزاءُ كفرهم نعمة الله تعالى . وأن من فَعَلَ مثل فعلهم فُعِلَ به مثلهم ، سنة الله . وأن شكر نعمة الله تعالى يزيد النعم الموجودة ، ويجلب النعم المفقودة ويمنع من نزول العذاب ولهذا لما ذكر الله تعالى قصة سبأ ( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( [سبأ :19] وقال تعالى : ( لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( أي : صبارٍ في الضراء ، وشكور في الرخاء.
الوجه الثاني عشر : أن الله تعالى سمى نفسه ( شاكراً ) و ( شكوراً ) كما تقدم. وسمى الشاكرين بهذين الاسمين - كما مضى- فأعطاهم من وصفه. وسماهم باسمه . وحسبك بهذا محبةً للشاكرين وفضلاً(1).
ولما كان سبحانه هو الشكور حقاً .كان أحب خلقه إليه من اتصف بصفة الشكر، كما أن أبغض خلقه إليه من عطلها واتصف بضدها .(1/17)
الوجه الثالث عشر: أن الشكر دليل بين على ثبوت عبودية العبد لربه وقيامه بها على الوجه المطلوب. قال تعالى : ( وَاشْكُرُواْ لِلّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( [ البقرة :172] فمن شكر الله تعالى بقلبه ولسانه وجوارحه وأتى بما يكمل ذلك فقد عبد ربه وأتى بما أُمر به . ومن أخل بوظيفة الشكر فقد فاته من تحقيق العبودية لرب العالمين بقدر ما فاته من الشكر ، لأن الشكر هو مظهر العبادة الحقة.
الوجه الرابع عشر : إخبار الله تعالى أن أهل الشكر هم المخصوصون بمنته عليهم من بين عباده قال تعالى : ( وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ( [ الأنعام : 53] .
الوجه الخامس عشر : أن الله تعالى جعل الناس قسمين لا ثالث لهما قال تعالى : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا( [ الإنسان :3] وأبغض الأشياء إلى الله تعالى الكفر وأهله . وأحب الأشياء إليه الشكر وأهله .
الوجه السادس عشر : أن الله تعالى يقابل بين الشكر والكفر. وهذا كثير في القرآن ، قال تعالى : ( وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ( [ البقرة :152] وقال تعالى: ( لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ( [ إبراهيم :7] وقال تعالى: ( وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ( [ لقمان : 12] وقال تعالى : ( إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( [ الإنسان :3].(1/18)
الوجه السابع عشر : أن أول وصية أوصى الله بها الإنسان بعد ما عقل عنه هي الشكر له وللوالدين . قال تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ( [ لقمان : 14] .
وهكذا ورد الشكر في القرآن على أنحاء مختلفة متعددة . فيُستدل بذلك على عظم الشكر ومدى قيمته وأهميته . فليكن ذلك داعياً العبادَ إلى تأمل نعم الله تعالى عليهم ، والقيام بشكرها ، والاستعانة بها على طاعته .
أما الشكر في سنة رسول الله ( فقد ورد - أيضا ً - على أنحاء مختلفة وأساليب متعددةٍ تردُ - إن شاء الله - في ثنايا الموضوع . ولم أفردها في عنوان مستقل خشية التكرار .
الفصل الرابع: كيف تكون من الشاكرين ؟(1/19)
ذكرنا في تعريف الشكر أن حقيقة الشكر هي شكر اللسان وشكر القلب وشكر الجوارح. فالشاكر حقيقة هو من قام بهذه الأركان مع ما يكمل ذلك من محبة المشكور والخضوع له واستعمال نعمه في مرضاته.على أن الإنسان لا يمكن أن يكافئ نعم الله عليه ، ولا أن يقوم بوظيفة الشكر لله تعالى ، كما دل على ذلك قوله تعالى : (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ( [ النحل :18] فلا يستطيع أحد أن يحصي نعم الله تعالى ، لأن أكثر النعم لا يدريها الإنسان ، لأنه يألفها فلا يشعر بها إلا حين يفتقدها . وأقرب شيء إليه تركيب جسده ووظائف أعضائه وجوارحه ، فهو لا يشعر بما فيه من إنعام الله إلا حين يدركه المرض فيحس بالاختلال (1).وقد دل آخر الآية على تقصير بني آدم في شكر النعم ، لأن من لا يستطيع إحصاء النعم كيف يقوم بشكرها . بل وأيُّ نعمة يعرفها قد لا يدرك حقيقتها ، فكيف يقوم بشكرها التام، ولكن حسب الإنسان أن يسدد ويقارب . قال بعض العلماء : ( أصبح بنا من نعم الله عز وجل ما لا نحصيه مع كثرة ما نعصيه، فما ندري أيُّهما نشكر ؟ أجميل ما ظَهَرَ أم قبيح ما سَتَرَ ؟ )(2).
وأتكلم الآن بشيء من التفصيل على أركان الشكر الثلاثة لتتضح لنا حقيقة الشكر. لعلنا نكون من الشاكرين.
1- شكر القلب :
هو معرفة القلب وإقراره بأن ما بالعبد من نعمة فهو من الله تعالى على عبده وأن ذلك إحسان من المنعم جل وعلا وتفضل على عبده ، وأنه لا حول له ولا قوة ، بل إن وصولها إليه بغير استحقاق منه ولا بذل ثمن ، فعليه أن يتلقاها بإظهار الفقر والفاقة إليها ، وأن يستكثر قليلها عليه ، ويستقلَّ كثير شكره عليها قال تعالى : (وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ( [ النحل : :53].(1/20)
فالعبد لا خروج له عن نعمته وفضله ومنته وإحسانه طرفة عين لا في الدنيا ولا في الآخرة ، لأن الله تعالى هو الذي منحك النعمة لا أحد سواه يشاركه ، فلا يقول الإنسان كما قال قارون : ( إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي( [ القصص :78] بل يقول ما أرشد إليه النبي ( بقوله ( من أكل طعاماً فقال : الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة ، غُفر له ما تقدم من ذنبه ) (3).
إن كل من تحترمه من كبير أو أمير ووزير وصديق وغيرهم لا يقدر على فعل شيء لنفسه فضلاً عن غيره ، وإن جرى على يديه خير فالله تعالى هو الذي أجراه على يديه ، وإلا فهو لا يد له فيه ولا صنع ، فاشكر القادر وحده لا شريك له .
قال الخطابي - رحمه الله - في كتابه : ( شأن الدعاء ) : ( الوهاّب : هو الذي يجود بالعطاء عن ظهر يد من غير استثابة ، ومعنى الهبة : التمليك بغير عوض يأخذه الواهب من الموهوب له ، فكل من وهب شيئاً من عرض الدنيا لصاحبه ، فهو واهب ولا يستحق أن يسمى وهّاباً إلا من تصرفت مواهبه في أنواع العطايا ، فكثرت نوافله ودامت.
والمخلوقات إنما يملكون أن يهبوا مالاً ، أونوالاً في حال دون حال ، ولا يملكون أن يهبوا شفاء لسقيم، ولا ولداً لعقيم ، ولا هدى لضلال ، ولا عافية لذي بلاء ، والله الوهاّب - سبحانه - يملك جميع ذلك ، وسع الخلق جوده ورحمته ، فدامت مواهبه ، واتصلت منته وعوائده . قال الخطابي : ( وبلغني عن أبي عمر الزاهد صاحب أبي العباس أن بعض الوزراء أرسل إليه يستعمله مبلغَ ما يحتاج إليه لقوته كل سنة ، ليجريه عليه ، فقال للرسول : قل لصاحبك أنا في جراية من إذا غضب عليَّ لم يقطع جرايته عني ) (1).
إن الشكر بالقلب استحضار للنعمة فلا يغفل عن إنعام الله عليه . واعلم أنه لا يتم توحيد العبد حتى يعترف بنعم الله الظاهرة والباطنة عليه ، وعلى غيره من الخلق ، ويضيفها إلى مسديها وموليها ،ويستعين بها على طاعته وملازمة خدمته .(1/21)
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : ( الواجب على الخلق إضافة النعم إلى الله قولاً واعترافاً ، وبذلك يتم التوحيد فمن أنكر نعم الله بقلبه ولسانه ، فذلك كافر ليس معه من الدين شيء .
ومن أقر بقلبه أن النعم كلها من الله وحده ، وهوبلسانه تارة يضيفها إلى الله ، وتارة يضيفها إلى نفسه وعمله وإلى سعي غيره - كما هو جار على ألسنة كثير من الناس - فهذا يجب على العبد أن يتوب منه ، وأن لا يضيف النعم إلا إلى موليها، وأن يجاهد نفسه على ذلك، ولا يتحقق الإيمان والتوحيد إلا بإضافة النعم إلى الله قولاً واعترافاً )(2).
فعلى المسلم أن يعرف نعمة الله ،وأن ينسبها إليه جل وعلا معتقداً أنه لا حول له فيه ولا قوة وليس لغيره - أيضاً - حول ولا قوة، لأن الله تعالى ذم المشركين بقوله سبحانه ( يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ( [ النحل : 83] . قال ابن كثير - رحمه الله - : أي : يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره، ويسندون النصر والرزق إلى غيره )(3).
إن هناك ألفاظاً تجيء على ألسنة بعض الناس مفادها إضافة النعم إلى لا من يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً فضلاً عن غيره ؛ بل غايته أن يكون جزءاً من أجزاء السبب ، أجرى الله نعمته على يده . والسبب لا يستقل بالإيجاد . وجعلهُ سبباً هو من نعم الله تعالى على هذا العبد(4) .(1/22)
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : مُطِرَ الناس على عهد النبي (، فقال النبي (: ( " أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر " قالوا : هذه رحمة الله ، وقال بعضهم : لقد صدق نوءُ كذا وكذا . قال : فنزلت هذه الآية : ( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ( [ الواقعة: 75 ] حتى بلغ ( وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ( [ الواقعة: 83 ](1) فدل الحديث على أن نعم الله تعالى لا يجوز أن تضاف إلا إليه وحده ، و الذي يحمد عليها . وهذا حال أهل التوحيد. قاله في فتح المجيد(2).
ومما أرشد إليه النبي ( أن يقول العبد إذا أصبح وإذا أمسى : ( اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك ، فلك الحمد ولك الشكر ، من قالها حين يصبح فقد أدى شكر يومه ، ومن قالها حين يمسي فقد أدى شكر ليلته ) (3).
قال ابن علان : ( هذا يدل على أن الشكر هو الاعتراف بالمنعم الحقيقي ، ورؤيةُ كلِّ النعم دقيقها وجليلها منه ، وكمالُهُ أن يقوم بحق النعم وصرفها في مرضاة المنعم )(4).
واعلم أن هذا كله لا ينافي أن تشكر من صنع إليك معروفاً وكان سبباً في حصول نعمة أو دفع نقمة. فإن الله تعالى هو الذي أجرى ذلك على يديه وما هو إلا سبب سخره الله تعالى لإيصال النفع إليك . فأنت تشكره لأجل أمر الشرع لا لاعتقاد أنه فاعل ، إذ لو شكرته بهذا الاعتقاد لكنت مشركاً لا شاكراً ، فاشكره على معروفه وإحسانه ، واعلم بأنه لا ينفع ولا يضر ، بل هو مسخر ممن بيده النفع والضر وحده لا شريك له . وسيأتي لذلك مزيد في آخر الكتاب ، إن شاء الله تعالى.
2- شكر اللسان :
وهو الثناء على الله تعالى بنعمه ، وحمده عليها مع محبته والتحدث بها على سبيل الاعتراف بفضله وإظهار الفاقة ، لا لرياء وسمعة وخيلاء . ليكون الذكر داعياً إلى شكر القلب والجوراح.
وشكر اللسان المتعلق بالنعمة نوعان :(1/23)
1- عام : وهو وصف الله تعالى بالجود والكرم والبر والإحسان وسعة العطء وغير ذلك من صفات كماله.
2- خاص : وهو التحدث بنعمته والإخبار بوصولها إليه من ربه تبارك وتعالى ،كما قال تعالى : ( وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ( [ الضحى: 11](5). قال المفسرون : اثْن على الله بها ، وخُصَّها بالذكر إن كان هناك مصلحة. وإلا فحدث بنعم الله على الإطلاق . فإن التحدث بها داعٍ إلى شكرها (6).
وعن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - أن النبي ( قال ( التحدث بنعم الله شكر ، وتركها كفر)(1) .
إن التحدث بنعم الله تعالى من أركان الشكر ولوازمه ، لأن العبد إذا تحدث بالنعم ذكر مسديها وموليها وعرف ضعفه . فيخضع لله تعالى ويحمده ويشكره ويكثر من ذكره بأنواع الذكر ، فإن الذكر رأس الشكر . ومن لم يذكر الله تعالى لم يشكره ولهذا جمع الله بينهما ، فقال سبحانه : ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [ البقرة :152] وما استُجلبت نعم الله تعالى واستُدْفعت نقمة بمثل ذكره جل علا ، فالذكر جلاب للنعم دافع للنقم . فما أسعد إنسان كان لسانه رطباً من ذكر الله . وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي ( قال : ( إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها )(2) .
قال بعض السلف : ( من كتم النعمة فقد كفرها ، ومن أظهرها ونشرها فقد شكرها ) وهذا مأخوذ من قول الرسول ( ( إن الله إذا أنعم على عبد نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده )(3) .
لكن ينبغي أن يعلم أن الشكر باللفظ ليس تحقيقاً للشكر ، بل لا بد من شكر القلب والجوارح . أرأيت لو أن رجلاً مثلك أسدى إليك من المعروف والجميل شيئاً كثيراً ، فأخذت تظهر له من الاحترام وتكرر له من الشكر بلسانك ، ولكنك تؤذيه بأفعالك من ازدرائك نهجه وطريقته ، ومعاداة أحبابه والسخرية منهم، وموالاة أعدائه وتشجيعهم ، فهل تكون شاكراً له على إحسانه وجميله ؟(1/24)
الجواب: لا ، ثم لا ، ولو كررت الشكر بلسانك آلاف المرات بل أنت كافر بنعمائه ساخر منه، غير مبالٍ به ، ولا بما فعل معك من الجميل ، ولا يجوز لأحد أن يعتبرك شاكراً . هذا في معاملة المخلوق مع المخلوق ،فالله أعلى وأجل ، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى . فشكر العبد لربه بلسانه ، وأفعالُه بضد ذلك لا يعد شكراً (4).
3- شكر الجوارح :………
لخص بعض العلماء شكر الجوارح بقوله : ( وأما شكر الجوارح فملازمة الطاعات ومجانبة الزلات ) . وقال ابن القيم : ( وأما الشكر فهو القيام له بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهراً وباطناً)(5) وقال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : ( الشكر هو الاعتراف بالنعمة والقيام بالخدمة )(6) . وقال السُّبكي في - معيد النعم - : ( وأما الأفعال فالمراد منها : امتثال أوامر المنعم واجتناب نواهيه. وهذا يخص كل نعمة بما يليق بها . فلكلِّ نعمة شكرٌ يخصها. والضابط أن تستعمل نعم الله تعالى في طاعته ، وتتوقى من الاستعانة بها على معصيته ، فليس من شكر النعمة أن تهملها ، وتَشْكُرَ على وجهٍ غير الوجه الذي عليه بُنِيَتْ(7).
إن شكر الجوارح معناه : قيام الجوارح بالعبودية لله رب العالمين ، لأن كل جارحة لها حظها من العبودية ، ولا يتم ذلك إلا بالعمل بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله (، بفعل المأمور واجتناب المحذور .ويدخل في ذلك صرف نعمه فيما يحبه ويرضاه ، والاستعانة بها على طاعته ، والحذر من صرفها في معصيته ، أو الاستعانة بها على ذلك . ومن لوازم ذلك معرفة ما يحبه الله تعالى لأجل أن تستعمل نعمه في محابه . قال تعالى : ( اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [ سبأ : 13] فجعل سبحانه وتعالى العمل شكراً ، ذلك أن الشكر سلوك عملي ، وليس كلمة تقال باللسان ، كما أن الإيمان سلوك عملي وليست كلمة تقال باللسان.(1/25)
وقد كان النبي ( يصلي من الليل حتى تتورم قدامه فقيل : يا رسول الله لِمَ تفعلُ هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : ( أفلا أكون عبداً شكوراً ؟ )(1).
إن هذا الحديث دليل بين على أن الشكر يكون بالعمل والطاعة، كما دلت الآيات والأحاديث على ذلك ، وفي هذا بيان مراد القرآن (2).
قال القرطبي : ( ظن من سأله عن سبب تحمله المشقة في العبادة ، أنه إنما يعبد الله خوفاً من الذنوب وطلباً للمغفرة والرحمة . فمن تحقق أنه غفر له لا يحتاج إلى ذلك . فأفادهم أن هناك طريقاً آخر للعبادة وهو الشكر على المغفرة وإيصال النعمة لمن لا يستحق عليه منها شيئاً . فيتعين كثرة الشكر على ذلك )(3).
ومن هذا الباب صيام - موسى عليه الصلاة والسلام - يوم عاشوراء . كما أخبر النبي ( عن اليهود أنهم قالوا: ( هذا يوم عظيم أنجى الله فيه مسوى وقومه ، وأغرق فرعون وقومه ، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه . فقال النبي (: "فنحن أحق وأولى بموسى منكم " فصامه رسول الله ( وأمر بصيامه )(4).
ومن هذا الباب - أيضاً - ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما ( أن النبي ( سجد في (ص) وقال : " سجدها داود توبة ، ونسجدها شكراً )(5).
قال السندي : ( "نسجدها شكراً " أي : على قبول التوبة ، وتوفيق الله تعالى إياه عليها . فحين يجري في القرآن ذكر الله تعالى لتلك التوبة نشكره تعالى على تلك النعمة )(6) .
ومن هذا الباب - أيضاً- مشروعية سجود الشكر عند تجدد النعم أو اندفاع النقم ، سواء كانت عامة أو خاصة ، وذلك بأن يخرّ المسلم لله ساجداً فيضع أشرف عضو من أعضائه - وهو الوجه - على الأرض . ويذكر الله ربه في هذا السجود وهو على هذه الحال بأنواع الذكر من الشكر والتسبيح والدعاء والاستغفار وغيرها ، فيكون قد شكر المنعم جل وعلا بهذا السجود بقلبه ولسانه وجوارحه . وقد ثبت في قصة كعب بن مالك رضي الله عنه أنه لما جاءه البشير بتوبة الله عليه خرّ ساجداً لله تعالى(1).(1/26)
ولذلك فإنه يرجى لمن شكر الله سبحانه وتعالى بهذه العبادة العظيمة أن يزيده من النعم وأن يجعل هذه النعم إكراماً له لا استدراجاً أو ابتلاءً واختباراً(2) .
إن شكر العبد لربه لا يتم حتى يقوم الإنسان بعبادة خالقه ورازقه كما أمره ، إخلاصاً لله تعالى ، ومبابعة للرسول ( المبلغ عن الله. وكثيراً ما يرد الشكر في القرآن بمعنى العبادة، وإنها لكذلك . فلن يشكر قلب لله حق شكره حتى يعبده حق عبادته ، ولن يعبده حتى يكون قد شكره على كل نعمة أنعمها عليه (3).
وقد ذكر الخافظ ابن رجب - رحمه الله - أن الشكر درجتان :
الأولى : شكر واجب ، وهو أن يأتي بالواجبات ، ويتجنب المحرمات .
الثانية: الشكر المستحب ، وهو أن يعمل العبد بعد أداء الفرائض واجتناب المحارم بنوافل الطاعات ، وهذه درجة السابقين المقربين ، وهي التي أرشد إليها النبي ( في قوله : ( كل سُلامى من الناس عليه صدقة ، كلّ يوم تطلع فيه الشمس، تعدل بين اثنين صدقة ، وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها ، أو ترفع له عليها متاعه صدقة ، والكلمة الطيبة صدقة ، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة ، وتميط الأذى عن الطريق صدقة.)(4)
وورد في حديث أبي موسى-رضي الله عنه-:( قالوا : فإن لم يفعل ؟ قال : فليمسك عن الشر فإنه صدقة )(5).
وفي حديث أبي ذر - رضي الله عنه - : لما عدّ النبي ( الأعمال الصالحة المتقدمة قال : ( ويجزي من ذلك ركعتا الضحى يركعهما )(6) .
وقد قصر في هذا الركن من أركان الشكر كثير من الخلق بما يظهر من أفعالهم وتصرفاتهم ، فلم يستعينوا بمال الله الذي آتاهم على طاعته . ولم يسخروا جوارحهم وحواسهم فيما خلقت له . وقد عرف بعضهم الشكر بقوله : ألا يُستعان بشيء من نعم الله على معاصيه (7).
وقال مخلد بن الحسين - رحمه الله - : ( كان يقال : الشكر ترك المعاصي )(8) .(1/27)
إن المعاصي لا تكون إلا بوسيلة تؤدي إليها وتسهلها ، وإذا كان الإنسان يتقلب في نعم الله تعالى ليلاً ونهاراً ، سراًّ وجهراً فلن يقدم على معصية إلا بعد أن يستعين على الوصول إليها بنعمة . ولولم يكن منه إلا الاستعانة بجوارحه من يد ورجل ، وسمع وبصر لكان مقصراً في الشكر . فكيف وهناك وسائل أخرى من نعم الله تعالى يُستعان بها على المعاصي من مال ومركب وغيرهما .
قال بعض السلف : ( مما يجب لله على ذي النعمة بحق نعمته أن لا يتوصل بها إلى معصية) (1).
وقال سبد قطب - رحمه الله - : ( إن شكر النعمة دليل على استقامة المقاييس في النفس البشرية، فالخير يُشكر، لأن الشكر هو جزاؤه الطبيعي في الفطرة المستقيمة . هذه واحدة والأخرى أن النفس التي تشكر الله على نعمته تراقبه في التصرف بهذه النعمة ، بلا بطر ، وبلا استعلاء على الخلق ، وبلا استخدام النعمة في الأذى والشر والدنس والفساد .
وهذه وتلك مما يزكي النفس ويدفعها للعمل الصالح وللتصرف الصالح والنعمة بما ينميها ويبارك فيها ، ويرضي الناس عن صاحبها فيكونون له عوناً ويصلح روابط المجتع فتنمو فيه الثروات في أمان ، إلى آخر الأسباب الطبيعية الظاهرة لنا في الحياة. وإن كان وعْدُ الله بذاته [ أي في الزيادة على الشكر ] يكفي لاطمئنان المؤمن ، أدرك الأسباب أو لم يدركها . فهو حق واقع لأنه وعد الله )(2).
هذه أركان الشكر الثلاثة التي لا يتم إلا بها ، مع محبة الله تعالى صاحب الفضل والإنعام ، ومن لوازم محبة العبد لربه أن يتصف بمتابعة الرسول ( ظاهراً وباطناً في أقواله وأفعاله وجميع أحواله قال تعالى : ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( [ آل عمران :31].
