بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله باسط الأرزاق ومقدرها.. والصلاة والسلام على خير البرية وقدوتها.. وعلى الآل والصحب الكرام نجوم الأمة وبهجتها.. والتابعين لهم بإحسان، ومن تبعهم من الأمة إلى يوم مبعثها.. أما بعد..
فتأملت حالنا وهمتنا، وحرصنا على الدنيا ولهفتنا، فإذا الحال عجب!!
فصاحب المال يسعى لإنمائه واستثماره..
وصاحب الدار همه تجميل داره..
وكل منا يرى ما في يد غيره ولا يرى ما في يده!!
ثم قلَّبت طرفي في كتاب الله، وسنة رسول الله، وأخبار الرعيل الأول من سلف الأمة؛ فإذا الفرق شاسع بين مراد الله تعالى لنا ومرادنا لأنفسنا..
قال تعالى: { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [الأنفال: 67].
فشتان بين من كانت الدنيا أكبر همه ومنتهى أمله، وبين من جعل قول الباري جلا وعلا: { وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا } [القصص: 77]؛ مقصده ومنهجه..
فكل مغرور بهذه الدنيا.. والكل مفتون بما عند أهلها.. ولنفسي، ولكل مسلم؛ أهدي هذا الكنز الثمين..
في كلمات يسيرة، وعبارات بنور الوحي منيرة..
فهلم لننظر هذه اللآلئ والجواهر، ونسعد بما فيها من حكم ونوادر..
محفوفة بمطلب كريم، وهدف عزيز؛ اسمه «القناعة».
أسأل الله تعالى أن يلهمنا رشدنا ويقينا شر أنفسنا.. آمين.
قصة وعبرة
ذكر أهل السير أنه كان لموسى - عليه السلام - ابن عم يقال له قارون، آتاه الله من الكنوز: { مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ } [القصص: 76]. فطغى وتكبر، وعاند وتجبر، وجحد نعم الله عليه وأنكر، وقال: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي } [القصص: 78]. ولم يسمع لنصح الناصحين، ولا استجاب لدعوة العلماء العارفين..(1/1)
وخرج ذات يوم في زينة عظيمة، وتجمل باهر، من مركب وملبس عليه وعلى خدمه وحشمه، فلما رآه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها، ويميلون إلى نعيمها وزخرفها تمنوا أن يفوزا مثلما فاز، ويحوزوا الذي حاز!
فخسف الله به وبداره الأرض، فعرف القوم خطأهم وأدركوا حكمة ربهم.. { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } [القصص: 82].
وجعل الله تعالى قصة قارون وقومه مسطرة في الكتاب العزيز، ليعتبر المعتبرون، ويرتدع المفسدون..
وتتابعت الأيام والسنون، وتوالت الأحقاب والقرون.. حتى جاء عصرنا وحل زماننا.. وتوارث الخلف مقالتهم، وتمنى كثير من الناس منيتهم..
فبين قائل: ما أوسع رزق فلان وأسعده..
وبين متمنٍ: يا ليت عندي الذي عنده فأهنأ وأفرح معه..
وكأن الكتاب لم يقرع الأسماع، وتذكرته لم تُوع وتُطاع.. { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ } [النساء: 32].
رويدكم يا قوم!! فوالله ما لهذا خلقتم، ولا من أجله وجدتم.. وما المال بغية، ولا الجاه غاية..
وإياكم والمال وفتنته، فقد أخبر الحبيب - صلى الله عليه وسلم - بأنه فتنة أمته.. قال - صلى الله عليه وسلم - : «إن لكل أمة فتنة، وفتنة أمتي المال» [رواه الترمذي].
فهو يأخذ بالألباب، ويورث تباغض الأحباب..
لا يغني كثيره عن لهفة تحصيله، والسعي وراء زيادته وتكثيره.. فطالبه مَثَله كمثل العطشان يشرب من بحر أجاج، كلما زاد شربه؛ زاد عطشه..
قال ابن الجوزي رحمه الله: وأي لذة في جمع المال فضلاً عن الحاجة، فإنه مستعبد للخازن، يبيت حذرًا عليه، ويدعوه قليله إلى كثيره (1) ..
أخي الكريم..
