كن رحيمًا....
ولا تكن قاسيًا
وكتبه
أبو عبد الرحمن سلطان علي
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِىَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } (سورة آل عمران : 102) . { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } (سورة النساء : 1 ) . { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } (سورة الأحزاب70 : 71 ) .
أما بعد .....
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار.
أخي القارئ الكريم فبين يديك هذا الجزء من كتاب (( رياض النعيم في ظل الرحمن الرحيم ))(1) ، وهو يتناول جزءا من الجانب العمليّ في الكتاب ، وهو يتناول مرض من أمراض القلوب ،وهو القسوة حفظنا الله منها ومن أوضارها .
القسوة وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع .
0القسوة فى القرآن الكريم والسنة المطهرة
__________
(1) تجده في موقع صيد الفوائد http://saaid.net/book/open.php?cat=1&book=3939(1/1)
0 مظاهر قسوة القلب
0 أسباب قسوة القلب
0 علاج قسوة القلب
- آثار القسوة على المجتمع
- الأطفال يموتون بسبب القسوة
- النساء في الغرب يدفعن ثمن القسوة بالأرقام ( بالهامش )
- الأطفال الصغار هم الأكثر تضرراً
- من مستلزمات القسوة عند أهل الباطل الاعتداء على أهل الحق :
0 مظاهر الاعتداء
0 نماذج من قساة القلوب في عصر حقوق الإنسان
0النموذج الأول : قساة اليهود
0 النموذج الثاني : قساة النصارى....في العصور الماضية
- المثال الأول ......وشهد شاهد من أهلها
- المثال الثاني
- قسوة النصارى ووحشيتهم في هذا العصر
- قسوة النصارى ووحشيتهم في قارة افريقية
= شمال افريقية
= شرق افريقية
- قسوة النصارى ووحشيتهم في قارة آسيا
= التعذيب الفردي
= التعذيب العام
= قسوة الإنجليز على المسلمين في الهند
= قسوة نصارى الفلبين و غلظتهم على المسلمين
= قسوة النصارى في أوروبا [ المتحضرة ]
= قسوة أمريكا النصرانية والديمقراطية الدموية
= التاريخ الدموي للامبراطورية الأمريكية
= أفغانستان والعراق نموذجاً
= جوانتاموا ... قصة باكستاني عائد منها
= العراق .... وأطفاله بالأرقام
0 النموذج الثالث : قساة الشيوعيين ( الملحدين )
= الشيوعيون في روسيا
= تدمير شعب أفغانستان
= الشيوعيون في الصين
0 النموذج الرابع : قساة الوثنيين
= قسوة الوثنيين في سيريلانكا
= "" "" في تايلاند
0 النموذج الخامس : قساة أهل الباطل من المنتسبين إلى الإسلام
= قسوة أهل الباطل أشد من غيرهم
= ... الأول: الأنموذج الثوري الناصري
= الثاني : الأنموذج الشيوعي الصومالي
= الثالث : الأنموذج الرافضي فى العراق
خُلق الرحمة في حياة المسلم .
0 خلق الرحمة مع نفس المسلم وأهله
0 خلق الرحمة مع نفسك
1. مصدر الرحمة
2. فعالية الرحمة
3. لماذا نرحم ونتراحم ؟!
- رحمة المسلم نفسه
- رحمة المسلم أهله
- رحمة المسلم مع إخوانه وفى مجتمعه
? من آثار الرحمة في المجتمع الإسلامي(1/2)
- الرحمة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
- الرحمة بالبذل والإنفاق
- حديث (تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِى تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ )
- حديث (من لا يرحم الناس: لا يرحمه الله )
أثر الرحمة في حياة المسلم .
1) الفوائد والآثار العقدية والتعبدية
2) الرحمة والصحة
- الانفعالات والتأثير الهرموني
- شكل رقم (1)
- الرحمة والتأثير البيولوجي والنفسي
- أولاً : الرحمة و التأثير البيولوجي
- الرحمة والطبي الوقائي
- الرحمة مع الآخرين
- الدموع رحمة
- قيام الليل رحمة
- ثانياً : الرحمة والتأثير النفسي
- طيف الحياة
- إذا كنت تريد الشفاء فكر كيف تسعد الأخرين؟
كيف أكون عبداً رحيماً؟ .
- كيف نربي أنفسنا على الرحمة ؟
1. التخلية
2. التحلية
وليس لي فيه مزية افتخار ، إلا بتوفيق الله - عز وجل - لي بحسن الاختيار ، وكما قالوا قديما : اختيار الرجل قطعة من عقله تدل على تخلّقه وفضله ،فإن أحسنت فمن الله - عز وجل - وحده فله الحمد في الأولي والآخرة، وإن كانت الأخرى فمنى ومن الشيطان ، فأرجو الله - عز وجل - أن يغفر الزلل كما ستر عنك العيب الجلل .
وكتبه
حامدًا ربه - عز وجل - مصليًا على نبيه - صلى الله عليه وسلم -
أبو عبد الرحمن سلطان عليّ
غفر الله له ولوالديه وللمسلمين
للتواصل وإبداء النصح والنقد :
soltanaly@hotmail.com
soltanaly@yahoo.com
إسكندرية في 8 جمادى الآخرة 1429 من هجرة البشير النذير - صلى الله عليه وسلم -
القسوة وآثارها السيئة على الفرد والمجتمع(1/3)
القسوة تلك الصفة الذميمة ذمها الله - عز وجل - في كتابه وعلى لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ،بل هى سلوك مرضي مخالف للفطرة التى فطر الله - عز وجل - العباد عليها ، بل هي عقوبة ربانية ، بسبب المعاصي ورد أمر الله - عز وجل - والخروج عن طاعته كما قال - عز وجل - { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}(المائدة:13) ، وكما قال - عز وجل - { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}( البقرة:74)
يا سبحان الله ............... القلوب الدامية هذه اللطيفة الرقيقة أشد قسوة من الحجارة ما أصابها يا ترى ................؟!
إنها قلوب قاسية ...... بل أشد قسوة من الحجارة ........... يا الله ما هذا ؟!
*) لأن الحجارة مسلمة لأمر الله فلا تخرج عن طاعته - عز وجل - {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} (فصلت:11).
*) لأن الحجارة تخشى وتخشع من هيبته - جل جلاله - {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} (الحشر:21) .(1/4)
*) لأن الحجارة مسبحة لله - عز وجل - {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (الإسراء:44) .
*) لأن الحجارة يعظم عليه جلال الله وعظمته {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} (الأعراف:143) .
*) بل الحجارة الصلبة يحزنها معصية الله والإشراك به - عز وجل - {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} (مريم:90)
فما أذاب الجبل الراسي ...... والطود العظيم ....... إلا إجلال الهيبة والعظمة .
وما هبطت صخور...... ولا تشققت أرض ولا خرت جبال ... .... إلا الخوف والرهبة .
وما تفجرت الأنهار ..... ولا سالت العيون بالماء المتدفق ...... إلا مدامع الشفقة والخشية .
فمن القاسي إذاً ؟!
فلنتعرف على هذا الطبع الخبيث والخلق الذميم حتى نحذره فهيا نتأمل الكتاب الكريم والسنة المشرفة وهما ينعيان على حاملي هذه الجرثومة الخبيثة ، بل وعلى السليم المعافى أن يتخذ التدابير الوقاية حتى لا يقع في هذا الداء الوبيل و إلا صار على شفا هلكة، فلنتعرف على الأسباب ، و أوصاف الداء ، ثم الظواهر السلوكية مع الخلَق ، و الدواخل الباطنية للخُلق ، ومعرفة آثارها على الفرد والمجتمع.
القسوة فى القرآن الكريم والسنة المطهرة(1)
__________
(1) مع تفسير الآيات من تيسير الكريم الرحمن للشيخ السعدي ’، والظلال لسيد قطب ’).(1/5)
• ... قوله - عز وجل - {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} (البقرة:74) { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ } أي: اشتدت وغلظت, فلم تؤثر فيها الموعظة، { مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ } أي: من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم الآيات، ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم, لأن ما شاهدتم, مما يوجب رقة القلب وانقياده، ثم وصف قسوتها بأنها { كَالْحِجَارَةِ } التي هي أشد قسوة من الحديد، لأن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار, ذاب بخلاف الأحجار.
وقوله: { أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } أي: إنها لا تقصر عن قساوة الأحجار، وليست " أو " بمعنى " بل " ثم ذكر فضيلة الأحجار على قلوبهم، فقال: { وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ } فبهذه الأمور فضلت قلوبكم. ثم توعدهم تعالى أشد الوعيد فقال: { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } بل هو عالم بها حافظ لصغيرها وكبيرها, وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
والحجارة التي يقيس قلوبهم إليها , فإذا قلوبهم منها أجدب وأقسى . . هي حجارة لهم بها سابق عهد . فقد رأوا الحجر تتفجر منه اثنتا عشرة عينا , ورأوا الجبل يندك حين تجلى عليه الله وخر موسى صعقا ! ولكن قلوبهم لا تلين ولا تندى , ولا تنبض بخشية ولا تقوى . . قلوب قاسية جاسية مجدبة كافرة . . ومن ثم هذا التهديد { وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }.(1/6)
• وقوله - عز وجل - {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (المائدة:13) فبين أنهم نقضوا ذلك فقال: { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ ْ} أي: بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات:
- الأولى: أنا { لَعَنَّاهُمْ ْ} أي: طردناهم وأبعدناهم من رحمتنا، حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة، ولم يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم، الذي هو سببها الأعظم.
- الثانية: قوله: { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ْ} أي: غليظة لا تجدي فيها المواعظ، ولا تنفعها الآيات والنذر، فلا يرغبهم تشويق، ولا يزعجهم تخويف، وهذا من أعظم العقوبات على العبد، أن يكون قلبه بهذه الصفة التي لا يفيده الهدى, والخير إلا شرا.
• ... وقوله - عز وجل - {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ(42)فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ(44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(45)} (الأنعام)(1/7)
يقول تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ } من الأمم السالفين، والقرون المتقدمين، فكذبوا رسلنا، وجحدوا بآياتنا. { فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ } أي: بالفقر والمرض والآفات، والمصائب، رحمة منا بهم. { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } إلينا، ويلجأون عند الشدة إلينا.
{ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي: استحجرت فلا تلين للحق. { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } فظنوا أن ما هم عليه دين الحق، فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان، ولعب بعقولهم الشيطان.
{ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } من الدنيا ولذاتها وغفلاتها. { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ } أي: آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب، أن يؤخذوا على غرة، وغفلة وطمأنينة، ليكون أشد لعقوبتهم، وأعظم لمصيبتهم.
{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي اصطلموا بالعذاب، وتقطعت بهم الأسباب. { وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } على ما قضاه وقدره، من هلاك المكذبين. فإن بذلك، تتبين آياته، وإكرامه لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وصدق ما جاءت به المرسلون.
والقلب الذي لا ترده الشدة إلى الله قلب تحجر فلم تعد فيه نداوة تعصرها الشدة ! ومات فلم تعد الشدة تثير فيه الإحساس ! وتعطلت أجهزة الاستقبال الفطرية فيه , فلم يعد يستشعر هذه الوخزة الموقظة , التي تنبه القلوب الحية للتلقي والاستجابة . والشدة ابتلاء من الله للعبد ; فمن كان حيا أيقظته , وفتحت مغاليق قلبه , وردته إلى ربه ; وكانت رحمه له من الرحمة التي كتبها الله على نفسه . . ومن كان ميتا حسبت عليه , ولم تفده شيئا , وإنما أسقطت عذرة وحجته , وكانت عليه شقوة , وكانت موظئة للعذاب !(1/8)
? وقوله - عز وجل - {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23)} (الزمر)
أي: أفيستوي من شرح اللّه صدره للإسلام، فاتسع لتلقي أحكام اللّه والعمل بها، منشرحا قرير العين، على بصيرة من أمره، وهو المراد بقوله: { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ } كمن ليس كذلك، بدليل قوله: { فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ } أي: لا تلين لكتابه، ولا تتذكر آياته، ولا تطمئن بذكره، بل هي معرضة عن ربها، ملتفتة إلى غيره، فهؤلاء لهم الويل الشديد، والشر الكبير.
{ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ } وأي ضلال أعظم من ضلال من أعرض عن وليه؟ ومن كل السعادة في الإقبال عليه، وقسا قلبه عن ذكره، وأقبل على كل ما يضره؟"
يخبر تعالى عن كتابه الذي نزله أنه { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } على الإطلاق، فأحسن الحديث كلام اللّه، وأحسن الكتب المنزلة من كلام اللّه هذا القرآن، وإذا كان هو الأحسن، علم أن ألفاظه أفصح الألفاظ وأوضحها، وأن معانيه، أجل المعاني، لأنه أحسن الحديث في لفظه ومعناه، متشابها في الحسن والائتلاف وعدم الاختلاف، بوجه من الوجوه. حتى إنه كلما تدبره المتدبر، وتفكر فيه المتفكر، رأى من اتفاقه، حتى في معانيه الغامضة، ما يبهر الناظرين، ويجزم بأنه لا يصدر إلا من حكيم عليم، هذا المراد بالتشابه في هذا الموضع.(1/9)
وأما في قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فالمراد بها، التي تشتبه على فهوم كثير من الناس، ولا يزول هذا الاشتباه إلا بردها إلى المحكم، ولهذا قال: { مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } فجعل التشابه لبعضه، وهنا جعله كله متشابها، أي: في حسنه، لأنه قال: { أَحْسَنَ الْحَدِيثِ } وهو سور وآيات، والجميع يشبه بعضه بعضا كما ذكرنا.
{ مَثَانِيَ } أي: تثنى فيه القصص والأحكام، والوعد والوعيد، وصفات أهل الخير، وصفات أهل الشر، وتثنى فيه أسماء اللّه وصفاته، وهذا من جلالته، وحسنه، فإنه تعالى، لما علم احتياج الخلق إلى معانيه المزكية للقلوب، المكملة للأخلاق، وأن تلك المعاني للقلوب، بمنزلة الماء لسقي الأشجار، فكما أن الأشجار كلما بعد عهدها بسقي الماء نقصت، بل ربما تلفت، وكلما تكرر سقيها حسنت وأثمرت أنواع الثمار النافعة، فكذلك القلب يحتاج دائما إلى تكرر معاني كلام اللّه تعالى عليه، وأنه لو تكرر عليه المعنى مرة واحدة في جميع القرآن، لم يقع منه موقعا، ولم تحصل النتيجة منه، ولهذا سلكت في هذا التفسير هذا المسلك الكريم، اقتداء بما هو تفسير له، فلا تجد فيه الحوالة على موضع من المواضع، بل كل موضع تجد تفسيره كامل المعنى، غير مراع لما مضى مما يشبهه، وإن كان بعض المواضع يكون أبسط من بعض وأكثر فائدة، وهكذا ينبغي للقارئ للقرآن، المتدبر لمعانيه، أن لا يدع التدبر في جميع المواضع منه، فإنه يحصل له بسبب ذلك خير كثير، ونفع غزير.(1/10)
ولما كان القرآن العظيم بهذه الجلالة والعظمة، أثَّر في قلوب أولي الألباب المهتدين، فلهذا قال تعالى: { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } لما فيه من التخويف والترهيب المزعج، { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ } أي: عند ذكر الرجاء والترغيب، فهو تارة يرغبهم لعمل الخير، وتارة يرهبهم من عمل الشر.
{ ذَلِكَ } الذي ذكره اللّه من تأثير القرآن فيهم { هُدَى اللَّهِ } أي: هداية منه لعباده، وهو من جملة فضله وإحسانه عليهم، { يَهْدِي بِهِ } أي: بسبب ذلك { مَنْ يَشَاءُ } من عباده. ويحتمل أن المراد بقوله: { ذَلِكَ } أي: القرآن الذي وصفناه لكم.
{ هُدَى اللَّهِ } الذي لا طريق يوصل إلى اللّه إلا منه { يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } ممن حسن قصده، كما قال تعالى { يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ }
{ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } لأنه لا طريق يوصل إليه إلا توفيقه والتوفيق للإقبال على كتابه، فإذا لم يحصل هذا، فلا سبيل إلى الهدى، وما هو إلا الضلال المبين والشقاء.
وكما ينزل الماء من السماء فينبت لهم به زرعاً مختلفاً ألوانه كذلك ينزل من السماء ذكراً تتلقاه القلوب الحية ; فتتفتح وتنشرح وتتحرك حركة الحياة , وتتلقاه القلوب القاسية كما تتلقاه الصخرة القاسية التي لا حياة فيها ولا نداوة !
والله يشرح للإسلام قلوباً يعلم منها الخير , ويصلها بنوره فتشرق به وتستضيء . والفرق بين هذه القلوب وقلوب أخرى قاسية فرق بعيد . (فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله) أولئك في ضلال مبين). .(1/11)
وهذه الآية تصور حقيقة القلوب التي تتلقى الإسلام فتنشرح له وتندى به . وتصور حالها مع الله . حال الانشراح والتفتح والنداوة والبشاشة , والإشراق والاستنارة . كما تصور حقيقة القلوب الأخرى في قساوتها وغلظتها وموتها وجفافها , وعتمتها وظلامها . ومن يشرح الله صدره للإسلام ويمد له من نوره , ليس قطعاً كالقاسية قلوبهم من ذكر الله . وشتان شتان بين هؤلاء وهؤلاء .
كذلك تصور الآية الثانية هيئة تلقي المؤمنين لهذا القرآن . هذا الكتاب المتناسق الذي لا اختلاف في طبيعته ولا في اتجاهاته , ولا في روحه , ولا في خصائصه . فهو(متشابه)وهو(مثاني)تكرر مقاطعه وقصصه وتوجيهاته ومشاهده . ولكنها لا تختلف ولا تتعارض , إنما تعاد في مواضع متعددة وفق حكمة تتحقق في الإعادة والتكرار . في تناسق وفي استقرار على أصول ثابتة متشابهة . لا تعارض فيها ولا اصطدام .
والذين يخشون ربهم ويتقونه , ويعيشون في حذر وخشية , وفي تطلع ورجاء , يتلقون هذا الذكر في وجل وارتعاش , وفي تأثر شديد تقشعر منه الجلود ; ثم تهدأ نفوسهم , وتأنس قلوبهم بهذا الذكر فتلين جلودهم وقلوبهم وتطمئن إلى ذكر الله . .
وهي صورة حية حساسة ترسمها الكلمات , فتكاد تشخص فيها الحركات .
(ذلك هدى الله يهدي به من يشاء). .
فما ترتعش القلوب هكذا إلا حين تحركها أصبع الرحمن إلى الهدى والاستجابة والإشراق . والله يعلم من حقيقة القلوب ما يجازيها عليه بالهدى أو بالضلال:)ومن يضلل الله فما له من هاد).(1/12)
• ... وقوله - عز وجل - { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ(16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(17)} (الحديد) لما ذكر حال المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في الدار الآخرة، كان ذلك مما يدعو القلوب إلى الخشوع لربها، والاستكانة لعظمته، فعاتب الله المؤمنين [على عدم ذلك]، فقال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } أي: ألم يجئ الوقت الذي تلين به قلوبهم وتخشع لذكر الله، الذي هو القرآن، وتنقاد لأوامره و زواجره، وما نزل من الحق الذي جاء به محمد ‘؟ وهذا فيه الحث على الاجتهاد على خشوع القلب لله تعالى، ولما أنزله من الكتاب والحكمة، وأن يتذكر المؤمنون المواعظ الإلهية والأحكام الشرعية كل وقت، ويحاسبوا أنفسهم على ذلك، { وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ } أي: ولا يكونوا كالذين أنزل الله عليهم الكتاب الموجب لخشوع القلب والانقياد التام، ثم لم يدوموا عليه، ولا ثبتوا، بل طال عليهم الزمان واستمرت بهم الغفلة، فاضمحل إيمانهم وزال إيقانهم، { فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } فالقلوب تحتاج في كل وقت إلى أن تذكر بما أنزل له الله، وتناطق بالحكمة، ولا ينبغي الغفلة عن ذلك، فإن ذلك سبب لقسوة القلب وجمود العين.
{(1/13)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فإن الآيات تدل العقول على العلم بالمطالب الإلهية، والذي أحيا الأرض بعد موتها قادر على أن يحيي الأموات بعد موتهم، فيجازيهم بأعمالهم، والذي أحيا الأرض بعد موتها بماء المطر قادر على أن يحيي القلوب الميتة بما أنزله من الحق على رسوله، وهذه الآية تدل على أنه لا عقل لمن لم يهتد بآيات الله و[لم] ينقد لشرائع الله.
إنه عتاب مؤثر من المولى الكريم الرحيم ; واستبطاء للاستجابة الكاملة من تلك القلوب التي أفاض عليها من فضله ; فبعث فيها الرسول يدعوها إلى الإيمان بربها , ونزل عليه الآيات البينات ليخرجها من الظلمات إلى النور ; وأراها من آياته في الكون والخلق ما يبصر ويحذر .
عتاب فيه الود , وفيه الحض , وفيه الإستجاشة إلى الشعور بجلال الله , والخشوع لذكره , وتلقي ما نزل من الحق بما يليق بجلال الحق من الروعة والخشية والطاعة والاستسلام , مع رائحة التنديد والاستبطاء في السؤال: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ } ?. .
وإلى جانب التحضيض والاستبطاء تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة , وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء , وما تنتهي إليه من القسوة بعد اللين حين تغفل عن ذكر الله , وحين لا تخشع للحق: (ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل , فطال عليهم الأمد , فقست قلوبهم , وكثير منهم فاسقون). .
وليس وراء قسوة القلوب إلا الفسق والخروج .(1/14)
إن هذا القلب البشري سريع التقلب , سريع النسيان . وهو يشف ويشرق فيفيض بالنور , ويرف كالشعاع ; فإذا طال عليه الأمد بلا تذكير ولا تذكر تبلد وقسا , وانطمست إشراقته , وأظلم وأعتم ! فلا بد من تذكير هذا القلب حتى يذكر ويخشع , ولا بد من الطرق عليه حتى يرق ويشف ; ولا بد من اليقظة الدائمة كي لا يصيبه التبلد و القساوة .
ولكن لا يأس من قلب خمد وجمد وقسا وتبلد . فإنه يمكن أن تدب فيه الحياة , وأن يشرق فيه النور , وأن يخشع لذكر الله . فالله يحيي الأرض بعد موتها , فتنبض بالحياة , وتزخر بالنبت والزهر , وتمنح الأكل والثمار . . وكذلك القلوب حين يشاء الله{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}. . وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب كما تحيا الأرض ; وما يمدها بالغذاء والري والدفء {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
أما حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - :
1. ((خاب عبد وخسر لم يجعل الله تعالى في قلبه رحمة للبشر (1))).
2. أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ _ قَالَ: قَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ ‘ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ وَعِنْدَهُ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ التَّمِيمِىُّ جَالِسًا . فَقَالَ الأَقْرَعُ إِنَّ لِى عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ مِنْهُمْ أَحَدًا . فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ‘ ثُمَّ قَالَ « مَنْ لاَ يَرْحَمُ لاَ يُرْحَمُ (2)»
3. عَنْ عَائِشَةَ ~ قَالَتْ جَاءَ أَعْرَابِىٌّ إِلَى النَّبِىِّ ‘فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ . فَقَالَ النَّبِىُّ ‘ « أَوَ أَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ (3)»
? مظاهر قسوة القلب
__________
(1) رواه الحسن بن سفيان والدولابي والديلمي وابن عساكر وذكره الألباني في الصحيحة برقم 456- وقال حسن
(2) رواه البخاري
(3) رواه البخاري(1/15)
لقسوة القلب أعراض ومظاهر تدل عليها ، وهي تتفاوت من حيث خطورتها وأثرها على صاحبها ، ومن أهم هذه المظاهر :
1- التكاسل عن الطاعات وأعمال الخير وخاصة العبادات:
وربما يفرط في بعضها ، فالصلاة يؤديها مجرد حركات لا خشوع فيها ، بل يضيق بها كأنه في سجن يريد قضائها بسرعة ، كما أنه يتثاقل عن أداء السنن والنوافل ، ويرى الفرائض والواجبات التي فرضها الله عليه كأنها أثقال ينوء بها ظهره فيسرع ولسان حاله يقول : أرتاح منها ، وقد وصف الله المنافقين فقال : { وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} ( التوبة : 54) وقال : { وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى } ) النساء : 14) .
2- عدم التأثر بآيات القرآن الكريم والمواعظ :
فهو يسمع آيات الوعد والوعيد فلا يتأثر ولا يخشع قلبه ولا يخبت ، كما أنه يغفل عن قراءة القرآن ، وعن سماعه ويجد ثقلاً وانصرافاً عنه ، مع أن الله تعالى يقول : { فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ } ( ق : 45) ومدح الله المؤمنين بقوله : { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } (الأنفال : 2).
3- عدم تأثره بشيء مما حوله من الحوادث كالموت والآيات الكونية :
والعجائب التي تمر عليه بين حين وآخر ، فهو لا يتأثر بالموت ولا بالأموات ، ويرى الأموات ويمشي في المقابر وكأن شيئاً لم يكن ، وكفى بالموت واعظاً ، قال تعالى { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } (التوبة:126).(1/16)
4- يزداد ولعه بملذات الدنيا ويؤثرها على الآخرة : فتصبح الدنيا همه وشغله الشاغل ، وتكون مصالحه الدنيوية ميزاناً في حبه وبغضه وعلاقاته مع الناس ؛ فيكون في الحسد والأنانية والبخل والشح .
5- يضعف فيه تعظيم الله - جل جلاله - : وتنطفئ الغيرة ، وتقل جذوة الإيمان ، ولا يغضب إذا انتهكت محارم الله ، فيرى المنكرات ولا تحرك فيه ساكناً ، ويسمع الموبقات وكأن شيئاً لم يكن ، لا يعرف معروفاً ، ولا ينكر منكراً ، ولا يبال بالمعاصي والذنوب .
6- الوحشة التي يجدها صاحب القلب القاسي : وضيق الصدر والشعور بالقلق والضيق بالناس ، ولا يكاد يهنأ بعيش أو يطمأن ؛ فيظل قلقاً متوتراً من كل شيء .
7- أن المعاصي تزرع أمثالها : ويولد بعضها بعضاً حتى يصعب عليه مفارقتها ، وتصبح من عاداته .
? أسباب قسوة القلب
لقسوة القلب أسباب كثيرة ومتعددة وبعضها أكثر خطورة من الآخر ، وتزداد القسوة كلما تعددت الأسباب ، ولعل أهم هذه الأسباب ما يلي :
1- تعلق القلب بالدنيا والركون إليها ونسيان الآخرة :
وهذا من أعظم الأسباب التي تقسي القلوب ، فإن حب الدنيا إذا طغى على حب الآخرة تعلق القلب بها ، وضعف إيمانه شيئاً فشيئاً حتى تصبح العبادة ثقيلة مملة ، ويجد لذته وسلواه في الدنيا وحطامها حتى ينسى الآخرة أو يكاد ، ويغفل عن هادم اللذات ، ويبدأ عنده طول الأمل ، وما اجتمعت هذه البلايا في شخص إلا أهلكته . والدنيا شِعب ٌ ما مال القلب إلى واحد منها إلا استهواه لما بعده ، ثم إلى ما بعده حتى يبتعد عن الله - عز وجل - ، وعندها تسقط مكانته عند الله ، ولا يبالي الله في أي واد من أودية الدنيا هلك والعياذ بالله .(1/17)
إن هذا العبد نسي ربه وأقبل على الدنيا مجلاً لها ومكرما ، فعظم ما لا يستحق التعظيم ، واستهان بما يستحق التعظيم والإجلال والتكريم ، فلذلك كانت عاقبته من أسوأ العواقب. يقول أحد السلف : (( ما من عبد إلا وله عينان في وجه يبصر بهما أمر الدنيا ، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر الآخرة ،فإذا أراد الله بعبد خيراً فتح العينين اللتين في قلبه ، فأبصر بهما ما وعد الله بالغيب ، وإذا أراد به غير ذلك تركه على ما فيه ، ثم قرأ { أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا } ( محمد:24) .
2- الغفلة : وهي داءٌ وبيل ٌ ، ومرض خطير إذا استحوذ على القلوب ، وتمكن من النفوس ، واستأثر على الجوراح والأبدان أدى إلى انغلاق كل أبواب الهداية ، وحصول الطبع والختم على القلوب { أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} ( النحل : 108) .
يقول ابن القيم ’ واصفاً حال أكثر الخلق : (( ومن تأمل حال هذا الخلق وجدهم كلهم إلا قليل ممن غفلت قلوبهم عن ذكر الله تعالى ، واتبعوا أهواءهم ، وصارت أمورهم ومصالحهم فرطاً ، أي فرطوا فيما ينفعهم ويعود بصالحهم ، واشتغلوا بما لا ينفعهم بل يعود بضررهم عاجلاً و آجلاً )) اهـ .(1/18)
وأخبر الله تعالى عن أصحاب الغفلة أنهم أصحاب قلوب قاسية لا ترق ولا تلين ، ولا تنفع بشيء من الموعظة ، فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، ولهم أعين يشاهدون بها ظواهر الأشياء ، ولكنهم لا يبصرون بها حقائق الأمور ، ولا يميزون بها بين المنافع والمضار ، ولهم آذان يسمعون بها الباطل كالكذب والغناء والفحش والغيبة والنميمة ولا ينتفعون بها في سماع الحق من كتاب الله وسنة نبيه محمد ‘ فأنى لهؤلاء الفوز والنجاة وتلك حالهم ، وأنى لهم الهدى والاستقامة وتلك طريقتهم يقول سبحانه : {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ } ( الأعراف :179) .
3- مصاحبة أصدقاء السوء ، والجلوس في الأجواء الفاسدة : وهذا السبب من أكثر الأسباب تأثيراً ، وذلك لأن الإنسان سريع التأثر بمن حوله ، فالشخص الذي يعيش في وسط يعجُ بالمعاصي والمنكرات ، ويجالس أناساً أكثر حديثهم عن اللذات المحرمة والنساء ، ويكثرون المزاح والضحك والنكات وسماع الغناء ورؤية المسلسلات ، هذا الشخص لا بد أن يتأثر بهؤلاء الجلساء وطبعه يسرق من طبعهم ، فيقسو قلبه ويغلط ، ويعتاد على هذه المنكرات .
4- كثرة الوقوع في المعاصي والمنكرات بحيث تصبح شيئاً مألوفاً :(1/19)
فإن المعصية ولو كانت صغيرة فإنها تمهد الطريق لأختها حتى تتابع المعاصي ويهون أمرها ، ولا يدرك صاحبها خطرها ، وتتسرب واحدة وراء الأخرى إلى قلبه ، حتى لا يبالي بها ، ولا يقدر على مفارقتها ويطلب ما هو أكثر منها ، فيضعف في قلبه تعظيم الله وتعظيم حرماته ، كما أنها تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخر وتعوقه أو توقفه فلا تدعه يخطوا إلى الله خطوة ، فالذنب يحجب الواصل ، ويقطع السائر ، وينكس الطالب ، ولهذا يقول النبي ‘ (( إن العبد إذا أذنب ذنباً نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإذا تاب ونزع واستغفر صُقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلوا قلبه ، فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل { كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ } ( المطففين : 14) (1).
5- نسيان الموت وسكراته ، والقبر وأهواله ، وعذابه ونعيمه ، ووضع الموازين ، ونشر الدواوين ، والمرور على الصراط ، ونسيان النار وما أعد الله فيها لأصحاب القلوب القاسية .
6- الاشتغال بما يفسد القلب ويقسيه :ومفسدات القلب خمسة ذكرها ابن القيم وهي كثرة الخلطة ، وركوب بحر التمني ، والتعلق بغير الله ، وكثرة الطعام ، وكثرة النوم .
? علاج قسوة القلب
والآن – أخي الحبيب – بعد أن وقفنا على مظاهر هذا الداء وأسبابه ، وفحصنا المرض ، نقف على سُبل علاجه ، السُبل التي تجعله رقيقاً منكسراً خاشعاً لخالفه عز وجل ، يُقبل على الله بعد أن كان معرضًا عنه ، ويقف عند حدوده بعد أن كان مجترئاً عليها .
إن نعمة رقة القلب من أجل النعم وأعظمها ، وما من قلب يُحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله فقد قال سبحانه { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ } (الزمر:22) ، وما رق قلب لله وانكسر إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات ، شمراً إلى الطاعات ، أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبته ، وأبعد ما يكون من معاصيه .
__________
(1) رواه أحمد والترمذي وحسنه الألباني(1/20)
وها هي –أخي الحبيب – بعض الأمور التي تزيل القسوة عن قلبك ، وتجعله رقيقاً منكسراً لخالقه ومولاه :
1- المعرفة بالله - سبحانه وتعالى - والتعرف على أسمائه وصفاته في الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، وبالأخص أسماء القهر والعظمة والجبروت :
فمن عرف ربه حق المعرفة رق لبه ، ومن جهل ربه قسا قلبه ، وما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل وأبعدهم عن المعرفة به ، وكلما عظم الجهل بالله كلما كان العبد أكثر جرأة على حدوده ومحارمه ، وكلما وجدت الشخص يديم التفكير في ملكوت الله ، ويتذكر نعم الله عليه التي لا تعد ولا تحصى ، كلما وجدت في قلبه رقة .
2- معرفة عاقبة القسوة والقساة في الكتاب الكريم والسنة المطهرة :
كما قال - عز وجل - { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)} [الزمر/22، 23]، وجاء في الحديث ما ينفر من القسوة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ قَالَ : ((سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ ‘ يَقُولُ لَا تُنْزَعُ الرَّحْمَةُ إِلَّا مِنْ شَقِيٍّ (1)))،وفى الصحيحين
عَنْ عَائِشَةَ ~ قَالَتْ : ((جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ ‘ فَقَالَ تُقَبِّلُونَ الصِّبْيَانَ فَمَا نُقَبِّلُهُمْ فَقَالَ النَّبِيُّ ‘ أَوَأَمْلِكُ لَكَ أَنْ نَزَعَ اللَّهُ مِنْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ (2))).
3- الدعاء
__________
(1) رواه أحمد و أبو داود و الترمذي وحسنه الألباني والأرناؤوط
(2) متفق عليه(1/21)
بأن يتوب الله على العبد ويرزقه قلبًا خاشعًا ، وعينًا دامعًا فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ù قَالَ : (( كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ‘ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ وَمِنْ دُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ وَمِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ. (1)))
4- تذكر الموت وما بعده :
من سؤال القبر وظلمته ووحشته وضيقه ، وأهوال الموت وسكراته ، ومشاهدة أحوال المحتضرين وحضور الجنائز ، فإن هذا مما يوقظ النفس من نومها ، ويوقفها من رقدها ، وينبهها من غفلتها ، فتعود إلى ربها وترق ، ولهذا كان النبي ‘ يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول : (( أكثروا ذكر هادم اللذات الموت ، فإنه لم يذكره أحد في ضيق من العيش إلا وسعه عليه ، ولا ذكره في سعة إلا ضيقها عليه )) (2) ويقول سعيد بن جبير ’ : لو فارق ذكر الموت قلبي لخشيت أن يفسد علي قلبي .
5- زيارة القبور والتفكر في حال أهلها :
وكيف صارت أجسادهم تحت التراب وكيف كانوا يأكلون ويتمتعون ويلبسون مالذ وطاب فأصبحوا تراباً في قبورهم ، وتركوا ما ملكوا من أموال وبنين ، ويتذكر أنه قريباً سيكون بينهم ، وأن مآله هو مآلهم ، ومصيره هو مصيرهم ، فزيارة القبور عظة وعبرة ، وتذكير وتنبيه لأهل الغفلة ، ولهذا قال النبي ‘ (( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ؛ فإنها ترق القلب ، وتدمع العين ، وتذكر الآخرة ، ولا تقولوا هُجراً )) (3)، ومن نظر إلى القبور وإلى أحوال أهلها انكسر قلبه ورق ، وذهب ما به من القسوة ، وأقبل على ربه إقبال صدق وإخبات .
6- النظر في آيات القرآن الكريم :
__________
(1) رواه أحمد والترمذي والنسائي وصححه الألباني
(2) رواه البيهقي وحسنه الألباني.
(3) رواه الحاكم وصححه الألباني(1/22)
والتفكر في وعده ووعيده وأمر ونهيه ، فما قرأ عبد القرآن وكان عند قراءته حاضر القلب مفكراً متأملاً إلا وجدت عينه تدمع ، وقلب يخشع ، ونفسه تتوهج إيماناً من أعماقها تريد السير إلى ربها ، وما قرأ عبد القرآن أو استمع إلى آياته إلا وجدته رقيقاً قد خفق قلبه واقشعر جلده من خشية الله {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} (23) سورة الزمر، و عن عطاء قال : دخلت أنا وعبيد بن عمير على عائشة ~ فقال عبد الله بن عمير : حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله ‘ فبكت وقالت : قام ليلة من الليالي فقال : يا عائشة ! ذريني أتعبد لربي قالت : قلت : والله إني لأحب قربك وأحب ما يسرك قالت : فقام فتطهر ثم قام يصلي فلم يزل يبكي حتى بل حجره ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض وجاء بلال يؤذنه بالصلاة فلما رآه يبكي قال : يا رسول الله ! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ ! قال : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها : { إن في خلق السماوات والأرض }(1) وقال عُبَيد بن السائب : قيل للأوزاعي: ما غاية التفكر فيهن؟ قال: يقرأهن وهو يعقلهن(2).
7- تذكر الآخرة والتفكر في القيامة وأهوالها:
__________
(1) رواه ابن حبان فى صحيحه[ جزء 2 - صفحة 386 ] قال شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم وصححه الألباني فى السلسلة الصحيحة برقم 68 [ جزء 1 - صفحة 147 ]
(2) تفسير ابن كثير - (ج 2 / ص 190)(1/23)
والجنة وما أعد الله فيها للطائعين من النعيم المقيم ، والنار وما أعد الله فيها للعاصين من العذاب المقيم ، فإن ذلك يذهب النوم عن الجفون ، ويحرك الهمم الساكنة والعزائم الفاترة ، فتقبل على ربها إقبال المنيب الصادق ، وعندها يرق القلب .
8- الإكثار من الذكر والاستغفار :
فإن للقلب قسوة لا يذيبها إلا ذكر الله تعالى ، فينبغي للعبد أن يداوي قسوة قلبه بذكر الله تعالى ، وقد قال رجل للحسن : يا أبا سعيد أشكو إليك قسوة قلبي . قال : أذِبه بالذكر . وهذا لأن القلب كلما اشتدت به الغفلة اشتدت به القسوة ، فإذا ذكر الله تعالى ذابت تلك القسوة كما يذوب الرصاص في النار فما أذيبت قسوة القلب بمثل ذكر الله تعالى . يقول ابن القيم ’ : (( صدأ القلب بأمرين : بالغفلة والذنب ، وجلاؤه بشيئين بالاستغفار والذكر ...)).
9- زيارة الصالحين وصحبتهم ومخالطتهم والقرب منهم :
فهم يأخذون بيدك إن ضعفت ، ويذكرونك إذا نسيت ، ويرشدونك إذا جهلت ، إن افتقرت أغنوك ، وإن دعوا الله لم ينسوك ، ورؤيتهم تذكر بالله وتعين على الطاعة ، قال تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا }( الكهف : 28) ويقول جعفر بن سليمان : كنت إذا وجدت من قلبي قسوة غدوت فنظرت إلى وجه محمد بن واسع .
