مدخل الكتاب طه جابر العلوانى الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى اله وصحبه ومن تبعه بهديه إلى يوم الدين. وبعد: فإنه ليشرف المعهد العالمى للفكر الإسلامى أن يفتح ملفا ثقافيا متنوع الجوانب للقرآن العظيم، وذلك تحقيقا لرسالة المعهد، التى تقوم على العمل لإصلاح مناهج فكر المسلمين وإعادة بناء النسق الثقافى الإسلامى بتقديم علوم اجتماعية وإنسانية إسلامية معاصرة، والبحث عن المنهج الأمثل للتعامل مع القرآن العظيم، والسنة النبوية المطهرة، وفق خطة محددة تقوم على دعائم أربع: أولاها وأهمها: إعادة استدعاء القرآن العظيم للساحة الثقافية الإسلامية، وإنهاء حالة الهجر والفصام بينه وبين العقل المسلم، وجعله المصدر الأول والأهم للمسلم المعاصر، كما كان كذلك عند السلف، يرجع إليه ليستقى منه العلم والمعرفة الدقيقة السليمة فى نظرته إلى الإنسان والحياة والوجود، فى الفطرة الإنسانية والاجتماعية، فى قضايا الفرد والأسرة والمجتمع، والعلاقات والنظم. والدعامة الثانية: تأصيل منهج فهم السنة والسيرة النبوية، وسبل الاستفادة منهما فى بناء الثقافة والحضارة الإسلامية المعاصرة. والدعامة الثالثة: استيعاب التراث الإسلامى ومناهج فهمه، وتوظيف الصالح الإيجابى منه فى بناء ثقافتنا الإسلامية المعاصرة، واستفادة العبر والدروس من قضاياه والتنبيه إلى سلبياته. والدعامة الرابعة: معرفة الفكر المعاصر ـ الغربى ـ وآليات فهمه، ووسائل استخدامه والاستفادة من الصالح منه، والتنبيه إلى جذوره ومصادره، ونبذ سلبياته، وبناء منهج للتعامل مع ذلك كله.
ص _004(1/1)
فمن الطبيعى ـ والأمر كذلك ـ أن يولى المعهد قضية فهم مناهج القرآن العظيم وطرائق التعامل معه من الاهتمام ما تستحقه، ولذلك تقرر فتح (ملف للقرآن العظيم) تدور الأبحاث فيه ودراساته حول مناهج فهم القرآن المجيد، وكيفية جعله المصدر الأول لثقافة المسلم المعاصر، ومعرفته وعلمه وتوجيهه، وقضايا تفسيره وتأويله، وتصنيفه وتبويبه، وعلاقته بعلوم المسلمين قديما وحديثا وعلاقتها به، وغير ذلك مما يمكن العقل المسلم من العودة إلى التعامل السليم مع القرآن الكريم، ويعيد القرآن العظيم إلى مركز الدائرة فى ثقافة المسلم المعاصر، ومعرفته وحضارته ليستعيد العقل المسلم عافيته، ويسترد القرآن المجيد دوره فى عطائه وإنارته. ولقد رأى المعهد أن يبدأ هذا الملف القرآنى المبارك ببيان مناهج التعامل مع القرآن الكريم، من خلال مدارسة بين الشيخ الجليل محمد الغزالى مستشار المعهد، والأستاذ الفاضل الأخ عمر عبيد حسنة المشرف على إعداد وتحرير "كتاب الأمة"، الذى تفضل مشكورا بإعداد أفكار هذه المدرسة، وصاغ أسئلتها، وفقا لأهداف المعهد وغاياته من فتح هذا الملف، وستتلو هذه الحلقة إن شاء الله تعالى دراسات وأبحاث، تتناول الجوانب المختلفة من هذا الموضوع، الذى نرجو أن نوفق فيه لأداء الواجب الشرعى، وهو تيسير الذكر للمدكرين. وفى إطار هذه الجهود أعد المعهد أيضا مجموعة كبيرة من مرويات السلف فى التفسير، وقيد الطبع منها: "مرويات الإمام أحمد بن حنبل فى التفسير" التى يشرف الأستاذ الدكتور حكمت بشير أستاذ التفسير فى الجامعة الإسلامية فى المدينة المنورة على إصدارها، وستصدر فى مجلدين إن شاء الله. وفى حلقات هذا الملف كتاب: "نظرية المعرفة فى القرآن العظيم "، التى يعكف الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد على إعدادها الآن. وسعيا لتحقيق الهدف الكبير ـ وهو هيمنة القرآن العظيم على العقل الإنسانى وقيادته ـ لهدايته ـ جرت محاولات التكشيف والتصنيف الموضوعى للقرآن(1/2)
العظيم. والمعهد وهو يطوف فى رحاب القرآن العظيم الفسيحة، يود أن يؤكد لأولئك الجاحدين والمعاندين أن أية محاولة فهم للإسلام، أو إصلاح لأحوال المسلمين تتجاوز القرآن العظيم، أو تهجره أو تتخطاه، أو تقرؤه بنفس الأعين التى تقرأ بها ص _005
معلقات امرئ القيس، وطرفة، وعنترة، وخمريات أبى نواس، إنما هى محاولات بائرة خاسرة، لا تحاولها إلا أبصار كليلة وبصائر صدئة. كما أن تلك القراءات التى تقوم على الهذرمة، والقراءة اللغوية، والفهم المعتمد على تردد البصر بين الآية والمعجم اللغوى، والذهن العملى، أو الآلى، لن توصل إلى الوعى الحضارى العمرانى بالقرآن، ولذلك فتح المعهد ملف القرآن العظيم ليكون سلسلة من الأبحاث والدراسات فى القرآن العظيم وحوله، تنتهى بتعليم القراءة المتدبرة التى تهيئ المسلمين للفهم الرسالى للقرآن العظيم، وتخرجهم من إطار الفهم الحرفى الفنى المهنى ـ الذى سنضعه موضعه من الوسائل الفنية للفهم والإدراك الغائبين الشاملين للكتاب المجيد. وتتسم هذه المدارسة بمداخل نقدية عديدة، تبعا لتنوع الموضوعات التى تشملها، فى محاولات يبذلها كل من المتدارسين ـ السائل والمجيب ـ لاستخلاص وعى قرآنى بشروط معرفية، تقارب ضوابط المنهج الذى لا يأخذ بكل ما ورد ضمن الفكر السائد الموروث دون تمحيص وتحليل ونقد. والمدارسة تعمل على استدعاء القرآن فى إطار عالمى متغير، وبشروط وعى جديد، لا ندعى أئه قد اكتمل فى هذه المدارسة، التى تكمن أهميتها فى تصحيح كثير من المفاهيم المتعلقة بالتعامل مع القرآن والموضوعات الإسلامية، كخطوة أولى يؤسس بموجبها الوعى المنهجى الإسلامى المعاصر، فهى مدارسة تأخذ جانب المراجعة والتقويم لموروثنا الإسلامى من زاويته البشرية. وهذه المدارسة لم تتجه لإحداث (قطيعة معرفية) مع موروثات الفكر الإسلامى السائد فى التفسير وغيره بل استصحبت منها ما يمكن توثيقه، مع انفتاح إيجابى على تيارات ومدارس الفكر الإسلامى(1/3)
كافة، خاصة السابقة فى نشأتها على عصور الانحطاط والتخلف والتوقف العقلى. ولا نريد أن نضيف فى هذا المدخل ما سيأتى فى المدارسة المتعددة الموضوعات، أو أن نستبق قضاياها، ولكننا رأينا أن نمهد لهذه المدارسة بتوضيح مشروعنا، ورؤيتنا لطبيعة القرآن العظيم، وما يواجهنا من قضايا فى مجال التعامل معه. لقد استمد العلماء ـ كل فى مجال تخصصه ـ معارف مختلفة من القرآن الكريم، واستندوا إليه بأفهامهم، وعالجوه بطرائق مفهومية شتى، وذلك تبعا لحالات التطور ص _006(1/4)
الفكرى فى سياق التاريخ البشرى، فالذى يقرأ القرآن فى إطار وحدته الكلية غير الذى يقرؤه قراءة انتقائية، تسلخ الآيات عن سياقها الكلى، كما أن الذى ينظر إليه قصصا وتشريعا وترغيبا وترهيبا، غير الذى ينظر إليه جامعا شاملا خالدا مجردا عن حدود الزمان والمكان، يغطى الوجود الكونى وحركته، باعتبار أن القرآن هو المعادل الموضوعى فى الوعى للكون وحركته وعلاقاته، وعبر استمرارية وتغيرات الزمان والمكان. لقد حدد القرآن نفسه مواصفاته باعتباره كلام الله تعالى، وأوضح أنه وحى كامل، يستجيب لما كان من حالات تاريخية سابقة، ويستمر باتجاه المستقبل عبر مختلف العصور: (والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير* ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير). إن هاتين الآيتين تشيران بشكل واضح إلى أن الكتاب الكريم يستمر فى العطاء، ليستجيب لمختلف العصور، وتكون الاستجابة بمكنوناته التى تنكشف طبقا لحالات الاستدعاء الزمانى، فهو متجدد العطاء: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون). ومن خواص القرآن العظيم أنه الوحيد المعصوم من بين جميع الكتب السماوية، ومن خلاله حفظ الله سبحانه ذكر من سبقنا كذلك، فلولا القرآن العظيم لضاع الصحيح السليم من تراث الأنبياء: (إنا نحن نزلنا الذكر * وإنا له لحافظون) فهو المرجع الموثق الوحيد للآخرين وقضاياهم أيضا :(وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون * بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون). (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة(1/5)
ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون) ص _007
فهو الكتاب المهيمن على ما حرف من الكتب السابقة: (ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب). خصائص القرآن عديدة، ويمكن تلمسها فى وحدته الكلية المنهجية خاصة فى ترتيبه التوقيفى، فيما تجاوز مرحلة النزول المجزأ والمرتبط بالمناسبات، فصار لكل سورة عمودها وهدفها الأساسى، ووضح المحور الكلى للقرآن العظيم فى وحدته الكاملة. كما يمكن تلمسها فى الحفظ الإلهى، وتجدد العطاء وتكشف المكنون تبعا للاستدعاء الزمانى، فهو المهيمن على الزمان والمكان والمتغيرات، بما يمنحه من وعى كامل للوجود الكونى وحركته وعلاقاته، إنه وعى الكون كله بما فيه مدركا بكلمات الله، فلا يمكن للماضى أو الحاضر أو المستقبل أن يحيط بوحى الكتاب مطلقا، وإنما يأخذ منه ما يستدعيه عصره بنسبية الظرف التاريخى ومتعلقاته الاجتماعية والحضارية وعبر طرائق فكره. وأهمية هذه الدراسة لا تكمن فى إعادة تفسير أو تأويل، وإنما تكمن فى محاولة تخليص الفكر الإسلامى من شوائب كثيرة، تمهيدا لإحداث النقلة النوعية باتجاه المعرفة والمنهج فى مجتمع إسلامى، لا نقول: إنه قد استوعب المتغيرات الحضارية العالمية الجديدة، ولكنه بدأ فى ذلك، فعالمية الخطاب والفكر والتوجه هى من خصائص الإسلام، الذى أسس أول عالمية دينية بوصف النبى صلى الله عليه وسلم خاتما للأنبياء ورحمة للعالمين، وبوصف القرآن المجيد خاتما للكتب السماوية ومهيمنا عليها. عالمية التوجه مؤصلة فى بنائنا الإسلامى، ولهذا نلمس فى المدارسة انفتاحا حضاريا عالميا، بحيث تمضى المدارسة إلى معالجة أزمات الحضارة العالمية بالإسلام، وبوعى منهجى يصوب منجزات الفكر البشرى المعاصرة، موضحا بذلك هيمنة الإسلام على التجربة البشرية كلها من غير أن(1/6)
يطوع نصوص القرآن بعصرانية مفتعلة!! وفى هذا الصدد نود أن نشير إلى أن شروط الوعى المنهجى المعاصر، الذى نلمس بعضا من دلالاته فى هذه المدارسة، لا يتم بمجرد الانتماء الزمانى لهذا ص _008
العصر، دون انتماء مكانى، فالنمو والتطور ليس مجرد تراكم كمى لمستجدات معاصرة، تضاف أو تلحق ببناء المجتمع القديم، وإنما هو تحول كيفى فى بنية المجتمع الاقتصادية والاجتماعية والفكرية، تستدعى تواصلا جديدا مع القرآن، وبشروط وعى جديد، يكونها هذا الواقع المستجد، فمفهوم المعاصرة، أو المجتمع المعاصر، لا يعنى استمرار المجتمع القديم بأزمته الفكرية فى مرحلة زمنية متقدمة، وإنما يعنى ما يصيب هذا المجتمع من تحول تاريخى، يستحق بموجبه صفة المعاصرة، وفق مقاييسها الموضوعية العالمية الراهنة، التى تمكنه من إعادة وجوده، وفى ذلك إعادة اكتشاف المعنى القرآنى نفسه فى واقع متغير، وعلى هذا الأساس فإن الكثير من مجتمعاتنا العربية والإسلامية قد ترى نفسها معاصرة للعالم بالقياس الزمنى، أى لأنها موجودة فى نطاق هذا العصر، ولكنها لا تعيش فى الواقع حالة عصرية، تنفتح بموجبها على شروط الوعى الحضارى العالمى الجديد، بما فيه من عقلية نقدية وتحليلية، وتطلع إلى ضبط المعرفة بالمنهج ومعالجة مشكلات العصر. إنه نتيجة لهذا الفصام ما بين وجود المجتمعات العربية والإسلامية اليوم بأزمتها الفكرية التاريخية، وانغلاقها وانشدادها إلى الماضى، وكونها تعيش فى حقبة الزمن العالمى المعاصر، أعطاها ذلك شعورا بالمعاصرة من جهة، مع عجزها عن التفاعل المكانى، والزمانى الذى يؤهلها لاكتشاف شروط الوعى العالمى المعاصر من جهة أخرى، ولذلك نجد أن بعض القيادات الفكرية لهذه المجتمعات لا تزال تعيد التأليف فى فكر الواقع التاريخى وحده، وتحاول إعادة إنتاج مراحل سابقة فى مراحل لاحقة دون اكتشاف مضمون المتغير العالمى تاريخيا واجتماعيا، إنها تكتفى بترديد موضوعات السلف الصالح ـ رضوان(1/7)
الله عليهم ـ بما كانوا عليه من اجتهاد فى عصرهم وفى قضاياهم، دون الأخذ بمضمون المتغير التاريخى وضرورة الاجتهاد فى عصرنا هذا، فعوضا من أن نجعل من السلف الصالح قدوة فى الاجتهاد جعلنا منهم نماذج للتقليد. إن المدارسة فى الحقيقة هى محاولة لكسر هذا الطوق، فقد حاولت بعقل العالمين بغايات الدين ومقاصد الشريعة، وبوعى تام على التطورات التاريخية، التى أسرت انطلاقة الفقه الإسلامى بمعناه الشامل للفقه السياسى والدستورى وفقه العلاقات ص _009(1/8)
الاقتصادية والدولية، تحديد كيفية تأثير تلك التطورات التاريخية على موقف الأئمة والتزامهم ناحية فروع الفقه، كما التزم المحدثون برواية السنن وقضايا الإسناد، ومن خلال هذا التطور التاريخى يسعى الشيخ الغزالى لأن يستعيد للفقه مكانته التى تأثرت سلبا بالواقع التاريخى ويكشف هنا عن ثنائيات تعارضت وما كان ينبغى لها ذلك فى ظل الإسلام، كثنائية الحكم والعلم، والفقه والتصوف، والتعارض بين الذين عكفوا على القرآن دون تتبع السنن، أو عكفوا على السنة دون التزام بموازين القرآن، وبمعنى آخر فإن المدارسة تكشف عن توجهات المتدارسين لتحقيق الاستقطاب الموحد لفعاليات الأمة الإسلامية وتوجهاتها ضمن إطار قرآنى جامع، يتجاوز الثنائيات المتعارضة ويتعالى على الجزئيات، وذلك بهدف تحقيق القرآن العظيم لحضارة كاملة: ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) ومن هذا المنطلق جاء التوجه لتأسيس التفسير الموضوعى للقرآن، وبالنظر للسورة القرآنية على أنها وحدة كاملة وانتقاد النظريات التجزيئية. وقد تعرضت المدارسة فى أحد جوانبها إلى قضية (النسخ) فى القرآن، حيثما فسر بعض العلماء النسخ: بأنه انتهاء أحكام بعض الآيات، أو رفعها، وقد انتقدت المدارسة هذا التعريف ورفضته، استدلالا بسياق الآيات وترابطها، وبأقوال بعض العلماء كالشيخ محمد رشيد رضا، والأستاذ محمد الخضر حسين، بأن النسخ يتجه إلى خرق ما كان من معجزات حسية، وقد فرقت المدارسة بين الآيات التكليفية والآيات التكوينية، معتقدة أن النسخ ينحصر فى الآيات التكوينية ولا ينصرف إلى الآيات التكليفية، فالنسخ بهذا المعنى يتناول مرحلة تاريخية نسخت ولا ينصرف إلى آيات تكليفية نسخت، ويعتبر هذا الفهم العلمى مجالا لدراسة أخرى حول الأديان المقارنة، والتشريعات الدينية فى سياق التطور التاريخى للبشرية. ص _010(1/9)
كما أوضحت المدارسة أن الباب مفتوح لدراسات دينية مقارنة، يمكن أن تمهد لاكتشاف عالمية الإسلام وشمولية خطابه، وأن هذه المقارنة سوف تساعد البشرية على اكتشاف خصائص الإسلام. كما حفلت المدارسة بنظرات صائبة متنوعة توجه إلى كيفية التعامل مع القرآن العظيم، بوصفه مصدرا للعلوم الاجتماعية والإنسانية والثقافة والحضارة. إن المعهد العالمى للفكر الإسلامى وهو يقدم هذه المدارسة، ليأمل أن يكون بذلك قد فتح الباب على مصراعيه لدراسات متنوعة يكون محورها القرآن العظيم، تساعد المسلم المعاصر على التزود بالوعى المنهجى، والفكر الموضوعى، والقدرة العلمية على بناء نسقه الثقافى، وتصحيح منهجه الفكرى. جزى الله أستاذنا الشيخ الغزالى على جهوده هذه خير الجزاء، ونفع المسلمين بعلومه وثواقب رأيه وصائب توجيهه، وشكر الله لأخينا الأستاذ عمر عبيد حسنة جهوده المتنوعة فى خدمة الفكر الإسلامى وفى إعداد هذه المدارسة، وبارك فى المتدارسين وفى المستفيدين من مدارستهما، إنه سميع مجيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. جمادى الأولى 1411 هـ نوفمبر 1990 م هيرندن ـ فيرجينيا الولايات المتحدة الأمريكية طه جابر العلوانى رئيس المعهد العالمى للفكر الإسلامى ص _011(1/10)
مقدمة بقلم الأستاذ/ عمرعبيد حسنة الحمد لله الذى خلق الإنسان، علمه البيان، وأنزل القرآن، ويسره للذكر، واستنفر لذلك العقل وجعله مناط التكليف، وأداة النظر والتدبر: (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر)، ونعى على الذين يعطلون عقولهم، ويغلقون نوافذ المعرفة: (ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون)، كما نعى على الذين لا يتدبرون القرآن ويكتفون منه بالقراءة التى لا تتجاوز تراقيهم إلى قلوبهم وعقولهم: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها). وصلى الله على محمد النبى الخاتم، الذى انتهت إليه أصول الرسالات السماوية جميعا، وتجمعت لرسالته تجربة النبوة من لدن آدم عليه السلام، فحمل القرآن بين دفتيه الشهود التاريخى، بما قص من أخبار الأمم السابقة، والشهود الحضارى بما تجسد من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وتمثل فى خير القرون، والشهود المستقبلى بما أصل من قواعد، ووضع من معالم، وكلف من نظر وتدبر فى سنن الله فى الأنفس والآفاق التى هى السبيل للتمكين فى الأرض، والقيام بالشهادة على الناس، والقيادة لهم: (ولتعلمن نبأه بعد حين). وبعد: فواقع معظم المسلمين اليوم مع القرآن مؤرق، وعلاقتهم به يحكمها الهجر والعقوق إلى درجة نخشى معها أن نقول: إن علل الأمم السابقة التى حذر منها القرآن، ونبه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ، تسربت إلى العقل المسلم: (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون)، أى: لا يعلمون الكتاب إلا تلاوة وترتيلا. ص _012(1/11)
قال ابن تيمية رحمه الله : عن ابن عباس و قتادة فى قوله: (ومنهم أميون)، أى غير عارفين بمعانى الكتاب، يعلمونها حفظا وقراءة بلا فهم، لا يدرون ما فيها... وقوله: (إلا أمانى) أى: تلاوة لا يعلمون فقه الكتاب، إنما يقتصرون على ما يتلى عليهم... والأمية العقلية هذه، تسود الأمة فى حال التقليد، والغياب الحضارى، والعجز عن تدبر القرآن، والتعامل مع الأحداث، واتخاذ المواقف، واكتشاف سنن الله فى الأنفس والآفاق، وحسن تسخيرها، ومعرفة كيفية التعامل معها، والنفاذ من منطوق النص وظاهره إلى مقصده ومرماه، والتدخل حين نعلم السنة وأنها تتكرر ولا تتبدل، فنستطيع توجيهها إلى حيث نريد ونفيد، فنصل إلى مرحلة مغالبة القدر بقدر أحب إلى الله، أو نفر من قدر الله إلى قدر الله، كما قال عمر بن الخطاب رضى الله عنه... ويقول ابن القيم رحمه الله: ليس الرجل الذى يستسلم للقدر بل الذى يحارب القدر بقدر أحب إلى الله... (مدارج السالكين، ج 1). ص _013(1/12)
إنها الأمية العقلية التى نعيشها اليوم مع القرآن، والتى تعنى ذهاب العلم على الرغم من تقدم فنون الطباعة، ووسائل النشر، وتقنيات التسجيل.. ولعل فيما يذكره ابن كثير رحمه الله عند تفسير الآية الثالثة والستين فى سورة المائدة، فى الجدال الذى وقع بين الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصاحبه زياد بن لبيد ، مؤشرا دقيقا على الأمية العقلية التى صرنا إليها مع كتاب الله . فعن الإمام أحمد رحمه الله، قال: ذكر النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ شيئا فقال: "وذاك عند ذهاب العلم "، قلنا: يا رسول الله، كيف يذهب العلم ونحن قرأنا القرآن ونقرئه أبناءنا، وأبناؤنا يقرئون أبناءهم؟ فقال: "ثكلتك أمك يا بن لبيد، إن كنت لأراك من أفقه رجل فى المدينة، أو ليس هذه اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشىء؟ " . وقد تكون مشكلة المسلمين كلها اليوم فى منهج الفهم الموصل إلى التدبر وكسر الأقفال من على العقول والقلوب، وتجديد الاستجابة، وتجديد وسيلتها، ليكونوا فى مستوى القرآن، ومستوى العصر، ويحققوا الشهود الحضارى، ويتخلصوا من ص _014(1/13)
الحال التى استنكرها القرآن: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) ، (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب): وهنا قضية، أعتقد أنه من المفيد التوقف عندها ولو قليلا، ذلك أن كثيرا من العاملين فى حقول الفكر والمعرفة، يظنون أن معادلة المسلمين الصعبة اليوم وأزمتهم الفكرية تتمثل فى غياب المنهج، ويجهدون أنفسهم بالبحث والدرس، وتقليب الأمر على وجوه كثيرة، وقد يكون من ذلك التطلع إلى ما عند الآخرين! وفى تصوري: أن الأزمة التى لا نزال نعانى منها، ليست بافتقاد المنهج، فالمنهج (مصدر المعرفة) موجود، ومعصوم، ومختبر تاريخيا.. لكن المشكلة بافتقاد وسائل الفهم الصحيحة، وأدوات التوصيل، وكيفية التعامل مع القرآن.. أى: منهج فهم القرآن والسنة، فالله سبحانه وتعالى يقول: ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا)، ويقول : (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: " لو أن موسى كان فيكم حيا ما وسعه إلا أن يتبعنى" ، وذلك عندما تطلع بعض الصحابة إلى تحصيل المعرفة من التوراة . ونخشى عند التساهل والقبول بأن الأزمة التى تعانى منها أزمة منهج، وليست أزمة فهم للقرآن الذى هو مصدر للمعرفة، عندها قد ينأى بنا السير إلى السقوط فى التعامل مع مناهج أخرى، والافتتان عما نزل إلينا، أو بعضه: ( واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك). لذلك، لابد أن نقرر: بأن الأزمة أزمة فهم، وأزمة تعامل، وأزمة أمية عقلية، صرنا إليها بذهاب العلم (مناهج الفهم) و (وسائل المعرفة). والجهود، فيما نرى اليوم، يجب أن تنصب على منهج الفهم، وإعادة فحص واختبار المناهج القائمة التى أورثتنا ما نحن عليه، والتحرر من تقديس الأبنية ص _015(1/14)
الفكرية الاجتهادية السابقة التى انحدرت إلينا من موروثات الآباء والأجداد والمناخ الثقافى الذى يحيط بنا منذ الطفولة، ويتسرب إلى عقولنا فيشكلها بطريقة التفاعل الاجتماعى، الأمر الذى أدى إلى انكماش الفكر والرؤية القرآنية فى واقع حياتنا، وتحول القرآن من مراكز الحضارة وصناعة الحياة، إلى الركود والتحنط فى بطون التاريخ التى تشكلت فى عصور التخلف والتقليد والتى حالت دون إدراك أبعاد النص القرآنى، والقدرة على تعديته للزمان والمكان، وذلك أن الصورة التى طبعت فى أذهاننا، فى مراحل الطفولة، للقرآن أنه: لا يستدعى للحضور إلا فى حالات الاحتضار والنزع، والوفاة، أو عند زيارة المقابر، أو نلجأ لقراءته عند أصحاب الأمراض المستعصية، وهى قراءات لا تتجاوز الشفاه. ولذلك، اقترنت الصورة الموروثة للقراءة بحالات من الخوف والاكتئاب، ينفر منها الإنسان، ويستعيذ بالله من سماعها.. فإذا تجاوزنا مؤسسات الأمية والعامية التى تشكلت من خلالها تلك الصورة المفزعة للقرآن، إلى مراكز ودروس تعليم القرآن الكريم، رأينا أن الطريقة التى يعلم بها يصعب معها استحضار واصطحاب التدبر والتذكر والنظر، إن لم يكن مستحيلا.. فالجهد كله ينصرف إلى ضوابط الشكل من أحكام التجويد ومخارج الحروف، وكأننا نعيش المنهج التربوى والتعليمى المعكوس.. فالإنسان، فى الدنيا كلها يقرأ ليتعلم، أما نحن فنتعلم لنقرأ! لأن الهم كله ينصرف إلى حسن الأداء.. وقد لا يجد الإنسان أثناء القراءة فرصة للانصراف إلى التدبر والتأمل، وغاية جهده إتقان الشكل.. وقد لا يعيب الناس عليه عدم إدراك المعنى قدر عيبهم عدم إتقان اللفظ! ولا أزال أذكر أننا وبعد عدة سنوات من التعليم، كان مدرس القرآن يراجع بعضنا فى تحسين النطق بأعوذ بالله من الشيطان الرجيم مفتتح القراءة. ونحن هنا لا نهون من أهمية ضبط الشكل، وحسن الإخراج، وسلامة المشافهة، لكننا ندعو إلى إعادة النظر بالطريقة، حتى نصل إلى مرحلة(1/15)
التأمل والتفكر والتدبر التى تترافق مع القراءة، وقد يكون ذلك بأن نبدأ التلقين بالأداء الحسن ابتداء، مع التوجيه اللافت للنظر صوب المعنى، ولا نلتفت إلى ضبط الشكل إلا فى حالات التصويب، ولتكن حالات الاستثناء. ص _016
وقد يكون من أخطر الإصابات التى لحقت بالعقل المسلم فحالت بينه وبين التدبر، وكسر الأقفال، ووضع الأغلال والآصار، والتحقق بالفكر القرآنى والرؤية القرآنية الشاملة، والاغتراف منها لعلاج الحاضر، والامتداد صوب المستقبل، واعتماده مصدرا للمعرفة والبعث الحضارى، التوهم بأن الأ بنية الفكرية السابقة التى استمدت من القرآن فى العصور الأولى، هى نهاية المطاف، وأن إدراك أبعاد النص مرتهن بها، فى كل زمان ومكان، وما رافق ذلك من النهى عن القول فى القرآن بالرأى، وجعل الرأى دائما قرين الهوى، وسوء النية، وفساد القصد. وفى هذا ما فيه من محاصرة للنص القرآنى، وقصر فهمه على عصر معين، وعقل محكوم برؤية ذلك العصر، وحجر على العقل، وتخويف من التفكر، الأمر الذى يحول بين الإنسان والتدبر المطلوب إليه نص القرآن. هذا، علاوة على أن الاقتصار على هذا المنهج فى النقل والتلقى، يحاصر الخطاب القرآنى نفسه، ويقضى على امتداده وخلوده، وقدرته علي العطاء المتجدد للزمن، وإلغاء لبعده المكانى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا)، ولبعده الزمانى: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) وإلغاء التكليف القرآنى من السير فى الأرض، والنظر فى البواعث والعواقب، واستمرار النظر فى الأنفس والآفاق، والاكتشاف المستمر للسنن والقوانين، والتعامل معها فى ضوء العطاء العلمى، والكشوف البشرية فى إطار علوم الكون والحياة: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق). ولعل ترسب هذه القناعة العجيبة الغريبة، هى من الأقفال الأولى التى يجب كسرها لينطلق الفهم من قيوده وأغلاله وآصاره، فيتحقق العقل بالرؤية القرآنية فى أبعاد الحياة(1/16)
المختلفة، وينضح معرفة وحضارة مستمدة من الوحى المعصوم، لأن هذه القناعة إذا استمرت سوف تلغى الحاضر والمستقبل معا، وتسقط عن القرآن صفة الخلود الزمانى، والامتداد المكانى. ومن المفارقات العجيبة حقا للعقل المسلم جرأته على إلغاء التكليف القرآنى بالنظر والتدبر وإسقاطه باجتهاد بشرى، وذلك لعدم إدراكه للنص النبوى ـ البيان القرآنى ـ ص _017
الذى يقرر: أنها قد تتأتى فهوم مستقبلية أكثر وعيا وإدراكا للنص القرآنى: " بلغوا عنى ولو آية " ، " فرب مبلغ أوعى من سامع " ، " فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه " . . . ونحن بهذا، لا ندعو إلى القفز فوق الفهوم التاريخية للقرآن، وهذا الميراث الثقافى الذى يعتبر مفخرة من مفاخر الفكر، والاغتراف من القرآن مباشرة، بمؤهلات وبدون مؤهلات، وإنما نريد أن نحرر العقل من قيوده حيث حرم عليه النظر، وندعو إلى النظر الذى لا يتحقق ولا يتأتى، ولا يستحق أن يسمى نظرا إذا تجاهل الفهوم السابقة، ولعل من أبسط مستلزماته: اصطحاب الاجتهادات السابقة، ولكن لا نقتصر عليها، فلكل عصر رؤيته، فى ضوء مشكلاته ومعطياته . إن الدعوة إلى محاصرة العقل، والحجر عليه، وقصر الفهم والإدراك والتدبر على فهوم السابقين، هو الذى ساهم بقدر كبير فى الانصراف عن تدبر القرآن، وأقام الحواجز النفسية المخيفة التى حالت دون النظر، وأبقى الأقفال على القلوب، وصار القرآن تناغيم، وترانيم. وبدل أن يكون الميراث الثقافى وسيلة تسهل الفهم، وتغنى الرؤية، وتعين على التدبر، أصبح ـ من بعض الوجوه ـ عائقا يحول دون هذا كله... وشيئا فشيئا، تتحول القدسية من القرآن إلى السنة، فنجعل السنة حاكمة على القرآن، ومن ثم انتقلت القدسية لفهوم البشر، وبقى الكتاب والسنة للتبرك . فالمشكلة المستعصية فى اختلاط قداسة النص ببشرية التفسير والاجتهاد لذلك النص، وإدراك مرماه، حيث عُد رأى الشيخ أو المتبوع فى تفسير نص ما أو فهمه، هو الأمر الوحيد، والممكن،(1/17)
والمحتمل، والأكمل لمدلول ذلك النص، وصار أى ص _018
رأى أو احتمال آخر، خروجا عن الإجماع أو نوعا من الابتداع! وقد لا نستغرب فى هذا المناخ أن ينتهى بعض الفقهاء والأصوليين إلى القول: (كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا، فهو مؤول أو منسوخ)! وهذا القول منسوب لأبى الحسن الكرخى من الأحناف. وقد يكون هذا واقع العقل المسلم لكثير ممن سيطر عليهم مناخ التقليد الجماعى، وإن لم يصرحوا به، وأصبح كف العقل عن فهم وتدبر القرآن، مناخا عاما يصعب الانفلات منه. وجاءت ثمرة ذلك: مجاهدات عقلية، وجهود فكرية غير مجدية، استغرقتها مسائل الفروع التى كتبت فيها مئات المؤلفات من المتون، والحواشى، والشروح، والاختصارات، وضاعت بذلك مقاصد الدين. وحوصر امتداد القرآن والسنة عن شعب المعارف الأخرى، كما توقف الامتداد فى بعدى الزمان والمكان، وانطفأت بذلك جذوة العقل السليم، وتجمدت قيم الدين ومقاصده فى مجال الشورى، والعدل الاجتماعى، والمساواة والحرية، وغاب الفقه القرآنى بمعناه الشامل ليقف عند حدود الحل والحرمة لبعض الفرعيات، وقطعت الرؤية القرآنية الشاملة، وسادت النظرات الجزئية، وعم العجز، وتوقفت النظرة الموضوعية لتخلى مكانها للرؤى الموضعية. لقد أورثنا مناخ التقليد الجماعى الذى عطل فينا ملكة الاجتهاد، والإبداع، والإنجاز لقرون طويلة نوعا من العجز المزمن، جعلنا دون سوية التعامل مع القرآن، وإدراك سننه فى الأنفس والآفاق، والاقتصار على بعض مئات من الآيات نظر فيها الأقدمون على أنها آيات الأحكام التشريعية.. ولا نزال، إلى اليوم، نبدى فيها ونعيد من خلال ميراث الفقهاء وليس من خلال موقعها من الرؤى القرآنية حيث للآيات مقاصد عدة: تربوية، واجتماعية، ونفسية، وكونية، ومنبهات حضارية، ووسائل الكشف العلمى حيث لا يخرج الحكم التشريعى عن أن يكون واحدا منها. ص _019(1/18)
ويمكن أن نقول بأن العجز لحق أيضا بطريقة التعامل مع آيات الأحكام نفسها التى أخذت هذا الجهد، وتلك المساحة من الميراث الثقافى، وأصبحنا أتباعا مقلدين، غير قادرين ليس فقط على تجاوز فهم السابقين والامتداد بالآيات إلى آفاق إضافية، وإنما عاجزين أيضا عن الإتيان بمثال آخر غير ما جاء به الأقدمون، وهذا من أشنع حالات التقليد. وكما أن مناخ التقليد الجماعى جعلنا عاجزين عن الامتداد، ودون سوية التعامل مع القرآن، فكذلك أصبحنا ـ بذلك ـ دون سوية التعامل مع الواقع المعاصر، لأننا أوقفنا عطاء القرآن للزمن، وهو المتغير السريع، وحاولنا التفاهم معه بفهوم عصر آخر يختلف فى طبيعته، ومشكلاته، وعلاقاته، ومعارفه عن عصرنا، وأعطينا صفة القدسية والقدرة على الامتداد والخلود لاجتهاد البشر، ونزعنا صفة الخلود والامتداد عن القرآن، عمليا وإن كنا نرفضها نظريا، كما أسلفنا. وكلون من التعويض عن العجز فى الامتداد بالرؤية القرآنية، والتعامل مع العصر ـ الشهود الحضارى ـ ما نراه اليوم من التوسع فيما اصطلح على تسميته: "الإعجاز العلمى فى القرآن "، على الرغم من التحفظات على هذه التسمية لدى كثير من علماء المسلمين الذين يرون أن ميدان الإعجاز ليس المجال العلمى أصلا، فالعلم فى تقدم وتطور مستمر، وقد بلغ اليوم شأوا واسعا، وكلما تقدمت الأيام، وتراكمت المعارف، وتقدمت الحقيقة العلمية أكثر.. وخلود الرسالة يعنى، فيما يعنى، خلود المعجزة، وعدم قدرة الإنسان على الإتيان بمثلها فى كل زمان ومكان. وأظن أن تطبيق هذا فى مجال الإعجاز العلمى سيؤدي إلى كثير من المفارقات والتمحلات.. والقرآن كتاب هداية، وليس كتاب " تكنولوجيا ".. ولا أحد يستطيع أن ينكر أن القرآن عرض لبعض الحقائق العلمية، ولفت نظر الإنسان إليها ليحقق هدفه فى الهداية، وينبه الإنسان إلى وسائل التعمير وبناء الحضارة ويفتح طريق البحث العلمى أمام المسلمين، وإن كثيرا مما ذكر من الحقائق لم(1/19)
تكن معروفة فى عصر نزول القرآن، وأن العلم أثبتها بعد آماد طويلة. وقد تؤكد المعارف العلمية كل يوم، ما يكسبنا الاطمئنان إلى صحة النص القرآنى ولا شك أن الحقائق العلمية التى عرض لها القرآن فى عصر الأمية العلمية، ص _020
تعتبر من دلائل النبوة، وبرهان صدقها، أما تسميتها "إعجازا"، فالأمر ليس بهذه السهولة والبساطة، على الرغم من أن القرآن وضع العقل البشري فى المناخ العلمى، ووفر له الإسلام الشروط والظروف المطلوبة.. فموضوع القرآن: صياغة الإنسان، ووظيفة الإنسان: القيام بأعباء الاستخلاف، والإعمار عن طريق اكتشاف سنن التسخير، وحسن التعامل معها. لذلك، طلب القرآن: النظر، والتدبر، والملاحظة، والاختبار، وإدراك علل الأشياء، وأسبابها، وامتد فى ذلك إلى استشراف المستقبل : (ولتعلمن نبأه بعد حين) والمسلمون اليوم مطمئنون إلى صدق النبوة، وصحة النص، وإن احتجنا اليوم لهذا اللون من الطرح، فقد يكون مفيدا مع غير المسلمين. وأخشى ما أخشاه، أن يستغنى المسلمون اليوم عن محاولة الإبداع والإنجاز العلمى فى مختلف الميادين فى ضوء هداية القرآن، والاستنفار لذلك، بالكلام عن الإعجاز العلمى كلون من التعويض. إذ نرى بعض مسلمى اليوم كلما اكتشفت نظرية، أو حقيقة علمية على يد غير المسلمين، يجهدون أنفسهم ـ عن حسن نية ـ فى التدليل على أن القرآن عرض لها، وأثبتها قبل العلم! وأعتقد أن هذا دليل للواقع المتخلف والعاجز، فإذا كان القرآن قد عرض لها، فما بال المسلمين لم يفقهوها؟ لذلك، نخشى أن ينقلب موضوع الإعجاز العلمى المعاصر من منبه حضارى مؤرق، إلى صورة من التفاخر والتظاهر المعوق، وتكريس التخلف والأمية العقلية. وقضية أخرى، نرى أنه لابد من أن نعرض لها فى هذه المقدمة، وهى: أن لكل علم من العلوم الإنسانية والتجريبية، مناهج، وآلات، وتقنيات خاصة لفهمه وإدراكه، حتى إننا نرى اليوم، لكل شعبة أدوات خاصة لفهمها فى مجال العلم الواحد. ففى مجال(1/20)
النقد الأدبى، مثلا، هناك مناهج متعددة، وفى مجال التربية، والأخلاق، والتاريخ، والسياسة والاجتماع... إلخ، أصبح لكل علم أدواته وآلات فهمه، ولكل منهج خصائصه وشروطه وميزاته، ولكل معرفة وسيلتها التى توصل إليها. ص _021
ومن هنا نقول: إن منهج علماء الأصول، على دقته وعبقريته فى استنباط الحكم التشريعى من آيات الأحكام، لا يمكن أن يعتمد ليكون وسيلة علماء التاريخ والاجتماع، والسياسة.. الخ. بل بإمكاننا القول: إن هذا المنهج، على دقته، قد يكون مفسدا للنتائج والحقائق لو استعمل فى غير ميدانه الذى وضع له، على الرغم من بعض التلاقى والأدوات المشتركة أحيانا فى ميدان العلوم المتجانسة. والمطروح بإلحاح: كيف يمكن التعامل مع القرآن، وتدبر آياته، والإفادة من معطيات العلوم وآلات فهمها، ليكون القرآن مصدر المعرفة، وفلسفتها فى شعاب العلوم الاجتماعية جميعا؟ حيثما لابد لنا من العودة إلى القرآن كمصدر لمعارف الحياة، وفقه المعرفة والحضارة للقيام بدورنا بمسؤولية الشهادة على الناس، والقيادة لهم وإلحاق الرحمة بهم، واستئناف السير الذى توقف من عهد بعيد فى كثير من شعب المعرفة التى يمنحها القرآن. لذلك، كان لابد من طرح القضية، وتقليب وجهات النظر فى جوانبها المختلفة، فى محاولة لتحقيق الرؤية القرآنية الشاملة. وما نقدمه فى هذا الكتاب من "مدارسة" مع الشيخ الغزالى، نعتقد أنه عرض لمجموعة من الأمور المهمة، وقدم إضاءات جديدة على طريق بناء الفكر والثقافة القرآنية. ولا ندعى بأننا استطعنا بهذه "المدارسة" تقديم أو إنضاج منهج للتعامل مع القرآن، والخروج بالمسلمين من حالة الهجر التى أورثتهم الأزمات الفكرية، والتى يعانون منها، فالوصول إلى منهج لفهم القرآن بأبعاده ومحاوره المتعددة ليكون مصدرا للمعرفة، ليس بالأمر السهل الذى يمكن أن يتحقق بكتاب، أو حوار، أو مدارسة ولكننا نستطيع أن نقول بكل اطمئنان: إننا استطعنا تقديم آفاق، ومؤشرات،(1/21)
ومعالم على الطريق، تثير وتستدعى كثيرا من النظر والبحث والتأصيل. وقد نقول: بأن هذه "المدارسة"، أمكنها طرح القضية، واستدعاؤها إلى محل الاهتمام، وتقديم مجموعة ملاحظات يمكن أن تعد أساسا لبناء فكر قرآنى قادر على الانطلاق باتجاه الشهود والإنجاز الحضارى، وإحياء موات الأمة. ص _022
ولاشك أن مثل هذه النقلة الثقافية محتاجة إلى شروط ومواصفات لها علاقة بالنظام التعليمى، والإعلامى، والتربوى، ومؤسسات تعليم القرآن، وحفظه، وتفسيره، وإن شئت فقل: لها علاقة بالتشكيل الثقافى للأمة بشكل عام. ولعل ما نقدمه فى هذا الكتاب، يشكل محاولة لكسر أقفال. القلوب، وفتح النوافذ أمام العقول، ووضع الأغلال والآصار التى أثقلت الكواهل، وأوقفت فاعلية العقل المسلم. ولا نحب أن نتكلم عن الشيخ الغزالى ـ أمد الله عمره ـ ونظراته الدقيقة والمتميزة فى هذا الموضوع، وهو غنى عن التعريف، حيث استجاب مأجورا للحوار الذى أصر على تسميته: "مدارسة" وأوكل لنا مشكورا أمر صياغته. وقد آثرنا فى العرض: إبقاء الحوار "المدارسة" مترسلا على طبيعية، دون تدخل كبير فى إعادة الترتيب، آملين أن يتواصل السير، وتأخذ القضايا المطروحة حظها من البحث، والمناقشة، والإثراء والإنضاج. ولابد أن نشير إلى أن الكتاب هو اقتراح لـ "المعهد العالمى للفكر الإسلامى"، ليكون دليلا ومرشدا لعلماء الاجتماعيات المسلمين بصفة خاصة، وللعلماء فى شعب المعرفة الأخرى بصفة عامة. ومن الجدير بالذكر أن المعهد قد أصدر كتابا مماثلا له فى كيفية التعامل مع السنة النبوية المطهرة أعده الدكتور يوسف القرضاوى، ويعتقد أن هذا الموضوع من الأهمية بحيث يحتاج إلى أكثر من معالجة، وأن يتناوله العلماء والمفكرون المسلمون من جوانب مختلفة. رمضان 1409 هـ إبريل 1989 م الدوحة/ قطر عمر عبيد حسنة ص _023(1/22)
تمهيد بقلم الشيخ الغزالى القرآن الكريم هو ما بقى من وحى فى هذه الدنيا، هو الكتاب الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين) ما شانه نقص ولا شابته زيادة منذ نزل إلى يوم الناس هذا، فهو بحفظ الله مصون من أهواء الناس، و وساوس الجن والإنس...! وبقاء هذا القرآن هو العزاء الوحيد عن ضياع مواريث النبوات الأولى، لأنه استوعب زبدتها، وقدم فى هداياته خلاصة كافية لها، (إن هذا لفي الصحف الأولى * صحف إبراهيم وموسى) فإذا اطلعت الأجيال المستأخرة على هذا القرآن فكأنها وعت ما قاله المرسلون السابقون، وانتظمت مع الركب السماوى فى الإيمان بالله والعمل له. لكن موقف المسلمين من القرآن الذى شرفوا به يثير الدهشة! ومن عدة قرون ودعوة القرآن مجمَّدة، ورسالة الإسلام كنهر جف مجراه أو بريق خمد سناه..! والأمة التى اجتباها الله تتعامل مع القرآن تعاملا لا يجوز السكوت عليه، كان الجاهليون الأقدمون يصمون آذانهم عن سماعه، ويتواصون بالشغب على مجالسه ويعالنون بتكذيب صاحبه حتى شكا صاحب الرسالة إلى ربه هذا الكنود، قائلا: (يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا). أما المسلمون المتأخرون فهم يسمعون وقد يتأوهون أو يسكنون، ولكن العقول مخدرة والحواس مبعثرة ومسالك الأفراد والجماعات فى واد آخر، وكأنها تنادى من مكان بعيد! والأمة المنتمية إلى القرآن مجهولة مستوحشة، والحضارة التى يصنعها لا تجد من يصور معالمها بإتقان، ولا من يعبد طريقها بذكاء، ولا من يفتح لها دكانا صغيرا فى ص _024(1/23)
سوق امتلأ بلافتات خداعة لسلع ما تساوى شيئا، أو مذاهب باطلة بالتعبير الصريح. أهكذا يتصرف أصحاب الحقيقة مع الحقيقة التى شرفوا بها وانتموا إليها؟ وجلست مع الأستاذ عمر عبيد حسنة نتشاكى تلك الحال، فقال لى: إن للقضية أبعادا لا يبلغها النظر السطحى! وربما اشتبكت مع مخلفات قديمة من ثقافتنا التقليدية.. وذكر الأستاذ أمثلة لما يراه موضوع بحث طويل فى هذا المجال، وأهاب بى أن أكتب. قلت له وأنا محزون: إننى فى هذه الأيام أعجز عن الكتابة، وما عرانى من مرض قيد حراكى الأدبى والمادى. قال: فلنتدارس الأمر سويا، وأتولى أنا الشرح والصياغة، وعلمت أنه سيحمل العبء كله، ولم أر بدا من الاستجابة، داعيا الله أن يلهمنا الرشد، وينير الطريق. محمد الغزالى ص _025(1/24)
مدخل من خلال رحلتك الطويلة مع القرآن، حفظا وتفسيرا وتعليقا ودعوة، ما النصيحة التى ترى مسلمى اليوم بحاجة إليها للتعامل مع القرآن، ورسم الطريق للتخلص من حالة الهجر التى هم عليها، فيعود المسلمون إلى القرآن، أو يعود القرآن للمسلمين، ليكون مصدرا لشحذ فاعليتهم، وبناء نهضتهم، والوصول بهم إلى موقع القيادة والشهادة؟ وبمعنى آخر: كيف يمكن لنا أن نحدد الشروط اللازمة للشهود الحضارى من خلال وضع منهج للفهم جديد، للتعامل مع القرآن، يكون نتيجة لاستقراء الواقع والحاجة والمعاناة التى يعيشها المسلم اليوم، وذلك باعتبار القرآن هو النص الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان، والمجمع عليه من قبل المسلمين كلهم؟ حال المسلمين مع القرآن الكريم تستدعى الدراسة المتعمقة، ذلك أن المسلمين بعد القرون الأولى، انصرف اهتمامهم بكتابهم إلى ناحية التلاوة، وضبط مخارج الحروف، واتقان الغُنن والمدود، وما إلى ذلك مما يتصل بلفظ القرآن والحفاظ على تواتره كما جاءنا، أداء وأحكاما ـ أقصد أحكام التلاوة ـ لكنهم بالنسبة لتعاملهم مع كتابهم، صنعوا شيئا ربما لم تصنعه الأمم الأخرى.. فإن كلمة "قرأت "، عندما يسمعها الإنسان العادى أو يقولها، تعنى: أن رسالة جاءته أو كتابا وقع بين يديه فنظر فيه، وفهم المقصود منه.. فمن حيث الدلالة لا أجد فكاكا بين الفهم والقراءة أو بين السماع والوعى. أما الأمة الإسلامية، فلا أدرى بأية طريقة فصلت بين التلاوة وبين التدبر، فأصبح المسلم اليوم يقرأ القرآن لمجرد البركة، كما يقولون، وكأن ترديد الألفاظ دون حس بمعانيها، ووعى لمغازيها، يفيد أو هو المقصود. وعندما أحاول أن أتبين الموقف فى هذا التصرف، أجد أنه موقف! مرفوض من الناحية الشرعية، ذلك أن قوله تعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) يعنى الوعى والإدراك والتذكر والتدبر.. فأين التدبر؟ ص _026(1/25)
وأين التذكر مع تلك التلاوة السطحية التى ليس فيها أى إحساس بالمعنى، أو إدراك للمقصد، أو غوص فيما وراء المعنى القريب، لاستنتاج ما هو مطلوب لأمتنا من مقومات نفسية واجتماعية، تستعيد بها الدور المفقود فى الشهادة على الإنسانية وقيادتها إلى الخير؟.. بل أجد غياب بعض صفات عباد الرحمن التى وردت فى القرآن الكريم، ومن أنهم قوم يقبلون على القراءة بحواسهم، فهم: يسمعون، ويبصرون، ومن ثم يتحركون. نعم، قد يغيب عن الإنسان معنى كلمة قد تكون غريبة عليه، وربما يعز عليه إدراك جملة من الجمل، لأن التعبير القرآنى فى درجة من البلاغة لم يتذوقها هو.. وما من شك فى أن القرآن، كتاب العربية الأكبر، ومنهل الأدب الخالد.. ولا يقبل إطلاقا أن ينتهى المسلم إلى ذلك النوع الذى ذكره الله تعالى حين وصف عباد الرحمن بقوله: (والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا) وأجد اليوم أن الذين يخرون صفا وعميانا، كثيرون، فالأمم الأخرى أدركت حال المسلمين مع كتابهم، لذلك وجدنا إذاعات عالمية تحدد فترات لإذاعة القرآن، فإذاعة لندن تقدم تلاوة يومية للقرآن تفتتح بها برامجها، وربما تذيع إسرائيل أيضا قرآنا فى فترات ومناسبات متعددة، وكأنها اطمأنت إلى أن الأمة الإسلامية اليوم تسمع ولا تعى. هذا موقف لابد أن نحسمه، وأن نبتعد عنه. ونعالج أسبابه، وما سمعت كلاما معقولا أو مقبولا فى تبريره وتسويغه، فقد ذكر بعضهم أن ابن حنبل رحمه الله رأى الله فى المنام، واستفتاه فى أحب شىء يقرب إليه. قال: كتابى يقرأ.. فسأله بفهم أو بغير فهم؟ قال: بفهم وبغير فهم!! والمعروف أن الأحكام الشرعية لا تؤخذ من رؤى النائمين، ومهما كانت مكانتهم بين المسلمين.. الحكم الشرعى له مصادره من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.. وهذا الكلام الذى يُروى عن رؤيا ابن حنبل صح أو لم يصح، لا ينبغى أن يكون له فى النفوس ما يجعل معظم المسلمين على الحال الشاذة التى(1/26)
يقعون فيها الآن. لابد من قراءة القرآن الكريم قراءة متدبرة واعية تفهم الجملة فهما دقيقا، ويبذل كل امرئ ما يستطيع لوعى معناها وإدراك مقاصدها، فإن عز عليه سأل أهل الذكر.. ص _027
والمدارسة للقرآن مطلوبة باستمرار.. ومعنى مدارسة القرآن: القراءة والفهم والتدبر والتبييّن لسنن الله فى الأنفس والآفاق، ومقومات الشهود الحضارى، ومعرفة الوصايا والأحكام، وأنواع الترغيب والترهيب، والوعد والوعيد، وما إلى ذلك مما يحتاج المسلمون إليه لاستئناف دورهم المفقود . قرأت للعقاد مرة أن هناك ما يسمى بشعر الحالات النفسية، وهو أن يرتقى الإنسان مع الكتاب الذى يقرؤه، ويرتفع بنفسه إلى الحقائق أو القصص أو المطالب كى يصورها. وهذا إن كان مطلوبا مع الكتب العادية، فهو مع كتاب الله أولى.. وهكذا كان الأولون. كان الأولون يقرأون القرآن فيرتفعون إلى مستواه.. أما نحن فنقرأ القرآن فنشده إلى مستوانا.. وهذا ظلم للكتاب.. هذه ناحية. ومن الناحية الأخرى، فإن أثر القرآن فى نفس من نزل عليه القرآن، يجب أن يُعرف، فالنبى عليه الصلاة والسلام " كان خلقه القرآن " ، كما روت السيدة عائشة رضى الله عنها، ومعروف أن معنى الكلمة: أنه كان يعيش فى جو قرآنى، ويصدر فى سلوكه عن قيم القرآن. وأن عقله الظاهر والباطن مع الله عندما يكون الحديث عن الله، ومع الكون سياحة عريضة وتأمل وتدبر لآلاء الله عندما يكون الحديث عن الكون وقواه وأسراره، ومع الماضين فى الاتعاظ والاعتبار بمصارعهم ومصائرهم ومسالكهم عندما يكون الحديث فى قصص القرآن، ومع الآخرة والنعيم ص _028(1/27)
والجحيم عندما يكون القرآن وصفا للجزاء الأخروى وما أعد لهؤلاء وأولئك.. أى أن النبى عليه الصلاة والسلام كان يحيا فى جو القرآن، وهذا هو ما جعل الإمام الشافعى رحمه الله يقول: إن السنة هى فهم النبى للقرآن، أو نضح فهمه للقرآن، فهو مرتبط به ارتباطا تاما فى حياته، فى ظاهره وباطنه. والأمة التى نزل عليها القرآن فأعاد صياغتها، هى المعجزة التى تشهد للنبى عليه الصلاة والسلام بأنه أحسن بناء الأجيال، وأحسن تربية الأمم، وأحسن صياغة جيل قدم الحضارة القرآنية للخلق.. فنحن نرى أن العرب عندما قرأوا القرآن، تحولوا تلقائيا إلى أمة تعرف الشورى وتكره الاستبداد، إلى أمة يسودها العدل الاجتماعى ولا يعرف فيها نظام الطبقات، إلى أمة تكره التفرقة العنصرية، وتكره أخلاق الكبرياء والترفع على الشعوب. ووجدنا بدويا كربعى بن عامر رضى الله عنه يقول لقائد الفرس: جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.. إنهم فتح جديد للعالم، وحضارة جديدة أنعشت الإنسانية ورفعت مكانتها، لأن الأمة الإسلامية كانت فى مستوى القرآن الكريم، والحضارة الإسلامية إنما جاءت ثمرة لبناء القرآن للإنسان.. لذلك بدأت تختفى الآثار الفكرية والنفسية لآداب الفرس، ولفلسفة الروم، لأن القرآن الكريم جاء بجديد: حول الكلام والتوجيه من تجريدات ذهنية نظرية جدلية ـ كما يفعل الفرس واليونان والرومان ـ إلى منطق ملاحظة واستقراء، ومنطق وعى الكون واحترامه، والتعرف على سننه ومشروعية التعامل معه لعمارة الأرض وبناء الحضارة. فالفكر الإغريقى فكر تجريدى، يرى أن المادة خسيسة، وأن المعنويات هى فى الاستعلاء على المادة.. أما الفكر المأخوذ من القرآن الكريم فهو فكر علمى وعملى، يحترم المادة ويعلى شأنها، بل يرى أن خالق المادة يقسم بها، وما أقسم بها إلا لأنه ص _029(1/28)
أودع فى الكون أسراره : أسرار عظمته.. وترك فى الكون ما يدل على صفاته العلا، فمن حقه جل جلاله أن يقسم بالكواكب وهى تملأ الكون، وأن يقسم بالنفس البشرية، والوالد وما ولد، وأن يقسم بالرياح، والشفق، والليل وما وسق، والقمر إذا اتسق، فالإعجاز فى الكون ظاهر فى القرآن الكريم. من آثار هجر القرآن: لذلك، وجدنا الأمة الإسلامية عندما هجرت كتابها، أو على الأقل أخذت تقرؤه على أنه تراتيل دينية، فإنها فقدت صلتها بالكون، وكانت النتيجة: أن الذين درسوا الكون خدموا به الكفر، واستطاعوا أن يسخروه لأنفسهم، ومبادئهم، وإلحادهم، وتثليثهم. أما نحن، ومع أن كتابنا كتاب الفكر، أو كما يقول العقاد: التفكير فريضة إسلامية، ومع أن كتابنا كتاب تجاوب مع الكون بحيث لم نر كتابا سماويا أو مقدسا ـ كما يقولون ـ نوه بعظمة الله فى كونه أو بعظمة الكون لأن الله هو الخالق، كالقرآن الكريم.. ما الذى صرفنا عن هذا كله؟ صرفنا عنه أننا ما أحسنا التلقى والتعامل مع القرآن أبدا. بل كما نقرأ، وكنا نعتبر الخطأ الكبير فقط ألا يمد القارئ المد اللازم خمس أو ست حركات، أو لا يغن الغنة، أو لا يخفى الإخفاء! وكل ذلك يمكن أن يكون وسائل لحماية الأداء القرآنى ليكون محلا للنظر والتدبر.. أما وعى المعانى، وإدراك الأحكام، والتحقق بالعاطفة المناسبة من خلال تشرب معانى القرآن، فقد اختفى من نفوسنا. هذا شىء لابد أن نبدأ به كل كلام عن القرآن الكريم، وإلا فنحن معزولون عن ديننا وعن مصدره. القرآن كتاب يصنع النفوس، ويصنع الأمم، ويبنى الحضارة.. هذه قدرته.. هذه طاقته.. فأما أن يفتح المصباح، فلا يرى أحد النور لأن الأبصار مغلقة، فالعيب عيب الأبصار التى أبت أن تنتفع بالنور، والله تعالى يقول: (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من(1/29)
الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم). ص _030
نحن ما اتبعنا رضوان الله، ولا سبل السلام، ولا استطعنا أن نقدم سلاما للعالم، ولا استطعنا أن ننقل هدايات القرآن للقارات الخمس.. هناك فى عصرنا خمسة مليارات من البشر، محجوبة عن أضواء القرآن، لا تعرف عنه شيئا! والسبب: أن المسلمين أنفسهم محجوبون عن أضواء القرآن، وفاقد الشىء لا يعطيه. العودة إلى القرآن: أرى أنه لابد أن نعود لدراسة القرآن.. وتلاوة القرآن عندنا مطلوبة.. والتعبد بتلاوة القرآن كان لاستبقاء الوحى الذى صانه الله فى الإسلام، بينما ضاع الوحى القديم بالإهمال، والتداخل مع التراجم، وبأشياء كثيرة.. نحن أمرنا أن نتلو القرآن، لكن ـ كما قلت ـ يستحيل فصل المعنى عن المبنى، وهذا تجده فى آيات التلاوة الواردة فى القرآن، كقوله تعالى: (كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب). ويتحدث القرآن مرة أخرى عن أن التلاوة هنا هى أساس التوكل، وأساس التوجه، وأساس صنع النفس البشرية.. وربما تطلعت الشعوب إلى معجزة أخرى غير هذا القرآن من مثل معجزة تكليم الموتى، تسيير الجبال، تحرك الناس بطريقة أخرى، عندما قالوا: (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى). لكن، لا.. فهذا قرآن يكلم الرجال ليعيد صياغتهم، ويكلم الأحياء ليحقق استجابتهم، ويكلم العقلاء ليوجه وعيهم، فيجعل منهم أمة تحمل رسالتها.. وفعلا حملت الأمة رسالتها لأنها فهمت المقصود من إرسال المعجزة الأخيرة، وأدركت أبعادها، وتدبرت مقاصدها: معجزة إنسانية تتصل بإحياء المواهب الإنسانية، وتفجير الطاقة البشرية لهذا الخلق، وإعادة بناء وتشكيل العقل الإنسانى. من تجربتي الذاتية: حفظت القرآن وعمرى عشر سنين.. وبداهة ما كنت أعى منه شيئا.. بل من اللطائف التى أذكرها، أنى وأنا أحفظ سورة الإسراء،(1/30)
وأقرأ قوله تعالى: ص _031
(و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا) كنت أفهم مثلا أن هناك شيئا كحمامة أو غراب، يجعل فى عنق الإنسان.. والغريب أن هذه الطريقة فى الحفظ لألفاظ القرآن، صرفتنى عن معان كثيرة كنت أمر بها ولا أعرفها.. وأنا كبير، أقرأ، ولكن لأنى حفظت الكلام دون فهم للمعنى أجد نفسى ـ فى كثير من الأحيان ـ أمضى دون فهم للمعنى؟ لأن الحفظ كان يغلب على التدبر أو على إحسان الوعى.. وما بدأت أفكر حتى أكرهت نفسى على أن أعود فأدقق النظر فى كل ما أقرأ، وأحمل نفسى على ترك هذه العادة التى ورثتها مع الحفظ، بل قد يخيل إلى أن بعض الكتاتيب أساءت إلى القرآن من حيث تريد الإحسان، ومن ناحية أنها خرجت أشرطة مسجلة، ولم تخزج كيانات حية للناس. لذلك أرى: أنه لابد من إعادة النظر فى هذا الموضوع. ناقشت نفسى بعد ذلك، وكنت أريد أن أقول: لا معنى لأن يحفظ الصغار القرآن الكريم.. لكنى ـ من باب طرح الموضوع وتقليب النظر فيه، وهذا شىء لا أحب أن أنفرد فيه بحكم، بل أحب أن يشارك الآخرون معي الرأى فى هذا المجال ـ عندما أنظر إلى التلفاز وهو يقدم برامج الأطفال التى من المفروض أن تكون مدروسة فى جميع النواحى، أجد أن العقل يبعد عن البرامج، وأجد مسرح العرائس، وأجد المستحيلات تعرض على الأطفال، كأنما المهم هو إشباع الخيال! فقلت فى نفسى: إذا كانت التربية الحديثة تبعد العقل وتتجه إلى إشباع الخيال، وتستهوى الأطفال بمثل هذه المناظر، وما دام هناك قدر من ترك العقل فى تربية الطفل، فليحفظوا الألفاظ. لكن جاءنى مرة أخرى تساؤل: فما قيمة حفظ الألفاظ إذا كنا سنقتصر عليها ونقدم للمجتمع ببغاوات تجيد ـ إن كانت صيتة ـ موسيقى الأداء، وإن كانت غير صيتة تجيد الحفظ العادى، وينتهى الأمر؟ أرى أن الأمر يجب أن يطرح، وأن يكون موضع مراجعة، وحوار، ومناقشة، وأخذ ورد، من قبل متخصصين فى التربية وعلم نفس الطفل،(1/31)