__________
(1) صيد الخاطر (243).(1/2)
جاء حكيم بن حزام - رضي الله عنه - إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم سأله فأعطاه، ثم قال: «يا حكيم، إن هذا المال خضر حلو، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس – أي بتطلع وطمع – لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى» [متفق عليه».
وفي الحديث: «لو كان لابن آدم واد من مال لابتغى إليه ثانيًا، ولو كان له واديان لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» [متفق عليه].
وللمال سلطان على النفوس عجيب، وتسلط على العبد غريب..
فهو لا يزال بصاحبه حتى يورثه حبه، وحب تحصيله والسعي وراءه، وربما ملك قلبه ولبه حتى يتخذه قائده ومرشده..
قال علي - رضي الله عنه - : من أحب الدنيا والدرهم كان عبدًا لهما ما عاش..
ولهذا ذم عليه الصلاة والسلام من اتخذ المال دليله ومرشده، فقال: «تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، إن أعطي رضي، وإن منع سخط» [رواه البخاري].
وما ذاك للمال خاصة، بل كل شهوة وملذة محببة للنفوس ميالة إليها متى ما غلا العبد فيها، وجعل همه تحصيلها ملكت فؤاده، وأصبحت شغله ومراده..
أخي الكريم..
ليس المراد من هذا أن يقف الإنسان عن طلب رزقه، والسعي وراء عيشه، فطلب الرزق مطلب شرعي وأمر إلهي فضلاً عن أنه سلوك بدهي.. قال تعالى: { هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ } [الملك: 15].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوت» [رواه أبو داود وغيره].(1/3)
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجراً الذي أنفقته على أهلك» [رواه مسلم].
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : لأن أموت بين شعبتي جبل أطلب كفاف وجهي أحب إليَّ من أن أموت غازيًا في سبيل الله (1) .
والآيات والآثار في ذلك أكثر من أن تحصى، وأوسع من أن تستقصى..
وكذا فليس المذموم تمني المال ليرفع العبد به في الآخرة منزلته، وينفقه في مرضاة خالقه..
فالمال نعمة عظيمة إذا سلطه العبد فيما ينفعه..
ولهذا غبط عليه الصلاة والسلام من مَلَكَه وفي أوجه الخير أَنفْقَه فقال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار» [متفق عليه].
وعَد ثواب من لم يكن عنده مال وتمناه لإنفاقه في الخير بمثل ثواب من أنفقه، قال عليه الصلاة والسلام: «إنما الدنيا لأربعة نفر عبد رزقه الله مالاً وعلمًا، فهو يتقي فيه ربه ويصل فيه رحمه، ويعلم لله فيه حقًا؛ فهذا بأفضل المنازل، وعبد رزقه الله علمًا ولم يرزقه مالاً فهو صادق النية يقول: لو أن لي مالاً لعملت بعمل فلان، فهو بنيَّته، فأجرهما سواء...» الحديث. [رواه الترمذي].
فهذه أمانٍٍ صادقةٍ، ورغباتٌ محمودة..
وإنما المراد الرضا بقضاء الله والتسليم لمراده، والكفاف عن ما في أيدي الناس وغض الطرف عنها.
__________
(1) صيد الخاطر (145).(1/4)
قال تعالى: { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى } [طه: 31]. قال ابن كثير رحمه الله: أي لا تنظر إلى هؤلاء المترفون وأشباههم ونظرائهم فيه من النعيم؛ فإنما هي زهرة زائلة، ونعمة حائلة (1) .
نعم.. إنها القناعة.. الركن المتين، والكنز الثمين..
القناعة.. النعمة العظمى، والكرامة الكبرى..
من أوتيها فقد أوتي الخير كله..
قال - صلى الله عليه وسلم - : «قد أفلح من أسلم وكان رزقه كفافًا، وقنعه الله بما آتاه» [رواه مسلم].
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: القنوع هو الزاهد وهو الغني (2) .
القناعة راحة النفس واطمئنانها، وبهجة الروح واستقرارها..
فالقنوع أطيب الناس عيشًا، وأهنؤهم نهارًا وليلاً.. رضي عن الله، فرضي الله عنه، وجعل غناه في قلبه..
إذا رأى أهل الدنيا ولهفتهم، وسعيهم وبغيتهم؛ حمد الله أن عافاه مما ابتلاهم..