10- مجاهدة النفس ومحاسبتها ومعاتبتها ، وذلك بمعرفة حقيقة النفس أولاً ، ثم المشارطة ثم المحاسبة ثم المعاتبة.:(1/24)
فإن الإنسان إذا لم يجاهد نفسه ويحاسبها ويعاتبها وينظر في عيوبها ، ويتهمها بالتقصير لا يمكن أن يدرك حقيقة مرضها ، وإذا لم يعرف حقيقة المرض فكيف يتمكن من العلاج ؟! لهذا لا بد من تذكير النفس بضعفها وافتقارها إلى خالقها ، وإيقاظها من غفلتها ، وتعريفها بنعم الله عليها ، ومراقبتها ومحاسبتها على كل صغيرة وكبيرة حتى يسهل عليه قيادها والتحكم فيها .
11- زيارة المعوزين كالأيتام والأرامل والمساكين
هذه الزيارة ليتها تدوم فإن لها أثرًا عجيبًا على أقسى القلوب ، فإن فيها فائدة منها: الشفقة على ذلك الصغير الذي تركه مثلك يحنو عليه الناس لطعمة أو شربة ، فضع ولدك مكانه وتصور والله ينخلع قلبك ، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _:أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ‘ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ : (( لَهُ إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ.(1))).
12- زيارة المرضى
فإن زيارة المريض لها تأثير فعال في قلب العبد ،وبالأخص حالات الحروق و السرطان ،لاسيما أقسام الأطفال والحالات الحرجة ، فهذا سيكون نعم الدواء فإن العافية تُنسي ، و استدامة الغفلة يورث الجفاء فرقق قلبك بزيارة مريض عرفته أما لا، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘ : (( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَا ابْنَ آدَمَ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي قَالَ يَا رَبِّ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَالَ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَه.(2)))
__________
(1) رواه أحمد والطبراني في الكبير وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (ج 2 / ص 507)-( حسن )برقم 854
(2) رواه مسلم وغيره(1/25)
13- قراءة قصص ونهايات القساة والظالمين وسماع محاضرات في الموضوع وهنا سنذكر بعض أعمال الطغاة القساة حتى ينفر قلبك منها وتستقبح فعالهم.
آثار القسوة على المجتمع
كفى بالقسوة سوءًا أنها تلتهم إنسانيتنا ، فتضيع معها أبسط صور القيم الحياة الإنسانية ، ألا وهي التراحم والرحمة .
فلننظر ماذا قدمت تلك الأمم الغربية التي تنسب نفسها إلى التحضر و هي ابعد الناس عنه ، بل هم إلى الانحطاط و القسوة أقرب وكفى بقسوتهم مع أنفسهم فما بالك من قسوتهم مع الآخرين وإليك بعض من مخازيهم عليهم .
فهذا التقرير نشرته مفكرة الإسلام على موقعها على الإنترنت تحت هذا العنوان
( الأطفال الذين يموتون بسبب القسوة في الولايات المتحدة )
ازدياد ضحايا القسوة من الأطفال (1)
__________
(1) هذا فضلا عن القسوة والعنف ضد النساء أما الأرقام فمنها تشير إلى العنف الذي تواجهه المرأة في بعض الدول:
-ففي فرنسا، 95% من ضحيا العنف هن من النساء، 51% منهن نتيجة تعرضهن للضرب من قبل أزواجهن أو أصدقائهن.
-في كندا، 60% من الرجال يمارسون العنف، 66% تتعرض العائلة كلها للعنف.
-في الهند، 8 نساء من بين كل 10 نساء هن ضحايا للعنف، سواء العنف الأسري أو القتل.
-في البيرو، 70% من الجرائم المسجلة لدى الشرطة هي لنساء تعرضن للضرب من قبل أزواجهن.
-أن زهاء 60% من النساء التركيات فوق سن الخامسة عشرة تعرضن للعنف أو الضرب أو الإهانة أو الإذلال، على أيدي رجال من داخل أسرهن، سواء من الزوج أو الخطيب أو الصديق أو الأب أو والد الزوج)! وأشارت الدراسة إلى أن (50%) من النسبة الآنفة يتعرضن للضرب بشكل مستمر، وأن (40%) منهن يرجعن السبب في ذلك لظروف اقتصادية وتناول الكحوليات وأن (25%) فقط من أولئك النساء اللاتي يتعرضن للضرب يقمن بالرد على العنف بعنف مماثل، في حين أن (10%) فقط منهن يتركن المنزل احتجاجاً على العنف الذي يتعرضن له..) والغريب: (أن (70%) من هؤلاء السيدات اللاتي يتعرضن للضرب لا يحبذن الطلاق حفاظاً على مستقبل الأولاد، في حين أن (15%) فقط منهن لا يطلبن الطلاق بسبب حبهن لأزواجهن).
-وفي الولايات المتحدة: يعتبر الضرب والعنف الجسدي السبب الرئيسي في الإصابات البليغة للنساء.
** العنف الجسدي يصاحبه انتهاك نفسي
وقال خبراء صحة أمريكيون أن واحدة من كل ثلاث نساء في العالم، تعاني من مشكلات صحية خطيرة لها علاقة بتعرضها للضرب أو الاغتصاب أو إشكال أخرى من العنف.
ووجد باحثون من كلية الصحة العامة ومركز الصحة والمساواة بين الجنسين في جامعة جون هوبكنز عدداً مثيراً للدهشة من النساء يعانين من مشكلات صحية بسبب التعرض للعنف أثناء حياتهن.
وذكر التقرير أن العنف الجسدي في العلاقات الودية يصاحبه دائماً انتهاك نفسي ومزيد من العنف الجنسي.
وأشار الباحثون إلى أنهم وجدوا أن ضحايا العنف أكثر عرضة للإصابة بمشكلات صحية من بينها الألم المزمن وسوء استخدام العقاقير والكحول والاكتئاب ومحاولات الانتحار.
وقالت ميغان غوتيمويلر التي ساهمت في كتابة التقرير والباحثة في جامعة جون هوبكنز يمكن إرجاع عدد كبير من مشكلات النساء الصحية حول العالم لبعض أشكال العنف بأكثر ما كان يعتقد.
واستند التقرير إلى بيانات جمعت من أكثر من 500 دراسة مستقلة أجريت حول العالم. النبأ الالكترونية(1/26)
على الرغم من أنّ وفيات الأطفال الناجمة عن الإساءة أو الإهمال نادرة نسبيا، فإن معدل ضحايا الأطفال نتيجة القسوة، الذي أكّدته وكالة الخدمات الوقائية للطفل [سي بى أس]، زاد بثبات خلال العقد الماضي. وقد ذكر النظام الوطني لبيانات الإهمال والاعتداء على الأطفال ( ncands) أنه في عام 1997 كان هناك ما يقارب 1,196 طفل ضحية، أو 1.7 طفل لكلّ 100,000 في تعداد السكان العام. [هذا التقدير كان مستندًا إلى تقارير من 41 ولاية أبلغت عما مجموعه 967 ضحية]. وقد ذكرت اللجنة الاستشارية الأمريكية للإهمال والاعتداء على الطفل في عار أمّة: الإهمال والاعتداء القاتل على الأطفال في الولايات المتّحدة، أن تقديرًا أكثر واقعية لوفيات الأطفال السنوية كنتيجة للإساءة والإهمال، المعروفة وغير المعروفة لوكالات خدمات الطفل الوقائية، كان حوالي 2,000، أو تقريبا خمسة أطفال يوميًا. ويعتقد الخبراء مثل رايان ريني من المركز الوطني لادعاء الاعتداء على الأطفال أنّ عدد وفيات الأطفال سنويًا بسبب القسوة قد يصل إلى 5000.
الأطفال الصغار هم الأكثر تضررًا
يدعم البحث أن الأطفال الصغار جدا [عمر 5 سنوات وأصغر] هم الضحايا الأكثر تكرارا من ضحايا الأطفال. وقد وضحت بيانات(ncands) لعام 1997 من مجموعة ولايات أنّ الأطفال عمر3 سنوات أوأصغر يمثلون 77 بالمائة من الضحايا. وهؤلاء هم الأكثر تضررًا للعديد من الأسباب التي تتضمّن صغر حجمهم وعدم قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم. ويحدث الاعتداء القاتل عادة بإحدى طريقين: الاعتداء المتكرّر أو الإهمال لفترة زمنية [انتهاك عرض طفل] أو في حادثة اعتداء مندفعة واحدة [غرق، خنق، أو هزّ الطفل الرضيع، على سبيل المثال].
ماذا نقول هذه حياتهم مع ذواتهم وأنفسهم ..... بل ومع فلذات أكبادهم أبنائهم ؟!
قل لي بالله عليك ماذا ننتظر منهم .......... بعد هذا ..... فلله الأمر من قبل ومن بعد(1/27)
إنهم أشد قسوة مع آبائهم وأماتهم ....... من تهاجر وقطع صلات وأواصر الرحم إلي القتل فضلاً عن الوقوع في المحرمات والاعتداء على البنات والأمهات .
ولكن الغريب أن المرضى مرض لا يرجى شفاءه ، شرعوا لهم ما أطلقوا عليه الموت الرحيم ، أو الموت المُهين أقصد الهين ، والغريب أن الأبواق الإعلامية في بلادنا هللت لمثل هذا وجعلوا منه قضايا ملأ بها الدنيا (1).
فها هي روافد هذه الحضارة الزائفة فما بالك ما تكن قلوبهم للمسلمين من ضغائن فنحن المسلمين ندعوا (أهل الباطل إلى الحق وينصحونهم بترك الباطل رحمة بهم، وأهل الباطل يحاربون أهل الحق وينابذونهم العداء، ويخرجونهم من ديارهم، ويفتنونهم في دينهم بالضرب والرجم والحبس والقتل، تجبرا عليهم وقهرا وإذلالا لهم وقسوة عليهم.
والتاريخ البشري والقرآن العظيم والواقع المعاصر كلها تدل على ذلك.
ولو أردنا تتبع ذلك الظلم والقسوة والقهر التي تباين الرحمة وتنافيها، من القرآن الكريم وكتب السنة، والتاريخ والواقع المعاصر، لاحتاج ذلك منا إلى كتاب مستقل، فلنذكر نماذج من القرآن الكريم ونشير إلى شئ من الواقع للربط بين أهل الباطل في القديم والحديث.
سبق أن أهل الحق تلازمهم صفة الرحمة في أغلب الأوقات-هذا إذا كانوا من غير الأنبياء، وغير الأنبياء ليسوا بمعصومين، أما الأنبياء فلا تفارقهم سجية الرحمة، وأما أهل الباطل فالأصل أنهم غير رحماء، فإذا ما وجدت عند بعضهم بعض معاني الرحمة، فالغالب أنها تتعلق بتحقيق مصالح لهم.
ومن مستلزمات القسوة عند أهل الباطل اعتداء القوي على الضعيف.
مظاهر الاعتداء.؟؟؟
وللاعتداء مظاهر:
المظهر الأول: إخراج القوي الضعيف من بلده وداره.
وقد يكون المعتدى عليه من أهل الحق الرحماء الذين يريدون الخير لذلك المعتدي، كالأنبياء والدعاة من أتباعهم.
__________
(1) القتل الرحيم أنظر تفصيل ذلك بالملاحق في أخر البحث.(1/28)
فتأمل كيف يتلطف نبي الله شعيب Aمع قومه، ويطلب منهم الصبر والمهادنة-إذا لم يستجيبوا لدعوته-حتى يحكم الله بينه وبينهم، وكيف يردون عليه؟
قال تعالى عنه، وهو يخاطب قومه: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آَمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)}[الأعراف: 87-88].
بل حكى الله تعالى عن الكفار عموما، تهديدهم لأهل الحق من الأنبياء الرحماء الذين جاءوهم بالرحمة والخير، بإخراجهم من أرضهم، ما لم يتركوا دين الرحمة الذي جاءوهم به ويعودوا إلى ملة الكفر والعذاب، كما قال تعالى:{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)} [إبراهيم: 13].
وقال تعالى عن قوم لوط-وقد دعاهم لوط Aإلى الطهر والعفة والبعد عن فعل الفاحشة المنكرة-الذين سخروا من دعوته لهم إلى التطهر من الفاحشة: وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) [الأعراف: 82]
وقال تعالى-مسليا رسوله ‘ وقد أخرجه قومه من أحب بلد إليه-المسجد الحرام-:{ وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)} [محمد/13].(1/29)
وقال تعالى-مبينا مكر قومه به وتآمرهم عليه بالسجن أو القتل أو الإخراج من بلده: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال/30]وقال تعالى عن رأس المنافقين-ومثله رؤوس العلمانيين المنتسبين إلى الإسلام المحاربين له اليوم-وهو يهدد الرسول ‘ والمؤمنين به، وبخاصة المهاجرين: { يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) }[المنافقون/8]
وقال تعالى عن نبيه ‘ وأصحابه المهاجرين الذين أخرجتهم قريش من ديارهم وأموالهم وأهليهم:{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ } [الحج/39، 40] وما أشق خروج الإنسان-أي إنسان من منزله وبلاده بالقوة والإكراه-وبخاصة عندما يكون إخراجه بسبب دعوته إلى الحق، قوما ضلالا متمسكين بالباطل صادين عن الحق، فيخرجونه مقهورا مظلوما، هو يجاهد في وصول الخير إليهم في حال كونه مشفقا عليهم رحيما بهم، وهم يصرون على إخراجه من دياره، قاسية قلوبهم لا تعرف الرحمة والرأفة بمن يستحقها.
المظهر الثاني: سجن المعتدى عليه بدون حق.
وهذه العقوبة القاسية تعتبر عند الطغاة الفراعنة أهل الباطل تفضلا منهم على أعدائهم من أهل الحق، لأن أهل الحق لا يستحقون الحياة، والسجن قد يكون محطة يعبر منها السجين إلى مشنقة الموت، أو ينسى في السجن نسيان القساة الذين نزعت الرحمة من قلوبهم.(1/30)
ففرعون يهدد موسى Aالرسول الموحد الذي يدعو إلى توحيد الله وعبادته وحده، ويحذره من أن يعبد إلها غيره، ويتوعده بالسجن مع المجرمين من قطاع الطرق وسارقي الأموال وقاتلي النفوس بدون حق، كما قال تعالى عنه: {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29)} [الشعراء/29] هذا التهديد بالسجن قصد منه إكراه الرسول الموحد الداعي إلى التوحيد الذي هو أصل كل حق، على الإشراك بالله وعبادة الطاغوت الذي هو أصل كل باطل.
ويوسف Aتعرض للسجن، بسبب تنزهه عن الفاحشة التي طلبتها منه امرأة العزيز في قصر السلطة، وقصور طغاة الملوك والزعماء تضيق بالطاهرين الذين ينزهون أنفسهم من الفواحش، ولا يلقي الترحيب فيها-غالبا- والتمكين إلا لفسقه والمجرمون الذين يحبون الفاحشة، لذلك حاولت عزيزة القصر إكراهه على المنكر واتخذت لذلك الإكراه كل وسيلة، فلما رفض صاحب الحق طلبها واعتصم بالله طلبت سجنه، فاستجاب لطلبها زوجها الديوثُ وسَجَنَه، وكان السجن أحب إلى صاحب الحق من أن يستجيب للباطل.
قال تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25)} [يوسف/24، 25] وبعد إقرارها بأنها هي العاصية وإقرارها بأنها هي التي راودته على الفاحشة، صدر منها التهديد الظالم الذي هو عادة أهل الباطل، للمظلوم البريء صاحب الحق، كما قال تعالى عنها: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ (32)} [يوسف/32](1/31)
ووقف صاحب الحق عالي الرأس، مفضلا السجن على الاستجابة للمنكر، كما قال تعالى عنه:{ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) }[يوسف/33]
ويصدر الحكم الظالم من أهل الباطل على البريء المظلوم صاحب الحق، دون رحمة لضعفه ولا تقدير لبراءته كما قال تعالى: { ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآَيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) } [يوسف/35]]
المظهر الثالث: الرجم بالحجارة.
وقد هدد أهل الباطل بالرجم رسلَ الحق ودعاته وأهله، كما قال تعالى عن قوم نوح: { قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) }[الشعراء/116]
وهدد آزر أبو إبراهيم ولدَه إبراهيم بالرجم، كما قال الله تعالى عنه: { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)} [مريم/46]وحكى الله عن قوم شعيب أنهم لم يتركوا رجمه إلا خوفا من رهطه، كما قال تعالى عنهم: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)} [هود/91]
ويظهر من بعض الآيات أن موسى Aهدده فرعون وملؤه بالرجم فاستعاذ بالله من ذلك، كما قال تعالى عنه: {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)} [الدخان/20] وذكر تعالى عن بعض الأمم أنها هددت رسلها بالرجم والعذاب المؤلم، كما قال تعالى:{ قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18)} [يس/18](1/32)
رسل الله وأتباعهم من أهل الحق، يسعون جادين إلى إنقاذ أهل الباطل من ضلالهم الذي يشقيهم في الدنيا والآخرة، شفقة عليهم ورحمة بهم، وأهل الباطل تتصلب قلوبهم وتقسو نفوسهم، فيهددون من يريد رحمتهم، بالرجم والعذاب الأليم! لأن قلوب أهل الحق مليئة بالرحمة وقلوب أهل الباطل خالية من الرحمة مليئة بالقسوة.
المظهر الرابع: تقطيع الأطراف والصلب.
وهذا النوع من أنواع الاعتداء من قساة القلوب-على أهل الباطل والتهديد به أمر شائع في طواغيت الأرض وفراعنتهم، وقد هدد به فرعون السحرة الذين استنجد بهم للانتصار على آيات موسى وبراهينه بسحرهم، فبطل سحرهم وتسلل الإيمان برب موسى ودعوته إلى قلوبهم، فانقلبوا مؤمنين بالحق الذي جاء به موسى عليه السلام، ضد الباطل الذي كانوا قد نشئوا عليه وأعانوا عليه فرعون، وعندما {قَالُوا آَمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122)}[الأعراف/121، 122] اشتدت قسوة فرعون فأخذ يعاتب وينكر ويهدد، كما قال تعالى عنه:{ قَالَ فِرْعَوْنُ آَمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)} [الأعراف/123، 124]
وقال تعالى:{ قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) }[طه/71](1/33)
وقال تعالى عنه: {قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49)} [الشعراء/49]
المظهر الخامس من مظاهر العنف والقسوة: الذبح، وهو أحد أنواع القتل
وقد كان فرعون-لشدة قسوته-يذبح صغار بني إسرائيل أمام أعين آبائهم وأمهاتهم، ليستأصل ذريتهم الذكور، حرصا على ملكه وخوفا متوهما أن يسلبوه ذلك الملك.
قال تعالى:{ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)} [البقرة/49] وقال تعالى:{ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) }[إبراهيم/6]
وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)} [القصص/4]
المظهر السادس: التحريق.
ومن أنواع القتل الشنيع التي يتخذها قساة القلوب من أهل الباطل، تحريق أهل الحق بالنار.
كما فعل قوم إبراهيم الخليل عليه السلام-لولا أن الله تعالى سلب النار قدرتها على إيذائه بقدرته تعالى.(1/34)
قال تعالى فيهم-بعد أن أقام إبراهيم Aالحجة عليهم واعترفوا بأنه على حق وأنهم هم أهل باطل وظلم {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68)} [الأنبياء/68] ومن أعظم القصص الدالة على أن أهل الباطل قد نزعت الرحمة من قلوبهم قصة أصحاب الأخدود التي أشارت إليها هذه الآيات: { قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)} [البروج/4-10]ويمكن مراجعة هذه القصة في كتب التفسير ومنها تفسير القرآن العظيم لابن كثير.]
المظهر السابع: القتل بكل الوسائل المؤدية إليه.
وهو شامل لقتل أهل الباطل أهلَ الحق، نصرا للباطل على الحق، ومحاولة لاستئصال مصادر الحق التي تؤدي إلى إبلاغ الحق إلى عقول الناس من أجل أن تخلو الأرض للباطل وأهله.
وشامل كذلك لاعتداء أهل الباطل على الضعفاء من الصغار-من أولادهم بسبب خشية العار إن كان القتل للبنات، أو خشية الفقر-أو أولاد أعدائهم، كما يحصل في الحروب، أو من بعض الطغاة الفراعنة لأولاد بعض الطوائف المضطهدة تحت حكمهم وسيطرتهم، وذلك كله يدل على نزع الرحمة والشفقة من قلوبهم فمن النوع الأول-قتل أهل الحق من الأنبياء وأتباعهم-قوله تعالى في اليهود القساة: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)} [البقرة/61](1/35)
وقوله تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)}[آل عمران/21]
وقال تعالى: { لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181)}[آل عمران/181]وقال تعالى{كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70)} [المائدة/70].هذه الآيات وغيرها في أهل الكتاب.
وقال تعالى في مشركي قريش وهم يتآمرون على رسول الله ‘ ويطرحون خياراتهم في التخلص منه ومن دعوته-ومن ذلك القتل-: { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)} [الأنفال/30]ومن النوع الثاني-أي قتل الصغار-ما كان يفعله فرعون مع أولاد بني إسرائيل الذكور، كما مضى قريبا.
ومن ذلك ما كان يفعله مشركو قريش حيث يذبح الأب ابنه خشية الفقر، أو ابنته خشية العار، وهما ينظران والأم تبصر قتل رضيعها، دون رحمة ولا شفقة، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} [الأنعام/137]وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} [الإسراء/31]
وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)} [الإسراء/31](1/36)
وقال تعالى:{ وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)} [التكوير/8، 9]
ترى هل يوجد شيء من الرحمة في قلوب من يقتلون الأولاد الصغار، سواء كانوا أولادهم أو أولاد أعدائهم؟!
المظهر الثامن: الأذى، بكل أنواعه.
وهو يشمل مظاهر القسوة المذكورة سابقا وغيرها.
وأذى أهل الباطل يشمل المخلوقات كلها: الإنسان-وغيره-سواء كان من أهل الحق أو من أهل الباطل، فصاحب الباطل القوي يؤذي الضعيف سواء كان من أهل الحق أو من أهل الباطل، ولكن إيذاءه أهل الحق له الأولوية عنده، وسنقتصر عليه ههنا بذكر بعض الآيات القرآنية التي نصت على الأذى.
قال تعالى-مخاطبا عباده المؤمنين مصبرا لهم، مبينا لهم، أنهم لا بد أن يتعرض لهم أعداء الحق من أهل الباطل، من اليهود والنصارى والمشركين سواء، بالأذى الذي يحتاجون معه إلى الصبر والتقوى في ثباتهم على الحق:
{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) } [آل عمران/186] وقال تعالى-مسليا رسوله ‘ ومواسيا له على ما كان يلقاه من أذى قومه المشركين، بما لقيه قبله إخوانه المرسلون من أقوامهم - { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)} [الأنعام/34]وقال تعالى لرسوله ‘: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا }[الأحزاب: 48](1/37)
كان يمكن الاكتفاء بذكر أن أهل الباطل أعداء الحق قد نزعت الرحمة من قلوبهم، لأنهم قد تكبروا وتجبروا وطغوا لبعدهم عن الله وعدم الاستجابة لرسله، ولذلك هم لا يدعون شيئا من أنواع الأذى إلا أنزلوه بالضعيف، وبخاصة إذا كان هذا الضعيف من أهل الحق، كان يكفي ذكر ذلك والاستدلال بآية أو آيتين بدون سوق المظاهر الثمانية المذكورة الدالة على قسوتهم وعدم رحمتهم.
ولكن أردت من سوق هذه المظاهر التنبيه إلى شيء-وليس كل شيء-من قاموس الشر والفتنة الذي يزاوله أعداء الحق، من أهل الباطل ضد أهل الحق من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم، ليفتنوهم عن دينهم بكل صنوف الأذى، وليصدوا الناس عن الاستجابة لدعوتهم بغاية القسوة والشدة.
ولو أنا عدنا إلى التاريخ لضرب أمثلة تندرج تحت هذا القاموس وتزيد عليه لما اتسع المقام لذلك.
ولهذا نحاول أن ننبه على الواقع وما يجري فيه من وبال على العالم كله، من قبل الطغاة والفراعنة من أهل الباطل، وبخاصة على أهل الحق من الدعاة الذين امتلأت قلوبهم رحمة ورأفة، فأجهدوا أنفسهم واقتحموا العقبات لإبلاغ الخير إلى أهل الباطل، ليسعدوا بهذا الخير في الدنيا والآخرة، ولكن أهل الباطل وجهوا إليهم سهام العداء والحرب بقسوة بالغة فأنزلوا بهم كل أنواع الأذى والمحن.
نماذج من قساة القلوب في عصر حقوق الإنسان!
لا نريد-كما سبق-تتبع قسوة الطغاة ووحشيتهم التي يعاملون بها الضعيف من قديم الزمان، بسبب فقد قلوبهم الرحمة والرأفة، والاستشهاد على ذلك بحوادث التاريخ، سواء أكان ذلك صادرا من أهل الكتاب، من اليهود و النصارى، أو الوثنيين من مجوس وغيرهم من الهندوس والبوذيين، وسواء عاملوا بتلك القسوة والوحشية دعاة الحق من الأنبياء والرسل واتباعهم، أو عاملوا بها أبناء جنسهم من الكفار، فإن ذلك-لو أردنا تتبعه-من الصعوبة بمكان.(1/38)
والذي يرغب في الاطلاع على نماذج من قسوة أي أمة من تلك الأمم فإنه واجد في كتب التاريخ القديمة والحديثة ما يغنيه، فهذه الرسالة ليست معنية بذلك، وحسبها أن تشير بسبابتها إلى المكتبات العامة والخاصة، والمكتبات التجارية لمن عنده تلك الرغبة.
ولكنها-أي هذه الرسالة-معنية بذكر نماذج تثبت بها دعواها، وهي أن صفات أهل الباطل الذين يسابقون بباطلهم أهل الحق إلى العقول، هي على نقيض صفات أهل الحق، فإذا كان أهل الحق يتصفون بالرحمة بالخلق، ورحمتهم بهم تحملهم على إبلاغ الحق إلى عقولهم، فإن أهل الباطل يتصفون بالقسوة والغلظة، ولعدم رحمتهم بالخلق يحاولون أن يسبقوا أهل الحق بإبلاغ باطلهم إلى عقول الناس، ويتخذون لذلك كل الوسائل القاسية الغليظة الخالية من الرحمة لذلك السباق.
ولما كانت النماذج المعاصرة، أقرب إلى ذهن القارئ لأنه يراها ويسمع عنها، ويعيش في زمن أحداثها، فإن الاستشهاد بها أقرب إلى إقامة الحجة بها.
وسنعرض هنا خمسة نماذج من قساة القلوب الذين نزعت الرحمة من قلوبهم:
النموذج الأول: قساة القلوب من اليهود.
النموذج الثاني: قساة النصارى.
النموذج الثالث: قساة الوثنيين.
النموذج الرابع: قساة الملحدين.
النموذج الخامس: قساة المنافقين.
النموذج الأول قساة اليهود:
إن الأمة التي تكذب قادة دعاة الحق- الأنبياء والرسل - عليه السلام - وتقتلهم، وهم يتوجهون إليها بدعوتها إلى الدخول في رحمة الله بها في الدنيا والآخرة، هي أمة بلغت أقصى حد القسوة والغلظة، وإذا نزعت الرحمة من قلوبها في معاملتها لأنبيائها ورسلها، فما الذي يتوقع منها في معاملتها لغيرهم؟ وبخاصة إذا كانوا أعداءها، وبالأخص إذا كان أعداؤها هم المسلمين الذين حسدوا رسولهم ورسالته في أول مجيئها، وحاولوا القضاء عليها في مهدها بقتل نبيها غيلة، وتأليب قوى الشر في الجزيرة العربية على حملتها، بعد نقضهم العهود والمواثيق التي كانت بينهم وبين الرسول ‘.(1/39)
فهاهم اليوم يغتصبون بلاد المسلمين-بمعاونة النصارى-ويقتلون أبناءهم، ويسجنونهم، ويعذبونهم بأقسى أنواع التعذيب، ويخرجونهم من ديارهم، ويهدمون على رؤوسهم منازلهم، ويدنسون مقدسا تهم-ومنها قبلة المسلمين الأولى ومسرى رسولهم ‘.
وقد اغتصبوا أرض فلسطين سنة 1948م وأخذوا يعيثون فسادا في البلاد والعباد، ولست بمحاول تتبع معاملتهم القاسية لأهل البلاد من ذلك التاريخ، وإنما أذكر أمثلة قليلة من تلك المعاملة قريبة العهد، قرأها الناس في الصحف والمجلات، وشاهدوها في التلفاز وسمعوها في الإذاعة، وأكثر ما تذكر ذلك مفصلا وسائل الإعلام الأجنبية الموالية والمؤيدة لليهود: الأوربية والأمريكية [هذا كان قبل وجود بعض الفضائيات العربية التي أصبحت تنقل مجازر اليهود للفلسطينيين ساعة بساعة، وفي مواقع الإنترنت خير شاهد على ذلك] وشهادة الأهل على الأهل أقوى حجة من غيرها-ومع أن هذه الإشارة كافية لمن يعيش في هذه الأيام على الكوكب الأرضي، لأن مظاهر قسوة اليهود تعتبر بدهية عندهم، ويكفي أن يُذكَّرُوا بها للدلالة على فقد اليهود الرحمة في قلوبهم، أقول مع أن ذلك كاف فلا بد من ضرب أمثلة لتكون أكثر تذكير للحاضر ومرجعا للأجيال القادمة.
وسأقتصر على بعض الأمثلة بذكرها من مرجع واحد وهو: (الانتفاضة المباركة، وقائع وأبعاد)[للكاتب غسان حمدان].
فقد ذكر في الفصل الثالث من الكتاب-وعنوانه الإجراءات الإسرائيلية الإرهابية-: العناوين الآتية:
سياسة القبضة الحديدية. ... الاعتقالات العشوائية.
مبدأ رابين [كان وزيرا للدفاع، ثم أصبح رئيسا للوزراء، وقد اغتاله بنو جلدته احتجاجا على ما ظهر لهم من تقارب مع الشرطة الفلسطينية] في تكسير العظام. ... تعطيل الخدمات الصحية.
- العقاب الجماعي. ... - انتهاك حرمة المقدسات الإسلامية.
- الحرب الاقتصادية. ... - اشتراك المستوطنين في القمع.
- محاولة كسر الإضراب التجاري. - دفن الأحياء.(1/40)
- الاعتداء على المؤسسات التعليمية. - هدم ونسف المنازل.
- قنابل الغاز السامة. ... - أجهزة عسكرية متطورة.
- إبعاد المواطنين خارج فلسطين. - الحرب النفسية.
- التعتيم الإعلامي.
وسأقتطف بعض الجمل مما فصل المؤلف، بعد ذكره هذه البنود قال: (لم يترك جنود الجيش الإسرائيلي أسلوبا للتنكيل بالمواطنين إلا وتسابقوا على تنفيذه، حتى وإن أثار إرهابهم العالم-إلى أن قال-: وحول الأساليب القمعية والإجراءات التي اعترف المجرم شامير[كان رئيسا للوزراء] بأن الجنود كلفوا بتنفيذها، فإنها تحتاج إلى مجلدات كبيرة، ويكفي أن نورد أبرز هذه الأساليب مدعمة ببعض الشواهد، على سبيل المثال، لا الحصر:
1-اقتحام المنازل بعد فرض حظر التجول، وتحطيم الأثاث وزجاج النوافذ، والعبث بمحتويات المنزل... بالإضافة إلى الاعتداء على الموجودين فيها... رجالا ونساء... كبارا في السن أو صغارا...
2- قذف قنابل الغاز السامة والمسيلة للدموع داخل المنازل... كما عمدت قوات العدو إلى أسلوب جديد للتنكيل باستخدام هذه القنابل، حيث يقوم الجنود بإطلاق عدد من القنابل الغازية والدخانية في المنازل، ثم يجبرون المواطنين على دخول المنازل تحت الضرب الشديد.
3- إطلاق يد حرس الحدود بأعمال تخريب وإهانة..
4- إخراج الرجال والأطفال من منازلهم وضربهم ضربا مبرحا بالهراوات وأعقاب البنادق، ثم ربطهم إلى أعمدة الكهرباء والهاتف والاستمرار في ضربهم إلى أن يفقد الشخص المربوط وعيه، وعندئذٍ يرش عليه الماء البارد ويعود الضرب من جديد، وقد يلجأ الجنود إلى ضرب رأس المعتقل بالحائط والعمود.
5- استغلال تأخر بعض المواطنين في الوصول إلى منازلهم ليلا، فيقوم الجنود باعتقالهم وتكسير أطرافهم... وإلقائهم في أماكن نائية في الطريق...(1/41)
6-تجميع أعداد كبيرة من المواطنين ممن يتصادف مرورهم في الشوارع، وحشرهم في محلات تجارية، بعد فتحها بالقوة ثم يقوم الجنود بإلقاء قنابل غاز مسيل للدموع...ويغلقون أبواب المحال والمواطنون بداخلها...
7-... إلقاء الحجارة أو إطلاق النار على اللواقط الزجاجية للسخانات الشمسية المنصوبة على أسطح المنازل.. وتحطيمها.. إطلاق النار على خزانات المياه لتفريغها من الماء، بهدف تعطيش المجاهدين الصامدين، ووصل الأمر إلى أن يقوم بعض الجنود الذين يحتلون أسطح المنازل والمدارس بالتبول داخل خزانات المياه.. وتحطيم أسقف المنازل المصنوعة من القراميد، ونتيجة لهذا العمل باتت كثير من الأسر الفلسطينية في مخيم جباليا تحت المطر وفي البرد والعراء.
8-ربط بعض الشباب إلى مقدمة سيارات الجيب العسكرية، التي تنطلق بسرعة ثم تتوقف فجأة، مما يؤدي إلى قذف الشخص الذي كان موثوقا إلى مقدمة السيارة مسافة بعيدة عنها، مما يؤدي إلى إصابتهم بجروح وكسور ورضوض في جميع أنحاء الجسم.
9-استخدام الجيش بعض المعتقلين أو المارة دروعا بشرية في مواجهة المظاهرات، وحجارة المجاهدين..
10-إدخال الإطارات المشتعلة إلى منازل المواطنين الذين يرفضون إطفاءها مما يؤدي إلى احتراق المنازل أو أجزاء منها...
11-تجميع المعتقلين في سيارة باص.. والاعتداء عليهم بالضرب، ثم إلقاؤهم واحدا بعد الآخر أثناء سير الباص في أماكن مختلفة...
12-إلقاء مواد تموينية فاسدة، وبخاصة البسكويت والشكلاتة في مداخل القرى والمخيمات-لتقع-تحت متناول الأطفال في محاولة لتسميمهم وقتل أكبر عدد ممكن من أبطال الانتفاضة...
13-قتل الأسرى والمعتقلين.(1/42)
14- استخدام طائرات الهليكوبتر.. في إطلاق القنابل الغازية والمسيلة للدموع، على جموع المتظاهرين في داخل القرى والمخيمات عند عجز قوات المشاة والآليات في اقتحام مناطق المظاهرات، كما جرى تطوير عدد من هذه الطائرات، حتى تتمكن من إلقاء كمية كبيرة من الحجارة على المجاهدين، حيث زودت بمدفع قاذف للحجارة... كما تقوم الطائرات العسكرية المروحية بعمليات إنزال جوي للمظليين في القرى التي يغلق أهلها جميع مداخلها في وجه الجنود.. وتستخدم شبكة تلقيها من الطائرة لاعتقال الشباب المجاهد-كما يفعل صيادو الأسماك في البحر-.
بل إن الجنود يحملون المعتقل في الطائرة ويرمونه من الجو فيصاب بجروح وكسور خطيرة...
15-الانقضاض على من يتم القبض عليهم من الشباب المجاهد بالهراوات والعصي وأعقاب البنادق، وعلى جميع الأعضاء في الجسد وخاصة اليدين والقدمين.. وهذا هو مبدأ إسحاق رابين الذي نعت هذا العمل بقوله: (إن هذا الأسلوب أكثر فعالية من الاعتقالات، حيث إن المعتقل في سجن الفارعة مثلا يمكث.. (18يوما)يعود بعدها إلى الشوارع للتظاهر وقذف الحجارة، أما إذا قام الجنود بكسر يديه فإنه لن يتمكن من العودة إلى الشارع قبل شهر ونصف على الأقل...[ وقد شاهد العالم في كل مكان الجنود اليهود وهم يكسرون عظام الشباب الفلسطيني بالحجارة.]
وهكذا يضرب الجنود اليهود كثيرا من الشباب الفلسطيني حتى يموتوا...(1/43)
16-يضاف إلى ذلك أنواع أخرى من التعذيب الوحشي الذي يصعب حصره، وقطع المواصلات والاتصالات الهاتفية، ومنع إبلاغ المواد الغذائية والتموينية إلى المخيمات، وقطع الخدمات الأساسية، كالكهرباء والماء وتخفيض السيولة النقدية في المناطق المحتلة إلى أدنى حد ممكن، ووقف صرف رواتب المعلمين والمعلمات، ورفع الضرائب المرهقة، ومنع تصدير المنتجات الزراعية لإحداث خسائر فادحة على الفلسطينيين، وإغلاق الأسواق وإتلاف المحاصيل الزراعية، وإغلاق الجامعات والمدارس، وتحويل بعض المدارس إلى ثكنات عسكرية وتعطيل الخدمات الصحية، ومداهمة المستشفيات والعيادات الصحية.
17-انتهاك حرمات المقدسات الإسلامية:
? تكثيف الوجود العسكري حول المساجد وإقامة الحواجز في الطرق المؤدية إليها ومضايقة.. الذاهبين لأداء الصلاة بتفتيشهم ومصادرة هويا تهم-مع السب والشتم المؤذي لمشاعرهم-.
? اقتحام المساجد والاعتداء على المصلين بالضرب بالهراوات وأعقاب البنادق والركل بالأرجل، ولا يستثنى من هذا الاعتداء أئمة المساجد.
? قطع الكهرباء عن المساجد قبيل موعد صلاة الجمعة لمنع الخطباء من التطرق إلى الانتفاضة الجهادية عن طريق مكبرات الصوت..
? اعتقال عدد من علماء الإسلام وخطباء المساجد.
? قذف قنابل الغاز داخل المساجد أثناء تجمع المصلين وإغلاق أبواب المساجد، وأحيانا إطلاق الرصاص على المصلين...
? إغلاق عدد من المساجد ومنع المواطنين من أداء الصلاة فيها...
? مصادرة مكبرات الصوت الخاصة بالآذان...
? الاعتداء على كبار العلماء مثل مفتي القدس ومحاولة إحراق المسجد الأقصى...
? الإذن للعصابات اليهودية بتدنيس المسجد الأقصى.
? تمزيق جنود اليهود أعدادا كبيرة من المصاحف وسب الدين الإسلامي...
18-دفن الأحياء من شباب الجهاد.
19-هدم ونسف المنازل.(1/44)
20-إبعاد المواطنين خارج فلسطين (إخراجهم من أرضهم وديارهم..)[ راجع الكتاب المذكور من صفحة 327، 376 وقد حاولت أن أسجل للقارئ صور مختصرة جدا مع شيء من التصرف.]
وبمناسبة ذكر إبعاد المواطنين عن ديارهم وأرضهم، فإن المناسب ذكر حادثة حصلت هذه الأيام، وهي حادثة مؤلمة أمام سمع العالم وبصره، وأمام سمع العالم الإسلامي وبصره، وأمام من يسمى بالعالم العربي وبصره.