ومن لوازمها - أيضاً - معرفة ما يحبه الله تعالى إذ معنى الشكر استعمال نعمه في محابه وما يرضيه من الأقوال والأفعال والاعتقادات.(1/28)
الفصل الخامس في ذكر شيء من نعم الله تعالى
إن نعم الله تعالى على عباده عظيمة ، لا يمكن أن يحصوها ، أو يدركوها على حقيقتها ، وذلك لكثرتها واستمرارها ويسرها ، وتتابع إنعام الله بها، قال تعالى : ( اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ( ( وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ( ( وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ( [إبراهيم : 32-34] وقال تعالى ( أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً ( [ لقمان : 20] وقال تعالى ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً( [ البقرة : 29] فأخبر جل ذكره أنه خلق لهم ما في الأرض جميعاً لأن الأرض وجميع ما فيها لبني آدم منافع ، أما في الدين فدليل وحدانية ربهم ، وأما في الدنيا فمعاش وبلاغ لهم إلى طاعته وأداء فرائضه )(1).
وقد ذكر الله تعالى إنعامه على عباده في كثير من آيات القرآن -مع أنها نعم مرئية- وذلك - والله أعلم - ليتذكرها العباد ولا يغفلوا عنها ، ليقوموا بشكرها ، والاعتراف بفضل الله تعالى عليهم.
وإن ذكر الله تعالى هذه النعم يبرز لنا دلالات عديدة منها :
1-الدلالة على قدرة الله تعالى، وأنه لا يعجزه شيء ولا يمتنع عليه شيء، وأن له العلم التام ، والحكمة البالغة .
2-الدلالة على تفرده تعالى بسعة ملكه ، وعظمة سلطانه وأنه المتصرف بشؤون خلقه ، وتدبيرهم.(1/29)
3-الدلالة على رحمة الله الواسعة ، ولطفه الشامل ، وعنايته بخلقه ، وسعة فضله وعطائه ، وأنه المنعم المتفضل على خلقه بكل ما تقوم به مصالحهم ، وتنتظم به معايشهم.
4-الاستدلال بذلك كله على وجوب إفراده بالمحبة والتعظيم والخوف والرجاء ، وبذل الجهد في محابه ومراضيه ، والسعد في طاعته وامتثال أمره (2).
5-أن على المسلم أن يتأمل كتاب الله تعالى ، وما جاء فيه من ذكر النعم فإنها ما ذكرت في القرآن إلا ليتأملها المسلم ، ليعرف فضل الله عليه.
وقد جاء في سورة ( النحل ) من أصناف النعم ما لم يأت في سورة غيرها فَذَكرَ الله تعالى في أولها أصول النعم التي لا بد منها ، ولا تقوم الحياة إلا بها ، وذَكَرَ في أثنائها تمام هذه النعم ، ولهذا سميت سورة ( النعم )(3) .
وإن من أعظم نعم الله تعالى على عباده نعم الإسلام وبعثة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وآخرهم وأفضلهم نبينا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وإنزال الكتب لهداية البشرية ، وآخرها وأكملها هذا القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم ومن نعم الله أيضاً ما شرع الله لعباده من مواسم الطاعات كشهر رمضان ، وليلة القدر ، ويوم الجمعة وغير ذلك مما لا يمكن حصره ...
وسأتحدث - إن شاء الله - بشيء من التفصيل عن بعض نعم الله تعالى على الخلق مستنداً في ذلك إما لكتاب الله تعالى، وإما لسنة رسول الله ( ومستفيداً من كلام المفسرين وبعض أهل العلم ، ومن أراد استحضار نعم الله تعالى والتأمل فيها ، فلينظر في الكون وما حوله ، وفي نفسه ، وليقرأ القرآن بتدبر ، وليستفد من كلام المفسرين ، وما استنبطه رواد العلم الحديث وسيحصل - بإذن الله - على فوائد عظيمة .(1/30)
وقد رتبت هذه النعم فبدأت بالنعم الأنفسية وهي النعم المباشرة للإنسان التي تتعلق بذاته ، أوبمن له به صلة مباشرة ، ثم ذكرت النعم الأفاقية وهي النعم المتعلقة بهذا الكون الذي يعيش فيه الإنسان ، ويستمتع بما سخر الله تعالى له بغض النظر عن كون بعضها ضروريّاً أو غير ضروري ...
(1) نعمة الإسلام :
نعمة الإسلام من أكبر نعم الله على عبده وأعظمها وأغلاها . وهي النعمة التي لا تعدلها نعمة ، ولا تقوم الدنيا كلها ثمناً لها . إن الإسلام نعمة عظيمة يولد المولود على الفطرة ، وينشأ في بيئة يُعبد الله فيها ، وتقام شرائع الدين ، ويُرفعُ الأذان ، ويُقرأ القرآن، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله . قال تعالى : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا( [ المائدة : 3] .
إنها نعمة عظيمة ، بها سعادة العبد في الدنيا والآخرة ، نعمة رفعت الإنسان من مستوى البهائم ، وأخرجته من الظلمات إلى النور ، وحررته من رق العبودية والخضوع لغير الله . قال تعالى : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ( [ الحجرات : 17] .
يقول سيد قطب - رحمه الله - في كلامه على هذه الآية : ( ونحن نقف أمام هذا الرد ، الذي تضمن حقيقة ضخمة يغفل عنها الكثيرون ، وقد يغفل عنها بعض المؤمنين .إن الإيمان هو كبرى المنن التي ينعم بها الله على عباده في الأرض . إنه أكبر من منة الوجود الذي يمنحه الله ابتداء لهذا العبد ، وسائر ما يتعلق من آلاء الرزق والصحة والحياة والمتاع ، إنها المنة التي تجعل للوجود الإنساني حقيقة مميزة وتجعل له في نظام الكون دوراً أصيلاً عظيماً )(1).(1/31)
وإن من تمام نعم الله على عبده المؤمن أن يثبته على هذا الدين حتى يلقاه ، لأن المسلم مهما قوي إيمانه ، وازداد تمسكه بدينه فهو لا يتغني عن هداية الله طرفة عين . إذ هو عرضة للانحراف والزيغ ، نسأل الله الثبات.
ولهذا أُمر العبد بأن يسأل الله تعالى الهداية إلى الصراط المستقيم في كل ركعة من صلاته ( اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ} ( صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} [ الفاتحة : 6-7] أي : دلنا وألزمنا الصراط المستقيم ، والمراد به دين الله ، لأنه يوصل إليه ، وإلى دار كرامته وهي الجنة .
والمسلم مع اهتدائه ومعرفته الإسلام وعمله به . فهو محتاج إلى أن يسأل الله تعالى الهداية إلى الصراط المستقيم في كل ركعة . وفي كل حال . وذلك لأن العبد قد اهتدى هداية مجملة تحتاج إلى هداية مفصلة في كل ما يأتيه ويذَره ، ومعلوم أن ذلك لا يحصل في وقت واحد . وأيضاً فإن العبد همام يتحرك بالإرادة لتجدد حوائجه ورغباته في هذه الحياة ، وكذلك تجري عليه أحداث في نفسه وفي بيئته وخارج بيئته ، فلا بد من التأثر بها إن لم يكن على بصيرة من أمره . فكان في جميع أحواله محتاجاً إلى معرفة حكم الله تعالى . والسير على ما يرضيه، ليفعل في كل وقت ما أمر الله به، وينتهي عما نُهي عنه ، فإن لم يمنَّ الله عليه بالهداية المفصلة لكل شأن من شؤون حياته ، حاد عن الصراط السوي وصار يتخبط في ظلمات الشرك والجهالة (1).
وقد كان النبي ( يسأل ربه الثبات على دينه ، كما يروي ذلك أنس - رضي الله عنه - فيقول : كان رسول الله ( يكثر أن يقول : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) فقلت يا نبي الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : " نعم إن القلوب بين اصبعين من أصابع الله يُقلبها كيف يشاء )(2).(1/32)
فإذا كان الإنسان بهذه الحال وجب عليه أن يسأل الله الثبات على دينه ، وأن يحرص على الأخذ بالأسباب التي تعين على الثبات والاستقامة بتوفيق الله ، من تحقيق الشهادتين ، وتلاوة القرآن ، والإكثار من ذكر الله تعالى ودعائه ، والحرص على العمل الصالح ، وتدبر سير النبيين وأخبار الماضين ، ومجالسة الصالحين ، والدعوة إلى الله تعالى ، والسعي في نصرة دينه بالمال والنفس . وكذا حبه لرسوله ( الذي جرت النعمة الكبرى على يديه ، ويعمل بسنته ولا يخالفه.
وعلى المسلم أن يحذر من المعاصي والمخالفات التي تكدر صفو هذه النعمة العظيمة ، إما بنقص الإيمان أو زواله بالكلية . والمعاصي يجر بعضها بعضاً حتى تهلك الإنسان ، والإيمان يزيد بالطاعة ، وينقص بالمعصية ، كما عليه أهل السنة والجماعة.
(2) نعمة خلق الإنسان :
جاء الحديث عن خلق الإنسان وبيان أصله ، وأطوار نشأته ، وخلقه في أحسن تقويم في كتاب الله تعالى وسنة نبيه ( قال تعالى : ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ( ( ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ( ( ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ( [ المؤمنون : 12-14] وقال تعالى : (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ( [ التغابن : 3 ] وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ( ( فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ( [ الانفطار : 6-8] .(1/33)
إن الله تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة .. ومن حسن صورته هذا الهيئة المتفردة من بين سائر الأحياء ، فهو يأكل بيده ،والحيوان يتناول طعامه بفمه من الأرض ، وهو يسير منتصب القامة رأسه إلى أعلى ، وغيره يدب على الأرض على أربع ، وهو يتكلم وغيره لا يتكلم ، ومن حسن صورته هذا الاكتمال من ناحية الأجهزة لأداء وظائفه جميعها في يسر ودقة ،وهذا التوافق بين تكوينه ، والظروف الكونية العامة ، ليعيش في هذا الكون ويقوم بالوظيفة التي خلق من أجلها(1).
ولهذا ذُكر حُسْنُ تصوير الإنسان مقروناً بخلق السموات والأرض بكل ما فيهما من بدائع وجمال وغرائب .
وهذا التصوير الحسن لشكل الإنسان يشعر بكرامته على الله تعالى ، فالإنسان أكمل الأحياء على الأرض من ناحية تكوينه الجسماني ، كما أنه أرقاها من ناحية تكوينه الشعوري واستعداداته الروحية(2) .
وإن من نعمة الله تعالى على هذا الإنسان أن أودع فيه من وسائل المعرفة والإدراك من السمع والبصر والفؤاد واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح والأحاسيس والقوى ما يهديه في عالم المحسوسوات ، والتي لا يقوم كمال الجسم إلا بها . وبها يعرف طريق الخير وطريق الشر ويستطيع التلقي والاستجابة ، قال تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( [ النحل :78 ] وقال تعالى ( أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ( ( وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ( [ البلد : 8-9] .(1/34)
يقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي - رحمه الله - عند آية سورة النحل : ( خص هذه الأعضاء الثلاثة لشرفها وفضلها ، ولأنها مفتاح لكل علم ، فلا يصل للعبد علم إلا من أحد هذه الأبواب الثلاثة . وإلا فسائر الأعضاء والقوى الظاهرة والباطنة هو الذي أعطاهم إياها ، وجعل ينميها فيهم شيئاً فشيئاً إلا أن يصل كل أحد إلى الحالة اللائقة به ، وذلك لأجل أن يشكروا الله ، باستعمال ما أعطاهم من هذه الجوارح في طاعة الله . فمن استعملها في غير ذلك كانت حجة عليه وقابل النعمة بأقبح معاملة ) (3).
ولا يمكن في مثل هذه الرسالة أن يتكلم الكتاب عن خلق الإنسان ، وحِكَمِ تكوينه ، وفوائد أعضائه وأجهزته المختلفة ، ولكن يكفي أن يُقَرَّر أن كل عضو من أعضاء الإنسان فيه من الحسن والإبداع ، والمصالح العظيمة ما يستوجب الشكر .
إن الإنسان لو تدبر خلقه وهيئته وما زوده الله به من الحواس والجوارح ، وما وهبه الله تعالى من الطاقات والمدراك ، وما في ذلك كله من المصالح والمنافع لأدرك قدرة الخالق ، وعرف نعمة الله عليه . فإن الشكر يبدأ بمعرفة واهب النعمة ، ومعرفة قيمة النعمة ، والاعتراف .
إن الأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي : الجهاز العظمي . والجهاز العضلي . والجهاز الجلدي . والجهاز الهضمي . والجهاز الدموي .والجهاز التنفسي والجهاز العصبي . والجهاز البولي . وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر .. كل منها عجيبة لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشاً أمامها وينسى عجائب ذاته ، وهي أضخم وأعمق وأدق مما لا يقاس(4) .
لكن ما حالك أيها الإنسان لو اختل جهاز من هذه الأجهزة أو سَكَنَ عرق متحرك ، أو تحرك عرق ساكن ؟ هل فكرت في ذلك ؟ هل فكرت يوماً في يديك ؟ كيف تعمل وما هي مهمتها ؟ هل فكرت في نعم الله تعالى عليك في إخراج البول ؟ ما ذا لو احتبس البول ولم يمكن إخراجه إلا ببذل ما تحت يديك من أموال ؟ أكنت تفتدي بذلك ؟؟ (1).(1/35)
هل فكرت في نعمة الكلام ؟ وهل تأملت في هذا اللسان الناطق الذي هو آلة العلوم ، وترجمان القلب، ووسيلة البيان والتعبير ؟ وكيف جعله الله تعالى عضواً لحمياً ، لتسهل حركته ، فلا يكلُّ من كثرة الكلام ؟ .
هل فكرت في نعمة الهواء ، وجهاز التنفس ؟ إنها أهم من نعمة الطعام والشراب واللباس والسكن ، وما غفل الناس عنها إلا لأنهم ألفوها فنسوها كما نسوا غيرها ... لو حصل للإنسان ضيق في النفس ، أو رأى شخصاً بهذه الصفة لسارع إلى شكر الله المنعم بهذه النعمة ، أفلا يليق به أن يشكر على الدوام ؟ .
وكل جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يمكن أن يقال فيه الشيء الكثير ، ولكننا في غفلة ، إننا في غفلة عظيمة عن هذه الجوارح والعضلات وعظيم نفعها للإنسان ، وذلك لأن الشخص إذا رأى النعمة مبذولة له ولغيره لم ير أنه مختص بذلك ، فلا يهتدي إلى إدراك قيمتها .لكن لو فقدها - لعارض ما - أدرك أنها نعمة وعرف عظيم نفعها ، فلو عادت إليه بإرادة الله تعالى اعتبرها نعمة عظيمة يشكر الله تعالى عليها ، وهذا غاية الجهل إذ صار شكره موقوفاً على سلب النعمة ثم ردَّهها ، فالنعم في جميع الأحوال أولى بالشكر (2).
إن شكر نعمة الجوارح يكون بتسخيرها في طاعة من وهبها وتذوُّق الحياة والمتاع بها بحسِّ العابد لله تعالى في كل نشاط ، وكل متاع ، وعلى الإنسان أن يعلم يقيناً أن له تعالى عبوديةً في كل جارحة من جوارحه . ولا يتم شكر نعمة الجوارح إلا بتحقيق هذه العبودية . وجماع ذلك تسخير هذه الجوارح في كل ما يوافق الشرع وجوباً أو استحباباً أو إباحة . والبعد عن الاستعانة بها في كل ما يخالف أمر الله تعالى .(1/36)
يقول ابن القيم - رحمه الله - : ( لله على العبد في كل عضو من أعضائه أمر ، وله عليه فيه نهي ، وله فيه نعمة ، وله به منفعة ولذة ، فإن قام لله في ذلك العضو بأمره واجتنب فيه نهيه فقد أدى شكر نعمته عليه فيه ، وسعى في تكميل انتفاعه ولذته به ، وإن عطل أمر الله ونهيه فيه ، عطله الله من انتفاعه بذلك العضو، وجعله من أكبر أسباب ألمه ومضرته )(3).
فعلى المسلم أن يدعو بدعاء النبي (: ( اللهم متعنا بأسماعنا وأبصارها وقوتنا ما أحييتنا ، واجعله الوارث منا )(4).
(3) نعمة العقل:
العقل من أجل نعم الله تعالى على الإنسان ، وبه امتاز عن سائر الحيوان وهو مناط التكليف ، فإنه لا تكليف على غير عاقل .
وشرف العقل معلوم بالضرورة ، فهو وسيلة العلم ومنبعه ، وكل ما يدل عل شرف العلم ، يدل على شرف العقل ، وهو وسيلة السعادة في الدنيا والآخرة...
قال التابعي الجليل عروة بن الزبير - رحمه الله - : ( أفضل ما أعطي العباد في الدنيا العقل ، وأفضل ما أعطوا في الآخرة رضوان الله عز وجل)(1).
وقال ابن الجوزي - رحمه الله - : ( أعظم النعم على الإنسان العقل ، لأنه الآلة في معرفة الإله سبحانه ، والسبب الذي يتوصل به إلى تصديق الرسل ، إلا أنه لما لم ينهض بكل المراد من العبد، بُعثت الرسل ، وأُنزلت ، فمثال الشرع : الشمس ، ومثال العقل : العين ، فإذا فُتحت وكانت سليمة رأت الشمس ، ولما ثبت عند العقل أقوال الأنبياء الصادقة ، بدلائل المعجزات الخارقة ، سلّم إليهم واعتمد فيما يخفى عليهم ) (2).
والعقل يطلق على معان أربعة :
الأول : الوصف الذي يفارق به الإنسان سائر البهائم . وبه يستعد لقبول العلم . وتدبير شؤون حياته ,هذا هوالعقل الغريزي ، وقد عرفه بعضهم بقوله : هو القوة المتهيئة لقبول العلوم النظرية .وكأنه نور يُقذف في القلب ليستعد لإدراك الأشياء . ومعرفة النافع والضار .وكل موضع رفع التكليف عن العبد لعدم العقل فإشارة إلى هذا المعنى.(1/37)
الثاني: عقل مستفاد ويطلق على ما يكتسبه الإنسان من العلوم وما يجنيه من الفوائد بواسطة تلك الغريزة . وهو بهذا المعنى مكتسب ، وهو المراد بقوله تعال : ( وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ ( [ العنكبوت :43] أي : ما يفهمها ويتدبرها إلا الراسخون في العلم المتضلعون منه(3) .
الثالث : يطلق العلم على ما يستفاد من تجارب الحياة من الدروس والعظات . فإن من هذبته التجارب ، يقال له في العرف : عاقل ، ويقابله : غبيٌّ غُمْرٌ جاهل .
الرابع: أن تنتهي قوة تلك الغريزة إلى أن يعرف عواقب الأمور ، فيعرف الراجح من الأمور فيؤثره ، والمرجوح أو الضار فيتركه ، ويقمع الشهوة الداعية إلى اللذة العاجلة ، ويقهرها ، وهذه هي الغاية القصوى للقوة الغريزية المذكورة.
قال الحارث المحاسبي - رحمه الله - : ( اعلم أن كل عقل لا يصحبه ثلاثة أشياء فهو عقل مكيدٌ : إيثار الطاعة على المعصية ، وإيثار العلم على الجهل ، وإيثار الدين عل الدنيا .. ، واعلم أن ما تزيّن أحد بزينة كالعقل ، ولا لبس ثوباً أجمل من العلم ، لأنه ما عرف الله إلا بالعقل ، ولا أطيع إلا بالعلم ... )(4)
والناس يتفاوتون في عقولهم تفاوتاً عظيماً ، سواء منها العقل الغريزي أو المكتسب ، ولا سيما الأخير منها . فإن الناس يتفاوتون في غلبة الشهوة المؤدية إلى الفساد أو الانحراف . كما يتفاوتون في فهم العلوم وإدراكها ، فإن منهم البليد الذي لا يفهم إلا بعد تعب طويل ، والذكي الذي يفهم بأدنى رمز وأخصر عبارة ، ومنهم الكامل الذي تنبعث من نفسه حقائق العلوم من غير تكلفة ، كما قال تعالى : ( يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ ( [ النور: 35] . وهذا مثل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ،إذ يتضح لهم في باطنهم أمور غامضة من غير تعلم وسماع . ويعبر عن ذلك بالإلهام(1).(1/38)
والمقصود أن العقل بجميع معانيه من نعم الله تعالى على الإنسان ، فعليه أن يشكر ربه . ومن شكره أن يستفيد من عقله وذكائه في نفع الإسلام وأهله . فيعقل أحكام الشريعة، وآداب الإسلام ، ويهتدي بهدي القرآن والسنة ، ويوصل ذلك إلى الآخرين بأحسن أسلوب ، وأوضح عبارة ..
أما من سخر عقله وإدراكه وذكاءه في الإساءة إلى الإسلام وأهله . وسخر قلمه للكتابة بما يمليه عليه عقله من أفكار منحرفة ومناهج ضالة . فهو على خطر عظيم ، أن يسلب هذه النعمة ، أو يعاقب على سوء صنيعه ؛ لأنه لم يشكر ربه على نعمة العقل .
(4)نعمة الصحة:
الصحة نعمة كبرى ، يطمح إليها الإنسان ليتوج بها نفسه ليحيا حياة سعيدة ما دام في هذه الدار ، والصحة لا تكون إلا في جسم صحيح وقوام معتدل. وهي تساعد أجهزة الجسم على أداء وظائفها بصورة أفضل ، فيقوم الإنسان بوظائفه الدينية والدنيوية على أكمل وجه ،ولذا قال النبي (: ( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير )(2) وهذا شامل لقوة الجسم وقوة الإيمان معاً .
وقد تقدم حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ( يقول : ( إن أول ما يُسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد من النعيم - أن يقال : ألم نُصَحِّ لك جسمك ونرويك من الماء البارد )(3) وقد صرح النبي ( بأن الصحة نعمة جليلة يغفل عنها كثير من الناس . فقال : ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ )(4).
وورد عنه ( ما يدل على أن الصحة مع التقوى خير من الغنى . فيروي لنا معاذ بن عبد الله بن جليب عن أبيه عن عمه قال : كنا في مجلس ، فجاء النبي ( وعلى رأسه أثر ماء ، فقال له بعضنا : نراك اليوم طيب النفس ، فقال: " أجل ، والحمد لله " . ثم أفاض القوم في ذكر الغنى ، فقال : ( لا بأس بالغنى لمن اتقى ، الصحة لمن اتقى خير من الغنى ، وطيب النفس من النعيم )(5) .(1/39)
إن الصحة من نعم الله العظيمة التي يرفل فيها الإنسان والتي لا يتم علم ولا عمل إلا بها ، ولكنه غافل عنها كغيرها من آلاء الله . فإذا أصيب الإنسان بمرض عرف نعمة الصحة ومعروف العافية التي وهبها الله تعالى لعباده . لأن من يرتع في ظل الشباب ، وينهل من معين السعادة والهناء ، قد ينسى عذاب المرض . ويتجاهل آلام البلاء ، فيغفل عن نعمة عظمية هو فيها . ومن ثم يقصر في شكرها ، الذي من أهم أركانه امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ، وقد جاء في المثل : ( الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى ).
فعلى كل مسلم - ولا سيما الشباب - أن يعرف قدر هذه النعمة العظيمة قبل أن يفقدها ، فيشكر الله تعالى ، وذلك بتسخير هذا الجسم الصحيح فيما يرضى الملك الوهاب . فإن ذلك لا يدوم . فالصحة يعقبها السقم ، والشباب يعقبه الهرم . كما قال النبي (: اغتنم خمساً قبل خمس ، شبابك قبل هرمك ، وصحتك قبل سقمك ، وغناك قبل فقرك ، وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك )(1).
