بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إلى هنا انتهى قلم الشيخ الغزالى وكتب آخر كتبه وتراثه الكبير.. وهى أوراق تأملات فى السنة النبوية وخواطر دونها- رحمه الله- فيما أطال فيه فكره وأمعن فيه نظره من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد كان الشيخ محمد الغزالى يريد أن يكتب فى السنة أكثر من هذا الكم بيد أن المنية سبقت ونفذ قضاء الله. وحين كنت أجمعها معه فى حافظة أوراقه سلته عن اسم الكتاب فقال: "كنوز من السنة" ، وشرع يتهامس مع نفسه بصوت خافت: هى كنوز حقا.. وقد تركها الشيخ بدون عناوين وأمرنى أن أضع عنوانا مبدئيا لكل مقال وخاطرة.. إلا أنه عدل بعض ما وقع اختيارى عليه، وعندما حان موعد سفره الأخير سألته عن بعض الرسائل وكتاب "كنوز من السنة" والمطلوب فيه فقال: يبدو أنك ستنظمه وحدك.. ولم أدر أنها الرحلة الأخيرة.. ذكرت ذلك ليعلم القارئ الكريم أن الشيخ لم يعنون المقالات والموضوعات المطروحة فى كتابه الأخير، وإن كان فيها ما ينتقص أو ينتقد فهو منسوب لى، وهذا النقص وارد لعدة أسباب أولها: أن الكمال لله وحده. ثانيا: أني لم أناقش فيها أستاذى الكبير. ثالثا: أن الشيخ الغزالى ضمن كل مقال فى الكتاب موضوعات شتى وربط بينها بمهارة عالية، صعبت على الباحث اختيار العنوان الأمثل لكل مقالة. ويلاحظ القارئ الكريم أن هذه الدراسة جديدة من نوعها، فقد خرج رحمه الله عن إطار من سبقه فى تفسير المفردات والإعراب ومواطن البلاغة والمستفاد لغويا وشرعيا.. فالمكتبة الإسلامية ملأى بهذا النوع من التصنيف. وحرص على ربط
ص _004(1/1)
الحديث النبوى بمناحى الحياة كلها بأسلوبه الرشيق وبلاغته المعهودة مدعما ذلك بما يؤيد الحديث من القرآن الكريم والأثر الوارد عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومع هذا فقد فسر بعض الألفاظ الغريبة أو البعيدة عن استخدامنا وعذل مفاهيم توارثناها على سبيل الخطأ.. وعن اختيار الأحاديث الواردة فى الكتاب فالشيخ الغزالى حرص على اختيارها من كتب الصحاح فكان يطلب مني أن أفتح البخارى ومسلم ورياض الصالحين والأربعين النووية للإمام النووى وصحيح الأحاديث من مسند الإمام أحمد واللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان وغيرها لأراجع ما سطر قلمه من أحاديث.. والغريب كان فى حفظه الحديث!، فقد كان يكتب ثم يأمرنى بالتأكد من نص الحديث فأجده سليما كما كتب، كما لاحظت شيئا من خلال ذلك. أحيانا كنت أتعثر فى استخراج الحديث من المرجع- أيا كان- فيسألنى عن طول المدة وعندما أجيبه بتعثرى فى استخراج الحديث يقول لى: افتح جزء كذا ستجده ما بين صفحة كذا وكذا... فكان يحرص على التأكد من صحة الرواية والسند ومساندة القرآن الكريم للحديث المختار.. وأحيانا كان يستخدم الحديث النبوي برؤى مختلفة فيضمنه مقالا غير آخر، يستخلص منه أشياء فى موضع وأشياء فى موضع آخر.. وغالبا ما كانت تدمع عيناه وهو يكتب وكأنه يسمع من رسول الله مباشرة.. وقد تدمع عيناه وأنا أقرأ عليه ما كتبه خاصة حين يسمع كلام النبى عليه الصلاة والسلام. وقد أمرنى بكتابة بعض الأحاديث فى ورقة مستقلة والتأكد من قوة سندها ليضمنها الكتاب وليفرد لها بابا خاصا بها ولكن المنية كانت أسرع. وقد جمعنا تلك الأوراق وأودعت فى حفيظة ابنه المهندس "ضياء الدين" حتى جاء وقت خروج الكتاب للنور فكان لى شرف ضبطه- كما كان يريد الشيخ- من استخراج أرقام الآيات وتحديد بدايات السطور إلى غير ذلك...الخ، ولم تنزل هذه الخواطر بترتيب كتابتها الزمنية لأنها كانت مختلطة بأوراق أخرى ولكن حسبنا أن كل عنوان(1/2)
منها وحدة موضوعية بذاتها.. ص _005
إلا إذا ترابط موضوعان ببعضهما فقد دمجناهما ببعضهما لإتمام الفائدة وعدم تشتيت القارئ. وعن طريق جمع الكتاب، فقد تم جمع كل مجموعة مقالات لها علاقة ببعضها وخصص لها باب منفصل؛ ومع هذا تعددت كثير من الموضوعات واشتركت وقد يجدها القارئ وقد استخدمها الأستاذ الغزالى بأغراض متنوعة. وقد حرص الشيخ الغزالى كذلك على تصحيح المفاهيم والمعتقدات المتوارثة من توجيه خاطئ، أو إرشاد علمى تائه، أو إضلال فى الفهم كشرحه لحديث " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله " وحديث " رهبانية أمتى الجهاد " وحديث عائشة رضى الله عنها: " كان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه "... وغيرها... وفيما يبدو أن الشيخ لم يكن ينوى الاكتفاء بهذا كما أشرنا وكان ينوى أن يكتب فصولا فى مضمون أسماء الله الحسنى.. ومشروعات عديدة. وأخيرا فللقارئ الكريم أن يستمتع بما خط الشيخ الغزالى بيده وسجل من خواطره الزاكية من تراث النبى صلى الله عليه وسلم ووضع فى ميزان حسناته وأظهر كتابا يضاف لما سطر وكتب وأثرى المكتبة الإسلامية. والله ولى التوفيق . المحقق ص _007
بين الغفلة والمكائد أمم فاقدة الوعي . الفقر الثقافي وحتمية البلاغ . ماذا يفعل العرب بأنفسهم . المستضعفون وأكابر المجرمين . صيحات المقهورين . السيف أصدق . وجعلنا لكم فيها معايش . المكفوفون عن رؤية الآفاق . أين نحن من ملك الله ؟ أبناء غارة عمياء . حراس الحقائق .. ص _008
((… الضمير المعتل والفكر المختل ليسا من الإسلام في شيء ، وقد انتمت إلى الإسلام اليوم أمم فاقدة الوعي عوجاء الخطى قد يحسبها البعض أمماً حية ولكنها مُغمى عليها … والحياة الإسلامية تقوم على فكر ناضر … إذ الغباء في ديننا معصية )) .
محمد الغزالي ...
ص _009(1/3)
أمم فاقدة الوعى.. بدأ عصر الإحياء فى أوروبا مع بدايات القرن السادس عشر للميلاد، فقد ترجمت العلوم العربية ومهدت الأرض لبذور الثقافة المستوردة وشرعت الجماهير تبصر طريقها وترفع مستواها، وظلت كذلك حتى غزت الفضاء وفجرت الذرة فى هذا العصر! إن الحياة والعلم والنور والمتاع متلازمات فى الحضارة الناضجة، وقد أشار إليها القرآن فى قوله : (وما يستوي الأعمى والبصير * ولا الظلمات ولا النور * ولا الظل ولا الحرور * وما يستوي الأحياء ولا الأموات …) كما أشار إليها فى موضع آخر (أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون). والحضارة الأوروبية الحديثة ربما قدمت للبشرية يقظة عقلية عارمة، ولكنها حياة جزئية تعرف الخلق ولا تعرف الخالق، تعرف اليوم ولا تعرف الغد. وقد شبهتها "بأبى الهول" التمثال القابع عند الأهرام فى مصر،له وجه إنسان وجسم حيوان! كذلك هذه الحضارة لها عقل إنسان وغرائز حيوان! لقد درست أسرار المادة جيدا ولكنها وقفت عند هذا الحد فلم ترفع بصيرتها إلى بديع السموات والأرض وظنت أن "س" فى التربة هو الذى ينبت الأزهار والورود وحب الحصيد، وأن "س" رمز المجهول هو الذى ينظم فى الكون مسار ثلاثمائة مليون كوكب!! أليس من حق القرآن أن يقول (وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) إن الحياة التى يقدمها الوحى الخاتم ارتقاء كامل بمشاعر الإنسان ومواهبه، ارتقاء كامل بحضارة الأمم وأهدافها. ص _010(1/4)
والوحى عندنا "روح " يسرى فى الجماعة فينير بصرها وبصيرتها ويمكنها من علوم الأرض كما يمكنها من علوم السماء، وتدبر قوله تعالى فى الوحى المحمدى (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا …). إن مفاتح الإيمان بالله لا يهتدى إليها إلا من عرف قوانين الأرض والسماء (حم~ * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إن في السماوات والأرض لآيات للمؤمنين * وفي خلقكم وما يبث من دابة آيات لقوم يوقنون). ومحمد عليه الصلاة والسلام هو الإنسان الفذ الذى يستطيع بمنهاجه أن يقود العالم ويستطيع بسيرته أن يحشد خلفه شتى الشعوب، والقاسم المشترك بينه وبين الناس هو العقل الصاحى والقلب السليم واشتراك الأرض مع السماء فى التسبيح بحمد الخالق والثناء عليه بما هو أهله و إعلان السمع والطاعة له جل وعز. إن الإلحاد شىء نتن خسيس (ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق). ولابد أن نصارح بأن الضمير المعتل والفكر المختل ليسا من الإسلام فى شىء، وقد انتمت إلى الإسلام اليوم أمم فاقدة الوعى عوجاء الخطى قد يحسبها البعض أمما حية ولكنها مغمى عليها، وينتظر أن تفيق!، ومهما كان التشخيص الطبى لهذه الأمم فنحن نؤكد أن الحياة الإسلامية تقوم على فكر ناضر إذ الغباء فى ديننا معصية، قال تعالى (وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم) الغباوة ذنب فردى واجتماعى.. والشعوب عندما تدير ظهرها للوحى تنحدر من الآدمية إلى الحيوانية (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون). ص _011(1/5)
وأذكر أن أحد الناس قال لى: عيبك أنك تخلط الدين بالعقل!! فقلت له: ويحك. وهل الدين إلا عقل ذكى مستقيم؟ ألم تسمع قول الله لنبيه (قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا …) إن الدين الذى لا عقل معه هو الوثنية والتجسيد والتعديد. أما المسلمون فقد ناداهم الله بقوله (فاتقوا الله يا أولي الألباب الذين آمنوا قد أنزل الله إليكم ذكرا * رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور) وقد بلغنا محمد الصادق الأمين هذه الآيات ووعى أصحابه وتابعوه كيف عاش وكيف جاهد وكيف نصح للأمة وكيف حضنها ضد الوساوس والأوهام، وفى سنته المضيئة تراث نفيس وحكمة بالغة شرحت الطريق لمن أراد سلوكه، وما يستطيع ذلك من سرق وعيهم ونام عقلهم (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد). ص _012(1/6)
الفقر الثقافى وحتمية البلاغ فى رحلة "ذى القرنين " نماذج لشعوب العالم الثالث ينبغى أن تدرس! فإن الله كرم بنى آدم بالعلم، وهؤلاء جهال، وميزهم بمعرفة المادة وخصائصها وهؤلاء لا يدرون شيئا ولا يحسنون صنعا! قال القرآن الكريم (..حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها سترا). إنهم عراة كالوحوش والأنعام وكان يجب أن يستروا أبدانهم بأنواع الثياب وأن يحسنوا صناعة الغزل والنسيج وأن يستجيبوا لقوله تعالى (يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسا يواري سوآتكم وريشا ولباس التقوى ذلك خير). ومضى "ذو القرنين " فى رحلته (حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوما لا يكادون يفقهون قولا). إنهم أقرب إلى البلاهة والعجز، وقد شكوا إلى " ذى القرنين " بأس جيرانهم واحتلالهم لأرضهم وشدة وطأتهم! وعرضوا على " ذى القرنين " مالا لينقذهم من هذا البلاء، ولكن الرجل الصالح رفض هذه " الرشوة " من الشعب الكسول، وطلب منهم أن يعملوا معه فى إقامة الحصون ومقاومة العدو وأن يرفعوا مستواهم العسكرى والصناعى حتى يكونوا أهلا لحياة كريمة… قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما وأيام البعثة النبوية الشريفة أحس النبى عليه الصلاة والسلام أن ناسا من الأمة هابطون فى فهمهم وسلوكهم، ولهم صور بني آدم وليست لهم المواهب التى فضل بها آدم على الملائكة!! وقد كره النبى الكريم أن يقع فى أمته هذا التفاوت المؤسف .. ص _013(1/7)
إن الفقر الثقافى أسوأ عقبى من الفقر المالى، والشعب الذى يعانى من الغباء والتخلف لا يصلح للمعالى ولا يستطيع حمل رسالة كبيرة. خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأثنى على طوائف من المسلمين خيرا ثم قال: "ما بال أقوام لا يفقهون جيرانهم ولا يعلمونهم ولا يعظونهم ولا يأمرونهم ولا ينهونهم؟ وما بال أقوام لا يتعلمون من جيرانهم ولا يتفقهون ولا يتعظون؟ والله ليعلمن قوم جيرانهم ويفقهونهم ويعظونهم ويأمرونهم وينهونهم. وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتفقهون ويتعظون، أو لأعاجلنهم العقوبة!! ثم نزل... فقال قوم: من ترونه عنى بهؤلاء؟ قال ـ عنى ـ الأشعريين! فإنهم قوم فقهاء، ولهم جيران جفاة من أهل المياه والأعراب! فبلغ ذلك الأشعريين فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله ذكرت قوما بخير وذكرتنا بشر !! فما بالنا؟ فقال رسول الله ـ مرة أخرى ـ : ليعلمن قوم جيرانهم وليعظنهم وليأمرنهم ولينهونهم، وليتعلمن قوم من جيرانهم ويتعظون ويتفقهون، أو لأعاجلنهم العقوبة فى الدنيا! فقالوا: يا رسول الله أنفطن غيرنا؟ فأعاد عليهم قوله! فأعادوا قولهم: أنفطن غيرنا؟ فقال ذلك أيضا! فقالوا أمهلنا سنة. فأمهلهم سنة ليعلموهم ويفقهوهم ويعظوهم.. ثم قرأ رسول الله هذه الآية ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون* كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون) ومهلة سنة تكفى لمحو الأمية الكتابية والعقلية والدينية! وتجعل الجهال أهل فطانة ورشد! ص _014(1/8)
وأعتقد أن المسلمين فى العصر الحاضر أحوج أهل الأرض إلى هذه النصيحة النبوية فإن تخلفهم الفكرى والخلقى تسود له الوجوه !. إنهم من الناحية المدنية يأكلون ما يزرعه غيرهم ويلبسون ما ينسجه!. ومن الناحية الخلقية لا يصونون الأمانات ولا يضبطون الأحاديث ولا يرعون المواثيق!. ولهم مع هذا التخلف المعيب نشاط ملحوظ فى القضايا الغيبية والمجادلات النظرية!. حتى اضطر "أبو حامد الغزالى" إلى تأليف كتابه " إلجام العوام عن علم الكلام"! وحتى اضطر "ابن تيمية" إلى تأليف كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام "!!. إن هتاك جماهير من المسلمين باعهم شديد القصر فى شئون الحياة وعلوم الإسلام المهمة، ومع ذلك فهم لا يستحيون من جهلهم بإدارة الآلات وطب الأجسام وتربية النفوس وتحصين الثغور ومدافعة الأعداء!. كيف يخدمون أنفسهم ورسالتهم بهذا التخلف؟ لابد من الثقافة والفطانة وارتفاع المستوى فى آفاق الحياة كلها. * * * العلم أول العبادات الميزة التى رجحت كفة آدم على الملائكة هى العلم فقد عرف ما فى الحياة من جماد ونبات وحيوان، وعرف آثار قدرة الله فيها أى عرف الكون منسوبا إلى صاحبه لا مقطوعا عنه على عكس الحضارة الحديثة التى تعرف الأشياء ولا تعرف خالقها، ومن تعاجيب الأيام أن المسلمين يعرفون الله ولا يعرفون آياته فى الكون وأن أوروبا وأمريكا تعرفان الكون معرفة حسنة وتجهلان الله جهلا شائنا! ص _015(1/9)
ولكى يكون المسلمون على علم حق يجب أن يعلموا سنن الله فى كونه، وأن يحسنوا الانتفاع بها فى خدمة أنفسهم ونصرة دينهم! إن العلم الشامل هو الخاصة التى يذكر بها آدم وبنوه!! وقد كنت أود من أعماق قلبى أن يكون المسلمون هم الذين اخترعوا المطبعة! فإن كتابهم أول كتاب أقسم بالقلم فى السورتين الأوليين منه (اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم) و (ن والقلم وما يسطرون * ما أنت بنعمة ربك بمجنون)، لكن الذي اخترع المطبعة ألمانى!! والشائع بين الناس أن "نوبل " هو مخترع البارود وهذا خطأ فالمخترع مسلم وقد عرضه على الظاهر " بيبرس " فانتفع به ضد الصليبيين، وعرض على مخترعه- ابن السماك- أن يخترع " الطوربيد " ليقاوم به أساطيل الغزو القادمة من أوروبا ووعد العالم المسلم بصنعه، ولكنه مات قبل الوفاء بوعده! إن وظيفة العلم أن يجعلنا نرتفق الكون، وأن يعيننا بما نكتشف من قواه على حماية الحق ورد العدوان قال تعالى : (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) فهل وعينا هذا الهدف الغالى وقربناه؟ إن العلم أول العبادات وثمراته هى التى تحقق خير الدنيا والآخرة! ومن ثم فالمتاجرة به أو إضاعة جدواه من شر الجرائم فعن " على ابن أبى طالب " أنه ذكر فتنا تكون فى آخر الزمان فقال له عمر: "متى ذلك يا على" ؟ ص _016(1/10)
فقال: إذا تفقه لغير الدين وتعلم العلم لغير العمل والتمست الدنيا بعمل الآخرة ". ومن التماس الدنيا بعمل الآخرة ما رواه جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا تماروا به السفهاء ولا تخيروا به المجالس فمن فعل ذلك فالنار النار " . إن رفع المستوى العلمى للأمة كلها فريضة موزعة على الذكور والإناث ومن أراد الله رفع درجته يسر له المزيد من العلم وفى الحديث "من يرد الله به خيرا يفقهه فى الدين " والفقيه يجتهد فى طاعة الله ويجتهد فى تفقيه الناس حوله ابتغاء وجه الله! وقد يكون تدريس العلم حرفة لبعض الناس، وهذا شىء لا غنى للحياة عنه ولكن على المعلمين ترك الطمع والمغالاة والمكابرة من متاع الدنيا فقد جاء فى حديث ابن عباس مرفوعا ".... ورجل آتاه الله علما فبخل به عن عباد الله وأخذ عليه طمعا وشرى به ثمنا. فذلك يلجم يوم القيامة بلجام من نار، وينادى مناد: هذا الذى آتاه الله علما فبخل به عن عباد الله، وأخذ عليه طمعا، واشترى به ثمنا. وكذلك حتى يفرغ الحساب " . ويؤسفنا أن نسمع اليوم عن شجار بين التلامذة ومدرسيهم حول قيمة الدرس، ووقته، ونحن لا نبخس حق مدرس، ولا نريد أن يتعرض لهوان، ونرى الأشرف والأتقى لله أن تختفى هذه الضجة وأن يتعاون المسلمون على البر والتقوى. ص _017(1/11)
ماذا يفعل العرب بأنفسهم؟ "يأجوج ومأجوج " جيل من الجنس الأصفر الذى يسكن شرق آسيا، وجمهرة هذا الجنس تدين بالبوذية وهى نحلة وثنية قديمة لها تقاليد ورسوم دقيقة، وقد رأيت فى العواصم التى زرتها تماثيل لبوذا بالغة الضخامة، يرمقها أهل الصين واليابان وغيرهما بإكبار وخضوع، وبوذا لم يكن يؤمن بالله، ولم يرفع عينيه إلى السماء يوما!! ومع ذلك جعله أتباعه إلها يموتون فى سبيله!. وقد آنبأنا القرآن الكريم بأن يأجوج ومأجوج سينطلقون قبيل قيام الساعة يملئون السهل والجبل ويعيثون فى الأرض فسادا (حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون * واقترب الوعد الحق فإذا هي شاخصة أبصار الذين كفروا يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا). والناظر الآن فى شرق آسيا وجنوبها يلمح بوادر نهضة صناعية كبرى فى أدوات القتال والسلام معا محورها الصين واليابان وما جاورهما! ولا ندرى متى تكتمل هذه الحركة المخوفة، ولكنى أشعر بأن هنا منابت يأجوج ومأجوج، وأن زحف هذا الجنس موشك وعندما يبدأ فسيشعر به الناس أجمعون، وقد أصبحت هذه الكلمة علما على الفوضى والفتن وعلى ضياع الأخلاق وانتشار الخراب. وذلك ـ فيما أرى ـ معنى ما رواه الشيخان عن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضى الله عنها أن النبى دخل عليها فزعا يقول: " ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتى تليها ! فقلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث " . هذا الحديث قيل من قرون طوال، وفيه تحذير للعرب من فوضى تكتسح أرضهم وترخص دماءهم ـ وهى بعض ما يقارن ظهور يأجوج ومأجوج ـ وهم كما قلنا علم على الدمار والخراب ـ ولاشك أن العرب أصابهم ضر شديد من الفتنة الكبرى التى وقعت بعد مقتل " عثمان " وتمخضت عن معارك الجمل وصفين، ولولا الفجر الصادق الذى طلع به الإسلام على الدنيا، ولولا الجماهير التى تشبثت به والتفت حول قواعده ص _018(1/12)
وعقائده، لضاع الحق وخيم الظلام، وذاك ما جعل السيدة " زينب " تتمساءل: أنهلك وفينا الصالحون؟ وكانت الإجابة نعم إذا كثر الخبث! إن من الأمراض المتوطنة فى الأمة العربية التعصب القبلى والذهاب بالآباء والأجداد..! إن هذه النزعات المنتنة تأكل المبادئ والقيم، وتجعل العقائد أثرا بعد عين، والغريب أن السرطان الذى تغلغل فى التاريخ العربى هو هذا البلاء المبين ولا شفاء منه إلا بأخوة الإسلام التى يقول فيها الشاعر. أبى الإسلام لا أب لى سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم! أليس غريبا أن يهودى اليمن يصبح أخا ليهودى البلقان وأمريكا، ويتعاونان معا على إقامة دولة دينية على حين يشمخ العرب بجنسهم ويؤثرون قوميتهم؟ إن الدائرة التى رسمها الرسول بإصبعيه قد اتسعت أقطارها جدا، ولا نجاة منها إلا بإسلام حق، واتباع خالص للكتاب والسنة، والعرب بشتاتهم وعصبيتهم يلحقون بأنفسهم من الأذى مالا تلحقهم به يأجوج ومأجوج.. عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: " يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين " ـ أى أن السادة والعبيد والملوك والصعاليك سيتعرون يوم القيامة ويحشرون كما ولدتهم أمهاتهم لا جاه ولا امتياز ـ قال رسول الله عبت صلى الله عليه وسلم: " ألا إن أول الخلق يكسى يوم القيامة إبراهيم. ألا وإنه سيجاء برجال من أمتى فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول يا رب أصحابى! فيقال إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك!! فأقول كما قال العبد الصالح "وكنت عليهم شهيدا مادمت فيهم فلما توفيتنى كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شىء شهيد" فيقال لى: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم " إن الله لا يقبل إلا الصدق والوفاء، ولن يكون الإيمان دعوى بلا دليل..! ص _019(1/13)
المستضعفون وأكابر المجرمين لما بلغ هرقل أن نبيا ظهر فى جزيرة العرب سأل: هل يتبعه فقراء الناس أم أغنياؤهم؟ فقيل له بل فقراؤهم! فعلم هرقل من هذه الأمارة ومن ضمائم أخرى أنه نبى حقا.. فهل معنى ذلك أن الأغنياء رفضوا الإسلام واجتمعوا على مناوأته؟ كلا. إن عددا من الوجهاء وأصحاب الجاه دخلوا فى الإسلام وناصروه بما يملكون، ولكنهم كانوا قلة محدودة، أما الكثرة الساحقة من رجال السلطة وعشاق اللذة وعبيد الدنيا فقد ناوءوا الإسلام وحاربوا الرسول بكل ما يملكون حتى نزل قوله تعالى: (وكذلك جعلنا في كل قرية أكابر مجرميها ليمكروا فيها وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون) ويظهر أن ما يسمى " نظام الطبقات " عرف فى تاريخ البشر من عهد مبكر فقد وجد أيام نوح عليه السلام، وتكاثر الفقراء فى أتباعه وأنف الكبراء أن يكونوا معهم أو ينضموا إليهم وقالوا لنوح (قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون)؟ وطلبوا إليه أن يطردهم من حوله حتى يخلو المكان لهم! فكانت إجابة نوح : (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون * ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون)؟ والغريب أن ما وقع لنوح والنبيين من بعده وقع لمحمد عليه الصلاة والسلام فقد ذهب إليه سادة قريش وأبدوا أنفتهم من أن يجمعهم بالفقراء مجلس واحد، وحرصهم على أن ينفردوا بالجاه والعظمة! قال سعد بن أبى وقاص: كنا مع رسول الله ستة نفر فقال المشركون للنبى صلى الله عليه وسلم: " اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا! وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل، وبلال ورجلان ص _020(1/14)
لست أسميهما! فوقع فى نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه ـ فكر فى إجابة المشركين! فأنزل الله تعالى (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين * وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين)؟ وقد لاحظت أن النبى كان شديد الحرص على إسلام هؤلاء الكبراء وإزاحة العوائق التى تمنعهم من التوحيد، ولاشك إن إسلامهم لو تم يختصر نصف أعباء الدعوة ويهين لها قاعدة الانطلاق إلى أنحاء الأرض، ولذلك أرجأ الوقوف مع "ابن أم مكتوم" إلى لقاء قريب وآثر عليه بعض أصحاب السلطة ولكن الوحى النازل كان حاسما فى رفض هذه السياسة وكاشفا أن الدعوة سوف تنتصر بأولئك المستضعفين وتستغنى عن أولئك المستكبرين! ويشاء الله أن ابن مسعود الذى احتقر السادة الجلوس معه هو الذى يجثم على صدر أبى جهل ويذيقه الحتوف فى معركة بدر.. إن البياض والسواد والضعف والقوة والغنى والفقر صفات لا تكون الشخصية الإنسانية، ولا ترجح كفتها لا فى الدنيا ولا فى الآخرة، إن القلب المشرق بالطيبة والتواضع واحترام الحق هو الجدير بالحفاوة والتقديم.، عن عائذ بن عمرو المزنى ـ وهو من أهل بيعة الرضوان ـ رضى الله عنه ـ أن أبا سفيان أتى على سلمان وصهيب وبلال فى نفر فقالوا: ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها! فقال أبو بكر رضي الله عنه لهم: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ وأتى النبى فأخبره! فقال: " يا أبا بكر لعلك أغضبتهم! لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك، فأتاهم أبو بكر وقال: يا إخوتاه، أغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفر الله لك يا أخى! ". وقد أسلم أبو سفيان مع الطلقاء فى فتح مكة هو وأسرته، بيد أن منزلته دون منزلة ص _021(1/15)
وقد أسلم أبو سفيان مع الطلقاء فى فتح مكة هو وأسرته، بيد أن منزلته دون منزلة السابقين الأولين وأصحاب البلاء المبين فى رفع ألوية الإسلام أيام محنته وإدبار الدنيا عنه ولذلك يقول جل شأنه (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى والله بما تعملون خبير) إن موازين الآخرة لا تعترف إلا بالإيمان والجهاد فالمكثر منهما يسبق والمقل منهما يخمل وإن كان فى الدنيا ذا شأن. فعن أبى هريرة عن رسول الله قال: " إنه ليأتى الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة " . ص _022(1/16)
صيحات المقهورين نسمع تناديا بحقوق الإنسان فى بلاد كثيرة! وشكايات طويلة من شيوع المظالم بين الناس! إن استباحة الدماء والأموال والأعراض فلسفة عملية يطبقها القادرون على العجزة دون محاسبة ضمير فى الدنيا أو اتقاء حساب فى الآخرة. وأمتى الإسلامية فى طليعة الأمم التى عانت قديما وحديثا من بطش الجبابرة.. إن التتار فى بغداد والصليبيين فى القدس جعلوا دماء المسلمين تجرى أنهارا فى العصور الوسطى، والأخلاف التائهون وردوا المصير نفسه فى أوروبا وآسيا وأفريقية، والاستعمار العالمى أو الاستكبار العالمى سواء حمل راية الدين أم لم يحملها لا يبالى حقوق الآخرين، فقد صنع فى "رواندا" معركة قتل فيها مليونا من الخلائق، وصنع فى "الكونغو" و "زائير" معركة أصيب فيها تسعة ملايين بالإيدز(!) هل تستغرب هذا التعبير؟ إن العدوان على الدماء والأعراض سواء فى منطق الدين. والزوجة التى يفترشها أحد الناس خانت ربها قبل أن تخون نفسها و زوجها، وإن كانت "أوروبا" تشيع بين الناس منطقا آخر تزعم فيه أن العرض ملك خاص، لصاحبه أن يفرط فيه!! فإذا تدخلت باسم الله قيل لك: ومالك أنت؟ وأعرق الأسر فى أوروبا تواجه هذه المشكلة إ! إن الله فى وحيه كله صان الدماء والأموال والأعراض والحقوق المادية والأدبية فلا استهانة بها (تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) وعن جابر رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم " . ص _023(1/17)
والواقع أن هضم العمال والأجراء وإذلال المستضعفين كان من وراء الثورات الحمراء التى اشتعلت فى أقطار شتى، وقد حذر الإسلام أبناءه منها. فعن ابن عمر أن رسول الله قال يوم حجة الوداع: " ألا إن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم كحرمة يومكم هذا فى بلدكم هذا فى شهركم هذا! ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم قال: اللهم اشهد- ثلاثا- ويلكم أو ويحكم انظروا لا ترجعوا بعدى كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" . ومن شر أنواع الظلم تغيير تخوم الأرض واغتصاب الجار شبرا أو ذراعا من أرض جاره! وفى ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع أرضين " أى أن هذا الظالم يقدم يوم القيامة وعلى منكبيه جبل من تراب! فكيف يسير به للحساب؟ وأعرف من سرق إقطاعات رحيبة وعاش يمرح فى ثمرتها! والأودية الخصبة فى العالم الإسلامى تعرف هذه الجرائم، وتلقاها فى أحيان كثيرة بالصمت الطويل! إننا نظلم الإسلام بهذا العوج فى تطبيقه، لاسيما مع دين لا يظلم مثقال ذرة. وقد وردت آثار تصرح بأن الله يستجيب لدعوة المظلوم وإن كان كافرا !! وقبول دعوة الكافر المحرج تفهم من قوله تعالى : (أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون) والناس على اختلاف عقائدهم يلجئون إلى الله عند الغرق! وقد صور القرآن فرحهم إذا هاج البحر. (...وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين * فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا ثم إلينا مرجعكم فننبئكم بما كنتم تعملون ) ص _024(1/18)
فهل يذكر الناس أزمتهم هذه بعد أن فرج الله كربهم؟ كلا (قل الله ينجيكم منها ومن كل كرب ثم أنتم تشركون)! وفى مسند أحمد قال صلى الله عليه وسلم " دعوة المظلوم مستجابة، وان كان فاجرا ففجوره على نفسه ". وعند البخارى "... اتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب ". إن تظالم الناس مرض شائع يملأ المدائن والقرى، يخرج المرء من بيته تقوده غرائزه وحاجاته فلا يبالى كيف يحقق مآربه، وإذا لم نرب فى الناس عاطفة التدين، ونغرس فى دمائهم خشية الله فإن العالم سوف يتحول إلى غابة كبيرة يفترس فيها القوى الضعيف. أتراه تحول بالفعل؟ ص _025(1/19)
السيف أصدق... اليهود الذين سكنوا جزيرة العرب قبل البعثة المحمدية جاءوها هاربين من بطش الرومان بعد ما تنصروا وعرفوا أن اليهود أعداء المسيح والساعون إلى قتله. ومن حقنا أن نسأل: ماذا قدم اليهود للعرب بعد ما قدموا إلى بلادهم؟ هل خاصموا عبادة الأصنام؟ هل تحدثوا عن عبادة الله الواحد؟ هل خدموا رسالة موسى بشئ قل أو كثر؟ كلا، لقد اشتغلوا بتثمير أموالهم فى التجارة أو الزراعة وناموا فى ظلال أحلامهم وأهوائهم، واستراحوا إلى أنهم شعب الله المختار فما فكروا فى آخرتهم يوما! أما الإسلام فإنه خلال عشرين عاما من ظهوره فعل لدين الله ما لم يفعله اليهود خلال مئتى عام، ورفع راية التوحيد على وهاد الجزيرة ونجادها وأقام لله ملكا كبيرا. إن الإسلام دين سيال يثب من نفس إلى نفس ويضىء به عقل من عقل، والسمة الأولى فيه فعل الخير ونشر الحق وهداية الأحياء!. يقول الله لجماعة المسلمين (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)، ويقول (..وافعلوا الخير لعلكم تفلحون). تلك وظيفة أمتنا التى يجب أن تعرف بها فى أروقة الأمم المتحدة وفى شتى المجامع العالمية، والواقع أن تعداد المسلمين الذى يبلغ خمس الدنيا ما وصل إلى هذه الكثرة إلا لأن نشر التوحيد وحب الخير صارا غرائز متأصلة فى نفوس المسلمين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا. ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئا " . ص _026(1/20)
والغريب أن اليهود عند ظهور محمد واقتراب رسالته من مواطنهم فى المدينة المنورة كانوا أشد الناس ضيقا به وعداء له (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره ..). وقد عفا النبى وصفح، ولكن جرائم القوم فحشت وغدرهم استفحل، فاضطر إلى مقاتلتهم فى عدة مواقع "بني قينقاع " و "بنى النضير" و "بنى قريظة" وأخيرا عمد إلى أمنع حصونهم فى منطقة "خيبر" وقرر حسم شرورهم. روى الشيخان عن سهل بن سعد الساعدى رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطين الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، فبات الناس يدوكون ـ يخوضون ويتحدثون ـ ليلتهم أيهم يعطاها. فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله كلهم يرجو أن يعطاها!! فقال: أين على بن أبى طالب؟ فقيل: يا رسول الله: هو يشتكى عينيه! قال: فأرسلوا إليه فأتن به، فنفث رسول الله فى عينيه ودعا له، فبرأ حتى لم يكن به وجع، فأعطاه الراية. ماذا يفعل على؟ إن الحرب ليست خطبا متبادلة، إنها سلاح يفرى الجلد ويكسر العظم، إنه يستطيع أن يقول لليهود ما تنقمون منا؟ ونحن نؤمن بموسى ونقرنه بنبينا (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل). لماذا تشهدون الزور وتزعمون أن الوثنية العربية أفضل من التوحيد؟ لماذا ترجحون كفة الشرك علينا وتنضمون إلى عبدة الأصنام فى حربنا؟ إن " عليا " يستطيع أن يؤخر الاشتباك حتى يتعرف ما يستقر عليه القوم، فقال لرسول الله " أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ ورحب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخطة "على" فقال : ص _0 ص(1/21)
" أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدى الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم " ـ أى من أجزل الأموال ـ ولكن اليهود أبوا إلا القتال مطمئنين إلى مناعة حصونهم وشدة بأسهم ... وهيهات فقد تهاوت الحصون، وانهزم الكبر وساد المسلمون الساحة كلها... إننا لا نحارب بطرا ولا كبرا، إنما نحارب لتكون كلمة الله هى العليا. وقد وازنت بين يهود اليوم ويهود الأمس، فرأيت الكل ينزعون عن قوس واحدة تشابهت قلوبهم ولف الباطل أولهم وآخرهم وصدقت آيات الله فيهم (ومن أصدق من الله حديثا). ص _028(1/22)
وجعلنا لكم فيها معايش هل العجز فى الدنيا دين؟ هل زلزلة القدم هنا دليل على رسوخ القدم هناك فى الآخرة؟ هل الجهل بأسرار الحياة ونواميسها أثر لتقوى القلوب؟ على حين أن الاستبحار فى فروع الفقه والاستكثار من نوافل العبادات يشير إلى رفعة الإيمان! إن فى ثقافتنا الإسلامية ما يوجب إعادة النظر وطول التمحيص فى هذه القضايا، وقد استغربت فكرة شائعة فى هذه الأيام التى يتفاوض فيها العرب واليهود، فالعالم يعتقد أنه إذا تم صلح بين الفريقين فإن قيادة المنطقة اقتصاديا وحضاريا ستكون لليهود! لماذا؟ لأنهم أقدر على الحياة من المسلمين مدنيا وعسكريا.. إنهم ملكوا الدنيا وسخروها لجنسهم!. لديهم سلاحهم الذرى وليس لدينا هذا السلاح، ولديهم تفوق زراعى وصناعى. ونحن نحبو ببطء فى ميادين تثمير الأموال وزيادة الإنتاج. ما سر هذا التخلف المخزى؟ السر أننا لم نفهم كتابنا ولا تراث نبينا، وظننا أن الدين قلة المال ورداءة الحال ورثاثة الهيئة واضطراب الوضع الاجتماعى والعيش بعيدا عن الأسواق والحقول!. إن القرآن الكريم قال للبشر جميعا (ولقد مكناكم في الأرض وجعلنا لكم فيها معايش) وذكر عبده " داود " والقدرات التى أضفاها عليه فقال : (وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء). إن الملك نعمة كبيرة، المهم أن يكون سلطانه فى خدمة الإيمان. إن التمكين فى الأرض عطاء واسع ورضا من الله كبير (وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء). من قال: إن الدين عدو الدنيا، وأن الفارغ منها هو الذى يملك الآخرة؟ ألسنا ندعو (..ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة). ص _029(1/23)