وخلاصتها:
أن شباب الجهاد (مثل المنتمين إلى منظمة حماس) اختطفوا جنديا يهوديا في الأرض التي احتلها اليهود سنة 1948م وطالبوا بالإفراج عن زعيمهم المقعد المحكوم عليه بالسجن الأستاذ أحمد ياسين مقابل الإفراج عن الجندي اليهودي وحددوا وقتا معينا لدولة اليهود وإذا لم يفرجوا عن الزعيم المسلم فإنهم سيقتلون الجندي اليهودي، وبعد مضي المدة المحددة بفترة قتلوه ووجدت القوات اليهودية القتيل في الضفة الغربية مقتولا فطارت طائرتهم بعد أن حملوا حملة اعتقالات وداهموا المدن والقرى والمنازل وقتلوا عددا من شباب فلسطين وجرحوهم قبل العثور على جثة القتيل.
أما بعد ذلك فقد أضاف اليهود إلى قسوتهم قسوة أشد فأخذوا آلافا من منازلهم وزجوا بهم في السجون والمعتقلات واختاروا أربعمائة وخمسة عشر من خيرة رجال الدعوة والجهاد من ذوي المؤهلات العلمية من حملة الدكتوراه والماجستير والليسانس من معلمين وأطباء ومهندسين وكتاب وعلماء شريعة وحملوهم في شاحنات معصوبي الأعين وتعاونت الحكومة اليهودية والمحكمة العليا اليهودية فأصدرت هذه حكمها القاسي الظالم وطرد العدد المذكور ونفذت تلك المحكمة اليهودية الظالمة هذا الحكم الجائر!(1/45)
وفي الحدود بين ما يسمى بالشريط الأمني الذي اغتصبته الدولة اليهودية من لبنان وبين الحدود اللبنانية، أنزلوا المظلومين وأطلقوا فوق رؤوسهم النار ليدخلوا الأراضي اللبنانية، واستقبلهم الجنود اللبنانيون بالنار من الجهة اللبنانية، فإذا هم على قمة جبل تتساقط عليه الثلوج وهم في العراء في الشتاء القارص، لا طعام، ولا شراب ولا مأوى، ولا غطاء ولا دواء، وكان ذلك في يوم الخميس الموافق ل-23من شهر جمادى الآخرة سنة 1413هـ-17ديسمبر سنة 1992م، وتمكن الصليب الأحمر في الأيام الأولى من مساعدتهم بعدد من الخيام والأغطية والطعام والماء والدواء، ثم تآمر اليهود من الجنوب، والنصارى والعلمانيون من الشمال، على منع أي مساعدات لهم عن طريق أهليهم أو الصليب الأحمر، لا من فلسطين المغتصبة، ولا من لبنان، بحجة أن كل دولة منهما ليست مسؤولة عنهم، أما اليهود فلا يريدون الاعتراف بأن لهم أي حق في المساعدة التي تأتيهم من دولتهم، لأنهم قد أبعدوا إلى خارجها، وأما اللبنانيون فيريدون أن لا يتحملوا تصرفات حكومة اليهود، ويزعمون أن في ذلك ضغطا على اليهود لإعادتهم، فانقطع عنهم كل شيء في ذلك الجبل وفشت في بعضهم الأمراض وصورهم المحزنة تنقل للعالم كله عبر التلفاز، وأصدر مجلس الأمن الأمريكي الذي يُزْعَم له بأنه تابع لهيئة الأمم المتحدة، قرارا يدين الدولة اليهودية ويطلب منها إعادة النظر في قرارها، وبعث النصراني المتعصب الحاقد على الإسلام والمسلمين بطرس غالي أمين عام هيئة الأمم المتحدة، مندوبا عنه إلى دولة اليهود ودولة لبنان للإذن بإسعاف المظلومين، الذين يطلقون عليهم كلمة مبعدين، ولكن كلتا الدولتين ردته على عقبه خائبا وهو يوالي ضحكاته في اجتماعاته مع اليهود واللبنانيين وكأنه بعث لحضور عرس وليس لإنقاذ نفوس.(1/46)
و هاأنا أكتب هذه الصفحات في يوم الثلاثاء الموافق 5 من شهر رجب سنة 1413هـ-وهم على حالهم من الجوع والعطش والبرد والمرض وقد مضت عليهم اثنتا عشرة ليلة على تلك الحال، والعالم يتفرج والمسلمون يتفرجون والعرب يتفرجون!.
فهل من قسوة فوق هذه القسوة اليهودية، وهل يمكن أن تكون في قلوب أعداء الله وأعداء رسله رحمة بعد هذه الأعمال(1)؟!
وقد اضطرت الدولة اليهودية المُغتَصِبَة إلى قبول عودتهم، لكثرة الاحتجاجات العالمية، وزجت بكثير منهم في السجون بعد أشهر من الإبعاد والحرمان من أي حق يستحقه أي حيوان في الأرض!
هؤلاء هم اليهود وهذا فعلهم بذرا ري من آووهم وحموهم، وفتحوا لهم أبواب الاقتصاد والعلم والسياسة والحرية العقدية والعبادية من المسلمين، عندما كان النصارى يتتبعونهم ويضطهدونهم، وينزلون بهم أنواع النكال فيجازون الآن أبناء المسلمين الذين أحسنوا إليهم كما يجزى سنمار[راجع كتاب: خطر اليهودية العالمية على الإسلام والمسيحية لعبد الله التل لمعرفة ما واجهه اليهود من مطاردة وقتل وتشريد في الدول الأوربية، وبخاصة بريطانيا وفرنسا وأسبانيا وألمانيا وغيرها كبولندا وإيطاليا ورومانيا وبلغاريا وسويسرا وهنغاريا، وفي روسيا أيضا، كل ذلك بسبب ما عرفه العالم من مكر اليهود وخبثهم ومحاولتهم السيطرة على غيرهم واستعباد الشعوب. ولم يجد اليهود من يجمعهم ويرعاهم ويحسن إليهم إلا المسلمون في أسبانيا ثم في البلدان الإسلامية في الشرق .
__________
(1) -هذه الحادثة لا تحتاج إلى ذكر مرجع، ويكفي أن يعرف القارئ التاريخ ثم يضع يده على أي جريدة أو مجلة في أي بلد وبأي لغة ليقرأ تفاصيل القصة، والذي يشاهد التلفاز لا يحتاج إلى قراءة، والذي سيقرأ القصة في المستقبل يستطيع البحث عن شريط فيديو ليرى ما رأينا.(1/47)
وكان ينبغي أن يعتبر اليهود بما نالهم من عذاب وقسوة من عهد فرعون إلى عصرنا هذا، ويقدروا صفة الرحمة التي كانوا في أمس الحاجة إلى من يعاملهم بها فيدربوا أنفسهم على اكتسابها-وإن كانت مفقودة في قلوبهم-ولكنهم لم يعتبروا، بل لا زالت قلوبهم تقسو وتزداد غلظة كلما زادت قوتهم وسيطرتهم.
كانت كتابة هذه السطور قبل تسع سنين. وقد اشتدت المحنة على إخواننا الفلسطينيين، بعد قيام الحرة الجهادية الثانية-حركة الأقصى-التي أشعل فتيلها المجرم شارون، عندما دنس بدخوله باحة الأقصى بحماية الجيش اليهودي، بتاريخ1/7/1421هـ ـ 28/9/2000م قبل أن يكون رئيسا للوزراء، وهو اليوم[بعد أن أصبح رئيسا للوزراء] يعيث في الأرض المباركة فسادا لا يخفى على أهل الأرض جميعا، بعون ومدد من الدولة الصليبية المعاصرة[أمريكا] وحلفائها الأوربيين، مع خذلان زعماء العالم الإسلامي، وبخاصة زعماء العرب للمظلومين من أبناء هذا الشعب المجاهد المسلم، وكأن الأمر لا يعني هؤلاء الزعماء، الذين سيتفرغ لهم اليهود بعد القضاء على الشعب الفلسطيني وتشريده من أرضه[نرجو الله ألاَّ يحصل ذلك] وسيقول كل زعيم عندئذ: أكلت يوم أكل الثور الأبيض!هؤلاء هم اليهود، فما نصيب النصارى من الرحمة؟!
? النموذج الثاني: قساة النصارى في العصور الماضية:
من الصعب جدا تتبع الأمثلة الدالة على أن الرحمة قد نزعت من قلوب زعماء النصارى وكثير من مفكريهم، وأن القسوة والغلظة والوحشية قد حلت محلها، ويكفي المرء دليلا على ذلك أن يتتبع ممارساتهم في هذا العصر، في مشارق الأرض ومغاربها، عن طريق أجهزة إعلام النصارى أنفسهم-وما يخفونه أكبر-وبخاصة ما يسومون به المسلمين من قتل وتشريد وظلم متعمد.
وسأكتفي بمثالين بارزين قديمين دالين على قسوة كثير من النصارى ووحشيتهم وغلظ قلوبهم وخلو قلوبهم تلك من الرحمة، قبل أن أنتقل إلى ذكر بعض الأمثلة المعاصرة الدالة على ذلك.
المثال الأول:(1/48)
معاملة النصارى في الأندلس للمسلمين الذين أسسوا في بلادهم-عندما فتحوها-حضارة لم تعهدها أوروبا ولا غيرها من بلاد العالم، حتى أشرقت أنوار تلك الحضارة على أوروبا، وكانت هي منطلق التقدم المادي الذي نشاهده الآن في الغرب، ولو أن أهل الغرب أخذوا بتوجيه المنهج الإسلامي كله، لكانوا حملة راية الإسلام وقادة المسلمين في العالم كله.
وشهد شاهد من أهلها.
وسأنقل نصا فيه شيء من الطول لهذا المثال، من كتاب لمؤلف غربي حتى ينطبق عليه المثل القرآني السائر: ((وشهد شاهد من أهلها...))[يوسف: 36].(1/49)
قال غوستاف لوبون: (وعاهد فرديناند[نصراني أسباني كاثوليكي استولى على أخر مملكة إسلامية وهي غرناطة سنة 1492م.] العرب على منحهم حرية التدين واللغة، ولكنه في سنة 1499م، لم تكد تحل حتى حل بالعرب دور الاضطهاد والتعذيب الذي دام قرونا، والذي لم ينته إلا بطرد العرب من أسبانية، وكان تعميد العرب كرها فاتحة ذلك الدور، ثم صارت محاكم التفتيش تأمر بإحراق كثير من المعمدين على أنهم من النصارى، ولم تتم عملية التطهر بالنار إلا بالتدريج، لتعذر إحراق الملايين من العرب دفعة واحدة، ونصح كردينال طليطلة التقي! الذي كان رئيسا لمحاكم التفتيش، بقطع رؤوس جميع من لم يتنصر من العرب رجالا ونساء وشيوخا وولدانا، ولم ير الراهب الدومينيكي "بليدا" الكفاية في ذلك، فأشار بضرب رقاب من تنصر من العرب، ومن بقي على دينه منهم، وحجته في ذلك أن من المستحيل معرفة صدق إيمان من تنصر من العرب، فمن المستحب إذن، قتل جميع العرب بحد السيف، لكي يحكم الرب بينهم في الحياة الأخرى ويُدخِل النار من لم يكن صادق النصرانية منهم، ولم تر الحكومة الأسبانية أن تعمل بما أشار به هذا الدومينيكي الذي أيده الأكليروس في رأيه، لما قد يبديه الضحايا من مقاومة، وإنما أمرت في سنة 1610م بإجلاء العرب عن أسبانية، فقتل أكثر مهاجري العرب في الطريق، وأبدى ذلك الراهب البارع "بليدا" ارتياحه لقتل ثلاثة أرباع هؤلاء المهاجرين في أثناء هجرتهم، وهو الذي قتل مائة ألف مهاجر من قافلة واحدة، كانت مؤلفة من أربعين ألفا ومائة ألف مهاجر (140000)مسلم حينما كانت متجهة إلى إفريقية.
وخسرت أسبانية بذلك مليون مسلم من رعاياها في بضعة أشهر، ويقدر كثير من العلماء، ومنهم "سيديو" عدد المسلمين الذين خسرتهم أسبانية منذ أن فتح "فرديناند" غرناطة حتى إجلائهم الأخير بثلاثة ملايين، ولا تعد ملحمة سان باتلمي إزاء تلك المذابح سوى حادث تافه لا يؤبه له.(1/50)
ولا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتل كتلك التي اقترفت ضد المسلمين.
ومما يرثى له أن حرمت أسبانية عمدا، هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية.. والصناعية..
وسيرى القارئ في الفصل الذي خصصناه للبحث في وارثي العرب، مقدار الانحطاط الذي أسفر عن إبادة العرب، وإذا كنت قد أشرت إلى هذا هنا فلأن شأن العرب المدني لم يبد في قطر ملكوه كما أبيد في أسبانية، التي لم تكن ذات حضارة تذكر قبل الفتح العربي، فصارت ذات حضارة ناضرة في زمن العرب، ثم هبطت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب، وهذا مثال بارز على ما يمكن أن يتفق لعرق من التأثير...)
المثال الثاني: ...
ومما يدل على قسوة كثير من النصارى ووحشيتهم وخلو قلوبهم من الرحمة، ما عاملوا به المسلمين في بعض الحروب الصليبية.
وأنقل في ذلك نصا فيه شيء من الطول كذلك لنفس الكاتب: "غوستاف لوبون" الذي قال:
(ويدل سلوك الصليبيين في جميع المعارك على أنهم من أشد الوحوش حماقة، فقد كانوا لا يفرقون بين الحلفاء والأعداء، والأهلين الْعُزل والمحاربين، والنساء والشيوخ والأطفال، وقد كانوا يقتلون وينهبون على غير هدى.ونرى في كل صفحة من الكتب التي ألفها النصارى في ذلك الزمن براهين على توحش الصليبيين، ويكفي لبيان ذلك أن ننقل الخبر الآتي الذي رواه الشاهد الراهب "روبرت" عن سلوك الصليبيين الحربي وذلك بالإضافة إلى ما حدث حين الاستيلاء على القدس.
قال المؤرخ الراهب التقي! روبرت:(1/51)
" وكان قومنا يجوبون الشوارع والميادين وسطوح البيوت، ليرووا غليلهم من التقتيل، وذلك كاللبؤات التي خطفت صغارها، وكانوا يذبحون الأولاد والشبان والشيوخ ويقطعونهم إرْبا إرْبا، وكانوا لا يستبقون إنسانا، وكانوا يشنقون أناسا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، فيا للعجب ويا للغرابة أن تذبح تلك الجماعة الكبيرة المسلحة بأمضى سلاح من غير أن تقاوم![ يبدو أنه يستبعد أن يكون هؤلاء الضحايا مسلحين، لأنهم لو كانوا مسلحين لدافعوا عن أنفسهم. ]
وكان قومنا يقبضون على كل شيء يجدونه، فيبقرون بطون الموتى، ليخرجوا منها قطعا ذهبية، فيا للشره وحب الذهب! وكانت الدماء تسيل كالأنهار في طرق المدينة المغطاة بالجثث فيا لتلك الشعوب العمي المعدة للقتل! ولم يكن بين تلك الجماعة الكبرى واحد ليرضى بالنصرانية دينا، ثم أحضر "بوهيموند" جميع الذين أعتقلهم في برج القصر، وأمر بضرب رقاب عجائزهم وشيوخهم وضعفائهم، وبسوق فتيانهم وكهولهم إلى إنطاكية لكي يباعوا فيها...". إلى أن قال:
"وكان سلوك الصليبيين حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة عمر بن الخطاب نحو النصارى حين دخلها منذ بضعة قرون، قال كاهن مدينة "لوبوي" "ريموند داجي": حدث ما هو عجب بيد العرب عندما استولى قومنا على أسوار القدس وبروجها، فقد قطعت رؤوس بعضهم.فكان هذا أقل ما يمكن أن يصيبهم(!) وبقرت بطون بعضهم فكانوا يضطرون إلى القذف بأنفسهم من على الأسوار، وحرق بعضهم في النار، فكان ذلك بعد عذاب طويل، وكان لا يرى في شوارع القدس وميادينها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمر المرء إلا على جثث قتلاهم، ولكن كل هذا لم يكن سوى بعض ما نالوا...".
وروى ذلك الكاهن الحليم خبر ذبح عشرة آلاف مسلم في مسجد عمر، فعرض الوصف اللطيف الآتي:(1/52)
" لقد أفرط قومنا في سفك الدماء في هيكل سليمان، وكانت جثث القتلى تعوم في الساحة هنا وهناك، وكانت الأيدي والأذرع المبتورة تسبح كأنها تريد أن تتصل بجثث غريبة عنها، فإذا ما اتصلت ذراع بجسم لم يعرف أصلها، وكان الجنود الذي أحدثوا تلك الملحمة لا يطيقون رائحة البخار المنبعثة من ذلك إلا بمشقة..."
? قسوة النصارى ووحشيتهم في هذا العصر:
أما الأمثلة على قساوة قلوب النصارى وغلظتهم ووحشيتهم في هذا العصر وبخاصة على المسلمين، فالكرة الأرضية كلها تشهد بها وتئن من وطئتها، وساكنو هذا الكوكب يقرؤون ذلك ويسمعونه ويشاهدونه في كل مكان[لا نريد الحديث عن الفظائع التي أرتكبها النصارى في القارات التي احتلوها بالكامل وقضوا على سكانها بدون رحمة وجعلوا من بقى منهم ذليلا مهانا أقل عندهم من رتبة الحيوان، كما هو الحال في أمريكا الشمالية والجنوبية واستراليا، ولا الحديث عن تجارة الرقيق التي عمت أقطار إفريقية وأسهمت فيها كل دول النصارى فهذا أمر يطول (راجع كتاب إفريقيا الإسلامية للدكتورة عنايات الطحاوي ص 231).].
فقد عاثت الدول النصرانية فسادا، اعتدت فيه على ما اتفقت الأمم على وجوب حفظه، من الضرورات التي لا تحيى تلك الأمم إلا بحفظها، وهي: النفوس والعقول والنسل والمال-إضافة إلى الدين ومن أمثلة ذلك:
أولا: في القارة الإفريقية:(1/53)
فقد تداعت دول أوروبا النصرانية على البلدان الإفريقية، في شمالها وجنوبها وشرقها وغربها ووسطها، وتقاسموها فيما بينهم-على شدة الاختلافات السائدة بينهم-وأنزلوا بسكانها من الدمار والهلاك، ما تتورع عنه الوحوش في غاباتها، قضوا في كل بلد على زعمائه وقادته وسفكوا دماء الآلاف من أبنائه، بدون تفرقة بين الرجال والنساء، والشيوخ والكهول والشباب والأطفال، وشردوا الآلاف المؤلفة، وحرموا من بقي في البلاد من أقل حقوق الإنسان التي يتشدق النصارى بالدعوة إليها، فأذلوا بذلك سكان البلدان الإفريقية كلهم واستعبدوهم ونهبوا خيراتهم، كل ذلك باسم الاستعمار والتحرير.
في شمال إفريقيا:
فقد نقل الأمير شكيب أرسلان عن بعض المراسلين الأوروبيين الذين رافقوا الجيوش الإيطالية عندما اغتصبت ليبيا شيئا، يسيرا مما ذكره أولئك المراسلون وشاهدوه من أعمال غزاة النصارى الوحشية، فقال:
(وليس المسلمون وحدهم هم الذين شاهدوا أعمال الطليان وضجوا منها، بل ثمة كثير من الإفرنج شاهدوها وأنكروها، ومن ذلك المستر "فرانسس ماكولا" الإنجليزي الذي كان مرافقا للجيش الإيطالي في طرابلس عند الاحتلال وشاهد تلك الفظائع بعينه، فقد قال: "أبيت البقاء مع جيش لا هم له إلا ارتكاب جرائم القتل، وإن ما رأيته من المذابح، وترك النساء المريضات العربيات وأولادهن يعالجون سكرات الموت على قارعة الطريق جعلني أكتب للجنرال "كانيفا" كتابا شديد اللهجة، قلت له: إني أرفض البقاء مع جيش لا أعده جيشا، بل عصابة من قطاع الطرق والقتلة).
((1/54)
ومن ذلك شهادة الكاتب الألماني "فون غوتبرغ" الذي قال: " إنه لم يفعل جيش بعدوه من أنواع الغدر ما فعله الطليان في طرابلس، فقد كان الجنرال كانيفا يستهين بكل قانون حربي، ويأمر بقتل جميع الأسرى، سواء أقبض عليهم في الحرب أو في بيوتهم، وفي سيراكوزه الآن كثير من الأسرى الذين لم يؤسر واحد منهم في الحرب، وأكثرهم من الجنود الذين تركوا في مستشفى طرابلس.
وقد قبض الطليان على ألوف من أهل طرابلس في بيوتهم ونفوهم، بدون أدنى مسوغ إلى جزر إيطاليا حيث مات أكثرهم من سوء المعاملة.
وأقر ما قاله "هرمان رنولوف" المراسل النمساوي الحربي فقد وجد في الباخرة التي نقلت جانبا من هؤلاء الأسرى فوصف تلك الحالة، فقال:
" في الساعة السادسة من مساء كل يوم يكبل هؤلاء المرضى بالحديد في اليد اليمنى والرجل اليسرى، حقا إن موسيقى هذه السلاسل تتفق مع المدنية التي نقلتها إيطاليا إلى إفريقيا، لا ريب أن الطليان قد أهانوا كثيرا، فلم يكف أنهم أسقطوا منزلة أوروبا العسكرية في نظر إفريقيا، حتى شوهوا اسم النصرانية أمام الإسلام "ثم قال:" وقد قتل الطليان في غير ميدان الحرب كل عربي زاد عمره على أربع عشرة سنة، ومنهم من اكتفوا بنفيه.
وأحرق الطليان في 26 أكتوبر سنة 1911م حيا خلف بنك روما، بعد أن ذبحوا أكثر سكانه بينهم النساء والشيوخ والأطفال "قال:" ورجوت طبيبين عسكريين من أطباء المستشفى، أن ينقلوا بعض المرضى والمصابين المطروحين على الأرض تحت حرارة الشمس فلم يفعلا، فلجأت إلى راهب من كبار جمعية الصليب الأحمر، هو الأب "يوسف بافيلاكو" وعرضت عليه الأمر، وأخبرت شابا فرنسيا أيضا، لكن الأب "بافيلاكو" حول نظره عني ونصح الشاب بأن لا يزعج نفسه بشأن عربي في سكرات الموت، وقال: "دعه يموت".(1/55)
قلت (القائل هو الأمير أرسلان): "ليتأمل القارئ أن هذا الذي يقول هذا القول هو قسيس يزعم أنه ممثل المسيح على الأرض، وأنه من رجال الصليب الأحمر، أي الجمعية التي تزعم أنها تخدم الإنسانية بلا استثناء" ثم قال هذا المراسل النمساوي: "ورأيت على مسافة قريبة جنديا إيطاليا يرفس جثة عربي برجله، وصباح اليوم التالي وجدت الجرحى والمرضى الذين رجوت الراهب من أجلهم قد ماتوا..." ثم قال: "رأينا طائفة من الجنود تطوف الشوارع مفرغة رصاص مسدساتها في قلب كل عربي تجده في طريقها، قد نزع أكثرهم معاطفهم، ورفعوا أكمام قمصانهم كأنهم جزارون......"
وقال مراسل التايمز يومئذٍ-قلت [القائل هو شكيب أرسلان]: ولا يجوز أن ننسى أن غارة إيطاليا على طرابلس كانت بالاتفاق مع فرنسا وإنجلترا، استرضاء لإيطاليا على إثر تقاسم إنكلترا وفرنسا مصر والمغرب-: "إن قسوة الانتقام التي استعملها الطليان في وقعة يوم الاثنين يليق أن يقال عنها إنها أعمال قتل عام، فقد فتكوا بكثير من الأبرياء، وستبقى ذكرى هذا الانتقام زمنا طويلا".
وقال المسي كسيرا مراسل جريدة " إكسليسيور" الباريسية:" لا يخطر ببال أحد ما رأيناه بأعيننا من مشاهد القتل العام ومن أكوام جثث الشيوخ والنساء والأطفال، يتصاعد منها الدخان تحت ملابسهم الصوفية كالبخور يحرق أمام مذبح من مذابح النصر الباهر، ومررت بمائة جثة بجانب حائط قضي عليهم بأشكال مختلفة.
وما فررت من هذا المنظر حتى تمثلت أمام عيني عائلة عربية قتلت عن آخرها، وهي تستعد للطعام، ورأيت طفلة صغيرة أدخلت رأسها في صندوق حتى لا ترى ما يحل بها وبأهلها. إن الإيطاليين فقدوا عقولهم وإنسانيتهم من كل وجه"....)[حاضر العالم الإسلامي (264-128) ذكر فيها الأمير شكيب أرسلان من الفظائع الوحشية التي قام بها النصارى الإيطاليون ما لا يكاد يصدقه العقل فراجع ذلك إن شئت والتاريخ الإسلامي (14/24).].(1/56)
هذه نصوص مختزلة لبعض المراسلين الأوروبيين عن وحشية النصارى وقساوة قلوبهم وخلوها من الرحمة، في بلد واحد وهو ليبيا ومن جيش بلد أوروبي نصراني واحد، هو الجيش الإيطالي برضا الدول النصرانية الأخرى في أوروبا، وهو مثال ينطبق على كل البلدان التي اغتصبها النصارى في إفريقيا-وغيرها-.
والعالم كله يعرف غلظة النصارى الفرنسيين وقسوتهم ووحشيتهم التي عاملوا بها الشعب الجزائري الذي قدم مليون شهيد، في سبيل إزاحة نير أولئك القساة من على كاهله، مع إهانة مقدساته والاعتداء على مساجده، التي حولوها إلى كنائس ودنسوها بالشرك بدلا من التوحيد الذي كان يعمرها[راجع كتاب: الاستعمار أحقاد وأطماع للأستاذ محمد الغزالي ص37. وراجع كذلك التاريخ الإسلامي 14/229 وما بعدها لمحمود شاكر. ].
وحدث عن قسوة النصارى واليهود مجتمعين على المسلمين اجتماعا مباشرا، كما حصل من بريطانيا وفرنسا ودولة اليهود على مصر المسلمة، ولا حرج.
واقرأ السطور القليلة الآتية التي سطرها الشيخ محمد الغزالي (’) عن العدوان الثلاثي على مصر:"وإني ساعة كتابة هذه السطور أستمع إلى رواية شاهد عيان يصف غزو الحلفاء الثلاثة: إنجلترا وفرنسا وإسرائيل لمدينة ,, بور سعيد،، قال: بذل الأهلون قصارا هم في رد الجنود الهابطين بالمظلات، واستطاعوا مغالبة الأفواج الأولى منهم، بيد أنهم بوغتوا بمئات الطائرات ترجم المدينة بقذائفها الحارقة، وكان الأفق مليئا بهذه الأسراب المغيرة، تغدو وتروح، وهي تفرغ الهلاك في كل مكان!
خمسمائة غارة في هذا اليوم الأغبر-كما نطقت بذلك بلاغات العدو-وانضمت سفن الأسطول إلى هذا الهجوم، فأخذت تطلق مدافعها على المدينة اللاغبة، فرئيت القصور والنار تخرج من نوافذها، ثم ما هي إلا لحظات حتى تندك فوق رؤوس ساكنيها.(1/57)
وسرى الرعب إلى الحيوانات التي تقطن المدينة، فانسابت تجري في شوراعها على غير هدى، غير أن الرصاص المنهمر لا يدعها تصل إلى مهرب، فأين المهرب للإنسان والحيوان في هذا البلاء المحيط؟ ولذلك تجاورت في الميادين والأزقة جثة كلب شارد وإنسان بائس ... وكانت الجثث المتناثرة كأوراق الشجر الساقطة في فصل الخريف، تكسو الأرض المخضبة في منظر يثير اللوعة وأحيانا تجد كوما من الموتى وقع بعضهم على بعض فتتساءل: أُركِموا هكذا بفعل فاعل؟... لله كم هي رخيصة دماء أولئك المسلمين؟![الاستعمار أحقاد وأطماع ص 130، 131.]
أما ما فعله الاستعمار الفرنسي ثم الاستعمار الإنجليزي في مصر فله شأن آخر وكذلك في السودان.[ راجع شيئا من فظائع الفرنسيين في مصر في نفس الكتاب ص 152، 169.]
في شرق إفريقيا:
ولا يختلف ظلم النصارى الأحباش، وبخاصة في عهد الطاغية هيلاسلاسي، عن ظلم النصارى الأوروبيين للمسلمين وقسوتهم، إلا في أن ظلم نصارى الحبشة وقهرهم للمسلمين مستمر طويل لأنه صادر من قساة قلوب حاكمين من أهل البلاد أنفسهم، أما الأوروبيون فاغتصابهم للبلاد طارئ، ومقاومة الطارئ مهما عتي وتجبر أخف من مقاومة طاغ أصيل في البلاد، يمكنه أن ينال عون الظالم الأجنبي الطارئ، كما حصل لوحش الحبشة الذي أيدته جميع الدول النصرانية في الغرب، لإنزال الضربات القاسية على المسلمين قتلا وتشريدا وإذلالا واعتداء على كل ضرورات الحياة، هذا مع أن نسبة المسلمين في البلاد تفوق نسبة غيرهم، ولكن عدوهم ينكر ذلك ويدعي العكس، وتعدت قسوتهم حدود الحبشة إلى الأوغادين الصومالية.فكم قتلوا من النفوس وكم هدموا من القرى وكم شردوا من البشر !
أما "إريتريا" المسلمة فقد دمروها وأحرقوها حرقا وأبادوا شعبها إبادة جماعية، برغم مقاومته الباسلة.(1/58)
يقول هارون آدم علي: " تمكنت حركة الكفاح المسلح للشعب الإريتري في الفترة من 1381هـ-1386هـ من تصعيد عملياتها الجهادية بأسلوب حرب العصابات، حتى استطاعت استقطاب الجماهير في الريف الإريتري، وأصبحت عملياتها العسكرية تقض مضاجع الاستعمار الأثيوبي... (و) جن جنون الإمبراطور هيلاسلاسي، فأمر قواته بالزحف على الريف الإريتري معقل الثوار برا وجوا للقضاء على اليابس والأخضر، دون تمييز بين الثوار والشعب الأعزل من النساء والأطفال، بل أمر جنوده بإبادة ما يصادفونه من المواطنين بالرصاص وإضرام النار في المنازل، حيث عمت البلاد في عام 1387هـ سلسلة من المجازر البشرية ما تفوق في قسوتها مجازر دير ياسين بفلسطين وشارب بفيل في جنوب إفريقيا، إذ سقط خلال عدة شهور من القصف الجوي الأثيوبي أكثر من 60 ألف مواطن، جلهم من النساء والأطفال والكهول، ودمرت أكثر من 1500 قرية، وقتل ما يقارب المليون رأس من الثروة الحيوانية، بالإضافة لانتهاك الحرمات وعمليات النهب والسلب والتدمير التي مارستها قوات الاحتلال الأثيوبي ضد الشعب الإريتري..." ولا زال المسلمون في إريتريا يعانون عنتا من النصارى، وبخاصة بعد استيلاء الحزب النصراني على البلاد الآن، بقيادة أسياسي أفورقي الذي ارتمى في أحضان اليهود وأنزل من الأذى والتشريد بالمسلمين ما يندى له الجبين.
ولعل هذه النماذج لقسوة النصارى في شمال إفريقيا وشرقها كافية لليقين بأن هؤلاء الأجلاف العتاة الذين يزعمون التمدن وحماية حقوق الإنسان و إعمار الأرض وتحضير الناس والارتقاء بهم، قد نزعت الرحمة من قلوبهم.(1/59)
ولا داعي لزيادة ذكر نماذج في بقية بلدان إفريقيا في غربها ووسطها وجنوبها، فالنماذج متقاربة، ولكن يضاف إلى أعمال الغاصبين الأوروبيين في غرب إفريقيا ووسطها، أنهم اتخذوا الجنس البشري بضاعة مزجاة، إذ كانوا يصطادون أهل البلاد رجالا ونساء وصغارا وكبارا بأعداد هائلة ويملئون بهم السفن التي تبحر بهم إلى بلدان أوروبا وأمريكا، ليبيعوهم عبيدا بأبخس الإثمان، حيث يستعبدهم الجنس الأبيض ويرهقهم بالأعمال الشاقة، ليجود عليهم بلقمة العيش التي يبقون بها أحياء يكدون ويكدحون في المزارع والمصانع، ويعاملونهم معاملة أدنى من معاملة الحيوان، فلا يساكنونهم ولا يؤاكلونهم ولا يشار بونهم، ولا يسمحون لهم أن يلبسوا مثل لباسهم، ولا يركبوا مركوباتهم، ولا يأذنون لهم بتلقي التعليم مثلهم، وعندما انفرج الأمر قليلا أذن لهم بالتعليم في مدارس خاصة بهم لا يختلطون بالبيض في مدارسهم ، وكان كثيرا من هؤلاء الأفارقة مسلمين.ولم تلغ التفرقة العنصرية البغيضة قانونا إلا بعد كفاح مرير ومعاناة شديدة مروا بها.
ولا زال الاحتقار عمليا موجودا ضد الأفارقة في أمريكا، وكان أول حصن يحتمون به من تلك التفرقة العنصرية ويكافحون الجنس الأبيض انطلاقا منه، هو الإسلام الذي اعتنقه أليجا محمد من أجل تحرير قومه من ذلك الظلم الغاشم، وكان فهمه للإسلام فهما منحرفا، وبعد وفاته خلفه ابنه وارث الدين الذي بدأ يتفهم الإسلام شيئا فشيئا، بسبب زياراته للحرمين ولقائه العلماء في الحجاز واتصاله بالمسلمين العرب وغيرهم به في أمريكا حتى تخلص من مفاهيم والده الخطيرة للإسلام.
وأصبح هو وقومه الآن أقرب إلى فهم الإسلام، وبذلك أصبحت عندهم عزة وبدأ الأمريكيون يحترمونهم.
قسوة النصارى في آسيا:
قسوة الإنجليز على أهل فلسطين قبل أن تسلم أرضهم لليهود.
وقد ذكر نبذة مختصرة من ذلك الشيخ الغزالي، فقال:
((1/60)
تفننت السلطة البريطانية في أساليب التعذيب ووسائله، واستخدمت العلم وأدواته لإنزال أشد ما يمكن من الألم بأهالي فلسطين، والتعذيب عندهم على نوعين: تعذيب فردي لإكراه الفرد على الاعتراف. وهو ما يجري عادة في سراديب تحت الأرض[وهو أسلوب متبع لدى كل من انتزعت الرحمة من قلبه حتى من المنتسبين إلى الإسلام، كما سيأتي. ] وتعذيب عام يرتكب في الجماعات لإرهاب الأهلين وإرهاقهم، وهو ما يجري على ملأ من الناس في البيوت والطرق وساحات القرى في الليل والنهار.
التعذيب الفردي
[وهو أيضا أسلوب متبع يمارسه الآن اليهود في فلسطين والعلمانيون في بلاد المسلمين.]
1-الزنزانة: وهي سجن ضيق لا يكاد يسع الإنسان، وطعام السجين كسرة صغيرة من الخبز الرديء مع قليل من الماء.
2-الضرب، وهم يضربون الشخص بالسياط والأيدي والأرجل، حتى يغمى عليه، وتتورم الرجلان من كثرة الضرب، ثم يضعونه تحت صنابير الماء البارد زيادة في إيلامه.
3-التهديد بالقتل، يخرجون المسدسات، ويصوبونها إلى وجهه، ويهددونه بإطلاقها عليه.
4-الزجاج والمسامير، يكرهونه على السير فوق قطع من الزجاج والمسامير، ويكرهونه على القفز فوقها، فإذا توقف ضربوه بالسياط، فلا يزال يقوم ويقع والدم ينزف من رجليه ويديه وسائر جسمه، حتى يرتمي آخر الأمر منهوكا أو مغمى عليه، وينزعون ثيابه، ويضربونه بألواح من خشب فيها مسامير فيسيل دمه.
5-أو يجلسونه على خشبة خازوق ويربطون في رجليه أثقالا من أكياس الرمل، حتى يغمى عليه.
6-أو يربطون إبهامي رجليه بسلك من الحديد، ثم يشدونه حتى تكاد إبهامه تنقطع.
7-أو يربطون أعضاءه التناسلية برباط متصل بِبَكْرة من السقف، ثم يجذبون الحبل شيئا فشيئا حتى يغمى عليه، وكثيرا ما قطعوا عضوه التناسلي.
8-تقطيع الأظافر والشعر بكلاليب خاصة، ويشدونه من شاربه ولحيته وينتفون شعره.(1/61)
9-صب الماء في الجوف، ويصبون الماء في فمه بواسطة قمع خاص، حتى يملئوا جوفه، وينتفخ كالقربة ويتألم أشد الألم.
10-الكي بالنار، ويحمون أسياخ الحديد حتى تلتهب كالجمر، ثم ينخسونه بأطرافها، ويأتون بالمسامير المحماة بالنار ويغرسونها تحت أظافره.
11-التعذيب بالكهرباء: يضعون في يديه جهازا كهربائيا ويسلطون عليه تيارا كهربائيا أقل قوة مما يكفي للموت فيرتعد ويضطرب ويختلج، ولا يستطيع أن يلقى الجهاز من يديه.
12-الفعل الشنيع!.
13-سلخ قدمي المعذب، وصب الزيت المغلي عليها، ونسف الرجال بالديناميت، كما حدث في قرية الزيت.
14-ينقلونه إلى المستشفى، حتى إذا شفي أرجعوه إلى التعذيب ثانية.
15-يخفون الشخص الذي يظهر عليه أثر التعذيب، وأحيانا يقتلونه، ليخفوا أثر الجريمة.
16-التعذيب بالإغراق، يلقونه في البحر حتى يشرف على الغرق، لإكراهه على الاعتراف.
17-المسكرات والمخدرات، يجرعونها للقرويين كرها يصبونها بحلوقهم، ويحقنونهم بالمورفين، ويسممونهم بالكوكايين والهروين، كما جرى مع رفاق الشهيد المرحوم الشيخ فرحان السعدي.
18-يعدون سراديب خاصة للتعذيب في دائرة المباحث الجنائية بالقدس وغيرها، فلما يجيء دور الرجل المراد تعذيبه، يأخذونه إلى أقبية التعذيب، وهو معصوب العينين بعد منتصف الليل، وبعد إغمائه من الألم ينقلونه إلى مخفر البوليس، ثم إذا أفاق يعودون به إلى أقبية التعذيب.
19-يخفون المعذبين عن أهلهم وسائر الناس، لكي لا يمكنوا أحدا من زيارتهم أو معرفة مكانهم.
فإذا فرغوا من تعذيبهم وزال أثر التعذيب، نقلوهم إلى سجن القدس أو عكا أو معتقل الزرعة.
التعذيب العام.(1/62)
عندما يعجز الجيش عن أن ينال من المجاهدين، ينقلب إلى الفلاحين المساكين الآمنين في بيوتهم ينتقم منهم، ويشفي صدره بتعذيبهم بالضرب الشديد بأعقاب البنادق والهراوات الغليظة بلا شفقة ولا رحمة، وبدون تفريق بين الصغار والكبار والرجال والنساء، يسمون هذا العمل عملية تفتيشية، ويرتكب خلالها من الفظائع أشكالا وألوانا، وكل القرى ذاقت فظاعة التفتيش، ويتخلله تخريب البيوت ونسفها بالديناميت، وإتلاف أمتعة الفلاحين ومؤنهم ونهب الحلي والأموال، وترويع النساء والأطفال، وقتل الآمنين على قارعة الطريق من رجال ونساء وأطفال [الاستعمار أحقاد وأطماع 280، 288][.وقد كانت هذه الأساليب من الإنجليز نواة لأساليب اليهود في فلسطين الآن، وهاهم اليوم قد نفوا أكثر من أربعمائة من خيرة المسلمين في فلسطين إلى جبل في مرج الزهور في فصل الشتاء القارص بدون طعام ولا شراب ولا دواء ومر عليهم في هذا التعذيب الجماعي أكثر من شهر. راجع ما مضى في هذه القصة.]
