كُنَّاشَةُ الشمراني
[المجموعة الأولى]
جمع وإعداد
عبدالله بن محمد الشمراني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل؛ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(102)} [آل عمران]. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً(1)} [النساء]. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً(71)} [الأحزاب].
أما بعد:
فهذا كتابٌ: جامعٌ، ضمَّنْتُه بعضَ الفوائدِ؛ من: المسائل، والقواعد، والضوابط العلمية، وغيرها، مما وقفتُ عليه. علماً بأنَّ ما تركته، أكثر مما ذكرته.
ولم اشترط في التقييد أن تكون فائدة نادرة فحسب، بل قد أعثر على ما كنت أعرفه من قبل، فأقيده؛ لأعرف موضعه إذا احتجت إليه، ولعلّ غيري يستفيد منه.
كما ضمنت هذا الكتاب: بعض الفوائد التي أخذتها من أفواه الرجال، من علمائنا الأفاضل، أو ما وجدته مسطراً في بعض الكتب، من الجواهر، والدرر، سواءً من كتب السابقين، أو المعاصرين، وأخص بالذكر هنا كتاب: ”سير أعلام النبلاء”، ففيه العجب من الدروس العلمية، والتربوية، والدّعوية، لمن طالعه، ولو خَرَجَت فوائده مبوبة، لزادت عن مجلد ضخم.(1/1)
وكذلك: ”طبقات الشافعية الكبرى” للسبكي رَحِمَهُ اللَّهُ، فإنَّ طريقته في كتابه هذا: أنَّه يذكر بعد كل ترجمة، الفوائد المنقولة عن هذا المُتَرْجَم، وبعضها عزيز، ومنها النادر، ثم يتبع ذلك بالمسائل المروية عنه.
علماً بأنَّ هذه الفوائد غير مطردة في كتابه، فتطول أحياناً، وتقصر أخرى، وتنعدم في بعض التراجم، حسب ما تيسر له.
يقول محقِّقا الكتاب، في افتتاحية الطبعة الثانية:
(هذا كتابٌ يضَعُه مصنِّفو العلوم في: فن ”التراجم”، و ”الطبقات”، ويضَعُه (النظر الصحيحُ) في: ”المكتبة العربية” كلِّها، إذ كان مؤلّفُه ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ قد أداره على: ”علوم الشريعة”، و ”اللغة”، و ”الأدب” جميعاً، فهو لا يكاد ينتهي من ترجمة الرجل، على رَسْمِها المعروف، حتى يخلُصَ إلى مسائلَ مِن عِلم الرجل، وفقهه، تُفْضِي به إلى استطراداتٍ، ومُداخَلاتٍ كثيرة، تكاد تأتي على جُمهور ”علوم العربية”) أ.هـ
وبهذه المناسبة أقول: هناك الكثير من الكتب العلمية، غير ما ذكرت، بحاجة إلى قراءة، ومطالعة، ثم تسجيل الفوائد، والقواعد العلمية المدرجة فيها؛ وعلى سبيل المثال:
”المجموع شرح المهذب”؛ للنووي، و ”الإعلام بفوائد عمدة الأحكام” لابن الملقن، و ”منهاج السنة النبوية”؛ لشيخ الإسلام، وكافة كتبه ورسائله، و ”إعلام الموقعين عن رب العالمين” لابن القيم، وكافة كتبه ورسائله، و ”فتح الباري”؛ للحافظ، و ”مقدمة تحفة الأحوذي” للمباركفوري، و”التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل”؛ لذهبي عصره: المعلمي رَحِمَ اللَّهُ الجميع .
أما كتب شَيْخَي الإسلام: ابن تيمية، وتلميذه: ابن القيم رَحِمَهُما اللَّهُ، ففيها أنفسُ الفوائد، يقول فضيلة الشيخ، العلامة، الدكتور: بكر بن عبدالله أبو زيد ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ في كتابه: ”حلية طالب العلم” (ص 178) [من المجموعة العلمية]:
((1/2)
مَنْ نَظَرَ في كُتُبِ هذين الإمامين؛ سلك به النَّظَرُ فيها، إلى التفقُّه طريقاً مستقيماً) أ.هـ
وهناك من يُخرج حصاد قراءته بعد زمن، وعلى كلٍ فمنتقي الفوائد له دورٌ في الانتقاءِ، ولا أدل على ذلك من انتقاء شيخنا العلامة: محمد بن صالح العثيمين ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ في كتابه: ”فرائد الفوائد”.
يقول في مقدمته:
(كنت أقيد بعض المسائل الهامة، التي تمر بي ـ حرصاً على حفظها، وعدم نسيانها ـ في: ”دفتر”، وسميتها: ”فرائد الفوائد”. وقد انتقيت منها ما رأيته أكثر فائدة، وأعظم أهمية؛ وسمّيت ذلك: ”المنتقى من فرائد الفوائد”) أ.هـ
ويقول العلامة: مصطفى السباعي رَحِمَهُ اللَّهُ، في مقدمة كتابه: ”القلائد من فرائد الفوائد”:
(كان دأب ”طلاب العلم” ـ ولا يزلون كذلك ـ أن يقيدوا ما يجدونه من فوائد متناثرة، خلال مطالعاتهم، في أوراق خاصة، يرجعون إليها عند الحاجة لها، وقد كان مما يوصي به علماؤنا طلابَهم: ”قَيِّدُوا العِلْمَ بالكِتابِ”) أ.هـ
وفرحت عندما رأيت كتاب: ”القواعد والفوائد الحديثية من: منهاج السنة النبوية”؛ لأخينا المحقِّق الشيخ البحاثة: علي بن محمد العمران، ووجدت فيه ضالتي المنشودة، فجز الله المُسْتَخْرِج خير الجزاء .
وكم تمنيت أن لا تكون الفوائد المُسْتَخْرَجة خاصة بـ: ”علم الحديث”، ولعلَّ عذره أنَّ الكتاب كتابُ عقيدة، وليس من الكتب الحديثية المختصة، وبما أنَّه احتوى الكثير من الفوائد، والقواعد الحديثية؛ فوجب استخراجها، وتنبيه الناس عليها؛ للاستفادة منها، في مجال الحديث.
مع العلم بأنَّه ذكر الكثير من الفوائد، والقواعد العلمية، غير الحديثية، شكر الله سعيه.
أعود لموضوع هذه الكناشة؛ فأقول: هي فوائد جمعتها منذ سنوات، ولمَّا أردتُ طبعها في كتاب، ونشره، قرأتها مرة أخرى، وهذّبتها، ورتبتها، وجعلت ما تشابه من الفوائد في مكان واحد.(1/3)
ثم بدا لي أن ألحق به بعض البحوث التي كتبتها، لأجل مسألة أشكلت عليَّ، أو لسببٍ آخر.
وهي أنواع؛ فمنها:
تحقيق الصحبة لبعض الصحابة؛ كـ: ”صَخْر بن وَداعة”.
ومنها: الكلام عن الرواة وحالهم؛ كـ: ”عُمَارَة بن حَدِيد”.
ومنها: الكلام على رواية رجل عن آخر؛ كـ: ”حُمَيْد عن أنس”.
ومنها: الكلام على بعض المصنفات؛ كـ: ”كتاب الضعفاء والمتروكين” للنسائي، و ”المُسْتَدْرَك” للحاكم، و ”التَّلْخِيص” للذهبي، و ”طبقات الشافعية الكبرى” للسبكي رَحِمَهُم اللَّهُ.
ومنها: تحقيق بعض القصص، والوقائع، والتي لها أثر في الأحكام الشرعية؛ كـ: تحقيق رواية: ”قصة عبدالله بن الزِّبَعْري”، في محاورته للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأثرها في القول بالعموم.
ومنها: الكلام على الرِّوايات الخاصة بحكم شرعي؛ كـ: ”حكم أكل الحار”، وما ورد فيه.
ومنها: بعض الفوائد العامة؛ كـ: الكلام على قصة: القردة التي زنت، فرُجِمت.
وقسمته إلى قسمين:
القسم الأول:
الفوائد العامة، والقواعد، والضوابط العلمية، والكلام عن الكتب، وما يتعلق بها.
القسم الثاني:
التراجم، والبحوث، والدراسات، وهي في مواضع مختلفة كما سبق.
وبعد أن انتهيت من صفه، رغبت في مراجعته مرة أخرى، على أمل أن أضيف إليه ما استجد عندي، وربما أحذف ما أرى حذفه، ليخرج في مجلد واحد، بدلاً من مجموعات صغيرة، فمرت سنوات، وما زلت أرجو من الله أن ييسر لي وقتًا كافيًا، لمراجعته مرة أخرى.
ولكن قد يطول هذا الأمل؛ فرأيت ـ محبة للفائدة ـ أن أقوم بانتقاء بعض المواد منه، وإنزالها على مجموعات، في الموقع المفضل إلى قلبي ”ملتقى أهل الحديث”، موقع أهل الدين، والخلق، والعلم، ولا أزكي على الله أحدًا، وهو الموقع الوحيد الذي أشارك فيه؛ لما وجدته من جدية الطرح، ومن سمو همة المشاركين فيه أعضاء ومشرفين، وفقهم الله لما يحبه ويرضاه.
وهذه هي المجموعة الأولى، وسأقول بإنزال البقية تبعًا، إنْ شاء الله.(1/4)
وأخيراً: أسأل الله العلي العظيم أن ينفع به، كما نفع بأصوله التي أخذت منها هذه الفوائد.
وصلى الله على نبينا محمد بن عبدالله، وعلى آله، وصحبه، أجمعين،
والحمد لله رب العالمين.
وكتبه:
أبو محمد، عبدالله بن محمد، الحوالي، الشمراني
ص ب: (103871) ـ الرياض: (11616)
Email: Shamrani45@Hotmail.com
[فائدة (1)]
تفاوت الفوائد
تتفاوت الفوائد من شخصٍ لآخر، فقد يعثرُ ”طالبُ علمٍ” ـ أثناء بحثه ـ على فائدةٍ، لم يكن على علمٍ بها، فيفرح بذلك، ويظنُّ أنَّه قد ظفر بِمُنَاه، بينما تكون هذه الفائدةُ معلومةً، مشهورةً، عند غيره من ”طلبةِ العلمِ”.
ولا حرج في ذلك، فالعلمُ إن أَعْطَيْتَه كلك؛ أعطاك بعضه.
والعلمُ بالفوائدِ، أمرٌ نسبي، من شخصٍ لآخر.
والفائدة لا تكون عزيزة، إلا إذا وُجِدَت في غير مكانها.
كأنْ تعثر على قاعدةٍ في ”الجرحِ والتعديلِ” في كتابٍ للعقيدةِ.
أو مسألةٍ فقهيةٍ، محررةٍ، في كتابٍ للسيرةِ، وهكذا.
[فائدة (2)]
فوائد العلامة: إبراهيم بن عيسى رَحِمَهُ اللَّهُ
قال فضيلة الشيخ: عبدالله بن عبدالرحمن جاسر، عن شيخه: إبراهيم ابن صالح بن عيسى رَحِمَهُ اللَّهُ (1270 ـ 1343هـ):
(كان في بداية طلبه العلم، يتجول في البلدان، وإذ وجد ما يعجبه من الفوائد، نقله بخط يده، وكان لا ينفك في غالب أوقاته، من المطالعة، حتى إذا خرج من بيته، أخذ معه بعض المجاميع التي هي بخط يده... وقد كتب بخطه، من الفوائد، ما يُقارب عشرين مجموعاً(1))(2) أ.هـ
وكذا جاء في ترجمة شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب رَحِمَهَ اللهُ.
__________
(1) وبعضهم يرى تقييد ”الفوائد” في نفس الكتاب المأخوذة منه، وغالبهم يجعل من الورقات الأُوَل البيض للكتاب (ما بعد الغلاف) مكاناً لتسويد ”الفوائد” الموجودة في نفس الكتاب، وستأتي الإشارة إلى ذلك من كلام الشيخ بكر.
(2) ”تاريخ بعض الحوادث الواقعة في نجد” (ص 17 ـ 18).(1/5)
قال الشيخ: محمد القاضي ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ في: ”روضة النَّاظِرين” (2/180):
(أكب على المطالعة، وعلى التأليف، وكان يثبت ما يمر عليه من فوائد أثناء قراءته ومطالعته) أ.هـ
[فائدة (3)]
فائدة في تقييد الفوائد، والدرر
قال فضيلة الشيخ، العلامة، الدكتور: بكر بن عبدالله أبو زيد ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ في كتابه: ”حلية طالب العلم” (ص 175 ـ 176) [المجموعة العلمية]:
(ابذُلِ الجُهْدَ في حفظ العلم (حفظ كتاب)؛ لأنَّ تقييدَ العلم بالكتابةِ أمانٌ من الضيَّاعِ، وقَصْرٌ لمسافةِ البحث عند الاحتياجِ، لا سيَّما في مسائلِ العلمِ التي تكونُ في غير مظانِّها، ومن أَجِلِّ فوائده أنَّه عند كِبَرِ السنِّ وضَعْف القوى، يكون لديك مادَّةٌ تَسْتَجِرُّ منها مادَّةً تكتبُ فيها بلا عناءٍ في البحث والتقصِّي.
ولذا فاجعل لك ”كُنَاشاً”(1)، أو ”مُذَكِّرة”، لتقييدِ الفوائدِ، والفرائدِ، والأبحاثِ، المنثورةِ في غيرمظانِّها، وإنِ استعملتَ غلافَ الكتابِ لتقييدِ ما فيه من ذلك؛ فَحَسَنٌ، ثم تنقُلُ ما يجتمعُ لك بَعْدُ في مذكِّرة مرتباً له على الموضوعاتِ، مُقَيِّداً رأْسَ المسألة، واسْمَ الكتابِ، ورقمَ الصفحة والمُجَلَّد، ثم اكْتُب على ما قَيَّدْتَهُ: ”نُقِل”، حتى لا يختلطَ بما لم يُنْقَل، كما تكتبُ: ”بَلَغَ صفحة كذا” فيما وَصَلْتَ إليه من قراءةِ الكتاب، حتى لا يفوتَك ما لم تبلُغْه قراءةً.
وللعُلماء مؤلفاتٌ عدَّة في هذا؛ منها: ”بدائع الفوائد” لابن القيِّم، و ”خبايا الزوايا” للزَّرْكَشي، ومنها كتاب: ”الإغفال”، و ”بقايا الخبايا”، وغيرها.
__________
(1) الكُنَاشَ: بضم الكاف، وتخفيف النون، وشين معجمة، على وزن: (غراب)، لفظ سرياني، بمعنى: المجموعة، والتذكرة. انظر: ”التراتيب الإدارية” 2/270. [بكر أبو زيد](1/6)
وعليه فَقَيِّدِ العلمَ بالكتاب(1)، لا سيَّما بدائعَ الفوائدِ في غير مظانِّها، وخَبَايا الزوايا في غير مساقِها، ودُرَراً منثورةً تراها وتسمعُها تخشى فواتها، وهكذا؛ فإنَّ الحفظَ يضعُفُ، والنِّسيان يَعْرِضُ.
قال الشعبي: (إذا سمعتَ شيئاً فاكْتُبْه، ولو في الحائِطِ).
رواه خَيْثَمةُ(2).
وإذا اجتمع لديك ماشاء اللهُ أن يجتمعَ فَرَتِّبْه في: ”تذكِرة”، أو ”كُنَاش” على الموضوعاتِ، فإنَّه يُسْعِفُك في أضيقِ الأوقاتِ، التي قد يَعْجَزُ عن الإدراكِ فيها كبارُ الأثباتِ) أ.هـ
[فائدة (4)]
أبو شجاع من المعمِّرين
الشيخ، الفقيه: أحمد بن الحسن الأصفهاني ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ مؤلف: ”الغاية والتقريب”، المشهور بـ: ”متن أبي شجاع”؛ وهو من المتون المشهورة في المذهب الشافعي، كان هذه الفقيه من المُعَمَّرين، فقد ولد سنة: (434هـ)، وتوفي سنة: (593هـ)، فيكون عمره (160) سنة.
[فائدة (5)]
العلم بالعلل لا يأتي باليوم، ولا بالسَّنَة، ولا بالقراءة، ولا بالحفظ... ولكن بالتطبيق، والممارسة، والخبرة
جاء في: ”تدريب الراوي” 1/321، عن الإمام: عبدالرحمن بن مهدي رَحِمَهُ اللَّهُ:
(قيل له:
إنك تقول للشيء: هذا صحيح. وهذا لم يثبت.
فعمن تقول ذلك؟
فقال: أرأيتَ لو أتيت الناقد، فأريته دراهمك؛ فقال: هذا جيد. وهذا بهرج.
أكنتَ تسأل عمن ذلك، أو تُسَلِّم له الأمر؟
قال: بل أسلم له الأمر.
قال: فهذا كذلك؛ بطول المجالسة، والمناظرة، والخبرة) أ.هـ
[فائدة (6)]
أنواع القرعة
قال العلامة المعلمي رَحِمَهُ اللَّهُ في : ”التنكيل” (ص 940):
(اعلم أنَّ صورة القرعة، قد تستعمل في أربعة أبواب:
__________
(1) وقد صحَّ نحوُ هذا الأمرِ مرفوعاً إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فانظره في: ”السلسلة الصحيحة” رقم (2026). [بكر أبو زيد].
(2) في كتاب ”العلم” (ص 144)؛ برقم (146)؛ بإسنادٍ صحيح إلى الشعبي.(1/7)
الباب الأولى: أن يقصد بها ابطال حق صاحب الحق، وجعله لمن لا حق له؛ كأن يقول الرجل لصاحبه: ألق خاتمك، وألقي خاتمي، ونقترع [في الأصل: (ونفترع)] عليهما، فأيّنا خرج سهمه؛ استحق الخاتمين.
أو يقول أحدهما: أقارعك على خاتمي هذا، فإن خرج سهمك، أخذته أنت.
أو يتداعيا داراً في يد أحدهما، فيُقال: أقرعوا بينهما، فإن خرج سهم المدعي؛ أخذ الدار.
الباب الثاني : أن يتنازعا ”حقاً”، يمكن أن يكون لهما معاً، ولا دليل يرجح جانب أحدهما؛ كأن يتنازعا داراً بيدهما معاً، ولا دليل لأحدهما، وحلف كل منهما أنَّها جميعاً له، ليس لصاحبه شيئاً منها.
الباب الثالث: أن يختص الحق بأحدهما بعينه، ويتعذر تعيينه؛ كمن طلق بائناً، إحدى امرأتيه، وتعذر تعيينها.
الباب الرابع: أن يكون الحق في الأصل ثابتاً لكل منهما، لكن اقتضى الدليل أن يخص به أحدهما لا بعينه.
فأما الباب الأول: فلا نزاع أن القرعة إذا استعملت فيه، فهي قمار.
وكذلك: الباب الثاني.
وأما الباب الثالث: ففيه نظر، وقد قال بعض الأئمة بصحة القرعة فيه.
وأما الباب الرابع: فهو مورد القرعة. والفرق بينه وبين الأبواب الأولى بغاية الوضوح، فإنَّه إذا اقتضى الدليل أن يخص به أحدهما لا بعينه، فما بقي إلا طلب طريق للتعيين، لا ميل فيه، ولا حيف. فإذا ظفرنا بطريق كذلك، لم يكن فيه إبطال حق ثابت، ولا إثبات حق باطل...) أ.هـ [ارجع لباقي كلامه فإنَّه مهم]
[فائدة (7)]
الأضرار المادية للبدع المحدثة
قال الشيخ: محمود مهدي استانبولي رَحِمَهُ اللَّهُ:
(أعطوني ما تنفقونه من الأموال، التي تبلغ بضعة ملايين يومياً، على المآتم، وتشييد القبور، مما هو بدع، ومنكرات، تغضب الله تعالى، وتعرضكم لناره. وأنا كفيل بأن أغير لكم وجه ”العالم الإسلامي”، فيصبح من دول الدنيا الكبرى)(1) أ.هـ
[فائدة (8)]
زمن خمول البدع
__________
(1) كُتِبَ هذا على ظهر كتاب: ”تقاليد يجب أن تزول” (منكرات المآتم والموالد).(1/8)
جاء في: ”سير الذهبي” (8/144)، عن ليث بن سعد - رضي الله عنه - :
(بلغتُ الثمانين، وما نازعتُ صاحبَ هوىً قطُّ) أ.هـ
فعلَّق الذهبي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ بقوله:
(قلت: كانت الأهواءُ والبدعُ خاملةً في زمن: الليث، ومالك، والأوزاعي، والسننُ ظاهرة عزيزة.
فأما في زمن: أحمد بنِ حنبل، وإسحاق، وأبي عُبيد؛ فظهرت البدعةُ، وامْتُحِنَ أئمةُ الأَثَرِ، ورفَع أهلُ الأهواء رؤوسهم، بدخول الدولة معهم، فاحتاجَ العلماءُ إلى مجادلتهم، بـ: ”الكتاب”، و ”السنَّة”، ثم كثرَ ذلك، واحتجَّ عليهم العلماءُ ـ أيضاً ـ بالمعقول، فطال الجدالُ، وأشتدَّ النزاعُ، وتولَّدت الشُّبهُ. نسألُ الله العافية) أ.هـ
[فائدة (9)]
بداية ظهور البدع
قال شيخ الإسلام ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”التدمرية” (ص 194):
(إنَّما يظهر من البدع أولاً: ما كان أخف [وفي نسخة: أخفى]. وكلما ضعف من يقوم بنور النبوة؛ قويت البدعة) أ.هـ
[فائدة (10)]
”الفكر” الظاهري، أو ”المذهب” الظاهري
يرى أ.د: إحسان عباس(1)، أنَّ الأولى أن يُقال: ”الفكر الظاهري”، ولا يُقال: ”المذهب الظاهري”، ويُوجِّه ذلك بقوله:
(لأنَّ المذهب يقتضي شيخاً، واتباعاً، ولا يمكن أن يكون في ”الظاهرية” أتباع؛ لأنَّ التبعية غالباً ما تقوم على التقليد، والتقليد مهدوم من أساسه في ”الفكر الظاهري”)(2) أ.هـ
[فائدة (11)]
من يُقال له: أبو عمر الضرير، من أهل العلم
جاء في: ”تهذيب التهذيب” (1/412)، وفي ترجمة: حفص بن عمر، أبو عمر الضرير، الأكبر، البصري:
(وممن يُقال له: ”أبو عمر الضرير”، من أهل العلم، ثلاثة:
حفص بن حمزة، مولى المهدي، بـ: ”بغداد”.
وحفص بن عبدالله، الحلواني.
ومحمد بن عثمان بن سعيد، الكوفي).
__________
(1) إحسان عباس: رئيس دائرة اللغة العربية، ولغات الشرق الأدنى، في: ”الجامعة الأمريكية”، ببيروت، ومدير مركز الدراسات العربية، ودراسات الشرق الأوسط.
(2) مقدمته لـ: ”أصول ابن حزم” (1/ج).(1/9)
وليسوا من رجال: ”الستة”، وإنَّما ذكرهم الحافظ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ للتميز.
[فائدة (12)]
فرح المؤمنين بهلاك المَرِيْسِي؛ وحضور أحدهم الصلاة عليه!
هل سمعتم برجلٍ، كان: قصيراً، دميم المنظر، وسخ الثياب، وافر الشعر، كبير الرأس، كبير الأذنين أشبه شيء باليهود، فاسق المعتقد، حياته حافلة بـ: البدع الضالة، المكفرة!؟
ذلكم هو: أبو عبدالرحمن، بِشر بن اليهودي الصباغ غياث، بن أبي كريمة، المَرِيْسِيّ، العدوي، مولاهم (138 ـ 218هـ)(1).
ولما هلك هذا الرجل، فرح المؤمنون بموته، فرحاً عظيماً، واستبشروا بذلك، وشكروا الله على نعمته العظيمة، بأخذ روح هذا المكابر العنيد.
وجعل الصبيان يتعادون بين يدي الجنازة، ويقولون من يكتب إلى مالك، من يكتب إلى مالك!.
فعن بِشر بن الحارث ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ قال:
(جاء موت ـ هذا ـ الذي يُقال له: المَرِيْسِيّ، وأنا في السوق، فلو لا أنَّه كان موضع شهرة، لكان موضع شكر، وسجود، والحمد لله الذي أماته، هكذا قولوا)(2) أ.هـ
ولما هلك المَرِيْسِيّ ـ هذا ـ لم يشهد جنازته من أهل العلم، والسنة إلا: عبيد الشونيزي، فلما رجع من الجنازة، أقبل عليه أهل السنة، قالوا:
يا عدوالله! تنتحل السنة والجماعة، وتشهد جنازة المَرِيْسِيّ؟
قال أنظروني حتى أخبركم:
ما شهدت جنازة، رجوت فيها من الأجر، ما رجوت في شهود جنازته، لما وضع في موضع الجنائز، قمت في الصف فقلت:
اللهم... عبدك ـ هذا ـ كان لا يؤمن برؤيتك في الآخرة، اللهم فاحجبه عن النظر إلى وجهك يوم ينظر إليك المؤمنون.