لأنى فى الحقيقة كاره لهذه الأشرطة، التى تجعل الناس يحفظون ولا ينتفعون.. وفى الوقت نفسه أحب بقاء واستمرار التواتر القرآنى، فهل فى الإمكان أن يحفظ الطلاب قطعا من القرآن الكريم، وأن يقرب لهم المعنى فى الوقت نفسه؟ ص _032
حسن استثمار مرحلة الطفولة للحفظ مما يلفت النظر، أن الحافظة فى هذه السن ـ دون العاشرة ـ هى المهيأة لاستظهار القرآن.. وكلما تقدمت السن بالإنسان، قلت ملكة الحفظ عنده، وتقدمت ملكة الفهم، أى القدرة على التركيب والتحليل والتدبر والغوص وراء المعانى البعيدة، وما إلى ذلك.. فاستثمار هذه السن لاستظهار القرآن وحفظه، مع شىء من تقريب المعانى وعدم الاقتصار على الاشتغال بالحفظ فقط، قد يكون من بعض الحلول المطلوبة لمعالجة ما يمكن أن يترتب مستقبلا من الانصراف إلى اللفظ والاهتمام به دون التدبر فى المعنى.. وأظن أن ما يعرض من برامج أطفال ليس العقل مستبعدا منها بإطلاق، لكن جعل للعقل النصيب الذى يستطيعه الطفل، ويثير عنده قضية خصوبة الخيال العلمى بشكل خاص.. فليس هو ملء خيال فقط بعيد عن أى هدف، وإن كان تخصيب الخيال هدفا بحد ذاته.. البرامج التى رأيتها تعرض على الأطفال، ما تعتمد إطلاقا على العقل، وإنما هى خيالات جامحة إلى حد بعيد.. سألت نفسى أيضا ـ والأمر يحتاج إلى دراسة ـ : الصحابة الذين استمعوا للقرآن الكريم كانوا شبابا، ويوجد بعض الأطفال الحفظة، لكن لا ننسى أن الوعى العربى، أو أن لغة التخاطب بين العرب كانت قريبة من أسلوب القرآن، فالفهم واضح.. لكن، ألا تعتقد أن هذه المحفوظات من الآيات التى تتنزل، كانت تدعم معانيها فى نفوسهم الحياة الواقعية التى تبرز معناها مجسدا، فالحياة الواقعية كانت هى الوسائل المعينة على التمثل والتدبر، كانت مترجمة أو مجسدة فى أعمال ووقائع، إلى جانب تقارب لغة الخطاب أى هناك مناخ عملى مجسد لهذه المعاني ينشأ فيه الأطفال.. أما اليوم وبعد أن تباعدت اللغة، وغاب تنزل(1/32)
معظم المعانى القرآنية على حياة المسلمين، فلابد من إعادة النظر باستمرار بطريقة توصيل القرآن إلى الطلبة والأطفال وإعمال عقولهم بالمعانى الإجمالية التى تتناسب مع عمرهم العقلى، وتعويدهم البحث فيما وراء الألفاظ؟ هذا حق، ولذلك ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم الناس المغازى كما يعلمهم السورة من القرآن.. وبدهى عندما تنزل سورة فيها قصة أحد ونحن خارجون من الهزيمة، ص _033
والفتيان والفتيات والرجال والنساء يشعرون بكل ما وقع، فالقرآن الذى يتلى هنا يكون قطعة من الحياة.. وما أظن أن الصحابة رضوان الله عليهم، كان عندهم عدد كبير من حفاظ القرآن.. ربما كانوا نسبة فى المائة.. ولعل الأمر الأكثر بروزا عندهم، كان تمثل المعانى وترجمتها إلى واقع على الرغم من كثرة الحفظة وكتاب الوحى.. ففى حرب اليمامة، قتل عدد كبير من حفاظ القرآن، ورأيت سالما مولى حذيفة رضى الله عنه، ذلك الرجل العظيم الذى استشهد فى تلك المعركة والذى كان أحد النماذج لعطاء القرآن، قال: (بئس حامل القرآن أنا إن أوتيتم من قبلى).. فقد عزَّ عليه أن يقال له: احذر يا سالم أن نؤتى من قبلك.. فغضب، وغرس حربته، ومات مكانها، وأبى أن يتزحزح أمام هجوم المرتدين. فكان نموذجا حيا للقرآن الكريم عندما ينطلق قذيفة حية لأداء رسالة الهدى والنور. على كل حال أنا أريد أن يطرح الموضوع من جديد وأن يعاد النظر فى أسلوب الحفظ وتوصيل القرآن إلى الأجيال القادمة، فالأمر يحتاج إلى مدارسة وطريقة تربوية تجعلنا نستجيش المعانى، ونحيا بها ولها، ولا نكون أشرطة تسجيل، كل ما لديها أنها تستوعب الألفاظ، وانتهى الأمر. تقنيات الحفظ ، وضرورة استمرار التواتر فى المشافهة يبدو لى فى هذه النقطة أنه بعد تقدم التقنيات التى مكنت من الحفظ والطباعة والتسجيل واسترجاع ذلك بسهولة ويسر، وأصبح الاعتماد على الذاكرة فى العصر الحاضر محدودا إلى حد بعيد، حيث تقوم تلك التقنيات الحديثة مقام(1/33)
الذاكرة، وكانت الذاكرة فى الماضى هى الوسيلة الوحيدة لحفظ القرآن وتواتره وما إلى ذلك.. أما الآن وقد وجد القرآن مسجلا، فقد تكون الحاجة إلى حفظ الذاكرة تراجعت، وأصبحت الحاجة إلى المدارسة والتدبر هى الأكثر أهمية، على الرغم مما فى الحفظ ص _034
من أبعاد تبقى مطلوبة لأكثر من أمر من مثل: تكوين المرجعية للطفل وانطباعه بأسلوب القرآن وكلماته، وتكوين ملكته اللغوية، إلى جانب استمرار تواتر المشافهة وضرورة استحضار الآيات فى الأداء العبادى، وإن كان الحضور القرآنى فى النفس الإنسانية سوف لا يغنى عنه شىء من تقنيات الحفظ.. لابد من استبقاء التلاوة، لأن القرآن تميز ببقائه، وبقاؤه يرجع إلى هذا السيل الموار من الحفظة الذين لا ينقطعون فى عصر من العصور، واستمرار هذه المشافهة فى الحفظ وتواترها، إلى جانب الكتابة، هو الذى حمى النص القرآنى، وضمن استمراره. وأذكر أنى كنت فى مكة، وكنت أقرأ القرآن بالترتيب فى صلواتى، فجاء الدور فى سورة فاطر، فكنت أقرأ وحصل منى خطأ، ففوجئت بأن واحدا من وسط الصفوف يردنى إلى الصواب، وشعرت بفرح يغمرنى لأن القرآن ـ ولله المنة ـ يوجد من يحفظه من رجل الشارع العادى، كما يقال.. فلابد من استمرار التواتر القرآنى، وهذا جزء من رسالة الأمة الإسلامية. ص _035(1/34)
دورالمناهج التراثية فى فهم القرآن والتعامل معه هناك مدارس فى التفسير، أو ـ بمعنى أدق ـ مناهج متعددة فى فهم القرآن، تشكل بمجموعها طرائق السلف ومسالكهم فى التناول والفهم، ولقد جاءت هذه المدارس فى ضوء تحقيق أهداف بلاغية لغوية أو فقهية أو كلامية أو صوفية أو فلسفية أو تربوية.. الخ لا سبيل إلى حصرها هنا. كيف يمكن الإفادة منها والتعامل معها اليوم، فمثلا هل يمكن اعتماد منهج علماء الأصول فى النظر والاستنباط، ومباحث دلالات الألفاظ.. الخ، الذى اعتمدوه للوصول إلى الحكم التشريعى، منهجا شاملا يمكن تعميمه على إدراك الأبعاد المتعددة فى الخطاب القرآنى، التى تستوعب كلمة الفقه للآيات بالمعنى الشامل مثل: الفقه الدستورى، والإدارى، واكتشاف سنن التسخير، والتعرف على شروط نهوض الأمم وسقوطها، وتحديد أبعاد الاعتبار بأحوال الأمم السابقة، وقوانينه، وتحديد علل التدين، وبيان أسبابها النفسية، والاجتماعية، وما يمكن أن تحقق من مقاصد ومغزى فى القصص القرآنى؟ ذلك أن علماء الأصول انصرفوا، لسبب أو لآخر، إلى الحكم التشريعى، واعتبروا الخطاب القرآنى ذا بعد واحد، وحصروا مفهوم الفقه فى الحكم التشريعى، مع أن للخطاب أبعادا أخرى متعددة ـ كما ذكرنا ـ قد تكون مقدمة لابد من تحصيلها ليترتب بعد ذلك الحكم التشريعى.. وفى الحقيقة، قد يكون المنهج الذى تأصل وتكون من بين سائر المناهج هو منهج علماء الأصول، وتلاشت سائر المناهج، أو توقفت بشكل مبكر. هذا الكلام يعود بنا إلى شىء كنت ذكرته فى إحدى خواطرى.. وهو أن المدارس الكبرى فى التاريخ الثقافى للفكر الإسلامى، تلاشى أكثرها.. هناك الآن مدرسة المحدثين، وهى مدرسة تكافح باسم السلف، لكن قصرت مهمتها وحصرت اهتمامها بعلوم السنة فقط بعيدا عن الرؤية الشمولية لقيم الإسلام وعطائه الحضارى. وهناك مدرسة الفقهاء، وهى مدرسة اقتصرت على فقه العبادات وما إليه، وجعلت منه إطارا لنشاطها العقلى، وقلما انخلعت(1/35)
بعيدا عنه، وإذا تجاوزته فإلى معاملات الأسواق العادية.. أما أن تذهب هذه المدرسة إلى الآفاق الإسلامية البعيدة، وتنزل الإسلام على واقع الناس، وتعالج مشكلاتهم فى ضوء قيم القرآن الخالدة وتعاليم السنة المبينة فأمر لا نرى له شيئا يذكر، كما كان الفقهاء قديما يفعلون.. ص _036
فالإمام أبو حنيفة مثلا، له تلميذان مشهوران: أبو يوسف و محمد.. أبو يوسف ألف فى الخراج، أى فى الضريبة.. ومحمد ألف فى العلاقات الدولية فى كتابه : "السير الكبير".. هذا هو الفقه قديما، فكان كل منهما رائدا فى مجاله.. أما أن يكون الفقه اليوم مقطوع الصلة بالفقه الدستورى، والفقه الإدارى، والفقه الدولى، فهذا موت. وهناك منهج الأصوليين أو مدرسة الأصوليين، وهى مدرسة فيها دقة وضبط للنظر واستنباط الأحكام، ولكن يوشك أن يقال: إن آخر من ظهر فيها وخمدت بعده حتى كادت تموت: الإمام الشاطبى فى كتابه " الموافقات "، وهو كتاب جيد، لكن الرجل توقف عنده علم الأصول عن العطاء، ولا أعرف من جاء بعده بشكل متميز، ومن ثم أصبح علم الأصول نفسه ذلك المنهج العظيم، على يد المتأخرين، علما مضحكا، لأنه أصبح كالآتى: الخلاصة، التلخيص، الملخص، المتن، الشرح، الحاشية.. كأننا نطحن الماء فلا يزيد ولا ينقص. ص _037(1/36)
وهناك منهج المتصوفة، أو مدرسة المتصوفة، وهى مدرسة تشينها الخرافة، لأنها اعتمدت على خطرات القلوب بعيدا عن الضوابط الشرعية واللغوية، وانتهت إلى صورة من الإرجاء والجبرية أدت إلى الانسحاب من المعركة الاجتماعية (وممارسة نوع من الانتحار الروحى).. ولكن يزينها أنها بحثت فى الأخلاق وأدب النفس، وحسن الصلة بالله، وحسن استحضار جلاله وهيبته، ولابد من إعادة النظر فى منهجها ووسائلها فى ضوء أهدافها الضرورية للأمة، وضبطها بضوابط الشريعة. وهناك منهج الفلاسفة، أو مدرسة الفلاسفة، ومن رجالها الأكابر: الغزالى وابن رشد ، وكلاهما خصم للآخر، ولكن كلاهما فيلسوف.. والحقيقة أنه لابد من النظر إلى هذه المدرسة من خلال ظرفها التاريخى والمشكلات والتحديات التى واجهت الفكر الإسلامى فى حينها، ودورها فى الذود عنه، أما النظر إليها بعد أن انتهت إلى تجريدات ذهنية بعيدة عن الواقع فأمر قد يكون فيه كثير من التجنى. هذه المدارس تكاد تكون اختفت، وما بقى منها الآن إلا أطلال، ولكى تنتعش الثقافة الإسلامية يجب أن تعود هذه المدارس بصياغة جديدة تستمد تصوراتها من القرآن والسنة وتنزل إلى ساحة الواقع، متبنية المنهج العملى الواقعى بعيدا عن التجريدات الذهنية والمنطق المجرد. ص _038(1/37)
ثم لابد أن تعود المدرسة التى أهيل عليها التراب من عهد مبكر وهى مدرسة ابن الهيثم ، وجابر بن حيان ، والخوارزمى والذين انطلقوا من الرؤية القرآنية للسنن الكونية ودرسوا الكون دراسة جيدة.. كما لابد أن تعود مدرسة الأدب، لأنه منذ القرن الرابع الهجرى ضاع الأدب العربى تقريبا، وافتقد رسالته، وغاب هدفه، وبدأ ينحدر إلى أن جاء من يقول قصيدة فى خاتم، وفى شمعه.. الثقافة الإسلامية بالصورة التى انتهت إليها الآن، لا تسر مسلما حريصا على ثقافته، لأنها ابتعدت عن الينابيع الأصلية من الكتاب والسنة، وتوقفت عند الحدود التى جمدت عندها مدارس الفكر الإسلامى.. المدارس القرآنية الحديثة: ويمكن حصر الثقافة القرآنية الآن، فى عدد من المدارس: فهناك مدرسة الأثريين، أو أصحاب التفسير بالمأثور، وهى مدرسة يمثلها الآن "ابن كثير"، وتفسيره شائع، وإن كان ابن جرير الطبرى ، أرقى منه وتفسيره أدق.. والذى يعيب هذه المدرسة ص _039
ـ فى نظرى ـ أنها ربطت تفسير الآيات بأحاديث أغلبها ضعيف، فكانت مصيدة حالت دون انطلاق الفكر القرآنى إلى أهدافه الشاملة فى التفسير، ووسيلة إلى شيوع الأحاديث الضعيفة التى بنى عليها المحدثون فكرهم القرآنى.. وعندما وضع سيد قطب رحمه الله مؤلفه " فى ظلال القرآن "، اعتمد على تفسير ابن كثير فى النصوص، وترك ما وراء هذا على قدرته الأدبية على الصياغة، وعلى أن يسبح مع الأفكار الجديدة. هناك التفسير الفقهى للقرآن، وهو تفسير طوع الآيات لأحكام الفقهاء وطريقتهم فى الاستنباط، ولم يهتم إلا بآيات الأحكام التشريعية، واقتصر فى ذلك على الحكم الشرعى دون المقاصد الأخرى، وهذا فيه شىء يستدعى الاستدراك. وهناك التفسير الكلامى، وأنموذجه "الرازى" مثلا فى "التفسير الكبير"، وهو تفسير ينبغى أن نأخذ منه بطرف وندع أطرافا أخرى لأنها خرجت بالتفسير عن مجاله.. ص _040(1/38)
وهناك التفسير البيانى، وهو مثل تفسير "الزمخشرى" وأبو السعود والبيضاوى. وقد رأيت عددا من المفسرين إلى جانب مفسرين آخرين من مدارس أخرى، كانوا بلاء على الأمة الإسلامية، على الرغم من أنهم خدموا البلاغة العربية، وخدموا التفسير البيانى للقرآن أجل خدمة.. لكن حملت تفاسيرهم، إلى جانب ذلك، إساءات كبيرة للفكر القرآنى.. أنا أسأل نفسى: من الذى أشاع قصة زينب بنت جحش، إنهم مفسرون من هذا النوع.. فالقصة قصة خرافية لا أصل لها.. وهناك قصة مثل قصة الغرانيق، وقع فيها بعض المفسرين عن غفلة مثل ابن حجر، وغيرهم . ص _041(1/39)
وهناك مدارس أخرى وكل مدرسة من هذه المدارس لها خير وعليها مأخذ.. ولا يجوز أن نجحد فضل صاحب الفضل، ولكننا نريد للعصر الحديث والصحوة الإسلامية لكى تكون ناشبة بأعماق الإسلام، ومنطلقة من أعماقه الصحيحة، أن تقدم له جيلا واعيا، موصولا بالقرآن، مدركا لأبعاده ومقاصده؟ أولا.. وأن تنظر إلى هذا الجهد البشرى على أنه جهد، خطؤه وصوابه متقاربان، وجائزان، وتنتفع من تجارب الاحتكاك بالأفكار والعقائد والأديان الأخرى، فى ضوء منهج نضيج، فلا تقول كلاما مضحكا.. فمثلا عندما أقرأ فى تفسير ابن كثير حديثا واهى السند، يقول فيه: كانت سورة الأحزاب فى طول سورة البقرة، ثم نسخ منها ما نسخ (!) فهل يمكن أن ينزل الله سورة من أربعين صفحة ثم ينسخ منها خمسا وثلاثين صفحة؟ كيف يقال هذا؟ وما هو المنهج الحاكم على مثل هذه المرويات الظنية؟ لابد أن أعود إلى ما عندى من أصول يقينية حسب مدارسنا التى عشنا بها عقليا، فنحن نحترم المتواتر، ونحترم الحديث المشهور، أما أن يسرى فجأة حديث واهى السند، رد الفقهاء والمحدثون عشرات ومئات من أمثاله، لكى يكون حكما على القرآن، فهذا عجيب يجب أن ننقى تفاسير القرآن منه! فالمدارس القرآنية الكثيرة، مع المدارس الثقافية الإسلامية، يجب أن تكون أمامنا ونحن نسعى لصنع ثقافة قرآنية جديدة. أعجبنى أن العقاد جمع الآيات الفكرية والعقلية وألف كتابه " التفكير فريضة إسلامية ". شمول الرؤية القرآنية: أنا شخصيا تتبعت كلمة: (أولو الألباب ) فى القرآن الكريم فى ستة عشر موضعا أثناء الحديث عن النفس والكون، والتاريخ الماضى، والحديث عن الله.. وجدت أن القرآن ليس كتابا فنيا مقسما على قضايا معينة، ثم تنقطع فيه الرؤية الشاملة، بل هو يعرض الكون وهو يبنى العقيدة.. ويعرض الكون وهو يربى الخلق.. ويمزج بين الجميع بطريقة مدهشة. فالنظر فى الكون والواقع والتاريخ يقود إلى الإيمان، ويوصل التوحيد، ويبنى الخلق. فقوله تعالى: (يا أيها(1/40)
الناس اعبدوا ربكم) توحيد، ص _042
فيه أمر للناس بالعودة لله ، لكن: (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) . انظر إلى طريقة القرآن: كيف عرض الكون، ومظاهره، وحقائقه وهو ينفى الشركاء ويؤسس عقيدة التوحيد، وهذا فى المدينة.. كذلك نجد المسلك نفسه فى مكة: (الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون * ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فأنى تؤفكون * كذلك يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون). فالمحاور التى يقوم عليها القرآن الكريم ـ كما شرحنا فى كتاب لى ـ ليست مقسمة على أساس أن هذا المحور لكذا، وذاك المحور لكذا، ولكن نحن بجهدنا العقلى نجىء لآية واحدة، أو لطائفة من الآيات يمكن أن تكون فى قضية واحدة، فنرى أن هذه القضية الواحدة تماسكت الآيات فيها على عدة محاور من الكلام عن الله، والكون، والجزاء، والنفس البشرية، والإيمان، والأخلاق، تماسكا غريبا لا يعرف إلا فى هذا القرآن. وهذا يجعلنا ـ كما قلت ـ نقدم التصور الحضارى للقرآن على أنه يبنى أمة، ويفتح أبصارها على الكون، ويمنحها الرؤية المتميزة التى تمكنها من الشهود الحضارى على مختلف الأصعدة. أهمية النظر فى الآيات الكونية: فأنا كنت فى الجو يوما، ونظرت إلى سحابة تشبه جبلا له نتوءات أمامى، وبدأت أفكر: أين تصل هذه السحابة؟ أين تكونت؟ أى زرع سيخرج منها؟.. وبلغ بى تصور وتسلسل الصور إلى: أنه من يدرى، فربما شربت كوبا من عصير البرتقال من مطر هذه السحابة، وهى تنزل فى البلد الذى أصل إليه! فالقرآن يمنح المسلم رؤية كاملة ومنهجا متماسكا يجعل من الحياة خطوطا متوازية لا تصطدم مهما امتد الزمن، فتجعل العلم مع الإيمان، أو تجعل ما وراء المادة مع المادة، أو تجعل السرائر الباطنة مع المشاعر الحسية، لا فواصل بينها. ص(1/41)
_043
ههذا ـ فى نظرى ـ يجعلنى أنظر إلى الحياة الغربية التى نعيش فيها، نظرة فيها إنصاف.. الحضارة الغربية احترمت الكون ـ وهذا أصل من أصول الإسلام ـ وبدأت تدرسه، وربما اقتربت من الفطرة فى بعض المراحل أكثر منا، فنحن أمة أكلتها التقاليد التي صنعتها لنفسها، وضعت بها قيودا على مسالكها، فمن يريد الزواج عندنا مثلا، لا يتزوج بيسر الإسلام وفطرته التى أصلها القرآن، ولا حتى يتزوج بالفطرة البشرية الموجودة فى أوروبا مثلا، إنما يتزوج من خلال مجموعة القيود والتقاليد التى امتد سلطانها حتى هُزمت أمامها القيم الدينية.. لقد أصبح الزواج عندنا: (خراب بيت وانكسار ظهر) من النفقات. أظن أن الحضارة الغربية، فى نظرتها إلى الحياة الدنيا والكون، واكتشافها لسننه، وأخذها من أسراره، تجعلنى أقول: هذا هو كتابنا.. هذا ما عندنا.. لكن ما وقعوا فيه من أخطاء إنما جاء من أنهم: ما وصل إليهم القرآن وما عرفوا فكره. فهم ظنوا أن الدين عائق عن الحركة، وعن النظرة المنطلقة، وذلك ربما يكون لأن الصورة المجسدة أمامهم هى صور معوقة.. التكلف فى التعامل مع القرآن: يقول الله تعالى لصاحب الرسالة المبين عن ربه: (قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين)، ونحن قدمنا الدين تكلفا. فبدل أن يكون سجيا جميلا وفطرة سهلة، قدمناه تكلفا، فأى ظلم للحقيقة عندما تخرج عن صفتها الأولى؟! الدين عندنا فطرة: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) الكون هو الكون، كما خلقه الله، وفطرتى هى فطرتى كما فطرها الله، والكون والفطرة هما خلق الله.. أنا لا أبدل شيئا من هذا، أنا أتجاوب معه.. الكفر، أو الشرك، أو الإلحاد، عوج عن الفطرة، واصطدام بالعقل والكون وخروج عليه.. أريد أن يعرف الدين على هذا المعنى القرآنى السليم الصحيح، ولا يفهم الدين من خلال تقاليد رهبان اعتبرها القرآن الكريم صدا عن سبيل الله.. وظيفة الراهب: قيادة ص(1/42)
_044
الناس إلى الله، لكنه فى واقعه صدهم عن دين الله: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله). وعدد من المتدينين، أو المتفقهين، أو المنتسبين إلى الدين بعيدا عن التحقق بالرؤية القرآنية المتجاوبة مع فطرة الخلق، صداد عن سبيل الله بهذا المسلك الذى يقدمون به الدين.. إنهم يبتعدون عن فطرة الدين ومصادره العقلية والدينية.. فالله سبحانه وتعالى يبين أن حقائق الدين تتجلى وتتكشف من النظر والتدبر لآيات الله المبثوثة فى الأنفس والآفاق: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) فأين نحن من ارتياد الآفاق وكشف الآيات؟ وأين نحن من حسن قراءة أنفسنا ومعرفة سنن الله وآياته منها فى ضوء الأبعاد الواردة فى القرآن؟ علم النفس ما درس دراسة صحيحة إلا بعد أن تحرر من الفلسفة الإغريقية، وبدأ يغوص فى آفاق النفس البشرية ليتعرف على دوافعها ونوازعها، معتمدا أسلوب استبطان الإنسان. التصوف عندنا لو التزم الأدب الإسلامى والضوابط الشرعية ولم يمش وراء الرهبنة المسيحية لكان عطاؤه كبيرا ورواؤه مثمرا.. كان عندنا الحارث المحاسبى غواصا فى أسرار النفس، وجاء بعده الغزالى غواصا فى أسرار النفس. وكان من الممكن أن يقوم عندهم علم نفس جيد، ويقدم للبشرية بديلا مقنعا، ويخلصها من الشذوذ الذى اعتمد أصلا نفسيا يحلل على أساسه السلوك البشرى من مثل مدرسة التحليل النفسى التى كان رائدها فرويد الذى يقول: (إن رضاع الولد من أمه، إرواء وتنفيس عن غريزة حيوانية).. ص _045(1/43)
لو التزمنا الرؤية القرآنية وذهبنا نتدبر آيات الله فى الأ نفس، لكان عندنا علم النفس الذى يعرف عظمة الخالق عندما فطر هذه النفس، وخلق الإنسان من قبضة طين ونفخة روح: (فإذا سويته ونفخت فيه من روحي) وكل بشر نفخة من روح الله.. فنبدأ ندرس النفس الإنسانية والفطرة السليمة، وما ينميها ويزكيها من وسائل ووسائط، وما يعتريها من أمراض وإصابات لابد من معرفة أسبابها وتقديم العلاج التربوى الناجح لها. التقريب بين الدراسة القرآنية وبين ما وصلت إليه الإنسانية وحضارتها، يحتاج منا إلى أن ننخلع قليلا عن بعض مواريثنا القديمة التى ليست من ثوابت الدين وقيمه الأصيلة والإفادة من الحضارة الحديثة وما وصلت إليه من ناحية وسائل فهم الكون، ومن ناحية مردود النظر فى النفس الإنسانية، واعتماد كثير منها بعد ضبطها بمبادئ الإسلام ومقاصده الكلية. أبعاد المنهج المطلوب للاغتراف من القرآن، برؤية شاملة الأبعاد، متعددة المقاصد وليست لاستنباط الحكم الفقهى فقط، هناك مناهج تعاملت مع القرآن: كمناهج الفقهاء والأصوليين والمفسرين بمدارسهم ومناهجهم المتعددة، وعلماء الكلام والمتصوفة وعلماء اللغة الذين تعاملوا مع القرآن كمعجزة بلاغية.. هذه المناهج كلها التى جاءت ثمرة لواقع معين ومعالجات مرهونة بزمانها، لم تحقق الفقه المطلوب لآيات الله وسننه فى الأنفس والآفاق، ولم تغن العقل المسلم اليوم بالرؤية الشاملة من خلال الواقع والظروف التى نعيشها، والتوقف والجمود الذى لحق بهذا العقل وغيبه عن ساحة الشهود الحضارى.. ونحن الآن بحاجة إلى منهج للتحقق بالرؤية الشاملة، الموضوعية وليس الموضعية.. طبعا أمامنا هذه المناهج من مواريثنا الثقافية: مناهج الأصوليين فى استنباط الحكم، مناهج الفقهاء التى انبنت على مناهج الأصوليين، ومناهج المتصوفة ـ وإن كنا لا ندرى إلى أى مدى يمكن أن نسمى مدارس التصوف منهاجا، لأنها لا توجد لها ضوابط منهجية، وإنما قد تعتمد على(1/44)
التأملات وخطرات القلوب ـ ومناهج اللغويين.. والأمر المطروح هو: ص _046
كيف نفيد من هذه المناهج فى العودة إلى النبع الأصلى القرآنى، وهل هذا الميراث المنهجى ملزم لنا، وهو لا يخرج عن كونه اجتهادا حقق أبعادا طيبة فى تحقيق الرؤية القرآنية؟ وهل يجوز لنا أن نقفز ونتعامل مباشرة مع النص؟ وما هى وسائلنا الأمنية لمثل هذا التعامل؟ أستطيع أن أقول: إن هناك مناهج نقلناها من أصلها الأول ومجالها إلى علوم أخرى، فأفسدناها.. نحن نحفظ أن الإسناد من الدين، ولولاه لقال من شاء ما شاء.. وهذا حق.. فأن أتى بسند دينى لما أقول، فهذا مطلوب. لكن تحول مجال الأدب ومجالات أخرى إلى روايات: عن فلان، عن فلان، أنه سمع فلانا يقول كذا.. هذا لا معنى له. لقد وجدنا مرويات كثيرة حتى أصبحت الثقافة عندنا وكأنها ثقافة نقول! وهذا مفهوم وغير مطلوب.. الأدب عندنا توقف بسبب أشياء ومحاصرة من هذا النوع. ممكن جدا أن يعود إلى وصف الطبيعة، ووصف النفس البشرية بعيدا عن النقول التى تجعل كتب الأدب كتب مرويات وهذه واحدة. الشىء الثانى هو أن آيات الأحكام، إذا ما قيست بالآيات الأخرى نجدها أنها أقل الآيات عددا. لكن ـ كما قلت ـ فالقصص القرآنى يسوق قصة كاملة من خمس أو ست صفحات ليخلص فى النهاية إلى تربية نفس معينة.. فالقول بأن منهج دراسة الأحكام ينقل ليصبح منهجا لدراسة الأخلاق ودراسة التربية فهذا غير صحيح، لأن كل منهج له ضوابط، ولكل مقصد طبيعته وخصائصه.. وهذا يعنى: أنى أبحث فى الأحكام عن الكلمة: هل هى عامة؟ هل هى خاصة؟ هل هى مطلقة؟ هل هى مقيدة؟.. وهكذا. لكن عندما أدرس الأخلاق مثلا، أو التربية، أو قصص الأمم، أو الكونيات وما يتصل بها، فما علاقة ذلك بهذا المنهج؟ ولماذا يفرض على بقية المحاور القرآنية التى لها طبيعتها ومقاصدها وأدواتها ومناهجها؟.. لا يمكن أن يقبل هذا.. تقول الإحصائيات: إن كتب الفقه تشكل نصف الثقافة الإسلامية فلو دخلت مكتبة مثلا(1/45)
لوجدت أن نصف كتبها فى الفقه. لقد تقلصت فى ثقافتنا الإسلامية الرؤية القرآنية الشاملة، واختزلت المحاور والمقاصد، وأصبحت المصادر الإسلامية تقرأ على أنها فقه.. السيرة تقرأ على أنها ص _047
فقه.. والسنة كذلك.. والقرآن على أنه فقه.. ولا أقصد بالفقه هنا: المعنى العام الذى يعنى فقه الحياة كما ورد فى القرآن، وإنما الفقه الذى انتهى إليه المعنى الاصطلاحى وهو: استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية.. هذا غير صحيح، لأن كل أفق من هذه الآفاق، له صبغته، وله منابعه، وله هدفه الذى يسير إليه.. ونقل المنهج الأصولى ليصبح منهجا للتعامل مع النص القرآنى فى المجالات والمحاور كلها، فهذا غير صحيح، وغير دقيق، فلكل مجال آلات لفهمه. المنهج الأصولى مطلوب من غير شك، لتحديد المفاهيم، وضبط المعانى، خصوصا فيما يتصل بالدين والأحكام الشرعية والقانون، لكن معروف أن العقل القانونى يتطلب أدوات ووسائل، ويهدف إلى مقاصد غير العقل الفلسفى.. والعقل الفلسفى غير العقل العلمى، بالمصطلح العلمى الجديد الذى تعتمد وسائله على التجربة والملاحظة والاستقراء والإحصاءات والاختبارات، والاعتبار بذلك كله للوصول إلى الحقيقة العلمية المطردة.. كل أفق له وسائله الخاصة به.. وقد تعددت الثقافة الإنسانية وتشعبت الاختصاصات التى تبحث الآن عن الكون، وعن الإنسان، وأصبحت العلوم الإنسانية الآن: علم نفس، الاجتماع، الاقتصاد، السياسة، الأخلاق، التربية، الجمال، التاريخ.. ولكل علم منهجه وطرائقه ومقاصده. المشكلة أن العقل المسلم توقف عن النمو فى هذه المجالات ـ لعدة أسباب ـ مع أن موضوع القرآن هو الإنسان، ومحل آيات الله هو الكون، ولابد للإنسان من التدبر فى القرآن، والتعرف على سنن الكون وقوانينه التى لا يتحقق بدون إدراكها تعمير الأرض.. لكن عصور الانحطاط والتخلف والتقليد، أوقعت المسلمين فى عجز الرؤية وتجزؤ النظرة، فأصبح الفقه يعنى: استنباط الأحكام(1/46)
التشريعية، والدوران فى فلك اجتهاد السابقين، شرحا واختصارا.. أما ما وراء ذلك فأصبح للتبرك، وانحسرت الرؤية القرآنية الشاملة.. أليكسيس كارل فى كتابه "الإنسان ذلك المجهول " أخذ يعيب المتخصصين ويقول: إنهم يعيشون فى دوائر مغلقة من تخصصاتهم، وإن الحياة ليست كذلك، ولابد من الأخذ بعلم الإنسان.. واعتبر أن الإنسان له علم يتجاوز هؤلاء كلهم.. ص _048
والنظرة الشاملة الآن بدأت تفرض نفسها على الثقافة الإنسانية، وفى الوقت نفسه وسعت شعب التخصصات على أساس خدمة النظرة الإنسانية العامة.. يوجد الآن، حتى علم للأغذية، ولكن علم الأغذية لخدمة الإنسان، وفى الطب مثلا تجد طبيبا متخصصا فى العيون، وآخر فى القلوب، وثالثا فى الأ نف والأذن والحنجرة.. الخ فالشىء الواحد بدأ يتفرع إلى تخصصات لكن الأساس كله: لابد من دراسة الإنسان من قبل ومن بعد، لأنه لا معنى للتخصص قبل الشموليات. فالتخصص هو: معرفة جزء من كل، لكن هذا الجزء لا يجوز أن ننظر إليه مبتورا ومنفصلا عن موضوعه، فمن الخير أن تعرف آثار التخصصات الأخرى، على تخصص الإنسان نفسه. فى النظر إلى العلوم والمناهج وما يتصل بها، سنجد أن كل علم له أسلوب خاص به. ونحن لابد لنا أن نبحث ونتابع ونتعرف على المنهج الذى يحقق الغاية والمقصد لكل علم ، لأن تسخير الكون يعنى أول ما يعنى اكتشاف قوانينه التى تمكن من التسخير.. فنقل طريقة الفقهاء إلى علماء التربية أو علماء النفس، هذا لا يمكن ولكل علم منهجه الخاص. الحاجة إلى فهم السنن القرآنية السنن الاجتماعية فى القرآن هى القوانين المطردة والثابتة التى تشكل إلى حد كبير ميكانيكية الحركة الاجتماعية: حركة المجتمع، وتعين على فهمها، وكلمة "سنة" تعنى القانون المطرد الذى لا يتخلف إلا فى قضايا السنن الخارقة.. أما السنن الجارية فلا تتخلف، وإن كان لا يرى اطرادها واضحا وصارخا كقوانين المادة. وقد تكون حاجة المسلمين اليوم لفهمها وحسن التعامل معها(1/47)
وتسخيرها للقيام بأمانة الاستخلاف وتعمير الأرض، أشد من حاجتهم للحكم التشريعى الذى تضخم وتضخم حتى كاد يشمل الإسلام بأبعاده كلها، مع أن الحاجة إليه تأتى ثمرة لإعمال هذه السنن. فكيف يمكن الوصول بالمفكر المسلم لإدراك هذه السنن من القرآن الكريم والسنة، والتحقق بأبعادها لتصبح فقها تغييريا، ومناخا تربويا يمكن أن تنشأ عليه الأجيال من خلال النظر فى القرآن وتلاوته، مع الإفادة من التبصر فى عمل هذه السنن فى الأمم السابقة: (ولن تجد لسنة الله تبديلا). ص _049(1/48)
أظننى كتبت عن هذا الموضوع بابا كاملا فى كتابى "سر تخلف العرب والمسلمين"، والأساس أن القرآن نبه فعلا إلى أنه كما توجد سنن كونية في إطار المادة تجعل درجة الغليان مثلا عند المائة، ودرجة التجمد عند الصفر، أو تجعل للغازات ضغوطا معينة.. كذلك الأمر فى الحضارات البشرية، وانهيارات الأمم وانتصاراتها: إنها تخضع لقوانين لا يمكن أن تتبدل. ولقد نبه القرآن إلى هذا فى قوله تعالى: (وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم فلما جاءهم نذير ما زادهم إلا نفورا * استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا). سنن الله فى المجتمعات هى صور أخرى مكملة أو امتداد طبيعى لسننه فى ميادين العلوم التطبيقية، وإن كانت كيميائية أو فيزيائية أو نباتا وحيوانا، أو أى شىء. ليس هناك فوضى فى الكون، من ناحية البناء العلمى له، ومن ناحية الانطلاق الحضارى. سنن قائمة بيقين وسنن ثابتة.. وقد انطبقت هذه السنن على صاحب الرسالة نفسه، نصرا وهزيمة. فعندما قصروا فى اتخاذ الأسباب المطلوبة لاستكمال النجاح فى "أحد" هزموا، وقيل لصاحب الرسالة: (ليس لك من الأمر شيء)، وإذا استكملوا أسباب الانتصار، وانتصروا.. وما يتصور أن أمة من الأمم تحابى أو تستثنى من هذه القوانين. وقد طبقت هذه القوانين نفسها على أمتنا خلال الأربعة عشر قرنا من تاريخها.. وقد ذكرت نماذج لهذه القوانين من مثل قوله: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) وهذه السنة المطردة ذكر بها القرآن عند هزيمة المشركين فى بدر فقد قال لهم: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد * كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب * ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع(1/49)
عليم) ص _050
فقيل للمشركين هذا الكلام: هزمتهم لأن القانون الذى انطبق على الفراعنة من عشرين قرنا، انطبق عليكم، وينطبق على المسلمين بعد ذلك فى أحد، يقول تعالى: (ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين). هناك قوانين كثيرة، ذكرت فيما كتبت على ما أظن عشرة: منها: (ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم) ومنها: (فلما ألقوا قال موسى ما جئتم به السحر إن الله سيبطله إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) ومنها: (الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم) ومنها: (قالوا أئنك لأنت يوسف قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) ومنها: (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا) آيات كثيرة فى القرآن الكريم هى قوانين لابد أن تنطبق على العدو والصديق، ومحاولة الإفلات من هذه القوانين، فاشلة، بل ميئوس من نتائجها، وعندما يقول الله تعالى: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) فإن هذا القدر المعلوم يفرض نفسه. ونضرب مثلا فى حياتنا العامة. خذ مثلا: نحن نعلم أن القطن يزرع خلال ثمانية أشهر فى السنة.. مهما بذلت من جهد لمحاولة أن تجئ بالثمر قبل أوانه فذلك مستحيل. إذا كان الحمل يستغرق ما بين سبعة وتسعة أشهر فلن يكون قبل ذلك إلا إجهاضا، ولن يجيىء بعد ذلك أبدا كما يقول علم الطب. هذه القوانين التى تكون فى الأحوال المادية، فى الكون والحياة، هى سارية أيضا فى الحضارة الإنسانية التى نعيش فيها الآن.. انهزم المسلمون لأنهم كان يجب أن ص _051(1/50)
ينهزموا، وسنن الله لا تلين لمن يدعى أنه ابنه أو حبيبه، فعندما قال اليهود والنصارى : (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير). الاثار المدمرة لتعطيل قانون السببية: فهذه القوانين لابد أن تأخذ مكانها الصحيح من عقلنا، ولابد أن نحترمها.. للأسف وجد فى الأمة الإسلامية خطأ قديم، ولا تزال بعض آثاره باقية إلى اليوم، وهو شيوع فلسفة الجبر، وهى فلسفة عطلت قانون السببية تعطيلا كاملا. لقد عطلته فى السنن الكونية، فتخلفنا فى عمارة الأرض.. وعطلته فى السنن النفسية، فسادنا التواكل وانطفاء الفاعلية. هذا من أسباب انهيار الحضارة الإسلامية، وعقيدة القدر التى كانت يوما ما سبب انطلاق الأمة الإسلامية دون تهيب إلى الإمبراطوريات الضخمة، وقرعت أبوابها بآيات الله وهى لا تبالى، واستسلمت هذه الأمم أمام العطاء الروحى والثقافى والحضارى للقادمين، تحولت هذه العقيدة ـ عقيدة القدر ـ غريبة، مسخت الكتاب والسنة، وأصبح الناس ينظرون إلى أنفسهم على أنهم ريش فى مهب الريح، أو جيف مرمية فى البحر تتقاذفها الأمواج كما تشاء.. كنت يوما أدرس فى المسجد، فقلت للمسلمين: إذا كان الله سبحانه وتعالي يقول للإنسان كى يشهد على نفسه: (اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا) أنت شاهد على نفسك بما قدمت، فيجىء واحد من الناس، ويأتينى بحديث يحفظه ولا يحسن فهمه، ويقول: إن الرجل يكون صالحا فيسبق عليه الكتاب فيفسد مستقبله، أو يكون فاسدا فيسبق عليه الكتاب فيصلح مستقبله والاستشهاد بمثل هذه المرويات كثير، لكن المشكلة تبقى: فى النظرة الجزئية، والعجز عن فقه النص، والتحقق بالنظرة الموضوعية ـ وليس الموضعية كما أسلفنا. فهذا حديث لم يفهم على وجهه أبدا، وهو يوم يكون لا يتحمل إلا هذا المعنى، فلا بد من التوقف وإن صح سنده، وتبقى(1/51)
المحاولة قائمة لتأويله، وشرحه ليتوافق مع النص القرآنى.. والمعنى ـ كما شرحته لهم ـ هو أن الأستاذ قد يكون رقيبا فى الدرس على بعض الطلاب، ويأخذ باله من اجتهاد هذا وكسل ذلك، فيسأل ما رأيك فى النتيجة؟ ص _052
ماذا تظن الحال؟ فيقول: الطالب فلان وفلان سينجحان ، وفلان وفلان سيرسبان.. ثم تكون الامتحانات، وتشاء الأقدار أن الأمر يكون كما قال، فيقول من باب المباهاة والاعتداد بحسن حكمه على الأمور: كلمتى لا تقع على الأرض، أنا قلت كلمة لابد أن تنفذ.. وهذا اعتداد بعلمه وذكائه. فهذا الحديث هو من باب الاعتداد بعلم الله. فربما وجد شخص من الناس يعمل الصالحات، لكن فى علم الله فإن نهايته سيئة؟ لأنه مراء لأنه كذاب، لأنه سينكشف ما فيه على مر الأيام. وهو الذى يصنع حاضره ومستقبله.. وجدت أن الأمة الإسلامية لما غاب وعيها بهذه القوانين ونسيت المعنى، أصبحت تتلقى الانتصارات والهزائم دون وعى ودون استفادة، ودون البحث فى أسباب النصر وعوامل الهزيمة، وران عليها هذا حتى فى كتابة التاريخ، فهى لا تكاد تعى ما يقع بها من مآس. وأنا أنظر الآن، فأجد أن المسلمين تنزل بهم النكبات التى تقصم الظهر ثم تنتهى بغير شىء! لِمَ؟ مأساة الأندلس التعليق عليها قصيدة: لكل شىء إذا ما تم نقصان فلا يغر بطيب العيش إنسان هل هذا هو التعليق؟ أين تعليق العلماء والأمراء والساسة والقادة، والنظر فى هذا كله نظرة فيها محاسبة للنفس؟.. إذا أفلست شركة مثلا فإن التقرير يوضع عن أسباب الإفلاس، فكيف لم توضع أى تقارير عن فساد الأمة الإسلامية الذى أدى إلى هزيمتها فى الأندلس، وعن انحصار هذه الأرض وضياعها؟ كيف؟ هذا شىء يستدعى أن نفكر نحن تفكيرا جادا فى الطريقة التى نعيش بها.. نحن ما فهمنا سنن الله الكونية فى الأرض، حسب منطق التجربة والاستقراء والملاحظة، وهو المنطق القرآنى الذى عُرف من كتاب ربنا ومن تطبيقات النبوة، ولا أحسنا الاستفادة من سنن الله فى(1/52)
الحضارات والمجتمعات، وكانت النتيجة أن الأمة سقطت بقضها وقضيضها فى قبضة استعمار عالمى لا يرحم، وهى الآن تحاول الخلاص من شباكه، وترمى بأجنحتها العالقة داخل الشباك دون أن تخرج.. لقد واجهت الأمة الاستعمار مواجهة عسكرية وسياسية، لكن لم تنتبه إلى القضية الأخطر وهى: أن الخلل الفكرى وانهيار عالم الأفكار وعدم التبصر هو الذى يمكن للاستعمار.. إن الأمة لن تخرج من الشباك إلا بقوانين مكتوبة عندها فى الوحى النازل عليها، يجب أن تدرسه، وبالتالى يجب عليها أن تعيد حساباتها عن ماضيها ص _053(1/53)
بعد أن تعرضت للاضمحلال والانحلال عندما فرطت فى سنن الله الكونية والاجتماعية، وظنت أن المواجهة العسكرية والسياسية العمياء فقط، كافية فى استئناف النهوض. السنن القرآنية من الإدراك إلى التسخير الحقيقة التى لابد أن نعرض لها ونطرحها للنقاش والمدارسة، ويبقى الحوار حولها قائما ومطلوبا بالنسبة للقرآن الكريم: قضية إدراك هذه السنن، ذلك أن الحال التى نحن عليها، أصبح يتردد فيها ضرورة الانتباه إلى سنن الله فى الأنفس والآفاق التى تحكم شروط النهوض والسقوط الحضارى.. أصبحنا نسمع بضرورة الإفادة من هذه السنن، بل لعل ذلك أصبح قناعة عند الناس بشكل عام.. لكن هذه القناعة لم تجد طريقها إلى الممارسة، ولم تنتقل بمواقعنا إلى مراحل تغييرية، فما يزال هناك قيود التقليد الاجتهادى من ترسيبات الماضى، فلا تسأل إنسانا إلا ويقول: إن القرآن عرض لسنن وعوامل نهوض الأمم وسقوطها، وفيه سنن لا تخطئ ولا تحابى أحدا، وما إلى ذلك.. لكن أرى أن المشكلة تتركز اليوم فى: إدراك هذه السنن وحسن تسخيرها والتعامل معها.. كيف يمكن للأمة بواقعها الحالى، أن تنتقل من موقع المعرفة والفكر إلى موقع الفعل؟ وإن كنت لا أزال أرى أن ما نسميه قضية مناهج الفكر والمعرفة لم تأخذ منا الأبعاد الحقيقية؟ لأنها لو أخذت أبعادا حقيقية، لكانت الأمة انتقلت من الفكر إلى الفعل، فالتحول وأعمال هذه السنن، هو المختبر الحقيقى لإدراكها والقناعة بها. بل لعلنا نقول: إن هذه القضية لم تشكل مناخا عاما يعيشه المجتمع، أو لم تحفر بعد فى واقع الأمة المجرى المطلوب لسيرورتها. قد تكون مشكلتنا اليوم فى التعامل مع القرآن كالعاصى من البشر الذى يسمع آيات تدعو إلى التوبة فلا يدرك أبعاد معصيته وضرورة الالتفات إلى التوبة المودعة فى الآيات، وإنما يلتفت إلى موسيقى القراءة ونغم التالى، فيقول : " الله.. الله " للنغمة التى يسمعها، فلا يتدبر ولا يفكر قط فى أن يصنع شيئا للانتقال من(1/54)
معصيته إلى التوبة المطلوبة منه.. هكذا حال أمتنا.. (سمعت مرة فى أحد المساجد وصفا كاد شعر رأسى يقف من هول القيامة، وإذا واحد من الرعاع، ما خطر بباله شىء من هذا الوصف، ويصرخ: الله يا سيدنا الشيخ، أعد! لقد أصبح هذا التعامل مع القرآن ـ للأسف ـ هو المناخ الثقافى السائد الذى نورثه لأجيالنا). ص _054
لابد من التدبر.. فإن تدبرنا الآيات، نقلناها إلى حقول الممارسة على الأقل، أو إلى ميادين السلوك لنعرف كيف نعمل هذه الآية فيما نعانى منه وفى ما نواجهه، فإذا قيل: (إن الله لا يصلح عمل المفسدين * ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون) فإننا يجب أن نجئ بهذه الآية، وننظر إلى أعمالنا وهى قاصرة: هل يكملها الله؟.. لا.. لن يكملها الله، لأنه لا يصلح عمل مفسد.. إذن ما الخلل الذى أصاب العمل فجعله لا ينتج؟ لابد من استدراكه حتى يؤذن الله بالصلاح، لذلك لابد من تحرى الصواب فى العمل، إلى جانب الإخلاص. يجب أن نغير أنفسنا كما تقول الآيات.. فى كتابى: "جدد حياتك " وأنا أنقل عن "ديل كارنيجى" أن واحدا قال لابنه وهو مسافر للاستشفاء: إن بلاءك من نفسك التى بين جنبيك، فإذا تغيرت الأرض عليك بالسياحة، وانتقلت من هنا إلى هنا، وبقيت نفسك التى بين جنبيك، بسوادها وتشاؤمها وإسفافها، فلن تنفعك السياحة.. لابد من تغيير نفسى يجعل لهذه السياحة معنى. ص _055(1/55)
تصويب مناهج الفكر ووسائل التلقى إذا تأملنا ملامح الظاهرة الثقافية التى عليها المسلمون اليوم، سواء كانوا متعلمين أو كانوا من عوام الأمة، نجد أن هناك خللا فى تلقى القرآن الكريم، خللا فى التعامل مع القرآن.. هذا الخلل يعود إلى: طريقة التدريس، إلى مناهج التربية، إلى مناهج التعليم، إلى مؤسسات تحفيظ القرآن نفسها.. يشارك فى هذا الخلل مؤسسات كثيرة عاملة فى بناء الشخصية.. فهذا الخلل، أو تلك الأسباب التى انتهت بنا إلى ما نحن عليه، إذا حاولنا الأخذ بسنة السببية التى نحن بصددها، وهى دليل الوحى عندنا، والتى كان إهمالها من أهم أسباب التخلف فى مجال الدنيا وإعمارها، والتواكل فى مجال الدين والسلوك، لو أعملنا: هذه السنة، نستطيع أن نحدد موطن الخلل فى نظامنا التعليمى، وفى التعامل مع القرآن الكريم منبع ثقافتنا الأصلى الذى أحدث هذه الظواهر.. فتغيير التعامل مع القرآن، يجب أن يبدأ فى إصلاح الخلل فى مناهج التلقى، ووسائط التوصيل، وإعادة بناء العقل على منهج فكرى واضح نستطيع به تغيير التعامل مع القرآن. القرآن نفسه يقول: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس)، فكأن الفساد ناشئ عما كسبته الأيدى، ولن يتلاشى الفساد إلا إذا اختفى ما تكسبه الأيدى من إثم. فى القرآن تساؤلات، مثل: (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين). فالقصة ليست قصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم راغب فى أن يهدى أمة، أو أن يهدى فردا.. الفرد إن لم يصنع شيئا يرفع به رأسه، ويهذب نفسه، فإن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لهدايته لن تجزى.. فقد يكون هناك من يحب لنا الرفعة، ولكن لن نرتفع إذا كانت أجنحتنا مقصوصة! لابد من العودة إلى قانون السببية، ونعرف بدقة ما السبب فى تخلفنا.. والتخلف كالمرض.. فالإنسان إذا مرض بحمى من الحميات، فإنه لكى يشفى منها، فإن الشفاء لن يكون ما بقيت الجراثيم موجودة فى البدن.. إزالة الجراثيم(1/56)
بشتى الأدوية، يؤذن بالشفاء. القرآن، شفاء للمؤمنين.. ما معنى أنه شفاء للمؤمنين؟ يقول أصحاب النكت : إنه ـ فى أيام الأتراك ـ كان يجئ فى الأسطول من يقرأ البخارى لكى يكون بركة ص _056
للمعركة القادمة، فقيل لهؤلاء: إن الأسطول يسير بالبخار لا بالبخارى.. فقراءة البخارى دون إدراك لأبعاد الأحاديث النبوية المبينة للقرآن الكريم فى حسن التعامل مع قانون السببية، لا تجعل السفينة تتحرك إذا كان الربان يكتفى بقراءة البخارى.. ومجرد قراءة البخارى ـ دون التعامل مع الأسباب ـ لا تنفعه هنا إطلاقا. وما حدث قط أن نفعت من سبق. المسلمون كانوا حديثى عهد بسنة وبقرآن، واشتبكوا مع الرومان فى معركة ذات الصوارى.. ما كان للعرب صلة بمعارك البحر، ولكنهم علموا أنهم ما يكسبون المعركة ضد الرومان والبحر الوسيط، إلا إذا صنعوا السفن واشتبكوا مع العدو.. فصنعوا السفن واشتبكوا مع العدو. وما فكروا قط فى أن يجعلوا من تلاوة آيات أو قراءة كتاب سنة بركة لكى ينتصروا، وإنما كانت البركة فى أن يحولوا آيات الجهاد إلى جهاد، وآيات الإعداد إلى إعداد.. فأعدوا مكانا غريبا على بيئتهم، وما كان بعيدا على جاهليتهم وماضيهم الأول.. كانوا ركاب إبل فى سفن الصحراء، فما الذى جعلهم يصنعون السفن فى البحر كى ينتعشوا؟ من غير شك، هناك خلل فى أخذنا من القرآن الكريم وهذا الخلل سرى حتى فى الأعمال الشخصية المحدودة جدا، فأنت ترى الرجل يتوضأ ويبقى وسخا! لماذا؟ لأنه أمر الماء وهو ذاهل، ما نظف به درنا وما أزال به وسخا، فكذلك نحن نستمع للآيات دون وعى: (فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين). فلابد من أن يتلاشى هذا الخدر الذى قيد الأفكار وقيد الحواس، وقيد الأعضاء فأصبحنا لا نتحرك بكتاب ربنا كما حرك هذا الكتاب آباءنا. موطن الخلل المشكلة الآن، فيما يبدو لى، أن الإصابة والخلل واقع فى المؤسسات الموكول إليها عملية الإشراف على التربية والتعليم(1/57)
من مناهج وكتاب ومدرس ووسائل معينة.. إنها لم تستطع أن تكون أداة توصيل صحيحة بين الجيل وبين القرآن الكريم ومواريثه الثقافية.. فصار هناك توارث للتخلف والمرض.. فالمشكلة الكبرى قد تكون فى المؤسسات المنوط بها الآن تفهيم وإيصال القرآن للجيل.. هذا عمل المصلحين الكبار.. المصلحون الكبار يجيئون فى أيام عجاف، لا يكون لديهم، لكسب المعركة، الجيش الذى يديرون به الحرب، بل ولا الأرض التى تدور ص _057
عليها الحرب، فيبذلون جهدهم فى اختراع هذه الأجهزة من العدم، والمشى بها حتى الغاية المنشودة.. إذا كان هناك فى الأزهر أو فى الزيتونة، أو فى القرويين، أو فى المسجد الحرام والمسجد المدنى من لا يزالون يقرءون القرآن قراءة ذات فهم موضعى محدود للنص ـ وليس موضوعيا ـ دون أن يعملوا هذا النص فى ما نزل من أجله، وفى ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، فمعنى هذا أننا نريق الدواء على الأرض، ولا نحسن علاج المرضى بتعاطيه إنما يوم أن نجعل هذه المعاهد أو هذه المدارس بروح واحد يحركها من جديد لكى تفهم النص، وبدل أن تنقل النص فى افتتاح مدرسة عسكرية، فيفتتح الحفل بتلاوة آى الذكر الحكيم، كنوع من التقليد البعيد عما كان معروفا فى الأيام الأولى، أن يكون القرآن نفسه هو الذى أنشأ هذه المدرسة، وأودع روح القتال فى أبنائها.. وبدل أن نكتب: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) فى الجدار لافتة، يكون البناء التربوى، والإعداد العملى، والتخطيط الاقتصادى والعسكرى مبنيا على أن الأدوات تجمع، والأجهزة تحشد، ورباط الخيل الجديدة ـ الدبابات وغيرها ـ تعد. كل شىء يعد.. هذا هو معنى الجهاد، وفهم الجهاد من القرآن الكريم. الرسول عليه الصلاة والسلام علم وهو لا يزال فى المدينة وقبل أن يخرج أى جندى من جزيرة العرب، علم أن الله سيجعل رسالته تجتاز البحار، وأن من أمته من يقاتل فى البحر، فطلبت منه بنت ملحان أن تشارك فى هذا الغزو البحرى.. امرأة بفطرتها(1/58)
السليمة أدركت أن هناك جهادا بحريا، ولم تستغرب أن يكون هناك جهاد بحرى لرسالة عالمية، أدركت أن الأمة التى تحمل هذه الرسالة لابد أنها مشتغلة بإعداد الأجهزة التى تقاتل فى البحر.. كل هذا بالبداهة العربية الأولى، ولذلك طلبت ـ كأنه أمر واقع ـ أن تشترك فى هذه المنافسة فى الخير.. جاء بعد ذلك من يقرأ آيات تسخير البحار للناس ولا يفكر فى أن يركب بحرا. ونشأ عن هذا أن الأمة الإسلامية فى الأرض التى قال العلماء: إن ثمانية أعشارها مياه! فى هذه المساحة الهائلة من البحار، توجد عشرة آلاف أو عشرون ألف ـ أو نحو ذلك ـ سفينة اليوم، ليس فيها غواصة إسلامية! ولا حاملة طائرات إسلامية! ولا سفينة ـ مدنية كانت أو ص _058(1/59)
عسكرية ـ تصنع فى مرفأ عربى أو إسلامى! ما معنى هذا؟ أهؤلاء لديهم إدراك لمعنى قوله تعالى: (الله الذي سخر لكم البحر). هل هذه الكلمة يتغنى بها دون أن نعرف أن البحر المسخر لنا يجب أن نسخره لأنفسنا ـ وهذا هو الفكر الطبيعى للأمة الإسلامية ـ بدل أن يسخرنا فى البر والبحر عباد الله الذين لا دين لهم؟ إن الخلل العقلى فى فهم القرآن، فهما عمليا كما توحى به الطبيعة السهلة التى لا تكلف فيها بين الناس، فقدناه من مدة طويلة! ويجب على المعاهد التى تكون الدعاة والتى تكون العلماء أن تستنقذ الأمة من الورطة التى وقعت فيها. إن حديثا كحديث: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته " ما أخذنا منه إلا أن نأكل من البحر الأسماك والحيوانات وإن كانت ميتة، ونغتسل! وانتهى الأمر إلى هنا! هل فقه القرآن الكريم تلاشى عند أننا نأكل سمكا من البحر، ويبقى البحر لغيرنا؟ وكيف نستطيع الوصول إلى سمك البحر إذا كانت السيطرة عليه لغيرنا؟ يقول تعالى: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون).. عندما كان "سير جينز" يقرأ معلوماته من الفلك على بعض المسلمين ويرتعش من حدة العاطفة التى ملكته وهو يحدث عن الله وعن الإيمان بعظمته لما رأى من عظمة المجرات التى درسها، كان أقرب للإسلام من كثير منا عندما درس السماء أما نحن فنكتفى من قوله تعالى: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون ) بأن الله لفتنا إلى أن هناك علامات فى الأرض والسماء! لكن، ما هى؟ وماذا صنعنا مع هذه العلامات؟ وما هى الوسائل والمبتكرات التى طورناها فى هذا الموضوع؟ إن غيرنا الآن يغزو الفضاء ويتخذ من غزو الفضاء منارات وعلامات لكى يسخر الحضارة له.. أما نحن فوقوف! لابد من إحسان التعامل مع القرآن، وإذا كان من تعليق سريع على هذه الآية فهو أن بعض المحدثين ـ للأسف ـ استدل بحديث واه عن ص _059(1/60)
النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ منع به السفر فى البحر! " لا يركب البحر إلا حاج أو معتمر أو غاز فى سبيل الله " أو نحو ذلك.. فكيف جىء بهذا الحديث الذى رواه أبو داود؟ أنا رفضت هذا الحديث وقلت: إنه كلام غير صحيح.. كأن الأمة لم يكفها أنها قصرت فى فهم العمل حتى تريد إفساد المصدر الذي تأخذ منه المعرفة الدينية.. وكم من اعتماد موضوعات فى السنن النبوية سببت البلاء للأمة الإسلامية على هذا النحو. التعامل مع النصوص من خلال واقع التخلف قد تكون المشكلة الفكرية اليوم هى أننا نحمل تخلفنا أيضا لمواردنا الثقافية، فنفسر ميراثنا الثقافى من خلال واقع التخلف الذى نعيش فيه، فنصير نلجأ إلى لون من التفسير المتخلف أيضا، كنوع من التسويغ للواقع الذى نحن عليه، فننتقى بعض النصوص، ونعتمد على بعضها الآخر، وما إلى ذلك، دون النظر إلى صحتها من حيث السند، أو إلى الأبعاد المطلوب إدراكها، واستشعار المسئولية تجاهها، هذا لأنها توافق الحالة التى نحن فيها، وكأن هذه النصوص بدل أن تكون دافعا للتغيير، أصبحت مانعا منه، تُقرأ بمنهج مغلوط يكرس تخلف الأمة وسقوطها.. نعم.. خذ مثلا قضية الحديد.. آية الحديد، الظاهر فيها أن الله يريد أن يعلم المسلمين من ينصره بالغيب.. الدافع واضح من استخدام الحديد، لابد من نصرة الله بالغيب، فاستخدم الحديد فى صناعة السيوف أو الرماح. لكن الحديد اليوم أساس صناعة الدبابات.. أساس صناعة السفن فى البحار.. أساس صناعة المسدسات والمدافع.. أساس صناعات حربية هائلة، ما ينصر الله ورسله إلا بهذه الصناعة.. فأين هى من وعينا، وأين نحن من إعداد أسبابها؟! لا شىء.. بالعكس، لقد رأيت أن غيرنا حتى فى ميدن الفلاحة ـ وهو ميدان بدائى ـ استطاع أن يستثمر الأرض وأن يخرج منه القناطير المقنطرة، بينما لما وقعت الأرض فى أيدينا ما أحسنا أن نأكل منها! هذا بلاء كبير تقع فيه الأمة الإسلامية من سوء فهمها للقرآن.. ص _060(1/61)