قسوة الإنجليز على المسلمين في الهند:
عندما استولى الإنجليز على الهند وجهوا حقدهم على المسلمين إلى محاربتهم، و تحريض الهندوس والسيخ على الفتك بهم، بعد أن فتكوا هم بمن استطاعوا الفتك به منهم، والاستيلاء على أملاكهم وأراضيهم، وبعد ان أعلن الحاكم البريطاني: "أن العنصر الإسلامي في الهند هو عدو بريطانيا اللدود، وأن السياسة البريطانية يجب أن تهدف إلى تقريب العناصر الهندوكية لتساعدهم في القضاء على الخطر الذي يتهدد بريطانيا في هذه البلاد...."(1/63)
" فاشتد الإنجليز في هجمتهم على المسلمين بعد إنهاء الثورة واستولوا على أراضيهم، ففقد المسلمون أملاكهم الواسعة ولم يبق لهم سوى 5% من أراضيهم التي كانوا يملكونها من قبل وسدت في وجوههم أبواب الرزق في الدواوين، وصودرت أملاكهم، وأخذ الإنجليز جانب الهندوس والسيخ وأطلقوهم يهزءون بالمسلمين وبدينهم، ويسومونهم سوء العذاب فكانت المذابح التي راح ضحيتها الآلاف من المسلمين..." [(حاضر العالم الإسلامي وقضاياه للدكتور جميل عبد الله المصري ص 397). دربت بريطانيا الهندوس على ارتكاب المذابح للمسلمين في الهند كما دربت اليهود-وهم في الأصل مُدَرِّبون-على ذلك بالنسبة للفلسطينيين.]
لقد اغتصب النصارى الأوروبيون عامة البلدان الآسيوية، وعاثوا فيها فسادا وقتلوا وشردوا ودمروا وأذلوا أهلها، وعاملوا المسلمين بالذات معاملات وحشية قاسية دلت على نزع الرحمة من قلوبهم من غرب آسيا إلى شرقها وجنوب شرقها، لا فرق بين إنجليزي وفرنسي وأسباني وبرتغالي وهولندي، وختموا أعمالهم في البلدان الإسلامية بإيجاد أحزاب متناحرة ودول متحاربة يكيد بعضها لبعض، وهم الآن يورون زناد المعارك بين الشعوب الإسلامية ويصنعون لهم السلاح الذي يقتل به بعضهم بعضا، ولكنهم يحجرون على الحكومات القائمة في الشعوب الإسلامية أن تقتني سلاحا متطورا يكون شبه هجومي، ويأذنون بذلك لأعداء المسلمين من اليهود في فلسطين والهند في جنوب القارة الهندية ليمكنوا الدولتين من السيطرة على الشعوب الإسلامية وضربها بشدة وبدون رحمة عند اللزوم.
قسوة نصارى الفلبين وغلظتهم على المسلمين:(1/64)
تعرض المسلمون في الفلبين لحملة إبادة من نصارى أوروبا، ومن أمريكا-مؤخرا-ولا نحتاج للحديث عن ذلك، فقد عرفنا كيف نزعت الرحمة من قلوبهم في معاملتهم المسلمين في الأندلس، وفي الحروب الصليبية، وفي زمن اغتصابهم بلدان المسلمين في الشمال الإفريقي وشرقه، والقارة الإفريقية بصفة عامة والآن في البوسنة والهرسك.
والذي نريد الإشارة إليه هو ما قام به نصارى الفلبين أنفسهم، في العصر الحاضر ضد المسلمين.
فقد تآمر ماركوس والرهبان والقسس في الفلبين-بإمداد من اليهود في فلسطين، ومن النصارى في الدول الغربية-على المسلمين وقرروا إبادتهم وأنشئت منظمة نصرانية إرهابية أطلق عليها: (إيلاجا) أي جماعة الفئران-على اعتبار أنها منظمة شعبية، والواقع أن ماركوس هو الذي أمدها وأيدها بكل الوسائل، بل يقال: إنه هو الذي أنشأها، وقد ارتكبت هذه المنظمة من الفظائع ما يترفع عنه وحوش الغاب، فطردت المسلمين من ديارهم وأرضهم، وأحرقت بيوتهم ومساجدهم ومزارعهم ومصاحفهم، وقتلوا علماءهم وأئمتهم، وهتكوا أعراض نسائهم ومثلوا بشهدائهم، حيث يقطعون رؤوس الأطفال وآذان الرجال وأثداء النساء، وينالون جوائز على هذا التمثيل من المنظمات السرية مقابل كل أذن أو رأس أو ثدي يحضرونه[راجع مجلة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، العدد الثالث من السنة الخامسة محرم سنة 1393ه-فبراير 1973م ص 105 وما بعدها.].
وعلم العالم كله بالمذابح والاعتداءات على المسلمين العُزْل، ولا زالت الاعتداء ت مستمرة من قبل حكام الفلبين على المسلمين حتى كتابة هذه السطور [1422هـ ـ2001م] ، وأمامي رسائل من لجنة الإعلام التابعة "لجبهة تحرير مورو الإسلامية" تبين الحملات التي يقوم بها الجيش الفلبيني بين حين وأخر على المسلمين، وحشد قواته في جنوب الفلبين، ومحاصرة معسكر أبي بكر الصديق الذي يحتمي فيه الشيخ سلامت هاشم قائد الجبهة.(1/65)
والمسلمون يستنجدون في هذه الرسائل، يطلبون أن يمدوا بالمؤن الغذائية والملابس والأغطية والأموال التي يؤمنون بها لأنفسهم سلاحا، يدافعون به عن أنفسهم وأعراضهم[التقيت الشيخ سلامت هاشم في مقر قيادته وسجلت بعض المعلومات-كتابة-عن تاريخ جهادهم، كان ذلك في 2 صفر سنة 1410هـ.]
هؤلاء هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، وهذه نتف قليلة جدا من حوادث قسوتهم، تكفي وحدها للدلالة على غلظ قلوبهم وخلوها من الرحمة وبخاصة على المسلمين.
وإذا كانوا بهذه الصفة وهم يسابقون بمبادئهم وأفكارهم الباطلة إلى العقول، فهل يرجى منهم بكثرة أتباعهم واستيلائهم على العالم، إلا القسوة والغلظة والوحشية التي دمروا ولا زالوا يدمرون بها العالم.!
قسوة النصارى في أوروبا[المتحضرة!] :
وفي قسوة النصارى الصرب على المسلمين في البوسنة والهرسك، ما يكفي دلالة على وحشية النصارى وقسوتهم ونزع الرحمة من قلوبهم، وقد أنزل الصربيون-فيما كان يسمى بيوغوسلافيا-بالمسلمين في البوسنة والهرسك ما تتنزه عنه الحيوانات المتوحشة، من قتل ما يزيد على مائة وخمسين ألفا من الرجال والنساء والشيوخ والأطفال، وذلك في أقل من سنة، وشردوا أكثر من مليونين من المسلمين، كثير منهم أطفال ونساء وشيوخ، يتلقف الأطفال منهم المؤسسات التنصيرية في أوروبا، لتحويلهم من الفطرة الإسلامية، إلى الشرك النصراني وينتزعون من قلوبهم أغلى ما وهبه الله للمسلم وهو إيمانه.
واشتدت القسوة على هؤلاء اللاجئين أكثر بتفريق الأسر المسلمة في دولة أوروبية واحدة أو عدة دول: الأب في مكان، وأبناؤه في مكان آخر، والزوج في مكان، وزوجه في مكان آخر، وهكذا الإخوان والأخوات.. يضاف إلى ذلك معسكرات الاعتقال والتعذيب التي فاقت في الاعتداء على حقوق الإنسان المعسكرات النازية التي يندد بها الغرب ويبدي ويعيد في التنديد بها. يعذب القريب فيها أمام قريبه، ويقتل الأب أمام الابن والزوج.(1/66)
وأشد من ذلك وأنكى اغتصاب الوحوش المتمدنين في قارة حقوق الإنسان، أكثر من خمسين ألف امرأة وفتاة مسلمة، بعض تلك الاغتصابات تقع أمام أعين أسرة الفتاة المغتصبة.
وهذا غير الحصار المستمر الذي يفرضه النصارى منذ ما يقارب العام على مدن المسلمين، وقراهم وقصف مرافقهم وهدم منازلهم عليهم، والحول بينهم وبين الإمداد والإغاثة بلقمة العيش والدواء والملبس والغطاء، في أشد أوقات البرد القاسي الذي قطعت على المسلمين فيه الكهرباء وكل وسائل التدفئة، حتى أنك ترى العجائز والصبيان يحاولون التماس الأخشاب في الشوارع وحملها إلى منازلهم من أجل الطبخ عليها والتدفئة، فيطلق عليهم النصارى قساة القلوب الرصاص ويُرْدُونهم قتلى أو جرحى تنزف منهم الدماء وتسيل، حتى يموتوا في الشوارع دون إسعاف.
وقد كشف حدث البوسنة غلظة وقسوة جميع الدول النصرانية الغربية التي تزعم أنها حامية حقوق الإنسان، وأنها تقف ضد التطرف والتشدد والإرهاب والتطهير العرقي، واعتداء الدول القوية على الدول الضعيفة، فقد اعترفت الدول النصرانية الغربية بدولة البوسنة والهرسك وأصبحت عضوا في هيئة الأمم المتحدة، وبعد هذا الاعتراف اعتدى الصرب على المسلمين بعون من حكومة صربيا والجبل الأسود، يشمل الأسلحة الثقيلة والطائرات الحربية، وبمساعدات وتأييد من دولة روسيا، وأصدر مجلس الأمن (المزعوم) قرارا بحظر الأسلحة ووصولها إلى البوسنة والهرسك، فطبق الحظر على المسلمين وبقي الصرب يتلقون العون من إخوانهم النصارى بالسلاح وغيره.
وأصدر مجلس الأمن (المزعوم) قرارا بحظر التحليق الجوي على البوسنة والهرسك، ولكن الصرب تحدوا ذلك ولا زالت الطائرات تقصف المسلمين، ولم يحرك مجلس الأمن ساكنا وكذلك المجلس الأوروبي وحلف الناتو.(1/67)
ولكن الدول الغربية إذا تحرك صاروخ في العراق أو طائرة عراقية قريبة من منطقة الحظر الجوي الذي فرضته أمريكا باسم هيئة الأمم المتحدة، يرسلون أسرابا من الطائرات الغربية لتصب نيرانها على الهدف وما جاوره ويطلقون مئات الصواريخ من الخليج للقضاء على أي حركة، زعما منهم أنهم ينفذون قرارات مجلس الأمن، وهكذا يعامل النصارى قساة القلوب المسلمين ويصدرون القرارات التي ظاهرها في مصلحة المسلمين وينفذون عكس ذلك، ولكنهم ينفذون قراراتهم فقط عندما تكون في مصلحة النصارى أنفسهم.
إنها وحشية دعاة حقوق الإنسان وقسوة دعاة الحرية والتمدن: نصارى الغرب كله.
وقد وجدت الدول النصرانية الغربية بغيتها في الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة النصراني "بطرس غالي" العربي الذي يعطيها المسوغ تلو المسوغ لعدم تدخلها في إنقاذ المسلمين في البوسنة والهرسك، ولذلك تصدر هي الاستنكار لأفعال الصرب وتصرح بأنها تريد التدخل لمنع الصرب من العدوان، ولكن النصراني العربي يحذرها من مغبة التدخل العسكري، فتظهر للعالم وللمسلمين أنها إنما تأخرت عن هذا التدخل بسبب عدم الإذن به من قبل هيئة الأمم المتحدة!.[اقرأ عن تنفيذ هذا النصراني العربي لمخطط التجمعات الكنسية جريدة الشرق الأوسط ص 23 بعنوان:بطرس غالي بطل البوسنة. عدد (5167) 27رجب 1413هـ ـ20/1/1993م. وقد سماه الكاتب: بالجلاد، وأنا أسميه بما سماه الله: النصراني.]
والسبب الحقيقي هو أن المظلومين مسلمون، ولو كانوا يهودا أو نصارى أو وثنيين، بل لو كان المعتدى عليهم قرودا أو كلابا، لهبوا لنجدتهم.(1/68)
وقد صرح زعيم المعتدين النصارى الصرب بأن الاعتداء على المسلمين سيستمر ما داموا مسلمين: " فقائد القوات الصربية في البوسنة والهرسك أكد في تصريح نشرته مؤخرا مجلة: "شبيجل" الألمانية، قال فيه: إن هدفنا هو القضاء على المسلمين في أوروبا، يجب أن يختفوا كأمة، وعلى المسلمين في البوسنة إعلان تحولهم عن الإسلام وأن يصبحوا صربيين أو كروات، أما الخيار الثالث لهم فلن يكون إلا الموت..." [مجلة المجتمع الكويتية: العدد (1027) الثلاثاء جمادى الآخرة سنة 1413ه-أول ديسمبر 1992 م.]
وصدق الله القائل: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم..} [؟؟].
ولا نحتاج إلى ذكر مراجع لهذه لحوادث في هذه القسوة النصرانية، فالتلفاز يعرض قسوة النصارى على المسلمين فيها مرات كل يوم، والصحف العالمية تنشر أخبارها المأساوية كل يوم، والإذاعات في العالم كله تذيع فظائعها كل ساعة: أخبار وتقارير وتعليقات ومقابلات..[ ومع ذلك أحيل القارئ الى بعض الجرائد والمجلات منها: جريدة الشرق الأوسط عدد 5158ص 19بعنوان: مفكرة العار في البوسنة 18/7/1413هـ-. ومجلة المجتمع الأعداد: 966، 17شوال 1412هـ-ص22، العدد:999 في 21/1/1414هـ-ص 28، العدد:1005 في 29/12/1412هـ-ص 30، العدد: 1027 في 7/6/1413هـ-ص28، العدد: 1026 في 30/5/1413هـ-ص26 العدد: 1008 في 20/1/1413هـ-ص30 العدد:989 في 13/8/1412هـ-ص16. وجريدة المسلمون، كل أعداد عام 1412-1413هـ-وكذا العالم الإسلامي ومجلة الإصلاح وغيرها...].
قسوة أمريكا النصرانية ....والديمقراطية الدموية
- التاريخ الدموي للإمبراطورية الأمريكية
في حين تخوض حروبا تزهق فيها عشرات الآلاف من النفوس البريئة من المسلمين بحجة القضاء على من أسمتهم الإرهابيين فإن تاريخها الدموي يؤكد أنها الإرهابي الأكبر، وفي كتابه أمريكا والإبادة الجماعية يؤكد منير العكش الباحث في العلوم الإنسانية هذه الحقيقة من خلال الأرقام:(1/69)
إبادة الهنود الحمر وحضارتهم :
أكد منير العكش الباحث فى العلوم الإنسانية في كتابه _ أمريكا و الإبادةإالجماعية أن الإمبراطورية الأمريكية قامت على الدماء وبنيت على الجماجم البشرية ، فقد أبادت هذه الإمبراطورية الدموية 112 مليون إنسان [ بينهم 18.5 مليون هندى أبيدو ودمرت قراهم ومدنهم، وينتمون إلى 400 أمة وشعب.
إجمالي الخسائر البشرية فى العسكريين فى حرب كوريا :
بلغت الخسائر البشرية في هذه الحرب 140000ينتمون إلى 15 دولة منهم 100ألف قتيل.
التدخلات العسكرية فى اليابان :
فى هذه الحرب انطلقت 334 طائرة أمريكية لتدمر ما مساحته 16 ميلا مربعا من طوكيو بواسطة القنابل الحارقة ، مما أدى إلى مقتل 100 ألف شخص وتشريد مليون نسمة وتكرر هذا السيناريو في 64 مدينة يابانية أخرى فى عام 1989 وبحجة الدفاع عن قضية عادلة أرسل الرئيس بوش 25 ألف جندي وبسبب أخطاء تكتيكية لرئيس أركانها أدى إلى موت 3000 بنمى معظمهم من المدنيين .
? فى عام 1982 عندما تدخلت فى جواتيمالا نتج عن هذا الغزو 50 ألف ضحية .
? حرب فيتنام التى بدأت بحلول 1963 تسببت فى مقتل 160 ألف شخص ، وتعذيب وتشويه700 ألف شخص ، واغتصاب 31 ألف امرأة ، ونزعت أحشاء 3000 شخص وهم أحياء ،وأحرق 4000 شخص حتى الموت .، فقد 300 ألف فيتنا مى فضلا عن أن عدد القتلى فى فيتنام بلغ 4ملايين .
أمريكا والحرب القذرة فى جنوب الفلبين :
بعد رفض الأهالى استبدال استعمار بآخر أكثر دموية ،حينها لجأت القوات الأمريكية الى وحشية منقطعة النظير أبادت مئات الآلاف من المدنيين ولم تفرق بين مسن وامرأة ورضيع.
هذا مع غير المسلمين فى حروب المصالح والتحديات الغير حضارية ، فما بالنا عندما توجه هذه الآلة الحربية إلى حرب ايديولوجية حضارية بمهفومها العقدي ، وينميه حقد تاريخي صليبي ، وعقيدة انجيلية كنسيية ،ولوبي صهيوني براجماتى ، وشركات رأسمالية متحكمة ، فماذا ننتظر ؟!
افغانستان والعراق نموذجاً(1/70)
طالبان تلك الإمارة الفكرة ، التى اختلط فيها الحلم بالواقع ، والأمل بالألم ، وكأنها أتت من زمن غير الزمن ، ومن تاريخ ينكره أصحابه ، وتتحفز له أعدائه تحفظ الثعلب المراوغ لفريسته ، حتى سقط النموذج فى لعبة الحادى عشر من سبتمبر ، اليوم الذى غيرت فيه أمريكا وجهها الديمقراطي المزخرف ، إلى وجه صليبي صريح أحمق ، فماذا تبقى من طالبان ، أقول أسألوا جوانتانامو ... الجريمة الأمريكية على الشواطئ الكوبية الساخنة!
قصة باكستاني عائد من جوانتانامو(1).
عاد محمد صنغير إلى قريته، و ها هو يقدم شهادته بشأن مقتل معتقلي حركة طالبان داخل حاويات خلال معارك قندوز و بشأن فترة اعتقاله في قاعدة الولايات المتحدة في كوبا. إنه ينوي المطالبة بتعويضات من أمريكا.
بيت محمد صنغير المتواضع في مقاطعة باتان شمال غربي باكستان لا يخلو من الزوار. فقد أصبح المعتقل الباكستاني البطل الجديد في القرية الواقعة في منطقة غابية على حافة وادي "الإندوس"، منذ وصوله يوم الرابع من نوفمبر الجاري. فقد غاب عن زوجته و أولاده التسعة أكثر من سنة. و لا يزال محمد صنغير يحمل الحلقة البلاستيكية الخضراء التي ثبتت عليها "هويته الأمريكية" في المعتقل: US 9PK 0001 43 DP مرفوقة بسنه -51 عاما- و وزنه و قامته و صورته.
__________
(1) نقلها مبعوث صحيفة "لوموند" الفرنسية (عدد يوم الجمعة)- مجلة العصر.(1/71)
قبل اعتقاله كان محمد صنغير عضوا في جماعة "الدعوة و التبليغ" و شاء القدر أن يتواجد في أفغانستان قبل أشهر من بداية الحملة الأمريكية. اعتقل في خضم الأحداث التي شهدتها معركة قندوز إثر "استسلام" آلاف المقاتلين في حركة طالبان، و وضع رفقة 250 آخرين داخل حاوية ليتم نقلهم إلى سجن الجنرال دستم سيء الذكر في شبرغان. يؤكد محمد أن خمسين من مرافقيه لقوا حتفهم داخل الحاوية: "كانوا يصرخون و يطلبون الماء و هم يضربون برؤوسهم على هيكل الحاوية ثم ماتوا أمامي"، يقول محمد مخاطبا حوالي عشرين شخصا تحلقوا حوله مستعمين باهتمام بالغ لشهادته.(1/72)
قضى المعتقل الباكستاني 45 يوما في شبرغان حيث اقتيد أسرى عرب و أفغان و باكستانيون و بوسنيون، و لا أحد استجوبه إلى أن أخرجه أعضاء في مليشيا دستم في أحد الأيام رفقة 15 آخرين من الزنزانة ليسلموهم للأمريكيين الذين عصبوا أعينهم و نقلوهم على متن مروحيات إلى قندهار. عندها بدأت الأسئلة تتهاطل عليه من محققين أمريكيين داخل خيمة رفقة تسعة معتقلين آخرين: "من أين أتيت، لماذا جئت إلى أفغانستان، هل لك علاقة بالقاعدة، هل تعرف أعضاء في القاعدة، هل رأيت أسامة بن لادن و هل يمكنك التعرف عليه". بعد الاستجواب الوحيد استدعي من قبل طبيب عسكري أخذ بصماته من الأصابع و الأذن، و بعد 18 يوما جاءوا إليه و حلقوا رأسه و لحيته و شاربه رغم احتجاجه الشديد على حلق لحيته. وضع بعدها معصوب العينيين داخل خيمة رفقة أشخاص آخرين حيث ظل ينتظر لمدة ساعتين أو ثلاث. و قبل حلق لحيته يتذكر محمد صنغير أن جندية أمريكية قالت له بالأردية أنهم سيأخذونه إلى مكان "يجد فيه تسهيلات و راحة أكثر". بعدها نقل المعتقل رفقة عدد آخر من السجناء إلى المطار و من ثم إلى الطائرة حيث عصبت أعينهم و قيدوا و وضعت أقنعة على أفواههم و أغطية على آذانهم طيلة مدة السفر الذي دام 22 ساعة، لم يأكلوا خلالها سوى فواكه في مناسبتين و قطعة خبز و ماء.
الوصول إلى غوانتانامو "كان قاسيا" يقول محمد. فبينما هم لا يزالون موثوقي الأيدي إلى الوراء و معصوبي العينين انقض عليهم الجنود ضربا بعد "رميهم" خارج الطائرة، و يظهر المعتقل السابق آثار الضرب على خده. بقي محمد خلال ثلاثة أشهر و نصف داخل قفص معرضا للبرد و لأشعة الشمس دون الاستفادة و لو لدقيقة واحدة من فترة يقضي حوائجه بعيدا عن أنظار الحراس.
تساؤلات(1/73)
يتساءل محمد: "لقد كنا كما الحيوانات. إذا كنا آدميين لماذا يضعونا إذن داخل أقفاص؟" ثم يكمل الحديث: "في الأول لم يكونوا يسمحون لنا بآداء الصلوات و لا بالحديث بيننا لكن بعد يومين من الإضراب عن الطعام حضر ضابط سامي و سمح لنا بأن نصلي كما منحنا نصف ساعة للأكل. ثم أصبح بإمكاننا الخروج من الزنزانة للمشي مرتين في الأسبوع، و تغيير اللباس مرة كل أسبوع مع وجود طبيب طول الوقت." و خلال العشرة أشهر التي قضاها في قاعدة غوانتانامو خضع محمد للاستجواب نحو عشرين مرة و يقول أنهم كانوا يصطفون لانتظار الدور قبل كل استجواب. أما الأسئلة فكلها عن القاعدة و أعضائها و الأسئلة تتكرر لكن بأساليب مختلفة. عرضت على محمد صور عديدة لأشخاص عرب و أفغان لم يتعرف على أي منهم، كما سئل عما إذا تعرف على أي معتقل معه على أنه عضو في منظمة ابن لادن. و يقول: أنه تعرف فقط على مسؤولين سابقين في حركة طالبان "مرة واحدة خلال تنقل" من بينهم عبد السلام ضعيف سفير حكومة طالبان السابق في باكستان الذي سلمته الأخيرة للسلطات الأمريكية، و قال أنه "بدا نحيفا و متعبا جدا"، و خير الله قيوا حاكم حرات السابق الذي اعتقل في منطقة شامان على الحدود مع باكستان، و الملا فضل القائد السابق لقندوز و قائد آخر يدعى الملا عبد الرؤوف.
ما العمل؟(1/74)
محمد كغيره من المعتقلين دعا الله كثيرا في غوانتانامو و كان يقضي يومه في قراءة القرآن و كتب الحديث و الدردشة مع المعتقلين جوله. و في أحد الأيام قدم "جنرال جديد" و قال له :"ستأتيك أخبار سارة الأسبوع القادم"، و كان خبر الإفراج. و يتساءل محمد، الذي كان يعيل قبل اعتقاله عائلته بقطع الخشب و تقليمه لاستخدامه في البناء بواسطة آلة خاصة طالها الصدأ الآن بسبب نقص الصيانة، "ما العمل"، فقد كانت عائلته تقرض المال طيلة سنة كاملة لتعيش، و عليه اليوم رد الدين لأصحابه. "و ماذا أستطيع القيام به ضد أمريكا؟ إنها قوة عظمى" يتساءل محمد متحسرا.
أما عن الشعب الأفغاني فالقنابل الذكية الأمريكية عرفت طريقها المحدد اليكترونياً إلى صدور الأطفال والشيوخ والعجائز والمساجد ومساكن المدنيين العزل .
أما العراق فلا الحديث يطاوعنى عنها لأنها وقع أهلها من السنة بين فكي الاحتلال الأمريكي والغدر الصفوي الرافضي ، فلا أدرى عن أيهما نتحدث ، وما زالت الدماء المسلمة الطاهرة تجرى والجرح ينزف ، والأفواه تكمم حتى لا تعلن الشكاية ، عن أرض يكون الحديث بل قل يكون البكاء ، وعن أى انتهاك و اغتصاب يسكب القلب نزيف دمه على أعراض الرجال أما النساء ، وما فضيحة ((سجن أبي غريب)) عنا ببعيد ، التى ما أظهروها إلا ليبث الرعب فى معظم أقطارنا العربية والإسلامية حتى تعلن الإنبطاح والإستسلام للعدو الصليبي الحاقد .
أما الأطفال وما تعرضوا له فإليك الأرقام تتحدث بنفسها:
أشار تقرير إحصائي صدر عن جماعة "أنقذوا الأطفال"، إلى أن الولايات المتحدة أبادت نحو 150 ألف طفل عراقي في عام 2005 ونحو مليونيْ طفل خلال سنوات الحصار الذي فرضته على العراق.(1/75)
وأوضح التقرير أن عدد الوفيات بين الأطفال العراقيين ارتفعت بنسبة 150% منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، ووفقًا لما ذكرته رويترز، فقد أضاف التقرير أنه - حتى قبل الحرب الأخيرة - كانت الأمهات والأطفال العراقيون يواجهون أزمة إنسانية خطيرة بسبب أعوام من الصراع والعقوبات الخارجية.
وبيّن التقرير أن الأطفال العراقيين الذين توفوا خلال سنوات الحصار والبالغ، ما بين 1991 و2000، عددهم نحو مليونيْ طفل ماتوا بسبب الحصار والقصف بالأسلحة المشعة الأمريكية و152 ألف طفل عراقي (أي واحد من كل ثمانية) لقوا حتفهم قبل سن الخامسة خلال عام 2005، وأن نصفهم توفوا في الشهر الأول من عمرهم بسبب الإشعاعات ونقص الدواء والحصار المفروض عليهم وقطع المياه والكهرباء وخاصة في الموصل و بغداد والبصرة(1).
النموذج الثالث: قساة الشيوعيين (الملحدين) :
الشيوعيون الروس.
ولننتقل الآن إلى غير أهل الكتاب من أهل الباطل، لنأخذ نتفا أخرى من سلوكهم الدال على القسوة والغلظة وعدم الرحمة، لتكتمل الصورة، ويعلم القارئ أن أهل الحق هم الرحماء، وأن الرحمة هي من الأخلاق التي يريدون غرسها في نفوس الناس، وأن غرس الأخلاق الحميدة هو إحدى غاياتهم في السباق إلى العقول.
الحديث عن قسوة الشيوعيين وغلظتهم لا يأتي للناس بجديد، فقد عرف العالم كله في خلال ما يزيد عن سبعين سنة أن الشيوعيين أقسى الناس قلوبا وأغلظ أفئدة وأبعد عن الرحمة في كل مكان حلوا فيه.
وعداؤهم للإسلام أشد من عدائهم لجميع الأديان، ومعاملتهم للمسلمين، لصرفهم بالقوة عن دينهم بقضائهم على علمائهم وهدمهم مساجدهم ومدارسهم، وتحويل ما بقي من المساجد والمدارس إلى مسارح وحظائر ومخازن ودور للسينما، أمر معروف مشهور.
__________
(1) عن مفكرة الإسلام(1/76)
ويكفي أن نذكر لبالغ قسوتهم ما رواه أحد الناجين من الموت من تعذيبهم، وهو الأستاذ "عيسى يوسف آلب تكين"الذي فر من إدارتهم الجهنمية وكتب كتابه الذي فضحهم فيه وهو: (المسلمون وراء الستار الحديدي). فقد نقل عنه سيد قطب ’ في كتابه دراسات إسلامية ما يلي من صور التعذيب الوحشي فقال: " فلندع كاتبا أخذ يحدثنا عن وسائل التعذيب الجهنمية التي سلطت على العنصر الإسلامي في التركستان الغربية الخاضعة لروسيا، والتركستان الشرقية التابعة للصين الشيوعية اسما، ولروسيا الشيوعية فعلا " إلى أن قال: سيد: "وسنضطر أن نغفل ذكر بعضها-أي صور التعذيب-هنا، لأنها من القذارة بحيث يخدش ذكرها كل أدب إنساني، مكتفين بما تطيق الآداب الإنسانية أن نذكره للناس... وهذه هي:
1-دق مسامير طويلة في الرأس حتى تصل إلى المخ.
2-إحراق المسجون بعد صب البترول عليه وإشعال النار فيه.
3-جعل المسجون هدفا لرصاص الجنود يتمرنون عليه.
4-حبس المسجونين في سجون لا ينفذ إليها هواء ولا نور، وتجويعهم إلى أن يموتوا.
5-وضع خوذات معدنية على الرأس وإمرار التيار الكهربائي فيها.
6- ربط الرأس في طرف آلة ميكانيكية وباقي الجسم في ماكينة أخرى، ثم تدار كل من الماكينتين في اتجاهات متضادة، فتعمل كل وحدة مقتربة من أختها حينا ومبتعدة آخر، حتى يتمدد الجسم الذي بين الآلتين، فإما أن يقر المعذب وإما أن يموت.
7-كي كل عضو من الجسم بقطعة من الحديد مسخنة إلى درجة الاحمرار.
8-صب زيت مغلي على جسم المعذب.
9-دق مسمار حديدي أو إبر الجراموفون في الجسم.
10-تسمير الأظافر بمسمار حديدي حتى يخرج من الجانب الآخر.
11-ربط المسجون على سرير ربطا محكما ثم تركه لأيام عديدة.
12-إجبار المسجون على أن ينام عاريا فوق قطعة من الثلج أيام الشتاء.
13-نتف كتل من شعر الرأس بعنف، مما يسبب اقتلاع جزء من جلد الرأس.
14-تمشيط جسم المسجون بأمشاط حديدية حادة.(1/77)
15-صب المواد الحارقة والكاوية في فم المسجونين وأنوفهم وعيونهم، بعد ربطهم ربطا محكما.
16-وضع صخرة على ظهر المسجون، بعد أن توثق يداه إلى ظهره.
17-ربط يدي المسجون وتعليقه بهما إلى السقف، وتركه ليلة كاملة أو أكثر.
18-ضرب أجزاء الجسم بعصا فيها مسامير حادة.
19-ضرب الجسم بالكرباج حتى يدميه، ثم يقطع الجسم إلى قطع بالسيف أو بالسكين.
20-إحداث ثقب في الجسم وإدخال حبل ذي عقد واستعماله بعد يومين كمنشار، لتقطيع قطع من أطراف الجرح المتآكل.
21-ولكي يضمنوا أن يظل المسجون واقفا على قدميه طويلا، يلجئون إلى تسمير أذنيه في الجدار.
22-وضع المسجون في برميل مملوء بالماء في فصل الشتاء.
23-خياطة أصابع الرجلين واليدين والرجلين وشبك بعضهما إلى بعض.
24-والنساء حظهن مثل هذا العذاب، أنهن يعرين ويضربن ضربا مبرحا على ثديهن وصدورهن.
أما بقية تعذيب النساء فإننا نمسك عنه، لأن المواقع التي اختاروها من أجسامهن والطرق الدنيئة التي استعملوها تجعلنا نستحي من ذكرها وكتابتها[دراسات إسلامية الطبعة الرابعة ص200، 206.
وعندما كتب سيد هذه الصور لم تكن قد طبقت عليه هو في مصر ولكنه ’ قد ذاق في زنزانات المجرمين هو وإخوانه وأخواته شيئا منها قبل أن يشنقه أعداء الإسلام.].
يكفي هذا النموذج لمعرفة ما إذا كانت توجد في قلوب الشيوعيين الروس رحمة!!!.
تدمير شعب أفغانستان:
ولكن مثالا آخر ظهر أكثر وضوحا في الدلالة على خلو قلوبهم من الرحمة، وهو أنهم غزوا أفغانستان بجيوش جرارة وأسلحة فتاكة، برا وجوا، وقتلوا من الشعب الأفغاني مليونا ونصف المليون، وطردوا ما يقارب ستة ملايين، وعاثوا في الأرض فسادا يندر أن يوجد له مثيل، ومكثوا يزاولون أعمالهم الوحشية في هذا الشعب أكثر من سبع سنوات، هدموا فيها المساجد وأهانوا المصاحف واغتصبوا النساء، وفرقوا كلمة المسلمين وجعلوا بعضهم يقتل بعضا، ولازال الأفغان يعانون الأمرين من آثار غزوهم.(1/78)
ولكن الله تعالى نصر الفئة المؤمنة التي تصدت لهؤلاء القساة، ومع الصبر والمصابرة نصر الله المجاهدين-على قلة عُدَدِهِم-على أعظم قوة عسكرية ضاربة، فهزم الجيش الروسي الشيوعي وعاد إلى بلاده يجر أذيال الهزيمة، وكان الجهاد الأفغاني من أعظم الأسباب التي هيأها الله لانهيار الاتحاد السوفيتي الظالم.
ولعل المسلمين يقطفون آثار هذا الجهاد في تطبيق الإسلام في أفغانستان وفي الشعوب الإسلامية المجاورة التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي المنهار.[لقد خيب المجاهدون الأفغان آمال المسلمين الذين أعانوهم بالمال والرجال والعتاد، لرفع راية الإسلام في بلادهم، حيث أخذوا يقتتلون فيما بينهم بعد انسحاب العدو الشيوعي من بلادهم، ومازالت دماء المدنيين العزل تراق بأسلحة إخوانهم ممن كانوا قادة للجهاد، إلى يومنا هذا (كتبت هذا التعليق في 22/5/1418هـ).]
الشيوعيون في الصين:
ولا تقل قسوة الشيوعيين في الصين وغلظتهم على المسلمين-وعلى كل من يخالفهم-عن قسوة الشيوعيين في الاتحاد السوفيتي السابق، وبخاصة في إقليم "تركستان الشرقية" الذي غيروا اسمه إلى "سانكيانج" وبالغوا في الاعتداء على أهله، فقتلوا علماءهم، وأتلفوا مصاحفهم وكتبهم الدينية، ومنعوهم من أداء شعائرهم الدينية، وأغرقوهم بالمهجرين الشيوعيين من مناطق أخرى، لتصبح نسبة المسلمين في هذا البلد المسلم 10% بعد أن كانت نسبتهم من قبل أكثر من 90%.
وقد ذكر أن المسلمين الذين تم قتلهم من سنة 1950م إلى سنة 1972م بلغ 360 ألفا، وأن الذين سيقوا إلى المعسكرات التعذيبية والأشغال الشاقة بلغ عددهم (500) ألف، وأن الذين هربوا من ديارهم بسبب ذلك العدوان بلغ (100) ألف[-راجع محلة الإصلاح عدد 219 ص35 ومجلة المجتمع الكويتية عدد 967 ص28.]
هذه الفظائع ذكرت في بلد واحد من بلدان الصين وهو تركستان الشرقية.(1/79)
أما على مستوى الصين فالأمر أعظم من ذلك، وقد ذكر لي الشيخ عبد الرحمن بن إسحاق الصيني الذي زرته في مدرسة التقوى في مدينة تشانجماي في شمال تايلاند في 24/11/1409هـ. أن الشيوعيين في الصين قتلوا خلال ست عشرة سنة من سنة 1950م إلى 1976م عشرة ملايين (ولا بد أن يكون للمسلمين حظهم الوافر من هذا القتل) ومات بسبب الجوع سبعة ملايين.
أما المسلمون فقد كانت مساجدهم في الصين (45) ألف مسجد، فصادرها الشيوعيون وحولوها إلى مصانع ومسارح ودور سينما، وبنوا في محاريبها الطاهرة التي كان الأئمة يتلون فيها كتاب الله ويسجدون فيها لربهم، المراحيض إهانة لها وللمسلمين، وقتلوا كثيرا من الأئمة والعلماء، وقتلوا من المسلمين ما لا يقل عن مليون شخص.
وكانوا يأمرون العالم المسلم بحمل القاذورات ليسمد بها الأرض الزراعية، ويعلقون في عنقه الكومة من تلك القاذورات، ويقولون له من باب التهكم والإذلال والسخرية بربه وبدينه: إذا كنت تعبد الله فادعه ليساعدك...[المجلد الخاص بتايلاند من سلسلة (في المشارق والمغارب) مخطوط في مكتبة المؤلف.]
وهذه الفظائع هي التي علمت، وما لم يعلم أكثر من ذلك بكثير، وبخاصة إذا علمنا أن الشيوعيين يحيطون بلدانهم وتصرفاتهم بما يسترها من الكتمان والحجر الإعلامي، وعدم الإذن بتسرب تلك التصرفات، ولكن ذلك يكفي لمعرفة أن الرحمة قد نزعت من قلوبهم. (1)
__________
(1) راجع على سبيل المثال ما نشر على أحد مواقع الإنترنت على الوصلة الآتية: http://www.islam-online.net/Arabic/news/2001-06/17/Article36.shtml ](1/80)
وفي هذه الأيام يعيث الشيوعيون ذوو الأسماء الإسلامية في طاجكستان فسادا في هذا البلد المسلم، فقد قتلوا الآلاف من المسلمين الذين يطالبون بالتمتع بالإسلام، وشردوا مئات الآلاف، وأخافوا الآمنين من أبناء البلد متعاونين مع الشيوعيين من ذوي الأسماء الإسلامية في بلدان أخرى ومع الروس بمساعدات من الغرب وبخاصة أمريكا، والكفر ملة واحدة [راجع مجلة المجتمع عدد 1038-25شعبان 1413هـ-ص22.].
بل لقد غزت روسيا الجمهورية الشيشانية في 9/7/1415هـ-الموافق 11/12/1994م-ودمرت عاصمتها جر وزني تدميرا كاملا، وقتلت المسلمين المدنيين، ولا زالت تواصل القتل والتدمير على مرأى ومسمع من دول الصليب التي تدعي أنها ترعى حقوق الإنسان، بل على مرأى ومسمع من حكام الشعوب الإسلامية الذين ماتت الحمية في نفوسهم على حفظ ضروراتهم التي لا حياة لهم بدونها.