فهو إن تمنى خيرًا فلسد جوعته، وكسوة عورته، وكفاية من يعول.. وإن تمنى زيادة فلتسخيره في مرضاة سيده وخالقه، وليعلي في الجنة درجته.
أخي الحبيب..
إذا كنت في الدنيا قنوعًا
فأنت ومالك الدنيا سواء
الداء والدواء
إن القناعة مطلب عزيز لا يصل إليه كل أحد.. توفيق يوفق الله العبد إليه، ونعمة يسديها بفضله إليه.. ولكن هناك أمورٌ لو تأملها الإنسان وتبناها قادته بإذن الله للقناعة..
* فمنها.. الاستعانة بالله والتوكل عليه والتسليم لقضائه وقدره..
فهو سبحانه المتصرف في شئون خلقه.. يعطي من يشاء برحمته، ويمنع من يشاء بحكمته.. قال تعالى: { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [سبأ: 36].
فالرزق حاصل بتدبير الله وإرادته، ولا ينفع العبد حرصه ولهفته..
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (3/189).
(2) جامع العلوم والحكم (289).(1/5)
قال بعض السلف: عُدَّ منْع الله إياك عطاء منه لك، فإنه لم يمنعك بخلاً، إنما منعك لطفًا..
ولا يعني ذلك القعود عن العمل والركون إلى الدعة والكسل.. لكن العبد مأمور بالأخذ بالأسباب، والحكيم الخبير موزع الأرزاق..
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : إن رزق الله لا يسوقه حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره (1) .
فليتوكل العبد على ربه وليحسن ظنه به، فهو أدعى لمرضات ربه وتحصيل رزقه..
قال تعالى: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [الطلاق: 2، 3].
وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصًا وتروح بطانًا» [رواه الترمذي وأحمد].
وما حُرمه العبد من رزق فلا سبيل لتحصيله، ولا طريق للوصول إليه.. فهو له غير مكتوب، وفي لوحه غير محفوظ.. فعن جابر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها» [رواه أبو نعيم في الحلية وغيره].
ولربما يكون الحرمان لذنب أصابه أو منكر اقترفه.. قال عليه الصلاة والسلام: «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» [رواه أحمد وغيره].
ثم ليعلم أن التسخط والجزع لا يجلب رزقًا ولا يدفع ضرًا، بل يزيد العبد من ربه نفورًا، ولنعمه جحودًا..
* ومنها.. قدر الدنيا بقدرها، وإنزالها منزلتها:
فهي أحقر من أن يتنافس فيها المتنافسون، وأقل من أن يركن إليها المؤمنون الصادقون.. { يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ } [غافر: 39].
وهي دار فناء وزوال، وتحول وبوار..
__________
(1) جامع العلوم والحكم (289).(1/6)
المحصل فيها لا ضمان لبقائه، والمفقود منها لا حسرة على فواته..
قد نادت الدنيا على نفسها ... لو كان في العالم من يسمع
كم واثق بالعمر أفنيته ... وجامع بددت ما يجمع
وقد جمع العارف بقدرها - صلى الله عليه وسلم - كمال نعيمها بقوله: «من أصبح منكم آمنًا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها» [رواه الترمذي].
فينبغي للعبد أن لا يركن إليها، ولا يعتمد عليها..
وليتمثل وصية الحبيب - صلى الله عليه وسلم - لابن عمر: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». [رواه البخاري].
فلا تجد عابر سبيل يبني الدور، ويشيد القصور، أو يسعى إلى معالي الأمور..
قال ابن رجب رحمه الله تعالى: إن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون كأنه على جناح سفر (1) .
فمن قدر الدنيا بقدرها، وأنزلها منزلتها؛ لم يأس على ما فات منها، ولا فرح بما أتى فيها.. { لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ } [الحديد: 23].
* ومنها.. جعل الهم للآخرة والتنافس فيها..
فهي دار القرار، وبغية الأخيار..
لا تحن النفوس إلا إليها، ولا يهنأ العيش إلا فيها..
قال تعالى: { وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا } [الإسراء: 19].
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة» [متفق عليه].
فهي حقيقة بالسعي والتنافس.. { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } [المطففين: 26].