(5) نعمة الأرزاق :
خلق الله تعالى الخلق ، وقدر أرزاقهم وتكفل بها ، فما من دابة من هذه الدواب التي تملأ وجه البسيطة ، وتكمن في ظاهرها وتختفي في دروبها ومساربها إلا على الله رزقها ، وعنده علمها ، يعلم أين تستقر ، وأين تكمن ؟ ومن أين تجيء ؟ وأي تذهب ؟ سبحانه وتعالى ... لا إله غيره ... ولا رب سواه .. قال تعالى : (وَماَ مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأرْضِ إلّاَ عَلَى اللهِ رِزْقُهاَ وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينْ ( [ هود : 6] وقال تعالى :( َكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( [ العنكبوت : 60] .(1/40)
وموارد الرزق من ماء ينزل ، وأنهار تجري ، وزروع تنبت ، وحيوان يتكاثر ، وخيرات في الأرض ، وصيد البر والبحر إلى نهاية موارد الرزق .. كلها هبة من الله تعالى . وفضل منه ، ولا سبيل للخلق إليها إلا بتوفيق الله تعالى .فأودع أرزاق الخلق في هذه الأرض ، وأودع المخلوقات القدرة على الحصول على أرزاقها بالسعي والاكتساب.
وإن من فضل الله على عباده أن سخر كل واحد منهم لصناعة ما يتعاطاها ، وجعل بينهم وبين بضائعهم مناسبات خفيفة ، واتفاقات سماوية ، ليؤثر كل واحد منهم حرفة من الحرف ، يشرح صدره لها ، ويفرح بملابستها ، وتطيعه قواه لمزاولتها.
وقد سخرهم الله تعالى لذلك لئلا يختاروا بأجمعهم صناعة واحدة فتبطل الأقوات والمعاونات فالناس إما راض بصنعته لا يريد عنها حولاً ، وإما كاره لها يكابدها مع كراهته لها . وكأنه لا يجد بديلاً . وعلى هذا دل قوله (: ( كل ميسر لما خلق له ) ، وبذلك يعمر الكون . ويكتسب الناس . وتحصل الأرزاق )(2).
وإن من نعمة الله على الإنسان هذه النعم العظيمة ، والخيرات الوفيرة من المآكل والمشارب والملابس والفرش . وكل ما تشتهيه النفس وتتمناه . ولا سيما في بلادنا - ولله الحمد والمنة - تذهب إلى سوق الأطعمة. وبيع الملابس والفرش .. وسائر احتياجات الناس فترى نعم الله الوفيرة التي تُجلب من شتى بقاع الأرض بأثمان مناسبة.
وما أحسن ما نقله ابن القيم - رحمه الله - عن بعض السلف أنه قال في خطبته يوم عيد : ( أصبحتم زهراً ، وأصبح الناس غَبراً ، أصبح الناس ينسجون وأنتم تلبسون ، وأصبح الناس ينتجون وأنتم تركبون ، وأصبح الناس يزرعون وأنتم تأكلون ، فبكى وأبكاهم ) (1).(1/41)
وجاء في الاختيارات لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - : ( الأصل في الأطعمة الحل لمسلم يعمل صالحاً ، لأن الله تعالى أحل الطيبات لمن يستعين بها على طاعته لا معصيته ، لقوله تعالى : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ( [ المائدة :93]. ومن أكل الطيبات ولم يشكر فهو مذموم ، قال الله تعالى : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}( [ التكاثر:8] أي : عن الشكر عليه (2).
ومعنى هذا أن العبد مطالب بأن يستعين بنعم الله تعالى على العمل الصالح الديني والدنيوي ، لا على معصية الله تعالى والإفساد في الأرض ، وكيف يليق بالإنسان أن يأكل نعم الله ويخالف أمره ، إن هذا غاية الجحود !!.
والله تعالى أمر الرسل - عليهم الصلاة والسلام - بالأكل من الطيبات والشكر لله تعالى بالعمل الصالح . فقال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ( [ المؤمنون :51] قال ابن كثير - رحمه الله - : ( يأمر عباده المرسلين - عليهم الصلاة والسلام أجميعن - بالأكل من الحلال والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح )(3).
فعلى المسلم أن يحذر كل الحذر من أن يجعل نعم الله تعالى من المأكل والمشرب وغيره عوناً على معصيته . فيتقوى بذلك على مخالفة أوامر الله تعالى بسمعه أو بصره في سماع أو مشاهدة ما حرم الله ، مستعيناً بما أكل من نعم الله على ذلك ، فليس هذا سبيل الشاكرين . قال تعالى : ( كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ( [ سبأ:15].(1/42)
وعلى الإنسان أن يحذر كل الحذر من الاستهانة بنعم الله تعالى ، فإن هذا ينافي شكرها . يقول أبو الدرداء - رضي الله عنه - ( أحسنوا مجاورة نعم الله لا تُملُّو ها ولا تُنَفِّروها ، فإنها لقلَّ ما نفرت عن قوم فعادت إليهم )(4) .
(6)نعمة اللباس:
اللباس نعمة عظيمة يستر أعضاء مخصوصة من جسم الإنسان . ويحفظه دون عاديات الجو وتقلباته ، إضافة إلى أنه زينة وجمال . قال تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ( [ الأعراف : 26] فامتن الله تعالى على عباده بما يسر لهم من اللباس البدني الضروري الذي تُستر به العورة . واللباس التكميلي الذي هو زينة وجمال يتجملون به في أعيادهم ومناسباتهم.
ومن شكر هذه النعمة أن يراعي كل مسلم ومسلمة القواعد والضوابط التي حددها الإسلام في موضوع اللباس.
فليس من شكر نعمة اللباس أن يسبل الرجل ثوبه ، وليس من شكر نعمة اللباس أن يتشبه الرجل بالنساء . وليس من شكر هذه النعمة أن يكون ثوب المرأة لا يمثل ثوب المرأة المسلمة لا في نوعه ، ولا في تفصيله ، ولا في هيئته على البدن (1).
وعلى المسلم أن يكون لباسه جميلاً وثوبه نظيفاً ، لأن الله تعالى يحب ظهور أثر نعمته على عبده . وهو من الجمال الذي يحبه. وذلك من شكره على نعمه الباطن بالشكر عليها(2) .
وقد ورد عن أبي الأحوص الجُشمي - رضي الله عنه - قال : رآني النبي ( وعلي أطمار . فقال : هل لك مال ؟ قلت : نعم ، قال : " من أيِّ المال ؟ " قلت : من كل المال قد آتاني الله عز وجل من الإبل والشاء . قال : " فَلْتُرَ نعمُ الله وكرامته عليك ")(3).
(7)نعمة المال :(1/43)
من نعم الله العظيمة نعمة المال الذي جعله الله تعالى قياماً لمصالح العباد، وكسبُ المال من حِلِّه نعمةٌ . وإنفاقه في وجهه الشرعي نعمة . والمال - لمن وفقه الله - عون على الدين . يُتقرب به إلى الرب ، وتوصل به الرحم ، ويُصان به العرض ، ويُتألف به الإخوان.
يعطي الله تعالى عبده المال ، ويبسط له الرزق ، فإن أحسن فيه اكتساباً وإنفاقاً سعد في الدارين . وصار ذلك ماله متاعاً طيباً ورخاء ، رغداً في الدنيا ، وزاداً في الآخرة. وإن تكن الأخرى صار ماله مثار قلق وخوف ، ومثار حسد وبغض ، يشقى بجمعه في الدنيا ويحاسب على سوء صنيعه في الآخرة .
فالأول : شكرَ الله على هذه النعمة ، وأدى حقه فيها ، فهو إلى بركة وزيارة.
والثاني : كفر هذه النعمة ، فلم يراع حكم الله في الاكتساب ولا في الإنفاق فهو إلى محق وزوال.
إن نعمة المال كثيراً ما تقود الإنسان إلى فتنة البطر ، وقلة الشكر مع السرف أو البخل ، فعلى كل ذي مال أن يكون على يقظة دائمة ، ومعرفة تامة بحقوق هذه النعمة .
وشكر نعمة المال يظهر في حسن التصرف ومراعاة الشرع في الكسب والإنفاق ، فالمال مال الله ، والعبد عبد الله . فكيف يتصرف عبد في مال سيده بما لا يرضاه ؟!
فهل من شكر نعمة المال ما يعيشه كثير من الموسرين من حياة الترف والإسراف ؟ ! إسراف في البناء ! إسراف في المركب ! إسراف في الأثاث ! إسراف في اللباس ! إسراف في المأكل والمشرب ! يبذل المال للنساء والأولاد بلا روية ولا حساب.
إن الإسراف أمر يكرهه الإسلام ، وهو سوء تصرف ينبئ عن الأثرة والأنانية، لا يبالي صاحبه إن اجتاحت المجتمع فاقة ما دام يمرح في الثورة والغنى . ولا يبالي إن هلك المجتمع جوعاً ما دام قد أغفلته التخمة . ولا يحس إن عري الناس ما دام متابعاً للحديث من المركب والأثاث واللباس .(1/44)
قال تعالى : ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا}،{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا}[ الإسراء: 26-27].
قال البخاري : قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( لا تبذر : لا تنفق بالباطل )(1).
وعن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن النبي ( قال : ( إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات ، ووأد البنات ومنعاً وهات . وكره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال وإضاعة المال )(2).
قال النووي : ( إضاعة المال : تبذيره وصرفه في غير الوجوه المأذون فيها من مقاصد الآخرة والدنيا، وتركُ حفظه مع إمكان الحفظ )(3).
هل من شكر نعمة المال منع الزكاة الواجبة ، والبخل بصدقة التطوع، وعدم صلة الأرحام ومدُّ يد العون للمحتاجين ؟
وهل من شكر نعمة المال الإسراف في ولائم الزواج والمباهاة في استئجار قصور الأفراح . وإعداد الأطعمة التي يقذف بها في صناديق القمامة وبطون الأودية ؟!
وهل من شكر نعم المال إنفاقه فيما حرم الله من شراءِ أو إصلاح آلات اللهو والطرب ، التي تقتل الأوقات ، وتفسد الأخلاق ، وتقضي على العفة والنزاهة ؟!.
وهل من شكر نعمة المال ما يقوم به ضعاف العقول من الشباب من استعمال السيارات في حركات وتصرفات تفسدها أو تتلفها ؟ ! ومما يؤسف عليه أن يكون أولياؤهم على علم بذلك !!
وهل من شكر نعمة المال أن يبذل بعض الموسرين المال للأباعد لغرض من الأغراض ، وأقرباؤه بل ووالداه يتكففون الناس ؟
وهل من شكر نعمة المال ما يقوم به السفهاء من الشباب وغيرهم من إنفاق مال الله الذي آتاهم في السفر لبلاد الكفار ، وإنفاقه في مشاهدة المباريات ، وشرب الخمور والمسكرات واتخاذ الأخدان ؟(1/45)
ألا فيتق الله كل من أعطاه الله مالاً ، ويشكر ربه شكراً عملياًّ يظهر على تصرفه وجوارحه ، تحقيقاً لقول النبي (: ( إذا أنعم الله على عبده نعمة أحب أن يرى أثر نعمته على عبده )(4).
وهذا لن يكون باستعمال النعمة فيما لا يرضي الله . بل استعمالها فيما يحبه ويرضاه . فالإسراف والتبذير والاستعانة بالنعمة على ما حرم الله ينافي الشكر ولا يجامعه بحال من الأحوال .
وعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله يقول (: ( إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة )(1).
قال في فتح الباري: (أي يتصرفون في أموال المسلمين بالباطل ففيه أن التصرف فيها لا يجوز بمجرد التشهي)(2).
وعلى المسلم أن يعلم أن عليه في ماله حقوقاً إما واجبة وإما مستحبة . من نفقة ، وزكاة ، وصدقة وصلة أرحام ، ومساهمة في سبُلِ الخير ، وإن الإنفاق في هذه الوجوه وغيرها دليل على التطهر من الشح والتقتير ، والشعور بمرحمة الناس . والوفاء بحق المال ، وشكر المنعم على فضله وعطائه .
(8) نعمة البيوت :
إن البيوت من نعم الله تعالى على العباد . إليها يأوي الإنسان ، وفيها الراحة والاطمئنان يحفظ أهله ، ويحفظ متاعه .
وقد امتن الله بها على عباده وذكر أنواعها ومنافعها في سورة النعم ، وهي سورة النحل . قال تعالى : ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ ( [ النحل : 80] .
أما منافعها فإن الله تعالى جعلها لنا سكناً ، تُكنُّ من الحر والبرد وتسترنا نحن وأولادنا ، نتخذ فيها الغرف والبيوت التي هي لأنواع منافعنا ومصالحنا ومنها حفظ أموالنا وحرمنا ، وغير ذلك من الفوائد العظيمة المحسوسة(3).(1/46)
وتأمل كيف جاء اللفظ القرآني ( سكناً ) إشارة - والله أعلم - إلى أن الإسلام يريد أن يكون البيت مكاناً للسكينة والاطمئنان ، فهو سكن والاطمئنان بكفايته المادية للسكن والراحة . وهو سكن واطمئنان مَنْ فيه بعضهم لبعض ، فليس البيت مكاناً للنزاع والشقاق والخصام . وإنما هو مبيت وسكن وأمن واطمئنان وسلام(4) .
وفي ذكر هذا اللفظ تذكير للعباد بأن البيوت نعمة . لأن السكن نعمة ، لعلهم يشكرون الله على فضله . لكننا غافلون عن هذه النعمة . فمن منا إذا دخل بيته تذكر هذه النعمة فشكر الله عليهاقولاً وفعلاً ؟!.
أما أنواعها فإن الآية ذكرت نوعين :
الأول : البيوت الثابتة المستقرة وهي المنازل المبنية . وقد وصلت في عصرنا الحاضر - من فضل الله - إلى أرقى أنواع البناء وأقواه . وحصل فيها من وسائل الراحة ما لا مطلب وراءه من وسائل الاتصال والإنارةوالتبريد ، ومن وسائل التكييف والتدفئة وغير ذلك من المنافع .
الثاني: الخيام والقباب التي تصنع من جلود الأنعام أو ما ينبت عيها من صوف وشعر ووبر . وهذه من نعم الله ، فإنها بيوت خفيفة الحمل في الارتحال والتنقل ، وخفيفة الحمل في المنزل التي لا يقصد فيها الإنسان الاستيطان ،وهذه منافعها عظيمة . فبالإضافة إلى أنها خفيفة فهي تقي من الحر والبرد والرياح والمطر . وتقي المتاع وتحفظه . ولا سيما في الصحاري والمنتزهات حيث تظهر الحاجة الشديدة إلى ما يقي الإنسان ويحفظه .
إن البيوت نعمة ، ولا يعرف قدر هذه النعمة إلا المشردون الذي لا يبيوت لهم ولا سكن ولا طمأنينة . وتتجلى هذه النعمة في أوضح صورها إذا ملك الإنسان بيتاً واسعاً مريحاً ، وعاش فيه حياة الاستقرار وودع حياة التنقل والارتحال.(1/47)
فإذا كانت البيوت نعمة وجب علينا شكرها . شكراً عملياً حقيقياً لا باللسان فقط . ولكن يجعل هذه البيوت محلاً لطاعة الله تعالى الذي يسرها . وتطهيرها من كل ما يغضب الله أو يتنافى مع الشكر ؛ من آلات اللهو ووسائل الفساد المسموعة والمرئية . وتربية الأهل والأولاد على الطاعة ، وإبعادهم عن المعصية. وذلك بإبعاد وسائلها ؛ لينشأ أطفالنا نشأة مرضية.
(9) نعمة النوم :
النوم نعمة كبرى من نعم الله تعالى التي لا يحصيها عاد ولا يجمعها كتاب. نعمة لا يملك إعطاءها إلا هو تبارك وتعالى .
في النوم راحة للجسم والفكر معاً من عناء النهار والتقلب في هذه الحياة ولا يدري قيمة هذه النعمة إلا من سهر ليلة أو ليالي لعارض من العوارض ، وإلا فنحن غافلون عن هذه النعمة لا نحس بها ولا ندريها ، لأننا ألفناها فلا نشعر بها إلا حين نفتقدها . ينام الإنسان الساعات الطويلة في ليالي الشتاء ، ويقوم أخر الليل لصلاة الصبح صحيحاً معافى ، دون أن يمر على خاطره عِظَمُ هذه النعمة . وينام للقيلولة في نهار الصيف فيقوم لصلاة الظهر أو العصر وقد استعاد نشاطه الذهني والجسمي . دون أن يدرك عظم هذه النعمة.
وقد جاء ذكر النوم في كتاب الله تعالى في معرض الامتنان وسياق تعداد النعم . قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا( [ الفرقان :47] .
قال ابن كثير رحمه الله : ( وقوله : والنوم سباتاً " أي : قَطعاً للحركة لراحة الأبدان . فإن الأعضاء والجوارح تكلُّ من كثرة الحركة في الانتشار بالنهار في المعايش ، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات، فاستراحت ، فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معاً )(1).(1/48)
نعم إن النوم نعمة جُلّى تقتضي منا أن نقوم بشكر مَنْ منَّ بها علينا شكراً عملياًّ يظهر على جوارحنا وسلوكنا . وإن مِن شُكرِ هذه النعمة أن يراعي الإنسان آداب الإسلام ومقاصده في هذه النعمة . وإن من أدابه أن ينام الإنسان مبكراً لما يترتب على ذلك من الفوائد الدينية والدنوية العظيمة . ويحذر من السهر الذي لا خير فيه .
(10) نعمة الأمن :
إن من أعظم نعم الله على عباده أن يصبح الإنسان آمناً على دينه ثم على نفسه وماله ، مطمئناً على عرضه وبيته ، وعلى كل ما يحيط به ، يسافر الرجل وحده من أقصى البلاد إلى أقصاها آمناً غير خائف مستقراً غير قلق ، معه الأموال لا يخاف على نفسه ولا عليها .
وقد امتن الله على أهل مكة في مواضع كثيرة في كتابه بنعمة الأمن ليُعرف قدرها فتشكر ، قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ( [العنكبوت:67] وقال تعالى : (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ( ( إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ ( ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ( ( الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ( [ قريش: -4].
والنبي ( بين أن من اجتمع له الأمن في الوطن ، والصحة في البدن مع قُوتِ يومه ، فقد جمعت له الدنيا بأسرها ولم يفته شيء . فقال صلوات الله وسلامه عليه : ( من أصبح منكم آمناً في سِربه ، معافى في جسده ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا )(1).
إن الإنسان بحاجة إلى الأمن . الأمن في داره . والأمن في أسفاره وترحاله وفي كل حال من أحواله ، وهذا مشاهد . وانظر حال الناس إذا حصل في المجتمع حدث يسير ، كيف ينتشر الخوف ويحصل الرعب ؟!
وهذا يدلك على أمرين :
الأول : عظم هذه النعمة - نعمة الأمن - لكن الناس غافلون عنها ، لا يدركونها إلا بضدها ، وسرعان ما ينسون إذا زال هذا الضد .(1/49)
الثاني : ضعف الناس ، وأنهم لا حول لهم ولا قوة إلا بالله تعالى، القادر وحده على دفع المضار وجلب المنافع.
فالواجب علينا - معشر الأحبة - أن نعرف قيمة هذه النعمة ونشكر الله تعالى عليها ، ونسأله دوامها . وعلينا أن نحرص على الأسباب التي هي كفيلة - بتوفيق الله - باستقرار الأمن . وأساسها تحقيق الإيمان والعمل الصالح بتوحيد الله تعالى وإخلاص العبادة له وشكره على نعمه شكراً جامعاً بالقلب واللسان والجوارح ، فإن كفر النعمة من أسباب حلول الخوف محل الأمن وعلى ولاة أمور المسلمين سيادتهم بالعدل ونشر الدين ، والقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وتطبيق الحدود وردع الظالمين ، وقمع المعتدين .
قال تعالى ( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( [ النحل :97] .والحياة الطيبة من أسسها طمأنينة القلب ، وسكون النفس ، والرزق الحلال ، ولا يتم ذلك إلا بالأمن ، وعلى المسلم أن يدرك أن ما يحصل في بعض البلاد من الحروب الطاحنة التي تزيل الأمن ، أو الجرائم التي تخل به وتجعل الناس يعيشون في خوف ووجل ؛ أن هذا بأسباب المعاصي ومخالفة أمر الله تعالى .
قال تعالى في شأن القرية التي كفرت بأنعم الله : ( فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ( [ النحل :112] وقال تعالى : ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ( [ الشورى :30] ولا أمن ولا استقرار إلا بتحكيم شرع الله تعالى ، ومعاقبة العصاة ليرتدع المجرم من معاودة الجريمة ، ويرتدع غيره إذا رأى العقوبة وعاقبة الجزاء .
(11) نعمة الزوجة الصالحة :(1/50)
الزواج من نعم الله تعالى: وآلائه العظية ، شرعه الله . لحكم كثيرة ، وأسرار عظيمة . ففيه حفظ كل من الزوجين ، وحفظ المجتمع من الشر وتحلل الأخلاق ، وفيه بقاء النوع الإنساني على وجه سليم وإحكام الصلات بين الأسر والقبائل ..
والزوجة في ذاتها نعمة ، لأنها أساس تكوين الأسرة ، وثمرة ذلك أبناء وحفدة ، وهذه نعمة أخرى.. قال تعالى: ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ( [ النحل :72].
وإن من أعظم دلائل قدرة الله تعالى ، وآيات كرمه ، وعنايته بعباده أن خلق للرجل زوجة من جنسه ليسكن إليها ، تناسبه ويناسبها ، وتشاكله ويشاكلها ، وجعل بينهما من المودة والرحمة ما يكون سببا لتحقيق الحكمة من هذا الزواج ، من الاستمتاع واللذة والمتعة بوجود الأولاد وتربيتهم ، ولهذا تجد بين الزوجين من المحبة والألفة والرحمة ما لا يوجد بين اثنين في الغالب . قال تعالى : (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ( [ الروم :21](1).
وهذه من نعم الله العظيمة التي قلّما يتذكرها الناس .فيدركون حكمة الخالق في خلق كل واحد من الزوجين على نحو يجعله موافقاً للآخر ، ملبياً لحاجته الفطرية : نفسية ، وعقلية ، وجسدية ، بحيث يجدان في اجتماعهما السكن والاكتفاء ، والمودة والرحمة (2). وحتى تكون المرأة زوجة صالحة ، ونعمة جليلة تُرى آثارها في الأسرة وفي المجتمع ، وجّه الإسلام عناية كبيرة بهذا الجانب ، وحثَّ على الأسباب المؤدية إلى إصلاح الزوجة واستقامتها .(1/51)
فقد جاءت سنة رسول الله ( ببيان المرأة الصالحة ، وحددت الصفات التي ينبغي للمسلم أن يحرص عليها عندما يريد اختيار زوجته ، وشريكة حياته ، لأن النساء المسلمات يتفاوتن في التقى والصلاح، وفي الالتزام بالإسلام عموماً ، وفي أبواب الزينة واللباس خصوصاً ، ولعل في ذكر هذه الأوصاف دعوة المرأة المسلمة أن تسلك منهج الاستقامة وتلزم الصراط السوي، لأجل أن تكون محل رغبة الرجال في الاقتران بها .