اللهم... عبدك ـ هذا ـ كان لا يؤمن بعذاب القبر؛ فعذبه اليوم في قبره عذاباً لم تعذبه أحداً من العالمين.
اللهم... عبدك ـ هذا ـ كان ينكر الميزان؛ اللهم فخفف ميزانه يوم القيامة.
__________
(1) انظر في أمره: ”تاريخ بغداد” (7/56 ـ 67)، وما نقلته منه، و ”سير أعلام النبلاء” (10/199 ـ 202).
(2) انظر: ”تاريخ بغداد” (7/67).(1/10)
اللهم... عبدك ـ هذا ـ كان ينكر الشفاعة؛ اللهم فلا تشفع فيه أحداً من خلقك يوم القيامة.
فسكتوا عنه، وضحكوا(1).
قلت: فرح المؤمنين بهلاك المَرِيْسِيّ، يذكرني بفرح المؤمنين بولادة: عبدالله بن الزبير بن العوام القرشي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما.
[فائدة (13)]
التقوى والغناء
عجبت من الإمام الناقد: أبي عبدالله الذهبي رَحِمَهُ اللَّهُ، حيث قال في: ”السير” (10/187)، عن عُلَيَّة أخت أمير المؤمنين هارون الرشيد - رضي الله عنه - :
(أديبة، شاعرة، عارفة بالغناء، والموسيقى، رخيمة الصوت، ذات عِفَّة، وتقوى، ومناقب... كانت لا تغني إلا زمن حيضها، فإذا طهرت أقبلت على التلاوة، والعلم، إلا أن يدعوها الخليفة، ولا تقدر تخالفه.
وكانت تقول: لا غُفِرَ لي فاحشةٌ ارتكبتُها قطُّ، وما أقول في شعري إلا عَبَثاً) أ.هـ
قلت: كيف اجتمع لها: معرفة: الغناء، والموسيقى، مع التقوى.
ولله در ابن القيم ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ إذ يقول:
حب ”الكتاب” وحب ألحان الغناء في قلب عبد ليس يجتمعان
وقد وقفت على ترجمة: إسحاق النَّدِيم، في ”السير” (11/118 ـ 121)، ومما قاله فيه:
(الإمامُ، العلامةُ، الحافظ، ذو الفُنون، صاحبُ الموسِيقَى، والشعر الرائق، والتصانيف الأدبية، مع الفقه، واللغة، وأيامِ النَّاس، والبَصَرِ بالحديث، وعُلُوِّ المرتبة.
ولم يُكْثر عنه الحافظ؛ لاشتغاله عنهم بالدولة.
وعنه: بقيتُ دهراً من عُمُري أُغَلِّس كل يوم، إلى هُشَيْم، أو غيره من المحدثين، ثم أصيرُ إلى الكسائي، أو الفراء، أو ابن غَزالة، فأقرأُ عليه جُزْءاً من ”القرآن” ثم إلى أبي منصور زلزَل(2)، فيُضَاربُني طَرْقَيْن(3) أو ثلاثة، ثم آتي عاتكةَ بنتَ شَهْدة فآخذُ منها صوتاً أو صوتين.
__________
(1) انظر: في هذه القصة: ”تاريخ بغداد” (7/66).
(2) وهو الذي علَّم ”إسحاق” ضرب العود.
(3) الطَّرْق (بالفتح): صوت أو نغمة بالعود، ونحوه.(1/11)
كان ابن الأعرابي يصفُ إسحاق بـ: العلم والصدق والحفظ.
وعنه: أنَّه كان يكرهُ أن ينسب إلى الغناء، ويقول: لأن أضرب على رأسي بالمقارع؛ أحبُّ إليَّ من أن يقال عني: ”مغني”.
وقال المأمون: لولا شهرة إسحاق بالغناء؛ لوليته القضاء) أ.هـ (مختصراً)
وترجم الصفدي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”أعيان العصر” (5/561 ـ 562) لـ: يحيى بن عبدالرحمن، نظام الدين، الجعفري ت (760هـ)، وقال عنه:
(الشيخ، المحدث، الكاتب، الموجوّد، المحرر، الموسيقار... كان له عناية بالحديث... وكان موسيقاراً يتقن اللحون والأنغام...) أ.هـ
وجاء في تراجم بعض العلماء المعاصرين أنَّه كان يعرف الموسيقى، ونظمها؛ ليقرأ بلحونها: ”القرآن الكريم”، نعوذ بالله من الخذلان(1).
[فائدة (14)]
بشر بين: ”الخير”، و ”الشر” ـ وأحمد بين: ”السنة”، و ”البدعة”
قال الذهبي في: ”السير” (10/202)، في ترجمة بِشر المَرِيْسِيّ:
(فهو: ”بِشرُ الشرِّ”. وبِشر الحافي: ”بِشرُ الخير”.
كما أنَّ أحمدَ بنَ حنبل، هو: ”أحمدُ السُّنَّة”. وأحمد بن أبي دُواد: ”أحمدُ البِدْعة”) أ.هـ
[فائدة (15)]
الكافر المبتدع والكافر الأصلي
قال الذهبي في: ”السير” (10/202)، في آخر ترجمة المَرِيْسَيّ:
(ومَنْ كُفِّرَ ببدعةٍ، وإن جَلَّت، ليس هو مثلَ الكافرِ الأصليِّ ، ولا اليهوديِّ، ولا المجوسيِّ.
أبى الله أن يجعلَ مَن آمن بالله، ورسولِهِ، واليومِ الآخر، وصامَ، وصلَّى، وحجَّ، وزكّى، وإن ارتكبَ العظائمَ، وضَلَّ، وابتدع، كمن عانَدَ الرسولَ، وعَبَدَ الوثَنَ، ونبذَ الشرائعَ، وكفَرَ.
ولكن نبرأُ إلى الله من البِدَعِ، وأهلِها) أ.هـ
__________
(1) وانظر: ”تصحيح الدعاء” للعلامة: بكر أبو زيد ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ (ص 265 ـ 266).
وقال شيخ الإسلام في: ”الفتوى الحموية الكبرى”: (نعتقد أنَّ القراءة ”الملحنة”: بدعةٌ، وضلالةٌ) أ.هـ من: ”مجموع الفتاوى” (5/83).(1/12)
قلت: وهذا ليس على اطلاقه؛ فهناك بدعة: ”وحدة الوجود”، وكفر أصحاب هذه البدعة، أشد من كفر اليهود والنصارى.
وهناك أيضاً: بدعة ”المقابر والأضرحة”، وبعض من يأتونها، يكفرون كفراً، هو أشد من كفر مشركي العرب في الجاهلية.
فإن من كفر ببدعة، فقد انسلخ من الإسلام، وصار كافراً، وكونه أشد، أو أخف من الكافر الأصلي، يرجع إلى نوع بدعته التي كفر بها.
ولا عبرة بـ: إيمانه بالله، ورسوله، واليوم الأخر، ولا بصلاته، وزكاته، وصيامه، وحجه، إن كان كافراً.
ولَعَلَّ شيخ الإسلام الذهبي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ أراد المقارنة من جانب واحد، والذي أشار إليه بقوله:
(أبى الله أن يجعلَ مَن آمن بالله، ورسولِهِ... كمن عانَدَ الرسولَ، وعَبَدَ الوثَنَ، ونبذَ الشرائعَ، وكفَرَ).
فمن كفر بشبهة أصرَّ عليها، مع اعتقاده بصحة إسلامه، لا شك انَّه أولى ممن عاند، وحارب الله، ورسوله، وكلاهما في النار!.
[فائدة (16)]
وليمة فتح الباري
شدَّني هذا العنوان، واستهواني لما قرأته في: ”الجواهر والدرر”(1) (2/702 ـ 704)؛ يقول الإمام: السخاوي رَحِمَهُ اللَّهُ:
(
__________
(1) كتاب: ”الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر”؛ لتلميذه السخاوي ت (902هـ)، أعظم، وأوسع، وأوّل ترجمة كُتِبَت عن الحافظ رَحِمَهُ اللَّهُ، وهذا الكتاب تجاوز فن التراجم إلى الفوائد العامة في غالب الفنون، واستطرد المصنف ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في بعض المواضع، حتى خرج عن مقصوده في الترجمة، ولم يغب عن ذهنه هذا الاستطراد حتى أنَّه ينبه في بعض الأحيان إلى أنَّه سيخرج عن المقصود، استطراداً وبحثاً عن الفائدة.(1/13)
لمَّا تَمَّ ـ أي الحافظ ـ ”شرح البخاري” تصنيفاً، ومقابلةً، ومباحثةً، عمل شيخنا مؤلفه ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ وليمةً عظيمة... في يوم: ”السبت”، ثامن شعبان، سنة: اثنتين وأربعين وثمانمائة، وقُرِئ المجلس الأخير منه هناك، وجلس شيخُنا المصنف مع القارئ على الكرسي، وكان يوماً مشهوداً، لم يعهد أهلُ العصر مثله، بمحضر من: العلماء، والقضاة، والرؤساء، والفضلاء، وغيرهم ممَّن لا يحصيهم إلا الله عز وجل(1)...
وكنت هناك وأنا صغير.
وقال الشعراء في ذلك فأكثروا...
وفرَّق عليهم ـ بل على مَنْ كان ملازم الكتابة فيه عنه ـ الذَّهب، وغير ذلك، ودفع ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ لأهل البرسيم المزدَرَع هناك عِوَضاً عمَّا أتلفه دوابُّهم مالاً، حتى لا يتضرَّر أحد بذلك.
وكان المصروف في الوليمة المذكورة نحو خمسمائة دينار، ولم يترك مِنْ أنواع المآكل، والمشارب، والفواكه، والحلوى، وما أشبه ذلك شيءٌ، فكان شيئاً عجباً) أ.هـ
[فائدة (17)]
من مناقب عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه -
قال الإمام البخاري ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”صحيحه” (4/1713 ـ 1714): في كتاب ”التفسير”؛ بَاب قَوْلِهِ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}:
(4387): حَدَّثَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ـ أَنَّهُ قَالَ حِينَ وَقَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِ الزُّبَيْرِ:
(قُلْتُ: أَبُوهُ الزُّبَيْرُ، وَأُمُّهُ أَسْمَاءُ، وَخَالَتُهُ عَائِشَةُ، وَجَدُّهُ أَبُو بَكْرٍ، وَجَدَّتُهُ صَفِيَّةُ).
(
__________
(1) ثم ذكر أعيان الحضور من: الشافعية، والحنفية، والمالكية، والحنابلة، وأرباب المناصب.(1/14)
4388): حَدَّثَنِي عَبْدُاللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ: حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:
(وَكَانَ بَيْنَهُمَا شَيْءٌ(1) فَغَدَوْتُ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقُلْتُ: أَتُرِيدُ أَنْ تُقَاتِلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، فَتُحِلَّ حَرَمَ اللَّهِ؟
فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ ابْنَ الزُّبَيْرِ، وَبَنِي أُمَيَّةَ مُحِلِّينَ، وَإِنِّي ـ وَاللَّهِ ـ لاَ أُحِلُّهُ أَبَداً. قَالَ: قَالَ النَّاسُ: بَايِعْ لِابْنِ الزُّبَيْرِ.
فَقُلْتُ: وَأَيْنَ بِهَذَا الْأَمْرِ عَنْهُ،
أَمَّا أَبُوهُ: فَحَوَارِيُّ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يُرِيدُ: الزُّبَيْرَ،
وَأَمَّا جَدُّهُ: فَصَاحِبُ الْغَارِ، يُرِيدُ: أَبَا بَكْرٍ،
وَأُمُّهُ: فَذَاتُ النِّطَاقِ، يُرِيدُ: أَسْمَاءَ.
وَأَمَّا خَالَتُهُ: فَأُمُّ الْمُؤْمِنِينَ، يُرِيدُ: عَائِشَةَ.
وَأَمَّا عَمَّتُهُ: فَزَوْجُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، يُرِيدُ: خَدِيجَةَ.
وَأَمَّا عَمَّةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجَدَّتُهُ، يُرِيدُ: صَفِيَّةَ.
ثُمَّ عَفِيفٌ فِي الْإِسْلاَمِ، قَارِئٌ لِلْقُرْآنِ).
(4389): حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ: حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ سَعِيدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ:
(
__________
(1) أي: بين: ابن عباس، وابن الزبير - رضي الله عنهم - .(1/15)
دَخَلْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ، فَقَالَ: أَلاَ تَعْجَبُونَ لِابْنِ الزُّبَيْرِ، قَامَ فِي أَمْرِهِ هَذَا، فَقُلْتُ: لَأُحَاسِبَنَّ نَفْسِي لَهُ، مَا حَاسَبْتُهَا لِأَبِي بَكْرٍ، وَلاَ لِعُمَرَ، وَلَهُمَا كَانَا أَوْلَى بِكُلِّ خَيْرٍ مِنْهُ، وَقُلْتُ: ابْنُ عَمَّةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، وَابْنُ الزُّبَيْرِ، وَابْنُ أَبِي بَكْرٍ، وَابْنُ أَخِي خَدِيجَةَ، وَابْنُ أُخْتِ عَائِشَةَ).
[فائدة (18)]
[مختارات من: ”أدب الطلب” للإمام الشوكاني رَحِمَهُ اللَّهُ]
والكتاب كثير الفوائد، عظيم النفع، يحسن بطالب العلم قراءته كاملاً
[1] (حب الظهور والغلب من الأسباب المؤدية إلى ترك الإنصاف)
قال ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ (ص 110):
(ومن جملة الأسباب التي يتسبب عنها ترك الأنصاف، وكتم الحق، وغمط الصواب، ما يقع بين أهل العلم من الجدال والمراء، فإنَّ الرجل قد يكون له بصيرة، وحُسن إدراك، ومعرفة بالحق، ورغوب إليه، فيخطىء في المناظرة، ويحمله الهوى، ومحبة الغلب، وطلب الظهور، على التصميم على مقاله، وتصحيح خطئه، وتقويم معوجه بالجدال والمراء.
وهذه الذريعة الإبليسية، والدَّسيسة الشيطانية، قد وقع بها من وقع، في مهاوٍ من التعصبات، ومزالق من التعسفات، عظيمة الخطر، مخوفة العاقبة) أ.هـ
[2] (التصنيف الحق)
وقال (ص 159 ـ 160):
((1/16)
إنَّما التصنيف الذي يستحقّ أن يُقال له تصنيف، والتأليف الذي ينبغي لأهل العلم، الذين أخذ الله عليهم بيانه، وأقام لهم على وجوبه عليهم برهانه، هو أن ينصروا فيه الحقّ، ويخذلوا به الباطل، ويهدموا بحججه أركان البدع، ويقطعوا به حبائل التعصّب، ويوضّحوا فيه للناس ما نزل إليهم من البيّنات والهدى، ويبالغوا في إرشاد العباد إلى الإنصاف، ويحبّبوا إلى قلوبهم العمل بـ: ”الكتاب” و ”السنّة”، وينفّروهم من اتّباع محض الرأي، وزائف المقال، وكاسد الاجتهاد، ولا يمنعهم من ذلك ما يخيّله لهم الشيطان، ويسوّله، من أنَّ هذا التصنيف لا ينفق عند المقلدة، أو يكون سبباً لجلب فتنة، أو نزول مضرّة، أو ذهاب جاه، أو مال، أو رئاسة، فإنَّ الله ناصر دينه، ومتمّم نوره، وحافظ شرعه، ومؤيّد مَنْ يؤيّده، وجاعل لأهل الحق، ودعاة الشرع، والقائمين بالحجة، سلطاناً، وأنصاراً، وأتباعاً، وإن كانوا في أرض قد انغمس أهلها في موجات البدع، وتكسّعوا في متراكم الضلال) أ.هـ
[3] (ما يجب على العلماء أن يدينوا به)
وقال (ص 198):
(لا ينبغي لعالم أن يدين بغير ما دان به السلف الصالح، من: الصحابة، والتابعين، وتابعيهم، من الوقوف على ما تقتضيه أدلة: ”الكتاب”، و ”السنَّة”، وإبراز الصفات كما جاءت، وردّ علم المتشابه إلى الله سبحانه، وعدم الاعتداد بشيء من تلك القواعد المدونة في هذا العلم، المبنية على شفى جرف هار، من أدلة العقل التي لا تعقل، ولا تثبت إلا بمجرد الدعاوي، والافتراء على العقل، بما يطابق الهوى، ولا سيما إذا كانت مخالفة لأدلة الشرع الثابتة في: ”الكتاب”، و ”السنة”، فإنَّها حينئذ ”حديث خرافة”، ولعبة لاعب.
فلا سبيل للعباد، يتوصلون به إلى معرفة ما يتعلق بالرب سبحانه، وبالوعد والوعيد، والجنة والنار، والمبدأ والمعاد، إلا ما جاءت به الأنبياء ـ صلوات الله عليهم وسلامه ـ عن الله سبحانه، وليس للعقول وصول إلى تلك الأمور.(1/17)
ومن زعم ذلك فقد كلف العقول ما أراحها الله منه، ولم يتعبدها به.
بل غاية ما تدركه، وجلّ ما تصل إليه، هو: ثبوت الخالق الباري، وإنَّ هذه المصنوعات لها صانع، وهذه الموجودات لها موجد.
وماعدا ذلك من التفاصيل التي جاءتنا في كتب الله عزّ وجلّ، وعلى ألسنة رسله، فلا يُستفاد من العقل، بل من ذلك النقل، الذي منه جاءت، وإلينا به وصلت) أ.هـ
[4] (امتناع طالب العلم عن الكلام في علمٍ لا يتقنه)
وقال (ص 208):
(إنَّي لأعجبُ من رَجُل يدَّعي الإنصاف، والمحبَّة للعلم، ويجري على لسانِهِ الطَّعنُ في علمٍ من العلوم، لا يدري به، ولا يعرف موضوعه، ولا غايتَه، ولا فائدتَه، ولا يتصوَّره بوجهٍ من الوُجوه، وقد رأينا كثيراً مِمَّن عاصَرَنا ورأيناه يشتغل بالعلم، وينصف في مسائل الشَّرع، ويقتدي بالدَّليل، فإذا سمع مسألة في فنٍّ، من الفنون التي لا يعرفها؛ كعلم الْمَنْطِق، والكلام، والْهَيْئة، ونحو ذلك، نفر منه طبْعه، ونفَّرَ عنه غيرَه، وهو لا يدري ما تلك المسألة، ولا يعقلُها قطّ، ولا يَفْهَمُ شيئاً منها، فما أحقَّ من كان هَكذا بالسُّكوت، والاعتراف بالقُصور، والوقوف حيثُ أوقَفَه الله، والتَّمسُّك في الجواب ـ إذا سئل عن ذلك ـ بقوله: لا أدري) أ.هـ
[فائدة (19)]
فضل العالم على المتعلم ـ للشيخ مكانته، وإن كان تلميذه أعلى مرتبة منه
قال فضيلة الشيخ: أبو بكر جابر الجزائري حَفِظَهُ اللَّه، تعليقاً على قوله تعالى: {قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً(66)} [الكهف].
(في قول موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ}: من حسن الأدب، والتَّلطُّف في السؤال، وتواضع الطالب للشيخ، الشيء الكثير.(1/18)
وفي الآية: دليلٌ على أنَّ المتعلم تابع للعالم، وإن تفاوتت مرتبتهما، وما كان موسى إلاّ أفضل من الخضر، ولكنَّه بحكم أنَّه تابع للخضر العالم، تواضعَ في لطفٍ)(1) أ.هـ
[فائدة (20)]
الرطانة
قال فضيلة الشيخ، الأستاذ، الدكتور: ناصر بن عبدالكريم العقل ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ في مقدمته لكتاب: ”اقتضاء الصراط المستقيم” (1/60 ـ 62):
(لنا وقفة عند ما يسميه المؤلف [أي: شيخ الإسلام] ”الرطانة”، وهو تعلم المسلمين، وتكلمهم بغير ”اللغة العربية”، وهذه المسألة من القضايا الملحة، التي تواجه المسلمين في هذا العصر، والتي تحتاج إلى بحث طويل، واستجلاء للحكم الشرعي المفصّل فيها، ولست هنا انتزع، ولا أصدر أحكاماً، بقدر ما استخلص فوائد، وتوجيهات، من كلام المؤلف في هذا الموضوع، الذي يبين لنا الحكم العام، ومواقف السلف نحو اللغات الأخرى، وآثارها على دين المسلمين ومعتقدهم.
فقد بين لنا أنَّ للصحابة [ - رضي الله عنهم - ] مواقف معروفة نحو ذلك، تتمثل بقول عمر: (إياكم ورطانة الأعاجم)، فكانوا يكرهون أن يتكلم المسلم بغير ”العربية”، على وجه الاعتياد والدوام، ولغير ضرورة.
أما عند الحاجة والضرورة، وما تقتضيه مصلحة المسلمين العامة، فإنَّ ذلك جائز، وقد جاءت ”السنة” به، فقد أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، زيد بن ثابت أن يتعلم ”السريانية”، لغة يهود، ليقرأ في كتبهم، ويكتب بها إليهم، ويترجم كلامهم، ويأمن مكرهم.
كما كان ”الخلفاء الراشدون” يفعلون ذلك، وكتبوا الدواوين بغير ”العربية”، إلى أن صارت القدرة على تعريبها، وكان المسلمون مضطرين لمخاطبة الشعوب، التي دخلت الإسلام، بعد الفتوح بلغاتها كذلك.
أما التكلم بغير ”العربية” لغير ضرورة، فإنَّ السلف كانوا يكرهونه أشد الكراهية، وينهون عنه، ولهم في ذلك أقوال معروفة، سرد المؤلف الكثير منها.
__________
(1) ”نهر الخير”، بهامش تفسيره: ”أيسر التفاسير” 3/274 ح (1).(1/19)
وكانوا يرون أنَّ ”العربية” من مستلزمات الدين، وغيرها شعار النفاق، لذلك لما فتحوا الأمصار، سارعوا إلى تعليم أهلها ”العربية” حتى سرت سريان النور في الظلام، رغم صعوبة ذلك، ومشقته.
فـ ”العربية” هي لغة الإسلام، ولغة ”القرآن”، ولا يتأتّى فهم ”الكتاب” و ”السنة”، فهماً صحيحاً، سليماً، إلا بها، فهي من مستلزمات الإسلام، وضرورياته، وإهمالها والتساهل بها، لا بد أن يضعف من فهم الدين، ويساعد على الجهل به.
وأرى أنَّه من الخطأ الفادح: مزاحمة ”اللغة العربية”، باللغات الأخرى، في مناهج التعليم في البلاد الإسلامية على العموم، والعربية على الخصوص.
فليس هناك أي مبرر، يجعل اللغات الأخرى، تفرض في المدارس، على جميع الطلبة، ولا على غالبهم، وفي كل المستويات، والواقع يثبت ما أقوله، فإنَّ طلاب المدارس التي يفرض فيها ”اللغات الأجنبية” اليوم، هم أضعف في ”اللغة العربية”، في حين أنَّهم لم يكتسبوا من اللغات الأخرى شيئاً يذكر، فهم كالمنبتِّ: لا ظهراً أبقى، ولا أرضاً قطع، كما أنَّها تشكل عبئاً ثقيلاً، وشبحاً مخيفاً، أمام أغلب الطلبة) أ.هـ
[فائدة (21)]
لا يغض ذلك من قدرهم شيئاً
”كل يؤخذ من قوله، ويرد، إلا صاحب هذا القبر” عبارة مشهور متداولة بين أهل العلم رَحِمَهُم اللَّهُ.
وقد أُخِذَ على بعض أهل العلم بعض المآخذ، إما في التصنيف، أو في مناهجهم العلمية، والعصمة للرسول - صلى الله عليه وسلم - وحده، ومع ذلك لا يُغض من قدرهم شيئاً؛ ومما أُخِذَ، ونُبِّهَ على عدم التعويل عليه:
(سكوت) أبي داود، و (توثيق) ابن حبان، و (تحسين) الترمذي، و (تصحيح) ابن حبان، والحاكم، والضياء المقدسي، و (جرح) الأقران في بعضهم، و...
[فائدة (22)]
فوائد من ترجمة ابن عُلَيَّة
وهو: أبو بِشْر، إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، الأَسَدِيّ، مولاهم، البصري (110ـ 193هـ).
مما جاء في ترجمته، من: ”تهذيب التهذيب” (1/275 ـ 278):
((1/20)
كان يقول: من قال: ”ابن عُلَيَّة” فقد اغتابني.
وعن شعبة، قال: إسماعيل بن عُلَيَّة: ريحانة الفقهاء.