لابد من جعل القرآن يتحول فى حياتنا إلى طاقة متحركة.. أما أن يوضع فى المتاحف أو المكاتب للبركة، أو أن نفتح المصحف ونقرأ منه آية أو آيات وينتهى الأمر، هذا لا يجوز. لاحظت أن آيات الأحكام من غير شك، كانت من وراء جهد الفقهاء فى بعض القضايا وبعض الاجتهادات الفقهية.. لكن بقية آيات القرآن أهملت وبقية آيات القرآن التى هى القصص.. والقصص القرآنى فيه الكثير من العلاج.. أنا سمعت حسن البنا رحمه الله، يقول بنفسه : لا أدرى لماذا أهمل التأليف الروائى، وكان يمكن أن يكون سببا فى إنشاء أجيال واعية؟ كان يمكن جدا أن أروى للأطفال: محاولة الحبشة هدم الكعبة تبعا لمؤامرة عالمية بين الإمبراطورية الرومانية فى أوروبا وبين الحبشة فى إفريقيا، وكيف أنهم أرسلوا الفيل، وكيف أنهم نجحوا فى احتلال الجنوب.. وأجعل الأطفال من خلال قصة الفيل، يعرفون أشياء كثيرة من علاقات دينية، وعلاقات دولية، ومعلومات تاريخية، وكيف أن الله ينصر الإسلام بعد أن نبذل نحن جهدنا فى نصرته.. وذلك بدل أن أسمع من يقول: إن الشيخ محمد عبده كافر.. لماذا كافر؟ لأنه شرح سورة الفيل وقال: إن الطير الأبابيل، هى الجراثيم.. أنا قرأت شرح الرجل، ليس فيه هذا الكلام.. قال: إن الطير الأبابيل ص _061(1/62)
ربما تحمل أشياء فيها جراثيم.. ولنفترض جدلا أن الرجل قال: إنها جراثيم، أو تحمل جراثيم، فهل الذى يعنينا من دراسة الآية تكفير الناس؟ أم إنه كان من الممكن الاستفادة من القصة على نحو أخصب وأوقع فى النفوس، وأنفع للمجتمع والحاضر والمستقبل على السواء؟ انقلاب الوسائل إلى غايات فى تصورى: أن من كتبوا فى القصص القرآنى، غلب عليهم إبراز الجانب الفنى، وأخذوا بالناحية البلاغية حتى كادت تكون هى الهدف فى أعمالهم، مع أنها الوسيلة وأداة التوصيل، القالب الفنى الذى يغرى الإنسان بالإقبال على القرآن وفهم أبعاد الآيات، لذلك فقد تكون المشكلة أو الإصابة فى التعامل مع القرآن هى فى: انقلاب الوسائل إلى غايات.. لقد غابت الأهداف والمقاصد وتركز الاشتغال بالوسائل، والأشكال، وغاب من القصص الشهود الحضارى التاريخى الذى لابد من استصحابه للعبرة وتحقيق الشهود الحضارى للأمة المسلمة، وأبدل بالبحث عن مخارج الحروف وإعراب الكلمات، وبيان الاستعارات، وما هى إلا وسائل وأدوات للوصول إلى تذوق القرآن وتدبره، فأصبحت بالشكل الذى هى عليه: معوقات وحواجز بين المسلم وكتابه الخالد! فى كتابى "المحاور الخمسة فى القرآن " كتبت شيئا موجزا عن القصص القرآنى، واقتصرت على ذلك، تاركا الموضوع كله لمن وكل إليه أن يكتب فى هذا الباب آو هذا المحور من محاور القرآن الكريم.. القصص فى القرآن أساس التربية، لا التربية النفسية فقط بل العقلية أيضا. العقل الإنسانى يجب أن يحرر من قيود الوراثة المخرفة، وأن يكون قادرا على الحركة بل أنا أرى أن القرآن يهدف إلى بناء أو إنشاء عقل تجريبى.. عندما يقول تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور). كأن من نتائج السياحة فى الأرض أن ننشئ عقلا.. ننشئ فكرا يستمد معارفه وأسلوبه فى الفهم من واقع الناس.. فالسير فى الأرض ينشئ بصائر الناس.(1/63)
ص _062
هذا معنى إذا ضممنا إليه الآية الأخرى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم) النفس، متى تكون مصدرا للإلهام؟ متى تكون مصدرا لاستكشاف المخبوء من قياس شئ على شئ؟ وقوله تعالى: ( فاعتبروا يا أولي الأبصار). لابد أن ننظر فى كل محور من المحاور التى دار عليها القرآن لنعرف كيف أخطأ القدامى، فى بعض ما ذهبوا إليه فى عصور الجمود والتخلف، أو كيف وقف آباؤنا ولماذا؟ لقد ظلمنا القرآن بسوء التعامل معه، ويجب أن نحسن التعامل معه كما صنع أسلافنا الأولون.. فالمصلحون الكبار هم الذين يبدأون من العدم. بالنسبة للمصلحين الأفذاذ الذين يأتون فى أوقات من التاريخ متباعدة أو متقاربة، يبدو لى أن تعبير "إنهم يبدأون من العدم " ونفى وجود قابليات تشكل استجابة لدعوتهم محل نظر، لعل الأولى أن نقول: إنهم استطاعوا أن يكتشفوا موطن الخلل فيصلحوه ويكتشفوا القابليات فيوظفوها ويثيروها ويشحذوا فاعليتها. هذا كلام دقيق، وإنما الجانب الذى أردت الحديث عنه شىء آخر، وهو أنه عندما أرسل قائدا فى ميدان موجود وأقول له: الخطة المرسومة كذا وكذا وعليك التنفيذ، فهذا القائد أمره سهل، لأنه سينفذ الخطة الموضوعة فى الميدان الممهد.. لكن عندما يخرج رجل مثل حسن البنا رحمه الله، فيجد أن الأرض أمامه كلها ألغام، والجماهير لا ترى إلا صنما قد هام فى صنم، فكيف يعرض الإسلام عرضا جديدا؟.. الرسول صلى الله عليه وسلم سماهم: المجددين.. والتجديد من غير شك هو غير الخلق.. فالخلق يكون من عدم.. أما التجديد فهو غسل ثوب اتسخ، أو إزالة التراب عن ملامح كانت مغطاة، فظهرت ملامحها وبريقها بعد الإزالة. معنى التجديد يكون أقرب إلى ما قلته أنت.. وكل ما أردت أن ألفت النظر إليه: هو أنه قد يضطر القائد إلى أن يستحدث أساليب لا وجود لها من المقررات التى عنده. فمثلا أنا عندى القياس، والقياس آلة تجئ بأشياء كثيرة مع التطبيق المستمر.. والحاجة أم الاختراع.. فإذا أشعرت الأمة(1/64)
بأنها محتاجة إلى كذا وكذا، يمكن أن ص _063
تخترع.. وقد أخترع محمد الفاتح أن تسير السفن على الأرض وهو يحاصر القسطنطينية، لأنه يتمتع بعقل عبقرى متفتح يريد أن يخدم الإسلام خدمة جعلته يكمل حصار القسطنطينية بالطريقة المبتكرة من عدم، فمن كان يتصور أن السفن تمشى على الأرض. الفقه بين دلالة القرآن وإصلاح الفقهاء، قد تكون المشكلة من وجه آخر، أن معظم العلماء والمفكرين المسلمين، تاريخيا، بسبب من الظروف السياسية التى أدت إلى انفصالهم عن الواقع ومتطلباته، أو لأى سبب آخر، صرفوا جهودهم كلها فى استنباط الحكم التشريعى من الآيات دون الوقوف عند الأهداف الكثيرة الأخرى التى جاءت الآيات من أجلها، وأنزلت للفت النظر إليها وإدراك أبعادها والتزامها فى الحياة، فجعلوا الآيات موضوع الدارسة هى آيات الأحكام التى وضعوا له أعدادا متقاربة (300 ـ 500)، أما ما وراء ذلك من آيات السنن والقوانين والشروط التى قد تكون أكثر أهمية وأولى بالنظر من حيث البناء الحضارى، وشروط القيام بأعباء الاستخلاف الإنسانى، فلم يعيروها أدنى اهتمام، أو الاهتمام الكافى على الأقل، وبقيت آيات القرآن الأخرى، على أهميتها، تتلى للتبرك، إلى درجة وصلت عند بعضهم وكأن القرآن كله أصبح كتابا لفقه آيات الأحكام فقط! حتى الآيات التى وردت لتبين أسباب سقوط الأمم وانهيار الحضارات ليأخذ المسلمون حذرهم، فلا تتسرب إليهم إصابات الأمم السابقة وعللها، جعلوها دليلا لصحة القياس التشريعى، بعيدا عن سياقها الأصلى! وتحضرنى بهذه المناسبة: الآية التى عقب القرآن لها على غزوة بنى النضير، فقال تعالى بعد ذكر الأسباب التى كانت وراء هلاكهم : ( فاعتبروا يا أولي الأبصار ) فجعلوا الآية دليلا على القياس التشريعى.. أما أسباب قيام وسقوط الحضارة فلم يكن لها من المساحة الفكرية والاهتمام ما تتطلبه. ص _064(1/65)
وقد ترافق هذا العجز أيضا ـ عند الفقهاء المتأخرين ـ فى القدرة عن تعدية الرؤية حتى فى الإتيان بمثال غير ما أتى به الأقدمون، والمعروف أن الحكم التشريعى إنما يجئ ثمرة للوجود والبناء الإسلامى. بمعنى أن الحكم التشريعى لا ينشئ المسلم، ولا ينشئ المجتمع، وإنما ينظمه ويحميه.. ولعل ذلك كان سبب تأخر الآيات التشريعية إلى الفترة المدنية لتكون ثمرة لوجود فرد وجماعة وأمة وحضارة.. أما أن يكون الحكم التشريعى هو الأول والآخر، فأعتقد أنه منهج خاطئ فى النظر إلى القرآن والتعامل معه، على أهمية الفقه التشريعى، وأهمية معرفة الحلال والحرام. لقد أصبح كل شىء يفسر من خلال الحكم التشريعى، فالسيرة تقرأ على أساس أنها فقه، وتغيب عن الدارسين كل المعانى المطلوبة فى التربية بالقدوة وأبعاد التأسى المطلوبة، لتصبح فقه السيرة، وفقه الحديث، وفقه الكتاب، وفقه السنة، وليس الفقه بمعناه العام وإنما بمعناه التشريعى. وتقدم الفقه التشريعى، وتقدم، حتى أصبح تجريدا ذهنيا جامدا بعيدا عن واقع الأمة غير قادر على قيادة حركة الحياة والأحياء.. وأرى فى ذلك انقلاب الوسائل غايات. لقد غلبت الآلية إلى درجة كادت تغيب معها مقاصد الشريعة، فكان البحث عن المقاصد والموافقات للشاطبى، وكان العدول عن القياس إلى الاستحسان، وما إلى ذلك.. ولعل هذا التبحر فى الحكم التشريعى الفقهى جاء على حساب بقية الجوانب الأخرى الكثيرة والضرورية، فالقرآن كتاب فقه حياة، بكل أبعادها، وليس كتاب فقه بالمعنى المحدود. لذلك بات لا يرى كثير من المسلمين اليوم فى تطبيق الشريعة إلا تطبيق الأحكام الفقهية: تطبيق الحدود، وتحريم المصارف الربوية، بينما يصعب عليهم إبصار بقية جوانب الحياة الأخرى من خلال المناخ الثقافى الإسلامى الذى نعانى منه.. انفصال العلم عن الحكم: أنا لا أشك فى أن الفقه الإسلامى تأثر بانحراف الحكم فى العالم الإسلامى، و يمكن أن أتصور الأمر على النحو الآتى: كانت(1/66)
دولة الخلافة الراشدة دولة تمثل الإسلام تمثيلا هو الأقرب إلى عهد النبوة.. ولا شك أن سياسة الحكم، وسياسة ص _065
المال، والمفاهيم العامة للحضارة الإسلامية، وللانطلاق الإسلامى استمرت بمسيرتها الصحيحة، وكان هذا الفهم مسيطرا على دولة الخلافة.. ثم حدث تحول ينبغى أن نقف بإزائه قليلا، لقد تحولت دولة الخلافة إلى ملك، وفى النظام الملكى الذى أقامه معاوية رضى الله عنه ـ ننصف الرجل فنقول ـ: أنه ظل وفيا لانتمائه الإسلامى وزعم أنه سوف يخدم الإسلام أكثر مما خدمه الخلفاء الراشدون، أو على الأقل أكثر من خصمه الأخير، على بن أبى طالب رضى الله عنه.. أنا أقدر منه على خدمة الإسلام. ومضى فى طريقه، فحدث تحول بيقين فى قضايا إسلامية مهمة وبدأ يتجمد الفقه السياسى والدستورى للدولة.. كما تجمد فقه العلاقات الاقتصادية والمالية. وبدأ يتجمد فقه العلاقات الدولية، كذلك.. هنا نجد الأئمة الذين قادوا الأمة علميا. وهم مشهورون: أبو حنيفة ومالك والشافعى وابن حنبل، وهم فقهاء، التزموا ناحية فروع الفقه، كما التزم المحدثون رواية السنن.. وغلب على هؤلاء وأولئك الرغبة فى ألا يصطدموا بالنظام القائم، لأن النظام القائم اصطدم به الخوارج، وهؤلاء ليس لديهم فقه، فنكل بهم النظام تنكيلا قطع دابرهم، وأيأس الناس من أن يكون هناك مجال لإصلاح سياسى بالمعنى الذى يعود بالأمة إلى دولة الخلافة.. واكتفى الأئمة بأنهم قبلوا الأمر الواقع، واستفاضوا فى شروح العبادات والمعاملات على النحو الذى وصل إلينا.. كان من ص _066(1/67)
الممكن أن ينكشف ضرر هذا المسلك لو أنه حدثت عودة إلى دولة الخلافة، لكن الذى حصل أنه جاءت الدولة العباسية بعد الدولة الأموية، فوقع فى نفوس الناس يأس من أن يحقق الإسلام بمفهومه الكامل مائة بالمائة، فاكتفوا بتحقيق الناحية الفرعية فى فقهه، والناحية العبادية الفردية، وتأثرت السياسة الإسلامية تأثرا واضحا، وانهزمت الشورى انهزاما واضحا، ووقع للأمة ما وقع . ولكن لاشك أن الإسلام فى جملته بقى.. وأن الملوك الذين تبنوا الإسلام، تبنوا منه المجموع من المعارف التى لا تصطدم بوجودهم، ولا بأحوالهم الاقتصادية التى تحيط بهم أو يشكلونها لحراسة سلطتهم.. ومن خرج على هذا الخط، إما تصوف وابتعد، أى انسحب من الميدان بالتصوف، وإما عاش يتحمل شيئا من الأذى، ويبقى الكيان الإسلامى نظريا، وقد تستبقيه الحكومات القائمة لينجح فى أداء هذا المعنى، للاحتفاظ بالصورة النظرية للإسلام . ولهذا فإن العلم المستمد من القرآن الكريم والسنة الصحيحة، انفصل عن الحكم من عصر مبكر، وانكمش، وأصبح تعليقا مرا ولاذعا عند واحد مثل الحسن البصرى لما قيل له: لص مأخوذ إلى الحاكم، قال: سبحان الله، سارق السر يُسعى به إلى سارق العلانية.. فهو يرى أن الحاكم المستغل لص، وأن اللص الصغير يقاد إلى اللص الكبير، واكتفى بهذا التعليق. لكن، هل يستطيع أن يتحول إلى ثائر؟ هو رأى مصارع الخوارج، وبطش الحجاج بالشعوب، فرأى أنه يمكن استبقاء الإسلام علميا ونظريا وتربويا بالطريقة التى يمشى بها.. وهكذا مشى غيره من الدعاة والوعاظ والعلماء ، فكانت أول شعبة معطوبة فى شعب الإسلام هى الحكم.. ص _067(1/68)
وضياع الحكم من قيم الإسلام، ومن تأثيرات الإسلام على المجتمع، له نتائج خطيرة.. فلقد أعقب ضياع الحكم، وانفصال العلم عن الحكم أو الثقافة عن السياسة، انفصال آخر فيه خطورة شديدة على الأمة وهو أن العلم الإسلامى انقسم بين فقهاء ومتصوفة، مع أن التربية التى أساسها العقيدة والأخلاق، جزء من مقاصد القرآن الذى جاءت آياته لتدريب الأمة على العقيدة والأخلاق بطرق شتى. فوجد فقهاء يشتغلون بالمعاملات وبظواهر العبادات، ووجد مربون يشتغلون بالأخلاق والتربية، فكثير من هؤلاء فقدوا الناحية الروحية التى فيها حرارة وعاطفة، (وهم الفقهاء)، وكثير من أولئك فقدوا الناحية العلمية التى فيها ضوابط وقانون، فنشأ عن هذا زلزلة فى الفكر الإسلامى. ذلك أن انفصال الفقه عن التصوف، أو انفصال التصوف عن الفقه، أضاع الأمة، فوجد ناس متعبدون مبتدعون لا وعى لهم، ووجد مشتغلون بصور العبادات وصور الفقه وليست لهم روح أو خشوع، وشكا من هذا ابن تيمية، وبعض علماء الحديث رحمهم الله. اختلال فى العلم الدينى: ثم وجد بعد ذلك فى العلم الدينى، من عكف على القرآن دون بيان السنن، أو عكف على السنة دون موازين القرآن، فانضم إلى السنة حشد هائل من الموضوعات والواهيات، سببت بلبلة فى الفكر الإسلامى. وهناك شىء أخطر من هذا كله، وهو أن علوم الحياة نبغ فيها نوافي مثل جابر بن حيان فى الكيمياء، والحسن بن الهيثم فى البصريات، والخوارزمى فى الرياضيات و.. وغيرهم لكن، مع الأسف، أن هؤلاء عاشوا على هامش المجتمع الإسلامى ولم يعيشوا فى صميمه، واعتبرت هذه الأشياء التى يشتغلون بها ليست نوافل فقط، ولكن دون النوافل، مع أن المجتمع لا يقوم إلا بها. فالغش الذى وقع فى الثقافة الإسلامية، وقع أولا فى الفقه نفسه، فانحسر بعيدا عن فقه العمل والعمال، وفقه الدولة انفصل وذهب، وتوسع فى العبادات بطريقة تكاد تكون مضحكة وتعددت الصور، لأن الفقهاء يريدون ملء الفراغ. حتى فى هذه النقطة،(1/69)
يمكن أن نقول: إنه انتهى إلى تجريدات ذهنية تكاد تضيع مقاصد الشريعة، مما دفع بعض الفقهاء للتحول عن القياس إلى الاستحسان، لأن تطبيق القياس بشكل الى قد يذهب بالمقصد.. ص _0 ص
الاستحسان كما يقول الأحناف: ليس اتباعا للهوى وإنما هو نقل الحكم من ملحظ إلى ملحظ آخر. هذا كله فى جانب واحد وهو الجانب الفقهى الذى نعتبره إلى الآن أحسن الجوانب فى الثقافة الإسلامية، أو بالأصح أكبرها مساحة.. لكن المشكلة فى النظر إلى القصص القرآنى.. لقد انتقل من دراسة تاريخية لقيام الحضارات وانهيارها إلى دراسة روائية ليس فيها حس بسنن الله الكونية إطلاقا.. فوجدت أساطير، ووجدت الإسرائيليات مجالا واسعا عند القصاصين، وكان على بن أبى طالب رضى الله عنه ينظر ماذا يقول القصاصون فيطردهم من المساجد ولم يستبق إلا الحسن البصرى رحمه الله. والقصص بالمعنى الخرافى انتشر فى الأمة الإسلامية ومس السنة بسوء عن طريق الوضاعين الذين اخترعوا أشياء كثيرة لكى يرضوا العوام وأصحاب الطفولة العقلية والصغار. التفسير القرآنى ابتعد أيضا عن روح القرآن ومقاصده، فالمحاور القرآنية بشكل عام، لم تجد من يتبناها ويمشى مع آفاقها لكى يحققها فى الحياة.. بل بالعكس، الأسلوب الفقهى تغلب على أنواع البحث التى كان يجب أن تبتكر فى الميادين الأخرى.. فإن ما يحتاج إليه الطبيب غير ما يحتاج إليه الكيماوى.. وما يحتاج إليه المهندس الزراعى غير ما يحتاج إليه الفلاح.. فكل شىء له من طبيعته منهج يسير عليه.. امتداد هذه المناهج، يكاد يكون فى ثقافتنا، صفرا. الفقه الحضاري كلمة "فقه " ـ كما وردت فى القرآن ـ لاشك أنها تعنى أكثر بكثير من المدلول الذى حدده الفقهاء بأنه هو استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية، حتي أن الله سبحانه وتعالى قال عن المشركين بعد هزيمتهم فى غزوة بدر: ( ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) فعملية الفقه إنما استخدمت فى القرآن لمعنى أوسع بكثير من المعنى(1/70)
الاصطلاحى الفقهى.. إنه الفقه الحضارى بكل ما تشمل كلمة حضارة من أبعاد. ص _069
المعنى اللغوى، معروف فى اصطلاح الفقهاء، هو هذا العلم المتصل بأحكام العبادات والمعاملات.. أما المعنى الشامل للفقه كما ورد فى القرآن، فكان الكلام فيه مستبعدا، لأن الحاكم كان يرفض أن يكون الكلام فى الشورى، وحدود ما له وما عليه. أقصد أنهم حصروا كلمة "الفقه " فى قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "من يرد الله به خيرا يفقه فى الدين " ، أى بالحكم التشريعى . نسوا الفقه بالمعنى اللغوى الشامل، وغلب الاصطلاح، حتى لتستغرب كلمة فقه اللغة.. وأنا عندما ألفت كتابى " فقه السيرة " تصور بعض إخواننا أن الكتاب هو كتاب فى الفقه. ولكن أنا قصدت به عرضا للسيرة النبوية يتتبع مراحلها ليعرف: كيف كانت الدعوة هنا؟ لماذا أعلنت الحرب هنا؟ ما موقف المسالمة وما موقف المخاصمة؟ فأردت أن أعطى للناس فهما.. كان الناس يفهمون أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ مظهر فقط للأوامر التى تأتى من عالم الغيب.. فأفهمت الناس عن طريق كتاب " فقه السيرة " أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنسان، كامل، يتصرف فى مواجهة الأحداث بالعقل الذى صنعه القرآن.. وهو العقل الإنسانى الذى تحرك مع مسارات الفطرة لكى ينصر الله ويعلى كلمته.. هذا ما أردته.. المهم أن كلمة " فقه " من الناحية اللغوية لها أبعاد غير ما استقر فى الأذهان.. فنجد أن هناك فقها للفلك، وفقها للنفس، وفقها للأخلاق، وفقها للحضارة، وهذا ما نلمحه من قوله تعالى: (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا ذلك تقدير العزيز العليم) إلى أن يقول: (وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون). ما الفقه هنا إلا معرفة مستقر النفس الإنسانية قبل أن توجد وهى فى الرحم لأن الآية: (نقر في الأرحام ما نشاء): ص _070(1/71)
ما المستودع؟.. إنه القبر. وما يصل إليه البدن.. ثم ما بين المستقر والمستودع من حياة، هذا كله يحتاج إلى فقه. هذا الفقه قد يكون فقها فى علم الأجنة.. وقد يكون فقها فى أشياء كثيرة كما توحى الآية هنا، فالفقه الذى أشار إليه القرآن هنا واسع المرادات، لكن غلب علينا أن نترك توجيهات القرآن غفلة، مثلما تركنا إلى الآن حساب الزمن بالنظام الفلكى، فالآية قالت: العلم: (هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون). الآن نحن حريصون على أن تبقى الأمة أمة أمية، تحسب الشهر وتكتبه بالرؤية الحسية.. طبيعة الأميين.. أما أن نعرف الحساب كما قالت الآية، حسابا فلكيا، فيعرف ميلاد الشهر بالنظام والحساب الفلكى، وبالمراصد كما يقع الآن، فهذا لا يزال أمرا مستبعدا فى أذهان الناس، ولا نزال نرى أن واحدا بالمشاهدة يستطيع تكذيب العلم! يعنى، تقول المراصد فى الدول المتقدمة علميا لا يولد القمر هذه الليلة، ويأتى واحد ويقول: أنا رأيت القمر.. ويصدق، وانتهى الأمر، وذهب العلم! الأمر يحتاج من غير شك إلى أن نفهم العلم ونفهم الفقه بالمعانى القرآنية، لأن القرآن وسع دائرة الفقه من خلال نظرنا فى الآيات. ( لهم قلوب لا يفقهون بها) نتتبع الآية.. لماذا وصف اليهود بأنهم قوم لا يفقهون؟ والكفار فى بدر " لا يفقهون " ؟ لماذا نعرف القضايا التى جهلها هؤلاء وفقهنا القرآن فيها عن طريق تبصرنا بأن هؤلاء هزموا لعدم فقههم.. ص _071(1/72)
الرؤية الموضعية .. والرؤية الموضوعية مشكلة العجز عن النظرة الشمولية للرؤية القرآنية ، أدت إلى لون من تقطيع الصورة وتمزيقها ، أو إلى التبعيض المورث للخزى الواقع فى حياتنا اليوم وكأنه صدى لقوله تعالى ـ ناعيا على بنى إسرائيل ـ " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا " نخشى أن تكون علل الأمم السابقة انتقلت إلينا ، على الأقل من الناحية النظرية ، فنحن لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، إلا أن النظرة الجزئية وأخذ بعض مقاصد الآية أو السورة وترك ما وراءها للتبرك والتلاوة ، نخشى أن نكون وكأننا وقعنا فى هذا فعلا ـ على الرغم من ادعائنا الإيمان بالقرآن كله .. لكن أقول ـ من حيث المردود العملى لهذا القرآن وليس من فبيل الجانب النظرى ، نحن نعيش الآن مرحلة التبعيض والتفاريق.. كيف يمكن أن نرسم الطريق لتحقيق الرؤية الشاملة والنظرة الموضوعية لا الموضعية؟ وهل تعتقدون أن الاقتصار على الجانب التشريعى ، وإهمال بقية المقاصد ، هو سقوط فى هذا التبعيض؟ .. لو أمكن إيراد نماذج موضحة من القرآن الكريم. الذى أتصوره ، أن تعاليم الإسلام نسيج متشابك ، ملتحم بعضه مع بعضه الأخر ، تختلط فيه العقيدة مع العبادة مع الأخلاق ، مع أنواع المعاملات المختلفة . . ولقد لفت نظرى من قديم أن الأحكام الفرعية الجزائية المحدودة تجاورها أسماء الله الحسنى ، وتختم بها الآيات ختاما يحتاج إلى التدبير العميق .. ففى سورة البقرة مثلا تقرأ قوله تعالى: ( ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم * لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم * للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) ترى هنا أن جواب الشرط فى قوله تعالى : (وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم) أغنى عن(1/73)
المعنى وجئ بصفة من صفات الله تعالى تدل على هذا المعنى.. ص _072
( إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين) واضح أن الإخبار عن مسلك إنسانى بصفة إلهية فيه معنى المزج العجيب بين السلوك الإنسانى وبين العقيدة التى هى أساس فى الإسلام، لما وراءها من سلوك، أستطيع أن أفهم من هذا أن القرآن غذاء روحى مكتمل العناصر.. وكما أتناول على المائدة مجموعة من السكريات والنشويات والدهنيات وما إلى ذلك فى طعام واحد، أو فى أغذية واحدة، فى وجبة واحدة، فكذلك يتقدم القرآن إلينا برسالة حياة شاملة لا تدع جزءا منها إلا وتمتد إليه، ويجرى الوحى الإلهى خلال هذا النسق القرآنى كما تجرى الدماء داخل العروق؟ لتشمل الرأس والقدم.. الجهاز يدور فى كل شئ ليعطى الحياة كل شىء، وبذلك نستطيع أن نقول: إن الرؤية القرآنية لا يمكن إلا أن تكون حضارة كاملة.. فأخذه على أنه مجموعة قصص مثلا ودراسة فن القصة على أساس أن القرآن كله قصص لا يمكن أن يكون تصويرا صحيحا للقرآن.. وكذلك الأحكام الفقهية التشريعية، والمعتقدات الإلهية، والآيات التى تأمر بالنظر فى الكون، وآيات التربية، وما إلى ذلك من تعاليم إسلامية.. هى متماسكة فى عصارة واحدة تجمعها من أولها لآخرها، ومن المستحيل أن أنظر إلى القرآن النظرة الجزئية التى تجعلنى أعيش فى جانب منه وأنسى الجانب الآخر، كما لا يمكن أن يتكون الدم من كريات حمراء فقط، وبيضاء فقط، وبعض العناصر المعدنية فقط التى تسير فى الدم ولا يكون دما إلا بها.. لا يمكن إطلاقا أخذ جانب من القرآن وإهمال الجوانب الأخرى، لأنها جوانب يجر بعضها بعضا، متماسكا. فالنظرة الشاملة هى النظرة الصحيحة للدراسات القرآنية، ولا يمكن الرضى بنظرة جزئية.. والنظرة الجزئية، عندما سادت الفكر الإسلامى، نشأ عنها ما يشبه الجسم المشلول فى بعض أطرافه، أو فى بعض أجهزته مع بقاء أجهزة أخرى حية.. إنه لا يستطيع أن يؤدى وظيفته ما دام الشلل أو الخطر(1/74)
جمد بعض الأجهزة أو بعض الأعضاء.. لابد من النظرة الشمولية للقرآن كله.. وهكذا انطلق القرآن من بدء نزوله حيا تجد: (اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم * كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى). ص _073
الأمر بالقراءة أولا، وكون القراءة باسم الله، وليست ثقافة مجردة، أو علما للعلم، وإنما هى قراءة باسم الله سبحانه وتعالى، لها هدفها.. الله الذى خلق.. ربط القراءة بتكوين الإنسان من علق، قضية متباعدة الأطراف.. ثم التركيز على هذا: (اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم). الدخول فى مسألة اقتصادية واجتماعية معا، وهى طغيان الإنسان عندما يترف وينعم ويجيئه المال، ويستكبر به. هذه المعانى المتباعدة فى ظاهرها هى القرآن الذى يكون مائدة متماثلة فى ما ذهب من حقائق الحياة وعناصرها لمن يسمع ولمن ينفذ.. فلابد من هذا الشمول فى النظر. والنظرة الجزئية وحدها، تكون غير كاملة لأنها انقطعت عن بقية الصورة. العجز عن إدراك المعنى الجامع لعل ذلك إنما حصل، بسبب عدم قدرة النظر على إدراك المعنى الجامع أو الخيط الجامع لهذه المظاهر جميعا.. وربما كانت النظرة الجزئية بسبب العجز عن التقاط الخيط الذى ينتظم هذه المظاهر جميعا: أهلية التعليم، وهدفية القراءة، وكون الله سبحانه وتعالى هو الخالق الذى خلق هذه المؤهلات التى يجب أن تتوجه إليه، أو تبدأ باسمه القراءة، وإن عدول الإنسان عن الخالق، والالتزام بقيمه الضابطة فى الحياة، وقوع فى الطغيان... الخ. هذا حسن فعلا.. عندما تريد أن ترسم صورة كاملة للإنسان، فهل إذا قطعت هذه الصورة إلى أجزاء، هل كل جزء منها يمكن أن يكون مكونا أو مؤديا أو منبها إلى فكرة الإنسان الكامل؟.. لا يمكن.. لن تكون الإنسانية واضحة ولا حتى جزئية فى جزء من الصور التى أمامك.. لابد من أن أكون ناظرا إلى القرآن كله النظرة(1/75)
الشاملة المتماسكة. ولذلك أنا أحب أن يقال: إن الإسلام حضارة كاملة بأبعادها جميعا.. ومعنى أنه حضارة: أنه سيكون فيه تشريع إلى جانب التربية، والتوعية الخلقية، والأحكام الدولية.. إلى جانب المقاصد الكثيرة الأخرى التى تكمل الصورة.. فالقرآن كتاب حضارة كاملة.. وأظن أن الأستاذ حسن البنا فى أول مادة من تعاليمه العشرين التى يقدم بها الثقافة الإسلامية، قدم الإسلام بهذا الشمول ، ص _074
فقال: إنه مادة وروح، وعقل وعاطفة، ودنيا وآخرة. أعطاه كل ما يتصل بالحياة.. لقد فهم حسن البنا الإسلام كما قال تعالى: (ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين) فالإسلام هداية ورحمة، ومصلحة ومنفعة، وأسرة، وتفاؤل وخير وانطلاق للمسلمين. أتصور أننا نحن المسلمين اليوم، خاصة فى الفكر الإسلامى المعاصر، نزعم ونرفع شعار أن الإسلام شامل لجميع جوانب الحياة.. لكن من الناحية العملية، نحن واقعون فى التجزيء وفى تضخيم بعض الجوانب وإسقاط بعض الجوانب والمقاصد الأخرى.. نحن مُتهمون من بعض المفكرين الأوروبيين بأن العقل العربى نفسه مولى بالنظرات الجزئية، وعاجز عن النظرة الشمولية، لذلك نمت فى ثقافته النظرات الجزئية، أو التوقف عند حدود الجزئيات أكثر من أن تكون عنده القدرة على رؤية شاملة خاصة فى عصور التخلف والجمود والتقليد.. فكيف ترون العلاج لهذه الإصابة بالنسبة للعقل المسلم اليوم؟ وما هى الوسائل، أو بعض المناهج التى تقترحونها ليتمكن المسلم اليوم من الرؤية القرآنية الشاملة التى تشكل المنطلق الثقافى؟ التفسير الموضوعى بشقيه، وهو مثلا: النبوة فى القرآن، المال فى القرآن، العدالة فى القرآن، ربما كان إنشاء تفسير موضوعى من هذا النوع يكون فيه معالجة لهذا الواقع، ومنطلق ثقافى لرؤية قرآنية شاملة ومتوازنة.. يضاف إلى ذلك أن النظرة الموضوعية للسورة كاملة،(1/76)
ومعرفة الأغراض التى تدور حولها، يمكن أن تساهم أيضا بتكوين المنطلق الثقافى للرؤية الشاملة.. نحن أنفسنا روجنا لهذا الاتهام، ووقعنا بسبب النظرات الجزئية بمغالطات ومفارقات عجيبة. نماذج للنظر الجزئى: كنت أنظر أحيانا إلى طريقتنا فى فهم القرآن، فكنت أجد أنها طريقة تستحق التأمل، بمعنى: أنه لكى نقول: إن العمل الذى نؤديه هو من صنع الله، استدللنا بالقرآن: (والله خلقكم وما تعملون) ص _075
انتزعنا هذه الآية من السياق كله لكى تدل على مذهب أهل السنة : إن العمل مخلوق لله! ونسينا أن هذا الكلام لو صح، ما كان عبدة الأصنام مسئولين! لأنهم إذا كانوا مخلوقين لله، وشركهم ووثنيتهم مخلوقة لله، فما عليهم من ذنب! لكن نحن أخذنا ظاهر الآية وقطعناها من سياقها، من قبل ومن بعد، وجعلناها هكذا دليلا لرأى باطل.. إنها آفة التجزيء. بعض الناس بلغت به النظرة الجزئية حدا جعلته يأخذ من صدر سورة براءة أن الإسلام دين هجوم.. وإذا سألتهم عن الدليل يقولون: قوله تعالى : ( وقاتلوا المشركين كافة) ، ويقف من ثم لا يكمل الآية، لأن إكمال الآية ( كما يقاتلونكم ). فأنت هنا ترد الهجوم الشامل بدفاع شامل.. وليس هناك ما يستدعى هذا، بل سميت آية السيف بذلك، من المستثنى قبل الاستثناء فى قوله تعالى في السورة نفسها: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم). وانتهى الأمر، أخذ منها البراءة المطلقة. أما الاستثناء الذى جاء ووضح حدود البراءة ومعناها والمجال الذى لا يجوز أن تتعداه وهو قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين) نسيناها، اعتبرنا المستثنى منه، وأصبح القتال عاما، بدون وعى للمعنى نفسه.. ومثال آخر: هناك آية عجزنا عن(1/77)
تبين حقيقتها، لأنه قد استولى علينا فكر مبتسر من مكان في السورة، والآية هى قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون). الآية واضحة وهى أنك تجد المشرك خالى الذهن عندما يرى هذا القتال، ويسألك ماذا تريد؟ تقول له: أدعو إلى الإسلام. فأنت مكلف ألا ترغمه على دينك، ولا تستعمل معه سيفك، ولا تفكر فى إرغامه على شىء، بل تقبل منه وضعه الحالى، ص _076(1/78)
وترده إلى المكان الذى جاء منه، وهو غير مروع، وتحميه ليدخل بعد ذلك الإسلام وهو مطمئن.. فكيف يفهم هذا المعنى من هذه الآية مع أنك فسرت ما قبلها وما بعدها على أن الإسلام دين هجوم وقتال؟ فشمول النظرة القرآنية أمر لابد منه لكى تعطى الأحكام الصحيحة حتى من الناحية الفقهية التشريعية، فإذا أدركنا أن الإنسان مخلوق سوى، له سمع، وله بصر، وله فؤاد، ولابد أن يستغل هذه الوظائف جميعا فى تصحيح إنسانيته، والعيش بها، أدركنا أنه لا يمكن أن يتم هذا الذى قاله القرآن الكريم فى مكان آخر مع إباحة الإكراه. فكيف تكره أحدا؟ إنك بهذا تلغى إنسانيته.. وما فائدة الحكم الشرعى إذا فقد الإنسان الذى يطبق الحكم الشرعى؟ الله سبحانه وتعالى حذر المسلمين مما وقعت به الأمم السابقة من أن عملية التبعيض موصلة إلى الخزى.. وذكر علل التدين فى الأمم السابقة هو تحذير للأمة المسلمة حتى لا تقع فيما وقعوا فيه، فيلحق بها ما لحق بهم.. يقول تعالى: (كما أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرآن عضين) أما تفسير قوله تعالى: (كما أنزلنا على المقتسمين * الذين جعلوا القرآن عضين) فإنى أحب ربط الآيات بالسياق الذى وردت فيه حتى يتضح معناها: إن الله امتن على نبيه محمد بالقرآن الكريم، وهو عطاء ضخم، أضحى محمد به خاتم الأنبياء وصاحب الهدايات الباقية إلى آخر الدهر. وتعلم هذا القرآن فضل لا يزنه فضل آخر، إن رجلا أوتى القرآن ثم ظن غيره أوتى خيرا منه فقد حقر عظيما أو عظم حقيرا، فكيف بمن اصطفاه الله لتلقى آياته من السماء؟ لقد سبق سبقا بعيدا، ولذلك قيل للرسول الكريم: (ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم * لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين). إن الغنى لا يمد عينه إلى المحرومين، مهما أوتوا من متاع الدنيا، وإذا كذبوه فلا تذهب نفسه عليهم حسرات (عليه أن يهدى الآخرين وأن يفتح قلبه ويخفض جناحه لمن اهتدى به(1/79)
وسار معه..) ص _077
(وقل إني أنا النذير المبين): على أن أنذركم بهذا الوحى، ولست مكلفا بأكثر من البلاغ الواضح الذى ينير الطريق لمن شاء المضى فيه. ولست بدعا من الرسل الذين سبقونى، فإن أهل الكتاب جاءتهم أنبياؤهم بالحق، كما جئتكم أنا يا معشر العرب بالحق.. لكن أهل الكتاب سارعوا إلى التكذيب، ونظروا فى القرآن نظرة ظالمة، رفضوا ما خالف هواهم، وسكتوا عن غيره. وجعلوا الوحى الصادق أقساما يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، (فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون). ومن العلماء من يرى مسلكهم هذا إنما كان فى كتبهم نفسها، كما قال فى سورة أخرى واصفا موقفهم من كتاب موسى: (تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا) (يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير) وكأن لفظ القرآن هنا بمعناه اللغوى: أى القراءة.. ولا يزال أهل الكتاب على هذا الموقف المريب مما نزل عليهم وهو موقف يدور بين التحريف والتأويل، والكتمان والإهمال.. وكثير من المستشرقين والمبشرين يتعامل مع القرآن بالأسلوب نفسه الذى ألفوه مع كتبهم. وهناك مفسرون يجعلون المقتسمين طوائف من أهل مكة الذين يعبدون الأصنام، توزعوا على الطرق ينهون الناس عن الدخول فى الإسلام وتصديق محمد.. وقد أمر النبى بعدم الاكتراث بهؤلاء المكذبين الذين تفرقوا على أفواه السكك يأمرون بالمنكر: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين) هؤلاء الكتابيون الذين نظروا إلى القرآن الكريم، فما وافق أهواءهم قبلوه، وما صادم شهواتهم رفضوه.. ولم يلمحوا منه إلا الجانب الذى يرضيهم أو ألفوه فى حياتهم، ورفضوا الجوانب الأخرى التى تصحح لهم هذه الحياة وتنقلهم من الحيرة ص _078(1/80)
خلود القرآن.. هل يعنى خلود أصول المشكلات التى يعالجها من المسلمات عند المسلمين ـ من سلف وخلف ـ أن القرآن هو كتاب الله الخالد المجرد عن حدود الزمان والمكان، الذى ورد بالتواتر ـ أى: ما يفيد علم اليقين ـ وإنه خطاب عالمي إنسانى شامل، نزل ليرسم الطريق الصحيح للبشرية ويعالج مشكلاتها، ويضع حلولا لها فى كل زمان ومكان، وكانت أسباب النزول هى أشبه ما تكون بنماذج ووسائل إيضاح أو وسائل معينة لإيضاح تطبيق النص وتنزيله على الواقع، وتبقى العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما يقول العلماء. والقضية المطروحة هى: طالما أن الخلود سمة القرآن الكريم، فهذا يعنى من وجه آخر: خلود المشكلات والقضايا الإنسانية التى جاء القرآن لمعالجتها فى أصولها، وإن تغيرت فى بعض فروعها وألوانها.. أى أن القرآن خالد، والقضايا الإنسانية المطلوب علاجها خالدة أيضا، من بعض الوجوه. ولا تزال فى الإنسانية حالات كفر ونفاق، وضعف إيمان، واستكبار، وعلل نفسية، وصور من الولاء والبراء والسقوط والنهوض، والنصر والهزيمة.. الخ. فكيف يمكن والحالة هذه أن نعمل بعض الآيات ونعطل بعضها بسبب القول بالنسخ؟ وفى الوقت نفسه نقول بالخلود؟ وكيف يمكن مواجهة الحالات المتعددة التى ستطرأ على الحياة الممتدة المتطورة، ومعالجتها بحل واحد انتهت إليه الجماعة المسلمة الأولى، فى ظرف تاريخى معين، وشروط ميلاد وتطور معروفة؟ هذه قضية هامة فى نظرى، ولابد أن نعرض لها بشىء من الإفاضة والتفصيل إلا إذا اعتبرنا المجتمع الإسلامى الأول هو البداية والنهاية وبذلك نكون قد وقتنا القرآن بشكل عملى وإن كنا نرفض ذلك بشكل نظرى؟ كنت كتبت فى كتابى "نظرات فى القرآن "، أن بعض الناس جاء لابن عباس رضى الله عنهما وقال له: يتشابه على القرآن.. قال له: لماذا؟.. قال: أجد فى بعض السور مثلا قوله تعالى : (وقفوهم إنهم مسئولون) وفى سورة أخرى: (فيومئذ لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان). ص _079(1/81)
فكيف يكون التلاقى بين الآيتين؟.. كان جواب ابن عباس: إنها مواقف.. فى بعض الأحوال يكون المتهم مسئولا فيتحقق معه.. وعندما يتم التحقيق ويبدأ التنفيذ لا يسأل ولا يستقصى ولا ينتظر منه دفاع. انتهى الأمر .. وتفسير ابن عباس واضح فى الموضوع.. ففهمت من هذا أن القرآن إذا كانت هناك آيات تصف جانبا من المجتمع البشرى أو بعض الحقائق التى فيه، وآيات أخرى قد ينظر إليها أنها مخالفة للآيات الأولى، فهى فى الحقيقة لا تخالف، لأن لكل آية مجالها الذى تعمل فيه، والحقيقة التى تمثلها وتوجه البشرية من خلالها، لأن الحياة ليست موقفا واحدا، وليست قضية واحدة، وليست صورة واحدة إطلاقا.. الحياة استمرار.. والمهم عندى، أو الحكمة فى نظرى هى: كيف تنزل آيات القرآن على الواقع المختلف من مكان لمكان ومن زمان لزمان؟ وهذه هى الحكمة: (يؤتي الحكمة من يشاء). كذلك نزل القرآن خلال ربع قرن تقريبا.. القول بأن للآيات أسباب نزول، هذا حكم خاص، وليس حكما عاما. ما سبب نزول سورة يوسف كلها؟.. ليس لها من سبب نزول، إنما القصة قصة هداية جاءت من عند الله.. وعندما يبدأ القرآن الكريم، من سورة البقرة، يتحدث عن الإيمان والكفران والنفاق وأقسام البشرية.. الخ فما سبب النزول؟ إنما هو يصف الواقع الذى يعرف فى حياة البشرية كلها. إن البشر عندما يعرض عليهم عقيدة، هناك دائما من يكفر بها، وهناك من يؤمن بها، وهناك من ينافق معها.. والقصة ليست مرتبطة بتطبيق عملى فى جانب من الجوانب وحده.. ولهذا فمن الخير أن يفهم القرآن كله على أنه ليس هناك جانب حى فيه وجانب معطل. خلود القرآن يعنى: أن القرآن قادر على الاستجابة لكل الحالات، وفى الظروف كلها.. وكما أن الآيات خالدة، فإن المشكلات خالدة، حتى يكون هناك تواز بين المشكلات والآيات.. وتبقى الحاجة للقرآن قائمة فيما تتقلب به البشرية من كفر، ونفاق، وهبوط، وصعود، وما إلى ذلك.. أما إذا اعتبرنا أن بعض الآيات نسخت لأن(1/82)
الحالة التى جاءت من أجلها انتهت فى المجتمع العربى الأول - مجتمع الجزيرة العربية - فكيف يمكن أن يكون الإسلام خالدا مع هذا الاعتقاد؟ ص _080
هناك أمران فى هذه القضية: الأمر الأول: هو أن المجتمع القديم الذي نزل فيه القرآن هو مجتمع بشرى، وأحواله صورة مما يعترى البشرية على امتداد الزمن إلى انتهاء الحياة. فالحكم فى أى صورة من هذه الصور هو حكم بطبيعته ممتد " لأنه ليس خاصا بهذه الصورة بل هو يتجدد مع كل صورة مشابهة لها إلى قيام الساعة. ومن هنا جاء الخلود. ثانيا: أن الصور التى أمامنا والتى تحدث فيها القرآن، هو لم يكن مجيبا لسؤال فقط بحيث أن القصة تنتهى بانتهاء فهم السائل لما سأل عنه، لا.. إن الإجابة تكون فيها توسعة وتناول لأمور أخرى كثيرة.. وكون أن سبب نزول الآية كذا، ننظر للآية، هل هى فعلا عندما تحدثت تناولت السبب ووقفت عنده.. السبب هو مفتاح لكنز من المعلومات بدأ ينساب مع هذا السبب.. وهذا الكنز من المعلومات الذى انفتح لنا بسبب سؤال فلان، أو حالة فلان، أو تطلب الوضع لحل، هو الذى جاء بهذه الخيرات كلها. ولذلك لا أنظر لسبب النزول إلا كأنه نوع من السبب الأدنى لهذه المعانى التى جاءت كلها. وفى تصورى أن البشرية لن تخلو على امتداد الزمن من نفس الحالات البشرية التى رأيناها خلال ربع قرن.. فخلال ربع قرن أمكن تقديم نماذج لما يصنعه الخصام واللدد، وما يصنعه الحب والعاطفة الإنسانية وهى تستقر، أو هى تهاجر.. ما يعترى كل إنسان فى أحواله.. كانت نماذج حول النبى عليه الصلاة والسلام، هى ـ النماذج ـ كأنها شخوص موفدة من الغيوب فى المستقبل لكى تسمع وترى ما تحتاج إليه فى الغد القريب والبعيد مما يقع فى أيام النبى عليه الصلاة والسلام. ولعل هذا سر أن الرسالة إنسانية.. ولو أن الإعجاز بخارق من خوارق العادات يخلق الإيمان، لما كان معنى للخلود، لأن الخارق للعادة ما قيمته إلا لمن نظروه وارتبطوا به؟ لكن الكتاب كتاب(1/83)
معجز بأنه يتحدث للنفس الإنسانية. والنفس الإنسانية إذا كانت هناك صور أيام النبى عليه الصلاة والسلام. موجودة، فالصور متجددة إلى قيام الساعة. فهذه الصور تنظر إلى القرآن النازل لترى أنه يخاطبها كلها، ويتعامل معها كلها، وآياته نفسها مفاتيحها لمشكلاتها كلها إلى قيام الساعة.. ومن هنا، ما أظن أن يجيء شىء يلده الزمن ويعجز القرآن عن حله. لأن الطريقة التى نزل بها تجعله حلالا للمشكلات ولا صلة له بالواقع المحسوس، إلا صلة أنه لأدنى ملابسة بدأ الكلام. ص _081(1/84)
هذا الأمر مسلم فيه ، كقناعة. لكن حينما نأتى لنقول: هذه الآية نسخت التى جاءت لمعالجة حالة معينة، نسخت بعد انتهاء الحالة فى مجتمع النبوة، فمعنى ذلك أن هذه الحالة سوف لن تتكرر فى البشرية، وليست بحاجة إلى هذا الحل. لا يمكن أن يقع هذا فى القرآن.. آية بطلت لأن حكمها انتهى، والشخص أو الجزء الذى اتصل بها تلاشى، لا يوجد هذا فى القرآن إطلاقا. الذين قالوا بالنسخ فى بعض الآيات التى كانت فى مرحلة من المراحل تشكل حلا لمشكلة قائمة، أو تنزلت على حادثة بشرية قائمة، وقدمت لها حلا، ثم حينما ارتقى المجتمع وجاءت مرحلة أخرى، قالوا : بأن الآية السابقة نسخت مع أن المجتمعات تتكرر فيها مثل هذه الحالة السابقة التى كانت! نعم.. ولذلك خطأناهم.. هذا يشبه حالة النهى عن ادخار لحوم الأضاحى، كما ورد فى قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إنما نهيتكم- أى عن أكل لحوم الأضاحى بعد ثلاث - من أجل الدافة التى دفت، فكلوا وادخروا، وتصد قوا " وقوله: " كلوا ، وأطعموا، وادخروا، فإن ذلك العام - أى العام الذى نهى فيه عن الادخار - كان بالناس جهد، فأردت أن تعينوا فيها " . ففى يوم ما، قالوا: لا تُختزن لحوم الأضاحى! لماذا؟ لأن الناس فى أزمة، وفى حاجة إلى توسعة.. ثم قيل: خزنوا لحوم الأضاحى، لأن الناس ما تحتاج إلى كل ما ذبح.. فقيل: الثانى نسخ الأول! والحقيقة هى: أن الحكم الخالد هو: إذا كان اللحم الموجود قليلا، لابد من التوزيع وعدم الادخار، وإذا كان كثيرا، تستطيع أن تدخر.. هذا هو الحكم الخالد.. والحكم الجزئى الخطأ، هو أنك قلت: كان الادخار ممنوعا ثم أبيح.. هذا غير صحيح، وهذا عيب الذين يقولون بالنسخ: إنهم يظنون أن حكما انتهى أمره لأن القصة لا تتكرر.. القصة إذا تكررت تكرر معها المتصل بها.. هذا الذى أردت أن أقوله: إن الحوادث تتكرر.. فالآيات الخالدة تقابلها حوادث خالدة.. فالادعاء بتعطيل بعض الآيات باسم النسخ قد يكون محل نظر، وقد(1/85)
تمر مشكلات بحاجة إلى معالجة هذه الآيات. ص _082
مفهوم النسخ فى القرآن: فى الحقيقة، الاتجاه بين جميع العلماء المحدثين الذين التقيت بهم أو استمعت إليهم أو قرأت لهم، كانوا ضد المعنى الذى شاع بين المتأخرين من المفسرين من أن النسخ، بمعنى إبطال آيات فى القرآن، موجود.. وجدت أن الشيخ الفقيه المؤرخ الأستاذ الخضرى، رفض النسخ رفضا باتا، وقال: لا يكون إلا تخصيص عام، أو تقييد مطلق أو تفصيل مجمل.. والشيخ رشيد رضا فعل هذا بما هو أوضح وتكلم عن آية: (ما ننسخ من آية أو ننسها) فبين أن الآيات: تكليفية وتكوينية، وأن الذى تنسخه آية سورة البقرة هنا هو الآيات التكوينية، وليست هناك آيات تكليفية نسخت بهذه الآية.. ومعنى التكوينية معروف وهو خوارق العادات التى كان يؤيد بها الأنبياء، وهى التى تتغير بتغير الأزمنة.. أما الآيات التكليفية فأنا نظرت إليها نظرة واقعية عند قوله تعالى: (وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون) الخازن ، قال: إن هذه الآية جاءت ردا على أسئلة بأن محمدا يقرر حكما ثم ينسخه! فتساءلت: هذه الآية من سورة النحل المكية، أين هى الأحكام التى تندر ص _083(1/86)
المشركون بها لأنها نسخت بعد أن نزلت وحدث اضطراب فى تقرير الأحكام بسبب ذلك؟.. لا يوجد.. وهذا الكلام عن سبب نزول الآية مختلق.. ولم يوجد أحد من المشركين قال: إن محمدا يقرر حكما شرعيا ثم ينسخه.. ما وجد.. لأنه ما وجد حكم فى مكة نسخ بآية مكية.. لم يعرف فى تاريخ النزول ولا فى تاريخ التشريع أن حكما نزل فى مكة ثم نزل فى مكة نفسها حكم ناسخ له، القرآن لم يعرف ذلك.. فإذا، الكلام باطل، ولا توجد أحكام بطل معناها.. وكل ما هنالك أن هناك عدة آيات نظر فيها، وكان النظر قاصرا مثل قوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا). فالآيات الأولى تأمر بوقوف الواحد لعشرة، ثم نسخت بأن يقف لاثنين.. الشيخ الخضرى رحمه الله قال: إن هذه رخصة مع عزيمة، والرخصة مع العزيمة ليست نسخا. الحكم الدائم الباقى: أن يقف المسلم لعشرة.. وهو أهل لهذا، أما التخفيف فى أن يقف لاثنين هذه رخصة، وهذا هو الحكم الصحيح. وأما آية : ( علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه ) التى قيل إنها نسخت أول سورة المزمل، فهذا غير صحيح، لأن سورة المزمل موجهة إلى النبى عليه الصلاة والسلام تفرض عليه أن يقوم الليل، وقد ظل قيام الليل فريضة عليه إلي أن مات.. وتكرر الأمر فى سورة الإسراء: (ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) المهم، أن عددا من الصحابة قلد النبى عليه الصلاة والسلام فى قيام الليل بالصورة التى رسمت فى أول سورة المزمل. ولكن الله يعلم طبيعة الجماهير التى تكدح فى النهار فى عملها، وليست مكلفة برسالة كصاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام. ، ولذلك قال: ( فاقرءوا ما تيسر منه )أما صاحب الرسالة، فالأمر بالنسبة إليه كما هو، فلا نسخ فى الآية إطلاقا. ص _084(1/87)
والزعم بأن 120 آية من آيات الدعوة نسخت بآية السيف، هو حماقة غريبة دلت على أن الجماهير المسلمة فى أيام التخلف العقلى أو العلمى فى حضارتنا جهلوا القرآن، ونسوا بهذا الجهل كيف يدعون إلى الله وكيف يحركون الدعوة وكيف يضعون نماذج حسنة للعرض الحسن.. ولعل هذا من أسباب فشل الدعوة الإسلامية ووقوف هذه الدعوة فى أيام كثيرة عن أداء رسالتها، ظُنَّ أن السيف هو الذى يؤدى واجب التبليغ! وهذا باطل باتفاق العقلاء. فقصة النسخ، أو الحكم بتحنيط بعض الآيات، فهى موجودة ولكن لا تعمل، هذا باطل، وليس فى القرآن أبدا آية يمكن أن يقال إنها عطلت عن العمل، وحكم عليها بالموت.. هذا باطل.. كل آية يمكن أن تعمل، لكن الحكيم هو الذى يعرف الظروف التى يمكن أن تعمل فيها الآية، وبذلك توزع آيات القرآن على أحوال البشر بالحكمة والموعظة الحسنة. بالنسبة لسياق آية: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) ألا يفيد السياق بأن القضية قضية نسخ شرائع سابقة بشريعة جديدة؟ السياق قاطع بأنه لا مكان للقول بالنسخ التكليفى هنا.. والشيخ رشيد ذكر هذا الموضوع.. فالكلام في آية: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير) هو كلام عن القدرة وليس عن أحكام تكلفية وإلا قال: (ألم تعلم بأن الله عليم حكيم ) مثلا بدل (قدير) وقوله تعالى: (أم تريدون أن تسألوا رسولكم كما سئل موسى من قبل ) قاطع فى أنه اقتراح آيات كونية. فما الذى سئله موسى من قبل؟ نريد أن نرى الله جهرة، نريد كذا وكذا، فهؤلاء يريدون آيات كونية أو خوارق عادات تثبت البرهنة على رسالة محمد عليه الصلاة والسلام. ، أما السياق من قبل فهو كلام فى بنى إسرائيل. يقول تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم(1/88)
مؤمنين). ص _085
بدأ الحديث إليهم بأنهم هم غير مؤمنين بما لديهم ولا بما لدى غيرهم، إلى أن قال جل شأنه (ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب ولا المشركين أن ينزل عليكم من خير من ربكم والله يختص برحمته من يشاء والله ذو الفضل العظيم). فالكلام هنا واضح فى أن القرآن الكريم حين نزل، رحم الله به العرب وخصهم بفضله، وأعطاهم رسالة جديدة غير الكلام السابق الذى كان الأنبياء الأولون يتلقونه من الله ويؤيدهم فيه رفع الطور أحيانا وما كان يتم من معجزات. نزول القرآن، إلى جانب نسخ الآيات الكونية، هو نسخ لبعض شرائع أهل الكتاب.. القرآن نسخ بعض الشرائع القديمة من غير شك، وبدأ يشكل النفس البشرية من جديد، على طريقته فى إيقاظ مواهبها وقيادتها إلى الله : فليس فى القرآن تناقض إطلاقا.. كل آية لها سياقها الذى تعمل فيه.. شمول الرؤية القرآنية ـ الكون المادى والمعنوى: ولكى أوضح شمول القرآن الكريم، يجب أن أضرب مثلا لهذا الشمول يلقى عليه ضوءا فيتضح المقصود منه. إن القرآن الكريم يشبه الكون الكبير الذى نعيش فيه. بل إن اعتبار القرآن كونا معنويا يضارع الكون المادى الذى خلقه الله سبحانه وتعالى، لفت نظرى فى كتاب "نظرات فى القرآن " وأشرت إليه، واستشهدت بقول الله تعالى وهو يقسم بعظمة الكون على عظمة القرآن: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون * لا يمسه إلا المطهرون * تنزيل من رب العالمين) إنه يقسم بعظمة أحد الكونين على عظمة الآخر. الكون الذى نعيش فيه جعله الله مهادا لحياتنا، وملأه بالقوى الكثيرة والعناصر التى نتفقهها فى حياتنا، ويوجد علماء كثيرون تخصصوا فى هذه القوى والمرافق وينظر كل منهم إلى الكون من الزاوية التى تعنيه فمثلا الجيولوجى ينظر إلى الأرض وطبقاتها، ويضع من علم الجيولوجيا ميدانا لبحثه فى هذه الزاوية بالذات.. الفلكى ص _086(1/89)
ينظر إلى السماء وما فيها من معجزات ونجوم دوارة أو ثابتة.. ما بينهما علم طبقات الجو أو الفضاء له زاوية أخرى ينظر من خلالها علماء. إن عالم الزراعة ينظر إلى النبات، وعالم الصناعة ينظر إلى المعادن، وعالم الأحياء ينظر إلى البشر والدواب والطيور والزواحف.. إن كل عالم من هؤلاء المتخصصين مر بالكون من جانب يعنيه ويكترث به. لكن الكون ليس مقسما بحسب نظرات هؤلاء العلماء. هم ينظرون إلى الكون الشامل كله، ثم يلتقط أحدهم الخيط الذى يعنيه ويبدأ السير معه.. يقبل من كل عالم من هؤلاء أن يقول : إنه من علماء الكون والحياة.. لكن إذا ظن أنه وحده المسئول أو المتخصص فى الكون والحياة، وأن علم الفلك يغنى عن علم الجيولوجيا، أو علم النبات يغني عن علم الحيوان، أو علم المعادن يغنى عن علم الطاقات والقوى، فإن هذا يكون خللا. ولم يحاول أحد أن يزعم ذلك، بل تعاون أولئك جميعا من علماء الكون والحياة على دراسة الكون والاستفادة منه.. وعلى هذا قامت النهضة الأخيرة. القصور عن إدراك محاور القرآن: القرآن أساس للحياة الأدبية فى التاريخ الإسلامى، لا شك أن آيات الأحكام كانت من وراء قيام علم الفقه التشريعى. لكن هل القرآن آيات أحكام فقط؟ أم أنه مجموعات أخرى من الآيات تكون كل مجموعة محورا خاصا يدور عليه القرآن الكريم؟ هناك محور القصص القرآنى، هناك محور الفطرة الإنسانية.. كان من الممكن جدا أن يقوم علم للفلسفة الإسلامية يستكشف الفطرة على نحو ما فعل صاحب كتاب "حى بن يقظان " وعلى نحو ما حاول أن يمشى وراءه الشيخ نديم الجسر فى كتابه: "قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن ".. وبلا شك، فإن ص _087(1/90)
هذا النوع من الفكر أو الأساس القرآني، مهاد صالح لفلسفة إسلامية تمتد بها مدرسة الإسلام الفلسفية لقديمة امتدادا صالحا.. هناك أيضا العلوم الإنسانية، خذ منها مثلا علم التاريخ.. وعلم التاريخ علم مهمل فى ثقافتنا على نحو شائن! ولا أزال أعجب لماذا لم يدرس التاريخ كبحث وتحليل وراء ذلك المد والجزر فى الحياة الإسلامية والدولة الإسلامية والسياسة الإسلامية... والثقافة الإسلامية.. لماذا لم يدرس أسباب الانكماش حينا والتضخم حينا آخر فى تاريخنا؟ تساءلت فى كثير من الأوقات: هل كان سقوط بيت المقدس يمكن أن يمر فى هدوء مع أنه أساس حرب ظلت لنحو ثلاثة قرون، دون أن يكون هناك علم يدرس هذه الأحداث الرهيبة فى تاريخنا؟ يتم هذا الصمت؟ لم تشيع ثمانية قرون فى الأندلس بقصيدة بكاء دون بحوث مستفيضة ومؤتمرات كبيرة لترصد معرفة الأسباب العسكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية؟ إن قصص القرآن ـ وآياته أكثر من آيات الأحكام ـ لم يأخذ امتداده أبدا فى حياتنا، بل هناك منهجا هذا العلم (علم التاريخ) واعتبروه علم خرافات.. وهذا شىء عجب! ومن العلوم الإنسانية الجديدة: علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الأخلاق.. هذه العلوم علوم أساسية فى الفلسفة الإنسانية، وهى أساسية فى الثقافة الإسلامية، ومع ذلك لم تأخذ الامتداد المطلوب كما سرى هذا الامتداد فى أنواع الثقافة الإسلامية، الأخرى.. ألحظ أن الفقه الإسلامى تحول فى العصور الأخيرة، بعد قرن أو قرنين من الثقافة الإسلامية، فى نمو غير طبيعى، إلى تصوير أحكام جزئية لا حصر لها، كما تحول علم الحديث إلى نمو غير طبيعى أيضا فى جمع الأحاديث الواهية.. البخارى كل ما فيه: ألفان وبضع مئات من الأحاديث الصحيحة، وهو أدق الكتب بيقين.. فما الذى جعل عشرات الألوف من الأحاديث تدخل ميدان الترغيب والترهيب، وتدخل فى الثقافة الإسلامية؟ هذا التمدد فى خلايا دينية كان على حساب العمل الصحيح فى فهم القرآن والسنة..(1/91)