وقد ورد عن عبد الله بن عمرو- رضي الله عنهما - أن النبي ( قال: ( الدنيا متاع ، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة ) (3).
و عن سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهما - أن النبي ( قال: ( أربع من السعادة : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والجار الصالح ، والمركب الهنيء . وأربع من الشقاوة : الجار السوء ، والمرأة السوء ، والمسكن الضيق ، والمركب السوء )(4).
وعن أنس - رضي الله عنه- قال : قال رسول الله ( قال : تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة ) (1).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه - قال : سئل رسول الله (: أي النساء خير ؟ قال : ( التي تسره إذا نظر ، وتطيعه إذا أمر ، ولا تخالفه فيا يكره في نفسها وماله )(2).
وقد مدح الله تعالى صالحات النساء بقوله سبحانه : ( فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ( [النساء : 34]
وقوله : ( فالصالحات ) أي " المستقيمات في الدين " ( قانتات ) قال قتادة وسفيان الثوري : مطيعات لله ولأزواجهن " ( حافظات للغيب ) قال قتادة : ( حافظات لما ساتودعهن الله من حقه ،وحافظات لبيت أزواجهن)(3)
إن الزوجة إذا كانت صالحة صارت عوناً لزوجها على تكوين أسرة صالحة ، وبناء مجتمع فاضل ، وعوناً له على أمور دينه وأمور دنياه ، وهيأت له الراحة والطمأنينة والسعادة في حياته .(1/52)
وقد أثبت العلم أن للأم أثرها الأكبر في الذرية منذ المرحلة الأولى لتكوين النطفة الأمشاج . وإن الطفل يأخذ من أمه أكثر مما يأخذ من أبيه منذ البدايات الأولى لتشكله . ثم هو يبقى في رحمها تسعة أشهر يتغذى من دم الأم وعظمها ولحمها ،حتى إذا خرج إلى الدنيا أرضعته من صدرها . ثم لقنته ثقافتها .
وقد أثبتت الدراسات الميديانية والنظرية : أن الأبعاد السلوكية سلباً وإيجاباً تخضع لتأثيرات الأم على طفلها أكثر من الأب(4).
(12) نعمة الأولاد:
الأولاد من أجل نعم الله تعالى على عباده . وخاصة البررة منهم . وقد ذكر القرآن الكريم هذه النعمة في سياق الامتنان بنعم أخرى في سورة النحل ، قال تعالى : ( وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً} [ النحل : 72] .
قال ابن كثير - رحمه الله - : ( يذكر تعالى نعمه على عبيده ، بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع واحد لما حصل ائتلاف ومودة ورحمة . ولكن من رحمته خلق بني آدم ذكوراً وإناثاً ، وجعل الإناث أزواجاً للذكور.
ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة ، وهم أولاد البنين ، قاله ابن عباس وغيره ، وقال أيضاً : هم الولد وولد الولد )(5).
وهذه الكلمة تعني في اللغة : الخفة والسرعة ، وهي في الآية معطوفة على البنين ، فيقتضي ذلك أن الحفدة من جملة ما منَّ الله به على الرجال من أزواجهم ، ليكونوا عوناً لهم. وهذا يشمل أولاد الزوج وأولادهم . وأولاد الزوجة من غير الزوج وأقاربها (1).
والمقصود أن الذرية الصالحة زينة في الحياة ، ومصدر فرح واستمتاع . ومضاعفة للأجر في الآخرة بالخلف الصالح الذي يذكر الله . لأن النبي ( قال : ( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له )(2).(1/53)
والأولاد لا يكونون سعادة للإنسان إلا إذا كانوا صالحين ، وصلاحهم بتوفيق الله تعالى ، ثم بتربية قلوبهم وأرواحهم بالعلوم النافعة . والمعارف الصادقة ، والتوجيه للأخلاق الحميدة والتحذير من ضدها منذ نعومة أظفارهم ، لأنهم بالآداب الحسنة والأخلاق الجميلة يرتفعون ، وبها يسعدون ، وبها يؤدون ما عليهم من حقوق الله وحقوق العباد ، وبها يجتنبون أنواع المضار، وبها يتم برهم لوالديهم .
أما إهمال الأولاد فضرره كبير، وخطره خطير ، أرأيت لو كان لك بستان فنميته ، حتى إذا استتمت أشجاره ، وأينعت ثماره ، وتزخرفت زروعه وأزهاره ، ثم أهملته فلم تحفظه ولم تسقه ولم تنقه من الآفات ، وتعده للنمو في كل الأوقات ، أليس هذا من أعظم الجهل والحمق ؟ فكيف تهمل أولادك الذين هم فلذة كبدك ، وثمرة فؤدك ، ونسخة روحك ، والقائمون مقامك حيّاً وميتاً ، الذين بسعادتهم تتم سعادتك ، وبفلاحهم ونجاحهم تدرك خيراً كثيراً ، وما {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ( [ آل عمران : 7](3).
(13)نعمة العلم :
العلم نعمة كبرى تتوقف عليها سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة. ذلك أن العلم والسعي في نيله نعمة ، وتخليده ونقله للأجيال المقبلة نعمة .
ومن نعم الله على عبده آلات العلم التي يكتسب بها من السمع والبصر والفؤاد ، قال تعالى : ( وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( (78) سورة النحل [ النحل 73].
فذكر سبحانه نعمته عليهم بأن أخرجهم لا علم لهم ، ثم أعطاهم الأسماع والأبصار والأفئدة التي نالوا بها من العلم ما نالوه، وأنه فعل بهم ذلك ليشكروه(4) .
ومن نعم الله تعالى الوسائل الحديثة لتحصيل العلم وتسهيل طلبه من الأقلام والأوراق ، وآلات التصوير والطباعة، ووسائل تخزين المعلومات . وغير ذلك ما يستفيد العالم والمتعلم .(1/54)
إن العلم النافع والفقه في الدين علامة على سعادة العبد ، وأن الله تعالى أراد به خيراً ، حيث هيأ له الأسباب التي تنال بها الدرجات وتكسب الخيرات كما قال النبي ( ( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ) (1).
قال في فتح الباري : ( وفي ذلك بيانٌ ظاهر لفضل العلماء على سائر الناس ، وتفضيل التفقه في الدين على سائر العلوم )(2).
وشكر هذه النعمة بأن يعرف الإنسان قدر نعمة الله عليه بالعلم ، وأن الله تعالى أراد به خيراً ، فيعمل به وينفع الآخرين . ليحظى بالمزيد من الله تعلى فإن من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم . ومن لم يعمل بما علم أوشك الله أن يسلبه علم ما علم.
قال الزرنوجي - رحمه الله - : ( ينبغي لطالب العلم أن يشتغل بالشكر باللسان والجنان والأركان والحال . ويرى الفهم والعلم والتوفيق من الله تعالى ويطلب الهداية من الله تعالى بالدعاء له والتضرع إليه . فإن الله تعالى هادي من استهداه )(3).
وقال ابن القيم - رحمه الله - : ( صحة الفهم وحسن القصد من أعظم نعم الله التي أنعم بها على عبده ، بل ما أُعطي عبد عطاء بعد الإسلام أفضل ولا أجل منهما ، بل هما ساقا الإسلام ، وقيامه عليهما ، وبهما يأمن العبد طريق المغضوب عليهم الذين فسد قصدهم . وطريق الضالين الذي فسدت فهومهم ، ويصير من المنعم عليهم الذي حسنت أفهامهم وقصودهم، وهم أهل الصراط المستقيم ، الذين أمرنا أن نسأل الله أن يهدينا صراطهم في كل صلاة.
وصحة الفهم نور يقذفه الله في قلب العبد ، يميز به بين الصحيح والفاسد والحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، ويمدُّه حسن القصد وتحري الحق ، وتقوى الرب في السر والعلانية ، ويقطع مادته اتباع الهوى ، وإيثار الدنيا ، وطلب محمدة الخلق ، وترك التقوى )(4).
(14) نعمة الشكر :(1/55)
ومن نعم الله تعالى على عبده أن يوفقه لشكر نعمته ، لأن الله تعالى إذا وفق عبده للشكر فقد منحه سبباً بقاء النعم الحاضرة واستجلاب النعم المقبلة . فصار الشكر نعمة تستحق الشكر . لا يطيق أحد من عباد الله أن يشكر الله إلا بنعمته .وقد أشار الإمام الشافعي - رحمه الله - إلى هذا المعنى في صدر كتابه ( الرسالة ) فقال : ( الحمد الله الذي لا يُؤدَّى شكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدِّي ماضي نعمه بأدائها : نعمة حادثة يجب عليه شكره بها )(5).
وما أحسن قول من قال :
إذا كان شكري نعمةَ الله نعمةً
فليس بلوغُ الشكر إلا بفضله
إذا مسّ بالسراء عَمَّ سرورُها
وما منهما إلا له فيه نعمةٌ
عليَّ له في مثلها يجب الشكرُ
وإن طالت الأيام واتصل العمرُ
وإن مسَّ بالضراءِ أعقبها الأجرُ
تضيق بها الأوهام والبرُّ والبحرُ (1)
فهذا معنى لطيف : وهو أن الله تعالى لا يحمد ولا يشكر إلا بتوفيق منه وفضل . فيجب أن يحمد على هذا التوفيق . ثم وجب في الحمد الثاني ما وجب في الحمد الأول ثم إلى ما لا نهاية له . ولذا قال بعض أهل العلم : كل نعمة يمكن شكرها إلا نعمة الله تعالى فإن شكر نعمه نعمة منه ، فيحتاج العبد أن يشكر الثاني لشكر الأول ، وكذا الحال في الثالث والرابع إلى ما لا يتناهى(2) .
إن الله تعالى أمر بالشكر فقال سبحانه : (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ( [ لقمان :14] وأَمْرُهُ لعبده بالشكر إنعام عليه وإحسان منه إليه . إذ منفعة الشكر ترجع إلى العبد في دينه ودنياه وأخراه . لا إلى الله تعالى . والعبد هو الذي ينتفع بشكره ، كما قال تعالى : ( وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ( [ لقمان :12] . فالله جل وعلا هو المحسن إلى عبده بنعمه ، وأحسن إليه بأن أوزعه شكرها . فشُكْرُهُ نعمةٌ من الله أنعم بها عليه تحتاج إلى شكر آخر.(1/56)
ومن تمام نعمته وعظيم بره وكرمه وجوده محبتُه لعبده على هذا الشكر ورضاه به . وثناؤه به . مع أن منفعته مختصة بالعبد ، وهذا غاية الكرم الذي لا كرم فوقه . ينعم عليك ثم يوفقك لشكر النعمة ويرضى عنك ثم يعيد إليك منفعة شكرك ويجعله سبباً لتوالي نعمه واتصالها إليك وزيادتك منها (3).
وما أحسن ما قاله ابن القيم - رحمه الله - : ( النعم ثلاثة : نعمة حاصلة يعلم بها العبد . ونعمة منتظرة يرجوها . ونعمة هو فيها لا يشعر بها ، فإذا أراد الله تمام نعمته على عبده عرَّفه نعمته الحاضرة ، وأعطاه من شكره قيداً يقيدها به حتى لا تشرد . فإنها تشرد بالمعصية ، وتُقَيَّدُ بالشكر ، ووفقه لعمل يستجلب به النعمة المنتظرة وبصّره بالطرق التي تسدها وتقطع طريقها ، ووفقه لاجتنابها ، وإذا بها قد وافت إليه على أتم الوجوه ، وعرّفه النعم التي هو فيها ولا يشعر بها )(4).
ويقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - : ( الله عز وجل أكرم الأكرمين وأجود الأجودين ، فهو يبذل نعمه لعباده ، ويطلب منهم الثناء بها ، وذكرها منهم ، والحمد عليها ويرضى منهم بذلك شكراً عليها ، وإن كان ذلك كله من فضله عليهم ، وهو غير محتاج إلى شكرهم، لكنه يحب ذلك من عباده، حيث كان صلاح العبد وفلاحه وكماله فيه ).
ومن فضله سبحانه أن نسب الحمد والشكر إليهم ، وإن كان من أعظم نعمه عليهم ، وهذا كما أنه أعطاهم ما أعطاهم من الأموال ، واستقرض منهم بعضه، ومدحهم بإعطائه ، والكل ملكه ، ومن فضله ، ولكن كرمه اقتضى ذلك ) (1).
(15) نعمة خلق السموات والأرض:(1/57)
هذه النعمة من أجلّ النعم وأعظم الآيات الدالة على قدرة الله تعالى ، والتي نمر عليها سراعاً دون نظر أو تأمل .. قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ( [ الروم :22] . وقال تعالى : ( اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا( [ الرعد :2] وقال تعالى : ( خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ( [ النحل: 3] وقال تعالى: ( لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ( [ غافر :57].
فالله تعالى خلق السموات وجعلها سقفاً محفوظاً ، وزينها بالنجوم ، وأودعها من الكائنات والمخلوقات ما لا يعمله إلا هو سبحانه وتعالى . ولهذا طالب القرآن بالنظر والتأمل في هذا الخلق العظيم . قال تعالى : ( قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ( [ يونس :101] .
وخلق الله تعالى الأرض وأودع فيها من الخصائص والموافقات الكثيرة التي تلائم حياة الإنسان ،فجعلها مقراً صالحاً لنشأته بحجمها وتركيبها ، وبعدها عن الشمس والقمر بعداً ملائماً للحياة.
وأودع فيها من الأقوات والأرزاق ، ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس البشري وحياته ، وأودع في الإنسان من الخصائص والاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته (2). قال تعالى : ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ( [ الأعراف :10] .(1/58)
وقد جعل الله تعالى الأرض سكناً ، وجعلها فراشاً يتقلب الخلق فيها وينامون عليها . قال تعالى : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً َ( [ البقرة:22] وقال تعالى : ( وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا( [ نوح:19-20] وقال تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ ( [ الملك :15].
يقول ابن القيم - رحمه الله- ( أخبر سبحانه أنه جعل الأرض ذلولاً منقادة للوطء عليها وحفْرها وشَقِّها والبناء عليها، ولم يجعلها مستعصبة ممتنعة على من أراد ذلك منها ، وأخبر سبحانه أنه جعلها مهاداً وبساطاً ,فراشاً وقراراً وكفاتاً وأخبر أنه دحاها وطحاها ، وأخرج منها ماءها ومرعاها ، وثبتها بالجبال ، ونهج فيها الفجاج والطرق.… وأجرى فيها الأنهار والعيون ، وبارك فيها وقدر فيها أقواتها ، ومن بركتها أن الحيوانات كلها وأرزاقها وأقواتها تخرج منها ، ومن بركتها أنها تحمل الأذى على ظهرها ، وتخرج لك من بطنها أحسن الأشياء وأنفعها ، فتواري منه كل قبيح ، وتخرج كل مليح ، ومن بركتها أنها تستر قبائح العبد وفضلات بدنه وتواريها ، وتضمه وتؤويه ، وتخرج له طعامه . وشرابه ، فهي أحمل شيء للأذى ، وأعوده بالنفع ، فلا كان من التراب خيراً منه ، وأبعد من الأذى ، وأقرب إلى الخير .... )(1).
وقد دعا القرآن الإنسان للتفكر في خلق السموات والأرض ، والتبصّر والإتقان . قال تعالى : ( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ(، (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار ِ( [ آل عمران :190-191].(1/59)
ولكن الناس لطول ألفتهم لحياتهم على هذه الأرض ، وسهولة استقرارهم عليها وسيرهم فيها ، واستغلالهم لتربتها ومائها وهوائها وكنوزها وقواها وأرزاقها ، ينسون نعمة الله في تذليلها وتسخيرها ، ولا يفكرون في هذا الخلق العظيم ، ولا يدركون عظمة نعمة الله تعالى إلا بين الحين والحين ، حين يثور بركان أو يمور زلزال ، فَيُقلق هذه الأرض المطمئنة من تحتنا فتضطرب وتمور (2). قال تعالى : (أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ( ( أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ( [ الملك :16-17].
إن على المسلم أن يتفكر في مخلوقات الله ... وأن يوجه نظره إلى هذه الخيرات المودعة في الأرض ، وأن يتأمل في قدرة الله تعالى على إيداعها في هذه الأرض . وأن يشكر الله تعالى عليها بتسخيرها فيما ينفع ويفيد .
(16) نعمة الماء :
الماء أساس الحياة ، وهو من أجلِّ نعم الله على عباده قال تعالى : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}[ الأنبياء : 30] .
إن الماء هو حياة الإنسان والحيوان والنبات ، وهو يدخل في تركيب النبات والحيوان بنسب كبيرة ، وهو الذي يوصل عناصر الغذاء في خلايا الجسم . ويحمل الإفرازات الضارة خارج الجسم . كما يعمل على تلطيف حرارة الجسم وإذابة المواد الغذائية بعد هضمها حتى يتمكن الجسم من امتصاصها.
ويعتبر الماء أساس تكوين الدم ، وسوائل الجسم ، وبينما يستطيع الإنسان أن يعيش أكثر من شهر بدون طعام ، فإنه لا يمكن أن يعيش بدون ماء أكثر من بعضة أيام (3)...(1/60)
وقد ذكر الله تعالى الماء ، وبين مصدره ، ومنفعته للمخلوقات في آيات كثيرة من كتابه الكريم . قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ( [ الأنعام :99] وقال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء مُّبَارَكًا ( [ ق:9] وقال تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُونَ( ( أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ(، ( لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ( [ الواقعة:68-70].
فالماء ينزل من السماء بقدرة الله تعالى على الأرض . وينبت الثمر الحلو ، والثمر المرّ ، والأزهار المختلفة الأشكال والألوان .قال تعالى : ( وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ( [ الرعد:4]. وقال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا( [ فاطر :27].
وإن من نعم الله على عباده إنزال الماء من السماء بحسب الحاجة ، لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران ، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار فيحصل الجدب والمحل . ولا في غير أوانه فيذهب بدداً بلا فائدة . بل بقدر الحاجة إليه من السقي والشرب و الانتفاع به (1).
ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو، ليعم بسقيه وهادها وتلولها ، وظرابها وآكامها ، ومنخفضها ومرتفعها، ولو كان ربها يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر. وفي ذلك فساد ، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها (2).(1/61)
ومن نعم الله تعالى أن أسكن الماء في الأرض . وسلكه ينابيع فيها ، ليستفيد منه الناس شيئاً فشيئاً ، وقد أثبتت النظريات الحديثة أن المياه الجوفية ناشئة من المياه السطحية الآتية من المطر، وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتُحفظ هناك. والقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل معرفة هذه النظريات (3) . قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ( [ المؤمنون :18] وقال تعالى: ( أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ( [الزمر:21].
قال ابن كثير - رحمه الله- : ( أصل الماء في الأرض من السماء ، كما قال تعالى : ( وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء طَهُورًا( [الفرقان :48] فإذا نزل الماء من السماء كَمنَ في الأرض ، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء وينبعه عيوناً ما بين صغار وكبار ، بحسب الحاجة إليها . ولهذا قال تعالى : فسلكه .... [ الزمر :21](4).
وقال سيد قطب - رحمه الله - عند قوله تعالى: ( وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ( [ البقرة :22] : ( ذكرُ إنزال الماء من السماء وإخراج الثمرات به ، ما يفتأ يتردد في مواضع شتى من القرآن ، في معرض التذكير بقدرة الله ، والتذكير بنعمته كذلك . والماء النازل من السماء هو مادة الحياة الرئيسية للأحياء في الأرض جميعاً ، فمنه تنشأ الحياة بكل أشكالها ودرجاتها قال تعالى: ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ( [الأنبياء: 30] ، سواء أنبت الزرع مباشرة حين يختلط بالأرض ، أو كوَّن الأنهار والبحيرات العذبة ، أو انساح في طبقات الأرض فتألفت منه المياه الجوفية ، التي تتفجر عيوناً أو تحفر آباراً ، أو تجذب بالآلات إلى السطح مرة أخرى.(1/62)
وقصة الماء في الأرض ، ودروه في حياة الناس ، وتوقف الحياة عليه في كل صورها وأشكالها .. كل هذا أمر لا يقبل المماحكة فتكفي الإشارة إليه ، والتذكير به ، في معرض الدعوة إلى عبادة الخالق الرازق الوهاب .)(1).
(17) نعمة تسخير النار :
النار في الدار الدنيا من نعم الله تعالى على خلقه وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم في سياق ذكر نعم أخرى . قال تعالى : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ( [ يس :80] وقال تعالى : ( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ( ،( أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِؤُونَ( [ الواقعة: 71-73].
فأخبر تعالى أنه جعل هذه النار تُذكِّر النار الكبرى يوم القيامة. وجعلها لكل طعاماً لا يصلحه إلا النار .
قال ابن كثير- رحمه الله- : ( وهذا التفسير أعم من غيره ، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير ، الكل محتاجون للطبخ والاطلاء والإضاءة وغير ذلك من المنافع ... )(2).
إن النار من أعظم الضرورات لحياة الإنسان في دفئه وطعامه وصناعته . وقد خلق الله تعالى للإنسان المادة التي يشعل بها النار ، والنار مهما تنوعت مادتها التي تشعل منها فهي من فضل الله وعطائه . ومن آياته الدالة على كمال قدرته .
( ومن لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار وخالص الحديد ، بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه ، وبين ثيابه ، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى ، وأوقد ناره فطبخ بها واصطلى ، واشتوى واستأنس بها ، وانتفع بها سائر الانتفاعات، فلهذا أُفرد المسافرون ، وإن كان ذلك عاماً في حق الناس كلهم .... )(3).(1/63)
ومن عظيم قدرة الله تعالى في خلق النار ، أن خلقها على تقدير محكم عجيب ، اجتمع فيه الاستمتاع والانتفاع مع السلامة من الضرر ، خلقها بين الكمون والظهور . لأنها لو كانت ظاهرة أبداً كالماء والهواء لأحرقت العالم. وانتشر خطرها . ولو كانت كامنة لا تظهر أبداً لفاتت المصالح المنزلية على وجودها ، فاقتضت حكمة العزيز العليم أن جعلها مخزونة في الأجسام يخرجها ويبقيها الرجل عند حاجته إليها ، فيمسكها ويحبسها بمادة يجعلها فيها من الحطب ونحوه ، فلا يزال حابسها ما احتاج إلى بقائها ، فإذا استغنى عنها وترك حبسها بالمادة خَبتْ بإذن ربها وفاطرها ، فسقطت المؤنة والمضرة ببقائها . فسبحان الخالق الذي تعرف إلينا بآياته ، وشفانا ببيناته ، وأغنانا بها عن دلالات العالمين(4).
ومن مصالح النار العظيمة هذا المصباح الذي يتخذه الناس للإضاءة ، فيقضون به من حوائجهم ما شاؤوا في ليلهم ، ولو لا ذلك لكان الناس نصف أعمارهم بمنزلة أصحاب القبور ، فمن كان يستطيع كتابة أو خياطة أو صناعة أو تصرفاً في ظلمة الليل الداجي . ثم انظر إلى ذلك النور المحمول في ذُبالة المصباح على صغر جوهره ، كيف يضيء ما حوله كله ، فترى به القريب والبعيد ، ثم انظر إلى أنه لو اقتبس منه كل من يفرض أن يقدر من خلق الله كيف لا يفني ولا ينفد ولا يضعف(1) .