إن الجهاد لحماية الحق وصون الحقوق يحتاج إلى علم بالبر والبحر والجو وإلى أجسام تتحمل المشاق وتصبر على البلاء فما يجدى القصور العلمى ولا العجز الصحى. *** فتحت كتاب "رياض الصالحين" لأختار من حكمة النبوة ما ينفع الناس، والنووى مؤلف الكتاب عالم فحل وعندما طالعت المقدمة قرأت أبياتا من الشعر وقفت طويلا عندها إن لله عبادا فطنا طلّقوا الدنيا وخافوا الفتنا نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحى وطنا..! جعلوها لجة واتخذوا صالح الأعمال فيها سفنا! والأبيات خفيفة الروح عذبة الجرس، ولكنها خطيرة الأثر عند من يتجاوز بها حدها ولنتناول أولا: ما هى الدنيا التى يجب تطليقها؟ بعض الناس ينظر إلى ما بأيدى الآخرين نظرة الهر إلى قطعة لحم يريد اختطافها أو اختلاسها، إنه ينظر إلى مال غيره بشره وضغينة يريده لنفسه، وقد يرى أنه أولى به منه. وفى هذا يقول الله تعالى : (ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن). وقد هالنى أن هذا خلق شائع وهو من وراء أحكام ومسالك معوجة كثيرة وهناك من ينظر إلى ما أوتى ليكاثر به الآخرين ويفخر عليهم كما قال تعالى فى صفة صاحب الجنة : (فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا). والواقع أن التفاوت بالغنى والفقر كالتفاوت فى شتى المواهب والملكات ضرب من الاختبار الإنساني العام، لحكم كثيرة، والله يختبر بالشئ وضده (ونبلوكم بالشر والخير فتنة). وقد يختبر الله الإنسان بالخير الوفير ثم يكلفه بالجهاد الشاق ليرى أيبذل النفس ص _030(1/24)
والنفيس فى سبيل الله أم يؤثر القعود والمتعة فى ظل ما أوتى من مال ومسكن وعشيرة وأهل!. وقد يمتحن المسلم بالعمل يؤديه ثم لا يلقى جزاءه العدل ليرى هل يبقى محسنا صابرا أم يلجأ إلى الغش والرشوة ليتشبع من الدنيا.. وقد ينظر المحروم إلى زميل له سبق سبقا بعيدا فيكرهه ويذمه ويتمنى له الهلاك، وقد يستسلم المرء للأمانى ولا يقف بأطماعه عند حد، وقد جاء فى الحديث أن " الدنيا خضرة حلوة.. " والمقبل على الدنيا يغريه القليل بالكثير فهو يأكل ولا يشبع! وقد مات " المتنبى " وهو يلهث وراء السراب البراق، وترك كل ما يملك لعدوه! والغريب أنه القائل. ذكر الفتى عمره الثانى. وحاجته ما قاته وفضول العيش أشغال. ولكن هذه الفضول الشاغلة أودت به وبغيره من ذوى الأطماع.. *** إن الدنيا التى رأى "النووى" تطليقها شىء آخر بعيد كل البعد عن الدنيا التى يحرص عليها أولو الألباب، ليحفظوا بها أعراضهم ويصونوا مروءاتهم ويحموا أوطانهم والتى تقوم على علم بالحياة وقواها وكنوزها وأساليب تسخيرها لخدمة المثل العليا. إننى أخشى على من فقد هذه الدنيا ألا يكون له دين.. ص _031(1/25)
المكفوفون عن رؤية الآفاق الحال النفسية المقارنة للعمل هى التى تحكم له أو عليه، فقد تجعله دينا مرجو الثواب أو تجعله شهوة فانية وسعيا باطلا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما الدنيا لأربعة نفر.1- عبد رزقه الله مالا وعلما، فهو يتقى فى ماله ربه ويصل به رحمه ويعلم أن لله فيه حقا فهذا بأفضل المنازل.2- وعبد رزقه لله علما ولم يرزقه مالا، فهو صادق النية، يقول: لو أن لى مالا لعملت عمل فلان، فهو بنيته، وأجرهما سواء.3- وعبد رزقه الله مالا ولم يرزقه علما، فهو يخبط فى ماله بغير علم، لا يتقى فيه ربه ولا يصل فيه رحمه، ولا يعلم أن لله فيه حقا فهذا بأخبث المنازل.4- وعبد لم يرزقه الله مالا ولا علما فهو يقول: لو أن لى مالا لعملت فيه بعمل فلان، فهو بنيته ووزرهما سواء . إن النبى عليه الصلاة والسلام سمى دخيلة الإنسان حين يعمل "علما " والعلم هنا يقين خالص ومسلك راشد وذكاء واسع. والواقع أن النجاح فى الدنيا يحتاج إلى هذه الخصال مجتمعة، فهل يكون النجاح فى الدين أقل منها؟ أى مجتمع فيه فقراء وأغنياء، وعلى كلا الصنفين أن يبذل طاقته فى أداء واجبه فتمويل الجهاد يحتاج إلى "عثمان بن عفان " الذى جاء بذهب كثير ليستطيع الجيش أن يتحرك، ويحتاج إلى "أنس بن النضر" أو "مصعب بن عمير" اللذين استشهدا فداء للحق وإرضاء لله.. عنصر واحد لا يخدم الدولة أو يغنيها عن سائر العناصر.. وثمن النصر كبير وأدواته متعددة ويوم يكون المجتمع الإسلامى خفيف الوزن فى ضروب المعرفة وأنواع الإنتاج فلن يستطيع حماية كيان ولا نصرة إيمان، وطبيعى أن يتحسس الدين النية قبل أى شيء، إذا كنت سياسيا فلا بأس أن تطلب القيادة كما ص _032(1/26)
طلبها "خالد بن الوليد" عندما شعر بأن قتال الروم يحتاج إلى خطة يحسنها هو ولا يستطيعها غيره، وتولى الرجل العبقرى القيادة وأعاد تعبئة الجيش ثم أدار المعركة إدارة بددت شمل الروم وأزهقت روح الإمبراطورية، وطوت رايتها عن الشام كلها وأرغمت "هرقل " على الفرار وهو يقول: سلام عليك يا سوريا سلاما لا لقاء بعده!!. فماذا فعل لما انتصر؟ عاد جنديا مطيعا يضع نفسه طوع أمر الخليفة "عمر". إن الفتح الإسلامى قاده نفر من هذا الصنف الخبير بالحياة الدنيا، الماهر فى ميادينها، ومع ذلك فلو انفتحت كنوزها تحت قدمه لداسها وهو يرنو إلى ما عند الله ويؤثره على كل شئ... فى هذا السياق الوضىء نذكر حديثا رقيقا للنبى عليه الصلاة والسلام يقول فيه: " من كانت الآخرة همه جعل الله غناه فى قلبه، وجمع عليه شمله وأتته الدنيا وهى راغمة!. ومن كانت الدنيا همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له، فلا يمسى إلا فقيرا ولا يصبح إلا فقيرا، وما أقبل عبد على الله بقلبه إلا جعل الله قلوب المؤمنين تنقاد إليه بالود والرحمة وكان الله بكل خير إليه أسرع " وليس معنى إقبال العبد بقلبه إلى الله أنه مغفل فى هذه الدنيا أو أبله لا يدرى من شئونها شيئا أو إنه فى السباق العتيد بين الكفر والإيمان لا يعرف كيف يخطو ولا أين يتجه !!. إن الله يقول لهذه الأمة العربية (إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون). ثم يقول فى موضع آخر (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) فإذا كنا فى مجال الصناعة المدنية والعسكرية لا ندرى عن خواص الحديد شيئا ولا نصوغ منه مدفعا ولا دبابة ولا ندفع فى اليم بارجة ولا فى الجو قاذفة، فهل ننصر الله بهذا العجز؟ وهل نشرف الوحى بتلك السذاجة؟ ص _033(1/27)
الإيمان فى كتابنا فكر فى الأرض والسماء، ودلائل صدقه مزيد من الفكر فى الأرض والسماء (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد). فهل المكفوفون عن رؤية الآفاق واستبانة الآيات يستطيعون فقه رسالة بله دعمها وتشتيت أعدائها؟ عندما أرمق تاريخ سلفنا الثقافى أعجب لأنهم ألفوا كتبا فى فلاحة الأرض، وفى مسار الضوء انعكاسا وانكسارا، وتعلم الأوروبيون منهم ذلك، وكانوا أقل منهم مستوى! أما الآن فنحن فاقدو الرشد! وقد شعرت بالخزى عندما قرأت أن إسرائيل سمحت لثمانية آلاف عامل عربي بالعمل فى الدولة اليهودية ليطعموا ويطعموا من وراءهم من قطاع غزة! قلت: ماذا يبنون؟ وماذا يكلفهم به المهندسون؟ من يدرى لعلهم يبنون حصونا تحمى الدولة المعتدية، وتذكرت قول الشاعر: وأعرق خلق الله فى الذل أمة تضام، ومنها للذى ضامها جند! ص _034(1/28)
أين نحن فى ملك الله؟ نظرت إلى الرغيف الذى سأتناوله فى الغداء وحملقت فى أجزائه ثم قلت: بعد قليل ستختفى فى بدنى! ترى أى أجزائك سيكون شعرا وأظافر؟ وأى أجزائك سيكون دماء وعروقا؟ وأى أجزائك سيكون لحم رئتين أو كليتين؟ إنك الآن جماد ولكن بعد سويعات سيخلق منك مخرج الحى من الميت شيئا آخر يحس ويتحرك! ما أعجب هذا الإنسان! إنه بدأ حيوانا منويا لا وزن له بين مائة أو مائة وخمسين مليونا من الحيوانات المهينة، سوف يتخلق من واحد منها فقط، وبقية الرقم الفلكى تتلاشى فى دورة المياه!! فلم كان هذا العدد الضخم؟ ليعلم الإنسان أنه عند خالقه لم يتطلب إعدادا معنتا أو مرهقا! فلا مكان لكبرياء! والإنسان نسيج وحده، فبصمات أصابعه لا تتكرر بين الألوف المؤلفة التى تزحم القارات، لكل بنان نقش خاص به! يقول " ديل كارنيجى " : " إنك شىء فريد فى هذا العالم، إنك نسيج وحدك فلا الأرض منذ خلقت رأت شخصا يشبهك تمام الشبه ولا هى فى العصور المقبلة ترى شخصا يشبهك تمام الشبه، وينبئك علم الوراثة أنك تخلقت جنينا نتيجة تلاقى ثلاثة وعشرين زوجا من "الكروموزومات " أسهم فيها بالنصف كل من أبويك وقد تضافرت هذه الأزواج كلها على توريثك الصفات التى تتميز بها. وكل "كروموزوم" يحمل "جينات " تعد بالمئات، وواحد فقط من هذه "الجينات " قادر على تغيير حياة المرء تغييرا شاملا، نعم، فالحق أننا مخلوقون بدقة تثير الرهبة وتستدعى الإعجاب، وحتى بعد التقاء أبويك أحدهما بالآخر فإن احتمال خروجك أنت ذاتك إلى حيز الوجود كنسبة واحد إلى 300000 بليون أو بمعنى آخر لو أن لك 300000 بليون أخ وأخت لكانوا جميعا مختلفين عنك، مناقضين لك !!! ". إن الله ليس كمثله شىء وأسلوبه فى الإبداع يعجز أولى النهى فما ندرى كيف يحيى ولا كيف يميت؟! ص _035(1/29)
أذكر أنى وقفت يوما أتنفس فى شرفة بيتى، فتساءلت: أين تذهب هذه الأنفاس؟ أتدخل صدورا أخرى؟ ثم أين تنتهى؟ أم أن العاصفات عصفا ستنقلها من القاهرة إلى المشارق والمغارب؟ إن تبادل الحياة بين الجماد والحيوان والإنسان يأخذ دائرة مربكة وما نملك إلا أن نقول (الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل * له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون). أكتب هذه السطور مقدمة لحديث قدسى جليل يشرح قدر الخالق، ويحدد مكانة المخلوق، ويبرز عظمة الإسلام وما أحسب له نظيرا فى مواريث السماء عند غيرنا! عن أبى ذر رضى الله عنه، عن النبى صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: " يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادى كلكم ضال إلا من هديته فاستهدونى أهدكم. يا عبادى كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعمونى أطعمكم. يا عبادى كلكم عار إلا من كسوته فاستكسونى أكسكم! يا عبادى إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أكفر الذنوب جميعا فاستغفرونى أغفر لكم. يا عبادى إنكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى ولن تبلغوا نفعى فتنفعونى، يا عبادى لو أن أولكم وآخركم و إنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك فى ملكى شيئا. يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكى شيئا. يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وانسكم وجنكم قاموا فى صعيد واحد فسالونى فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندى إلا كما ينقص المحيط إذا أدخل البحر. يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد كير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " . هذا حديث ليس بعده حديث عن العدل الإلهى والفضل الإلهى، وعن فاقة البشر وتطاولهم!! ولن يعرف حقيقته إلا خبير بأبعاد الكون الذى نحيا فى جانب منه، ورحمة خالقه التى وسعت كل شراء . ص _036(1/30)
أبناء غارة عمياء.. كما تحرس الشرطة الأمن وتطارد المجرمين يحرس الدعاة الإيمان ويطاردون الماجنين والعصاة ، وكلا الفريقين يحفظ حقائق الإسلام ويصون معالمه.. فالخاصة الأولى للأمة الإسلامية ألا تهادن الإثم وألا تدع أهله يقر لهم قرار، ومن فرط فى ذلك فإن تفريطه يقع على أم رأسه! قال تعالى يصف بلدا شاع فيه المنكر وتقاعس البعض عن محاربته : (فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون). إن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وإذا كثر الشياطين الخرس فى بلد فقد حقت عليه كلمة العذاب! والمسلمون فى هذا العصر غلبهم الاستعمار العالمى وهو مبغض للإسلام يريد إضاعة الصلوات واتباع الشهوات، وعلى الأمة كلها أن تدافع عن تراثها وتستمسك بحبل الله! وقد سمعت لغطا حول الحكم بغير ما أنزل الله يحتاج إلى بيان حاسم، فإن الذى يفضل القوانين البديلة على الشريعة المعطلة، ويرى هذه القوانين أحفظ لمصالح الناس، وأرعى لكراماتهم ودمائهم، فهو لا شك مارق عن الإسلام، متبع للهوى (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون)؟ قد يحكم امرؤ بغير ما أنزل الله لنزوة غلبته أو رشوة أغرته. فهذا بين الظلم والفسوق! وأما من رأى شرائع الإسلام غير جديرة بالتنفيذ، وأن غيرها أولى منها بالتقديم فهذا كافر بيقين! فلنحرس ديننا ولنحفظه من كيد الكائدين! عن عبادة بن الصامت قال: " بايعنا رسول الله على السمع والطاعة فى العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله تعالى فيه برهان! وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف فى الله لومة لائم " . ص _037(1/31)
والحديث واضح وهو من قواعد الإصلاح الاجتماعى! وليس بينه وبين حديث أم سلمة خلاف، فقد روى مسلم عن أم المؤمنين أم سلمة رضى الله عنها عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال " إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون، فمن كره فقد برىء، ومن أنكر فقد سلم! ولكن من رضى وتابع... ـ يعنى فعليه الوزر ـ قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم؟ قال: لا ما أقاموا فيكم الصلاة " ! ليس بين الحديثين تفاوت فإن من يقيم الصلوات الخمس يستحيل أن يستبيح الخمر أو يستحل الفروج كما تفعل القوانين الحديثة! ربما كانت منه هنات فى مسلكه الخاص أو فى سيرته بين الناس، وذاك لا يسيغ الخروج المسلح وإيقاد فتن تأكل الأخضر واليابس وللإصلاح سبل شتى يعرفها أولو النهى.. وقد قرأنا أن " ابن تيمية " منع بعض أتباعه من اعتراض جند التتار وهم سكارى.. وهو فى ذلك محق فقد كان التتار جيش احتلال أيسقط عاصمة الإسلام الأولى. وقتل الخليفة وأذل الأمة، فما يجدى منع بعض الجند من تناول الخمور؟ إن هذه الغارة العمياء تحتاج إلى مقاومة أرشد وخطة أوسع وأبعد! وهو ما فعله "ابن تيمية" عندما عبأ الجيوش وقاتل الغزاة وصان الإسلام واستبقى كيانه... والقوى المعادية للإسلام اجتهدت عندما اقتحمت أرضه أن تنشئ دساتير جديدة تتجاهل الوحى وتتناسى الأمر والنهى! وتفعل الفحشاء دون حياء، ومن الحمق مقاومة هذا بمسلك فردى محدود. لابد من دراسة ذكية لأسباب هزائمنا كلها، ولابد من خطط ذكية تخدم الأصول والفروع وترعى الحاضر والمستقبل ولنعلم أن النية الحسنة لا تغنى عن الإعداد الجيد.. ص _038(1/32)
حراس الحقائق قد يأمر الإنسان بالمعروف وينهى عن المنكر فى ظروف حسنة فتنطلق كلماته طيبة الأثر حميدة العقبى لا يقع بها فى حرج ولا يناله منها ضرر..! فهل كل الظروف كذلك؟ هناك من يكره الحق ويضيق بسماعه ويكاد يبطش بقائله، هناك قوم (جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب) ماذا يفعل المرء فى هذه الأحوال؟ إن السكوت جريمة! وخدمة الحق لابد منها مهما كانت النتائج!. وما بقيت رسالات الأنبياء كلهم فى هذه الدنيا إلا بعشاق الحقيقة الذين يتحملون فى سبيلها الويلات. عندما اعترض بنو إسرائيل عيسى عليه السلام وكفروا بما جاء به صاح (من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون). وبهذا الإيمان وتلك الشهادة انتصرت رسالة عيسى، وكذلك انتصرت من بعده رسالة محمد عليه الصلاة والسلام. إن الحق لابد له من رجال يشرحون دعوته ويبسطون أدلته وينافحون عنه ويتحملون الأذى فى سبيله، ولذلك روى أبو سعيد الخدرى عن رسول الله قوله: "أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر" ! وعن حذيفة قال النبى- عليه الصلاة والسلام: " والذى نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " !! ولا بأس أن أقص محنة مرت بى، فقد ألفت كتابى " الإسلام فى وجه الزحف الأحمر" خلال أيام عصيبة، كان صوت الشيوعية عاليا، وكان السلطان معها وكان التجهم لها خرابا للبيت وطريقا إلى السجن. ص _039(1/33)
ونظرت إلى صحائف الكتاب فى يدى قبل أن أدفع به إلى مطبعة بعيدة وقلت: ربما كان موتى فى هذا الكتاب! ولكن نفسى قالت لى: بئست الحياة أن تبقى بعد أن يموت دينك، فمضيت فى طبع الكتاب وليكن ما يكون!. وشاء الله أن يخرج الكتاب بعدما هوى الصنم وأصيب أتباعه بنكسة موجعة! فحمدت الله أن ناصرت الحق فى محنته ثم لم أصب بأذى! وقررت أن أستمر فى جهادى مستندا إلى الله وحده.. إن محنة الأديان تجىء من أناس يوجلون من شهادة الحق ولو انتصر الزور وارتفعت راية الباطل!. ولو أن أهل الحق صانوه صانهم ولو عظموه فى النفوس لعظما ولكن أهانوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما وبيع الدين أو خذلان قضاياه حرفة قديمة لبعض الكهان الذين قال الله فيهم (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله). والوفاء للحق ليس شقشقة لسان ولا تزوير بيان إنه إخلاص فى السعى وتحفل للعنت واستواء الظاهر والباطن فى مرضاة الله والويل لمن يقول ولا يفعل، الويل لمزوق السيرة خرب السريرة!!. عن أسامة بن زيد بن حارثة قال سمعت رسول الله يقول " يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى فى النار، فتندلق أقتاب بطنه- تخرج أمعاؤه- فيدور بها كما يدور الحمار فى الرحى، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ألم تك تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: بلى، كنت أمر بالمعروف ولا آتيه، وأنهى عن المنكر وآتيه "!! ونعوذ بالله من مصير السوء! هذا رجل يشبه أحبار اليهود حمل الأسفار ولم يحملها، وقرأ العلم ولم يرتق به، وعاش يخدم بطنه بأطايب الطعام، ولم يبال بخدمة دينه ولم يبال بتزكية ضميره، فكانت آخرته من جنس دنياه دورانا حول أمعائه، وهوانا أضاع حاضره ومستقبله.. (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون) نسأل الله العافية. ص _041(1/34)
كلمات في الإيمان الميزان الضابط للعبادة . في العبادة . مفهوم البدعة بين النقل والعقل . ورهبانية ابتدعوها . لا تبطلوا أعمالكم .. (( الصدقات المزورة )) . المسلم بين عمل الجوارح وغفلة القلوب . دعائم الشر والخرافات . ص _042
توجد الآن تيارات فكرية تتهجم للطاعات وتتجنب أصحابها ، بل هي تريد ضرب سور حول الوحي الإلهي حتى لا يتصل به أحد وحتى لا يتصل به أحد وحتى تعيش الأرض معزولة عن السماء .
محمد الغزالي ...
ص _043(1/35)
الميزان الضابط للعبادة هززت رأسى ضاحكا وأنا أقرأ فى أحد كتب السنة عنوان " الاقتصاد فى الطاعة"! وقلت: إن طبيعة عصرنا تمنع الإسراف فى الطاعات، لقد تبرجت الأرض وبعثرت الشهوات فى كل مكان، والماهر من احتفظ بدينه فى هذه المتاهات وحصل النهايات الصغرى فى اختبارها الصعب.. ثم بدا لى أن الأمر جدير بالدراسة المتأنية، فإن بعض الناس قد يسرف فى إحدى الطاعات على حساب التقصير فى طاعة أخرى، والفرائض المكتوبة تشبه الوجبات التى يتغذى بها البدن، لابد من احتوائها على عناصر منوعة. وقد يمرض الجسم لأنه استكثر من عنصر وحرم من عنصر آخر..! لقد قرأنا حديث أنس بن مالك أن ثلاثة نفر جاءوا إلى بيوت النبى صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته، فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها- عدوها قليلة- وقالوا:، أين نحن من النبى؟ قد كفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر! قال أحدهم: أما أنا فأصلى الليل أبدا، وقال الأخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال الأخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا..! فجاء رسول الله إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إنى لأخشاكم لله وأتقاكم له. ولكنى أصوم وأفطر، وأصلى وأرقد وأتزوج النساء. فمن رغب عن سنتى فليس منى " . وعند التأمل فيما قطعه هؤلاء الثلاثة على أنفسهم نجد أن تدينهم ناقص وأنهم سلكوا طريقا يهدم الحياة ولا يبنيها، ويفسدها ولا يرشدها..! ماذا تكسب الدنيا من رجل ترهب واعتزل النساء؟ إن سلسلة الحياة من لدن آدم تنقطع عنده فلا أثر ولا عقب! وقد تكون معاناته فى تربية ولد أزكى عند الله وأربى فى الدنيا من هذا الحرمان.. وماذا كسبه الصائم أبدا؟ وفر طعامه لغيره وأعجز نفسه عن الكدح والجهاد. ص _044(1/36)
إن قدرته على مقاومة الباطل وهو شبعان أشرف من عجزه عن الكر والفر وهو محروم. وهذا الذى فرض على نفسه قيام الليل، هل ينام النهار، ويقصر فى تجارته أو فى فلاحته؟. عندما يكون الكفر أقدر على قيادة الحياة من الإيمان فقد ضاع الدين! ولم يغن ركوع ولا سجود! إن هؤلاء الثلاثة مثال للقصور العقلى واضطراب المنهاج ومثال لكراهية الحياة ولمحاربة الجسد، ومثال للفشل فى اكتشاف أسرار الكون واستغلال قواه! ولك أن تسأل: أين ـ فى هذا التدين ـ مكان الملكات الأخلاقية المتوهجة فى السلك الإسلامى، والتى وردت نماذج لها فى قوله تعالى : (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا * ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا). لقد وضع القرآن الكريم هذه الخلال تحت عنوان الحكمة فقال : (ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا). إن هذا التدين الجامح فى ناحية، المنكمش فى أخرى يفقد الميزان الضابط للحقائق والذى أشارت إليه الآية الكريمة (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط …). والواقع أن الغلاة والمتطرفين لا يعدلون مع أنفسهم ولا مع الناس، والخلل فى أحكامهم شديد الحيف على الدماء والأعراض، ثم إن الإسراف فى بعض العبادات يتبعه غالبا قصور فى فهم الدنيا وتطويع علومها لخدمة الدين. وذلك ما جعل الخوارج قديما وأشباههم فى عصرنا أبعد الناس عن الطب والهندسة والاقتصاد والسياسة، ولذلك لم تصح لهم سلطة ولا بقيت لهم دولة! بل عجزوا عن تكوين بيوت سعيدة!! ص _045(1/37)
روى البخارى أن النبى عليه الصلاة والسلام آخى بين سلمان الفارسى وأبى الدرداء فزار سلمان أبا الدرداء فرأى أم الدرداء متبذلة ـ أى فى ثياب رديئة ـ فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليست له حاجة إلى الدنيا! فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاما. وقال له: كل فإنى صائم! قال: ما أنا بآكل حتى تأكل معى، فأكل.. فلما جاء الليل ذهب أبو الدرداء ليقوم فقال له سلمان: نم! فنام. ثم ذهب يقوم فقال له: نم فنام، فلما كان آخر الليل قال له سلمان: قم الآن، فصليا جميعا. ثم قال له سلمان: إن لربك عليك حقا، وإن لنفسك عليك حقا، وإن لأهلك عليك حقا، فأعط كل ذى حق حقه! فأتى أبو الدرداء النبى صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال النبى: صدق سلمان. ". إن لتعاليم الإسلام ميزانا يعرفه أهل الفقه، وسنفقد اتزاننا إذا لم نعرف هذا الميزان. ص _046(1/38)
فى العبادة... سئل أديب: ما أحسن السجع؟ قال ما وافق الطبع! فسئل: مثل ماذا؟ قال: مثل هذا!، وقالوا: إذا وافق الشرع الطبع فذاك السمن على العسل! والواقع أن الواجب إذا وافق الرغبة كان المرء أسرع إليه من البرق... وعلاقة قراء الصحابة بالقرآن الكريم كانت آية فى الإعزاز والإقبال كانوا يتلون آياته بشغف، وينكبون على حفظها بتلهف ويحسون بلاغتها وجمالها إحساسا فائقا، ويصور ذلك " عبد الله بن مسعود " فيقول: إن مثل صاحب القرآن كمثل رجل انطلق يرتاد لأهله منزلا مخصبا فمر بأثر غيث فبينما هو يسير فيه ويتعجب منه إذ هبط على روضات دميثات فقال: عجبت من الغيث الأول فهذا أعجب وأعجب!! وابن مسعود يقصد أنه صاحب القرآن أول ما نزل فعجب منه وأقبل عليها مبهورا. فلما طالت الصحبة وتتابع الوحى رأى فى الجديد النازل ما زاده انبهارا، ولذلك يقول فى الحواميم: (إذا وقعت فى آل حاميم وقعت فى روضات الجنة. فأنا أتأنق فيهن.. ". ومن فضل الله أنه خامرنى شعور مثل شعور "ابن مسعود" وأنا أتلو الحواميم السبعة. كنت أراها حدائق تفوح بالتوحيد، وتملأ الأجواء بعطره، وكل صديق للوحى المبارك لابد أنه واجد هذا الإحساس.. إن الجيل الذى حفظ القرآن أول ما نزل كان على مستوى بلاغته وصدقه، فكان يتجاوب معه ويقوم به آناء الليل وأطراف النهار وسيبقى القرآن حتى قيام الساعة، وبعدها، فريدا بهؤلاء الحفاظ الذين لا ينسون منه حرفا. والذين عاشوا به وعاشوا له. فلم يتعرض وحى محمد لما تعرض له وحى المرسلين السابقين من ضياع وتبديل.. والطريف أن النبى عليه الصلاة والسلام كان يكفكف من إغراق بعض أصحابه فى العبادة وفى تلاوة القرآن الكريم، لعل ذلك رحمة بهم وخشية عليهم. فعن عائشة رضى الله عنها أن النبى دخل عليها وعندها امرأة. قال: من هذه؟ قالت: هذه فلانة تذكر من صلاتها. ص _047(1/39)
قال: مه! عليكم بما تطيقون، فو الله لا يمل الله حتى تملوا. وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه " . وفى رواية عن "عبد الله بن عمرو بن العاص ": ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل؟ قلت: بلى يا رسول الله! قال فلا تفعل، صم وأفطر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا وإن لزوجك عليك حقا وإن لزورك عليك حقا، وإن بحسبك أن تصوم فى كل شهر ثلاثة أيام ". وفى تفصيل آخر قال النبى لعبد الله بن عمرو: " ألم أخبر أنك تصوم الدهر وتقرأ القرآن كل ليلة؟ فقلت: بلى يا نبى الله ولم أرد بذلك إلا الخير! قال: فصم صوم نبى الله داود، فإنه كان أعبد الناس. واقرأ القرآن فى كل شهر! قلت: يا نبى الله إنى أطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه فى كل عشرين. قلت: يا نبى الله إنى أطيق أفضل من ذلك. قال: فاقرأه فى كل عشر. قلت: يا نبى الله إنى أطيق أفضل من ذلك.. قال فاقرأه فى كل سبع ولا تزد على ذلك.. فشددت فشدد على وقال لى النبى صلى الله عليه وسلم: " إنك لا تدرى لعلك يطول بك عمر. قال عمرو: فصرت إلى الذى قال لى النبى صلى الله عليه وسلم، فلما كبرت وددت أنى كنت قبلت رخصة نبى الله " ..!! والمسلمون مازالوا إلى يومنا هذا يحترمون كتابهم ويزينون به مجالسهم لكن أمورا منكرة تقع منهم وما بد من تحذيرهم مغبتها، لقد نجح الاستعمار العالمى فى تعطيل الشريعة الإسلامية وإحلال قوانين أخرى محلها. وإماتة أحكام القرآن ذريعة إلى تعطيل عقائده ووصاياه كلها فهل نتلو القرآن لنتغنى به؟ ونستحلى موسيقاه؟ ص _048(1/40)
ما هذا شأن المؤمنين (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون). لقد طالعت ما نشرته صحف العالم إن "جنرال" رابين كان يلقى خطابا سياسيا، فنبه سامعيه إلى أنه سيقرأ لهم جملا من التوراة، وقبل أن يبدأ القراءة وضع على رأسه قلنسوة الصلاة اليهودية، ثم شرع يرتل فى خشوع وأدب جم وكانت الحشود تنصت إليه فى واشنطون وعلى رأسها الطير!! يقع ذلك بين قوم جعلوا دينهم دولة فهل نعى العبرة ونحسن العودة إلى كتابنا وماضينا وأمجادنا؟. ص _049
كبت الغرائز من الخدع الشائعة فى مجال التربية أن الكبت ضار وأن الخير فى ترك الناس يفعلون ما يحلو لهم! وقد سار هذا المبدأ فى الغرب وعوملت الناشئة على أساسه فانتشرت شرور كثيرة وكاد العبث يكون قانونا عاما. إن ترك الناس يتحركون حسب وجهات نظرهم دلل الشهوات وأضرى الأهواء وجرأ الأغرار وقصار النظر على فعل ما يريدون دون حياء والواجب أن نشرح الفضائل المطلوبة ونغرى باعتناقها ونزيح العقبات التى تعترضها ونثنى على الناجحين ونزرى على المقصرين.. وأساس الخير الإيمان بالله، والمسارعة إلى رضاه، فمن تقلص الإيمان فى قلبه حقرناه، ومن استسهل الرذائل قاطعناه، ومن تبع هواه نبذناه!. وتوجد الآن تيارات فكرية تتجهم للطاعات وتتجنب أصحابها، بل هى تريد ضرب سور حول الوحى الإلهى حتى لا يتصل به أحد وحتى تعيش الأرض معزولة عن السماء. ثم ماذا؟ ثم يجىء قوله تعالى : (ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون). إن الله خلقنا لنعرفه ونذكره ونؤدى حقه فمن نوالى إذا قاطعنا الله؟ ومن نصادق إذا خاصمناه؟ (قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين). وقد التزم النبى عليه الصلاة والسلام هذه السيرة المشرقة طوال حياته وتحمل معاناتها بخلد فعن عائشة أن النبى كان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه. ص _050(1/41)
فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد كفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال " أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا " . وليست للرسل ذنوب مما نألف! وإنما يتفاوتون فى مدارج الكمال، فساكن السماء السادسة دون ساكن السابعة، ولكنه على أية حال ليس من أهل الأرض!. ويتفاوت أهل الأرض بمدى مقاومتهم للرذيلة وبعدهم عنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مثلى ومثلكم كمثل رجل أوقد نارا فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن- يدفعهن عنها- وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي- أى أردكم من أعناقكم عن الوقوع فيها وأنتم تغلبوننى ". إن الإسفاف لا يحتاج إلى جهد، يكفى أن يستسلم المرء للهوى فينزلق إلى أسفل! إن التسامى هو الذى يتطلب المكابدة واحتمال المشقة، وتدبر قوله تعالى (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين). هذا رجل زهد فى الحق وابتعد عن مطالبته فشدته غرائزه إلى أدنى، فهوى (ولو شئنا لرفعناه بها ـ بآيات الله التى فرط فيها ـ ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه). إنه لم يحاول الارتفاع ولو حاول لساعده الله وأعانه، إن النهى عن الكبت نهى عن التسامى وإغراء بالهبوط. قال عليه الصلاة والسلام "حجبت النار بالشهوات وحجبت الجنة بالمكاره". من الناس من يحب كلمات الإعجاب ونظرات الثناء ولا يؤدى ما عليه إلا إذا ضمن هذا الثمن! هذا هو الرياء المبطل للأعمال والواجب أن يكتفى المؤمن بنظر الله إليه ومستقبله عنده، وأن يجيد عمله سواء رآه الناس أم لم يروه. إن حب الظهور والتطلع إلى الثناء رذيلة مهلكة، وغالبا ما تصرف الناس عن الإخلاص والإجادة، وقد سماها الإسلام شركا!!. ص _051(1/42)
وجاء فى البعد عنها الحديث الرقيق " اللهم إنى أعوذ بك من أن أشرك بك شيئا أعلمه واستغفرك لما لا أعلمه " . فهل نمحض نياتنا لله؟ ولا نبالى أن نعيش جنودا مجهولين؟ وللغريزة الجنسية دسائس كثيرة تجعل شتى الحواس فى خدمتها فهل نترك الكلمة المريبة والنظرة الجريئة والحركة المغشوشة؟. إن طريق الكمال طويل ولابد فيه من يقظة وتقوى وكل جهد يبذل فيه نماء فى رصيد الخير، وخطوة إلى الأمام. فمن النبي عليه الصلاة والسلام فيما يروية عن ربه عز وجل " إذا تقرب العبد إلى شبرا تقربت إليه ذراعا، وإذا تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أتانى يمشى أتيته هرولة " . إن الله يحب من يقبل عليه، ويهش لتوبته وهو إليه بكل خير أسرع . ص _052(1/43)
مفهوم البدعة بين النقل والعقل النقل والعقل هما الأساس الذى تقوم عليه المعرفة الدينية، وليس بينهما تفاوت ويستحيل أن يقع خلاف بين صحيح المنقول وصريح المعقول، والإسلام دين النقل والعقل معا، والمهم أن يكون النقل ثابتا وثيق الصلة بالله ورسوله، وأن يكون العقل سليما بعيدا عن الآفات والفتن التى قال فيها الشاعر: يقضى على المرء فى أيام محنته حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن وقد رأينا- فى عصرنا الراقى- أصحاب عقول يفتون بافتراس الشعوب وانتهاب الأعراض ويقولون بسماجة زرية: إن الملكوت الضخم الذى نحيا فيه لا رب له!!. ودعنا من هؤلاء الأغرار، ولننظر إلى أصحاب النقول. إن كرامة النص فى انتمائه إلى الله الذى أنزله، فإذا وقع تحريف أو تزوير فلا كرامة لقول. وقد جزم أولو الألباب بأن القرآن الكريم وحى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن ما صح من سنة محمد عليه الصلاة والسلام شبكة من التعاليم الحكيمة تكفل الرشد وتضمن الخير! ويرمقها العقل الإنسانى باحترام، ويمكن التعويل على الكتاب والسنة فى صنع حضارة فاضلة ونظام إنسانى عادل، فإذا اختلفنا فى شىء احتكمنا إليهما (فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول). لا يجوز إلا فتيات عليهما ولا البعد عنهما. عن عائشة رضى الله عنها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أحدث فى أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " أى مردود عليه، والأقيسة والمصالح المرسلة والتعازير المختلفة وما يبنيه العلماء الراسخون على قواعد الدين وأهدافه فهو من الدين بقدر ما فيه من صواب. قلت يوما: من قتل امرأة فى الطريق، أو اعترضها بقول شائن، جلد أو سجن أو أصابه من الغرم بقدر ما أساء، فسألنى معترض: أنى لك هذا؟ فقلت: التعازير التى يضعها أولو الأمر منا من الدين نبعث وعلى قواعده قامت ولا حرج قط فى إمضائها، ولا يجوز عدها من البدع المستحدثة!!. ص _053(1/44)
وتزيد الدائرة اتساعا، لقد أمر الإسلام بالجهاد، فهل من السنة أن نحارب بالسيف وحده؟! وأمر بالشورى فهل لابد من سقيفة بنى ساعدة لإجراء النقاش وإمضاء الحوار؟! إن أسلحة الجهاد لا حصر لها، وسبل أخذ الرأى كثيرة، والأمة الحريصة على رسالتها تعرف كيف تخدم دينها.. أثبت هذه التقدمة لحديث جابر رضى الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم "! ويقول: "بعثت بين يدى الساعة كهاتين " ويقرن بين إصبعيه السبابة والوسطى ويقول: " أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله تعالى وخير الهدى هدى محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ". ثم يقول: " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، من ترك مالا فلأهله ومن ترك دينا أو ضياعا ـ عيالا ـ فإلى وعلى ". وقبل أن أشرح البدعة المذمومة أشير إلى التكافل الاجتماعى الذى ختم به الحديث، فهو يقول: إن اليتامى الذين يتركهم الميت لا يضيعون فى النظام الإسلامى بل يحفظ الله مستقبلهم، وتكفلهم الدولة!! ونعود إلى الابتداع المحزم، إنه اختراع شىء ما من عند النفس ونسبته إلى الدين على أنه شرع قويم وصراط مستقيم! إن المشرع هو الله، ولا يسوغ لبشر أن يأتى بشىء من عند نفسه ثم يشيعه بين الناس على أنه دين الله.. وللبدع علم يدرس فى الأزهر والمعاهد المشابهة، ألف فيه الأصوليون "كالشاطبى" و"القرافى" كتبا حسنة، وللشيخ "على محفوظ " رحمة الله كتاب " الإبداع فى مضار الابتداع " وهو نافع فى هذا المجال، والدعوة الإسلامية بحاجة إلى رجال يميزون بين السنن والمبتدعات حتى لا يخلطوا بين السليم والمزيف، وقد أصاب الإسلام ضير شديد من كثرة ما نسب إليه من محدثات هو منها برئ . ص _054(1/45)