وعنه: ابن عُلَيَّة: سيد المحدثين.
قال ابن المديني: بِتُّ عنده ليلة، فقرأ ثلث ”القرآن”، ما رأيته ضحك قط)(1) أ.هـ
[فائدة (23)]
المعتزلة والحديث
ترجم الخطيب البغدادي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ لأبي الحسين البصري، المعتزلي؛ فقال في: ”تاريخه” (3/100):
(وكان يروي حديثاً واحداً، سألته، فحدثنيه من حفظه، قال: قرئ على هلال بن محمد... وأنا أسمع... عَنْ شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ رِبْعِيٍّ، عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ البدري،قال: قَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
”إنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ الأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ، فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ”)أ.هـ
قال الصفدي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”الوافي بالوفيات”(2) (34/125):
(كأنَّ هذا الحديث، من خواص ”المعتزلة”؛ فإنَّ جماعة من كبارهم، لم يكن عندهم رواية حديث غيره)أ.هـ
قال عبدالله الشمراني عفا الله عنه:
كيف يكون عند من عَظَّم العقل، وقدَّمه على النقل حديث!؟
(تنبيه):
ذكر الحافظ في: ”لسان الميزان” (3/386 ـ 387)، أنَّ القاضي عبدالجبار أملى عدة أحاديث، كما روى عن: أبي الحسن القطان، والزبير ابن عبدالواحد، وعبدالرحمن بن حمدان، وروى عنه: أبو القاسم التنوخي، وجماعة، ونقل عن الخليلي قوله: (كتبت عنه، وكان ثقة في حديثه، لكنه داع إلى البدعة، لا تحل الرواية عنه) أ.هـ
ولكن قوله: (أملى عدة أحاديث). لا يجعله ـ وقومه ـ في مصاف ”أهل الحديث”.
[فائدة (24)]
حديثٌ مسلسلٌ بالشعراء
قال الخطيب البغدادي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”تاريخه” (3/98):
__________
(1) وانظر: ”السير” (9/107).
(2) نقلاً عن مقدمة د. أبو زنيد لـ: ”شرح العمد”؛ لأبي الحسين البصري (1/16).(1/21)
أنبأنا القاضي أبو العلاء الواسطي... نبأنا عبدالله بن موسى السلامي الشاعر ـ بفائدة ابن بكير ـ قال: حدثني أبو علي مفصل بن الفضل الشاعر، قال: حدثني خالد بن يزيد الشاعر: حدثني أبو تمام حبيب بن أوس الشاعر: حدثني صهيب بن أبي الصهباء الشاعر: حدثني الفرزدق الشاعر: حدثني عبدالرحمن بن حَسَّان بن ثابت الشاعر، قال: حدثني أبي حَسَّانُ بن ثابت الشاعر، قَاَلَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
((اهْجُ الْمُشْرِكِينَ، وَجِبْرِيل مَعَكَ)).
وقال لي: ((إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً)).
أفدت هذا الحديث عن: أبي العلاء، جماعة من أصحابنا البغداديين، والغرباء، مع تعجبي. فإنَّ عبدالله بن موسى السلامي صاحب: عجائب، وطرائف) أ.هـ وانظر ما بعده، فإنَّه مهم.
وقد وقفت على رسالة لطيفة للسيوطي بعنوان: ”الفانيد في حلاوة الأسانيد”، ذكر فيها بعض الأسانيد العجيبة؛ منها:
حديث اجتمع فيه خمسة من الصحابة - رضي الله عنهم - يروي بعضهم عن بعض.
حديث اجتمع فيه أربع صحابيات ـ رضي الله عنهن ـ ثنتان من أزواجه - صلى الله عليه وسلم - ، وثنتان ربيبتان له - صلى الله عليه وسلم - .
حديث فيه: رواية صحابي، عن تابعي، عن صحابي - رضي الله عنهم - .
حديث من رواية: أحمد بن حنبل، عن الشافعي، عن مالك - رضي الله عنهم - .
حديث في إسناده جماعة من الكُتَّاب.
حديث في إسناده ستة من الخلفاء.
[فائدة (25)]
التحمل والأداء
جاء في: ”سير أعلام النبلاء” (18/352)، عن يحيى بن منده، عند حديثه عن عمه عبدالرحمن بن منده رَحِمَهُما اللَّهُ، قال:
(قرأتُ عليه قولَ شُعبة: من كتبتُ عنه حديثاً، فأنا له عبد.
فقال عمي: من كتبَ عني حديثاً فأنا له عبد) أ.هـ
[فائدة (26)]
المحدثات عند الشافعي - رضي الله عنه -
جاء في: ”سير الذهبي” (10/70)، عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - :
(المُحْدَثاتُ من الأمور ضربان:(1/22)
ما أُحدِثَ يُخالِفُ: كتاباً، أو سُنَّةً، أو أثراً، أو إجماعاً؛ فهذه البدعة ضلالة.
وما أُحْدِثَ من الخير، لا خلافَ فيه لواحدٍ من هذا؛ فهذه مُحدثة غيرُ مذمومة، قد قالَ عُمَرُ في قيام رمضان: نِعْمَت البِدعةُ هذهِ(1).
يعني: إنَّها مُحدثةٌ لم تكن، وإذا كانت فَليس فيها ردٌّ لما مَضى) أ.هـ
[فائدة (27)]
أكثر النَّاسِ صَواباً: أهل الحديث
جاء في: ”سير الذهبي” (10/70)، عن الإمام الشافعي - رضي الله عنه - :
(عليكم بأصحابِ الحديث؛ فإنَّهم أكثر الناسِ صوباً) أ.هـ
[فائدة (28)]
الشافعي إمامٌ، لغةً، وشرعاً
إمامة الشافعي في الدين، لا جدال فيها، والكلام هنا، على إمامته في اللغة؛ فجاء في: ”سير أعلام النبلاء” (10/73 ـ 74)، عن الحافظ أبي نعيم ابن عدي ت (323هـ):
(سمعتُ الربيعَ مراراً، يقولُ: لو رأيتَ الشافعيَّ، وحسنَ بيانِه، وفصاحته، لعجبتَ، ولو أنَّه ألَّفَ هذه الكتبَ، على عربيَّتِه التي يتكلمُ بها معنا في المُنَاظرة، لم نقدِرْ على قراءة كُتُبِه؛ لفصاحتِه، وغريبِ ألفاظِه، غير أنَّه كان في تأليفه يُوضِحُ للعَوَامِّ) أ.هـ
ويقول العلامة: أحمد شاكر ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في مقدمته لـ: ”الرسالة” (ص 13 ـ 14):
(كتاب: ”الرسالة”، بل كتب الشافعي أجمعُ، كُتبُ: ”أدبٍ”، و ”لغةٍ”، و ”ثقافةٍ”، قبل أنْ تكون كُتبَ: ”فقهٍ”، و ”أصول”؛ ذلك أنَّ الشافعي لم تُهَجِّنْه عُجْمَةٌ، ولم تَدخل على لسانه لكنةٌ، ولم تُحفظ عليه لحنة، أو سقطةٌ.
قال عبدالملك بن هشام، النحوي، صاحب: ”السيرة”:
”طالت مجالستنا للشافعي، فما سمعتُ منه لحنةً قط، ولا كلمةً غيرُها أحسنُ منها”.
وقال أيضاً:
”جالستُ الشافعي زماناً، فما سمعتهُ تَكَلَّمَ بكلمةٍ، إلاِّ إذا اعتبرها المعتبرُ، لا يجد كلمةً في العربية أحسن منها”.
وقال أيضاً:
”الشافعيُّ كلامه: لغةٌ، يحتجُّ بها”.
وقال الزعفراني:
__________
(1) انظر: ”صحيح البخاري” (3/707)؛ برقم (1906).(1/23)
”كان قوم من أهل العربية، يختلفون إلى مجلس الشافعي معنا، ويجلسون ناحية، فقلت لرجل من رؤسائهم:
إنَّكم لا تتعاطون العلم؛ فلِم تختلفون معنا؟
قالوا: نسمع لغة الشافعي”.
وقال الأصمعي:
”صححتُ أشعار ”هذيل”، على فتى من قريش؛ يُقال له: محمد بن إدريس الشافعي”.
وقال ثعلب:
”العجبُ: أنَّ بعض الناس يأخذون اللغة عن الشافعي، وهو من بيت اللغة، والشافعي يجب أن يؤخذ منه اللغةُ، لا أنْ يؤخذَ عليه اللغةُ”.
يعني: يجب أنْ يحتجوا بألفاظه نفسها، لا بما نقله فقط.
وكفى بشهادة الجاحظ، في: أدبه وبيانه، يقول:
”نظرتُ في كتب هؤلاء النَّبَغَة، الذين نبغوا في العلم؛ فلم أرَ أحسنَ تأليفاً، من المُطَّلبيِّ، كأنَّ لسانَه ينظمُ الدرَّ”.
فكتبه كلها: مُثُلٌ رائع من الأدبِ العربيِّ النقيِّ، في الذروة العليا من البلاغة، يكتب على سجيَّتِه، ويُمْلي بفطرتِه، لا يتكلف، ولا يتصنَّع، أفصحُ نثرٍ تقرؤه، بعد: ”القرآن”، و ”الحديث”، لا يساميه قائلٌ، ولا يداينه كاتبٌ) أ.هـ
وقال في: فهرس: الفوائد اللغوية المستنبطة من: ”الرسالة” (ص 695):
(الشافعي لغته حجة؛ لفصاحتهِ، وعلمِهِ بالعربية، وأنَّه لم يدخل على كلامه لكنة، ولم يُحفظ عليه خطأ، أو لحن، وأصل الربيع من هذا الكتاب: ”كتاب الرسالة”، أصلٌ صحيحٌ ثابتٌ، غاية في الدقة والصحة، فما وجدناه فيه، مما شذ عن القواعد المعروفة في العربية، أو كان على لغة من لغات العرب؛ لم نَحْمِلْه على الخطأ، بل جعلناهُ شاهداً لِما اُسْتعمل فيه، وحجةً في صحته) أ.هـ
[فائدة (29)]
أول من جمع نصوص الشافعي
قال السبكي في: ”الطبقات الكبرى” (4/9 ـ 10):
(وفي كلام شيخِنا الذَّهبي أنَّه ـ أي: البيهقي ـ أول من جمع نصوصَ الشافعيّ، وليس كذلك، بل هو آخر من جمعها؛ ولذلك استوعب أكثرَ ما في كتب السابقين، ولا أعرف أحداً بعده جمع النصوص؛ لأنَّه سدَّ الباب على مَن بعده) أ.هـ(1/24)
قلت: أول من جمع نصوص الشافعي(1):
الإمام: القاسم بن محمد بن علي الشاشي ت (400هـ)، صنف: كتاب: ”التقريب”، في نصوص الشافعي، وهو من أجل كتب المذهب، وذكر البيهقي في: ”رسالته” لأبي محمد الجويني ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ أنَّ كتاب: ”التقريب”، أوثق الكتب، التي تناولت نصوص الإمام الشافعي - رضي الله عنه - ، وصرح في: ”رسالته” أنَّه (أوثق) من: ”جمع الجوامع”، و ”عيون المسائل” الآتيان(2).
ثم: الإمام: أحمد بن محمد بن محمد الزُّوزَني، صنف: ”جمع الجوامع”، في نصوص الشافعي(3).
ثم: الإمام: أحمد بن الحسن بن سهل الفارسي، صنف: ”عيون المسائل”(4).
ثم: البيهقي، رَحِمَ اللَّهُ الجميع.
[فائدة (30)]
مذهب الشافعي، والقواعد الأربع
قال أبي بكر الحِصْني ت (829هـ)، في كتابه: ”القواعد” (1/203):
(قال الهروي:
رد القاضي: حسين جميع مذهب الشافعي، إلى أربع قواعد:
الأولى: اليقين لا يُزال بالشك... الثانية: أنَّ المشقة تجلب التيسير... الثالثة: الضررُ مُزَال... الرابعة: تحكيم العادة، والرجوع إليها...
وزاد بعض الفضلاء قاعدة خامسة؛ وهي: أنَّ الأمور بمقاصدها) أ.هـ (مختصراً)
وقد ذكر ”محقق الكتاب”، انًّه وجد تعليقاً على جانب المخطوط؛ نصه:
(وزاد بعضهم سادسة؛ وهي: أنَّ الميسور لا يسقط بالمعسور) أ.هـ
قلت: والقواعد الخمس الأولى، هي المعروفة بـ: ”القواعد الخمس الكلية”.
[فائدة (31)]
الشافعي لم يحلف بـ: ”الله” قط
جاء في: ”طبقات الشافعية الكبرى” (2/129):
(قال حرملة:
سمعتُ الشافعيّ، يقول:
ما حلفتُ بالله صادقاً، ولا كاذباً قط) أ.هـ
__________
(1) انظر مقدمة محقق: ”معرفة السنن والآثار” (1/35 ـ 37).
(2) انظر: ”طبقات الشافعية الكبرى” (3/472 ـ 477).
(3) انظر: ”طبقات الشافعية الكبرى” (3/301 ـ 302).
(4) انظر: ”طبقات الشافعية الكبرى” (2/184 ـ 186).(1/25)
قلت: والراوي هو: الإمام: أبو حفص، حَرْملة بن يحيى بن عبدالله، التُّجِيبِيّ (166 ـ 243هـ)، من أصحاب الإمام الشافعي - رضي الله عنه - .
[فائدة (32)]
منزلة طلب العلم عند الإمام الشافعي - رضي الله عنه -
جاء في: ”طبقات الشافعية الكبرى” (2/129)، عن حَرْمَلة، قال:
(وسمعته ـ أي:الشافعيّ ـ يقول:
ما تُقُرِّبَ إلى الله ـ عز وجل ـ بعد أداء الفرائض، بأفضل من طلب العلم) أ.هـ
قلت: وطلب العلم، أفضل من النوافل، والجمع بينهما حسن، لمن وفقه الله.
جاء في :”سير أعلام النبلاء” (8/97)، عن ابن المبارك رَحِمَهُ اللَّهُ:
(ما رأيتُ أحداً ارتفعَ مثل مالك، ليس لَه كثيرُ صلاة، ولا صِيام، إلا أن تكونَ له سريرةُ) أ.هـ
فعلق الذهبي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ على ذلك بقوله:
(قلت: ما كان عَليه من العلم، ونَشْرِه، أفضَلُ مِن نوافل الصومِ، والصلاة، لمن أراد به اللهَ) أ.هـ أي: لمن أراد بالعلم وجه الله.
[فائدة (33)]
العلماء ونصرة الدين
جاء في: ”سير الذهبي” (18/352)، عن سعد الزَّنْجَاني:
(حفظَ اللهُ الإِسلامَ برجلين: أبي إسماعيل الإنصاري، وعبدِالرحمن بنِ مَنْدة) أ.هـ
وسيأتي أنَّ الله حمى الإسلامَ ”يوم الردة” بأبي بكر - رضي الله عنه - ، و ”يوم المحنة” بأحمد بن حنبل - رضي الله عنه - .
[فائدة (34)]
الإمام أحمد ـ الصِّدِّيق الثاني
أُطْلِقَ على الإمام أحمدَ بن حنبل - رضي الله عنه - ”الصِّدِّيق الثَّاني”(1)؛ لشدة وقوفه زمن الْمِحْنَة، تشبيهًا بشدة وقفة أبي بكر الصدَّيق - رضي الله عنه - زمن الرِّدَّة؛ لذا قال الإمام علي بن المديني رَحِمَهُ اللَّهُ:
(إنَّ اللهَ ـ عزَّ وجلَّ ـ أعزَّ هذا الدينَ برجلين ليس لهما ثالثٌ: أبو بكرٍ الصِّدِّيق يوم الرِّدة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة).
__________
(1) انظر تسميته بـ ”الصِّدِّيق الثَّاني” في: ”شذرات الذهب” (7/725).(1/26)
أخرجه الخطيب في: ”تاريخ بغداد” (4/418)، ومن طريقه: ابن الجوزي في : ”مناقب الإمام أحمد” (ص 149)، وعبدالغني المقدسي في: ”محنة الإمام أحمد” (ص 31).
وأخرجه ابن الجوزي في : ”المناقب” (ص 149) من طريقٍ آخر وزادَ:
(وقد كانَ لأبي بكرٍ الصِّدِّيق أعوانٌ وأصحابٌ، وأحمدٌ ليسَ له أعوانٌ ولا أصحابٌ)(1).
[فائدة (35)]
نقصان العلم
جاء في: ”سير الذهبي” (8/65)، عن الإمام مالك - رضي الله عنه - :
(العلم يَنْقُصُ، ولا يَزيد، ولم يزل العلمُ ينقُصُ بعد: الأنبياء، والكتب) أ.هـ
يقول فضيلة المحدث، الفقيه: عبدالله بن مانع العتيبي ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ معلِّقًا:
وعليه؛ لا تحتسب كثرة الكتب الآن، من زيادة العلم، بل كثير منها حجب عن العلم.
[فائدة (36)]
نصيحة ذهبية في: الأخذ، والطلب
قال الإمام الذهبي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في:”سيره” (8/90):
(من تَتَبَّعَ رُخَصَ المذاهب، وزَلاَّتِ المجتهدين؛ فقد رَقَّ دينُه.
كما قال الأوزاعي، أو غيرُه:
مَنْ أخذ بقول المكيين في المُتْعة، والكوفيين في النَّبيذ، والمدنيِّين في الغناء، والشاميِّين في عصمة الخلفاء؛ فقد جمع الشرَّ.
وكذا من أخذ في البيوع الربوية، بمن يتحيَّلُ عليها، وفي الطَّلاق، ونكاح التَّحليل، بِمَنْ توسَّعَ فيه، وشِبْهِ ذلك؛ فقد تعرَّض للانحلالِ، فنسأل الله العافيةَ، والتوفيق.
__________
(1) وقد روي لابن المديني وغيره كلامٌ آخر قريب من هذا؛ انظره ـ زيادة على ما سبق ـ في:
”طبقات الحنابلة” (1/13، و 17، و 227)، و ”طبقات الشافعيَّة” (2/54)، و ”النُّجوم الزَّاهرة” (2/325)، و ”المقصد الأرشد” (1/69)، و (2/230).(1/27)
ولكنْ: شأن الطالب أن يَدْرُسَ أولاً مُصنفاً في: ”الفقه”، فإذا حفظه، بحثَه، وطَالع الشروح، فإن كان ذكياً، فقيهَ النفسِ، ورأى حُجَجَ الأئمة؛ فليُرَاقِبِ الله، ولْيَحْتَطْ لِدِينِه، فإنَّ خيرَ الدينِ الوَرَعُ، ومن تَرَكَ الشُّبهاتِ؛ فقد استبرأ لدينِه، وعرضِه، والمعصُومُ من عصمهُ اللهُ) أ.هـ
ثم قال (ص 93 ـ 94)، من المرجع نفسه:
(ولا ريبَ أنَّ كلَّ مَنْ أنِسَ من نفسه فقهاً، وَسَعَة علمٍ، وحُسْنَ قصد فلا يسعهُ، الالتزام بمذهبٍ واحد، في كل أقواله؛ لأنَّه قد تبرهن له مذهبُ الغير، في مسائل، ولاح له الدليل، وقامت عليه الحجةُ، فلا يُقَلِّدُ فيها إمامَه، بل يَعْمَلُ بما تَبَرْهَن، ويقلِّد الإمام الآخر بالبرهان، لا بالتَّشهِّي والغرض، لكنَّه لا يُفتي العامَّة، إلا بمذهب إمامه، أو ليصمتْ فيما خَفيَ عليه دليلُه) أ.هـ
[فائدة (37)]
فضل الإسلام على الغرب ـ لولا علماء المسلمين؛ ما ظهرت الجامعات الغربية للوجود
فضلُ المسلمين على ”أروبا” لا يُعد، واكتفي هنا بمقالٍ لـ: رئيس جمهورية ألمانية الاتحادية: د. ”رومان هير تسرغ”، حيث نشرت له ”عكاظ”(1) مقالاً في زاوية: ”ثقافة” وهو الحلقة الثانية من مقاله، ولا يُسَلَّم له بكل ما ذكر، والذي يهمنا هنا قوله:
(في الفترة بين القرن (التاسع)، والقرن (الرابع عشر) الميلادي، قام ”علماء مسلمون” بنقل العلوم ”الإغريقية” القديمة، إلى الغرب، في العصور الوسطى، في مجالات: ”الفلسفة”، و ”الطب’، و ”الرياضيات”، ولولا هؤلاء العلماء؛ لما ظهرت جامعات غربية للوجود) أ.هـ
[فائدة (38)]
صورة من عزة المسلمين، وذلة الكافرين
كتبَ مَلِك: ”انجلترا”، و ”فرنسا”، و ”السَّويد”، و ”النرويج” إلى الخليفة الإسلامي في: ”قرطبة”، يقول:
(صاحبَ العظمةِ: هشام، الجليل المقام، بَعْدَ التَّعْظِيمِ، والتَّوْقِيرِ:
__________
(1) العدد: (12022)، في يوم: الثلاثاء، الموافق: (14/3/1420هـ)؛ (ص 22).(1/28)
فَقَدْ سَمِعْنا عن الرُّقِيّ العظيم، الذي تَتَمَتَّعُ بِفَيْضِهِ الصَّافِي، معاهِد العِلْمِ، والصِّناعاتِ، فِي بِلادِكُمُ العامِرَةِ، فَأرَدْنا لأبنائنا اقتباسَ نماذجَ هذهِ الفضائِل، لتكونَ بدايَةً حَسَنَةً، في اقتفاءِ أثَركُمْ، لِنَشْرِ أنْوارِ العلم في بِلادِنا، التي يَجْتَاحُها الجَهْلُ مِنْ أرْكَانِها الأرْبَعَةِ، وَقَدْ وَضَعْنَا ابنة شقيقنا: الأميرة: ”دوبانت”، على رأسِ بَعْثَةِ بِناتِ ”الإنجليزِ”، لتتشرَّفَ بِلَثْمِ أهْدَابِ العَرْشِ، والتماسِ العَطْفِ، لتكونَ مع زميلاتِها مَوْضِعَ عِنَايَةِ عَظَمَتِكُمْ، وحِمَايَةِ الحاشِيَةِ الكَرِيمَةِ، وحَدْبٍ مِنْ لَدُنّ اللواتي يَسْتَوْفونَ على تَعْلِيمهنَّ، وَقَدْ أرْفَقْتُ الأميرةَ الصَّغيرةَ، بـ: ”هَدِيَّةٍ” مُتَواضِعَةٍ، لِمَقَامِكُمُ الجَليل، أرْجو التَّكرُّمَ بِقَبُولهَا، مع التَّعظيمِ، والحُبِّ الخالِص.
من خادمكم: جورج)(1) أ.هـ
[فائدة (39)]
بين الفقه والنحو: أربع فوائد من موضعٍ واحد في: ”شذرات الذهب” (2/407 ـ 408)؛ لابن العماد
1 ـ هذه قصة لطيفة بين الإمامين: أبو الحسن الكسائي، ومحمد بن الحسن (تلميذ أبي حنيفة) رَحِمَهُم اللَّهُ:
قال الكسائي:
(لا أُسْأَلُ عن مسألة في الفقه، إلا أجبتُ عنها من قواعد النحو).
فقال له محمد بن الحسن:
(ما تقول فيمن سَهَا في سجود السهو، يسجد؟)
قال الكسائي:
(لا؛ لأنَّ المُصَغَّرَ لا يُصَغَّر).
2 ـ قلت: ومن المعلوم أنَّ الكسائي من الأئمة في: النحو، والقراءات، وهو القائل:
(من تبحَّر في النحو اهتدى إلى جميع العلوم) أ.هـ
3 ـ أما محمد بن الحسن، فكان على معرفته بالفقه، فصيحاً بليغاً، حتى قال فيه الإمام الشافعي - رضي الله عنه - :
(لو قلت: إنَّ ”القرآن” نزل بلغة ”محمد بن الحسن” لفصاحته؛ لقلت).
وقال أيضاً:
(
__________
(1) من مقدمة محقق: ”الاستذكار”؛ لابن عبدالبر (1/13 ـ 14).(1/29)
لو أشاءُ أن أقول: نَزَلَ القرآن بلغة ”محمد بن الحسن”؛ لقُلتُ لفصاحته).
وقال محمد بن الحسن:
(خَلَّف أبي ثلاثين ألف درهم، فأنفقت نصفها على: ”النحو”، و ”الشعر”، وأنفقت الباقي على ”الفقه”).
4 ـ ومن الطريف أنَّ هذين الإمامين تُوفيِّا في يومٍ واحدٍ بـ: ”الرَّيِّ”، فقال هارون الرشيد - رضي الله عنه - :
(دفنت: ”العربية”، و ”الفقه” اليوم بـ: ”الرَّيِّ”).