إن هذه النار بمصالحها وفوائدها العظيمة أصبحت أمرا؟ً مألوفاً لا يثير الاهتمام . فضلاً عن أن يورث الشكر لصاحب الفضل والامتنان . والإنسان يوري النار . ولكن من الذي أنشأ وقودها ؟ من الذي أنشأ الشجر الذي توقد به النار ؟ فهل يعتبر العباد ويتذكرون ليشكروا ربهم على فضله وعطائه من غير حول منهم ولا قوة .. ؟؟(1/64)
ومن فوائد النار الجليلة أنها تذكر بنار الآخرة - كما سلف - قال تعالى ( نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً ( [ الواقعة :73] أي: للعباد بنعمة ربهم . وتذكر بنار جهنم التي أعدها الله للعاصين، وجعله سوطاً يسوق به عباده إلى دار النعيم(2) .
وقد ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله (: قال ( ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم " قيل : يا رسول الله . إن كانت لكافية ، قال : فضلت عليهن بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها ")(3).
وعنها أيضاً - رضي الله عنه- عن النبي ( [: إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نا جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد )(4).
(18) نعم تسخير الشمس والقمر والنجوم :
الشمس والقمر والنجوم من آيات الله العظيمة التي خلقها وسخرها لمنافع العباد، ولذا جاء ذكرها في القرآن الكريم في آيات عديدة تذكيراً للعباد بهذه النعمة ، وحثاً لهم على تأملها ، والقيام بشكرها . قال تعالى : ( وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ ( [ إبراهيم :33] وقال تعالى : ( هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ( [ يونس :5] . وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ( [ الأنعام :97] وقال تعالى : ( وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ( [ النحل :16].
إن الشمس من مخلوقات الله العظيمة ، وآياته الدالة على قدرته وعظيم صنعه ، وهي أهم الأجرام السماوية بالنسبة إلينا . إذ نستمد منها الحرارة والضوء . وهما العاملان الأساسيان للحياة على سطح الأرض.(1/65)
يقول ابن القيم - رحمه الله - ( انظروا إلى سير الشمس في فلكها مدة سنة ، ثم هي في كل يوم تطلع وتغرب بسير سخرها له خالقها لا تتعداه ولا تقصر عنه ، ولولا طلوعها وغروبها لما عرف الليل والنهار ولا المواقيت ولأطبق الظلام على العالم أو الضياء ، ولم يتميز وقت المعاش من وقت السُّبات والراحة، وكيف قدر لها السميع العليم سفرين متباعدين:
أحدهما : سفرها صاعدة إلى أوجها.
والثاني : سفرها هابطة إلى حضيضها.
تنتقل في منازل هذا السفر منزلة منزلة ، حتى تبلغ غايتها منه فأحدث ذلك السفر بقدرة الرب القادر اختلاف الفصول من الصيف والشتاء والخريف والربيع ، فإذا انخفض سيرها عن وسط السماء برد الهواء ، وظهر الشتاء، وإذا استوت في وسط السماء اشتد القيظ ، وإذا كانت بين المسافتين اعتدل الزمان ، وقامت مصالح العباد والحيوان والنبات بهذه الفصول الأربعة ، واختلفت بسببها الأقوات وأحوال النبات وألوانه ومنافع الأغذنة وغيرها)(1).
ثم تأمل نعمة الله على خلقه في الخريف والربييع فجعل الخريف برزخاً بين سموم الصيف وبرد الشتاء ،فيعتدل الزمان ، ويصفو الهواء ويبرد ، فلا ينتقل الحيوان وهلة واحدة من الحر الشديد إلى البرد الشديد ، فيجد أذاه ، ويعظم ضرره ، فإذا انتقل إليه بتدريج وترتيب لم يصعب عليه ، وأما الربيع فجعله الله برزخاً بين الشتاء والصيف ، ينتقل فيه الحيوان من برد هذا إلى حر هذا بتدريج وترتيب ، فتبارك الله رب العالمين ، وأحسن الخالقين(2).
وأما القمر فهو يضيء لنا ليلاً ، وتعرف به الأيام والشهور والسنين .قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ( [ يونس:5]. فبالشمس تعرف الأيام وبالقمرتعرف الشهور والأعوام .(1/66)
يقول ابن القيم - رحمه الله - : ( ثم تأمل إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل ، والحكمة في ذلك ، فإن الله تعالى اقتضت حكمته خلق الظلمة لهدوء الحيوان ، وبرد الهواء على الأبدان والنبات ، فتعادل حرارة الشمس ، فيقوم النبات والحيوان ، فلما كان ذلك مقتضى حكمته شاب الليل بشيء من الأنوار ، ولم يجعله ظلمة داجية حندساً لا ضوء فيه أصلاً ، فكان لا يتمكن الحيوان فيه من شيء من الحركة ولا الأعمال ، ولما كان الحيوان قد يحتاج في الليل إلى حركة ومسير وعمل لا يتهيأ له بالنهار ، لضيق النهار أو لشدة الحر أو لخوفه بالنهار كحال كثير من الحيوان ، جعل في الليل أضواء الكواكب ، وضوء القمر ما يأتي معه أعمال كثيرة كالسفر والحرث وغير ذلك من أعمال أهل الحروث والزروع ... وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض مع نقص ضوئه عن الشمس لئلا يستوي الليل والنهار ، فتفوت حكمة الاختلاف بينهما والتفاوت الذي قدره العزيز العليم .. فسبحان من أتقن ما صنع ، وأحسن كل شيء خلقه ...) (3).
وأما النجوم فهي مخلوقات هائلة . خلقها الله تعالى زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات تعرف بها الجهات الأربع ، ويُهتدى بها في ظلمات البر والبحر بحيث يعرف الناس بها صحة سيرهم . وتأمل ما جعل الله تعالى بها من الضوء والنور بحيث تمكن رؤيتها مع البعد المفرط . ولولا ذلك لم يحصل بها الاهتداء والدلالة ومعرفة المواقيت.
وقد أثبتت أبحاث علم الفلك أن ترتيب النجوم لم يتغير وسيظل كما هو. فلم تتغير النجوم عن مكانها ، وأن آلاف السنين لا تحدث أي تغيير في ترتيب النجوم في السماء إلا تلك النقط التي تسمى ( بالسيارات) وبعض النجوم لا يسير إلا مع رفقته ولا يفرد عنهم سيره أبداً ,. وبعضها يسير سيراً مطلقاً غير مقيد برفيق ولا صاحب (1)...(1/67)
قال ابن القيم - رحمه الله - ( فإن قلت فما الحكمة في كون بعض النجم راتباً وبعضها منتقلاً ؟ قيل : إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالة والحكَمُ التي نشأت من تنقلها في منازلها ومسيرها في بروجها ، لولا كانت كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف بها ، ولا رسم يقاس عليها ، لأنه إنما يقاس مسير المتنقلة منها بالراتب كما يقاس مسير السائرين على الأرض بالمنازل التي يمرون عليها ، فلو كانت بحال واحدة لاختلط نظامها ، ولبطلت الحكم والفوائد والدلالات التي في اختلافها ، ولتشبث المعطل بذلك ، وقال : لو كان فاعلها ومبدعها مختاراً لم تكن على وجه واحد ، وأمر واحد ، وقدر واحد، فهذا الترتيب والنظام الذي هي عليه من أدل الدلائل على وجود الخالق وقدرته ، وإرادته وعلمه وحكمته ووحدانيته (2) .
(19) نعمة الليل والنهار:
الليل والنهار من أعجب آيات الله وبدائع مصنوعاته ، ونعمه الجسيمة على عباده ، هما ظاهرتان ضروريتان للإنسان لا غنى عنهما ، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر ، فهما متداخلان .(1/68)
وقد جاء ذكر الليل والنهار في القرآن الكريم في مواضع عديدة ، ليعرف العباد قيمة هذه النعمة ، ويقوموا بشكرها . قال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ( [ فصلت :37] وقال تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ( [ النحل :12] وقال تعالى : ( وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ( [ الإسراء :12] ، وقال تعالى ( اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ( [ غافر :61] ، وقال تعالى ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ( ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِضِيَاء أَفَلَا تَسْمَعُونَ( ( وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ( [ القصص : 71-73].(1/69)
إن من رحمة الله بعباده أن جعل الليل سكينة وقراراً ، والنهار نشاطاً وعملاً ، جعل الليل سكناً ولباساً يغشي العالم ، فتسكن فيه الحركات ، وتأوي الحيوانات إلى بيوتها ، والطير إلى أوكارها ، وتستجد في النفوس ، وتستريح من كد السعي والتعب ، حتى إذا أخذت منه النفوس راحتها وسباتها ، وتطلعت إلى معايشها وتَصرُّفها ، جاء فالق الإصباح سبحانه وتعالى بالنهار يَقْدُمُ جيشه بشير الصباح ،فهزم تلك الظلمة وكشف عن العالم فإذا هم مبصرون (2)...
ولكن الناس لطول الإلف والتكرار وما اعتادوا من كرِّ الجديدين يغفلون وينسون ،فلا يشكرون ، والقرآن الكريم يوقظهم من همود الإلف والعادة ويلفتهم إلى تمليِّ الكون من حولهم ، ومشاهده العظيمة ، فكيف بهم لو دام عليهم الليل سرمداً إلى يوم القيامة - على فرض أنهم ظلوا أحياء - وكيف بهم لو دام عليهم النهار سرمداً إلى يوم الدين - على فرض أنهم ظلوا أحياء - لا ريب أن الحياة كلها لمعرضة للتلف والبوار إن دام عليها الليل أو النهار .
إن الناس يشتاقون إلى الصبح حين يطول بهم الليل قليلاً في أيام الشتاء ، ويحنون إلى الشمس حين تتوارى عنهم فترة وراء السحاب . فكيف لو فقدوا الضياء ؟ ! ويستروحون الظلال حين يطول عليهم الهجير ساعات من النهار ، ويحنون إلى الليل حين يطول النهار بعض الساعات في الصيف ويجدون في ظلام الليل وسكونه الملجأ والقرار . والحياة كلها تحتاج إلى فترة الليل لتجدد ما تنفقه من الطاقة في نشاط النهار ، فكيف بالناس لو ظل النهار إلى يوم القيامة ؟!(1).
وتأمل ما في اختلاف الليل والنهار من الحكم العظيمة ، ففي الشتاء يطول الليل ويقصر النهار ، وفي الصيف يطول النهار ويقصر الليل، ثم اختلافهما في الحر والبرد والوسط ، وما ينشأ عن ذلك من الفصول التي بها انتظام مصالح بين آدم وحيواناتهم ، وجميع ما على وجه الأرض من أشجار ونباتات ..
(20) نعمة الزمن :(1/70)
إن الزمن نعمة عظيمة ومنحة كبرى . ذكرها الله تعالى في مواضع من كتابه . ممتناً بها على عباده ليستفيدوا منها ،قال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا( [ الفرقان:62]. أي : جعل الليل يخلف النهار ، والنهار يخلف الليل ، توقيتاً لعبادة عباده له ، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل(2) .
وقد تقدم حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ )(3) وتقدم حديث ( اغتنم خمساً قبل خمس - ومنها- فراغك قبل شغلك )(4).
إن هذه النصوص تدل بوضوح على عظم هذه النعمة - نعمة الزمن وهو الليل والنهار ، ساعات العمر ولحظاته التي يعيشها الإنسان مدة حياته .ولكن هذه النعمة لا يدرك قدرها ويستفيد منها إلا الموفقون من عباد الله الصالحين، الذين يعرفون قيمة العمر وثمن الحياة ، فالمستفيد من نعمة الزمن هم القلة من خلق الله . وأكثر النار مغبونون.
إن نعمة الفراغ من نعم الله تعالى التي يغفل عنها كثير من الناس ، ويجهلون قدرها ، ولا يقومون بحق شكرها . بل تراهم يقتلون الأوقات، وينفقونها فيما لا نفع فيه ، أو ما فيه ضرر في العاجل أو الآجل .
والمراد بالفراغ خلو الإنسان من المشاغل والمعوقات الدنيوية المانعة من الاشتغال بالأمور الأخروية ، فذلك نعمة جُلّى ولا يدخل في ذلك السعي في طلب الرزق ما دام ذلك لا يعطل عن القيام بحق الله عز وجل .
والأصل في الغبن أن يكون في البيع والشراء والتجارة . وفي هذا الحديث - كما يقول العلامة المناوي - شَبَّهَ المكلف بالتاجر، والصحة والفراغ برأس المال ؛ لكونهما من أسباب الأرباح ؛ ومقدمات النجاح . فمن عامل الله بامتثال أمواره ربح ؛ ومن عامل الشيطان باتباعه ضيع رأس ماله(1).(1/71)
وقال ابن بطال : ( معنى الحديث أن المرء لا يكون فارغاً حتى يكون مكفياً صحيح البدن. فمن حصل له ذلك فليحرص على أن لا يغبن بأن يترك شكر الله على ما أنعم به عليه . ومن شكره امتثال أوامره واجتناب نواهيه ، فمن فرط في ذلك فهو المغبون ) (2).
إن شكر نعمة الزمن أن يستفيد الإنسان من عمره ، ويحذر من إضاعته في المجالس الخاوية ، مجالس القيل والقال ومجالس اللهو والطرب . ويحذر أن يكون أمره فرطاً لا في أمر دينه ، ولا في أمر دنياه ، فتنقضي أيامه ولياليه في سهو وغفلة ، وتنقلب نعمة الفراغ نقمة يشقى بها صاحبها رجلاً كان أو امرأة . ويشتد الضرر ويعظم الخطب إذا اجتمع مع الفراغ شباب وجِدَةٌ . شباب يتدفق حيوية ونشاطاً . وقدرة مالية بها يتمكن الإنسان من تحصيل ما يشتهي .
فعلى كل مسلم أن يكسب الوقت ويستفيد من العمل الصالح، والعمل القاصر والمتتعدي ، ، ويحرص على طلب العلم الذي توفرت سبله ، وتهيأت وسائله بفضل الله تعالى وعليه أن يحذر مما وقع فيه كثير من الشباب من إضاعة أوقاتهم في مجالس الأرصفة الليلية ، أو ميادين الكرة أو الاستراحات، فالوقت هو الحياة فمن عرف حق الوقت فقد أدرك قيمة الحياة.
يقول ابن القيم -رحمه الله- : ( لله على العبد في كل وقت من أوقاته عبوديةٌ تقدمه إليه وتقربه منه ، فإن شغل وقته بعبودية الوقت تقدم إلى ربه ، وإن شغله بهوى أو راحة وبطالة تأخر . فالعبد لا يزال في تقدم وتأخر، ولا وقوف في الطريق البتة. قال تعالى : ( لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ( [ المدثر :37] (3).
ومن نعمة الله تعالى على عبده أن يوفقه لاغتنام الأوقات . والاستفادة من موسم الطاعات ، والحفاظ على نوافل العبادات ، والمحافظة على الآداب والسنن والمستحبات زيادة على فعل الواجبات . فكل ذلك من نعم الله تعالى على عبده التي تستوجب الشكر ، ليحظى العبد بالمزيد من التوفيق والاغتنام ما دام في وقت المهلة.(1/72)
يقول الحافظ ابن رجب - رحمه الله - : ( من حَسُن عمله وكثر ، فإنه ينبغي أن يشتغل بالشكر عليه ، فإن ذلك من أعظم نعم الله على عبده فيجب مقابلته بالشكر عليه ، وبرؤية التقصير في القيام بشكره ، كما كان وهيب بن الورد إذا سئل عن أجر عملٍ من الأعمال يقول : لا تسألوا عن أجره ، ولكن سلوا عما يجب على من هُدي له من الشكر عليه (4).
(21) تسخير الحيوان للإنسان:
أشار القرآن الكريم إلى نعمة خلق الحيوان وتسخيره للإنسان ، وبيان منافعه ،وأن ذلك من آيات الله الدالة على قدرته ورحمته بخلقه . قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ( [ غافر :79-81] وقال تعالى : ( َلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ( [ المؤمنون :21] ، وقال تعالى : ( وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (،( وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ( ، ( وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} ( وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ( [ النحل :5-8].
إن الأنعام من الإبل والبقر والغنم ذات فوائد عظيمة للإنسان يأكل لحمها ويشرب لبنها ، وينتفع بجلودها وعظامها ، وأصوافها وأوبارها وأشعارها، كما أنها زين للإنسان تبهج نفسه وتقر بها عينه.(1/73)
يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى : ( وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً(.( أي : لآية ودلالةً على خالقها نسقيكم مما في بطون هذه الحيوانات ( مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا} أي : يتخلص اللبن بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان فيسري كلّ إلى موطنه ، إذا نضج الغذاء في معدة الحيوان ، تصرَّف منه الدم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع ، وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به ، وقوله تعالى : سائغاً ........أي : لا يغص به أحد . ) (1).
والقرآن الكريم حينما يعرض لنعمة تسخير الحيوانات لنفع الإنسان وينبه إلى ما فيها من تلبية لضرورات البشر ، وتلبية لأشواقهم أيضاً . فهو يدعو إلى تأمل هذه النعم العظيمة ليكون ذلك داعياً إلى شكر الخالق القادر ، المنعم المتفضل الذي سخر هذا الحيوان وذلَّله بما فيه من المنافع . قال تعالى : ( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} ( وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ( [ يس : 71-72 ] . وقال تعالى :( وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ( ( لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ( [الزخرف :12-13 ] وقال تعالى: ( أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ( [ الغاشية :17].(1/74)
وقد نبهت الآيات الكريمة إلى نعم جليلة من نعم الله تعالى في خلق الحيوان ، وهي استعمالها في الركوب والتنقل ، وحمل الأمتعة في زمن كانت وسائل النقل معدومة أو شبه معدومة ، ولن تغني عنها وسائل النقل الحديثة من السيارات والسفن والطائرات وهي من نعم الله - أيضاً - على العباد . لكن قد يعتريها من الخلل ما لا يعتري الحيوان . والحيوان قد يصل إلى أماكن وطرق صعبة قد لا تصل إليها وسائل النقل المعاصر.
كما نبهت الآيات إلى نعمة أخرى ، وهي نعمة الأكل ، ويقول العلم الحديث إن الإنسان يحتاج لحفظ حياته إلى أغذية تتألف من المواد البروتينية ، والمواد الدهنية ، والأملاح المعدنية ، والفيتامينات .
وأعظم مصدر للبروتينات الكاملة هو اللحم واللبن . وأعظم مصدر للمواد الدهنية التي هي أغنى الأغذية في إمداد الجسم بالحرارة هي السمن والزبد واللحم واللبن ، وأول مصدر للمواد المعدنية هو اللبن، وكذلك أهم أنواع الفيتامينات موجودة في اللحم واللبن ..
ومن فضل الله على عباده أن هذا الحيوان يُستهلك في الأكل بكثرة - كما في عصرنا هذا - ومع ذلك فهو ينمو ويتكاثر رزقاً للعباد . فلله الحمد والشكر كما يحب ربنا ويرضى ..
(22) نعمة البحار والأنهار :(1/75)
البحار من آيات الله ، وعجائب مخلوقاته ، أوجدها لمنافع العباد ومصالحهم . وقد جاء ذكرها في القرآن الكريم في آيات كثيرة في معرض الامتنان ؛ لأن فيها من المنافع والمصالح والعجائب مالا يحصيه إلا الله سبحانه ، قال تعالى : ( اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [ الجاثية :12] وقال تعالى : ( وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( [ النحل :14] ....
إن البحار تلبي حاجات الإنسان ، فتقرب القارات بعضها من بعض بواسطة السفن التي تحملها البحار .
وفي البحار اللحم الطري وغيره من الأطعمة . وقد دلت الدراسات الحديثة على أن خيرات اللحم الطري وحدها لو استغلت استغلالاً جيداً لسدت حاجة البشرية كلها ، لأن في البحار ما يقرب من عشرين ألف نوع من الأسماك (1).
والتعبير عن السمك باللحم الطري إشارة - والله أعلم - إلى قلة عظامه بالنسبة لما يصطاد من الأنعام ، وإيذان بكمال قدرته تعالى في خلق الطري في الماء المالح الذي لا يشرب(2) .
ومما يدل على كمال قدرة الله تعالى وعظيم خلقه أن الملايين من الصيادين ينشرون شباكهم في البحر ، ويُخْرِجُونَ كل ساعة الملايين من أطنان الأسماك دون أن يتأثر البحر بصيد هذه الكميات العظيمة .
ثم تأمل الأعماق التي فيها هذه الحيوانات . وأن لكل عمق أصنافاً مميزة موحدة ، وقد اختلفت تراكيبها وأجهزتها(3) .
وفي البحار الحلي واللآلئ ، والمرجان وثروات عظيمة لا يعلمها إلا الله الذي خلقها.(1/76)
وفي البحار تجري الفلك وهي السفن والمراكب ونحوها بما فيها من الركاب والأموال والبضائع التي هي من منافع الناس وبما تقوم به مصالحهم وتنتظم به معيشتهم. قال تعالى: ( وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ( [ البقرة :164] . وهذه السفن هي أيضاً من نعم الله تعالى على عباده، فهو الذي ألهم العباد صنعها . وأقدرهم عليها ، وخلق لهم من الآلالت ما به يعملونها. ثم سخر لهم البحر وما أودعه من خصائص .. من كثافة وعمق وسعة ، تجري فيه السفن بإذنه وتسخيره بلا قائد يقودها ولا سائق يسوقها ، وإنما قائدها وسائقها الرياح التي يسخرها الله لإجرائها ،وكذا غير الرياح التي سخرها الله للإنسان في هذا الزمان ، فإذا حبس عنها القائد والسائق ظلت راكدة على وجه الماء . قال الله تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ( ( إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ( [الشورى:32-33] (1).
والقرآن الكريم حين يذكر هذه النعم العظيمة إنما يحث العباد على تأملها ليشكروا الله تعالى عليها . ولهذا تكرر ذكر الشكر بعد ذكر البحر والفك التي تشق عبابه ، وذكر ما في البحر من خيرات ...
(23) نعم الجبال :
خلق الله تعالى الجبال ، وجعل فيها من المنافع ما هو دليل على قدرة باريها وفاطرها. وقد ذكر الله تعالى الجبال في آيات من القرآن . وبين سبحانه أنها رواسٍ وأوتاد لتثيبت الأرض أن تضطرب . وهذا من فضل الله على خلقه. قال تعالى: ( وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [ النحل: 15] وقال تعالى : ( وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا( [ النبأ: 7] وقال تعالى: ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا( [ النازعات :32].(1/77)
قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى :{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ( [ الأنبياء :31] أي : جبالاً أرسى الأرض بها، وقررها وثقلها ، لئلا تميد بالناس أي تضطرب وتتحرك ، فلا يحصل لهم عليها قرار ، لأنها غامرة في الماء إلا مقدار الربع ، فإنه بادٍ للهواء والشمس ، ليشاهد أهلها السماء وما فيها من الآيات الباهرات ، والحكم والدلالات ، ولهذا قال : ( أَن تَمِيدَ بِهِمْ( لئلا تميد بهم ) (2).