ورهبانية ابتدعوها.. من خصائص الإسلام أنه يحل الطيبات ويحرم الخبائث ويرفض إحراج النفوس بحظر ما تشتهى وإلزامها العنت وتكليفها مالا يطاق. وفى ذلك يقول جل شأنه: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين * وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) غير أن فريقا من أتباع الأديان حاد عن هذا التوجيه السديد ورأى أن يعيش على الشظف، ويبتعد عن اللذائذ ويألف طريق الزهد والخشونة!!. هل هذا المسلك يرضى الله حقا؟ كلا إنه رهبانية ابتدعها عباد الهنود وانتقلت منهم إلى كهان النصارى، وتاريخها حافل بالسيئات والمخازى. ولإرضاء الله منهج آخر، لو أنك دخلت حديقة فسرتك أشجارها وأطيارها ومتعت سمعك وبصرك بما أشاع الله فيها من جمال ثم تناولت من ثمارها ما لذ وطاب، ثم اتجهت إلى بديع السموات والأرض تحمده على رزقه وتثنى عليه بما هو أهله لكان ذلك أفضل لك من أن تصوم فى مغارة موحشة منقطعا عن الناس منطويا على نفسك !!. إن هذه الدنيا مخلوقة لنا (الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء). فلماذا نرفض هدية الله، ولا نقبلها منه شاكرين مقدرين؟ ومشاعر الود والتراحم بين رجل وامرأته يتعاونان على طاعة الله فى هذه الدنيا، ويخلص كلاهما لصاحبه أشرف عند الله من مترهب يحترق بنار الرغبة ولا يستريح أبدا، إلا أن يسرق اللذة من هنا أو من هناك!. إن الدين ليس تعذيبا أحمق وليس اختراع أمور يعبد بها المرء ربه ما أنزل الله بها من سلطان (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا قل آلله أذن لكم أم على الله تفترون * وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثرهم لا يشكرون). ص _055(1/46)
التسامى الصحيح أن تنقل الحق من قلب إلى قلب ومن قطر إلى قطر، وأن توسع دائرة الإيمان ما استطعت، بالأسوة الحسنة والإقناع الحر، فإذا حاول أحد اعتراض الدعوة والصد عن سبيل الله، انتصبت أمامه مقاوما جلدا وفارسا صلبا حتى تؤمن طريق الدعوة وتشذ أزر المؤمنين. ولذلك جاء فى الحديث " رهبانية أمتى الجهاد " . ولأن أكون مجاهدا مكتنز العضلات سوي البدن أفضل من أن أكون عاطلا نحيفا ظاهر العجز !!. إن الله غنى عن تعذيبنا لأبداننا، وإرهاقها بما لا جدوى منه!. وفى تجاربى أنى تركت بعض الأطعمة والأشربة زهدا فرأيتنى عاجزا عن استكمال دروس، وصلاة ركعات، ومواصلة نشاط، فعرفت خطئى وأدركت أن هذا التزهد من وساوس الشيطان، وأنه معوق عن الخير.. فى الحديث " إذا أمرتكم بشىء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شىء فاجتنبوه ". لا يجوز أن نقترب من محرم، بل لابد توطين النفس على تركه وسد أبوابه، أما ميدان الصالحات من ذكر وعلم وجهاد وخلق وبر فالطريق مفتوح نحث فيه الخطا ونحفز الهمم، ولا مكان فى ديننا لأثارة من رهبانية ولذلك قال رسول الله: "ما بال أقوام حرموا النساء والطعام والطيب وشهوات الدنيا، إنى لست آمركم أن تكونوا قسيسين ورهبانا، فليس فى دينى ترك اللحم والنساء ولا اتخاذ الصوامع! إن سياحة أمتى الصوم، ورهبانيتهم الجهاد، اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وحجوا واعتمروا وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وصوموا رمضان واستقيموا يستقم لكم. فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم فتلك بقاياهم فى الأديرة والصوامع ". إن الفطرة هى الخاصة الأولى للإسلام، فما يصادم الفطرة أو يشوهها لن يكون دينا.. والرهبانية ليست عدوانا على الدين فقط، إنها ختام سيئ للحياة وانقطاع لحبلها الممتد من لدن آدم، فليس للراهب عقب تعمر به الدنيا أو يتصل به الإيمان. أولى منه بالبقاء والثناء من يقول (رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا(1/47)
وتقبل دعاء * ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب). ص _056
لا تبطلوا أعمالكم العمل الصالح يجب أن يخلص لله وأن يصان من شوائب الأغراض الدنيا، وحبذا - بعد أن يتمه صاحبه- أن يكتمه وألا يتحدث بفخر عنه وألا يتطاول به على غيره! يقول الله لنبيه: " لا تمنن تستكثر " أى مهما كان ما أسديت من نعمة جسيما فلا تمتن به على من أخذه، وادخره عند ربك!. إن بعض الناس يعمل الخير ثم يبطله بالمن والأذى، يقول لصاحبه: لولاى لهلكت جوعا وعريا!. أو لقد كانت يدك السفلى ويدى العليا!. إن هذا المسلك يحبط الأجر ويبطل العمل.. إنها حماقة أن تخرج الصدقة من مالك ثم تضيع أثرها فى الدنيا والآخرة! تأمل معى فى المثل الذى ضربه الله سبحانه لمن يقعون فى هذه الورطات (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت). إن الكهل الضعيف يسعده أن تكون له فى أخريات حياته حديقة تمده بالحبوب والفواكه يطعم منها ويطعم منها أولاده، ما تكون حاله إذا احترقت هذه الحديقة؟. المسغبة والعجز!. كذلك يحرم المرء ثمرة عمله أحوج ما يكون إليها إذا هو أبطل عمله بالرياء والإيذاء والخيلاء. والمسلم العاقل يحافظ على عمله بعد أن يتمه، حتى يبقى ذخرا له يوم اللقاء. والخائف من الرياء يقول كما روت السنة: " اللهم إنى أعوذ بك من أن أشرك بك شيئا أعلمه وأستغفرك لما لا أعلمه " . ص _057(1/48)
إن المحافظة على العمل لا تقل خطورة عن أداء هذا العمل قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم) واتصال الصالحات مقصود للشارع حتى تعمر الأوقات كلها بالخير وتبقى التقوى حالا مستقرة وصبغة ثابتة! وفى حديث عائشة: " كان أحب الدين إليه ما داوم صاحبه عليه " . وفى حديثها أيضا، كان النبى عليه الصلاة والسلام إذا فاتته الصلاة من الليل صلى من النهار. وجاء أنه قال لعبد الله بن عمرو: " لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل" ! لا نريد للكسل أو الملل أن يبطل العمل، كما لا نريد للكبر أو الفخر أن يهلك صاحبه!. وأريد لفت الأنظار إلى شئ يتصل بالجزاء الأخروى فإن بعض الأغرار يشيع عنه أوهاما رديئة! إن الجنة هى مكافأة الله لعباده الصالحين، والنار هى مظهر سخطه على الجاهلين والجاحدين. قال تعالى فى أهل جهنم : (ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار) وقال فى أهل الجنة (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا). واللذة والألم قوانين نفسية لا ينكرها عاقل. وقد شاع بين بعض الصوفية أن العبادة رغبة فى الجنة أو رهبة من النار منزلة هابطة، وأن أصحاب الهمم فوق ذلك، وحكوا أشعارا فى ذلك لإحدى العابدات الشهيرات ! ص _058(1/49)
ونقول نحن: إن العارفين بالله سعدوا بطاعته فى الدنيا وسينضر وجوههم نعيم الآخرة وستكون لذتهم الأولى ترديدهم للباقيات الصالحات (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين). وتجلى الله عليهم برضوانه بعيد بداهة عن الآلام والمنغصات فقد ذهبت هذه المتاعب إلى من خاصموا ربهم، وكفروا بلقائه ليجتمع عليهم عذاب البدن والضمير معا.. وتهوين نعيم الجنة أو عذاب النار لون من الهوس، فإن من يستحق جائزة سنية أو مكافأة جزيلة لا تقدم له فى سجن أو فى فرن وإنما يختار له مكان كريم واستقبال رائق.. إن التكريم المادى ليس هو الهدف، إنه الوسط الطبيعى للتكريم المعنوى.. والبشر يحتاجون للأمرين جميعا. أعرف أن هناك من يذاكر دروسه لينجح، ومن يذاكرها شغفا بالمعرفة. أو أن هناك من يؤدى واجباته كاملة ليأخذ أجره كاملا. وهناك من يؤديها لأنه لا يطيق التفريط! والناس متفاوتون تفاوتا واسعا. والإسلام يحترم عابدا يحتفى بآلاء الله ويشعر بجميل مسديها جل شأنه، وهو أشد احتراما لمن ينتقل من النعمة إلى المنعم ومن الكون إلى المكون، وتشرق على بصيرته أشعة من الذات الأقدس يلحظ فيها مجده، ويتابع فيها حمده. ص _059(1/50)
المسلم بين عمل الجوارح وغفلة القلوب الأفول طبيعة الكواكب فالشمس تشرق وتغرب والقمر يظهر ويختفى، والنجوم المسخرة تقترب وتبتعد، أما الشهود الإلهى على الحياة والأحياء فلا يغيب أبدا!! وكيف يغيب شىء عن الحى القيوم ومنه صدر وبه يبقى؟ إنه لولا إمداد الله للقلب ما استمر نبضه، ولولا إمداد الله للرئتين ما اتصل الشهيق والزفير!. إن المخلوق لا يبتعد عن الخالق ولا يستغنى عنه ولا يفلت من رقابته وعندما يحشر الناس يوم اللقاء الأعظم ليساءلوا عما قدموا يقول الله (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين). وقد تنوعت أساليب القرآن الكريم فى توضيح الشهود الإلهى الدائم حتى تصح مراقبة الإنسان لله ويحسن الامتثال لأمره ونهيه، ففى المجالس صغيرها وكبيرها يقول تعالى : (ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا). وفى الأحداث جليلها ودقيقها يصور هذا الحضور الإلهى الشامل بقوله عز شأنه (يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير). فأين المفر ممن هو بكل شىء بصير وبكل شىء محيط؟ أغريب أن يطالب الإنسان بمراقبة الله ورهبته، أو الاستحياء منه وتقدير نعمته؟. إن التربية الدينية قامت ـ فى الإسلام ـ على الشعور بهذه الحقيقة، وتظاهرت شتى العبادات على توكيدها ومد رواقها، ويوم تكون العبادات حركات جسد لا وعى معه فقد فاضت روحها وانمحى أثرها وتحولت الأمة إلى ممثلين لا يرفعون رأسا ولا يطيبون نفسا. وأعتقد أن انهيار الحضارة الإسلامية فى الأعصار الأخيرة جاء من الاهتمام بأعمال الجوارح والغفلة عن أعمال القلوب. ص _060(1/51)
وقد رأيت أناسا كثيرين يعبدون أنفسهم تحت ستارة من عبادة الله أو ترك الذنوب الظاهرة! وعندما اقتحم الاستعمار حدودنا وجاس خلال ديارنا اجتهد أن ينسى الناس ربهم وأن لا يراقبوه فى سر أو علن واستوثق من هذا الطمس، ووضع سياسة ثقافية لاستدامته! ثم منح العرب استقلالا مشروطا ببقاء هذه السياسة! فلما ملكوا حرية العمل صنعوا بأنفسهم الدواهى، وارتكبوا فى بلادهم ما لم يرتكبه "المغول " ولا "الصليبيون "، وعندما خرجوا من أوطانهم سائحين أخذوا يبحثون عن ملذات جديدة!! كأنه لم يكفهم ما ألفوا من ملذات... والعلاج الصحيح لهذه المحنة يبدأ من القلب لا من الأطراف. إن القلب المعمور بالله ينطلق إلى الصواب وينساق إلى الحق ولا يصدر عنه إلا ما ينفع البلاد والعباد، ولأمر ما أشار الرسول إلى صدره ثم قال: التقوى ها هنا ثلاث مرات....! ثم إن الإيمان باليوم الأخر ركن ركين فى الفلاح، وهذا معنى مفقود فى الحضارة الحديثة، فالقارات الخمس فى ظل هذه الحضارة تستيقظ من منامها كى توفر الطعام ليومها، ولا تدرى عن ربها ولقائه شيئا، أما قوله تعالى : (اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد) فغيبيات مرفوضة ومثله قول المؤمن إذا أصبح " الحمد لله الذى رد إلى روحى وعافانى فى جسدى وأذن لى بذكره ". إن مدنية العصر نسيت النبوات كلها واتخذت إلهها هواها، وتراث "محمد" وحده هو الذى ينعشها من غيبوبتها، ويرد إليها عقلها ويحملها على العدل والعفة والاستقامة... فى حديث جبريل الذى نزل يعلم الناس دينهم جاء هذا الحوار: " ما الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". ص _061(1/52)
والسؤال وجوابه يرجعان بنا إلى قضية المراقبة التى صدرنا بها هذا الكلام. إن طاقاتنا الحسية والعقلية ضئيلة جدا، ويستحيل أن نبصر ذات الله، ولقد صعق موسى قبل أن يظفر بهذه الأمنية! من أين للمحدود أن يرى المطلق؟ حسبنا فى هذه الدنيا أن نرى آياته ونبصر دلائل عظمته ولذلك يقول تعالى فى الأهل الجالسين حول المحتضر : (فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين). والحرص على مقام الإحسان يجعلنا نجتهد فى الإحساس بالحضور الآلهى والرقابة المحيطة والهيمنة الشاملة، إنه تبارك وتعالى مستو على عرشه يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ويعرف ما نفعل وما نترك (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير). ص _062(1/53)
دعائم الشر والخرافة لابد أن الشر متأصل فى طباع البشر إلى حد بعيد وإلا فبم تفسر عجز "لوط " مثلا عن تطهير القرية التى شاع فيها الفسوق وشذ أهلها عن سنن الفطرة؟ لم يستجب إلا بيت واحد لدعوة الطهر والعفة، قال تعالى : (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين* فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) !. وقد أرسل الله جملة من الأنبياء لإحدى القرى فى العصور الأولى فبم أجابوا دعاة الحق؟ (قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون) وحاول رجل صالح من أهل القرية أن يرشد مواطنيه إلى الخير ويقنعهم بطاعة الله فأبوا إلا المضى فى طريق التكذيب، فماذا حدث لهم؟ يقول الله تعالى: (وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون). إن شعوبا كثيرة أوصدت قلوبها دون الحق وآثرت الزيغ على الاستقامة. وفى حديث البخارى عن ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عرضت على الأمم، فرأيت النبى ومعه الرهيط أى نفر قليلون ـ والنبى ومعه الرجل والرجلان، والنبى وليس معه أحد ـ لم يصدقه بشر!! ـ إذ رفع لى سواد عظيم، فظننت أنهم أمتى، فقيل لى: هذا موسى وقومه! ولكن انظر إلى الأفق فنظرت فإذا سواد عظيم ـ لعلهم قوم عيسى ـ فقيل لى انظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم فقيل لى هذه أمتك.. ". وقبل أن أمضى فى سرد الحديث وشرحه وحال أمتنا الإسلامية وموقفها التاريخى المعقد أريد أن أقول: إن موسى مات مغاضبا لقومه الذين حكم الله عليهم بالتيه فى برية سيناء لما بدا من جبنهم وخستهم. ص _063(1/54)
وكذلك مات هارون، وترك اليهود يتعسفون الطريق، فطردوا مرتين من فلسطين، هزمهم الأشوريون أولا ثم عادوا ليستأنفوا عوجهم فهزمهم الرومان، وشتتوهم فى أنحاء العالم.. وقد عاد اليهود إلى فلسطين بعد ما عقدوا صلحا مع النصارى الذين اشتد ساعدهم واتفق الفريقان على إهانة المسلمين وسلبهم ما يملكون وإهدار حقوقهم، ولنعد ـ بعد هذا الاستطراد ـ إلى الحديث النبوي الذى وقفنا فى منتصفه بعد أن رأى الرسول أمته، لقد قيل له " هذه أمتك ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب!! " ما معنى دخول الجنة بغير حساب؟ إن الجنة كما جاء فى الكتاب والسنة أعدت للمتقين، وما يؤذن بدخولها إلا للعاملين السباقين ـ أنها ليست سلعة تمنح بالمجان!!. (الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون). فما هؤلاء السبعون ألفا الذين يدخلونها بغير حساب؟ قد يقال: إن ما قدموا من أعمال بلغ من الكثرة حدا جعلهم فوق المحاسبة! كالطالب يسأل عن شىء فيؤلف فى الإجابة عنه كتابا، كيف يوقف لمساءلة؟ إن قدره أرفع!. على أن النبى عليه الصلاة والسلام بعد أن قال كلمته فى السبعين ألفا نهض فدخل منزله، قال البخارى " فخاض الناس فى أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب. قال بعضهم لعلهم الذين صحبوا رسول الله ـ فى نشر دعوته ـ وقال بعضهم لعلهم الذين ولدوا فى الإسلام فلم يشركوا بالله شيئا، وذكروا أشياء ـ أخرى ـ فخرج عليهم رسول الله فقال: ما الذى تخوضون فيه؟ فأخبروه.. فقال: هم الذين لا يرقون. ولا يسترقون، ولا يتطيرون. وعلى ربهم يتوكلون "!!. وبيانا للمراد نقول، إن الإيمان بالغيب ليس مظلة تأوى إليها الخرافات وتحتشد تحتها الترهات كما يتهمنا بذلك الماديون، والأوهام تسبق إلى أذهان البشر فى حالات الضعف والمرض، والإسلام يقول للمريض: إذا وعكت فابحث عن دواء حتما، وضم ص _064(1/55)
إلى التداوى أن تدعو الله بالشفاء واحذر التمائم والتعاويذ والهمهمات الغامضة التى يصفها الخرافيون والدجالون، وتوكل على الله فهو شافيك. وقد شرحت ذلك سنن أخرى صحيحة " من علق تميمة فلا أتم الله له. ومن علق ودعة فلا أودع الله له "، " ما أنزل الله داء إلا أنزل له دواء، فمن أصاب دواء الداء برئ بإذن الله " . وكان النبى يدعو للمريض إذا زاره " أذهب البأس، رب الناس اشف وأنت الشافى لا شفاء إلا شفاؤك شفاء لا يغادر سقما" . وقد أمرنا الله بالاستعاذة ونزلت المعوذتان لنتحصن بهما مما يصيبنا كما تحصن نبينا عليه الصلاة والسلام.. الرقية دعاء، والدعاء حق، والممنوع ما ابتدعه الناس فى هذا المجال من أوهام، حتى شاع أن القرآن الكريم يغنى عن الجراحات والأدوية ثم شاع أن للجن دخلا فى الإصابة والنجاة، والتوكل الحق أخذ بالأسباب واعتماد على الله، وهو المراد من هذا الحديث. ص _065
الإنسان بين الطاعة والمعصية التأبين بين البشر . الآثام بين الطبائع والبيئات . المعاصي بين خطأ آدم وخطأ إبليس . بين الرغبة والتوبة . الآن وقد عصيت ! هل على هواجس النفس حساب ؟ دستور الحسنات والسيئات . بين الظاهر والباطن . الخطأ بين القصد والغفلة . الساكتون عن الحق بغير سلطان . ص _066
(وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) .
إن الفضيحة عقبة أمام التوبة ، ومن مزق الأستار التي لفته بها الأقدار فقد مهد لنفسه طريقاً إلى النار ...
محمد الغزالي …
إن محبة الله عاطفة شريفة ومن الخير أن تعرف أنها مكلفة ولها تبعات . إن الكاذب يكره الصادقين ، والعاهر يكره الأطهار والظالم يكره المقسطين وربما أستوحش الصريح من أهل المداهنة والنفاق ...
محمد الغزالي …
ص _067(1/56)
التباين بين البشر ليس البشر مليون نسخة من كتاب واحد، إن اختلاف مواهبهم ومشاربهم يجعل كلا منهم كتابا مستقلا، وسبحان مورع الطباع والعقول (هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم) والتصوير ـ فى نظرى ـ ليس لملامح الوجوه، وإنما هو لمعالم الشخصية كلها، المادية والمعنوية.. لكن ما آثار هذا التفاوت؟ هل تكون قلة المال سببا فى تأخير صاحبها فهو كما قيل: يرى درجات المجد لا يستطيعها ويقعد وسط القوم لا يتكلم!! إن ضالة الثروة، أو سواد الجلد لا تطيش بهما كفة امرئ نقى المعدن! تعرف من قائل هذا البيت؟ وأغض طرفى إن بدت لى جارتى حتى يوارى جارتى مأواها! إنه "عنتر بن شداد" العبد الأسود، إنه فى نظرى أشرف وأجل من أمير أبيض أشقر يسطو على الأعراض السائبة، ولا يرى بأسا من التسلى بها..!! ليس هناك أشرف ممن يتقى الله ويضبط هواه ويرقب ربه، وفى الآية (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير). لكن الناس من بدء الخليقة لهم مقاييس أخرى فى التقديم والتأخير أشار إليها الشاعر: إذا قلت يوما لمن قد ترى أرونى السري أروك الغنى!! يعنى إذا طلبت رؤية امرئ شريف ذهبوا بك إلى رجل غنى! وقد أراد النبى عليه الصلاة والسلام إبطال هذا المنطق فماذا فعل؟ عن سهل بن سعد قال: مر رجل على النبى عليه الصلاة والسلام فقال لرجل عنده فى المجلس: ما رأيك فى هذا؟ ص _068(1/57)
فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حرى إن خطب أن يزوج وإن شفع أن يشفع، فسكت رسول الله! ثم مر رجل أخر فقال له رسول الله: ما رأيك فى هذا؟ فقال: يا رسول الله هذا رجل من فقراء المسلمين! هذا حرى إن خطب ألا ينكح، وان شفع ألا يشفع، وإن قال أن لا يسمع لقوله، فقال رسول الله: " هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ـ يعنى الأول ـ ". * * * الإيمان بين الغنى والفقير: إنه لا قيمة إلا بالإيمان ولا نجاة إلا بالتقوى، ولن يبلغ الدرجات العلا إلا مجاهد ينصر العقيدة ويتعامل مع الناس على أساسها (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا) أما من عول على الدنيا وجاهها فلا مكانة له! عن أبى هريرة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال " إنه ليأتى الرجل السمين العظيم يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة "! وللبيئات المختلفة أخلاق تشيع فيها وتعرف بها وتؤثر عنها أراد الإسلام أن يكشفها ويحدد الموقف منها، فبيئة الغنى قد تورث الطغيان، وبيئة الفقر قد تورث المسكنة، وبيئة الأنداد قد تورث التحاسد، وبيئة النساء قد يشيع فيها كفران العشير وعقوق الأزواج!... الخ. وقد أراد الإسلام محاربة هذه الرذائل بأساليب ناجعة فقال مثلا فى التعليق على البيئة الفقيرة: " رب أشعث أكبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره " فليس كل فقير ضائع المكانة! وهناك حديث يحتاج إلى شرح روى البخارى عن أسامة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " قمت على باب الجنة فوجدت عامة من دخلها المساكين. وأصحاب الجد محبوسون غير أن أصحاب النار قد أمر بهم إلى النار. وقمت على باب النار فإذا عامة من دخلها النساء "! ص _069(1/58)
ما معنى هذا الكلام؟ وكيف يصح؟ فلنذكر أولا: أن العشرة المبشرين بالجنة كلهم من الأغنياء، وأن هناك أنبياء كانوا أغنياء، بل كانوا ملوكا!! ولنذكر أن نساء سبقن الرجال يوم أحد بجهادهن وإخلاصهن، وأن الجنة تحت أقدام الأمهات! الحق أن الحديث يتجه إلى طبائع البيئات التى ذكرناها ليهذبها ويصلحها فهو ينذر طغاة الأغنياء بحساب شديد حتى لا يستكبروا ويطغوا. وينذر النساء بحساب شديد حتى يكفوا عن أمرين: جحد حقوق الأزواج! أو كفران العشير، والإسراف فى الزينة والتبرج وإثارة الفتن!! والإسلام لا نفهم حقيقته من حديث واحد!! ص _070(1/59)
الآثام بين الطبائع والبيئات تتفاوت الذنوب والآثام تفاوتا واسعا حسب تفاوت الطبائع والبيئات، بعض الناس يحب الثراء ويسعى إليه من كل ناحية وبأية وسيلة، وبعض آخر يحب الرياسة والظهور ولا يدع فرصة للوصول إليهما إلا اهتبلها. وهناك من يهيجه حب النساء ويتعسف الطرق وراء شهواته، وأغلب الناس لهم مآرب تحتاج إلى رقابة وضبط وهى تتحرك وراء قوله وعمله ولا ينجو من عقباها إلا من وعى هذه الآيات (فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى * وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى). وللبيئات أثر كبير فى اعوجاج المرء أو استقامته، فهناك بيئات تعين على الطاعة، وأخرى تعين على الانحراف. كما أن هناك أماكن تعز وأخرى تذل، وقد أشار إلى ذلك "المتنبى" عندما قال: وكل امرئ يولى الجميل محبب وكل مكان ينبت العز طيب! والبلاد التى يضيق فيها الخناق على النشاط الإسلامى ـ لأسباب سياسية ـ غير البلاد التى تحتفى بالتقوى وتحترم أصحابها! وقد تكون الأرياف أعون على الطاعة من المدن! والمتدبر لتعاليم الإسلام يراه استنكر العصيان ولكنه لم يستغربه على النفس البشرية (إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم). إن قلة ممن عصم الله تترفع عن المعاصى وتأنف من الهبوط إليها أما السواد الأعظم فله شأن آخر (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى). ص _071(1/60)
إن معادن الأرض مختلفة والناس معادن لأنهم من الأرض ينشأون. ثم إن هناك خصائص نفسية وعقلية ينشأون بها تنحدر إليهم من وراثات شتى، ولذلك كله أثره فى النزعات والاتجاهات، وعالم الغيوب سبحانه هو القائم على كل نفس بما كسبت وحسابه جامع بين الدقة والعدالة والرحمة وتقدير شتى المؤثرات على السلوك الإنسانى! ونلحظ أن المولى سبحانه يعفو عن اللمم! فما اللمم؟ قال بعض العلماء: المعاصى التى يقع فيها المسلم وهو لها كاره ومن عواقبها خائف، كأن قدمه زلت إليها فى ظروف قاهرة، فما يكاد يقارفها حتى يفارقها وهو نادم حزين (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). لقد عمى عن الرؤية حينا ثم عاد له بصره! وأصحاب هذا الرأى يقولون إن اللمم يتناول الكبائر ويستشهدون بقوله تعالى فى سور أخرى : (ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما). وبقوله تعالى فى وصف المتقين (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون). قال أبو صالح: سئلت عن قول الله عز وجل " إلا اللمم " فقلت هو الرجل يلم بالذنب ثم لا يعاود. فذكرت ذلك لابن عباس فقال: أعانك عليها ملك كريم! أى صوب إجابته! وذكر ابن عباس فى تفسير قوله تعالى (الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن تغفر اللهم تغفر جما وأى عبد لك لا آلما؟ ومع ذلك فقد جاء عن ابن عباس أن المراد الصغائر التى تتولد عن اضطراب الغريزة الجنسية قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما روى أبو هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم: ص _072(1/61)
" إن الله عز وجل كتب على ابن آدم حظه من الزنى أدرك ذلك لا محالة، فزنى العينين النظر وزنى اللسان النطق والنفس تتمنى وتشتهى والفرج يصدق، ذلك كله أو يكذبه " . وليس معنى الكتابة أن المرء مجبور! كلا، المعنى أن تصرفاته كلها محسوبة عليه، فالعين الجريئة واللسان البذيء والنفس المتطلعة إلى الحرام، كل ذلك عليه وزره ولكن الحد الشرعى لا يقام إلا على المواقعة الفاحشة، وما قبل ذلك صغائر تغفرها التوبة السريعة كما تغفرها العبادات المكتوبة. والإسلام حاسم فى أن الله غافر الذنب وقابل التوب، وأن كهنة الأديان لا يملكون من أمر المغفرة قليلا ولا كثيرا (وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون * وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون). إنك إذا وقع بثوبك درن غسلته، ويستحيل أن ينظف الثوب إلا بذلك، أنت مالك أمرك وصانع مستقبلك فإذا اعوججت فاستقم ثم عد إلى ربك (وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين) ولا تصدق راهبا ولا كاهنا. ص _073(1/62)
المعاصي بين خطأ آدم وخطأ إبليس معرفة الله على وجه صحيح هى الخطوة الأولى فى طريق التسامى والصلاح، بيد أن المعرفة وحدها لا تكفى! وقد ساء موقف المتدينين على اختلاف العصور عندما اكتفوا بها وقصروا فى العمل المطلوب منهم مع أن الوحى المتتابع شرحه وفضله وكشف أنه لابد مع الإيمان من السمع والطاعة (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير). ومعروف أن أول من خاصم الله وخرج على مبدأ السمع والطاعة هو إبليس، إنه لا يشك ذرة فى وجود الله ولكنه رفض الانقياد لأمره وكان سمجا حقيرا عندما أبى السجود لآدم وزعم أنه أفضل منه وقال لله : (أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين). ثم مضى فى طريق التمرد والتحدى يتوعد أولاد آدم قائلا : (قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم * ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين). إن هذا النوع من العصيان لا يغتفر وأصحابه هم حطب جهنم! والفرق كبير بينه وبين خطيئة آدم التى نشأت عن الغفلة والضعف والانخداع الساذج فلما انكشف له موقفه ـ هو وزوجته ـ (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين) ويمكننا القول بأن المعاصى التى تقع فى الأرض تنتمى حينا إلى خطأ آدم أو تنتمى إلى خطأ إبليس حسب الملابسات التى تكتنفها.. ص _074(1/63)
هناك من ينحرف فى ساعة طيش ثم يندم ويحزن ويتوب، وهناك مجتمعات قننت الجريمة، وأباحت الخمر والزنى وعطلت ما شرع الله من حدود، وهى مستريحة إلى ما فعلت بل قد تطارد المحجبات وتكرم المتبرجات وتمنح أرفع الأوسمة لمن يخاصمون الوحى، ولن نتحدث هنا عن هؤلاء. إن حديثنا عن مؤمنين يخطئون ويشعرون أنهم أساءوا ويريدون أن يبقوا فى سبيل الله وألا يمضوا مع وساوس الشيطان. إن الله لم يكلفنا بالعصمة وإنما كلفنا إذا عثرنا أن ننهض وإذا أسأنا أن نحسن وإذا أذنبنا أن نتوب إلى الله ونستغفره. إن الإصرار طريق البوار ولذلك قال الله لنبيه (وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم * وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين) إن ضعف العزيمة فى الخير لا يجوز أن يتحول إلى عزيمة على الشر. والعودة إلى الله أجدى وأرشد.! وروى أحمد بسند صحيح " يا ابن آدم قم إلى أمش إليك. وامش إلى أهرول إليك" وهذا تصوير رقيق لترحيب الله بعبده التائب!! وقد صحت فى هذا المعنى أحاديث كثيرة. وفى قصة الرجل الذى عاش مجرما وقتل مائة نفس أنه سأل راهبا: هل تجد لى من توبة؟ فقال له: لا أدرى قد أسرفت على نفسك، ولكن اذهب إلى قرية صالحة تعمل فيها بعمل أهل الجنة لعلك تقبل وذهب الرجل إلى القرية التى تعينه على التوبة فحضره الموت فى الطريق، فكان وهو يحتضر يتحرك إلى الأمام يريد الاقتراب من هدفه.. ثم غلبه الموت بعدما ترك القرية التى عاش فيها مجرما ولم يبلغ القرية التى يريد أن يحيا بها صالحا " فسألت الملائكة ربها عنه فقال: انظروا إلى أى القريتين كان أقرب فاكتبوه من أهلها! فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبر! فكتب من أهلها". ص _075(1/64)
إن جهده وهو يجود بأنفاسه لم يضع سدى، إن حركته لم تكن حركة بدن بل كانت حركة قلب منيب راغب إلى الله فنجا. إن الله لا يطرد من أقبل عليه، المهم أن يكون صادقا، قال تعالى : (وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى) ومن أضمر هذه النية ثم مات دونها كتبت له سيرة حية! والإسلام يرفض حياة الظلام ويطلب من المسلم أن يكون سره وعلنه سواء، أما الذين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله فالويل لهم!. عن ثوبان رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: "لأعلمن أقواما من أمتى يأتون يوم القيامة بأعمال- أمثال جبال تهامة- بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا!!. قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا حلهم لنا، حتى لا نكون منهم ونحن لا نعلم! قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم يأخذون من الليل كما تأخذون ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها " . إن صلاح امرئ فى الظاهر وفساده فى الخفاء جريمة غليظة، وكثير من الناس يحرص على سلامة ظاهرة حتى نشهد له بالخير، وربما ائتمناه على الأموال والأعراض لاعتقادنا أنه مستقيم ثم تكشف المعاملة عن خبيئته فإذا هو سيئ خئون!!. المسلم كالنحلة التى تطوف بالحدائق والحقول تطعم الخير وتعطى العسل ولا يرى أحد منها إلا ما يسر. ص _076(1/65)
بين الرغبة والتوبة الناس يرون رغباتهم حقا ويسعون لتحصيلها بعزم ويكرهون من يعترض طريقهم والحضارة المعاصرة ترى الكبت شرا وتحدو الغرائز كى تنطلق وقلما تكترث لمنطق الحلال والحرام وقد سيطر ذلك على الدول التى تقود العالم وتبعناها نحن فى الشرق الإسلامى وضحكنا من منطق "القاضى الجرجانى" حين يقول: يقولون: هذا مورد!! قلت: قد أرى ولكن نفس الحز تحتمل الظما...! وأنا أكره الشخص يطلب مستوى مترفا من المعيشة ويرفض كد اليمين وعرق الجبين! ويريد استيراد آخر مباذل "هوليود" ولا يحسن زراعة الأرض التى يأكل منها. وقد أكرهنا أخيرا على إحياء الموات من صحارينا تحت سياط الجوع!. فلماذا لا تقوم لنا دنيا تخدم الدين؟ ولماذا يتعشق الشباب حياة المدن ويكرهون تغبير الأقدام والأيدى فى ميادين الكدح؟ يستحيل أن يجتمع الأمران: حب الراحة وحب المجد! وطاعة النفس وطاعة الله... تأملت فى نصيحة "موسى" لهارون قبل أن يذهب لميعاد ربه (وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين). قلت: نصيحة خشنة، ربما صلحت لموظف صغير!! ثم عرفت أنها الحق وأن كل من يقود الشعوب محتاج إلى هذا التوجيه الجاد. إن التفرعن شيمة الجبابرة، وقد روت كتبنا أنه لما أراد "أبو بكر" ترشيح عمر للخلافة بعده دعاه إليه. وقال له: " إنى أدعوك لأمر متعب لمن وليه، فاتق الله يا "عمر" بطاعته وأطعه بتقواه فإن التقى آمن محفوظ، ثم إن الأمر معروص لا يستوجبه إلا من عمل به، فمن أمر بالحق وعمل بالباطل، وأمر بالمعروف وعمل بالمنكر يوشك أن تنقطع أمنيته وأن يحبط عمله، فإن أنت وليت عليهم أمرهم فإن ص _077(1/66)
استطعت أن تجف يدك من دمائهم وأن تضمر بطنك من أموالهم وأن تجف لسانك من أعراضهم، فافعل ولا قوة إلا بالله.. ". إن المسلمين الأوائل ـ أفرادا وقادة ـ كانوا على مستوى السيادة، والسيادة ليست شارات ومناصب، وإنما هى أخلاق وخصائص وسعى دءوب إلى السمو والسناء وإمامهم فى هذا الميدان رسول الله الذى قال: " يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروا فإنى أتوب فى اليوم مائة مرة " !. وتوبة المعصوم ليست من أخطاء أو خطايا، إنما هو التقلب فى مراتب الكمال الإنسانى، وإيثار درجة أعلى على ما دونها من درجات، وقد قيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وآخر ما يهبط إليه نبى هو مرتبة الإحسان عند معشر العابدين... والذنوب أنواع شتى، وبعضها أخف من بعض وقد يكون من كبائر الإثم أن تدخل على مدير عمل جائر أو جاهل فتثنى عليه وتتزلف إليه لمأرب خاص، إن ذلك ذنب معقد يجمع بين الكذب والغش وإيذاء الأمة، وإضاعة المصلحة العامة وقد نهى عنه الشارع نهيا شديدا. ومن وقع فى معصية وجب عليه أن يكتمها. وأن يدفنها فى مكانها فلا يعلم بها أحدا. إن المجتمع النظيف كالشارع النظيف لا ترى فيه قمامة ولا قذى. وصح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال " كل أمتى معافى إلا المجاهرين، وإن من المجانة أن يرتكب أحدكم ذنبا بالليل فيصبح يكشف ستر الله عنه يقول: فعلت كذا وكذا... " . ما معنى هذا التبجح؟ إن الرذائل قاذورات تلوث صاحبها، فهل يريد الإخبار بأنه ملوث؟ هل يريد الإخبار بأنه عصى جبار الأرض والسماء؟ إن الفضيحة عقبة أمام التوبة، ومن مزق الأستار التى لفته بها الأقدار فقد مهد ص _078(1/67)