وقد تكبد الروس خسائر فادحة في جمهورية الشيشان الإسلامية، وخرجوا منها يجرون أذيال الهزيمة، كما خرجوا من أفغانستان، وذلك بفضل الله ثم بفضل قوة إيمان أهلها... ثم غزت روسيا الشيشان مرة أخرى في سنة 1420هـ ـ1999م ودمرت البلد مرة أخرى وعاثت فيه فسادا، ولا زالت القوات الروسية تحتل هذا البلد المسلم، وتقتل أهله وتشردهم وتعتقلهم، وموقف دعاة حقوق الإنسان الغربيين هو موقفهم المعروف، عندما يكون الإنسان مسلما لا يحركون ساكنا، اللهم إلا إظهار شيء من الاستنكار البارد، ليقال عنهم: إنهم أنكروا! وليقارن المسلم موقف الغرب من الشيشان، وموقفهم من تيمور الشرقية التي أجبروا إندونيسيا على التخلي عنها خلال فترة وجيزة!
النموذج الرابع: قساة الوثنيين:
قسوة الوثنيين الهنود:
والوثنيون-ومنهم الهندوس والبوذيون وغيرهم-لا تقل وحشيتهم وغلظتهم عن اليهود والنصارى والشيوعيين.(1/81)
فالهندوس في الهند بتواطؤ مع النصارى الإنجليز، أذاقوا المسلمين من العذاب والتشريد والقتل وسوء المعاملة ما يصعب وصفه، واعتدوا على أموالهم ومنازلهم ومساجدهم، ولا يخلو عام من الأعوام من الاعتداء عليهم، حتى اضْطَرُّوا المسلمين على الانقسام: قسم منهم سئم العيش تحت الذل والقهر الهندوسي، فقرروا الهجرة إلى ما سمي في حينه بباكستان الشرقية وباكستان الغربية، حيث تفصل بينهما مساحات شاسعة من الهند ثم تدخلت الهند وحليفتها روسيا (الاتحاد السوفيتي سابقا) للتحريش بين الباكستانيين فحصل الانشقاق والقتال الذي راح ضحيته الآلاف من المسلمين، وعلى أثره انفصلت باكستان الشرقية وسميت باسم قومي انفصالي: "بنغلادش" فضعف بذلك المسلمون في الجناحين، وضعف المسلمون كذلك في الهند الذين يبلغ عددهم الآن أكثر من 150 مليونا في كل أنحاء الهند، وهم اليوم يواجهون حربا وثنية شرسة، حيث نظمت جمعيات هندوسية لمحاربتهم تحت سمع وبصر الحكومة الهندية التي تزعم أنها دولة ديمقراطية علمانية، وتشير الإحصاء ت إلى أن الاعتداء الهندوسي على المسلمين بلغ حدا خطرا لا يطاق، يتعاون عليهم في ذلك الاعتداء المنظمات المذكورة وقوات الشرطة، بل والجيش أحيانا.
وعلى سبيل المثال فإن الهندوس قتلوا خمسة عشرة ألف مسلم في مجزرة "أحمد أباد" باعتراف رئيسة الوزراء أنديرا غاندي سنة 1970م وأحرقوا ثلاثمائة امرأة مسلمة بالنار وهن أحياء، وفي مذبحة آسام قتل الهندوس 50 ألف مسلم[راجع حاضر العالم الإسلامي لجميل المصري ص420.]
وفي هذه الأيام تجمع جماهير الهندوس وهدموا مسجد "البابري" وقتلوا الآلاف من المسلمين، في أنحاء متفرقة من الهند وأحرقوا ممتلكاتهم وهدموا منازلهم وطردوهم من ديارهم[راجع على سبيل المثال مجلة المجتمع عدد1029 20جمادى الآخرة سنة 1413هـ-ص20.] واستولوا على كثير من مساجدهم وحولوها إلى معابد وثنية.(1/82)
وكل الفظائع التي يرتكبها الهندوس في حق المسلمين لا يوجد أي مسوغ لها، فالمسلمون مسالمون، لا يريدون إلا العيش بطمأنينة في ديارهم، يقيمون شعائر دينهم ويعلمون أبناءهم دين الإسلام دون أن يحركوا ساكنا ضد الهندوس ابتداء، وإنما يضطرون أن يدافعوا عن أنفسهم عندما يعتدي عليهم هؤلاء، مع قلتهم وفقدهم آلة الدفاع على عكس الوثنيين الهندوس، والمتتبع لوحشية هؤلاء الهندوس وقسوتهم ضد المسلمين، يتضح له أنهم قوم قد نزعت الرحمة من قلوبهم وحلت محلها الغلظة والشراسة والوحشية.
قسوة الوثنيين في سيريلانكا:
وهكذا يلاقي المسلمون في سيريلانكا قسوة بالغة من الهندوس والسنهال والشيوعيين، ومن الحكومة البوذية من اغتيالات ومذابح جماعية ونهب أموال ومتاجر وإحراق منازل وأسواق[راجع مجلة المجتمع الكويتية. عدد 957 في 9شعبان 1410هـ ص40 ومجلة رابطة العالم الإسلامي عدد 319ص7.]
وفي " بورما" لا تنقطع مذابح المسلمين وتشريدهم ونهب أملاكهم والاعتداء على أعراضهم، يقوم بذلك الوثنيون البوذيون فقد قتلوا منهم عشرات الآلاف، وشردوا ملايين، وهدموا المساجد، وأغلقوا المدارس، واغتصبوا المسلمات وأجهضوا الحوامل منهن، وفي يوم عيد من أعياد الفطر قتلوا مائتي مسلم، وكثير من المسلمين يموتون جوعا في مخيمات الموت في "بنغلادش" أو في الطريق بين حدود بورما وبنغلادش وهم فارون بأنفسهم من القتل الجماعي[راجع: العالم الإسلامي (جريدة تصدرها رابطة العالم الإسلامي) 24ربيع الأول-1ربيع الثاني 1413ه- ص4، و6 محرم 1412ه-ومجلة المجتمع عدد 993 ص 10 وعدد 989ص16.].
قسوة الوثنيين في تايلاند:(1/83)
وفي تايلاند أذاقت الحكومة الوثنية البوذية المسلمين، أهوالا من العذاب والقتل والتدمير والاغتيال والتشريد، وأذلت المسلمين في جنوب البلاد، وأصبحت فطاني المسلمة تحت سيطرة الجيش ووزارة الداخلية، وقد قسمتها تقسيمات إدارية جديدة، حيث أصبحت محافظات صغيرة، وحشدت أعدادا كبيرة من البوذيين من شمال تايلاند ووسطها للهجرة إلى بلاد المسلمين، وملكتهم أراضيهم ويسرت لهم إقامة الشركات والمشاريع المتنوعة، ليستولوا على البلاد المسلمة، ويكونوا أكثرية ينشرون الفساد الخلقي والاجتماعي، من أجل إذابة المسلمين وتحاول الحكومة تغيير مناهج المدارس الإسلامية وكتبها وحروف لغتها [وقد فصل المؤلف شيئا من ذلك في المجلد الخاص بتايلاند من سلسلة في المشارق، وهو مخطوط في مكتبته]
وقد خف التضييق على المسلمين نسبيا، وتمكن علماؤهم من إقامة مؤسسات تعليمية ودعوية، كان لها أثر جيد في تعليم أبنائهم وتفقيههم، وعلى رأس هؤلاء العلماء الدكتور إسماعيل لطفي المتخرج من الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض.
قساة أهل الباطل من المنتسبين الإسلام!
مرت فترة على المسلمين ضعفت فيه دولتهم، بل اضمحلت وهوت، فتأخروا في كل شؤون الحياة الدينية والاقتصادية والعلمية-علم الشرع وعلم المادة-والسياسية والعسكرية والاجتماعية، وتقدم غير المسلمين في الحضارة المادية، فأصيب المسلمون بالهوان وكبر في صدورهم تقدم غيرهم، وانقسموا قسمين:(1/84)
القسم الأول: رأى أن تقدم البلدان الإسلامية مرهون باتباع خطوات الغرب حذو القذة بالقذة، وذلك بتنحية الدين الإسلامي عن أن يكون منهج حياة للشعوب الإسلامية، والفصل التام بينه وبين تدبير شؤونها، بحيث يكون الدين أمرا يتعلق بالأفراد بأشخاصهم فيما بينهم وبين ربهم، يصلون ويصومون ويحجون ويقرؤون القرآن، دون أن يتدخل الإسلام في الشؤون السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعسكرية وغيرها من مناهج الإعلام والتعليم وهلم جرا... –ولا يستثنون من ذلك إلا بعض الأحوال الشخصية-وذلك على غرار ما فعله أهل الغرب بالدين النصراني المحرف، حيث نحوه عن شؤون الحياة التي وضعت لها الدساتير والقوانين البشرية، اتقاء التصرفات الكنسية ورجالها الذين كانوا يزاولون تدبير شؤون الشعوب تدبيرا ظالما، وينسبون تصرفاتهم تلك إلى الله، ويتلخص ذلك كله فيما يقال له: "العلمانية" التي تعني فصل الدين عن الدولة.
وقد أوهم أهل الغرب هذا القسم من أبناء المسلمين، أن الدين هو سبب التأخر عندما يتدخل في حياة البشر، بدليل أن الغرب عندما فصل الدين عن الدولة تقدم حضاريا وأصبح يقود العالم،وأنه لا يمكن للمسلمين أن يتقدموا إلا إذا فعلوا كما فعل الغرب، ففصلوا الدين الإسلامي عن الدولة.(1/85)
وتتلمذ أبناء المسلمين هؤلاء على أساتذة الغرب في العلوم المتنوعة: الإنسانية والتطبيقية واقتنعوا بتلك الفكرة، بسبب جهلهم بالإسلام الذي جعلهم يساوون بينه وبين الدين النصراني، ويقفون من دينهم كما وقف أهل الغرب من الدين النصراني، وبسبب فقدهم العلماء الذين يجمعون بين فقه النصوص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة والمقاصد الشرعية من جهة وبين فقه العصر والواقع من جهة أخرى، فانطلق هذا القسم من أبناء المسلمين، وقد أحرز شيئا من الثقافة التي تؤهله لقيادة الشعوب الإسلامية وإدارتها مغرورا بنفسه وبثقافته، متجاهلا أولئك العلماء، بل مذلا لهم ضاربا بآرائهم وراء الحائط، وسبب هذا سبق غير المسلمين الى عقول أبناء المسلمين وكسبهم في صفهم.
والقسم الثاني: رأى في حضارة الغرب المادية وما رافقها أفكارا فاسدة وأخلاقا سيئة وعقائد ملحدة وهجوما على الإسلام وأهله، فانزوى عن علوم الغرب كلها، ودعا الشعوب إلى مقاطعتها والبعد عنها والاكتفاء بما تجود به كتاتيب المعلمين الذين يلقنون التلاميذ تلاوة القرآن الكريم، ويعلمونهم بعض مبادئ الفقه والتوحيد والكتابة وشيئا من الحساب، فكان نصيب هذا القسم البعد عن ممارسة إدارة شؤون الأمة والمشاركة فيها، فاستبد القسم الأول بالحكم والإدارة وغيرها، وأخذ يكبت كل صوت يخالف منهجه ومسيرته، يسنده في ذلك ما تحت يده من إمكانات الدولة في الداخل ومؤازرة الدول والمؤسسات الغربية في الخارج.(1/86)
وبعد أن مضت فترة ليست بالقصيرة على هذه الحالة المزرية، هيأ الله للمسلمين من صحا منهم من نومه، وتنبه من غفلته، فرأى بنور من الله وبصيرة تلك الهاوية التي تردى فيها المسلمون والأسباب التي أدت إلى ذلك التردي، والواجب الذي لا بد من القيام به لانتشال الأمة الإسلامية من وهدتها، إلى قمة مجدها وعزها، فظهرت دعوات المفكرين الإسلاميين بصفة فردية هنا وهناك، ولم يمض وقت غير طويل نسبيا حتى أثمرت تلك الدعوات، ونتج عنها قيام حركات إسلامية تعتمد التعليم والتربية وبيان شمول الإسلام، وأنه منهج لحياة البشر يجب أن يعود ليحكم حياتهم، فأزعج ذلك تلاميذ الغرب الذين كان الجو قد خلا لهم، فتربعوا على كراسي الحكم وأمروا ونهوا دون منازع لهم إلا من أمثالهم، كما أزعج ذلك الغرب الذي ظن أن الإسلام قد مات وقُبر، فاتفق السيد في الغرب والعبد في الشرق، على القضاء على الإسلام دون هوادة ولا رحمة، فكان أن حصل من أعداء الإسلام المنتسبين إليه مثل ما حصل من أعداء الإسلام من اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين، من الهجوم على الإسلام وتشويهه، ومحاولة القضاء على دعاته بالسجون والمعتقلات والتعذيب الوحشي والتشريد، وانتهاك الأعراض ومصادرة الأموال والتضييق عليهم في لقمة العيش وإيذاء أسرهم وأقربائهم وأصدقائهم، وبالقتل والاغتيالات، حصل ذلك في أغلب بلدان الإسلام في شمال إفريقيا، وفي الصومال، واليمن، والعراق، وسوريا، وباكستان، وأفغانستان، وإندونيسيا، وتركيا، وبنغلادش، وألبانيا وغيرها.
قسوة أعداء الإسلام من المنتسبين إليه أشد من قسوة غيرهم !
ولعل قسوة أعداء الإسلام من المنتسبين إليه من أبناء المسلمين، أشد من قسوة غير المسلمين على المسلمين وذلك لأمور ثلاثة:(1/87)
الأمر الأول: أن عدو الإسلام المنتسب إلى الإسلام، يعد من أبناء البلد وليس أجنبيا عنه، وتصرفاته الظالمة لا ينظر إليها عامة الناس-وبخاصة الجهلة-نظرتهم إلى تصرفات العدو الأجنبي الظالم، ولذلك تجد العدو الأجنبي غير المسلم يخفف من طغيانه وظلمه، إذا لم يتعرض العلماء والدعاة لمصالحه تعرضا مباشرا، بخلاف الطاغية من أبناء البلد، فإنه يوسع دائرة ظلمه وقسوته، لتشمل المعارض الصريح والساكت الذي لم يظهر تأييده لظلمه وقسوته.
الأمر الثاني: أن عدو الإسلام المنتسب إليه من أبناء المسلمين، يجد المؤيدين له ولظلمه وقسوته، من أبناء البلد من أقربائه وقبيلته والمنتفعين بحكمه، ما لا يجده غير المسلم الظالم، لأن تأييد غير المسلم يعد منقصة يعير بها المؤيد، بخلاف من يؤيد الظالم من أبناء البلد، وبخاصة عندما يدعي الوطنية والقومية والتقدمية والثورية-مع ادعائه الإسلام!-.
الأمر الثالث: أن عدو الإسلام المنتسب إليه، يستغل إمكانات البلد البشرية والمادية والإعلامية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، في ضرب الإسلام والمسلمين، وهو ينعت بالوطني القومي والثوري والراعي والحامي، وليس بالمستعمر المغتصب والعدو والمحتل.
لذلك تجد قسوة هذا العدو على دعاة الإسلام من أبناء بلده تفوق قسوة اليهود والنصارى والملحدين والوثنيين أحيانا.
ولو أردنا أن نذكر نماذج لقسوة أعداء الإسلام من المنتسبين إليه على دعاة الإسلام وعلمائه في كل بلد ومن كل طاغية لاحتاج ذلك إلى كتاب مستقل.
نموذجان لقسوة أعداء الإسلام من المنتسبين إليه.
ولنكتف بالإشارة العاجلة إلى نموذجين نوضح بهما شدة قسوة من حارب الإسلام من المنتسبين إليه:
الأول:الأنموذج الثوري الناصري!.(1/88)
وهو القدوة الحسنة الأولى للثوريين والقوميين العرب على تنوع مسمياتهم، وهو ما فعله عبد الناصر في مصر بالمسلمين الذين نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله وإقامة حكمه في الأرض، ويكفي أن أنقل بعض النصوص للذين ذاقوا وبال تعذيبه للدلالة على قسوة الطاغية وأعوانه وخلو قلوبهم من الرحمة، قال أحد المعذبين: (الأمكنة التي وضعنا فيها لا يمكن أن تكون إلا مقابر، إن كلمة زنازين التي تستعمل في السجون، لا يمكن أن تعطيك فكرة صحيحة عن الأمكنة التي رأيتها في ذلك الليمان [وهو سجن جهنمي يعد أحد الإنجازات الثورية الناصرية.] عندما دفع بي العسكري في العنبر لم أجد مكانا أضع فيه قدمي، لقد كان المكان مليئا بالأجساد البشرية المتكدسة، بحيث لا يجد المرء فيه مكانا للجلوس أو الوقوف.. فما بالك بالنوم؟!.
إن مساحة العنبر-كما تبين لي بعد قياسه بواسطة بلاط الأرض-خمسة وأربعون مترا.. كان به عندما دخلته ثمانية وثمانون معتقلا، أي كل مخلوق بشري له نصف متر فقط لجلوسه ونومه وطعامه وشرابه وملابسه وحذائه وكل شؤونه) [هذا وصف لبعض أماكن السجن، وهناك أماكن وصفها آخرون أسوأ من ذلك. نافذة على الجحيم ص56]
وتحت عنوان: الرياضة الجهنمية قال المعذب:
((1/89)
ينادي جاويش السجن: كل الناس بره [أي اخرجوا جميعا] الزنازين. وهذا النداء يستعمل دائما إذا أرادوا أن يلقوا أمرا عاما على الجميع ويقول الجاويش: إحنا-نحن-حننزل-سننزل-دي الوأت-ذا الوقت-علشان-من أجل-تشموا هواء يا أولاد الكلب! ويقول: انزل بسرعة يا بن الكلب، وما هي إلا لحظات فتتدفق الجموع الغفيرة سريعا.. وبها ما بها من الآلام.. وهم مع ذلك صفوة أبناء الشعب ومن أنبل أبنائه، فيهم الوزير ووكيل الوزارة، والطبيب والمهندس، والمحامي، والتاجر والصانع، والمزارع، والطالب، والمدرس، والقاضي، والفراش، والضابط، ثم ينتظم الجميع عدة طوابير في مكان واسع كبير، ويبدأ سير الطابور سريعا.. ويسير الطابور في شبه دائرة أو مستطيل.. والطابور يتكون من عدة صفوف ويقف على جانبي كل صف رجال الجيش[الذي الأصل فيه أن يعد للجهاد في سبيل الله وطرد العدو اليهودي من بلاد المسلمين في أرض الإسراء والمعراج!] وهم ممسكون بالسياط والكرابيج والمدافع الخفيفة في أكتافهم، ويسير الطابور تحت الضرب، فكل شرطي يكلف أن يضرب من يمر عليه بصفة مستمرة، وبمرور الوقت تهوي الضحايا على الجانبين، لطول الزمن الذي قد يمتد إلى ثلاث ساعات متواصلة من الجري الشديد المصحوب بالضرب العنيف، وكلما ازدادت سرعة الطابور تزايد عدد الضحايا، بين فاقد الوعي ومقعد تماما لا يقوى على الحركة، والشيء الملفت للنظر أن من يقع على الأرض، يتجمع الشرطة حوله وينهالون عليه ضربا بالكرابيج، فإما أن يقوم إذا استطاع وإما أن يمزق جسمه فوق ما به من تمزيق، وفي موكب الطابور تتساقط العروق مصحوبة بالدماء من أجساد البشر) [نافذة على الجحيم ص80.](1/90)
ولعل بعض المقاطع من قصيدة أحد المعذبين، وهو من العلماء الأفذاذ في هذا العصر تظهر بعض صور القسوة لزعيم الثورة العربية والقومية العربية وأعوانه: قال في مطلع قصيدته(1):
ثار القريض بخاطري فدعوني ... أفضي لكم بفجائعي وشجوني
فالشعر دمعي حين يعصرني الأسى ... والشعر عودي يوم عزف لحوني
ألهمتها عصماء تنبع من دمي ... ويمدها قلبي وماء عيوني
نونية والنون تحلو في فمي ... أبدا فكدت يقال لي ذو النون
في ليلة ليلاء من نوفمبر ... فزِّعت من نومي لصوت رنين
فإذا كلاب الصيد تهجم بغتة ... وتحوطني من شمأل ويمين
فتخطفوني من ذويّ وأقبلوا ... فرحا بصيد للطغاة سمين
وعزلت عن بصر الحياة وسمعها ... وقذفت في قفص العذاب الهون
أسمعت بالإنسان ينفخ بطنه ... حتى يرى في هيئة البالون
أسمعت بالإنسان يضغط رأسه ... بالطوق حتى ينتهي لجنون
أسمعت بالإنسان يشعل جسمه ... نارا وقد صبغوه بالفازلين
أسمعت ما يلقى البريء ويصطلي ... حتى يقول أنا المسيء خذوني
أسمعت بالآهات تخترق الدجى ... رباه عدلك إنهم قتلوني
إن كنت لم تسمع فسل عما جرى ... مثلي ولا ينبيك مثل سجين
وسل السياط السود كم شربت دما ... حتى غدت حمرا بلا تلوين
وسل العروسة قبحت من عاهر ... كم من جريح عندها وطعين
كم فتية زفوا إليها عنوة ... سقطوا من التعذيب والتوهين
الثاني:الأنموذج الشيوعي الصومال!
__________
(1) من القصيدة أو الملحمة التي أنشأها الدكتور يوسف القرضاوي في السجن وكادت تضيع لولا أن هيأ الله لها من حفظها من إخوانه في السجن، نافذة على الجحيم ص 135.
أما العروسة فهي خشبة تعذيب يصلب عليها المسجونون شرحها أحد السجناء كما في نافذة على الجحيم ص100 وراجع كتاب: أيام من حياتي لزينب الغزالي لترى أنواع التعذيب التي لا تخطر على البال لها ولإخوانها في السجن، ولماذا أعدم سيد قطب وإخوانه، ودفاع لم يسمع وغيرها من الكتب التي كتبت في هذا الموضوع(1/91)
في الصومال عندما أظهر حاكم الصومال الانضمام إلى المعسكر الشيوعي، وأراد إثبات ولائه للشيوعيين الروس، فحارب الإسلام، وأنكر ما هو معلوم من الدين بالضرورة، وادعى في بعض خطبه أن نصف القرآن منسوخ، ومنع العلماء والخطباء من القيام بالدعوة في المساجد، وعندما أنكر عليه بعضهم زج بالكثير منهم في السجون، وقتل عشرة من خيارهم حرقا بالنار وعاث في الأرض فسادا، ولا زالت بلاد الصومال وشعبها يتجرعون غصص تصرفاته إلى اليوم [راجع مجلة المجتمع الكويتية: عدد 240 بتاريخ 28صفر سنة 1395هـ-ص17 وعدد 239 بتاريخ 21صفر من نفس السنة ص20. المجلد العاشر.]
هذه القسوة والوحشية التي انتهت إلى حرق علماء المسلمين والدعاة إلى الله تعالى بالنار في شعب مسلم، بسبب دفاعهم بالكلمة فقط عن كتاب الله وشريعة الإسلام، تدل دلالة واضحة أن كل من وقف ضد الإسلام وشريعته، سواء كان من المنتسبين إليه اسما دون مسمى، أو من أعداء الله الكافرين من يهود ونصارى وملحدين ووثنيين، قد نزعت الرحمة من قلوبهم.
والذي تنزع الرحمة من قلبه من أعداء الإسلام، لا ينتظر منه في سباقه إلى العقول بباطله، إلا إعنات الناس وإنزال الحرج والضيق بهم وجلب التعاسة والشقاء لهم، تحقيقا لغاياته الباطلة وأهدافه الخبيثة.
القسم الثالث:
وبين أيدينا قسم ثالث لم يذكره الدكتور الأهدل حفظه الله وهو أولئك القساة المنتسبين إلى طوائف وفرق تنتسب إلى الإسلام وهو منهم برئ ومن هذه الشاكلة الرافضة سوء كانوا فى إيران أو أخوانهم فى العراق ولبنان .
كتب الصحفي الأمريكي أباريسيم غوش تحت هذا العنوان (أخطر اسم في العراق):
عندما عاين سيارة (الأوبل) السوداء تتجه نَحوه في مساءٍ ليس ببعيد، أدركَ عُمَر فاروق على الفور أنّه سيواجه بعدَ قليل أسوأ مخاوفه، وقد تكون هذه ليلته الأخيرة في الحياة.(1/92)
لقد تمّت مطاردة طالب المدرسة الثانوية هذا من قِبَل مُسلَّحين في السيارة ذاتها مَرّتين في ذلكَ الأسبوع وَحدَه. في المناسبتين كانَ عُمَر في سيارتهِ الخاصة حيث تمكَّنَ مِنَ الهَرَب، أمّا الآن فهو يمشي في شارعٍ ضيقٍ نحوَ منزلهِ في حيٍّ من أحياء الطبقة المتوسطة في بغداد. وهكذا كانَ ابن الـ16 عاماً عاجزاً عن فعلِ أي شيء. "لقد تمكنوا منّي... إمّا أنهم سيأخذونني، أو يطلقون النار عليَّ إن حاولت الفرار،" هذا ما قالهُ لنفسِهِ. توقَّفت سيارةُ (الأوبل)، قبل أن تتوقف كان بابها الخلفي مفتوحاً قليلاً، أحد الركاب أشار بمسدسه إليه. اقتربَ آخر، وجَرَّ عمر من ياقته. لقد فَحَطَت إطارات السيّارة بأرضية الشارع بعنف وهي تُغادر المكان بعد أن أخذت عمر الذي تحوَّل إلى كومة ترقد على أرض السيّارة.
بدأ الرَّجلان في المقعد الخلفي يركلانه بأقدامهم ويضربانه بمسدساتهما قائلين له "اعترف" بأنكَ سنيّ، طالبين منه أن يبوح باسمه.منذ أشهر سَمِعَ عُمَر بقصصٍ عن رِجال وأولاد سنّة خُطِفوا، وعُذِّبوا، وقُتِلوا من قِبل فرق الموت الشيعية. ولأنَّ عُمَر اسم سُنّيّ صِرف، ادعي بأنَّه شيعيّ واسمه "حيدر".لكن خاطفيه لم يكونوا يعرفون اسمه الحقيقيّ فحسب، بل يعرفون اسم والده فاروق. هم يعرفون أيضاً أن اسمه جاء نسبة لاسم والده، وهو أمر شائع عند المسلمين. واصل ركّاب السيارة القول: "عمر، ابن فاروق، هذا اسم الأشرار." ولمده ساعتين مقبلتين، تحمَّلَ الضرب المستمر بينما السيارة تسير في أنحاء الحيّ.(1/93)
فجأة أدركَ عُمر أن القتل قد لا يكون مصيره في هذه الليلة عندما واجهت السيارة حاجز تفتيش يضم القوات الأمريكية. وبدلاً من المُخاطَرة باكتشافهم من قِبَل الأمريكان، فتح مُعتَقِلوه الباب، وقذفوا به إلى الشارع مع التهديد التالي: "ربما نجوت الآن يا عمر، لكن مع هذا الاسم الذي تحمله، لن تَبقَ حيّاً على الإطلاق."هذا مؤشّر على خطورة الحياة اليومية في بغداد هذه الأيام، حيث إن أبسط المعلومات في هويتك يمكن أن تقودكَ إلى الموت. بالنسبة للمقاتلين في هذه الحرب الأهلية ـ التي تغلي الآن بمعدلات منخفضة ـ بعدما نشبت ثانيةً في العاصمة إثر مقتَل العشرات من السُنّة خلال الأيام القليلة الماضية، فإنَّ تحديد العدو يُعتبر صعباً للغاية.
يتقاسم الشيعة والسنّة عِرقاً مشتركاً، وهم متشابهون في السحنة والشكل مما يصعب التمييز بينهم، وعليه فإنِّ القتلة يلجؤون إلى عملية تدقيق فجّة ووحشية للغاية، هي باختصار: اختيار الضحايا استنادا إلى الاسم الذي أصبح للكثير من العراقيين السمة المُمَيَّزة لكشف الانتماء الدينيّ.قالَ أكثر من عشرة أشخاص يحملون أسماء "عُمَر"، قمت بمقابلتهم، إنهم عندما يُقدِّمون بطاقات هوية تحمل أسماءهم، فإنهم عادةً ما يتعرضون لإساءات الشرطة والمسؤولين الحكوميين الشيعة. آخرون واجهوا مصيراً أكثر شناعةً. في حادثٍ واحد جرى في وقت سابق من هذا العام، عُثِرَ على جثث 14 شخصاً يحملونَ اسم عُمَر في مكَبٍ للقمامة ببغداد. لقد قُتِلوا جميعاً برصاصةٍ واحدةٍ في الرأس، وقد وُضِعَت بطاقات هوياتهم بعناية على صدورهم، وبعضهم بين أصابع يده. يقول صالح المطلق، وهو سياسي سنيّ بارز، إن عُمَر "أصبح أخطر اسم في العراق."(1/94)
ولأنَّ امتلاك الهوية الخطأ يمكن أن يؤدي إلى الهلاك، فإن أكثر البغداديين اتخذوا خطوات لاعتماد هويات جديدة مُزوَّرة. سوق تزوير الهويات أصبحت رائجة. منذ بداية هذه السنة تضاعف سعر الهوية المُزوَّرة إلى 100 دولار للواحدة. في الحقيقة أن هويات البطاقة
الشخصية العراقية بدائية، فالبيانات مكتوبة بخط اليد على ورق سُرعان ما يبلى. بإمكان المزورين أن يُنتِجوا العشرات من هذه البطاقات يومياً. وهذه مُجرَّد واحدة من التقنيات القائمة لأولئك الذين يقفون في خط النار، أو باتوا هدفاً للقتل.
هناك مواقع على الإنترنت تقدِّم نصائح مُفصَّلة حول كيف يمكن للسنّة أن يُقدِّموا أنفسهم على أنهم شيعة ـ مثلاً كيفية الصلاة في الأماكن العامة (هناك فوارق بين الشيعة والسنّة في الصلاة)، أو كيفيه اكتساب اللهجة العراقية الجنوبية (غالبية الجنوبيين هم شيعة). ينصح الموقع السُنّة أن يحفظوا عن ظهر قلب أسماء الأئمة الشيعة الاثني عشرية - وقد تم تهيئة كُتيب صغير ـ استعداداً للاستجواب من قبل الشرطة. وهو يحذر من استخدام الأناشيد الخاصة بالمجاهدين كنغمة جرس الهواتف الخلوية، وهي ممارسة باتت شائعة في أوساط المتعاطفين مع التمرد السني. هناك أيضا نصائح مفيدة عن كيفية ومكان الحصول على بطاقات الهوية المزوَّرة.
لكن العراقيين يعلمون أن ذلك قد لا يكون كافيا لحمايتهم. في الأيام التالية للتجربة المرعبة التي مرَّ بها عُمَر فاروق، حازت عائلته بسرعة على هويات مزوَّرة لجميع أبنائها.(1/95)
طلب حماية الشرطة لم يكن على الإطلاق خيارا معقولاً للسُنّة، فالعديد من أفراد الشرطة في الحي هم من الأعضاء السابقين في جيش المهدي، الميليشيا الشيعية العنيفة الموالية لرجل الدين مقتدى الصدر. لا تشعر الأسرة على الإطلاق أنها يمكن أن تلجأ إلى مناطق الجوار لتقديم أيّ شكوى. لقد ساءت العلاقات بين الشيعة والسُنّة في الأحياء المُختلطة منذ 22 فبراير الماضي عندما تم تفجير مسجد للشيعة في سامراء. لقد توقف عمر عن الحديث مع الشيعة الذين كانوا زملاءً له بفريق لكرة القدم.
بل إن الأسرة نفسها حبست نفسها داخل المنزل، وفرضت مراقبة على البوابة الأمامية للدار على مدار الساعة. عندما عادت سيارة الأوبل السوداء في مساء أحد الأيام إلى الحيّ، قام محمد، الأخ الأكبر لعُمَر، بمطاردتها مطلقاً عيارات نارية من سلاحه الكلاشينكوف في الهواء.
لم تَعد السيارة أبداً، لكن العائلة رأت أن هذا التحذير كان كافياً. لقد فرَّ عُمَر ووالدته إلى الأردن. قال عمر قبيل مغادرته أنه قد لا يعود إلى وطنه أبداً. "إني أجبَر على الخروج بسبب اسمي..." هذا ما قاله قبل أن يتهدَّجَ صوته وهو على وشك البكاء. الحقيقة المُحزنة أنه بالنسبة لعُمَر، وعدد لا حصر له على شاكلته، فالسبيل الأكيد الوحيد للبقاء على قيد الحياة في العراق هو مغادرته.
بعد تعرضهم لتعذيب وحشي .. العثور على جثث 20 سنيًا بـ "بغداد"(1) :
عثرت الشرطة العراقية، الموالية للاحتلال، على جثث 20 سنًيا في مناطق متفرقة من العاصمة العراقية "بغداد", تعرضوا لتعذيب بشع ووحشي قبل قتلهم.
__________
(1) مفكرة الإسلام(1/96)
وذكر مراسل "مفكرة الإسلام"، نقلاً عن طبيب في مستشفى "اليرموك"، أن المستشفى استلمت 20 جثة لشباب وشيوخ كبار في السن، كلهم من أهل السنة، قُتلوا بعد تعذيب وحشي بدا عليهم.وأوضح الطبيب ـ الذي طلب عدم ذكر اسمه ـ أن بعض الجثث ماتت خنقًا، حيث تم وضع الصمغ في أفواههم وفي أنوفهم حتى انقطع الهواء عنهم وقُتلوا ببطء, على حد وصفه, ووجدت أجسادهم زرقاء اللون، فيما بدت الجثث الأخرى أكثر بشاعة في طريقة القتل، حيث عُثر على أربع جثث في مكانٍ واحد، طُرقت رؤوسهم بمطارق حديدية كبيرة تستخدم لتهديم سقوف المنازل، وخمس جثثٍ وُجدت مقيّدة بشكلٍ كامل، وتم قطع الوريد في رسغ اليد
وتركهم ينزفون حتى الموت.
كما عُثر على جثة شيخ سني وقد وضعت زجاجة مشروبات كحولية في دبره، وقُطع لسانه وأربعة من أصابعه، وجُدع أنفه، وقد مُثّل به شر تمثيل، وأكد الطبيب أن الشهداء كلّهم من أهل السنة، بينهم إمام وخطيب وطلاب علم ومصلون وموظفون.
حرائرعراقيات تعرضن لجرائم اغتصاب
أفادت مصادر بهيئة "الدعوة والإفتاء"، أن عشرات من الماجدات العراقيات من نساء السنة, اللاتي وقعن ضحايا لجرائم اغتصاب من قِبل القوات الصفوية والاحتلال, بدأن بالتوجّه سرًا إلى مساجد السنة في بغداد وبقية المحافظات للإبلاغ عن الجرائم التي ارتُكبت بحقهن.
ونقل مراسل "مفكرة الإسلام" (1):في بغداد عن المصدر قوله: إن كشف النساء الضحايا عن مأساتهن جاءت استجابة لمطالبة هيئة علماء المسلمين بتسجيل كافة تلك الحالات لعرضها على محاكم دولية تدين الصفويين والاحتلال.
__________
(1) مفكرة الإسلام(1/97)
وأشار المصدر إلى أن هؤلاء النسوة يأتين ـ منذ يومين ـ مع أمهاتهن أو بمفردهن بصورة سرية؛ خوفًا من افتضاح أمرهن؛ بسبب العادات العشائرية الصارمة لدى الكثير من عشائر العراق, التي تقضي بقتل الفتاة حتى لو كانت مغتصبة كرهًا, وتتكتم العوائل على الجريمة سترًا لها وحفاظًا على ماء وجهها، محتسبة ذلك عند الله تعالى.
وأوضح المصدر أن 90% من جرائم الاغتصاب التي تعرضت لها نساء السنة ارتكبها جنودٌ صفويون من قوات الجيش والشرطة والمغاوير و"حفظ النظام", وأن أغلب الضحايا كُنّ من الفتيات الأبكار.
وأشار إلى أن كشف سيدة حي العامل ببغداد "صابرين الجنابي"، ومن بعدها سيدة تلعفر "واجدة محمود أمين" عن تعرضهما للاغتصاب, أعطى الشجاعة لبعض ضحايا هذه الجرائم للتقدم إلى المساجد وعرض مأساتهن ،ومما يذكر أن الصفويين يعتبرون أن "عرض ودم ومال السني حلال لهم, ولا يأثم الواحد منهم على أخذه بالقوة" بل يعتبرونها من "الغنائم", بحسب مزاعمهم.
وأكد رئيس ديوان الوقف السني في العراق اليوم الأربعاء أن عشرات النساء وبعض أئمة المساجد من السنة تعرضوا للاغتصاب في الفترة الماضية ، مضيفا "سنطرق الأبواب كلّها لفضح هذه المظالم".وقال أحمد عبد الغفور السامرائي إن حادثة صابرين الجنابي ليست الوحيدة، إذ "تعرض أئمة مساجد وعشرات من النساء السنيات للاغتصاب، غير أن الحياء والخشية من الفضيحة يمنعهم من ذلك"، مشيرا إلى أن حادثة الجنابي سيكون لها ما بعدها فـ"الأمور تجري على قدم وساق ولن نترك بابا حتى نطرقه من أجل فضح هذه المظالم".
وأضاف السامرائي: "قابلت نساء سنيات وأقسمن بالقرآن أنهن تعرضن للاغتصاب لكنهن لا يستطعن التصريح بذلك لوسائل الإعلام تحاشيا للفضيحة".(1/98)
وبخصوص يقينه بخصوص تعرض صابرين الجنابي للاغتصاب، قال: "لا يعقل أن تظهر سيدة في وسائل الإعلام لتعلن أنها اغتصبت. هي الوحيدة التي وافقت على ذلك بعد إلحاح كبير وبعد أن غيّرنا اسمها". وأضاف "كنت لأبارك الخطة الأمنية لو بدأت بتطهير الشرطة والجيش من العناصر السيئة التي تغلغلت في هذه الأجهزة". وكان السامرائي قال في وقت سابق لوكالة الصحافة الفرنسية إن صابرين الجنابي"ربما انتهك عرضها ولم تغتصب". وأوضح السامرائي أن قرار رئيس الوزراء "غير مستغرب لأن المالكي لا يتحمل أن تواجه سياسته أو أعماله بأي انتقاد". وأضاف "الوقت كان ضيقا" أمام رجال الشرطة الذين اعتقلوا السيدة والذين "كان في نيتهم اغتصابها". وتابع "فعلوا فعلتهم الشنيعة وهي ربما تعرضت لهتك عرض لم يصل إلى حد الاغتصاب(1)".
وبعد فقد أطلت كثيرا بذكر الأمثلة الدالة على قسوة غير المسلمين ووحشيتهم وفقدهم الرحمة من قلوبهم، سواء أكانوا من أهل الكتاب: اليهود والنصارى، أو الملحدين-الشيوعيين-أو الوثنيين من هندوس وبوذيين وغيرهم، أو من المنتسبين إلى الإسلام-بعد أن بينت اتصاف المسلمين بالرحمة حتى بأعدائهم، ليتبين للقارئ أن سباق المسلمين إلى العقول هو سباق رحمة ورحماء، مع أن الغايات التي يريدون تحقيقها بسباقهم إلى العقول كلها غايات تسعد البشرية كلها، وأن سباق غير المسلمين إلى العقول هو سباق قسوة وشدة وغلظة-وإن حاولوا أن يظهروا بعض أعمالهم بما قد يبدو فيه رحمة- مع أن الغايات التي يحاولون السباق من أجلها إلى العقول هي غايات فاسدة تشقى بتحقيقها البشرية في الأرض كما هو حاصل الآن(2)).