وقال القرطبي في قوله تعالى : ( وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا( ( يعني أثبتها فيها أوتاداً لها ) (3).
وفي الجبال منافع عظيمة ، وقد جاء في حديث إسلام ضِمامِ بن ثعلبة قوله للنبي (: ( بالذي نصب الجبال ، وأودع فيها المنافع آلله أمرك بكذا وكذا ؟ قال : " اللهم نعم " ) (4).
ومن منافع الجبال :
1- أن الثلج يسقط عليها فيبقى في قُللَِها حاصلاً لشراب الناس إلى حين نفاذه ، وجُعل فيها ليذوب أولاً فأولاً ، فتجيئ منه السيول الغريزة وتسيل منه الأنهار والأودية . فينبت في المروج والوهاد والربى ضروب النبات والفواكه والأدوية التي لا يكون مثلها في السهل والرمل . فلولا الجبال لسقط الثلج على وجه الأرض ، فانحل جملة ، وساح دفعة ، فَعُدِم وقت الحاجة إليه ، وكان في انحلاله جملة ضرر على الناس وعلى مصالحهم .
2- ومن منافع الجبال ما يكون في حصونها وقُللها من المغارات والكهوف التي بمنزلة الحصون والقلاع ، وهي أيضاً أكنان للناس والحيوان .
3- ما ينحت من أحجارها للأبنية على اختلاف أصنافها، والأرحية وغيرها .
4- أنها ترد الريح العاصفة ، وتكسر حدتها فلا تدعها تصدم ما تحتها ، ولهذا فالساكنون تحتها في أمان من الرياح العظام المؤذية.
5- أنها ترد عنهم السيول إذا كانت في مجاريها ، فتصرفها عنهم ذات اليمين وذات الشمال ، ولولاها خرّبت السيول في مجاريها ، ما مرت به ، فتكون بمنزلة السَّدِّ والسكن .(1/78)
6- أنها أعلام يستدل بها في الطرقات ، فهي بمنزلة الأدلة المنصوبة المرشدة إلى الطرق . ولهذا سماها الله أعلاماً فقال تعالى : ( وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ( [ الشورى :32] فالجواري هي السفن . والأعلام هي الجبال ، واحدها : عَلَم.
7- ومن منافعها ما ينبت فيها من العقاقير والأدوية التي لا تكون في السهول والرمال . كما أن ما ينبت في السهول والرمال لا ينبت مثله في الجبال ، وفي كلٍّ من هذا وهذا منافع وحكم لا يحيط به إلا الخلاق العليم.
8- ومن منافعها : أنها تكون حصوناً من الأعداء يتحرز فيها عباد الله من أعدائهم كما يتحصنون بالقلاع ، بل تكون أبلغ وأحصن من كثير من القلاع والمدن.
9- ومن منافعها : ما يؤخذ منها من المعادن على اختلاف أصنافها من الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص وغير ذلك من المعادن التي يعجز البشر عن معرفتها بالتفصيل .
وبالجملة ففي الجبال من المنافع والمصالح ما لا يعلمه إلا فاطرها ومبدعها سبحانه . ولهذا دعا الله تعالى في كتابه إلى النظر فيها وفي كيفية خلقها ، فقال تعالى : ( أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ( ، ( وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ(،( وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ( [ الغاشية :17-19] . فسبحان من خلقها وأودعها المنافع لعباده (1).
24) نعمة الطرق :(1/79)
ومن نعم الله تعالى على عباده السبل والطرق التي يمشي فيها الناس بين الجبال ، وبجوار البحار والأنهار ، وفي وسط السهول والوديان ، وهي نعمة يذكرها القرآن في معرض النعم الأخرى ، قال تعالى : ( وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ( [ النحل: 15] وقال تعالى : ( الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى( [ طه :53] وقال تعالى: ( وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ( [ الأنبياء : 31] .
قال ابن كثير - رحمه الله - : ( وقوله : ( وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا( أي : ثغراً في الجبال ، يسلكون فيها طرقاً من قطر إلى قطر ، وإقليم إلى إقليم ، كما هو المشاهد في الأرض ، يكون الجبال حائلاً بين هذه البلاد وهذه البلاد فيجعل الله فيه فجوة - ثغرة - ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا ، ولهذا قال : ( لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ( (2).
وقد جاء في هذه الآيات ذكر الاهتداء في موضعين ، والمعنى - والله أعلم - لعلهم يهتدون إلى الوصول إلى مطالبهم من البلدان ، ولعلهم يهتدون بالاستدلال بذلك على وحدانية الله تعالى (1).
وقد تيسرت الطرق في هذا الزمان - بفضل الله - فَقَرُبَ كل بعيد ، وسَهُلَ كل مقصود ، فصارت الطرق واضحة لا يتيه الإنسان فيها ، سهلة لا يحصل بالسير فيها مشقة كما كانت الحال في الطرق القديمة ، ومع سهولة الطرق تيسرت وسائل النقل - أيضاً - فأصبحت مريحة لا يحسُّ الراكب عليها بأي مشقة ، تقطع المسافات في ساعاتٍ بدل ما كانت وسائل النقل - قديماً - تقطعها في أشهر أو أيام ، كما صارت وسيلة لحمل الأمتعة والأرزاق من مكان إلى آخر .(1/80)
فعلينا أن نشكر الله تعالى على النعم العظيمة ، وأن نستعين بها على طاعته ومرضاته ، لا على مخالفته ومعصيته.
الفصل السادس : التقصير في الشكر وأسبابه
أخبر الله في محكم كتابه أن الخلق عاجزون عن إحصاء نعم الله تعالى عليهم ، فقال عز من قائل : ( وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا( [ النحل:18] وهذا يعني أنهم لن يقوموا بشكر نعم الله تعالى على الوجه المطلوب. لأن من لا يحصي نعمة الله عليه كيف يقوم بشكرها . ولعل العبد لا يكون مقصراً إذا بذل قصارى جهده في الشك بتحقيق العبودية لله رب العالمين على حد قوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ( [ التغابن: 16].
إنما التقصير الذي نعنيه ، أن يتقلب الإنسان في نعم الله تعالى ليلاً ونهاراً ، ظاعناً ومقيماً نائماً ويقظانَ ، ثم يصدر من أقواله وأفعاله أو اعتقاداته مالا يجامع الشكر بحال من الأحوال ، فهذا التقصير الاختياري هو الذي نريد أن نعرف شيئاً عن أسبابه . ثم نأتي بعد ذلك بما فتح الله به من علاج . والتوفيق بيد الله . فمن هذه الأسباب:
السبب الأول : الغفلة عن النعمة :
إن كثيراً من الناس يعيش في نعم عظيمة - عامة وخاصة - لكنه غافل عنها ، لا يدري أنه يعيش في نعمة ، ذلك لأنه ألفها ونشأ فيها . ولم يمرَّ عليه في حياته ضد لها ، فهو يظن أن الأمر هكذا . والإنسان إذا لم يعرف النعمة ويشعر بها كيف يقوم بشكرها ، لأن الشكر مبني على معرفة النعمة واستحضارها وإدراك أنها نعمة أنعم الله عليه بها . قال بعض السلف : ( النعمة من الله على عبده مجهولة ، فإذا فُقدت عُرفت ) (1).(1/81)
إن كثيراً من الناس في زماننا هذا يتقلبون في نعم الله تعالى ، يملأون بطونهم بالطعام والشراب ، ويلبسون أحسن اللباس ، ويتدثرون بأنعم الغطاء ، ويركبون أحسن المراكب ، ثم يمضون لشأنهم ، لا يتذكرون نعمة ، ولا يعرفون لله حقاًّ ، فهم كالدواب تَدُسُّ فمها في مِِزْودها ، فإذا شبعت انصرفت ،وهذا هو حسبها .
والنعم إذا كثرت بتوالي الخيرات وتنوعها غفل الإنسان عن الخالين منها ، وظن أن غيره كذلك ، فلم يصدر منه شكر للمنعم . ولهذا أمر الله تعالى عباده بأن يذكروا نعمه عليهم - كما تقدم - لأن تذكر النعم داع إلى شكرها ، قال تعالى : ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ( [ البقرة :231].
السبب الثاني : الجهل بحقيقة النعمة
من الناس من يجهل النعمة ، لا يعرف حقيقتها ولا يدرك كنهها ، ولا يدري أنه في نعمة ، لأنه لا يدري حقيقة النعم ، بل قد يرى بعض إنعام الله عليه قليلاً لا يستحق أن يطلق عليه نعمة ، ومن لم يعرف النعمة بل كان جاهلاً بها لم يشكرها.
إن من الناس من إذا رأى النعمة مبذولة له ولغيره لم ير أنه مختص بها ، فلا يشكر الله ، لأنه لا يرى أنه في نعمة ما دام غيره في هذه النعمة، فأعرض كثير عن شكر نعم الله العظيمة في النفس من الجوارح والحواس ، وعن نعم الله العظيمة في هذا الكون .
خذ - مثلاً - نعمة البصر، فهي من نعم الله العظيمة التي يغفل عنها الناس فمن الذي يدرك هذه النعمة ويرعى حقها ويقوم بشكرها ؟ إنهم قليلون .
لو عمي إنسان فرد الله عليه بصره بسبب قدَّره الله . هل ينظر إلى بصره في الحالة الثانية كغفلته في الحالة الأولى !؟ ، لا، لأنه أدرك قيمة هذه النعمة بعد فقدها . فهذا قد يشكر الله على نعمة البصر ، ولكنه سرعان ما ينسى ذلك ، وهذا غاية الجهل إذ صار شكره موقوفاً على سلب النعمة ثم ردِّها مع أن الدائم أحق بالشكر من المنقطع أحياناً (1).(1/82)
السبب الثالث : نظر بعض الناس إلى من فوقه
إذا نظر الإنسان إلى من فوقه ممن فُضِّل عليه احتقر ما أعطاه الله تعالى من فضله ، فقصر في وظيفة الشكر ؛ لأنه يرى أن ما أعطيه قليل ، فيطلب الازدياد ليلحق بمن فوقه أو يقاربه . وهذا موجود في غالب الناس . فينشغل قلبه ويتعب جوارحه في طلب اللحاق بمن فضلوا عليه في متاع الحياة الدنيا . فيصير همه جمع الدنيا ويغفل عن الشكر والقيام بوظيفة العبودة التي خلق لأجلها ، وقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله ( قال : ( إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والخَلْقِ فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه ) (2) .
السبب الرابع : نسيان الماضي :
من الناس من مرت به حياة البؤس والعوز ، وعاش أيام الخوف والقلق ، إما في مال أو معيشة أومسكن. ولما أنعم الله عليه وآتاه من فضله لم يشأ أن يعمل مقارنة بين ماضيه وحاضره ليتبين له فضل ربه عليه ، لعل ذلك يكون عوناً له علىشكر النعم ، لكنه غرق في نعم الله الحاضرة ونسي حالته الماضية ، ولذا ترى أناساً عاشوا حياة الفقر في غابر أزمانهم، وهم مقصرون في الشكر بما ترى من أحوالهم .
وعلى الإنسان أن يأخذ درساً مما ورد في الحديث الصحيح (3): أن ثلاثة من بني إسرائيل أراد الله أن يبتليهم أبرص وأقرع وأعمى ، فأظهر الابتلاء حقائقهم التي كانت في عمله من قبل أن يخلقهم ، فأما الأعمى فاعترف بإنعام الله عليه وأنه كان أعمى فقيراً فأعطاه لله البصر والغنى ، وبَذلَ للسائل ما طلبه شكراً لله ، وأما الأقرع والأبرص فكلاهما جحدا ما كانا عليه قبل ذلك من سوء الحال والفقر. وقالا في الغنى : إنما أوتيته كابراً عن كابر . وهذا حال أكثر الناس لا يعترف بما كان عليه أولاً من نقص أو جهل وفقر وذنوب ، وأن الله سبحانه نقله من ذلك إلى ضد ما كان عليه وأنعم عليه بذلك (4).
الفصل السابع : علاج التقصير في الشكر(1/83)
لعلنا إذا عرفنا شيئاً من أسباب التقصير في الشكر أن نشير هنا إلى نبذة مما نراه علاجاً للتقصير في الشكر . ولا سيما الشكر العملي شكر الجوارح . ومن ذلك ما يلي :
1- التأمل في نعم الله تعالى واستحضارها وتذكرها . وأن الإنسان في كل حالة من أحواله في نعمة ، بل ولا يمكن أن يمر عليه لحظة في حياته إلا وهو يتقلب في نعم الله تعالى ، وفي هذا استجابة لأمر الله تعالى بقوله سبحانه : ( وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ( (231) سورة البقرة [ البقرة :231] وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ( [ فاطر : 3] والآيات في هذا المعنى كثيرة .
2- الضراعة إلى الله تعالى بأن يوزع عبده الضعيف شكر نعمته ، والإعانة على القيام بهذه الوظيفة العظيمة التي لا قيام للعبد بها إلا بإعانة الله تعالى ، والضراعة صفة أنبياء الله تعالى ورسله وعباده الصالحين . قال تعالى عن سليمان عليه الصلاة والسلام : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ( [ النمل :19] . وقال تعالى عن العبد الصالح : (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ( [ الأحقاف :15] .(1/84)
وقد أوصى النبي ( معاذ بن جبل - رضي الله عنه - بهذا الدعاء العظيم فقال له وقد أخذ بيده : ( يا معاذ ، والله إني لأحبك، ثم أوصيك يا معاذ لا تدعن دبر كل صلاة أن تقول : اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك ) (1).. وعن أبي هريرة - رضي الله - عن النبي ( قال : ( أتحبون أن تجتهدوا في الدعاء ؟ قولوا : اللهم أعنا على شكرك وذكرك وحسن عبادتك ) (2) .
3- أن يعلم الإنسان أن الله تعالى يسأله يوم القيامة عن شكر نعمه . هل قام بذلك أو قصّر ، قال تعالى : ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}[ التكاثر : 8 ] قال ابن كثير - رحمه الله - : ( أي : ثم لتسألن يومئذٍ عن شكر ما أنعم الله به عليكم من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ماذا قابلتم به نعمه من شكر وعبادة ) (3).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه قال : قال رسول الله (: ( إن أول ما يسأل عنه يوم القيامة - يعني العبد- أن يقال : ألم نًصحَّ جسمك ، ونرويك من الماء البارد )(4).
4- أن يعلم الإنسان يقيناً أن النعم إذا شكرت قرت وزادت ، وإذا كفرت فرت وزالت ، قال تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ( [ إبراهيم :7] فمتى أراد العبد دوام النعم وزيادتها فيلزم الشكر . وبدونه لا تدوم نعمة .
قال الفضيل بن عياض-رحمه الله- : ( عليكم بملازمة الشكر على النعم فقلَّ نعمة زالت عن قوم فعادت إليهم )(1).
5- على ذي النعمة أن ينظر إليها - وإن قلت - بعين التعظيم وإظهار الفاقة لأنها من الله تعالى وقليله لا يقال له قليل . وقد أوصلها إليك فضلاً منه وامتناناً لا باستحقاق منك .(1/85)
ومن الجهل بالنعمة أن يراها الإنسان يسيرة لا تستحق الشكر وبإمكانه أن ينالها ، وهذا فهم سقيم ، فإن كل مطلوب يريده الإنسان لن يكون إلا بتيسير من الله مهما كان صغيراً ، فإذا تحقق فهو من نعم الله عليه لأن حصوله مصحلة لهذا المخلوق الضعيف الذي لايملك لنفسه ضراًّ ولا نفعاً .
6- أن يفكر الإنسان في حاله ويتأمل حياته قبل حصول هذه النعمة ، وكيف كانت حاله آنذاك . وينظر إلى حاله لو كان فاقداً لها ، فإن كان غنياً فإلى حال فقره ، وإن كان صحيحاً فإلى حاله يوم كان مريضاً ، وإن ملك بيتاً فإلى حاله يوم كان لا يملك بل كان يستأجر أو في بيت ضيق لا يرتضيه ، وهكذا كل نعمة ينظر إلى وجود ضدها ليعرف بذلك قدرها فيشكرها .
7- أن ينظر الإنسان إلى من دونه في أمور الدنيا . فإذا فعل ذلك استعظم ما أعطاه الله تعالى وفضله به على غيره ، فلم يعب نعمة ولم ينتقص عطية ، فقام بمحبة الله تعالى وشكره ، وتواضع لربه ، وفعل الخير . فكان من الشاكرين .
وهذا ما أرشد إليه النبي ( بقوله : ( انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم )(2).
فلينظر الإنسان إلى من دونه ممن ابتلي بالفقر المدقع أو الدين المفظع ، ويعلم ما صار إليه من السلامة من الأمرين . فذلك نعمة عظيمة فيشكر ربه .وينظر إلى من ابتلي بالأسقام وينتقل منه إلى ما فُضِّل به عليه من العافية والصحة فيشكر مولاه ويستعمل ذلك في طاعته .
وينظر إلى من في خلقه نقص من عَمًى أو صَمَمٍ أو فَقْدِ عضو ، وينتقل إلى ما هو فيه من السلامة من تلك العاهات التي تجلب الهم والغم وتعوق الإنسان عن كثير من التصرفات ، فيشكر ربه وخالقه ، ويعمل حواسه التي سلمها الله في طاعته وابتغاء مرضاته .(1/86)
وينظر إلى من ابتلي بجمع الدنيا وحطامها ، والامتناع عما يجب عليه من حقوق ، ويعلم أنه فُضل بالإقلال وأنعم عليه بقلة تبعة الأموال التي حلالها حساب وحرامها عقاب . فيشكر الله على سكون قلبه وجمع همه وحصول القناعة .
إن الإنسان إذا وضع نصب عينيه هذا المعنى الجليل الذي اشتمل عليه هذا الحديث الشريف رأى أنه يفوق كثيراً من الخلق في العافية وتوابعها ، وفي الرزق وتوابعه مهما بلغت به الحال فيزول همه وقلقه ، ويزداد سروره واغتباطه بما هو فيه من نعم الله التي فاق فيها غيره ممن هو دونه فيها (1). وما أحسن ما قاله بعض السلف : ( لَنِعمُ الله علينا فيما زوى عنا من الدنيا أفضل من نعمه علينا فيما بسط لنا منها ، وذلك أن الله لم يرضَ لنبيه الدنيا ، فلأَنْ أكون فيما رضي الله لنبيه وأحبَّ له أحبُّ من أن أكون فيما كرهه له وسخطه ) (2).
8- ومما يساهم في علاج تقصير الناس في الشكر التواصي بشكر نعم الله والقيام بحقها ، فإن تذكير الناس بالشكر أمر مطلوب ، لا سيما من صاحب كلمة مسموعة ، كخطيب جمعة وإمام مسجد وغيرهما من واعظ ومحاضر . قال عمر بن عبد العزيز- رحمه الله - : ( تذاكر النعم شكر ) (3).
وقد كان السلف من هذه الأمة - من الصحابة والتابعين - يلهجون بشكر الله تعالى وحمده ، والثناء عليه ، عند كل لُقِيٍّ واجتماع . وما ذلك إلا لاستنارة قلوبهم . ومعرفتهم لنعمة الله تعالى عليهم بل إن بعضهم كان يتقصد لقاء أخيه ، ويسأله عن حاله مع قرب العهد بينهما وما مقصوده من سؤاله أو السلام عليه إلا أن يسمع منه حمد الله تعالى والثناء عليه سبحانه ...(1/87)
وقد جاء ذلك في هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته الشريفة . فقد ورد عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما - قال : (قال النبي ( لرجل : " كيف أصبحت يا فلان ؟ " قال : أحمد الله إليك يا رسول الله . فقال رسول الله (: " هذا الذي أردتُ منك )(4) ومعنى ( أحمد الله إليك ) : أحمد الله معك ، أو أشكر معك أياديه ونعمه . فلفظ ( إلى ) بمعنى ( مع ) .
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال : ( سمعت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - سلم على رجل ، فرد عليه السلام . وقال للرجل : كيف أنت ؟ قال الرجل : أحمد الله إليك ، قال عمر : هذه أردت منك )(5).
وعن علقمة بن مرثد ، عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال ( إنْ كنا لعلنا أن نلتقي في اليوم مراراً ، يسأل بعضنا بعضاً - عن حاله - وإنْ نريد بذلك - أي ما نريد بذلك - إلا الحمد لله عز وجل ) (6).
وهذا العلاج الذي وصفناه إنما ينفع صاحب القلب المبصر الذي يتأمل في نعم الله تعالى . أما القلب البليد الذي لا يعد النعمة نعمة إلا إذا نزل به البلاء فسبيل صاحبه أن ينظر أبداً إلى من دونه لعل الله تعالى أن يوقظه من رقدة الغفلة فيرى نعم الله ويقوم بشكرها(1).
وأول مراتب سعادة العبد أن تكون له أذن واعية ، وقلب يعقل ما تعيه الأذن ، فإذا سمع وعقل تذكر فضل الله عليه. كلما تجددت له نعمة جددها لها شكراً . فهذا على خير وإلى خير .
الفصل الثامن:في ثمار الشكر الدنيوية والأخروية
للشكر جزاء عظيم وثواب عند الله . لأن الشاكر امتثل أمر ربه ، وعرف واهب النعمة ، وأدرك قيمتها ، وأدى حق الله تعالى فيه . فمن شكر الله على كل نعمة قدر استطاعته ، بامتثال المأمور واجتناب المحظور ، فقد عبد الله وأتى بما أُمر به . فاستحق الثواب العظيم .(1/88)
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - : ( الشاكرون أطيب الناس نفوساً ، وأشرحهم صدوراً ، وأقرهم عيوناً ، فإن قلوبهم ملآنة من حمده والاعتراف بنعمه ، والاغتباط بكرمه ، والابتهاج بإحسانه ، وألسنتهم رطبة في كل وقت بشكره وذكره ، وذلك أساس الحياة الطيبة ، ونعيم الأرواح ، وحصول جميع اللذائذ والأفراح ، وقلوبهم في كل وقت متطلعة للمزيد، وطمعهم ورجاؤهم في كل وقت بفضل ربهم يقوى ويزيد ..... ) (1).
وقد دلت النصوص على أن الشاكر إنما يشكر لنفسه ، لأنه هو المنتفع الذي سعى لحياة طيبة في الدنيا . وحياة منعمة في جنة الخلد يوم القيامة . قال تعالى : ( وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ( [ لقان :12] .وقال تعالى :( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ( [ الروم: 44] وقال تعالى : (وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ( [ العنكبوت :6].
إن جزاء الشاكرين منه ما هو معجل في الدنيا ، ومنه ما هو مدخر ليوم الجزاء أحوج ما يكون الشاكر إليه . فمن ثمار الشكر وفوائده :
1- حفظ النعم من الزوال :
إن الشكر قيد للنعم ، يبقيها ويحفظها من الزوال ، وهذا من أعظم آثار الشكر وثماره ، فإن الإنسان يحب بقاء النعم التي هو فيها ويكره زوالها.