لنفسه طريقا إلى النار، جاء فى الحديث الصحيح أن عبد الله بن عمر كان يطوف بالبيت الحرام فجاءه رجل يسأله: يا أبا عبد الرحمن أخبرنى: ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فى النجوى؟ قال سمعت رسول الله يقول: " يدنو المؤمن من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه، تعرف ذنب كذا وكذا؟. فيقول: أعرف رب أعرف ـ مرتين ـ فيقول سترتها عليك فى الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته. أما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الأشهاد من الخلائق (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين). إن الذى يفتخر بذنبه ويكشف ستر الله عنه يسلك نفسه مع هؤلاء! الأجدر بمن أذنب أن يسارع إلى تنظيف نفسه بتوبة سريعة وأن يتطهر ويصلى لله نادما يرجو العفو قال تعالى (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين). وفى هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم ".. أتبع السيئة الحسنة تمحها.. " والإتباع ترك التسويف وإرجاء الإصلاح! لماذا يبقى فى النفس قذر؟ الإسراع بالطهارة أولى وأجدى قال تعالى (والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار * جنات عدن يدخلونها). ص _079(1/68)
الآن وقد عصيت قبل! لا تستطيع أن تقول: أنا أحب فلانا لله إلا إذا كنت محبا لله نفسه معمور القلب بجلاله وجماله مشدودا إلى عظمته بالطاعة الخالصة والشكر العميق! وإمام البشر كلهم فى حب الله هو "محمد بن عبد الله " الذى واصل ليله ونهاره ويقظته ومنامه بالجهاد فى سبيل الله وإعلاء كلمته وإعلان عبوديته لله الواحد وسوق الجماهير إلى ربها لتشاركه ـ عليه الصلاة والسلام ـ فى هذه العبودية المشرفة. وما انتقل إلى الرفيق الأعلى حتى هزم الشرك وبنى أجيالا تتوارث توحيد الله ومحبته وتسمع وتتبع ما أمره الله به (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين). ونحن المسلمين نحب لله ونبغض لله ونعلم أن هذا الحب يتطلب علاقة طهورا وجهادا دائما وإيثارا وتفانيا لكننا نشعر بقصورنا وأحيانا بعجزنا فنتساءل عن قيمة هذا الحب الواهن الكسول ونقول هل يقبلنا الله به؟ وأمامى حديث رواه مسلم عن بدوى ساذج صريح يثير هذه القضية. فعن صفوان بن عسال قال: كنا مع رسول الله فى سفر فبينا نحن عنده إذ ناداه أعرابى بصوت له جهوري يا محمد! فأجابه رسول الله نحوا من صوته: هاؤم! فقلت له: ويحك اغضض من صوتك فإنك عند النبى صلى الله عليه وسلم وقد نهيت عن هذا. فقال: والله لا أغضض، قال الأعرابى: المرء يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال النبى: "المرء مع من أحب يوم القيامة". قال صفوان: فمازال النبى عليه الصلاة والسلام يحدثنا حتى ذكر بابا من المغرب يسير الراكب فى عرضه أربعين أو سبعين عاما، خلقه الله يوم خلق السموات والأرض مفتوحا للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه ". وطلوع الشمس من مغربها من علامات القيامة الكبرى وهذا الحديث تضمن معنيين: ص _080(1/69)
(1) قيمة الحب فى الله. (2) أمد قبول التوبة..! وفى المعنى الأول نورد حديث أنس بن مالك أن رجلا سأل النبى عن الساعة فقال: متى الساعة؟ فقال الرسول له: وما أعددت لها؟ قال: لا شئ إلا أنى أحب الله ورسوله! فقال له النبى: " أنت مع من أحببت " ! قال أنس: فما فرحنا بشيء أشد من فرحنا بقول النبى للسائل: أنت مع من أحببت!!. إن محبة الله عاطفة شريفة، ومن الخير أن تعرف أنها مكلفة ولها تبعات، إن الكاذب يكره الصادقين، والعاهر يكره الأطهار، والظالم يكره المقسطين، وربما استوحش الصريح من أهل المداهنة والنفاق، وربما ضاق بازورارهم عنه ومقاطعتهم له، وقد وقع ذلك للسابقين الأولين فلم يقلقوا أو يوجلوا وكانت العقبي لهم ونزل فيهم قوله تعالى : (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون) قال ابن عباس نزلت هذه الآية فى عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود وقال: أوالى الله ورسوله والمؤمنين، ونحن نشعر بأن مخاصمة يهود قد تكون معنتة! ولكن ما منها بد إذا كانت لنصرة الإسلام!. وقال جابر بن عبد الله نزلت فى عبد الله بن سلام عندما أعلن إسلامه فقد جاء إلى النبى صلى الله عليه وسلم يشكو أن بني قريظة وبني النضير قاطعوه، قال: هجرونا وفارقونا وأقسموا ألا يجالسونا، فنزلت الآية (إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا) فقرأها عليه النبى الكريم فقال عبد الله بن سلام: رضينا بالله ربا وبرسوله نبيا وبالمؤمنين أولياء!. ص _081(1/70)
إن محبة الله نهج خلقى واجتماعى متكامل وفى الحديث " من أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان " . ولا يفهم حب مع تفريط وانحراف وفوضى!. تعصى الإله وأنت تعلن حبه هذا لعمرى فى القياس بديع! لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع! وننتقل إلى قضية التوبة التى لا يغلق بابها أمام مذنب لقد جاء فى الحديث " إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسىء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسىء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها " . إن الامتحان يبقى امتحانا محترم النتائج إلا أن يوضع بين يدى التلميذ كتاب يتضمن الإجابة على الأسئلة الموجهة! ما قيمة الامتحان والحالة هذه؟ عندما ضربت اللجج وجه فرعون وشعر بالماء يتسرب إلى جوفه قال (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) فقيل له ما قيمة هذا الإيمان بعد فوات الأوان؟ (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين). إن التوبة لا تقبل بعد انتهاء وقتها، وبعدما وضع المرء قدمه على أولى عتبات الآخرة... ولا يغفر ذنوب الخلائق إلا الله وحده، وقد سجلت فى مكان آخر ما حدث فى جنازة "كيندى" رئيس الولايات المتحدة الأسبق، لقد جاء الكاردينال الكاثوليكى واستقبل جثمان الرئيس القتيل ثم وضع إصبعه فى إناء يحتوى على الزيت المقدس! ثم رسم على جبينه صليبا وهو يقول: إنى أغفر لك!!!. قلت فى نفسى: تغفر له؟ ما يصنع عاجز لعاجز؟ لعلك أيها "الكاردينال " المسكين أحوج إلى المغفرة منه! ولكن متى تظفر بها؟ عندما تكون عبد الله الأحد... ص _082(1/71)
هل على هواجس النفس حساب؟ الهواجس تهب على النفس الإنسانية من كل ناحية أشبه بنسيم البحر الذى يداعب صفحته فيغضن وجهه، وقد يضرب الشاطئ بلطف ثم يتراجع عنه، إنه لا خوف ولا قلق ما لم تهب العواصف هوجاء والرياح نكباء! وما يعترى الإنسان من أفكار وأهواء، وما تحدثه به نفسه من ميول وأشواق يتفاوت شدة وضعفا وتتفاوت كذلك آثاره ويمكن أن ينطبق عليه ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى تجاوز لأمتى ما حدثت به نفسها ما لم يعملوا به أو يتكلموا به ". هناك رغبة تموت فى مكانها، وهناك رغبة تتحول إلى عزيمة وتصميم، وهناك إرادة يحول دون تنفيذها عائق خارجى كاللص الذى قرر سرقة دكان فلما ذهب إليه وجد رجال الشرطة أمامه! إنه ما منعه من إتمام جريمته إلا الحراس!!. وقريب من هذا قول الرسول الكريم " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار! قيل هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال كان حريصا على قتل صاحبه " !. إن النية الجازمة لها جزاؤها العدل! وهناك حديث جامع أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يقول الله تبارك وتعالى:، إذا أراد عبدى أن يعمل سيئة فلا تكتبوها عليه حتى يعملها، فإن عملها فاكتبوها بمثلها. وإن تركها من أجلى فاكتبوها له حسنة. وإذا أراد عبدى أن يعمل حسنة فلم يعملها فاكتبوها له حسنة فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها إلى سبعمائة "!!. الحق أنه لا يسقط مع هذا الحساب اليسير الجانح إلى مصلحة العبد إلا أحمق لا خير فيه قط! وليعلم المسلم أن الله يكره الآثام ما ظهر منها وما بطن. هناك رذائل لا يطلع عليها الناس كالحسد والرياء والكبر، يؤاخذ الله عليها وإن كانت مخبوءة فى ضمير صاحبها، ومن ذلك كتمان الشهادة مثلا فإن ذلك يضلل القضاء ويضيع العدالة فهو جريمة وإن لم يطلع عليها الناس، وبهذا فسر بعض العلماء قوله تعالى (وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله(1/72)
…). ص _083
وقالوا: إنه جاء بعد النهى عن كتمان الشهادة فى سياق القرآن الكريم! ويظهر أن جمهورا من الصحابة فهم الآية الكريمة على أن المقصود حديث النفس كله، وأن المسلم مؤاخذ به..! فعن أبى هريرة قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم " لله ما فى السموات وما فى الأرض وإن تبدوا ما فى أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله، اشتد ذلك على أصحاب رسول الله فأتوا النبى عليه الصلاة والسلام ثم بركوا على الركب ـ جثوا بين يديه ـ وقالوا: أى رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والجهاد والصيام والصدقة. وقد أنزلت هذه الآية عليك ولا نطيقها. قال رسول الله: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا بل قولوا سمعنا وأطعنا!! غفرانك ربنا وإليك المصير ". إن الصحابة وهلوا أن فى الآية تكليفا بما لا يطاق، فمن الذى يضبط الخواطر والوساوس والهموم؟ ثم علموا بعد أن الأمر ليس على ما ظنوا. قال أبو هريرة فلما قرأ القوم الآية وذلت بها ألسنتهم أنزل الله فى أثرها (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) إن ما حدث لون من التربية الإلهية على السمع والطاعة والتريث والتعمق وقد ظن ذلك البعض نسخا لحكم سبق، وليس فى الآية نسخ! على أن النسخ قد يجرى على لسان السلف ويقصد به تخصيص علم أو تقييد مطلق أو تفصيل مجمل، وليس إبطالا لحكم شرعى مضى، ويؤسفنا أن البعض يستسهل القول بالنسخ فى كثير من الآيات ولو تعمق النظر لتراجع، فالقول بالإحكام أفضل من القول بالإبطال ، وبالله التوفيق. ص _084(1/73)
دستور الحسنات والسيئات حساب الله لعباده يقوم على السماح والمياسرة لا على الدقة والمؤاخذة، إنه لو عاملهم بالعدالة لصرخوا مستغيثين، ولجأروا يطلبون التجاوز والرحمة. ولعل من أدق ما يصور الحساب الإلهى ما ذكره عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى فقد جاء فى هذا الحديث القدسى: " إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك. فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله تبارك وتعالى عنده حسنة كاملة. وإن هم بها فعملها كتبها الله عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة. و إن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة.وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة... " !! أي محاسبة هذه؟ هل يخسر بعدها أحد؟ أظن أنه ما يسقط بعدها إلا امرؤ هالك لا خير فيه ولا يستحق كرامة!! الهم بالحسنة يثبتها ويستحق عليها جزاء وإن لم يفعلها، إنه خاطر شريف يحسب لصاحبه! من يدرى؟ لعله يألف هذا التسامى وتثبت قدمه فى طريق الخير. إن الله يعرف فقر العبد وحاجته إلى العطاء من مالك الخير كله، ولذلك لا يضن عليه بحسنة كاملة على خاطر لم يكتمل!! فإذا فعل الحسنة فإن الجزاء يتجاوز أرقام الحساب، إن الحبة توضع فى الأرض فتخرج منها عشرات ومئات وألوفا (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم). الجزاء هنا نابع من طبيعة العطاء الإلهي، ومنظور فيه إلى حال المرء حين يفعل الخير، فهناك من يقبل على الله إقبالا عارما! وهناك من يتغشاه النور الإلهى (وما لأحد عنده من نعمة تجزى * إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى * ولسوف يرضى). ص _085(1/74)
وهناك من يفعل الخير فيحيى به موءودة أو يعصم به معثارا، إن أجور المحسنين تتفاوت بقدر ما تلقى أعمالهيم من قبول وبقدر ما يضع الله فيها من بركة (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه). ونترك ميدان الخير إلى الميدان المقابل له، ميدان الشرور والآثام، إن الإنسان مولع بالرفع فيه والانحدار إليه وكان الشيطان يعلم ذلك فى طبيعته فعلم أنه صيد سهل ولذلك قال لله : ( أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا) إنه يغريه ويخدعه ويؤزه أزا لاقتراف المناكر. والواقع أن المرء بين عدوين: نفس تزين له العصيان، وشيطان يحدوه إليه ويحسنه له. فإذا نجح ابن آدم فى اختراق هذا الحصار نال الأجر كما جاء فى الحديث " وإن هم بسيئة فلم يفعلها كتبها الله عنده حسنة كاملة" . وذاك إذا كان تركها خشية لله أو حياء منه. والواقع أن توجهات النفس إلى سيئ ما ليست سواء فى قوتها، قد يكون الاتجاه خاطرا عابرا فهذا حديث نفسى لا قيمة له. وقد يقوى هذا الخاطر فيكون رغبة أو ميلا فذلك هو الهم الذى يحسب فعله أو تركه كما جاء فى الحديث هنا وقد يتحول حديث النفس إلى عزم وإرادة مصممة، وهذا التحول خطير لأن له جزاء العمل نفسه وإن لم ينفذه الإنسان! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار قال الراوى: يا رسول الله فما بال المقتول؟ قال: إنه كان حريصا على قتل صاحبه " . وعندما يعزم لص على سرقة دكان ثم يذهب فيجد الشرطة أمامه، فيعود فاشلا، فقد عاد لصا وإن لم يسرق! ويطرد هذا المنطق فى الحسنات والسيئات. فعن جابر بن عبد الله كنا مع النبى صلى الله عليه وسلم فى غزاة فقال " إن بالمدينة لرجالا ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا ص _086(1/75)
معكم حبسهم المرض " . قال تعالى (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم). إن الذى يبكى لعجزه عن الذهاب إلى الميدان لديه من الإيمان والإخلاص ما يرفع الله به درجته، ولا يعتبر من القاعدين وإن كان لم يحمل سلاحا.. الحساب على العمل يبدأ من النية، ومن موقف المرء مع مبدأ السمع والطاعة، وجمهور المسلمين إلى يوم الناس هذا أفضل من شعوب كثيرة فى الشرق والغرب، لقد رأيت عامة وخاصة فى أوروبا لا يشعرون لله بحق، ولا يهتمون فى معاملته بصغيرة ولا كبيرة، بل إنهم يقارفون الفواحش دون اكتراث، وتوضع تقاليد السلوك على أن المرء يفعل ما بدا له ما دام لا يؤذى غيره أو ينتقص حقه. وهذا هو السر وراء إباحة الخنا وشرب المسكرات وتجاوز الحدود، بل وراء قتل النفوس وسرقة شعوب كاملة!!. إن الذين جهلوا الله لا تنتظر منهم سعيا إلى كمال أو نشاطا إلى جنة واتقاء لنار.. الحق أن المسافة شاسعة بين المسلمين وأهل الكتاب السابقين!. إنهم نسوا أنبياءهم ومواثيقهم وعاشوا ليومهم وحده، ولن يهتدوا إلا إذا استمعوا لمحمد (يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم …) فهل يثوب أولئك الناس إلى رشدهم ويتعرفون على الإسلام والمسلمين بدل هذه الحرب المجنونة التى يشنونها عليهم . ص _087(1/76)
بين الظاهر والباطن الإنسان بخير ما كره الرذيلة واشمأز من فعلها وتحرز من الوقوع فيها. وتأمل فى وصف الرسول صلى الله عليه وسلم لمن وجد حلاوة الإيمان، إنه يقول فى صفته ".. أن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار ". وتأمل قول "هند" زوج "أبى سفيان ".. أوتزني الحرة "؟ ذاك فى منطقها مستحيل لأن قاعدة السيادة فى خلق أية سيدة أنها حصان رزان أكبر من أن ئسف أو تذل أو يطمع فيها وغد... ودعك من تقاليد العرى فى الحضارة الحديثة! إن التبذل جعل هذه الحضارة لا ترد يد لامس ولو فى حفل راقص!! أما ضمائر الركع السجود فهى فى صحو دائم، وقد يقترب الشيطان منها فى ساعة نحس! لينفث فى أفقها دخانه، وفى هذه اللحظة الغائمة يقول الله سبحانه: (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون * وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون). لكن هناك نفرا من الناس يجمعون بين الأضداد! قد يؤدون العبادات الظاهرة، ولكنهم يلمون بالخطايا ويستمرئون ستر الله عليهم فى الاستخفاء بالشر والاستعلان بالخير، ولعل أولئك هم المعنيون بما رواه ثوبان رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " لأعلمن أقواما من أمتى يأتون يوم القيامة بأعمال أمثال جبال تهامة بيضاء فيجعلها الله هباء منثورا!! قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا خفهم لنا، لا نكون منهم ونحن لا نعلم! قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم ويأخذون من الليل كما تأخذون. ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها " ... هؤلاء ناس غرهم حلم الله عليهم وجهل الخلق بهم فمضوا فى طريقهم بسيرة مزدوجة، باطن قبيح وظاهر مزوق! ص _088(1/77)
وخطورة هؤلاء ترجع إلى سهولة الانخداع بهم والوقوع فى شباكهم، فإذا كان تاجرا حسبته أمينا وإذا كان موظفا حسبته شريفا، ومن الذى يستكشف البواطن؟، ولذلك يقول الله فيهم : (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا)، لقد توافق وصف الكتاب والسنة لهؤلاء الناس ومصيرهم! ويوم التغابن ستقع مقاصة رهيبة بين غرماء الدنيا، بين الواتر والموتور والظالم والمظلوم، ولن تكون التعويضات المطلوبة بضائع أو أموالا، إنها الجنة أو النار. عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " أتدرون ما المفلس؟ قالوا المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع! فقال: إن المفلس من أمتى من يأتى يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ولأتى قد شتم هذا، وقذف هذا، !أكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته قبل أن يقضى ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه! ثم طرح فى النار " . والكافرون بالله المنكرون للقائه يسخرون من هذا الحساب المرتقب. روى أحمد عن خباب بن الأرت قال: كنت رجلا قينا ـ حدادا ـ وكان لى عند "العاص بن وائل " دين فأتيته أتقاضاه منه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ـ وخباب من المسلمين المستضعفين، والعاصى من رؤساء مكة ـ فقال خباب: والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث. قال العاصى ساخرا: فإنى إذا مت ثم بعثت جئتنى ولى هناك مال وولد فأعطيك دينك!! فأنزل الله سبحانه هذه الآيات (أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا * أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا * كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدا * ونرثه ما يقول ويأتينا فردا). سينقلب إلى الله عريان لا مال له وحيدا لا عزوة له وسيكلف بقضاء دينه فى النار وبئس القرار... ص _089(1/78)
وللمعاملات المالية شأن عند الله فإن من الناس من يستهين بحقوق الآخرين، ويرى أن الحلال ما حل فى اليد، بل منهم من يأخذ المال الجزل غير مبال بعاجلة أو آجلة فما مصير هؤلاء روت خولة بنت عامر امرأة حمزة سيد الشهداء قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن رجالا يتخوضون فى مال الله بغير حق- أى يتصرفون فى أموال الناس بالباطل- فلهم النار يوم القيامة " . فهل يدرى ذلك من أسسوا ثرواتهم من السحت؟ ص _090(1/79)
الخطأ بين القصد والغفلة البون بعيد بين خطأ قد يكون سبق قلم أو زلة قدم، وبين خطأ يصدر عن نفس أعماها الهوى وذهلت عن الله.... إن جماهير غفيرة فى عصرنا ترى أن الرذيلة حق لها، وأن حرية الجنس مثلا لا يجوز اعتراضها، وأن للمرأة أن تتزين وتتصدى للرجل دون نكير، بل فى عصرنا هذا تقترف جرائم القتل بباعث من النقاء العرقى والتفوق العنصرى وتزهق أرواح غفيرة بنار هذه الكبرياء الطاغية.. أصل البلية هنا فراغ القلب من الله، إنه والحالة هذه اسم بلا مسمى ويحزننا ويغضبنا أن ينحدر العالم إلى هذا الحضيض! ولا علاج إلا بعودة الإيمان إلى القلوب، وعودة الضمير الدينى إلى ضبط السلوك العام والخاص، إن المؤمن قد يخطئ بيد أنه سرعان ما يفيق ويندم! وتلذعه مشاعر الحسرة لما فرط منه ويعود إلى ربه بسرعة البرق...! أما الذين يجرمون ويصرون ويمضون فى طريق الغواية، فلا يصلحهم إلا أن ينشئوا إيمانا جديدا ونفسا منيبة. وعندما أنظر فى أقطار الأرض الآن أتذكر الحديث الشريف عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون، ويفعلون مالا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " . إن الجهاد المطلوب فى هذه الأحوال إحياء الإيمان الذى مات ووضع زمام السلوك فى يده مرة أخرى بعد ما أفلت وصارت الأمم تمشى حبلها على غاربها كما جاء فى المثل! إن حرية العقل لا تعنى حرية الضلال والإضلال، وعندما تناقش القضايا تشتجر الآراء ويعرض كل امرئ وجهة نظره، وحرية الخلاف هنا ليست إيذانا بانطلاق الشهوات وقطع ما أمر الله به أن يوصل ونشر الفساد فى الأرض. ص _091(1/80)
ومن شعائر الله فى رسالات السماء كلها الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وإحقاق الحق وإبطال الباطل، وجعل سبيل الله واضحة مرفوعة المنار فمن جحد ذلك فعليه اللعنة قال تعالى : (لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون). وقد يكون وقوع المنكر لنزق غالب أو جهل سائد، والتبعة هنا تقع على أجهزة الدعوة والتربية التى يجب أن تكون يقظة ساهرة. وقد قلنا فى مكان آخر إن هذه الأجهزة ككرات الدم البيضاء مهمتها الأولى حراسة الجسم من الآفات المهاجمة والاشتباك معها فى حرب حياة أو موت حتى تنقذ الجسم كله، وعطل هذه الأجهزة يجعل الأقدار تسرع بالقصاص قال تعالى: " (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين). وقد ضرب النبى صلى الله عليه وسلم مثلا للمسئولية الاجتماعية وضرورة الحفاظ عليها فقال: "مثل القائم فى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا فى نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا!! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا" . إن ترك السفهاء يعبثون بمصاير الأمم ذريعة إلى هلاك الجميع، الطائشين والراشدين.. يجب أن يتحرك أولو الألباب لإنقاذ السفينة المهددة (وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون) فهل نسأم من الأمر والنهى؟ وهل نكسل عن حماية حدود الله؟ وهل نخلى الميدان لأهل البطالة والشهوات؟ ص _092(1/81)
الساكتون عن الحق بغير سلطان.. نحن المسلمين مأمورون بفعل الخير وحماية ساحاته ودعوة الآخرين إليه حتى يعم الخير أرجاء الأرض (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون). وليس هذا الأمر تكليفا فرعيا بل هو صلب رسالة وغاية أمة. ويقترن فعل الخير بسيادة الفضيلة ومطاردة الرذيلة وإقرار الحق فى العالم أجمع (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) والواقع أن العالم محتاج إلى أمة كبيرة مرهوبة العدد والعدة، ترفع راية الحق وتطمئن المستضعفين وتزعج الفاسقين. لقد ثبت أن مناسر اللصوص تخاف رجال الشرطة أكثر مما تخاف آيات الله! وأن القوة العمياء لا تستحى من إباحة اللواط والسحاق، وتسمى ذلك حقوقا جنسية! وفى مؤتمر عالمى كبير طلب من المسلمين إقرار هذا المنكر ولكن المسلمين رفضوا بشجاعة ولم يستطع المسلمون أكثر من ذلك للأحوال التى تحيط بهم ! ونحن نحمد الله لأن أمتنا بقيت تحترم المعروف وتحتقر المنكر على حين انهارت دول تزعم الحضارة والارتقاء، ولا عجب فديننا يربط البقاء على الإيمان بالوفاء للحق. عن ابن مسعود رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من نبى بعثه الله فى أمة قبلى إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن. ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " . ص _093(1/82)
ويؤسفنا أن أتباع الأديان القديمة نكلوا عن حراسة الحق وفعل الخير حتى تجرأ أعداء الله على جعل المعروف منكرا والمنكر معروفا، بل على الأمر بالمنكر والنهى عن المعروف، ولأمر ما قال الله فى كتابه (قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل من قبل وأن أكثركم فاسقون). وعن حذيفة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: " والذى نفسى بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم " . والملاحظ أن المنكر يبدأ صغيرا محدودا ثم يستغلظ ويتفرع! قد تبدأ الفاحشة بالنظرة الجريئة ثم تنتهى بقانون يبيحها!! قد يبدأ العدوان بانتهاب فرد ثم ينتهى باجتياح شعب! قد تبدأ الحرية بالسكوت عن غباوة فرد ثم تنتهى بهلاك أمة..!! وقد أشار النبى صلى الله عليه وسلم إلى خطورة المسئولية الاجتماعية وضرورة الحفاظ عليها حتى تنجو الأمة كلها من العاقبة الوخيمة. فعن النعمان بن بشير قال رسول الله: " مثل القائم فى حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فصار بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أننا خرقنا فى نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ". والحديث يفيد أن المعصية قد تكون خطأ فكر أو وجهة نظر، وربما صحبها حسن النية وسلامة القصد! ولكن حراس المجتمع ينبغى أن يكونوا أيقاظا، وألا يتركوا طائفة من الناس تتصرف وفق هواها فتضيع الأمة كلها! ص _094(1/83)
قال أبو بكر الصديق: يا أيها الناس إنكم لتقرءون هذه الآية (يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم)، وإنى سمعت رسول الله يقول: " إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب منه.. "!! إن الحضارة الحديثة تسوق بين يديها آثاما كثيرة أولها إهمال الوحى الأعلى ونسيان اليوم الآخر، فلنحذرها على أنفسنا وأولادنا وحاضرنا ومستقبلنا. ص _095
(( دعائم اليقين بالله )) الحب في الله . التقوى . الإيمان بين الصبر والجزع . اليقين والتوكل . من دعائم طرق الحياة . الإحساس بالحقيقة . من عزائم الرجال . قصة مشتقة من صحيح مسلم . سطور في تربية الرجال . نظرة في ماهية الرجال . ص _096
( إن جماهير من ورثة الوحي تمردت عليه وكسفت شعاعه وقد يخطر لي أن نصف الحيرة والضلال التين تشيعان في الأرض سوف يحمل أوزارهما الكسالى عن الدعوة والمفرطون في تراث النبوة والمشوهون لوجه الحقيقة … )
محمد الغزالي …
ص _097(1/84)
الحب في الله بين المخلصين.. وعبدة الحطام عندما يشعر المرء بوجود الله فى كل شىء ويعيش فى جو من أسمائه الحسنى، ويتابع نغمه الهامية فى كل أفق ويرى آثار عظمته على امتداد الأرض والسماء فهو محب لله... وعندما يرمق البشر على ضوء هذه العلاقة ويحس بقرابة نفسية وفكرية تشده إلى المؤمنين وتبغضه فى الظلمة والماجنين فهو يحب فى الله ويكره لله! إن الناس تقارب بينهم أو تباعد أسباب كثيرة مادية أو أدبية، ومنازلهم عند الله بقدر حبهم له وحبهم فيه! عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم " أن رجلا زار أخا له فى قرية أخرى، فأرصد الله على مدرجته - فى طريقه - ملكا، فلما أتى عليه قال: أين تريد؟ قال: أريد أخا لى فى هذه القرية! قال: هل لك عليه من نعمة تربها - تقوم بها وتنميها - ؟ قال: لا، غير أنى أحببته فى الله تعالى! قال له الملك: فإنى رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه " . إنه مسافر يتحمل وعثاء الطريق ليزور أخا فى الله، لا لمأرب آخر! وعن أبى إدريس الخولانى رحمه الله قال: دخلت مسجد دمشق فإذا فتى براق الثنايا، وإذا الناس معه ـ فكأنه تساءل عنه ـ فقيل هذا معاذ بن جبل فسلمت عليه ثم قلت: والله إنى لأحبك لله فقال: الله؟ فقلت الله، فقال مرة أخرى الله؟ فقلت الله! ـ يريد أن يسيقن من أن الله سبحانه محور هذه العاطفة ـ قال أبو إدريس: فأخذنى بحبوة ردائى فجذبنى إليه فقال: أبشر فإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: " وجبت محبتى للمتحابين فىّ والمتجالسين فىّ والمتزاورين فىّ والمتباذلين فىّ " . ص _098(1/85)
والله تبارك اسمه لا يمنح محبته إلا لأناس عرفوه حق معرفته وآثروه على كل منفعة وتعاونوا على نصرة اسمه وإعلاء كلمته وإعزاز دينه وتقديم حقه على كل حق! إننى لم أر أخس ولا أوضع من رجل يتملق آخر لدنيا يصيبها، أو يبتسم له لمصلحة يرجوها! هذه صداقات رخيصة لا ثمن لها ولا وزن.. أما الذين يهشون لرؤية مؤمن مجاهد ويتعصبون له إذا انفض النفعيون عنه فهم المؤمنون حقا الجديرون بحب الله ومثوبته ولذلك قال الرسول الكريم فى وصف الأنصار: "لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق. من أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله ". وجاء فى الحديث القدسى قال الله عز وجل: " المتحابون فى جلالى، لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء " . من معشر حبهم دين، وبغضهم كفر، وقربهم منجى ومعتصم! والحق أن الإسلام فى نهضته الأولى قام على هذه العاطفة الشريفة الطهور، فلم تعرف الأرض أخوة أوثق ولا أعرف مما قام بين أصحاب محمد. ولم تعرف تآخيا فى الله وإعزازا للحق وتضحية فى سبيله مثل ما عرف عن أصحاب محمد! وتأمل فى قوله عليه الصلاة والسلام: " ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود فى الكفر بعد أن أنقذه الله كما يكره أن يقذف فى النار ". أين من هؤلاء عبدة الحطام وأحلاس اللذة؟ كأن جيشا من الملائكة خرج لتطهير الأرض من أرجاسها عندما خرج هؤلاء الرجال من جزيرة العرب لإزالة الاستعمار الرومانى والفارسى، وتمهيد الحياة أمام توحيد الله ومحو الطواغيت. ص _099(1/86)
والطريف أن النبى عليه الصلاة والسلام كان ينمى عاطفة الحب فى الله ويصل بين أطرافها لترسخ وتبقى فعن أنس أن رجلا كان جالسا عنده فمر رجل آخر فقال الرجل: يا رسول الله، إنى أحب هذا، فقال له النبى: أأعلمته؟ قال لا! قال أعلمه! فلحقه فقال إنى أحبك فى الله، فرد عليه قائلا: أحبك الذى أحببتنى له ". عندما يكون حب الله والحب فيه أساس السلوك فلن تنهزم عقيدة أو تخذل فضيلة أو تسقط للحق راية، لكن عندما يكون جانب الله آخر ما يفكر المرء فيه فسيعربد الباطل فى الأرض لا يخشى شيئا ولذلك قال الله تعالى : (قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين). إن الحراص على الدنيا يفقدونها، ومن ثم قيل: اطلب الموت توهب لك الحياة. ص _100(1/87)
التقوى التقوى كلمة ابتذلت من طول ما لاكتها الألسن دون وعى، وأرسلتها الأفواه دون تيقظ! مع أنها تعنى الضمير الصاحى والقلب المشرق بنور الله، والتقى إنسان صلب السلوك تكتنف حياته الرغبة والرهبة أو الرجاء والخوف، وإلى جانب ذلك فهو يحب لله ويكره لله، ويؤيد الحق ويخاصم الباطل، ويفعل ما أمر الله به ويترك ما نهى عنه ويستحيل أن يوصف بالتقوى امرؤ معزول عن الحياة هارب من تكاليفها لا تحتمى به شعيرة من شعائر الله، ولا تنهزم أمامه معصية من معاصيه. . إن التقوى ثمرة عبادة مكتملة، وذاك ما قرره الكتاب العزيز (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون). كيف تتم تقوى من غير عبادة؟ كيف يبنى صرح من غير لبنات وأدوات وأثاث؟ وستنتهى الدنيا بيوم مفزع ولكن الأتقياء لا ينالهم هذا الفزع (وأزلفت الجنة للمتقين غير بعيد * هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ ) وفى تاريخ النبوات، وموقف الأمم من الأديان، يبين الله للناس أنه لا قبول إلا لتقىّ، فردا كان أو شعبا، فإن مزاعم الناس فى القرب من الله لا تنتهى!. كل جنس يدعى أنه له عند الله حظوة بماذا؟ ولماذا؟ من أحسن نجا ومن أساء هوى، وقد زعم اليهود أنهم شعب الله المختار! وزعم النصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه، وزعم المسلمون مثل ذلك وقال قائلهم: لما دعا الله داعينا لطاعته بأفضل الخلق! كنا أفضل الأمم!! وموازين العدل الإلهى لا تقبل هذه المجازفات، فإن أمة تشيع فيها الآثام والمظالم ليس لها عند الله وجاهة ولا ينتظر لها غد كريم. قال تعالى للمسلمين : (ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا). ص _101(1/88)
بل إن من أساء ـ وهو قريب من الوحى ـ أشد جرما ممن أساء وهو جاهل به بعيد عنه.. وفى عصرنا الحاضر نرى ألوفا مؤلفة من الناص تلفها جاهلية طامسة وبعد سحيق عن الله، لماذا؟ لأنه ليست للإيمان نماذج مغرية بالدخول فيه والانتماء إليه! إن جماهير من ورثة الوحى تمردت عليه وكسفت شعاعه وقد يخطر لى أن نصف الحيرة والضلالة اللتين تشيعان فى الأرض سوف يحمل أوزارهما الكسالى عن الدعوة، والمفرطون فى تراث النبوة، والمشوهون لوجه الحقيقة (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين). والناس يحبون أن ترتفع مكانتهم دون جهد يبذل أو ثمن يدفع، ولذلك يقول أحدهم أنا من أسرة فلان! أو من دولة كذا! يحسب أنه بذلك كسب مجدا أو نال وجاهة، وهذه سيرة لا تصلح بها دنيا ولا آخرة (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون). وفى عصرنا هذا يحرص البعض على الرياسات والجوائز وشارات السيادة. والعظمة الحقيقية هى نفس زاكية وعقل سليم ورباط وثيق بالله جل شأنه، والمظهر الفخم على كيان أجوف كالثوب الجميل على جلد أجرب، أو بدن مجذوم! وفى الحديث " ليس لأحد على أحد فضل إلا بالدين أو عمل صالح، حسب الرجل أن يكون فاحشا بذيئا بخيلا " . أحيانا أرى الرجل يبخل بدريهمات فى سبيل الله، ويبذل القناطير المقنطرة كى يتولى منصبا مرموقا، هل لهذا عند الله شيء؟ ألا تنطبق عليه الآية (أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا). لقد ابتعد المسلمون عن دينهم الذى يزن العمل بالذرة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ). ص _102(1/89)
فى القاهرة اليوم نقابة للأشراف أى الذين ينتسبون إلى الأسرة النبوية المكرمة، وأنا رجل أحب رسول الله واحمل بيته، ولكنى أجزع من قصر العمل وطول الدعوى، وأذكر قول النبى عليه الصلاة والسلام لابنته فاطمة: اعملى لا أغنى عنك من الله شيئا! وفى تاريخنا الأدبي مأثورات تستحق النظر، فإن الشريف الرضى يقول للخليفة العباسى مذكر بعراقته ومكانته: مهلا أمير المؤمنين فإننا فى دوحة العلياء لا نتفرق.. إلا الخلافة ميزتك فإننى أنا عاطل منها وأنت مطوق! والمتنبى شاعر العروبة الأكبر كان أبوه سقاء، فلما ماتت أمه قال فى رثائها: فلو لم تكونى بنت أعظم والد لكان أباك الضخم كونك لى أما لم هذا كله؟ أليس أفضل منه وأصدق قول الله تبارك وتعالى (وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين) ص _103(1/90)