[فائدة (40)]
جَلَد الصَّفَدي في الكتابة
قرأت ترجمة: الإمام، الأديب: صلاح الدين خَلِيل بن أَبْيَك الصَّفَدي ت (764هـ) رَحِمَهُ اللَّهُ، في بعض المصادر فاستهواني ما ذكروه من جَلَده في الكتابة؛ فقال صديق دربه(1) الإمام السبكي في: ”الطبقات الكبرى” (10/5):
(صنَّف الكثير في: ”التاريخ”، و ”الأدب”، وقال لي: إنَّه كتب أزيدَ من ستمائة مجلَّد، تصنيفاً) أ.هـ
وقال ابن كثير ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”البداية والنهاية” (18/680):
(كتَبَ الكثيرَ مِن: ”التاريخِ”، و ”اللغةِ”، و ”الأدَبِ”... وجمَع، وصنَّف، وكتبَ ما يقارِبُ مِئِينَ مِن المُجَلَّداتِ) أ.هـ
وقال ابن قاضي شهبة ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”طبقات الشافعية” (3/120):
(مهر في فن الأدب، وكتب الخط المليح، وقال النظم الرائق، وألف المؤلفات الفائقة، وكتب بخطه الكثير) أ.هـ
وقال الحافظ في: ”الدر الكامنة” (2/177):
(قال ابن سعد:
__________
(1) قال: في: ”الطبقات (10/5 ـ 6):
(كانت بيني وبينه صداقةٌ منذ كنت صغيراً، فإنَّه كان يتردَّد إلى والدي، فصحبته، ولم يزل مصاحباً لي، إلى أنْ قَضَى نَحْبَه، وكنت قد ساعدته آخِر عمره، فوَلِيَ ”كتابة الدَّسْت”، بـ: ”دمشق”، ثم ساعدته فوَلِيَ: ”كتابة السِّرِّ”؛ بـ: ”حلب”، ثم ساعدته فحضر إلى: ”دمشق”، على وكالة: ”بيت المال”، و ”كتابة الدَّسْت”، واستمرَّ بها إلى أن مات بالطاعون) أ.هـ(1/30)
كان من بقايا الرؤساء الأخيار، ووجدت بخطه(1):
كتبت بيدي ما يُقارب خمسمائة مجلدة.
قال: ولعلَّ الذي كتبته في: ”[ديوان] الإنشاء”(2) ضعف(3) ذلك) أ.هـ
ومما جاء في هذا الباب قول الحافظ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ عن: العلامة، الشريف: أبي المحاسن، محمد بن علي، الحسيني (715 ـ 765هـ):
(خطه معروف حلو، وكان سريع الكتابة، قرأت بخطه في آخر ”العبر”(4) أنَّه نسخه في خمسة أيام)(5) أ.هـ
وجاء في: ”سير الذهبي” (15/395)، عن أبي العَرَب، محمد بن أحمد الإفريقي:
(كتبتُ بيدي ”ثلاثةَ آلاف وخمس مئة” كتاب).
[فائدة (41)]
احفظ الله يحفظك
جاء في: ”سير أعلام النبلاء” (19/115)، في ترجمة شيخ الإسلام: أبي المظفَّر السَّمْعاني رَحِمَهُ اللَّهُ (426 ـ 489هـ):
(حَجَّ على البريَّة أيامَ انقطاع الرَّكْبُ، فأُخِذَ هو وجماعةٌ، فصَبَر إلى أنْ خلَّصه الله مِن الأعراب.
وحجَّ وصَحب الزَّنْجانِي.
كان يقول: أَسَرونا، فكنتُ أرعى جِمَالَهم، فاتَّفقَ أنَّ أميرَهُم أراد أنْ يُزَوِّج بنته، فقالوا: نحتاجُ أنْ نرحل إلى الحَضَرِ لأجل من يَعقِدُ لنا.
__________
(1) ترجم خليل لنفسه في كراسين، ولعل ابن سعد ينقل منها، ويؤكد ذلك أنَّ ابن العماد وقف على هذه الترجمة، ونقل منها النص المذكور هنا، ومنه أخذت الزيادة؛ انظر: ”شذرات الذهب” (8/343).
(2) ”ديوان الإنشاء”، اصطلاح قديم، يقابله اليوم: ”وزارة الخارجية”.
(3) في: ”شذرات الذهب” (8/343): (ضعفا ذلك).
(4) كتاب: ”العبر”؛ للإمام الذهبي، وللإمام الحسيني ذيلٌ عليه، وعلى: ”تذكرة الحفاظ”.
(5) كذا النص في مقدمة: ذيول ”تذكرة الحفاظ”؛ نشر ”حسام الدين القدسي” رَحِمَهُ اللَّهُ.
وفي: ”الدرر الكامنة”؛ للحافظ (4/180):
(قرأت بخطه في آخر ”العبر” أنَّه نسخه خمسة...) هكذا بياض في النسخة الخطية، وفي ونسخة أخرى: (أنَّه نسخه خمسة مجلدات) أ.هـ(1/31)
فقال رجل منا: هذا الذي يرعى جمالَكُم ”فقيهُ خُرسان”، فَسَألوني عن أشياءَ، فأجبتُهُم، وكلمتُهُم بالعربية، فخَجِلُوا، واعتَذَرُوا، فعقدتُ لهم العَقْدَ، وقلتُ الخُطبةَ، فَفَرِحُوا، وسألوني أنْ أقبلَ منهم شئياً، فامتنعتُ، فحملوني إلى: ”مكة” وسَط العام) أ.هـ
قلت: والسَّمْعاني هذا رَحِمَهُ اللَّهُ من أعلام ”أهل السنة والجماعة”.
قال فيه الذهبي (19/116):
(تعصب لـ: ”أهل الحديث”، و ”السنَّة والجَمَاعة”، وكان شوكاً في أعينِ المُخالفين، وحُجةً لِـ: ”أهلِ السنَّة”) أ.هـ
قلت: وهو القائل: (ما حَفِظتُ شيئاً فنسيتُه!).
[فائدة (42)]
بشرى للدعاة، والمصلحين
ذكر الإمام الألباني ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ حديث سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - :
قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟
قَالَ: ((الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ، فَالْأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْباً؛ اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ. وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ؛ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ. فَمَا يَبْرَحُ الْبَلاَءُ بِالْعَبْدِ؛ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ، مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ))(1).
وبعدما ذكر شواهده؛ قال:
(
__________
(1) أخرجه الترمذي في: ”سننه” (4/520)؛ برقم (3298)، وابن ماجه في: ”سننه” (4/369 ـ 370)؛ برقم (4023).(1/32)
وفي هذه الأحاديث دلالة صريحة، على أنَّ المؤمن كلما كان أقوى إيماناً؛ ازداد ابتلاءً، وامتحاناً، والعكس بالعكس، ففيها رد على ضعاف العقول، والأحلام، الذين يظنون أنَّ المؤمن إذا أصيب ببلاءٍ؛ كـ: الحبس، أو الطرد، أو الإقالة من الوظيفة، ونحوها؛ أنَّ ذلك دليل على أنَّ المؤمن غير مرضي عند الله تعالى، وهو ظنٌّ باطل؛ فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو أفضل البشر كان أشد الناس ـ حتى الأنبياء ـ بلاءً، فالبلاء غالباً دليل خير، وليس نذير شر؛ كما يدل على ذلك ـ أيضاً ـ الحديث الآتي:
((إنَّ عِظَمُ الْجَزَاءِ، مَعَ عِظَمِ الْبَلاَءِ. وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْماً؛ ابْتَلاَهُمْ. فَمَنْ رَضِيَ؛ فَلَهُ الرِّضَا. وَمَنْ سَخِطَ، فَلَهُ السُّخْطُ))(1)...
وهذا الحديث يدل على أمرٍ زائدٍ على ما سبق، وهو: أنَّ البلاء إنَّما يكون خيراً، وأنَّ صاحبه يكون محبوباً عند الله تعالى، إذا صبر على بلاء الله تعالى، ورضي بقضاء الله عز وجل) أ.هـ
[فائدة (43)]
هزيمة قاتل الأستاذ: سيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ
أُعْدِمَ الشهيد بإذن الله: سيد قطب ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ عام: (1387هـ ـ 1966م)، ولما كانت النَّكْسَة (النَّكْبَة)، عام: (1967م) قال رئيس حزب الاستقلال المغربي: محمد علاَّل الفاسي ت (13/5/1974م):
(ما كان الله لينصر حرباً يقودها قاتل: ”سيد قطب”)(2).
[فائدة (44)]
سبب تسمية ابن كُلاَّب
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في: ”سننه” (4/374)؛ برقم (4031)، والترمذي في: ”سننه” (4/519)؛ برقم (2396)، من حديث: أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - .
وانظر أحاديث الباب مع كلام الإمام الألباني السابق في: ”السلسلة الصحيحة” (1/273 ـ 278)؛ الأرقام: (143 ـ 148).
(2) من ”الأعلام”؛ لخير الدين الزركلي (3/148).(1/33)
قال الذهبي في: ”السير” (11/174)، في ترجمة: أبي محمد، عبدالله بن سعيد بن كُلاَّب، البصري، المتكلم المشهور، إمام ”الكُلاَّبية”:
(كان يُلَقَّبُ كُلاَّباً؛ لأنَّه كان يَجرُّ الخَصْمَ إلى نفسه، بـ: بيانِه، وبلاغتِه) أ.هـ
[فائدة (45)]
فائدتان من سلطان العلماء: القذف في الخلوة ـ والقطع بأكثر من ربع دينار
قال تاج الدين السبكي، نقلاً عن العز بن عبدالسلام ـ رَحِمَهُما اللَّهُ ـ في: ”طبقات الشافعية الكبرى” (8/249 و 251):
(مَنْ قذف في خَلْوته شخصاً، بحيث لا يسمعه إلاّ الله، والحَفَظَةُ.
فالظاهر: أنَّه ليس بكبيرةٍ، موجبةٍ للحَدِّ.
قلت (السبكي): وأنا أسلَّم له الحُكْم، ولكنِّي أمنع كونَ هذا قَذْفاً، والقَذْف هو الثَّلْب، والرَّمي، ولا يحصل بهذا القَدْر.
وقال أيضاً (أي: ابن عبدالسلام): القَطْعُ بالسَّرِقة، يُكفِّر ما يتعلَّق برُبع دينارٍ فقط، ولا يُكفِّر الزائد)(1) أ.هـ
[فائدة (46)]
المحدثون والأخلاق الحميدة
قال ابن الصلاح ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”مقدمته” (ص 359)، في: النوع السابع والعشرين: ”معرفة آداب المحدِّث”:
(علمُ الحديثِ: علمٌ شريفٌ، يناسب مكارمَ الأخلاق، ومحاسنَ الشيم، وينافر مساوئَ الأخلاق، ومشاينَ الشيم.
وهو من علوم الآخرة، لا من علوم الدنيا) أ.هـ
[فائدة (47)]
هكذا أدبني مشايخي
كتبت بحثاً في إحدى المسائل، ثم عرضته على مشايخي الأجلة؛ للتوجيه؛ ومنهم: فضيلة شيخنا المحدث الدكتور: عبدالكريم الخضير حَفِظَهُ اللَّه، وكانت له تعليقات، وتعقيبات مفيدة، ومن جملة ما استفدته منه تلكم التعقيبات الأدبية التي استدركها عليَّ؛ ومنها:
__________
(1) الصحيح: وجوب ضمان المسروق، قليلاً كان، أو كثيراً، أُقيم الحد، أم لم يقم. فمتى أُقيم الحد، ورُدّ المال؛ فقد كفَّر الله الذنب. [الشيخ: عبدالله بن مانع العتيبي].(1/34)
عند ردّي على عبارة للعلامة: ”الألوسي” ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ قلت: (انظر الرد على هذه العبارة الهالكة ص...).
فعلَّق على ذلك بقوله: (عبارة قاسية). وأشار إليَّ بحذف: (العبارة الهالكة). فعدلتها إلى قولي: (انظر الرد على هذه العبارة ص...).
وعندما تكلَّمتُ على حديثٍ صحَّحه الهيثمي قلت: (وقد تساهل الهيثمي ـ كعادته ـ في سند هذا الحديث).
فضرب على لفظ (كعادته). وقال: (ليس لها داعي). وأوضح لي أنَّ الأولى أن أصب جهدي على الحديث نفسه، صحة وضعفاً، دون التعرض لمنهج الهيثمي، بعبارة قد يؤخذ منها أنَّني ازدريه.
علماً بأنَّي لم أقصد ذلك، ولا شيخي ظن بي ذلك، ولكن تربيةً منه لي، بأنْ أُنَقِّح العبارات، وأهذبها، في المناقشات العلمية مع السلف رَحِمَهُم اللَّهُ.
وعندما ترجمت لأحد الرواة قلت: (وقد فصلت القول في اسمه، وحاله، في كتابي: ”...” بما لا تراه في غيره).
فعلق على ذلك بقوله: (هذا تعالمٌ، لا يحسن بطلاب العلم). فحذفت هذه العبارة.
وهكذا نتعلم من أهل العلم: ”الأدب”، و ”الأخلاق الحميدة”، قبل أن نأخذ عنهم، ونحفظ منهم، فحَفِظَهُ اللَّه، وبارك في علمه، آمين.
[فائدة (48)]
سيوف القرآن
قال الإمام ابن كثير ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”تفسيره” (2/372)، عند الآية رقم: (73) من ”سورة التوبة”:
قال أمير المؤمنين: علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - :
(بُعِثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأربعة أسياف:
1 ـ سيفٌ للمشركين: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5].
2 ـ وسيفٌ لكفار أهل الكتاب: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ(29)} [التوبة].(1/35)
3 ـ وسيفٌ للمنافقين: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} [التوبة: 37].
4 ـ وسيفٌ للبغاة: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]) أ.هـ
[فائدة (49)]
أنواع العلوم، ومنزلة: ”الفقه”، و ”أصوله” منها
قال الإمام الغزالي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”المستصفى” (1/3):
(العلوم ثلاثة:
1 ـ عقلي محض، لا يحث الشرع عليه، ولا يندب إليه؛ كـ: الحساب، والهندسة، والنجوم، وأمثاله من العلوم، فهي بين:
ظنون كاذبة لا ئقة، وإنَّ بعض الظن إثم.
وبين علوم صادقة، لا منفعة لها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع...
2 ـ ونقلي محض؛ كـ: الأحاديث، والتفاسير، والخطب في أمثالها يسير، إذ يستوي في الاستقلال بها الصغير والكبير؛ لأنَّ قوة الحفظ كافية في النقل، وليس فيها مجال للعقل.
3 ـ وأشرف العلوم ما ازدوج فيها: (العقل والسمع)، واصطحب فيه (الرأي، والشرع).
و ”علم الفقه”، و ”أصوله”، من هذا القبيل؛ فإنَّه يأخذ من صفو الشرع، والعقل، سواء السبيل.
فلا هو تصرف بمحض العقول، بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول.
ولا هو مبنيٌ على محض التقليد، الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد.
ولأجل شرف علم الفقه، وسببه، وفرَّ اللهُ دواعي الخلق على طلبه.
وكان العلماء به، أرفع العلماء مكاناً، وأجلهم شأناً، وأكثرهم أتباعاً، وأعواناً) أ.هـ
[فائدة (50)]
”نَسَا” بلاد الإمام ”النسائي”
ولد الإمام: أبو عبدالرحمن، أحمد بن شُعيب، النَّسَائي (215 ـ 303هـ) صاحب: ”السنن الكبرى”، و ”الصغرى”، في مدينة: ”نَسَا”، بلدة بـ: ”خرسان”، وقد ذكر ياقوت الحموي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”معجم البلدان” (5/282)، السبب في تسميتها بذلك؛ فقال:
(قال أبو سعد:
كان سبب تسميتها بهذا الاسم: أنَّ المسلمين لما وردوا ”خرسان”، قصدوها، فبلغ أهلها فهربوا، ولم يتخلف بها غير النِّسَاء، فلما أتاها المسلمون، لم يَرَوْا بها رجلاً؛ فقالوا:(1/36)
هؤلاء نِسَاء، والنِّسَاء لا يُقَاتَلْنَ، فننسأ أمرها الآن، إلا أن يعود رجالهن، فتركوها، ومضوْا؛ فسُمّو بذلك: ”نَسَاء”.
والنسبة الصَّحِيحة لها: ”نَسائيّ”، وقيل: ”نَسَويّ”.
وكان من الواجب كسر النون) أ.هـ
[فائدة (51)]
لكل مذهب قاض، وشيخ إسلام
قاضي الحنفية: أبو يوسف، يعقوب بن إبراهيم، الأنصاري ت (182هـ).
وقاضي المالكية: عبدالوهاب بن علي بن نصر، البغدادي، المالكي ت (422هـ).
وهناك من اشتهر ـ عندهم ـ بالقاضي أيضاً، وهو: أبو بكر، محمد بن الطيب، الباقلاني ت (403هـ).
وعند اطلاق الفقهاء يُراد الأول. وإذا أُطلق في مسائل: الكلام والأصول، فيُرَاد الثاني.
وقاضي الشافعية: أبو الخير، عبدالله بن عمر، البيضاوي ت (685هـ)، وهو المراد عند الإطلاق.
* يوجد في المذهب الشافعي، غير هذا، فلا يشتبه عليك:
القاضي البيضاوي: أبو بكر، محمد بن أحمد، المعروف بالشافعي.
القاضي البيضاوي: أبو عبدالله، محمد بن عبدالله ت (424هـ).
وقاضي الحنابلة: أبو يَعْلَى، محمد بن الحسين، الفراء ت (458هـ).
وقاضي المعتزلة: أبو الحسن، عبدالجبار بن أحمد، الهمذاني ت (415هـ).
فحيثما قرأتَ في كتب الفقه: ”قال القاضي”، أو ”خالفه القاضي”، أو ”مال إليه القاضي” ونحوها.
فانظر؛ فإن كان الكتاب الذي تقرأ فيه للحنفية؛ فمراد المؤلف: أبي يوسف.
وإن كان مالكياً؛ فمراده: الباقلاني، أو عبدالوهاب حسب التفصيل السابق.
وإن كان شافعياً؛ فمراده: أبا الخير، البيضاوي، المتوفي (685هـ).
وإن كان حنبلياً فمراده: أبا يعلى.
وشذّ من خالف هذا، ومن كان يقصد غيرهم، فقد جرت العادة أن يُبينه، أو يأتي في السياق ما يُخْرج هؤلاء.
وكذلك الحال في مصطلح: ”شيخ الإسلام”:
فشيخ الإسلام عند الحنفية: ...
يُستخدام هذا المصطلح بكثرة، عند السادة الحنفية، وذلك في مصنفاتهم الفقهية، وعدة من نص عليهم عبدالقادر القرشي ت (775هـ) في: ”الجواهر المُضِيَّة” (17)، انظر: (5/257).(1/37)
يقول العلامة: ابن عابدين ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: حاشيته” (1/19):
(”شيخ الإسلام”: أي: شيخ أهل الإسلام. وهذا الوصف غلب على من كان في منصب: ”الإفتاء”، أو ”القضاء”) أ.هـ
وعند المالكية: ...
لا أعلم أنَّ لهم اصطلاحاً بـ: ”شيخ الإسلام”، يطلقونه في مصنَّفاتهم، وإن كان فـ: ابن عبدالبر أحق به، وإلا فـ: الباقلاني، أو الباجي(1).
وسبق أنَّ ابن الرَّصَّاع أطلق على: محمد بن عرفة التونسي: ”شيخ الإسلام”.
وأطلق شيخ الإسلام على جماعة منهم: الدردير انظر: ”اصطلاح المذهب عند المالكية” (ص 537).
وعند الشافعية: ابن حجر، وزكريا الأنصاري.
وقد لاحظت أنَّ ”فقهاء الشافعية” من بعد زكريا الأنصاري، صاروا يقصدونه بـ: ”شيخ الإسلام”.
وعند الحنابلة: ابن تيمية، النُّمَيْري.
أما المعتزلة فليس لهم ”شيخ الإسلام”، إلا أن يكون شيخ المبتدعة!.
[فائدة (52)]
من كرامات الإمام أحمد - رضي الله عنه -
جاء في: ”سير أعلام النبلاء” (11/230):
(عن فاطمة بنت أحمد بن حنبل، قالت: وقع الحريق في بيت أخي صالح، وكان قد تزوج بِفَتِيّة، فحملوا إليه جهازاً شبيهاً بأربعة آلاف دينار، فأكلته النارُ، فجعل صالح يقولُ: ما غمني ما ذهب، إلا ثوبٌ لأبي، كان يُصلي فيه، أتبرَّك به!(2)، وأُصلي فيه.
قالت: فَطُفِئ الحريق، ودخلوا فوجدُوا الثوبَ على سريره، قد أكلت النار ما حولَه، وسَلِم.
قال ابن الجوزي: وبلغني عن قاضي القضاة: علي بن الحسين الزينبي أن حكى: أنَّ الحريق وقع في دارهم، فأحرق ما فيها، إلا كتاباً كان فيه شيء بخطِّ الإمام أحمد.
قال: ولما وقع الغرق بـ: ”بغداد” في سنة (554هـ) وغرقت كتبي، سَلِم لي مجلدٌ، فيه ورقتان بخطِّ الإمام.
__________
(1) والأول سلفي، والآخران أشعريان، وذكرتهما لمكانتهما الكبيرة في تحرير المذهب المالكي.
(2) هذا من التبرك الممنوع، المبتدع، وهو من وسائل الشرك، وفي ثبوته عن صالح نظر، [الشيخ: عبدالله بن مانع العتيبي].(1/38)
قلت (الذهبي): وكذا استفاض، وثبت، أنَّ الغرق الكائن بعد (العشرين وسبع مئة) بـ: ”بغداد” عامَ على مقابر مقبرة أحمد، وأنَّ الماء دخل في الدهليز عُلُوَّ ذِراع، ووقف بقُدرة الله، وبقيت الحصرُ حول قبر الإمام بغُبارها، وكان ذلك آية)(1) أ.هـ
[فائدة (53)]
”جَعْبَة” ، بالفتحِ لا بالضَّمِّ
يقول الناس: ”جُعْبَة”، بضم الجيم المعجمة.
والصَّواب: ”جَعْبَة” بفتحها.
و ”الجَعْبَة”: واحدة جِعَابٌ، وهي: (كِنانةُ النُّشَّابِ).
انظر: ”عَجالَة الإمْلاء المُتيَسِّرَة من التذنيب” (3/314)، و ”لسان العرب” (1/267).
[فائدة (54)]
الإمام الحَجَّاوي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ في المنام ـ خمس مرات
قال شيخ الحنابلة في وقته: الإمام: موسى بن أحمد ، أبو النَّجَا، الحَجَّاوِي (895 ـ 968هـ):
(قد رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خمسَ مراتٍ)(2).
[فائدة (55)]
رُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَنَامِ
قال شيخ الإسلام: الْعِزِّ بَنِ عَبْدِالسَّلامِ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في جوابٍ له حَوْلَ رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَنَامِ:
(أمَّا رؤيةُ مَنْ يعتقد أنَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فقدْ قالَ بعضُ العلماءِ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ تعالى:
هذا مخصوصٌ بِمَنْ رَأى الرَّسولَ - صلى الله عليه وسلم - على صورتِهِ الَّتِي يعرِفُها، وأمَّا الصِّفةُ التي فلا تأتي على الغرضِ مِنْ ذَلِكَ.
والشَّيطانُ إنَّما حُجِرَ عليه أنْ يَتَمَثَّلَ بصورةِ الرَّسولِ، وشكْلِهِ - صلى الله عليه وسلم - .
__________
(1) غاية الأمر لو ثبت هذا، أنْ يُقال من الكرامة، وأهل السنة لا يفرحون بتسطير مثل هذا. [الشيخ: عبدالله بن مانع العتيبي].
(2) انظر: ”ذخائر القصر” (ص 105).(1/39)
وإِنْ انضمَّ إلى ذَلكَ أنْ يُخْبِرَ بِمَا يُخَالِف الشَّرعَ بحيث يكونُ منْ مجاز التَّعْقِيل؛ فإنَّ هذا لا يجوزُ نِسْبَتَهُ إِلَى الرَّسُولِ - صلى الله عليه وسلم - .
وفي المسألةِ كلامٌ طويلٌ.
وكتب: عبدالعزيز بن عبدالسَّلام - رضي الله عنه - )(1) أ.هـ
[فائد (56)]
قول الإمامين: مالك، والشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: حدثني ”الثقة”. أو ”من لا أتهم”
قال السخاوي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”فتح المغيث” (1/289 ـ 290):
(حيث روى مالك عن (الثقة)، عن بكير بن عبدالله بن الأشج؛ فالثقة: (مخرمة) ولده.
أو عن (الثقة)، عن عمرو بن شعيب؛ فقيل:
إنَّه: (عبدالله بن وهب).