ولذلك وجدنا أن علم الاجتماع عندنا انكمش.. كتب فيه ابن خلدون كتابة جديدة، لكن من قبله ومن بعده؟.. آيات النظر فى الكون والحياة، وجدنا أعجب ما يقع للناس فيها وهم ص _088
الحسن بن الهيثم والخوارزمى، وبعض الذين اشتغلوا بالكيمياء مثل جابر بن حيان وغيره، هؤلاء كان يمكن أن يتكون منهم مولود شرعى لآيات النظر فى الكون لو أن ما أسداه هؤلاء من خير للحياة العملية، وجد امتداده الطبيعى فى الإسلام أو فى الفلسفة القرآنية.. وإذا لم تلد آيات النظر فى الكون هذه الاتجاهات إلى دراسة المادة ودراسة الكون نفسه، فما الذى تلده؟ ومع هذا، فإن خمريات أبى نواس ومجونه، وجدت فى الثقافة الإسلامية متسعاً لم تجده أعمال الذين مضوا مثل جابر بن حيان والخوارزمى وغيرهما من المفكرين! علم النفس مثلا، كنا ندرسه ونحن طلاب فى كلية أصول الدين، لاحظت وعدد من زملائى أن هناك أشياء يمكن أن ندخل علم النفس فيها بالنسبة للثقافة القرآنية.. كنا ندرس نظرية ماكدوجل فى الغرائز، ونظرية الغرائز كما وضعها ماكدوجل، أهملها علماء نفس جاءوا بعده، وبنوا السلوك الإنسانى على قواعد أخرى غير التى بنى عليها.. أنا لا يعنينى ما صنعه الآخرون، وإنما يعنينى ما صنعناه نحن، ونحن ندرس هذه الغرائز.. الغريزة يكون فيها دائما وجدان أو انفعال وجدانى، والعاطفة تكون مفردة أو مزدوجة أو مركبة من عدة انفعالات.. فكنت أتحدث مع زملائى أن الخوف عنصر فى غريزة من الغرائز الإنسانية، هو عنصر بسيط، إذا انضم إليه غيره، أخذ صفة أخرى.. فمثلا: انفعال الخوف مع غريزة التعجب تنتج الإعجاب.. وبدأنا ندرس قرآنيات على هذا الأساس.. فلاحظنا أولا: أن عناصر الشعور الثلاثة: الإدراك، والوجدان، والنزوع وُجدّت فى قوله تعالى: (لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا) . وجدنا أن ما يشد العقل الباطن موجود فيما روته عائشة رضى الله عنها أنها قالت: قال لى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم(1/92)
ـ: " إنى لأعلم إذا كنت عنى راضية، وإذا كنت علىّ غضبى " قالت: فقلت: ومن أين تعرف ذلك؟ قال: "أما إذا كنت عنى راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم " قالت: قلت أجل.. والله يا رسول الله ما أهجر إلا اسمك .. هذا نوع من معرفة العقل الباطن للمرأة أو للإنسان عامة . ص _089
المهم، نحن فى دراستنا للقرآن كان فى الإمكان، قديما وحديثا، أن نكون كالذين درسوا الكون المادى : هناك علماء جيولوجيا فى الأرض، هناك علماء فلك فى السماء، علماء ظواهر جوية.. هناك علماء كثيرون، ما فرض أحدهم منطقه على الآخر، فليس لعالم الفلك أن يفرض على عالم الجيولوجيا منطقه فى الفهم وتقرير الأحكام.. لكن، عندنا، وجدنا أمة القرآن أصيبت بإصابات جسيمة عندما حاول الفقهاء وحدهم أن يفرضوا أنفسهم بفقه الفروع وتوسعاته على الثقافة الإسلامية كلها، فضمرت العلوم الإنسانية ضمورا شديدا، كما ضمرت العلوم الكونية، كما ضمرت أنواع أخرى من المعرفة.. والقرآن فيه هذا الشمول الذى يلد المعارف كلها التى نحتاج إليها. شمولية القرآن، كشمولية الكون.. فعندما أذهب إلى حديقة من الحدائق، يعنينى إذا كنت عالم نبات الزهور وما يتصل بها.. لكن الكون يعرض نفسه كلا، لا يتجزأ.. فما يعنينى آخذه، وما يعنى غيرى من علماء التغذية وغيرهم.... يجده فى الكون، لأن الكون مكتمل فى أصله الذى يعرض به على الناس.. وكذلك القرآن الكريم، فإننا نجد أن الآيات تقرأ، وكل مشغول بناحية من المعارف القرآنية يستطيع أن يأخذ ما يعنيه، كما قال الشاعر: ولكن تأخذ الأفهام منه على قدر القرائح والعقول شمولية القرآن أصيبت، إذ فرض عليها نوع معين من علوم الدين هو الفقه.. أما آيات النظر، فلم تأخذ امتدادها لتكون علما إنسانيا فى التاريخ وما يتصل به.. آيات كثيرة فى القرآن الكريم وفى محاوره التى تدرس، لم تأخذ امتدادها لتكون الثقافة الإسلامية الصحيحة.. وهذا ما ينبغى أن نستدركه(1/93)
فى ثقافتنا الحديثة.. ويمكن اعتبار أكثر ما أصاب هذه الشمولية القرآنية من انحراف كان فى أيام الاضمحلال العلمى للأمة الإسلامية.. أما سلفنا الأول، فقد تفتحت لهم زهور كثيرة فى علوم كثيرة.. والحضارات تبدأ بعد الاستقرار.. تفتحت هذه العلوم لكن سرعان ما ضعفت مع الانحراف الذى أصاب السياسة الإسلامية أو الثقافة الإسلامية.. وأرى أن ما ذكره الدكتور راشد المبارك فى هذا الموضوع فيه إشارة تعطى الفكرة التى نريدها. ص _090(1/94)
القرآن فتح النوافذ أمام النظر العقلى: فالواضح أن الإسلام إطلاق للعقل لا حجر عليه، وإعمال له لا تعطيل لوظائفه.. فقد جاء القرآن دعوة إلى قراءة كتاب الكون، وتأمل أسراره وسننه وحث الفرد على التأمل داخل نفسه وخارجها للوصول إلى تعاون أفضل مع بنى جنسه، وفهم أتم لوحدات الكون وطبيعة المادة. ولكن الإصابات السابقة التى أشرت إليها والتى أحدثت فى ثقافتنا نموا غير طبيعى من تضخم المرويات الواهية، وتضخم الأحكام الفرعية فى الفقه، والذبول فى علم الكون والحياة بموت المكتشفين والرواد الأوائل الذين ذكرنا أسماءهم فى الكيمياء والفيزياء والرياضيات وما إلى ذلك، هذا كله كان سببا فى انحسار واضح فى الجوانب الأخرى من الشمولية القرآنية. وتكونت نظرة دونية إلى من يشغل نفسه بمجال من المعرفة فى غير الوجهات السابقة.. وانعكست هذه النظرة إلى واقع وممارسة، فليس من المصادفة أن رجلا مثل سيف الدولة الذى يهب المئات والآلاف من الدنانير لقصيدة تقال، يرى أن أربعة دراهم فى اليوم كافية لمطالب الفارابى ، وأن يعانى الكندى ظروفا ألجأته لاعتزال الناس، وأن يقضى الحسن بن الهيثم بقية عمره كاسبا قوته من نسخ الكتب.. ولعلنا نجد فى ذلك المناخ التفسير لحقيقة كئيبة وهى أن ما وجه من جهد للمجالات الأخرى التى لا تدخل فى صناعة الكلمة مثل الاقتصاد والسياسة والاجتماع، لا يتناسب مع طبيعة ما تقتضيه هذه المجالات، وأن ترى العلوم التجريبية والنظرية تكاد تبتدأ وتنتهى بالأوائل من ص _091(1/95)
واضعيها، وأن يكون كتاب "أبو يوسف " فى "الخراج " أهم ما وضع فى بابه.. لقد ابتدأت الكيمياء وانتهت، أو كادت بجابر.. ولم يعرف عمل يوازى عطاء الخوارزمى فى الجبر.. ولم يتقدم علم البصريات.. الخ. الدورالمفقود للعلوم الاجتماعية والإنسانية قد يهمنا لفت النظر إلى وجه آخر للقضية.. لاشك أن تحسيس الأمة بهذا التقصير وما لحق بها من الانحسار فى ميدان العلوم الاجتماعية، والامتداد بعلوم الفقه التشريعى وفرعياته وما إلى ذلك، يقع ضمن مرحلة من التيقظ، أى يعطى الصحوة، أو المسلمين شعورا بالمسئولية، وينبههم إلى آفاق يجب أن يبصروها ليعيدوا عملية التوازن المفقود فى ثقافتهم.. لكن لو عرفنا بعض الأسباب التى أدت بنا إلى هذا الواقع، قد يكون من المفيد، خاصة وأننا اليوم، لا نزال نرى امتدادا لهذه الأسباب.. فكثير من العلماء، والمؤسسات الشرعية، وعلماء الدين، والدارسين، يجدون الأسهل عليهم أن يتخصصوا بالفقه وأصوله، ويأخذوا مما كتبه الأقدمون ويختصروا، ويشرحوا، وما إلى ذلك.. كان التوجه إلى القضية لأنها أصبحت هى الأسهل، من أن ينظروا، ويكتشفوا، ويستنتجوا فى آفاق جديدة تقوم على التأمل والنظر، وقد لا يحسنها إلا النفر القليل، ويعزف عنها الكثير.. لذلك يزداد التراكم، ويزداد التخلف، ويزداد الامتداد فى قضية كان امتدادها فى الأصل غير طبيعى.. وتتضاءل فرص الإبداع، وتغيب شروط النهوض. فلماذا كان الامتداد فى القضية الفقهية فقط، وأهملت بقية القضايا القرآنية فى الكتاب والسنة؟ الذى أشعر به من قديم: أن فساد الحكم فى العالم الإسلامى له جذور ضاربة فى التاريخ، وأن سطوة الحكم الفردى كان من وراء، لا أقول ضمور الدراسات القرآنية، بل من وراء ضمور الفقه نفسه.. فالفقه تضخم حيث يجب أن يكون ضعيفا. الفقه الدستورى هو الذى جعل الأوروبيين يبحثون وراء سلطة قضائية، وسلطة تشريعية، وسلطة تنفيذية، أو هو الذى جعلهم يبحثون عن العقد الاجتماعى بين الحاكم(1/96)
والمحكوم، هذا الكلام يكاد يكون ميتا عندنا بعد الخلافة الراشدة، لأن سطوة الحكم هى التى ألجمت الأفواه، وجعلت الكلام فى فقه العبادات يبدئ ويعيد، وجعلت الكلام فى كل ما يبعد عن الحاكم.. ص _092
الملاحظ أن الفقه عندنا تحول إلى نطاق الفقه الفردى، وغاب الفقه المؤسسى بأبعاده المطلوبة، والدولة هى مؤسسة المؤسسات.. وإلى الآن، فقه العمل والعمال يستورد من الخارج، للأسف.. فقه الإدارة والفقه الدولى والدستورى، يكاد يكون وجودنا فيه إلى الآن صفرا.. ومع أن تلامذة أبى حنيفة هم أول من كتب الفقه الإدارى والفقه الدولى، ومع أن رجالا من أئمتنا منهم ابن تيمية نفسه، تحدثوا حديثا عظيما فى شمولية القرآن بالنسبة إلى المنطق والسياسة، إلا أن واحدا كابن تيمية قضى حياته فى السجون.. والذين يريدون أن يشتغلوا بالإصلاح ، إذا وجدوا أن السجن هو الذى يقضون به حياتهم، فإن عددا كبيرا منهم سيبقى بعيدا عن المخاطرة. الناس ألفت أن تعيش حيث وجدت حفاوة الجماهير، أو أوقاف الخير تدر عليهم ليعيشوا بها.. هذا صحيح.. لكن إلى حد بعيد هنالك بعض الآفاق فى العلوم الاجتماعية والنفسية قد لا يكون لها اصطدام مباشر مع السلطة السياسية، وكان يمكن أن تحقق أبعادا كثيرة من الدراسات دون أن تعنى الاصطدام بالسلطة والنظام السياسى.. مع ذلك بقيت ضامرة، ولم تحقق البعد المطلوب أو الموازى للدراسات التشريعية، مع أن القرآن الكريم اعتبرها وسيلة لابد منها لتحقيق الشهود الحضارى (الشهادة والقيادة). الدكتور راشد المبارك له رأى فى هذا: وهو أن العرب اشتغلوا بصناعة الكلمة، أكثر مما يشتغلون بالنواحى الفنية، والنواحى الفكرية، والفلسفية، وهذا جعلهم ينحرفون بكثير من الدراسات المهمة عن طبيعتها، حتى الدراسة القرآنية. وهو يقول إن دلائل الإعجاز ـ وكان الكلام فى بيان عظمة القرآن ـ ما كاد يبرز حتى اختفى، وما ألف فيه شىء يعد على الأصابع، بينما ألفت مئات الكتب فى فروع(1/97)
الفقه العبادى، والفروع العلمية قليلة الجدوى.. وفروع الفقه لا تتعدى فروع العبادات فى المساجد، ولا تتعدى المعاملات فى الأسواق العامة.. وحتى الأدب فقد وجدنا أن الأدب خرج عن الطبيعة القرآنية. والقرآن موجود بيننا، وقد مضى بالأمة العربية إلى آفاق بعيدة جدا. قصور فى إدراك الفكر القرآنى: وكان أبعد شىء عن الفكر القرآنى أن يتحول الأدب إلى مدائح للأفراد أو الحكام.. هذا أبعد شىء عن الفهم القرآنى. فما الذى جعل الأمة العربية تنتهى إلى ما انتهت ص _093
إليه؟ أبو تمام وهو شاعر فحل، والبحترى، والمتنبى نفسه، وهو حكيم العرب، ما الذى جعل أمثال هؤلاء يتجهون إلى المديح؟ إنها سطوة الحكم.. لاشك أن سطوة الحكم كان لها أساس فى إفساد الفكر.. وهناك الاختيار الذى دخلنا به حديقة الأدب الجاهلى ـ وأنا أسميها حديقة الأدب الجاهلى لأنى جُستُ خلالها كثيرا ـ أنا لا أدرى حقيقة ما قيمة معلقة مثل معلقة امرئ القيس؟ وهى نوع من المجون الهابط.. والكلام الذى يذكره الرجل كلام من نوع الأدب المكشوف.. مثلا كلمة عروة بن الورد : دعينى أطوف فى البلاد لعلنى أفيد غنى فيه لذى الحق محمل أليس عظيما أن تلم ملمة وليس علينا فى الحقوق معول هذان البيتان ـ فى نظرى ـ يجعلان قصيدة امرئ القيس كلها لا تساوى شيئا. الاختيار كان رديئا.. فى اختيار الأدب العربى أجد نواحى إنسانية برزت فى شعر الصعاليك العام وغابت فى شعر المعلقات.. وكثير من الشعر الذى اختاره أبو تمام فى الحماسة، وغيره كابن الشجرى ، فيه نواح إنسانية عظيمة.. لكن لماذا اختفت هذه وظهر فى الأدب المديح فقط؟ نحن لا نريد أن ندافع عن شىء باطل فى تراثنا.. إنما يجب أن نتعلم من كتابنا.. فالقرآن ليس فقط كتاب علم، هو كتاب أدب. وكان ينبغى أن يكون الأدب القرآنى ص _094(1/98)
نسقا يحتذى فى الأهداف الإنسانية التى وجه إليها.. ما تحدث فى العدالة الاجتماعية إلا الصعاليك.. ما تحدث فى الطبيعة البشرية وتكلم فيها بشىء من الأناة والصبر، إلا ناس مجاهيل.. لقد استغربت أن يضع أبو تمام فى ديوان الحماسة فى باب الهجاء هذه الأبيات الثلاثة: دربت للمجد والساعون قد بلغوا جهد النفوس وألقوا دولة الأزرا فكابروا المجد حتى مل أكثرهم وعانق المجد من أوفى ومن صبرا لا تحسب المجد تمرا أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا إذا لم توضع هذه الأبيات فى باب التربية، وفى باب الأدب، فأين توضع؟ أيجوز أن توضع فى باب الهجاء. هناك أمور لابد من النظر إليها ونحن على أبواب صحوة نستطيع أن نتعرف كيف تكون الفنون التى تداعب العاطفة وتوقظ الوجدان، كما نستطيع أن نضع أقدامنا على دروب الحياة التى تتعامل مع الكون، وكتابنا هو الكتاب السماوى الوحيد الذى تحدث عن الكون، حتى أن رجلا ليس من علماء الدين ولا صلة له بالثقافة الإسلامية فى صدر حياته مثل العقاد، يكتب: "التفكير فريضة إسلامية"!. وحتى أن مثل هذا ينظر فيه الدكتور راشد المبارك فيقول: هناك ظاهرتان: "الظاهرة الأولى : هى أن مادة فكر لم تكن ذات تكرر، بل ليس لها ورود فى أكثر ما وصل إلينا من التراث الجاهلى شعره ونثره. ومع الإدراك التام أن عدم وجود هذه المادة لا يعنى انتفاء ورود مدلولها، أو إعمال هذا المدلول، إلا أن ذلك لا يكفى لإسقاط الدلالة فى تلك الظاهرة أو استشكالها، ما دامت اللغة هى وعاء الفكر مكتوبا أو ملفوظا. الظاهرة الثانية: تكرر ملفت للنظر لمادة فكر، بلفظه أو معناه، حيث وردت هذه المادة بصيغة الماضى أو المضارع فى نحو ثمانية عشر موضعا، وجاءت الدعوة إلى النظر بمعنى الفكر والتأمل فى أكثر من أربعة وثلاثين موضعا ".. وقلت: إننى أحصيت كلمة "أولى الألباب " فى القرآن فى ستة عشر موضعا.. والعقاد بدأ كتابه "التفكير فريضة إسلامية " بنحو قريب من الثلاثمائة(1/99)
آية عن: العقل، ووظائفه، وأوصافه، وأساليبه فى الفهم والاستدلال.. فلماذا أدع هذا كله وأمشى مع أوهام الذين ورثوا من الماضى أسوأ ما فيه وتركوا أعظم ما فيه؟ ص _095
غياب المنهج القرآنى يعلل بعضهم الظاهرة : بأن العرب أو المسلمين، ما عرفوا المنهج الاستقرائى، وإنما عرفوا المنهج الاستنتاجى أو الاستنباطى، وهذا المنهج عمل عمله فى الفقه ونموه، لأنه أقرب فى طبيعته إلى القياس الفقهى، ولم يستطع أن يعمل عمله فى آفاق المعرفة الأخرى.. أى أنهم يستدلون من نمو الفقه على أن العرب كانوا عاجزين عن إدراك المنهج الاستقرائى الذى يمكن أن يحقق لهم كسبا فى مجال العلوم الإنسانية، وأن الفقه هو ثمرة للمنهج الاستنباطى أو الاستنتاجى.. أنا أخالف فى هذا، لأنى كما قلت: أجد فقهنا اتسع حيث كان ينبغى أن ينكمش، وانكمش حيث كان ينبغى أن يتسع.. ثم إن منهج الاستقراء والملاحظة والتجربة، منهج قرآنى مائة فى المائة. أما فكرة الاستنتاج كما صورها المنطق الإغريقى فهى الفكرة التى تأثرنا بها للأسف، وقد كتبت فى آخر كتاب لى ألوم المسلمين لوما شديدا: لماذا ترجموا الفلسفة الإغريقية؟ لقد كانوا مخطئين فى هذه الترجمة، وأساءوا إلى كتابهم.. وكتابهم كتاب عالمى، وكان عليهم، بدل أن يستوردوا فكر الآخرين، أن يترجموا الفكر القرآنى إلى لغات الأرض.. كان هذا هو ا لوا جب.. أما ما هى الفلسفة الإغريقية، فكر أرسطو.. وهو فكر فيه منطق.. ومنطق أرسطو منطق موضعى لا يتحرك إلى الأمام، ولا يستكشف مجهولا، لذلك رفضه رجال عصر النهضة فى أوروبا لما تأثروا بالمنطق القرآنى فى الاستنتاج والملاحظة والاستقراء. أما منطق أرسطو فهو منطق ـ كما قيل ـ قد يكون ترتيبا لمعلومات موجودة وليس إيجادا وكشفا لمعلومات جديدة.. لماذا لا نقول: أخطأنا؟ وإذا كان هناك خطأ، فما المانع فى أن نستدركه؟ التعرف على الأخطاء أمر طيب.. لكن المطلوب: تحديد الأسباب التى أوصلت إلى تلك الأخطاء حتى(1/100)
يمكن معالجتها مستقبلا. ما فى شك أن الاستبداد السياسى والحكم كان هو العامل الرئيسى، لكن أليس خطيرا أن تبقى القضية بدون علاج حتى تنشأ عنها كل هذه الآثار المدمرة، وكيف يستقيم هذا فى واقع الأمة المسلمة، والأمة معصومة بعمومها عن التواطؤ على الظلم؟ ص _096
محاولة إصلاح الحكم عندنا، تأثرت بعقدة صفين أولا.. وتأثرت ثانيا: بما شاع من أحاديث وأحكام كثيرة تسوغ الظلم وتجعل الخروج على الحكم كأنه الكفر أو دونه الكفر.. وهذه مسألة خطيرة فى تاريخنا.. بينما وجدت الإنجليز صححوا مسار الحكم عندهم بقتل الملك، وعملوا "المجنا كارتا" ، واستقرت الديمقراطية عندهم.. الفرنسيون فعلوا الشيء نفسه : قتلوا لويس .. أنا لا أدعو للقتل؟ إنما عندما تكون الشعوب فى سجن وضعها فيه الحاكم، فمن حقها أن تكسر السجن، وتقتل السجان. عندنا أحاديث كثيرة، أكثرها ضعيف أو موضوع ـ للأسف ـ جعلت الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر يدخل فى نطاق ضيق محدود حتى لا يتجاوز هذا النطاق للمساس بالحاكم أو الحكم.. فالمسألة: لابد من أن نقول: هذا خطأ. ص _097(1/101)
التدرج في العودة إلى الأحكام القرآنية إن قضية النسخ وتعطيل بعض الأحكام وتقطيع الرؤية الشاملة، وما إلى ذلك، تقودنا إلى قضية أخرى وهى: قضية التدرج، أو ما يمكن أن نسميه: سنة التدرج. والذى نقرأه عند علمائنا فى ذلك هو: الاقتصار على بحث التدرج فى التشريع ويأتون لذلك بمثال عن تحريم الخمر.. وتغيب سنة التدرج فى: العقيدة، والعبادة، والدعوة، وتهمل كل المعانى التربوية لسنة التدرج. والقضية المطروحة: أن الأحكام الفقهية إنما جاءت جوابا وعلاجا لمشكلات وحالات كان عليها الناس قبل أن يتهيأوا للانتقال إلى المرحلة التالية.. فهل بالإمكان أن تعمل هذه الآيات وتلك الحلول لمواجهة الحالات المماثلة، على الرغم من استقرار الحكم النهائى؟ بمعنى آخر: الحكم المرحلى، كان بالنسبة للصحابى يشكل حكما نهائيا للمرحلة التى كان فيها ضمن المرحلة ذاتها حتى يهيأ للمرحلة التالية.. أما نحن فنرى الحكم النهائى حيث استقر المجتمع المسلم الأول، فهل يمكن لنا أن نستخدم الحكم المرحلى: تربويا ودعويا مع استصحابنا وإيماننا بضرورة الوصول إلى الحكم النهائى فى نهاية المطاف؟ أم لابد من تقرير الحكم النهائى، ولو كانت الحالة تقتضى حكما مرحليا؟ وهل يمكن للمجتمع والفرد الذى ينسلخ عن الإسلام لفترات طويلة أن يعود فجأة؟ وهل يمكن أن نخاطب بالإسلام مجتمعات غير إسلامية أصلا بالحكم النهائى، دون تمريرها بمراحل التهيؤ؟ وهل لنا أن نطرح اليوم إمكانية التدرج فى التطبيق والتنزيل على الواقع، حيث إننا لا نمتلك التدرج فى التشريع؟ فى الدعوة إلى الله أنا مضطر أن أنظر مواقف الخصوم الذين يواجهوننى بمعتقداتهم المضادة لى. أنا لاحظت أن الكنيسة وهى ضد تعدد الزوجات، تسامحت فى هذا الموضوع وهى تعرض المسيحية على زنوج أفريقيا، ورأت بأن حكمها بعدم التعدد يمكن أن يتحقق بعد جيل أو جيلين، وتتغاضى الآن عن الجيل القائم بحيث إنها تستدرجهم للمسيحية، ثم تبدأ تعلمهم المسيحية(1/102)
الكاملة، وهو ما يمكن أن يسمى التضحية بشىء من الحاضر فى سبيل المستقبل، أو ما سماه بعضهم: سياسة الدعوة. ص _098
فى الحقيقة أنا متردد فى الحكم بشىء معين فى هذا الموضوع، لأنى إذا نظرت إلى أوروبا مثلا وجدت الخمر على كل مائدة هناك، ومع أن القوم يعلمون أضرار الخمر بل يتجهون إلى التحريم، ويعرفون أضرار التدخين ويتجهون إلى التحريم لكن بطرق تحتاج إلى تأمل. فالإعلام عن السجائر كما نرى الآن، معه إعلان محتوم نشره بأن التدخين ضار بالصحة. وفى نظرى، لولا أن المسيحيين لا يريدون أن يأخذوا حكما إسلاميا، لأمروا بتحريم الخمر، لأن الخمر يجتنبها كثير من الرجال العقلاء فى كثير من البلاد، أو قيدوا شربها أثناء القيادة، لأنهم يعرفون أن أخطار الطريق أغلبها من السكارى.. حوادث الإجرام والحوادث الأخلاقية أغلبها من السكارى.. فساد الآلات فى المصانع أغلبها من السكارى.. هم يريدون تحريم الخمر، ولكنهم يكرهون أن يأخذوا حكما من الإسلام، مثل تعدد الزوجات، كانوا يتمنون لو أبيح هذا عندهم، لكن كرههم للإسلام جعلهم ـ فى أوروبا ـ يرفضون هذا. أنا أريد أن أعرض الإسلام، ومن الممكن أن أضغط ابتداء لأبرز شيئا واحدا وهو التوحيد، ضد التثليث وضد الشرك.. إنسانية محمد العظيم صلى الله عليه وسلم الذى افترى عليه الأفاكون بما لا يليق، ونسبوا إليه أكاذيب لا حصر لها.. هذان الأمران. يمكن أن أعرضهما عرضا لا هوادة فيه.. ممكن أن أتكلم عن الصلوات والزكوات وأنا مطمئن لأن الطهر البدنى عندنا هو الفطرة التى يعيش بها هؤلاء أو يريدون الوصول إليها. ولعل أجسامنا ـ أجسام المؤمنين عندنا ـ أفضل من أجسامهم من هذه الناحية.. لكن مسألة الخلافات التى يحتاج حلها إلى وقت، أنا أريد فى هذا أن أنظر إلى الفقه عندنا، والأحوال عندهم، ولا ألجأ إلى ما يسمى بالتدريج لأنه لا حاجة لى بذلك بل إلى حسن الاختيار من الأحكام عندنا بما يلائم الحال. فمثلا، الأئمة الثلاثة عندنا(1/103)
يرون أن المرأة لا تعقد بنفسها على نفسها. وأبو حنيفة وحده هو الذى يقول: من حق المرأة أن تعقد زواجها بنفسها.. أرى من المصلحة عرض مذهب الأحناف.. وإذا كان للأحناف رأى فى الخمر فى أن الخمر تحرم بشرطين: القليل والكثير من العنب مسكر عندهم، وما يسكر مما عداه، إذا كانت الفتوى هذه ممكن تجعلنى أستولى على عدد من الجماهير، ولو أنى حنفى وأضيق بهذه الفتوى ولا أحبها، ولكنى إذا كنت سأكسب بها جمهورا فى فرنسا وغيرها، فأنا أستعملها مؤقتا، ولا حاجة لى أن ألتزم بالمذاهب الثلاثة الأخرى.. ص _099(1/104)
هناك أحكام ربما يرفضها العقلاء عندنا وعندهم مثل ما قلته من أن القاتل إذا كان مسلما، والقتيل من أهل الكتاب أو من أهل الذمة، لابد أن يُقتل فيه، وهذا رأى الأحناف، فآخذ به وأعرضه وأتوقف فى عرض رأى الأئمة الثلاثة.. آخذ مثلاً برأى مالك فى أن الأصل يُقتل فى فرعه.. آخذ بآراء كثيرة.. مثلا: العورة وتحديدها، مذهب مالك يرى أن العورة قسمان: عورة مخففة وعورة مغلظة.. فما الذى يجعلنى ألتزم بالمذاهب الأخرى، هناك عندهم، كأسلوب الدعوة؟ أى، هناك أمور يمكننى أن أختار الأنسب للبيئة هناك.. إنى لا أستطيع عرض الإسلام الآن على أساس أن أترك شارب الخمر يشرب وهو لا يدرى أن هذا الأمر حرام.. ليس عندى فى القرآن الكريم أى نص بإباحة الخمر، إنما عندى تطبيق للتحريم يمكن أن يتدرج.. ـ كأن المقصود بالسؤال هو التدرج فى التطبيق وليس الإباحة، فالحكم واضح ـ الآن أعمل عقوبات تعزيرية، ولا أقيم ما يسمى بحد الخمر، لأن الحد نفسه تعزيرى وجاء بطريق المصالح المرسلة ولم يجئ بطريق النص. ففقهى هنا، فيه متسع لكثير مما أرى أنه يصلح للحياة العامة على امتداد الأرض.. كأسلوب فى الدعوة، الأمر لابد له من شىء من الفقه لانتقاء الحكم الذى يناسب الحالة.. المطلوب نوع من فقه الدعوة أو سياسة الدعوة.. لكن الذى أقصده شىء آخر، وهو: إننا نحن الآن عندنا قناعة كاملة، وأتينا بالخمر كمثال لأن التدرج صار بالتشريع، وصار بغيره، من العقيدة والعبادة، نلمحه عندما أرسل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ معاذا إلى اليمن، قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لمعاذ بن جبل: " إنك ستأتى قوما أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات فى كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أن الله فرض عليهم صدقة، تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك،(1/105)
فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم، فإنه ليس بينه وبين الله حجاب". ص _100
نحن كمسلمين الآن، نتعامل مع مجتمعات ليست إسلامية، ليس مجتمعنا اليوم هو المجتمع الأول حيث استقر الحكم النهائى الذى نزل فيه القرآن.. القرآن كتاب جاء ليخاطب البشرية كلها.. فى ذهننا اليوم، قائم، الحكم النهائى الذى يجب أن نصل إليه فى نهاية المطاف، ولا يجوز أن نعدل عنه لأننا لا نملك أن نعدل عنه، فليس الأمر موضع خيار بالنسبة لنا.. الخمر حرام، والله سبحانه وتعالى قال: (يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون) عملية الاجتناب بكل ما تحمل من أبعاد.. لكن وأنا أستصحب ضرورة الوصول إلى الحكم النهائى ـ ولا يغيب عن بالى أبدا ـ ماذا أصنع بالناس فى بيئة أخرى وأريد أن أخاطبهم؟ هل أقبل بعض الحلول منهم ولا أواجههم بالحل النهائى حتى أهيئهم لذلك؟ مثلا: فكرة الكلام عن أضرار الخمر: لا أوجه العملية بالصد بينى وبينهم فى عملية الإنكار حتى إنى أغلق منافذ الدعوة بأن: هذا حرام واجتنابه كذا.. ولكن، أهيئهم لينتهوا إلى هذا.. العملية قد تكون تأجيل لبعض الأحكام لأن الحالة الواقعية تستدعى ذلك.. يكفى أن أعمل غرامات وشيئا من الإهانة، ولا أغير الحكم: حكم الحلال والحرام، وإنما أجتهد فى عقوبة الشارب.. لابد من الجزم بأن الخمر رذيلة وأن شربها مبعد عن طبيعة الإسلام وطبيعة الطاعة لله. لكن فى معاملتى للشاربين، لازم أن أكون هينا لينا، فلا أقسو.. أتدرج هنا فى تطبيق الأحكام كما تدرجت فى الأول، لأن الحكم فى الأول لم يكن فيه ضرب كثير.. كان الضرب بثوبه.. أما ثمانون جلدة، فكان نتيجة لاجتماع مجلس فيه الإمام على وعدد من الصحابة رضوان الله عليهم.. أنا ممكن أن أمشى فى العقوبات هنا بالطريقة التى مشى بها الأولون: أخوف أولا. وأشدد أخيرا. الاختلاف . . . هل يعني تفريق الدين القرآن رسم المسارات العامة(1/106)
للحياة، وبين السنن التى تحكمها، وجاء بقيم ضابطة للمسيرة البشرية.. ودور الإنسان فى التعامل مع القرآن وإدراك مقصدة، إنما يتمثل فى الاجتهاد فى تحديد هذه المسارات واكتشاف آفاق تلك السنن، وقوانين التسخير ص _101
ووضع البرامج ضمن إطار القيم الضابطة للمسيرة حتى لا تكون الحيدة ولا يكون الخروج.. لكن يبقى أن ما يصل إليه الإنسان باجتهاده هو رأى وليس دينا.. بمعنى أنه ليس مقدسا.. والرأى معرض للخطأ والصواب، لأ نه يمثل فهم الشخص، وقد يفهم إنسان آخر من خلال ما يتمتع به من الإمكانية والموهبة والكسب المعرفى أو النظر إلى الموضوع من جوانب أخرى، فهما آخر، فيما وراء النصوص الخاصة والمحكمة التى لا تقبل الاجتهاد.. فهل يمكن اعتبار الفهوم والآراء كلها التى لا تخرج عن إطار القيم الضابطة ضمن إطار إغناء الرؤية القرآنية ولو اختلفت؟ وهل لذلك من نماذج، وبذلك نخلص من مطاردة التحريم، والتكفير، والتخطىء، ونحكم على بطلان الرأى ومحاصرته برأى مماثل، وهل الآراء الاجتهادية ضمن ضوابط القيم، تعنى الافتراق وتفريق الدين، الوارد النهي عنه فى القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون)، وقوله تعالى: (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون). فالقرآن الكريم فيما أرى، جاء بالمبادئ وترك الاجتهاد، فى تنزيل النص على الواقع ووضع البرامج إلى اجتهادات العقل البشرى فى كل عصر بحسب معطياته ومشكلاته. الذى لا شك فيه أن القرآن الكريم رسم الخطوط العامة، وترك التفصيل فى أمور كثيرة للنبى عليه الصلاة والسلام.. حتى صاحب الرسالة فصل فى الجزئيات فيما يتصل بالعبادات، ولكنه فيما وراء هذا ترك الأمر أيضا للعموم الذى تستكشف العقول مداه على مر الأيام، وما هو الأنفع فيه.. هنا أعجل(1/107)
فأقول: إن الإسلام ربط الحق بالمنفعة، أو جعل علامة أن الشىء حق، أن تكون هناك منفعة.. ترى هذا فى قوله تعالى : (أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال). فاعتبر أن الحق بطبيعته نفاع للناس، وأن فيه صالح الأمم، وما تحتاج إليه.. ص _102(1/108)
لكن نعود مرة أخرى إلى القرآن فيما وضع من ضوابط عامة للأمم.. تعلم أن القرآن وضع النصوص الخاصة فيما يتصل بقواعد الصلاة وصوم رمضان والحج، وهذه عبادات كلها، لا تتطور ولا تتبدل مهما تغير الزمن، لكن فى الشورى مثلا، لم يقترح نظاما خاصا أو يحدد شكلا معينا.. الشورى كقيمة لابد منها.. لكن كيف تنفذ؟ حتى فى هذا العصر الحاضر، نجد فى الدول الحرة ـ كما تسمى نفسها ـ ليس للديمقراطية شكل خاص يشيع بين الجميع.. فالولايات المتحدة نظامها رئاسى، والسلطة التنفيذية فيها تنكمش أحيانا أمام السلطة التشريعية، فلا يملك رئيس الدولة وهو رئيس السلطة التنفيذية، أو يعين رجاله إلا بإذنها.. بينما الديمقراطية الغربية ليبرالية ملكية، فيها ملك أو ملكة تملك ولا تحكم. فالنظام الديمقراطى فى إنجلترا مخالف تماما للنظام الديمقراطى فى الولايات المتحدة.. النظام الديمقراطى فى فرنسا يجعل انتخاب رئيس الجمهورية من حق الشعب بينما هو فى إيطاليا من حق مجلس النواب والشيوخ. فطبيعة هذه النظم تختلف.. والمهم أن مصلحة الجمهور هنا قد تكون غير مصلحة الجمهور هناك.. أو ضوابط الحرية هنا قد تكون محتاجة إلى وسائل غير الوسائل التى تحتاجها الحرية فى بلد آخر.. وعلى هذا، فهذه التفاصيل متروكة للناس وللزمان، وما لأحد أن يرى أن ما عنده أو ما يعرضه هو الصورة الوحيدة التى يتعبد بها أو تتحقق بها المصلحة العامة. هذا بالنسبة للشورى، أما بالنسبة للعدالة الاجتماعية فإن الأمر قد يحتاج إلى ما هو أدق: هل تقيد الملكيات أو تطلق؟ هل تقيد الإجارات أو تطلق؟ أى: ما مدى تدخل الدولة فى حريات الأفراد الاقتصادية؟ وهذه أيضا مسألة متروكة لما يقوله القائل عندنا: تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من فجور.. فقد نرى التقييد فى ظرف، ونرفضه فى ظرف آخر، كما حدث فى إنجلترا: حزب العمال أمم المرافق العامة كلها، وجاء حزب المحافظين فرفض هذا الإجراء وبدأ يبيع القطاع العام، واستطاعت(1/109)
رئيسة الوزراء أن تحول بعض المؤسسات إلى شركات مساهمة، يساهم فيها العمال.. كل هذه المحاولات هى وسائل لتحقيق ما نسميه العدل الاجتماعى أو الضمان لئلا يقع ما خاف منه الإسلام وهو: أن أبيت شبعان وجارى جائع.. المسألة ليست تحسس فرد لما حوله بقدر ما هى يقظة الدولة لإشاعة الثقة والأمان بين الجماهير. ص _103
هناك مسائل نبه إليها صاحب " الموافقات ": الإسلام حرم الترف، أو حرم الفساد فى الأرض، فيجئ صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام بتشريعات هى من بيانه ليست فى القرآن، ولكن فى النطاق العام للقرآن، أو بتعبير الفقهاء الدلالات العامة للقرآن الكريم، أو المقاصد العامة للقرآن الكريم.. فمثلا، فى أحوال كثيرة نجد أن القرآن الكريم ينبه إلى أن وجود طبقة معينة "مترفة" تملك زمام الأمة، أمر فيه خطورة : (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا بما أرسلتم به كافرون) ، (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) فكيف نمنع تكون مثل هذه الطبقات؟ إنه أمر متروك للرسول عليه الصلاة والسلام.. ولمن يخلفونه فى حكم هذه الأمة بحيث إنها تمنع الشر.. لكن ليست هناك وسيلة محددة، وإنما تركت الوسائل لاجتهاد مطلق. الحكمة والميزان: وأنا فى هذا أشرت إلى أمرين فى بعض كتبى: الأمر الأول: ما يسمى بالحكمة.. والأمر الثانى ما نسميه بالميزان، مستهديا بقوله تعالى : (الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب) ، (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز) ما هو الميزان؟ الحكمة وردت فى القرآن فى نحو من عشرين موضعا تقريبا، مفردة أو مع الكتاب: "الكتاب والحكمة".. من قال: إن الحكمة هى السنة النبوية، فهو مخطئ.. لأنك تقرأ قوله تعالى: (ويعلمه الكتاب(1/110)
والحكمة والتوراة والإنجيل) كيف تكون الحكمة هنا هى السنة النبوية والكلام هنا يقصد به عيسى ابن مريم عليه السلام.. (ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد) ص _104
(ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا) (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما) ففى نحو عشرة مواضع فى القرآن، لا يمكن أن تكون الحكمة هى السنة النبوية.. بل هى ما يستفاد من التعاليم القرآنية، أى وضع الأمر فى موضعه.. وهنا أقول: إن الميزان هو الناحية العملية، والحكمة هى الناحية النظرية فى ذلك.. مجموعة الآيات التى وردت فيها الحكمة والميزان، تعطينا منهجا أن الأمة لابد أن يكون لها من الرؤية القرآنية التى تستنبطها أو تستدركها من مجموع الآيات سياسة قرآنية: كيف تحكم الشعب، وكيف تنزلها على واقع الناس.. أى كيف ينزل الفكر القرآنى على واقع عملى؟ قد يرى الإنسان أن كلمة "ميزان " تعنى ـ فيما تعنى ـ تنزيل الأمر على واقع الناس… فالكتاب هو القيم والمبادئ الموحى بها، والميزان هو التجسيد العملى، أو الواقع التنفيذى البرامجى لهذه القيم والمبادئ.. نعم.. لأن الميزان لا يمكن أن يكون معنى حسيا، فقط. والتوازن الاجتماعى فيه المعنى نفسه. فلابد من الميزان. والميزان هنا يشترك فيه الأخلاقيون والقانونيون، وتشترك فيه شئون مادية ومعنوية.. الذى ألفت النظر إليه: إن الربط الذى يراه أحدنا فى تفسير آية أو استنباط حكم هو اجتهاد.. لا يوجد إمام من الأئمة الكبار فى فقهنا ألزم الناس باجتهاده.. بل كلام أبى حنيفة واضح: كلامنا هذا رأى، من كان عنده خير منه فليأت به.. ومالك كان يرفض أن يعتبر رأيه دينا، بل معروف من حكمة الرجل أنه رفض وهو صاحب الموطأ، أن يفرضه على الناس لأنه قد تبدو للناس علوم أو معارف أخرى، وهذا(1/111)
من صميم ديننا الإسلامى.. والذى يلزم الناس بأن ما عنده هو الدين؟ فهو إما جاهل أو قاصر أو مريض مصاب بجنون العظمة أو به شئ يحاسب عليه أو يجب إصلاحه. فجعل الاجتهادات دينا، لا.. إنما المهم أنه لابد من إعمال النظر فى تنزيل القرآن على واقع عملى. ص _105
وإذا لم يكن هذا هو الاجتهاد، فما هو الاجتهاد الذى نريده؟ وأنا رأيى الآن أن أفضل شىء للأمة أن يكون الاجتهاد جماعيا.. ولا أزال أدعو إلى إغلاق باب الاجتهاد فى العبادات.. يكفينا فى أمور العبادات ما ورثناه من أقوال فى الصلاة والحج والصيام وما إلى ذلك.. ويكون الاجتهاد بعد هذا فى المعاملات الدولية، والمعاملات الاجتماعية والإدارية وغيرها. القرآن كتاب مفتوح، يقول تعالى: (ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار) لكن يبقى المطلوب: كيف نعيش بهذا الإيمان؟ فلننقل منطق الإيمان إلى كل شىء.. ومنطق الإيمان منطق واسع، له مواصفات فى العادة.. وليس له شكل معين عمليا وإنما أوصاف معينة.. وهذا ما يمكن أن نسميه "القيم ": فالقرآن الكريم جاء بقيم تحدد المسارات العامة أو قواعد أو مبادئ عامة، ولم يجئ ببرامج إلا فى القضايا التى لا تتطور ولا تختلف فيها الفهوم، كما أنها لا تختلف من زمان إلى زمان، ومن بيئة إلى أخرى، ومن طبيعتها أن تكون توقيفية.. نعم، ما عدا هذه القضايا فهو متروك للزمن ومتروك للناس. كأنى أرى الخلاصة فى هذا: أن الأصل أن تبقى القيم القرآنية هى الضابطة لمسيرة الحياة فى إطار عريض، وأن الحركة والاجتهاد ضمن إطار القيم هو متروك لاجتهادات الناس بحسب ظروفهم ومشكلاتهم التى تتبدل بحسب الزمان والمكان.. المهم ألا تخرج الاجتهادات عن الإطار الذى رسمه القرآن، وفى ذلك متسع للزمان والمكان بمقتضى الخلود والخاتمية.. قلت فى بعض كتبى: إن هناك وسائل ثابتة.. فإذا قيل إن الصلاة لابد لها من وضوء،(1/112)
يبقى الوضوء وسيلة محددة، لكن الأمة محتاجة للجهاد. كان رباط الخيل يوما ما هو وسيلة الجهاد، وانبنى على ذلك أن الفارس يأخذ ضعفين أو ثلاثة أضعاف على اختلاف المذاهب ـ ما يأخذه الراجل، وأقيمت الأوقاف فى رباط الخيل.. ص _106
الآن، لا يمكن الأخذ بهذا الاجتهاد، لأن رباط الخيل انتهى من عملية الجهاد.. هناك إمكانات أخرى هى: الدبابات والمدرعات وغيرها. الوسائل تختلف " ليس فقط فى الجهاد وإنما فى العدالة أيضا.. العدالة قيمة لابد أن تضبط الأمور بميزان العدل.. الآن، قد يمكن أن أجعل محاكم عسكرية، ومحاكم للقاصرين، ومحاكم للأحداث، وأجعل المحاكم فى الوقت نفسه درجات: محاكم ابتدائية، ومحاكم استئناف، ونقض وإبرام وتمييز.. كل ما يعين على تحقيق العدالة، أجتهد فيه كيف أشاء.. كذلك التعليم، فكونك تقيم معاهد ومدارس لها مواصفات معينة لتعليم الأمة كلها، أو تجرى إحصاء عاقا للأمة كلها بحسب سنى العمر كى تتعرف على أعداد الطلاب الذين لابد أن تفتح لهم مدارس، فهذه كلها مسائل حضارية لابد منها، وهى تدخل فى إطار ما عندنا من قيم، وهى جزء من الحكمة والميزان الذى أشار إليهما القرآن الكريم، ولابد منها لبناء المجتمع. القيم تضبط.. والقيم صفات، لا برامج وأعمال.. وليست لباسا معينا، فمثلا: الإسلام يقول للمسلم: البس اللباس الساتر للعورة الذى لا يشتم من لابسه الكبر والخيلاء.. لكن، لا يقول به يجب أن يكون هذا اللباس: جلابية، أو جبة، أو غيرها، وإنما يترك له التصرف. فهناك مواصفات وضعها الإسلام للحياة الاجتماعية.. وقد تحدث فيها القرآن باستفاضة دون نصوص خاصة، أو برامج خاصة لذلك.. يمكن أن تتدخل الحكمة هنا لينشئ الناس قوانين تفى بالمطلوب للأمة. ولذلك، أنا ممن يرون أن تكثر الاجتهادات ضمن الصورة الإسلامية.. فمثلا: الإمام أبو حنيفة يجتهد فى أن تعطى المرأة حق أن تعقد على نفسها ـ وغيره من المجتهدين يرى غير ذلك ـ وأن تعطى الحق فى أن تخالع(1/113)
زوجها، ويحكم القاضى بالحكم المناسب، وأن تعتلى القضاء.. هذه برامج واجتهادات.. ومن هنا أنا اخترت ترجيح مذهب المالكية فى أن تقسيم الغنائم ليس تقسيما ملزما.. أى أن "التخميس " هو صورة مما يمكن أن تقسم به الغنائم، والرسول عليه الصلاة والسلام..لم يلتزمه عندما وزع غنائم هوازن وثقيف، فقد حرم بعض ص _107
الصحابة "الأنصار".. ورأيت أن هذا ما صنعه عمر رضى الله عنه عندما رفض أن تقسم الأرض المفتوحة، وفرض عليها الضرائب، وأعطى الفاتحين أنصبة، أو مرتبات، من هذه الأرض المفتوحة. وهكذا تجد أن الإسلام ليس مجموعة صور محددة ومعينة للنظام، وليس هو قوالب ثابتة، وإنما هو قيم ثابتة، على ضوئها ننتقى الشكليات، أى نشكل ما نريد.. وإدارة شئون الدنيا أعطانا الإسلام فيها فسحة: " أنتم أعلم بأمر دنياكم " .. أى: أنتم أعلم بالتنظيمات الدنيوية.. والمهم أن تكون هذه التنظيمات ضمن سياج محكم من القيم والقواعد الموجودة فى القرآن والسنة. ص _108(1/114)
هل اختلاف وجهات النظر الاجتهادية يعنى تفريق الدين؟ الاجتهاد: تنزيل نص على حادثة معينة.. ومن المجازفة أن يقال عن هذا التنزيل: هذا رأى الإسلام، أو الحل الإسلامى، أو ما إلى ذلك.. وأتصور أنه يمكن أن ينتج عن ذلك معارك واتهامات لا نهاية لها بسبب تنوع العقول، وتعدد الاجتهادات والآراء، واختلاف الناس فى تنزيل النص على الحوادث.. فلو اعتبرنا الرأى أو الاجتهاد، فى فهم القرآن أو الحديث، دينا له قدسية الدين، والخروج عليه إثم كإثم الخروج على النص الشرعى نفسه، وما إلى ذلك، فهذه قضية ستمزق الأمة، وستوقعها بنتائج نلمح بعض آثارها هذه الأيام. نريد مناقشة هذه القضية الهامة، والإتيان ـ إن أمكن ـ بنماذج للاستشهاد حتى لا يفسر بعض الناس من أصحاب العقول الكليلة، النصوص الواردة فى النعى على الذين يفرقون دينهم بأنه يعنى: بعض الاجتهادات، أو يحكم على بعض الاجتهادات بأنها لون من التفريق للدين، وأن الاجتهاد هو سبب افتراق الأمة إلى ثلاث وسبعين شعبة، وما إلى ذلك؟ إن أئمتنا عندما اختلفوا، ما زعم أحدهم أنه أصاب الحق الذى يريده الله تعالى.. بل كل منهم قال: رأيى صواب يحتمل الخطأ، ورأى غيرى خطأ يحتمل الصواب. وبقى الخلاف، وبقى الود.. وبقى التواضع فى أنى أبذل جهدى لمعرفة مراد الله.. ولذلك، وفى عبادة كالصلاة، يرى فيها أبو حنيفة أن قراءة المأموم للفاتحة حرام، ويرى الشافعى أنها واجبة، ومع هذا فإن الشافعى وأبا حنيفة من أئمة المسلمين، ويسأل الشافعى عن أبى حنيفة فيقول: الناس عيال فى الفقه على أبى حنيفة.. ومن زعم أن رأيه هو الدين وأن غيره ليس بدين، فهو كاذب.. ويشاع هذا الآن بين بعض أتباع المذاهب المتنطعين الذين لا يعرفون المذاهب، فهو يرى الرأى تبعا لفكر اجتهادى لصاحب مذهبه، ثم يلغى جميع المذاهب الأخرى ويرى أنها حرام.. هذا باطل.. وقد شاع بين الجهال والمتنطعين، وأفسد الأمة الإسلامية.. اخترت هنا أمرا من الأمور العبادية(1/115)
كمثل ـ والأمور العبادية لها طبيعتها ـ فكيف بالأمور غير العبادية؟ كيف بالأمور التى هى بطبيعتها محتاجة ومحتملة لأن نختلف ص _109
فيها ؟ الإسلام لم يضع صورة معينة محددة لبعض القضايا كشئون الشورى، والجهاد، والعدالة، والتعليم، وما إلى ذلك.. كل هذه الأمور وردت فى القرآن كقيم، وتركت صور التطبيق ووسائله إلى الاجتهاد.. وهذا ما جعل أبا بكر مثلا يقول : أستخلف واحدا.. وعمر يقول: أستخلف ستة يختارون من بينهم.. الرسول عليه الصلاة والسلام..لم يستخلف أحدا.. وأخذ من هذا : أن مسألة اختيار الحاكم ليس لها نص معين، وليس هناك واحد يستطيع أن يقول : أنا أولى بالحق من غيرى.. فكل منهم له سابقة يمكن الاستشهاد بها والاعتماد عليها.. إن الذين يحددون خطا فى الحياة من اجتهاد أحدهم أو بعض الناس، ليس لهم أن يقولوا: هذا الخط هو من عند الله وإن من عصى هذا الخط فقد عصى الله، هذا كله نوع من الباطل. يبقى: لابد أن نعرض لمفهوم الآيتين اللتين وردتا فى الإخبار عن تفريق الدين، والآثار المدمرة لذلك : (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) ما هى أبعاد هذا التفريق المنهى عنه؟ وأعتقد أن القضية ليست فى الإطار ولا الصورة التى يستخدمها بعض المسلمين اليوم.. التفريق المنهى عنه إنما سيكون فى أمرين الأمر الأول: خلاف جذرى فى العقائد وما وراء المادة والمغيبات، لأن الكلام فيها ليس له سند عقلى عند الناس، ولكنه تطاحن على فهم بدا لصاحبه.. كما يتحدث بعض الناس فى الأمور التى نعتبرها ص _110(1/116)
من وراء المادة ولا مجال فيها للعقل: هل الصفات زائدة عن الذات، أو هى عين الذات أو غير ذلك؟ ما معنى الاستواء على العرش؟.. هذا كله كلام أرى الخوض فيه يعتبر أولا : كلاما لا معنى له ولا لزوم له؟ وثانيا: لأن الخوض فيه يؤدى إلى انقسام دينى خطير.. ومن الخير أن نوفر لأنفسنا وحدة الأمة بأحد أمرين: إذا كان بعضنا قد أول التماسا لمعنى سليم للتنزيل- وما من أحد إلا وأول، والسلف أنفسهم أولوا، وعندما أقرأ قوله تعالى : (ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) السلف يقولون: ملائكتنا.. هذا تأويل.. لكن المقصود هنا التنزيه.. يريدون أن ينزهوا الله عن الحلول المكانية والزمانية.. فالأمر يحتاج إلى شيء من التوضيح.. فلا يجوز أن أتهم الآخرين بالزيغ أو الكفر إلا إذا كان هناك فعلا من يريد أن يصف رب العالمين بغير ما ينبغى له. أما الخلافات الفقهية الفرعية، فأجمع المسلمون على أنه لا صلة لها بكفر أو إيمان. وقد اختلف الصحابة رضوان الله عليهم فى قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.. " لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة " هل يصلون العصر فى بنى قريظة أو يصلونه فى الطريق؟ ولم ير الرسول عليه الصلاة والسلام فى هذا الخلاف حرجا، وجمعهم صفا واحدا فى مقاتلة اليهود، ولم يتوقف على هذا الموضوع، ولم يتوقف عند الأمر، فقد وجده أقل من أن يعلق عليه. كذلك الأمر بالنسبة لمن تيمموا وصلوا ثم وجدوا الماء قبل مضى الوقت، فتوضأ بعضهم وأعاد الصلاة، ولم يعدها بعضهم الآخر.. فالذى أعاد الصلاة قال له عليه الصلاة والسلام..: "نور على نور".. الذى لم يعدها، قاله له: " أجزأتك صلاتك " .. وانتهى الأمر. فالخلافات الفقهية الفرعية لا يعتبرها أحد أبدا خلافا دينيا وتفريقا للدين.. بل هى اجتهادات فى فهم النص.. يقول تعالى فى سورة آل عمران: ( ولا تكونوا ص _111(1/117)
كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم * يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) يريد الله سبحانه وتعالى فى هذه الآية ألا نكون كاليهود والنصارى الذين فرقوا دينهم، وأصبحوا مذاهب متعادية فيه مثل البرتستانت والكاثوليك والأرثوذكس، وكان خلافهم فى أصول العقائد وليس فى الاجتهاد.. والعقيدة عندنا واضحة ولا خلاف فيها، وليس هناك خلاف بين المسلمين أبدا فى أصول العقائد.. العقيدة تعنى أن الله واحد بلا شك، ليس كمثله شىء، له الأسماء الحسنى. إذا كان هناك كلام فى بعض أحاديث النزول، فهى مسائل ليس الخلاف فيها حول تنزيه الله، فتنزيه الله ثابت عند الجميع، إنما حول الفهم اللغوى لبعض ما ورد: هل المراد الاستعارة؟ أو المراد الحقيقة؟.. وهذا لا يمكن اعتباره خلافا دينيا.. كذلك قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء) هذا كله جاء بعد الكلام عن أهل الكتاب.. أما قوله تعالى: (منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون) فالآية تتصل بالدين كله بدءا من قوله: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، لأن الآية الثانية ( منيبين إليه ) من الآية الأولى (فأقم) والمقصود : أن نستقيم فى مسالكنا، وفى أحوالنا مع تعاليم ديننا.. والذين يريدون الانسلاخ عن الجماعة، وإحداث شغب قد يقسم الأمة، مسئولون أمام الله عن تمزيقها وتفريقها. ليس هناك من عقلاء المسلمين، بل حتى من العامة فى الأقدمين، من قال: إن الخلافات الفقهية تفريق للدين.. لم يقل بذلك أحد أبدا.. الخلافات الفقهية، خلاف فى فهم نص، أو المعنى المقصود وهو أمر يحتمله النص الدينى نفسه، هو واحد ويحتمل هذه المعانى. فى آية مثل: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون(1/118)
ولا جنبا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم إن الله كان عفوا غفورا) هل مطلق اللمس ينقض الوضوء؟ أو المقصود باللمس هنا لمس معين وهو الاتصال الجنسى؟.. من قال إن هذا له صلة بأصول الدين أو أنه يمس صلب الدين؟ لم يقل بذلك أحد.. ص _112
ما صلة ذلك بحديث: " افترقت اليهود على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على إحدى أو ثنتين وسبعين فرقة، وتفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة" . هذا الحديث ليس من الصحاح، وهو وارد فى كتب السنن.. وأغلب ظنى أن المقصود به: الخلافات السياسية التى توهن قوى الأمة، وتهلكها أمام غيرها. إذا اعتبرنا أن الخلافات السياسية هى التى عناها الرسول عليه الصلاة والسلام.. "بالافتراق " فهل يمكن أن تؤدى الخلافات السياسية إلى النار عدا فرقة واحدة؟ لماذا لا تكون: اجتهادات؟ سؤال وارد.. ويبقى هنا أن يفسر أن المقصود بالخلاف السياسى: أولا: هدم الدول والخروج عليها.. فرجل يرى أنه يجب أن يكون هو رئيس الدولة، ولا يأبى بأن يحدث شغبا يقسم به الشعب قسمين، ويقاتل هذا بذاك.. هذا نوع من الخلافات الذى أعتبره كأنه كفر: "لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض ".. أما الخلاف الآخر، وهو الاجتهادى، فاستبعدنا، باتفاق العقلاء، الخلافات الفقهية، لا بين الأربعة ولا بين الثمانية.. إنما نستبعد كل خلاف سواء كان سياسيا أو دينيا، معه سوء النية والرغبة وعدم الاكتراث فى بقاء وحدة الأمة.. هذا ما نعتبره خلافا حقيقيا وخطيرا.. وعندما أنظر لماضى الأمة الإسلامية أجد أن الفتنة الكبرى كانت خلافا.. اتفق المسلمون على أن هذا الخلاف كان سياسيا، ولم يكفر أحدهم الآخر مع أنهم تقاتلوا، لكن اعتبر ذلك كله فتنة، ثم تدخل العقلاء وقالوا: كان اجتهادا، معاوية ومن معه كانوا على حق أو أخطأوا وهم معذورون، وعلى(1/119)
ومن معه كانوا على حق أو أخطأوا وهم معذورون.. أى أن هؤلاء العلماء ساروا بالأمور بطريقة لا تخلع الأمة والناس عن الإسلام، فإذا كان لا يمكن تطبيق الحديث على الفتنة الكبرى، فكيف نطبقه على غيرها ؟ المشكلة أن بعض الناس بدأوا يطبقونه على بعض الخلافات الفكرية والفقهية والسياسية، ويسمون " الفرقة الناجية "... إلخ.. ص _113
هذا كلام باطل. فلو صح الحديث، فالمقصود منه: الذين ساءت نيتهم وأرادوا تمزيق الأمة.. أما الذين حسنت نياتهم ويريدون الخير للأمة فلا دخل لهم بالحديث.. وقوله عليه الصلاة والسلام..الحديث: "... ما عليه أنا... "، فقد فسرتها بما يأتى بعض أهل الحديث يقولون: نحن الفرقة الناجية.. وهذا الكلام فيه كثير من التجاوز والمجازفة، لأن أهل الفقه ليسوا دون أهل الحديث رغبة فى إصلاح الأمة الإسلامية، وفهم الإسلام وتحقيقه.. وقد يكون بعضهم من أهل الحديث والفقه فى آن واحد مثل الشافعى وغيره.. ويوجد من أئمة الإسلام الكبار من يجمع فى نفسه أو فى علمه: الفكر الفلسفى، والأصولى، والفقهى، والحديثى.. الخ لكن لا يوجد فى هذه الفرق ممن يشتغلون بالسنة أو التفسير أو الفقه، من يطلب الدنيا بعلمه، أو تلتاث نيته ، هذا هو الذى نعتبره خارجا على الجماعة.. ومع ذلك، لا أستطيع أن أعتبره كافرا لأن الكفر ليس لدى، وإنما يكون بنصوص، مثلما قال الشارع: كفر بواح، عندكم من الله فيه برهان. أما قوله عليه الصلاة والسلام..فى الحديث: ".. ما عليه أنا وأصحابى"، فأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام..كلهم على ما وقع بينهم من خلاف سياسى ووصل الأمر بهم إلى التقاتل، مع ذلك نقول: إنهم كلهم ناجون، وذلك لأنهم أصحاب دين يجتهدون فيه لتحقيق مصلحة الإسلام.. فمن كان لديه الدين أو الإيمان والإخلاص والرغبة فى مصلحة الإسلام، لا أستطيع أن أدخله أبدا فى الزمرة الكافرة، وأخرجه من الفرقة الناجية. إذن قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم(1/120)
في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون) هو حديث عن أهل الكتاب، وتحذير للمسلمين حتى لا يقعوا بالعلل نفسها التى وقع بها أهل الكتاب.. وأن المقصود: " بالتفريق "، التفريق بالعقائد، وليس التفريق بالمذاهب والاجتهادات التى تقع ضمن إطار القيم.. رد خبر الآحاد إذا خالف اليقين: وهذا الأمر يقودنا إلى التوقف، ولو قليلا، عند خبر الآحاد، أو أحاديث الآحاد واعتمادها فى إثبات العقائد، وما يمكن أن يترتب على الاختلاف فيها ـ من حيث الدلالة والثبوت ـ من افتراق واختلاف، لو أننا أثبتناها فى أصول العقائد.. وشىء ص _114(1/121)