الإيمان بين الصبر والجزع الرجولة مبنية على الصبر والتماسك، أما الجزع والاسترخاء فلا يقوم عليهما خلق ولا يوصل بهما إلى نجاح، ويعجبنى قول دريد بن الصمة: تقول: ألا تبكى أخاك؟ وقد أرى مكان البكا، لكن بنيت على الصبر لقد كنا طلابا فى شبابنا نعكف على الدراسة، ونعانى من المواظبة والسهر، ونؤمل فى غد أطيب ولولا الصبر الذى يقهر الضجر ويطرد السآمة ما قطعنا مرحلة ولا بلغنا مرادا. ثم إن الحياة ليست لونا واحدا فإن الجو يصفو ويغيم والصحة تقوى وتضعف والأيام تقبل وتدبر والمهم ألا تتعثر الخطا مع بعد الغاية ووعثاء الطريق! وقد وصف شاعر هذه الحال فقال: فإن تكن الأيام فينا تبدلت ببؤسى ونُعَمى والحوادث تفعل! فما ليَّنت منا قناة صليبة ولا ذللتنا للتى ليس تجمل! ولكن رحلناها نفوسا كريمة تُحمِّل ما لا يُستطاع فتحمل! وحراس العقائد والفضائل أجدر الناس بمعرفة هذه الحقيقة والنزول على حكمها. فعن خباب بن الأرت رضى الله عنه شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لقينا من المشركين شدة، وكان متوسدا بردة له فى ظل الكعبة، فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟. فقال ـ يحثهم على الثبات فى مقاومة الشرك ونصرة التوحيد ـ قد كان الرجل من قبلكم يؤخذ، فيحفر له فى الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد مادون لحمه وكظمه، ما يصده ذلك عن دينه!! والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من "صنعاء" إلى "حضرموت "، لا يخاف إلا الله، والذئب على غنمه! ولكنكم تستعجلون ". ص _104(1/91)
أى أن الإسلام سوف يحكم البدو والحضر ويشمل الأمان فى ظله كل شىء، ويختفى مثيرو الإرهاب والفوضى ولكن دون هذه الغاية الشريفة جهادا يطول، وعلى المؤمنين أن يصبروا... وقد تحقق هذا الوعد، وتقلصت غيوم الاستبداد، وعرفت جزيرة العرب أمانا تحسدها عليه أقطار أخرى! لكن الاختيار الإلهى ماض إلى قيام الساعة، فنحن المؤمنين نحس أن عقيدة التوحيد تواجه أزمات شدادا، وأن أتباع الملل الزائفة تحالفوا على وأدها وسنظل فى مواقف الحراسة حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين. وهناك نوع آخر من الآلام التى تقع بالناس فتورثهم الحزن الطويل!. قرأت أن مريضا بالسرطان طالب أهله أن يقتلوه لأنه لا يتحمل ما ينزل به من أوجاع! وشاهدت بنفسى رجلا عملاقا ملقى على الأرض تهزه نوبة صرع عنيفة، والدم يسيل من فمه كاسيا أسفل خذه وقد تم إسعافه ورأيته بعد أيام يمشى على الأرض وهو مبتسم!. قلت: هكذا الحياة! وروى البخارى عن "عطاء بن أبى رباح " قال لى " ابن عباس ": " ألا أريك امرأة من أهل الجنة؟ فقلت: بلى! قال هذه المرأة السوداء أتت النبى عليه الصلاة والسلام، فقالت إنى أصرع، وإنى أتكشف فادع الله تعالى لى.. فقال النبى لها: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك!!. فقالت المرأة: أصبر ولكنى أتكشف ـ يتكشف بعض بدنها حين ينتابها المرض ـ فادع الله أن لا أتكشف، فدعا لها.. ". إن هذه السيدة حريصة على كرامتها وطهارتها، وقد طلبت أن يسترها الله بعدما ابتلاها، فأجيبت إلى ما طلبت، والقصة تفيد أن الكدر طبيعة الدنيا وأن المصابرة والتحمل طبيعة أهل الإيمان! وأن الآخرة أفضل من الأولى، وأن من كسبها فقد ظفر بكل شئ!. عن ربيعة بن كعب قال: كنت أخدم النبى صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الليل أوْيت إلى باب رسول الله فبت عنده، فلا أزال أسمعه يقول: سبحان الله، سبحان ربى حتى أمل أو تغلبنى عينى فأنام...! ص _105(1/92)
فقال لى الرسول يوما: يا ربيعة، سلنى فأعطيك! فقلت له: أنظرنى حتى أنظر، وتذكرت أن الدنيا فانية منقطعة فقلت: يا رسول الله أسألك أن تدعو الله أن ينجينى من النار ويدخلنى الجنة!. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: من أمرك بهذا؟ قلت: ما أمرنى به أحد، ولكنى علمت أن الدنيا منقطعة فانية، وأنت من الله بالمكان الذى أنت منه فأحببت أن تدعو الله لى..! قال إنى فاعل فأعنى على نفسك بكثرة السجود " هذا الحديث الصحيح يفيدنا أمورا كثيرة أولها كيف يبيت الرسول يقظان القلب رطب اللسان بذكر الله، ثم كيف تعلم الصحابة منه الحرص على الآخرة وإيثار النعيم المقيم.. والمهم أن الآخرة إنما تكسب بالسجود المستمر لله تبارك اسمه، وجعل السمع والطاعة محور النشاط فى هذه الحياة حتى يغادرها المؤمن للقاء المحتوم. ص _106(1/93)
اليقين والتوكل قد أعجز من عبء مطلوب حمله، فأقول: أستعين بالله لعله يمدنى بقوة من عنده أستطيع بها النجاح ثم أحاول النهوض مرة أخرى، فتتم المحاولة وأبلغ الغاية!.. هذا هو التوكل المطلوب من كل مؤمن. إن قوانا الخاصة محدودة فإذا أسعفتها أمداد من قدرة الله ومشيئته وفقنا إلى ما نحب! بل إن قوانا الخاصة عارية لا ندعى امتلاكها، ماذا أفعل إذا انقطع التفكير ماذا أفعل إذا انطفأ المصباح لأن التيار انقطع ( قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون ). إن التوكل حقيقة علمية لأنى إذا اطمأننت ـ جدلا ـ إلى ما معى، فما الذى يطمئننى إلى ما حولى؟ عندما أسير فى الشارع فقد أملك خطاى لأنى أملك أقدامى. لكنى لا أملك عقل السائق القادم من بعيد. ولا أدرى أيبقى يقظان أم يغفل وعجلة القيادة فى يده؟ التوكل على الله ثقة فى الغالب على أمره، والذى يستحيل أن يفلت الزمام من يده، وذاك سر الأدعية والأذكار التى رويت عن النبى عليه الصلاة والسلام " اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت ". وعن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من قال- إذا خرج من بيته- بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له هديت وكفيت ووقيت، وتنحى عنه الشيطان " !! هل يغنى أحد عن الله فى هذا المجال؟ هل يمكن اللجوء إلى قوة أخرى؟ ( قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا). ص _107(1/94)
بويعود هذا التساؤل مرة أخرى فى تفصيل أشمل عندما نتلو قوله تعالى : (أمن هذا الذي هو جند لكم ينصركم من دون الرحمن إن الكافرون إلا في غرور* أمن هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه بل لجوا في عتو ونفور). والواقع أن القلوب إذا عريت عن اليقين والتوكل خشيت الهباء، وإذا عمرت بالإيمان والصدق لم تبال بشياطين الإنس والجن، وحققت من النتائج ما يثير الدهشة، ومن الأسماء الصحيحة للنبى عليه الصلاة والسلام اسم "المتوكل " لأنه طلع على الدنيا وليس لرسالته صديق وليس حوله إلا عدو، فمازال يجاهد مستندا إلى الله وحده حتى أقام خير أمة أخرجت للناس، أمة ملأت السهل والجبل والبر والبحر. وتوكل النبى على الله ظاهر فى أحواله الخاصة والعامة. عن جابر بن عبد الله أنه غزا مع النبى قبل نجد، فلما قفل رسول الله قفل معهم، فأدركتهم القائلة- أى الظهيرة- فى واد كثير العضاه- شجر الشوك- فنزل رسول الله وتفرق الناس يستظلون بالشجر، ونزل رسول صلى الله عليه وسلم تحت سفرة فعلق بها سيفه.. ونمنا نومة فإذا رسول الله يدعونا، وإذا عنده أعرابى! فقال لنا الرسول: إن هذا اخترط على سيفى- أى استله- وأنا نائم فاستيقظت وهو فى يده صلتا، قال: من يمنعك منى؟ قلت الله- ثلاثا- فسقط السيف من يده، وجلس الأعرابى، ولم يعاقبه الرسول " !! كانت إجابة رسول الله عفو الخاطر وعلى طرف اللسان دون تكلف ولا إعداد، لأن التوكل طبيعته، ماذا تفعل إذا استيقظت من نومك فجأة فوجدت غادرا يصوب مسدسا إلى رأسك ويده على الزناد؟ إنه ما يبقى رابط الجأش إلا امرؤ مفعم الفؤاد باليقين ! قد ترك النبى الأعرابى بعدما منحه عفوه. لعله يدرك طبيعة النبوة! ويتمحض التوكل على الله فى الحالات التى نيأس فيها من كل عون، وينقطع كل حول، عندئذ يقول المرء من أعماق قلبه " حسبنا الله ونعم الوكيل ". عن ابن عباس: قالها " إبراهيم " حين ألقى فى النار، وقالها "محمد" حين قيل له ص _108(1/95)
وللمسلمين ( إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل). وعندما نصبح ونبدأ أعمالنا ونخالط الغريب والقريب والعدو والصديق يتجه المؤمن إلى ربه يسأله العصمة والحماية يقول ـ كما تعلم من رسوله ـ " اللهم إنى أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أذل أو أذل، أو أظلم أو أظلم، أو أجهل أو يجهل على..". من السعادة أن يطمئن الإنسان إلى أنه مع الله، وأن الله معه، وأنه ليس وحيدا عندما ينطلق فى دروب الحياة. ص _109(1/96)
من دعائم طرق الحياة اللذات المغرية والشواغل المنسية كثرت فى هذا العصر كثرة شديدة وألحقت بعاطفة التدين هزائم كبيرة وجعلت جمهورا كبيرا من الناس يجرى وراء الشهوات ويذهل عن واجباته نحو ربه! وصناعة الإعلام المرئى والمسموع شرعت تستولى على أوقات الناس بصنوف من برامج التسلية قد تبقى عاملة طوال الأربع وعشرين ساعة!! فإذا تجاوزنا هذا الجانب من الحياة الدنيا واتجهنا إلى الطبقات العاملة رأينا هموما من نوع آخر تستولى على الناس. وقد استمعت إلى بعض علماء الاقتصاد فوجدته ينظر بتشاؤم إلى مستقبل الأرض، يقول: إن الإنفاق زاد والمنابع لم تزد، وقد استدان من لم يكن يعرف الاستدانة، ووجل من النفقة من كان جريئا عليها ولاح عن بعد شبح أزمات مقبلة! وتذكرت أنا خاصة أيام كنت طالبا بالأزهر الشريف فقد كنت أسائل نفسى: ما العمل بعد التخرج؟ سوف أنضم إلى صفوف العاطلين الذين تخرجوا من قبل! لكنى قاومت هذا الشعور المقنط وتذكرت أن الله لن يضيع متوكلا عليه، وقد صدقت الله فصدقنى الله!! بيد أن صوت الإيمان اليوم خافت، والمنطق المادى الجاف الكفور يعصف بكل شراء!! فلنقاوم موجات الشك، ولنعد بالناس إلى ربهم فلا ملجأ من الله إلا إليه. *** ولأذكر هنا حديث ابن عباس رضى الله عنه وهو حدث يردفه النبى صلى الله عليه وسلم وراءه أحيانا، قال ابن عباس: كنت خلف النبى يوما فقال لى: يا غلام إنى أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشىء لم يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف " . ص _110(1/97)
وفى رواية أخرى " احفظ الله تجده أمامك. تعرف إلى الله فى الرخاء يعرفك فى الشدة واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليخطئك واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ". هذه جمل من أدب النبوة تقطر صدقا وحبا، وقد تضمنت نصائح غالية تنشئ الرجولة السوية والمستقبل الميمون. إن الطفل عندما يدرج إلى مرحلة اليفاعة يبدأ يفكر لنفسه بعد أن كان أبواه يفكران له، لقد كانا يأخذان بيده، أما الآن فهو يسير مستقلا، ويبدأ يأخذ ويعطى، ويخطئ ويصيب ويفشل وينجح، ويبتهج ويكتئب، وهو فى هذه المرحلة أحوج الناس إلى سلامة التوجيه. وهذا ما فعله النبى عليه الصلاة والسلام مع ابن عمه عبد الله، وكان أول ما لفته إليه أن يحفظ الله فى أمره ونهيه وسره وعلنه، فإن العلاقة الوثقى بالله ضمان الخير كله فمال الأمور كلها إليه، ولن يبت فى أمر بعيدا عنه ( والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون). وإذا كانت علاقة المرء بالله قوية فقد صار فى حصن حصين. والمسلم بعد كل صلاة يناجى الله بهذه الكلمات " اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت " . فإذا خاض بحر الحياة بعدئذ خاضه وهو واثق مكين. وهناك أمراض معنوية قاتلة لأصحابها كالعجز والكسل والجبن والبخل، وقد أمر المسلم أن يستعيذ بالله منها والواقع أن كل هزائم الحياة تجئ من هذه الرذائل. كنت من نحو ستين سنة أحد الطلاب الذين تقدموا لاختبار علمى مهم، وكان رئيس القسم الشفوى فى هذا الامتحان الشيخ "عبد الجليل عيسى" المفسر المشهور ـ رحمه الله ـ وضاق الطلاب بذلك ذرعا حتى كادوا يقاطعون الامتحان ويتعرضون للأذى فقد كان الرجل معروفا بالشدة! قلت وأنا أضحك: أنخاف الجليل سبحانه وتعالى أم نخاف عبده؟! ص _111(1/98)
ويممت شطر اللجنة وبدأت الامتحان! وبعد أمد معقول خرجت وأنا مبتسم هادئ البال! أردد المثل السائر: الناس من خوف الذل فى ذل، ومن خوف الفقر فى فقر... والنجاح لا يساق بالمجان، إن له تكلفة ينبغى أن تؤدى: تحمل وثابر ثم افهم قول رسول الله " إن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الضيق... " أخلق بذى الصبر أن يحظى بحاجته ومدمن القرع للأبواب أن يلجا ص _112
الإحساس بالحقيقة فقدان الحس بالحقيقة مع شدة قربها رذيلة نفسية وفكرية لاسيما إذا اتصل الأمر بروح الوجود وسر العالم بديع السموات والأرض الذى أحسن كل شئ خلقه! إن الذهول عنه مع حضوره الدائم غيبوبة بالغة السوء، لاشك أن الله أقرب شىء إلينا وقد وردت بالقرآن الكريم آيات تصور هذا القرب نذكر منها قوله جل شأنه (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد). وعندما يلتف بالمحتضر أقاربه ـ وهو فى النزع الأخير ـ يقول الله تعالى : (فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون) إن الله مع الجمع الحزين موجود، ولكننا نعجز عن رؤيته ببصرنا العادي! وكم تعجز حواسنا عن إدراك حقائق كثيرة. وفى تصوير الإشراف الإلهى على الكون يقول تبارك اسمه (ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم) وسعة الألوهية فوق الأوهام ولا طاقة لألباب البشر على وعيها، ولا جدال فى أن الخالق غير المخلوق، ولكننا نستدل بعظمة الكون على عظمة صانعه الذى أنشأه من عدم ويمده بالبقاء لحظة بعد أخرى ويفهمنا أنه لا يغيب عن شىء (فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين) إذا كنت فى مجلس ما فعددت الحضور أربعة، فقل: هم خمسة. فإن الله موجود من قبل ومن بعد.. إن الغفلة عن هذا الحساب خطأ فى الفكر، ونقص فى الإيمان! وإن كانت حضارتنا المعاصرة لا تكترث به ولا تلتفت إليه، والشخص الذى يحسن العمل مع الناس ويسيئه وحده رجل سوء لا يستحى من ربه ولا(1/99)
يوجل من رقابته (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا) ص _113
والواجب على كل مسلم أن يشعر شعورا حادا بأن الله معه، وأنه أقرب شىء إليه، وأن يخالطه هذا الشعور وهو يسمع ويبصر ويقوم ويقعد ويتكلم ويصمت، ومع التمكن من مقام الإحسان ترتفع حقيقة العبادة ويستولى هذا الشعور على الإنسان استيلاء يجعل العبد ربانيا خالصا فهو يحب الله ويحب له ويحب فيه، وهو فيما يفعل ويترك مشغول بربه، يقظان لما يرضيه أو يسخطه، وكأنما يسمع ويبصر لحساب خالقه!. وقد جاء حديث قدسي يشرح هذه الحال نثبت ألفاظه أولا ثم نشرح المراد منه. عن أبى هريرة قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال الله تعالى " من عادى لى وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلى عبدى بشىء أحب إلى مما افترضت عليه. وما يزال عبدى يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذى يسمع به، وبصره الذى يبصر به، ويده التى يبطش بها ورجله التى يمشى بها، وإن سألنى أعطيته ولئن استعاذ بى لأعيذنه . . " فلننظر نظرة جادة إلى هذا الحديث الذى أنكره البعض مع صحته لأنه تساءل كيف يكون الله أذنا لشخص أو رجلا لآخر؟ إن هذا مستحيل بداهة! وأقول: هل إذا شغلت بأخبار فلان ومطالبه فلا أهتم إلا بها ولا أصغى إلا إليها أصبح فلان هذا أذنا لى؟ إن العجز فى فهم مرامى الكلام ينتج أحكاما سيئة! ذهبت يوما إلى بعض الحقول بعدما نضج القمح وتم حصاده فنظرت إلى أكوامه ثم غصت فى فكر عميق " كم مليار حبة أمامى؟ كيف التفت القشور الذهبية على ما بداخلها؟ كيف تمخضت التربة السوداء الجرداء عن الطحين والنشا والسكر والمعادن؟ ماذا صنعت القدرة العليا بيننا وتحت أقدامنا؟. كم من الخلق سيطعم من هذا الجنى؟ وفيما أنا مستغرق سمعت صياحا منكرا من الحمال يسائل الفلاح كيف ينقل هذه الأحمال بثمن بخس؟ ص _114(1/100)
قلت: كل مشغول بما يعنيه ! ( كل امرئ بما كسب رهين) هكذا الناس على ظهر الأرض. هناك من يتبع صاحب الرسالة وهو يتلو- بأمر الله- (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له …). فهو يحيا لله ويموت فيه، وعن اهتمام بأمر الله يصيح بسمعه وينظر بعينيه ويسعى بقدمه ويكدح بيده. إن حواسه كلها تتحرك لله ولدينه ولمرضاته، ولا يفهم عاقل أن الله أصبح يدا أو رجلا..!! هذا المتفانى فى الله المستغرق فى طاعته الكادح فوق التراب رجلاه فى الأرض ورأسه فى السماء هو الإنسان الذى أحبه الله واتخذه من أوليائه وآذن بالحرب من آذاه أو ظلمه.. والعقائد إنما تنتصر فى الحياة بهذا الصنف من المتجردين الأوفياء، الذين إن حضروا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا لأنهم ليسوا طلاب ظهور ولا عشاق مناصب، ربما نسيتهم الحياة فى مواكبها المائجة. ولكن الله ذاكرهم بالغدو والآصال لأنهم ما نسوه فى صباح ولا مساء... ص _115(1/101)
من عزائم الرجال " سعد بن أبى وقاص " العلاقة بالله أساسها الاستقامة والإخلاص، ولا مكان فيها لخادعة أو مراءاة. إلى من ينظر المؤمن إذا كان يعرف الله حقا؟ إنه لا يرقب غيره ولا يرجو إلا خيره، ولا قيمة عنده للظواهر إذا كان الباطن رديئا، وفى الحديث " إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " . وقد قام المجتمع الإسلامى قديما على هذه الحقيقة، مؤمنون شقوا طريقهم إلى الله مخلصين له الدين، آثروا ما عنده وخاصموا القريب والبعيد من أجله وأحبوا من البلاد ما أعانهم على عبادته وصادقوا من الناس من أعانهم على الحق وتحفل معهم وعثاء الطريق.. ولا تزال الدنيا كذلك قديما وحديثا. فنصرة الله صعبة!! وتحتاج إلى التضحية. وكم رأينا من تراجع أو انسحب لأن تكاليف الإيمان لا تطاق.. ولعل أصعب ما كلف المؤمنون به هو الهجرة من الوطن فى سبيل نصرة الحق، إنه مستقبل مجهول أقبل عليه أهل الإيمان ولا سناد لهم إلا الأمل فى الله والثقة فى قضائه. ونحن نعرف من ترك وطنه فقيرا ليعود إليه غنيا، ومن تركه ضعيفا ليعود إليه قويا.. ولكن الرجال الذين هاجروا مع " محمد " كانوا يبيعون دنياهم بآخرتهم لقد زهدوا فى كل ما حرص الناس عليه وعناهم أمر واحد، أن تزول الوثنية وأن تعلو كلمة الله!! والغريب أنهم كلفوا بنسيان ما تركوا وعدم التفكير فيه أو العودة إليه على نحو ما قال الشاعر: إذا انصرفت نفسى عن الشيء لم تكد إليه بوجه آخر الدهر تقبل ولذلك لم يرجعوا إلى "مكة " بعد افتتاحها وسقوط دولة الأوثان فيها، لقد تركوها لله وهم فقراء إليها، فلن يسكنوا فيها بعد ما انتصروا على أهلها!! وتحكى كتب السنة قصة رقيقة " لسعد بن أبى وقاص " تشرح كيف خاف أن يموت "بمكة" بعد أن هاجر منها لقد عاد إليها حاجا يؤدى المناسك ثم يرجع إلى المدينة المنورة فماذا يفعل وقد غلبه المرض؟ ص _116(1/102)
لقد أصابته وعكة خشى منها على حياته، إنه لا يهاب الموت ولكنه يكره أن يموت فى مكة التى هجرها لله!. قال سعد: جاءنى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودنى عام حجة الوداع من وجع اشتد بى، فقلت: يا رسول الله إنى قد بلغ من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال ولا يرثنى إلا ابنة لى. أفأتصدق بثلثى مالى؟ قال: لا. قلت فالنصف؟ قال: لا، قلت: فالثلث يا رسول الله قال: الثلث، والثلث كثير! إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس، وإنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله إلا أجرت عليها حتى ما تجعل في فم امرأتك! قال سعد: فقلت يا رسول الله أخلف بعد أصحابى؟ أى تعود بالمسلمين إلى المدينة وأبقى أنا وحدى فى مكة؟ فواساه النبى صلى الله عليه وسلم بما يطمئنه على هجرته ومكانته، قال له: إنك لن تخلف فتعمل عملا صالحا تبتغى به وجه الله إلا ازددت به درجة ورفعة، ولعلك أن تخفف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون... اللهم أفض لأصحابى هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم ! والنبى عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيوب، ربما مات " سعد " فى مرضه فهو على أية حال من السابقين الأولين، وربما أطال الله بقاءه فى هذه الدنيا فافتتح ميادين للجهاد، تتسع بها رقعة الإسلام وتنكمش بها قوى الكفر! وذاك ما توقعه النبى لصاحبه وحققته الأقدار!. إن سعدا الذى كان يتوقع المنية فى مكة صحَّ من علته، ثم اختاره عمر بن الخطاب قائدا لجيوش المسلمين فى الجبهة الفارسية فنهض بالفتح، ودخل القادسية بجيش التوحيد وقضى على المجوسية إلى الأبد. والغريب أن سعدا كان مريضا وهو يتولى قيادة الجيش، وكان يصدر الأوامر وهو يرمق الجبهة فوق أحد السطوح، ويكتب ما يريد فى رقاع تصل إلى القادة المحليين، لكنه كان متألق الفكر واثق العزم يعرف عظمة الرجال الذين تولى قيادتهم فحقق بهم نصرا غاليا!. ص _117(1/103)
أكان " سعد " العليل القلق فى مكة يعرف ما كتب الله له؟ إن النفوس الكبيرة تمضى إلى قدرها وفق ما كتب الله لها.. والله يمنح فضله من يشاء.. وقد ابتلى سعد بمن طعن فى مكانته وهو حى، كما ابتلى بمن طعن فى مكانته وهو ميت! عندما تولى إمارة الكوفة طعن صعلوك فى سيرته، وقال إنه لا يحسن الصلاة بالناس، فدعا عليه سعد! فمات مشهورا بالعبث وتتبع الفتن وسقوط الكرامة. وفى أيامنا هذه جاء كاتب ممن يكرهون أصحاب محمد، فكرر التهمة نفسها ـ وهو يعلم سقوطها ـ لعله ينال من مكانة الفتح والفاتحين وهيهات أن يصغر الرجال أو ترتفع خسيسة مغموص بمثل هذه المفتريات. رضى الله عن أصحاب "محمد"، وأنشأ من حماة الحقيقة من يقتفى آثارهم ويجدد تاريخهم. ص _118(1/104)
قصة مشتقة من صحيح مسلم قال التلميذ لأستاذه الراهب الخاشع المتواضع: لقد علمت اليوم مكانتك عند الله تعالى فقد اعترضت طريق الناس دابة متوحشة خشوا منها على حياتهم، فتوجهت إلى الله أن يعيننى عليها حتى أصل إليك وأنتفع بعلمك ثم أطلقت سهما من كنانتى أرداها قتيلة وها أنذا بين يديك!. قال له أستاذه الراهب: يابنى أنت اليوم أفضل منى بعد أن بلغ من أمرك ما سمعت، وإنك ستبتلى، فإن عذبوك فلا تدل أحدا على!. وأصبح الغلام يبرئ الأكمه والأبرص ويداوى الناس ـ بفضل الله من سائر العلل. فسمع به جليس للحاكم الجبار فى عصره أصيب بفقد بصره، فأتى الغلام بهدايا كثيرة وقال له: كل ما جئت به فهو لك إن أنت شفيتنى!. قال الغلام: إنى لا أشفى أحدا، إنما الله هو الذى يشفى! فإن أنت آمنت به دعوت الله لك فشفاك، فآمن الرجل وشفاه الله، فلما رجع الرجل إلى مجلسه عند الملك ـ وقد عوفى ـ قال له الملك: من رد عليك بصرك؟ قال: ربى قال الملك: ـ وهو يدعى الألوهية ـ : ألك رب غيرى؟ قال: ربى وربك الله، فأمر بتعذيبه. فلما اشتد عليه العذاب دل على الغلام، فجيئ به فقال له الملك أبلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل... قال الغلام: إنى لا أشفى أحدا، إنما يشفى الله، فصدر الأمر بتعذيبه، فلما زادت عليه الآلام دل على الراهب أستاذه فجيئ بالراهب، وقيل له: ارجع عن دينك فأبى.. فشق بالمنشار حتى سقط نصفين، وجيء بجليس الملك الذى عاد إليه بصره وقيل له ارجع عن دينك فأبى فقتل مثل ما قتل الراهب، ثم جيء بالغلام وقيل له ارجع عن دينك فأبى، فدفعه الملك إلى بعض رجاله، وقال لهم: اذهبوا به إلى أعلى جبل فى الوادى، فإن رجع عن دينه فاتركوه وإلا فاطرحوه من أعلى القمة. ص _119(1/105)
وذهب الغلام معهم فلما كان فى طريقه إلى ذروة الجبل دعا الله قائلا: اللهم اكفينيهم بما شئت، فرجف بهم الجبل رجفة أوقعتهم جميعا صرعى، ورجع الغلام إلى الملك يمشى!. فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله.. فدفعه الملك إلى نفر آخرين، وقال لهم اذهبوا به فى قارب إلى عرض البحر فإن رجع إلى دينه فعودوا به وإلا فاقذفوه بين اللجج، فلما توسطوا به البحر قال الغلام: اللهم اكفينيهم بما شئت فانكفأت بهم السفينة فغرقوا جميعا وعاد الغلام إلى الملك، قال له: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله ثم وجه حديثه إلى الملك ـ الذى قال مثل فرعون: أنا ربكم الأعلى ـ إنك لن تستطيع قتلى إلا بطريقة أدلك عليها!. قال ما هى؟ قال: تجمع الناس فى صعيد واحد، وتصلبنى على جذع شجرة ثم خذ سهما من كنانتى وصوبه إلى ثم قل: باسم الله رب الغلام وأطلق السهم فإنك إن فعلت ذلك قتلتنى...! واحتشدت الجماهير لترى مصير الغلام الذى هزم فرعون مرتين، ونجا من الموت الذى أراده الجبار له، رأوا الغلام مربوطا فى جذع قائم رافع الرأس متألق الجبين، وسمعوا الملك يقول: باسم الله رب الغلام ويطلق السهم نحو جبين الغلام، فإذا الغلام يخر صريعا فارتفعت الأصوات من كل جانب تصيح: آمنا بالله الواحد، رب الغلام المؤمن وكانت هذه الصيحة عاصفة أذلت الطاغوت وجعلت كلمة الله هى العليا.. إن الغلام لم يكن جبانا أمام الموت حين هدد به فوق الجبل ولم يكن جبانا أمام الموت حين هدد به بين اللجج! لقد أراد أن يموت فداء الإيمان الحق، وأن يفضح بموته الخرافة التى سرت بين الناس!. قالت حاشية الملك له: قد وقع والله بك ما كنت تخاف آمن الناس بالله وكفروا بك!! فأمر بشق الأخدود وإيقاد النار فيه، ونادى مناد: من لم يرجع عن عقيدة التوحيد رمى فى هذا اللهب!! وقذف بمؤمنين كثير فى هذا الجحيم، وجاءت امرأة تحمل طفلها فتقاعست أمام هذا الهول... ص _120(1/106)
فقال لها الوليد : يا أماه اصبرى فأنت على الحق… قال الشراح : إنها ما كادت تحس لسع النار حتى كانت ـ هى وولدها ـ فى جنات النعيم.. .
لماذا روى صهيب الرومى هذا الحديث عن النبى صلى الله عليه وسلم ؟ لقد شرح به آيات فى سورة البروج " قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد " .
إن للحق تكاليف يجب أن تؤدى، وإذا كانت للطواغيت سطوة تصرف عن الله فواجب المؤمنين أن يقابلوا هذه السطوة بجراءة ويقين.
إن المسلمين فى هذا العصر يلقون العنت ، ويراد تكفيرهم بكتاب الله وسنة رسوله فلنصاير الليل الهاجم حتى يطلع الفجر ويقتر النصر.
ص _121(1/107)
سطور فى تربية الرجال كانت جزيرة العرب قبل البعثة تشبه فيافى "سيبريا" فى السعة والخمول والإقفار من الحضارة! غبرت عليها القرون وهى هامدة يؤثر عنها فكر فلسفى أو نشاط روحى، حتى إذا طلعت شمس الإسلام تحول كل شىء إلى ضده فإذا الصحراء الخامدة تقذف بجيل من الناس لا عهد للتاريخ بهم، ربما وجد أمثالهم قلة تعد على الأصابع حول موسى وعيسى أما الزحف السماوى الجديد فألوف مؤلفة من تلامذة محمد الذين كانوا رهبانا بالليل فرسانا بالنهار عبروا أرضهم إلى أرجاء الدنيا الرحبة فحولوا ليلها إلى نهار! إن الفتح الإسلامى كان فجرا جديدا طلع على شعوب فقدت مقوماتها الإنسانية فصبها فى قوالب نضيرة رائقة، ويوم وقع هذا التغيير سمع للوحى السماوى رنين آخر يشيد بالفكر ويغالى بالفطرة ويحترم الدليل ويحتقر الكهانة، ويتحدث عن لقاء بالله لا ينجو فيه إلا من له قلب سليم وعقل حى!! كيف صنع رجل واحد ذلك كله هذه هى المعجزة! كان العرب كما وصفهم دريد بن الصمة شاعرهم وفارسهم عندما قال: يغار علينا واترين فيشتفى بنا إن أصبنا أو نغير على وتر! قسمنا بذاك الدهر شطرين بيننا فما ينقضى إلا ونحن على شطر! وامتدت هذه الحمى حتى شملت الأقارب أنفسهم فهم كما قيل: وأحيانا على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا...!! لقد حل مكان هذه الوحشة شعور غامر من الأخوة الخالصة والحب لله والحب فى الله والإيثار على النفس وتقديم الآخرة على الأولى، ويبدأ هذا الحب من صلة محمد بالناس فهو كما وصفه ربه ( عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم ). ومن صلة الناس بمحمد فهم يفتدونه بالنفس والمال وانظر إلى بلال وهو يحتضر. إنه فرح بالموت! لماذا؟ يقول: غدا ألاقى الأحبة محمدا وحزبه!! ص _122(1/108)
إن النفس العربية لحقها تغير جذرى جعل الجماهير خلقا آخر! ولا تعرف أبعاد هذا التغير الرائع إلا عندما تقرأ أن الحرب الأهلية فى "رواندا " تمخضت عن مليون قتيل. كان يمكن أن يقع ذاك فى حرب بين الأوس والخزرج قديما لولا أن الله قال: ( وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم …) إن الاستعمار الحديث أشعل الأحقاد وأضرى الشهوات وظاهرة تدين كذوب! أما محمد فقد محا الجاهلية الأولى بسيل من الحب والرحمة غمر الوهاد والنجود! والغريب أن هذا الاستعمار مستميت فى رد العرب إلى فرقتهم وأثرتهم الأولى...! فهل يحنون إلى الإسلام وأمجاده وتربيته وتساميه؟ لما مات رسول الله حزن المؤمنون عليه حزنا مس شغاف القلوب، روى أنس بن مالك، قال أبو بكر لعمر بعد وفاة رسول الله: انطلق بنا إلى أم أيمن ـ حاضنة رسول الله ـ نزورها كما كان رسول الله يزورها.. فلما انتهيا إليها بكت فقالا لها: ما يبكيك؟ أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: إنى لا أبكى لأنى لا أعلم أن ما عند الله خير لرسول الله! ولكنى أبكى لأن الوحى قد انقطع من السماء، فهيجتهما على البكاء فجعلا يبكيان معها.. "!! إن السيدة البارة ألفت تردد جبريل على صاحب الرسالة قادما بخبر السماء، وقد انقطع هذا كله بذهاب محمد إلى الرفيق الأعلى... وروى ابن عباس قال النبى لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت الآية ( وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك ). وروى أبو هريرة أن النبى عليه الصلاة والسلام قال " سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ فى عبادة الله عز وجل ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا فى الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل دعته امرأة ذات حسن وجمال فقال: إنى أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه. ورجل ذكر(1/109)
الله خاليا ففاضت عيناه " ، هكذا ربى محمد أمته..! ص _123
نظرة فى ماهية الحياة أغلب الناس يرون الوجود كله هو المدة التى يقضونها على ظهر الأرض، ويقول قائلهم: ما مضى فات، والمؤمل غيب ولك الساعة التى أنت فيها! ولذلك يحرصون على العاجلة، ويكرسون قواهم فى تحصيلها، وقد يهرم المرء وتهى قواه، ولكنه كما قال الرسول صلوات الله عليه: " يشيب " ابن آدم " وتشب فيه خصلتان الحرص وطول الأمل " ! إنه ما بقى حيا فهو متشبث بالدنيا متطلع الى المزيد من متاعها، والحق أنه لا يكفكف هذه الرغبة ويكسر سوْرتها إلا إيمان بعيد الغور عميق الأثر! وقد شرح القرآن الكريم هذه الحقيقة فى قوله تعالى : (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب). وأولى الشهوات التى أحصتها الآية ما يسمى الآن الشهوة الجنسية وهى شهوة ضارية غالبة، قال عنها " ابن القيم " إنها بعض متاع الجنة! والواقع أن عمران الأرض مربوط بنشاطها، ولو كان نداؤها خافتا لكبتها كثيرون ممن يعرقون وراء لقمة العيش ويضنيهم عبء النفقة وطول التربية، ولكن الله جعل الشهوة الحيوانية بهذه القوة حتى يرضى الإنسان بتغبير الأقدام وراء الأرزاق، ومادام يقضى أربه فليدفع الثمن! ويرى "أبو حامد الغزالى" إن هذه طبيعة الدنيا، فما من شهوة فيها إلا تقاضت ثمنها، وما تتحمل النساء آلام الولادة، ويتحمل الرجال متاعب الكدح إلا لقاء لذة عابرة! بل إن الطعام الشهى الأثير يحتاج الخلاص منه إلى معاناة أكثر من الطعام المعتاد! يظهر أن الآخرة وحدها هى دار القرار! ص _124(1/110)
وذكر القرآن بعد ذلك حب البنين، والأولاد قوة وعزة، والعلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة من أسباب البشاشة والرضا، وغالبا ما يجمع القرآن بين الثروة والذرية أو بين المال والبنين والشائع أن ذلك زينة الحياة الدنيا، وما ننكر ذلك!. بيد أنه أيضا عدة النصر وقاعدة التمكين فى الأرض، وإذا أراد الله طمأنة شعب مزلزل، وإعزازه بالنصر بعد الهوان أمده بالأموال والبنين!. قال تعالى فى بنى إسرائيل بعد هزيمتهم أمام عدوهم ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) إن الكثرة سلاح ذو حدين، فلنتعلم كيف نستفيد منها فى خير الدنيا والآخرة..... وقد يكون الطريق واحدا إلى ربح الحياتين معا، والأساس هنا هو شرف النية واستقامة الفكر وسلامة الفطرة!. قد تملك مزرعة كثيفة الأشجار كثيرة الثمار تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها. إن هذا خير جزيل وفضل مضاعف، إنك فى صلاة عندما تشعر بأن هذا الشجر أنبته الله، وأن هذا الثمر صنع الله طعومه وألوانه، جهدك القليل أنضم إلى تربة الأرض وحالة الجو وضوء الشمس وانسكاب الماء فأينعت الحديقة وأزهرت وطاب جناها، ألا يستحق الله الشكر والثناء بعد ما فعل هذا؟ ألا يقف المرء مذهولا وهو يرى ساقا خضراء تشق الثرى صاعدة كى تقدم لنا النشا والسكر والمعادن وسائر عناصر الحياة؟ أليس من السخف أن تظن أحدا غير الله صنع هذا الإعجاز؟! ومع ذلك فإن مغفلا كبيرا، أو كافرا حقيرا نظر إلى جنته تهتز زرعا ثم قال ( ما أظن أن تبيد هذه أبدا) لماذا أيها الأحمق؟ ألا يستطيع من حول الحمأ المسنون إلى ورود وحبوب أن يرده كما كان؟ ص _125(1/111)
ولكن الكافر الأحمق مضى فى غرور يقول ( وما أظن الساعة قائمة) لماذا؟ إن تحول الفضلات المنتنة إلى طعام وحلوى دليل على البعث وآية على القدرة العليا فكيف يكون مثار كفر؟. الواقع إن الإلحاد جدير بالاحتقار كله وما أحسب صاحبه جديرا بالحياة!. وشراء أخر جدير بالعجب أن تحسب الدنيا إما كفرا غنيا وإما إيمانا فقيرا فأين مكان الغنى الشاكر؟ وهو ـ عند التحقيق ـ أفضل من الفقير الصابر!. لقد حزنت عندما قرأت لأحد الصوفية الكبار قوله " لا يخلو المؤمن من ذلة أو عفة أو قفة "! وقد شاع هذا الهراء فى بعض البيئات فدحرج الأمة إلى السفوح وأعجزها عن نصرة دينها فى ميادين لا مكان فيها إلا لقوى. أعرف أن الحياة تحفل بالمتاعب والهموم حتى قال المتنبى: أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلو من الهم أخلاهم من الفطن لكن الفرق كبير بين كسيح فعد أول الطريق، وبين ناشط مرن على حطم العقبات واكتساح السدود. والمؤمن الحق يحيا ملء الحياة، ويعلم أن الموت اختفاء من ساحة للظهور فى ساحة أخرى، فليس هناك عدم، بل هناك ارتباط بالله وعبودية دائمة لذاته وشعور موصول بأسمائه الحسنى. ص _1 ص
سلوكيات قبس من لحظات الإشراق والتسامي . بين الصدق والخيال الشارد . بين الحماس والتماوت . من قوانين الحياة . حب الرياسة . صيانة العرض والمال من معالم الإسلام . العاجزون ومهارة الغمز واللمز . المدخنون ومنابع الاستهتار . ص _128
( … الواقع أن العاجزين عن العطاء مهرة في الغمز واللمز ، والأمم لا تعرف في ميادين الكدح لا ينقطع ضجيجها في نقد الآخرين )
محمد الغزالي ...