(جـ) خُلق الرحمة في حياة المسلم
__________
(1) مفكرة الإسلام
(2) الدكتور الأهدل (كتاب السباق إلي العقول).(1/99)
الرحمة ذلك الخُلق الذي ينبغي أن يتحلى به كل إنسان ، يقع عليه مسمى الإنسانية ،وله قلب بين ضلوعه يخفق ، فـ(الإنسان من غير قلب أشبه بالآلة الصماء، والحجر الصلد، فإن حقيقة الإنسان ليست في هذا الغلاف الطيني من لحم ودم وعظم، وإنما هي تلك اللطيفة الربانية، والجوهرة الروحية، التي بها يحس ويشعر وينفعل ويتأثر، ويتألم ويرحم، هي القلب الحي.(1)).
فالرحمة مكون أساسي في كينونة الخَلق ، فالحيوان يتراحم فيما بينه ويتلاحم ،ونوع الإنسان رحيم في نفسه ،يتجلى ذلك على نفسه أولًا ، وعلى ذويه من والدين ، وأبناء ، وزوجة ، وأهل ثانيًا ، و على إخوانه الذين يعاملهم صباحًا وعشيًا ومجتمعه الذي ينتمي إليه ثالثًا ، فما بالك بالإنسان المسلم ؟!
إنه الخُلق الدافئ الذي لا يأتِ على برودة مشاعر إلا استحالت ساخنة فياضة ، ولا على عين جامدة إلا صارت بدمعها دفَّاقة ، ولا على قلب صخر إلا اضمحل أهيلًا ، و أبتل بدموع من الدماء رقراقة ، وأبدل جموده إلى ليونة سباقة ، في حنو على يتيمٍ ، وسعيٍّ على أرملة ،ورأفة بمسكين ، ودمعة على الوجنات شفقة لذوي الحاجة والفاقة.
فكيف بعبدٍ في كنف الرحيم - عز وجل - معايشه ؟!
فإن (من أخص أوصاف المؤمن أنه يتميز بقلب حي مرهف ليِّن رحيم، يتجاوب به والأحداث والأشخاص، فيرق للضعيف، ويألم للحزين، ويحنو على المسكين، ويمد يده إلى الملهوف، وبهذا القلب الحي الرحيم ينفر من الإيذاء، وينبو عن الجريمة، ويصبح مصدر خير وبر وسلام لما حوله ومن حوله.(2)).
فهو يرى آثار الرحمة مشاهدة ، وأكناف الرأفة ممهدة ، فهو بين رحمات العموم يسكن ، وإلى منح الخصوص يركن ، وبين لطائف الرحمن يكن ، و بمنن ربه الرحيم يحن .
__________
(1) الإيمان والحياة .
(2) الإيمان والحياة.(1/100)
فالرحمة خُلق الحياة ، فلولا الرحمة المودعة في قلوب الأبوين ما قاما لأبنائهما بحاجة ، فبالرحمة كانت التنشئة على الخلق القويم ، واجتناب كل ذميم ، ومجانبة كل رذيلة ، واستأنس كل فضيلة ، وبها قامت حقوق المبرة ، ببذلها بكف الندى ، دفع البلية والأذى .
فبالرحمة كان أُنس رجل بزوجه ، وهل هذا إلا بالروح الرحيمة ، إذا الأرواح جنود مجندة ، فما تعارف برحمة الرحمن ائتلف ، وما تناكر بضدها اختلف ، فما أبقى لمودة القلوب مثل الرحمة والنداوة .
ولو لا الرحمة ما كان للأخوة بين الناس مكان ، ولا كان بين الإخوة الصحبة والألفة واتخاذ الخلان ، فبها رقت القلوب بالود والامتنان ، والكف بالجود والإحسان.
فبالرحمة قام بحقوق الخلق من قام ، بالمعروف آمرًا وعن ضده ناهيًا ،ويجمع القلوب على محبة الغفور الودود ، ويكشف للبصائر حقائق السرائر ، دون هتك ستر ولا فضح عرض ، فهو من أرحم الناس بالناس ، فهو عليهم مشفق ، لخيرهم مريد ، وعن شرهم بعيد ،ويرجو لهم السلامة ، ويدعو لصلاحهم ربه ، ويخاف عليهم ذنبه .
ونحن ها هنا نحاول أن نتلمس خلق الرحمة في حياة المسلم وهذا من جانبين :
- مع نفسه وأهله .
- مع إخوانه وفى مجتمعه.
خلق الرحمة مع نفس المسلم وأهله
خلق الرحمة مع نفسك:
قد يستولى عليك العجب من هذا العنوان ، قائلًا أرحم نفسي ! كيف ؟
ألست لها راحم ؟ وبها رحيم !
رحمتك لنفسك ليس كلمة تقال ، بل أثر وفِعال ، ولهذا سوف نتدارس أولا حقيقة هذا الخُلق عمومًا وذلك في أمور :
1. مصدر الرحمة .
2. فعالية الرحمة.
3. لماذا نرحم ونتراحم ؟!
1. مصدر الرحمة :
هذه الرحمة المودعة قلوب الخلق ، هل هى من قِبل أنفسهم ؟!
إن كانت كذلك فكيف لا يملكون دمعهم ؟! ، وكيف تنفطر قلوبهم من أسىً رأوه ؟(1/101)
فمصدر رحمة الخلق هبة ربانية من ربٍ رحيم ألم تقرأ قوله - عز وجل - { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}(الحديد: من الآية27) وقال - عز وجل - ?{ وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً }(الروم: من الآية21).وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))(1) وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘: (( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ))(2) .
فهذه الرحمة الفطرية العامة التي تغمر قلوب الخلق أجمعين ، وهي أثر من آثار رحمة الرحمن الرحيم ، بل جزء من أجزاء الجزء المئوي الذي بثه الله - عز وجل - في الخلق ، يتراحم به الرحماء ، من إنسٍ وجن ، وطير وحيوان حتى إنها لترفع برحمة حافرها عن وليدها خشية مضرته .
__________
(1) رواه مسلم وأحمد وابن ماجة
(2) رواه مسلم وأحمد ولابن ماجة عن أبى سعيد - رضي الله عنه - .(1/102)
و لكن رحمة المسلم المؤمن بالله ربًا رحمانًا رحيمًا ، تختلف اختلافا كليًا ،في منشأها فهي منبثقة من تصور صحيح ناشئ من عقيدة إيمانية سليمة ، عقيدة بالرحمة مغلفة ، وشريعة بالرحمة مكلفة ، فإيماننا بالله - عز وجل - مبناه على كونه ربًا له الأسماء الحسنى ، وللرحمة خلق ، وبرحمة أمر ، فوقع المسلم بين رحمة الخلق ورحمة الأمر قال - عز وجل - { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً}(غافر: من الآية7) ، فما خلق إلا بعلم يقتضى الحكمة التامة ورحمة من آثارها الإحسان العام.
فالعقيدة المبنية على معرفة الله - عز وجل - بأسماء البر والرحمة تفيض بالرحمة من قلبه ليس مجرد انفعال عابر ، أو رد فعل غابر ، غير مؤسس على أصول اعتقادية سليمة ، سرعان ما ينطفئ بريقه ، ويمتص رحيقه ، فيصير أثرًا بعد عين ، لا ينبض بروح ، ولا يخفق بقلب ، فما هو إلا عابر في غابر.
أما رحمة المسلم الموحد العارف بربه - عز وجل - زادت على رحمة الرحماء من سائر الأمم والملل برحمة الأمر ، فهو مطبوع على الرحمة خلقًا،و بصفة الرحمة معتقدًا(1)،بل ومأمور برحمة الخلق شرعًا(2).
تذكر رحمنا الله وإياك أن مصدر الرحمة في قلبك هو رحمة أرحم الراحمين بك فرحمك :
- أنك على الرحمة مطبوع خلقًا .
- أنك بصفة الرحمة لله - عز وجل - تؤمن حقًا .
- أنك برحمة الخلق مأمور شرعًا.
2. فعالية الرحمة :
ونقصد بفعالية الرحمة ، أنها ليست نظريات عقدية ، يصعب تناولها عمليًّا ، بل هي منهج حياة ، بل هي رسالة كونية بُعث بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرحمة العالمين كما مر بنا.
__________
(1) وهذا قد سبق بيانه في الباب (5)إثبات ما دل عليه الاسمان من الصفات عمومًا و ( صفة الرحمة ) خصوصًا والرد على من أنكرها.
(2) وهذا ما سبق بيانه في الباب (11) الفقرة ( أ ) خُلق الرحمة في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .(1/103)
والمسلم المؤمن بالله ربًا ، وبالإسلام دينًا ، وبمحمدٍ ‘ نبيًا ورسولًا ، يمتثل أمر الله - عز وجل - ، ويقتدي برسول الله ‘ أسوة حسنة في تطبيقه ، فلا يجنح إلى رخوة و خور ، مدعيًا الرحمة ، ولا إلى قسوة وجفوة زاعمًا الحزم و القوة .
بل كن رحيمًا فيما يجب أن تكون رحيمًا فأنك بها مأمور ، وعليها معان منصور ، ولا يخطرن ببالك العجز عنها لأنها ضعف ومهانة ، ولك في رسول الله ‘ الأسوة والقدوة ، وأنظر أحواله فقد مر بك بعضٍ منها ، وإلى سير سلفك الصالح è ، فخذ منها ما يصل بك إلى مقصدك ، من حسن خُلق وسيرة ، حتى تبلغ دار الرحمة مع أهل الرحمة من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
فليست الرحمة دموعًا تسكب في مواطن الإنفاق ، ولا يد تربت في مواضع البذل والعطاء ، ولا كلمات جوفاء لا طائل تحتها سوى رفع الصوت بالخطب والعظات.
بل الرحمة ... وضع الأمور مواضعها ، و الأخذ بالأرفق سببًا ووسيلةً ، وحالًا وسبيلًا.
إذاً الرحمة خُلق حيوي يتحرك بين الناس بدمعة القلب لما فات من قيام بحق ألم تر إلى النفر من أصحاب نبينا ‘ { لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)} [التوبة/91، 92]
فلما سبقهم دمعهم أنزل الله - عز وجل - عذرهم ، وتولى رسول الله ‘ أمرهم ، بل وما حرموا أجرهم بل قال ‘ (( إِنَّ أَقْوَامًا بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلَا وَادِيًا إِلَّا وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ (1))).
__________
(1) رواه البخاري .(1/104)
أو حسن خُلق مع الخَلق في الأخذ والعطاء ، والبيع والشراء فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ : ((عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ‘ قَالَ إِنَّ رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ هَلْ عَمِلْتَ خَيْرًا قَطُّ قَالَ لَا إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى قُلْتُ لَهُ خُذْ مَا تَيَسَّرَ وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ وَتَجَاوَزْ لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ (1))).
وقد مر بنا من نماذج الرحمة النبوية ما يغني عن التكرار ، ومن سير السلف ما يكفى لدلالة على اقتدائهم برسول الله ‘ في كافة الأحوال .
3. لماذا نرحم ونتراحم ؟!
سؤال ... ربما يستثير شعور الغرابة و الدهشة ، ألم تقل من قبل أن الرحمة فطرية ، و أن الله - عز وجل - جعلها في قلوب الخَلق أجمعين ، فلماذا مثل هذا السؤال ؟! .
هذا السؤال مراده .. ما الغاية من الرحمة والتراحم فيما بيننا؟!
فلمعرفة ذلك لابد من معرفة الدوافع الأخلاقية للناس ، فمن الناس من يتخلق بخُلق الرحمة مداهنة ومدارة ، وهناك من يأتي به على سبيل المباهاة والفخر ، وهناك من يتخلق بها للمنفعة والتوصل إلى مأربه ،وهكذا يتخلف الناس باختلاف غايتهم وميولهم.
__________
(1) رواه النسائي وصححه الألباني وأصله في البخاري من حديث حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ : (( قَالَ النَّبِيُّ ‘: تَلَقَّتْ الْمَلَائِكَةُ رُوحَ رَجُلٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَالُوا أَعَمِلْتَ مِنْ الْخَيْرِ شَيْئًا قَالَ كُنْتُ آمُرُ فِتْيَانِي أَنْ يُنْظِرُوا وَيَتَجَاوَزُوا عَنْ الْمُوسِرِ قَالَ قَالَ فَتَجَاوَزُوا عَنْهُ )).(1/105)
وكما يختلفون في الدوافع يختلفون في الوسائل لتحقيق ذلك ، فمنهم من يتبع عادات وتقاليد توارثها ، أو مشاكلة لفئة يتبعها من شرقٍ أو غربٍ ، وما أكثر هؤلاء بيننا ينخدعون ببريق الحضارة الغربية الزائف ، فيعمى أبصارهم عن عوراتها ، ويصمون آذانهم عن عيوبها ، فيجعلون ما يقومون به من أعمال يطلقون عليها خيرية تحت لواء أندية ملوثة(1) ، وميول مدنسة صهيونية كانت أو صليبية.
ولكن المسلم المؤمن يختلف في غايته ، فهو عبدُ الله - عز وجل - ، يرجو رحمته ويحذر عذابه ، وإنما يأتي بهذا الخُلق تعبدًا لله - عز وجل - مخلصًا فيه نيته لقوله - عز وجل - {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} (الزمر:11) ، فليس لمصالح نفعية شخصية ، ولا لمباهاة الناس والفخر بينهم ، ولا يقصد إلى مداهنة ومدارة للوصول إلى الفوائد والعوائد.
ومختلف في سبيله ووسيلة ، فكما أن غايته ربانية ، فوسيلته نبوية محمدية ،متبعًا فيها رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي قَالَ : ((مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ (2))) ، فتحت لواء الإسلام يعمل ، وبه يتحرك ، وإليه يئرز ، فالإسلام شعاره ، و الرحمة النبوية دثاره، وبنهج سلفه يلتحف .
·?رحمة المسلم نفسه :
__________
(1) كنوادى الروتارى والليونز وغيرها.
(2) متفق عليه وهذا لفظ مسلم.(1/106)
إن أعظم ما ترحم به نفسك أن تعرف ما يقربك من أرحم الراحمين ،ففيه يكون العمل ، وما يبغضه ويبعدك عنه - عز وجل - فمنه يكون الهرب فـ ( رحمتك لنفسك أن تطلب النجاة من النار والفوز بالجنة بتقوى الله ، وحفظ حدوده ، والعمل بما يرضاه (1)) ، فيتولك الله - عز وجل - بالحفظ من الشيطان الرجيم ، والرعاية بإمدادك بالملائكة عليهم السلام ( وقال بعض السلف :إذا أصبح ابن آدم ابتدره الملك والشيطان فإن ذكر الله وكبره وحمده وهلله طرد الملك الشيطان وتولاه وإن افتتح بغير ذلك ذهب الملك عنه وتولاه الشيطان ولا يزال الملك يقرب من العبد حتى يصير الحكم والطاعة والغلبة له فتتولاه الملائكة فى حياته وعند موته وعند مبعثه قال الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَة}[فصلت/30، 31] وإذا تولاه الملك تولاه أنصح الخلق له وأنفعهم وأبرهم له فثبته وعلمه وقوي جنانه وأيده قال تعالى {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آَمَنُوا} [الأنفال/12] ويقول الملك عند الموت لا تخف ولا تحزن وأبشر بالذي يسرك ويثبته بالقول الثابت أحوج ما يكون إليه في الحياة الدنيا وعند الموت وفي القبر عند المسألة فليس أحد أنفع للعبد من صحبة الملك له وهو وليه في يقظته ومنامه وحياته وعند موته وفي قبره ومؤنسه في وحشته وصاحبه في خلوته ومحدثه في سره ويحارب عنه عدوه ويدافع عنه ويعينه عليه ويعده بالخير ويبشره به ويحثه على التصديق بالحق كما جاء في الأثر الذي يروى مرفوعًا وموقوفًا (2):
__________
(1) القرطبي فى الأسنى شرح الأسماء الحسنى جـ 1 صـ 90
(2) المرفوع ضعيف رواه الترمذي وغيره وقال الألباني : ضعيف .وهو أشبه بالموقوف عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - رضي الله عنه - قَالَ:((أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّهُ يُقَرِّبُ إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يُقَرِّبُ إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ فَإِنَّهُ يُقَرِّبُ إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يُقَرِّبُ إِلَى النَّارِ، إِنَّهُ يُقَالُ لِلصَّادِقِ: صَدَقَ وَبَرَّ، وَلِلْكَاذِبِ: كَذَبَ وَفَجَرَ، أَلا وَإِنَّ لِلْمَلَكِ لَمَّةٌ، وَلِلْشَيْطَانِ لَمَّةٌ، فَلَمَّةُ الْمَلَكِ إِيعَادٌ لِلْخَيْرِ، وَلَمَّةُ الشَّيْطَانِ إِيعَادٌ بِالشَّرِّ، فَمَنْ وَجَدَ لَمَّةَ الْمَلَكِ فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ لَمَّةَ الشَّيْطَانِ فَلْيَتَعَوَّذْ مِنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: "الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ" [البقرة: 268]، قَالَ: أَلا إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَضْحَكُ إِلَى رَجُلَيْنِ، رَجُلٍ قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ مِنْ فِرَاشِهِ وَلِحَافِهِ وَدِثَارِهِ فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى صَلاةٍ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلائِكَتِهِ: مَا حَمَلَ عَبْدِي هَذَا عَلَى مَا صَنَعَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا رَجَاءَ مَا عِنْدَكَ، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنَّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا وَأَمَّنْتُهُ مِمَّا خَافَ، وَرَجُلٍ كَانَ فِي فِئَةٍ فَعَلِمَ مَا لَهُ فِي الْفِرَارِ، وَعَلِمَ مَا لَهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَقَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ فَيَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ: مَا حَمَلَ.........الأثر))رواه الطبراني فى الكبير والبزار.(1/107)
إن للملك بقلب ابن آدم لمة وللشيطان لمة فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالوعد ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق.
وإذا اشتد قرب الملك من العبد تكلم على لسانه وألقى على لسانه القول السديد وإذا أبعد منه وقرب الشيطان من العبد تكلم على لسانه قول الزور والفحش حتي يرى الرجل يتكلم على لسان الملك والرجل يتكلم على لسان الشيطان وفي الحديث إن السكينة تنطق على لسان عمر - رضي الله عنه - (1).
وكان أحدهم يسمع الكلمة الصالحة من الرجل الصالح فيقول: ما ألقاها على لسانك الا الملك ويسمع ضدها فيقول ما ألقاها على لسانك إلا الشيطان فالملك يلقى في القلب الحق ويلقيه على اللسان والشيطان يلقي الباطل في القلب ويجريه على اللسان .
__________
(1) إشارة إلى ما رواه الإمام أحمد عَنْ وَهْبٍ السُّوَائِيِّ قَالَخَطَبَنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ مَنْ خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا فَقُلْتُ أَنْتَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ لَا خَيْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَبُو بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا نُبْعِدُ أَنَّ السَّكِينَةَ تَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( مسند أحمد - (ج 2 / ص 299) وقال الأرناؤوط اسناده قوي.(1/108)
فمن عقوبة المعاصي أنها تبعد من العبد وليه الذي سعادته في قربه ومجاورته وموالاته وتدني منه عدوه الذي شقاءه وهلاكه وفساده في قربه وموالاته حتى أن الملك لينافح عن العبد ويرد عنه إذا سفه عليه السفيه وسبه كما اختصم بين يدي النبي رجلان فجعل أحدهما يسب الآخر وهو ساكت فتكلم بكلمة يرد بها على صاحبه فقام النبي فقال يا رسول الله لما رددت عليه بعض قوله قمت فقال كان الملك ينافح عنك فلما رددت عليه جاء الشيطان فلم أكن لأجلس (1).
وإذا دعي العبد المسلم في ظهر الغيب لأخيه أَمّنَ الملك على دعائه (2).
__________
(1) إشارة إلى حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (( استطال رجل على أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - و رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس و أبو بكر ساكت فلما أكثر انتصر أبو بكر فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاتبعه أبو بكر يا رسول الله استطال علي و أنت ساكت فلما انتصرت قمت فقال يا أبا بكر إنك ما سكت كان الملك يرد عليه فلما انتصرت ارتفع الملك و حضر الشيطان فلم أكن لأجالس الشيطان : يا أبا بكر ثلاث اعلم أنهن حق : ما عفا امرؤ عن مظلمة إلا زاده الله بها عزا و ما فتح رجل على نفسه باب مسئلة يبتغي بها وجه كثرة إلا زاده الله بها فقرا و ما فتح رجل على نفسه باب صدقة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله كثرة )) ورواه الليث عن سعيد المقبري من بشر بن محرز عن سعيد بن المسيب أن رجلا سب أبا بكر فسكت ثم انتصر فقام النبي صلى الله عليه و سلم قال البخاري هذا أصح و هو مرسل.
(2) إشارة إلى حديث أبى الدرداء - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ « مَنْ دَعَا لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ »رواه مسلم(1/109)
فإذا أذنب العبد الموحد المتبع سبيله رسوله استغفر له حملة العرش ومن حوله(1).
وإذا نام العبد المؤمن بات في شعاره ملك(2) فملك المؤمن يرد عليه ويحارب ويدافع عنه ويعلمه ويثبته ويشجعه فلا يليق به أن ينسى جواره ويبالغ فى أذاه وطرده عنه وإبعاده فانه ضيفه وجاره وإذا كان إكرام الضيف من الآدميين والإحسان إلى الجار من لزوم الإيمان وموجباته فما الظن بإكرام أكرم الأضياف وخير الجيران وأبرهم .
وإذا أذى العبد الملك بأنواع المعاصي والظلم والفواحش دعا عليه ربه وقال لا جزاك الله خيرا كما يدعوا له إذا أكرمه بالطاعة والإحسان قال بعض الصحابة è إن معكم من لا يفارقكم فاستحيوا منهم وأكرموهم.
__________
(1) إشارة إلى قوله - عز وجل - {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ }(غافر:7)
(2) إشارة إلى حديث ابْنِ عُمَرَ ù , قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘:طَهِّرُوا هَذِهِ الأَجْسَادَ طَهَّرَكُمُ اللَّهُ , مَا مِنْ عَبْدٍ بَاتَ طَاهِرًا إِلا بَاتَ فِي شِعَارِهِ مَلَكٌ كُلَّمَا تَقَلَّبَ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةً قَالَ الْمَلَكُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِعَبْدِكَ كَمَا بَاتَ طَاهِرًا. رواه ابن والطبراني فى الكبير والأوسط وحسنه الألباني والأرناؤوط.(1/110)
ولا ألأم(أكثر لؤماً) ممن لايستحيي من الكريم العظيم القادر ولا يكرمه ولا يوقره وقد نبه سبحانه على هذا المعني بقوله {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)} [الإنفطار/10-12]أى استحيوا من هؤلاء الحافظين الكرام وأكرموهم وأجلوهم أن يروا منكم ما تستيحون أن يريكم عليه من هو مثلكم والملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوا آدم وإذا كان ابن آدم يتأذى ممن يفجر ويعصى بين يديه وإن كان قد يعمل مثله عمله فما الظن بأذى الملائكة الكرام الكاتبين والله المستعان.(1)) .
فأنظر إلى نفسك وقد رحمتها بالطاعة فأحبك أرحم الراحمين ، فرحمك بصحبة أهل الرحمة من الملائكة عليهم السلام ، ورغب في صحبتك أهل الرحمة في الأرض صدق - عز وجل - إذ يقول { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)} [مريم/96] ، و عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبِىِّ ‘ قَالَ « إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ . فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ، فَيُنَادِى جِبْرِيلُ فِى أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ . فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِى الأَرْضِ (2) » .
__________
(1) ابن القيم ’ في الداء والدواء صـ 74 وما بعدها وقد سبق .
(2) متفق عليه.(1/111)
ولا يكون هذا إلا برحمة العبد نفسه بفعل ما يحبه الله - عز وجل - فعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘ « إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ ....الحديث »(1))).
·?رحمة المسلم أهله :
- إن الوشائج والصلات الإنسانية صعبة التناول ، لما فيها من تشابك ، أعلى هذه الروابط ما كانت من نفسٍ واحدة ، أعنى الزوج ، فالله - عز وجل - جعلها أعظم الآيات فقال { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الروم:21) ، فإن من رحمتهن
__________
(1) رواه البخاري(1/112)
1- حسن الخلق معهن واحتمال الأذى منهن ترحماً عليهن لقصور عقلهن. وقال الله تعالى { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}(النساء: من الآية19)،وقال في تعظيم حقهن {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}(النساء: من الآية21) وقال{وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ }(النساء: من الآية36) قيل هي المرأة.... واعلم أنه ليس حسن الخلق معها كف الأذى عنها، بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها، اقتداء برسول الله ‘ فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام، وتهجره الواحدة منهن يوماً إلى الليل فعَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رضي الله عنه - (( وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ ، فَصَخِبْتُ عَلَى امْرَأَتِى فَرَاجَعَتْنِى فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِى قَالَتْ وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِىِّ ‘ لَيُرَاجِعْنَهُ ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ . فَأَفْزَعَنِى ذَلِكَ وَقُلْتُ لَهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ . ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَىَّ ثِيَابِى فَنَزَلْتُ فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا أَىْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِىَّ ‘ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ قَالَتْ نَعَمْ . فَقُلْتُ قَدْ خِبْتِ وَخَسِرْتِ ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ ‘ فَتَهْلِكِى لاَ تَسْتَكْثِرِى النَّبِىَّ ‘ وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِى شَىْءٍ ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ ، وَسَلِينِى مَا بَدَا لَكِ ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ أَوْضَأَ مِنْكِ ، وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِىِّ ‘ يُرِيدُ عَائِشَةَ ~ (1) )).
__________
(1) متفق عليه.(1/113)
2- أن يزيد على احتمال الأذى بالمداعبة والمزح والملاعبة؛ فهي التي تطيب قلوب النساء، وقد كان رسول الله ‘ يمزح معهن وينزل إلى درجات عقولهن في الأعمال والأخلاق، فعَنْ عَائِشَةَ ~ قَالَتْ خَرَجْتُ مَعَ النَّبِىِّ ‘ فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ وَأَنَا جَارِيَةٌ لَمْ أَحْمِلِ اللَّحْمَ وَلَمْ أَبْدُنْ فَقَالَ لِلنَّاسِ « تَقَدَّمُوا ». فَتَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ لِى « تَعَالَىْ حَتَّى أُسَابِقَكِ ». فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقْتُهُ فَسَكَتَ عَنِّى حَتَّى إِذَا حَمَلْتُ اللَّحْمَ وَبَدُنْتُ وَنَسِيتُ خَرَجْتُ مَعَهُ فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ فَقَالَ لِلنَّاسِ « تَقَدَّمُوا ». فَتَقَدَّمُوا ثُمَّ قَالَ « تَعَالَىْ حَتَّى أُسَابِقَكِ ». فَسَابَقْتُهُ فَسَبَقَنِى فَجَعَلَ يَضْحَكُ وَهُوَ يَقُولُ « هَذِهِ بِتِلْكَ(1) »(2))).
__________
(1) رواه أحمد وقال الشيخ شعيب الأرنؤوط : إسناده جيد رجاله ثقات رجال الشيخين غير عمر بن أبي حفص المعيطي ،و أبو داود وصححه الألباني.
(2) الغزالي ’ إحياء علوم الدين - (ج 1 / ص 395،396).(1/114)
- رابطة الولد فلم في القرآن الكريم وصية بالأولاد إلا في آية واحدة وهي قوله - سبحانه وتعالى - { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ }(النساء: من الآية11) ،لأنها محبة ورحمة فطرية ربانية من الأبوين على أولادهم(1)، ولكن للأولاد حقوق في الرحمة لابد من إقامتها(2) ، حتى تملأ قلوبهم بها صغارًا ، فتفيض علي الأبوين كبارًا فقد قال - عز وجل - { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)}[الإسراء/23-25] ( بهذه العبارات الندية ، والصور الموحية ، يستجيش القرآن الكريم وجدان البر والرحمة في قلوب الأبناء .
__________
(1) هذا ليس مقتصرًا علينا بنى آدم بل والحيوان فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘: (( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَجَعَلَ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ رَحْمَةً فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا وَالْوَحْشُ وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ ... الحديث)).
(2) أنظر النماذج النبوية في رحمته ‘ بالأطفال من هذا الكتاب ، ومن أراد المزيد فعليه بالكتب المتخصصة مثل : تربية الأولاد في الإسلام - الشيخ عبد الله ناصح علوان ، التربية النبوية للطفل المسلم - نور سويد ، فقه تربية الأولاد -الشيخ مصطفى العدوى ، اللمسة الإنسانية - د محمد بدري ، مسئولية الأب المسلم - د عدنان باحارث وغيرها .(1/115)
ذلك أن الحياة وهي مندفعة في طريقها بالأحياء ، توجه اهتمامهم القوي إلى الأمام . إلى الذرية . إلى الناشئة الجديدة . إلى الجيل المقبل . وقلما توجه اهتمامهم إلى الوراء . إلى الأبوة . إلى الحياة المولية . إلى الجيل الذاهب! ومن ثم تحتاج البنوة إلى استجاشة وجدانها بقوة لتنعطف إلى الخلف ، وتتلفت إلى الآباء والأمهات .
إن الوالدين يندفعان بالفطرة إلى رعاية الأولاد . إلى التضحية بكل شيء حتى بالذات . وكما تمتص النابتة الخضراء كل غذاء في الحبة فإذا هي فتات ، ويمتص الفرخ كل غذاء في البيضة فإذا هي قشر؛ كذلك يمتص الأولاد كل رحيق وكل عافية وكل جهد وكل اهتمام من الوالدين فإذا هما شيخوخة فانية إن أمهلهما الأجل وهما مع ذلك سعيدان!
فأما الأولاد فسرعان ما ينسون هذا كله ، ويندفعون بدورهم إلى الأمام . إلى الزوجات والذرية . . وهكذا تندفع الحياة .
ومن ثم لا يحتاج الآباء إلى توصية بالأبناء . إنما يحتاج هؤلاء إلى استجاشة وجدانهم بقوة ليذكروا واجب الجيل الذي أنفق رحيقة كله حتى أدركه الجفاف!
وهنا يجيء الأمر بالإحسان إلى الوالدين في صورة قضاء من الله يحمل معنى الأمر المؤكد ، بعد الأمر المؤكد بعبادة الله .
ثم يأخذ السياق في تظليل الجو كله بأرق الظلال؛ وفي استجاشة الوجدان بذكريات الطفولة ومشاعر الحب والعطف والحنان :
{(1/116)
إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما } . . والكبر له جلاله ، وضعف الكبر له إيحاؤه؛ وكلمة { عندك } تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف . . { فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما } وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والأدب ألا يند من الولد ما يدل على الضجر والضيق ، وما يشي بالإهانة وسوء الأدب . . { وقل لهما قولاً كريماً } وهي مرتبة أعلى إيجابية أن يكون كلامه لهما بشيء بالإكرام والاحترام . . { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } وهنا يشف التعبير ويلطف ، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان . فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عيناً ، ولا يرفض أمراً . وكأنما للذل جناح يخفضه إيذاناً بالسلام والاستسلام . { وقل : رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } فهي الذكرى الحانية . ذكرى الطفولة الضعيفة يرعاها الولدان ، وهما اليوم في مثلها من الضعف والحاجة إلى الرعاية والحنان . وهو التوجه إلى الله أن يرحمهما فرحمة الله أوسع ، ورعاية الله أشمل ، وجناب الله أرحب . وهو أقدر على جزائهما بما بذلا من دمهما وقلبهما مما لا يقدر على جزائه الأبناء .
قال الحافظ أبو بكر البزار بإسناده عن بريدة عن أبيه : « أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها فسأل النبي ‘ هل أديت حقها؟ قال : لا . ولا بزفرة واحدة (1)» .
__________
(1) بل صح عن ابن عمر _ مثل ذلك سعيد بن أبى بردة قال سمعت أبى يحدث : (( أنه شهد ابن عمر _رجلا يمانيا يطوف بالبيت حمل أمه وراء ظهره يقول إني لها بعيرها المذلل إن أذعرت ركابها لم أذعر ثم قال يا بن عمر أترانى جزيتها قال لا ولا بزفرة واحدة ثم طاف بن عمر فأتى المقام فصلى ركعتين ثم قال يا بن أبى موسى إن كل ركعتين تكفران ما أمامهما)) ( الأدب المفرد [ جزء 1 - صفحة 18 ] قال الشيخ الألباني : صحيح ).(1/117)
ولأن الانفعالات والحركات موصولة بالعقيدة في السياق ، فإنه يعقب على ذلك برجع الأمر كله لله الذي يعلم النوايا ، ويعلم ما وراء الأقوال والأفعال :
{ ربكم أعلم بما في نفوسكم ، إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا } .
وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والآداب ليرجع إليه كل قول وكل فعل؛ وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطئ أو يقصر ، ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير .
وما دام القلب صالحاً ، فإن باب المغفرة مفتوح . والأوابون هم الذين كلما أخطأوا عادوا إلى ربهم مستغفرين .(1)))
- فعن هشام بن عروة، عن أبيه، في قوله تعالى: (وَاَخفِض لَهُما جَناحَ الذُلِّ مِنَ الرَحمَةِ). قال: لا تمتنع من شيء أحباه.
وعن أبي غسان الضبي أنه خرج يمشي بظهر الحرة وأبوه يمشي خلفه، فلحقه أبو هريرة _ فقال: من هذا الذي يمشي خلفك؟ قلت: أبي قال: (أخطأت الحق ولم توافق السنة، لا تمش بين يدي أبيك، ولكن أمشي خلفه أو عن يمينه، ولا تدع أحداً يقطع بينك وبينه، ولا تأخذ عرقاً (أي: لحماً مختلطاً بعظم) نظر إليه أبوك، فلعله قد اشتهاه، ولا تحد النظر إلى أبيك، ولا تقعد حتى يقعد، ولا تنم حتى ينام).
وعن أبي هريرة _ أنه أبصر رجلين، فقال لأحدهما: هذا منك؟ قال: أبي قال: (لا تسمه باسمه، ولا تمشي أمامه، ولا تجلس قبله)(2).
وعن الحسن أنه سئل عن بر الوالدين فقال: (أن تبذل لهما ما ملكت، وتطيعهما ما لم يكن معصية).
وعن عمر _، قال: (إبكاء الوالدين من العقوق).
وعن سلام بن مسكين، قال: سألت الحسن، قلت: الرجل يأمر والديه بالمعروف وينهاهما عن المنكر؟ قال: (إن قبلا، وإن كرها فدعهما).
__________
(1) في ظلال القرآن - (ج 5 / صـ17:15)
(2) ابن الجوزي (بر الوالدين - ص 2).(1/118)
وعن العوام، قال: قلت لمجاهد: ينادي المنادي بالصلاة، ويناديني رسول أبي. قال: (أجب أباك) وعن ابن المنكدر، قال: (إذا دعاك أبوك وأنت تصلي فأجب)(1).
مع إخوانه وفى مجتمعه.
(والمؤمن يعتقد أنه دائماً فقير إلى رحمة الله تعالى، فبهذه الرحمة الإلهية يعيش في الدنيا ويفوز في الآخرة. ولكنه يوقن أن رحمة الله لا تنال إلا برحمة الناس "إنما يرحم الله من عباده الرحماء"، "ومن لا يَرحم لا يُرحم"، "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
ورحمة المؤمن لا تقتصر على إخوانه المؤمنين -وإن كان دافع الإيمان المشترك يجعلهم أولى الناس بها- وإنما هو ينبوع يفيض بالرحمة على الناس جميعاً. وقد قال رسول الإسلام لأصحابه: "لن تؤمنوا حتى ترحموا. قالوا: يا رسول الله، كلنا رحيم. قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه ولكنها رحمة العامة". (رواه الطبراني وهو عند الألباني في الصحيحة ،وقد سبق تخريجه). ومن صفات المؤمنين في القرآن { ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} (البلد:17) (2)).
(وخص بالذكر من أوصاف المؤمنين تواصيهم بالصبر وتواصيهم بالمرحمة لأن ذلك أشرف صفاتهم بعد الإِيمان ، فإن الصبر ملاك الأعمال الصالحة كلها لأنها لا تخلو من كبح الشّهوة النفسانية وذلك من الصبر .
والمرحمة ملاك صلاح الجامعة الإسلامية قال تعالى : { رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ }[ الفتح : 29 ] .
والتواصي بالرحمة فضيلة عظيمة ، وهو أيضاً كناية عن اتصافهم بالمرحمة لأن من يوصي بالمرحمة هو الذي عَرَف قدرَها وفضلها ، فهو يفعلها قبل أن يُوصي بها ، كما تقدم في قوله تعالى : {وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [ الفجر : 18 ] .
__________
(1) ابن الجوزي (بر الوالدين - ص 3)، وقد سبق شيئ من ذلك فى أحوال السلف.
(2) الإيمان والحياة(1/119)
وفيه تعريض بأن أهل الشرك ليسوا من أهل الصبر ولا من أهل المرحمة (1)).
إنه الإحساس بمسئولية الرحمة ليس فى خاصته بل فى مجتمعه فإن ( التواصي بالمرحمة . فهو أمر زائد على الرحمة . إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتخاذه واجباً جماعياً فردياً في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع .
فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه . وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه أحاديث رسول الله ‘ لأهميته في تحقيق هذا الدين . فهو دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحاً كاملاً (2) ).
من آثار الرحمة في المجتمع الإسلامي
الرحمة واجبة ... والرحمة المستحبة
و اعلم ( أنك تُوصف بأنك راحم ، بأن ترحم مرة أو مرتين ، وبأنك رحيم إلا بالمبالغة وتكرار الفعل ، والخطاب الوارد عليك بأن تتصف بهذا منه واجب عليك ، وذلك فى إنقاذ الغرقى والهلكى وسد الخلة المتعينة ، ورد الرمق ، وأشباه ذلك ، ومنه ما هو ندب وراء الواجب وصوره كثيرة ، ومنه خطاب الإيثار وهم الذين أثنى الله عليهم ، فقال وقوله الحق { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ }(الحشر: من الآية9) )
(فارحم الجاهل بعلمك ، والذليل بجاهك ، والفقير بمالك ، والكبير والصغير بشفقتك ، ورأفتك ، والعصاة بدعوتك ، والبهائم برعوتك ، ورفع عنقك .