__________
(1) جامع العلوم والحكم (378).(1/7)
وهكذا.. فمن جعل همه همًا واحدًا – مرضاة الله ورحمته – كفاه الله باقي همومه.. ومن وفق لأن تكون الجنة بغيته ومقصده، وأمله وهمه؛ وفقه الله لغنى نفسه، فلم ينظر لزخارف الدنيا وبهجتها، ولا إلى متاعها وزينتها.. ومع ذلك يأتيه من خيرها ورزقها ما لم يكن يأمل ويتمنى.. ففي المسند وسنن ابن ماجه عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله عليه أمره وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة».
* ومنها.. النظر في حال الصالحين وزهدهم وكفافهم وإعراضهم عن الدنيا وملذاتها..
فهذا إمامهم - صلى الله عليه وسلم - يسأل ربه التقلل من الدنيا والكفاية فيها بما يسد الرمق، فكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا» [متفق عليه].
وترجم ذلك واقعًا ملموسًا في حياته.. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: «خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبع من خبز الشعير» [رواه البخاري].
ووصف الفاروق - رضي الله عنه - حاله عليه الصلاة والسلام فقال: لقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يظل اليوم يلتوي ما يجد من الدقل ما يملأ به بطنه.. [رواه مسلم].(1/8)
وذاك الفتى المدلل – مصعب بن عمير - رضي الله عنه - الذي كان في الجاهلية أطيب أهل مكة ريحًا، وأبهاهم لباسًا، وأرقهم ملمسًا، حينما عمر الإسلام قلبه حول وجهته للآخرة وشمر في مرضاة ربه وزهد في الدنيا، حتى قال عنه خباب بن الأرت - رضي الله عنه - : هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نلتمس وجه الله تعالى، فوقع أجرنا على الله، فمنا من مات ولم يأكل من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير - رضي الله عنه - ، قتل يوم أحد، وترك نمرة – وهي كساء ملون من صوف – فكنا إذا غطينا بها رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه بدا رأسه. [متفق عليه].
ودخل رجل على أبي ذر - رضي الله عنه - فجعل يقلب طرفه في بيته ويعجب منه، فقال: يا أبا ذر أين متاعك؟ فقال: إن لنا بيتاً نتوجه إليه، فقال: إنه لابد لك من متاع ما دمت ها هنا، فقال: إن صاحب المنزل لا يدعنا ها هنا (1) .
وقال الإمام أحمد رحمه الله: أسرُّ أيامي إليَّ يوم أصبح وليس عندي شيء (2) .
الله أكبر.. شتان بين حالنا ولهفتنا وراء السراب وبين حال من عرف قدر الدنيا فشمر نحو عظيم الثواب.
قال الحسن البصري رحمه الله: والذي نفسي بيده لقد أدركت أقوامًا كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه (3) .
* ومنها.. تأمل أحوال من هم دونك..
فغالب الناس وضعهم ميسور، وحالهم مستور..
ولهذا لابد أن يتأمل المسلم حال من هم دونه في الرزق والمكانة ليقدر نعم الله قدرها ويعرف فضل منعمها.. أما في أمور الآخرة والمسابقة إلى درجات الجنة فلينظر إلى الذين جدوا فنالوا وبأعلى درجات الجنة فازوا..
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم» [متفق عليه].
__________
(1) جامع العلوم والحكم (379).
(2) جامع العلوم والحكم (289).
(3) تسلية أهل المصائب (328).(1/9)
* ومنها.. مجاهدة النفس على القناعة والكفاف..
فالنفس تصبو لكل شهوة، وتهفو لكل متعة..
والكيس من على طريق الحق قوَّمَها، وفي مرضاة الله صيرها..
اسمع لهذه المحاسبة اللطيفة من ابن الجوزي وهو يقول:
فخلوت يومًا بنفسي فقلت لها: ويحك اسمعي أحدثك.. إن جمعت شيئاً من الدنيا من وجه فيه شبهة أفأنت على يقين من إنفاقه؟
قالت: لا..
قلت: فالمحنة أن يحظى به الغير ولا تنالين إلا الكدر العاجل والوزر الذي لا يؤمن..