ص _129(1/112)
قبس من لحظات الإشراق والتسامى كان لى أستاذ مشرق البصيرة صادق الإيمان إذا تحدثت معه نقلنى إلى جوه أو رفعنى إلى مستواه! ولذلك كنت أحرص على ملاقاته بين الحين والحين لأهرب من نفسى وأحيا فى أفق أسنى. وأصحاب المشاعر العميقة لهم قدرة على تلوين الجو الذى يعيشون فيه وإطلاق أشعة تؤثر فيمن يقترب منهم..!، والمهم أن يكونوا أصحاب رسالات نبيلة وحملة عقائد خيرة، حتى يكون نشاطهم امتدادا لها وتوسيعا لدائرتها. أما أن يشغلنا امرؤ بنفسه أو مشكلاته أو أحزانه الخاصة فذاك مالا مساغ له. إن " متمم بن نويرة " أراد أن نبكى أخاه معه فحول الدنيا إلى مقبرة ينشج فيها ويرغمنا على النشيج معه، واسمع إلى هذين البيتين له فى رثاء أخيه مالك: وقال أتبكى كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى فالدكادك فقلت له : إن الشجا يبعث الشجا فدعنى فهذا كله قبر مالك! وكان "متمم " يستطيع أن يتصبر ويستسلم للقضاء، ولو فعل لكان ماله كما قال "ابن الرومى": ستألف فقدان الذى قد فقدته كإلفك وجدان الذى أنت واجد! لكن بعض الناس يجب أن يشغل العالم بنفسه ومصابه!!. إن عظمة النفس الإنسانية أن ترتبط بالله وتحيا له كما تحيا به! وهل نستمد وجودنا من غيره؟ فما معنى الذهول عنه؟ ورسالات السماء من بدء الخليقة قوامها رجال يعرفون الشعوب بالله ويهدونها إلى صراطه المستقيم، ولا ريب أن لهؤلاء الرجال اكتمالا روحيا وعقليا يجعل الجماهير تسمع منهم وتأخذ عنهم، بل إن السمو النفسى عند أولئك المرسلين أعلى كثيرا كثيرا من الارتقاء العقلى عند جمهور الفلاسفة. ص _130(1/113)
فلا غرو إذا كان الأنبياء أحب إلى الله وأجدى على الناس. وفى الحديث "ما أذن الله لشيئ- استمع- آذنه لنبى يقرأ القرآن يتغنى به.. ". وقد كان خاتم النبيين محمد بن عبد الله أعظم إنسان أثر فى الخلائق ووصل بقوله إلى شغاف القلوب ويظهر أن الوهج الروحى عند محمد كان شديد الأخذ عميق الأثر، مما لف أصحابه حوله على نحو لم يعرف من قبل ولا من بعد، ويؤكد تاريخ الرجال أن أحدا ما أحب أحدا، كما أحب أصحاب محمد محمدا!! عن " حنظلة بن الربيع "- أحد كتاب الوحى- قال: لقينى "أبو بكر" رضى الله عنه فقال: كيف أنت ياحنظلة؟ قلت: نافق حنظلة!! قال: سبحان الله، ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأى العين! فإذا خرجنا من عند رسول الله عافسنا- أى لاعبنا وعالجنا- الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا! قال " أبو بكر": فو الله إنا لنلقى مثل هذا!. فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله، فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله: وما ذاك؟ قلت يا رسول الله: نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأى العين.. فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأولاد والزوجات والضيعات نسينا كثيرا.. فقال رسول الله: (والذى نفسى بيده لو تدومون على ما تكونون عندى اوفى الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفى طرقكم!! ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات " . ص _131(1/114)
والصحابى الصادق وصف بدقة أويقات الطهر والسمو التى يسعد بها عندما يكون مع رسول الله، الإيمان يربو، والحس يرهف، والفؤاد يخشع وقد تدمع العين، وقد يشعر بأنه مع الملأ الأعلى.. ثم تنحسر هذه الموجة بالفراق، ويعود "ابن آدم " إلى مطالب العيش، وطبائع الجسد ومخالطة الدهماء!! ليس ما وقع نفاقا، إن الطير قد يرفرف حينا ولكنه لا يستطيع البقاء محلقا، لابد أن يقع على الأرض ليستريح.. ثم يعاود الطيران مرة أخرى.. والمطلوب من المسلم الترفع ورفض الإسفاف واستدامة الخشية ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون). وكما يأخذ الإنسان من صحته لمرضه ومن يسره لعسره يأخذ من لحظات الإشراق والتسامى ما يجعله قويم الخطا، واضح الهدف، ويستعيض بها ما نقص فى أوقات الخمول والكسل. ص _132(1/115)
بين الصدق والخيال الشارد قرأت فى طفولتى طرفة ذكرها " المبرد " فى كتابه " الكامل " وجعل عنوانها "تكاذب الأعراب "! قال: لقى أعرابى صاحبه وسارا معا يتسامران. قال الأول: بقيت قطعة من الليل لم تنجل فى جانب الوادى فحملت عليها بفرسى فمازلت بها حتى انجلت! وقال الآخر: أرسلت سهمى وراء ظبى لأصطاده، فتيامن الظبى فتيامن السهم معه! فتياسر الظبى فتياسر السهم معه، فوثب الظبى فوق ربوة فارتفع السهم معه، وما زال به حتى صرعه..! هكذا أرضى كلا الرجلين غروره، وأطلق خياله ثم استقبلا يومهما بسرور!!. إن الحياة ملآى بهذا الصنف من الناس، لأن الناس لا يرتبطون بالواقع الذى أمامهم، بل تحركهم حاجاتهم وحدها وتجعلهم يظنون البعيد قريبا والقريب بعيدا ويفترضون أحكاما لا أصل لها، ولذلك يقول العامة: صاحب الحاجة أرعن! إنها رعونة من يتجاهل الواقع ويتخيل فيخال.. لكن الله منحنا العقل لندرك به الحقائق ونبني عليها المسلك المعقول، ومن فر من الواقع وسار وراء أحلام اليقظة فهو مخدر بائس لن يبلغ غرضا أبدا ولذلك يقول المتنبى: تصفوا الحياة لجاهل أو غافل عما مضى منها وما يتوقع ولمن يغالط فى الحقائق نفسه ويسومها طلب المحال فتطمع! إن الصدق فى تعريف علماء الأخلاق الإخبار بالواقع، وهو عند التأمل معرفة الواقع أولا، والإحساس به ثم الحديث عنه دون نقص ولا زيادة. ويؤسفنى أن طوائف من الناس تحيا داخل أوهامها، ويؤثر فيها الخيال الجامح أكثر مما يؤثر فيها الحق الواضح! ودائرة الصدق تسع القول والعمل والعقيدة والمنهج وإذا لم يكن الإيمان صدى الحق ص _133(1/116)
وامتداده، وإذا لم يكن ظلا للواقع الراسخ فلا وزن له ولذلك يقول الله فى المشركين ( إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ). ويقول ( وما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا). والذين يلتزمون الصدق فى حياتهم، ويرفضون التزوير والغش والمين والمخادعة يأخذون طريقهم إلى الرشد ثم إلى الجنة، وقد لخص الحديث الشريف ذلك فى قوله عليه الصلاة والسلام : " إن الصدق يهدى إلى البر، ديان البر يهدى إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإن الكذب يهدى إلى الفجور، وإن الفجور يهدى إلى النار وان الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" *** الخطوة الواثقة تتسم بالقوة والثبات أما الخطوة القلقة فهى أثر التردد والاضطراب، ومن هنا يوصى الإسلام بالصدق فى كل شئ. وعن الحسن بن على بن أبى طالب قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دع ما يريبك إلى مالا يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة " أى إذا تشابهت عليك الأمور فاترك ما تشك فيه واستمسك باليقين. قال البغوى: وجملة الشبه العارضة فى الأمور قسمان: أحدهما ما لا يعرف له أصل فى التحليل والتحريم فالورع تركه!!. والثانى: أن يكون له أصل فى التحليل والتحريم، فعلينا التمسك بالأصل ولا ننزل عنه إلا بيقين. وذلك مثل الرجل يتطهر للصلاة ثم يشك أوقع منه ما ينقض طهارته؟ فإنه يصلى ما لم يستيقن من انتقاض وضوئه، وإذا عرض للرجل ما لا يعرف حكمه، اجتهد ـ إن كان عالما ـ فى معرفة الحكم الصحيح أو سأل عنه العلماء حتى يسير على بينة ولا يخبط فى الحياة خبط عشواء.. ص _134(1/117)
يؤسفنى أن جماهير من المسلمين تعيش فى غيوم كثيفة من شئون الدين والدنيا، وقد اضطربت خطوتها ووجهتها فلا تدرى ما تصنع!. المسلم الحق يستفتح يومه بهذه الكلمة " أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد وعلى ملة أبينا إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ". ويتشبث بالحق الذى قامت به السموات والأرض، فلا يسمع إلا نبأه ولا يصحب إلا أهله ولا يخضع إلا لمنطقه ولا يمضى إلا فى طريقه، ولا يزال كذلك حتى يلقى الله سبحانه ليسمع منه هذا القول ( قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم). *** نظرت فى مواقف الرجال الذين تخلفوا عن صحبة النبى الكريم فى معركة "تبوك " كان الجبن يملأ أفئدتهم من لقاء الرومان، وكانوا يحسبون أن المسلمين مهزومون حتما، وأنهم لن يعودوا!!، فلما نصر الله الحق وعاد المجاهدون مرفوعى الرءوس، شرع هؤلاء يختلقون الأعذار التى يلقون بها النبى المكافح، وهيهات أن يخدعوا صاحب الرسالة، فقد نزل فيهم قول الله تعالى ( وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا منهم عذاب أليم ) لا مكان فى الدنيا والآخرة إلا للصادقين، فلنصدق مع الله ومع الناس ومع أنفسنا. ص _135(1/118)
بين الحماس والتماوت.. الكسل والتماوت من أسباب الفشل والضياع، أما النشاط والخفة فهما سلالم المجد وآيات الرفعة، كان لى أستاذ من رجال الدعوة لا يبالى أن يلقى ثلاث محاضرات فى ليلة واحدة ثم يصبح ليستقبل عمله جم النشاط متهلل الوجه! نظرت إليه ولم أقل شيئا فعرف ما يجول بخاطرى فقال لى: أنا كالجواد الكريم لا يزيده الشوط إلا مضاء!. عرفت أن قلة العمل تمرضه، وتخمد جذوته وتذكرت أبيات المتنبى عندما طلبوا له الطبيب لوعكة ألمت به.. يقول لى الطبيب: أكلت شيئا! وداؤك فى شرابك والطعام! وما فى طبه أنى جواد أضر بجسمه طول الجمام! تعود أن يُغبر فى السرايا ويدخل من قتام فى قتام.. إن الرجل الناشط كالريح المرسلة لا يستطيع الركود، وإحساسه بنفسه يجعله على استعداد دائم لأداء الواجب وتلبية النداء فهو كما قال "طرفة بن العبد": إذا قيل: من فارس؟ خلت أننى دعيت فلم أكسل ولم أتبلد وقد رأيت الأنبياء نماذج لهذه العزيمة الماضية والسرعة الهادية، لما علم موسى أن هناك رجلا أعلم منه رغب فى الأخذ عنه والاستفادة منه، قال لخادمه : (لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا)! ولما دعى لملاقاة ربه مضى لفوره كما قال تعالى (وما أعجلك عن قومك يا موسى * قال هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى)! إن البلادة يستحيل أن تكون من خصال الصالحين، بعدما قال الله لهم ( سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله …). ص _136(1/119)
وبعد ما قال: ( وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين). وقال (فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأت بكم الله جميعا إن الله على كل شيء قدير). وكان النبى عليه الصلاة والسلام يسرع فى سيره لا يعرف التقلّع والتمارض، وعندما تهيج فيه مشاعر الخير لا يلوى على شيء. عن عقبة بن الحارث: "صليت وراء النبى العصر بالمدينة. فسلم ثم قام مسرعا فتخطى رقاب الناس إلى بعض حجرات نسائه ففزع الناس من سرعته، فخرج عليهم فرأى أنهم قد عجبوا من سرعته، فقال: ذكرت شيئا من تبر عندنا فكرهت أن يحبسنى، فأمرت بقسمته "!. تذكر أن فى بيته ذهبا، فكره بقاءه، وسارع إلى تقسيمه بين المحتاجين قبل أن يدخل الليل!!. وعلى قدر الشعور الحافز تكون قوة الانبعاث، فهو مفتاح الحماس أو الخمول. وإذا حلت الهداية نفسا نشطت للعبادة الأعضاء! والشيطان ييأس عندما يرى إيمانا دافعا وتوكلا واثقا (إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون) وماذا يحدث عندما تخلو النفس من هذا اليقين الحى؟ فى هذا الفراغ يقع الشر كله، فقد تتوقف عن الحركة كما تقف السيارة عند نفاد الوقود، وقد تدور أجهزتها الأخرى فى اتجاه معاكس يضرها ولا ينفعها! وقد نظرت إلى الأقطار الأفريقية التى انتشر فيها التبشير الغربى، فوجدت أن تدينا هازلا حل بها، أو صلة مزعومة بالله لا تزكى نفسا ولا ترفع رأسا. إنهم خدم للاستعمار وحسب كما تخدم الدابة صاحبها، وتنتهى بذلك وظيفتها، فلا غرابة إذا أحصيت عشرة ملايين إصابة بالإيدز فى هذه البلاد، ولا غرابة إذا ضربت فيها حروب العصبيات القبلية وتمخضت عن أكثر من مليون قتيل! ص _137(1/120)
إن الإيمان العاصم من الزلل مفقود، وإن التسامى الباعث على الكمال والسلام لا وجود له! لقد كان العرب فى جاهليتهم لا تنتهى لهم خصومة، ولا تسكن لهم شهوة، لكن نبى الإسلام عول قبل كل شيىء على ملء القلوب بالتقوى والعفاف وبنى العلاقات على التراحم ومكارم الأخلاق فأنشأ أمة تبنى ولا تهدم. والاستعمار العالمى بعيد بعيد عن هذا السلوك،. وقد تضاعف شره عندما دخل الأقطار الإسلامية واتجه أولى ما اتجه إلى إقصاء الإسلام عن العلم والإعلام والتربية والتقاليد فنشأت جماهير تبحث عن اللذة، وتتجاوب مع غرائزها الحيوانية وشهواتها النفسية! كنت أرقب العمال والفلاحين وغيرهم الذين قدموا بالمال من دول الخليج فأرى إجماعا على اقتناء أدوات اللهو والتسلية وتنافسا فى جمع الحطام الزائل! أما السباق القديم إلى الخيرات والعبادات فقد اختفى كما انطفأت الرغبات فى تجويد العمل العادى.. ويقع هذا مع أن العرب يواجهون حرب استئصال من إسرائيل التى تكن لهم الويلات وتصل الليل بالنهار فى بناء مستقبلها... ص _138(1/121)
من قوانين الحياة أعلم أن إماطة الأذى عن الطريق من شعب الإيمان، فالطرق فى المدن الإسلامية ينبغى أن تكون نظيفة خالية من القمامة، ممهدة السير موفورة الشارات التى تنظم المرور وترشد الغرباء. إن الحيوان وحده هو الذى لا يبالى أن يسير على الأشواك أو يقفز فوق الحفر! وقد كان من حظى أن أسير فى "لندن " و "روما" و "واشنطون " و "باريس " فحسدت أهلها على جمال الطرق ونظم المرور وامتداد الصمت وشيوع الابتسام، ليت شعرى، لماذا لا تتوفر هذه الآداب الإسلامية بيننا؟ لكأن القوم عادوا من درس سمعوه لمحمد صلى الله عليه وسلم فى آداب الطريق وحسن الصحبة!. إننا تواضعنا على أن الإسلام كلام لا نظام وقشر لا لباب فيه! ومن ثم لم نحسن الانتفاع بما لدينا من تعاليم، وشئ آخر أود شرحه إن الدين إيمان واستقامة، فإذا رق اليقين فى الأفئدة وسرى العوج فى الأعمال فلا دين! قد يكون رباط العنق ـ فى الملابس الفرنجية ـ زينة ولكن ما قيمته على جسم عريان؟ إن تناولنا لكثير من الآثار يحتاج إلى فقه لاسيما ما تضمن أجورا ضخمة على عمل يسير! وقد قرر الفقهاء أن الوعد بمكافأة ضخمة على العمل القليل إنما يصغ مع أهل اليقين والتقوى والورع، والمسلمون الآن ينتظرون الأجر الغالى على جهد لا يكلف إلا حركة الشفتين! روى عن "عمران بن حصين "قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل فسلم فقال : السلام عليكم، فرد رسول الله عليه السلام ثم جلس الرجل وقال الرسول: عشر! ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله! فرد عليه وجلس الرجل وقال الرسول: عشرون! ثم جاء رجل آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فرد عليه النبى وجلس الرجل وقال الرسول: ثلاثون " !! زاد أبو داود "ثم جاء ص _139(1/122)
آخر فقال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومغفرته، فرد عليه الرسول وقال: أربعون! ثم قال: هكذا تكون الفضائل "!! ونكرر نحن كلام الفقهاء فى أن هذه الفضائل الرفيعة ليست لكل أحد! إنما هى لمن أقام الأركان وأكثر الصالحات وليست لشخص من الدهماء شديد الغرور قريب الشرور يحسب أن طول التحية سيجعله من السابقين الأولين!! ولو ساء خلقه وقل خيره.. إن خارطة الإسلام لا تعرف معالمها من حديث فذ، ومن قرأ الحديث السابق فى طول التحية فليقرأ معه حديث " ليس منا من غش " وحديث " والله لا يؤمن. والله لا يؤمن. والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذى لا يأمن جاره بوائقه" إن أعشار المتعلمين بلاء طام على الدعوة! وقد أعجبنى منهج الإمام النووى فى قرن السنن بالآيات ففى باب تعظيم حرمات المسلمين وبيان حقوقهم والشفقة عليهم يبدأ بقوله تعالى (ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) وقوله ( ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) وقوله (واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين) وقوله ( من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا). ثم نظر فى السنن الواردة فاختار أصحها، وتدبر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم :" من مر فى شيئ من مساجدنا أو أسواقنا ومعه نبل- سهم- فليمسك أو ليقبض على نصالها بكفه- مخافة- أن يصيب أحدا من المسلمين "!! إن إيذاء الناس جرم تؤجل منه المسلم فهل يستبطن هذا الإحسان من يسوق سيارته بسرعة مائة ميل غير آبه بجماهير السائرين؟ ص _140(1/123)
وجاء عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " حق المسلم على المسلم ست : قيل ما هن يا رسول الله؟ قال: " إذا لقيته فسلم عليه. وإذا دعاك فأجبه. وإذا استنصحك فانصح له. وإذا عطس فحمد الله فشمته. وإذا مرض فعده. وإذا مات فاتبعه " ! وددت أن تكون مدننا وقرانا صورة جميلة لخير أمة أخرجت للناس، إن السياحة طبيعة عصرنا وقد بلغني أن رجلا أسلم لما قرأ عن الإسلام ـ فلما زار بلادنا قال الحمد لله أنى أسلمت قبل أن أراكم... ص _141(1/124)
حب الرياسة... كان مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس تقوى وأدب وسكينة وخشوع يرتفع فيه مستوى الحضور حتى ليصل إلى عنان السماء، وكأنهم يرون الجنة والنار رأى العين، ويحسون عظمة الله إحساسا ينسيهم أنفسهم وأهليهم. كان النبى الذى يتولى تربيتهم يعلم أنه يربى بهم أجيالا غفيرة لم تأت بعد، إنه مرسل للناس كافة وعن طريق هؤلاء الأصحاب ستمتد رسالته ويقرأ كتابه وتعلم سنته، والحق أن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام قاموا بما لم يقم به أصحاب نبي آخر، وحسبهم أنهم دكوا حصون الاستعمار القديم وأذلوا جبروته بعدما جثم على صدر العالم دهرا طويلا.. وأنهم صانوا الوحى السماوي ووفروا للقرآن الكريم حفظة لا يخرمون منه حرفا فهو إلى اليوم، وحتى تقوم الساعة لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه! والعرب جنس له مفاخره وله مساوئه شأن البشر كافة وقد حرص خاتم المرسلين أن ينمى محاسن العرب، ويكبت هناتهم حتى ينجحوا فى أداء الرسالة الموكولة إليهم! عن العرباض بن سارية رضى الله عنه قال: " وعظنا رسول الله موعظة بليغة وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون! فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا… أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة و إن تأمر عليكم عبد، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهدئين من بعدى عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة ".إن من خصائص النفس العربية شدة إحساسها بما لها وجنوحها للعظمة وعشقها للرياسة وتطلعها إلى السلطة بأية وسيلة. ولذلك كان أول ما نبه إليه الرسول الواعى السمع والطاعة ولو تأمر عليكم عبد! ص _142(1/125)
والدارس للتاريخ الإسلامى يرى أن كبواته الكبرى وهزائمه الماحقة جاءت من الصراع الداخلى على الحكم، والرغبة الجامحة فى الإمارة، مع أن الإسلام شدد النكير على عبادة الدنيا واشتهاء العلو فيها ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). إن صاحب العقيدة المخلص لها يهمه أن تنتصر عقيدته على يده أو على يد غيره، والجاه الذى يحرص عليه أن يكون مقدما يوم الحساب، فما قيمة أن يرتفع هنا وينخفض هناك؟ ولكن حب الرياسة تحول إلى جنون فرق الأهل ومزق الشمل وأبطل الاعتبار وأكثر الأخطار، وقد كان ولا زال السر فيما لحق بنا من هزائم شنعاء!! إن جرثومة هذا الداء كامنة فى الأمة العربية لا يقتلها إلا التجرد والإخلاص وتقوى الله عز وجل. وتأمل فيما رواه البخارى ومسلم عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله بموعظة فقال : "يا أيها الناس إنكم محشورون إلى الله تعالى حفاة عراة غرلا ـ أى غير مختونين ـ (كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) ألا و إن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم عليه السلام! ألا و إنه سيجاء برجال من أمتى، فيؤخذ بهم ذات الشمال... فأقول: يا رب أصحابى!! فيقال إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح ـ عيسى عليه السلام ـ (وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم). إن العرب والمسلمين عامة لو توحدت كلمتهم ما حفت بهم هزيمة ولا نزلت بهم المآسي التى نزلت بجماهيرهم على امتداد تاريخ طويل. وإنى أحيانا أنظر إلى نسائنا وصبيتهم الأسرى فى يد الصرب هذه الأيام أو فى يد الهنادك عبدة الأوثان، فأقول لو كانت كلمتنا واحدة ما وقع هذا! ص _143(1/126)
لو تأدب الطامعون فى الحكم واتقوا الله ما ترادفت علينا هذه الآلام... وألفت القارئ إلى حديث العرباض أول هذا المقال، فقد نهى عن المحدثات، وبين أن كل بدعة ضلالة. وهذا حق بالنسبة إلى الابتداع فى الدين، فإن الله لم ينزل الدين ناقصا حتى يجىء مغرور فيكمله، إن التشريع حق الله وحده، ولا مكان للبشر فيه. أما الابتداع فى شئون الدنيا فهو واجب، وما نحسن الدفاع عن ديننا إلا بفهم هذا الواجب و إتقانه، ولا ينفك عجبى من أناس متخلفين فى الدنيا لطول جمودهم، ومتخلفين فى الأخرى لكثرة مبتدعاتهم..!!. ص _144(1/127)
صيانة العرض والمال من معالم الإسلام الرذيلة تولد ميتة! من شعائر الإسلام الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتحسين الحسن وتقبيح القبيح وإحقاق الحق وإبطال الباطل. إن المناخ الاجتماعى لأمتنا لا تولد الرذيلة فيه حية تسعى، بل تولد ميتة، وإذا بقيت فيها آثار حياة ديست حتى تموت مكانها، ومن ثم وجب على من اقترف إثما أن يكتمه ويستنكره ويتخلص من آثاره بالندم وسرعة المتاب. وصغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل أمتى معافى إلا المجاهرين. وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل بالليل عملا ثم يصبح وقد ستر الله عليه فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه، وبصبح يكشف ستر الله عنه" إن رياح التقوى تهب باستمرار على دار الإسلام، وبين الحين والحين ينطلق صوت ندي يقول الله أكبر.. فهل خجل المذنب من أذان الفجر، ثم نهض إلى مالك يوم الدين يقول له ( إياك نعبد وإياك نستعين) بدل أن يفضح نفسه ويكشف سوءته؟ إن "الرافعى" فى "وحى القلم " حكى قصة فتى وفتاة كانا موشكين على منكر، فإذا الأذان ينطلق قريبا منهما يصب عليهما فيضا من الماء البارد فتراجعا عما كانا فيه، وعاد إليهما رشدهما.. والواقع أن الإسلام يطارد الشيطان صباحا ومساء ويأبى كل الإباء أن يفرض فسقه على المجتمع، وإذا نجح فى إغواء فرد فلا يجوز أن ينجح فى إفساد مجتمع وتوسيع نطاق الجريمة، وهذه الطبيعة الإسلامية فرضت نفسها على الأمة الكبيرة فيستحيل أن تفتخر بالخنا أو تتركه يستوطن شبرا منها، من الذى يفتخر بالعار؟ لذلك عجبت لامرأة ذات مكانة فى أوروبا تقول عن عشيقها : إننى أعبده!! وعجبت أكثر لأن ألوفا مؤلفة استمعت إليها برضا أو بإقرار!! ص _145(1/128)
تساءلت: هل بقى للدين أثر هناك؟ إن علاقة الأوروبيين بالله أوهى من خيط العنكبوت. إنهم يتحمسون فقط ضد الإسلام، وعندما ينادون لمقاتلته ينفرون خفافا وثقالا، أما أمام الإلحاد والعصيان فالخطب يسير،.! نحن المسلمين نغار على حقوق الله وحقوق الناس، وأعرف أنه يوجد بيننا الآن من يحاول باستماتة نقل تقاليد أوروبا إلينا لنرضى بالزنا والخمر وإهدار الحرمات. ولكن الجماهير استعصت على فنون الإغراء وبقيت حفيظة على تراثها، تذكر قول الله ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله). * * * * القائمون على المال العام استوقفنى ـ وأنا أطالع السنة ـ حرص النبى صلى الله عليه وسلم ـ على المال العام وأمره أن يخرج هذا المال من منابعه إلى مصارفه دون أن تمتد إليه يد خائنة!! روى مسلم عن عدي بن عميرة قال سمعت رسول الله يقول : " من استعملناه منكم على عمل، فكتمنا مخيطا فما فوقه كان غلولا يأتى به يوم القيامة! فقام إليه رجل أسود من الأنصار، كأنى أنظر إليه، فقال: يا رسول الله، اقبل عنى عملك! ـ أى أنه يقدم استقالته من وظيفته بتعبير عصرنا ـ قال له الرسول ومالك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا! قال الرسول: وأنا أقوله الآن، من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أوتى منه أخذ ما نهى عنه انتهى ". واستقالة هذا الرجل من عمله جديرة بالتأمل! أكان ينتظر من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبيح له الرشوة أو السرقة؟. إن الموظف ليس له من عمله إلا راتبه، فكيف تمتد يده أبعد من ذلك؟ ص _146(1/129)
ومن لطائف الإمام "النووى" أنه بعدما أثبت هذا الحديث روى حديثا آخر عن "عمر بن الخطاب" قال: " لما كان يوم خيبر أقبل نفر من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا فلان شهيد! وفلان شهيد! حتى مروا على رجل فقالوا: وفلان شهيد... فقال النبى عليه الصلاة والسلام "كلا إنى رأيته فى النار فى عباءة غلها " ! سبحان الله فقد الرجل مكانة الشهداء ـ وما أسماها ـ لعباءة سرقها!! إن صون الدم والعرض والمال من معالم الإسلام. وأى دار قل اكتراثها بهذه الحقوق فقد بعدت عن دين الله وحقت عليها كلمة العذاب. ص _147(1/130)
العاجزون ومهارة الغمز واللمز هل هناك صلة بين قوة العظم وشدة العزم؟ إن المرء فى شرخ الشباب إذا انطلق فكأنه مارج من نار، وإذا تحفز فكأنه بحر طام موار! أما إذا أدركته الشيخوخة، فهو فاتر الإرادة ضعيف الأخذ لنفسه يقول مع زكريا عليه السلام ( إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا ). على كل حال أوجب الإسلام حقوقا على كل إنسان بقدر ما فى بدنه من عظام تتحرك وتتحمل، إنه بقدر ما أوتى ينبغى أن يسدى، ولتكن إعانته للآخرين زكاة قوته، إن الورد لا يحبس عطره عمن يقترب منه، فرائحته الطيبة جزاء ما أوح فى عوده الرطيب، ومن هنا نفهم قوله عليه الصلاة والسلام: " كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس.. " وسلاميات الأصابع ما تفرق فى طولها من عظام تنقبض وتنبسط بها. والعظام متفرقة فى جسد كل امرئ من رأسه إلى قدمه بها يقوم ويقعد ويسرع ويبطئ وعلى المسلم أن يفعل الخير لله بقدر ما خلق الله فى بدنه من ذلك! كيف؟ يقول الرسول " تعدل بين الاثنين صدقة، تعين الرجل فى دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة " !! إن الإسلام يريد رجلا جياش العاطفة بالعطاء صادق الحس بآلام الغير، ينطلق كالسهم فى تفريجها دون توقف ولو كان يتعامل مع غير أبناء دينه، إن النبع السيال لا يحبس بره عن محتاج. وتدبر هذا الحديث : " بينما رجل يمشى بطريق اشتد عليه العطش، فوجد بئرا فنزل فيها فشرب، ثم خرج فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش. فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذى كان قد بلغ منى! فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفمه حتى رقى فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له"! ص _148(1/131)
قالوا : يا رسول الله إن لنا فى البهائم أجرا؟ قال: فى كل كبد رطبة أجر " . إننى أشعر بالإنكار والغضب من أناس يتسلون بتعذيب بنى آدم، فيعرضونهم للجوع والعطش ومنع النوم، وقد يلهبون جلودهم بالسياط واللذع والكى. وكم نسمع من مآس فى أخبار الحروب حتى اليوم.. والمتأمل فى تعاليم الإسلام يحس دعوة عامة إلى فعل الخير وإسداء الجميل بلغت حد الإلزام! وانظر ترتيب التكاليف فى هذا الحديث الذى رواه أبو موسى الأشعرى عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "على كل مسلم صدقة! فقال أبو موسى: أرأيت إن لم يجد؟ قال يعمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق! قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف! قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير! قال: أرأيت إن لم يفعل؟ قال: يمسك عن الشر فإنها صدقة " . لابد إن كان مسلما أن يقدم شيئا، يستحيل أن يكون المسلم عقيما لا أثر له ولا ثمرة له، وإنى لا أشعر باستخذاء وحياء حين يقال: جمهرة العالم الثالث من المسلمين أو أن المسلمين ذيل القافلة البشرية!! أين الأمر العام الصادر لهم "(.. وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده …) أين الصدقة المكتوبة على كل فرد منهم يؤديها فقيرا كان أو غنيا؟ الغريب أن الإسلام نبه إلى صنف آخر من الناس لا يعمل ويكره العاملين! ينظر بعين السخط إلى ما يؤديه الآخرون يلتمس عيبا فيه ليتحدث عنه ويطعن فى صاحبه. ص _149(1/132)
عن أبى مسعود الأنصارى لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا ـ أى نؤجر أنفسنا حمالين لنتصدق بالأجرة ـ فجاء رجل فتصدق بشيء كثير فقال ـ المنافقون ـ مراء، وجاء آخر فتصدق بصاع! فقالوا: إن الله لغنى عن صاع هذا..!! لا الكثير يرضيهم ولا القليل يرضيهم. إنهم هدامون طعانون، فنزل قوله تعالى (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم). والواقع أن العاجزين عن العطاء مهرة فى الغمز واللمز. والأمم التى لا تعرق فى ميادين الكدح لا ينقطع ضجيجها فى نقد الآخرين. ص _150(1/133)
المدخنون ومنابع الاستهتار يؤكد الأطباء أن المدخن يضر غيره كما يضر نفسه وأن الجنين فى بطن الأم الحامل ينتقل إليه "النيكوتين " ويؤثر فى أعصابه إذا كانت الأم مدخنة أو الأب مدخنا.. وبعد ولادته وانقطاع سم النيكوتين عن التأثير فى أعصابه يرسل صرخات متشنجة نحو أربعين يوما حتى يتعود جسمه على الوضع الجديد! لقد تأذيت عندما عرفت هذه الحقائق العلمية! وأذكر أنى رأيت "رئة " مدخن فلاحظت السواد غطى حمرتها، ولون القطران الذى يحتجزه فى صدره قد ذهب بلونها الوردي الناضر. ويقول الأطباء: لا يزال هذا البلاء يتضاعف حتى يصاب المدخن بسرطان الصدر والعياذ بالله.. لقد كنت أظن الدخان مالا يحترق ويذهب فى الجو سدى! حتى وقفت على هذه الحقائق فأدركت أن المدخنين يحرقون أموالهم وصحتهم معا!! وإذا كان البعض لا يبالى بهذا الانتحار البطىء فلماذا يفرضونه على غيرهم ممن يرفض أن يضع "سيجارة" فى فمه؟ يظهر أن الجار قد يؤخذ بظلم الجار، وأن الصدر النقى قد يسود إذا نفثت عليه الدخان أفواه أخرى! وقد تدخل القانون فى أوروبا وأمريكا فعزل المدخنين عن غيرهم جهد الطاقة، وجعل لهم فى الطائرات والقطارات مقاعد خاصة، ولكن ما العمل إذا كان السائق والمحصل فى بعض السيارات من المدخنين؟ وما العمل إذا كان بعض الناس يرى مكتوبا بالخط الكبير ممنوع التدخين ومع ذلك تراه مدخنة متحركة!! يبدو أنه لابد من عقوبات زاجره لوقف هذا الاستهتار.. والإحصاءات تشير إلى أن العالم الأول بدأ ينصرف عن التدخين بعدما استيقن من أضراره، ولكن شركات التبغ العملاقة أخذت تعوض خسائرها فى العالم الأول، وتنشر الإعلانات الكثيرة عن السجائر التى تنتجها. ص _151(1/134)
ومن الغريب أن تكتب تحتها هذه العبارة " التدخين ضار بالصحة"! إنها تكتب التحذير بحروف صغيرة وفى مكان يثير الضحك.. ويبدو أن صحة الناس فى العالم الثالث رخيصة أو أنها لا تستحق المحافظة الجادة عليها، ولذلك تقع هذه المفارقات المضحكة . وقد لاحظت بنفسى جماعات من العمال والطلاب تشرب الدخان بنهم وتألق، وتعالن بما تفعل دون مبالاة، فشعرت أن مركب النقص استبد بهؤلاء الفتيان، إنهم يحسبون أنهم أضحوا رجالا مسئولين بهذا المسلك أو أنهم ينفون عن أنفسهم تهمة الفقر والعيش من دخل محدود! والزعم بأن الرجولة هى التدخين ضلال كبير !! وإذا كان الإدمان بلاء محتوما للمدخنين والسكارى وأشباههم، فإن نتيجته فقدان الإرادة وخضوع المرء لأسوأ عادة، وقد يبيع سمعته وشرفه من أجل سيجارة!! والاتجاه الآن فى أمريكا وأوروبا إلى تحريم التدخين فى الطائرات كلها، وإلى تحريمه ـ على تدرج ـ فى الأماكن العامة .. فهل نعي نحن ذلك؟ لقد نقلنا عنهم هذه العادة الرديئة فهل ننقل عنهم التوبة منها والبعد عنها؟ لقد كان بعض الفقهاء يتساهلون فى تحريم التدخين لعدم علمهم بأضراره وآثاره! لكن الطب الآن يجزم بخطورة التدخين على القلب والرئتين والمثانة والمعدة فهل ننتحر ببطء لأن إرادتنا ضعيفة؟ أم ننتظر حتى نفاجأ ببعض السرطانات المهلكة وعندئذ نندم بعد فوات الأوان..؟ أيها المدخنون أقبلوا نصيحتنا تظفروا بالعافية والاطمئنان. ص _153(1/135)
شئون المرأة والأسرة 1ـ بين الرجل والمرأة . مقارنة بين دوريهما . إجبارهن على الزواج . 2ـ اقتحام العقبة . امرأة مسئولة عن مسجد النبي . تحمل النساء المسئولية . 3ـ الخلع في التشريع الإسلامي . صلاة المرأة في المسجد . حق المرأة في فسخ عقد الزوجية ، وحقها في الصون والرعاية . 4ـ قضايا بين نقيضين . سلوكيات مريضة في ضرب النساء . خلقت من ضلع أعوج . 5ـ إبهام يسير العجب . امتناع الزوجة عن زوجها . قوانين مزورة . 6ـ من روابط الأسرة . المسئولية المشتركة للأبوين . نشر التعاطف بين الأقارب . 7ـ نشدان السلامة . 8ـ بيت المسنين . ص _154
( بعض الناس يشتغل بالأمور الفقهية وبصيرتهم مصابة بالحول الذي يشكو منه نفر من مرضي العيون فهم يرون الحديث الضعيف ويغفلون عن المتواتر !
أو يتبعون المتشابه وينسون المحكم !
وقد ينسون الكتاب والسنة جميعاً ويحكمهم عرف شائع !