أو (الزهري).
أو (ابن لهيعة).
أو عن (من لا يتهم من أهل العلم)؛ فهو: (الليث).
وجميع ما يقول: (بلغني عن علي) سمعه من: (عبدالله بن إدريس الأودي)
وحيث روى الشافعي عن (الثقة)، عن ابن أبي ذئب؛ فهو: (ابن فديك).
أو عن (الثقة)، عن الليث بن سعد؛ فهو: (يحيى بن حسان).
أو عن (الثقة)، عن الوليد بن كثير؛ فهو: (أبو أسامة).
أو عن (الثقة)، عن الأوزاعي؛ فهو: (عمرو بن أبي سلمة).
أو عن (الثقة)، عن ابن جُرَيْج؛ فهو: (مسلم بن خالد).
أو عن (الثقة)، عن صالح مولى التوأمة؛ فهو: (إبراهيم بن أبي يحيى).
أو عن (الثقة)، وذكر أحداً من العراقيين؛ فهو: (أحمد بن حنبل).
[ثم ذكر عن الربيع بن سليمان أنَّه قال:]
إنَّ الشافعي إذا قال: أخبرني (الثقة)؛ فهو (يحيى بن حسان).
أو (من لا أتهم)؛ فهو: (إبراهيم بن أبي يحيى).
أو (بعض الناس)؛ فيريد به (أهل العراق).
أو (بعض أصحابنا)؛ فـ: (أهل الحجاز) )(2) أ.هـ
[فائد (57)]
الزيادة عند النِّسْبَة ـ النِّسْبَة على غير القياس
__________
(1) في: ”فتاويه” (ص 312).
(2) وانظر: ”معرفة السنن والآثار” (5/192 ـ 193)؛ برقم: (7253)، و (7257)، و ”بيانُ خطأ من أخطأ على الشافعي” (ص 196)؛ لترى نموذجاً لما سبق.(1/40)
غالباً ما نزيد (الياء) عندما نريد أنْ ننسب أحداً؛ فنقول لمن في: ”نجد”: ”نجدي”.
ولمن في: ”مصر”: ”مصري”.
ولمن في: ”حلب”: ”حلبي”. بزيادة (الياء) فقط.
ولكن شذت بعض المدن، فكانت النسبة إليها بزيادة وحذف، وليس في ذلك قاعدة مضطردة، وإنَّما الأمرُ سماعيّ؛ ومن ذلك:
النسبة إلى: ”الري”: ”رازي”، بزيادة الألف والزاء.
والنسبة إلى ”مرو”: ”مروزي”، بزيادة الزاي.
والنسبة إلى ”داريَّا”: ”داراني”(1).
والنسبة إلى ”القيروان”: ”قروي”، والقياس ”قيراوني”(2).
والنسبة إلى ”بريدة”: ”بردي”. وهو خلاف القياس. و ”بريدة” مدينة من مدن القصيم بالسعودية(3).
والنسبة إلى: ”طُوْلكرم”: ”كرمي”. و ”طُوْلكرم”: قرية من قرى ”نابلس”.
والنسبة إلى: ”نسا”: ”نسوي”، وقولهم: ”النسائي”، على غير قياس.
والنسبة إلى: ”مَيْسَان”: ”مَيْسَانِي”، و قولهم: ”مَيْسَنَانِي”، خلاف القياس(4).
و النسبة إلى: ” تارودانت”: ”روداني”(5). و ” تارودانت”؛ مدينة في جنوب ”المغرب”.
[فائد (58)]
الولاء المذهبي شعراً
الحنفية:
قال أحدهم:
فلعنةُ ربِّنا أعدادَ رمل على من ردَّ قولَ أبي حنيفة(6)
المالكية:
__________
(1) انظر: ”وفيات الأعيان”؛ ترجمة: الشيخ: عبدالرحمن بن أحمد بن عطية، أبي سليمان، الداراني، ومقدمة ”الروضة الريا فيمن دفن بداريا” (ص 58)، و ”معجم البلدان” (2/431).
(2) انظر: ”اصطلاح المذهب عند المالكية” (ص 198).
(3) انظر مقدمة العلامة الدكتور: بكر أبو زيد لـ: ”تسهيل السابلة”: (1/5).
(4) انظر: ”معجم البلدان” (5/242).
(5) انظر: مقدمة أ.د. فاروق حمادة لـ: ”عمل اليوم والليلة” (ص 80).
(6) قائل هذا البيت ـ إن صح هذا عن أحد ـ فهو من الموبقات العظام، وقائله: إمِّا جاهل، أو غال، وفي كلا الحالين هو آثمٌ، إثماً عظيماً، ليس للعنه فحسب، بل لغلوه العظيم في إمامه. [الشيخ: عبدالله بن مانع العتيبي](1/41)
قال القاضي عياض رَحِمَهُ اللَّهُ(1):
ومالِكُ المُرتضى لا شَكَّ أَفْضَلُهم إمَامُ دَارِ الهُدى والوَحْيِ والسُّنَنِ
الشافعية:
قال أبو عبدالله، البُوشَنْجي رَحِمَهُ اللَّهُ ت (290هـ)(2):
ومِنْ شُعَبِ الإِيمانِ حبُّ ابنِ شافعٍ وفرضٌ أكيدٌ حُبُّهُ لا تَطَوُّعُ
وإنِّي حياتي شافِعيٌّ فإن أَمُتْ فَتَوصِيَتي بعدِي بأَنْ يتشَفَّعوا
الحنابلة:
أنشد شيخ الإسلام الهروي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ على منبره(3):
أَنَا حَنْبَلِي ما حَييتُ وإنْ أَمُتْ فَوَصِيَّتي للنَّاسِ أن يَتَحَنْبَلوا
وقال ـ أيضاً ـ في أول قصيدته النونية(4):
نزلَ المَشيبُ بَلَمَّتي فَأرَاني نُقْصَانَ دَهْرٍ طَالَما أَرْهَاني
أنا حَنْبَليٌّ ما حَييِتُ وَإنْ أَمُتْ فَوَصِيَّتي ذَاكُمْ إلى الإِخْوانِ
إِذْ دِينُهُ دِينِي ودِيِنِي دِينُهُ مَا كُنتُ إِمَّعَةً لَهُ دِينَانِ
وقال العلامة مرعي الحنبلي ت (1033هـ)(5) رَحِمَهُ اللَّهُ:
لئن قلد الناس الأئمة إنَّني لفي مذهب الحبر ابن حنبل راغب
أقلد فتواه وأعشق قوله وللناس فيما يعشقون مذاهب
[فائد (59)]
أنموذج من التعصب المذهبي المختلق
كتاب: ”أنيس الفقهاء”؛ من كتب: ”اللغة” التي تبحث في مفردات ”الفقه الحنفي”، وقد وجدتُ في آخره (ص 304 ـ 306) ما يأتي:
(مسألة):
(إذا تشَفَّع حنفي المذهب؛ قال القاضي، الإمام: الحسن الماتريدي:
فإنَّه يعزر أشد التعزير، حتى يترك المذهب الردي، ويرجع إلى المذهب السديد.
قال شيخ الإسلام: عطاء بن حمزة رَحِمَهُ اللَّهُ :
__________
(1) ”سير أعلام النبلاء” (8/134).
(2) ”سير أعلام النبلاء” (10/73)، و ”طبقات الشافعية الكبرى” (2/194)، وجاء الشطر الثاني هكذا:
وإنِّي حياتي شافِعيٌّ وإن أَمُتْ فَتَوصِيَتي بعدِي بأَنْ تتشَفَّعوا
(3) ”سير أعلام النبلاء” (18/506).
(4) ”سير أعلام النبلاء” (18/507).
(5) ”خلاصة الأثر” (4/361).(1/42)
الثبات على مذهب أبي حنيفة ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ خير وأولى له.
كذا في: ”مجمع الفتاوى”، في أول باب الشفعة)أ.هـ
قلت: هذه المسألة إن صحت، فهي وصمة، في جبين ”المذهب الحنفي”، وإنَّ المذهب بري من هؤلاء المتعنتين في الرأي.
وهذه المسألة محل نظر: فهل هي من وضع المؤلف، أو مدرجة بواسطة أحد النُّسَّاخ؟ وقد قام محقق هذا الكتاب ”أنيس الفقهاء”، بتحقيق هذا الكتاب على أربعِ نسخٍ خطية، وهذه المسألة، إلى قوله: (المذهب السديد). لم ترد في نسختين منها.
وقد رجَّحَ المحقق ـ وفقه الله ـ أنَّ هذه المسألة، من إقحام النّساخ، من أربعة أوجه، قوية، فارجع إليها.
* وأضيف هنا: ما قاله مسند عصره: الإمام الفُلاَّني ت (1218هـ)، نقلاً عن الإمام المُلاَّ علي القاري ت (1014هـ) رَحِمَهُما اللَّهُ(1):
(أما ما اشتهر بين ”الحنفية” من: أنَّ ”الحنفي” إذا انتقل إلى ”مذهب الشافعيّ”؛ يُعَزَّر.
وإذا كان بالعكس؛ يُخْلَع.
فهو قولٌ: ”مبتدعٌ”، و ”مخترعٌ”.
نعم: لو انتقل طاعناً في مذهب الأول ـ سواء كان ”حنفياً”، أو ”شافعياً” ـ يُعَزَّر.
وكذا ما قيل: لو انتقل ”حنفي” إلى ”شافعي” لم تقبل شهادته، وإن كان عالماً كما في آخر ”الجواهر”.
وهذا كما ترى لا يجوز لمسلم أن يتفوه بمثله؛ فإنَّ المجتهدين من ”أهل السنة والجماعة” كلهم أهل الهداية.
ولا يجب على أحدٍ من هذه الأمة أن يكون ”حنفياً”، أو ”شافعياً”، أو ”مالكياً”.
بل يجب على آحاد الناس ـ إذا لم يكن مجتهداً ـ أن يقلدوا أحداً من هؤلاء الأعلام؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ(43)} [النحل].
ولقول بعض مشايخنا:
من تبع عالماً؛ لقي الله سالماً) أ.هـ
[فائد (60)]
بين الحنفية والشافعية
__________
(1) انظر: كتابه الفريد: ”إيقاظ همم أولي الأبصار” (ص 75).(1/43)
لم أرَ ـ حسب اطلاعي ـ خلافاً بين المذاهب، وصل إلى (الهلاك)! ـ والعياذ بالله ـ كما رأيت بين: ”الحنفية”، و ”الشافعية”، والوقائع بينهم لا تخفى.
* ومن أعجب ما وقفت عليه:
ـ جرأة ”هلكة الحنفية” في نسبة حديثٍ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كذباً وزوراً:
((يَكُونُ فِي أُمَّتِي رَجُلٌ يُقَالُ لَه: مُحَمَّد بن إِدْرِيس ـ أَي: الشَّافِعِيّ ـ أَضَرُّ عَلى أُمَّتِي مِنْ إِبْلِيسِ.
وَرَجُلٌ يُقَالُ لَه: أَبو حَنِيفَة، هُو سِرَاجُ أُمَّتِي)).
ورائحة الوضع تفوح من متنه، فضلاً عن سنده.
قال شيخنا العلامة، الدكتور: محمد بن لطفي الصباغ(1) حَفِظَهُ اللَّه:
(أخزى الله واضعه المتعصب، وجزاه على سوء فعله ما يستحق) أ.هـ
ـ وقال ياقوت الحموي رَحِمَهُ اللَّهُ:
(
__________
(1) في تعليقه على: ”الأسرار المرفوعة” (ص 101) ح (2)، وانظر: ”كشف الخفاء” (1/33 ـ 43).(1/44)
اجتزت ببلد من بلاد فارس، فوجدتها عامرة آهلة بالسكان، رائجة الأسواق، ثم عدت إليها بعد سنوات قليلة، فوجدتها خراباً يباباً، قد هدمت مساكنها، وخلت من أهلها، ولم يبق بها إلا أقل من القليل، فاستغربت من سرعة الخراب إليها، وتفريق جماعاتها في الزمن اليسير، فسألت رجلاً من العقلاء عن السبب في ذلك؛ فقال: كان أهل البلد قسمين: ”أهل سنة”، و ”شيعة”، وكان ”أهل السنة” قسمين أيضاً: ”حنفية”، و ”شافعية”، فحصل بين: ”أهل السنة”، و ”الشيعة” ما أفضى لقيام بعضهم على بعض، وكان ”أهل السنة” أكثر عدداً وأقوى عدة، فما زالوا بهم قتلاً، حتى أفنوهم عن آخرهم، وأصبح نصف البلد خراباً لا يعمره أحد من الناس، ثم وقعت العصبية بين ”الشافعية” و ”الحنفية”، وقامت بينهم الحروب، حتى أفنى بعضهم بعضاً، ولم يبق من الفريقين غير بيوت قليلة من ”الشافعية”، سبق فناء ”الحنفية” عن آخرهم آجالهم، فبقوا على قيد الحياة)(1) أ.هـ
ـ ومن المسائل، الناشئة على أكف التعصب المذهبي، مسألتان، تخدشان الحياء العلمي؛ هما: ”حكم تزوّج الحنفي بشافعية”، و ”حكم صلاة الشافعي خلف الحنفي”(2).
[فائد (61)]
من الأجوبة المسكتة
جاء في مقدمة: ”حلية البشر” (1/12 ـ 13) ترجمة لمؤلفه العلامة: عبدالرزاق البيطار ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ بقلم: حفيده: محمد بهجة الأثري ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ هذه القصة اللطيفة:
(وكان له في المسائل القريبة، أساليب في الإقناع عجيبة؛ فمنها:
أنَّ بعضهم زعم مرةً أنَّه يجب القيام، عند ذكر ولادة الرسول عليه الصلاة والسلام ـ وجوباً بدعياً ـ تعظيماً له - صلى الله عليه وسلم - وألَّف في ذلك رسالة، وحملها للفقيد؛ ليكتب له عليها تقريظاً.
فاعتذر إليه، فألح عليه، وأخيراً قال الأستاذ المرحوم:
__________
(1) رأيت هذه القصة في: ”التعالم” للعلامة: بكر أبو زيد ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ (ص 110)، غير موثقة من كتب ياقوت.
(2) وسبق قبل قليل : ”حكم الحنفي إذا تَشَفَّع”!!.(1/45)
أنت مقصودك من هذه الرسالة: أنَّه إذ قيل وُلِدَ الرسول ـ عليه الصلاة السلام ـ يجب القيام؟
قال: نعم.
قال: والذي لا يقوم عند ذِكْر ولادته - صلى الله عليه وسلم - ؟
قال: يكون آثماً؛ لأنَّه ترك واجباً.
قال: أوكلما قيل: ولد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجب ذلك.
قال: نعم.
فعندئذ قال له الأستاذ: هاأنذا قد ذكرت لك ولادته - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، فلِمَ لم تقم؟
فقال له: لأنَّه لا يوجد هنا الآن مولد.
فأجابه الأستاذ: أنت إذاً تقوم تعظيماً لما اشتمل عليه المولد، لا لمن ولد؟
فخجل، ولم يجب.
ثم قال له الأستاذ: إنَّ تعظيم النبي - صلى الله عليه وسلم - الحقيقي بـ: اتباعه في: أقواله، وأفعاله، ونشر هدايته، التي جاء بها عن ربه، مشتملة على سعادة خلقه) أ.هـ
[فائد (62)]
فائدة من سيرة: الشريف الحنبلي ـ ضاقت فلمَّا استحكمت حلقاتُها فُرِجَت
وهو: الشريف: محمد بن أحمد بن محمد بن أبي موسى، الهاشمي، الحنبلي ت (428هـ).
قال ابن أبي يعلى ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”الطبقات” (2/185 ـ 186):
(ذكر أبو علي بن شوكة، قال: اجتمعنا جماعةً من الفقهاء، فدخلنا على القاضي: أبي علي، بن أبي موسى، الهاشمي، فذكرنا فَقْرَنا، وشدة ضُرِّنا، فقال لنا:
اصبروا فإنَّ الله سيرزقكم، ويوسِّع عليكم، وأُحدِّثكم في مثل هذا بما تطيبُ به قُلوبكم:
أذكرُ سنةً من السنين، وقد ضاق بي الأمر، شيءٌ عظيم، حتى بعتُ رَحْلَ(1) داري، ونَفَدَ جميعُه، ونَقضتُ الطَّبَقةَ الوسطى من داري، وبعتُ أخشابها، وتَقَوَّتُ بثمنها، وقعدتُ في البيتِ، فلم أخرج، وبقيتُ سنةً، فلمَّا كان بعد سنةٍ، قالت لي المرأةُ: البابُ يُدَقُّ. فقلتُ لها: افتحي الباب، فَفعلتْ، فدخلَ رجلٌ فسلَّم عليَّ، فلما رأى حالي، لم يجلس حتى أنشدني، وهو قائم:
ليسَ من شِدَّةٍ تُصيبكَ إلا سوفَ تمضي وسوفَ تُكْشَفُ كَشْفا
__________
(1) في الأصل: (رجل)، بالجيم المعجمة، وهو تصحيف.(1/46)
لا يَضِقْ ذَرْعُكَ الرحيبُ فإنَّ النَّـ ــارَ يعلو لهيبُها ثمَّ تُطْفا
قَدْ رأينا مَنْ كان أشْفى على الهلا كِ فَوافَتْ نَجاتُه حينَ أشفى
ثم خرجَ عَنّي، ولم يَقعد، فتفاءلتُ بقوله، فلم يخرج اليومُ عني، حتى جاءني رسول القادر بالله، ومعه: ثيابٌ، ودنانير، وبَغلةٌ بمركب، ثم قال لي: أَجِبْ أميرَ المؤمنين، وسلَّمَ إلىَّ: الدنانير، والثيابَ، والبغلةَ. فغيرَّتُ عن حالي، ودخلتُ الحمَّام، وصرتُ إلى القادر بالله، فردَّ إليَّ قضاءَ ”الكوفةِ”، واعمالهَا، وأثرى حالي) أ.هـ
[فائد (63)]
”شيخ الإسلام” تأتيه السلطة، فلم يتسلط
لقي ”شيخ الإسلام” الكثير من المحن، والبلاء؛ سببه حقد، وحسد بعض مخالفيه، الذين لم يتقوا الله فيما كتبوه عنه، ولا فيما قالوه، ولا فيما نسبوه له من الكذب والزَّور(1)، كان ذلك والأمر بيدهم، ولكن شاء الله أن تُقْلَب الأمور رأساً على عقب، ويُصبح الأمر بيدِ ”شيخ الإسلام” رَحِمَهُ اللَّهُ، ويُفتح له الباب، للنِّيْل ممن خالفه، ولكن منهجه السلفي، واقتداءه بالرسول - صلى الله عليه وسلم - ـ عندما عفا عن أهل ”مكة”، ”يوم الفتح”(2)، وقد تَمَكَّنْ منهم ـ جعله يَتَرَفَّع عن ذلك.
جاء في: ”الكَواكِبُ الدُّرِّيَّة” (ص 138)؛ للإمام: مرعي الحنبلي رَحِمَهُ اللَّهُ ـ نقلاً عن قاضي المالكية: زين الدين بن مخلوف:
(
__________
(1) من أعجب ما وقفت عليه مِمِّا قيل في شيخ الإسلام - رضي الله عنه - : إنَّه كان يرغب في: ”السلطة”، وكان يطلبها، بجمع الأتباع، وقيامه بالثورات، والواقع يكذب ذلك.
وأعجب منه: أنَّ هذه الفرية طريقة أعداء الدين ـ في عصرنا ـ والعصور السابقة أيضاً، فكلما حسدوا رجلاً على مكانة يتبوؤها بين الناس، ويدعوا إلى الله؛ قالوا فيه: (يريد الكرسي، والحكم)!.
(2) سوى قلة أهدر دمهم؛ لأنَّهم من أشد الناس عداوة لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - .(1/47)
ما رأينا أفتى مِنْ ابن تيمية، لم نُبْقِ ممكناً في السَّعي فيه، ولمَّا قدرَ علينا عفا) أ.هـ
[فائد (64)]
بين خوارزم شاه، والإمام الرافعي
قال السّبكي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”طبقاته” (8/284):
(إنَّ خوارزم شاه غزا ”الكَرَج”... فلمَّا مرَّ بـ: ”قَزْوينَ”، خرج إليه الرافعيُّ، فلمَّا دخلَ إليه أكرمه، إكراماً عظيماً.
فقال له الرافعيُّ:
سمعتُ أنَّك قاتلتَ الكفّارَ، حتَّى جمَد الدَّمُ على يدك، فأُحِبّ أنْ تُخْرِجَ إليَّ يدَك لأُقبّلَها.
فقال له السُّلطان:
بل أنا أُحِبّ أن أقبّل يدَك.
فقبَّل السُّلطانُ يدَه، وتحادَثا، ثم خرج الشيخ، وركَب دابَّتَه، وسار قليلاً، فعثرت به الدابَّةُ، فوقع فتأذَّت يدُه، التي قبَّلها السُّلطان.
فقال الشيخ:
سُبْحانَ اللهِ، لقد قبَّل هذا السُّلطان يدي، فحصل في نفسي شيءٌ مِن العَظمة، فعُوقِبْت في الوقت، بهذه العقوبة) أ.هـ
[فائد (65)]
مصاب ابن عقيل في وفاة ولديه
تُوفيا ابني ابن عقيل الحنبلي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ ت (513)، في حياته، وتألَّم لفراقهما، ولا سيما أنَّهما على: علمٍ، وفقهٍ، ودرايةٍ، وأنفق عليهما في طلب العلم.
وضرب ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ مثالاً في الصبر، والاحتساب، على هذه المصيبة، وكان يقول:
(لولا أنَّ القلوب توقِنُ باجتماعٍ ثانٍ؛ لتفطرت المرائر، لفراقِ المحبِّين)(1) أ.هـ
و (قال أبو العباس بن المبرِّد:
__________
(1) انظر: مقدمة محقق: ”الواضح في أصول الفقه” (1/7 ـ 9).(1/48)
لمَّا تُوفِّيَتْ والدة: إسماعيل القاضي(1)، ركبتُ إليه أُعزيه، وأتوجَّع له، فألفيتُ عنده الجِلَّة من ”بني هاشم”، و ”الفقهاء”، و ”العدول”، و ”مستوري مدينة السلام”(2)، ورأيتُ من ولهه ما أبداه، ولم يقدر على ستره، وكلاًّ يعزيه، وقد كاد لا يسلو، فلمَّا رأيت ذلك منه أبدأتُ بعد التسليم؛ فأنشدته:
لَعَمْري لئنْ غالَ ريبُ الزَّما نِ فينا لقد غالَ نَفْساً حَبِيبَه(3)
ولكنَّ عِلْمي بما في الثَّوا بِ عند المصيبة يُنْسي المُصِيبَة
فتفهم كلامي، واستحسنه، ودعا بداوة، وكتبه، ورأيته بَعْدُ قد انبسط وجهه، وزال عنه ما كان فيه، من تلك الكآبة، وشدة الجزع) أ.هـ
[فائد (66)]
لا تلازم بين ترك الأفضل والمكروه
قال العلامة: ابن عثيمين ـ حَفِظَهُ اللَّه ـ في: ”الشرح الممتع” (5/492):
(لا يلزم من ترك السنة، والأفضل، أن يقع الإنسان في المكروه؛ لأنَّ المكروه منهي عنه حقيقة، وترك الأفضل ليس بمنهي عنه) أ.هـ
[فائد (67)]
أنموذج من صلابة أهل الإفتاء ـ طاعة ولاة الأمر واجبة في غير معصية الله تعالى ـ
لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق
__________
(1) هو: الإمام: أبو إسْحاق، إسماعيل بن إسْحاق، القاضي، المالكي (199 ـ 282هـ)، والخبر في مقدمة محقق: كتابه: ”فضل الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ”.
(2) ”مدينة السلام”، هي:”بغداد”، فرَّج الله عنها.