من الفرق بين حديث الآحاد وتباين وجهات النظر فى قبوله ورده، وبين النص القرآنى لأن عدم وضوح ذلك بشكل كامل سوف يؤدى إلى تمزيق وحدة المسلمين. فكثير من أحاديث الآحاد قبلها بعض العلماء، وردها بعضهم الآخر.. وأعتقد أن فهمها والاستنباط منها يشكل رأيا فرديا لا يمكن أن يرقى ليصبح دينا ملزما للآخرين من أهل النظر.. وقد تكون المشكلة أن رد أحاديث الآحاد برأى ونظر فردى، أكثر ظنية وعرضة للخطأ.. فكيف نرد خبر آحاد باجتهاد آحاد، أم لابد للأمر من سند قرآنى أو دليل نصى أقوى؟ علماؤنا فيما يرى جمهورهم، يرون أن خبر الآحاد مصدر من مصادر الحكم الشرعى فى الفروع. ولكن يهمل إذا كان هناك دليل أقوى منه.. ما هو الأقوى؟ يرى الأحناف أن الأقوى هو ظاهر القرآن مثلا، أو القياس القطعى.. ويرى المالكية أن الأقوى هو عمل أهل المدينة، وبالتالى تركوا أحاديث، أو ترك مالك أحاديث أكثر مما ترك أبو حنيفة.. فمثلا دعاء الاستفتاح فى الصلاة، رفضه المالكية نهائيا، وليس لديهم استفتاح.. صلاة تحية المسجد قبل الجمعة والإمام يخطب مرفوضة عند المالكية وعند الأحناف.. الأحناف رفضوا أن يقتل المسلم بكافر، كما رفض المالكية أن يقتل الأصل فى الفرع، حتى إذا كان القتل عن ترصد وسابق إصرار.. المالكية يرفضون الحكم بتحريم أكل بعض الحيوانات، فيقولون بأكل الكلب والخيل وغيره، ويرون أن نص القرآن ظاهر: ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم ) حتى الشافعية رفضوا حديث أن البنت البكر تُستأذن، وقالوا إن أباها يزوجها.. الأئمة الأربعة رفضوا حديث رضاع الكبار.. حديث إن الكلب يقطع الصلاة، رفضه الأئمة الثلاثة ما عدا الحنابلة والظاهرية.. والظاهرية لهم أشياء عجيبة فى هذه المسألة، يقولون: إن المرأة إذا مرت أمام المصلى تقطع الصلاة، ولكن(1/122)
إذا كانت مضطجعة أمامه فلا تبطل الصلاة. الأحاديث التى تركتها الأئمة لا حصر لها.. بل هناك أحاديث كثيرة يرى بعض العلماء أنها صحيحة، ويرى بعضهم أنها غير صحيحة.. والشيخ رشيد رضا قال: إنه لابد من إعادة النظر فى أحاديث الفتن.. ص _115
من الناحية العقلية، عندما يقول ابن عمر رضى الله عنهما: اعتمر النبى ـ عليه الصلاة والسلام ـ ..أربع مرات إحداهن فى رجب. فتقول له السيدة عائشة رضى الله عنها: ما اعتمر فى رجب قط فكيف يقال: إن حديث الآحاد يفيد عقيدة ؟! عندما يروى عمر رضى الله عنه الحديث: "إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه ". تقول عائشة: والله ما قال رسول الله عليه الصلاة والسلام..هذا، قال " إن الله ليزيد الكافر عذابا ببكاء أهله عليه، حسبكم القرآن : لا تزر وارزة وزر أخرى " . فكيف يقال فى حديث الآحاد إنه يفيد عقيدة وهو لا يفيد حكما بطريق اليقين؟ ولولا أن الأحكام الشرعية تؤخذ بالظن، ما كان يعمل بحديث الآحاد.. إنه يفيد الظن، ويؤخذ به لأننا إذا أتينا بشاهدين على القتل، هذا لا يفيد اليقين، لأنهما يحتمل أن يتواطأ على شىء.. فكيف يقال إن حديث الواحد يفيد اليقين؟ هذا كلام باطل.. ونحن ليست لدينا عقيدة مأخوذة من حديث آحاد أبدا.. ولكن يمكن أن تؤخذ أحاديث الآحاد فى العقائد إذا كانت شارحة لقرآن مثل أحاديث عذاب القبر وثواب القبر، وما إلى ذلك. وهذا كلام موجود كله فى القرآن، ولكن بطريقة القرآن فى الإجمال، مثل قوله تعالى: (ولو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت والملائكة باسطو أيديهم أخرجوا أنفسكم اليوم تجزون عذاب الهون) فماذا يعنى اليوم، يعنى أنه سيعذب اليوم ولن ينتظر إلى يوم الساعة، ويبقى هذا العذاب هو عذاب البرزخ، عذاب القبر.. وكذلك الثواب، يقول تعالى: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا(1/123)
هم يحزنون) ص _116
فهذا كله فى البرزخ.. وكل أحاديث عذاب القبر وثوابه لا تفيد عقيدة بذاتها ولكنها أفادت بعد أن مهد القرآن لها بحوالى خمس آيات قرآنية.. ولو فرضنا أن هناك من قال: إن ربنا لا ينزل إلى السماء الدنيا، بل يتجلى، فهذه ليست عقيدة، ولكنه يكشف معنى عبارة وردت فى حديث آحاد.. ولا يمكن أن نعتبر هذا عقيدة.. نزول الله ليس عقيدة.. هناك أشياء كثيرة وسنن فى الآحاد ولكنها تفسير أو لبنات فى البناء الإسلامى تؤخذ فى حدودها. وهذا ما مشى عليه المسلمون. فما خالف اليقين من أحاديث الآحاد، مرفوض.. ولذلك، القراءات الشاذة بزعم أنها جاءت بأحاديث صحيحة، لكنها مرفوضة لأنها خالفت المتواتر الذى يفيد علم اليقين. فالقول بأن أحاديث الآحاد تبنى العقائد وتفيد اليقين، قول غير صحيح، وما يقوله بعضهم فى هذا مرفوض. ولا يمكن بناء عقيدة على أحاديث الآحاد، خاصة وأن العقائد قد تكفل بها القرآن، وليست ـ عندنا ـ من صنع المجامع، كما هى فى المسيحية، ولا من صنع مرويات أحادية إطلاقا.. وكما أسلفت، فإنه يمكن أخذ أحاديث الآحاد فى العقائد، شارحة أو مبينة لما تواتر فى الكتاب والسنة. نريد هنا أن نؤكد على قضية وردت فيما سبق، لكن فى مساحة صغيرة.. فقد نرى فى بعض المصطلحات التى يعتمدها أو يستخدمها المجتهدون والمفكرون اليوم، بعض المجازفات الموهمة أن الاجتهاد هو الدين المعصوم.. فالمجتهد أو المفكر عندما يحاول أن ينزل نصا على حادثة فى عصر معين يقول: رأى الإسلام كذا.. حينما يريد أن ينظر لإعطاء حل أو وجهة نظره فى قضية مطروحة يقول لك: الحل الإسلامى لها كذا.. وأعتقد أن هذا لون من المجازفة التى قد تحمل نتائج سلبية إضافة إلى كونها اجتهادا فى فهم قد يعارضه اجتهاد آخر.. فهل يجوز أن نعطى الاجتهاد قدسية الدين؟ إذا كان هناك من يقول: رأى الإسلام، فإذا كان يقصد بالرأى: اجتهادا من الاجتهادات، يبقى رأيا من الآراء الإسلامية.. والأفضل أن يقول:(1/124)
الحل الاسلامى كما أراه، أو كما يراه مجتهدون أو مفكرون، هو كذا وكذا.. والتعبير يحتاج إلى ضوابط.. وهذه الضوابط، يمكن أن ننظر إليها من عدة نواح: أمر البرامج فيه سعة ـ كما أسلفنا ـ بشرط أن ننضبط بالقيم القرآنية.. لقد سبقنا الأوروبيون فى العصور الأخيرة، أو الأربعة قرون الأخيرة، واستطاعوا ابتداع أنظمة اجتماعية، أو سياسية، يمكننى أن أتبناها لأنها أنظمة عامة. والإسلام أحيانا لا ص _117
يمكن أن يخرج عن حدود ما يفترضه العقل البشرى، بمعنى أنه مثلا: ورد فى المكره على قتل: ماذا نصنع فيه؟ بعض العلماء قال: يُقتل المكره.. وبعضهم يُقتل المكرَه.. وهناك من قال: يقتل الاثنان.. وهناك أيضا من قال لا يقتل الاثنان بل يعذران.. هذه أربعة احتمالات موجودة، فهل للعقل الإنسانى مجال بعد هذا؟ لم يبق احتمال. فإذا كان الأوروبيون قد وصلوا بمنطق الفطرة للكسب العقلى، بشىء من التجارب لا يعارض القيم الإسلامية. وأنا تبنيته باسم الإسلام، فلا مانع عندى من هذا. إذا كان الإسلاميون توارثوا شيئا من اجتهادهم أو تقاليدهم، ويوجد خير منه عند الآخرين. فلا يجوز أن أقول: إن اجتهادنا هو الإسلام.. بل هو فهم بشرى، وقد يكون الرأى الآخر أفضل، وهو مستند إلى فطرة، وهى الإسلام فى هذه النواحى العامة المرنة. قد يقع أننى أستعير عناوين عند القوم كالاشتراكية، أو الديمقراطية، أو ما إليها.. والحقيقة أن المستعير قد يكون مخدوعا بالعنوان، وأنا أكره الاستعارات ـ وخاصة فى المصطلحات ـ لكن قد يكون ما منها بد، عندما يكون التقصير الإسلامى واضحا أو فاضحا فى مجال معين، وتبقى مصطلحات لها مفهومات ودلالات معينة، لابد من الانتباه لها. فإذا قلنا: إن الإسلام دين ديموقراطى، فكلمة ديموقراطية يونانية الأصل، والمحور الذى يدور عليه التطبيق هناك هو ضمان المصلحة بتحكيم أكبر قدر ممكن من أولى الألباب، وإشراكهم فى اتخاذ القرار، ومنع الاستبداد الفردى، ومنع استطالة(1/125)
واحد على الناس بفضل مال أو غيره.. فإذا كنا نحن لم نصل فى اجتهاداتنا الإسلامية لوضع برامج ووسائل لتطبيق الشورى، بل بقى عندنا للأسف من يقول إن الشورى غير ملزمة للحاكم، فإن المصطلحات التى تجئ من الخارج ستنتصر، ما دمنا نحن ضد الفطرة وضد الأصل الذى هو عندنا وهو الشورى. والشورى، لماذا كانت أصلا عندنا؟ لأن الواحد لا يمكن أن يكون مصدرا لحكم معصوم، وإنما الجماعة هى التى لا تجتمع على ضلالة.. فأن نأتى ونجعل الجماعة يقفها واحد فهذا لا يطاق، وقد يعارض قوله عليه الصلاة والسلام..: " لا تجتمع هذه الأمة على ضلالة أبدا " .. ما رآه المسلمون حسنا فهو الحسن . ص _118(1/126)
إدراك السنن الإلهية فى الأنفس والآفاق وسيلة الشهود الحضارى: السنن هى القانون المطرد، فلقد تحدث القرآن عن السنن التى تسير الحياة والأحياء ـ وهى قوانين تحكم الحركة التاريخية والاجتماعية والنفسية ـ سنن سقوط الأمم ونهوضها، وغابتا ما يجئ ذلك فى أعقاب القصص القرآنى.. وأكد أن هذه السنن جارية على الناس جميعا، وأن اكتشافها والتعامل معها، أمر لابد منه للشهود الحضارى (عمارة الأرض والقيام بأعباء الاستخلاف الإنسانى)، الشهادة والقيادة للناس استجابة لقوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم) واكتشاف السنن هو الذى مكن العالم المتقدم من التقدم والتحكم.. وغفلة المسلمين عنها كانت سبب الانحطاط والسقوط والتخلف، أصبحوا مسخرين بدل أن يكونوا مسخرين. فهل لنا أن نطرح القضية ونقدم شيئا من النماذج لهذه السنن الواردة فى القرآن، وعجز المسلمين اليوم عن تسخيرها "التعامل معها"، وكيف أن جيل القدوة أحسن إدراكها حتى تمكن من بناء الحضارة، من مثل: ا- سنة التدرج. 2- سنة الأجل. 3- سنة التداول الحضارى. 4- سنن المدافعة. 5- سنن التسخير. 6- سنن الله الأخرى فى الأنفس والآفاق والكون... إلخ؟ قال تعالى: (استكبارا في الأرض ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا) لفت نظرى فى تفسير كلمة "الحكمة"، تفسير لابن عباس رضى الله عنهما، يقول فيه: "أخذ الناس بصغار العلم قبل كباره "، هذا ما يستقر بذهنى، ويمكن العودة لما يقوله . ص _119(1/127)
" الحكمة " هى: أن أحدث الناس بما يطيقون، فقد جاء فى هذا الموضوع حديثان: أما الحديث الأول: " حدثو الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذب الله ورسوله " . وأما الآخر فهو: " إنك ما حدثت قوما بحديث لم تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة " وهذا يقتضى أن ننظر إلى حقائق الإسلام كلها، بعد جمعها فى صعيد واحد، وهى شبكة من التعليمات تتصل بالفرد والجماعة والدولة. ثم: من الذين نخاطبهم؟ وما ظروفهم؟ وما أحوالهم التاريخية، والاقتصادية، والاجتماعية والحضارية.. الخ؟ فيكون المتحدث لبقا بحيث ينزل تعاليم الإسلام وفق حاجات الناس وما يمكن أن تصلحه هذه التعاليم من أوضاعهم. وقد لاحظت أن عددا كبيرا من المسلمين يدخلون الآن ميدان الدعوة والإصلاح بأمور عقائدية من النوع الذى ثار الجدل حوله قديما. وأذكر أنى لقيت شخصا ذاهبا إلى مسجد، قلت له: إلى أين؟ قال: لأحدث الناس فى المسجد وأهاجم هؤلاء الزائغين من الأشاعرة.. فقلت له: هل أدلك على أفضل من هذا؟ قال: وما أفضل من هذا؟.. قلت له: تستمسك بالمحكم الذى هو لب الكتاب وأساسه، وتبعد عن هذا المتشابه وعن الخوض فيه سلبا وإيجابا، هجوما، أو رد عدوان.. لأن الله وصف آياته المحكمة : ( هن أم الكتاب) . فإذا كانت الأمة فى أحوالها العامة مضطربة سقيمة، فما الذى يجعلك تذهب إلى أمور يحار العقل البشرى فى إدراك كنهها، لتبدأ الإصلاح من هناك؟ وإلا يبدو أنك ستزيد الأمة سقاما! وخير لك أن تعلم الناس ما يحتاجون إليه من الكتاب. وقد رأيت فعلا أن الخشوع فى الصلاة، وهو ركن وهو روح الصلاة، ما يلتفت الكثيرون إلى تعليمه أو التنبيه إليه، وتوفير أسباب وجوده فى الصلاة، بقدر ما نرى الكلام عن قضايا نواقض الوضوء، وكيفيات الوقوف فى الصلاة.. لقد تحولت أركان الإسلام بهذا إلى مجرد أشكال تتحرك، وأصبحت شئونه الكبرى تائهة مع هذا الغثاء الطافى فوق أفكار المتحدثين عنه. ص _120(1/128)
نحن نريد أن نعلم الناس الإسلام كله فإذا كان الإسلام سبعين شعبة أو يزيد، فلنبدأ بالأهم فالمهم، ونأخذ الناس بطريق التدرج كما فعل القرآن وهو يعرض تعاليمه على الناس.. والتدرج سنة قرآنية، لها أبعاد تربوية لابد من إدراكها حتى يمكن تبليغ دعوة وإقامة حضارة.. إن تحريم الخمر جاء بعد غزوة أحد بسنتين تقريبا، أى أن ناسا ممن قتلوا فى أحد، ماتوا وفى بطونهم خمور، وهم شهداء.. ما نقص هذا من إيمانهم ولا أضاع ثوابهم عند الله.. المهم أن الإسلام عندما عرض أخذوا بجملة ما عرض منه.. ما بقى لم يكلفوا به لأنه لم يطلب منهم. نحن الآن نعرض الإسلام متدرجين فى التطبيق.. وأعتقد أن العرض فى الجبهة الشرقية غير العرض فى الجبهة الغربية.. وأن الكلام عن الإسلام بين الهنود غير الكلام عن الإسلام بين الزنوج، غير الكلام عن الإسلام بين عرب يتبعون إحدى الجبهتين.. وهكذا. فلابد من أن أعطى الإسلام على مراحل بحيث أنى سأصل إلى الإسلام كله حتما، ولكن بالطريقة التى أقر بها الإسلام فى القلوب والمجتمعات.. وهذا ما يمكن أن أسميه سنة التدرج. يمكن أن نستعير هنا ما عرَّف به العرب البلاغة من أنها: مطابقة الكلام لمقتضى الحال. فنرى إنه لابد من دراسة أحوال المستفيدين من الخطاب، وعمرهم الحضارى، وعقلهم، والمشكلات التى يعانون منها، ثم بالتالى التفكير بما يعرض عليهم، مع احتفاظ الداعى بالرؤية الشاملة للإسلام التى يجب أن ننتهى بالناس إليها.. وقد يكون المطروح: التدرج فى التطبيق، أما التشريع فأمره استقر عند الحكم النهائى بعد أن أكمل الدين.. هل يمكن أن نعرض لبعض الآيات فى مجال التدرج، غير آية الخمر الشهيرة؟ وكيف يمكن التعامل معها من خلال واقعنا المعاصر؟ الربا نفسه، لم يتم تحريمه إلا فى حجة الوداع تقريبا " لأن آيات البقرة من آخر ما نزل من القرآن الكريم، والحق بموضوع الربا موضوع الزكاة فى سورة البقرة.. وكان أول ما نزل فى سورة الروم: (وما آتيتم(1/129)
من ربا ليربو في أموال الناس فلا يربو عند الله وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون) ص _121
ثم وجدنا حديثا عن الربا فى سورة النساء يتحدث عن أهل الكتاب: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا * وأخذهم الربا وقد نهوا عنه ) فكان فى هذا إشارة إلى أن الربا محرم . ثم وجدنا ما نزل فى سورة آل عمران: ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون) . ثم جاء بعد ذلك ما نزل فى البقرة، وكان حاسما: ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين) . فهذا نوع من التدرج . فى مجال التشريع، قد يلتقط المرء أمثلة كثيرة.. لكن فى مجال العقيدة والعبادة هل يمكن أن نأتى أيضا على ذكر بعض الأمثلة ؟ فى عقيدة التوحيد، الله واحد.. وقد حاول بعض الناس استبقاء شىء من عبادة الأصنام، فرفض النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفضا باتا.. فلا تدرج هنا.. الله واحد، ولا يمكن قبول شىء يخالف هذا.. كل ما فى ذهنى بالنسبة للعبادات أن ثقيف طلبت رخصة فى الصلاة فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لا خير فى دين بلا صلاة " لابد من الصلاة.. وعندما طلبوا رخصة فى الجهاد، تهاون فى ذلك قليلا.. نلمح أبعادا لسنة التدرج فى أركان الإسلام، بعد الإقرار بالتوحيد.. لقد ذكر الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ " فإن استجابوا " أكثر من مرة عندما أرسل معاذا إلى اليمن، وبذلك علم كيف يكون الانتقال من قضية إلى أخرى.. التدرج فى التعليل بداهة لأنى لا أعرض الصلاة على من لم يؤمن بالله سبحانه وتعالى، فإذا آمن بالله بدأت بما يلى الإيمان وهو أول العبادات.. ثم أجىء بعد ذلك بالزكاة.. فأرى أن هذا ترتيب فى تقديم الأدوية، لكن لابد منها جملة.. ص _122(1/130)
أي أن ما يلمح من قصة بعث معاذ هو تدرج تربوى وتعليمى مع أهمية الاحتفاظ بالقضايا الجوهرية؟ هو يشبه التدرج فى قصة إبراهيم عندما أراد أن يعلم عبدة الكواكب أن الله واحد، فتدرج معهم فى أن تمثل الألوهية فى النجم ثم أبطلها.. وتمثلها فى القمر ثم أبطلها.. وتمثلها فى الشمس ثم أبطلها.. ثم انتهى إلى أن خالق هؤلاء جميعا هو الله سبحانه وتعالى.. هذا نوع من التعليم بطريق التدرج. والقرآن نفسه، يلمح فيه هذا التدرج التربوى والتعليمى. فقد كان لابد أن ينزل القرآن مدرجا.. فالتدريج كان لابد منه لتربية الناس.. لأن الأمة تخضع للسنن الطبيعية فى صياغتها وبنائها، والتدرج من الأمور الطبيعية، لذلك لا يمكن أن نخضع لسنن خارقة لأن ذلك يحتاج إلى نبوة وإعجاز.. هذا صحيح.. وأنا كنت أتصور أن العرب ناس فيهم سذاجة، أو أنهم بدو معرفتهم بالحياة محدودة، وأن الحروب قلما تكون بينهم، لكن تبين لى بعد ذلك أن أشنع الجرائم كانت موجودة فى قلب الصحراء، وفى المدن البدائية.. فالشذوذ الجنسى موجود الآن مع الحضارة الغربية المتقدمة جدا، لكن كان موجودا بطريقة غير عادية فى ديار لوط، فى قرى المؤتفكة، وهى قرى فى صحراء الأردن.. بخس المكاييل والموازين وحرص الإنسان على جشعه وأنانيته، كان موجودا أيضا فى قوم شعيب.. الكبرياء إلى حد الجبروت الذى نأخذه الآن على قادة الحضارة الغربية، وهى حضارة لم تر حرجا فى أن تهلك نحو مليون شخص فى اليابان بالقنبلة الذرية فى حرب إبادة لا تخضع لأى مقياس خلقى، من أجل الانتصار.. إنها أخذت الأخضر واليابس، والطفل والمرأة والرجل، هذا الكبرياء وهؤلاء الجبابرة وجدت نماذج لهم أيضا فى قوم عاد وقوم ثمود. فيبدو أن الطبيعة البشرية هى الطبيعة البشرية، مهما اختلفت الوسائل فى التنفيس عن الغرائز. وما أراه من ضراوة الشهوات اليوم، كان موجودا بين بعض القبائل العربية.. لكن المهم هو أنه خلال ربع قرن أمكن علاج النفس البشرية كلها من(1/131)
الأمراض " لأن الأمراض هنا تشكل نماذج من الأمراض فى القارات كلها، والخالدة فى النفس البشرية على الزمن كله. ص _123
سنَّة الأجل سنة الأجل قد تكون قريبة من سنة التدرج.. فلكل شىء أجل معلوم، ولا يمكن استعجال الأمور واختصارها قبل الأوان: يقول تعالى : (لكل أمة أجل ) و (لكل أجل كتاب ) و ( ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب). والأمور مرهونة بأوقاتها وعلماء الاجتماع اليوم يقدرون عمر الجيل الذى يكون محلا للتغيير بسنوات محددة، ولعلها من 25 إلى 35 سنة. ولقد نظرت فى الزمن الذى استغرقه نزول الإسلام من قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) إلى قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم ) ، (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون ) فوجدتها 23 سنة، هى عمر الدعوة التى أحدثت التغيير، ووضعت أساسا للإنسانية.. ومع ذلك، يغفل بعض الدعاة اليوم عن سنة الأجل، ويغلب عليهم استعجال النتائج دون وضع المقدمات، وكأنهم يتعاملون مع سنة خارقة! الله سبحانه وتعالى، مع أنه يملك كل شىء، ولكنه قال: (وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) لماذا القدر المعلوم؟ لمصلحة الناس، تمشيا مع حكمة أن العطاء يكون على قدر ما يحتاج إليه الإنسان.. ودائما، لابد من التقدير، فالماء إذا كثر فى الزراعة أماتها، وإذا كثر حول الناس أغرقهم.. لكن لابد من الماء ولابد أن آخذ منه بالقدر الذى أحتاج. كأنى أقصد بالأجل: العمر الذى يقتضى شروطا معينة لنمو الفكرة التى تمهد للتغيير والوصول إلى النتائج المطلوبة؟ ليس الفكرة فقط، وإنما شروط معينة لنفس البشر، ونفس النبات؟ لأن الله قادر على أن يخلق الجنين بدل تسعة أشهر فى تسعة أيام فى يوم واحد، فى لحظة.. وقادر على أن يجعل الحبوب أو " حب الحصيد " كما ذكر، بدل أن يحتاج إلى خمسة أو ستة شهور كما فى القمح، وشهرين أو ثلاثة فى الذرة، كان من الممكن أن يقع ص _124(1/132)
هذا فجأة ودفعة واحدة.. لكنه سبحانه، كما خلق الكون على عدة أيام، جعل التدرج هنا فى أزمنة.. ولأمر ما كان الأستاذ حسن البنا رحمه الله ، يقول لنا : الزمن جزء من العلاج.. والزمن هو فى الحقيقة بعد رابع من الطول والعرض والعمق. ولابد منه لاستكمال الصورة.. ولقد رأيت الأستاذ ألكسيس كاريل، فى كتابه " الإنسان ذلك المجهول " ـ وهو طبيب ـ يعتمد على نظرية أينشتاين فى علاجاته وفى وصفه لوظائف جسم الإنسان، كأن الزمن حقيقة حسية مع الطول والعرض والعمق. يلمح الإنسان من الآيات التى تحدد لكل شىء أجلا معلوما، أن الآجال أمر آخر غير الأقدار.. فالأقدار قد تكون أقرب إلى النوع والصفة، والآجال قد تكون أقرب إلى الشروط والعمر الزمنى المطلوب لإنضاج الفكرة بعد مراحل تربوية متتابعة.. كما يمكن أن نلمح أيضا من سنة الأجل: ضرورة وضع الوقت المحدد كعنصر وقيمة لابد منه فى العمل حتى لا تبقى الخطة المأمولة سائبة وحتى يكون المسلم خارجا من إطار الزمن كما هو الحال.. الزمان والمكان كلاهما موضع دراسة لعلماء الطبيعة.. وهم حائرون فى تحديد المكان والزمان. وهذا ما يجعلنى سلفيا فى أمر العقائد. لأننا إذا كنا حائرين فى معرفة المادة فكيف بما وراء المادة؟ عيوننا خلقت لترى على مسافة معينة وعلى حجم معين، فإذا نقص الحجم كثيرا، انعدمت الرؤية، وإذا زادت المسافة كثيرا عزَّت الرؤية.. فيبدو أيضا أن بصيرتنا العقلية على هذا النحو، لها طاقة معينة تستطيع أن تدرك بها الأمور، وبعد هذا تتلاشى، ولا تستطيع أن تدرك شيئا. سنة التداول الحضاري بعد أن قص الله سبحانه وتعالى قصة غزوة أحد، وما خضع له المسلمون من سنة كان تجاهلها سببا فى سقوطهم أو فى هزيمتهم قال: (أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير). ص _125(1/133)
عقب الله على ذلك بما يسمى بـ " سنة التداول الحضاري " : (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس ). وقد عبر بعض علماء الحضارة عن هذه السنة بالدورات الحضارية، ووضعوا لذلك سمات وقوانين حاولوا تطبيقها على الحضارات الإنسانية فى التاريخ.. وقد صح شىء من ذلك على الحضارة الإسلامية، وعز شىء آخر عن الخضوع لحساباتهم فى سنة التداول الحضارى أو الدورات الحضارية، لأن الأمة المسلمة لم تمت، والحضارة الإسلامية تجددت وتتجدد دائما.. عندما أنظر إلى تواريخ العالم فى الشرق والغرب، أجد أن الإمبراطوريات والدول كأنها تشبه البشر، لأن لها أعمارا تنتهى إليها.. صحيح أن الحضارة ظهرت فى الشرق الأوسط، ويبدو أن هذا هو السر فى أن أغلب النبوات فى الشرق الأوسط، لأن ازدهار الملكات الإنسانية كانت فى حضارة مصر والشام والعراق وجنوب أوروبا فى اليونان وإيطاليا، أى حوض البحر المتوسط تقريبا.. وصحيح أن هناك حضارات كانت فى الهند والصين، لكن لا أدرى، لأن هذه الحضارات التى كانت فى أطراف العالم، كأنها كانت محلية أو ما رأيت أنها بلغت فى النمو العقلى ما بلغته حضارة الشرق الأوسط.. هذا كله نوع من الحدس. لكن الذى ظهر لى هو أن الحضارة أشرقت من مصر ثم انطفأت.. وأشرقت من اليونان ثم انطفأت.. وأشرقت من الرومان ثم انطفأت.. وأشرقت من بلاد العرب بالإسلام ثم خبت. وبعد هذا يوجد الآن تحول حضارى يقولون إنه سيجعل الحضارة تشرق من جنوبى آسيا وشرقيها : اليابان والبلاد التى تقترب منها. ويخيل إلى أن الذين يرون هذا يؤمنون بالحضارة المادية فقط، لأن التقدم المادى الآن فى اليابان، وتايوان، وكوريا، وغيرها من بلاد جنوب شرقى آسيا يكاد يضارع أوروبا وأمريكا، وينافسها فى أسواقها الداخلية.. لكن أعتقد أن العالم قد تكون له عند الله مكانة تجعله سبحانه وتعالى لا يربط كرامة البشر(1/134)
بأسواق السلع البراقة التى جاءت بها الحضارة الحديثة. ص _126
أنا أتصور أن هناك حضارة دينية، يكون الإسلام لبابها هى التى ترث العالم. وفى ظنى أن هذه الحضارة الإسلامية ستعم العالم قبل أن ينقضى تاريخ الدنيا.. ولى هنا فى القرآن شاهدان: الشاهد الأول: قوله تعالى فى سورة الروم: (ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون * وقال الذين أوتوا العلم والإيمان لقد لبثتم في كتاب الله إلى يوم البعث فهذا يوم البعث ) . فكأن هذا الكتاب سيبقى إلى يوم البعث.. ومعنى بقاء الكتاب: بقاء رسالته وحضارته.. الشاهد الثانى: من سورة آل عمران في قوله تعالى: (وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون) . والذين اتبعوا عيسى خصوصا عندما يظهر بينهم هم المسلمون.. أما المسيحيون الذين ألّهوا عيسى فهم خصوم له وليسوا أتباعه، والدليل على هذا من القرآن نفسه، ومن سياق الكلام: (إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون). فالمسلمون هنا هم الذين يتبعون عيسى عندما ينزل لتكذيب من ألّهوه، وهم الأتباع الحقيقيون له ؛ وسيبقون إلى يوم القيامة.. ورشح هذا المعنى أيضا ما رواه الإمام أحمد بن حنبل فى مسنده: " والله ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولن يبقى أهل مدر ولا وبر إلا دخلوا فى الإسلام، بعز عزيز، أو بذل ذليل " . فالتنقل الحضارى، أو التداول الحضارى، سنة.. لكن هل يقع أن الأوروبيين يدخلون الإسلام ويحملون هذه الحضارة؟.. ربما.. هل يقع أن المسلمين يثوبون إلى ص _127(1/135)
رشدهم ويتوبون إلى الله ويقيمون هذه الحضارة؟ ربما.. لا أدرى بدقة ما الذى يقع.. لكن أحيانا أنظر إلى أحاديث جاءت مفردة وغريبة فى بابها، وتؤيدها دراسات بعض العلماء اليوم فهناك عدد من العلماء يقول: سيحصل تغير كونى، وأن بلادا خصبة ستجف، وأن بلادا صحراوية ستعود مروجا وأنهارا.. فهل هى بلاد العرب التى قيل إنها كانت أيام عاد وثمود مليئة بالخير؟ وسمعت أن نجدا كانت مليئة بالزروع والثمار وأنواع الإنتاج الحيوانى ـ خف هذا مع ظهور البترول؟ لا أدرى: لم؟.. على كل حال قد تقع سنة التداول، لكن لا ندرى بالضبط: أين ستنتقل بمنارة الحضارة العالمية ليكون شعب ما هو الشعب الرائد تتبعه بقية الشعوب.. وتلك سنة الله فى الكون. الناس الذين يعتنون بالجانب المادى، تكلموا عن الدورات الحضارية: ظهور الحضارة، ثم ذبولها وانقضائها.. ولو استقرأ الإنسان تاريخ الحضارات، لا يجد أن ما سمى بالدورات الحضارية ينطبق على حال الأمة الإسلامية.. فى سيادة الأمم وإبادتها، ترى أن كثيرا من الحضارات فى التاريخ سادت ثم بادت وانتهت، حتى أصبح لا وجود لها، ولا قيمة عملية لها غير القيمة التاريخية فقط، بينما نجد عملية النهوض والسقوط بالنسبة للأمة الإسلامية ـ إذا استقرأنا التاريخ ـ لم تخضع تماما فى جوانب حياتها كلها لهذه السنة من الدورات الحضارية.. خميرة النهوض موجودة فى القرآن، وأسباب النهوض والسقوط فى القرآن (السنن) هى أشبه ما تكون بمعادلات رياضية، وبمجرد أن أحسن المسلمون التعامل معها، أوجدوا حضارة.. وعندما يتنكرون لها، يكون السقوط.. لذا نرى كل ما جاء على الحضارة من الفساد الداخلى والاستبداد السياسي، وما إلى ذلك، ومن الموجات العارمة الخارجية المبيدة والسنين الطويلة التى عاشتها لإسقاط الحضارة الإسلامية، لكن مع ذلك استعصت الحضارة الإسلامية، ولعل هذا يعطيها لونا من الخصوصية بسبب الوحى، بسبب خلود القرآن ـ كما أسلفنا ـ وإن قابلية النهوض(1/136)
موجودة باستمرار، وإن عدم القضاء عليها دليل على عدم خضوعها للدورات الحضارية والمقاييس الحضارية الأخرى بشكل صارم، ولعل ذلك لأن الأمة المسلمة هى الأمة الخاتمة التى ورثت النبوة، ولأن الإيمان الكامل هو خميرة النهوض وشرطه ولذلك قال ص _128
تعالى فى أعقاب هزيمة أحد: (ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين * إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين) هذا صحيح.. وأنا أؤيد هذا.. وهذه الأمة ـ كما قلت ـ تمرض ولا تموت، والعلل التى تصيبها، يجئ أغلبها من اضطراب الحكم، فالعطب يكون دائما فى القشرة التى تغلف العود وهى الحكم.. فساد الحكم قشرة فى النظام الإسلامى؟ لأن الإسلام ليس حزبا سياسيا، إنما هو مجموعة قيم وتعاليم، قد يكون الحكم حزاما يشد التعاليم، لكن بقيت التعاليم قائمة مع انقطاع الحزام.. ويظهر هذا جليا مع سقوط بغداد، فإن التتار دخلوا فى الإسلام، رغم محاولات أوروبا العصيبة والشديدة فى أن تجر التتار إليها، وأن تجعل منهم حربا صليبية، بل كانت هى فعلا كذلك، وتدرس فى تاريخ أوروبا على أنها حملة تتارية صليبية معا، إلا أن الأندلس حقيقة تعرضت لحملة إبادة تشبه القنبلة الذرية؟ لأن الحقد الصليبى تجمع كله فيما يسمى بمحاكم التفتيش فكانت التصفية الجسدية ـ بتعبير العصر ـ هى الأساس فى محو الإسلام من أسبانيا.. وكان ينبغى على المسلمين أن يأخذوا من هذا عبرة.. والأمر نفسه حدث فى يوغسلافيا. لاشك أن إثارة النزوع القومى وإيقاظ النعرات العرقية والقوميات التعصبية هى محاولة لإلغاء الحسى الإسلامى.. هذا حق.. ويجب الالتفات له. سنة المدافعة سنة المدافعة مأخوذة من قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ) هذه السنة الاجتماعية التى تحكم التجمعات البشرية، يلمح(1/137)
الإنسان أثرها الفاعل فى كل زمان ومكان حيث يسلط الله الظالمين بعضهم على بعض، وتكون بذلك فرصة لنجاة المستضعفين ونمو الخير، وحماية أهله.. ولعل هذا الذى حمل بعض المفسرين إلى القول: بأنه فى غياب العدل والحكم الإسلامى لا يمكن أن يسلط الله ص _129
على البشرية ظالما واحدا يتحكم بها بل يوجد دائما أكثر من ظالم، ومن خلال مواجهتهم وصراعهم تتحقق فرص النهوض والبناء الحضارى.. فإذا أحسن المسلم اليوم التعامل مع سنن المدافعة، يمكن أن يحقق كسبا وإنجازا هاما للقضية الإسلامية، على الرغم من الضعف والتبعثر.. والحكمة هنا فى التحرك هى؟ حسن اختيار الموقع الفاعل.. فكيف يمكن أن يستفيد المسلمون من سنة المدافعة حتى تستمر حياتهم حينما لا تكون الغلبة لهم، ولا تكون الحضارة لهم، فى مثل حالنا اليوم؟ وهل من شواهد قرآنية موضحة؟ حينما أتأمل فى قوله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) أشعر بأمرين: الأمر الأول: أن الاختبار الإلهى ليست له صورة محددة.. فصوره كثيرة متعددة.. وعلى الإنسان أن يكون على استعداد دائم لكى يتحمل تبعات الدفاع عن معتقده وعن سيرته ومسلكه وقيمه.. لكن كيف سيكون لون هذا الاختبار؟ لا ندرى.. الأمر الثانى: أن هذا التدافع هو طبيعة الحياة الفردية والاجتماعية، بمعنى أنه فى داخل الجسم البشرى، تفرض المناعة نفسها عندما تدخل جراثيم غازية، ويبدأ القتال حتى يبقى الجسم حيا.. الحياة الإنسانية، لابد فيها من هذا التدافع. هذا اللون من التدافع.. ربما تنشط أجهزة الإيمان وتتحرك فيه قواه الداخلية إذا كانت فاترة عندما يشعر بالتحدى، ويكون هذا سببا فى إمداده بحياة جديدة.. وهنا سنن الله الكونية التى يجب أن يخضع لها المؤمنون والكافرون: أن الحياة فيها هذا التصادم المستمر بين قوى ومبادئ مختلفة.. وهكذا الحياة.. يحاول الكفر أن يفرض نفسه، فتنشط قوى الإيمان لكى تبقى.. فيبقى الإيمان بعد أن نمت قواه بضغط(1/138)
الكافرين عليه.. (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ) هذا التدافع الحضارى، جزء من الاختبار الإلهى، وجزء من تمكين الخير من أن تزداد صلابته فى مواجهة الشر. ص _130
بعض علماء الحضارة، مثل توينبى وغيره، يعتبرون التحدى والاستفزاز هو سبب هام فى الاستجابة والنهوض الحضارى.. هو الذى يقضى على العناصر الشائخة ويستفز الأمة لتنهض، وتواجه ظروفها، وعدوها، وأن فترات التحدى هى فترات خير للأمة، لأنها تعيد إليها شبابها ونهوضها وما إلى ذلك.. هذه القضية، لا شك أنها تقع ضمن مساحة ما أسميناه: سنة التدافع.. لكن هناك هامش آخر فى سنة التدافع، أرى بأنه ـ أحيانا ـ فى حالة ضعف المسلمين وعدم قدرتهم على المواجهة الكاملة ـ تكون هناك قوى عالمية متناقضة تحمل العداوة للمسلمين، لكنها فى الوقت نفسه تحمل من التناقض فيما بينها ما يحملها على الاقتتال والمواجهة، فإذا أحسن المسلمون التحرك الحكيم من خلال الظروف المتاحة مستثمرين التناقض القائم، يمكن أن نقول: بأنهم أفادوا من سنة المدافعة التى وردت فى القرآن وأدركوا أبعادها.. فنعيم بن مسعود مثلا، أحسن التحرك بين بنى قريظة وقريش فى غزوة الخندق، على الرغم من حصار المسلمين وضعفهم المادى.. الكتل الدولية، فى كل فترة من الفترات، لو استقرأنا ذلك نلمح بأن الله سبحانه وتعالى لم يسلط على البشرية ظالما واحدا إلا كان هناك ظالم يواجهه ويدافعه.. فمن خلال الخصومات العالمية، والظلم العالمى، والمواجهات العالمية، يمكن أن تفسح فرج إذا أحسنا التعامل بما أسميناه: سنة المدافعة.. هذا معنى جديد، ومعنى صحيح، ويستطيع الإسلاميون فى هذا العصر أن يستغلوا ما بين الجبهات المتصارعة فى العالم من فروق ومن نقائض اجتماعية وسياسية لكى يظفروا بحق الحياة أولا، ولكى يعرضوا أيضا ما عندهم، ويعرف ما فيه من خير.. وأخيرا، لكى يستطيعوا أن يستردوا ما فقدوا من مساحة مكانية فى الاستعمار، وما أصابهم من نكبات(1/139)
اجتماعية وسياسية كثيرة فى الهزائم التى لحقت بهم، ويستعيدوا ما فاتهم.. ممكن من خلال هذا كله.. لكن هذا يحتاج فعلا إلى ص _131
أن الذى يحسن الاستغلال يجمع بين أمرين : بين الإخلاص العميق للعقيدة والمبدأ، والذكاء العميق أيضا الذى يستطيع به أن يفتق الحيل حتى يصل إلى ما يريد.. وإلا فى عصر الأذكياء، لا يستطيع التعامل مع سنة المدافعة أصلا، وإذا لم يكن على هذا القدر من الذكاء. هذا صحيح، وأخشى أن أقول إن غيرنا طبق هذا. ولعل اليهود استطاعوا أن يستفيدوا من سنة المدافعة أكثر منا.. نحن الآن فى حاجة ماسة لسنة المدافعة.. وليس أمامنا فى هذه الظروف إلا الأخذ بسنن المدافعة.. فكيف تحتال لتشق بين الأقوياء طريقا لك؟ يلمح الإنسان أحيانا ـ كأنموذج تطبيقى معاصر لسنة المدافعة ـ أن أقلية أو نائبا فى برلمان واحد مؤلف من كتلتين، قد يرجح الكفة إذا انضم لأحدهما، ويجعلها تفوز بتشكيل الوزارة، وكأنه هو المتحكم بالتوجه السياسى، بينما هو فرد واحد، لكنه استطاع أن يستفيد من سنن المدافعة، ويفعل ما لا يفعله حزب كبير.. الحزب الديمقراطى "المسيحى" فى إيطاليا، لم يحكم إلا فترات قليلة على الرغم من الأكثرية، وكان يكسب الحكم حزب صغير، فيه رجل ذكى، كان رئيسا للوزراء قبل سنتين، استطاع أن يؤلف من مجموعة الأحزاب ما وقف به أمام الأكثرية الديمقراطية المسيحية عدة سنين.. سنة التسخير السنن الموجودة فى القرآن هى ـ كما أسلفنا ـ أقرب للمعادلات الرياضية: مقدمات ونتائج.. وهى تؤكد نظرية السببية فى نهاية المطاف، أى: ربط حصول المسببات بتعاطى الأسباب.. ولعل من سنن الله فى الكون، أيضا، ما يمكن أن نطلق عليه: سنة التسخير، وسنن التغيير فى الأنفس.. تقسيم الناس طبقات. من السنن التسخيرية. فهناك مهندس، وهناك عامل.. ولابد أن يسخر المهندس العامل، لأن المهندس كأنه يمثل الدماغ، والعامل كأنه الساعد فى يده.. القيادة والجند، القائد يبقى فى مكان يصدر(1/140)
منه الأوامر ولا يتلقى الضربات وإنما يتلقاها الجند، والمعارك لا تدور إلا بهذا.. واحد يصدر الأوامر، ص _132
والثانى ينفذ.. هذه سنن تسخيرية، وهى لا تدل على رضى وسخط من الله بقدر ما تدل على أن الله خلق الناس هكذا.. والمواهب متفاوتة.. مستحيل أن تقوم شبكة العلاقات الاجتماعية بدون هذا التفا وت، وهذه الفوارق الفردية.. هذا صحيح.. وهذا ما جاء في قوله سبحانه وتعالى: (نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون) فهذا تسخير، وهو سنة كونية، ولا أدرى ما دخلنا نحن فيها؟ أردت جانبا آخر من التسخير: إن الله سبحانه وتعالى حينما سخر لنا البحر والأرض والشمس، لفت نظرنا لأهمية اكتشاف قوانين التسخير الكونية، ولست أقصد الاجتماعية بين الناس، فمعرفتنا لهذه القوانين التى تنتظمها هى التى تمكننا من القدرة على تسخيرها، أى أن التقدم العلمى لا يمكن أن يتحقق إلا بفهم قوانين التسخير.. الله لفت نظرنا إلى قوانين التسخير.. هذا تعبير جديد لحقيقة أخرى: ( خلق لكم ما في الأرض ) فنحن مكلفون بأن نرتفق ما سخره الله لنا. الأوروبيون، الآن، اكتشفوا قوا نين التسخير، فأحسنوا تسخير الأرض والبحر.. الخ. هم طوعوا الأدوات التى أتاحها العلم لهم فى خدمة قضاياهم، وخدمة مبادئهم.. ألا نستطيع أن نقول: بأن هذه القضايا لها قانون؟ المادة لها قانون، والتعامل معها لا يمكن أن يتم ما لم يتعرف الإنسان على هذا القانون، وأن القرآن عندما جعل هذه الأمور الكونية ( مسخرات بأمره ) فكيف نحقق التسخير والعمارة ما لم نكتشف السنن التى تحكمها؟ ممكن.. لكن الخلاف الذى بينى وبينك هنا، هو فى أن "قانون التسخير" عنوان جديد.. لكن المعنى كنا ذكرناه فى أن الإنسان خليفة الله فى أرضه، ولابد أن يستولى على كل شىء مسخر لخدمته.. ص _133(1/141)
هذا لابد منه لتحقيق عمارة الأرض واستخلاف الإنسان وغير ذلك.. لكن تسميتى لهذا القانون: بقانون التسخير، كانت حتى يلتفت المسلمون لما ورد فى القرآن من قوانين لإدراك كنه هذه القوانين.. لا بأس.. ملحظ يجعل المسلمين، وهم الآن مُسخرون فى الأرض، أن يعلموا أن الله سخر لهم الشمس والقمر، فلا يجوز أن يكونوا آلات بالطريقة التى يعيشون بها.. هناك قضية لم تحظ بالدراسات المتوازنة فى نظرى، وهى العلاقة بين البعد الإيمانى، والسنن التى تحكم عالم الشهادة، ودور البعد الإيمانى فى الهداية إلى هذه السنن، والتفاعل الذى يحدثه الإيمان بين هداية السماء، واستجابة الأرض لتحقيق الشهود الحضارى، وربط نتائج ذلك بقضية الإيمان.. إن اكتشاف انتظام هذه القوانين، وعملها، يقود إلى الإيمان بالله، والاستدلال بالأمور المادية والسنن الكونية على الأمور النفسية والإيمانية. ودور الإيمان فى التنبه لهذه السنن، وإعمالها، وما يهب الإيمان والتقوى الفرد المسلم من استعدادات تدفعه إلى الإنجاز، ولا تقعد به عاطلا عن التعامل مع هذه السنن. أقصد أن العلاقة بين البعد الإيمانى والإنجاز الحضارى، تحتاج إلى مزيد من النظر والتأمل.. لذلك رأينا بعض المدارس الحديثة التى تتعامل مع المادة فقط، تقرر: أنه لابد من إعادة صياغة المعادلة النفسية والاجتماعية للأمة، حتى تصبح قابلة للتطور والإنجاز التكنولوجى، لأن التكنولوجيا تأتى ثمرة لفلسفة، وعقيدة، ومعادلة نفسية معينة، وبالتالى فلا يمكن أن تتطور فى مجتمع عقيدته تغايرأو تختلف عن مجتمع نشوئها.. لقد ربط القرآن كثيرا من النتائج المتحصلة من إعمال هذه السنن بالتقوى.. فمثلا: ربط بين التقوى وما تؤدى إليه من بصيرة فى النظر للأمور، والحكم عليها بالحق والباطل، والصواب والخطأ.. يقول تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم) ص _134(1/142)
وهناك ارتباط بين الإيمان والتقوى وبين اكتشاف سنن التسخير وزيادة الرزق: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) وهناك ربط بين الإيمان والصبر الإيجابى وبين تجاوز المحن: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين) وربط أيضا بين الاستغفار والتوبة وبين نزول المطر وتحقيق الخير: (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا) وهناك ربط بين الانتصار فى ميدان المبادئ، والانتصار على الشهوات وبين الانتصار على العدو: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) وهناك أيضا الربط بين الظلم الاجتماعى ومنع الفقراء حقوقهم، وبين فقدان الثروة ودما رها: (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون * فأصبحت كالصريم). وأيضا، الربط بين الفسق والترف وبين الهلاك : (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) ص _135(1/143)
نصيب الفرد من الخطاب القرآنى لا شك أن الخطاب القرآنى، للناس بشكل عام، وللمسلم بشكل خاص، يحمل أبعادا متعددة من التكليف..، والتكليف ابتداء، إنما يكون بقدر الوسع.. فهل نستطيع القول: بأن نصيب الفرد من الخطاب القرآنى، يمكن أن يتحدد على ضوء إمكاناته ووسعه؟.. نأتى بمثال لذلك: يقول تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله)، (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة) فهل يملك الفرد المسلم ـ وهو يحقق الاستجابة للخطاب القرآنى ـ القيام بممارسة عمل القاضى والسلطة فى قطع يد السارق، ورجم الزانى، وما إلى ذلك؟ أم أن الخطاب هنا للسلطان ابتداء، وأن الفرد معفى من ذلك بشكل مطلق؟ أم أن للفرد نصيبا من الخطاب القرآنى، وهو العمل على إيجاد السلطان المسلم، لإنفاذ الأحكام، وبذلك لا نخرج الفرد من نطاق الخطاب القرآنى؟ كثيرون يخلصون فى هذه القضية، ويستشهدون لذلك بآيات قد لا يكون الاستشهاد بها فى محله فقد يكون من المفيد بيان ذلك، وكيفية التعامل مع هذه النصوص؟ فلقد وصل الأمر ببعضهم إلى القول: بأنه يحق للفرد إنفاذ الأحكام على الناس عند غياب السلطة المخاطبة بالموضوع! الذى أعرفه فى الفقه الإسلامى، وفى الأحاديث التى وصلت إلى علمى: أن الحدود والقصاص وظيفة الدولة.. ويستحيل أن يقوم إنسان بإنفاذ الحدود، وإنفاذ القصاص وهو من عامة الشعب.. هذه وظيفة الدولة، وليست وظيفة الأفراد.. بل، فى رأيى، أن تغيير المنكر، وهو مطلوب من الأمة، لا يعطى هذا الحق كل إنسان! لأن تعريف المنكر نفسه، يختلف فيه الغوغاء مع الفقهاء.. فقد يرى بعض الناس أن تصوير شخص فى ورقة معصية وكبيرة من الكبائر، وإن امرأة كشفت وجهها جريمة.. لابد من وضع حدود ليعلم كل إنسان الدائرة التى يمكن أن يؤدى فيها واجبه الدينى. ص _136(1/144)
وباستقراء أحوال الحكومات كلها، منذ بدء العالم إلى الآن، وباستقراء أحوال الفقه الإسلامى وأحكامه، ما وجدت أحدا قال: إن القصاص أو الحدود يقوم بها الشعب.. بل الذى جاء فى السنن: أن من ارتكب جريمة كالزنا، ولم ينكشف، فإن له أن يتوب منها، وليس له أن يكشف عن نفسه، بل يحترم ستر الله الذى أسدل عليه ويتوب إلى الله، وليس لأحد أن يبحث أو أن يجرى وراء هذا أو ذاك ليتعرف إذا كان الناس ارتكبت جرائم أو لا.. وحديث عبادة بن الصامت فى هذا واضح: " ومن أصاب شيئا من ذلك فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه " .. وفى مسألة التوبة، أرى أن كلام ابن تيمية فى فتاواه أدق، وهو: قبول التوبة.. والتوبة مسألة بين الإنسان وربه.. دخول الغوغاء فى هذا مستحيل.. الجهاد وظيفة للأمة.. والفرد ليس له إلا أن يقدم نفسه ليكون فردا يتلقى الأوامر. أما عملية الجهاد، تمويلها، تقوم به الأمة، صنع الأجهزة فى البر والبحر والجو، تقوم به الدولة.. وما يتصل بالجهاد كله، ليس قطاعا خاصا.. هذا شىء يتصل بالدولة المسلمة. يمكن أن نوضح هذا، فنقول: هناك بعض الأحكام موجهة للدولة، وهناك بعض الأحكام موجهة للفرد، وتقع فى نطاقه.. وهناك أحكام لا يمكن أن يتصور إنفاذها إلا عند وجود دولة، أى سلطة.. لكن فى حال غياب الدولة، تتعطل بعض الأحكام، ولا يحق للأفراد بحال من الأحوال، أن يمارسوا سلطان الدولة. عندما يغيب سلطان الدولة، لسقوط الدولة الإسلامية، فإنه من الممكن أن يتواصى الناس بتكوين هيئة أو جهاز نائب مؤقت عن الدولة، ولا يترك الحكم للأفراد.. ص _137(1/145)
أردت هامشا آخر: فى الخطاب الموجه للسلطان، هل للفرد فيه نصيب؟ أنا أقول فيه نصيب ـ من وجهة نظرى ـ ليس نصيبا تطبيقيا تنفيذيا.. وقوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله.. أنا كفرد، مخاطب فيه أيضا، لكن ما هى حدود الخطاب بالنسبة لى؟ حدود الخطاب بالنسبة للحاكم هى إنفاذ الأحكام، لأن الأمر فى وسعه.. أما أنا، طالما ليس فى وسعى إنفاذ الأحكام، فنصيبى من الخطاب أن أعمل، وأن أجتهد فى إيجاد السلطة الغائبة، ومعاونة الحاكم المسلم ـ إذا كان موجودا ـ فى إنفاذ الأحكام. إذا كان عندنا للقاضى شروطه وصفاته ـ كما هو معروف ـ وللقضية المقضى بها، وللشهود والبينات والقرائن مواصفات أيضا، وهو باب طويل قد لا يصل إليه إلا نماذج معينة من. الناس، فكيف يمكن أن نسلم مثل هذه القضية لناس غير مؤهلين لها من الرّعاع، فتنقلب الحياة الإسلامية إلى لون من شريعة الغاب، والتناقضات، والاضطراب، والفوضى، وما إلى ذلك.. أنا أردت من كلمة "الخطاب القرآنى للإنسان " أن لكل إنسان نصيبه من هذا الخطاب.. الحاكم له نصيبه، والفرد له نصيبه كذلك. الشعب يعاون الحكومة فى تطبيق الأحكام، أما العمل الذى تقوم به الدولة فلا يترك للأفراد، ولا يطلب منهم، فكيف أنظم الجهاد مثلا؟ الجهاد لابد له من أجهزة تشرف عليها الدولة.. فمثلا الأمر الإلهى: جاهدوا فى سبيل الله.. كيف ينفذ؟ لا يمكن للإنسان أن يخرج ويقاتل من نفسه، لابد أن يسلم نفسه للدولة المسلمة، كذلك القضاء، الأمر يحتاج فى تحقيق الجرائم وإثباتها ومعرفة الجدير بالعقاب أو من تاب الله عليه، كل ذلك يحتاج إلى تخصصات وأجهزة تشرف عليها الدولة. فإذا سقطت الدول الإسلامية، فجهد الناس إقامة الدولة التى تقوم بوظيفتها.. أى أن نصيبهم من الخطاب إقامة. الدولة.. وفى غياب الدولة، لا يمكن أن أعطى الأفراد حقوق الدولة.. هذا باب إذا فتح، فتحت معه أبواب الفوضى كلها، وأبواب الهمجية، لأن(1/146)
كل إنسان سيدعى أنه يقيم حكم الله وهو لا يدرى ما حكم الله.. وتتعدد السلطة.. ص _138
الخ، الحاكم يقول للزانى: "لعلك قبلت ".. يريد إسقاط الحكم عنه.. فإذا جاء من يريد إقامة الحكم بأى طريقة، فربما صادم التعاليم الإسلامية وأضاعها. ويوجد الآن ناس كثيرون لا يوثق بفقههم. الإعجاز العلمى فى القرآن لقد شاع فى الآونة الأخيرة مصطلح : " الإعجاز العلمى فى القرآن " إلى درجة إنشاء مؤسسات للإعجاز العلمى فى القرآن والسنة، حتى وصل الأمر عند بعضهم إلى محاولة تحميل الآيات ما لا تحتمل من النظريات والاكتشافات العلمية. ومن الأمور المعروفة، أن العلم وصل إلى آفاق وأبعاد متقدمة جدا جدا.. وأن الإعجاز يعنى استمرارية المعجزة وخلودها، لأن خلود المعجزة ثمرة لخلود الإسلام.. والقول بالإعجاز العلمى فى القرآن، قول يحمل الكثير من المخاطر والمجازفات إذا نظرنا لبعض الإشارات العلمية التى وردت فى القرآن بمقابل ما وصل إليه العلم الحديث. فالكلام عن مراحل الخلق، وتطور الأجنة، وما إلى ذلك مما أثبته العلم بعد آماد، لاشك أنه يدل دلالة واضحة على أن القرآن الذي أخبر بهذا ضمن الظروف العلمية السائدة، هو من عند الله.. ولكن أن يصل الأمر إلى تسميته إعجازا، أظن أن ذلك يحمل كثيرا من المجازفة ـ كما أسلفنا ـ وقد يكون التعبير الأمثل عن ذلك أنه من دلائل النبوة. ولا شك أن القرآن لفت نظر الإنسان إلى الحقائق العلمية أيضا، ووضع الإنسان فى المناخ العلمى، حيث حثه على التأمل، والنظر، والاختبار، وملاحظة اضطراد القوانين والسنن، ليبتكر ويكتشف، ويخترع، ويسخر. أما أن يسمى ذلك إعجازا علميا، بمعنى استمرار الإعجاز وخلوده، فتلك قضية غير دقيقة وإن كان معجزا فى وقته، خاصة وأن محل القرآن هو الإنسان ابتداء، والارتقاء به.. ومجال الإنسان هو العلم، والكشف والاختراع لأداء الاستخلاف الإنسانى، وعمارة الأرض بالعلم.. يعجب الإنسان مما اكتشف أخيرا.. فنحن فى(1/147)
الطائرة، مثلا، نشعر وكأننا نمر بجبال، وقد نرى صور السحب أمامنا وكأنها الجبال التى نراها من بعيد على ظهر الأرض على شكل سلاسل فى الصحراء.. وانفراد القرآن بهذا الوصف قبل أن ص _139
يتمكن أحد من الصعود عشر كيلو مترات فى الجو، ويتعرف على ما فيه، لاشك هذا نوع من الإعجاز. قبل أن يكون هناك تصوير بالأشعة وقبل أن يكون هناك علم تشريح، أمكن معرفة أطوار التخلق البشري ونمو الجنين. والمراحل التى ذكرها القرآن وتفرد بها، ولم تعرف فى كتاب لا دينى ولا مدنى فى الأيام السابقة، وجاء العلم فوثقها وكمَّلها.. هذا، من دون شك، يدل على الإعجاز.. ما هو الإعجاز؟ الإعجاز هو أن يعجز الإنسان عن الإتيان بمثل هذا.. هم عجزوا عن الإتيان بآيات تدانيه.. الخلود يعنى عجز البشر عن الوصول إلى ما وصل إليه القرآن من الإشارة للحقائق والقوانين العلمية وما إلى ذلك، إذا سلمنا بأن هناك شيئا من الإعجاز العلمى.. لكن العلم الآن، وقد وصل إلى ما وصل إليه، أثبت ما وصل إليه، وأصبح ما أثبته القرآن غير معجز لعالم اليوم.. لقد استطاع العلم كشف آفاق تجاوزت ما ورد من إشارات علمية فى القرآن، لأن ما جاء به القرآن كان معجزا فى عصر معين، ولا يمكن أن نحكم بإعجازه إلا من خلال ذلك العصر. أما اليوم، فقد تجاوز العلم تلك الآفاق مما قد يدفعنا إلى القول: بأن هذه الآيات ليست معجزة لعالم اليوم، وأنه كانت معجزة لعالم الأمس.. والقرآن معجزة لها صفة الخلود، فلماذا لا نقول : إن هذا من دلائل النبوة؟ وقد يكون من المفيد، التفريق بين دلائل النبوة والإعجاز.. الإعجاز هو: الأمر الذى لا يستطيع الناس الإتيان بمثله، فهو أمر خارق للعادة يعجز الناس عن الإتيان بمثله فى كل العصور.. كونهم الآن عرفوا تطور الأجنة، ووصلوا إلى ما هو أبعد من ذلك فى هذا الأمر، وكون القرآن ذكر فى فترة ماضية، لم يكن العلم، ولم تكن الوسائل مؤهلة لإعطاء الإنسان هذه المعلومة، فذلك لا يعنى إبطال(1/148)
الإعجاز. الإعجاز فى أنى استطعت بنظر غير طبيعى أن أعرف ما هنالك.. فإذا كان الناس قد وصلوا من بعد إلى هنالك، وعرفوا، بقى لى حق تاريخى. خلود المعجزة يعنى: استمرارية العجز عن الإتيان بمثلها.. فلو جاء فى عصر من العصور من استطاع أن يأتى، ولو جدلا أو فرضا، بمثل القرآن الكريم، أو بمثل آيات منه، لبطل خلود الإعجاز؟ ص _140
الخلود يعنى الاستمرارية.. والاستمرارية فى أنى، مثلا، استطعت أن أصل بالطائرة ما بين فلسطين ومكة، فى ربع ساعة مثلا، هل هذا يعنى أن الإسراء ليس معجزة؟ لا.. يعنى: أن الإسراء معجزة مادية حدثت فى زمن معين.. لكن الإسراء لم يعتبر المعجزة الخالدة.. المعجزة الخالدة هى القرآن.. معنى إعجاز القرآن العلمى: أنه اكتشف كنه شىء ما كان الناس يستطيعون أبدا أن يعرفوه فى حينه.. كون، بعد قرون، عرف أن ما اكتشفه القرآن حق، فهذا دليل صدقه.. أنا أقول بذلك. أقول إنه دليل صدقه، ودليل نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام ودليل مصداقية القرآن.. أما تسميته "إعجازا"، فهذا الذى أتوقف عنده، لأنى أرى ذلك يتعارض مع خلود المعجزة.. القرآن هو المعجزة الخالدة.. وإلى الآن لم يستطع أحد أن يأتى بمثله.. والخلاف بينى وبينك حول التسمية "بالإعجاز" خلاف لفظى، ليس له قيمة كبيرة.. والقرآن ليس كتاب تاريخ، بمعنى أنه لا يحدد مكان الميلاد ولا زمان المواليد بدقة، ولا يذكر تفاصيل الوقائع التى يعنى التاريخ دائما بذكرها، لكنه فى نطاق ما يفيد العبرة يذكر الوقائع فى قصص الأولين.. فلولا كتب التاريخ لما عرفت أن عادًا تقع فى جنوب جزيرة العرب، إذ القرآن لم يذكر المكان والزمان التى وقعت فيه قصة قوم عاد، كل ما هناك خصال البشر التى يريد القرآن تهذيبها من غرور وكبرياء وتطاول على الآخرين وجبروت.. الخ هذا هو الذى يهم القرآن.. هناك بعض الناس يأتى إلى الطب النبوى ويقول لك: "الطب النبوى".. وأنا لا أستطيع أن أقول أن هناك طبا نبويا وطبا غير(1/149)
نبوى. بعض الناس يمكن أن يضع ذلك فى طور الإعجاز أيضا.. الطب ـ كما يقول ابن خلدون أو غيره ـ من المسائل العادية، أو من الصناعات.. والصناعة لا علاقة لها بالعبادة.. وليس القرآن مصدرا لدراسة الطب، وأنه كتاب طب.. وأنكر "الشاطبى" فى كتابه: " الموافقات " الإعجاز العلمى.. وتكلم فى ص _141