وإذا كثر هؤلاء الحُول في ثقافتنا الدينية فمصير الأمة كلها إلى الضياع …)
محمد الغزالي …
ص _155(1/136)
بين الرجل والمرأة هذه امرأة تدافع عن بنات جنسها، وتسأل عما يعملن ليشاركن الرجال فى المنزلة والمثوبة؟ وكأنها ترى كفة الرجال راجحة، وأن بقاء هذا الرجحان لا مساغ له! قال الرواة " جاءت امرأة للنبى عليه الصلاة والسلام فقالت له: إنى وافدة النساء إليك، ما منهن امرأة علمت أو لم تعلم إلا وهى تهوى خروجى هذا! الله رب الرجال والنساء وإلههن، وأنت رسول الله إلى الرجال والنساء… كتب الله الجهاد على الرجال فإن أصابوا ـ انتصروا ـ أثروا وأصبحت لهم ثروات! هان استشهدوا كانوا أحياء عند ربهم يرزقون، فما يعادل ذلك من أعمالهم ـ أى لنؤديه ونشاركهم فى الفضل؟ قال: طاعة الأزواج والمعرفة بحقوقهم "!. ونشير هنا إلى ما ورد من التنافس بين الأغنياء والفقراء، وشكوى الفقراء من رجحان كفة أصحاب الثروات وقدرتهم على الصدقة والحج والجهاد.. على حين يعجز المقلون عن ذلك، وليس عجيبا أن تطمح النفوس إلى العلا، وأن تعشق التقدم والارتقاء، المهم الاستعداد لدفع الثمن والقدرة على متابعة الجهد والانطلاق.. فالناس متفقون على أن الكسل ليس طريق النجاح، وأن البلادة لا تقدم أصحابها أبدا! ومنازل الناس فى هذه الدنيا لا تدل على شىء. وقد صح عن رسول الله: " يا رب كاسية فى الدنيا عارية يوم القيامة " . ومن صفات الدار الآخرة أنها سترفع أقواما وتخفض آخرين ! ( إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة * خافضة رافعة) والثابت أن الحساب لا يهمل ذرة، ولا يتأثر بلون أو نسب أو ذكورة وأنوثة، فقد يسبق العبد الأسود الفحول البيض وقد تسبق امرأة فاضلة رجالا كانت لهم فى الدنيا مكانة عالية. وفى مجال الأسرة يجب أن يعرف الكل الحديث المشهور (" كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " فرب البيت المهمل ليس جديرا بالتكريم، والمرأة المهتمة بولدها الحريصة على مستقبله أجدر بالاحترام ورفعة الدرجة! ص _156(1/137)
والحق أن الزواج شركة أدبية تقوم على الأمانة والوفاء قبل أن تقوم على الطعام والسفاد، فلن يسبق عند الله رجل لأنه رجل ولن تتأخر امرأة لأنها امرأة! لقد كانت امرأة فرعون أشرف عند الله منه إ! وقد ثبت أن البيت الذى تسوده الفوضى والشراسة ينبت ذرية سيئة قد تنحدر إلى الجريمة والاعوجاج، فعلى الرجل أن يكون حسن القوامة وعلى المرأة أن تكون حسنة الانقياد! ليست الزوجية للإنجاب المجرد فتلك وظيفة حيوانية، وإنما الزوجية لإنشاء أجيال أنضر وأطهر! ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) ومن عجز عن بلوغ هذا المستوى فتركه الزواج أفضل. عن أبى سعيد الخدرى أتى رجل بابنته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : "إن ابنتى هذه أبت أن تتزوج فقال لها رسول الله: أطيعى أباك! فقالت والذى بعثك بالحق لا أتزوج حتى تخبرنى ما حق الزوج على زوجته؟ فشرح لها النبى حق الزوج من رعاية وتمريض يجعل المرأة تسهر عليه ولا تضيق به! فقالت الفتاة للرسول: والذى بعثك بالحق لا أتزوج أبدا!! فقال النبى - للوالد - لا تنكحوهن إلا بإذنهن !! " . إن الزواج ليس قهرا وإذلالا... إن المساواة التى يتحدثون عنها بين الجنسين هى العدالة فى إنشاء أجيال سوية زاكية، وليست اقتسام المناصب الإدارية أو السياسية فى العالم، وأساس ذلك فيما نرى فهم الدين كما نزل وتطبيقه دون عوج أو خلل. ص _157(1/138)
اقتحام العقبة! كانت امرأة سوداء تقم المسجد النبوى، تكنسه وتميط عنه الأذى، فتفقدها الرسول يوما فقيل له: ماتت! فقال: "أفلا كنتم آذنتمونى " كأنهم صغروا أمرها ـ مع أنها كانت تقوم بوظيفة مهمة من وظائف المسجد، أليست تهيئه للركع السجود؟ فقال النبى عليه الصلاة والسلام: " دلونى على قبرها "، فدلوه فصلى عليها صلاة الجنازة ".. إن هذه المرأة أفضل عند الله من عظيم لا عمل له، أو يلى منصبا كبيرا يسيء إلى الناس فيه، والناس لا توزن بمناصبها وإنما توزن بمناقبها، وأكثر الأعمال التى نستهين بها ترتبط بها مصالح كبرى للمجتمعات، وشاغلوها جديرون بالاحترام. روى البخارى أن سعد بن أبى وقاص كان يرى له فضلا على من دونه فقال النبى عليه الصلاة والسلام: " هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟ " يعني أن أفراد الطبقات الكادحة لهم مادة الجيوش وسواد العمال والفلاحين! والغريب أن " ابن بطال " شرح هذا الحديث فقال: إن الضعفاء أشد إخلاصا فى الدعاء وأكثر خشوعا فى العبادة لخلاء قلوبهم من التعلق بزخرف الدنيا...! ونرى نحن أن الإخلاص والخشوع صفات مشتركة بين الناس، توجد فى الغنى والفقير، والخطأ الشائع أن ذوى المهن الصغيرة لا يؤبه لهم، أما ذوو المناصب المضخمة فهم الذين يملؤون العين !! عن حارثة بن وهب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف ـ أى متواضع ـ لو أقسم على الله لأبزه! ألا أخبركم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر ". والجواظ هو الجموع المنوع، وقيل الضخم المختال!! والضعفاء ليسوا هم الأذناب الذين يحيون على الملق والزلفى، فكم من ضعيف عزيز النفس متوكل على الله. ص _158(1/139)
وكم من كبير يتبع الرؤساء ويحيا على استرضائهم. قال أحد الخلفاء لتابع له ـ له مكانة ـ: لقد كبرت! قال: فى طاعتك يا أمير المؤمنين! قال: وفيك بقية! قال: فى خدمتك يا أمير المؤمنين! قال: وإنك لجلد! قال: على أعدائك يا أمير المؤمنين، قال الحسن البصرى : هذا رجل لم يبق من شخصه شيئا لله تعالى. لقد ساءلت نفسى: أى الشخصين أفضل؟ هذا الذئب الذائب فى سيده أم هذه المرأة التى يحكى قصتها البخارى فى حديثه عن عائشة رضى الله عنها. قالت: دخلت على امرأة ومعها ابنتان لها تسأل! فلم تجد عندى شيئا غير تمرة واحدة! فأعطيتها إياها، فقسمتها بين ابنتيها ولم جمل منها!! ثم قامت فخرجت، فدخل النبى صلى الله عليه وسلم علينا، فأخبرته بما كان فقال : " من ابتلى من هذه البنات بشىء فأحسن إليهن كن له سترا من النار ".. ويلحق بذلك الحديث قوله عليه الصلاة والسلام " من عال جاريتين ـ بنتين ـ حتى تبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو كهاتين، وضم أصابعه "!! إن كفالة فتاتين أجر كبير، ومن أخلص العمل وأحسن التربية ولم يضجر ولم يبخل اقترب من مكانة النبوة!! ومن لطائف الإسلام أنه يسوى بين الجهاد العسكرى والجهاد الاجتماعي والاقتصادى، لأن كيان الأمة لا يتماسك بإعداد السلاح وحده. وإنما يقوى بسد ثغرات المسغبة والعجز، وتأمين الأمة كلها من الجوع والخوف، ولذلك قال النبى الكريم: " الساعى على الأرملة والمسكين كالمجاهد فى سبيل الله أو كالقائم لا يفتر وكالصائم الذى لا يفطر " . ص _159
مرتب سخي تفتح به بيتا مغلقا وتوسع على أهله فيذوقون بشاشة الرضا، إنه يجعلك كالمرابط فى جبهة القتال أبدا، وكالصائم فى سبيل الله أبدا. إن من فعل ذلك اقتحم العقبة ( وما أدراك ما العقبة * فك رقبة * أو إطعام في يوم ذي مسغبة * يتيما ذا مقربة * أو مسكينا ذا متربة). ص _160(1/140)
الخلع فى التشريع الإسلامى بعض الناس يشتغل بالأمور الفقهية وبصيرتهم مصابة بالحول الذى يشكو منه نفر من مرضى العيون، فهم يرون الحديث الضعيف ويغفلون عن المتواتر! أو يتبعون المتشابه وينسون المحكم! وقد ينسون الكتاب والسنة جميعا ويحكمهم عرف شائع ! وإذا كثر هؤلاء الحول فى ثقافتنا الدينية فمصير الأمة كلها إلى ضياع.. أجمع الرواة والمؤرخون على أن النساء كن يصلين فى المسجد النبوى من الفجر إلى العشاء لم تخل جماعة من صفوفهن! وامتدت تقاليد العصر النبوي إلى عصر الخلافة الراشدة، ولكن بعض الناس كره ذلك! ثم لما عجز عن منعهن رأى إسدال ستارة تحول بين رؤيتهن للرجال، ولم يكن ذلك موجودا من قبل. ثم رأى إفرادهن بالصلاة فى طابق أعلى، وقال لى أحد الناس: هذا لا يكفى لابد من إسدال الستارة أيضا، فقلت له: إنك عندما تدخل المسجد تتجه إلى القبلة قال: نعم! قلت: فما شأنك بهن؟ قال: ربما استدار أحدنا ونظر إلى أعلى فرأى النساء!. قلت له: إذا كان قليل الأدب فمره بغض البصر!. وبعدا عن اللجاجة لم أقل له إن الستارة التى تطلبها بدعة !! لم يعرفها المسجد النبوى يوما ما.. فأى فقه هذا..؟ ويرى بعض المتزمتين أن صوت المرأة عورة، قلت: فكيف تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. قال لى أحمق: وما علاقتها بالمعروف والمنكر؟! قلت: أسس القرآن الكريم هذه العلاقة بقوله ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر …). إن القول بأن صوت المرأة عورة مروى عن "بولس " فى رسائله بالعهد الجديد، ص _161(1/141)
وبولس جاء بهذا الحكم من عنده، وإلا فقد أرسل شعيب ابنته تستقدم موسى لأبيها قائلة له: ( إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا) ولبى موسى الطلب ( فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين * قالت إحداهما يا أبت استأجره …). ومن أعجب ما رأيت فى فقه الأسرة إهمال حكم الخلع وإرهاب المرأة حتى تقبل العيش فى ظل من تكره ..! والخلع ثابت بالكتاب والسنة فما معنى تجاهله وحمل المرأة بسيف القانون أن تعاشر من تبغض؟ روى البخاري فى قصة بريرة و زوجها أن النبى عليه الصلاة والسلام قال لها: " لو راجعته؟ قالت : يا رسول الله تأمرنى؟ قال: إنما أشفع ! قالت: لا حاجة لى فيه " ! وهكذا ردت شفاعة الرسول ضيقا برجلها الذى تحررت منه لما أعتقت . ومن أيام جاءتنى فتاة حقوقية صالحة كرهت زوجها لأنه يسخر منها حين تصلى، ويضيق بتقواها لله عز وجل. قالت: رفضت أن يدخل بى وطلبت الفرقة فأبى، ولى الآن ست سنين ولم أظفر بالبعد عنه!! لماذا يستبعد القضاء الحكم بالخلع؟ إنه من حدود الله التى لا يجوز إلغاؤها، إن احتقار المرأة وهضمها من معالم الجاهلية ص _162(1/142)
الأولى والله يقول (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) ، درجة رياسة البيت، ويظهر أن البعض لا يفهم الرياسة إلا استعلاء وهضما..! عن عمرو بن الأحوص رضى الله عنه أنه سمع النبى صلى الله عليه وسلم فى حجة الوداع يقول بعد أن حمد الله وأثنى عليه ، وذكر ووعظ : " ألا واستوصوا بالنساء خيرا فإنما هن عوان عندكم ـ جمع عانية أى أسيرة ـ ليس تملكون منهن شيئا غير ذلك! ـ أى معاشرته لها وحفظها لحقه ـ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة، أى بعمل يخترقن به حدود الله، فإن فعلن فاهجروهن فى المضاجع واضربوهن ضربا غير مبرح، فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا..! ألا وإن لكم على نسائكم حقا. ولنسائكم عليكم حقا. فحقكم عليهن ألا يوطئن فرشكم من تكرهون، ولا يأذن فى بيوتكم لمن تكرهون. ألا وحقهن عليكم أن تحسنوا إليهن فى كسوتهن وطعامهن". وهذا الإحسان جزء من مكارم الأخلاق التى ينبغي أن تسود البيوت، فإن الضرورات المادية ليست كل شىء فى الحياة. إن وظيفة البيت المسلم فى مجال التربية تجعله الأساس الأول لأمة محترمة. ص _163(1/143)
قضايا.. بين نقيضين لا تزال قضايا المرأة بين نقيضين لا يريد أحدهما الالتقاء بالآخر، قد يقع فى أحكامنا الفقهية أن يقول الشافعى: لمس المرأة ينقض الوضوء! ويقول أبو حنيفة: لا ينقض الوضوء ولكن " مالكا " يدخل عنصرا آخر يؤثر فى الحكم هو نشدان اللذة أو وجودها، فمن لمس بنية مريبة أو خالط قلبه التذاذ انتقض وضوءه وإلا فلا شئ! من حقك أن تقبل ما شئت من هذه المذاهب أو ترفضه وفق ما يترجح لديك! وقد يكون الموضوع أخطر من ذلك فى العلاقات بين الجنسين، فهل يبقى النقيضان متباعدين أبدا؟. فى الشرق العربى يقولون: لا يظهر من المرأة شئ فى الطريق! ويجوز أن تظهر عينا واحدة لترى مواقع أقدامها وفى أوروبا وأمريكا يقولون: تظهر المرأة ما شاءت من جسدها كله! فهل هناك وسط بين التكشف الفاضح وبين التغطية المعنتة؟ هل لابد من التخيير بين التحجب المقعد والتبرج المفسد؟ هل التخيير بين الحبس فى البيت والتشرد فى الشوارع؟ *** فى قريتنا ـ إلى اليوم ـ يستحيل أن تدخل المرأة مسجدا ـ فقد قيل لها: إن صلاتها فى البيت أفضل من صلاتها فى مسجد. النبى عليه الصلاة والسلام وكان يستحيل أن تذهب إلى مدرسة حتى غلبت حضارة الغرب فأذن لها بالتعلم. ء.! وأنا هواى تبع لتعاليم الإسلام كما جاءت فى صريح الكتاب وصحيح السنة ويؤسفنى أن هذه التعاليم وهت وشوهت فى العصور الأخيرة حتى أمسى المسلمون آخر شعوب العالم، بعد أن كانوا العالم الأول حضارة ونضارة وذكاء رأى واستقامة سلوك! وعندما انعقد مؤتمر المرأة فى بكين، وكان فيه اتهام للإسلام بأنه يهين المرأة ويعنف عليها قلت لمن حولى: الإسلام لا يهين المرأة ولا يعنف معها. فذكر لى بعضهم حديث " لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته؟ " . ص _164(1/144)
فقلت: حديث أعمى السند سقيم المتن، ولو عذب الرجل دابة لسئل عن ذلك دنيا وأخرى.. والغريب أن رجلا- زعموا أنه من أهل العلم- صاح بى منكرا ما أقول! فقلت له غاضبا: إنك الدبة التى قتلت صاحبها!! والواقع أن تراثنا الثقافى يحتاج إلى تنقية دقيقة من الدخيل الذى يشينه، وما أكثره، لقد بلغ السفه أن بعضهم زعم أن فى القرآن لحنا سوف تقيمه العرب بألسنتها ووضع هذا الإفك فى بعض التفاسير...!! ويحزننى أن لغوا كثيرا دس هنا وهناك، حذر منه المحققون ولكن صياح الجهال غلبهم. إن الإسلام هو الدين الأوحد الذى جعل الوصال بين الزوجين عبادة تفتتح باسم الله! وجعل فعله حسنات، وجعل النفقة على الأهل من أعظم النفقات أجرا. وفى حديث عبد الله بن عمرو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة " ! وعن عبد الله بن زمعة أنه سمع النبى يخطب، فذكر الناقة والذى عقرها فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( إذ انبعث أشقاها ) انبعث لها رجل عزيز، عارم منيع فى قومه. ثم ذكر النساء فوعظ فيهن فقال : "يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد ولعله يضاجعها من أخر يومه " . تناقض لا يقع فيه متزن الرأى! ولعل الصلة بين الجملة الأولى والثانية فى الحديث أن غرام الرجل قد يطيش بغفله، كما فعل بقاتل الناقة. فإن جلد المرأة أو لطمها على وجهها لا يجوز، فإن كان غاضبا من امرأته لنشوز غلبها فليضربها بقلمه الذى يكتب به أو سواكه أو فرشاة أسنانه. إن جلدها ثم تقبيلها حماقة أو مرض نفسى. ص _165(1/145)
وهناك حديث من الخير أن نعرف أصله حديث " إن المرأة خلقت من ضلع أعوج وإن أعوج ما فى الضلع أعلاه " هذا الحديث مأخوذ من سفر التكوين من الإصحاح الثانى فى التوراة، ونصه هناك "فأوقع الرب الإله سباتا على آدم فنام، فأخذ واحدة من أضلاعه وملأ مكانها لحما. وبنى الرب الإله الضلع التى أخذها من آدم امرأة وأحضرها إلى آدم. فقال آدم هذه الآن عظم من عظامى ولحم من لحمى. هذه تدعى امرأة لأنها من امرىء أخذت! ". ونحن نميل إلى قبول الحديث الوارد. سواء كان مصدره التوراة أو غيرها ونرى أن المرأة لا يضيرها هذا. فهى يجب أن تكون عاطفية كى تلد وتربى وتتحمل أعباء هذه الوظيفة المعنتة، وهذا لا يضيرها ولا ينتقصها ولا يكون ذريعة لإهانتها أو ضربها كما يزعم البعض. ص _166(1/146)
إبهام يثير العجب وقفت عند خبر لم أفهمه! محاكمة زوج يغتصب امرأته! وسكت من حولى فقال: لعل ذلك فى أمريكا؟ فعدت إلى الصحيفة وقلت: هو فى أمريكا!! لا يجوز ذلك هناك! إن العلاقة الزوجية لا تتم بداهة بالعصا، ووقوعها فى عالم الإنسان والحيوان يتم بالتلطف والرضا، ولنفرض جدلا أن المرأة منحرفة المزاج، وأن زوجها استبدت به رغبة جامحة فأين يذهب؟ هل إذا عرض عليها نفسه رفضته، فإذا استكرهها ذهبت إلى الشرطة؟ هل هناك جريمة اقترفت؟ أكان المسلك السليم أن يذهب إلى إحدى البغايا؟ إن القوانين التى يصنعها البشر تحتاج أحيانا لمن يبصق عليها..! ماذا عليها لو سلمته جسدها لترضيه ولتطفئ شهوته، وفى الحديث " إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت فى قلبه فليعمد إلى امرأته فليواقعها فإن ذلك يرد ما فى نفسه". وفى عصرنا هذا قد نذكر ما رواه مسلم فى صحيحه " إن المرأة تقبل فى صورة شيطان وتدبر فى صورة شيطان فإذا أبصر أحدكم امرأة- أى فأعجبته- فليأت أهله فإن ذلك يرد ما فى نفسه ". وعن أبى هريرة أن رسول الله قال : " لا يحل للمرأة أن تصوم (نافلة) وزوجها شاهد إلا بإذنه " . قال الفقهاء: وإذا كان زوجها مسافرا فحضر فمن حقه أن تفطر، وحقه مقدم على التطوع بالخير، ويمكن القول بأن درء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والمرأة المؤمنة مكلفة فى هذا العصر بإطفاء الفتن التى أشعلتها الحضارة واستغلت فيها الغريزة الجنسية أسوأ استغلال، والتى أذكر فيها حديث أسامة بن زيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما تركت بعدى فتنة هى أضر على الرجال من النساء" . ص _167(1/147)
قال لى صديق من رجال الأعمال الذين يترددون على " أوروبا ": زرت أحد أصحاب المصانع وعهدى به البشاشة والسرور ولكنه هذه المرة كان كئيبا منقبضا.. فلما ساكتة عما به تريث قليلا ثم انفجر يقول: امرأتى تخوننى وهى الآن مع فلان!! قلت له: طلقها.. فقال: عندئذ يحكم القضاء لها بنصف ما أملك!! هذا هو القانون عندنا... فكرت فى هذا القانون، إنه شرع لحماية الأسرة ولكن هل يمكن أن تحمى الأسرة مع حرية العرى؟ وحرية الخلوة بالأجنبية وحرية اقتحام البيوت مع غياب أربابها ووجود حرماته ! لقد دخل رجل فاتك بيتا ليلقى زميلة عمل، كان ثالثهما الشيطان! وبعد دقائق تم كل شىء وبعد تسعة شهور أنجبت له ولدا يشبهه كل الشبه، ثم اختلفا فكره ابنه وكرهها وهو يذكر قصته فى إحدى الصحف غير آبه ولا آسف، هل هذا النوع من الدواب يعرف الله واليوم الآخر وأدب الاستئذان وحماية الشرف وحرمة الأعراض؟ المحزن أن الجانب الحيوانى من البشر نما نموا فاحشا فى دنيا الناس، وأن الإسلام لم يعرض فى معركة الغرائز عرضا يناسبه أو يليق به أو يصون سمعته. وقد عجبت وأنا أسمع فى بعض الإذاعات أن امرأة طلقت من أربعة رجال بعد أن أنجبت من كل واحد ولدا، وزعمت أنها ترفض التعدد!! قلت ولو أنجبت سبعين ولدا..! إن التعدد مبدأ معقول ولكن تطبيقه صحبته حماقات كثيرة. وقد تأملت فى قصة "مسيو ميتران رئيس جمهورية فرنسا الأسبق " إنه من أعاظم القادة عند أصدقائه وخصومه، ولم يستطع الاكتفاء بواحدة. وعندما مات كانت ابنته غير الشرعية فوق العشرين.. إننا نعلم أن أى صعلوك فى فرنسا يستطيع الاتصال بعشرات النساء، فلماذا لا نقبل إباحة التعدد ونجعل له حدا ونحرم الزنى ونرفضه بتا؟ ص _168(1/148)
ولماذا لا نعود بالعلاقة الزوجية إلى أصلها الدينى العظيم، فتكون صلة الرجل بامرأته عبادة تتم بذكر الله ودعائه وانتظار بركته، وتكون نفقته فى بيته صدقه يتقبلها الله من عبده ويضاعفها له: هل يدرى المسلم أن أعظم النفقات ما تم على الزوجة والأولاد، لأن حماية البيت من الحاجة تصونه من الذل والعقد وتبنيه على العزة والكرامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " دينار أنفقته فى سبيل الله، ودينار أنفقته فى رقبة- فى عتقها- ودينار تصدقت به على مسكين. ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا الذى أنفقته على أهلك! " . عن أم سلمة رضى الله عنها قالت : قلت : يا رسول الله هل لى أجر فى أبناء أبى سلمة أن أنفق عليهم؟ ولست بتاركتهم هكذا وهكذا !، قال: نعم لك أجر ما أنفقت عليهم " . وقال عليه الصلاة والسلام لسعد بن أبى وقاص: " إنك لن تنفق نفقة تبتغى بها وجه الله تعالى إلا أجزت بها حتى ما تجعل فى فم امرأتك " . ص _169(1/149)
من روابط الأسرة ربما التفت العالم إلى الفتح الإسلامى الأول لغرب آسيا وشمال إفريقية وعجب لسرعته وقوته وآثاره الباقية، وكان حقا عليه أن يبحث عن الأسباب القائمة وراء هذه الانطلاقة الكبيرة وحقيقة الأمة التى بعثت هذه الجيوش وتماسك مجتمعها وصلابة تقاليدها! إن المسلمين الذين اصطبغوا بعقيدة التوحيد احترموا كل الاحترام نظام الأسرة وجعلوا من الأبوة والبنوة والعمومة والخثولة كهفا تأوى إليه الأخلاق وتستقر عليه العادات. إن الأب والأم ليسا مسئولين عن الإطعام والحماية فقط! إنهما مسئولان عن العبادات والفضائل والتعليم والتربية. إن الأسرة أساس الامتداد بين الأجيال السابقة واللاحقة وعلى تعاونها تتحول القرابة إلى إيمان واضح وعمل صالح، وكان اهتمام الإسلام بشئون الأسرة فريدا فى بابه عندما تدخل الإسلام فى التنقل بين حجرات البيت الواحد ( يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء …). وتعاليم الكتاب والسنة فى تنظيم الأسرة باب واسع، فبعد توحيد الله يوقر الوالدان ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ..). ويوصى النبى أرباب الأسر فيقول عليه الصلاة والسلام: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر- ضرب تعليم لا ضرب إيذاء وتحقير- وفرقوا بينهم فى المضاجع- أى لينم كل منهم وحده " !! إننى أنظر إلى الرقص الشرقى والغربى الذى ينقله التلفاز داخل البيوت فأشعر بالفزع وبالظلام المقبل على مستقبل الأمة كلها، والأسر العفيفة الشريفة تمنع هذه ص _170(1/150)
المناظر المؤذية، وتربى الأولاد على الصلاة والصيام والعفاف والشرف ولأمر ما ربط القرآن الكريم بين إضاعة الصلاة وانطلاق الشهوات ( فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا). إن الإيمان والفضيلة متلازمان وفى الحديث " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا وخياركم خياركم لنسائهم " . وأفراد الأسرة ليسوا الإخوة والآباء فقط إنهم الأقارب جميعا، وحق على المرء أن يصلهم ويحرص على زيارتهم وإذا أحس جفوة من أحدهم فلا يكترث بها بل يبقى على وده. فعن عبد الله بن عمرو عن النبى صلى الله عليه وسلم " ليس الوصول بالمكافئ ـ أى الذى يعطى على قدر ما أخذ، ويتحرك بقدر حركة صاحبه ـ ولكن الواصل الذى إذا قطعت رحمه وصلها " ! والخيمة التى تلم أفراد الأسرة واسعة لأنها تضم كثيرا من الأقارب، وتدبر هذه القصة التى أسوقها إليك من رواية الشيخين. قال أنس بن مالك: كان أبو طلحة رضي الله عنه أكثر الأنصار مالا من النخيل التى يملكها، وكان أحب أمواله إليه بستانه الذى يسمى " بير حاء " وكان يقابل المسجد النبوي، وربما قصده النبى عليه الصلاة والسلام ليشرب من مائه العذب. فلما نزل قوله تعالى : ( لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) قام أبو طلحة إلى رسول الله فقال: يا رسول الله إن الله أنزل عليك هذه الآية، وإن أحدث مالى إلى بستانى بير حاء. وقد جعلته صدقة لله تعالى أرجو برها وذخرها ـ فضعها يا رسول الله حيث أراك الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " بخ.! " كلمة تقال للتعجب والتفخيم ـ ذلك مال رابح مرتين. وقد سمعت ما قلت وأرى أن تجعلها فى الأقربين! ص _171(1/151)
فقال أبو طلحة " أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة فى أقاربه وبنى عمه ". تأمل فيما فعل رسول الله! إنه لم يفرقها فى فقراء المسلمين عامة بل جعلها فى أقارب أبى طلحة توكيدا لحق القرابة فهى صدقة وصلة!. إن روابط الأسرة من دعائم المجتمع الدينى، وقد رأيت الملاحدة يجحدون هذه الروابط، وفى أوروبا وأمريكا يستقل البنون والبنات بأنفسهم فى مرحلة اليفاعة والبلوغ، وتعترض حياتهم مباذل ومهازل لا حصر لها، وهم يريدون أن نتبعهم إلى هذه الهاوية. ص _172(1/152)
نشدان السلامة أحيانا حين يكون التلامذة أحرارا يضعون أقدامهم على الأدراج ومقاعدهم على الكراسى، أو يقلبون الأوضاع على نحو مضحك أو يخلقون صورا من العبث يريدون بها المرح.،! وليست الفكاهة محرمة، بل قد تكون كالملح للطعام، وقد يستعان بها على تلطيف الجو ووعثاء الطريق!! لكن ظهرت فى العصور الحديثة فلسفة العيش على الطبيعة ومحاربة الكبت، وافعل ما بدا لك!! فكانت نكبة على التربية والأخلاق وهدما شنيعا لنظام الأسرة! كيف ينطلق المرء مع ميوله كلها ويبقى له نظام خلقى متكامل؟ لكى يكون شجاعا يجب أن يكبت حب الحياة، لكى يكون كريما يجب أن يكبت حب المال لكى يكون عفيفا يجب أن يدوس الشره إلى الطعام والنساء. وديننا وجهنا إلى منهج وسط ( لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا). والرجل الذى طالت ثرثرته فى محاربة الكبت هو "فرويد" عالم النفس المشهور، وهو من وراء الفيضان العارم للغرائز الجنسية فى الغرب وانهدام حدود الحلال والحرام، وذهاب معالم الأسرة، وقد راقبته فى موته فخيل إلى أنه مات "بالإيدز"، إنه لا دين إذا لم يكن المرء صاحب إرادة تمنعه من الدنايا وتدفعه إلى المعالى، وهذه الإرادة تنمو فى جو الأسرة. إن الأسرة فى الإسلام ليست جماعة التقت كيفما اتفق، إنها مسئولة عن شئون الدنيا والدين فى بيتها وخارج البيت. عن ابن عمر سمعت رسول الله يقول: " كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته الإمام راع ومسئول عن رعيته. والرجل راع فى أهله ومسئول عن رعيته والمرأة ص _173(1/153)
راعية فى بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها والخادم راع فى مال سيده ومسئول عن رعيته فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته " . وعن عبد الله بن عمرو: " كفى بالمرء إثما أن يحبس عمن يملك قوته " . ومما يتكون فى جو الأسرة الصلاة فقد جاء عن عمرو بن شعيب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها لعشر ـ أى ضربا خفيفا ـ وفرقوا بينهم فى المضاجع " . وقد رأى النبى عليه الصلاة والسلام غلاما يأكل فتطيش يده فى الأطباق فعلمه كيف يأكل " يا غلام سم الله تعالى. وكل بيمينك. وكل مما يليك ". إن الأسرة المسلمة تخرج أولادا لهم أخلاق شريفة ومسالك عالية، لهم رباط بالمسجد وبالشارع وبالأعمال العامة موصول بكتاب الله وسنة رسوله، ولكن الغزو الثقافى يلح على تقطيع هذه الصلات حتى ينسى الناس دينهم وتاريخهم. بعد عشرات السنين من العيش فى ظل العلمانية الجافة البعيدة عن روح التدين شعر الناس فى أمريكا بالوحشة والجفاف ولم تغن عنهم الملذات والمباذل، وأمامى مقال نشرته الأهرام فى 8 / 12 / 1995 يقول : إن استطلاعا للرأى أظهر أن 76% من الأمريكيين يرون أن البلاد أصبحت تواجه هبوطا أخلاقيا وروحيا كبيرا... وأن هناك زيادة كبيرة فى أعمال العنف والانحلال، وارتفاعا فى نسبة الجرائم التى يرتكبها المراهقون والمراهقات وأن الهوة تزداد عمقا بين البيض والسود.... ويرى أولو الألباب أن تعود روح الأسرة التى كانت سائدة قديما، ويقولون إن كتاب الفضائل " لوليام جى بنيت " حقق أعلى نسبة مبيعات فى هذا العام! أقول: والفضائل هى الامتداد الطبيعى للعقيدة الدينية ومؤلف هذا الكتاب يزعم أن كتابه أداة مفيدة للأباء والأمهات الذين يرغبون أن يغرسوا فى نفوس أولادهم كل ما كان الأولاد يتعلمونه فى الماضى فى دور العبادة ومراحل التعليم الأولى أيام الطفولة واليفاعة!! وقد هززت رأسى مستغربا ومستبعدا إن لجو المسجد روحا آخر، فالتذكر(1/154)
بالله ولقائه والركوع والسجود بين يديه تبارك اسمه، وسماع الوعد والوعيد، واحتشاد الجموع من ص _174
رجال ونساء وصبية على مرضاة الله صباحا ومساء كل ذلك يملأ الجو سلاما وحبا! أما كتاب الفضائل الذى ظهر أخيرا فقد ظهر بعدما بلغت نسبة الجرائم التى اقترفها الشباب 150 % ذاك فى محاولات القتل أما فى تجارة المخدرات فقد تضاعف عدد الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 12، 17 سنه والذين يدخنون الماريجوانا كما زاد عدد المواليد غير الشرعيين بنسبة 68% فى مجتمعات السود و 25% فى مجتمعات البيض إ!. أعجبنى فى هذا التقرير أن أحد المصلحين حمل على هوليود، وقال إنها تتجه إلى إنتاج أفلام تعين على الجريمة والجنس ولا تخدم العفاف والفضيلة!! قلت فى نفسى: أخيرا وضعتم أصابعكم على مصدر مهم من مصادر البلاء! إن خطورة هذا المصدر تعتبر خفيفة على أهله الأقربين، وبلاؤه الأكبر على العالم الثالث الذى ليست له ثروة أمريكا ومعرفتها وحضارتها الواسعة، نسأل الله السلامة. ص _175(1/155)
بيت المسنين كرهت هذه البدعة التى نقلناها عن الغرب، بيوت المسنين! يطعن الرجل فى السن ويضيق به أقاربه فينتقل مع أمثاله إلى بيت يؤويه هو وأمثاله حتى يريحهم الموت! وكذلك الحال مع النساء العجائز يتركن بيوتهن الأولى ويغادرن الأولاد والأحفاد حيث يجتمعن مع أمثالهن فى ارتقاب المنايا!! هل لهن أمل فى شئ؟ لقد غربت شمس العمر، والذكريات لا تصنع أملا..! هذا تقليد غربى بدأ يزحف على عواصمنا العربية المسلمة مع تقلص الأخلاق وإيحاءات التدين وبركات الإيمان التى كانت تزحم البيوت قديما. أنا فى يفاعتى كنت أعيش فى دار أرى فيها أبى وأمى وجدى وجدتى وأعمامى وعماتى. كنت أرى فيها ثلاثة أجيال ينظم الأذان نومها ويقظتها!! وكنت أحس معنى الحديث الشريف " ليس منا من لم يوقر كبيرنا وبرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه". كان بر الوالدين يلى عبادة الله! وكان التماس عطفه ودعائه أملا كبيرا، أما فى هذا العصر الذى سادته تقاليد الغرب، فخير للأب أن يترك البيت للابن الشاب يمرح فيه هو وزوجته، وليقضى بقية عمره فى بيت للمسنين!! إن الجانب الحيوانى طاغ فى الحضارة الحديثة وحملة الإسلام مهازيل فى مجال الفهم والبلاغ والجدال. إن هذه الحضارة منقطعة عن السماء ولا علاقة لها بموسى أو عيسى، وقد قرأت فى سنة محمد أن إكرام الوالدين يغنى فى النوازل ويفرج الكربات ويجيء للإنسان نجدة من حيث لا يحتسب!! ص _176(1/156)
ففى حديث التوسل بالعمل الصالح ذكر أن (1) إحصان الأعراض، و (2) إنصاف العمال، و (3) بر الوالدين: تنقذن المهالك. وفى الخصلة الأخيرة قال المتوسل " اللهم إنه كان لى والدان شيخان كبيران، ولى صبية صغار. وكنت أرعى، فإذا رحت عليهم ـ رجعت إليهم ـ فحلبت بدأت بوالدي أسقيهما قبل ولدي.. وإنه نأى به الشجر فما أتيت حتى أمسيت فوجدتهما قد ناما، فحلبت كما كنت أحلب، فجئت بالحلاب فقمت به عند رءوسهما، أكره أن أوقظهما من نومهما، وأكره أن أبدأ بالصبية قبلهما والصبية يَتَضاغوْن عند قدمى، فلم يزل ذلك دأبى ودأبهم حتى طلع الفجر. فإن كنت تعلم أنى فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج لنا فرجة نرى منها السماء". قال الراوى: كان الداعون الثلاثة فى غار انسد عليهم فمه، بعدما أطبقت عليهم صخرة ضخمة فدعا كل منهم بأرجى ما عمل فتحركت الصخرة ونجوا جميعا ببركة تقواهم. ومع عقوق الوالدين متعاطفات تستحق التأمل وتومئ إلى البيئة التى تنبت فيها هذه الرذيلة فعن أبى بكر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ـ ثلاثا ـ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله وعقوق الوالدين. وكان متكئا فجلس فقال ألا وقول الزور وشهادة الزور فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت " . وعن ابن عمر " ثلاثة لا يدخلون الجنة، العاق لوالديه، والديوث، والرجلة "! والديوث الذى يقر أهله على الخنا! والرجلة المرأة الملتحقة بالذكور!!. والأمراض الجنسية كثيرة فى هذا العصر، وهى من وراء انهيار البيوت وضياع الأسرة... وشىء آخر لابد من التنبيه إليه، إن هذه الأمة الإسلامية أكثر الأمم يتامى! لأن تحامل الكفار عليها باق إلى قيام الساعة ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا). ص _177(1/157)
ولذلك كان الجهاد باقيا إلى قيام الساعة ومازلت أردد قول بدوى الجبل. قد استرد السبايا كل منهزم لم تبق فى قيدها إلا سبايانا!! ولن يصمد أمام هذا العدوان المستمر إلا كيان صلب لا تهزه العواصف ولا تنال منه الأيام، والمسلمون الآن خمس العالم، فما تكون الحال إذا تفرق هذا الخمس وتجمع عليه هذه الأخماس الباقية؟ إن التجمع الحقيقى يبدأ من الأسرة، من الوالدين والأولاد والأقارب والجيران، بل إن الله سبحانه وتعالى فى أعقاب نصر بدر بين للمسلمين أن النصر الحقيقى هو فى صلاح ذات البين، وامتلاء الأفئدة بالحب والصفاء ( قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين). ولرقة القلب وصلاح ذات البين أسباب. روى أحمد عن أبى هريرة أن رجلا شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه فقال له : " امسح رأس اليتيم وأطعم المسكين " . وعن أبى الدرداء أتى النبى صلى الله عليه وسلم رجل يشكو قسوة قلبه! قال: أتحب أن يلين قلبك؟ وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم وامسح رأسه وأطعمه من طعامك يلن قلبك وتدرك حاجتك .. " . وحسبك هذه الآية ( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت أيمانكم . . ). ص _179
.. بعض المفاهيم متي يقبل الصوم ؟ هل طول العمر خير لصاحبه ؟ الموت لا يقطع الود ؟ المنافسة والتحاسد ؟ هل الثراء دليل القبول ؟ المناصب والقيادات حول مفهوم السنة حول مفهوم الأمانة تصحيح هام ص _180
إنني أذهب بالمسلمين أن يستبينوا ما أمامهم ، ربما تغاضينا قديماً عن بعض الخلاف المذهبي ، أما شغل المسلمين الآن بهذا الخلاف فهو لن يتم إلا لحساب الصهيونية والاستعمار .