(3) قوله: (لئنْ غالَ ريبُ الزَّمانِ) مما لا ينبغي قوله؛ لأنَّه نسب الموت لصروف الدهر وحوادثه، ولم ينسبه لله؛ وهذا مردود بقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر]. وهكذا نجد أنَّ بعض الشعراء، لا يراعون مثل هذه المسائل، في أشعارهم، والله المستعان.(1/49)
جاء في: ”نزهة الخواطر”(1) (8/123 ـ 124)، في ترجمة: الإمام: حسين بن محسن الأنصاري اليماني ت (1327هـ):
(تولى بها ـ بلدة ”لُحية” من بلاد ”اليمن” ـ القضاء، نحو أربع سنين، ثم استعفى منها، لواقعة وقعة عليه؛ وهي:
أنَّ رجلاً من نواب ”الحُدَيْدَة”، ممن بيده الحل والعقد، من الأتراك، يُقال له: ”أحمد باشا”، طلب من تجار ”اللُحية” مكساً غير معين، على اللؤلؤ، الذي يستخرجونه من البحر، من غير أن يعلم مقداره، وثمنه، وأحضر العلماء على ذلك، وأراد منهم الفتوى، فامتنع الشيخ، حتى إنَّ الباشا المذكور، أحضر ”المدفع”، لتخويفه، وقال له: إن لم تكتب على هذه الفتوى؛ أرميك بهذا ”المدفع”، حتى يصير جسمك أوصالاً، فقال: إفعل ما أردت، هذا لا يضر قطعاً، لا عند الله، ولا عند الناس، ولا في العرف، ولا في الاصطلاح، ولا عندك من مولانا السلطان في ذلك حكم، تحتج به علينا، ولو فرضنا أن عندك في ذلك حكماً؛ فطاعة السلطان إذا أمر بما أمر الله به، فأمره مطاع، وإن أمر بخلاف ”الكِتَاب”، و ”السُّنَّة”، فلا طاعة له علينا، وحاشاه أن يحكم يغير ”كِتَاب” ، أو ”سُنَّة”، وهذا الاستعفاء مقدم في خدمتكم، من هذا المنصب.
فشدَّد عليه ثلاثة أيام، ومنعه من الأكل، والشرب، وأصهره في الشمس، ثلاثة أيام، حتى تغيرت صورته، وأنكره كل من عرفه، فتحمَّل هذه المشاق، ولم يرضَ أن يحكم بخلاف ”الكِتَاب”، و ”السُّنَّة”، وأقوال الأئمة، وترك وطنه، ومسقط رأسه، فقدم أرض ”الهند”) أ.هـ
[فائد (68)]
أعلام جهنَّم، ورؤوسها
جاء في: ”تاريخ بغداد” (3/369):
(
__________
(1) ”نُزهة الخواطر وبهجة المسامع والنواظر”، ويُسمَّى: ”الإعلام بمن في تاريخ الهند من الأعلام”؛ للعلامة الشريف: عبدالحي بن فخر الدّين الحسني ت (1341هـ)، أمين ندوة العلماء بـ: ”لكهنو”، وهو والد العلامة أبو الحسن النَّدوي ت (1420هـ) رَحِمَهُما اللَّهُ. وكتابه هذا أعظم كتاب في تاريخ أعلام ”الهند” في القديم والحديث.(1/50)
قال المأمون لحاجِبهِ يوماً:
انظر مَنْ بالباب، مِن أصحابِ الكلامِ؟
فخرج، وعاد إليه، فقال:
بالبابِ: أبو الهُذيل العلاّف، وهو معتزلي، وعبدالله بنُ أباض، الإباضي، وهشامُ بن الكلبي، الرافضي.
فقال المأمون:
ما بقي من أعلام أهل جهنَّم أحد، إلا وقد حضر) أ.هـ
والخبر في: ”السير” (10/543):
(قيل: إنَّ المأمونَ قال لحاجِبهِ: مَنْ بالباب؟
قال: أبو الهُذيل، وعبدالله بنُ أبان الخارجي، وهشامُ بن الكلبي.
فقال: ما بقي من رؤوس جهنَّم، إلا من حضر) أ.هـ
[فائد (69)]
أبى الله أنْ يُتِمَّ غير ”كتابه”
جاء في: ”حاشية ابن عابدين” (1/27 ـ 28):
(روى البويطي عن الشافعي ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا ـ أنَّ قال له:
إنَّي صنفت هذه الكتب، فلم آل فيها الصواب، ولا بد أن يوجد فيها ما يخالف ”كتاب الله”، و ”سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ”. قال الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافًا كَثِيرًا(82)} [النساء].
فما وجدتم فيها مما يخالف ”كتاب الله تعالى”، و ”سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ”؛ فإنَّ راجع عنه إلى ”كتاب الله تعالى”، و ”سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ”.
قال المزني: قرأت كتاب ”الرسالة” على الشافعي (ثمانين مرة)، فما من مرة إلا وكان يقف على خطأٍ.
فقال الشافعي: هيه، أبى الله أن يكون كتاباً صحيحاً غير كتابه).
وقرأت في: ”موضح أوهام الجمع والتفريق”؛ لخطيب بغداد (1/6):
(قال المزني:
لو عُورِضَ كتابٌ سبعينَ مرة، لوُجِدَ خطأ، أبى الله أنْ يكونَ كتابٌ صحيحاً غير ”كتابه”) أ.هـ
وقال العماد الأصفهاني رَحِمَهُ اللَّهُ:
((1/51)
إني رأيت أنَّه لا يكتب إنسانًا كتابًا في يومه، إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر)(1) أ.هـ
وقال يعقوب الأصفهاني رَحِمَهُ اللَّهُ:
كم من كتاب قد تصفحته وقلتُ في ذهني صحَّحته
ثُمَّ إذا طالعته ثانيًا رأيت تصحيفًا فأصلحته(2)
[فائد (70)]
اعملوا ما شئتم
مرتبة ”الصحابة” - رضي الله عنهم - أعلى المراتب على الاطلاق، وبينهم مشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وعاش معهم، ورأوه ورءآهم، ولو لم يكن لهم سوى الرؤيا، لكفتهم فخراً، وأجراً، في الدينا والآخرة.
وما يكون من أحدهم من مخالفة؛ فإمَّا:
أنْ يكون قد عفا الله عنه.
أو أدركته الحسنات الماضية، من أعمالهم العظيمة.
أو يكونوا فيه مجتهدين مخطئين، فخطؤهم مغفور.
ودفاعاً عن صحب محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وحبَّاً لنبينا ولهم، أذكر بعض أولئك النفر، وكيف أكرمهم الله، وأحسن عاقبتهم:
1 ـ فمنهم: الثلاثة الذين خُلِّفوا(3)، فقد تاب الله عليهم، وأنْزل في فيهم ”قرآناً”، يُتْلَى إلى يوم الدين، قال تعالى:
{
__________
(1) هذا الكلام منسوب للعماد الأصفهاني، وقيل إنَّه للقاضي الفاضل ذكره في سياق رسالة منه للعماد الأصفهاني.
وانظر: ”قالوا في الكتاب” (ص 124).
(2) انظر: ”قالوا في الكتاب” (ص 124).
ويروى هذا البيت هكذا:
كم من كتاب قد تصفحته وقلتُ في نفسي قد أصلحته
حتى إذا طالعته ثانيًا وجدتُ تصحيفًا فصحَّحته
(3) وهم: مُرَارَة بن الرَّبِيع العُمَرِيّ، وكَعْب مالِك، وهِلال بن أُمَيَّة الوَاقِفِيّ.
وأوائل اسمائهم اجتمعت في حروف كلمة: ”مكة”، وقصتهم مشهورة، في كتب: ”الحديث”، و ”السِّير”، وهي مُخَرَّجة في:
”الصحيحين”، انظر: ”صحيح البخاري” (4/1603 ـ 1609)؛ برقم (4156)، و ”صحيح مسلم” (4/2120 ـ 2128)؛ برقم (2769).(1/52)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(117)وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لاَ مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ(118)} [التوبة].
2 ـ ومنهم: حاطِب بن أبي بَلْتَعة - رضي الله عنه - ت (30هـ)، وقصته مشهورة.
جاء في: ”صحيح البخاري”؛ في كتاب: المغازي، باب: فضل من شهد بدراً (4/1463)؛ برقم (3762).
و ”صحيح مسلم”؛ في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر، (4/1941 ـ 1942)؛ برقم: (2494)، و (اللفظ للبخاري):
حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُاللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ حُصَيْنَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ أَبِي عَبْدِالرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه - ، قَالَ:(1/53)
بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَأَبَا مَرْثَدٍ الْغَنَوِيَّ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ ـ وَكُلُّنَا فَارِسٌ ـ قَالَ: ((انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا ”رَوْضَةَ خَاخٍ”، فَإِنَّ بِهَا امْرَأَةً مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مَعَهَا ”كِتَابٌ” مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ)). فَأَدْرَكْنَاهَا تَسِيرُ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، حَيْثُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقُلْنَا: ”الْكِتَابُ”. فَقَالَتْ: مَا مَعَنَا ”كِتَابٌ”. فَأَنَخْنَاهَا، فَالْتَمَسْنَا، فَلَمْ نَرَ كِتَاباً، فَقُلْنَا: مَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، لَتُخْرِجِنَّ ”الْكِتَابَ”، أَوْ لَنُجَرِّدَنَّكِ. فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ، أَهْوَتْ إِلَى حُجْزَتِهَا ـ وَهِيَ مُحْتَجِزَةٌ بِكِسَاءٍ ـ فَأَخْرَجَتْهُ، فَانْطَلَقْنَا بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ خَانَ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ، وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ((مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟)). قَالَ حَاطِبٌ: وَاللَّهِ مَا بِي أَنْ لاَ أَكُونَ مُؤْمِناً بِاللَّهِ، وَرَسُولِهِ - صلى الله عليه وسلم - ، أَرَدْتُ أَنْ يَكُونَ لِي عِنْدَ الْقَوْمِ يَدٌ، يَدْفَعُ اللَّهُ بِهَا عَنْ أَهْلِي، وَمَالِي، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِكَ إِلاَّ لَهُ هُنَاكَ مِنْ عَشِيرَتِهِ، مَنْ يَدْفَعُ اللَّهُ بِهِ عَنْ أَهْلِهِ، وَمَالِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - : ((صَدَقَ، وَلاَ تَقُولُوا لَهُ إِلاَّ خَيْراً)). فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّهُ قَدْ خَانَ اللَّهَ، وَرَسُولَهُ، وَالْمُؤْمِنِينَ، فَدَعْنِي فَلِأَضْرِبَ عُنُقَهُ.(1/54)
فَقَالَ: ((أَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ))؟ فَقَالَ: ((لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ، فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ، فَقَدْ وَجَبَتْ لَكُمُ الْجَنَّةُ، أَوْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ)). فَدَمَعَتْ عَيْنَا عُمَرَ، وَقَالَ: اللَّهُ، وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
3 ـ ومنهم: مِسْطَح بن أُثاثة بن عباد، المُطَّلبيُّ، المهاجريُّ، البدري - رضي الله عنه - ت (34هـ)، مِمَّن ذُكِروا في: ”قصة الإفك”.
ترجم الذهبي لمِسْطَح - رضي الله عنه - ، في: ”السير” (1/187 ـ 188)، وقال في آخر ترجمته مشيراً إلى: ”حادثة الإفك”:
(إياك ياجريِ أن تنظر إلى هذا البدري شَزْراً لِهفوة بدتْ منه، فإنَّها قد غُفِرَت، وهو من أهل الجنَّة، وإياك يارافضيّ أنْ تُلوّح بقذف أم المؤمنين، بعد نزول النص في براءتها، فتجب لك النار) أ.هـ
فكان تنبيهاً عزيزاً، من عالم عزيز، فرَحْمَةُ اللَّهِ عليه.
4 ـ ومنهم: ماعز بن مالك الأسلمي - رضي الله عنه - :
جاء في: ”صحيح مسلم”؛ في كتاب: الحدود باب: من اعترف على نفسه بالزنى، (3/1321 ـ 1322)؛ برقم (1695):
حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ الْهَمْدَانِيُّ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَعْلَى (وَهُوَ: ابْنُ الْحَارِثِ الْمُحَارِبِيُّ)، عَنْ غَيْلاَنَ (وَهُوَ: ابْنُ جَامِعٍ الْمُحَارِبِيُّ)، عَنْ عَلْقَمَةَ ابْنِ مَرْثَدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:(1/55)
جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طَهِّرْنِي. فَقَالَ: ((وَيْحَكَ، ارْجِعْ، فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ)). قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طَهِّرْنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((وَيْحَكَ، ارْجِعْ، فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ، وَتُبْ إِلَيْهِ)). قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طَهِّرْنِي. فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ: ((فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟)) فَقَالَ: مِنَ الزِّنَى. فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((أَبِهِ جُنُونٌ؟)) فَأُخْبِرَ: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ. فَقَالَ: ((أَشَرِبَ خَمْراً؟)) فَقَامَ رَجُلٌ، فَاسْتَنْكَهَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((أزَنَيْتَ؟)) فَقَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ، فَرُجِمَ، فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ: قَائِلٌ يَقُولُ: لَقَدْ هَلَكَ، لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ. وَقَائِلٌ يَقُولُ: مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ؛ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَالَ: اقْتُلْنِي بِالْحِجَارَةِ. قَالَ: فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ، أَوْ ثَلاَثَةً، ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَهُمْ جُلُوسٌ، فَسَلَّمَ، ثُمَّ جَلَسَ، فَقَالَ: ((اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ)).(1/56)
قَالَ: فَقَالُوا: غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - : ((لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً، لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ، لَوَسِعَتْهُمْ))(1).
5 ـ ومنهم: الغامدية رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:
جاء في: ”صحيح مسلم”؛ في كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، (3/1323 ـ 1324)؛ برقم (1695):
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ /ح/ وحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ (وَتَقَارَبَا فِي لَفْظِ الْحَدِيثِ): حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا بَشِيرُ بْنُ الْمُهَاجِرِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ... (وساق قصة ماعز وفي أخرها):
__________
(1) وعند أبي داود في: ”سننه” في كتاب: الحدود، بَاب: رَجْمِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ (4/580 ـ 581)؛ برقم (4428)، من وجه آخر، وفيه: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهُ الْآنَ لَفِي أَنْهَارِ الْجَنَّةِ، يَنْقَمِسُ فِيهَا)).
* وقوله: (يَنْقَمِسُ)، بالقاف، كذا في ط الدَّعاس، وفي ط ”بذل المجهود” (16/387): (يَنْغَمِسُ)، بالغين، ومعناهما واحد، قال ابن الأثير في: ”النهاية في غريب الحديث” (4/107):
(يُقال قَمَسَه في الماء، فانْقَمَس. أي: غَمَسَه، وغَطَّه. ويُروى بالصاد، وهو بمعناه) أ.هـ(1/57)
قَالَ: فَجَاءَتِ الْغَامِدِيَّةُ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدْ زَنَيْتُ، فَطَهِّرْنِي. وَإِنَّهُ رَدَّهَا، فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ تَرُدُّنِي، لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كَمَا رَدَدْتَ مَاعِزاً، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَحُبْلَى. قَالَ: ((إِمَّا لاَ فَاذْهَبِي حَتَّى تَلِدِي)). فَلَمَّا وَلَدَتْ، أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ، فِي خِرْقَةٍ، قَالَتْ: هَذَا قَدْ وَلَدْتُهُ. قَالَ: ((اذْهَبِي فَأَرْضِعِيهِ، حَتَّى تَفْطِمِيهِ)). فَلَمَّا فَطَمَتْهُ، أَتَتْهُ بِالصَّبِيِّ، فِي يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقَالَتْ: هَذَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَحُفِرَ لَهَا إِلَى صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ، فَرَجَمُوهَا، فَيُقْبِلُ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِحَجَرٍ، فَرَمَى رَأْسَهَا، فَتَنَضَّحَ الدَّمُ عَلَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - سَبَّهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: ((مَهْلاً يَا خَالِدُ، فَوَالَّذِي نَفْسِي، بِيَدِهِ لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً، لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ ”مَكْسٍ”؛ لَغُفِرَ لَهُ)). ثُمَّ أَمَرَ بِهَا، فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ.
6 ـ ومنهم: الجُهَنِيَّة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها:
جاء في: ”صحيح مسلم”؛ في كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى، (3/1324)؛ برقم: (1696):
حَدَّثَنِي أَبُو غَسَّانَ، مَالِكُ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْمِسْمَعِيُّ: حَدَّثَنَا مُعَاذٌ (يَعْنِي: ابْنَ هِشَامٍ): حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ: حَدَّثَنِي أَبُو قِلاَبَةَ: أَنَّ أَبَا الْمُهَلَّبِ حَدَّثَهُ: عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ:(1/58)
أَنَّ امْرَأَةً مِنْ ”جُهَيْنَةَ” أَتَتْ نَبِيَّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، وَهِيَ حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَصَبْتُ حَدّاً، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. فَدَعَا نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَلِيَّهَا، فَقَالَ: ((أَحْسِنْ إِلَيْهَا، فَإِذَا وَضَعَتْ فَأْتِنِي بِهَا)). فَفَعَلَ، فَأَمَرَ بِهَا نَبِيُّ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - ، فَشُكَّتْ عَلَيْهَا ثِيَابُهَا، ثُمَّ أَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ، ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: تُصَلِّي عَلَيْهَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَقَدْ زَنَتْ. فَقَالَ: ((لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً، لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، لَوَسِعَتْهُمْ. وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى)).
[فائد (71)]
بين: ”الغامدية”، و ”الجهينة”
اتضح من سياق خبر كل من: الغامدية، والجهنية، أنَّهما امرأتان مختلفتان؛ لما يأتي:
1 ـ الأولى غامدية، والثانية جهنية، ولا يخفى الفرق.
2 ـ الأولى رُجِمَت بعد الفطام، والثانية: رُجِمَت بعد الولادة مباشرة.
وهذان فارقان من ظاهرِ الرِّوايتين، وهناك من يرى أنَّ القصتين واحدة، فالغامدية والجهنية، اسمان لامرأة واحدة، فقد أخرج أبو داود الحديثين في: ”سننه” (4/587 ـ 589)، في كتاب: الحدود، تحت بَاب: الْمَرْأَةِ الَّتِي أَمَرَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِرَجْمِهَا مِنْ جُهَيْنَةَ، والله أعلم.
وانظر: ”شرح النووي على مسلم” (11/214 ـ215)؛ فهو يرى أنَّ الرِّوايتين (الغامدية، والجهنية)، قضيةٌ واحدة، فـ: ”غامد”، بطن من: ”جهينة”، ويجب تأويل رواية: ”الجهينة”، وحملها وفق رواية: ”الغامدية”.
قلت: ولا يرد إشكال في القول بأنَّ الروايتين مختلفتان، وهما قضيتان، لا واحدة، والله أعلم.
[فائد (72)]
أوّل من بدأ بـ: ”المحمدين” في التراجم(1/59)
تبدأ بعض كتب التراجم، والتي التزم مؤلفوها الترتيب الهجائي: (أ، ب، ت، ث) بمن اسمه: ”محمد”، تقديماً لاسم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - على غيره، ويشرعون بعد ذلك في التراجم وفق ترتيب الهجاء، ثم الكنى، ويختمون بالنساء.
وأوّل من صنع ذلك هو: الإمام البخاري رَحِمَهُ اللَّهُ.
يقول ابن ناصر الدين ت (842هـ) في: ”الرد الوافر” (ص 57):
(رتبت أسماء من شهد لابن تيمية من الأعلام بإمامته، وأنَّه ”شيخ الإسلام”، على حروف المعجم المألوفة، اتباعاً للطريقة المعروفة.
وابتدأت من ذلك بـ: ”المحمدين”؛ تبركاً باسم سيد المرسلين، صلوات الله، وسلامه، عليهم أجمعين، واقتداءً بأوّل من رتب الأسماء على الحروف، من المحدثين؛ وهو: أبو عبدالله البخاري، شيخ الإسلام، والمسلمين) أ.هـ
[فائد (73)]
لمحات من سيرة: شيخ الإسلام: أبي العَلاء، الهَمَذَانِيّ، العَطَّار
جاء في ترجمة شيخ الإسلام: أبو العَلاء، الحسن بن أحمد الهَمَذَانِيّ، العَطَّار ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”السير” (21/41 ـ 44):
(قال أبو سَعْدٍ السَّمعانيُّ:
هو حافظٌ مُتْقنٌ، ومقرىءٌ فاضلٌ، حَسَنُ السيرةِ، جميلُ الأمْرِ، مَرْضِيُّ الطَّريقةِ، عزيزُ النَّفسِ، سخيُّ بما يملكهُ، مُكْرِمٌ للغرباءِ، يعرفُ الحديثَ، والقراءاتِ، والآدبَ، معرفةً حسنةً...
وقال الحافظُ عبدُالقادر [الرُّهاوي]:
شيخُنا أشهرُ من أنْ يُعرَّفَ؛ تعذَّرَ وجودُ مثلِه من أعصارٍ كثيرةٍ، على ما بَلَغَنا من سِيَرِ العلماءِ، والمشايخِ، أرْبَى على أهلِ زمانِه في كثرةِ السَّماعاتِ، مع تحصيلِ أصولِ ما سَمِعَ، وجودة النُّسَخِ، وإتقانِ ما كَتَبَهُ بخطِّهِ، فإنَّه ما كانَ يكتبُ شيئاً إلا منقوطاً، معرباً...
وكان مُهِيناً للمالِ، باعَ جميعَ ما وَرِثَهُ، وكانَ من أبناءِ التُّجَّارِ، فأنفقهُ في طلبِ العلمِ، حتَّى سافرَ إلى: ”بغدادَ”، وإلى: ”أصبهانَ” مراتٍ ماشياً، يحملُ كتبَهُ على ظهرِهِ.(1/60)
سمعتُه يقولُ: كنتُ أبيتُ بـ: ”بغدادَ” في المساجدِ، وآكلُ خبزَ الدُّخْنِ.
قالَ [أي: الرُّهاوي]: وسمعتُ أبا الفضْلِ بن بُنَيْمانَ الأديبَ يقولُ:
رأيتُ أبا العلاءِ العطَّارَ في مسجدٍ من مساجدِ بغدادَ يكتُبُ وهو قائمٌ؛ لأنَّ السِّراجَ كان عالياً...
فَعَظُمَ شَأنُهُ في القلوبِ؛ حتَّى إنْ كان لَيَمُرُّ في: ”هَمَذَانَ”، فلا يبقى أحدٌ رآهُ إلاّ قامَ، ودعا لَهُ؛ حتَّى ”الصبيانُ”، و ”اليهودُ”، وربَّما كانَ يمضي إلى بلدةِ: ”مُشْكانَ” يصلِّي بها الجمعةَ؛ فيتلقَّاهُ أهْلُها خارجَ البَلَدِ؛ ”المسلمونَ” على حدةٍ، و ”اليهودُ” على حدةٍ، يدعونَ لَهُ، إلى أنْ يدخلَ البلدَ.
وكانَ يُفْتَحُ عليهِ من الدُّنيا جُمَلٌ ، فلم يَدَّخِرْها، بَلْ يُنْفِقْها على تلامذتِه، وكانَ عليهِ رسومٌ لأقوامٍ، وما كانَ يبرحُ عليه: (ألفُ دينارٍ) ”هَمَذَانيةٍ”، أو أكثر من الدَّيْنِ، مع كثرةِ ما كانَ يُفْتَحُ عليهِ.
وكانَ يطلبُ لأصحابِهِ من الناسِ، ويعزُّ أصحابَه، ومنْ يلوذُ به، ولا يحضرُ دعوةً حتَّى يحضرَ جماعةُ أصحابِه، وكانَ لا يأكلُ من أموالِ الظَّلَمةِ، ولا قَبِلَ منهم مدرسةً قطُّ، ولا رباطاً، وإنَّما كانَ يُقْرىءُ في دارِهِ، ونحنُ في مسجدِهِ سُكَّانٌ.
وكانَ يُقْرىءُ نصفَ نهارِهِ الحديثَ، ونصفَهُ القرآنَ، والعلمَ، ولا يَغْشَى السلاطينَ، ولا تأخذُهُ في اللهِ لومةُ لائمٍ، ولا يُمَكِّنُ أحَداً في محلَّتِهِ أن يفعلَ منكراً، ولا سماعاً، وكانَ يُنَزِّلُ كلَّ إنسانٍ منزلتَهُ، حتى تأَلَّفت القلوبُ على محبَّتِهِ، وحسنِ الذكرِ لَهُ في الآفاقِ البعيدةِ، حتَّى أهلُ ”خُوارَزْمَ”، الذينَ هُمْ ”مُعْتَزِلَةٌ”، مع شدَّتِه في ”الحَنْبَلةِ”.(1/61)
وكانَ حسنَ الصلاةِ، لم أرَ أحداً من مشايِخِنا أحسنَ صلاةً منهُ، وكانَ متشدِّداً في أمرِ الطَّهارةِ؛ لا يدعُ أحَداً يمسُّ مداسَهُ، وكانتْ ثيابُه قِصَاراً، وأكمامُه قِصَاراً، وعمامتُهُ نحوَ (سبعةِ أذرعٍ).
وكانت السُّنَّةُ شعارَه ودثارَهُ، اعتقاداً وفعْلاً) أ.هـ
[فائد (74)]
الشيخ، الفقيه: سليمان بن عبدالوهاب
هو: الشيخ، الفقيه: سليمان ابن الشيخ عبدالوهاب ابن الشيخ سليمان التميمي ت (1208هـ)، أخو شيخ الإسلام: محمد بن عبدالوهاب.