هذا، وقال عن الشريعة: إنها أمية! ونقده الشيخ "ابن عاشور" فى تفسيره، وقال: إن هذا الكلام مرفوض.. الشريعة ليست أمية، ولكنها إنسانية وراقية جدا.. يكفينى أنه منذ خمسة عشر قرنا، أن القرآن تكلم عن أبعاد الكون، وقال عن النجوم: (فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم) فالمنزل هنا، من غير شك، هو الذى تكلم هذا الكلام.. الآن، أبعاد الكون، والأرقام الفلكية، تعجز الخيال.. أنا اعتبرت أن كون عيسى عليه السلام شفى مريضا، فذلك من الإعجاز.. وكون هذا المريض يشفى بالعلاج بأدوية الآن، فهذا لا يبطل إعجاز عيسى عليه السلام. هذا صحيح.. لكن نحن نقول بأن المعجزة نوعان: معجزة مجردة، مستمرة، ودائمة، وغير مرتبطة بأشخاص الأنبياء.. خالدة مجردة عن حدود الزمان والمكان سيبقى الناس عاجزين عن الإتيان بمثلها حتى يوم القيامة، وهى القرآن.. ومعجزة مجسدة مادية مرتبطة بأشخاص الأنبياء وجدت بوجودهم وانتهت بوفاتهم والرسول عليه الصلاة والسلام له معجزات مادية مثل: الإسراء، نبع الماء.. الخ. ما فى هذا شك.. لكن قصة مثل هزيمة الرومان، وكانت هزيمة ساحقة، فهذا من غير شك تنبؤ يدل على شىء غير عادى.. فالقرآن، دخل فى مجازفة خطيرة، تقول الآية: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) ويحدد: (في بضع سنين لله) ثم يتم مما كان: (ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله) وقد جاءت القصة مع نصر الله للمؤمنين فى بدر، وهذا كشف عن جانب غيبى هو من غير شك معجزة قرآنية، باقية لقيام الساعة.. أن يحدث القرآن عن شىء أنه سيقع قبل أن يتبين أى شىء، فيقع.. فتلك معجزة. ص _142(1/150)
وفى آية: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق إخبار عن شىء سيقع ووقع فعلا. ويمكن أن نجد فى الأحاديث مثل ذلك: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده " وهذا وقع فعلاً . . و " ستفتحون مصر " وهذا وقع أيضا . أما ما يسمى بالإعجاز العددى، فهو ضرب من السخف يختلف من كاتب لآخر.. أذكر أنى قرأت كتابا لأحد المؤلفين، سماه: " تسعة عشر" من قوله تعالى (عليها تسعة عشر) . وذكر المؤلف كلمات كثيرة قال: إنها قائمة على العدد تسعة عشر.. وقال كلاما كثيرا.. من أين هذا؟ هذا نوع من السخف.. ثم إن القول بأن (بسم الله الرحمن الرحيم) تتكون من تسعة عشر حرفا، فهو كلام سخيف أيضا. لأنه لكى نتحايل على هذا اعتبرنا الألف محذوفة وغير موجودة نهائيا! واعتبرنا الحرف المشدد حرفا واحدا، وهذا كلام لا يقال، ففيه كثير من التعسف لقد ألف الرجل جملا كثيرة وجملا مضحكة، يتكون منها العدد تسعة عشر.. ولا يدل هذا على شىء.. هناك جانب آخر من جوانب الإعجاز القرآنى وهو: ذكر بعض الحقائق العلمية للفت نظر الإنسان، ودعوته إلى الملاحظة، والتدبر والاختبار، ووضع الإنسان المسلم فى مناخ علمى، ولم يقرر له علوما معينة، وإنما وضعه فى مناخ علمى لينطلق فى النظر إلى الكون، ويستخدم حواسه. منابع الإيمان عندنا فى ديننا، هى التأمل.. وهذا ما ذكره الدكتور راشد المبارك عندما قال: إن كلمة فكر ليس لها ورود فى أكثر ما وصل إلينا من التراث الجاهلى، ص _143(1/151)
شعره ونثره، بينما امتلأ بها القرآن، بل إنه أكثر ما كلف الناس به: (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد) القرآن يجعل بناء الإيمان على دراسات كونية، ودراسة إيمانية نفسية، وهو يخالف بهذا الكتب السماوية السابقة التى يكاد يكون مصدر الإيمان فيها الرسول الذى جاء يحدث الناس عن الله.. أما تكليف الناس بأن يرتبوا نتائج على مقدمات بكفرهم، هذا هو الذى فرضه القرآن.. ولذلك، مع التقدم العلمى الجديد الذى صدق وصف القرآن للكون، يجئ التلاقى بين العلم والإيمان. وإذا كان هناك بعض الناس.. يجعل الإيمان من أعمال الوجدان أو القلوب، إلا أن الإيمان هو من آثار العلم ابتداء، ولذلك قوله سبحانه وتعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) لابد من عقل جبار قائم يكشف الحقائق، ويزيح عنها الستار، ويتعرف على ما تلمسه الملائكة بحسها، ونعرفه. نحن بعقولنا.. العقل هنا أساس. عظمة القرآن، من الناحية العلمية، أو ما نسميه الإعجاز العلمى، هى أن الكون هو الوعاء الذى يضم عناصر الإيمان الأساسية، بدأ قديما الأمر بالنظر فيه، وتحول النظر فيه الآن إلى عمل للناس.. إن ما وضع الناس فيه أصابعهم واستيقنوا منه، كان القرآن يصوره قبل هذا اليقين، كأنه فعل ملموس.. وهذه هى عظمة القرآن. ص _144(1/152)
القرآن والكسب العلمى المناخ الذى وضع القرآن الإنسان فيه، هو: النظر والكسب العلمى، وما إلى ذلك مما يمكن أن تكون به عمارة الأرض.. ويقوم الإنسان فى ضوء ذلك بأعباء الأمانة والاستخلاف.. ما هو ـ فى رأيكم ـ السبب فى تحول المسلمين عن المنبهات العلمية، والأوامر بالنظر التى وردت فى القرآن الكريم، إلى لون من التخلف، والجهل بقضايا القرآن، والعدول، وعدم القدرة على العيش بمناخ القرآن، والاستجابة لدعوته، والتخلف فى شعب المعرفة الكثيرة التى يمكن أن يعتبر القرآن مصدرا لها؟ هناك ثلاثة أسباب فى نظرى : لعل السبب الأول ـ منها ـ : يرجع إلى الطبيعة العربية: الطبيعة العربية طبيعة تهوى صناعة الكلام، وكأن صناعة الكلام عند العرب هى الأساس فى التقدم، وكما قال الدكتور راشد: الرياسة كلها، والعظمة كلها، فى السيف والقلم. الآن أصبحت الزخارف الكلامية طبيعة عندنا، وأصبحنا نكتفى بزخارف الكلام وبيانه عن الحقيقة نفسها. فإلى الآن، تجد أن مشروعا يقام، فيكون أول ما يفكر فيه القائمون بأمره: كيف سيكتبون البيان الصحفى الذى يتحدث عن المشروع، وتجد أن البيان شىء، وحقيقة المشروع شئ آخر.. فالاهتمام هنا بالبيان أكثر من المشروع نفسه.. فهذه طبيعة رديئة فى العرب. المشكلة أن مقتضيات الرياسة والشهود الحضارى اليوم: الحصول على القضايا العلمية.. وكان يفترض أن يدفعنا حب الرياسة إلى الحصول أو القبض على مستلزماتها، خاصة وأن العرب هم قاعدة الإسلام البشرية الأولى، وأن القرآن أعاد صياغتهم ، فالإمكان قائم لاستئناف الدور. صناعة الكلام تجعل أصحابها يهتمون بالبديع والزخارف أكثر مما يهتمون بالحقائق. والسبب الثانى فى تخلف المسلمين ـ وهذا قد يكون مسيئا لبعضهم ـ : انشغال المسلمين أكثر من المطلوب بالمرويات.. ما صح من السن يمكن أن يكون عدة آلاف. لكن السنن التى انشغل المسلمون بها ولا يزالون، عدة مئات من الألوف.. هذا جمد العقل المسلم، وجعله عقل(1/153)
نقول ومرويات أكثر من عقل بحث فى الكون.. ص _145
سيدنا عمر رضى الله عنه منع الاشتغال بغير القرآن، لكن عصى أمر عمر.. لو انشغل المسلمون بالمتواتر والصحيح فقط، لكان الأمر هينا.. لكن المشكلة أن المرويات كثرت إلى حد بعيد، والمساحة العقلية للبشر محدودة، فإذا أخذت المساحة هذه المرويات، فما بقى للعقل مساحات أخرى يفكر فيها؟ لو اقتصروا على المتواتر وما إلى ذلك مع الصحيح، لا يمكن عقلا أن يعتبر ذلك من معوقات النظر فى الكون، بل لساعد عليه، ونبه إليه.. فالمتواترات تكمل الرحلة، ولا يمكن أن نعتبر النص معوقا للعقل، ومانعا له من التدبر والنظر.. لكن المشكلة قد تكون فى منهج التعامل مع النص، والتوقف عن الآفاق والأ بعاد القريبة.. قد تكون المشكلة التى حدت من انطلاق العقل العلمى، أن هناك مرويات واهيات تصطدم بالعقل العلمى والعقل العملى.. والناس يتهيبون من الإقدام على فحصها واختبارها، وكان من نتيجة ذلك أن العقل المسلم أصبح متخلفا.. الحقيقة، قد يكون من أسباب هذا ما أتينا على ذكره من إلغاء نظرة السببية، ورد الأمور إلى أسبابها، ونسبتها إلى قوة علوية، مع أن الأمر لا يتعارض مع الإيمان كما توهموا، فالله هو الذى خلق الأسباب، وجعلها مقدمات لحصول النتائج والمسببات.. لذلك، فمنهج إلغاء الأسباب، وعدم التعرف عليها، والتعامل معها، أوقع المسلمين فى العطالة والعجز عن الفحص والاختبار، واكتشاف مواطن القصور، واستشعار المسئولية، مع أن الله يقول: (قل هو من عند أنفسكم) فأن تنقلب العقول والمؤسسات الإسلامية إلى معوق للنهوض العلمى ـ كما حدث فى أوروبا فى القرون الوسطى عندما كان العلماء يحاولون كشف السبب لأى نتيجة، كانت تقوم الكنيسة على العالم وتقول: إن النتائج من الله وليست من الأسباب التى تفعلونها.. والقوانين التى تضعونها أنتم تضارعون الله بها، وتتعدون على سلطته ـ فهذا هو الموت العقلى والشلل الفكرى الذى نقضته الرؤية(1/154)
القرآنية.. مثل هذا لم يقع إطلاقا فى محيطنا الثقافى " لأن نظرية الأشاعرة فى أن السبب لا يؤثر، وإنما تجئ قدرة الله عند السكين، وأن السكين لا تقطع بنفسها، وأن النار لا تحرق بنفسها.. الخ، هذا الكلام انتشر بين الأشاعرة، وفيه من مواريث اليونان، ص _146
الكثير.. ذلك أن اليونانيين قالوا بأنه: لا يوجد رباط عقلى بين السبب والمسبب.. لكن السلفيين رفضوا هذا الكلام.. كما رفضه المعتزلة أيضا، على ما أعتقد.. فهذه وجهة نظر لبعض الناس.. لكن أسباب انهيار الحضارة كثيرة.. والذى يهمنى الآن فى ما يسبب تخلف المسلمين.. ممكن نرجع إلى الأسباب التى ذكرناها آنفا.. لكن أولها ـ وهذا هو المعنى الثالث الذى أريد أن أذكره ـ فساد الحكم.. محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى عاش فقيرا، حكم باسمه من يريد جمع القناطير المقنطرة من الذهب والفضة! محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذى ألغى الأنساب، وقال لقومه: " لا يأتينى الناس بأعمالهم وتأتونى بأنسابكم " هو الذى قامت قبيلته بفرض نظام الأنساب، واستغلال الصلة بالأسرة النبوية، أو الأسرة نفسها، فى حكم المسلمين.. ففساد الحكم، كان له دخل هائل.. وليس عند الحاكم مانع فى أن يشغل الناس أنفسهم بالمرويات التافهة، بل يضع لهم من يؤلف لهم "عنترة بن شداد"، و"حمزة البهلوان"، و"ألف ليلة وليلة" حتى ينشغلوا عنه.. وفساد الحكم من أهم أسباب انهيار الحضارة الإسلامية.. ألا تعتقدون هنا: أن إعطاء الحاكم هذا القدر الكبير فى القدرة على التغيير، وعلى التحكم، والتعطيل وما إلى ذلك، يمكن أن يلغى دور الأمة فى قدرتها على التغيير، ويجعلها أسيرة فى يد الحاكم مع أن القرآن يجعل أسباب التخلف ترجع إلى عدة أمور. هذا ما حدث للأسف.. وعندى، كمثال الفقهاء الأربعة.. فقد كانت صلتهم بالحاكم سيئة جدا. وعندما وقع البطش بهم، ما أغنت عنهم الأمة! فابن حنبل رحمه الله عُذب كثيرا، وأبو حنيفة رحمه الله مات فى السجن.. ابن تيمية(1/155)
رحمه الله، ظل حياته سجينا.. مالك رحمه الله كسر ذراعه فى فتوى سياسية، فقد أفتى بأن أيمان التواطؤ على البيعة لا قيمة لها، فكسرت ذراعه، وأصبح لا يخرج للناس فى صلاة الجمعة.. والشافعى رحمه الله، لولا حنكته لمات قتيلا، فقد قبض عليه مع تسعة آخرين قتلوا جميعا. ص _147
فالفساد السياسى عندنا له أثر أكبر من غيره، ولذلك أحب أن يلتفت المسلمون إلى أن الفساد السياسى سيعيق نهضتهم ما بقى هؤلاء الساسة المستبدون وما بقى حكم الفرد والاستبداد السياسى.. لكننا حائرون! الرعاع الذين حكموا فى العالم العربى باسم الثورة الاشتراكية، والديمقراطية، كان لهم بطش لم يعرفه الأباطرة الظلمة من آل عثمان، ولا خلفاء السوء من العباسيين! والمؤسف أن ظلت تقاليد بعض الأسر الحاكمة، أشرف من الحريات التى ادعاها هؤلاء الرعاع! يبقى صعبا قبول المعادلة: أن يكون هذا القرآن الذى ينشئ أمة ويحضها على التفكير، والنظر، والبناء، وارتياد الآفاق العلمية، ويحصنها ضد الاستبداد السياسى وما إلى ذلك، أن تقع أسيرة فى فترات من تاريخها لنماذج من الحكام الظلمة يتصرفون بشئونها! أمة لها ميراث ثقافى وحضارى وتاريخى، حتى فى مجال الحكم، فى الفترة الراشدة، تغتال هذه المعانى فيها، وتقع من ثم أسيرة فى قبضة حكام مستبدين فى فترات معينة، فتلك معادلة يصعب قبولها. دولة الخلافة الراشدة، لها قسمان: قسم معترف بأن لا نظير له "دولة أبى بكر وعمر". أنا أرى أن عثمان وعليا رضى الله عنهما، بالرغم مما حولهما من لغط كثير، يمثلون فعلا الخلاقة الراشدة.. لأن عثمان رضى الله عنه لم يفكر قط، بتعبير العصر الحديث، بأن يأمر بإطلاق الرصاص على الجماهير.. بل كان طيعا فى أيدى الجماهير، وشاعرا بأنه لا يملك الاستئثار بالأمر برمته.. ولعلى أظن أن العرب فوجئوا بهذا اللون من النظام الذى أعطاهم حريات ما كانوا يحلمون بها، فلم يحسنوا استغلالها، فكان رد الفعل أن سلبوا الخلافة الراشدة،(1/156)
وجاءت الخلافة ـ باتفاق ـ غير راشدة.. فالخلافة التى جاءت من بعد، سواء كانت أموية أو عباسية، كانت غير راشدة، لأنها جاءت بطريق: كسرى عن كسرى.. الخليفة مات، فالحكم ص _148
وراثى! ويتحايلون على ذلك بالمبايعة! ما قيمة المبايعة؟.. مثلهم فى ذلك مثل بنى إسرائيل، عندما حُظر عليهم الصيد يوم السبت، حجزوه يوم السبت، وأخذوه يوم الأحد! رأيت الشورى فى موضعين: كان يمكن أن تلغى الشورى فيهما لو أن الإسلام نزاع إلى حكم الفرد.. فى هزيمة أحد أكد الرسول عليه الصلاة والسلام على الشورى مع أن الهزيمة ـ بحسب الظاهر ـ كان سببها الشورى.. هذه واحدة.. الشىء الثانى: فى سورة الشورى وجدت أن الشورى سابع خصلة من خصال الإيمان التى لا أجد من بينها خصلة واحدة يمكن اعتبارها نافلة، يقول تعالى: (فما أوتيتم من شيء فمتاع الحياة الدنيا وما عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون * والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون) أى شىء فى هذه الخصال نافلة؟ كلها فرائض، مع ذلك استقر فى الفقه، وفى التفسير أن الشورى غير ملزمة..! من أين جاء ذلك؟ إنه أثر الحكم الفاسد.. ثم ما معنى أن تكون الشورى غير ملزمة؟ وما فائدتها إذن؟ ذلك تفكير عقيم وخطير. أرى أن غيرنا استطاع، على عجل، أن يحل إشكاله ولو بالسيف: الإنجليز، والفرنسيون، والأمريكان.. عانت الجماهير من الحكم والاستبداد، فقاومته.. لذلك أنا أرفض الاغتيال السياسى، لأن الاغتيال يدل على شجاعة فرد وجبن أمة، ولذلك يذهب من يغتال ويجئ بعده من يكون أسوأ منه، أو مثله، وانتهى الأمر.. لم يصنع هذا الغربيون عندما استأصلوا الجرثومة من أساسها بثورات كبيرة. ص _149(1/157)
أزمة فكر.. لا أزمة منهج وقيم هل يعانى المسلمون اليوم من أمة فى المنهج كانت سببا فى أزمتهم الفكرية، أم أنهم يعانون من أزمة فكر وفهم، ووسيلة فهم للمنهج الذى شرعه القرآن بقوله: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) ، (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) فالقرآن موجود بين أيديهم كما كان موجودا بين أيدى الصحابة، ونصوصه محفوظة.. لكن المشكلة: بالتعامل والفهم.. ومالك رضى الله عنه ـ وهو على رأس القرن الثانى من الهجرة ـ يقول: لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.. فهل نقول: بأن نهوض أى مجتمع مرهون بتوفير ظروف وشروط ميلاده الأولى، ومن ذلك: حسن الفهم للقرآن، وحسن التعامل معه؟ وقد تكون الخطورة كبيرة إذا سلمنا بوجود أزمة منهج مع وجود القرآن والسنة! امتاز العرب الذين صحبوا النبى عليه الصلاة والسلام، بأنهم تلقوا الرسالة بسليقتهم، ووصلوا إلى أعماقها دون تكلف، وكانوا أشعة لها.. فعندما أنظر إلى بدوى مثل ربعى بن عامر يكلم قائد الفرس ويقول له: جئنا نخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله.. من أين فهم الرجل هذا الكلام؟.. من نضح القرآن على نفسه.. لقد أوجد القرآن ناسا استطاعوا أن يرتفعوا فوق مستوى عقل الفرس، وعقل الروم، وهذه دول لها حضارة لا يمكن إنكارها لكنها تلاشت، وعندما تعامل العرب معهم ما كانت هناك عقدة نقص أبدا عند العرب، بل كان هناك استعلاء إيمان، والذى صنع هذا فى نفوسهم هو: القرآن. بقى أن القرآن حمال أوجه ـ كما يقال ـ وهذا جزء من إعجازه، وليس عيبا فيه.. وكون الآيات مرنة، فذلك لكى تطاوع العصور كلها. لكن مع حسن النية وسلامة شرف القصد، فإن المرونة تكون أساسا لسعة العصور كلها، لا أساسا للعب والعبث. ومع ذلك، فإن كان هناك أساس للعبث من أنه حمال أوجه، تأتى هنا السنة، ما تواتر منها وما صح.. وهذا ما نستطيع أن نضمه للقرآن فى تكميل المنهج.. ويبقى بعد هذا منطلق واسع(1/158)
للفكر الإنسانى كى يبدع، لأن المنقول من القرآن، أو التعاليم التى تصوغ قوالب محددة فى القرآن الكريم، غير موجودة بالنسبة للسلوك ص _150
السياسى والاجتماعى، والدولى، وذلك لأنه عندنا مبادئ عامة وقيم تضبط السير، وهذا يعطى القدرة على الإبداع، وأن يتحرك الإنسان ويعمل ويتحرى ضمن حدود، وضوابط، وقيم معينة، ودون خوف من منزلقات. ولذلك أنا معك فى أن المنهج قائم، وهو الكتاب والسنة.. ويكاد يكون عدد كبير من الناس يرون أن الحل الأول والأخير تبعا لمالك فى كلمته، وهو حديث مشهور: "تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله تعالى وسنتى.. " المنهج من الكتاب والسنة، لكن هناك بعض الناس يأتى ويأخذ من صورة عاد: (وإذا بطشتم بطشتم جبارين) ويعيب على الملوك فى عهده أنهم جبابرة ! من قصص القرآن آخذ الفكر العام: ألا يكون الحاكم جبارا، وألا تكون السلطة قاهرة بمثل تلك الطريقة.. وآخذ أيضا من قوله تعالى: ( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) ضرورة أن الإسلام متكامل، لا يقوم بعضه فى غيبة بعضه الآخر، ولابد من هذا التماسك.. كلمة عمر رضى الله عنه عن حقوق الإنسان، والتى هى أول بند فى ميثاق الأمم المتحدة، لم يرتبها، ولم يجلس لصياغتها، وإنما استمدها من المناخ الذى وضعه فيه القرآن : (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا)، ونتيجة لتجاوبه مع القرآن وفهمه له.. انطلاق أبى بكر لضرب الفرس والروم، انطلاق من أن سطوة الحق فى نفسه، دلته على أن الباطل لا يمكن أن يحكم بهذه الطريقة، وعرف رسالة الأمة العالمية، ومعنى أن محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمة للعالمين، أى أن يهدى هذه الشعوب التى حولهم، إلحاق الرحمة بها، وفك إسارها، وإخراجها من السجن الكبير الذى تعيش فيه.. المنهج هو المنهج.. القرآن هو القرآن لكن، إلى الآن، أين المتدبرون؟ أنا أتأمل الآية فى همس وأتأملها وأنا أخافها أحيانا، وأتأملها دون أن يتحرك لسانى بشىء، أجد أنه قد(1/159)
نضحت معانى كثيرة منها فى نفسى.. الناس تنسى هذا كله، وتتبع النغم من قارئ يُشبه المزمار الخنس، يريد أن يلحن القرآن بصوته، وانتهى الأمر! أهكذا يُعامل الكتاب ؟! ص _151
الكتاب لا يعامل بأن يحول إلى موسيقى!! الكتاب لا يعامل بأن يحول إلى تراتيل دينية!! المعاملة التى عومل بها القرآن من جانب المسلمين، معاملة شاذة! المنهج قائم فى الكتاب.. وما أجمله الكتاب، فقد أجمل عمدا حتى تكون التفاصيل والاحتمالات عندى كثيرة.. وأنا عندما قلت: إن حق الطلاق عند الرجل يقابله حق الخلع عند المرأة. اعتمدت على آية، فليس هناك إهانة لأحد الجنسين، ولا هناك ضمانات لاستعلاء أحد الجنسين بما ينفس الجبروت البشرى فى بعض الخلق.. لا، المرأة إذا كرهت البيت مثل الرجل إذا كره البيت، هو يطلق والمرأة تخالع.. ومن حقها ذلك.. والآية التى اعتمدت عليها فى ذلك هى قوله تعالى: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) فكلمة ( فيما افتدت به ) هى الشاهد.. وقوله تعالى: ( حدود الله ) يدل على أن الأسرة محكومة بحدود الله وشريعة الله.. وكلمة ( الطلاق مرتان ) نفسها، تنبيه إلى كل من عن له أن يطلق، أن يراقب وأن يتريث، وذلك إلى ضميمة : وجود حكمين وغيرها من المراحل التى تسبق عملية الطلاق. يمكن أن ننتهى الآن فى هذه المناقشة إلى: أن المنهج قائم، وأن المسلمين لا يعانون من أزمة منهج، وإنما يعانون من أزمة فكر، وتعامل، وفهم لهذا المنهج.. فكان المفروض: إعادة النظر فى أداة التوصيل، أو مناهج التفكير التى تصل المسلمين بالقرآن، أكثر من التفكير فى ابتكار مناهج جديدة حملت بعض المسلمين إلى استيراد مناهج من حضارات وأيديولوجيات أخرى، ظنوا فيها الخلاص.. المطلوب اليوم: وجود ضمانات شعبية، أو عقلية، أو مادية، أو قانونية.. الخ(1/160)
للعلماء والمفكرين والفقهاء. ذلك أنى أرى أن عقلاء هذه الأمة يظلمون واحدا بعد الآخر، ويعيشون مشردين. وفى العصر الذى أنا منه الآن، رأيت خيرة قادة الفكر الإسلامى، إما ماتوا مظلومين، أو مضطهدين، أو مضيقا عليهم الخنادق، أو أن ظفروا بعيش هادئ فلأسباب غير عادية، استثنائية، كأن الأساس هو: أن الإنسان ص _152
طالما كان من فقهاء الإسلام ومفكريه، يضرب حوله نطاق فلا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد، أى يجب أن يبقى مقطوع الاتصال بالناس. وإذا حدث أن حاول أن ينطلق هنا وهناك، يعتقل، يسجن.. جمال الدين الأفغانى مثلا، كانت عيشته سيئة، كذلك الشيخ محمد عبده، والكواكبى ، وحسن البنا، وسيد قطب، وعبد القادر عودة ، وأخرون غيرهم.. كل من رأيت من إخواننا الذين لهم فكر، ويريدون العمل هنا وهناك، لا يعاملون إلا معاملة قطاع الطرق، والأمة مسئولة عن هذا.. وما قيمة أن يقال: إن الناس قلوبهم مع الحسين وسيوفهم مع يزيد ؟! ما يعنينى أن الشعب يحبنى و إذا كان سيتركنى أقتل؟! ص _153(1/161)
أنا رأيت بعض الناس ينصح واحدا من الدعاة الأقوياء ويقول له: يا أخى هون عليك، فسيلقى القبض عليك، وتأخذك الدولة، والذين استمعوا إليك سيذهبون إلى بيوتهم، ليأكلوا أو يعاشروا نساءهم، وكأن شيئا لم يقع! ولولا أن الذين يحملون الدعوات- كما قال شوقى : إن الذى خلق الحقيقة علقما لم يخل من أهل الحقيقة جيلا ولولا أن بعض الناس يرى أنه لابد أن يقول الحقيقة، ولو مات، ولو أن الموت فى هذا يكسبه الشهادة، ما بقى للإسلام من يتحدث عنه وباسمه.. يقول المتنبى: حتى رجعت وأقلامى قوائل لى المجد للسيف ليس المجد للقلم اكتب به أبدا قبل الكتاب بنا فإننا نحن للأسياف كالخدم فإذا كانت وظيفة القلم، أو الرأى، أن يخدم أصحاب السلطة، فإن الأمة الإسلامية ستكون آخر الأمم، بالطريقة التى تعيش بها. والغريب أنى لا أرى هذا فى العالم الآخر! عندنا أزمة فهم.. عندنا أزمة فقه.. وعندنا مع هذا وذاك أزمة فكر.. والمحزن أن الذين يملكون الفكر، يملكهم من يملكون السيف.. فالمحنة كبيرة فى العالم الإسلامى، ما بقى السيف قادرا على ضرب الفكر، وتحديد إقامته.. ص _154(1/162)
أنا قرأت الكتب التى تسمى سماوية، فوجدت أنها ينبغى أن تلقى فى أماكن القمامة.. ليس فيها شىء.. وكذلك الأمر بالنسبة لكثير من الفلسفات، فأنا أظلم دينى وكتابى عندما أرى هؤلاء فعلوا شيئا، بالنسبة لما عندنا.. وأظن أن كلمة ابن حزم رحمه الله، التى يقول فيها: إن لكل مسلم الحق فى طعام وشراب ولباس وبيت يقيه من الشمس وعيون المارة.. وأن هذا حق يقاتل عنه، ما أظن اشتراكيا فى أوروبا قال هذا الكلام.. ولو قاله واحد من الاشتراكيين بهذا التحديد، لاشتريت كلماته بالذهب هناك، كما يقولون. الكلمة عندنا ـ وأمور أخرى كثيرة ـ أهيل عليها التراب، لسطوة الحكم الفردى!! الاستبداد السياسي ووسائل التغيير فى الخطاب القرآنى قلتم: إن السبب الرئيسى لمعظم المشكلات التى نعانى منها نحن المسلمين: فساد الحكم، أو الاستبداد السياسى الذى أتى بدوره على قدرة الأمة على الامتداد فى مختلف المجالات.. وهذا صحيح من الناحية الواقعية، إلى حد بعيد.. لكن الشىء الذى يشغل البال حقيقة هو قدرة الحكم على غلبة الأمة ـ الجماهير ـ على امتدادها! كيف؟ لاشك أن ذلك إنما يكون بسبب وجود القابليات عند الأمة لهذا النوع من الاستبداد السياسى! فلولا هذه القابلية لما امتد الاستبداد "فكما تكونوا يولى عليكم " والأمر المحير: أن الأمة التى لها هذا الميراث الثقافى، وهذه القيم الهادية، إضافة إلى تجربة الخلافة الراشدة، وما إلى ذلك، يستطيع ـ وبسهولة ـ فرد، أو نظام، أو طبقة، أو مجموعة، أو عشيرة، أو قبيلة، أن تلغى دور الأمة! هذه قضية ملفتة، خاصة والدراسات الحديثة تجعل التاريخ من صنع الأمم وليس من صناعة الأفراد.. وهو كذلك حقيقة، لأن الأفراد فى نهاية المطاف ينشأون فى مناخ الأمة الثقافى وظرفها الاجتماعى.. ص _155
إن أمة يستأثر بها حاكم، أو ظالم أو مستبد، أمة لا يوثق بها أصلا أن تكون قابلة للحياة والامتداد وصناعة حضارة.(1/163)
هذا جانب، حبذا لو أمكن أن نلتقط له بعض مؤشرات من القرآن الكريم بأن الظلم والفرعنة والاستبداد والفسوق الذى هو ثمرة من ثمار الاستبداد السياسى، كان سبب سقوط كثير من الأمم، وكيف انتصر المستضعفون، والأسباب المادية والنفسية التى وراء انتصارهم على قوى الظلم والاستبداد؟
فى اعتقادى أن هناك أمرين:
أولا : أحاديث الفتن التى شاعت بين الناس، فهمت فهما مغلوطا، ولم تشرح الشرح الصحيح.. انضم إليها، أن بعض الذين مشوا مع ظاهر القرآن وظواهر تغيير المنكر، فشلوا كذلك، لأنهم ما استطاعوا أن يكونوا فقهاء أو ساسة يدرسون المعارك التى يخوضونها ضد دولة مستقرة. فكانت فرق الخوارج تخرج بدون وعى، ولأنها تمثل نوعا من مقاومة الظلم، ولكن مقاومة بدائية صبيانية.
أحاديث الفتن أدت إلى اعتزال عدد كبير من الفقهاء لأنهم رأوا خدمة الجماهير عن طريق التربية والتعليم أفضل من الدخول فى مغامرات لا تعرف نتائجها..
هذا كله انتهى إلى الوضع السياسى الذى شكونا منه.
الأمة نفسها، من غير شك مسئولة أمام الله، عن طريق فهمها للإسلام.. لقد استطاع الإسلام أن يدخل الشعوب التى هزمته فى الإسلام مثل التتار وغيرهم.. القصة يمكن أن تكون فيها عدة عناصر. وأنا أرى: أن عدم قدرة الشعب العربى على رسم خطة معقولة وطويلة الأمد ليتخلص من مشكلاته، أضر بالأمة الإسلامية، لأن العرب هم الذين قادوا الإسلام.
ولا أنسى أن هناك عادات جاهلية عند العرب تسربت إلى الحكم الإسلامى وإلى المجتمع الإسلامى نفسه.. فقصة أن المرأة إنسان من الدرجة الثانية، وأنها لا تعامل حتى فيما كفله الشرع كالمواريث، وفيما كفله الله من حق اختيار الزوج، ولا يلتفت إلى وضعها.
لقد غلبت هذه التقاليد على قيم الدين الإسلامى، ولا تزال غالبة عند بعضهم إلى الآن. فبالرغم من أن أمتنا فى عصر نحن نقاتل حتى يستطيع الناس تغيير رأيهم..
ص _156(1/164)
فإن العادات عند هؤلاء تكاد تكون أهم من العبادات والتقاليد الروحانية التى جاء بها الإسلام. تغيير الأفكار والنفوس.. هو الأساس كثير من الناس يرى: أن التغيير المطلوب هو تغيير ثقافى نفسى، وأن التغيير الثقافى هو الذى يستتبع ويؤدى إلى التغيير السياسى ـ ذلك أن السياسة أحد مظاهر الثقافة ـ وأن مواطن التغيير الحقيقية والتشكيل الحقيقى فى الإنسان هى مواطن التربية والدعوة، وأن الحكم يمكن أن يأتى ثمرة لذلك.. فهم يفكرون بأن الخلل الذى الحق بالأمة، يمكن أن يكون خللا فكريا أو ثقافيا وليس سياسيا، لأن الخلل السياسى إنما تربع وامتد فى إطار الخلل الفكرى، أو التربوى، أو الدعوى الذي شكل القابلية لامتداد الخلل السياسى، والله سبحانه وتعالى يقول: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) حبذا لو أعطيتمونا من خلال بعض الآيات نماذج على نهوض الأمم من خلال التغيير الثقافى، وإصلاح عالم الأفكار؟ قولك بأن الخلل قد يكون فكريا ثقافيا، فهذا صحيح.. وأنا لاحظت أن الثقافة الإسلامية، حدث فيها شىء من العوج. فمن ناحية التربية والتصور، انسحب الناس من الحياة.. رأوا أن المجتمع فاسد، فانسحبوا وهربوا منه بدل أن يغيروه. وإذا نظرنا فى فقه المعاملات والعبادات، أنا لا أعرف أمة أطالت الوقت فى الفروع الفقهية كأمتنا.. الوضوء مثلا، يمكن أن تتعلم فى دقيقتين، فما الذى يجعل فيه مئات الصفحات والكتب، بل والمجلدات، وتختلف المذاهب فيه؟ هذا شىء عجب! حتى أنى سميت الوضوء: "علم تشريح الوضوء"! لاشك أن هذه المساحة التى أخذها البحث فى الفروع الصغيرة، كانت على حساب القضايا الكبيرة. نلمح من معطيات القرآن الكريم: أن التغيير هو تغيير النفوس: ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) ص _157(1/165)
والتغيير يشمل كل الجوانب ـ النفسية والثقافية ـ التى فيها إعادة تشكيل الإنسان.. بينما لم يطل فى القضية السياسية ويعطيها البعد أو الحجم نفسه، واعتبرها ثمرة وليست مقدمة.. فكوننا نعطى الأهمية الكبرى للاستبداد السياسى على حساب موطن التغيير الأساسى وهو ميدان النفس، فكأننا ـ نحن المسلمين ـ افتقدنا ضبط النسب أو التوازن فى النظر للقضايا! بعضهم يرى القضية السياسية أهم من القضية الثقافية، وبعضهم يرى القضية الثقافية أهم من السياسية... وهكذا. عندما تحدث القرآن الكريم عن الأمة، تحدث عن فسادها وانهيارها بشيوع أخلاق معينة، وبانقسامها إلى طبقات سيدة وطبقات تابعة، وبإصابتها بالتبلد العقلى الذى يجعل التقليد أساس الفكر.. لقد كان تعاملنا مع القرآن تعاملا رديئا.. لقد كان من الأفضل بدل أن يدرس الوضوء خلال ثلاثة شهور مثلا، أن يدرس: لماذا هلكت عاد؟ لماذا هلكت ثمود؟ هل المجتمع الآن يشبه مجتمع عاد وثمود أم لا؟ ما الفساد الذى حدث فى بنى إسرائيل؟ كيف تحولت الحقيقة إلى شكل؟ كيف تحول الدين إلى انتماء عصرى بدل أن يكون انتماء إلهيا وزكاة نفسية؟ كل هذا كان ممكنا من خلال دراسة القصص القرآنى، لكننا أهملناه إهمالا تاما، وابتعدنا عنه كما ابتعدنا عن دراسة آيات النظر إلى الكون، فتبلدت العقول، وكان آخر شىء ينظر إليه النظر فى الكون. كنت أتحدث وأقول: إن الزكاة فرضت فى مكة.. فانتفض أحد شيوخ الإسلام وقال: لا، إن الزكاة فرضت فى المدينة.. أقول له: إن آية سورة الأنعام مكية، وفيها فى زكاة الزروع والثمار: وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده . أقول له فى سورة فصلت وهى مكية، من أوائل ما نزل: وويل للمشركين * الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون ص _158(1/166)
وفى سورة المدثر وهى من أول ما نزل: (ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين) . مع هذا، قال: لا.. الفقهاء قرروا أن الزكاة كانت فى المدينة! قلت : ربما تفاصيل الأنصبة: العشر، ونصف العشر.. إلخ، كل هذا كان فى المدينة لا فى مكة.. فأجد أنه حتى بعض الشيوخ الكبار المؤلفين، قد تجمدت عقولهم.. وكيف تجمد هكذا؟ أنا تحيرت.. وإلى الآن، فإن هذا الكلام الذى يقوله هذا الشيخ موجود فى أدمغة الشباب والناس الذين يأخذون الكلام كما يلقى عليهم. هذه القضية، هى ـ كما أسلفنا ـ نوع من إعطاء القدسية للآراء وإضفاء صفة الدين عليها، بينما هى آراء اجتهادية فى تنزيل النص على واقعة معينة. فإذا أخذت سمة الدين، وسمة النص النقلى، وسمة الوحى، أصبح صعبا التفكير بالخروج عليها أو مناقشتها.. لاحظت أيضا أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حذرنا من اتباع اليهود والنصارى.. نحذر أن نكون كاليهود فى تجسيد الله، وكالنصارى فى بنوة المسيح.. لكن قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع " معنى هذا أن الأمة ستنحدر فى سلوكها.. والسلوك نتيجة الخلق ونتيجة المعرفة والثقافة.. ومع هذا، لم أر بحثا فى تتبعنا لليهود والنصارى، فى تفكيرنا، فى أخلاقنا، فى أعمالنا، بل ببساطة، انحدرنا وانتهى الأمر. استطعنا أن نقلدهم بانهيارهم، ولم نستطع أن نقلدهم بنهوضهم.. وانتقلت إلينا علل التدين، كان مقتضى ذلك أن تنتقل إلينا من هذه الأقوام أسباب النهوض! أعتقد أن ما حدث اليوم فى الأمة الإسلامية، هو ما حصل فى الأمم الأخرى تاريخيا.. والعقاب الإلهى: أن الله نزع قيادة البشرية من أيدى المتدينين ووضعها فى أيدى العلمانيين. وهو ما حدث فى العالم كله الآن: القيادات ليست للأديان، وإنما تستطيع بعض الديانات أن تستغل الجشع البشرى العادى فى النفوس لكى تعرض خدماتها لضرب الأمة الإسلامية لحساب الجشع العالمى فى النفوس البشرية. ص _159(1/167)
فالفاتيكان اليوم يشتغل لحساب أمريكا وأوروبا الغربية ضد روسيا.. وفى اعتقادى أن أهل الدين بحاجة أيضا لأن تكون فيهم رجات داخلية تجعلهم يتحركون من الداخل لإصلاح أنفسهم.. ولعل الأمة الإسلامية كتب لها الخلود؟ لأن حقيقة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لا تزال حية فيها… بينما الأمم الأخرى ماتت تماما. فى المجتمع الأوروبى، لا يرى أن الزنا زنا، وأن الربا ربا، وأن الخمر حرام.. فالمسألة طبيعية جدا عندهم بينما المسلمون لا تزال فيهم حساسية غير عادية ضد هذه الأمور. عصمة عموم الأمة الأمة معصومة بمجموعها، ولا يمكن أن تتواطأ على خطأ، وكذب، واستبداد، وظلم، وما إلى ذلك.. فيمكن أن نقول: بأنه وجد خلال فترات التاريخ الإسلامى، وخلال فترات الاستبداد السياسى، من يعلن الحقيقة ويشير إليها، ولو كانت مساحة المعارضة والمواجهة لم تشكل تيارا، فى بعض الفترات إلا أنها تغب بشكل كامل، وكان ذلك مصداقا لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الأمة لا تتواطأ على خطأ.. فتبقى شعلة الإضاءة قائمة على مدى العصور من خلال أفراد، أو جماعات أو مجموعات. على امتداد أربعة عشر قرنا، كان هناك مجدد ـ تقريبا ـ أو مجددون كل قرن.. الأمة لم تبق فى الظلام باستمرار دون أن يكون هناك من يذكرها. بل وجد فى كل عصر من وضح أن القافلة تسير بطريقة فيها انحطاط. لكن أين الخطأ بالتحديد؟ بعضهم يقول: إنه سياسى، وبعضهم يقول: إنه اجتماعى، أو تربوى، أوعقائدى.. فهناك شعور بأن القافلة أخطأت، وتصايح بأن أوقفوا الخطأ.. فالمصلحون يختلفون فى تحديد أسباب الخطأ، ولكنهم ـ جميعا ـ يعتقدون أن الإسلام هو الدين المعصوم، وأن الحقائق فيه، وأن الأمة نفسها تشعر بأنها مسيئة، وأن الحاكم منحرف. أى كونهم استطاعوا أن يحتفظوا بنفسية الأمة بهذا الموقف ـ الموقف النفسى على الأقل، إن لم نستطع القول بأنه امتد إلى الموقف العملى ـ فيمكن أن يكون لونا من تواصل الحق. بل أيضا فيه حس عام؟(1/168)
لأن بعض علماء السلطة لا دين لهم، وأن الذين مشوا مع الموكب المعوج وطبلوا له، هم كلاب جهنم.. وإن لم يكن لهم تأثير واضح فى الأمة، ص _160
بينما ظل العلماء الشعبيون هم الذين يقودون الجماهير، فلو مات الحاكم الظالم، وربما قتل، ما أحس به أحد، لكن عندما يموت أحمد بن حنبل، تخرج بغداد كلها حتى لتكاد تعطل صلاة الجماعة.. فهذا مما يدل أيضا على أن الأمة معصومة بمجموعها، وأن المجددين فيها يتحركون باستمرار. ولكن نوعا من المقاومة التى تأبى أجهزة المناعة فى الجسم أنها تموت، فى انتظار لحظة الصحة والعافية. فهم متميز للخطاب القرآنى لقد أدرك بعض العلماء، كابن تيمية رحمه الله، جوانب متميزة من التعامل مع القرآن، الأمر الذى يمكن أن يشكل منهجا لا يزال غائبا عن الواقع الإسلامى حتى اليوم.. فعندما تعامل مع العصر من خلال رؤية قرآنية، رأى مثلا فى آية: " إن خير من استأجرت القوي الأمين ) أن صفة القوة عند عدم القدرة على الجمع بينها وبين صفة الأمانة فى شخص واحد، هى ألزم للقيادة العسكرية، وأن صفة الأمانة عند عدم إمكانية الجمع بينها وبين القوة فى شخص واحد كذلك، هى ألزم للأعمال المالية.. وهكذا نرى كثيرا من اجتهاداته وفهمه: وفى الطلاق مثلا، فى قوله تعالى: ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وقع الثلاث واحدة، ولم يوقع الطلاق القسمى.. وهكذا.. وهناك موقفه من التتار المخمورين.. لم يكن الفقه عنده يعنى الحكم التشريعى والنظرة الجزئية بمقدار ما كان يعنى الفهم العام وإدراك المقصد والتحقق بالرؤية القرآنية الشاملة.. حبذا لو أعطيتمونا نماذج قرآنية لذلك؟ ابن تيمية ـ بلا ريب ـ من شيوخ الإسلام الأكابر.. وقد قاتل فى جميع الميادين التى فتحتها القوى المعادية للإسلام ضد الإسلام، وكان فيها صلبا وقويا.. وقد لاحظت مثلا، أن رأيه فى الشورى هو آخر ما وصلت إليه الديمقراطية الغربية، لأنه رأى أن اجتماع المسلمين فى سقيفة بنى(1/169)
ساعدة لاختيار أبى بكر، هو الأساس فى أن يكون الحاكم حاكما.. ص _161
فهو رجل متفتح، من غير شك، من الناحية السياسية، ويدرى جيدا أن الحكم ملك الأمة وهى التى تستأجر الحاكم لكى يؤدى عنها ما تريد، وإذا ضاقت به عزلته، كألوان من العقد الاجتماعى.. فهذه هى نظرته فى الحكم. ونظرته فى المال تشبه نظرة ابن حزم فى أن الأمة يجب أن يكون الجهاز المالى فيها دوارا كالجهاز الدموى فى الجسم الإنسانى بحيث لا يبقى أسرة ولا يبقى مكان إلا وصل إليه خيرات الله، بحيث لا يضيع أحد ولا يجوع أحد.. ورأيته من ناحية المحافظة على الأسرة، رفض رأى الأئمة الأربعة فى إمضاء طلاق البدعة، فكانت هذه جراءة هو لها أهل، لأنه فعلا لا معنى إطلاقا لأن تكون الأسرة ألعوبة فى يد طائش، وكأنما البيت ورق لعب.. المسألة لابد لها من ضوابط. فى الحقيقة إن الأسرة فى القرآن الكريم وفى السنة النبوية، لها رسالة اجتماعية وتربوية، وهى أصل من أصول البناء الاجتماعى للأمة. فتعريض الزواج والطلاق لاجتهادات فقهية عجيبة حتى بلغ العبث إلى القول بأن من قال لامرأته أنت طالق نصف تطليقة، فهى طلقة واحدة!! وفى حالات الإكراه، يرى الأحناف أن المكره يقع طلاقه، والسكران يقع طلاقه كذلك، دون أن يكون هناك تفكير فى حال الأسرة والأولاد وتربيتهم.. لقد كان الفقهاء ناسين ذلك.. لكن الرجل الذى جاء فعلا وفهم أن الأسرة لها دخل فى المجتمع وبقائه، وهلاكه أو نجاته، هو ابن تيمية. أحيانا أنظر إلى سورة الطلاق فى القرآن، فأجد أن نصفها الأول أو أكثر من النصف قليلا، فى أحكام الطلاق، والنصف الثانى مباشرة يبدأ بقوله تعالى: (وكأين من قرية عتت عن أمر ربها ورسله فحاسبناها حسابا شديدا وعذبناها عذابا نكرا * فذاقت وبال أمرها وكان عاقبة أمرها خسرا) ما صلة هذا الكلام بأحكام الطلاق التى قيلت، ووضع الأسرة، ومناشدة الناس أن يتقوا الله: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) ومناشدة الناس الرفق بهن :(1/170)
(وأتمروا بينكم بمعروف) ص _162
من خلال السرد القرآنى، يفهم: أن تدمير الأسرة هو باب الشر على المجتمع كله.. وبنظرى أنا شخصيا، فقد وجدت أن أكثر العقد التى تقع فى نفوس الأولاد والتشرد والسفه، تكون من أن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة سخيفة.. فابن تيمية جاء ورفض هذا الطلاق الجنونى فيما يتصل بإيقاع الطلاق، والعبث، فمثلا لو أن رجلا قال لجزار: على الطلاق لآخذ كيلو اللحم هذا، ثم لا يأخذه، فتطلق المرأة، دون أن يكون لها دخل فى الصورة أو رغبة فى الزوج للتطليق! لاشك أن ابن حزم كان أسبق، وابن تيمية رحمه الله، استفاد كثيرا من ابن حزم، واستفاد ممن قبله، بل استفاد من الغزالى نفسه، وإن كان يخاصمه فيما يتصل بمذهبه فى الصفات والأسماء. و"ابن تيمية" هو أول من كتب فى السياسة الشرعية.. بل أنا لاحظت أن كتابته فى السياسة الشرعية كانت فى صدر شبابه، وهى حسنة وجيدة؟ لأنه تكلم فى اختيار الحاكم، وواجبات الحاكم، والمصالح المرسلة، وأشياء كثيرة كانت مهملة من قبله. "وابن القيم "، تلميذه، تحدث حتى عن تسعير السلع، وتسعير المواهب والشهادات فيما يتصل بكادرات الوظائف.. فهذا الكلام، كان يعتبر كلاما جديدا، وابن تيمية وابن القيم، هما أساسه.. فهذه مدرسة، ارتفعت من الفقه المذهبى، فأخذت أفضل ما فيه، ونقدت أسوأ ما فيه، ولم تتقيد إلا بما يتصل بالكتاب والسنة. هل هناك ميزات واضحة فى نظرة ابن تيمية التفسيرية، ونظرته إلى القرآن؟ لم ينشغل "ابن تيمية" بالتفسير؟ لأنه يرى أن معظم آيات القرآن واضحة، وما يحتاج إلى تفسير منه شىء قليل. والمهم أنه يأخذ القرآن كله كمرجع للحكم والأخذ فى الأمور. لكنى أعجب لأمرين فيه: الأمر الأول: أنه أنكر المجاز فى القرآن، وفى اللغة، وهو ليس من رجال الأدب واللغة! ويخيل إلى أن إنكاره للمجاز كان بدافع من إيمانه الراسخ بأن يجتاح كل ص _163(1/171)
شىء.. لكن هذا لا يجوز، لأن المجاز بديهى فى القرآن.. وعندما أقرأ قوله تعالى: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) وقوله: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) لا أجد من يقول: إن هناك أغلالا وسدودا! لا سد الفرات، ولا السد العالى.. فالمقصود سدود وأغلال معنوية.. وتلك كلها مجازات.. والمجازات موجودة فى لغات الأرض، وليس فى اللغة العربية وحسب. الأمر الثانى: كاد هو وابن القيم، يقعان فى التجسيد.. وأذكر أنى كنت أناقش رسالة ماجستير فى الأصول الخمسة للمعتزلة.. فوجدت الطالب يقول: هل لله جسم؟ ثم قال: نتوقف عن الإجابة! سكت حتى أسمع ما يقول.. قال: ما أذكره نقلا عن ابن القيم: قلت له: لا ابن القيم ولا ابن تيمية نقبل منهم التوقف. لأن كلمة جسم يعنى مادة.. وخصائص المادة عرفت فى الفيزياء الآن: القصور الذاتى، والمساحة والحيز.. الخ، فأنا أرفض أن يكون هناك توقف فى هذا الموضوع، بل الإنكار، وهذا قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) فرفضت رفضا باتا هذا القول. هذا اللون من التفكير أو الاهتمامات، لا أدرى: ماذا يكون مردوده العلمى للواقع الإسلامى؟ هذا اللون أساء للأمة الإسلامية.. وهذا الكلام هو امتداد للبيزنطية التى أكلت الدولة الرومانية.. وهو من الجدل المنهى عنه يقينا.. وهذه النزعة التى أخذت على ابن تيمية، جعلت بعض المسلمين يبتعد عنه.. ابتعد عنه الأزهر، كما ابتعدت عنه أعداد من جماهير المسلمين، لولا أن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وأن الرجل عقل كبير، وكان ينبغى للأمة الإسلامية أن تلتفت إليه وأن تدرسه. وقد يكون من النعم أن كل إنسان، له وعليه، وإلا لقدس الأشخاص.. ص _164(1/172)
لقد رأيت كلاما للغزالى فى العدل الاجتماعى لم أر مثله.. وبعض كتبه لم تصل إلينا.. على كل حال، ابن تيمية، والغزالى، وغيرهم من كبار الأئمة، لم يكونوا كبارا لأنهم اعتمدوا على مذهب من المذاهب الفقهية أو مدرسة من المدارس الفكرية فى الإسلام، إنما كان اعتمادهم على الكتاب، تأملا فى محاوره كلها، وآفاقه كلها، وميادينه كلها.. وهذا ما جعلهم أئمة. فالغزالى عندما تكلم عن تشريح العين، حدد عناصر التشريح بسبعة.. قال لى الدكتور محمد يوسف موسى : (إن التشريح يتكون من ثمانية عناصر). لذلك نرى الخلاف فى عدد العناصر محدود.. ومعنى هذا أن الرجل كان يتفكر فى الكون، فى النفس، فى الجسم.. يمشى مع القرآن فى التدبر والتأمل.. وهذا شىء جميل.. بينما نجد التفكير الفقهى هو الذى حبس العالم الإسلامى فى القرن الثانى عشر والثالث عشر والرابع عشر، حبسه فى كيفيات الوضوء! وفى المسجد، وفى بعض الأسواق التى تبيع الأنعام، وبعض صور البيع الساذجة والنخاسة! أما ما عدا هذا من آفاق تحدث الإسلام فيها، لم تأخذ الاهتمام المطلوب.. ويخيل إلى أن من كان يتلو قوله تعالى: أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا كان كمن يقول كلاما من المريخ لا تعرف الأمة معناه، ولا مغزاه، ولا تمشى فى هداه؟ لأن الأمر الذى تمشى فى هداه تماما متون فى بعض المذاهب الفقهية. وهذا شىء عجب! وعندما ألفت كتابى "فقه السيرة" كانت هذه الفكرة تملكنى، وأن القرآن أساس، والسيرة النبوية تطبيق قرآنى.. والرسول صلى الله عليه وسلم قرآن حى يمشى على الأرض.. والسنن تسير فى نطاق القرآن.. والسنن العملية التى طبقها الرسول صلى الله عليه وسلم فى سيرته، هى الأساس، وهى التى يسير عليها من تحدثوا عن الهدى النبوى كابن تيمية وابن القيم.. ص _165(1/173)
ابن تيمية وابن القيم مدرسة واحدة.. ومن رأيهما: أن من ارتكب حدا تقبل توبته.. كان ذلك رأيا عند الشافعى فى القديم، وتركه.. وابن تيمية كان مع رأى الأئمة فى صدر شبابه، ثم انفرد عنهم بقبول توبة مرتكب الحد، وأنها تسقط الحد عنه، وهذا شرحه فى: "الفتاوى"، ولم يذكره فى "السياسة الشرعية"، بل كان ضده! ويخيل إلى أن ابن تيمية، حينما كتب: "السياسة الشرعية"، كان فى صدر حياته؟ لأنى وجدت حديثا منكرا فى كتاب "السياسة الشرعية" لعله نقله عن كتاب "ذم الهوى" لابن الجوزى ، وكتاب "ذم الهوى" كتاب فيه إسفاف، وا بن الجوزى نفسه قال: "أنا ترخصت فى هذا الكتاب.. ونزلت من البقاع إلى الحضيض ". فعجبت من رواية ابن تيمية لهذا الحديث، صحيح أن رواه بصورة التمريض، لكن ما كان ينبغى أن يرويه أبدا.. والحديث هو: أن غلاما جميل الوجه جاء فى وفد، فقال له النبى صلى الله عليه وسلم ورائى لأن فتنة داود كانت فى النظر! الإكتفاء بالتراث عن الكتابة والسنة من خلال ما ذكرتم، هل نستطيع أن نقول: بأن وقف الناس عند حدود الفقهيات، أو التراث الفقهى، أو الاقتصار عليه، واعتباره هو المساحة التى يجب التحرك عليها،يشكل عائقا بين المسلمين، وبين النهل من النص الأصلى الذى هو القرآن الكريم، وأن التراث بشكل عام والتراث الفقهى فى عصور معينة، بدل أن يكون مفاتيح مساعدة على فهم القرآن، والعودة إليه، كان حواجز فى بعض المراحل اكتفى بها، وحالت دون الوصول إلى النبع الأصلى، والتحقق بالرؤية القرآنية الشاملة. كتبت هذا، تقريبا، فى كتابى "فقه السيرة"، فى "رسالة وإمام "، عندما تحدثت عن أن القرآن هو رسالة، وعن الإمام الذى طبق وقاد بها.. قلت: إن الأمة الإسلامية حدث فيها، للعجب، أنها تركت الكتاب للسنة، ثم تركت السنة لأقوال ص _166(1/174)
الأئمة.. ثم تركت أقوال الأئمة لمؤلفى المتون، تقريبا.. لا أذكر الآن ما كتبت بالنص، لكن هذه هى الصورة التى سارت عليها الأمة.. نحن طلاب فى الأزهر، درسنا المالكية من: متن الدرديرى، أو متن العشماوية، ودرسنا الأحناف من: نور الإيضاح، أو متن القدورى، والشافعية من: متن الغاية والتقريب. أما الاتصال بالقرآن نفسه والسنة نفسها كمصدر، فأبعد هذا عن الثقافة الإسلامية. حتى فى المعاهد العلمية، نتعلم لنقرأ، لا نقرأ لنتعلم.. لذلك يبقى هم المتعلم: ضبط اللفظ، ومراعاة أحكام التجويد، وضبطها، فيؤسس على الاهتمام باللفظ والشكل.. أما فلسفة الحياة فى ذلك. فقلما تدرك. فالقضية مفزعة: أن يكون التراث الذى يشكل فى الأصل مفتاحا لفهم القرآن والسنة، أو لاستجماع فهوم الآخرين، وكيف كانوا ينظرون للقرآن، والإفادة من فهومهم لإخصاب الرؤية فى العودة إلى القرآن؟ يصبح حاجزا يحول بين المسلمين وبين مصادرهم الأساسية!! وكون تلك الفهوم تأخذ شيئا من القدسية، فهذا يعنى، أنه ضرب بليل طويل بين المسلمين والقرآن من خلال عصور متطاولة. وقد يكون الوجه المقابل ـ وقد يكون الأخطر فى القضية ـ القفز من فوق التراث، ومحاولة الاتصال بالكتاب، وتقرير الأحكام دون التحقق بالشروط المطلوبة لذلك. هذا حق.. ولذلك، جهد المجددين الآن، يجب أن يكون مضاعفا، وأن تكون ضرباتهم بحماس وقوة، وأن يكون معها أيضا العقل يقرر الذى يقرر صعوبة أو غلط الحجب الموجودة على بصائر الناس. أحيانا، كنت عندما أناقش المستشرقين، أتكلم بكلام فيه حدة أو احتقار شديد، وأنا أتعمد هذا.. لماذا؟ لأنى وجدث بعض الناس ينظر إليهم كأنهم شيوخ فى محاريب العلم، وهؤلاء أفاكون يشتغلون فى وزارات الاستعمار لمحاربة الإسلام.. فقلت: لابد من تمزيق هذا القناع وكشف نصوص العلم للناس على حقيقتها. ص _167(1/175)
تأسيس منهج العودة إلى القرآن أتصور أن تأسيس، أو تدوين، منهج العودة للقرآن الكريم، يقتضى نزع فكرة القدسية عن فهوم البشر- كمرحلة أولى- وأن هذه الفهوم ليست دينا، وليست شيئا ملزما فى الفهم، وإنما هى فهم من خلال ظروف معينة، لتنزيل النص القرآنى فى عصر معين على حالة معينة.. فقد يتغير العصر، وقد يتغير الفهم، وقد يدرك فهم آخر يهيئ له الكشوف العلمية.. فإذا استطعنا نحن الوصول إلى مرحلة القناعة بأن هذا التراث ليس مقدسا، وإنما هو فهم بشرى قابل للخطأ والصواب، وإنه يستعان به، أو هو وسيلة للوصول إلى النبع الأصلى وأنه لا يغنى عن النبع الأصلى بحال من الأحوال أو عصر من العصور، ونبقى مشدودين للقرآن باستمرار، مشدودين إلى محاوره كلها، وسننه وقوانينه المطردة، أى: الوصول إلى مرحلة الفكر القرآنى، أو الفلسفة القرآنية، وبذلك يمكن أن نكون قد وضعنا الخطوة المطلوبة اليوم لمنهج العودة إلى القرآن. وقد أشرنا إلى محذور، لابد من مناقشته؟ لأن عدم الحذر قد يساهم بالخبال، والتبعثر العقلى أيضا، فكثير ممن يظن أنه جاء بالحل، وهو لا يدرى أنه يؤزم المشكلة أكثر؟ وهذا المحذور هو: الاغتراف من القرآن مباشرة، والقفز من فوق الفهوم البشرية دون امتلاك الوسائل التى تمكن من الاغتراف من القرآن مباشرة، خاصة فى القضايا الفقهية التى لم يدع الأئمة فيها زيادة لمستزيد.. هذا آفة النهضة العلمية الحديثة فى العالم الإسلامى: أن ناسا شعروا بالضيق من المتون الفقهية والسجن الذى وقع فيه الفكر الإسلامى، فأرادوا أن يغترفوا من الكتاب والسنة مباشرة وهم دون ذلك، من ناحية القدرة العقلية، فنشأ عن هذا الآن نوع من الخبل، وأنا نفسى قلت: التقليد المذهبى خير من هذا الذى يقع الآن.. لأنه تجىء طفولات ليست لها ثروات علمية محترمة، ولا مواهب فطرية محترمة، وكل ما تملكه الجرأة ونوع من المجازفة، وتدخل وتهاجم الأئمة، وتهاجم التاريخ كله من أجل كلام فارغ تنتمى(1/176)
إليه.. وفعلا، هذا العمل مهما كانت دعاواه فى التأسى والاقتداء، فهو فى الحقيقة نوع من الصبيانية، وما هكذا فعل التابعون.. إنى أفهم أن السلف هو أن أرجع إلى أبى بكر وعمر رضى الله عنهما، وأنظر للآفاق التى بلغوها ص _1 ص
من استلهامهم للقرآن.. قلت لواحد منهم: لماذا نظرت إلى جلباب عمر ولم تنظر إلى عقله وكلامه؟ عمر الذى قال: لو عثرت بغلة فى العراق لحسبت عمر مسئولا عنها، لِمَ لَمْ يسو لها الطريق.. هذه سنة عمر.. هذه سنة الإسلام.. عمر قال: لو عشت لهم لوصل الراعى فى صنعاء حقه من هذا المال.. والله ما أحد أحق بهذا المال من أحد، لو عشت لهم… هذه سنة عمر.. ما الذى جعلك تنسى السنن فى الحكم، والمال، والعبادات، والحياة العامة، وكل ما لفت نظرك شكل ثوب عمر؟! شىء عجيب! هذه العقليات تنذر بها الأديب الإنجليزى "برنارد شو" عندما تحدث عن بعض معاصريه وسوء فهمهم. قال: امرأة تصف آخر، تقول له: "جنتل مان "، ما أعظم خلقه، ألا ترين إلى حذائه اللامع! فهى حكمت بحذائه اللامع أنه إنسان رفيع.. هذه العقلية هى التى تريد أن تقود الثقافة الإسلامية الآن.. أنظر فأجد أطفالا لا عقل لهم، بل رأيت أناسا ممن يشتغلون بالسنة ولهم جبروت فى إدراك الأسانيد والمتون، لكن عقلهم الفقهى صفر! وعقلهم القرآنى لا شىء أيضا! هؤلاء ـ فى مجال الفقه ـ أخطر.. وشرهم أكثر.. وأرى أن اتباع الأئمة القدامى وتقليدهم أفضل من اتباع هؤلاء.. فقه سيدنا عمر رضي الله عنه فى تطبيق النص القرآنى بدا لى شىء الآن قد لا يكون فى صلب القضية المطروحة عند الكلام عن سيدنا عمر رضى الله عنه: فى هذا الوقت نرى بعض الرؤى الحسيرة التى أتينا على شىء من ذكرها، مثل: رؤية الثوب وعدم رؤية الأعمال العظيمة، وذلك فى الداخل الإسلامى.. كذلك نرى من بعض الناس من الذين قد يكونون فى الخارج الإسلامى ـ إن صح التعبير ـ يلتقطون من اجتهادات عمر رضي الله عنه، بعض القضايا التى يتراءى لهم أن(1/177)
فيها خروجا على النص القرآنى، وما إلى ذلك.. ويروجون لها بحسب فهومهم، ولا يعنيهم من عمر إنجازاته كلها فى الإطار الإسلامى، إنما الذى يعنيهم فقط من عمر بعض الاجتهادات التى توافق زعمهم، ويظنون أنها تعطيهم الحق فى الخروج عن النص القرآنى. ص _169