محمد الغزالي …
ص _181(1/158)
متى يقبل الصوم؟ الأساس فى أعمال المسلم كلها أن يقصد بها وجه الله، وأن يرجو منها ثواب الآخرة، فما معنى قول الله فى حديثه القدسى: " الصوم لى وأنا أجزى به "؟ . قال العلماء: إن الصوم امتناع عن رغبات معينة، والامتناع عمل سلبى لا صورة له يظهر فيها، إنه ترك شهوات معروفة، والترك قد يكون تلبية لأمر الله، وقد يكون تقليدا لما يفعل الناس، وقد يقترن به من الشراسة ما يحبط الأجر، وعند بعض الرهبان والزهاد قد يكون تساميا شخصيا بالإرادة ومرانا على قوة العزيمة وقهر الجسد!! لكن الصوم المقبول حقا هو أن يكبت المؤمن رغباته طالبا مرضاة الله، وسعيدا بطاعته إذ نزل على إرادته...! ولذلك جاء فى رواية البخارى ".. يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلى"! إن الصوم هنا ذكر عملى لله وجهاد نفسى للقرب منه، وتغليب لأشواق الروح على مطالب الجسم، ونزوع إلى السماء حين يخلد البعض إلى الأرض، وهزيمة لمنطق المادة الذى يصبغ الحضارة المعاصرة ويدفع الجماهير إلى عبادة الذات والملذات.. ومعنى هذا أن الصوم ليس ترك الأكل والشرب وحسب! كلا فقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: " من لم يدع قول الزور والعمل به فليمس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه ". وقوله "الصيام جنة ـ يعنى وقاية من الإسفاف ـ فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سائه أحد أو قاتله فليقل إنى صائم إنى صائم " . إن الرغبة فى الانتقام واقتصاص المرء ممن أساء إليه قد تكون شديدة لاسيما عند ذوى الكرامة والمهابة، فليكظم المؤمن غيظه وليؤثر ربه وآخرته، لقد انتصر على شهوة الطعام فلينتصر على شهوة الانتقام! وعندى أن الكذب والغيبة يبطلان الصوم، فهل الكاذب يقضى اليوم الذى كذب فيه، وكذلك المغتاب؟ ص _182(1/159)
يقول بذلك فقهاء الظاهر! ولكن الأئمة يقولون إن أجره ضاع، وليس عليه قضاء! ووددت لو شددنا النكير على المفترين ومستبيحى الأعراض حتى تنقطع جراءتهم على الشهر العظيم ويحسنوا مهابته. إن لرمضان فى حياة أمتنا وتاريخها مكانة ينبغى أن تعرف. فهو العلاقة الروحية الباقية بين الله وخلقه، فيه نزل القرآن الكريم وفيه تتكرر مدارسته، وتستحب تلاوته ويضار الليل بقيامه، وفيه تتأكد وحدة الأمة الإسلامية حين تفطر كلها بعد غروب الشمس، وتستعد بالسحور لصيام النهار، ورمضان فى تاريخنا شهر ذكريات عسكرية تمتد من السلف الأول إلى هذا العصر، وأحسب أن إطلاق المدافع فيه عند الفطور وعند السحور إيماء إلى هذا التاريخ المكافح المحامى عن الحق. وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت أمتى فى شهر رمضان خمسا لم يعطهن نبى قبلى. 1- أما واحدة فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان ينظر الله عز وجل إليهم. ومن نظر الله إليه- أى نظرة حبا لاستعداده ونشاطه- لم يعذبه أبدا..!. 2- وأما الثانية فإن خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك- فتغير رائحة الفم من الجوع مستحبة عند الله، وعرق العامل أشرف من طيب العاطل! 3- وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم كل يوم وليلة، أى أن ملائكة الرحمة تحفهم داعية لهم بالمغفرة، والله سبحانه يستجيب دعاء ملائكته. 4- وأما الرابعة فإن الله عز وجل يأمر جنته فيقول لها: استعدى وتزينى لعبادى!، أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى دارى وكرامتى. 5- وأما الخامسة، فإنه إذا كان آخر ليلة كفر الله لهم جميعا! فقال رجل من القوم أهى ليلة القدر؟ قال: لا! ألم تر إلى العمال يعملون فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم ". ومغفرة الذنوب تعنى أمرين، الأول التجاوز عنها فى الآخرة. والثانى محو نكتها السوداء فى القلب الإنسانى، فيعود أبيض نقيا، والمؤمن يشعر بذلك المحو فى نهاية الشهر بقوة اتجاهه إلى(1/160)
الله وحسن إقباله عليه. نسأل الله صياما وقياما مقبولين مباركين. ص _183
هل طول العمر خير لصاحبه؟ جميل أن يكون المرء صالح العمل طويل الأجل. لقد اجتمعت له الحسنيان وعاش حياة خصبة مثمرة. وفى الحديث " ألا أنبئكم بخياركم؟ قالوا: نعم، قال: خياركم أطولكم أعمارا وأحسنكم أعمالا " . وذكر أحمد بن حنبل فى قصة رقيقة: أن نفرا ثلاثة من بنى عذرة أسلموا عند النبى عليه الصلاة والسلام ـ وكانوا فقراء ـ فقال رسول الله : من يكفيهم؟ قال طلحة رضى الله عنه: أنا، فكانوا فى كفالته، فبعث النبى عليه الصلاة والسلام بعثا ـ للجهاد ـ فخرج أحدهم فاستشهد! ثم بعث بعثا آخر فخرج فيه الثانى فاستشهد! ثم مات الثالث على فراشه! قال طلحة: فرأيت ـ فى المنام ـ هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندى فى الجنة، فرأيت الميت على فراشه إمامهم! ورأيت الذى استشهد أخيرا يليه! ورأيت أولهم آخرهم! قال طلحة: فداخلنى من ذلك الحلم ريب فأتيت النبى فذكرت ذلك له.. فقال:! وما أنكرت من ذلك؟ ليس أحد أفضل عند الله عز وجل من مؤمن يعمر فى الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله "!! لكن الربط بين طول العمر فى التقوى وعلو المكانة فى الآخرة يحتاج إلى تأمل وطول نظر، والذى دفعنى إلى ذلك القول حديث آخر رواه الترمذى عن أبى أمامة رضى الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " إن أغبط أوليائى عندى لمؤمن خفيف الحاذ ـ رقيق الحال قليل المال ـ ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه فى السر وكان غامضا فى الناس لا يشار إليه بالأصابع وكان رزقه كفافا فصبر على ذلك! ثم نقر النبى بيده فقال: عجلت منيته! قلت بواكيه! قل تراثه". وهذا الوصف الوجيز لشباب من أهل الفداء والجهاد والاستشهاد، كانوا قذائف حية دكت كيان الكفر وأسدوا للإسلام يدا بيضاء.. ص _184(1/161)
يقول الشاعر فى رثاء أحدهم: تروى ثياب الموت حمرا فما أتى لها الليل إلا وهى من سندس خضر! هل يتقدم هذا الشباب غيره من الشيوخ الصالحين؟ يظهر أن رجالا من أهل البأس أو من أهل الفقه يرزقون هذه الصدارة!! وقد قتل أمراء الجيش الثلاثة فى معركة مؤتة وله يسقط من أيديهم علم الإسلام، وكانوا جميعا حول الثلاثين! فى شرخ الرجولة... وكذلك استشهد "مصعب بن عمير" فى أحد بعد عمر قصير وكان أنعم شاب فى مكة فأهانته أمه طويلا بعدما أسلم! وأعرف معمرين ما دخلوا الجنة إلا بما تعلموه من بعض الشباب. لقد مات الإمام النووى فى الأربعين من عمره، وكان يلقب بالشافعى الصغير، بل مات الشافعى نفسه فوق الخمسين بقليل، فقال أحمد بن حنبل فى رثائه: كان كالشمس للدنيا والروح للبدن ا قد تقول: فماذا نصنع بالأحاديث التى قالت: خيركم من طال عمره وحسن عمله؟ والجواب أن هذه الأحاديث تمثل القاعدة العامة مثل ما ورد فى فضل الأيام العشرة الأولى من شهر ذى الحجة فقد قال عليه الصلاة والسلام : " ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من عشر ذى الحجة- قالوا: يا رسول الله ولا الجهاد فى سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد فى سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشىء" . ففضل هذه الأيام العشرة ثابت للمحسنين المجتهدين، لكن اخترق هذا الفضل من سبقوا سبقا بعيدا بفضيلتى الجهاد والاستشهاد!! والأعمار مجهولة الطول والقصر والكم والكيف ويعجبنى قول ابن الرومى: أعمارنا جاءت كأى كتابنا منها طوال فصلت وقصار هناك سورة تستغرق الصفحات الكثيرة، وهناك سورة من سطر واحد! وقد تكون سورة الإخلاص القصيرة أفضل من غيرها لما تضمنته من توحيد الله، فلنعمل لله بإخلاص، ولننتظر منه وحده الفضل، فهو المقدم والمؤخر ( إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ). ص _185(1/162)
الموت لا يقطع الود.. حرص الإسلام شديد على تقوية الجبهة الداخلية، وجعل الأمة كلها كيانا متماسكا يشد بعضه بعضا، ومن هنا يوصى بصلة الرحم، وإكرام الجار، وقرى الضيف ومواساة الصاحب فى السفر أو الرفيق فى العمل وإسعاف ابن السبيل.. وهذه الآداب ليس لها فى الحضارة الحديثة وضع خاص، تكفى مراعاة حقوق الإنسان عامة والاهتمام بها تحت عنوان أيها المواطنون مثلا، أما كون المرء قريبا أو جارا فليس شيئا ذا بال! أين من هذا قول رسول الله مثلا: " لا يدخل الجنة قاطع رحم "! أو قوله " مازال جبريل يوصينى بالجار حتى ظننت أنه سيورثه "! إن لهذه الأوامر الخاصة حقوقا كبيرة، وإن كانت فى هذا العصر حقوقا مهملة، وقد سرت إلينا أخلاق الأوروبيين الذين لا يعرفون أهليهم ولا جيرانهم إلا عند الاحتفال بعيد الميلاد مثلا، وقد بنيت الآن العمائر الكبيرة وسكنتها عشرات الأسر التى لا يعرف بعضها عن بعض شيئا! إن العرب فى جاهليتهم كانوا يفتخرون بإكرام الجار وإعزازه، واسمع إلى " السموأل " يقول: وما ضرنا أنا قليل وجارنا عزيز وجار الأكثرين ذليل!! *** وقرأت هذه القصة عن "زينب " الثقفية امرأة الصحابى المحدث عبد الله بن مسعود فرأيت فيها لمحة إنسانية تستحق العرض! قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تصدقن يا معشر النساء ولو من حليكن!- " مع أن حلى المرأة عزيز عليها ! ". تقول " زينب ": فرجعت إلى عبد الله بن مسعود، زوجها، فقلت له: إنك رجل ص _186(1/163)
خفيف ذات اليد ـ تعنى أنه فقير ـ وإن رسول الله قد أمرنا بالصدقة ـ فأته فاسأله فإن كان ذلك يجزي عنى وإلا صرفتها إلى غيركم! فقال لها عبد الله: بل ائته أنت! فانطلقت فإذا امرأة من الأنصار حاجتها حاجتى. وكان رسول الله قد ألقيت عليه المهابة فخرج إلينا بلال، فقلنا له ائت رسول الله فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام فى حجورهما؟ ولا تخبره من نحن! فدخل بلال على رسول الله فسأله؟ فقال له رسول الله من هما؟ فقال له بلال : امرأة من الأنصار وزينب. فقال له رسول الله: أى الزيانب هى؟ قال: امرأة عبد الله بن مسعود، فقال رسول الله: " لهما أجران، أجر القرابة وأجر الصدقة " . *** إن نداء يا عباد الله أحب إلى من نداء أيها المواطنون! إن التذكير بنسبنا السماوى أهم من التذكير بنسبنا الأرضى.. والعبودية لله لا تتم إلا بإكرام البشر، قال عليه الصلاة والسلام : " لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا.. " . إن الإيمان يخلع المرء من أنانيته ويجعله محبا لسائر الناس.... أما العلاقات الضيقة فهى دون ذلك، قال تعالى : ( فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم * أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم ) وقد التقت العقائد والأخلاق والمسالك النبيلة فى نسق واحد عند قوله تعالى: ص _187(1/164)
( واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل ). إن جليس ساعة فى قطار، أو جليس ساعات فى مكتب صاحب له حقوق خاصة، وإن عابر الطريق الذى انقطع عن صحبه لأمر ما له حق خاص ما يجوز إهماله فكيف ضاقت دائرة الإحسان الآن فلا تتسع إلا للشخص وأهله وحدهم؟ إن الحنو على الأهل غريزة فى الإنسان والحيوان جميعا، وقد رأينا الدواب والطيور يعطف والدها على مولودها، وإنما يمتاز البشر بأن مشاعرهم أرحب وأشمل، وأن قرابة فوق قرابة الدم تجمع بينهم وتنشئ البشاشة والود! عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر بن الخطاب: أن رجلا من الأعراب لقيه بطريق مكة. فسلم عليه عبد الله بن عمر، وحمله على حمار كان يركبه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه! قال ابن دينار ـ فاستغرب الركب وقالوا لابن عمر ـ أصلحك الله، إنهم الأعراب أى البدو وهم يرضون باليسير أى يكفيهم ما دون ذلك، فقال عبد الله بن عمر شارحا صنيعه: إن أبا هذا كان وادًا صديقا لعمر بن الخطاب رضى الله عنه، وإنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه "! إن الموت لم يقطع امتدادات الإيمان والوفاء وهذا ما فعله ابن عمر. ص _188(1/165)
المنافسة والتحاسد ألفنا التنافس والتكاثر بين أصحاب الثروات وذوى المناصب. أما التطلع إلى الرفعة فى الدار الآخرة فقلما يحفز الهمم أو يشتد حوله الزحام.. ولكنى فى هذا الحديث وجدت سباقا طريفا بين طبقتين فى أمتنا، كلتاهما تبغى المكان الأرفع فى الدار الآخرة. روى مسلم عن أبى ذر أن ناسا قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلى ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم! قال: أو ليس قد جعل الله لكم ما تصدقون به ؟ إن بكل تسبيحة صدقة وكل تكبيرة صدقة وكل تحميدة صدقة وكل تهليلة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة ونهى عن المنكر صدقة. وفى بضع أحدكم صدقة! قالوا: يا رسول الله أيأتى أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها فى حرام أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها فى الحلال كان له أجره " وقبل أن ننظر فى هذا الحديث نلفت النظر إلى طبيعة التسامى وطلب الرفعة عند كثير من الناس لأنه طلعة يعشق المجد ويهوى القمم! وتدبر قول أحدهم: أرى نفسى تتوق إلى أمور ويعجز عن توفرهن مالى.. فنفسى لا تطاوعنى ببخل ومالى لا يبلغنى فعالى- كرمى وقول الآخر: إنى وان قصرت عن همتى جدتى- ثروتى- وكان مالى لا يقوى على خلقى لتارك كل أمر كان يُلزمنى عارا ويشرعنى فى المنهل الرنق إن الله أوجب على الأمة الجهاد، ورتب عليه أعلى الدرجات، ولكن الجهاد كان قديما يتطلب قدرة على شراء الخيل والسلاح، وقدرة على توفير نفقة الأسرة فى غياب ص _189(1/166)
ربها، وكثير من المسلمين يعجز عن ذلك، وكان يبكى لهذا العجز، وفيهم نزلت الآية: ( ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ). على أنه وردت سنن أخرى تواسى العاجزين بأن النية الصالحة لها مثل أجر العمل الصالح، كما ورد أن ترديد الباقيات الصالحات فى أعقاب الصلوات يجبر هذا القصور، وإن كان الأغنياء قد سارعوا إلى التسبيح والتحميد... فعادلهم رجحان الكفة الذى لاحظه الفقراء. ! مما جعل الرسول يقول: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء... والواقع أن أقدار الله فى التفاوت بين أقدار الناس لا يمكن إنكارها، إنها حقيقة كونية فقد يخلق الله كوكبا أكبر ألف ألف مرة من كوكب آخر، والرسل ـ وهم صفوة البشر ـ بينهم تفاوت لا ينكر ( تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات ) وقد خص الله ذاته العليا بالرفع والخفض ( إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم * يختص برحمته من يشاء ..). هذا الاختصاص حقه لا يمارى فيه عاقل ولا ينكره إلا مجنون. وقد يجد بعض الناس قصورا فى بدنه أو نقصا فى خلقته فيداويه بتنمية مواهبه ودعم فضائله على نحو ما قال الشاعر: إلا يكن عظمى طويلا فإننى له بالخصال الصالحات وصول! إذا كنت فى القوم الطوال علوتهم بعارفة حتى يقال طويل! وهذا مسلك نبيل، وطريق مختصر إلى العلياء ولكن لا يستطيعه إلا قليل... وقد يجحد بعض الناس مكانة غيره فيحقد عليه. وهذه وضاعة شائعة، وقد يطلب مثل هذه المكانة لنفسه، والأمر هنا يحتاج إلى تأمل وبحث، فإن كان الأمر من باب الغبطة التى تدفع إلى الجد والاجتهاد فلا حرج، وفى دعاء عباد الرحمن ( ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما ). ص _190(1/167)
أى قدوة فى الخير، وعلما على الحق.. وتحديدا للمواضع التى تستحب فيها الغبطة روى ابن عمر عن النبى صلى الله عليه وسلم: " لا حسد إلا فى اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار. ورجل آتاه الله مالا فهو ينفقه أناء الليل وآناء النهار" . وهذا التوجيه الواعى يقطع الطريق على منافسات لا معنى لها أو لا جدوى منها، فإن معادن الناس ليست من صنعهم، وبروزهم إلى الحياة فى شتى الأمكنة والأزمنة ليس إليهم. وكونهم رجالا أو نساء أو بيضا أو سودا أو حملة أقلام أو أصحاب حرف. كل ذلك لا دخل لهم فيه فليقفوا عند أقدارهم وليتدبروا الآية ( ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما ). ص _191(1/168)
هل الثراء دليل القبول؟ ليس الثراء دليل قبول إلهى أو شرف نفسى، وليس البؤس دليل غضب إلهى أو غباء عقلى! إن الله يبتلى الناس بالخير والشر، والبأساء والضراء، والمرء بعد ذلك هو صانع مستقبله بأسلوب تصرفه ونهجه فى معالجة ما أصابه..!. إن الله لم يمنحنا المال لنتخم ونبخل ولم يحرمنا منه لنضرع ونستكين، مسلك الإنسان نحو غيره هو الذى يحدد مصيره عند الله ( فأما من أعطى واتقى * وصدق بالحسنى * فسنيسره لليسرى * وأما من بخل واستغنى * وكذب بالحسنى * فسنيسره للعسرى * وما يغني عنه ماله إذا تردى ). والخطأ فى فهم الغنى والفقر قديم بين الناس ( فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا …)!! المطلوب أن يتعاون القوى والضعيف على إقامة حياة متعاونة متساندة تؤمن بالله ولقائه وجزائه الأخير. عن جرير بن عبد الله كنا فى صدر النهار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه قوم عراة مجتابى النمار أو العباء- ثيابهم ممزقة- متقلدى السيوف عامتهم من " مضر " بل كلهم من " مضر " فتمعر وجه رسول الله لما رأى بهم في الفاقة، فدخل ثم خرج فأمر بلالا فأذن وأقام، فصلى ثم خطب فقال : ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) إلى آخر الآية ( إن الله كان عليكم رقيبا ) والآية الأخرى التى فى آخر الحشر ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد…) تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره. حتى قال ولو بشق تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت يده تعجز عن حمله ص _192(1/169)
بل قد عجزت! ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله يتهلل كأنه مذهبة ـ صفحة مستنيرة ـ فقال رسول الله : من سن فى الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شىء، ومن سن فى الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شىء ". * * * * إن الرجل الذى افتتح باب التبرع بعطائه السخى كان من وراء هذا الخير الكثير.. قد يتصدق الرجل بدرهم وهو سائر فى طريقه، لا بأس وله أجره ولكن أين هو ممن يفتتح قائمة بأسماء من يبنون دارا لإيواء الأيتام والضعفاء، أو مؤسسة لتدريب المكفوفين والمعوقين أو معهدا للطلاب الراغبين فى المعرفة أو مركزا لحماية الشباب من آفات الفراغ! راجعت ما تنفقه الدول العظمى فى استكشاف الفضاء وفى تسخير الذرة للحرب والسلم فوجدت الأرقام فلكية، والنفقات فى هذه المجالات باهظة! فتساءلت: ما العمل؟ العمل أن نبذل المال لا أن نكدسه! ولو كانت أموالنا جبالا فإن رصدها لنصرة الحق وارتقاء العلم ودعم المجتمع واجب لا مفر منه.. قرأت كلمة للصديق " محمد بن على الوزير " ناقش فيها الشائعة المنتشرة أن العرب كرماء وأن اليهود بخلاء أبان فيها أن الكرم ليس الموائد الحافلة فى القصور المشيدة، أو النفقات الدافقة فى الأهواء التافهة! إن الكرم هو البذل الواسع فى امتلاك الطاقة الذرية أو فى رصد الكواكب تمهيدا لغزو الفضاء أو فى اكتشاف أسرار الكون وما أودع الله به من غرائب، إن حضارة الغرب سبقت سبقا بعيدا فى هذه الآفاق.. ثم قال: "... علينا أن نعترف بأن تقدم عدونا بسنوات ضوئية ـ كما يقول ـ كان نتيجة لبذل هائل، على حين بقى الكرم العربى محصورا فى نفايات الشهوات ومأرب النفوس، رحم الله أمة ماضيها حى وحاضرها ميت "!! ص _193(1/170)
والسنن التى لفتنا رسول الله إلى التشبث بها هى سنن الارتقاء والسبق كلها وليست سنن النفقة وحدها.. إن الصدقة فى 4/1 عشر المال أو 2/1 العشر ولكن استثمار المال كله فيما ينفع صاحبه أو الأمة جمعاء هو المهم.. وغيرنا فعل العجب فيما يملك من مال! إن استعمار بريطانيا للهند بدأ بإنشاء شركة تجارية سميت شركة الهند الشرقية! ولا تزال الشركات الكبرى تقود العالم ولا يزال الاقتصاد الوصى على السياسات المختلفة، علينا أن نعرف أن للمال وظيفة أكبر من الغذاء والكساء. ص _194(1/171)
المناصب والقيادة "عيينة بن حصن " من مسلمة الفتح الذين قال لهم الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " بعد ما كان منهم من لدد وعدوان، وقد أراد الرسول بهذا تألف قلوبهم واستمالتهم إلى الإيمان، وبعد هذا العفو أعطاهم من غنائم هوازن ما لم يخطر ببال فرجعوا وقد امتلأت أيديهم بالإبل والغنم! هل أجدى ذلك معهم؟ الحق أن منهم من مات بعدُ شهيدا فى نصرة الحق الذى شرح الله به صدره كعكرمة بن أبى جهل الذى قتل فى معركة اليرموك بعد بلاء رائع، ومات عطشان مؤثرا بالماء الذى جاءه جيرانه العطشى!! لكن عيينة بن حصن لم يُرزق هذا الشرف، وظن الرسول وخلفاءه مكلفين بإعطائه ما يشتهى من مال وحسب! وبعض الناس يعيش فى قوقعة من مآربه ورغائبه يحمد من أعطاه ويذم من منعه، فعن ابن عباس قال : قدم عيينة بن حصن - على عمر - فاستأذن الحرّ بن قيس فأذن له، فلما دخل عليه قال لعمر : هى يا ابن الخطاب - كلمة تهديد - فوالله ما تعطينا الجزْل ولا تحكم فينا بالعدل! - تعريض بأن عمرلم يمنحه ما ينتظر من مال - فغضب عمر - رضى الله عنه - حتى هم أن يوقع به فقال له الحرّ بن قيس : إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" . وإن هذا من الجاهلين. قال ابن عباس: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها، وكان وقافا عند كتاب الله تعالى.. إن مال المسلمين الذى جعله الله أمانة عند الحاكمين ليس مغزا لذوى الأطماع، وكذلك السلطة التى بأيديهم ليست لرفع الوضيع وتقريب الجاهل، إن ذلك كله لإحقاق الحق وإبطال الباطل ودعم الكفء وإبعاد التافه. والحكومات الراشدة فى " العالم أجمع تدور على هذا الهدف فهى لا تولى عاجزا ولا تكافئ مقصرا ومن النصائح الغالية قول النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ" إنكم ستجدون أثرة بعدى "! ص _195(1/172)
قالوا: ما تأمرنا؟ قال: أدوا الذى عليكم وسلوا الله الذى لكم ". وفى رواية " اصبروا حتى تلقونى على الحوض ". والمعنى أن المؤمن يرقب الله فى المنصب الذى وليه، وينصف الناس ولو كان هو مظلوما! ولا يجوز أن يضيع المصلحة العامة بحجة أن حقه ضائع أد واجبك وسل الله ما بقى، فإما أنصفت فى الدنيا وإما ارتويت من نعيم الآخرة على سيرتك العادلة. والمناصب العليا لابد منها فى كل مجتمع ولكن حب الرياسة داء عضال ومزلقة إلى الوضاعة فى الدار الآخرة، ولقد تطلع إلى الإمارة بعض الصحابة الأخيار، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم حذرهم منها لأنهم لم يستكملوا أدواتها، جاء عن أبى ذر رضى الله عنه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم:، يا رسول الله ألا تستعملنى ـ تجعلنى واليا ـ ؟ قال: فضرب بيده على منكبى ثم قال: يا أبا ذر إنك ضعيف، وإنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذها بحقها وأدى الذى عليه فيها ". وفى رواية أخرى لمسلم: أن الرسول قال له: " إنى أراك ضعيفا، وإنى أحب لك ما أحب لنفسى: لا تؤمرن على اثنين ولا تلين مال يتيم " . وروى أحمد فى مسنده ما يشبه ذلك فقد قال الرسول لحمزة ـ عندما تطلع إلى الإمارة ـ "يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها؟ قال: نفس أحييها! قال عليك نفسك ". إن الإنسان قد يكون عالما أو أديبا أو باحثا أو مكتشفا ولكنه صفر من الناحية الإدارية فولايته على الناس لا تجديهم ولا تجديه، وكثيرا ما تكون الرياسة إشباعا لنزعة الكبرياء، أو التسلط على الآخرين، أو اقتناص المال من وجوه مريبة! وقد رأيت من يستميت فى تولى منصب ما وقد يبذل فيه ما يملك فإذا كلف بركعة فى جوف الليل، أو بدرهم يدسه فى يد بائس تقهقر ولم يفعل شيئا.. أين العبادة هنا؟ ص _196(1/173)
أما إذا اختير أحد لولاية الناس فقبل على أمل إرضاء الله وإعلاء كلمته وإنصاف المظلوم وحراسة الضعيف فهذه عبادة جليلة ومن تفرد بخصال ترشحه لمنصب خطير وجب عليه أن يتعرض له ويقوم به! فى اليرموك نظر خالد بن الوليد إلى جيش الروم، وعرف أسلوبه فى القتال، وأدرك أن المسلمين بأسلوبهم التقليدى لن يستطيعوا مقاومته، فطلب من رؤساء الجند أن يمكنوه من القيادة أول المعركة، فلما تولاها أدار رحى الحرب على نحو جديد، وتساقطت فرق الروم وفق الخطة التى رسمها فلم تقم لهم قائمة بعدها. وكذلك طلب " يوسف " عليه السلام أن يكون على خزائن الأرض، فكانت ولايته بركة عامة، فإذا كانت مواهب الله عندك مكافئة لهذه المواهب، ومحققة لهذه الآثار فاطلب الرياسة، واجعلها عبودية لله وحده. ص _197(1/174)
حول مفهوم السنة أقبل على شاب يريد مساءلتى فى أمر يهمه، قال: أصحيح أنك عندما كنت مديرا للمساجد نصحت الأئمة وهم يخطبون الجمعة ألا يقيموا أحدا لأداء تحية المسجد وألا يجلسوا من أراد الصلاة؟ قلت: نعم من دخل والإمام يخطب جلس ولا نأمره بشىء، ومن شرع فى صلاة ركعتين تركناه ولم ننهه عنهما، لا أحب إثارة فرقة ولا إحداث فتنة! قال: كأنك تقر ترك السنة؟ قلت: لو ثبت أنهما سنة ما تركهما أحد، إن مالكا وأبا حنيفة يريان السنة الإصغاء للخطيب، أما الشافعى وأحمد فيريان السنة تحية المسجد أولا، فليختر الناس ما شاءوا!!. قال: ولماذا سويت بين الرأيين؟ قلت: كان 99% من خطب الرسول قرآنا يتلى على المصلين، والإنصات إليه واجب، وتصور أن الرسول أمر الرجل بالصلاة ثم مضى فى خطبته.. غير معقول، نحن عندما نخطب نرى أن يستمع الكل إلينا لا أن يصغى بعض، ويصلى آخرون !! ومن قيل الحديث الوارد قال إنها بتعبير الفقهاء واقعة حال، أو قضية خاصة، كان الرجل رث الهيئة فأحب الرسول لفت الأنظار إليه حتى يتصدقوا عليه، وإلا فالحكم العام أن يستمع الجمهور إلى من يخطب..! قال الشاب: هذا كلام مرفوض، وليس لمالك وأبى حنيفة أن يردا سنة ثبتت! فقلت: ما يرد أحد المسلمين سنة ثبتت، الخلاف هل هى سنة؟ وقد تركت كلا الفهمين شائعا بين الناس، فمن شاء صفى دون أن أقعده، ومن شاء قعد دون أن أقيمه!! لا أسمح بعراك فى المسجد! وإذا كان رسولنا علمنا أن المجتهد مأجور أخطأ أم أصاب، فلماذا أقول لمن أراه مخطئا: عليك اللعنة ولن أتركك ترى رأيك! إننى أنفذ قوله تعالى: ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ). ص _198(1/175)
وفوجئت بالشاب يقول لى: إنكم تستهينون بالسنة! فقلت له: انضم إلى الجماعة فيما يلم شمل المسلمين، وحارب تحت علمها! أما حيث تختلف الأنظار، فلا تنشر الفتنة وتتعصب لمذهب ما، فالمسلمون كلهم إخوة!. *** وقال لى شاب آخر: لماذا تخطبون الجمع على منابر يبلغ أحدها أحيانا تسع درجات مع أن منبر الخطبة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يزد على ثلاث درجات؟. فنظرت إلى الشاب مليا ثم قلت له: ولماذا تصلون فى مسجد مفروش بالسجاد أو بغيره، وقد كان المسجد النبوى مفروشا بالحصباء والتراب؟؟ لقد روى البخاري أن النبى عليه الصلاة والسلام وهو يلتمس ليلة القدر سجد فى ماء وطين. لأن السماء أمطرت، وليس للمسجد سقف كما نعهد!. كان السقف من سعف النخيل، فهل يكون اتباع السنة أن نعرى المساجد من فرشها، وأن نعيد إليها السعف والجذوع؟ إنك أيها الشاب وأمثالك ما تحسنون فهم الدين ولا فهم الدنيا، وأفكاركم الطفولية عن الإسلام والحياة لا تخدم إلا خصوم الإسلام، لقد سرتنى التوسعة الأخيرة للحرمين الشريفين، ووددت لو كسا الرخام الفاخر كل بيوت الله، وانتصبت المنابر أبراجا تغزو الآفاق بالتكبير والتوحيد. إن الرحابة والضخامة والأناقة مطلوبة فى هندسة دور العبادة ومعاهد العلم وشعائر الحق، وعندما كنت أخطب فى الجامع الأزهر كنت أستشعر الرضا لأنى أرى الصفوف أمامي، وأرقب حال المستمعين.. ومع هذا كله فإن المهم هو تيار الإيمان السائد، واستجابة الجمع الحاشد، وتراص الصفوف على الوحدة والإخاء، واستعدادها للتضحية والفداء.. ولا يتم شىء من هذا إلا بدوي القرآن فى الأفئدة وارتباط الأمة بتاريخها وتراثها، وركضها فى ساحات العمل الجاد... إنني أهيب بالمسلمين أن يستبينوا ما أمامهم، ربما تغاضينا قديما عن بعض الخلاف المذهبى أما شغل المسلمين الآن بهذا الخلاف فهو لن يتم إلا لحساب الصهيونية والاستعمار. ص _199(1/176)
حول مفهوم الأمانة الإيمان الحى ينشئ مشاعر كثيرة فى ضمير الإنسان، فالمؤمن يعرف ربه ويثق فيه ويطمئن إليه ويتوكل عليه. وفى الآية ( وبشر المخبتين * الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون )، وتتفاوت هذه المشاعر بتفاوت الأحوال التى يمر المرء بها ولكن أثرها فى ضبط سلوك المؤمن لا ريب فيه، فإن المؤمن الحق لا يقبل التسيب ولا يرتضى الفوضى. ولا يسمح للأهواء أن تعصف به فيجنح حينا ذات اليمن وحينا ذات الشمال.. إنه يحس دقة مسئولياته وضرورة التجاوب معها! ويسمى العلماء هذا الإحساس بالأمانة! فليست الأمانة هنا خلقا خاصا، بل هى جهاز كامل مشرف على ما دق وجل من أعمال الناس. يقول حذيفة بن اليمان: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين رأيت أحدهما وأنا أنتظر الأخر حدثنا: أن الأمانة نزلت فى جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة". هذا هو الحديث الأول وهو كما ترى فى نزول الأمانة ويعنى أنها تستقر فى أعماق الناس وجذورهم التى تتفرع منها أعمالهم ويتعلم الناس من الكتاب والسنة ما يصون أماناتهم وينفيها فهم يتصرفون فى الحياة بنظام ورتابة وتقوى، والمؤمن أمين على الدماء والأموال والأعراض، وأمين على تجويد ما يوكل إليه وحمايته من الغش والنقص! ومع قيام الأمانة فى منابع شعوره يستحيل أن يصدر عنه ما يعاب... هذا هو مكان الأمانة فى المجتمع المسلم، تستقر فى جذره ثم تتفرع فى شئونه كلها.. ثم شرع حذيفة يتحدث عن رفع الأمانة، ونضوب ينابيعها فى الناس وهو حديث يحتاج إلى تقدمة وبيان، فإن الإيمان يزيد وينقص. ومع زيادته تربو الفضائل ومع نقصه تنجم الرذائل. ص _200(1/177)
وقد حذر القرآن أتباعه من جفاء القلوب وسوء علاقتها بالله، ويجئ ذلك من تحول العبادات إلى عادات، والتلاوة إلى شقشقة لسان والأذكار إلى أوراد ميتة، ولما كان أهل الكتاب الأولون قد أصيبوا بهذه العلل على مر الأيام فقد خيفت عدواهم وانسياق المسلمين، فقال تعالى : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ). ومع خور الإيمان تقل الأمانات، ولا تزال تقل حتى تصبح أثرا بعد عين! وهذا هو الحديث الثاني عن رفع الأمانة كما ذكره حذيفة. والحديث يتضمن كلمات غريبة نشرحها بعد إثبات نصها. قال الراوى وحدثنا عن رفعها قال ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه فيظل أثرها مثل أثر الوكت! ـ الوكت تغير لون الجلد ـ ثم ينام النومة فتقبض فيبقى أثرها مثل المجل! ـ والمجل ـ انتفاخ الجلد من معاناة آلة خشنة!. وهذا التعبير من حذيفة لا يعنى إلا طول الأمد الذى تقسو به القلوب وتذهب به الأمانات... والآثار الباقية لا تعنى إلا ما قال الشاعر: لخولة أطلال ببرقة سهمد تلوح كباقى الوشم فى ظاهر اليد! وليست الأمانة التى نأسى عليها وديعة مالية جحدها خائن! إن صور الأمانة كثيرة، فالكلمة تقولها لصاحب لك ثم تلتفت أمانة. والوظيفة التى تتطلب الكفء ليشغلها أمانة. وراتبك الذى لا يجوز أن يزيد بطريقة ما أمانة والمضحك أن حذيفة يشكو قلة الأمناء فى عصره!! تذكرت قول الشاعر: سالت الناس عن خل وفى فقالوا ما إلى هذا سبيل ! تمسك إن ظفرت بذيل حر فإن الحر فى الدنيا قليل ! ص _201(1/178)
تصحيح هام عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام. وحسابهم على الله تعالى "!! هذا الحديث يحتاج إلى بيان حاسم فلابد أن نعرف متى قيل؟ وفى شأن من قيل؟ وإلا أسأنا إلى الإسلام إساءة بالغة. وأول ما ننبه إليه أنه لا صلة له بمقاتلة أهل الكتاب من يهود أو نصارى، فإن هؤلاء ـ بنص الكتاب الكريم ـ لا يقاتلون حتى ينطقوا بالشهادتين، بل من اعتدى علينا منهم قاتلناه حتى نفل حده ونرد كيده ويدفع للمسلمين ثم الدفاع عنه بعد تجريده من سلاحه، أى يؤدى الجزية! فالكلام فى خصوم الإسلام الآخرين وأولهم عبدة الأصنام من جزيرة العرب، وهؤلاء ما نبدؤهم بحرب، ولا نفكر فى إكراههم على دين، بل نعاملهم بالأسلوب الذى عاملهم به النبى صلى الله عليه وسلم والذى شرحه القرآن الكريم فى أكثر من مائتى آية، وتدبر قوله تعالى فى سورة آل عمران بعد الهجرة ( فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد ). نحن المسلمين لا نعرف الإكراه فى الدين ولا نعلن حربا أبدا لإكراه الناس على اعتناق الإسلام. والحديث الذى نشرحه الآن قيل فى ملابسات يجب بيانها، فهو لم يقل أيام البعثة الشريفة، فإن الصلوات الخمس لم يبن لها المسجد ولم يشرع لها النداء إلا بعد الهجرة، صحيح أنها شرعت مثنى فى صدر الإسلام ثم صارت فرائض خمسا ليلة الإسراء والمعراج لكن بناء المجتمع عليها بالغدو والآصال وحشد الأمة فى صفوفها تم فى المدينة المنورة، وانكشف المنافقون عندما كانوا يتخلفون عنها! والواقع أن إقام الصلاة من أركان الإسلام، وأن من خذل عنها أو تقاعس عن أدائها عامدا أو سخر من المؤذن وهو يذكر المسلمين بها(1/179)
فليس بمسلم، وقد كان المنافقون واليهود يفعلون ذلك، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هزوا ولعبا من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم والكفار أولياء واتقوا الله إن كنتم مؤمنين * وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزوا ولعبا ). ص _202
وقد راقبت الملاحدة من شيوعيين وعلمانيين فما رئى أحدهم فى مسجد ولا قادته قدماه خطا لأداء صلاة !... *** ثم ننظر إلى الزكاة، إن العاملين عليها لم يرسلوا إلى جبايتها إلا بعد بيان أنصبتها وتعريف حق الله فيها. أما فى مكة فإن جمهور المؤمنين كان يتطهر من البخل بالعطاء الكثير أو القليل وفق طاقته، ومن بذل نفسه لم يبخل بماله، فلما قامت الدولة وأصبحت مسئولة عن الضعاف وذوى العيلة شرح نظام الزكاة، وتأكد حق الله فى المال فمن نكل عنه قوتل دونه ولا يعرف تاريخ الشرق والغرب حكومة قاتلت من أجل الزكاة إلا دولة الإسلام.. ولما كانت أطماع الكافرين فى دولة الإسلام لا تنقطع أبدا فقد حرص الإسلام أن تخلص له جزيرة العرب، فلا يسمح بسلطة عسكرية أو سياسية لغيره، وليس هذا لحماية الحج فقط بل لحماية القاعدة الدينية للإسلام، ليبق من شاء على دينه. وقد مات الرسول ودرعه مرهونة عند يهودي فى دين عليه، لكن قيام مستعمرات مسلحة، أو قيام إسرائيل أخرى فى جزيرة العرب لا يجوز بتة!! إننى غلغلت البصر فى التاريخ القديم والحديث فوجدت خصوم الإسلام تربد وجوههم لدى سماع الأذان! ورؤية المسجد يؤمه الركع السجود! ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها …)؟ فلتخلص للإسلام جزيرة العرب، ولتنفرد بها سلطته أو دولته بالتعبير الحديث، فإن ديننا ما فكر قط فى إرغام الآخرين على الدخول فيه، ولكن المسلمين فى أرجاء العالم يعانون ممن يريد إباحة الإلحاد لهم، وتيسير الخمر والخنا لأجيالهم.. واستخدام أمكر وسائل الإعلام لصرفهم عن الصلاة والزكاة.. ربما احتاج إلى السلاح من يريد(1/180)
إكراه الناس على باطل، أما نحن المسلمين فنتلو الحق ثم نقول لمن سمعنا: ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ). ومن أراد اغتصاب إرادتنا قاومناه وقومناه حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله.. محمد الغزالى ص _203
أحاديث جمعها الشيخ الغزالي
وأدركته المنية قبل
شرحها والتعليق عليها
ص _204
قال ابن عمر ـ رضى الله عنهما: لم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدع هؤلاء الدعوات حين يمسى وحين يصبح: اللهم إنى أسألك العفو والعافية فى الدنيا والآخرة، اللهم إنى أسألك العفو والعافية فى دينى ودنياى وأهلى ومالى، اللهم استر عوراتى وأمن روعاتى، اللهم احفظنى ملأ بين يدى ومن خلفى وعن يمينى، وعن شمالى ومن فوقى وأعوذ بعظمتك أن أإتال من تحتى. عن أنس- رضى الله عنه- قال: كان أكثر دعاء النبى- صلى الله عليه وسلم: اللهم ربنا آتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. عاد رجلا من المسلمين قد خفت فصار مثل الفرخ. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو بشىء أو تسأله إياه. قال: نعم كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبى به فى الآخرة فعجله لى فى الدنيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه أفلا قلت: اللهم أتنا فى الدنيا حسنة وفى الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، قال: فدعا الله له فشفا.. رواه مسلم والترمذى. عن عبد الله ـ رضى الله عنه ـ عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه كان يقول: اللهم إنى أسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى. عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه- قال : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : اللهم أصلح لى دينى الذى هو عصمة أمرى، وأصلح لى دنياى التى فيها معاشى، وأصلح لى آخرتى التى فيها ميعادى، واجعل الحياة زيادة لى فى كل خير واجعل الموت راحة لى من كل شر. عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ قال : جاءت فاطمة عليها السلام إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ تسأله(1/181)
خادما، فقال لها: قولى اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شىء منزل التوراة والإنجيل والقرآن، فالق الحب والنوى، أعوذ بك من شر كل شىء أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس بعدك شىء، وأنت الظاهر فليس فوقك شىء وأنت الباطن فليس دونك شىء، اقض عنى الدْين وأغننى من الفقر . ص _205
عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يقول : اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت وإليك أنبت وبك خاصمت اللهم إنى أعوذ بعزتك لا إله إلا أنت أن تضلنى أنت الحى الذى لا يموت والجن والإنس يموتون. عن ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان يدعو يقول: رب أعنى ولا تُعن على، وانصرنى ولا تنصر على وامكر لى ولا تمكر على، واهدنى ويسر الهدى لى وانصرنى على من بغى على، رب اجعلنى شكارا لك ذكارا لك رهابا لك، مطواعا لك مخبتا إليك، أواها منيبا، رب تقبل توبتى واغسل حوبتى وأجب دعوتى وثبت حجتى وسدد لسانى واهد قلبى واسلل سخيمة صدرى. عن ابن عمر ـ رضى الله عنهما ـ قال : قلما كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه : اللهم أقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما يُبلغنا به جنتك ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا. عن أبى هريرة ـ رضى الله عنه ـ عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : اللهم انفعنى بما علمتنى وعلمنى ما ينفعنى وزدنى علما، الحمد لله على كل حال وأعوذ بالله من حال أهل النار. عن شداد بن أوس ـ رضى الله عنه ـ قال : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلمنا أن نقول: اللهم إنى أسالك الثبات(1/182)
فى الأمر وأسالك عزيمة الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك لسانا صادقا وقلبا سليما، وأعوذ بك من شر ما تعلم وأسألك من خير ما تعلم وأستغفرك مما تعلم إنك أنت علام الغيوب.(1/183)