أما لك عبرة في أقوام جمعوا فحازه سواهم، وأملوا فما بلغوا مناهم..؟
كم من طيب العيش لا يملك دينارين، وكم من ذي قناطير منغص.. ربما نزل المرض بصاحب الدار أو ببعض من فيها فأنفق في سنته أضعاف ما ترخص في كسيه، والمتقي معافى.. (1)
* ومنها.. معرفة نعم الله تعالى والتفكر فيها..
فإن المسلم لو تأمل حجله ومعاشه لوجد نعم الله تعالى تحيط به من كل جانب.. يعجز عن شكرها، وتهفو نفوس كثير من الناس إليها.. لا يمثل المال والجاه أي شيء عندها..
من ذلك نعمة السلامة في الأنفس والأبدان، والعافية في الأهل والولدان، والأمن في الدور والأوطان.. وغيرها كثير.
جاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس: أيسرك ببصرك هذه مائة ألف درهم؟ قال الرجل: لا، قال: فبيدك مائة ألف؟ قال: لا، قال فبرجلك مائة ألف؟ قال: لا، ثم ذكر نعم الله عليه، وقال: أرى عندك مئين الألوف وأنت تشكو الحاجة (2) .
بل إن بعض أهل الجاه والأموال ليتمنى ربع العافية مقابل ماله وجاهه..
ولقد رأيت رجلاً موسرًا يبحث عن علاج لابنه وهو مستعد لإنفاق ثروته وأمواله مقابل شفائه..
وأعظم تلك النعم وأجلها.. نعمة الإسلام والهداية..
يوم أن أضل الله كثيرًا من الناس عنها وهداك أنت..
أن يختارك الله لأن تكون من حملة دينه وأهل طاعته وورثة جنته..
__________
(1) صيد الخاطر (143).
(2) عدة الصابرين (167).(1/10)
إنها والله نعمة وأي نعمة.. { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الحجرات: 17]. وقال تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58].
ومن فقه عمر - رضي الله عنه - أنه لما قدم عليه خراج العراق جعل يعد الإبل وجعل يقول: الحمد لله تعالى، وكان معه مولاه يقول والله هذا من فضل الله ورحمته، فقال عمر: كذبت ليس هذا، هو الذي يقول الله تعالى: { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } ، وهذا مما يجمعون (1) .
* ومنها.. أن يعلم أن لبعض النعيم ترة ومفسدة..
فالمال والجاه ليست متعة خالصة، ولا راحة محضة.. فهي لا تخلو من متاعب وحسرات في تحصيلها وإنفاقها وتبعاتها..
إنها تورث الغفلة وتلهي العبد عن الاستعداد لآخرته.. فكثير من الناس ألهاهم المال عن تحصيل صالح الأعمال.. ولذا ذم الله تعالى سيئ المال وأخبر أنه صاد عن كثير من صالحات الأعمال، فقال سبحانه: { كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى } [العلق: 6، 7].
وأكد عليه الصلاة والسلام خوفه على أمته وحذره عليها من تسلط الدنيا والمال..
__________
(1) تفسير القرآن العظيم (2/461).(1/11)
ففي الصحيحين أنه لما قدم أبو عبيدة بن الجراح - رضي الله عنه - بمال من البحرين، سمعت الأنصار بقدومه فوافوا صلاة الفجر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف، فتعرضوا له، فتبسم حين رآهم ثم قال: «أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين؟»، فقالوا: أجل يا رسول الله، فقال: «أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوا فيها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم».
ولذا كان من حكمة الله تعالى أنه يمنع بعض عباده ملاذ الدنيا ونعيمها محبة لهم وحماية..
قال تعالى: { وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } [الشورى: 27].
وقال عليه الصلاة والسلام: «إن الله ليحمي عبده من الدنيا وهو يحبه، كما تحمون مريضكم الطعام والشراب تخافون عليه» [رواه الحاكم].
والمشاهد أن كثيرًا من الناس تتبدل سلوكهم وأخلاقهم ولربما عقائدهم وعباداتهم متى ما طغت الملذات والشهوات عليهم..
ولقد حرص كثير من السلف على التقلل خشية فساد الدين، قال الحسن: إن كان أحدهم ليعيش عمره مجهودًا شديد الجهد والمال الحلال إلى جنبه، يقال له ألا تأتي هذا فتصيب منه؟ فيقول: لا والله لا أفعل، إني أخاف أن آتيه فأصيب منه فيكون فساد قلبي وعملي (1) .