هذه القضية تشغل البال، وتشكل اليوم إشكالية فعلا.. وأرى أنه لابد من تصحيح النظر أولا، ومن ثم وضع هذه الاجتهادات ضمن إطارها القرآنى والاجتهادى فى شخصية سيدنا عمررضى الله عنه.. كان عمر رضي الله عنه وقافا عند حدود الله، بل كان ظاهر القرآن يملكه.. ويستحيل ما يقال أنه عطل نصا.. هذا نوع من العبث الفكرى أو الفقهى؟ لأنهم نسبوا إليه أمرين: الأمر الأول: أنه ألغى حد السرقة فى عام الرمادة، وألغى سهم المؤلفة قلوبهم.. وهذا كلام ذكرناه فى كتابنا: "دستور الوحدة الثقافية "، وقلنا: إنه كلام باطل.. فسهم المؤلفة قلوبهم هو لمن نريد أن نتألف قلبه.. وللموضوع قصة لابد من معرفتها.. فهناك ناس كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد تألف قلوبهم من مشايخ البدو مثل العباس بن برداس ، والأقرع بن حابس ، وبقى هؤلاء يأخذون السهم.. وجاءوا لأخذه أيام عمر رضي الله عنه ، فقال: من أنتم؟ قالوا: المؤلفة قلوبهم.. قال: وهل نحن اليوم محتاجون لتأليف قلوبكم، فتحنا فارس والروم، والإسلام استقر وتوطد.. فعمر لم يلغ السهم، ولكنه ألغى استغلال بعض الناس للسهم، أى ألغى استحقاق الناس له عندما وصلوا إلى مرحلة معينة من الغنى.. فالكلام ليس فى المبدأ، ولكن فى محل تطبيقه.. وذلك مثل قولك: إنى خصصت جائزة لمن يحصل على 90%، فعندما لا يحصل أحد على 90% تحجب الجائزة لكن الجائزة موجودة ولم تلغ. فالمبدأ قائم إلى قيام الساعة، لكن الاجتهاد فى التطبيق. كذلك من قال: إن الجائع تقطع يده؟ من أكل وهو جائع فلا تقطع يده أبدا، بإجماع الأئمة.. فكيف يقال؟ إن عمر ألغى الحد؟ الناس جياع فيأكلون.. فلا شىء إطلاقا فى ذلك.. عمر لم(1/178)
يعطل لا كتابا ولا سنة. ص _170
قد تكون المشكلة كلها، محاولة لمحاصرة النص القرآنى، فلا يكون له امتداد فى حياة المسلمين.. هؤلاء يريدونه للتبرك كما أراده الآخرون، لكن من وجه آخر، مع اختلاف فى المقصد.. كيف نتعامل مع القرآن ليكون مصدرا للعلوم الاجتماعية؟ كيف يمكن تأسيس، أو الوصول إلى عصر تدوين للعلوم الاجتماعية من خلال القرآن الذى يعتبر مصدر هذه العلوم بالدرجة الأولى؟ وكأنى أرى أن القرآن هو أكثر اهتماما بالعلوم الاجتماعية التى تصنع الإنسان وتعيد تشكيله منه بالعلوم التجريبية والمجالات الأخرى.. وأن استخدام السنن النفسية والسنن الكونية معا، لإثبات الحقائق التى لابد منها لبناء الإنسان وعمارة الأرض، بل لعله جعل النظر فى الآيات الكونية، وسيلة للوصول إلى بناء الإنسان والمؤمن. والمشكلة اليوم: أن يقوم ما يسمى بالإعجاز فى العلوم التجريبية كمحاكاة للإنجاز العلمى غير الإسلامى، وتبقى الدراسات ضامرة، بل متخلفة فى العلوم الاجتماعية " وعدم قدرتنا على اكتشاف مواطن وآفاق وأبعاد الرؤية القرآنية فى العلوم الاجتماعية، لأنها تخص بناء الإنسان الذى هو محل الأحكام الشرعية.. فالأحكام الشرعية هى ثمرة لوجود الإنسان.. لقد تقدمنا فى العلوم الشرعية وتوقفنا فى علوم الإنسان (العلوم الاجتماعية). فى ظنى: أنه بدأ الآن توجه إلى تكوين علم اجتماع إسلامى. وعلم الاجتماع هو فى حقيقته: العلم الذى يبحث فى الأسرة، والأمة، وما يطرأ عليها من تغيرات، والقوانين التى تنتظمها، وغير ذلك. وهذا كله أصوله فى القرآن، وله تطبيقاته فى التاريخ الإسلامى. لكن لم يجمع قواعده تحت عنوان معين مثل "علم النحو" و"علم الصرف ".. الخ. وللأسف ظل هذا غير محدد فى الدراسات الفقهية والتفسيرية والحديثية. عندما كنا ندرس الحديث، كنا ندرس القانون الدولى أحيانا، كنا ندرس الأسرة، كما ندرس انهيار الأمم والحضارات.. كنا ندرس أشياء كثيرة فى علم السنن وتفسير(1/179)
القرآن.. لكن المشكلة المنهجية لهذه الدراسة أنها بقيت عبارة عن إثارات هنا وهناك لم تنتظم لتصبح علما، أو تلتقط الخيط الذي ينتظمها لتصبح علما فى إطار: النفس، والاجتماع، والتاريخ!.. ص _171
لا تنس أن هذه العلوم حديثة أيضا فى الحضارة المعاصرة.. فعلوم النفس، والاجتماع، والاقتصاد، علوم جاء تأصيلها من نتائج الحضارة الحديثة، كان لها أصول قديمة، هى واسعة عندنا؟ لأن ديننا: دين ودولة، دين ومجتمع، دين وأسرة، دين وحضارة.. فالمعالم كلها موجودة عندنا، لكن فى السديم الذى اختلط فيه كل شىء، تستطيع فى حاشية من حواشى الأزهر أن تستخرج عدة علوم من صفحة واحدة.. فمثلا: عندما كنا ندرس هذه العبارة: (حقائق الأشياء ثابتة، والعلم بها متحقق خلافا للسفسطائية)، وجدت أن الأستاذ يدخل أولا الحقائق جمع حقيقة، والحقيقة ما به الشىء هو هو.. يدخل من باب "ما به الشىء"، وهل التعريف بالحد أو بالرسم، ودرسنا المنطق كله فى التعريف هنا.. هل : "هو هو " مبتدأ وخبر؟ كيف يكون المبتدأ عين الخبر؟ الفرق بين الهوية والماهية والحقيقة والفاعل، فتدخل فى مسألة أخرى، فى أدب البحث والمناظرة وتحديد المفاهيم.. ولا نزال نتفرع من هذه الأمور حتى نشعر بأننا درسنا نصف العلوم الإنسانية فى جملة واحدة. طبعا هذه الدراسة فيها خير وفيها شر.. خيرها أنها تتعمق وتجعلك تتعرض لعلوم كثيرة بهذا التعمق، وفى الوقت نفسه فقدنا النظرة العامة للأمور.. وقد قلت لبعض المسئولين: بدل أن تدرسوا الكتاب على هذا النحو المجزأ، فليقدم لنا واحد خلاصة مجملة للكتاب كله، ثم نتعمق فى بعض الفصول، ثم نتعمق فى بعض الجمل، أما هذه الدراسة التجزيئية التى نحيا بها فهى دراسة خطيرة، وقد عاش الأزهر فى هذا اللون من الدراسة، وأحيا وأمات فى إطار الجزئيات.. وبدل أن يبدأ بالصورة الكلية وينتهى إلى الجزئيات، بدأ بالطريق المعاكس.. وإسقاطه جاء من هذه الناحية.. والإنسان عندما يشعر بأنه أعمى،(1/180)
فقد كيانه، بطريقة من طرق الغباء الدراسى والمنهجى، فإنه يكفر بالإسلام، وقد كفر به بعضهم فعلا. أتصور، حتى نصل إلى مرحلة تأسيس، أو تدوين علوم اجتماعية، مطلوب منا لون من الرحلة مع التراث الإسلامى لاستخلاص أصول هذه العلوم المنبثة هنا وهناك، فى إطار الرؤية القرآنية.. والأستاذ محمد المبارك ـ رحمه الله ـ عنده ص _172
نظرات دقيقة فى هذا الأمر، ويمكن أن نقول: بأنه بدأ بوضع الخطوات الأولى فى هذا الاتجاه.. وله خطوات طيبة فى الإطار التربوى والاجتماعى بحاجة لمتابعة السير. هو فعلا وضع نظرات فى علم الاجتماع، وهو رجل مسلم.. وبدأ يعمل البرنامج.. وأظن أنه مع بعض الناس وضع البرنامج، وقد أعطانى مرة مذكرة نحو من عشرين صفحة. فيها البرنامج.. لكن لا أدرى: أين ذهبت عنى؟ ويمكن الاطلاع على هذه الورقة لنرى كيف أن القرآن والسنة أيضا مصدر للعلوم الاجتماعية. لكن المشكلة اليوم بتوقف العقل المسلم. هل نستطيع القول: بأن تأسيس هذه العلوم أو صلة ما انقطع، أو بلورة وجمع هذه النظرات المنبثة هنا وهناك، لابد تتبلور فتصبح علما.. الأمر هام، ويجب أن تقوم به جامعات إسلامية الآن، ويجب أن تختار هذه الجامعات رجالا لهم خبرة بالعلوم الأجنبية، وفى الوقت نفسه، لهم اطلاع على التراث الإسلامى. ومعهم بعض الذين لهم خبرات قرآنية ودراسات قرآنية معمقة، كفريق عمل، ومن ثم فالكل يمكن أن يطلعوا لنا بعدة علوم مرة واحدة: علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد، وعلم التاريخ، لأن علم التاريخ أيضا عندنا مظلوم، حتى كإحصاءات لا يوجد.. ولذلك عندما أريد قطع الأمة عن ماضيها قطعت؟ لأن التاريخ غير مربوط بالحاضر، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم المغازى كما يعلم السورة من القرآن، لكى يربط الأمة. ص _173(1/181)
أثر الوراثة والاكتساب فى حياة الأمم المسئولية فى الإسلام فردية، والإسلام يحاسب الإنسان عن عمله... لكن الأمر اللافت للنظر عند الكلام عن اليهود وبيان فسادهم، أن يُخاطب الأحفاد بجرائم الأجداد فى القرآن، وكأنما الجرائم جبلة فيهم، وليست مقتصرة على جيل بعينه، ولذلك خوطبوا بجرائم آبائهم وأجدادهم، فالجرائم تنحدر إليهم فى جبلتهم وطبيعتهم.. وعلماء الوراثة الآن، يقولون: بأن بعض الصفات المكتسبة بالمعايشة والممارسة، تنقلب إلى صفات وراثية.. وهناك دراسات لدى بعض الماركسيين في هذا الموضوع، حتى إنهم يقولون: إذا استطعنا أن نصل بالمجتمع لأن يصبح شيوعيا، فيمكن ـ فيما بعد ـ أن نفرخ فى المستقبل شيوعيين.. فالأمر عبارة عن توفير مناخ، ويُصنع جيل المستقبل. لماذا عُيّر بنو إسرائيل المعاصرون للنبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ بما فعل آباؤهم؟ فكان الجواب جوابا اجتماعيا، لأن الأمة كيان واحد ممتدة جذوره فى القدم، وفروعه فى الحديث، وما دام المحدثون ينبعثون من الأصول القديمة، فهم يحاسبون عليها. عندما كان الدكتور محمد يوسف موسى يدرس لنا الأخلاق، وهو رجل مسلم حصل على شهادة الأكاديمية من السوربون فى "ابن رشد" قال: يكاد العلماء الآن يستقرون على أن البيئة تغلب الوراثة، ولذلك يشير هنا الحديث: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " ، لكن معنى هذا أن الصفات المكتسبة تورث. ويقول لك: إذا أردت ابنا صالحا فذلك ممكن، ولكن لابد أن تكون أنت تسير على طريق صارم فى سلوكك وأخلاقك ونظافتك وحياتك العامة، لأن هذه الصفات والخصائص تنقلب إلى مورثات، وتظهر فى الأولاد.. فهذا يعطى فكرة. لكنى أرى أيضا أن الأمم قد تتغير.. وربما يحدث هذا التغيير بسبب التحدى، أو أية رجِّات اجتماعية أخرى.. فاليهود الذين قالوا لموسى: (قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ) ، رأيتهم ص _174(1/182)
الآن يقاتلون بضراوة! والأمة القرآنية التى قالت لرسولها : ( لو خضت بنا البحر لخضناه معك )، أمة ـ الآن ـ مسترخية ـ، وتكاد تموت فى جلدها.. يقع فى بلادنا ما لو وقع فى أي بلد آخر لأرغى وأزبد، وفعل الأفاعيل.. ومع ذلك، الناس نائمة.. لقد تبلدت.. أو تحجرت. نماذج للاستبداد السياسي والظلم الإجتماعي ، وثواب الصمود والمواجهة ( من خلال الرؤية القرآنية ) تعقيبا على أثر الاستبداد السياسى فى الأمم، وباعتبارنا نحاول أن ننهل من القرآن، وننطلق منه، خطر ببالى أنموذجان قرآنيان قد يكون من المفيد التوقف عندهما حتى لا يكون السقوط الحضارى فى مناخ الاستبداد على المستوى الفردى والجماعى: الأنموذج الأول: " فرعون " كأنموذج متصاعد للحاكم الظالم فى التاريخ البشرى فى صراعه مع الحق الذي تمثله النبوة.. وكان فرعون، من بين سائر الظلمة، هو الأنموذج المتصاعد والذى بلغ من طغيانه مالا يمكن أن يبلغه أى حاكم فى أى عصر.. ويبقى فرعون هو الأنموذج فى الظلم والاستبداد السياسى: ممارساته فى إطار الشعب، من تقتيل الأبناء، واستحياء النساء، حتى لا ينازع السلطة، بل لقد وصل الأمر به إلى مرحلة ادعاء الألوهية، وتوظيف الناس لأهوائه، والاستخفاف بهم، وما إلى ذلك. أما النموذج الثانى: وهو المقابل والموازى للأنموذج الأول، فهو " قارون "، من الناحية الاقتصادية والظلم الاجتماعى.. إن هذين الأنموذجين القرآنيين، لهما دلالات لابد من التوقف عندها أثناء الكلام عن الاستبداد السياسى، وعواقبه، وكيفية مواجهته.. لابد من التوقف عند الكيفية التى تم بها تقويض فرعون وحكمه والتى كانت من داخل القصر، حتى لا يقع الإنسان، ولا يسقط على أقدام الاستبداد السياسى.. ففكرة ولادة سيدنا موسى عليه السلام وقصته، وفراغ قلب أمه، وقصة أخته التي قصته وأمه التى أرضعته فى القصر، وكيف أنه تربى فى القصر ليكون لهم عدوا وحزنا، وامرأة آل فرعون، ومؤمن آل فرعون الذى وقف فى مواجهة(1/183)
السلطة والاستبداد السياسى من داخل السلطة ليعلن المثوبة إلى الله على ملأ من الناس، وأن هذه الدنيا متاع وما إلى ذلك؟ وقصة السحرة.. الخ. ص _175
حبذا لو نقدم أنموذجا قرآنيا لحماية الإنسان المسلم من الانكسار أمام الاستبداد السياسى ومعالجة السبب الذى أوقع الدولة الإسلامية فى الغياب الحضارى، وأهمية الصمود، وثواب المواجهة، ونأخذ نموذج " قارون " فيما يتهيأ لكم من ملامح فى الاستبداد السياسى والظلم الاجتماعى.. لاحظت فى سورة القصص، وهى السورة التى تحدثت عن فرعون وعن بنى إسرائيل، أن السورة بدأت الكلام عن الفرد المدعى للعظمة الذى يريد أن يحكم ضمائر الناس، ويجتاح حقوقهم، ويفعل كل ما تمليه عليه قرائن السوء فى كيانه. ولاحظت أن آخر هذه السورة، هو الحديث عن فرعون من الناحية السياسية، وقارون من الناحية الاقتصادية.. أى فرعون كمثال للفساد السياسى، وقارون كمثال للفساد الاقتصادى. ولاحظت أن الخلاصة التى أرادت السورة أن تقررها، في هذه الناحية: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) هذه هى الخلاصة التى ساقتها بعد مصرع قارون ومصرع فرعون. الله سبحانه وتعالى لا يقبل أن يدخل جنته مستكبر وطاغية، بل لعلى لاحظت قبل ذلك أن الطغيان الاقتصادى ذكر مع بدايات الوحى الأولى، فأيهما نزل قبل الآخر: سورة العلق أم سورة المدثر؟ الأغلب يرى أن سورة العلق هى التى نزلت أولا. وفى كلتا السورتين، تنبيه إلى الطغيان الاقتصادى فى قوله تعالى: (كلا إن الإنسان ليطغى * أن رآه استغنى) وفي سورة المدثر: (ذرني ومن خلقت وحيدا * وجعلت له مالا ممدودا * وبنين شهودا * ومهدت له تمهيدا * ثم يطمع أن أزيد * كلا إنه كان لآياتنا عنيدا) طغيان الاقتصاد قد يكون خادما أو وزيرا للطغيان السياسى، وهو يمهد له، ويوطن الصدور بكل قوة. فى الطغيان السياسى وجدنا أن فرعون لا يريد أن يحكم الإنسان فقط، ولكنه يريد أن(1/184)
يحكم الأرواح والضمائر.. ولذلك عندما آمن السحرة، فهو يقول لهم باستكبار واستنكار: (قال آمنتم له قبل أن آذن لكم ) ص _176
فهو ينتظر أن يكون الإيمان والكفر بإذن منه هو.. ثم وجدنا أن القرآن يحدث العرب أن فيهم من مشى وراء فرعون فى ملكه، ولذلك يقول في سورة المزمل: (إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا) ولعل هذا السر فى أن بعض المؤلفين القدماء ذكر أن "أبا جهل " كان فرعون هذه الأمة الإسلامية. ليكن ما يكون، لكن المهم أن تفصيل الحكم الفرعونى جاء فى عدة نواح: الذين ألفوا الانحناء لفرعون ظلوا فاسدين طيلة حياتهم، والقرآن يقول لنا: عندما بدأ موسى بدعوته للحرية وإلى الإيمان وإلى طرح الخرافات لم يستجب له الكبار، وإنما استجاب له الشباب: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين) لقد بقيت للذين كبروا فى الضلال والظلم خصالهم هذه، وتحدث عنها العهد القديم.. يقول تعالى: (فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون * قال كلا إن معي ربي سيهدين) لكن العهد القديم يقول هنا: إن بنى إسرائيل صرخوا فى موسى وقالوا له: ألم نحذرك من معاداة الفراعنة، ألم ننبهك.. كان أولى بنا أن نموت فى الوادى من أن نموت فى هذه الصحراء.. فالقوم مردوا على الذل وعاشوا به. وهكذا استمر الذل فى الحياة، فى كثير من الأجيال..! إن الذل يطوى الظهور، ويفسد الملكات.. وهؤلاء هم الذين رفضوا أيضا أن يدخلوا الأرض المقدسة. ص _177(1/185)
إن أثر الذل خطير فى النفس البشرية، ولعل أحسن من كتب فى هذا الموضوع، عبد الرحمن الكواكبى فى كتابه " طبائع الاستبداد ". يرى بعض الناس أن موسى، لو ربي فى بيت إسرائيلى فإنه لن يكون عزيزا أو نبيا كما حدث له عندما قدر له ربه أن يتربى فى قصر فرعون.. فموسى فى قصر فرعون أصبح كواحد من أبناء الملوك، فى نفسه عزة الملك. وفى الوقت نفسه لم ير شيئا من الذل الذى أصاب قومه. كان بمنأى عن الذل، بعيدا عن مناخ قومه.. عاش رفيع الرأس. واستنكر الذل على قومه فيما بعد؟ لأنه لم يألف الذل، وكان من تعبيره، عندما حاجه فرعون فى قتله لأحد أتباعه: وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل أى، كونك تركتنى حيا لأنك استعبدت بنى إسرائيل، هل هذه منة لك عندى، أم أن الجريمة أنك استعبدت أناسا ما كان ينبغى لك أن تستعبدهم؟ على كل حال، كانت طبيعة فرعون، كما لاحظنا فى الفراعنة أو المستبدين فى إنجلترا وألمانيا وكل مكان، وجدناهم يقسمون الأمة إلى قسمين: قسم يستلحقه كأتباع، ويغريهم بالمال والحظوة، وقسم يستذله، ويفرغ فيه سمومه، يقول سبحانه وتعالى: إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين. وكما قيل: إن الفساد يجئ من أعلى ويهبط إلى أدنى، والإصلاح يبدأ من أدنى ويصعد إلى أعلى.. فعلى الذين استضعفوا أو الذين استعبدوا أن يتحرروا أو يبحثوا عن خلاص.. هذا واجب عليهم.. لأن الإصلاح يأتى من هذه الناحية وذلك الذى أشار إليه القرآن فى قوله: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون ص _178(1/186)
لكن يبقى سؤال: من الذى يقوم بهذه المهمة؟.. الشعوب ليس أمرها ـ كما يقول الشيوعيون ـ هى التى تصنعه.. الواقع أنه لابد ممن يفخر الطاقة ويجمع القوى، ويحرك الشعوب.. لابد من عدسة تجمع الأشعة وتركزها.. ولذلك التعبير القرآنى فيما بعد كان منها: ( وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه ) لأنه هو الذى سيقوم بهذه المهمة.. وعرف أن موسى ألقى فى اليم، وتربى فى بيت فرعون.. الخ القصة المعروفة. لاحظت أيضا أن أول ما اصطدم موسى، كان حمية لواحد من بنى جنسه، وقتل المصرى الذىا كان يهدد اليهودى. فلما تاب الله عليه، كانت دعوته موضع نظر أو موضع استغراب... قال رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين. كأنه سيبقى على العهد به، يحارب المجرمين والظلمة والمتكبرين، ويبقى مع المستضعفين. وهى حقيقة وفى بها، ولما تكررت المحنة كاد يفعل ما فعله المرة الأولى لولا أن الرجل قال له: إن تريد إلا أن تكون جبارا ومشى خارجا عن مصر كى يأوى إلى الظل ويقول: رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير وهى دعوة كلها رقة وتلطف فى استنزال حب الله سبحانه وتعالى.. وتزوج.. والواقع أنا أحيانا أنظر إلى هذا الزواج وأتساءل: هل الرجل الذى زوج موسى كان شعيبا نفسه؟ ليس فى القرآن ما يدل على هذا، وليس فيه أيضا ما يمنع هذا، لكن أكثر المؤرخين يرون أنه رجل صالح من قوم شعيب.. وترى فى هذا المسلك الفطرة البشرية العادية التى لم يفسدها تكلف البشر عندما أقاموا مجتمعاتهم على التفاوت والتكلف.. عرض ابنته.. وروى أن عمر بن الخطاب عرض ابنته.. كأن الأمور بين الناس الكرام ليس فيها هذا الوجل الذى يجعل بعضهم يخاف.. ولكن أيضا، عمر رضي الله عنه عرض على أبى بكر رضي الله عنه فهو عرض على ناس كبار لهم شرف ومكانة؟ ص _179(1/187)
لأن الإنسان قد يعرض ابنته على إنسان خسيس فتكون مأساة.. العرض ليس فيه شىء ولكن عندما تكون النفوس طيبة وعظيمة. وقضية الجبروت فى قصة فرعون، تلحظ فى عدة أمور من أماكن فى القرآن الكريم.. الشىء الأول: أن المصريين قال بعضهم لبعض: لنذهب إلى المبارزة بين السحرة وموسى: (لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبين. وهذا شىء عجيب! فماذا لو غلب موسى هل سيتبعونه؟ لقد فهموا أن الغالب لن يكون إلا الفراعنة، أما إذا كان الغالب غيرهم فالله أعلم بمدى اتباعهم له.. تلك رهبة القوة. الشىء الثانى: الذين جاءوا لفرعون طلبوا أمرين اثنين: الحظوة والمال.. وفعلا، كانت لهم الحظوة وكان لهم المال.. والغريب أن هؤلاء السحرة تحولوا بين عشية وضحاها نماذج لأصحاب الفداء والتضحية والإيمان الصادق. ويعجب الإنسان كيف أنهم انقلبوا من الضد إلى الضد! وقالوا لفرعون عندما هددوا بأنهم سيستأصلون: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا * إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر . وهذا مسلك لمصريين مستضعفين شرح الله بالإيمان صدورهم، فكانوا على هذا المنوال.. وهم مصريون كانوا يخدمون الفراعنة.. المصرى الآخر صاحب القصة العجيبة: بدأ متخفيا واصطنع لهجة الحياد، وبدأ يتحدث حديثا فيه تعليم، وفيه ذكاء، وقال للناس: وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب وعلى الرغم من أنهم منتصرون في الأرض وأقوياء، لكنه حذرهم: يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا ص _180(1/188)
وكان رد فرعون من نفس العينة، وكأنه يقول لهم: إذا كان هذا يحاول بالعقل والتؤدة والبحث أن يوصلكم إلى الطريق المستقيم، فالطريق الذى أهديكم إليه أنا هو الطريق المستقيم: ( ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد. وعاد المؤمن الذى يستر إيمانه، يحدث مرة ثانية ويذكرهم بأن موسى جاء البلد ودعا إلى التوحيد.. لكن أبى فرعون! يقول تعالى: ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار فهو يستخدم هنا كل ما يمكن أن يحارب به كبر، وجبروت، وطغيان، واستبداد سياسى. وعاد مرة أخرى يتحدث: (وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد . فكشف عن نفسه، ووجد أن المصارحة لابد منها.. والغريب أن فرعون ألحظ فيه ما ألحظه فى المستبدين، وهو أن فيهم كبرياء، وعنادا، وفسوقا، وجحودا، وقسوة قلب عجيبة.. وفيهم أيضا إلى جانب هذا كله، غباء يستدعى النظر! لأنه وهو يطارد موسى ومن معه، وجد البحر يخضع لعملية تحول غير عادية.. الأمواج تنحدر يمنة ويسرة، ويبدو الطريق يبسا.. فكان ينبغى أن يفهم أن هناك حالة غير ما ألف، وغير ما ينتظر، وهؤلاء- بعصا موسى- عرفوا كيف يشقون طريقهم إلى البحر فكيف يمضى وراءهم؟ إنه فهم أن البحر سيظل معجزة قائمة من أجله.. هذا هو الغباء، وهو غباء مألوف فى المتكبرين.. بل لاحظت أن نهايات هؤلاء الجبابرة تكون من غبائهم الشخصى.. فهم حتى آخر لحظة تكون لهم تصرفات فيها صلف، وعمى ينسج على بصائرهم فلا يستطيعون أن يروا إلا أهواءهم. والغريب أن الله سبحانه وتعالى يخص فرعون بخاصية أنه بعد أن يغرق هو ومن معه، يرمى جثته على الشاطئ: ( لتكون لمن خلفك آية . ص _181(1/189)
ومع ذلك، (وإن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) الذى كان يسجد له بالأمس ويدعى الألوهية، ها هو الآن أمامكم: ميتا، مكشوف السوءة.. ومع ذلك، لا يزال الناس فى طغيانهم وكبريائهم. لاحظت أيضا: أنه مجادل بطريقة المتكبرين، لأنه قال: (وما رب العالمين) ويقول العلماء: إن (ما) هذه تستخدم للسؤال عن الماهية والحقيقة، ولذلك أجاب موسى بالأوصاف والخصائص: (قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين) فيرفض فرعون المضى فى الجدل على أنه هو المقصود، ويكلم الحاشية: (قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون) كأنه هو أكبر من أن يكون الكلام موجها إليه.. (قال رب المشرق والمغرب وما بينهما إن كنتم تعقلون * قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين) هنا بدأ الصلف وانطلق الكبر بعد أن شعر من حوله بأن المسألة لا تعنيهم بقدر ما تعنى فرعون نفسه.. هذا الأنموذج الذى ورد فى القرآن الكريم، ليكون عبرة للشعوب الذليلة، والمؤمنين فى الصمود ومواجهة الظلم، ويكون عبرة أيضا للمستبدين والطغاة فى نهاياتهم ومصارعهم، وما إلى ذلك، له أبعاد نفسية متعددة يمكن أن توصل لتكون منهجا فى تربية الشخصية الاستقلالية التى يحميها الإيمان من الظلم والسقوط واليأس.. لعل ذلك هو الذى جعل العرب يشتقون من الكلمة مادة لغوية: تفرعن، يتفرعن، تفرعنا.. فالفرعنة أصبحت مادة فى اللغة العربية، وهذا معناه أن المسألة أصبحت شائعة فى الأجيال.. ويدل هذا أيضا، أن القرآن ما كرر قصة من قصصه الأولى التى ذكرها كما كرر قصة بنى إسرائيل وفرعون. وقد رأيت هذا أيضا فى سورة البقرة: (ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه) ص _182(1/190)
لماذا جادله فى الله؟ ( أن آتاه الله الملك ) فكأن الملك هو السبب فى إغراء الرجل بالكبرياء وادعاء الألوهية، وأنه نظير لله فيما يفعل فى الأرض. أعتقد أن القرآن الكريم، إنما قص هذه القصة عن فرعون وبنى إسرائيل، ومصير المستبدين، سواء كانوا سياسيين أو اقتصاديين أو ماليين، إنما فعل هذا لكى نأخذ عبرة: بأنه ما يجوز ترك حاكم يتفرعن.. يجب تقليم أظافر الذين ينزعون إلى الاستعلاء على الخلق، وادعاء الألوهية. فإذا كانت السلطة أو الثروة من أسباب الشذوذ، فيجب أن تقيد السلطات بحيث لا تغرى أحدا بهذا الاستبداد الأعمى، وأن تقيد الأملاك، وأن تراقب، فلا تكون سببا فى أن يتألف من أصحاب الأموال طبقات من المترفين الذين يفسدون فى الأرض ولا يصلحون. تدبر القرآن عاصم من السقوط الحضارى: يقول الشيخ رشيد رضا فى المنار: إن موسى ذكر فى القرآن 120 مرة.. فما ذكر اسم نبى ولا ملك كما ذكر اسم موسى.. إن قصة موسى لم تذكر للتسلية، وإنما حتى لا يتحول الخلفاء إلى فراعنة، وحتى تعرف الشعوب أيضا أن عبادة غير الله جريمة، وأن الرضى بالذل ستكون عقباه الهوان فى الدنيا والهوان فى الآخرة. ولعل القرآن الكريم تحدث كثيرا عن أن الأتباع يلحقون متبوعيهم فى جهنم، لكى يفطم النفوس عن هذه التبعية الذليلة.. (ما لكم لا تناصرون * بل هم اليوم مستسلمون) (وقالوا ما لنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار * أتخذناهم سخريا أم زاغت عنهم الأبصار. (قال الذين استكبروا للذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم). إلى آخر الآيات التى تحدثت عن هؤلاء ومنهم الفراعنة؟ لأنه بعد قصة فرعون مباشرة في سورة غافر، تجد قوله تعالى: (النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب * ص _183(1/191)
وإذ يتحاجون في النار فيقول الضعفاء للذين استكبروا إنا كنا لكم تبعا فهل أنتم مغنون عنا نصيبا من النار * قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد هذا المعنى تكرر نحو خمس مرات فى القرآن الكريم، حتى لا يكون هناك فى الأمة أتباع مسحورون بقوة السلطة، وحتى لا يكون هناك من فقد ضميره، وإرادته، وعقله، وهو مخدوع بجبروت الجبارين. وبين القرآن أن هذا الجبروت هالك فى الدنيا ولن يغنى عن أصحابه أبدا. هؤلاء الجبابرة سيتبرأون من أتباعهم يويم القيامة وعندئذ يقول الأتباع المقهورون الأذلة: (وقال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار. ولو أننا تأملنا فى القصص القرآنى، واستفدنا منه أحكاما كما نستمد الأحكام من آية الوضوء أو الغسل ـ واستفادة الأحكام من الواقع العملى فى تاريخ البشرية أهم وأجدر لأنها عامة، ولأنها تتصل بسنن حضارية لا تتخلف ـ كانت الأمة الإسلامية لا تقبل دنية أبدا. لم تنتفع بالوحى ولم نعتبر بالتاريخ لو تدبر المسلمون بالقرآن تماما، لما حل بهم ما حل من الاستسلام، والسقوط، والاستبداد السياسى، والظلم الاجتماعى.. لكانوا فى مستوى قرآنهم، وما قص عليهم من قصص ليأخذوا العبرة فتحول دون وقوعهم فيما وقع به الأقوام السابقون.. لكن، المشكلة: أن القرآن بقى معزولا عن حياة المسلمين، فلم ينتبهوا إلى مثل هذه القضايا. يمكن أن نطبق على هذا مغزى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر، وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ". قالوا: اليهود والنصارى.. قال: " فمن؟ ".. فنحن مضينا على سنة من لم ينتفع بالوحى ولم يعتبر بالتاريخ! ص _184(1/192)
وقبل قصة فرعون، فى سورة غافر، تجد هذا المعنى: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق * ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب ما كان ينبغى أن نخشع للجبابرة أو الفراعنة " لأن الله أقوى وأشد. ص _185
الله أعلم حيث يجعل رسالته.. هل تنطبق على الأمة كما تنطبق على الفرد؟ نزل القرآن الكريم بلسان عربى مبين، فلقد أسماه الله قرآنا عربيا. ولا شك أن العروبة المقصودة هنا هى: عروبة اللسان، وليست عروبة الجنس والقوم، وإن كان العرب هم مادة الإسلام وحملة رسالته إلى العالم، حتى إن الله سبحانه وتعالى قال: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون فذكر القوم هو ملفت للنظر، كما أن الله سبحانه وتعالى عندما تكلم عني هجر القرآن جاء ذلك بلفظ: وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا. ووصف القرآن العرب بالضلال، وهذا لا يعنى بحال من الأحوال ـ فى نظرى على الأقل ـ عدم الأهلية لحمل الرسالة.. بل قد يعنى الأهلية " لأن الضال هو الذى يفتش عن شىء فلا يجده.. إنه ليس إنسانا سكونيا، ولكنه يبحث عن مثل أعلى ويحاول أن يجده.. فإذا لم يجده ويصل إليه يسمى: ضالا.. فهل يمكن أن نقول: بأنه كان بين العرب ـ بخصائصهم وصفاتهم ـ وبين الإسلام، تواعد ولقاء؟ وإلى أى مدى يمكن أن ينطبق قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالته على الأمم كما ينطبق على الأفراد؟ الأستاذ موسى سالم يرى أن العرب كأن القدر صنعهم كى يكونوا حملة الإسلام، وغرس فى كيانهم المعنوى مواهب نفسية وفكرية، بل جعل حياتهم كأنها استعداد لتكون أوانى يصب فيها الوحى. على كل حال، الذى لا شك فيه أنه كان لابد أن تكون الرسالة فى هذا الجنس؟ لأنه ما كان يمكن أن تكون فى الفرس ولا فى الروم " لأن السلطة المركزية الموجودة فى فارس أو الروم،(1/193)
كانت ستلقى القبض فعلا على مدعى الرسالة وتنتهى منه فى يوم. لكن الحياة العربية التى كان يعيش فيها المجتمع العربى، حياة من لون خاص، فقد وفرت لأصحابها من الحرية، ما تعرفه الآن الولايات المتحدة وإنجلترا وفرنسا. ص _186
أن ينتعش الفرد فى هذه الأيام انتعاشا يحس بشخصيته، وبقدرته، وبامتداده المادى والأدبى دون أن يكون هناك حد لهذا. فالقبائل العربية كفلت لأبنائها، بهذا التعصب أو التجمع، ما جعل كل واحد منهم يفعل ما يريد، وهذا هو السر فيما أعتقد ـ وهو ما كتبته فى كتابى " حديث إلى الأمة العربية " ـ أن الله اختار العرب بمثل هذا ابتداء. وهناك صفات أخرى منها: أن الحكم الذى يشيع بينهم، وفر حريات لا نظير لها فى الأرض، حتى إن المعارض يقاتل دون صاحبه حتى يبدى رأيه: "وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون . فأبو طالب وغيره من بنى هاشم يرون أن ابن القبيلة لابد وأن يقول ما عنده.. ونحن لا نتبعه، لكن من حقه أن يقول رأيه.. هذا نموذج من الحرية لم يعرف فى الأرض يومئذ، جعلهم مؤهلين لأهلية الرسالة. الشيء الآخر: أن العربى فى هذه الصحراء، أمكن أن تكون له خصائص، تحتاج الرسالات العظيمة إليها، مثل: اعتداده بنفسه، اكتفاؤه الذاتى بالقليل، أهم ما ننتظره من الحلق، من الناحية الأدبية والمعنوية، وجدناه عندهم.. حتى إن قاطع طريق مثل عروة بن الورد يرى أنه: أليس عظيما أن تلم ملمة وليس علينا فى الحقوق معول وكما يقول طرفة : لو كان فى الألف منا واحد فدعوا من فارس؟ خالهم إياه يعنونا ص _187(1/194)
إن الشعور بالذات.. الشعور بأن العربى كان فى شخصيته قوة، ولا تزال فى البداوة إلى الآن بقايا من هذه النفسية التى تعتد أكثر من اللازم بما تملك من خصاثص مادية وأدبية. يقول التاريخ: إن الجيش الفارسى، وكذلك الرومى، كانت وراءه عربات الأطعمة.. أما العربى، فيكفيه أن يضع فى جيبه تمرات ويقاتل.. لم يهفوا ذل الخضوع لسلطة مطلقة.. الانحناء للملوك، والفساد الناشئ عن ترف، والانحلال والرخاوة، كل ذلك لم يكن موجودا عند العرب، كانوا بعيدين عن ذلك. يبدو لى: أنه كانت هناك بعض التوجهات للأفكار المثالية أيضا، وهو ما يمكن أن نلمحه فى نقطتين: الأولى: وجود الحنفاء فى المجتمع نفسه، وتأبيهم عن عبادة الأصنام، ومواقفهم منها.. فعبادة الأصنام لم تكن متعمقة فى نفوسهم.. نجد شاعرهم يقول: أربٌّ يبول الثعلبان برأسه؟ لقد هان من بالت عليه الثعالب ويعدل عن عبادة الصنم عندما يراه بهذه الحالة المخزية. الثانية: كان هناك توجه نحو فضائل اجتماعية، مثل: تفكيرهم فى حلف الفضول الذى اتفقوا فيه علي ألا يبقى فى مكة مظلوم إلا وترد له مظلمته، واجتمعوا على ذلك.. وعرفوا أيضا نوعا من الشورى، وكانت عندهم دار الندوة.. إلى جانب ما تقول : إباء " أبو سفيان " ـ وهو مشرك ـ أن يكذب! ومن كلمة هند بنت عتبة : أو تزنى الحرة يا رسول! الله؟! رفض الكذب، رفض الزنا.. كانوا ص _188(1/195)
يشعرون بأن التنزه عن الدنايا مطلوب، حتى الذى كان يسرق، كان يسرق لأنه يريد أن يوزع بعض المال! لكن، قد تكون المشكلة هنا: أن بعض من يعملون على إلغاء النبوة، يعتبر الإسلام لونا من العطاء العربى، وعبقرية العقلية العربية، وما إلى ذلك، فهناك من اعتبر الإسلام تطورا، أو امتدادا طبيعيا لواقع العرب فى مرحلة معينة، وأن العرب كانوا سيبلغون هذه المرحلة الحضارية بشكل طبيعى، لكن نزول القرآن سرع ذلك! نجد هذا الكلام فى طروحات بعض أصحاب الدعوة القومية، الذين يجهدون أنفسهم فى أن تكون القومية علمانية بديلة للإسلام. هذا الكلام نرفضه.. لأن العرب ـ لولا الإسلام ـ كان يمكن أن يبقوا على ما كانوا عليه طوال حياتهم. وأيضا بدليل أن بعض العرب الذين لم يقتنعوا بالإسلام ممن كانوا كبارا، ومؤثرين فى الحياة العربية، ا نقطعت صورتهم، ولم يستطيعوا أن يحدثوا أثرا، وواجهوا الإسلام أيضا.. ولو كان الإسلام تطورا طبيعيا لما واجهوه، وبدا فيهم غريبا! من مستلزمات التلقى القرآنى والتعامل مع النص: معرفة معهود العرب فى الخطاب: نعود إلى قضية اللغة، ونزول القرآن بلسان عربى، وفهمه من خلال معهود العرب فى الخطاب وإعجازه البيانى، ومسئولية العرب فى حمل رسالة الإسلام.. لم تكن اللغات الحديثة (الإنجليزية، الألمانية، الفرنسية) موجودة عندما وجدت اللغة العربية.. فالإنجليز كانوا فى الأصل قبائل الساكسون.. والألمان ينحدرون من أصول جيرمانية.. والفرنسيون من قبائل الوندال.. وكانت لغات هذه القبائل أشبه برطانات الحيوانات.. وكانت توجد اللغة اليونانية.. وهذه اللغة إذا قيست إلى الآن ص _189(1/196)
باللغة العربية، يخيل إلى أن اللغة العربية تتميز بخصائص ليست موجودة فى هذه اللغات جميعا. وتأسيسا على ما قلنا من اختيار العرب ليكونوا مادة الإسلام الأولى، لما يحملون من مؤهلات، فإن اللغة العربية، بما تمتلك من خصائص، كانت مؤهلة لأن تكون لغة الوحى.. كانت اللغة العربية فى الحجاز، حيث نزل الوحى، أصفى اللهجات.. وكان بعض الناس يشبهون الجزيرة العربية بالأبريق الذى يجعل العكار تحت والصفو فوق. فاللغة، فى الحجاز وشمال جزيرة العرب، كانت بلغت مستواها الكامل.. أما فى أماكن أخرى فلم تكن قد بلغت هذا المستوى. فنزل القرآن بلغة قريش.. وقد حاول المستشرقون أن يطعنوا فى هذا الأمر. وتكلم طه حسين حول انتحال الشعر، لكى يرد على هذا المعنى، لكن الحقيقة، أن اللغة العربية صفيت وأخذت مداها الأحسن والأجمل فى لغة قريش، وهذا ما جعل كتاب الوحى كلهم يكتبونه بلغة قريش، أو بلهجة قريش. لاحظت، فى اللغات الأخرى مثل: الإنجليزية، والفرنسية: أنه فى كلتا اللغتين، لابد أن تأتى مع المبتدأ أو الخبر، بفعل " يكون ".. واللغة العربية تخلو من هذا.. ويخيل إلى أن فعل " يكون " أو " الكينونة " هنا أقرب إلى الطفولة العقلية.. فمثلا يقولون: محمد يكون واقفا : فما معنى " يكون واقفا " حذف هذا الفعل ص _190(1/197)
الوسيط " يكون " وجعل النسبة عقلية فقط ونقول: "محمد واقف " يفهم مباشرة وقوف محمد من التركيب، يدل على أن اللغة العربية أنضج وأرقى، وأبعد عن الطفولة فى التعبير.. لقد أمكن، من خلال الشعر العربى، والبيان العربى، معرفة ضوابط اللغة بدقة.. ترجمة معانى القرآن قد يعنينا من هنا نقطتان: كون القرآن عربيا، بمعنى أنه يفهم من خلال معهود العرب فى الخطاب.. لكن هذا يقتضينا العودة إلى قوله تعالى وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم. والرسالة جاءت عامة للناس جميعا.. والأقوام الأخرى لا تعرف العربية.. ولابد من قراءة القرآن بالعربية، وفهمه من خلال معهود العرب فى الخطاب ـ كما أسلفنا.. فكيف يمكن أن نوفق بين الآية: ( بلسان قومه ) وعموم الرسالة؟ ونقطة أخرى فى التلقى، والبيان، والفهم والتعامل مع النص القرآنى: ماذا عن ترجمة القرآن؟ وما علاقة التفكير بالتعبير؟ وكيف يمكن أن يكون التفكير إسلاميا، وأن يكون التعبير بأى لغة غير العربية؟ وهل يمكن إدراك أبعاد الفكر القرآنى وتمثله فعلا من غير اللغة العربية؟ هناك الآن دعوة خطيرة وهى: التفريق بين لغة العلم ولغة الدين.. هناك لون من التآمر على القرآن لإزاحة اللغة العربية، وذلك باعتمادها لغة الدين.. أما العلم فلابد أن يكون بلغة أخرى! بمعنى: أن تكون هناك لغة للمعبد وهى العربية، ولغة للمعهد العلمي وهي الإنجليزية أو الفرنسية، أو ما إلى ذلك.. وهذه قضية خطيرة جدا.. وشيئا فشيئا، سوف تنفصل العربية عن الحياة، ويحاصر عالم الدين نفسه فى المسجد ليكون بعيدا عن أى استعداد لاستيعاب العصر.. وسوف يكون انقطاع عن التواصل اللغوى، وإدراك الميراث الثقافى، والتفاهم مع القرآن بالنسبة للأجيال القادمة.. فالقضية ذات أبعاد متعددة وخطيرة.. اتفق علماؤنا على أن النظم العربى جزء من النص القرآنى.. جزء من الوحى.. ولا يمكن أن يسمى وحيا أبدا لو ترجم القرآن إلى لغة أخرى، مهما كانت الترجمة ص(1/198)
_191
دقيقة، ومهما كان وفاؤها بالمعاني.. يستحيل أن يسمى هذا المنظوم قرآنا.. يسمى: معانى القرآن، يسمى تفسير القرآن باللغة الإنجليزية أو الفرنسية.. الخ، لكن القرآن لا يكون إلا عربيا. عالمية القرآن تأتى بطريق ترجمة المعانى والأهداف للناس.. وما حاجة الناس إلى أن يترجم لهم القرآن كله، ناقصا المعانى التى لا يمكن أن تلحظ إلا فى الأصل العربى. بمعنى: أن العلماء قالوا: هناك معان ثانوية غير المعانى التى تعطيها الكلمة.. عندى فى اللغة العربية: تعريف الطرفين يفيد القصر.. أى " أنا الكاتب " تعنى: أن غيرى ليس بكاتب.. (إياك نعبد) تقديم المفعول أعطى قصرا.. فهذه المعانى الثانوية لا يمكن أن تترجم أبدا مع ترجمة القرآن الكريم إلى لغات أخرى. الذين يشتغلون بالترجمة الآن، يقولون: مهما رقيت الترجمة، وتقدمت، لا يمكن أن تغنى عن الأصل، وتنقل المعانى كاملة؟ لأن جزءا من الحقيقة يضيع، أثناء النقل من لغة إلى أخرى.. لذلك نرى كثيرا من الذين يحرصون على المعانى الدقيقة والأهداف المطلوبة، لا مندوحة لهم عن تعلم لغتها.. والتعامل السليم مع النص القرآنى يقتضى فهم النص وإدراك مقاصده ومراميه.. شعر شكسبير إذا ترجم إلى اللغة العربية يفقد نصف قيمته الأدبية؟ لأن قيمته فى أصله، وليست القيمة عندنا نحن.. وفى جميع اللغات للأصل قيمة خاصة، والترجمات تخضع لتحريفات كثيرة. نعود إلى القول: بأن القرآن نزل عربيا، بلغة العرب.. ورسالة القرآن رسالة شاملة وعالمية.. فكيف يمكن أن يكون الخطاب القرآنى عالميا، وهو باللغة العربية، مع أن الأقوام الآخرين لا يعرفون العربية؟ أثار الزمخشرى السؤال نفسه وأجاب عنه، قال فيما أذكر: إن التراجم تغنى فى هذه الحالة، لكن فى البلاغ لابد أن ينزل بلغة من اللغات.. وكونه ينزل بجميع ص _192(1/199)
لغات الأرض دفعة واحدة، فهذا يعنى أنه يحتاج إلى مائة نبى مثلا لكى ينزلوا ويتكلموا بلغات أقوامهم. لابد أن ينزل القرآن بلغة وحيدة، وعن طريق هذه اللغة الوحيدة، واستيعابها للمعانى، وقيام أهلها بالفهم، يصدر عن طريق الترجمة والبيان لجميع اللغات الأخرى، وبهذا يمكن أن أنقل للناس معانى القرآن.. القرآن فيه أمران: أهداف رئيسية، ومحاور، أو أحكام يمكن نقلها بدون حرج.. أما ما يصنع هذه الأحكام من الأسلوب القرآنى كله، يبقى فى الأصل.. فلا تحتاج الأمم الأخرى إليه.. فأترجم مثلا: المواريث، الحدود، خلاصة للقصة القرآنية.. أترجم خلاصات لأشياء كثيرة.. لكن الأساس يبقى: أنه كيف ينزل للعالمين بلغات كثيرة عالمية؟ هذا مستحيل.. ينزل بلغة واحدة، بقوم معينين، ثم ينقل عنهم، ويترجم، أو يفسر.. فلا أقدم للناس قرآنا مترجما، ولكن أقدم لهم، وأصدر أحكاما وقيما، وبعض السلوكيات المطلوبة فقط. لم تنفصل اللغة العربية عن الإسلام مذ طلعت على العالمين شمسه، فقد أصبحت جزءا منه يقوى ويضعف بضعفها! بل إن القضاء على العربية هو حكم على الإسلام نفسه بالموت.. وقد عمل الاستعمار العالمى على ذلك بدحرجة اللغة العربية إلى أسفل السلم التعليمى، وإبعادها عن آفاق الحضارة الحديثة، وتشجيع ساسة أو أساتذة استعجمت ألسنتهم وأخلاقهم، وأمسى حديثهم بالعربية مثار استهزاء.. والمعروف فى تاريخنا من بدايته الأولى، التسوية بين علوم الدين وعلوم اللغة، وتدريس هذه إلى جانب تلك، وتيسير التعريب لكل راغب فيه ورفع مكانته المادية والأدبية.. ومع أن الفرس بقوا فى بلادهم محافظين على لغتهم القديمة، فإن من أراد منهم السيادة بين جماهير المسلمين تعرب، وتبوأ ما شاء من مناصب القيادة على أساس أن العربية لسان لا عرف..! وشىء وحيد مؤسف وقع فى تاريخنا ـ فى ثلثه الأخير ـ فإن الأتراك وضعوا أيديهم على الخلافة الإسلامية الكبرى، وأبوا أن يبقوا تركا بلغتهم الأولى، ولما كان ص(1/200)
_193
الإسلام عربى اللسان والثقافة فإن فجوة وقعت بين السلطات الحاكمة والشعوب المحكومة، كانت سببا خطيرا فى انهيار المسلمين جميعا دينا ودولة.. ثم إن العبادة فى الإسلام تشمل العلم والعمل جميعا، فليس هناك لغة للعلم وأخرى للعبادة. كل فج للمعرفة فى أرجاء السماء والأرض هو عبادة، وعلم الفقه ليس أقرب إلى الدين من علم الحديد، فالحقيقة وسياجها شىء واحد.. ومحاولة المستشرقين والمبشرين وأعوا نهم من جلدتنا أن يجعلوا الطب إنجليزيا، والهندسة إنجليزية، هى ذريعة للقضاء على علوم التفسير والحديث يقينا، إن لم يتم اليوم فغدا.. واللغة العربية تستطيع استيعاب جميع علوم الحياة، وقد ظلت ألف سنة محيطة بكل ثقافة فى العالم، على حين كانت الألسنة الأخرى تخطو بخطى الأطفال على ظهر الأرض.. ومعلوم أن الاشتقاق والنحت كفيلان باستقبال كل جديد مما يخترعه البشر هنا وهناك.. إن الهزائم النفسية والدينية التى محقت الشخصية العربية عند بعض الناس هى التى أهانت اللغة العربية، وحطت من قدرها، ويوجد الآن ساسة يجيدون كل رطانة ويلوون ألسنتهم بشتى اللغات، فإذا تكلموا بالعربية وجدت أطفالا يتعثرون، ويجمجمون ويلحنون، ولا يحسنون أدنى حياء، لأ نهم فقدوا عزة الإيمان، بل فقدوا كرامة الإنسان: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام دور اللغة فى إدراك مقاصد النص القرآنى وصياغة وحدة الأمة هناك قضية، أرى من المفيد إثارتها، وهى أن اللغة كسبية أصلا، وليست قصرية.. وبمقدور أى إنسان أن يتعلم اللغة.. وقد تعلم كثير من غير العرب اللغة العربية، من أجل فهم القرآن، وإدراكه، ولهم فى ذلك كسب رفيع.. لأنهم اعتقدوا أنه لا يمكن الوصول إلى فهم القرآن إلا بلغته الأصلية.. والآن، أى إنسان يريد فهم أى كتاب، لابد له من تعلم لغته.. ولذلك أرى أن من مستلزمات فهم الإسلام أن يتعلم الناس العربية.. وقد تقبل الترجمة فى المراحل الأولى " لأنها يمكن أن تؤدى دورها لإفهام(1/201)
ص _194
الناس أبعاد العقيدة، وأنماط الحياة، والسلوك، والعبادة، وما إلى ذلك.. لكن، بعد ذلك، لابد أن يقود الإسلام إلى تعلم العربية لإدراك مدلول الخطاب الإلهى الذى نزل بلغة العرب.. ولا شك بأن الأمة الإسلامية أمة واحدة، وأن اللغة المشتركة هى وعاء لشعور الأمة، وصياغة له، وهى أوعية تفكير الأمة.. فإذا تعددت اللغات تخشى أن تتعدد الأوعية، وتتمزق وحدة الشعور، وبالتالى نفتقد بعض خصائص وميزات الأمة الواحدة نظرا لتشعب اللغات.. ونقطة أخرى أراها فى هذه القضية الهامة: إن علماء النفس يتكلمون طويلا عن علاقة التفكير بالتعبير، وأن اللغة ليست مجرد قوالب يصب فيها المعانى، وإنما تتأثر المعانى أيضا بالألفاظ.. والألفاظ تتأثر بالمعاني.. فهناك علاقة جدلية بين التفكير والتعبير.. فالتعبير قوالب التفكير.. إن كلا منهما يتأثر بالآخر. فإذا قبلنا الانتقال بالقرآن من اللغة العربية إلى لغات أخرى، فسوف يصاب التفكير، أى: يؤتى التفكير من خلال التعبير.. ونقطة أخرى أيضا: نرى أن كثيرا من المسلمين، ومن بعض الذين يقومون على أمر العمل الإسلامى اليوم، بردت الهمم عندهم فى تعلم العربية؟ واقتصروا على آيات يؤدون بها الصلاة تحت شعار: (نحن نفهم القرآن من خلال الترجمات)، ويقولون ـ باللفظ نفسه تقريبا ـ : ليس المهم إسلامية التعبير، أو عربية التعبير، وإنما المهم إسلامية التفكير، وليكن التعبير بأى لغة! فأنا أرى: بإطار نشر الدعوة، وإبلاغ الإسلام للناس، والتكاليف الشرعية، ونظريات الإسلام، ومقاصد الشريعة فى المحاور المتعددة أن نأخذ بالترجمة.. وتشكل هذه ابتداءً، مرحلة تعريف الشعوب بالإسلام.. لكن، انتهاء، لابد من تعلم اللغة العربية، لغة الأصل؟ لوحدة الفكر، ووحدة التذوق والتعبير، والتفكير، وصياغة الأمة وإلا، إذا سلمنا بالترجمة، وبأن الترجمات تغنى عن المعانى، فسوف تقع المشكلة، بل الكارثة! الترجمات لا تغنى أبدا.. وأنا أوافق على ما تقوله(1/202)
كله.. ص _195
قضايا مطروحة للنظر والرأي هناك بعض التعقيبات خطرت ببالى، أرجو أن أسمع رأيكم فيها: أولا: ما جاء فى القرآن الكريم من قصص، إنما حققت الشهود التاريخى لرحلة النبوة.. ونرى أن المقصد منها: تحقيق العبرة، والدرس للشهود الحضارى، وممارسته وبناء الفرد. وعملية التغيير، من الكفر إلى الإيمان، ذات أبعاد متعددة: تربوية، ونفسية، وعقلية، وهى عملية شاملة لجميع جوانب الحياة.. فلا يمكن أن يتم التعبير بالاعتماد على الجانب الفقهى، أو التشريعى فقط.. فلابد لنا من رؤية قرآنية شاملة. ثانيا: أهمية إعادة التصنيف الموضوعى للقرآن الكريم، بمعنى: إعادة تصنيف الآيات بحسب موضوعها من العلوم الاجتماعية (غير المحاور التى يتكلمون عنها منذ فترة طويلة وهى: العقيدة، والأخلاق، والتشريع، والمعاملات) ألا يمكن إعادة تصنيف الآيات على ضوء التفسير الموضوعى، أى: بحسب موضوعها من العلوم الاجتماعية؟ كيف يمكن جمع الآيات التى تتناول "القضية" لإلقاء مزيد من الأضواء عليها فى مجالات متعددة ليكون القرآن هو المورد الثقافى، أو تكون له صفة مرجعية للعلوم الإنسانية، لأن موضوع القرآن هو الإنسان، وليست الأحكام التشريعية والصفات والتعاليم الأخلاقية جزءا من الصورة؟ لاحظت فى القصص القرآنى، أن أول عرض لقصة آدم عليه السلام فى سورة البقرة، أن ما ذكر عن آدم فى السورة هو آخر ما ذكر فى القرآن الكريم كله " لأن قصة آدم ذكرت فى السور المكية: الأعراف، الكهف، الإسراء، ص، طه، وفى أماكن كثيرة.. لكن آخر ما ذكر عن آدم كان فى سورة البقرة، وهو أول ما يبدأ به الإنسان عندما يتلو القرآن من المصحف الشريف.. آخر ما نزل، أول ما يقرأ.. وهذا من غير شك، ترتيب إلهى، لحكمة قد نعرفها الآن وقد لا نعرفها.. لكن المهم أنه عندما يتحدث بعض الناس عن قصة موسى فى القرآن، أو عن المرأة فى القرآن، عن الجزاء فى القرآن ، عن العمل الصالح فى القرآن ، .. هى قضايا .. هذه(1/203)
القضايا ، يمكن النظر إليها من خلال دراسة الآيات التى نزلت بها ، تجمع أولا. ص _196
هذا ما أقصده: الجمع.. ففى علم الاجتماع، بعدما تبلور العلم وأصبح له أبعاد معينة، يمكن ـ من خلال فهمنا لهذا العلم ونظرنا فى القرآن ـ أن نلمح آيات لها علاقة بالمسألة الاجتماعية فنجمعها.. ثم تدرس هذه الآيات متجاورة، مستفيدين أثناء الدراسة مما وصل إليه العلم الحديث من وسائل ومناهج وفهم، وأبعاد فى الشخصية الإنسانية، لنكون من خلالها مرجعية معينة علم الاجتماع فى القرآن.. وكذلك المسألة التاريخية.. وغيرها من المسائل.. لقد قدم لنا الكسب العلمى، قدرات إضافية على إدراك أبعاد الآيات القرآنية، كما أن الآيات تربط مسيرة العلم بأهداف إنسانية، وهو ما يسمى اليوم بفلسفة العلوم. التفسير: نقل بدايات القرآن إلى ما يشغل الإنسان على ظهر الأرض حتى لا تكون آيات القرآن بمعزل عن واقع الناس وحياتهم.. نريد خطوة أكثر: إلى أى مدى يمكن أن تشكل هذه الآيات مرجعية للإنسان، ومصدر للمعرفة، ينطلق منها إلى هذه المجالات؟ يخيل إلى أن الذى يجمع ويفسر، هو الذى يكون جسرا لعبور البدايات إلى الناس، بقدر ما أوتى من إدراك " لأن الناس يتفاوتون في فهم القرآن تفاوتا عجيبا، ولذلك، فسر بعض الناس، آية: أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها بأن هذه أوان، دقتها وسعتها من عند الله، ينزل المطر فيملا الآنية الصغيرة، والآنية الكبيرة.. وهذا سر ما جعل على بن أبى طالب كرم الله وجهه يقول: إلا فهما يؤتاه رجل فى كتاب الله.. فهناك من يستطيع أن يفهم فى الكتاب أو فى السنة أفهاما يهدى إليها، ما يراها غيره، بل يستغربها عندما تساق إليه، وهو إنما أخذها من الكتاب.. فالتطبيق الحسن يجئ من فهم جيد، ثم تنزيل هذا الفهم على واقع الحياة.. ص _197(1/204)
التفسير بالمأثور.. والتفسير بالرأي هناك مشكلة قديمة جديدة، وهى: مشكلة النهى عن التفسير بالرأى.. وهذا النهى أورث لونا من التخوف، وأوجد حاجرا نفسيا يحول دون النظر فى القرآن، ومحاولة ارتياد آفاق حضارية تؤكد معنى الخلود للقرآن الكريم من خلال استمرار القراءة القرآنية لقضايا العصر.. وحرص بعضهم فى ضوء ذلك، على التوقف عند حدود التفسير بالمأثور، وعدم إتاحة الفرصة للعقل فى التدبر والنظر.. كما أدَّى هذا إلى لون من التجمد عند حدود الرؤية فى عصر التنزيل.. وهذا إن صح فى العبادات التوقيفية، التى لا تتطور، فلا يمكن أن يقبل فى شئون الحياة الأخرى المتطورة والتى لابد لها من الانطلاق والامتداد على هدى القرآن الكريم، والاغتراف منه على مدى الزمن بكل إنجازاته " لأن ذلك من مقتضى الخلود.. فقد تكون عملية تحريم الرأى بإطلاق، الناتجة عن النظر والتفكر فى القرآن، لونا من المحاصرة لامتداد القرآن وخلوده! فالناس أصبحوا يتلون القرآن للتبرك، وأصبحت هناك حواجز بينهم وبين التدبر، كلون من الألوان السلبية للنهى عن التفسير بالرأى، وعدم القدرة على استبانة الرأى الصحيح.. ويبقى التفسير بالمأثور مطلوبا ليكون من عواصم الزلل التى يمكن أن يقع بها التفسير بالرأى، من وجه آخر. أعتقد أن الرأى الذى نهينا عن تفسير القرآن به هو الهوى.. وهو أن يكون الإنسان سيئ النية أو متجها إلى مأرب من المآرب فيتلو القرآن، ويلوى عنقه كى يخدم هذا المأرب أو هذا الرأى.. وهذا هو المحرم شرعا . . لا أن يكون للإنسان رأى فى تفسير القرآن، مع ضوابط اللغة التى لا يمكن اختراقها؟ لأننا لا نحب أن ندخل فى شطحات المتصوفين التى ليس لها ضابط، بل هى خطرات قلوب، أدت بهم إلى أن يجعلوا للكلمات معانى أخرى لا ضوابط لها، فمثلا: فسروا قوله تعالى: اذهب إلى فرعون إنه طغى بـ : اذهب إلى القلب! وهذا كلام لا يقال... لكن المهم: أنه يمكن أن نفهم القرآن فهما اجتماعيا وسياسيا(1/205)
فى حدود ضوابط اللغة.. ص _198
قد يكون من المفيد أن نتحدث أولاعن:أهمية التفسير بالرأي. وثانيا:عن ضوابط التفسير بالرأى؟ التفسير بالرأى نوع من التفاسير، كالتفسير الأثرى، والفقهى، والكلامى، والبيانى، والصوفى، والعلمى.. ولعل التفسير الذى بدأ به الشيخ رشيد رضا نوع من التفسير الذى يجمع أنواعا من الآراء.. فهو مدرسة متعددة المناهج فى فهم القرآن.. فأنا أرى أن التفسير بالرأى لم يتوقف، بل بالعكس، فقد طغى التفسير بالرأى على التفسير الأثرى، وهناك عدد كبير من الناس يرى أن الاقتصار على ا!لتفسير الأثرى، يقيد الآيات. التفسير الأثرى لا يعرض للمشكلات البلاغية، والمشاكل الكلامية، وهناك أمور كثيرة، لا يتوقف عندها.. بينما التفاسير الأخرى هى التى دخلت بالقرآن إلى الحياة ومشكلاتها.. وأكاد أقول: إن التفسير الأثرى أخضع الآيات للأحاديث. وهذا قد يكون طبيعيا فى الأسانيد الصحيحة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين عن ربه. لكن المشكلة: أن بعض الأحاديث التى جاءت فى التفسير بالمأثور، تكون ضعيفة السند.. وهذا، أيضا، فى تفسير ابن كثير الذى نجد فيه بعضا من المتضادات.. فعندما يفسر قوله تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم يأتى بمتناقضات.. يأتى بحديث ضعيف وخفيف الوزن.. ويأتى بأحاديث أخرى تدل على أن الكحل فى العين والحمرة فى الخد، لا بأس بهما ولا مانع منهما.. فهو تفسير غير محقق، أو تفسير يحتاج إلى ضوابط وإلى تحقيق فى صحة الآثار وتفنيدها. ويؤسفنى أن أقول: إن بعض التفاسير بالأثر، بلغ أحيانا درجة من الإسفاف، فمثلا: ذكر قصة الغرانيق، وذكر قصة زينب بنت جحش على النحو الذى ذكر.. التفسير الأثرى يحتاج رقابة دقيقة عليه.. أما التفسير بالرأى، حيث يكون الرأى بيانيا أو علميا، أو لغويا، أو ما إلى ذلك، فإنه يأتى ثمرة للنظر والتدبر فى القرآن.. والتدبر يعنى: رأيا، ويعنى: فكرا واستنتاجا. ص _199(1/206)