__________
(1) العلامة ابن عاشور التحرير والتنوير - (ج 16 / ص 277)
(2) في ظلال القرآن - (ج 8 / ص 45)(1/120)
واعلم أن ( أقرب الناس من رحمة الله أرحمهم بخلقه ، وقد دخلت البغى الجنة بسقيها كلبًا، فمن كثرت منه الشفقة على خلقه والرحمة على عباده ، رحمه الله برحمته وأدخله دار كرامته ، ووقاه عذاب قبره ، وهول موقفه ، وأظله بظله ،إذ كل ذلك من رحمته ولا تُدِلّ بعملك وكثرته،وإخلاصك فيه فتتكل عليه دون رحمته (1))
فمن أثر هذه الرحمة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
فينبغي على العبد (أن يرحم عباد الله الغافلين فيصرفهم عن طريق الغفلة إلى الله - عز وجل - بالوعظ والنصح بطريق اللطف دون العنف وأن ينظر إلى العصاة بعين الرحمة لا بعين الإزراء وأن يكون كل معصية تجري في العالم كمصيبة له في نفسه فلا يألو جهدا في إزالتها بقدر وسعه رحمة لذلك العاصي أن يتعرض لسخط الله ويستحق البعد من جواره(2)) ولكن (اعلم أنَّ الأمرَ بالمعروف والنَّهيَ عن المنكرِ تارةً يحمِلُ عليه رجاءُ ثوابه ، وتارةً خوفُ العقابِ في تركه ، وتارةً الغضب لله على انتهاك محارمه ، وتارةً النصيحةُ للمؤمنين ، والرَّحمةُ لهم ، ورجاء إنقاذهم ممَّا أوقعوا أنفسهم فيه من التعرُّض لغضب الله وعقوبته في الدُّنيا والآخرة ، وتارةً يحملُ عليه إجلالُ الله وإعظامُه ومحبَّتُه ، وأنَّه أهلٌ أنْ يُطاعَ فلا يُعصى ، ويُذكَرَ فلا يُنسى ، ويُشكر فلا يُكفر ، وأنْ يُفتدى من انتهاك محارمه بالنفوس والأموال .
وكما قال بعضُ السَّلف : وددت أنَّ الخلقَ كلَّهم أطاعوا الله ، وإنَّ لحمي قُرِض بالمقاريض .
وكان عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز - رحمهما الله - يقول لأبيه : وددتُ أنِّي غلت بيَ وبكَ القدورُ في الله - عز وجل - .
__________
(1) القرطبي الأسنى(جـ1صـ 87 ،91).
(2) الغزالي المقصد الأسنى(1/121)
ومن لَحَظَ هذا المقامَ والذي قبله ، هان عليه كلُّ ما يلقى من الأذى في الله تعالى ، وربما دعا لمن آذاه ، كما قال ذلك النَّبيُّ ‘ لمّا ضربه قومُه فجعل يمسَحُ الدَّمَ عن وجهه ، ويقول : (( ربّ اغفر لقومي فإنَّهم لا يعلمون ))) .
وبكلِّ حالٍ يتعين الرفقُ في الإنكار ، قال سفيان الثوري : لا يأمرُ بالمعروف ويَنهى عن المنكرِ إلاّ من كان فيه خصالٌ ثلاثٌ : رفيقٌ بما يأمرُ ، رفيقٌ بما ينهى ، عدلٌ بما يأمر ، عدلٌ بما ينهى ، عالمٌ بما يأمر ، عالم بما ينهى .
وقال أحمد : النّاسُ محتاجون إلى مداراة ورفق الأمر بالمعروف بلا غِلظةٍ إلا رجل معلن بالفسق ، فلا حُرمَةَ له ، قال : وكان أصحابُ ابن مسعود إذا مرُّوا بقومٍ يرون منهم ما يكرهونَ ، يقولون : مهلاً رحمكم الله ، مهلاً رحمكم الله .
وقال أحمد : يأمر بالرِّفقِ والخضوع ، فإن أسمعوه ما يكره ، لا يغضب ، فيكون يريدُ ينتصرُ لنفسه (1)).
الرحمة بالبذل والإنفاق :
ومن رحمته (أن لا يدع فاقة لمحتاج إلا يسدها بقدر طاقته ولا يترك فقيرا في جواره وبلده إلا ويقوم بتعهده ودفع فقره إما بماله أو جاهه أو السعي في حقه بالشفاعة إلى غيره فإن عجز عن جميع ذلك فيعينه بالدعاء وإظهار الحزن بسبب حاجته رقة عليه وعطفا حتى كأنه مساهم له في ضره وحاجته بسؤاله وجوابه(2))،هذا على المستوى الفردي فما بالك لما يتسم مجتمع بمثل هذا الخلق ، فإنه قدم حضارة في أعلى نماذج التراحم على المستوى العام فـ( برز أثر ذلك الخلق العظيم في العلاقات الاجتماعية الداخلية - فرأينا المجتمع المسلم تسوده عواطف كريمة، ومشاعر نبيلة، كلها تفيض بالرفق والمرحمة، وتتدفق بالبر والخير، وتجلت هذه المشاعر والعواطف فيما عُرف بنظام "الوقف الخيري" عند المسلمين.
__________
(1) ابن رجب الحنبلي- جامع العلوم والحكم
(2) الغزالي المقصد الأسنى.(1/122)
فقد مضى المواسون من المؤمنين -بدافع الرحمة التي قذفها الإيمان في قلوبهم، والرغبة في مثوبة الله لهم، وألا ينقطع عملهم بعد موتهم- يقفون أموالهم كلها أو بعضها على إطعام الجائع، وسقاية الظمآن، وكسوة العريان، وإيواء الغريب، وعلاج المريض، وتعليم الجاهل، ودفن الميت، وكفالة اليتيم، وإعانة المحروم، وعلى كل غرض إنساني شريف، بل لقد أشركوا في برِّهم الحيوان مع الإنسان.
ولقد تأخذ أحدنا الدهشة وهو يستعرض حجج الواقفين ليرى القوم في نبل نفوسهم، ويقظة ضمائرهم، وعلو إنسانيتهم، بل سلطان دينهم عليهم، وهم يتخيرون الأغراض الشريفة التي يقفون لها أموالهم، ويرجون أن تنفق في سبيل تحقيقها هذه الأموال.
وربما استشرفت النفوس إلى أمثلة من هذا البر يعين ذكرها على تفصيل هذا الإجمال. فإلى هذه النفوس المستشرفة أسوق هذه الأمثلة:
وقف الزبادى
وقف تشترى منه صحاف الخزف الصيني، فكل خادم كُسرت آنيته، وتعرض لغضب مخدومه، له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور، ويأخذ إناء صحيحاً بدلاً منه، وبهذا ينجو من غضب مخدومه عليه.
وقف الكلاب الضالة
وقف في عدة جهات ينفق من ريعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب استنقاذاً لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.
وقف الأعراس
وقف لإعارة الحلي والزينة في الأعراس والأفراح، يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم، ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه وبهذا يتيسر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحلة لائقة ولعروسه أن تجلى في حلة رائقة، حتى يكتمل الشعور بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة.
وقف الغاضبات
وقف يؤسس من ريعه بيت. ويعد فيه الطعام والشراب، وما يحتاج إليه الساكنون، تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور، وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من الجفاء وتصفو النفوس، فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
وقف مؤنس المرضى والغرباء(1/123)
وقف ينفق منه على عدة مؤذنين، من كل رخيم الصوت حسن الأداء، فيرتلون القصائد الدينية طول الليل، بحيث يرتل كل منهم ساعة، حتى مطلع الفجر، سعياً وراء التخفيف عن المريض الذي ليس له من يخفف عنه، وإيناس الغريب الذي ليس له من يؤنسه .
وقف خداع المريض
وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات، وهي تكليف اثنين من الممرضين أن يقفا قريباً من المريض، بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيرد عليه الآخر: إن الطبيب يقول: أنه لا بأس فهو مرجو البرء، ولا يوجد في علته ما يشغل البال وربما نهض من فراش مرضه بعديومين أو ثلاثة أيام.
وهكذا سلك الواقفون كل مسالك الخير، فلم يدعوا جانباً من جوانب الحياة دون أن يكون للخير نصيب فيه.
وبهذا إنما يصدرون عن احساسات إنسانية عميقة، تنفذ إلى موطن الحاجة التي تعرض للناس في كل زمان ومكان.
ولا شك أن العقيدة هي صاحبة الفضل في خلق هذه الأحاسيس الرقيقة، وإيقاظ تلك المشاعر السامية التي تنبهت لتلك الدقائق، في كل زاوية من زوايا المجتمع وكل منحى من مناحي الحياة، ولم يكفهم أن يكون برّهم مقصوراً على حياتهم القصيرة، فأرادوا صدقة جارية، وحسنة دائمة، يكتب لهم أجرها ما بقيت الحياة وبقي الإنسان(1) .).
عَنْ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ _ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘ « تَرَى الْمُؤْمِنِينَ فِى تَرَاحُمِهِمْ وَتَوَادِّهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى عُضْوًا تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ جَسَدِهِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى(2) » وقوله ‘« الْمُسْلِمُونَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ إِنِ اشْتَكَى عَيْنُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ وَإِنِ اشْتَكَى رَأْسُهُ اشْتَكَى كُلُّهُ ».
__________
(1) الإيمان والحياة
(2) متفق عليه(1/124)
قَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : الَّذِي يَظْهَر أَنَّ التَّرَاحُم وَالتَّوَادُد وَالتَّعَاطُف وَإِنْ كَانَتْ مُتَقَارِبَة فِي الْمَعْنَى لَكِنْ بَيْنَهَا فَرْق لَطِيف ، فَأَمَّا التَّرَاحُم فَالْمُرَاد بِهِ أَنْ يَرْحَم بَعْضهمْ بَعْضًا بِأُخُوَّةِ الْإِيمَان لَا بِسَبَبِ شَيْء آخَر ، وَأَمَّا التَّوَادُد فَالْمُرَاد بِهِ التَّوَاصُل الْجَالِب الْمَحَبَّة كَالتَّزَاوُرِ وَالتَّهَادِي ، وَأَمَّا التَّعَاطُف فَالْمُرَاد بِهِ إِعَانَة بَعْضهمْ بَعْضًا كَمَا يَعْطِف الثَّوْب عَلَيْهِ لِيُقَوِّيَهُ ا.هـ مُلَخَّصًا . وَوَقَعَ فِي رِوَايَة الْأَعْمَش عَنْ الشَّعْبِيّ وَخَيْثَمَة فَرْقهمَا عَنْ النُّعْمَان عِنْدَ مُسْلِم " الْمُؤْمِنُونَ كَرَجُلٍ وَاحِد إِذَا اِشْتَكَى رَأْسه تَدَاعَى لَهُ سَائِر الْجَسَد بِالْحُمَّى وَالسَّهَر " وَفِي رِوَايَة خَيْثَمَةَ اِشْتَكَى وَإِنْ اِشْتَكَى رَأْسه كُلّه .
قَوْله : ( كَمَثَلِ الْجَسَد )
أَيْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى جَمِيع أَعْضَائِهِ ، وَوَجْه التَّشْبِيه فِيهِ التَّوَافُق فِي التَّعَب وَالرَّاحَة .
قَوْله : ( تَدَاعَى )
أَيْ دَعَا بَعْضه بَعْضًا إِلَى الْمُشَارَكَة فِي الْأَلَم ، وَمِنْهُ قَوْلهمْ تَدَاعَتْ الْحِيطَان أَيْ تَسَاقَطَتْ أَوْ كَادَتْ .
قَوْله : ( بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )
أَمَّا السَّهَر فَلِأَنَّ الْأَلَم يَمْنَع النَّوْم ، وَأَمَّا الْحُمَّى فَلِأَنَّ فَقْدَ النَّوْم يُثِيرهَا .(1/125)
وَقَدْ عَرَّفَ أَهْل الْحِذْق الْحُمَّى بِأَنَّهَا حَرَارَة غَرِيزِيَّة تَشْتَعِل فِي الْقَلْب فَتَشِبّ مِنْهُ فِي جَمِيع الْبَدَن فَتَشْتَعِل اِشْتِعَالًا يَضُرّ بِالْأَفْعَالِ الطَّبِيعِيَّة . قَالَ الْقَاضِي عِيَاض : فَتَشْبِيهه الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَسَدِ الْوَاحِد تَمْثِيل صَحِيح ، وَفِيهِ تَقْرِيب لِلْفَهْمِ وَإِظْهَار لِلْمَعَانِي فِي الصُّوَر الْمَرْئِيَّة ، وَفِيهِ تَعْظِيم حُقُوق الْمُسْلِمِينَ وَالْحَضّ عَلَى تَعَاوُنهمْ وَمُلَاطَفَة بَعْضهمْ بَعْضًا . وَقَالَ اِبْن أَبِي جَمْرَة : شَبَّهُ النَّبِيُّ ‘ الْإِيمَان بِالْجَسَدِ وَأَهْله بِالْأَعْضَاءِ ، لِأَنَّ الْإِيمَان أَصْل وَفُرُوعه التَّكَالِيف ، فَإِذَا أَخَلَّ الْمَرْء بِشَيْءٍ مِنْ التَّكَالِيف شَأْن ذَلِكَ الْإِخْلَال الْأَصْل ، وَكَذَلِكَ الْجَسَد أَصْل كَالشَّجَرَةِ وَأَعْضَاؤُهُ كَالْأَغْصَانِ ، فَإِذَا اِشْتَكَى عُضْو مِنْ الْأَعْضَاء اِشْتَكَتْ الْأَعْضَاء كُلّهَا كَالشَّجَرَةِ إِذَا ضُرِبَ غُصْن مِنْ أَغْصَانهَا اِهْتَزَّتْ الْأَغْصَان كُلّهَا بِالتَّحَرُّكِ وَالِاضْطِرَاب (1).
ونختم بهذا الحديث في فضل الرحمة والرحماء.
عن جرير بن عبد الله _ قال: قال رسول الله ‘: "من لا يرحم الناس: لا يرحمه الله " (2).
يقول العلامة الشيخ السعدي ’ (يدل هذا الحديث بمنطوقه على أن من لا يرحم الناس لا يرحمه الله ، وبمفهومه على أن من يرحم الناس يرحمه الله، كما قال ‘ في الحديث الآخر: "الراحمون يرحمهم الرحمن. ارحموا من في الأرض؛ يرحمكم من في السماء".
__________
(1) ابن حجر رحمه فتح الباري.
(2) متفق عليه(1/126)
فرحمة العبد للخلق من أكبر الأسباب التي تنال بها رحمة الله، التي من آثارها خيرات الدنيا، وخيرات الآخرة، وفقدها من أكبر القواطع والموانع لرحمة الله، والعبد في غاية الضرورة والافتقار إلى رحمة الله، لا يستغني عنها طرفة عين، وكل ما هو فيه من النعم واندفاع النقم، من رحمة الله.
فمتى أراد أن يستبقيها ويستزيد منها، فليعمل جميع الأسباب التي تنال بها رحمته، وتجتمع كلها في قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف:56], وهم المحسنون في عبادة الله، المحسنون إلى عباد الله. والإحسان إلى الخلق أثر من آثار رحمة العبد بهم.
والرحمة التي يتصف بها العبد نوعان:
النوع الأول: رحمة غريزية، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من نفعهم،
بحسب استطاعتهم. فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم.
والنوع الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أجلِّ مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك. ويعلم أن الجزاء من جنس العمل. ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخواناً متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك: من البغضاء، والعداوات، والتدابر.
فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة، والحنان على الخلق. ويا حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل.(1/127)
وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم.
وعلامة الرحمة الموجودة في قلب العبد: أن يكون محباً لوصول الخير لكافة الخلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم. فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته.
ومن أصيب حبيبه بموت أو غيره من المصائب، فإن كان حزنه عليه لرحمة، فهو محمود، ولا ينافي الصبر والرضى؛ لأنه ‘ لما بكى لموت ولد ابنته، قال له سعد: "ما هذا يا رسول الله؟" فأتبع ذلك بعبرة أخرى، وقال: "هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء وقال عند موت ابنه إبراهيم: "القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وكذلك رحمة الأطفال الصغار والرقة عليهم، وإدخال السرور عليهم من الرحمة، وأما عدم المبالاة بهم، وعدم الرقة عليهم، فمن الجفاء والغلظة والقسوة، كما قال بعض جُفاة الأعراب حين رأى النبي ‘ وأصحابه يقبلون أولادهم الصغار، فقال ذلك الأعرابي: إنّ لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي ‘ : "أو أملك لك شيئاً أن نزع الله من قلبك الرحمة؟".
ومن الرحمة: رحمة المرأة البغي حين سقت الكلب، الذي كان يأكل الثرى من العطش. فغفر الله لها بسبب تلك الرحمة.
وضدها: تعذيب المرأة التي ربطت الهرة ، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت.(1/128)
ومن ذلك ما هو مشاهد مجرب، أن من أحسن إلى بهائمه بالإطعام والسقي والملاحظة النافعة، أن الله يبارك له فيها. ومن أساء إليها: عوقب في الدنيا قبل الآخرة، وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32], وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر، وما في قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة؛ إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها.
فنسأل الله أن يجعل في قلوبنا رحمة توجب لنا سلوك كل باب من أبواب رحمة الله، ونحنوا بها على جميع خلق الله، وأن يجعلها موصلة لنا إلى رحمته وكرامته، إنه جواد كريم (1)).
(هـ)أثر الرحمة في حياة المسلم
إن الإيمان برحمة الله - عز وجل - في القلب ، والعمل بها في الخلق فوائد جليلة :
ونتناولها في أمرين :
1) الفوائد والآثار العقدية . 2) الرحمة و الصحة .
1) الفوائد والآثار العقدية .
إن إيمان المسلم برحمة الله - عز وجل - تملأ قلبه يقينًا في موعود الله - عز وجل - ، فهو يرى آثار الرحمة بادية في صفحة الكون ، ويشاهد آثارها تترى عليه ،ويتلمسها في شرع الله المحيط بحياة من رعاية وكلأة لمصالحه ، لو قام أبوها له بها لكلا ، ولأصابهما الضجر والملل ،وسبحان من جعل الكون كله في خدمة بنى آدم بلا ضجر ولا سئم وملل.
__________
(1) الشيخ السعدي - (بهجة قلوب الأبرار - حديث رقم 82 - فضل الرحمة والرحماء )(1/129)
فإذا زاد بالله علمًا بأسمائه وصفاته ، علم أن ربه - عز وجل - الرحيم لا يضيع عنده عمل ، ولا ينقطع عنه أمل ، فيصل بحبائل الرحمة ما انقطع من وسائل التوبة إذا يناديه مولاه بقوله { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر:53)، فتتجدد برحمته آماله ولا ينقطع في فيافي الآثام حاله ، ويحذر تسرب اليأس إلى قلبه حتى وإن انقطعت الأسباب ، وادلهمت ظلمة الليل وغابت عنه نجوم وطال السبات، وأحاطت به خطاياه وبلغ به الأسى مناه فإنه لا يقنط { وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} (الحجر:56) ، بل يحسن الظن بربه ويرجو رحمته ألم يقل - عز وجل - في الحديث القدسي (( أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي (1))) .
__________
(1) متفق عليه.(1/130)
فالإيمان بهذين الاسمين يعين المسلم على القيام بعبودية الله - عز وجل - الرجاء في الله - عز وجل - مبني على المعرفة بسعة رحمة الله - سبحانه وتعالى - : ( فقوة الرجاء على حسب قوة المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وغلبة رحمته غضبه)(1). قال - صلى الله عليه وسلم - مخبرا عن سعة رحمة الله - عز وجل - : (جَعَلَ اللَّهُ الرَّحْمَةَ مِائَةَ جُزْءٍ فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ جُزْءًا وَأَنْزَلَ فِي الْأَرْضِ جُزْءًا وَاحِدًا فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ يَتَرَاحَمُ الْخَلْقُ حَتَّى تَرْفَعَ الْفَرَسُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ)(2) فنشره - سبحانه وتعالى - رحمته على العباد مع كثرة ذنوبهم وعظائم جرمهم ؛ يخلصهم من غمرة الجزع ، ويفتح لهم أبواب الرجاء والطمع(3).ولو رفع الله رحمته عنهم لضاقت بهم الحياة ولتمادوا في الباطل .
فالرجاء هو عبودية لله بأسمائه وصفاته ، إذ معرفته بها توجب له الرجاء في مولاه من حيث يدري ومن حيث لا يدري(4).
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم ( 2 / 42 ) .
(2) أخرجه البخاري في صحيحه ، كتاب الأدب ، باب جعل الله الرحمة مائة جزء ص1163 ، وأخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب التوبة ، باب سعة رحمة الله تعالى وأنها سبقت غضبه ص1101 .
(3) انظر أسرار المعاني لمحمود حسن ص 37 .
(4) انظر مدارج السالكين لابن القيم ( 2 / 42 ) .(1/131)
إن رجاء الله ورجاء رحمته ورضاه أمر لازم للعبد كي يحقق عبوديته لمولاه - عز وجل - ، فإنه لا يخلو من (ذنب يرجو مغفرته ، وعيب يرجو إصلاحه ، وعمل صالح يرجو قبوله ، واستقامة يرجو حصولها ودوامها ، وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها)(1) ، والرجاء يشحذ همة العبد للعمل فيما يقربه مما يرجوه ، ويحقق له ما يؤمله ، وينيله ما يطلبه ، فهو باعث قوي للنفس على تحقيق العبودية لله رب العالمين وآثاره على القلب واللسان والجوارح كثيرة ، وتفصيل هذا يظهر في الأمثلة التالية :
أولا : أثر الرجاء في تحقيق عبودية القلب :
الرجاء حاد ٍيحدو القلب لتحقيق العبودية ويدفعه إلى ملازمتها والنصح فيها ، وفيما يلي بعض أمثلة تبين أثر الرجاء في تحقيق أنواع من العبادات القلبية :
أ . أثر الرجاء في تحقيق المحبة :
... الراجي معلق أمله بحصول ما يحبه من قبول ربه لتوبته ، ورضاه عنه ، وغير ذلك المحبوبات ، و( كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبا لله تعالى )(2) وكلما ازداد حبا ازداد رجاء وطمعا في فضل أكثر وعطاء أوسع من ربه الكريم الودود ، فالحب والرجاء بينهما تلازم كبير و( كل واحد منهما يمد الآخر ويقويه )(3).
ب . أثر الرجاء في تحقيق الخوف :
لا يتحقق الرجاء إلا مع الخوف كما أن الخوف لا يتحقق إلا مع الرجاء (فهما متلازمان لأن الرجاء بلا خوف أمن على الحقيقة ، والخوف بلا رجاء قنوط في الحقيقة ويأس من رحمة الله )(4).
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم ( 2 / 43 ) .
(2) المرجع السابق ( 2 / 50 ) .
(3) المرجع السابق ( 2 / 51 ) .
(4) حدائق الحقائق للرازي ص46 .(1/132)
و الرجاء محمود لأنه باعث ، واليأس مذموم -وهو ضده لأنه صارف- عن العمل ، فالخوف ليس بضد للرجاء بل هو باعث آخر بطريق الرهبة كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة ، وكل من رغب في شيء خاف فواته (فكل راج خائف ، وكل خائف راج )(1).
وهكذا فرجاء العبد في ثواب الله ، والنظر إلى وجهه الكريم يدفعه للسعي في الطريق الموصل لذلك ، مع خوف من التقصير أو الرد الذي يفوّت عليه المحبوب .
جـ . أثر الرجاء في تحقيق الشكر لله - عز وجل - :
إن في الرجاء من الانتظار والأمل لفضل الله ما يوجب فرح العبد الشديد بحصول علامات تدل على قرب ما يرجوه ؛ فيشكر ربه - عز وجل - على فضله ورحمته ونعمائه ، وكلما ( حصل له مرجوه كان أدعى لشكره )(2)وامتنانه . وإذا علم أن ربه الحيي ، الكريم ، المجيب لن يرده خائبا وإن لم يعطه سؤله ذاته ، فرح بما يستشعره من إجابة ربه فيلهج لسانه بحمده ، ويسارع لمرضاته شكرا له (3). وهكذا يكون رجاءه سبب في تعبده لله بالشكر عملا وقولا.
د . أثر الرجاء في تحقيق حسن الظن بالله - سبحانه وتعالى - :
حسن الظن واجب من واجبات التوحيد ، مبنى على العلم برحمة الله وإحسانه وعزته وحكمته وكافة أسمائه وصفاته(4)، وقد ذم الله من أساء الظن به فقال : { يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله } (5)، والراجي لربه - عز وجل - ظنه فيه أنه وحده إلهه الذي يملك أمر نفعه وضره ، وحده يعلم حاجته ، ويدفع ضرورته ، وحده يسمع نجواه ويجيب دعاه ؛ فظنه فيه أنه عليم رحيم حليم غفور ودود شكور قريب مجيب ، فيعكف قلبه على محبته ويظل يدعوه ليحصل له ما يرجوه ، واثق بكرمه ، محسن الظن فيه .
__________
(1) مدارج السالكين لابن القيم ( 2 / 51 ) .
(2) . المرجع السابق ( 2 / 50 ) .
(3) . راجع الفرق بين الإجابة والإعطاء ص202 .
(4) انظر تيسير العزيز الحميد لآل الشيخ ص508 .
(5) آل عمران : 154 .(1/133)
وكذلك فللرجاء أثر كبير في تحقيق التوبة والإنابة وغيرها من أعمال القلوب ، فما ذكر من أثره على هذه الأنواع إنما هو على سبيل التمثيل لا الحصر .
ثانيا : أثر الرجاء في تحقيق عبودية اللسان :
إن الطمع والأمل في الله الناتج من الرجاء ؛ يوجب للعبد ملازمة الاستغفار ليتطهر مما يحول بينه وبين لقاءه .
كذلك فالراجي دائم الطلب لما يرجوه ممن يرجوه ، وهذا يدفعه للإلحاح في الدعاء بأن يحقق الله مبتغاه ويمن عليه برضاه ( إذ الدعاء طلب ولا طلب إلا بعد الرجاء)(1). وكلما قوي طمع العبد في ربه ورجاؤه له أقبل عليه أكثر وانصرف عن الطلب من غيره(2) .
ودعاء المسألة ودعاء الثناء من العبادات القولية العظيمة التي يحققها رجاء الله - سبحانه وتعالى - ؛ فالداعي يعلم علم ربه الذي يدعوه بحاله وحاجته ، وسماعه لندائه واستغاثته ، ويعرف أنه - جل جلاله - قريب منه يجيب دعوته ، ويغفر زلته ، ويعطيه على جهده القليل الأجر الوافر الجزيل ،كما في الحديث القدسي : ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه إذا دعاني)(3)، ولذا فإنه يكثر التضرع والتذلل ، ويلح في دعائه بأسمائه وصفاته مستجيبا لدعوته في القرآن :{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا }(الأعراف: من الآية180)يحدوه رجاءه في ربه القريب المجيب .
__________
(1) المنهاج في شعب الإيمان للحليمي ( 1 / 527 ) .
(2) الفتاوى الكبرى لابن تيمية ( 2 / 381 ) .
(3) أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الذكر والدعاء ، باب فضل الذكر والدعاء والتقرب إلى الله تعالى ص1078 .(1/134)
وقد ضرب إمام العابدين وسيد المحققين محمد - صلى الله عليه وسلم - أروع الأمثلة في الثناء والدعاء(1) إذ كان رجاؤه في الله أعظم رجاء وأكمله، ومعرفته بالله أكمل معرفة ، والله ( سبحانه يحب من عباده أن يؤملوه ويرجوه ويسألوه من فضله ، لأن الملك الحق الجواد أجود من سئل وأوسع من أعطى ، وأحب ما إلى الجواد أن يرجى ويؤمل ويسأل )(2)إذ في الدعاء إظهار للحاجة والذل وهذا محض العبودية ، واعتراف لله بالملك والغنى وسائر صفاته ربوبيته وألوهيته - سبحانه وتعالى - .
ثالثا : أثر الرجاء في تحقيق عبودية سائر الجوارح :
من تأمل رحمته - سبحانه وتعالى - وواسع حلمه ورأفته ؛ انصرف بكليته إليه ، متعلقا به ، باذلا أسباب رضاه ، فالرجاء و( يورث طول المجاهدة بالأعمال ، والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال )(3) ، فلا يزال العبد متقربا إلى الله بما يرضيه ، متحملا (كل مكروه في القيام بحقه الذي ينال به ما وعد من جزيل ثوابه )(4) ، بل أنه إذا قوي رجاءه تلذذ بدوام الإقبال على الله والتنعم بمناجاته والتلطف في التملق له(5).
والقرآن مملوء من ذكر حاجة العباد إلى الله دون ما سواه ، ومن ذكر نعمائه عليهم ، ومن ذكر ما وعدهم في الآخرة من صنوف النعيم مما يبعث الرجاء في قلوبهم ويدفعهم إلى تجنب ما يسخطه وتتبع ما يرضيه ويكونون بهذا عبيده حقا وصدقا .
__________
(1) راجع كتاب فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء ، لمحمد الغزالي ؛ لتعيش مع ذلك القلب النابض بحب الله العامر برجاء الله - جل جلاله - .
(2) مدارج السالكين لابن القيم ( 2 / 50 ) .
(3) إحياء علوم الدين للغزالي (4 / 125 ) .
(4) الرعاية لحقوق الله للمحاسبي ص531 .
(5) انظر إحياء علوم الدين للغزالي( 4 / 125 ) .(1/135)
فالرجاء له أعظم الأثر في تحقيق عبودية سائر الجوارح وهذا ينطبق على جميع أنواع العبادة ؛ فالراجي صلاته أكثر خشوعا لقوة مطالعته لقرب ربه - عز وجل - منه ، وكذا حرصه على التهجد أكبر لرجائه في نيل محبوباته من قبول توبته أو دوام استقامته ونحو ذلك ، يريد اغتنام وقت النزول الإلهي في الثلث الأخير .
وفي الجملة فالراجي دائم التقرب لله - سبحانه وتعالى - إذ أن أعلى محبوباته لقاء ربه - جل جلاله - والتلذذ بالنظر لوجه الكريم ، الذي يعيش دنياه كلها آملا أن ينال ما يرجوه في الآخرة ، ويحظى بمقعد صدق عند مليك مقتدر (1))).
[2] الرحمة والصحة.
(1) الانفعالات والتأثير الهرموني.
(2) الرحمة والتأثير البيولوجي والنفسي.
( 1 ) الانفعالات والتأثير الهرموني
إذا نظرنا إلي معني الرحمة من حيث مكوناتها ، فهي عبارة عن مجموعة انفعالات وجدانية ذات عاطفة حانية ومتصلة لا تنقطع تجاه حدث ما شخص ما .
وهذا بدوره يقودنا إلى سؤال : ما الانفعالات ؟
إن الانفعالات بداخلنا أحياناًً تثبت ، وأحياناً كثيرة تتغير من يوم إلي يوم ، وأحياناً من ساعة إلي ساعة .
فما بين الشعور بالسعادة والشعور بالغم يمكن أن يكون لحظات لا نكاد نشعر بها ، بل هذا الكم من المشاعر المختلفة والمتضادة في الأحوال والظروف المتغيرة ، بل الأحوال والظروف الواحدة.
فالإنسان يشعر بالمشاعر المختلفة المتضادة ليس لجمع من الأشخاص بل ربما لشخص الواحد إذا تغير تصرفه فيتغير تباعاً له ردود الفعل ، من حب وتمدح إلى بغض ومقت .
بل عند هذه اللحظة يبدأ الإنسان بإحساس بضيق الصدر أو نوع من النفور بل قد يطرأ عليه بعض التغيرات و الأعراض المرضية كالإحساس بالاختناق ، أو الاضطراب وربما الإكتئاب والحزن والتوتر.
فيا ترى كيف يحدث هذا للإنسان ؟
__________
(1) من كتاب تحقيق العبودية بمعرفة الأسماء والصفات وهو رسالة ماجستير للدكتورة / فوز بنت عبد اللطيف الكردي صـ 220:20 بتصريف.(1/136)
من أين تأتيه هذه التغييرات المفاجئة؟
للإجابة على هذه التساؤلات وغيرها لابد أن المسئول الأول عن هذه التغيرات ، يجيب علماء الطب البيولوجي الذين يقولون: إن الانفعال الوجداني ذلك الأثر الذي يحدث داخل الكيان الإنساني نتيجة لعمليات كيمائية داخل مخ الإنسان ، المخ البشرى ذلك المعمل الكيميائي الحي الذي يعجب الإنسان لما يقف علي حقيقة عمله بل يطأطأ رأسه خضوعا وخشوعا لله رب العالمين الذي قال { وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} ( الذاريات:21).
المخ البشري ببساطة شديدة هو معمل حيوي في غاية الدقة والتعقيد ، مع كونه أشبه ما يكون بمادة لينة تشبه العجينة غير أنها مجعدة كثيرة التجاعيد غاية في التعقيد، هذا المعمل تجرى فيه ملايين من العمليات الكيميائية المتغيرة ، وهذه العمليات هى المسئولة عن انتاج المواد الحية ، الخاص بالخوف ،والسعادة ،و.....و....وغيرها.
وبشكل آخر نفول : إن المكونات الأساسية للمخ عبارة عن عدد ضخم من الخلايا العصبية ( حوالى 10 بليون خلية عصبية ) ، وهى تأخذ الشكل الهرمي ، بحيث أن الخلايا البسطة فى قاعدة الهرم ، والأكثر تعقيداً فى أعلى الهرم ، وهذه الخلايا العصبية الربانية ،ليس لها ( قطع غيار ) أى أنها لايمكن من إصلاحها إذا فسدت أو استبدالها إذا فقدت .
وهذا قادنا إلى هذه السلسة المتدرجة :
إلى
...
( أ ) ( ب ) ( جـ )
شكل رقم (1)
فإنه فى التوضيح نبدأ بالجزئية التى انتهينا إليها ( جـ ) :
فنبدأ بالتفاعلات الكيميائية :
وفى الحديث على التفاعلات الكيميائية الموجودة بجسم الإنسان نلقى الضوء على عدة نقاط :
1- إن الذى يسيطر على تلك التفاعلات الكيميائية مكونات صماء تسمى بالغدد ، وهى تتوزع بشكل رباني داخل جسم الإنسان بحيث تؤدى كل غدة الوظيفة الخاصة بها فى المكان الذى خصصه لها الخالق - عز وجل - .(1/137)
2- إن القائد الأعلى الذى يتولى إدارة الحكم المحلي فى الجسم كله ، والذي يعطى الأوامر لكل الغدد الصماء ، هذا القائد المسيطر عبارة عن غدة قطرها حوالي 10 ملليمترات ، ووزنها 1/2 جرام ، وتوجد فى مؤخرة الجمجمة وأسفل المخ ، وتسمى الغدة النخامية .
3- إن هناك مركبات كيميائية ( تفاعل + تفاعل ) ذات تأثير بيوكيميائي محدد فى الدم ، وتؤثر على كيان الجسم ، وهذه المركبات تسمى الهرمونات.
4- إن الخلية المكونة لجسم الإنسان عبارة السيتوبلازم والنواة ، والنواة الصغيرة التى بداخل ( بمركز ) الخلية عبارة عن شبكة من الجينات ، تحمل العوامل الوراثية وهى تمثل إمبراطور الخلية الذى يعطى الأوامر عن طريق شفرة كيميائية .
وبعد أن ألقينا الضوء على ما يتصل بالتفاعلات الكميائية والمركبات الكيميائية ( الهرمونات ) ، لا يفوتنا أن نوضح الإعجاز البيولوجي الذى يحفظ لنا على الحياة ، وذلك التوازن الحادث بين الهرمونات بداخلنا وتلك الهرمونات التى تفرزها الغدد الصماء داخل الجسم ، بحيث إن كل هرمون يحمل وظيفته وفائدته إلى الهرمون الآخر حتى تكتمل الوظيفة العامة لصيانة الجسم وحفظ صحته واستمرارية حياته .
فكل هرمون يفرز نتيجة لأمر تأخذه الغدة من الغدة الرئيسية ( الغدة النخامية ) ، وكل أمر يسرى بين الخلايا ليحمل قدرة يحفظ بها الأعضاء لتؤدى وظائفها طبقًا لعلم وظائف الأعضاء ، وكل عضو يحمل قدرته ؛ ليحفظ بها الأجهزة المكونة لجسم الإنسان ، والكل : من أجهزة و أعضاء وخلايا وغدد ، محمولة على القدرة الإلهية.
وعلى سبيل المثال :
لحفظ حياة الإنسان ، التوازن الهرموني الذى يحدث بين هرمون الإدرينالين ، وهرمون الأنسولين ، والإدرينالين يفرز من غدة الإدرينال ( فوق الكلية ) ، وهذه الغدة عبارة عن لب + قشرة مثل حبة البندق .
يفرز هرمون إدرينال لهما تأثير
اللب ويفرز هرمون نور إدرينال بيولوجي
تفرز هرمونات تؤثر على تمثيل الجلوكوز(1/138)
القشرة وتفرز هرمونات أخرى تؤثر على تمثيل الأملاح المعدنية
شكل رقم (2)
ومن هذا الرسم يتضح :
أن اللب لغدة الإدرينال يفرز هرمون إدرينالين الذى يعمل على زيادة نسبة الجلوكوز فى الدم ، وبينما هرمون الأنسولين هو الذى تفرزه خلايا ( جزر لانجرهانز ) الموجودة فى البنكرياس تعمل على خفض نسبة الجلوكوز فى الدم .
وعليه ، فإن التوازن بين الهرمونات التى تساعد على رفع نسبة الجلوكوز والهرمونات التى تساعد على خفض نسبة الجلوكوز ، هذا التوازن هو الطريقة التى تحفظ للإنسان حياته ، مما يدل على العناية الربانية والرحمة الإلهية .
ونعود إلى الجزئية الثانية ( ب ) في الشكل رقم (1) وهى الانفعالات :
وللحديث عن الانفعال الحاث في جسم الإنسان ، ينبغي أن نلقى الضوء على عدة نقاط :
1- إن التوازن النفسي ( الاستقرار النفسي والعاطفي والروحي ) والهارمونية البيوكيميائية تعتمد على التوازن الهرموني تحت مسؤولية ( الغدة النخامية ) .
2- إن الشغل العاطفي المبذول ( من رحمة وشجاعة وبطولة وعطاء .....إلخ ) يتناسب طرديًا مع القوة البيولوجية .
3- إن الاضطراب في التوازن الهرموني ( أي عدم الاستقرار النفسي ) يتأتى من زيادة في إفراز هرمون الأدرينالين الذي يحدث نتيجة الشعور بالخوف والقلق وكبت المشاعر والحزن الشديد .
4- إنه عند الزيادة في هرمون الأدرينالين تزيد نسبته في الدم ، ويتحول إلى مشتقات أخرى ذات تأثير سام على مستويات المخ العليا التي تؤدى إلى ارتباك بين التفكير والتصرف ، ومن ثم حدوث مشكلات نفسية ، سواء كانت أمراض عصبية ، وفقدان الإحساس بالأمان ، وفقدان الشعور بالسعادة .
( 2 ) الرحمة والتأثير البيولوجي والنفسي .
أولًا: الرحمة و التأثير البيولوجي:
تبين لنا في الصفحات السابقة أن كل انفعالاتنا تؤثر تأثيرًا مباشرًا على إفراز الهرمونات ، مما له تأثير ايجابي أو سلبي ، حسب نوع الانفعال .(1/139)
عن علماء الطب – وعلى وجه التحديد ( طب القلب ) – يحدوهم أمل في تحقيق ما يسمى بالوقاية الأولية .
للوقاية من التعرض للمرض ، أو تقليل فرص حدوثه ، وذلك بما يسمى الطب الوقائي ، وصدق القائل : ( درهم وقاية خير من قنطار علاج ) ؛ أو ( الوقاية خير من العلاج ).
فما علاقة الرحمة بالطب الوقائي؟!