وقد دلت النصوص على أن الشكر سبب لبقاء النعم ، وكفرها سبب في زوالها . فقال تعالى (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ( [ إبراهيم :7] والآية تدل بمعناها على أن الشكر بقاء للنعم الموجودة . لأن الزيادة معناها : إضافة نعمة إلى نعمة وهذا ظاهر في سبق نعمة أخرى . فدلت الآية على أن الشكر كما يفيد زيادة النعم المفقودة فهو سبب لبقاء النعم الموجودة .وهذه سنة الله تعالى للخلق ووعده الصادق ، الذي لا بد أن يتحقق على أية حال.
وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ( [ الرعد: 11].(1/89)
فقد دلت الآية على تمام عدل الله تعالى ، وقسطه في حكمه ، بأنه تعالى لا يغير نعمة على أحد ، إلا بسبب ذنب ارتكبه . ومفهوم الآية أن من قام بوظيفة الشكر ، وسار على المنهج القويم ، فلم يغير ولم يبدل فإن الله تعالى يحفظ عليه نعمته ، ويزيده من فضله .
والإنسان يملك أن يستبقي نعمة الله عليه إذا هو عرف النعمة وشكر مسديها وموليها ، ويكون سبباً في زوالها إذا هو كفر وعصى.
* ومن مأثور علي - رضي الله عنه - ( احذروا نِفَار النعم ، فما كل شارد مردود )(2).
* ومن ومن مأثور كلام الحكماء : " من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها ".
…* "الشكر قيد النعم الموجودة ، وصيد النعم المفقودة ".
…* " من جعل الحمد خاتمة للنعمة ، جعله الله فاتحة للمزيد " (1).
2- زيادة النعمة :
وهذا أثر عظيم - أيضاً- من آثار الشكر في الدنيا قبل الآخرة ولا أحبَّ للإنسان من بقاء نعمة هو فيها . وما أطعمه في زيادة ينتظرها ويرجوها ، وقد دل على ذلك قوله تعالى : (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ( [ إبراهيم :7 ].
قال ابن كثير- رحمه الله - ( أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم . ويحتمل أن يكون المعنى : وإذْ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه. كما قال تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ( [ الأعراف: 167] (2).
إن الله تعالى أعلم عباده ووعدهم أنهم إن شكروا نعمته زادهم ، وهذا يتضمن بقاء النعم الموجودة . ووعدُ الله صِدْقٌ . وخزائنه ملأى ، لكن هذا مرتب على أمر واحد وهو الشكر . الشكر بأركانه الثلاثة : شكر القلب واللسان والجوارح ، ولو أن الشكر سبب في بقاء النعم الحاضرة - وما أكثرها وما أعظمها- لكان هذا موجباً للشكر ، وداعياً للعبد إليه . فكيف والشكر كفيلٌ -أيضًا-بالنعم المستقبلة .(1/90)
فالشكر معه المزيد أبداً بنص القرآن . ومتى لم تَرَحالك في مزيد فاستقبل الشكر . فهو سبب للمزيد من فضل الله . وهو حارس وحافظ لنعم الله . ومن مأثور علي رضي الله عنه : ( إن النعمة موصولة بالشكر ، والشكر معلق بالمزيد ، وهما مقرونان جميعاً . فلن ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من العبد ) (3).
3- الجزاء على الشكر :
ومن آثر الشكر الجزاء الذي قال الله تعالى عنه : (وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ( [ آل عمران :144] وقال عز من قائل : ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ( [ آل عمران :145].
قال ابن كثير -رحمه الله -( أي: سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم )(4).
والظاهر -والله أعلم- أن هذا الجزاء يكون معجلاً في الدنيا ، ومؤجلاً في الآخرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، ويُجري عليهم أرزاقهم في الدنيا ويزيدهم من فضله . وذلك لأنه سبحانه وتعالى لم يذكر جزاءهم إلا ليدل ذلك على كثرته وعظمته . وليلعم أن الجزاء على قدر الشكر قلةً وكثرةً وحُسْناً (5).
وقد وقف الله سبحانه كثيراً من الجزاء على المشيئة كقوله تعالى : ( فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء( [ التوبة :28] وقال في المغفرة : ( وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ( [ المائدة :40] وقال في التوبة : (وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاء( [ التوبة :15] وأطلق جزاء الشاكرين فلم يقيده بشيء ، كقوله تعالى : ( وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ( (1).
4- رضا الله عن الشاكر:
ومن آثارالشكر رضا الله تعالى عن عبده ومغفرته له وهو رضا حقيقي يليق بالله تعالى . كما قال النبي (: ( إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها )(2).
وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال : قال رسول الله (: ( من أكل طعاماً فقال : الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة غفر له ما تقدم من ذنبه )(3).(1/91)
والرضا أعظم وأجل من كل نعيم ، قال تعالى: ( وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ( [ التوبة :72] فمن أراد أن يكون ممن رضي الله عنهم فليحمد الله تعالى ويشكره شكراً يظهر على جوارحه وتصرفاته ليحظى بالمزيد من فضل الله وعطائه ومغفرته ورضاه . وهذه سعادة الدنيا والآخرة.
الفصل التاسع : في عاقبة كفر النعمة
لقد ذم الله تعالى في كتابه الكريم من يجحد نعمة ربه وينكر جزيل فضله وإنعامه . قال تعالى : (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ( [ العاديات:6] قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : الكنود : الكفور(1) . وقال الحسن : ( هو الذي يعدد المصائب وينسى النعم )(2) . وإن كنود الإنسان وجحوده لنعم الله تعالى قد يكون بعدم شكرها ، أو بإنكار أن الله واهبها ونسبتها إلى العلم والخبرة والكد الشخصي والسعي. وقد يكون بسوء استخدامها كما تقدم (3).
والله تعالى قد توعد الكافرين بنعمه الجاحدين لها بالعذاب الشديد ،قال تعالى : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ( [ إبراهيم :7] وهذا العذاب قد يكون معجلاً في الدنيا بمحق النعمة وزوالها ، أو تحولها إلى نقمة يشقى بها صاحبها ويحسد الخالين منها . وقد يكون عذاباً مؤجلاً إلى أجله في الدنيا أو في الآخرة ، كما يشاء الله تعالى .
إنه ما من نعمة من نعم الله تعالى يمسك الله معها رحمته لعدم شكرها إلا انقلبت هي بذاتها نقمة وعذاباً . فالمال والولد والصحة والقوة والجاه والسلطان ... تصبح مصادر قلق وتعب ونكد و جهد إذا أُمسكت عنها رحمة الله ، فإذا فتح الله أبواب رحمته لعبده الشكور كان في ذلك كلِّه السكنُ والراحةُ والسعادة والاطمئنان.(1/92)
خذ - مثلاً - المال : فهو نعمة ومتاع ورخاء إذا قام العبد بشكر المنعم به ، ثناءً باللسان ، واعترافاً بالقلب ، وعملاً بالجوارح، فصار رغداً في الدنيا ، وزاداً إلى ثواب عظيم في الدار الآخرة. وقد يكون نقمة على صاحبه يشقى بجمعه . مع ما يصاحب ذلك من قلق وخوف ، فيعذبه الله به في الدنيا لسوء صنيعه وعدم شكر ربه . فيكون الحرمان في الدنيا ببخل أو مرض لا يستفيد معه من هذا المال . أو التلف معه بإفراط أو استهتار ، وهناك في الدار الآخرة : من أين اكتسبته ؟ وفيم أنفقته ؟
إن فتح أبواب الخير وإغداق الأرزاق وتنوع النعم ، ليس دليلاً على الرضا مالم يكن هناك شكر لهذا العطاء وتصرف حسن بهذه النعم ، بل يخشى أن يكون هذا استدراجاً من الله تعلى وإملاء للعبد ومكراً به . ثم تكون الضربة القاضية.
وقد قص الله تعالى علينا من أخبار الأمم الماضية والقرون الخالية ما فيه عبرة وعظة لقد أخذهم الله تعالى وراء ازدهارحضارتهم لما غمرتهم الخيرات وفتحت عليهم الدنيا ، ولكن خلت قلوبهم من الذكر والشكر ,. وفسدت أحوالهم وساءت حياتهم كلها. فأهلكهم الله .
قال تعالى : (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } ( فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ (، ( ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ( [ سبأ:15-17].
وقال تعالى : ( وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ( [ النحل : 112] .(1/93)
إن سنة الله ماضية من أعرض عن شكر الله تعالى وعن العمل الصالح وعن التصرف الحميد في نِعمِ ربه عليه . فهوحري بسلب هذا الرخاء وإبداله بالجوع ، وسلب نعمة الأمن وإبدالها بالخوف . والإنسان إذا نشأ في نعمة ورخاء وأمن ، كيف تكون حياته إذا تحولت إلى جوع وخوف ؟ كيف يعيش حياة الفقر والخوف بعد حياة الرخاء والأمن ؟ ولهذا كان النبي ( يقول: في دعائه : ( اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ، وتححول عافيتك وفُجاءة نقمتك ، وجميع سخطك ) (1).
وقد بين الله تعالى في كتابه عاقبة كفر النعمة . وأن الإنسان لا يغتر بإنعام الله عليه مع إعراضه وجحوده فقال تعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ( ( فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ( ( فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( [ الأنعام :42-45] .
وعن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - عن النبي ( قال : ( إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب ، فإنما هو استدراج " ثم تلا رسول الله (: ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ()(2).
قال أبو حازم - رحمه الله - : ( إذا رأيت الله عز وجل سابغ نعمته عليك وأنت تعصيه فاحذره )(3).
ومن هنا يتبن لكل عاقل أن العبد لا يغتر بما يرى من فتح الدنيا بشهواتها ولذاتها على العصاة والمفسدين . فإن هذا ليس دليل رضا بل هو استدراج ، كما ثبت في السنة المفسرة للقرآن .(1/94)
ويقتضينا الأمر هنا أن نفرق - ونحن ننظر في سنة الله - بين فتح وفتح... يقول القرآن عن الكافرين : ( فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ( [ الأنعام :44] ويقول في المؤمنين : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ( [ الأعراف :96].
فالكافرون يفتح عليهم أبوابُ كل شيء - فتنةً - ولكنهم يحرمون " البركة " التي تفتح على المؤمنين . وإن الواقع الأوربي اليوم لهو مصداق ذلك . فقد حصلت على قدرٍ من كل شيء " لم تحظ به أمة في التاريخ من حيث الحجم . ومع ذلك فانظر في حياتهم : انظر إلى القلق والحيرة والاضطراب والانتحار والجنون والخمر والمخدرات والانحراف والشذوذ ! والنظر إلى تقريراتهم هم التي تقول إن كل هذه آخذة نستبها في الارتفاع ...) (1).
وقال تعالى: ( وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ( ( وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ( [الأعراف : 182-183] . قال سفيان الثوري - رحمه الله - : ( نسبغ عليهم النعم ونمنعهم من الشكر ، كلما أحدثوا ذنباً أُحدثتْ لهم نعمة )(2) .
وهذا واقعنا - اليوم - نعم متنوعة ، وخيرات وفيرة ، وجديدٌ كلّ يوم جديد ، وبالمقابل : فالمعاصي تزيد ، والشر ينتشر ، كفر وإلحاد . ومحادة لله ورسوله (، محاربة للدين ، ونشر للإباحية ، إعانة للفساد، واستعانة بالنعم على معاصي الله ، فالعاقل المتأمل في سنن الله الكونية وما قصَّ الله في القرآن يخشى من العقوبة .يخشى من زوال النعمة وتحويل العافية .(1/95)
وقد دلت النصوص على أن الله تعالى لا يسلب قوماً نعمة أنعمها عليهم حتى يغيروا ما كانوا عليه من الطاعة والعمل الصالح . وما ربك بظلام للعبيد . قال تعالى : ( ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ( [ الأنفال :53] وقال تعالى : ( إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ( [ الرعد:11 ] وقال تعالى : ( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير ٍ( [ الشورى :30].
إن هذه الآيات من كتاب الله الكريم تدل على أمور أربعة لعلنا نقف عليها ليتبين لنا شيء من سنة الله تعالى في عباده ، ونستفيد مما قصَّ الله علينا في القرآن....
الأمر الأول : أن الله تعالى لا يسلب العباد نعمة وهبهم إياها إلا بعد أن يغيروا نواياهم ويبدلوا سلوكهم ويقلبوا أوضاعهم . ويستحقوا أن يُغَيِّر ما بهم مما أعطوا إياه من النعم التي لم يقدِّروها ولم يشكروها .
الأمر الثاني : تكريم الله لهذا الإنسان حيث إن الله تعالى يُنْفذُ قدره ويجريه عن طريق حركة هذا الإنسان وعمله ، فيجعل سبحانه التغيير القدري في حياة الناس مبنياً على التغيير الواقعي في سلوكهم وعملهم.
الأمر الثالث : عدلُ الله تعالى ورحمته بهذا الإنسان الضعيف .فكل مصيبة تصيبه في بدنه وماله وولده وفيما يحب لها سبب مما كسبت يداه من السيئات . ولكن الله تعالى لا يؤاخذه بكل ما يقترف ، وهو يعلم ضعفه وما ركب في فطرته من دوافع تغلبه في أكثر الأحيان فيعفو عن كثير . رحمةً منه سبحانه وتعالى . قال جل ذكره: ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ( [ فاطر :45] .(1/96)
الأمر الرابع : أن هذا الإنسان عليه تبعة عظيمة - مقابل هذا التكريم- فهو يملك أن يسبقي نعم الله عليه . ويملك أن يزاد عليها . إذا عرف فشكر كما يملك أن يزيل هذه النعمة إذا هو أنكر وبطر .
فإن أحسن الإنسان كان إحسانه لنفسه ، لأنه يجني ثماره نعماً ورحمة ، وإن أساء وفرط فعواقب إساءته راجعة إليه فلا يضر إلا نفسه .
أما الأماني الكاذبة ، والضراعات الجوفاء الخالية من توبة نصوح وعمل صالح ، للتخلص من الشرور والآثام .فهذه لا يقام لها وزن في سنن الله تعالى الكونية التي أقامها لعبادة معالم يُهتدى بها(1) .
وهذا التغيير الذي يكون سبباً في زوال النعم والعقوبة العامة أو الآجلة لا يلزم أن يكون تغييراً من المجتمع كله . بل يكون سبباً إذا صدر من بعض الناس ، ومن هنا لزم القيام بالنصيحة لله تعالى ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، كما جاء ذلك في السنة، لئلا يكون العصاة سبباً في عذاب عام ، كما قال النبي ( لما سئل ، أُنهلكُ وفينا الصالحون ؟ قال : ( نعم إذ كثر الخَبَثث ) (2) والخبث : كل معصية عصي الله بها(3).
فعلى المسلمين- ولاة ورعية - أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفي مجتمعهم . وأن يقوموا بما أوجب الله عليهم من وظائف الدين . وأن يبتعدوا عما حرم الله من المعاصي والآثام ، وعليهم أن يقوموا بكل ما فيه صلاح الدين والدنيا . فإن ذلك كفيل - بتقدير الله - بحصول الخير ، واستتباب الأمن ، وسعادة الدارين . وإلا حصلت المخالفة والعصيان وتسليط الولاة بأنواع الظلم وإهمال الحقوق . فلا سعادة لأحد إلا بهذا الدين . ولا ينضبط للناس أمر ولا يصلح لهم حال إلا به .
الفصل العاشر : في شكر الإنسان للإنسان
ورد شكر الإنسان للإنسان في قوله تعالى : ( وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ( [ لقمان :14](1/97)
وقد ذكر المفسرون أنَّ (أن) في قوله : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ( تفسيرية . ويكون ما بعدها بيان للوصية . أي : قلنا له : اشكر لي ولوالديك ، وإنما وُسّط الأمر بشكر الله تعالى مع أن الوصية في الآية مخصوصة بالوالدين ، لبيان - والله أعلم - أن صحة شكرهما متوفق على شكره عز وجل ، وأنه لا يقع موقعه إلا بعد شكر الله تعالى (1). قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : ( ثلاث آيات مقرونة بثلاث ، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها ، فذكر منها قوله تعالى : ( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ( قال : فمن شكر الله ولم يشكر والديه لم يقبل منه )(2).
فالله تعالى أمر بشكره وهو الاعتراف بالنعم الظاهرة والباطنة عموماً وخصوصاً ، مع التحدث بذلك، والاستعانة بها على طاعة المنعم ، مع حبه والخضوع له (3).
وأمر بشكر الوالدين . وهو برهما بخفض الجناح ، ولين الكلام ، وألا ينظر إليهما إلا بعين المحبة والإجلال ، ولا يعلو عليهما في مقال ، إلا أن يريد إسماعهما ، ويبسط أيديهما في نعمته ، ولا يستأثر عليهما في مطعمه ومشربه، ولا يتقدم أحد أباه إذا مشى معه ، ولا يتقدمه في القول في مجلسه ، فيما يعلم أنه أولى به منه ، ويتوقى سخطهما بجهده ، ويسعى في مسرتهما بمبلغ طاقته وإدخالُ الفرح عليهما من أفضل البر ، وعليه أن يسرع إجابتهما إذا دعواه ، أو أحدهما ، فإذا كان في النافلة خففها وتجاوز فيها ، وأسرع إجابتهما ، ولايقول لهما إلا قولاً كريماً )(4).
وشكر الإنسان لمن صنع إليه معروفاً قولياً أوفعلياً ، أو مالياً ولويسيراً ، أو علَّمه أو أفاده فائدة يعد من مكارم الأخلاق ، ومن الآداب الطيبة، التي أمر الله بها ورسوله . وعليها اتفق العقلاء (5).
وقد ورد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي ( قال ( لا يشكر الله من لا يشكر الناس )(6).(1/98)
قال ابن الأثير -رحمه الله - ( معناه : أن الله لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ، ويكفر معروفهم ؛ لاتصال أحد الأمرين بالآخر، وقيل : معناه أن من كان من طبعه وعادته كفران نعمة الناس ، وترك الشكر لهم . كان من عادته كفر نعمة الله تعالى . وترك الشكر له ، وقيل : معناه أن من لا يشكر الناس كان كمن لا يشكر الله وإن شكره كما تقول لا يحبُّني من لا يُحبُّك ، أي : إن محبتك مقرونة بمحبتي ، فمن أحبني يحبُّك ، ومن لم يحبُّك فكأنه لا يحبُّني . وهذه الأقوال مبنية على رفع اسم الله تعالى ونصبه....)(7).
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله ( قال: ( من صنع إليكم معروفاً فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافئتموه ) (1).
وعن جابر - رضي الله عنه- قال : قال رسول الله : (من أُعطيَ عطاء فَلْيَجْزِ به ، ومن لم يجد فَلْيُثْنِ ، فإن من أثنى فقد شكر ، ومن كتم فقد كفر ، ومن تحلى بما لم يُعْطَهُ كان كلابس ثوبي زور )(2) .
وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله ( : ( من صُنِعَ إليه معروفاً ، فقال لفاعله : جزاك الله خيراً ، فقد أبلغ في الثناء )(3).
إن هذه الأدلة أفادت أن شكر الناس إما بالمكافأة على المعروف بمثله . وإما بالثناء على صاحب المعروف. وذكر معروفه وإشاعته والدعاء له .
قل ابن حبان - رحمه الله - : ( الواجب على من أُسدي إليه معروف أن يشكره بأفضل منه ، أو مثله ، لأن الإفضال على المعروف في الشكر لا يقوم مقام ابتدائه وإن قل . فمن لم يجد فليثن عليه ، فإن الثناء عند العدم يقوم مقام الشكر للمعروف وما استغنى أحد عن شكر أحد ... )(4).(1/99)
وقد كان العلماء العاملون من سلف هذه الأمة يترحمون على مشائخهم ، ويدعون لهم ، فدعا الإمام أحمد بن حنبل لشيخه الشافعي . ودعا أبو حنيفة لشيخه حماد ، ودعا أبو يوسف لشيخه أبي حنيفة - رحم الله الجميع - جاء في تاريخ بغداد قول الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - (ما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو للشافعي وأستغفر له) . قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : قلت لأبي : أيُّ رجل كان الشافعي ، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له ؟ فقال : يا بني كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للناس ، فانظر هل لهذين من خلف ؟ أو عنهما من عوض ؟ " (5) .
واعلم أن الله تعالى إذا أوصل إليك نعمة على يد إنسان ، سواء كانت دينية أو دنيوية ، فعليك في ذلك وظيفتان :
إحداهما : أن تشهد انفراد الله تعالى بذلك ، فلا تَرَينَّ النعمة إلا منه وحده ، وترى من سواه ممن أجراها الله على يديه مقهوراً مجبوراً على ذلك، مسلطاً عليه الدواعي والبواعث حتى لم يجد انفكاكاً عنه، وهذا هو حق التوحيد.
الثانية : أن تشكر من وصلت إليك على يده النعمة ، بأن تدعو له وتثني عليه، امتثالاً لأمر الله تعالى ، وعملاً بما جاءت به الشريعة ..(6).
وعلى المسم أن يعلم أنه إذا أحسن إلى من له حق عليه ، أو من ليس له حق فإنما ذلك معاملة مع الله جل وعلا ، فلايطلب الشكر ، ولا يبال بشكر من أنعم عليه . كما قال تعالى في خواص خلقه : ( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا ( [ الإنسان : 9] فالمحسن يفعل الخير ، ويطلب رضا الله تعالى وثوابه ، ولا يبتغي به جزاء من الخلق ولا شكوراً ، فإن صدر الشكر والثناء ممن صنع إليه المعروف ، فهو دليل على كرم خلقه ، وإحساسه المرهف ، وإلا فلا ينبغي أن يكون عدم الشكر سبباً في التقصير أو الامتناع من الإحسان كما قد يفعل بعض الناس .(1/100)
أسأل الله تعالى أن يصلح قادة المسلمين ، وأن يوقظ الناس من غفلتهم . ويمن على الجميع بالهداية وأن يرزقهم شكر نعمه، وأن يديمها عليهم إنه سميع قريب . اللهم صلِّ وسلم على خير خلقك وخاتم رسلك نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحله أجمعين . والحمد لله رب العالمين .
الفهرس
الموضوع.……....................................................……الصفحة
المقدمة …….........................................................
الفصل الأول : في معنى الشكر والحمد الفرق بينهما
الفصل الثاني : في حقيقة النعمة وشيء من مباحثها
1- المبحث الأول..........................................
2- المبحث الثاني : النعمة نوعان
3- المبحث الثالث .....................................
4- المبحث الرابع ........................................
5- المبحث الخامس ........................................
6- المبحث السادس .....................................
الفصل الثالث : في أهمية الشكر ومنلته
1- شكر القلب .....................................
2- شكر اللسان ....................................
3- شكر الجوارح .........................................
الفصل الخامس : في ذكر شيء من نعم الله
1- نعمة الإسلام .....................................
2- نعمة خلق الإنسان .....................................
3- نعمة العمل ...................................
4- نعمة الصحة .................................
5- نعمة الأراق ..............................
6- نعمة اللباس… ................................
7- نعمة المال … ..........................................
8- نعمة البيوت … ...............................
9- نعمة النوم… ..........................................
10- نعمة الأمن… ......................................
11- نعمة الزوجة الصالحة(1/101)
12- نعمة الأولاد ........................................
13- نعمة العلم… ..................................
14- نعمة الشكر ….............................................