ومن تبعاتها كذلك.. أنها تنقص ثواب صاحبها، وتطيل في الآخرة حسابه..
فقد ذكر عليه الصلاة والسلام أنه: «لن تزولا قدم عبد حتى يسأل عن أربع.. وذكر منها.. عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه» [رواه الترمذي].
__________
(1) جامع العلوم والحكم (296).(1/12)
وعند الترمذي أيضًا عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام» محاسبةً لهم على أموالهم..
وكان كثير من السلف يرون أن ملاذ الدنيا وشهواتها والاستمتاع فيها يعد تعجيلاً لثواب صاحبها..
فقد دخل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآه متوسدًا مضطجعًا على رمال حصير، وليس في البيت إلا صبره من قرض، واهية معلقة، فابتدرت عينا عمر بالبكاء، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما يبكيك يا عمر؟» فقال: يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هام فيه، وأنت صفوة الله من خلقه؟ فقال - صلى الله عليه وسلم - : «أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا» [رواه البخاري].
وكان - رضي الله عنه - يقول: لولا أن تنقص من حسناتي لخالطتكم في لين عيشكم، ولكن سمعت الله عَيَّر قومًا فقال: { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا } [الأحقاف: 20].
قال الفضيل بن عياض: إن شئت استقلل من الدنيا، وإن شئت استكثر منها، فإنما تأخذ من كيسك (1) .
ولا يشمل ذلك بالطبع من جمع المال وسخره لمرضاة خالقه، ومنجاته يوم حسابه.. ففي الصحيحين عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا وهكذا، وقليل ما هم» [متفق عليه]، أي أنفقه في أوجه الخير..
* ومنها أن سيعلم أن في القناعة راحة النفس وسلامة الصدر واطمئنان القلب..
فالقنوع لا ينظر إلى ما في أيدي الناس، ولا إلى ما عندهم من الرزق.. فهو طيب النفس، ومرتاح البال، ومطمئن القلب.. بعيدًا عن الحسد والتباغض.. لأن الحسد لا يأتي إلا من نفس مريضة خبيثة، ترى ما في أيدي الناس ولا ترى ما في يدها..
__________
(1) جامع العلوم والحكم (293).(1/13)
وكذلك فإن الزهد عن ما في أيدي الناس سبيل لنشر المحبة وإشاعة الود والتراحم والألفة، قال عليه الصلاة والسلام: «ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس» [رواه ابن ماجه وغيره].
أخي الحبيب.. قدم أعرابي إلي البصرة فسأل أهلها: من سيد أهل هذه القرية؟ قالوا: الحسن، قال: بم سادهم؟ قالوا: احتاج الناس إلى علمه واستغنى هو عن دنياهم (1) .
* ومنها.. الدعاء..
إذ لابد للعبد من توفيق مولاه وسيده وإرشاده وتسديده..
فليسأل الله تعالى التوفيق والسداد، والكفاف والقناعة والرشاد..
ولهذا كان من دعائه - صلى الله عليه وسلم - : «اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها» [رواه مسلم].
أخي الحبيب:
إن القناعة كنز ليس بالفاني
فاغنم أخي هديت عيشها الفان
وعش قنوعًا بلا حرص ولا طمع
تعش حميدًا رفيع القدر والشاني
ليس الغني كثير المال يخزنه
لحادث الدهر أو للوارث الشاني
إن الغني غني النفس قانعها
موفر الحظ من زهد وإيمان
* * * *
أخيرا
النفس ترغب في كل ملذة، وتهفو إلى كل شهوة..
لكن العاقل الحكيم من هذب نفسه وقومها، وسدد خطاها ونهاها عن هواها..
والنفس كالطفل إن تتركه شب على
حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فليكن همنا للآخرة، وسعينا إليها، وتنافسنا فيها..
ولنقنع في هذه الدنيا بالكفاف، ولنسعد فيها بالعفاف..
فليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس، كما في الصحيحين..
وقديمًا قيل: القناعة كنز لا يفنى..
والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * * *
الفهرس
مقدمة ... 5
قصة وعبرة ... 6
الداء والدواء ... 6
أخيرا ... 6
الفهرس ... 6
* * * *
__________
(1) جامع العلوم والحكم (300). ...(1/14)