والقرآن كتاب عربى ، يخضع للأساليب العربية فى الفهم، ولا نسمح إذا بالشطحات.. لابد أن تبقى الكلمة هى الكلمة.. لابد أن يفهم القرآن من خلال معهود العرب فى الخطاب، ومن دلالات الألفاظ كما كانت عند العرب. فكما تشرح أى قصيدة شعرية: الكلمات، والمجاز، والاستعارة، والتشبيه، والكناية، كل هذا يبقى فى نطاق الاصطلاحات العربية لا نخرج عليها، فمعنى أن القرآن عربى: هو أنه يخضع للفهم بالأسلوب العربى.. من ضوابط التفسير بالرأي هنا مجموعة من الضوابط التى رأيتها للتفسير بالرأى: الضابط الأول: الالتزام بفهم القرآن من خلال معهود العرب فى الخطاب. الضابط الثانى: استصحاب الصحيح من المأثور ليكون وسيلة معينة على الفهم، وضابطا من خطرات القلوب ومجازفات الهوى. الضابط الثالث: التعرف على أسباب النزول لتكون وسائل إيضاح معينة لتعدد الرؤية وتنزيل النص على الواقع المعاش. الضابط الرابع: عدم الخروج على قواعد المنطق والعقل السليم، أو ما تقتضيه الفطر الصحيحة، ودلالة الألفاظ، والصيغ. الضابط الخامس: عدم الخروج بالتفكير أو بالرأى عن المقاصد العامة التى حددت فى القرآن على أنها مسلمات. الضابط السادس: الاستفادة من الكسب العلمى، والحقائق المعرفية فى ميادين الحياة الاجتماعية وغيرها ـ والتى أصبحت حقائق ـ أثناء النظر للآيات، وفى الوقت نفسه جعل الآية قيمة عامة موجهة لحركة النظر والفكر.. فالعملية هنا مزدوجة؟ إذ ليس الكسب البشرى والمعارف هى التى تتحكم بالآية.. إنها تساعد على فهم الآية، فى الوقت الذى تبقى فيه للآية قيمة التوجيه، وتحديد الهدف والمقصد من العلم. أمية الأمة.. وأمية الشريعة: هناك قضية هامة وردت فيما سبق، وهى قضية أمية الأمة، وأمية الشريعة، التى أتى الشاطبى على ذكرها.. وهى قضية خطيرة، إذا أخذناها على إطلاقها تؤدى إلى ص _200(1/207)
محاصرة العقل.. فهل يُعقل أن تكون هذه "الأمية" خالدة ؟ أم أنها مرحلة مؤقتة، كان العرب عليها، ومن ثم انتهت وأصبحت الأمة تكتب وتحسب ؟ وأرى أن الأمة، فى مرحلة من حياتها، وقد تكون أمية لا تقرأ، ولا تكتب ولا تحسب، ثم يتغير حالها إلى مرحلة أخرى، فتصبح أمة عالمة قارئة.. فهل يمكن أن تبقى الأمة متوقفة على الوسائل الأمية فى النظر والحكم والعلم ؟ الأمة اليوم أصبحت تقرأ، وتكتب، وتحسب.. فالتقرير على أن الأمية صفة قسرية، أو ملازمة للأمة، وأن الأحكام يجب أن تبقى مناسبة لمرحلة الأمية ؟ أظن أنه أمر يتعارض مع طبيعة الحياة، وسيرورتها، كما يتعارض مع خلود الرسالة وقدرتها على الاستجابة لدواعى العصر. وأمر الإصرار من بعض العلماء على "الأمية" عجيب! وهو ما أدّى إلى التعسف والتوقف عند بعض المفهومات وعدم تجاوزها.. "إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب " ! لكن هل هذا يعنى أن تبقى الأمة أبدا لا تقرأ، ولا تكتب، ولا تحسب؟ وهل هذا يعنى أيضا أن نبقى بعيدين عن الكسب العلمى، وكانت أول آية نزلت تفرض التعلم والتحول إلى القراءة والكتابة ؟ والسؤال أيضا: بعد نزول القرآن، هل تبقى الأمة أمية ؟ لقد كانت أمة أمية، ثم جاء هذا العلم المزدوج المضاعف الكثير من كتاب الله، فكيف تبقى أمية بعده ؟ هذا مستحيل.. والسؤال هو: هل كلمة "أمية" التى وردت فى الحديث نسبة للجهل أو الأمة ؟ فاليهود يرون أن "النبى الأمى" تعنى: النبى المبعوث من غيرهم، أو من بقية العالم.. ويخيل إلى أن المقصود "بالنبى الأمى" النبى الذى خرج بعيدا عن الدائرة التى كان يؤخذ منها الأنبياء، وهى إسرائيل، وإن كان هناك أنبياء عرب . والمعروف أن القرآن علم، بل هو العلم.. والتعبير عن أنه العلم موجود فى آيات كثيرة:( ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ) ص _201(1/208)
ولما سأل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبى بن كعب عن أفضل آية عنده، قال: آية الكرسى. قال له: " والله ليهنك العلم أبا المنذر" . ويقول تعالى: (وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ) فالعلم هو صفة القرآن.. وصفة المشتغلين به. فكيف يقال: إن الأمة أمية مع القرآن؟ هذا مستحيل. والقرآن نفسه وجه لاقتحام أسوار الحياة والتغلغل فى أسرارها، ومجال العلم الإلهى فيها والحكمة الإلهية فيها. فكيف يُقال: إن الرسالة أمية ؟ ألا يمكن أن يكون هناك أفق آخر للقضية، وهو: أن التكاليف والعبادات وما إلى ذلك، يمكن أن تكون لها صفة العموم، وتشمل الناس جميعا بمختلف مستوياتهم الفكرية والعلمية، والرسالة ميسرة لكل بحسب كسبه . كأنى ألمح من بعض الوجوه أن التعاليم الإسلامية كالأمر بالصلاة والصوم.. الخ لا تستدعى سرية معينة من الكسب العلمى حتى يستطيع الإنسان أن يدركها، وإلا كيف يمكن أن نخرج ذلك من الأمة الأمية. المدرسة التى تعلم المسلمون فيها هى الصلاة. وتعقيبا على ما ذهب إليه الشاطبى، أقول: إن العرب إذا كانوا فى ذلك العصر، أمة أمية، فالأمية لا يمكن استمرارها.. هذا شىء. والشىء الآخر: أن الخطاب ليس للعرب ولكنه للناس جميعا ـ المتعلم وغيره ـ كما أنه ليس لزمان واحد فقط.. ص _202(1/209)
كان العرب أمة أمية.. وكان الفرس والرومان هم المثقفون.. وعندما أنظر إلى الفرس والروم أجد أنه كانت لديهم جهالات ربما لم تكن موجودة عند العرب.. وربما كان العرب أحسن أخلاقا من الروم والفرس، فى جاهليتهم تلك: ( الله أعلم حيث يجعل رسالته . قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إنا أمة أمية" ـ أى تجهل الكتابة والحساب فى عصر معين- لا يقتضى أن تبقى أمية دائما، والقرآن خطاب خالد مجرد من حدود الزمان والمكان. لا أدرى: ما مدى صحة حديث: " نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نحسب "؟ الحديث موجود فى كتب الحديث.. لكن لست خبيرا بالرجال، ولابد من التحقيق فى الموضوع، والجمع بين الآثار.. لكن هناك أمر لابد أن أذكره من باب الأمانة، وهو: كان عندنا محمد أحمد عثمان، رئيس جمعية مكارم الأخلاق، ووكيل الجمعية الشرعية فى مصر، ذكر حديث السحر، وقال الحديث سنده فيه كلام.. ووضح أن فلانا عن أبيه ضعيف.. أى أنه ضعف السند الذي روى به البخارى حديث السحر.. فأنا ارتبت فيما يقوله الرجل من ناحية الإسناد، حتى وقع هذه السنة كتاب فى يدى لجماعة من المغاربة يكتبون فى السنة ومتخصصون في الكتاب والسنة، وهم جماعة الغمارى (أحمد وصديق الغمارى..) فوجدت بحثا فى الأسانيد استوقفنى: الحابس الأعور متهم عندنا بالتشيع، ونعتبره ضعيفا، لا نقبل حديثه.. هو كان من بعض من طعن فيهم، الأعمش .. والأعمش كذاب.. وطعن فيه، لأن الأعمش كان يعمل لحساب بنى أمية، وكان الحابس ممن يفضلون عليا، لكنه لم يكن متشيعا، وكان من الصدق حتى إنه لم يتحدث أحد بأنه كان كذابا.. وتكلم الكتاب عن الحابس وقال: إنه أفضل من عدد من رواة البخارى.. الأعور ما اتهم بوضع، ولا اتهم بكذا وكذا.. وجاء بأسماء: فلان عن فلان، وفلان متهم بأنه كذب ووضع، وفلان كذا.. الخ. ص _203(1/210)
أنا اندهشت مما جاء فى هذا الكتاب.. واستبقيت الأمر فى نفسى إلى أن قابلت الشيخ عبد الفتاح أبو غدة وهو من علماء الحديث. قلت له: أريد أن أعرف منك حكاية قرأتها، وبحاجة لأن أعرفها.. الذهبى عندما مر بحديث: "من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب " قال: لولا جلالة الحافظ أبى عبد الله البخارى ، النفس فيها شىء من هذا الحديث، لكنى لا أكذبه.. فالذهبى لا يريد أن يقول إن فى الحديث كلاما، لكن هناك من قال: إن فى رواة البخارى كلاما.. وذكرت له فلانا وفلانا.. ونفس الأسماء التى وردت فى كتاب المغاربة.. فسكت قليلا ثم قال: هذه الأسماء أثيرت حولها شكوك لكن تجاوزوها وليس لها قيمة.. قلت له: لماذا؟ إذا كان هناك شخص متهم بالوضع؟ وفى رأيى أن الكلام فى بعض رجال الصحيحين له أصل، والذين رفضوا بعض أحاديث فى البخارى أو مسلم لهم عذرهم.. كل القراء تقريبا وكل المصاحف تقول: إن المعوذتين سورتان مكيتان، وكلام البخارى يفيد أن المعوذتين مدنيتان، ومن آخر ما نزل! ص _204(1/211)
ففكرة أمية الأمة، وأمية الشريعة، والإصرار على بقاء المرحلة البدوية واستمرارها، مرفوض.. فأمة تستقبل القرآن لابد أن تكون أميتها قد زالت بهذا القرآن نفسه... فإذا كان القرآن يدل على مصادر معرفة فى أساس المنطق الحديث، وأساس حضارة أوروبا، فكيف تكون الأمة أمية، هذا أمر مستبعد. القرآن لم ينزل على العرب وحدهم، ولم ينزل لفترة معينة، وإنما هو خالد عبر الزمن.. فكيف يمكن أن ينفع أصحاب الكسب العلمى والمعارف العلمية فى المستقبل، إذا اعتبر خطابا أميا للأميين؟ والأمر العجيب: أن الشاطبى، على الرغم من قدراته العقلية فى تحديد مقاصد الشريعة، قال بهذا! ربما كان الشاطبى بقوله ذلك، يكابر ناسا من جماعة الإعجاز العلمى الذين يحبون إدخال القرآن فى كل شىء.. فالرجل ربما قالها من باب توقيف هؤلاء، مثل عبد الرزاق نوفل ، الذى جاء بمئات الآيات فى إعجاز القرآن العلمى، ولا صلة لها به. يبدو لى والله أعلم، لو أسميناه: "التفسير العلمى"، لأنه من خلال الكسب العلمى يمكن للحقائق العلمية أن تعطى لنا بعض الإشارات التى تجعل الآية أكثر إدراكا، وأكثر فهما، من خلال قوله تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق) فأتصور القول بالتفسير العلمى أفضل من القول: بالإعجاز العلمى.. عندما تكلم عبد الرزاق نوفل عن أن أساس الفحم النباتى والبترول، أعضاء عضوية وحيوية، وجاء بالآية: (والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى) ، وجعل من هذه الآية دليلا على أن البترول والفحم النباتى، أساسه النباتات والحيوانات، وهذا كلام غير مفهوم وفيه تعسف.. ويستدل على كروية الأرض بقوله تعالى: (أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون * أوأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون) ص _205(1/212)
ويقول: إن الضحى هنا هو الليل هناك.. وبالتالى فالأرض كروية! وهذا نوع من التكلف. بعض الآثار، وردت فى النهى عن الرأى فى القرآن، كقول أبى بكر رضى الله عنه: أىُّ أرض تقلنى، وأى سماء تظلنى إذا قلت فى القرآن برأيى؟.. وحديث آخر: " من قال فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ " ، و " من قال فى القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار " .. هذه الآثار ألا تلغى النظر فى القرآن وتدبره إذا أخذت على ظاهرها؟ الرأى هنا: النية السيئة، والرغبة فى سوق القرآن إلى هدف غير سليم.. هذا ما أعتقده.. ص _206(1/213)
القرآن والزمن لو تتبعنا رحلة المفسرين حسب العصور، نرى أن علماء كل عصر، من خلال معارفهم وكسبهم العلمى، عندما ينظرون فى القرآن يعودون بمردود إضافى متوافق مع آفاقهم العلمية والحضارية.. ولو أخذنا نماذج من المفسرين من كل عصر، لو جدنا أنه أضيفت معان للرأى من خلال كسب البشر والتقدم العلمى، وما إلى ذلك.. فقدره القرآن على عطاء الزمن، دليل خلوده.. فالقرآن لا تنقضى عجائبه.. وكلما اكتشفت آية من آيات الآفاق والأنفس، دلت على خلود القرآن وحقائقه: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) بل، لعل المزيد من الاستدلال على أحقية الرؤية القرآنية إنما تحقق فى المكتشفات فى مجال العلوم والنواميس الكونية والسنن والعلوم الإنسانية.. أقسم الله سبحانه ثلاث مرات بالكون على عظمة القرآن.. أقسم أولا: بمواقع النجوم، وأقسم ثانيا: بما نبصر وما لا نبصر، وأقسم ثالثا: بالمجرات ودورانها. كل جيل، استطاع من خلال كسبه العلمى، أن يقرأ هذه الآيات، فيدرك فيها أبعادا لم يدركها من سبقه.. ونخشى إذا قلنا مع من يقول: بأن القرآن أدرك كله فى جيل معين فقط، أن نحاصر القرآن، ونلغى خلوده! فإمكانية العطاء متوفرة فى كل عصر، على ضوء الموقع، والكسب العلمى الذى يصل إليه الناس، وما يظهر من علوم، وقد يكون الكسب العلمى والمعرفى المتجدد، مفاتيح لفهم أدق، وإدراكا لأبعاد الآيات ومراميها بشكل أفضل.. وكيف أنه فى كل عصر يغترف الناظر فى القرآن ما يمكن أن يسمى معالجة للمشكلات التى يعانيها.. هناك إجماع بين المسلمين على أن القرآن، من ناحية الطول، يستغرق الزمن كله، بل يتعدى الزمن، يقول الرسول عليه الصلاة والسلام: "يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل فى الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرأ بها " فكأن القرآن امتداد للزمن تجاوز هذه الحياة، إلى أنه سيقرأ فى الجنة . ص _207(1/214)
وامتداده العرضى يشمل الأجناس كلها.. نحن الآن فى القرن الخامس عشر للهجرة، لكن الأجناس متفاوتة فى ذكائها، ومستواها العلمى. وممكن لكل من هذه الأجناس أن يصل إليه القرآن، ويتجاوب معه، ويفهم منه. العبارة القرآنية فيها مرونة تجعل معانى كثيرة تخرج منها أو تتحملها الآية.. وهذا ما أشار إليه الإمام على كرم الله وجهه عندما قام ابن عباس وجادل الخوارج: "لا تحاجهم بالقرآن، فإن القرآن حمال أوجه.. " فكلمة "حمال أوجه " هى فى الحقيقة تشير إلى طبيعة الصياغة القرآنية.. وكان لابد أن تكون فى الصياغة هذه المرونة لكى تبقى وتكون ممتدة مع الزمن.. ففيها مرونة ظاهرة بحيث أنه إذا تكلم فى التاريخ أو تكلم فى وصف أرض، أن تكلم فى شئ، تنزل عبارة لها نسيج معين بحيث يمكن أن يستقبلها العبقرى ويغوص فيها، ويمكن أن يصل إليها العامى ويستقر عند حدودها الأولى. فهذا من خصائص القرآن الكريم. وقد لاحظ هذه الخصائص كل متذوق للقرآن. وأظن الشيخ دراز كتب عن هذا فى كتابه "النبأ العظيم ". فالكتاب لكى يكون للزمان كله، وللعقول كلها، وللقلوب كلها، كانت صياغته فيها هذه المرونة العجيبة التى تجعل كل الناس مهما تفاوتوا يستريحوا إليه، وينبعثوا عنه وهم راضون.. ولذلك، نرى قفزة العلم فى عصرنا هذا، وبالذات فى الخمسين سنة الأخيرة، فقد تضاعف العلم البشرى أكثر مما تضاعف خلال الزمن كله، ومع هذا يبقى القرآن، ولو أن إينشتاين قرأه لما وجد فيه ما يناقض العلم الذى اكتشفه فى الكون، بل لوجد أن خالق الكون كما رآه هو فى ثنايا البحث المادى، هو منزل هذا القرآن الذى يشعر قارئه بأنه حكيم وعليم وعظيم، بقدر ما فهم هو من دراسته الكونية. فأجد أن أى عبقرى ـ من علماء الحياة والكون ـ يقرأ القرآن، يشعر بأن خلق الكون وإنزال القرآن من مصدر واحد.. هذه خصائص القرآن.. بينما أنت تقرأ ص _208(1/215)
القرآن كأنك تتلقى من مشرف عليك، وتسمع صوتا كأنه صوت الملك.. بينما تشعر بهذا وأنت تقرأ القرآن، تقرأ الكتب الأخرى التى تنسب إلى السماء، وتشعر بأنها دونك أحيانا، وأنك تشرف عليها بقلمك الأحمر لتمحو وتثبت.. لتصحح تاريخا أو واقعة أو قد تحذف أمورا يندى لها الجبين.. مثلا، عندما أقرأ لسيدنا سليمان: أدهش! أنا لى أصدقاء من كتاب الأدب المكشوف، ما لديهم الجرأة على أن يقولوا الكلام المكتوب فى بعض الكتب السماوية المعمول بها اليوم.. وهذا ليس كلاما بشريا عاديا فقط، لكنه دون كلام البشر العادى.. أضف إلى ذلك: الجملة.. فمثلا، أقرأ فى أول جملة فى القرآن: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، فأفهم فى أول حياتى أن الكتاب ليست فيه ريبة.. لكن بعد أن أدرس قصة التواتر، وبعد أن عرفت كيف سطا الزمن على كتب أخرى، وكيف نال منها، وكيف بقى هذا القرآن مصوتا لم يتغير منه حرف. اطمأننت اطمئنان الموقن: أنه ليس لله وحى فى هذه الأرض غير القرآن. فكلمة ( لا ريب فيه ) وسعتنى وأنا صغير: أفهم أن الريبة الشك وعدم الصحة، لكن وسعتنى وأنا كبير أعرف الأصول التى يستند إليها الكلام لكى يكون مقبولا، إن كانت فى السند، أو كانت فى المتن.. أنا مع المتن أشعر بأن القرآن لا تناقض فيه أبدا، بينما أشعر فى السند بأنه تواتر القرون، فما أستطيع أن أجد مطعنا لا فى ثبوته، ولا في دلالته ومعناه: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا. فهم القرون الأولى تبدو لى هنا أن مقولة: بأنه لا يمكن أن يتأتى للفهوم القادمة ما تأتى لفهم القرون الأولى الذين عاصروا التنزيل، وأدركوا اللغة، وعايشوا الوحى، وجلسوا بصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، لا يمكن أن تقبل بإطلاقها.. ومن كل وجه، لا شك أن جيل الصحابة الذى اختير ليكون محل الرسالة، والقاعدة البشرية الأولى، وعاصر التنزيل، وعايش الوحى، وصاحب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وامتاز بسلامة(1/216)
اللغة، ص _209
وصفاء السليقة، يتميز على القرون اللاحقة بإدراك مدلولات النص القرآنى (الوحى).. وأن السلامة فى فهم الوحى تتحصل، كلما اقتربنا من عصره واتجهنا صوب الماضى واتصلنا بالينابيع الأصلية، عكس المعارف العلمية الأخرى، فقد تكون الصحة أكثر كلما اقتربنا من المستقبل حيث يصوب العلم زلته التاريخية. لكن هذا لا يجوز أن يمنع من النظر، والامتداد بالرؤية القرآنية، وتعديتها على ضوء الكسب المعرفى، وألا يفتقد النص القرآنى خلوده وقدرته على مخاطبة الزمن ومشكلاته.. ويبقى فهم القرون الأولى للقيم الضابطة للوحى هو الأصل الذى لا يجوز القفز من فوقه.. لكن هل هو نهاية المطاف الذى لم يدع استزادة لمستزيد فى مجال المعاملات، وامتداد الحضارات، وطوارئ المشكلات؟ القرآن مطلوب النظر فيه.. والعلم يتقدم.. والفهوم تتقدم. ونحن نستصحب الفهم الأول ولا نخرج عليه.. لكن هناك أبعاد أخرى: نخشى أن يفهم بعض الناس أن التوقف عند حدود الفهم الأول، وعدم الامتداد، وتعدية الرؤية، لون من التجمد للقضية الإسلامية، وللقرآن أيضا؟! أظن أن النبى عليه الصلاة والسلام حسم هذه القضية عندما قال: "فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". وحامل الفقه من عصره، وهو الذى كان يقول لهم: "بلغوا عنى"، فقد تبلغون إلى من هو أكثر منكم فقها.. "فرب مبلغ أوعى من سامع ". القرن الأول يتميز بشىء، وهو: كثرة الذين صلحوا فيه، وكثرة الذين انتفعوا بأنوار النبوة. لكن العصور الممتدة التى جاءت بعد، فيها من غير شك عمالقة فى فهمهم، لا يقلون عن العصر الأول.. لكن هل المستوى العام لهذه القرون، كان كالمستوى الأول، أو كالعصر الأول؟ هنا يأتى التفاوت.. وهذا هو المعنى الذى تحدث عنه القرآن عندما قال: ثلة من الأولين * وقليل من الآخرين. فالثلة من الأولين واضحة: صاحب الرسالة ومن معه، الذين غيروا الدنيا تغييرا حاسما. وهناك قلة من الآخرين. لكن القلة تشعر بالغربة بالنسبة للمحيط(1/217)
الذى تعيش فيه.. وقد يكون المحيط من الناحية العلمية متميزا، لكن الإنسان ليس عقلا ص _210
فقط ، الإنسان قلب. وربما كان هناك علماء تغلب عليهم السجية، وربما كان هناك من دونهم ذكاء ولكن تغلب عليه الفدائية.. الكمال البشرى يُنظر فيه إلى جوانب متعددة.. ولهذا فإن عظمة القرآن تبقى، يكتشفها إلى آخر الدهر من يبقى صاحب عقل مشرق ملهم مستنير، وكما جاء فى الحديث: " أمتى كالغيث، لا تدرى أوله خير أم آخره " . فلعل فى الآخرين من يدخل فى النطاق الذى كان النبى عليه الصلاة والسلام يتشوق إليه ويقول: " وددت أنا قد رأينا إخواننا " يقولون له: ألسنا إخوانك ؟ قال: " أنتم أصحابى " .. فمن هم الإخوان الذين يتطلع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أن يكونوا معه، ويحب أن ينظر إليهم؟ لاشك ناس كانت صلتهم بمعجزته العملية والأدبية والبيانية التى هى القرآن، كانت صلة عميقة جدا، استدرجوا الوحى بين جنوبهم، واستطاعوا أن يفسروه فى عصور المعرفة والتقدم العلمى بما يجعل الإسلام يمتد ويشتد، وهذا كسب كبير. هذا جانب من القضية.. لكن الجانب الآخر، هو أقرب لأن يكون فلسفيا منه أن يكون استقراء لواقع: أنه طالما أن القرآن خطاب الزمن كله، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، خطاب الأجيال، والأجناس، والعلماء، والمستويات الحضارية المتفاوتة " فلا يمكن منطقيا، بحال من الأحوال ـ وقد يتعارض هذا مع خلود القرآن وعالميته ـ أن نجمده عند فهم عصر معين.. التجميد غير وارد. لكن الانطلاق لابد أن تكون له ضوابط.. نحن لسنا مع ما يسمى بأدب البرج العاجى، نحن مع الواقع البشرى.. والقرآن يناسب الزمن والمكان كله.. كل ما هنالك أننى أحب أن أذكر وأؤكد أن القرآن كتاب عربى، وأن الخصائص العربية: الجملة والتركيب والمفردات، لا يمكن أن تتجاوز وتمحى. نحن نستصحب فهم الجيل الأول، ولابد من ذلك لأن تراكم المعارف أمر ضرورى جدا . ص _211(1/218)
لا تنسى أن هناك أمورا لا صلة لتراكم المعرفة بها.. هناك فرائض كالصلاة وغيرها من العبادات، لكن مما يتصل بالآفاق الأخرى: الكون، والحياة، والعلوم الإنسانية، لابد من أن نفهم أنه سيكون أكثر من العصر الأول، وأن العصر الأول وقف فيه عند حد، وأن العصور المتأخرة لابد أن تزيد، ذلك أن القرآن تكلم مرتين عن المستقبل، وقال فى آخر سورة النمل : (وقل الحمد لله سيريكم آياته فتعرفونها وما ربك بغافل عما تعملون) وفى أواخر سورة فصلت يقول: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) فهذه الإراءة التى تكون فى الأنفس والآفاق، مع الزمن المقبل وليست مع الزمن الماضى، يكسبها الله لمن شاء من عباده عن طريق تفسير هذا القرآن وعن طريق بيان تطابق القرآن مع الإبداع الأعلى لهذا الوجود الذى نعيش فيه. ص _212(1/219)
القرآن والعلم لم يكن العلم بمعناه المدرسي موضوع القرآن، وإنما كان موضوعه: الإنسان وهدايته.. فالقرآن محله الإنسان، والعلم هو الموقع الذى ينظر الإنسان إليه ويكسبه بهداية الله.. وهناك بعض الحقائق العلمية التى أشار إليها القرآن للفت النظر إليها، ودفع الناس إلى النظر والبحث والتجربة والملاحظة والكشف عن القوانين والسنن، وكيف يمكن الوصول إلى إدراك قوانين التسخير التى تحقق عمارة الأرض، وتمكن من القيام بأعباء الاستخلاف. ويبدو لى ـ والله أعلم ـ أن قدرة القرآن على العطاء حتى نهاية الزمن، إنما جاءت من كونه ليس كتابا علميا.. ذلك أن العلم ـ بالمعنى الدقيق للعلم التجريبى ـ فى تقدم وتطور، ويبطل نظريات، ويثبت حقائق.. وهذه مهمة الإنسان.. أما القرآن فمهمته: بناء الإنسان، وتجهيزه بالوسائل التى تعينه على الكشف العلمى من: الحواس، والعقل، والإدراك، ووضعه فى المناخ العلمى الذى يدفعه للاكتشاف.. لذلك لا نجد تعارضا بين الحقائق العلمية ومدلولات الآيات.. أما إذا أطلقنا العنان لمن يقول: بالتفسير العلمى، والتعسف بالتفسير العلمى، فسيثبت من العلم ما يبطل هذه التفسيرات، أو هذه الإعجازات التى توهمها بعضهم، أو حمل عليها الآيات فى عصر معين.. لنتفق أولا على أن القرآن ليس كتابا فنيا فى علم من العلوم، فهو كتاب فى هداية الإنسان، ولكن كلامه عن الكون والإنسان، يتفق مع العلم، لأن موضوع العلم هو الكون والإنسان.. فوحدة الموضوع متحققة بين القرآن والعلم. مثلا الشيخ نديم الجسر تكلم عن: "قصة الإيمان بين الفلسفة والعلم والقرآن " وهذا الكتاب من الكتب الجديرة بالاحترام، فهذه الوحدة فى الموضوع هى التى جعلت بعضهم يرى إعجاز القرآن علميا، ذلك أنه يكفى أنه مع تقدم العلوم، ما ذكر جملة لا يمكن أن يقف العلم عندها منكرا، وهذا هو المستوى الأدنى.. وهناك شىء نأخذه مما قررناه سابقا وهو: أن القرآن الكريم، ينظر إليه ربنا جل جلاله على أنه(1/220)
يضارع الكون، كأن الكون إذا وضع فى كفة، والقرآن وضع فى كفة، فكلاهما يوازى الآخر. ذكرت يوما أنه عندما أراد ربنا أن يتكلم عن بركته وامتداد نعمه، ذكر ص _213
مرة القرآن ومرة الكون: (تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير) (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا) وعندما أراد أن يذكر أنه أهل الثناء الحسن والحمد والشكران، قال: (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وقال: (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا) هذا التوازن بين الكون والوحى، يبقى لآخر الزمن، كلاهما يدل على الآخر. بين فلسفة العلوم وآلات فهمها هذا قد يعطى أيضا أنه لا يجوز أن يكون هناك انكفاء عن الكون بالنسبة للمسلم، فملكوت الأرض ليس بعيدا عن ملكوت الله.. بل هو جزء من ملكوت الله الواسع، وليس للإنسان المسلم المؤمن بالقرآن أن يدير ظهره للكون وما فيه من الأسرار، بل الكشف عنها ضرورة شرعية لعمارة الأرض وللشهادة على الناس، والقيادة لهم.. والآيات الكونية جزء من أدلة الهداية، والنظر فيها دين، وطريق إلى الإيمان الحق.. فالذى خلق الكون، هو الذى خلق الإنسان، وأنزل القرآن.. وما ذكرتم هو فى مصلحة ما نقول: من أن القرآن وضع الإنسان فى مناخ الكون.. حسسه بالزمان والمكان.. ولفت نظره للسنن الجارية فى الحياة والكون المادى.. أرى أنه يكفى القرآن إعجازا علميا، أنه وضع الإنسان فى المناخ العلمى، وفتح نوافذه كلها للنظر فى المعارف.. وأنا لا أستطيع، مع هذا، أن أقول: إن الكتاب كتاب فنى وضع قوانين علمية " لأنه ليس هناك قوانين علمية إسلامية، وأخرى. نصرانية.. قوانين الكشف العلمى واحدة.. فلا يجوز التجاوز فى التعبير، وليس لأحد أن يورط الوحى الإلهى فى هذا. يبدو لى، فى هذه النقطة، أنه لابد من التفريق بين أمرين: هناك: تقنية العلم، وآلات فهمه، وهذا قدر إنسانى، وكسب بشرى مشترك..(1/221)
وهناك هدف العلم ورسالته، وهى قضية أخرى.. ويمكن أن تحكم العقيدة هدف العلم، وتحدده، وتجعل العلم فى خدمته. فمن هذه الناحية، يمكن أن أقول: طب إسلامى.. الخ.. وأتصور، عندما نقول: إسلامى فالمقصود هو: لون من التحكم بالأهداف، ص _214
أى: توجيه هذه التقنية لتكون لها رسالة تنطلق منها، وتحقق أهدافا لصالح البشرية، أى: أخلاق العلم نفسه.. فعندما يتحدثون فى المعهد العالمى للفكر الإسلامى عن: إسلامية المعرفة، فالمعارف العلمية قد تكون واحدة، وآلات الوصول إليها قد تكون واحدة أيضا. لكن، حينما نقول: إسلاميتها، أو نقول مثلا: إسلامية العلم، فمعنى ذلك تحديد المنطلقات الفكرية على ضوء القيم الإسلامية، والتوجه إلى تصريف رسالة العلم لتحقيق أهداف معينة جاء بها الإسلام، والمطلوب توجيه النشاط العلمى فى اتجاهها.. كأن المقصود: فلسفة العلم وليس آلياته.. لا بأس.. لكن ضميمة أخرى لما تقول: لاحظت فى العلم المادى، أو العلم العادى: الإحالة إلى مجهول! وكثيرا ما تجد فى أصول الفيزياء والكيمياء: "س ". لكن إسلامية العلم تأبى هذا التجهيل فى أصل الخلق.. نحن نضع البذرة فى الأرض، فتنبت.. ما الذى ينبتها؟! فى علم النبات، يقولون: الطبيعة! أو يقولون: العناصر، و الشروط، و الظروف.. وكل هذا.. يجعله غطاء للقدرة العليا وما يصنعه الله.. أنا لا أتصور أن الأرض فيها صناعة حبة قمح.. تلك مشكلة! فكيف تضع مقادير نشا إلى جانب مقادير من السكر، إلى جانب مقادير من الفيتامينات والأملاح، وتلفها لفة فى سنبلة فيها سبعمائة حبة! فهل التراب الأعمى المطموس الذى لا يعى شيئا، هو صانع هذا؟! هناك عقل، وتدبير.. فكون العلم يغطى هذا ويمر ببرود، دون أن يتحدث عن الله، فهذا شىء فيه كنود.. هذا فى المقدمات حيث لا يمكن أن يتحقق التفاعل من تلقاء نفسه، وإنما له قانون لا يتخلف.. من خلق هذا القانون، وجعله جاريا على الشكل هذا دون ذاك؟ لكن، لابد من لفت النظر إلى أمر(1/222)
آخر وهو: أنه لا يكفى الإيمان بأن الله هو واضع القانون، ونقف عند هذه الحدود، بل لابد من الامتداد إلى مرحلة أن تكون النتائج والثمار محكومة بقيم وأهداف شرعها للبشرية واضع قانون الإنبات نفسه.. فإذا كانت العلوم أو الحقائق العلمية واحدة فى الدنيا كلها ـ كما أسلفنا ـ فإن القضية هى فى: من خلق هذا القانون الذى تسير عليه العلوم؟ ص _215
الأمر الآخر: أن هذه العلوم يجب أن تخرج من فرية مقولة: العلوم للعلم، والفن للفن.. لابد أن يكون للعلم رسالة وهدف.. ما هو هذا الهدف؟ ومن يحدده؟ وما هو المنطلق لهذا الهدف؟ هنا يأتى دور العقيدة لتضبط المسيرة العلمية، وتحدد المنطلق والهدف، فتجعل للعلم رسالة، وللحياة العلمية معنى، وللسلوك العلمى خلقا. هذا هو المطلوب من عملية أسلمة أو إسلامية العلوم، فيما أرى.. وعندما نقول: طلب إسلامى، فلابد أن يكون المقصود: التحكم بأهداف الطب.. مثلا: لو قلت: بأن العقلية الآن التى توجد هندسة البيوت تتجاهل بعض المعانى التى هى من لوازم الحياة الإسلامية من الستر.. الخ، فيمكن أقول: بأن الهندسة هندسة، من حيث: الخرسانة، والكميات والنسب، لكن أهداف العملية ورسالتها يجب أن تنظر فيها لتأتى التصاميم العلمية الهندسية محققة لقيم اجتماعية معينة فى الستر، والسكن، وعدم الأضرار بالغير، ومنع الهواء والشمس عن الآخرين.. وهكذا.. لاشك أن الهندسة فى العصور الوسطى، كانت محكومة بأخلاق إسلامية. ولذلك كان المهندس عندما يرسم خارطة البيت، يضع فى اعتباره أن العورات يجب ألا تكشف، والمطلع ببصره من بعيد لا يرى، ولذلك وجدنا مشربيات، وما يدخل الهواء ويمنع نظر المتلصص من أن يرى ما وراءها.. والآن، لأن الأوروبيين فيهم حيوانية موروثة من آبائهم الذين لا يرون حرجا فى أن يكون التمثال مكشوف السوءة! بل إن فلاسفتهم ما كانوا يرون حرجا فى الشذوذ، وربما فى مجالسهم الأدبية كانوا يقومون بهذه العمليات على أنها عمليات تنفيسية(1/223)
عادية.. لكن الإسلام عندما جاء سما بالقيم واحترمها.. هل يمكن أن نقول: بأن هناك علما، وفلسفة علم، أو أخلاق العلم، أو القيم التى يخدمها العلم، أو تطبع مسيرته؟ نعم.. العلم شىء غير أخلاقه وفلسفته التى ينطلق منها، وغير رسالته التى يؤديها فى الحياة.. فعندما أقول إن مجموع درجات زوايا المثلث 180ْ، فما دخل الدين فى هذا؟ لكن عندما ننقل هذه الحقيقة العلمية لتكون فى عملية هندسة البناء، تدخل فلسفة الإسلام فى توظيف هذه الحقيقة واستثمار العلم.. ص _216(1/224)
الشهود التاريخى.. والشهود الحضاري لقد عرض القرآن للتجربة البشرية من لدن آدم عليه السلام إلى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم من خلال القصص القرآنى، بما يمكن أن نطلق عليه: الشهود التاريخى.. أى حقق شهودا تاريخيا للأمة المسلمة، لرحلة البشرية، ليكون ذلك رصيدا لابد منه للأمة الوارثة التى انتهت إليها القيادة الدينية، لتعتبر به وتبنى عليه، بما يمكن أن نطلق عليه: " الشهود الحضارى ". فالقرآن، مصدق للكتب السماوية، ومهيمن عليها.. كما أن القرآن دعا للسير فى الأرض لمعايشة الحاضر ـ ولم يكتف بما نقل ـ للتبصر بأحوال الأمم السابقة والنظر فى سيرها، ومسالكها وتجاربها، لتحقيق الخبرة والدرس الميدانى.. ولم يرض للمسلم أن يقتصر على تاريخه الخاص، بل لابد له من الاطلاع على التاريخ العام للبشرية، وحسن إدراكه، لأن رسالته عالمية. فخطاب القرآن، عالمى.. ورسالته خاتمة.. وله بعد فى الزمان الماضى، والحاضر، والمستقبل.. وله بعد فى المكان بحيث يشتمل العالم كله.. ولابد من معرفة حال الخاطبين، ومعرفة التاريخ الذى يشكل مرآة حياتهم.. فنظرة المسلم، لابد أن تكون إلى العالم كله.. يستقرئ تاريخه، ويقرأ حاضره، ليتمكن من أداء دوره فى الشهود الحضارى الذى يمكن أن نسميه: الشهادة على الناس، والقيادة لهم. كما أن القرآن طلب من المسلم ـ إلى جانب الرحلة فى التاريخ الإنسانى، والتبصر بسنن الصعود والسقوط للمجتمع البشرى ـ أن تكون له رحلة أخرى فى الكون، ورؤية سنن الله كما فى المجتمعات والأنفس، لأن العدول عن النظرة فى الكون، ومعرفة سنن الله فى الآفاق، وحسن التعامل معها؟ موقع فى الرؤية النصفية التى لا تؤهل صاحبها للشهود الحضارى. وهنا يمكن أن نرتب على ذلك نتيجة أخرى، وهى: أن القرآن بسط نماذج من حضارات الأمم السابقة، وتجاربها، وعقائدها، ومسالكها الأخلاقية، وأنظمتها السياسية بمساحات كبيرة لتكوين الحكمة عند المسلم، التى تجعله ينتفع بتجارب(1/225)
الآخرين.. فهل يمكن أن نعتبر ذلك مؤشرا على ضرورة التبادل الحضارى، وإباحة الإفادة مما عند الآخرين بما لا يتعارض مع القيم الإسلامية، ص _217
وأمامنا اليوم تجارب بشرية بلغت الأوج فى بعض النظم، ولا أقول القيم؟ فإلى أى مدى يمكن أن نتلمس فى إشارات القرآن دعوة للانفتاح على الثقافات والحضارات العالمية. والاستفادة منها؟ لأنى أعتقد أن الغزو الفكرى شىء، والتبادل المعرفى شىء آخر؟ فى كتابى: " المحاور الخمسة" ذكرت ما قاله شوقى فى قصيدته: مثل القوم نسوا تاريخهم كلقيط عى فى الحى انتسابا أو كمغلوب على ذاكرة يشتكى من صلة الماضى اقتضابا القصص فى القرآن أوسع أبواب الكتاب الكريم ؛ لأن هذا القصص هو ماضى الإنسانية.. ولو فقدت أنا ذاكرتى أكون نصف مجنون، وسينتهى الأمر بى إلى الجنون.. والإسلام اعتبر أن التاريخ الماضى هو عقل الإنسانية. فاستصحبه لكل ما فيه.. والقرآن الكريم ذكر الحضارات الماضية، وذكر الأمم الأولى، وذكر أسباب الازدهار، وأسباب الانهيار، يقول تعالى: فاعتبروا يا أولي الأبصار. لابد أن أنظر إلى الماضى كله، سواء كان هذا الماضى يتصل بى كتاريخ خاص، أو يتصل بالبشرية كلها كتاريخ عام.. ثم أمر القرآن بالسير فى الأرض، لأنه يريد عقلا عمليا يستفيد من العصر الذى يعيش فيه ما يوسع آفاقه، ولذلك طلب السير فى الأرض بكثرة، سياحة ورحلة: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها هذا عقل يتكون من السير فى الأرض.. ( أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض ). لابد من الانفتاح على العالم.. الماضى انفتحنا عليه، بالقرآن وبالتاريخ الذى ثبت لدينا بمناهج التحقيق التاريخى، الحاضر يجب أن ننفتح عليه، بأمر وتكليف من القرآن.. وتقصيرنا فى هذا الانفتاح اليوم. ملحوظ ومعيب.. ص _218(1/226)
أما إنه ملحوظ ومعيب، فأنا آسف إذ أقول إن العرب ظنوا أن القرآن لهم، ولم يخدموا عالميته كما يجب.. خدمة العالمية قام بها بعض التجار، وبعض السياح، وبعض الذين يعبدون الله.. فخدمة القرآن من الناحية العالمية، جاءت شعبية ولم تجىء رسمية! وهذا خطأ بالعكس، حدث خطأ حكومى وهو أن الأمة الإسلامية استوردت ما عند الآخرين قبل أن تصدر ما لديها للآخرين.. وهذا خطأ.. كان يجب أن يتصدر لليونان والرومان تعاليم أو خلاصات، أو على الأقل ترسل من يعلم اللغة العربية، حتى تخدم عالمية القرآن! لابد أن يكون القرآن للبشر جميعا.. هذا حق.. والطريق أحد أمرين: إما أن تنقل التعاليم للغات الأخرى، أو تنقل أهل اللغات الأخرى إلى لغتك.. لكن قصرنا فى الأمرين. الأمم الأخرى التى عاشت بعيدا عن معالم القرآن هم بشر، وفيهم طباع البشر، ولهم رغبات يحبون أن يبلغوها.. هؤلاء بذلوا جهودهم واستطاعوا أن يصلوا إلى فلسفات سلوكية، أو قوانين إنسانية، أو بحوث علمية، أو اكتشافات كونية، مما لا نستطيع إنكاره.. إنهم غلبونا فى بعض المجالات. بل أستطيع أن أقول: إنهم غلبونا فى أمرين: الأمر الأول: اكتشاف قوى الكون لأنهم استطاعوا أن يأخذوا عنا قوانين التجربة والملاحظة والاستقراء كما سميتها أنت "التسخير" وما إليه، وانتفعوا بها.. الأمر الثانى: عندنا علوم إنسانية، وسائلها جمدت عندنا وتطورت عندهم. فمن حق العقلاء أن ينظروا إلى أفضل الوسائل هنا وهناك لخدمة المبادئ المشتركة والانتفاع بها.. هبنى جمدت الشورى عند سقيفة بنى ساعدة، أو مشورة الحاكم لبعض جلسائه، أو وزرائه، أو أصفيائه، أو أئمة يقتنع بجدارتهم! لكن هم استطاعوا أن ينظموا الشورى خيرا منا.. الوسائل عندهم كانت أحسن مما عندنا.. أنا لا أتعصب للقصور عندى، بل الحكمة ضالة المؤمن.. أنا أنتقى الوسائل التى بلغوا فيها مبلغا خيرا منى، وأنتفع بها فى خدمة الأهداف المشتركة.. لأن الفطرة الإنسانية تتفق على أن العلم(1/227)
خير، والشورى خير، والعدالة خير، والسلام خير.. فإذا كانوا هم يجتهدون ويصلون إلى وسائل أفضل، أكون مثلى كمثل النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ عندما قال : " لقد شهدت حلفا فى دار عبد الله بن جدعان، لو دُعيت إلى ص _219
مثله فى الإسلام لأجبت " وإذا كانوا هم قد وضعوا هيئة أمم، فلا مانع عندى من أن أشارك فى الهيئة، وأنتفع بها كمنبر للسلام، وإن كانوا هم قد انتفعوا بها كمنبر للنصب والاحتيال. وسائل الشورى: يستطيع أى إنسان أن يقول للحاكم هناك: من أنت؟ صلتم تفعل هذا؟ وصلوا إلى هذا بالأنظمة.. وأظن، طالبة قالت لرئيس جمهورية فرنسا ميتران: إننى انتخبتك، وربما أغير صوتى، إذا رأيتك تغيرت.. قيل منها هذا، وقال لها: أنت جديرة بالاحترام.. فعندما يبلغ الأمر بأنظمة الشورى هناك أن تعطى الفرد العادى القدرة التى كان الإسلام يعطيها للرجل العادى عندما وقف سلمان يقول لعمر: لا سمع ولا طاعة، ملابسك أطول من ملابسنا التى أخذتها وأنت أطول منا.. فقال: قم يا عبد الله بن عمر فأجبه. هذا الكلام كان يقال أيام التطبيق الصحيح للمبادئ الإسلامية. ثم اختفى.. ووجد من يروج، ويسوغ الاستبداد. فإذا حدث أن الوسائل الأوروبية أعطت الفرد العادى ما كان يعطيه عمر رضى الله عنه للفرد العادى، فهذه نماذج نتفق على أنها صالحة، ونقتبس ما لديهم من وسائل، ونترك جمودنا فى أيام الانحلال والضعف. وعلى هذا، لابد من دراسة الأمم الأخرى جميعا: تاريخها وأخلاقها، وعاداتها، ومعرفة من منهم المؤمن بما عنده، والكافر بما عنده، وما سبب إيمانه، وما سبب إلحاده، ومن هم العلمانيون؟ وكيف يتسلطون؟ كل هذا أحاكمه إلى ما عندى أنا من قرآن، وما عندى من ميراث النبوة.. وهنا ألاحظ أن هناك ميراثين للنبوة.. أنا أتجاوز الأحاديث الضعيفة لأنها ليست مصدرا ص _220(1/228)
معتمدا، والأحاديث المتصلة بالعبادات ؛ لأن مجال العقل والاجتهاد فيها محدود، إنما عندى وظيفة للرسول مطلوب إدراك أبعادها، فكما أن موسى كانت وظيفته تحريرية، يقول الله له: (ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور) كذلك، هناك رسالة تحريرية تنويرية لنبيّى أنا، بدأت بهذا الكلام نفسه: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) ما هى الأنوار التى أنقل الناس إليها، والظلمات التى أنقلهم عنها؟ إنها ظلمات الجهل، والاستبداد، والرذيلة، والفوضى، والتخلف.. إذا وجدنا أنوارا للشورى أو للمعرفة أو للنظام، أو مسائل اقتصادية مرنة، استطاع القوم بها أن ينظموا شئونهم، فأنا مكلف شرعا بأن أدرس هذا كله، وأن أجعل هذا في نطاق الفطرة الإنسانية التى هى الصفة الأولى لدينى: (فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها) وهذا هو الذى جعلنى أدرس فعلا فلسفات كثيرة، وأدباء كثيرين فى الخارج، وأنظر إليهم على ضوء الإسلام، وربما وجدت نزعات أقول بها: هذا مسلم. فعندما رأيت "فيكتور هوجو " يقول للكاهن الذى جاء إليه وهو يحتضر وينتظر أن يعترف طرده هوجو وقال له: أنا أؤمن بالله الواحد ولا أحتاج إليك، وقد تصدقت بما أملك!! قلت: هذا عمل رجل مسلم.. بهذا المنطق هو رجل مسلم.. وهذا أيضا ما جعلنى أقرأ ما كتبه "ديل كارنيجى" فى كتابه: "دع القلق وابدأ الحياة"، وأن أستخرجه من معالم الفطرة الإسلامية عندنا فى الكتاب والسنة، وأدب الكتاب والسنة كما تلقاه المربون ووضعه الفقهاء المسلمون.. فالعالم الآن، يمكن أن تنفتح عليه إلى آخر مدى، وتأخذ منه، وتتعامل معه أخذا وعطاء.. وكل ما هنالك أننى أفرق بين انحرافات الطبيعة البشرية.. وهذه الانحرافات موجودة بيقين. ص _221(1/229)
العلم الأمريكى وصل لاكتشاف الفضاء، لكن لكى تنتصر أمريكا فتهلك مليون شخص فى اليابان، فهذا شىء لا يطاق.. الضمير الأوروبى قد يكون قاسيا كالحجارة، وهو فى معاملته للشعوب التى بلغها، الفارق بينه وبين الإسلام كالفارق بين السماء والأرض، فهو دمر الناس (الجنس الأحمر فى أمريكا وفى استراليا)، وبعمليات صناعية اشمأز منها الأدباء الأوروبيون وأصحاب الفطرة. فأنا أترك هذا الفساد الذى عندهم، وآخذ ما تقدموا فيه. الإمكان الحضاري لا شك أن السير فى الأرض، والنظر فى ما عند الآخرين، والانتفاع به، هو من إشارات القرآن الكريم، ومن عطائه.. والأمة بما لها من سابقة حضارية، ويمكن أن نقول: بأنها تمتلك الإمكان الحضارى، وخميرة النهوض.. لكن هل تعتقد، ونحن فى ما نحن فيه اليوم من التخلف، والغياب الحضارى، قادرين على أن نميز بين ما ينتفع به وما لا ينتفع به مما عند الآخرين؟ فالأقوياء الذين يتمتعون بعقول وأبصار حديدية، ومعد هاضمة من الناحية الحضارية، هم القادرون على الانتفاع بأغذية الأمم الأخرى، وما عندها.. أما الأمم المتخلفة فستكون عاجزة عن التمييز بين الغث والسمين، بين ما يؤخذ وما يترك، لأنها افتقدت المقياس، ولأنها لم لو تكن كذلك لاستطاعت أن تتقدم فتفقه بما فى تاريخها الحضارى، وما عند الآخرين، كما كان حالنا عندما كنا نتمتع بالشهود الحضارى. وتبقى القضية المطروحة: كيف يمكن أن نحقق الشهود الحضارى، وأن نفيد من الإمكان الحضارى، وخميرة النهوض، ونحسن الاغتراف من القرآن؟ الأمة الإسلامية، لم تفقد أبدا على امتداد تاريخها من يقوم لله بحجة، ومن يستطيع أن يعرف: ما الذى أخطأنا فيه نحن وجعلنا نتخلف؟ وما الذى أصاب فيه الآخرون وجعلهم يتقدمون؟ ويوم تعجز الأمة الإسلامية عن أن يتكون لديها جماعات قادرة على التمييز وكشف الخلل، فهى ليست جديرة بالاستمرار. معنى ذلك: أنها مسئولية الفقهاء والحكماء بشكل عام، الذين يشكلون خميرة النهوض فى(1/230)
هذه الأمة، ومسئوليتهم: أن يبصروا، وهؤلاء لا ينقطعون أبدا فى الأمة ص _222
الإسلامية مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون " هناك نقطة أخرى، وهى: أن معرفتنا بما عند الأمم الأخرى: بأحوالها، وتاريخها، وتجاربها، وأفكارها، وعقائدها، هو أمر ضرورى لدعوتها للإسلام.. فالإسلام عالمى الخطاب، وهم أمة الدعوة على كل حال.. فكيف يمكن أن يكون خطابنا الذى نحمله عالميا، ولا نفهم ما عند العالم؟ فلعل السير فى الأرض الذى حض عليه القرآن يحملنا المسئولية المزدوجة: التبصر بأحوال الأمم للعبرة والدرس، والتعرف على أحوالها ليكون الخطاب الإسلامى مطابقا لواقع الحال.. وقد يكون من خطأ الدعاة فى الغرب اليوم، أنهم يحملون المؤلفات والتراث الثقافى الذى وضع لعالم المسلمين، بمشكلاته، ومعاناته، إلى أولئك الذين قد يتطلبون خطابا من نوع آخر فى ضوء اهتماماتهم.. من لا يعرف: ماذا يريد، ولا من يخاطب، فليس له أن يتكلم.. ماذا أقول؟ لابد أن أعرف العالم كله.. العالم الآن تستشرى فيه ملل ونحل كثيرة. ومخاطبة البوذى غير مخاطبة الهندوكى.. ومخاطبة هذا وذاك غير مخاطبة شيوعى فى روسيا.. ومخاطبة هؤلاء جميعا غير مخاطبة رأسمالى فى الولايات المتحدة.. والكل، غير مخاطبة رجل فى أوروبا الشرقية أو الغربية.. الدراسة لابد أن تكون مستوعبة لطبيعة البيئة وطبيعة العقل الذى سأتحدث معه، وطبيعة العلل التى استشرت فى هذا المكان، ثم خصائص الخير الباقية من الفطرة الإنسانية فى هذه البقاع كلها.. فمع ما ينتشر من فساد هناك بقايا خير دائما.. بل أنا أستطيع أن أقول: يجب دراسة الحاضر فى هذه الأمم! لمعرفة أصحاب الملكات، وأصحاب القدرات الفنية والعلمية، لأن هؤلاء قد يكونون أقرب إلى الفهم والخطاب من غيرهم، ونستطيع أن نتعاون معهم ويتعانوا معنا على قدر مشترك نتلاقى عليه.. لابد من أن الأمة الإسلامية تكون فى حالة(1/231)
حضور وشهود حضارى ـ كما قلت ـ فى العالم كله، ويكون لها بعثات تزود الوطن الأم أو الأمة العربية بالزاد، لأن العرب ص _223
هم دماء الإسلام وقلبه، بوصف أن القرآن كتاب العربية الأول.. وتزود بمعلومات عن المجتمع كله من نواحيه العلمية، والعملية، والخلقية، والحضارية، لكل ما يتصل به.. وأجهزة الدعوة عندما تكون عندنا جاهلة أو قاصرة فهى أجهزة فاسدة. هذا يقتضى السير فى الأرض لمعرفة الرأى الآخر.. فكون القرآن يعرض لأنواع من العقا ئد، والملل، والأفكار، والاتجاهات، ويناقشها، ويدعوها إلى المحاججة، والجدل، والمباهلة، فهذا دليل على أنه لا مانع من معرفة ما عند الآخرين.. حتى العقائد، عرض لها القرآن، إذ كيف يعالج الإنسان قضية لا يعرفها؟ وكيف يحاور أناسا لا يطلع على ما عندهم؟ فالقرآن أباح للمسلم أن يطرح على الساحة الإسلامية عقائد الآخرين.. لا يزال قوله تعالى : (هاتوا برهانكم ) قائما.. وقد تكررت هذه الجملة أربع مرات فى كتاب الله.. فالطلب لا يزال قائما. ولابد أن أقول للآخرين ( هاتوا برهانكم ) !.. وإلا، كيف أحاورهم؟! وكيف يتم إقناعهم دون أن أسمع إلى ما عندهم؟! لابد أن أعرف ما عندهم معرفة دقيقة، وصحيحة، دون تزييف.. وهم الذين يصورون وجهة نظرهم، لا أنا، حتى أكون سامعا لكل ما لديهم بدقة.. وهذا هو الإنصاف.. وديننا الإنصاف. يعنى: أن القرآن الكريم طلب إلى المسلم الشهود الحضارى، ووجوب التعرف على الآفاق الثقافية والحضارية.. فمن خلال إشارات القرآن، يجب الانطلاق باتجاه الثقافات الأخرى، والنظم الإدارية الأخرى، والعقائد الأخرى، والأحوال الاجتماعية الأخرى، والتاريخ الآخر، وما إلى ذلك.. لابد أن تتلاقى تيارات الفكر العالمى عندنا.. وإذا لم يكن تيارنا قويا، فنحن نستحق ما يصيبنا. الإسلام إنما يعلو ـ ولا يعلى عليه ـ ببقائه إسلاما.. فإذا تحول الإسلام ـ وهو دين العقل ـ إلى تقليد أعمى فى أرضه، فإنه لا يسمى إسلاما.. لابد أن(1/232)
تكون أصول الإسلام القرآنية يانعة فى مجتمعه، وأن تمتد ثمرته لتكون فى آفاق الأرض كلها.. ص _224
خاتمة الكلمة الأخيرة التى أتحدث بها إلى إخواني: اتفق المؤرخون على أن الانطلاقات السياسية أو العسكرية الكبرى، لابد أن يكون وراءها فلسفة (أيدلوجية) معنوية، أو أدبية، أو تشريعية، أو اجتماعية. أو غيرها.. وما يكون هناك انطلاقات عسكرية محرومة من هذه الفلسفة، فإنها تشبه أن تكون غابة لصوص، وتنتهى.. التتار ملكوا العالم يوما، ولكنهم ملكوه فى معارك وحشية سريعة، وتخلص العالم منهم خلال معارك سريعة أيضا، ولم يتركوا أثرا لأنه ما كان يسيرهم شىء.. محمد على باشا ، كاد أن يرث الخلافة التركية العثمانية، ولكن لأن المسألة كانت ذات قوة عسكرية فقط، ما وصل إلى شىء. ويمكن أن ينطبق هذا ـ من بعض الوجوه ـ على الدولة العثمانية التى قامت بالإسلام فى أولها.. فقد كان محمد الفاتح رحمه الله، رجلا صواما، قواما، يوصى أولاده بقراءة القرآن، وبالعمل الصالح.. كانت هناك فلسفة (أيديولوجية)، لكن انتهى الأمر بعد ذلك، وأصبح الأمر ملكا عاديا. جاء الاستعمار الغربى ووراءه فلسفات اجتماعية، فالثورة الفرنسية أو الثورة الشيوعية، وراءها كتب فكرية: كتابات جان جاك روسو ص _225(1/233)
وكتابات مونتسكيو ، وكتابات غيرهم من قادة الفكر الأوروبى، هى التى كانت من وراء الثورة الفرنسية، فبقيت الثورة.. كتابات كارل ماركس وزملائه، من وراء الثورة الشيوعية، فبقيت الثورة الشيوعية، أو على الأقل كان لها امتداد.. الانطلاق الإسلامى، أو الثورة الإسلامية، أو التغيير الإسلامى الكونى، كان وراءه القرآن الكريم.. وهذا سر نجاحه الذى جعله، خلال القرن الأول، يمتد فى العالم المعروف آنذاك كله.. ما ترك منه شيئا.. أما بقية العالم فبقى وكأنه فى منطقة شبه الظل، يستظل من القرآن وتعاليمه، داخل الأمة الإسلامية. أما بعد أن بدأت تتقلص فلسفة القرآن الكريم، وتتقلص دعوته، فإن الأمة الإسلامية انتهت إلى أمم أشبه بالمغول والتتار، تقاتل بلا فلسفة، وبدون وعى، وانتهى الأمر إلى ما انتهينا إليه. ولكى نعود إلى ديننا، لابد أن نعي إلى القواعد التى انطلقنا منها قديما.. عمر رضى الله عنه، الذى يقول لقائده: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) فاهم للقرآن.. لو عشت لهم لوصل إلى الراعى فى صنعاء حظه من هذا المال).. (ما أحد أولى بهذا المال من أحد).. إنه فاهم للقرآن. أيضا: الرجل البدوى الذى يقول لقادة الفرس: جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله.. فهم الإسلام من القرآن.. فهذا الفهم القرآنى هو من وراء انطلاق الإسلام الأول. الجزر الذى حصل بعد المد، إنما حدث أن تقلص الفلسفة القرآنية، والأنظمة القرآنية، وشيوع عادات ومرويات ضعيفة، جعلت الأمة الإسلامية لا تمثل كتاب ربها الذى نزل.. لكى نعود سيرتنا الأولى، لابد أن نعود لكتابنا، ننطلق منه بعد أن تشرب روحنا هدايته.. نتعرف على ما فيه.. القرآن الكريم يجب أن يدرس تفسيرا موضعيا، وتفسيرا موضوعيا.. ويجب أن ينظر إليه كلا وجزءا على أنه دعامة أمة.. هو عقلها المفكر.. هو ضميرها الصاحى.. هو علمها المرفوع.. أما أن يترك القرآن لأمور أخرى، فلا يجوز.. كان عمر رضى الله ص(1/234)
_226
عنه ينهى، وهو يرسل الجيوش، عن الإكثار من رواية الأحاديث، ويقول: ( لا تشغلوهم عن القرآن).. والسبب : أنه من الممكن جدا أن يحدث قتال بين عدة جنود بسبب حديث لا يفهمون معناه، أو تختلف الأنظار فى تحديد مدلوله، واستنباط الحكم الفقهى منه، وتضيع الأمة بهذه الخلافات، كما يضيع الآن المسلمون فى الخلافات الفقهية التى مزعتهم، وجعلتهم مزعا.. تستغرب حقا حينما ترى الذى يقاتل فى أفغانستان، له سبعة أو ثمانية أحزاب! ما الذى قسم الأمة التقسيم؟ خلافات فقهية، أو خلافات شخصية.. لكن القرآن لا يعرف هذا أبدا.. إنه يعرف أمة موحدة على هدفه، تدور على محوره، وتنبعث من هدايته.. نريد أن نعود إلى القرآن الكريم.. ننشغل به، ليكون محور حياتنا.. أما العدد الأكبر من السنن والاختلافات الفقهية، فهو للمتخصصين. ويمكن أن يدخل فى القضاء إعداد اللوائح، كما يمكن أن يدخل فى التفاصيل التى تحتاج إليها الأمة فى الشئون التى تعنى بالفروع والجزئيات.. الأمة لها دستور.. والدستور غير لائحة الجمارك، غير قانون الضرائب.. الخ فالدستور شىء، و أما الأمور التفصيلية فشىء آخر يمكن أن يختلف الناس فى نطاقها.. إن الأمة لابد لها أن تنزع كلها إلى الدستور الرصين، والأركان الكبرى فى هذا الدستور لابد أن تبنى.. وكذلك تفعل الأمم الأخرى.. فليس هناك من يقول: إن حزب المحافظين والعمال والأحرار فى إنجلترا، تمثل كيانات مستقلة.. أبدا.. وإنما لهم جميعا إمبراطورية يعبدونها من دون الله.. خدمتها تحتاج إلى شىء من التفصيل، ربما يختلف حوله الناس، لربما يختلف حوله الرجل الذى قد يكون من المحافظين مع زوجته التى قد تكون من العمال.. ولا حرج، طالما يجمعهم الدستور والهدف الأساسى. فنحن يجب ألا يغيب عن بصائرنا أبدا: الهدف الأساسى الذى لابد منه وهو: كتابنا.. كتابنا يكاد يضيع منا. ونقرأه موسيقى من كبار القارئين، ونسمعه بتبلد؟ لأننا نريد أن نتلاقى على مجالس تأوهات،(1/235)
وإعجاب بالأصوات، وانتهى الأمر.. أما أن ينطلق القرآن كتابا محركا للحضارات، فقد غاب عنا هذا كله؟ لأننا اشتغلنا بغيره وهذا ما نرفضه. والحمد لله رب العالمين(1/236)