وهو: من أعداء ”الدعوة السلفية”، وإن كان أخو المؤسسِ لها، وله في محاربةِ أخيه صولاتٌ، وجولاتٌ.
وقد ألَّفَ كتاباً في الرد على أخيهِ، ودعوتهِ السلفية سمَّاهُ: ”فصل الخطاب في الردِّ على محمد بن عبدالوهاب”، وقد طُبِعَ باسم: ”الصواعق الإلهية في الردِّ على الوهابية”؛ (في: ”الهند”، و ”مصر”، و ”تركيا”)، و له نسخة خَطية باسم: ”حجة فصل الخطاب، من كتاب رب الأرباب، وحديث رسول الملك الوهاب، وكلام أُولي الألباب، في إبطال مذهب محمد بن عبدالوهاب” (مخطوطٌ في: ”حضرموت”).
وهناك خلافٌ:
هل عاد إلى الحقِ؟ وأذعنَ لـ: ”الدعوةِ السلفية”؟ أو لا؟
وهل الرسالة التى تُنْسَب له، في رجوعه إلى الحقِ، ثابتة عنه؟ أو لا(1)؟
[فائد (75)]
تنبيه للمؤرِّخِ المُنْصِف
قال تاج الدين السّبكي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”طبقاته”(2) (4/161):
(أول ما ينبغي لك أيّها ”المُنْصِف” إذا سمعتَ الطعنَ في رجلٍ:
أنْ تبحثَ عن خُلَطَائِه، والذين عنهم أخذ ما ينتحِلُ، وعن مَرْباه، وسبيله.
__________
(1) في معرض دفاعه عن الإمام: الحاكم النيسابوري، صاحب: ”المُسْتَدْرَك”، وما قيل فيه.
(2) انظر سيرته، وتفصيل ذلك في:
”عنوان المجد” (1/90)، و ”علماء نجد خلال ستة قرون” (1/302 ـ 306)، و ”دعاوي المناوئين” (ص 40 ـ 42)، و ”الأعلام” (3/130)، ورَجَّح العلامة: عبدالرحمن التويجري رجوعه، انظر: ”الإفادات” (ص 72 ـ 81).(1/62)
ثم تنظرَ كلامَ أهل بلده، وعَشِيرته، من مُعَاصريه، العارفين به، بعد البَحْث عن الصديق منهم له، والعدوِّ، الخالي عن المَيْل إلى إحدى الجهتيْن.
وذلك قليل في المُتعاصِرين المجتَمِعين في بلد) أ.هـ
[فائد (76)]
شروط المؤرخ الأربعة
قال عبدالوهاب السّبكي في: ”طبقاته” (2/23)، نقلاً عن أبيه علي بن عبدالكافي رَحِمَهُما اللَّهُ:
(يشترط في المؤرخ:
الصدقُ.
وإذا نقل يعتمد اللفظ، دون المعنى.
وألا يكون ذلك الذي نقله، أخذه في المذاكرة، وكتبه بعد ذلك.
وأن يُسَمِّي المنقول عنه.
فهذه شروط أربعة فيما ينقله) أ.هـ
ثم ذكر أربعة شروط أخرى، فراجعه.
[فائد (77)]
بين : ”الْهَمْدَاني” ، و ”الْهَمَذَاني”
النسبة إلى القبيلة المعروفة؛ يكون بالسكون والمهملة: ”الْهَمْدَاني”. وهذا في نسب الأوائل.
والنسبة إلى البلد المعروف؛ يكون بالمفتوحة والمعجمة: ”الْهَمَذَاني”(1).
[فائد (78)]
منهج المؤرخين ـ باستقراء السّبكي ـ في تراجم من يُخالف عقيدتهم ـ بين الأستاذ الذهبي وتلميذه السّبكي ـ وإنصاف الشوكاني للحق
قال السّبكي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”طبقاته” (4/162):
(قد استقريْتُ؛ فلم أجد مُؤَرِّخَاً ينتحل عقيدةً، ويخلو كتابه عن الغمْزِ، ممَّنْ يحيدُ عنها، سنةُ الله في المؤرِّخين، وعادتُه في النَّقَلة، ولا حول ولا قوة إلا بحبْله المتين) أ.هـ
قلت: أراد بـ: ”الغمز” هنا: تبيين مخالفة مخالفيه، والإشارة إليها، من قريب أو بعيد؛ ومناقشتها، وردها، وهذا وارد.
أمَّا (الغمز المنهي عنه)، فغير مُسَلَّم، ومثالنا الذهبي وسيأتي.
__________
(1) انظر: ”تبصير المنتبه” (4/1460).(1/63)
* والعجيب أنَّ قائل هذا الكلام، وهو: الإمام الجليل: تاج الدين السّبكي، من كبار المحدثين، والفقهاء، والمؤرخين، والنُّقاد، ومع قوة كلامه السابق، إلا أنَّنا نراه ـ عفا الله عنه ـ يجحف (أحياناً) إذا مرَّ ذكر مخالفيه في العقيدة، ولا سيما الحنابلة خاصة، ومن يثبت صفات الرب ـ عزَّ وجلَّ ـ عامة، و ”طبقاته” تُدينه.
فقد ترجم في ”طبقاته” (9/103 ـ 104) لشيخه الذهبي، ومِمَّا قاله فيه:
(كان شيخُنا ـ والحَقُّ أحَقُّ ما قِيل، والصِّدْقُ أولى مآاثَره ذو السَّبيل ـ شديدَ المَيْلِ إلى آراء الحَنابِلة [ويقصد أهل السنة]، كثيرَ الإِزراءِ بأهل السُّنّة [ويقصد الأشاعرة](1)، الذين إذا حضروا كان أبو الحسن الأشعريّ فيهم مُقَدَّمَ القَافِلة؛ فلذلك لا يُنْصِفُهم في التَّراجم، ولا يَصِفُهم بخَير إلا وقد رَغِم منه أنْفُ الرَّاغِم) أ.هـ
قلت: حاشا المؤرِّخ، النَّقَّاد، السّلفي، الإمام الذهي رَحِمَهُ اللَّهُ، أن يكون هذه منهجه في تورايخه: الكبيرة، والصغيرة.
والسّبكي من تلاميذه، وينقل من كتابه: ”سير أعلام النبلاء”، في ”طبقاته”، وهو أعلم بمنهجه، فيكف يقول مثل هذا؟!
__________
(1) هكذا هو ـ غفر الله له ـ يرى أنَّ ”الأشاعرة” هم ”أهل السنة”، يقول في: (2/13) في وصف شيخه الذهبي:
(له علم، وديانة، عنده على ”أهل السنة” تحمّل مفرط، فلا يجوز أن يُعْتَمد عليه) أ.هـ
وقال في: (2/24):
(ولقد وقفت في تاريخ الذهبيّ ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ على ترجمة الشيخ الموفَّق بن قُدامة الحنبليّ، والشيخ فخر الدين بن عساكر، وقد أطال تلك، وقصَّر هذه، وأتى بما لا يشك لبيب، أنَّه لم يحمله على ذلك، إلا أنَّ هذا أشعريّ وذاك حنبليّ، وسيقفون بين يدي رب العالمين) أ.هـ
وقال في: (2/25):
(والذي أُفتي به: أنَّه لا يجوز الاعتماد علىكلام شيخنا الذهبيّ، في ذم أشعريٍّ، ولا شكر حنبليٍّ، والله المستعان) أ.هـ(1/64)
إنَّ: ”سير أعلام النبلاء” موسوعة فريدة في باب التراجم، لا يكاد يترك شيئاً من حياة المترجم، ولا سيّما الكبار، إلا وذكره، ونراه يتكلم على تراجم الرجال السّلفيين والخلفيين، وما (غمز) أحداً، ولا (أزرا) بأحدٍ، ممن خالفهم، ولو في العقيدة، وحاشاه.
بل يتكلم على بدعة المبتدع، بما يليق بحاله، (دون إفراطٍ، ولا تفريطٍ)(1).
ومن كلام السّبكي على الحنابلة ما ذكره في: ”طبقاته” (8/218) وما بعدها، عندما ذكر الواقعة بين الحنابلة والشافعية في عصر الملك الأشرف، وراجعها في: ”سير أعلام النبلاء” (22/126)؛ لترى أي المنهجين أسلم، ومن الذي (غمز) مخالفه، واتهمه بـ: الابتداع، والحسد، والوشاية، والتجسيم، وتشبيه الله بخلقه(2).
__________
(1) قال الشوكاني في: ”البدر الطالع” (ص 627) عن مصنفات الذهبي:
(جميع مصنفاته مقبوله، مرغوب فيها، رحل الناس لأجلها، وأخذوها عنه، وتداولوها، وقرؤوها، وكتبوها في حياته، وطارت في جميع بقاع الأرض. وله فيها تعبيرات رائقة، وألفاظ رشيقة غالباً لم يسلك مسلكه فيها أهل عصره، ولا من قبلهم، ولا من بعدهم. وبالجملة: فالناس في التاريخ من أهل عصره، فمن بعدهم، عيال عليه، ولم يجمع أحد في هذا الفن كجمعه، ولا حرره كتحريره) أ.هـ
(2) بل غمز السبكي ـ سامحه الله ـ الذهبي في: (2/15) بأنَّه:
مطبوع على قلبه، ويورِّي في يمينه، ويعتمد على هوى نفسه في تآليفه.
وقال في 2/22: (أما تاريخ شيخنا الذهبيّ ـ غفر الله له ـ فإنَّه على حسنه، وجمعه، مشحون بالتعصّب المفرط، لا واخذه الله، فلقد أكثر الوقيعة في أهل الدين، أعني الفقراء الذين هم صفوة الخلق، واستطال بلسانه على كثير من أئمة الشافعيين، والحنفيين، ومال، فأفرط على ”الأشاعرة”، ومدح فزاد في ”المجسِّمة”. هذا وهو الحافظ المِدْرَه، والإمام المبجَّل؛ فما ظنك بعوام المؤرخين) أ.هـ وقوله: (الفقراء). ما أراه إلا يقصد: ”الصوفية”، والله أعلم.(1/65)
وانظر: كلام السّبكي في: ”الطبقات” على ”الحنابلة” في: (2/16 ـ 17)(1)، و (3/353)، و (8/237).
وتأمَّل تحامله على شيخه الذهبي في: ”طبقاته”: (2/13 ـ 15)، و (2/22)، و (3/352 ـ 353)، و (8/88)، ترى عجباً.
فقد وصفه في (3/352): بـ: (المسكين)، وقال عنه: (فَوَيْحَه، ثم وَيْحَه)، وخاطبه في: (3/353) بكلامٍ طويل جاء فيه:
(أقسم بالله يميناً بَرَّةً ما بك إلا أنَّك لا تحب شيَاع اسمِه ـ أي: أبو الحسن الأشعري ـ بالخير... فسوف تقف معه بين يدي الله تعالى، يومَ يأتي وبين يديه طوائفُ العلماء من المذاهب الأربعة، والصالحين من الصوفية، والجَهَابِذة الحفّاظ من المحدِّثين، وتأتي أنت تَتَكَسَّع في ظُلَم التجسيم(2)، الذي تدَّعي أنَّك بريء منه؛ وأنت من أعظم الدعاة إليه، وتزعُم أنَّك تعرِف هذا الفن، وأنت لا تفهم فيه نَقِيرا، ولا قِطْمِيرا) أ.هـ
ومع ذلك فهو لا يتنكر لأستاذه؛ فيقول:
(وأنا قد قلت غير مرة: إنَّ الذهبيّ أستاذي، وبه تخرَّجت في علم الحديث، إلا أنَّ الحقَّ أحقُّ أنْ يُتَّبَع)(3) أ.هـ
ويبدوا أنَّ الإمام السبكي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ لم يكن هذا منهجه مع أستاذه في: ”طبقاته” فحسب، بل في غيرها، وقد وجدته في كتابه: ”مُعِيدُ النِّعَم ومُبِيدُ النِّقَم” (ص 74، 87)، يُسيء إلى شيخه أيضاً. وهو في نفس الوقت يكرر مقولته التي في: ”الطبقات” ؛ فيقول في: ”مُعِيدُ النِّعَم” (ص 74):
(والذهبي أستاذنا، والحقّ أحقّ أن يتبع) أ.هـ
__________
(1) في هذا الموضوع: الحنابلة: مجسمة، ويحلون دم المخالف، والإمام أحمد منهم بريء.
(2) وأكد ـ سامحه الله ـ في: (2/13)، أنَّ الأشاعرة هم خصوم الذهبي يوم القيامة عند الله.
(3) ذكر هذه العبارة، أكثر من مرة، وانظر: (2/13).(1/66)
ولكن صنيع الإمام السّبكي لم يقابل برضى من أهل العلم، فقد تجاوز حد الأدب مع شيخه الذهبي، وسأدعهما الآن أمام القاضي الشوكاني ليحكم بين الطرفين (الذهبي والسّبكي)(1):
قال أعجوبة عصره، وسلفي وقته: الإمام الشوكاني، في ”بدره الطالع” (ص 627 ـ 628):
(وقد أكثر التشنيع عليه تلميذه السّبكي، وذكر في مواضع من طبقاته للشافعية، ولم يأت بطائل؛ بل غاية ما قاله: إنَّه كان إذا ترجم الظاهرية والحنابلة، أطال في تقريظهم، وإذا ترجم غيرهم من ”شافعي”، أو ”حنفي” لم يستوف ما يستحقه، وعندي أنَّ هذا كما قال الأول:
وتلك شكاية ظاهر عنك عارها
فإنَّ الرجل قد ملئ حبّاً للحديث، وغلب عليه، فصار الناس عنده هم أهله، وأكثر محققيهم وأكابرهم هم من كان يطيل الثناء عليه، إلا من غلب عليه التقليد، وقطع عمره في اشتغال بما لا يفيد.
ومن جملة ما قاله السّبكي في صاحب الترجمة:
”إنَّه كان إذا أخذ القلم غضب، حتى لا يدري ما يقول”(2).
وهذا باطل؛ فمصنفاته تشهد بخلاف هذه المقالة، وغالبها الإنصاف والذَّبّ عن الأفاضل، وإذا جرى قلمه بالوقيعة في أحد، فإنْ لم يكن من معاصريه، فهو إنَّما روى ذلك عن غيره، وإن كان من معاصريه فالغالب أنَّه لا يفعل ذلك إلا مع من يستحقّه، وإن وقع ما يخالف ذلك نادراً فهذا شأن البشر. وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك، إلا المعصوم، والأَهْوِيَة تختلف، والمقاصد تتباين، وربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون).
__________
(1) ومن قبله شيخ الإسلام: عبدالرحمن السخاوي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ ت (902هـ)، فقد أنكر على السبكي هذا الصنيع مع شيخه، وانظر كتابه: ”الإعلان بالتوبيخ” (ص 76).
(2) انظر كلاماً للسبكي نحو هذا في: ”طبقاته” (2/14).(1/67)
انتهى حكم القاضي الشوكاني، بين الأستاذ وتلميذه، وكما رأينا فكلامه نموذج من الإنصاف العلمي، الذي فقده الإمام السّبكي، تجاه أستاذه، وكان الأولى بالسّبكي أنْ يكون هو قائل هذا الكلام، بِرَّاً بأستاذه، بدلاً من أن يخرج من غيره.
وقد دافع أ.د: بشّار عوّاد في: ”الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام” عن الذهبي بكلام علمي رصين، وعلق على قول السبكي السابق: (كان شديدَ المَيْلِ إلى آراء الحَنابِلة، كثيرَ الإِزراءِ بأهل السُّنّة) (ص 464):
(ولم يكن الذهبي متعصباً للحنابلة، بالمعنى الذي صوّره السبكي، فالرجل كان ”محدثاً”، يُحب ”أهل الحديث”، ويحترمهم) أ.هـ
وقال (ص 462):
(ولو قال السبكي: إنَّه كان يتعصب على ”الأشاعرة” حسب، لوجد بعض الآذان الصاغية، ولبحث له المؤيدون عن بضعة نصوص، قد تؤيد رأيه. علماً أنَّي بحثت، في: ”تاريخ الإسلام”، ولم استطع أنْ أحصل على مثلٍ يَصْلُح أنْ يُسَمَّى انتقاداً لأشعري.
نعم، قد نجد بعض تقصير في تراجم قسم من ”الأشاعرة”، قد جاء من عدم قيام الذهبي بنقل آراء المخالفين بتوسع، حباً منه للعافية) أ.هـ
هذا ما أحببت ذكره، ويعلم الله ما أردت بهذا الغضَّ من قدر الإمام السّبكي رَحِمَهُ اللَّهُ(1).
فمَنْ أنا..؟ ومَنْ هو..؟ غفر الله لنا، ولجميع علماء المسلمين، آمين..
[فائد (79)]
الغيبة بالقلم كالغيبة باللسان؛ لكون القلم أحد اللسانين
قال العلامة اللكنوي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”ظفر الأماني” (ص 518):
(
__________
(1) ومن باب الأمانة؛ ينبغي أنْ يُعلم: أنَّ السبكي أشعري متكلم، وشافعي متعصب، ومائل عن شيخ الإسلام، ومنهجه، وله ردود على شيخ الإسلام، فصرعه فيها تلاميذ شيخ الإسلام، كابن عبدالهادي، وغيره، والله نسأل العفو والمسامحة. [الشيخ: عبدالله بن مانع العتيبي](1/68)
تحرم الغيبة بالكتابة؛ كما تحرم باللسان، كما بسطته في رسالتي المؤلفة باللسان الهندية، في باب الغيبة، المسماة بـ: ”زجر الشبَّان والشِّيبة عن ارتكاب الغيبة”، وهي رسالة لم يؤلف مثلها في بابها. ذكرت قدراً من مباحثها، في رسالتي الأخرى المؤلفة باللسان الهندية، المسماة بـ: ”عمدة النصائح بترك القبائح”، وأيضاً في رسالتي المؤلفة بالعربية، المسماة: بـ: ”نفع المفتي والسائل بجمع متفرقات المسائل”، إن شئت الاطلاع على مباحث الغيبة، فطالعها؛ تجد فيها، ما لا تجد في غيرها) أ.هـ
[فائد (80)]
كتب القيروان إلى أين ؟ ـ الرافضة وراء كل شر
كانت ”بغداد” معقل للتراث العلمي للمسلمين، وقد مرت بجريمة أدانها التاريخ، ألا وهي ما فعله ”التتار”، عند دخولهم إليها، ومِمِّا فعلوه: رمي كتب المسلمين في النهر.
ولكنَّ ”التتار” لم يصلو إلى ”القيروان”، ومن خلال التتبع، وجدت أنَّ للقيروان تراثاً علمياً كبيراً، وقويّاً، أظهر ذلك الكثير من الدراسات، التي تناولت هذه المدينة بالدراسة، ولكن السؤال هنا:
أين هي كتب ”القيروان” على كثرتها، وشهرتها العلمية؟
أقول: أفضل دراسة تكلمت عن هذا الأمر، هي: ”مدرسة الحديث في القيروان، من الفتح الإسلامي، إلى منتصف القرن الخامس الهجري”، وهي رسالة ماجستير، للدكتور: الحسين بن محمد شوَاط.
يقول في: (2/803 ـ 806) بعد ما ذكر جملة وافرة من مؤلفات علماء القيروان:
(إنَّ هذه المصنفات لم يصلنا منها إلا القليل جداً، وتلف معظمها، وتبدد، ولعل بعضها لا يزال قابعاً، في بعض مكتبات العالم.
وإنَّ الظروف القاسية، والمحن المتتالية، التي مرّت بها ”القيروان” قد ساهمت في اتلاف كثير من هذه المصنفات، التي لو وُجِدت لتغيرت النظرة حول الحديث بـ: ”إفريقيّة”.
وإنَّ أهم عوامل فقدان هذه المصنفات ما يلي:
((1/69)
1) سيطرة ”العُبيديّين الرّوافض” على ”إفريقية” لمدة (66) سنة، فإنَّهم منعوا من تداول المصنفات، وحجزوا ما وقعت عليه أيديهم، وأتلفوه، وعاقبوا من وُجدت بحوزته.
والأمثلة على ذلك كثيرة؛ منها:
ـ كان لأبي محمد، عبدالله التُّجيبيّ ت (346هـ) سبعة قناطير كتب، فلما تُوفّي، أخذها حاكم العبيديين، ومنع الناس منها؛ كيداً للإسلام، وبغضاً فيه. وقيل: نجا ثلثها؛ لأنَّه كان عند ابن أبي زيد ت (386هـ).
ـ لما مات أبو سعيد (الوكيل)، سطا العُبيديّون على داره، وأخذوا جميع ما فيها، ولا شك أنَّ كتبه من بين ما أخذوا؛ لأنَّه كان من أهل العناية بالحديث، يحفظ أربعة ألاف حديثاً ظاهراً.
ـ أرسل عُبيدالله الإسماعيلي، إلى سعود الخَوْلانِيّ ت (324هـ) بعض حرسه، فقيّده، ثم جمع ما في بيته من الكتب، ثم خرج به، وبكتبه، حتى وقف به على عُبيدالله.
ـ وجدوا ”الموطّأ” عند رجل، فضربوه بالسّياط، وطافوا به، وهذا في ”مصر”، ولا شك أنَّ مثله كان يحدث في ”القيروان”.
ـ ألف أبو إسحاق، إبراهيم الزُّبَيْرِيّ ت (359هـ) كتاب ”الإمامة”، فضربه العُبيديّون سبعمائة سوط، وسجنوه أربعة أشهر.
ولا شكّ أنَّ هذه السياسة الباطنيّة، الحاقدة على الإسلام، قد جعلت العلماء يخفون مصنفاتهم، في أماكن قد تتعرض معها للتّلف، ويتداولونها في حذر، فقد رأينا كيف كان ابن أبي زيد، وغيره، يخفون الكتب، تحت ثيابهم، عندما يذهبون للسّماع على الشّيوخ، خوفاً من أن يضبطها ”الرافضة” عندهم.
ثم إنَّ العبيدين لما رحلوا إلى ”مصر”، نقلوا معهم ما تبقى من تلك المصنفات، التي استحوذوا عليها، ومنعوا الناس منها، وكل ذلك ساهم في إتلاف المصنّفات، وتعريضها للضّياع.
((1/70)
2) التخريب الذي تعرضت له ”القيروان” على أيدي ”الأعراب” سنة (449هـ) فإنَّهم هدموا البيوت، وأتلفوا كل ما وصلت إليه أيديهم، حتى أنَّهم استعملوا أبواب المنازل، وغيرها، لإيقاد النار، ولا شك أنَّ استعمال الكتب في ذلك، كان أسهل لهم. وهرب منها من بقي حيّاً من أهلها، ولا شك أنَّ من كان عنده كتب آنذاك، لم يكن يجد الفرصة لإخراجها، ولَعَلَّه لا يجد ما يحملها عليه، وخاصة من كان مثقلاً بالنساء، والعيال، فتكون زحفة الأعراب بذلك سبباً في إتلاف ما نجا من أيدي ”الرافضة”، وما صنف بعد خروجهم من ”إفريقية”.
ثم إنَّ كثيراً من العلماء، قد اضطروا إبان ”فتنة الأعراب” لبيع كتبهم، للتَّقَوِّي بثمنها على الفرار بعيالهم، ذلك ما تمثله هذه الأبيات لأحد علماء ”القيروان”:
قالت وأبدت صفحة كالشمس من تحت القِناع
بِعت الدّفاتر وهي آخر ما يباع من المتاع
فأجبتها ويدي على كبدي وهمت بانصداع
لا تعجبي مما رأيت فنحن في زمن الضياع
(3) الاحتلال الأسباني لـ ”تونس”، في عهد ”الحفصيين”، في النصف الأول من القرن العاشر قال صاحب ”حسن البيان” عن ”شَارْلُكَان” الأسباني:
ففرش جميع ما بمكتبة ”الجامع الأعظم” ـ جامع الزيتونة ـ من الكتب من مؤلفات الإفريقيين، بأزقة المدينة، تدوسها: الخيل، والبغال، وأقدام الناس، من جنوده المتوحشين، فذهبت تلك المكتبة، التي جمعت بها نفائس التآليف، في سائر العلوم، منذ مئات السنين شذر مذر أ.هـ
ولا شك أنَّ ما تبقى من مصنفات ”القرويّين”، قد نُقل كثير منه إلى ”تونس”، عندما أصبحت حاضرة البلاد الإفريقية، وخَلَفَت ”القيروان”، في حمل راية العلم؛ فتلفت مع ما أتلفه الأسبان كما تقدم.