15- نعمة خلق السموات والأرض ..............................
16- نعمة الماء …. ..........................................
17- نعمة تسخير النار ............................................
18- نعمة تسخير الشمس والقمر والنجوم ..................
19- نعمة الليل والنهار ....................................
20- نعمة الزمن ..........................
21- نعمة تسخير الحيوان للإنسان ........................
22- نعمة البحار والأنهار ................................
23- نعمة الجبال ..........................
24- نعمة الطرق ..................................
الفصل السادس : التقصير في الشكر وأسبابه
……السبب الأول : الغفلة عن النعمة ............................
……السبب الثاني : الجهل بحقيقة النعمة ..............................
………السبب الثلث : نظر بعض الناس إلى من فوقه ...............
… السبب الرابع : نسيان الماضي ............................
الفصل السابع : علاج التقصير في الشكر
الفصل الثامن : في ثمار الشكر الدنيوية والأخروية
……حفظ النعم من الزوال ...............................
……زيادة النعمة .................................
……الجزاء على الشكر ...........................
… …رضا الله عن الشاكر ............................
الفصل التاسع : في عاقبة كفر النعمة
الفصل العاشر : في شكر الإنسان للإنسان
(1) انظر : الفوائد لابن القيم (ص 48 ترتيبه )
(1) مختار الصحاح ص (344) ، تفسير القرطبي (1/339).(1/102)
(2) رواه الترمذي (3153) وقال : حديث حسن غريب ، وابن ماجه( 4080) ، ورواه أحمد (6/369) ، والحاكم (4/488) وقال صحيح على شرط ا لشيخين . ووافقه الذهبي . انظر تفسير ابن كثير (5/194) والسلسلة الصحيحة رقم (1753) والحديث أصله في الصحيحين وليس فيه هذه الجملة .
(3) النهاية ( 2/494)، لسان العرب (4/424).
(1) الزمخشري في " الفائق " (1/314) وفي تفسيره (1/47) وانظر / المطلع على أبواب المقنع (ص 2).
(2) انظر : غريب الحديث للخطابي (1/346) . شرح السنة (5/50 ، 51 ) . مجموع فتاوى ابن تيمية (11/123) وما بعدها . وعدة الصابرين ص (128).
(1) الوافي ( معجم وسيط ) ص (640).
(2) انظر : الوجوه والنظائر للدامغاني ص (460).
(3) مختصر منهاج القاصدين ص (218) . تفصيل النشأتين وتحصيل السعادتين (ص 128).
(4) تفسير ابن كثير (6/41).
(1) مدارج السالكين (1/13).
(1) جامع الرسائل والمسائل (1/109) مدارج السالكين (1/12) التفسير القيم لابن القيم (232).
(2) أخرجه مسلم (4/2295) بلفظ : ( عجباً لأمر لمؤمن إن أمره كله خير وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته سراء شكر .... ).
(3) جامع الرسائل (2/342).
(1) فتح المجيد ص (365)
(2) انظر إعلام الموقعين (2/164).
(3) رواه مسلم رقم (2808 ).
(1) أنظر في ظلال القرآن (8/332) .
(2) تفسير ابن سعدي (4/111 ).
(3) مجموع فتاوى ابن تيمية (14/ 304 ) ، تفسير ابن سعدي (4/ 204 ) ، في ظلال القرآن (6/ 672 ).
(4) ربيع الأبرار ( 4/ 319 ) .
(1) مدارج السالكين ( 2 / 243 ) .
(1) انظر : في ظلال القرآن ( 5 / 294 ) .
(2) كتاب الشكر ص ( 66 ) .
(3) شفاء العليل لابن القيم ص (61 ) .
(1) شأن الدعاء ص ( 53 - 54 ) .
(2) القول السديد في مقاصد التوحيد ص (137 - 138 ) . وانظر : " المجموع الثمين من فتاوى ابن عثيمين " ( 1 / 106 ) .
(3) تفسير ابن كثير ( 4 / 510 ) .
(4) راجع شفاء العليل ( ص (61 ) .
(1) رواه مسلم رقم ( 127 ) .(1/103)
(2) انظر فتح المجيد ص (327 ) وفيه شرح وافٍ لهذا الموضوع رحم الله كاتبه .
(3) رواه أبو داود رقم ( 5052 ) وصححه ابن حبان وهو في الأذكار للنووي ص (74 ) وقال : إن إسناده جيد ، وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار كما في الفتوحات الربانية ( 3 / 1007 ) والشيخ عبد العيزيز بن باز - رحمه الله - في تحفة الأخيار ص ( 23 ) .
(4) الفتوحات الربانية / 3 / 108 ) .
(5) انظر مدارج السالكين ( 2 / 248 ) .
(6) انظر تفسير ابن كثير ( 8 / 449 ) وتفسير ابن سعدي ( 5 / 430 ) .
(1) رواه أحمد ( 19 /95 الفتح الرباني ) وحسنه الألباني في الصحيحة رقم ( 667 ) .
(2) رواه مسلم رقم ( 2734 ) .
(3) رواه أحمد ( 4 / 238 ) وإسناده حسن ، ونظر : مدارج السالكين ( 2 /246 ) .
(4) انظر تفسير الدوسري رحمه الله ( 2 / 498 ) .
(5) الفوائد ص (234 ) .
(6) فتح الباري ( 3/15 ) .
(7) معيد النعم ص (12 ) .
(1) رواه البخاري ( 8 / 548 ) ومسلم ( 2819 ) .
(2) بر الوالدين لأبي بكبر الطرطوشي ص (97) .
(3) فتح الباري ( 3/ 15 ) . المفهم ( 7 / 139 ) .
(4) رواه البخاري ( 3 / 244 ) ومسلم رقم (1130 ) واللفظ له .
(5) رواه النسائي (2/ 159 ) والسند جيد كما في فتح القدير للشوكاني (4/ 428 ) .
(6) حاشية السندي على النسائي ( 2/ 159 ) .
(1) قصة كعب بن الك رضي الله عنه أخرجها البخاري ( 8 / 113 فتح ) ومسلم رقم (2799 ) .
(2) في مجلة البحوث الإسلامية العدد " السادس والثلاثون " بحث قيم عن سجود الشكر .
(3) دراسات قرآنية لمحمد قطب ص ( 197 ) .
(4) أخرجه البخاري ( 5 / 309 فتح) ومسلم ( 1009 ) . والسلامى :بضم السين المهملة ، وتخفيف اللام : هي المفاصل والأعضاء .
(5) أخرجه البخاري ( 3 / 309 فتح) ومسلم ( 1008 ).
(6) أخرجه مسلم (720 ) وانظر شرح الأربعين للحافظ ابن رجب رحمه الله (الحديث السادس والعشرون ) .
(7) مدارج السالكين ( 2 / 245 ) .(1/104)
(8) رواه ابن أبي الدنيا في الشكر ص ( 11 ) وقال محققه: إسناده صحيح .
(1) عدة الصابرين ص ( 109 )
(2) في ظلال القرآن (5/139 ) .
(1) تفسير الطبري ( تحقيق شاكر ) 1 / 426 ) .
(2) انظر تفسير السعدي (1 /125 -126 )
(3) مجموع الفتاوى ( 16 160 ) .
(1) في ظلال القرآن ( 7 /451 )
(1) انظر مجموع الفتاوى ( 14 /39 ) ، وتفسير الدوسري ( 1 / 279 ) .
(2) رواه الترمذي ( 4 /259 ) وغيره . وقال : حديث سحن صحيح .
(1) انظر في ظلال القرآن (7 / 200 ) .
(2) الشكر في القرآن ص (59 ) .
(3) تفسير ابن سعدي ( 3 / 73 ) .
(4) في ظلال القرآن 8/ 490 ) .
(1) انظر مختصر منهاج القاصدين ص ( 286 ) وكتاب ( الله والعلم الحديث ) ص ( 35 ) وما بعدها .
(2) انظر مختصر منهاج القاصدين ص ( 288 ) .
(3) الفوائد لابن القيم ص ( 337 ) .
(4) أخرجه بتمامه النسائي في " عمل اليوم والليلة " قم ( 401 ، 402 ) ومن طريقه ابن السني في " عمل اليوم والليلة " رقم ( 466 ) ، وأخرجه الترمذي (3502 ) والحاكم ( 1 / 528 ) وقال : " صحيح على شرط البخاري " ووافقه الذهبي !! وفي إسناد : عبد الله بن زَحر . قال عنه في التقريب : صدوق يخطئ . وله متابعة عند الحاكم من طريق الليث بن سعد عن خالد بن أبي عمران به وقد حسنه الترمذي ، والألباني في " الكلم الطيب " رقم ( 225 ) .
(1) العقل وفضله ص (13 ).
(2) تلبيس إبليس ( ص 9 ) .
(3) تفسير ابن كثر ( 6 / 289 ) .
(4 ) رسالة المسترشدين ص (151 - 152 ) وقوله : ( فهو عقل مكيد ) أي مغلوب بالشهوة.
(1) انظر مفتاح الساعادة ومصباح السيادة ص ( 3 / 24 ) المفرات في القرآن ص ( 341 ) .
(2) رواه مسلم رقم ( 2664 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(3) رواه الترمذي رقم ( 3358 ) وابن حبان ( 16 / 364 ) والحاكم ( 4/ 38 ) وقال صحيح الإسناد . ووافقه الذهبي . وذكره الألباني في الصحيحة رقم ( 539 )
(4) أخرجه البخاري ( 11/ 229 ) فتح ) .(1/105)
(5) أخرجه ابن اجه ( 2141 ) وأحمد ( 5/ 272 ) والحاكم ( 2 /3 ) قال في الزوانئد ( 2 / 158 ) : ( إسناده صحيح ورجاله ثقات ) وانظر : الصحيحة رقم 147 ) .
(1) رواه الحاكم ( 4 / 306 ) وابن أبي الدنيا في قصر الأمل موصولاً وعن ابن عباس مرفوعا ، وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين . ورواه لخطيب في اقتضاء العلم العمل ( ص 100 ) مرسلاً عن عمرو بن ميمون . وهومرسل حسن . انظر : تعليق الألباني على الاقتضاء . وانظر : فتح اباري ( 11 / 235 ) .
(2) الذريعة إلى مكار المشريعة ص ( 375 ) . والحديث المذكور أخرجه البخاري ( 8 ، 708 فتح ) ومسلم ( 2647 ) .
(1) عدة الصابرين ص ( 11 ) والغبر : بالتحريك هو الغبار .
(2) الاختيارات ص ( 321 ) .
(3) تفسير ابن كثير ( 5 / 470 ) .
(4) الزهد لابن المبارك من رواية نعيم بن حماد ص ( 51 ) .
(1) انظر رسالة لباس المرأة المسلمة لراقمه .
(2) انظر الفوائد لابن القيم ص ( 324 ) .
(3) أخرجه أبو داود ( 4063 ) والنسائي (8/ 180 ) وأحمد ( 25 /222 ) والحديث صحيح ( صحيح سنن النسائي للألباني ( 3 /1072 ) والأطمار :"الثياب البالية " .
(1) انظر فتح الباري (8/392) .
(2) أخرجه البخاري ( 3 /340 ) فتح ) ومسلم ( 593) في كتاب الأقضية .
(3) انظر : كتاب " زينة المرأة المسلمة " للمؤلف ص ( 25 ) ط 3 .
(4) رواه أحمد ( 4/ 238 ) وإسناده حسن ، وانظر : مدارج السالكين ( 2 / 246 ) .
(1) رواه البخاري رقم (2950 ) .
(2) فتح الباري ( 6 /219 ) .
(3) تفسير ابن سعدي ( 3 / 74 ) .
(4) انظر : في ظلال القرآن ( 5 / 268 ) .
(1) تفسير ابن كثير / 6 / 123 ) .
(1) رواه الترذي رقم ( 2347 ) وحسنه الألباني ( الصحيحة / 5 405 ) وقوله : ( في سربه ) بكسر السين المهملة ، أي في نفسه . انظر النهاية في غريب الحديث ( 2 /356 ) .
(1) انظر : تفسير ابن سعدي ( 7 / 81 ) .
(2) انظر : في ظلال القرآن (6 / 448 ) .
(3) أخرجه مسلم ( 1467 ) .(1/106)
(4) أخرجه ابن حبان ( 9 / 340 ) وإسناده صحيح .
(1) أخرجه أحمد 3 / 158 ) وابن حبان ( ) 338 ) والبيهقي ( 7 / 81 ) وله شاهد من حديث معقل بن يسار ، وعبد الله بن عمرو يتقوى بهما .
(2) أخرجه أحمد ( 2 / 251 ) والنسائي ( 6 / 68 ) والحاكم ( 2 /161 ) وقال الحاكم : إسناده صحيح على شرط مسلم وأقره الذهبي .
(3) تفسيير ابن جرير ( تحقيق شاكر ( 8 / 294 ، 195 ) .
(4) انظر الأمومة في الإسلام ( 1 / 138 ، 139 ) .
(5) تفسير ابن كثير ( 4 / 505 ) وما ورد عن ابن عباس قال عنه الحافظ في فتح الباري ( 8 /386 ) " إسناده صحيح " .
(1) تفسير ابن عباس ومروياته في التفسير ( 2 /535 ) .
(2) أخرجه مسلم ( 1631 ) .
(3) بهجة قلوب الأبرار ص ( 169 - 170 ) .
(4) مفتاح دار السعادة ( 1 / 106 ) .
(1) رواه البخاري رقم ( 71 ) وسلم ( 1037 ) .
(2) فتح الباري ( 1 / 165 ) .
(3) تعليم ا لمتعلم ص ( 107)
(4) إعلام الموقعين ( 1 / 87 ) .
(5) من خطبة الشافعي -رحمه الله - في كتابه الرسالة .
(1) كتاب الشكر لابن أبي الدنيا ( 31 ) .
(2) الذريعة إلى مكارم الشريعة ص (280 ) وكتاب " الفاضل في اللغة والأدب "للمبرد ص ( 95 ) .
(3) مدارج لسالكين ( 2 / 252 ) .
(4) الفوائد ص ( 305 ) .
(1) شرح الأربعين للحافظ ابن رجب ( انظر : الحديث السادس والعشرين ) .
(2) في ظلال القرآن ( 3 / 471 ) .
(1) الفوائد ص ( 37 - 38 ).
(2) انظرفي ظلال القرآن ( 7 / 677 ) ( 8 / 199 ) .
(3) كتاب الشكر في القرآن ص ( 204 ) .
(1) انظر تفسير ابن كثير ( 5 / 464 ) .
(2) انظر مفتاح دار السعادة ( 1 / 223 ، 224 ) .
(3) في ظلال القرآن ( 6 / 20 ) .
(4) تفسير ابن كثير ( 7 / 83 ) .
(1) في ظلال القرآن ( 1 / 52 ) .
(2) تفسير ابن كثير ( 8 / 19 ) .
3) المصدر السابق ( 8 / 20 ) .
(4) مفتاح دار السعادة ( 1 / 215 ) .
(1) مفتاح دار السعادة ( 1 / 216 ) .
(2) تفسير ابن سعدي ( 5 /167 ) .(1/107)
(3) أخجره البخاري ( 6 / 330 فتح ) ومسلم رقم ( 2843 ) .
(4) أخرجه أحمد ( 12 / 280 ) تحقيق الأرناؤوط ومن معه . وابن حبان ( 16 504 ) وإسناده صحيح .
(1) مفتاح دار السعادة ( 1 / 198 ) .
(2) المصدر السابق ( 1 / 208 ، 209 ) .
(3) مفتاح دار السعادة ( 1 / 210 ) .
(1) انظر المصدر السابق (1/ 211 ) ، القرآن والعلم الحديث ص 172 .
(2) مفتاح دار السعادة ( 1 / 212 ) .
(2) انظر مفتاح دار السعادة( 1 / 203 ) .
(1) انظر في ظلال القرآن ( 6 / 369- 370 ) .
(2 تفسير ابن كثير ( 6 / 130 ) .
(3 أخرجه البخاري ( 11 / 229 فتح ) .
(4 ) رواه الحاكم ( 4 / 306 ) وابن أبي الدنيا في قصر الأمل موصولاً عن ابن عباس مرفوعا ً ، وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين . ورواه الخطيب في اقتضاء العلم العمل ( ص 100 ) مرسلاً عن عمرو بن ميمون . وهو مرسل حسن . انظر تعليق الألباني على الاقتضاء .وانظر : فتح الباري ( 11 / 235 ) .
(1) فيض القدير (6 / 375 ) .
(2) فتح البراي ( 11 / 230 ) وانظر : شرح صحيح البخاري " لان بطال ( 10 / 146 ) .
(3) الفوائد ص ( 337 ) .
(4) المحجة لابن رجب ص ( 40 - 41 ) . وانظر : حلية الأولياء ( 8 / 155 ) .
(1) تفسير ابن كثير ( 4 / 499 ) .
(1) الشكر في القرآن ص (207 ) .
(2) روح المعاني ( 14/ 111، 112 ) .
(3) انظر كتاب : " الله والعلم الحديث " ، ص ( 78 ) .
(1) انظر مفتاح دار السعادة ( 1 / 205 ) .
(2) تفسير ابن كثير ( 5 / 333 ) .
(3) تفسير القرطبي ( 20 / 205 ) .
(4) أخرجه البخاري ( 1 / 147 فتح ) - من حديث أنس رضي الله عنه .
(1) انظر مفتاح دار السعادة ( 1 / 218 - 220 )
(2) تفسير ابن كثير ( 5 / 333 ) .
(1) تفسير ابن سعدي ( 3 / 277 ) .
(1) ربيع الأبرار ( 4 / 325 ) .
(1) انظر مختصر منهاج القاصدين ص ( 288 ) .
(2) رواه مسلم رقم ( 2963 ) وانظرجامع الأصول ( 10 / 142 ) .(1/108)
(3) هو حديث أبي هريرة الطويل : ( إن ثلاثة من بني إسرائيل : أبرص وأقرع وأعمى .... ) رواه البخاري برقم ( 3277 ) مسلم رقم ( 2946 ) .
(4) انظر شفاء العليل لابن القيم ص ( 59 ) .
(1) رواه أبو داود رقم ( 1522) والنسائي ( 3/ 53 ) بإسناد صحيح ، قال الحافظ في البلوغ : إسناده قوي ، وانظر شرح ابن القيم لهذا الحديث في كتابه " الفوائد " ص (234 ) .
(2) أخرجه أحمد ( 7969 ) قال الهيثمي (10 / 172 ) : (رجاله رجال الصحيح غير موسى بن طارق وهو ثقة ) ويشهد له حديث معاذ الذي قبله. وقال أحمد شاكر: (إسناده صحيح ) .
(3) تفسير ابن كثير ( 8 / 494 ) .
(4) رواه الترمذي رقم (3358 ) وابن حبان ( 16/ 364 ) والحاكم ( 4 / 38 ) وقال صحيح الإسناد . ووافقه الذهبي . وذكره الألباني في الصحيحة رقم ( 539) .
(1) مختصر منهاج القصدين ص ( 291 ) .
(2) رواه مسلم رقم ( 2963 ) .
(1) انظر سبل السلام ( 4 / 302 ).
(2) عدة الصابرين ص ( 112 ) .
(3) ربيع الأبرار ( 4 / 328 ) .
(4) أخرجه الطبراني في الأوسط ( 5 / 191 ) رقم ( 4374 ) وحسنه الهيثمي في مجمع الزوائد ( 10 /14 ) .
(5) أخرجه ابن المبارك في الزهد ص ( 68 ) .
(6) المصدر السابق ص ( 67 ، 69 ) وانظر رسالة المسترشدين ص ( 141 ) .
(1) راجع مختصر منهاج القاصدين ص ( 290 ) .
(1) الرياض الناضرة ص ( 86 ) .
(2) ربيع الأبرار ( 4 / 318 ) .
(1) ربيع الأبرار ( 4 / 324 ) .
(2) تفسير ابن كثير ( 4 / 398 ) .
(3) كتاب الشكر ص ( 11 ) .
(4) تفسير ابن كثير ( 2 / 110) تفسير الطبري - تحقيق محمود شاكر ( 7 / 263 ) تفسير ابن سعدي ( 1 /277 ) .
(5) انظر تفسير الطبري - تحقيق محمد شاكر ( 7 / 236 ) وتفسير ابن سعدي (1 /277 ) .
(1) انظر مختصر منهاج القاصدين ص ( 76 ) .
(2) رواه مسلم رقم ( 2734 ) .
(3) تقدم تخريجه ص ( ------ ) .
(1) تفسير ابن كثير ( 8 / 488 ) .(1/109)
(2) رواه ابن أبي الدنيا في الشكر ص ( 25 ) قال محققه : إسناده صحيح ،ورواه البيهقي في الشعب ( 2 / 46 ) .
(3) انظر: في ظلال القرآن ( 5 / 139 ) .
(1) رواه مسلم رقم ( 2793 ) .
(2) أخرجه أحمد ( 4 /145 ) ابن جرير في تفسيره ( 11 / 361 ) وذكره الألباني في الصحيحة رقم ( 414 ) .
(3) كتاب الشكر ص ( 15 ) .
(1) دراسات قرآنية ص ( 205 ) .
(2) رواه ابن أبي الدنيا في الشكر ص ( 41 ) وإسناده صحيح .
(1) انظر: في ظلال القرآن ( 4/37) (7/ 290 ) ، سنة الله في المجتمع من خلال القرآن ص (50 ) .
(2) رواه البخاري رقم 3167 ) ومسلم رقم ( 2880 ) .
(3) شرح النووي على صحيح مسلم ( 17 / 220 ) .
(1) انظر روح المعاني ( 12 /86 ) .
(2) انظرالكبائر للذهبي ص (40 ) .
(3) الرياض الناضرة ص ( 244 ) .
(4) الجامع للآداب :لابن عبد البر ص (17 ) .
(5) الرياض الناضرة ص ( 271 ) .
(6) أخرجه أبو داود رقم ( 2970 ) وأحمد ( 7926 ) وإسناده صحيح . وانظر الصحيحة رقم ( 417 )
(7) النهاية ( 2 / 493 ) .
(1) أخرجه أبو داود (1672 ) واللفظ له . وأخرجه النسائي ( 5 / 82 ) وهو حديث صحيح .
(2) ) أخرجه أبو داود ( 4813) والترمذي ( 6/183 تحفة ) وقال " حديث حسن " ، والحديث له طرق : انظر : الصحيحة رقم ( 617 ) ومعنى قوله ( فقد كفر ) أي قد كفر النعمة . قاله الترمذي .
(3) أخرجه الترمذي ( 2035 ) والنسائي في " عمل اليوم والليلة " ( 180 ) وابن حبان ( 3413 ) . وقال الترمذي : حديث حسن . وله شاهد من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أخرجه بن أبي شيبة ( 9 / 70 ) والبزار (933 مختصر زوائده ) وفي إسناده موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف .
(4) روضة العقلاء ونزهة الفضلاء ص (243) .
(5) تاريخ بغداد ( 2 / 66 ) .
(6) شرح الحِكَم لابن عباد ( 2 / 85 ) نقلاً عن كتاب : الشكر في القرآن ص (327 ) .
??
??
??
??
كيف نكون من الشاكرين = = = = = = = = = = = = 12 = = =
12(1/110)