(4) ثم جاء دور الاستعمار الحديث على يد ”الفرنسيين” الذين أخذوا كثيراً من المخطوطات، وأودعوها في متاحفهم، ومكتباتهم.(1/71)
ونظراً لهذه العوامل المتعدّدة؛ ضاعت أغلب مصنفات ”أهل القيروان”. وما وصلنا منها، إنَّما جاء معظمه عن طريق ”أهل الأندلس”. أما ما احتفظت به مكتبة ”جامع القيروان”، فشيء لا يكاد يُذكر، وإنَّ ما بقي فيها بالإضافة إلى قلّته، فلا يكاد يوجد فيه مصنف متكامل، إنَّما هي أجزاء مبعثرة، سيئة الترتيب) أ.هـ مختصراً.
[فائد (81)]
درجات الحفاظ
جاء في: ”فهرس الفهارس”؛ للكتاني (1/275):
قال الحافظ: ابن ناصر في: ”شرح بديعته”:
(أنبأنا الحافظ أبو بكر، وآخرون، عن الحافظ الذهبي أنَّه قال:
أحفظ من رأيت أربعة: ابن دقيق العيد، والدمياطي، وابن تيمية، والمزي.
فابن دقيق العيد: أفقهم في الحديث. والدمياطي: أعرفهم بالأنساب. وابن تيمية: أحفظهم للمتون. والمزي: أعرفهم بالرجال) أ.هـ
[فائد (82)]
رواية المبتدع
قال العلامة المعلمي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”التنكيل” (ص 228):
(لا شبهة أنَّ المبتدع إن خرج ببدعته عن الإسلام، لم تُقْبَلْ روايته؛ لأنَّ من شرط قبول الرواية: الإسلام.
وأنَّه إن ظهر عناده، أو إسرافه، في اتباع الهوى، والإعراض عن حجج الحق، ونحو ذلك، مما هو أدلّ على وهن التدين، من كثير من الكبائر؛ كـ: شرب الخمر، وأخذ الربا، فليس بعدل، فلا تُقْبَل روايته؛ لأنَّ من شرط قبول الرواية: العدالة.
وأنَّه إن استحل الكذب، فإما أن يكفر بذلك، وإما أن يفسق، فإن عذرناه، فمن شرط قبول الرواية: الصدق، فلا تقبل روايته.
وأنَّ من تردد أهل العلم فيه، فلم يتجه لهم أن يكفروه، أو يفسقوه، ولا أن يعدّلوه، فلا تقبل روايته؛ لأنَّه لم تثبت عدالته.
ويبقى النظر فيمن عدا هؤلاء، والمشهور الذي نقل: ابن حبان، والحاكم، إجماع ”أئمة السنة” عليه: أنَّ المبتدع الداعية؛ لا تقبل روايته، وأما غير الداعية؛ فكـ: السُّني.
واختلف المتأخرون في تعليل رد الداعية، والتحقيق إن شاء الله تعالى:(1/72)
أنَّ ما اتفق ”أئمة السنة”، على أنَّها بدعة، فالداعية إليها، الذي حقه أن يسمى داعية، لا يكون إلا من الأنواع الأولى، إن لم يتجه تكفيره اتجه تفسيقه.
فإن لم يتجه تفسيقه، فعلى الأقل لا تثبت عدالته) أ.هـ
[فائد (83)]
العدل في المحبة من خصائص أهل: ”السنة والجماعة”
قال المعلمي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في تعليقه على مسألة ”إحياء الأبوين” في: ”الفوائد المجموعة”؛ للشوكاني رَحِمَهُ اللَّهُ، (ص 322) ح (1):
(كثيراً ما تجمح المحبة ببعض الناس، فيتخطى الحجة، ويحاربها، ومن وُفِق، عَلِمَ أنَّ ذلك منافي للمحبة المشروعة، والله المستعان) أ.هـ
قلت: هناك من قال: إنَّ الله ـ تعالى ـ أحيا أبوي النبي - صلى الله عليه وسلم - ؛ فآمنا به!.
قالوا ذلك؛ محبة في النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورهبة من القول بـ: أنَّهما في النار، كما أخبر بذلك ابنهما محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - .
والكلام في المحبة المشروعة، وضدها يطول...
فهناك من حبَّ شخصاً، فغلا في محبته، حتى توسل به، بل هناك من ألَّهَهُ، وعبده!.
وكل هذه الأنواع من المحبة غير المشروعة، أخذ منها ”الروافض” بنصيب وافر.
فكما أنَّ غلاتهم قالوا بألوهية علي - رضي الله عنه - ؛ فقد بلغ بهم تطرفهم، بأنَّ قالوا بكفر الصحابة، ونالوا من الشيخين ـ أبي بكر، وعمر ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وقذفوا زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأم المؤمنين: عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها...
ومن جانبٍ آخر: ظهر لنا ”الصوفية” بالحب، والعشق على مذاهبهم.
أما أهل ”السنة والجماعة”، فحبهم مضبوط بـ : ”الكتاب”، و ”السنة”، (ميزان: العمل، والعامل).
هذه إشارة عن (العدل في الحب)، والمقام لا يتسع لأكثر من ذلك.
[فائد (84)]
أنموذج للإنصاف
قال الكتاني ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ في: ”فهرس الفهارس” (1/276) عن شيخ الإسلام:
((1/73)
وهو من الأفراد، الذين كثر الخبط في شأنهم، بين مكفر، وبين ذاهب بهم، إلى منزلة المعصومين. والإنصاف فيه قول الحافظ ابن كثير:
كان من كبار العلماء، وممن يخطئ، ويصيب، لكن خطأه بالنسبة إلى صوابه، كنقطة، في بحر لجيّ، وخطأه أيضاً مغفور له، كما في: ”الصحيح” أ.هـ
قال الحافظ الذهبي في حقه من: ”تذكرة الحفاظ” بعدما أطراه:
رأيت له بعد موته منامات حسنة، وقد انفرد بفتاوى نيل من عرضه لأجلها، وهي مغمورة في بحر علمه، فالله يسامحه، ويرضى عنه، فما رأيت مثله، وكل واحد يؤخذ من قوله، ويترك، فكان ماذا أ.هـ
وهو الإنصاف فيه). انتهى كلام ”الكتاني”.
قلت: هذا أقل ما يُقال عن ”شيخ الإسلام” رَحِمَهُ اللَّهُ، وهو أعظم مما قيل بكثير، وقد ذكر ”الكتاني” ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ بعد ذلك نقولاً عنه، تحتاج إلى ايضاح، وتبيين.
وأما قوله في أول كلامه:
(بين مكفر، وبين ذاهب بهم إلى منزلة المعصومين).
قلت: لم يقل أحد من أتباع ”شيخ الإسلام” أنَّه معصوم فيما أعلم، وأنَّى ذلك وأتباعه: ”أهل السنة والجماعة”، وهم أعلم بدرجات الاتباع، وحب المشايخ من غيرهم، بل هناك الكثير من المشايخ، والطُّرقية، ممن هم أقل من ”شيخ الإسلام” بمراحل، غلا فيهم اتباعهم، إلى درجة أنَّه أولوا كل نص، جاء مخالفاً لفتاويهم، والقائلون بكفر ”شيخ الإسلام”، أو باتهامه، خلقٌ، وللأسف فيهم من ينتمي للعلم، وأهله، بل حكم أحدهم بـ: أنَّ من قال لابن تيمية: ”شيخ الإسلام”؛ فهو كافر. وبهذا نعلم أنَّ التيارين المتضادين مع ”شيخ الإسلام” ـ وأقصد: محبيه، ومبغضيه ـ تياران مختلفان تماماً، في المنهج والفكر، فالأولون قالوا فيه الحق، أما الطرف الثاني فغلوا في بغضه، حتى كذبوا عليه، ونسبوا إليه ما لم يقله، فالله حسيبهم.
ومما ذكره ”الكتاني”، وهو كذب مختلق على ”شيخ الإسلام” رَحِمَهُ اللَّهُ، ما ذكره الكذاب: ”ابن بطوطة” من إفك، فالله حسيبه.
[فائد (85)](1/74)
قد يكون ادِّعاء التصحيف زيادة جهل
يحرص كثير من الأئمة ـ والأصل أنَّهم كلهم حريصون ـ على ضبط المصطلحات، والأسماء، بكل الوسائل المتوفرة لديهم، ومن ذلك: ضبط الحروف بقولهم: ”المهملة”، و ”المعجمة”، و ”التحتية”، و ”الفوقية”، و ”الموحدة”، ”والمثناة”، و ”صح”...
وقد يطالع القارئ كلمة في ”كتاب” ويدعي أنَّها مصحفة، جزافاً منه، وتكون الكلمة صحيحة، وهذا يكثر في ”النشر التجاري” للتراث حيث يعبث ”الوَرَّاقون” بكتب السلف، ويغيرون في متنها؛ بحجة أنَّ ما جاء في ”المخطوط” مصحفاً، والصواب ما أثبَتَه.
وهذه الطريقة ـ إدعاء التصحيف ـ موجودة من القدم؛ ومن ذلك ما جاء في: ”الإصابة” (3/48)، في ترجمة: عياض بن حِمار، المجاشعي - رضي الله عنه - :
(وأبوه باسم الحيوان المشهور، وقد صَحَّفَه بعض المتنطعين، من الفقهاء؛ لظنه أنَّ أحداً لا يُسَمَّى بذلك) أ.هـ
قلت: وقد صُحِّف في عدة مصادر إلى حماد، انظر : ”تاريخ الإسلام” للذهبي (وفيات 41 ـ 60)، (ص 281) ح (3).
وتأمل قول الحافظ: (وأبوه باسم الحيوان المشهور). ليؤكد سلامة الاسم من التصحيف.
[فائد (86)]
عدد مصنفات شيخ الإٍسلام، والسبب في عدم حصرها، وسبب ضياع بعضها
قال الإمام ابن عبدالهادي ـ رَحِمَهُ اللَّهُ ـ ت (744هـ) في: ”العقود الدرية” (ص 64 ـ 66) بعد أن ذكر جملة كبيرة من مصنفاته:
(وله من ”الأجوبة”، و ”القواعد” شيء كثير، غير ما تقدم ذكره، يشق ضبطه، وإحصاؤه، ويعسر حصره، واستقصاؤه.
وسأجتهد ـ إن شاء الله تعالى ـ في ضبط ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا. وأبَيّن ما صنَّفه منها بـ: ”مصر”، وما ألَّفه منها بـ: ”دمشق”، وما جمعه وهو في ”السجن”، وأرتبه ترتيباً حسنا غير هذا الترتيب، بعون الله تعالى، وقوته، ومشيئته.(1/75)
قال الشيخ: أبو عبدالله [وهو أخو شيخ الإسلام] لو أراد الشيخ تقي الدين ـ رحمه الله ـ أو غيره؟ حصرها ـ يعني مؤلفات الشيخ ـ لما قدروا؛ لأنَّه مازال يكتب وقدْ مَنَّ اللهُ عليه بسرعة الكتابة، ويكتب من حفظه من غير نقل.
وأخبرني غير واحد: أنَّه كتب ”مجلداً لطيفاً” في يوم، وكتب غير مرة ”أربعين ورقة” في جلسة وأكثر، وأحصيت ما كتبه، وبيضه في يوم، فكان ”ثمان كراريس” في مسألة من أشكل المسائل، وكان يكتب على السؤال الواحد ”مجلداً”.
وأمَّا جواب يكتب فيه ”خمسين” ورقة، و ”ستين”، و ”أربعين”، و ”عشرين”، فكثير.
وكان يكتب الجواب، فإن حضر من يُبَيِّضه، وإلا أخذ السائل خَطَّه وذهب.
ويكتب قواعد كثيرة في فنون من العلم، في ”الأصول”، و ”الفروع”، و ”التفسير”، وغير ذلك، فإن وجد من نقله من خطِّه، وإلا لم يشتهر، ولم يعرف. وربما أخذه بعض أصحابه، فلا يُقْدَر على نقله، ولا يَرُدّه إليه فيذهب.
وكان كثيراً ما يقول: ”قد كتبت في كذا، وفي كذا”.
ويُسئلُ عن الشيء؛ فيقول: ”قد كتبت في هذا”. فلا يدري أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول ردُّوا خَطِّي، وأظهروه؛ لينقل. فمِن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه؛ فيذهب، ولا يعرف اسمه.
فلهذه الأسباب ـ وغبرها ـ تعذَّر إحصاء ما كتبه، وما صنفه.
وما كفى هذا إلا أنه لما حُبِس تَفَرَّق أتباعه، وتفرقت كتبه، وخَوَّفُوا أصحابه من أن يظهروا كتبه؛ ذهب كل أحد بما عنده، وأخفاه، ولم يظهروا كتبه. فبقي هذا يهرب بما عنده، وهذا يبيعه، أو يَهَبَهُ، وهذا يخفيه، ويودعه، حتى إنَّ منهم من تُسرق كتبه، أو تُجْحد، فلا يستطيع أن يطلبها، ولا يقدر على تخليصها، فبدون هذا تتمزق الكتب، والتصانيف، ولولا أن الله ـ تعالى ـ لطف، وأعان، ومنَّ، وأنعم، وجرت العادة في حفظ أعيان كتبه، وتصانيفه؛ لما أمكن لأحد أن يجمعها.(1/76)
ولقد رأيت من خرق العادة في حفظ كتبه، وجمعها، وإصلاح ما فسد منها، وردِّ ما ذهب منها، ما لو ذكرته لكان عجباً، يعلم به كل منصف أن لله عناية به، وبكلامه؛ لأنه يَذُبُّ عن سنة نبيه تَحْرِيفَ الغالِين، وانْتحال المُبْطِلين، وتأويل الجاهلين) أ.هـ
قلت: وقبل قرنين ـ أي: في القرن (الثالث عشر) ـ حُرِّقَت كتب شيخ الإسلام ”ابن تيميّة” رَحِمَهُ اللهُ.
وكان في ”الشام” أحد الأمراء، يأخذ كتب ”ابن تيميّة” من الناس، فيحرقها، وإنْ لمْ يستطع أخْذَها من صاحبها، استوهبها منه، أو اشتراها، ليتلفها؛ وذلك نصرة لمذهب الحلول والاتحاد.
وهذا السرّ في ضياع الكثير من: ”رسائله”، و ”كتبه”(1).
[فائد (87)]
أوّل من أحدث الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدور الكتب
قال ابن العماد في: ”شذرات الذهب” (2/359)، في سنة: (181هـ):
(فيها أحدث الرشيد في صدور كتبه الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ) أ.هـ
[فائد (88)]
دقة ابن دريد في الحكم على اللغات
ذكر السيوطي في: ”المزهر” (1/103 ـ 109)، في: (النوع الثاني) ”معرفة ما روي من اللغة، ولم يصح، ولم يثبت”، ونقلاً في هذا الباب الكثير نقلاً عن ابن دريد صاحب ”الجمهرة”، مما يدل على دقة ابن دريد في الحكم على اللغات، فقال:
وفيها [أي في بعض اللغات]: العَنْطث: زعموا: نبت، وليس بثبت.
وفيها: العلب: زعموا: الذي لأُمه زوج، ولا أعرف ما صحّة ذلك.
وفيها: القَلْس: حبل من ليفٍ أو خُوص، ولا أدري ما صحَّتُه.
وفيها: اللَّغْلَغُ: طائر، ولا أحسبه صحيحاً.
وقال: الجُمُّ: زعموا: صَدف من صدَف البحر، ولا أعرفُ حقيقته) أ.هـ (باختصار)
وهكذا يجزم بعدم ثبوت ما ثبت عنده أنَّه ليس بثابت في لغة العرب، ويتوقف فيما لم يتيقن منه.
[فائد (89)]
خطيب السنة وخطيبة المعتزلة
__________
(1) انظر: مقدمة شيخنا الفاضل: زهير الشاويش، لـ: ”الكلم الطيب” (ص 4).(1/77)
قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في: ”تفسير سورة الإخلاص” عن ابن قتيبة:
(هو لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة؛ فإنَّه خطيب السنة، كما أنَّ الجاحظ خطيب المعتزلة)(1) أ.هـ
وابن قتيبة، هو: الإمام أبو محمد، عبدالله بن مسلم بن قتيبة، الدّينوري (213 ـ 276هـ)، نقل شيخ الإسلام عن كتاب: ”التحديث بمناقب أهل الحديث”:
(كان أهل المغرب يعظمونه، ويقولون:
من استجاز الوقيعة في ابن قتيبة، يتهم بالزندقة.
ويقولون: كل بيت ليس فيه شيء من تصنيفه؛ فلا خير فيه)(2) أ.هـ
وانظر ترجمته في: ”سير أعلام النبلاء”
[فائد (90)]
الفرق بين: ”لم يصح”، و ”موضوع”
جاء في: ”اللآلئ المصنوعة” (1/11):
(قال بدر الدين الزركشي في: ”نكته على ابن الصلاح”:
بين قولنا: ”لم يصح”، وقولنا: ”موضوع”، بون كبير؛ فإنَّ (الوضع): إثبات الكذب، والاختلاق.
وقولنا: (لم يصح). لا يلزم منه إثبات العدم، وإنَّما هو: إخبار عن عدم الثبوت.
وفرق بين الأمرين) أ.هـ
[فهرس المجموعة الأولى من ”كُنَّاشَةُ الشمراني”]
[فائدة (1)] تفاوت الفوائد
[فائدة (2)] فوائد العلامة: إبراهيم بن عيسى رَحِمَهُ اللَّهُ
[فائدة (3)] فائدة في تقييد الفوائد، والدرر
[فائدة (4)] أبو شجاع من المعمِّرين
[فائدة (5)] العلم بالعلل لا يأتي باليوم، ولا بالسَّنَة، ولا بالقراءة، ولا بالحفظ... ولكن بالتطبيق، والممارسة، والخبرة
[فائدة (6)] أنواع القرعة
[فائدة (7)] الأضرار المادية للبدع المحدثة
[فائدة (8)] زمن خمول البدع
[فائدة (9)] بداية ظهور البدع
[فائدة (10)] ”الفكر” الظاهري، أو ”المذهب” الظاهري
[فائدة (11)] من يُقال له: أبو عمر الضرير، من أهل العلم
[فائدة (12)] فرح المؤمنين بهلاك المَرِيْسِي؛ وحضور أحدهم الصلاة عليه!
[فائدة (13)] التقوى والغناء
[فائدة (14)] بشر بين: ”الخير”، و ”الشر” ـ وأحمد بين: ”السنة”، و ”البدعة”
[
__________
(1) ”مجموع الفتاوى” (17/392).
(2) انظر المرجع السابق.(1/78)
فائدة (15)] الكافر المبتدع والكافر الأصلي
[فائدة (16)] وليمة فتح الباري
[فائدة (17)] من مناقب عبدالله بن الزبير - رضي الله عنه -
[فائدة (18)] [مختارات من: ”أدب الطلب” للإمام الشوكاني رَحِمَهُ اللَّهُ]
[1] (حب الظهور والغلب من الأسباب المؤدية إلى ترك الإنصاف)
[2] (التصنيف الحق)
[3] (ما يجب على العلماء أن يدينوا به)
[4] (امتناع طالب العلم عن الكلام في علمٍ لا يتقنه)
[فائدة (19)] فضل العالم على المتعلم ـ للشيخ مكانته، وإن كان تلميذه أعلى مرتبة منه
[فائدة (20)] الرطانة
[فائدة (21)] لا يغض ذلك من قدرهم شيئاً
[فائدة (22)] فوائد من ترجمة ابن عُلَيَّة
[فائدة (23)] المعتزلة والحديث
[فائدة (24)] حديثٌ مسلسلٌ بالشعراء
[فائدة (25)] التحمل والأداء
[فائدة (26)] المحدثات عند الشافعي - رضي الله عنه -
[فائدة (27)] أكثر النَّاسِ صَواباً: أهل الحديث
[فائدة (28)] الشافعي إمامٌ، لغةً، وشرعاً
[فائدة (29)] أول من جمع نصوص الشافعي
[فائدة (30)] مذهب الشافعي، والقواعد الأربع
[فائدة (31)] الشافعي لم يحلف بـ: ”الله” قط
[فائدة (32)] منزلة طلب العلم عند الإمام الشافعي - رضي الله عنه -
[فائدة (33)] العلماء ونصرة الدين
[فائدة (34)] الإمام أحمد = الصِّدِّيق الثاني
[فائدة (35)] نقصان العلم
[فائدة (36)] نصيحة ذهبية في: الأخذ، والطلب
[فائدة (37)] فضل الإسلام على الغرب ـ لولا علماء المسلمين؛ ما ظهرت الجامعات الغربية للوجود
[فائدة (38)] صورة من عزة المسلمين، وذلة الكافرين
[فائدة (39)] بين الفقه والنحو
[فائدة (40)] جَلَد الصَّفَدي في الكتابة
[فائدة (41)] احفظ الله يحفظك
[فائدة (42)] بشرى للدعاة، والمصلحين
[فائدة (43)] هزيمة قاتل الأستاذ: سيد قطب رَحِمَهُ اللَّهُ
[فائدة (44)] سبب تسمية ابن كُلاَّب
[فائدة (45)] فائدتان من سلطان العلماء: القذف في الخلوة ـ والقطع بأكثر من ربع دينار
[(1/79)
فائدة (46)] المحدثون والأخلاق الحميدة
[فائدة (47)] هكذا أدبني مشايخي
[فائدة (48)] سيوف القرآن
[فائدة (49)] أنواع العلوم، ومنزلة: ”الفقه”، و ”أصوله” منها
[فائدة (50)] ”نَسَا” بلاد الإمام ”النسائي”
[فائدة (51)] لكل مذهب قاض، وشيخ إسلام
[فائدة (52)] من كرامات الإمام أحمد - رضي الله عنه -
[فائدة (53)] ”جَعْبَة” ، بالفتحِ لا بالضَّمِّ
[فائدة (54)] الإمام الحَجَّاوي رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - خمس مرات
[فائدة (55)] رُؤْيَةُ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فِي الْمَنَامِ
[فائد (56)] قول الإمامين: مالك، والشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: حدثني ”الثقة”. أو ”من لا أتهم”
[فائد (57)] الزيادة عند النِّسْبَة ـ النِّسْبَة على غير القياس
[فائد (58)] الولاء المذهبي شعراً
[فائد (59)] أنموذج من التعصب المذهبي المختلق
[فائد (60)] بين الحنفية والشافعية
[فائد (61)] من الأجوبة المسكتة
[فائد (62)] فائدة من سيرة: الشريف الحنبلي ـ ضاقت فلمَّا استحكمت حلقاتُها فُرِجَت
[فائد (63)] ”شيخ الإسلام” تأتيه السلطة، فلم يتسلط
[فائد (64)] بين خوارزم شاه، والإمام الرافعي
[فائد (65)] مصاب ابن عقيل في وفاة ولديه
[فائد (66)] لا تلازم بين ترك الأفضل والمكروه
[فائد (67)] أنموذج من صلابة أهل الإفتاء ـ طاعة ولاة الأمر واجبة في غير معصية الله تعالى ـ لا طاعة لمخلوق
في معصية الخالق
[فائد (68)] أعلام جهنَّم، ورؤوسها
[فائد (69)] أبى الله أنْ يُتِمَّ غير ”كتابه”
[فائد (70)] اعملوا ما شئتم
[فائد (71)] بين: ”الغامدية”، و ”الجهينة”
[فائد (72)] أوّل من بدأ بـ: ”المحمدين” في التراجم
[فائد (73)] لمحات من سيرة: شيخ الإسلام: أبي العَلاء، الهَمَذَانِيّ، العَطَّار
[فائد (74)] الشيخ، الفقيه: سليمان بن عبدالوهاب
[فائد (75)] تنبيه للمؤرِّخِ المُنْصِف
[فائد (76)] شروط المؤرخ الأربعة
[(1/80)
فائد (77)] بين : ”الْهَمْدَاني” ، و ”الْهَمَذَاني”
[فائد (78)] منهج المؤرخين ـ باستقراء السّبكي ـ في تراجم من يُخالف عقيدتهم ـ بين الأستاذ الذهبي وتلميذه
السّبكي ـ وإنصاف الشوكاني للحق
[فائد (79)] الغيبة بالقلم كالغيبة باللسان؛ لكون القلم أحد اللسانين
[فائد (80)] كتب القيروان إلى أين ؟ ـ الرافضة وراء كل شر
[فائد (81)] درجات الحفاظ
[فائد (82)] رواية المبتدع
[فائد (83)] العدل في المحبة من خصائص أهل: ”السنة والجماعة”
[فائد (84)] أنموذج للإنصاف
[فائد (85)] قد يكون ادِّعاء التصحيف زيادة جهل
[فائد (86)] عدد مصنفات شيخ الإٍسلام، والسبب في عدم حصرها، وسبب ضياع بعضها
[فائد (87)] أوّل من أحدث الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في صدور الكتب
[فائد (88)] دقة ابن دريد في الحكم على اللغات
[فائد (89)] خطيب السنة وخطيبة المعتزلة
[فائد (90)] الفرق بين: ”لم يصح”، و ”موضوع”(1/81)