سبق أن تناولنا الدائرة التي تشع فيها أنوار الرحمة وفيوضها ، رحمة العبد لنفسه ، ورحمته لمن حوله ، بداية بأسرته نهاية بمجتمعه المسلم ، ثم كآفة البشر بل والحيوان والنبات والجماد .
فمن رحمتنا لأنفسنا ما يكون سببًا لوقايتها الكثير من الأمراض ، وهذه الرحمة تتمثل في التالي :
1- إتباع نظام غذائي معتدل ووقت مناسب للتغذية ، بحيث يتناول وجبة خفيفة بعد الإحساس بالجوع ، وعدم النهم والإكثار من الطعام ، وعملًا بقوله - عز وجل - {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} (الأعراف:31) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - ( مَا مَلأَ آدَمِىٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ حَسْبُ الآدَمِىِّ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ غَلَبَتِ الآدَمِىَّ نَفْسُهُ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ ) (1)، و حبذا لو وضعنا في جدول اهتماماتنا صوم النفل لما فيه من الفضل الشرعي ، والنفع الصحي.
2- ممارسة الرياضة البدنية اليومية ، كالمشي والجري وغيرها ، وذلك لمنع ترسيب الدهنيات على الأنسجة المبطنة للشرايين ، إن مثل هذه الأنشطة الرياضية الخفيفة تعمل علي حرق الدهون .
3- الامتناع عن التدخين أولاً لحرمته ، ثانياً لأضراره الجسيمة الاقتصادية والصحية .
الرحمة مع الآخرين:
__________
(1) رواه الترمذي وابن ماجة وصححه الألباني(1/140)
1- عدم الغضب ، وكظم الغيظ ،وتجنب الضغط العصبي ، لما لها من آثار سيئة على النفس والغير ، و الحد من الشجار والمنازعات والتعصب ، لأن التوتر يسبب تقلصات وتهتك بالشرايين ، وتنتهي بتصلب الشريان التاجي للقلب ، ولبيان ذلك نوضح ما يحدث لغشاء التامور ( كيس مقفل محيط بالقلب كأنه مهد للقلب ، ويمكنه الحركة في سلاسة وانتظام ،وهو موضح في الشكل التالي :
·?فعند الغضب والتوتر والتعصب يحدث التهاب في غشاء التامور ويمتلئ بسائل ، ويحدث بعض التليفات بداخل الغشاء ، فتضيق المساحة المخصصة للقلب ويصعب عليه الانبساط التام ، مما يقلل استقبال الدم الوارد إليه من الجسم ، ويترتب عليه أن يختنق القلب ، ويحتقن الوجه ويظهر عليه آثاره ، وتنتفخ الأوداج ، ويتأثر الكبد والأطراف .
وربما يضطر إلي العلاج والأدوية المهدئة ، أو إلى أكبر من ذلك إما بسحب السائل الزائد في غشاء التامور ، أو إجراء عملية جراحية لإزالة التليفات .
إننا في غناء عن كل هذا ببسط الوجه ، وتحمل الأذى ، أو قل بقليل من دواء الرحمة الذي شح استخدامه وندر ، الرحمة ذلك الدواء الرباني ، والوقاية الرحمانية صدق - صلى الله عليه وسلم - : « الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ ، ارْحَمُوا أَهْلَ الأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِى السَّمَاءِ »(رواه أحمد وأبو داود والترمذي ) .
الدموع رحمة(1/141)
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عَلَى أَبِى سَيْفٍ الْقَيْنِ - وَكَانَ ظِئْرًا لإِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَذْرِفَانِ . فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ - رضي الله عنه - وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ « يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَةٌ » . ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ - صلى الله عليه وسلم - « إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ ، وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ ، وَلاَ نَقُولُ إِلاَّ مَا يَرْضَى رَبُّنَا ، وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ »(1) .
__________
(1) رواه البخاري.(1/142)
عَنْ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ فَائْتِنَا . فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلاَمَ وَيَقُولُ « إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى ، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ » . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا ، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ(1) - قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ - كَأَنَّهَا شَنٌّ . فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ . فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا فَقَالَ « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ » (2).
يقول الدكتور محمد السقا عيد(3):
هذه السوائل التى تخرج من مآقينا حينما تُلم بنا الأفراح والأتراح ما كنهها وما حقيقتها ؟؟ إنها ليست إلا سائلاً غامضاً يجعل البريق في عيوننا يستمر، إنها الدموع ...
وما أدراك ما الدموع ؟
لقد أجريت الأبحاث الحديثة على هذا السائل لفهم تركيبه ومحتوياته ومازال العلم يخبئ في جعبته الكثير والكثير عنه مما لا نعرفه.
والآن تعال معي - عزيزي القارئ – في جولة قصيرة لنقف سوياً على بعض مظاهر الإعجاز التى توصل إليها العلم بخصوص هذا السائل الرقراق .
هذه القطرات المتلألئة التى تترقرق في العين عندما تجيش النفس بشتى الانفعالات، هل خلقت عبثاً ؟
__________
(1) تتحرك وتضطرب.
(2) رواه البخاري .
(3) مقال(حديث الدموع سياحة علمية حول أسرار البكاء والدموع) د/ محمد السقا عيد -ماجستير وأخصائي جراحة العيون -عضو الجمعية الرمدية المصرية.(1/143)
لقد قيل إن الدموع سلاح المرأة عندما تضعف الكلمة عن البيان وتقصر الحجة عن الإيضاح، يراها البعض ضعفا مهينا، ويراها آخرون تنفيساً و ترويحاً ويحسبها البعض في عيون المسنين انكسارا وتسليما 0 هذه الدموع لعل بها أسراراً كثيرة اكتشفها العلماء وأسراراً أخرى مازالت طي الخباء تنتظر أن يطلقها المستقبل 0
فهل لك - عزيزي القارئ - أن تستزيد معرفة عنها لتعرف أنها ما خلقت عبثا أنها من أكثر الدلالات وضوحا وكشفا لتعابير إنسانية شتى ... عندما يعترى النفس الحزن والألم والفرح ... الخ
هل البكاء عيب ؟
عرف البكاء منذ فجر التاريخ وارتبط بمشاعر الإنسان، وهو شائع في مختلف الأعمار والأجناس والبيئات، ولعل من الأخطاء الشائعة اعتبار البعض البكاء دليلاً على ضعف الإنسان مع أنه عملية طبيعية يجب أن لا نخجل منها، وذلك لأنه استجابة طبيعية لانفعالاتنا الداخلية، ويكفى أن نعلم أننا جميعاً إذا تعلمنا كيف نجعل دموعنا تسيل فإننا بذلك نكون قادرين على التخلص من بعض أدويتنا، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال مُلِّح وهو. هل البكاء عيب ؟ وهل التعبير عن المشاكل والانفعالات ضعف ؟
ينصح العلماء بالتعبير والإفصاح عن الأفعال وعدم كبتها حيث وجد العلماء أن البكاء يريح الإنسان من الضغوط المُعرض لها إذ يُخلِّص الجسم من الكيماويات السامة التى تكونت نتيجة الضغوط والانفعالات.
فالدموع تغسل العين وتنظفها من كل جسم غريب وضار بها، فهي تعمل كأحد أنظمة طرح النفايات خارج الجسم.
أما كبت الدموع وعدم إظهار الانفعالات فإنها تؤدى إلى الكثير من الأمراض ... مثل الطفح الجلدي أو إصابة الجهاز التنفسي أو الجهاز المعوي أو المعدي مثل قرحة المعدة أو إصابة القولون.
فالإنسان الذي يبكى هو الذي يُمزِّق كل الأقنعة وكل الاعتبارات وكل الأدوار الاجتماعية.(1/144)
وقد أثبتت الإحصائيات أن البكاء يختلف باختلاف المجتمعات ... فهناك شعوب لا تبكى كثيراً مثل الشعب الفرنسي الذي لا يبكى فيه إلا 8% فقط والسبب الحب !.
دموع ... ودموع !!
هذه السوائل التى تخرج من مآقينا حينما تُلِّم بنا الأفراح أو الأتراح ما كنهها ؟ وما حقيقتها ؟؟ إنها ليست إلا سائلاً غامضاً ساحراً يجعل البريق في عيوننا يستمر. إنها الدموع ... وما أدراك ما الدموع ؟
وهى أنواع ... فهناك دموع الآلام ... ودموع الإثارة والانفعال ... ودموع التماسيح ... والدموع الطبيعية التى ُتذرف نتيجة بعض التهيجات العضوية في العين. وهناك الدموع الصِّحية وهى دموع إجبارية وثابتة في نوعيتها وكميتها، كما أنها تخرج بسرعة عن طريق الفم، وليس هناك أدنى خوف من هذه الدموع التى تذرفها العين بغزارة. وإنما الخوف كل الخوف من العين ( الجافة ) ...
وهى تلك العين التى لا تذرف الدموع والتي دُربت على عدم البكاء وتخاف من الوقوع زلة له ... وعوضاً عن ذلك تقع فيما هو أسوأ وهو الإصابة بقرح مُعدية ... ولهذا السبب نجد أن نسبة الرجال الذين يصابون بهذا المرض بل بالعديد من الأمراض يفوق نسبة النساء اللاتي يصبن به.
أجريت الأبحاث الحديثة على هذا السائل لفهم تركيبها ومحتوياتها. وقد بدأ الباحثون في فهم عملية الدموع منذ حوالي خمسة عشر عاماً،فالدموع تركيبة كيماوية معقدة؟ وهى سائل ملحي المذاق ... تفرز من غدد بالعين تُسمى بالغدد الدمعية LACRIMAL GLAND .
وتوجد في كل عين غدة دمعية من أعلى خلف الجفن، وهى في حجم اللوزة، وتفرز السائل خلال قنوات صغيرة عديدة في الجانب الأسفل من الجفن ... من ( 10 – 15 قناة صغيرة تفتح على سطح الملتحمة المغطى للفص الجفني العلوي ).
سؤال وجواب:
ومن هنا يجئ التساؤل عما إذا كانت هناك علاقة بين عدم ذرف الدموع والإصابة بالمرض ؟(1/145)
والإجابة بالطبع: كما يقول العالم الأمريكي ( وليم فرى ): " بدون شك فالدموع تعمل على إخراج المواد السامة التى تولدها بعض حالات الانفعال. ولذا فإن حبس الدموع يُعرض الإنسان للإصابة بالتسمم البطيء ".
علاوة على ما ذكرنا آنفاً من تعرِّضه للإصابة بالقرح المعدية وغيرها من الأمراض التى سنتحدث عنها لاحقاً في حينها.
إفرازات الدموع :
تومض العين ست عشرة مرة في الدقيقة، ومع كل ومضة لجفن العين فإنها تسحب قليلاً من سائل الغدد. وعندما يشعر الإنسان ببعض الانفعال مثل الحزن أو الغضب أو السعادة البالغة تضيق العضلات التى حول الغدد الدمعية وتعصر السائل الدمعي.
ويحدث الشيء نفسه إذا ضحك الإنسان من أعماقه ... وبمرور الدموع فوق مقلة العين تنساب خلال قناة دمعية تفتح في الركن الداخلي من كل عين وتقود إلى جيب دمعي ... ثم إلى مجرى أنفى ... وتجرى هذه القناة على امتداد الأنف ثم تفتح داخلها. ولعل هذا يُفسر سيلان الأنف عند جريان الدموع من هذه الفتحة.
طبقات الدموع
إذا نظرنا إلى الدموع من الناحية التشريحية ... نجد أنها تتكون من طبقات، فقد توِّصل الباحثون إلى أن العين مُغطاة بثلاث طبقات من الدموع.
• طبقة ميكويد ( Mucoid ) ( inner mucin layer ) : وهى التى تُمكِّن الدمع من الانتشار على القرنية، وهى تأتى من خلايا على سطح العين.
• طبقة مائية متوسطة: ( Midlle aqueous layer ): وهى التى تحفظ سطح العين مبللاً والرؤية سليمة.
• الطبقة الثالثة ( Outer lipid layer ) : وهى طبقة خارجية زيتية من المُعتقد أنها تعوق التبخر وهى تُفرز عن طريق غدد صغيرة على حواف الجفن.
وكما أن الدموع طبقات من الناحية التشريحية فهي كذلك طبقات من الناحية الفلسفية ... فالنساء تملك نسبة 67% من مجال إمكانية تساقط الدموع في كل الأوقات والمناسبات حتى السعيدة منها ... كما أن نسبة 62% ممن يعملون في الزراعة والأرض لا يعرفون الدموع.(1/146)
أما أصحاب المراكز العليا فنسبة صفر % إلى 23% فقط هم الذين يمكن أن تنزل دموعهم لأسباب هامة وخاصة جداً.
والدراسة التى أثبتت ذلك تؤكد أنه بتلك النسب فإن البشر في نهاية هذا القرن سيعانون ( من الأمية ) في الأحاسيس والجهل بالمشاعر.
آخر الدراسات النفسية عن الدموع:
خلصت هذه الدراسات إلى بعض الحقائق الهامة التى تهمنا في بحثنا هذا والتي سنورد منها ما يلي:
• يتجدد فيلم الدموع داخل عينيك ( 13ألف مرة ) في اليوم الواحد ... لذلك من لا يبكى أبداً ولا تتساقط دموعه فإنه يعانى حقاً من ظاهرة مرضية غير طبيعية.
• هناك شعوب لا تبكى كثيراً ... مثل الشعب الفرنسي الذي لا يبكى منه إلا 8%.
• الذي يبكى هو الذي يُمزق كل الأقنعة والاعتبارات وكل الأدوار الاجتماعية.
• إذا أحببت هذا النبع الغامض ( الدموع ) فإنك تمسح قسوة نفسك على نفسها، وبالتالي على بقية البشر ... لذلك دائماً يقولون: " إن من لا يعرف الدموع لا يعرف الرحمة "(1). وإن الذي لا يبكى عندما يتألم فإنه يتألم أكثر لأنه يشعر بالألم مرتين.
• الانفعالات المؤلمة والعنيفة لابد وأن تظهر من خلال العينين، وهى دائماً ما تكون أقوى من أي حوار صادق لأنها عبارة عن عبارات تترجم نبضات القلب تجاه الموقف.
إن نقطة الدموع التى تنساب من العين يومياً وبطريقة آلية ضرورية جداً لنظافة العين وتشحيمها ... وإن اختلاج الجفون الذي يحدث ما بين عشر مرات إلى خمس عشرة مرة في الدقيقة يعمل على توزيع الدمعة بالتساوي على قرنية عين الإنسان الطبيعي الذي يبكى حينما يشعر بذلك ولا يحبس الدموع.
ومن المؤكد أن الدموع لم تعد تُوزع كما يجب منذ أن أصيب الإنسان بحالة مرضية سميت (مرض التمساح ) ... وهو البكاء بغزارة كلما جرى المضغ.
__________
(1) وصدق نبى الرحمة - صلى الله عليه وسلم - « هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ » رواه البخاري.(1/147)
ابك بدون خجل:
الدموع هي إهداء النفس للنفس، وعندما تبكى بدون خجل فقد وصلت إلى قمة النضج النفسي والذهني ... فالدموع البشرية تروى النفس وتغذيها ... ويفرز الإنسان العادي بمعدل ثابت حوالي نصف لتر من الدموع في العام أي بمقدار 1.5 سم مكعب في اليوم.
مناسبات الدموع
تتفاوت مناسبات الدموع بين البشر ... فهناك نسبة من البشر يبكون عند مشاهدتهم للفيلم التليفزيوني أو السينمائي، ونسبة أخرى عند فراق الأحبة، ونسبة عند المشاجرة مع الأزواج، ونسبة عند سماع الموسيقى.
أما بقية البشر والتي نسبتها 51% في بعض الشعوب المتقدمة فإنهم لا يبكون أبداً. وتكاد تبكى نتائج هذه الدراسة الفرنسية وهى تعلن أن الأمل الوحيد في زيادة نسبة البكاء وزيادة الدموع لن يكون إلا عند النساء والشباب الصغير.
هذا لأن نسبة 61% ممن تتراوح أعمارهم بين 15 عاماً و 24 عاماً يُعتبرون أرضاً خصبة لإمكانية تساقط الدموع فيها ... أما الأرض الجرداء التى تنعدم فيها فرص الدموع فهي أرض من بلغت أعمارهم الخامسة والثلاثين وحتى التاسعة والأربعين. ويبدو أن هؤلاء قد جفَّت دموعهم من أثر فزع الحياة المبكر.
وتتعرض الدراسة لمن يحترفون الدموع فتقول: إن للدموع مهاماً خاصة وتحت الطلب فقد كان من تقاليد الموت والعزاء استدعاء " النَّدابة " التى تأتى خصيصاً وبعد أن تقبض الثمن لتبكى وتصرخ وتقطع في شعرها حزناً وكمداً وألماً على الفقيد الذي دفع لها أهله ثمن الحزن عليه.
دموع التماسيح:
المعروف والثابت علمياً أن الحيوانات لا تعرف الدمع أبداً (الناتج عن الشعور بالألم الروحي)، فالحيوانات لا تبكى أبداً بالرغم من أنهم يملكون قنوات دمعية ولديهم دموعا ولكنها لا تظهر إلا لأسباب عضوية بحتة إذا هيجت النهايات الحسية العصبية في عينيها ... مثل ترطيب العينين، ولكنها لا تبكى مثلنا أبدا من أجل المشاعر وأحاسيس معينة.(1/148)
وهنالك حيوانات لا يُستثار دمعها أبداً كالتماسيح التى امتنعت استثارة الدمع فيها على العلماء والباحثين مع أن التشريح أثبت وجود غدد دمعية متكاملة لديها. لذلك كان مثل " دموع التماسيح " مجانباً للدقة.
وفى رأيي أن عبارة " دموع التماسيح " هذه تطلق على الإنسان الغير صادق في مشاعره أو الذي يصطنع البكاء في المواقف التى تحتاج البكاء والتحزن الذي يعقبه عذر وإفك، تماماً كالتماسيح (التى ينزل الدمع بغزارة من عينيها كلما جرى المضغ) مع أن المعروف عنها عدم البكاء.
قال ابن المعتز:
ثم بكوا من بعده وناحوا ... كذباً كما يفعل التمساح
وفى النهاية أعلنت الدراسة أن الخوف كل الخوف أن تكون خطوات الإنسان تتجه في نهايات هذا القرن إلى تصرفات الحيوان الذي يجهل معنى الدموع والذي يتألم حتى دون أن يستطيع التعبير إلى أن يموت الألم بداخله، وقانا الله شر ذلك.
لما تبكى المرأة أكثر من الرجل ؟
يعتقد البعض أن البكاء بالنسبة للرجل إشارة إلى ضعفه، لهذا فالرجل أقل بكاء، وقد أيَّد ذلك بعض العلماء، إلا أنهم وجدوا حديثاً أن هرمون " البرولكتين Prolactin " وهى المادة الضرورية في تكوين الدموع موجودة بنسبة كبيرة في المرأة عنها في الرجل.
وهذه الحقيقة توضِّح أن المرأة لديها قابلية طبيعية للبكاء أكثر من الرجل ... ولعل السؤال السابق يجر سؤالاً آخر ربما يلقى لنا الضوء على حقيقة أخرى ... وهذا السؤال هو:
لماذا يميل الرجل إلى عدم البكاء ؟
إذا تسللنا إلى أعماق الرجل نراه يجد صعوبة كبيرة في التحدث أو التعبير عن مشاعره الدفينة وأسباب ذلك كثيرة ... فالبعض تعلم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة أنه لا يليق بالرجل أن يعبر عن مشاعره علانية وبخاصة مشاعر الألم حيث يعتبر ذلك ليس من الرجولة.(1/149)
كذلك فهناك مجتمعات لا تحترم الشخص الذي يبكى وتُعِّلم أبناءها منذ الصغر أن البكاء للأطفال والضعفاء فقط. وعلى عكس ذلك فهناك مجتمعات أخرى تعبِّر عن انفعالاتها بشكل ملحوظ ولا تستطيع السيطرة على مشاعرها أو التحكم في دموعها.
ويعتقد البعض الآخر أن التعبير عن الألم يُظهر نقص الإيمان بالله تعالى. وهذا اعتقاد خاطئ لأنه على العكس والنقيض من ذلك ... فالبكاء عند سماع الموعظة أو عند التأثر بموقف معين هو صميم الإيمان بالله تعالى ... يقول الحق سبحانه وتعالى { ) تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ }(التوبة: من الآية92). ويقول جل شأنه في سورة مريم: آية (58){إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً }كذلك فهناك الحديث المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - عندما حزن وبكى على فقدان ابنه إبراهيم ... فقال " إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون وإنا لله وإنا إليه راجعون. "
فعندما يغمر ( الرجل ) الحزن والأسى فإنه لا يعرف كيف يُعِّبر عن مشاعره بطريقة إيجابية وقد يتمركز حول ذاته، وقد ينغمس في عادات معتقداً أنها يمكن أن تُبَّدل أحزانه، وقد يفقد اهتمامه بالعمل ببعض المسئوليات التى يقوم بها.
البكاء بين الرجل والمرأة
أجرى الكيميائي " وليم فرى " عدة دراسات وأبحاث مع فريق من زملائه، منها دراسة على (331) متطوعاً من الجنسين تتراوح أعمارهم بين 18 – 75 سنة وقد طلب من متطوع تسجيل يومياته عن البكاء لمدة ثلاثين يوماً.
وقد أظهرت النتائج أن السيدات سجلن 5.4 حالة بكاء كاستجابة لجهد انفعالي خلال هذه المدة، على حين سجل الرجال متوسط 1.4 حالة ... وأتضح من الدراسة أن 73% من الرجال و 85% من السيدات بصفة عامة شعروا بارتياح بعد البكاء.
من بين أفراد تلك المجموعة لم يبك 45% من الرجال و 6% من السيدات الذين يتمتعون بصحة جيدة.(1/150)
أما أسباب البكاء الرئيسية للمرأة فقد تضمنت علاقات مع الناس وغالباً لانفصالها عن شخصية محبوبة ... وكانت الانفعالات الأساسية هي الحزن بنسبة 49% والفرح بنسبة 21% والغضب 10% بينما عبرت معظم السيدات عن غضبهن بالدموع فإن الرجال لم يفعلوا ذلك.
وأكدت تجارب " فرى " أن الدموع تخلص الإنسان من مواد سامة يصنعها الجسم كله في حالة توتر ... وأنه يجب أن يُنظر للبكاء على أنه عملية تنظيف مثل التبول والعرق وكشفت الدراسة أن تركيب الدموع يختلف تبعاً لمسبباته وللأشخاص الباكين أيضاً. فقد تبين أن دموع الفرح مثلاً تحتوى على نسبة كبيرة من الزلال تزيد 25% عن الدموع الأخرى.
كما أتضح أن نوبات البكاء تحدث بشكل أساسي بين السابعة والعاشرة مساءاً ... وأن احتمال البكاء أثناء مشاهدة فيلم مؤثر أكثر في المساء عنه في الصباح.
كيف تتعامل مع بكاء الأطفال ؟
يثير كثير من الوالدين تساؤلات عدة حول موقفهم من بكاء الأطفال المستمر ولأتفه الأسباب ... ويجيب المتخصصون على ذلك بعدم تلبية كل طلبات الطفل عندما يبدأ في البكاء، وأن يوضحوا له بطريقة حازمة أنه إذا طلب شيئاً بهذه اللهجة الباكية فإنه لن يحصل عليها.
وفى الواقع فقد اختلف العلماء في موضع الاستجابة لبكاء الطفل: فبعضهم يرى عدم الاستجابة لبكاء الطفل إلا بعد فترة لأن ذلك حسب آرائهم مفيد في تقوية عضلات الصدر والرئتين ... أما البعض الآخر فيرى ضرورة الاستجابة فوراً عند بكائه وذلك بإطعامه أو بالهزهزة السريعة لأن ذلك حسب قولهم له تأثير كبير على الجهاز العصبي للطفل مما يجعله يستجيب ويتوقف عن البكاء.
متى يكون بكاء الطفل ضاراً ؟
قد يلجأ الطفل في شهوره الأولى إلى البكاء كوسيلة للتعبير عن نفسه ولجذب الانتباه إلى ضيقاته ... فيلجأ إلى التباكي ( الغير مصحوب بالدموع ) وهذا البكاء قد يكون ضاراً ... لأنه من المحتمل أن يعمل على جفاف الغشاء المخاطي للأنف والزور مما يجعله أكثر حساسية للبكتريا الضارة.(1/151)
الدموع بين الشح والإفراط
تختلف وتتفاوت نسبة الدمع المفرزة كماً ونوعاً حسب اختلاف الظروف الداخلية والخارجية. ولكن يبلغ ذلك معدل يتراوح بين 0.7 – 100 ميكروليتر في الدقيقة، ويبدو أن النساء أكثر ذرفاً للدمع من الرجال. وهذا قد يفسر كونهن أكثر نجاحاً في لبس العدسات اللاصقة .
وعند الولادة يكون إفراز الدمع في حده الأصغر، وقد لا يلاحظ الدمع قبل الأسابيع الأربعة الأولي من العمر وقد لا يبدأ إفراز الدمع المائي قبل الشهور الستة الأولي .
وكذلك تقل كمية الدمع عند كبار المسنين، و يقل إفراز الدمع في حالات الإرهاق العصبي والجسمي، ومن الملاحظ قلة إفراز الدمع وحدوث جفاف العين والفم في نهاية النهار بعد يوم حافل بالتعب المتواصل.
وقد يشح الدمع في أمراض كثيرة لا حصر لها فيحدث جفاف للعين منها: نقص فيتامين أ من الغذاء أو عدم امتصاصه بسبب أمراض الجهاز الهضمي، والتهاب العين السطحية وخاصة مرض التراخوما، والحماة الراشحة الأخرى والدفتيريا وأمراض المناعة الذاتية، وخاصة التى يرافقها التهابات مفصلية، فقد يحدث فيها تليفات في الغدد الدمعية وشح في إفراز الدمع، والرضوض التى تحدث تشوهات في الأجفان وقصوراً في الرمش وعيباً في إغلاق العين والحروق الشديدة سواء كانت كيماوية أو حرارية أو إشعاعية، إذ أنها تُعري العين من الدمع الواقي وتجدب الغدد المفرزة للدمع. وهذا يحدث آلاماً شديدة وتقرحات قرنية مستمرة وتغيماً في الرؤية يحمل المريض رهن التعاسة، ويصبح مأساة من الجفاف الذي يؤدى لموت الخلايا السطحية وإنقلاعها ... كذلك هناك بعض الأدوية التى تنقص إفراز الدمع كالاتروبين والحبوب المانعة للحمل والأدوية المُدرة للبول.(1/152)
وقد يفرط إفراز الدمع عند استخدام القطرات الخافضة لضغط العين كالبايلوكايين، في معظم الحميات التى يرافقها التهابات في الملتحمة أو القرنية، وفى التهابات العين الحادة، ولدى انغلاق الطرق المفرغة، إذ أن الدمع عندما يفيض عن حاجة ترطيب العين ينصرف من خلال قنوات صغيرة إلى كيس الدمع الموجود في الناحية الأنسية من الجوف الحجاجى، حيث يفرغ في الأنف عبر القناة الأنفية الدمعية، فإذا طرأ انسداد على مسار الأنابيب المفرغة، يركد الدمع في العين فيطفح وينهمر، وكذلك إذا زاد إفراز الدمع عن طاقة استيعاب ضخه عبر كيس الدمع يحدث الدمع، إذن لا بد من إعاضة العين بالبديل الدمعية إذا شح الدمع. ويجب معالجة أسباب نقصه حتى لا تذوي العين وتجف وتنكدر وتعمي وكذلك لا بد من معالجة فرط الدماع وفتح مجاري الدمع المغلقة إذا طفح الدمع لئلا يضطرب البصر وتتقرح الأجفان ويصبح وضع الشخص في مجتمعه محرجاً مؤرقاً. حتى تبقى دورة الدمع متزنة مقدرة حسب حاجة العين والتي تختلف حسب الشخص والمكان والزمان.
وظائف الدموع:
للدموع وظائف عديدة نذكر منها:
( الوظيفة البصرية: تكاد تكون من أهم وظائف الدمع إذ تحافظ الدموع على ألق القرنية، وتسد الثغور الموجودة بين خلايا السطح القرني الظهارى، فيُسوي ويمهد بطلائه سطح القرنية لتقوم بوظيفتها البصرية خير قيام.
((1/153)
وظيفة دفاعية وقائية: فبواسطة المواد التى يحتويها وخاصة الليزوزيم أو الخمائر الحالّة يستطيع إذابة وتخريب جدر الكثير من الجراثيم فلا تعود قادرة على الغزو والاستفحال والتكاثر. فتبقى العين سليمة صحيحة رغم تعرضها للجراثيم والعضويات الضارة الموجودة بكثرة في الهواء، لذلك فالعين منيعة على الغزو الجرثومي، بمقدار كفاءة المواد الدمعية الحالة للخمائر فإذا قصر الدمع واضطرب تركيبه لأمر ما سهل على العضويات المؤذية غزو العين وإحداث الالتهابات والتخريب بها، وقد أخذ العلماء يجرون التجارب الخصبة على مادة الليزوزيم الدمعي قبل البدء بتطبيق أي عقار عيني جديد.
( وظيفة مرطبة: فهي سقاء للعين وطلاء ضروري لأن الجفاف أذى وبلاء فطالما بقيت العين رطبة، كانت خلاياها السطحية سليمة صحيحة، فإذا ما جفت انعدم البريق منها فتنكمش الخلايا وتتليف، وتغزوها العروق الدموية ويتجلد سطحها، ولتنظيم توزيع الدمع على سطح العين كلما جفت طبقة الدمع التى تطليه خلقت عملية الرمش، التى تحدث طوعياً ولا إراديا بمعدل 12.5 مرة في الدقيقة (في المتوسط ) ويدوم إغلاق العين فيها 0.3 من الثانية في كل رمشة عين، فلو فتح جفنا العين قسريا وامتنع الرمش مدة شعرت العين بالجفاف وبألم حارق وواخز، وربما يحدث بعد ذلك دماع انعكاسي فينهمر الدمع. ولو فُحص سطح العين أثناء ذلك لوجد أن فتح العين القسري مدة نصف دقيقة كاف لإحداث بقع جافة على سطح القرنية خالية من طبقة الدمع التى سبق الحديث عنها. وقد لوحظ أن بقع الجفاف تتشكل بسرعة أكثر إذا كانت العين قد عانت سابقاً عملاً جراحياً من استئصال السداد أو مكافحة داء الزرق (الجلوكوما) .
((1/154)
وظيفة طارحة للفضلات: فيما ينتج عن مخلفات استلاب سطح ولحمة القرنية من الماء وثاني أكسيد الكربون وتوسف الخلايا الميتة وما يفيض عن المواد المخاطية والمفرزات الدهنية يجرفها الدمع وينقلها إلى زاوية العين الأنسية حيث تُضخ في مجاري الدمع إلى الأنف. وهذا ما يحدث بالنسبة للقطاعات الهوائية والغازات وجزيئات الغبار التى لا تحس بها القرنية كأجسام غريبة فتجرف بواسطة الدمع على سطح العين الأمامي.
( وظيفة غذائية : بالرغم من عدم كبر أهميته كطريق غذائي فإنه يحمل بعض المواد المغذية للغشاء الظهارى في العين، والأهم من ذلك هو أن الجزء الأكبر من مادة الأوكسجين تأتى للقرنية من أوكسجين الجو الذي يحل في الدمع كما في النوم العميق لساعات أو أيام.
( وظيفة تزليج وطلاء : فلولا الدموع لما أمكن تثبيت العدسات اللاصقة إذ تتيح درجة تحمل العدسات اللاصقة ونجاح استعمالها درجة القوة المزلجة في الدمع. إذن فالدموع تهب الرطوبة الكافية والطلاء الواقي والملوسة الضرورية للقرنية، وتنقل للقرنية أوكسجين الجو الضروري لغذائها وتطرح فضلات النسج السطحية في العين. وهى خط الدفاع الأول في العين ضد غزو الجراثيم والعضويات المؤذية، تغسل العين مما يعتريها من الشوائب وتنهمر بشدة لتجريف كل جسم غريب متطفل، كل ذلك حفاظاً على ألق العين ودعماً لوظيفة البصر.
كلمة أخيرة :
بكاء الأحشاء(1/155)
ويقول الدكتور عدنان فضلي استشاري الطب النفسي: نعم، نحن ننصح المريض أو أي فرد يتعرض لمواقف محزنة أو مؤلمة أن يعبر عن شعوره بالبكاء، فمن خلال البكاء يشعر الإنسان بالارتياح من ثقل يتعب كاهله، وان الكبت قد يؤدي إلى نتائج وخيمة والمصابون بالاكتئاب هم أكثر الناس عرضة للبكاء حيث يجد المريض متنفسا لهمومه، غير أنه في حالات الاكتئاب الشديدة تستعصي الدموع حيث يتمنى المريض لو أنه يستطيع البكاء.. حتماً إن البكاء يخفف من حدة التوتر والضغوط النفسية والنساء هن أسرع في البكاء من الرجال بحكم تكوينهن البيولوجي، فكثير من الرجال «يبكون بصمت»! فطالما سألت رجالا يعانون من الاكتئاب، هل تنتابهم نوبات بكاء فيجيبوا بإباء وشمم كما يقولون «عيب على الرجل أن يبكي»! عندما فجعت شاعرتنا العربية الخنساء بأخيها صخر ملأت الدنيا صراخا وبكاء، وهي التي قالت لولا هذا البكاء سواء منفردة أو مع الآخرين لحاولت الانتحار!! ومن الناس ممن يتألمون أو يحزنون يلجأون لتناول المهدئات أو الخمر للتغلب على مظاهر الأسى والحزن وهذا نوع من الكبت، والذي قد يظهر فيما بعد على شكل اضطراب نفسي شديد ولو بعد حين، إن كبت مشاعر الحزن وعدم التعبير عنها قد يؤدي إلى ظهور مجموعة من الأمراض العضوية كتقرح الأمعاء أو قرحة المعدة، وذلك بسبب التوترات والضغوط المتواصلة ويمكن تلخيصها بمقولة أحد الأطباء النفسانيين: إن الدموع التي لا تجد لها منفذاً من العيون تجعل الأحشاء تبكي!! ويقول الدكتور يوسف عبدالفتاح طبيب نفسي: بكاء الأطفال أحد مظاهر الطفولة النمائية فقد ارتبط البكاء بالطفولة، حيث شاع القول لمن يبكي من الكبار انه يبكي مثل الأطفال.(1/156)
وقد وجد حديثاً أن هناك علاقة وثيقة بين الوظائف الفسيولوجية والسيكولوجية للانفعالات عموماً، ووسائل التعبير عنها، سواء بالبكاء أو غيره من الأساليب، فقد تبين مثلاً أن البكاء ينشط الغدد الدمعية ويغسل مقلة العين ويطهرها ويقلل من الضغط الذي نتعرض له، كما تبين أنه يؤثر على الأجهزة الفسيولوجية الأخرى مثل الشرايين والأعصاب التي تصبح متوترة في حالة الانفعال، كما تزداد ضربات القلب ومعدل النبض والتعرق ويزيد إفراز الأدرينالين من الكليتين، وهي من المؤشرات الفسيولوجية للقلق والاضطراب الانفعالي لدى الطفل الذي لا تلبث أن تخف حدتها بعد نوبة البكاء وتفريغ الطاقة والشحنة الانفعالية التي لدى الطفل، لذلك يجب ألا ينزعج الآباء والأمهات من بكاء أطفالهم باعتباره أحد وسائل التنفيس كما ذكرنا وبالتعلم الاجتماعي تقل نوبات البكاء لدى الطفل حين يعرف أن البكاء وحده ليس كافياً لتحقيق ما يريد وتغيير العالم المحيط به (1).
.
وقبل أن أنهى حديثي عن البكاء معك – عزيزي القارئ – أرى أن أتحدث معك في نبذة مختصرة عن فوائد البكاء ... يقول الأديب الإنجليزى ( تشارلز ديكنز ):
" إن البكاء يُوسع الرئة ويغسل الملامح ويُدرب العيون وغالباً ما يُهدىء المزاج فابك كما تريد " لأنك – أولاً وقبل كل شيء –إنسان له أحاسيس ومشاعر فعبر عن نفسك وانفعالاتك وأطلق العنان لدموعك لتغسل همومك وأحزانك، ولكي تعيد الراحة إلى نفسك والبسمة إلى حياتك.
فالبكاء أفضل علاج للأعصاب المتوترة، يُنقد من الكبت الذي يعانيه إنسان العصر الحديث ويُفِّرغ الشحنة التى يسببها الإرهاق والتعب، فالبكاء صحة ... والدموع تغسل النفس، وللبكاء فائدة عظيمة في الترويح عن الإنسان.
__________
(1) مقالة محمد زاهر نقلاً عن جريدة البيان تاريخ الثلاثاء 21 ذو الحجة 1422 هـ الموافق 5 مارس 2002(1/157)
والإنسان – رجلاً كان أو امرأة – مخلوق وهبه الله الدموع، وفى انسياب الدموع تفريغ للشحنات السامة التى تُحدثها التوترات العاطفية، وفى حبسها وكبتها تسمم بطيء لصاحبها ... كما أن بالسائل الدمعي إنزيم خاص يقضى على الميكروبات التى تدخل في العين فيحميها.
فقد أسفرت التجارب التى قام بها عدد من العلماء عن ظهور علم جديد هو " علم الدموع " الذي أنعقد أول مؤتمر طبي له عام 1985 م بالولايات المتحدة تحت شعار: " ابك تعش أكثر " حيث دعا المؤتمر إلى أن يصبح تحليل الدموع من التحاليل الطبية الشائعة مثل تحليل الدم وتحليل البول لأن نتائجه تقدم للطبيب معلومات وافية عن حالة الجسم.
هذا وقد أكد آخر الأبحاث التى أجرتها جامعة " ميتسونا " ... أن الدموع هي أفضل طريقة للتخلص من المواد الكيماوية المصاحبة للتوتر النفسي والقلق التى يفرزها الجسم في أوقات الحزن والغضب.
كما ثبت أن البكاء يزيد من عدد ضربات القلب وهو في حد ذاته يُعد تمريناً مفيداً لعضلات الصدر والكتفين والحجاب الحاجز ... وعند الانتهاء من البكاء يعود القلب إلى حالته الطبيعية وتسترخي عضلات الصدر ، فابك – عزيزي القارئ – كما تريد ابك بدون خجل ففي البكاء شفاء وعلاج لكثير من الأمراض.
قيام الليل رحمة
سبق الكلام عن أن قيام الليل سبب من أسباب الرحمة
جاء في كتاب " الوصفات المنزلية المجربة وأسرار الشفاء الطبيعية " وهو كتاب بالإنكليزية لمجموعة من المؤلفين الأمريكيين – طبعة 1993، أن القيام من الفراش أثناء الليل والحركة البسيطة داخل المنزل والقيام ببعض التمرينات الرياضية الخفيفة، و تدليك الأطراف بالماء، والتنفس بعمق له فوائد صحية عديدة(1/158)
والمتأمل لهذه النصائح يجد أنها تماثل تماماً حركات الوضوء والصلاة عند قيام الليل، وقد سبق النبي - صلى الله عليه وسلم - كل هذه الأبحاث في الإشارة المعجزة إلى قيام الليل فقال (( عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ فَإِنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلَى اللَّهِ وَمَنْهَاةٌ عَنِ الإِثْمِ وَتَكْفِيرٌ لِلسَّيِّئَاتِ وَمَطْرَدَةٌ لِلدَّاءِ عَنِ الْجَسَدِ ..)) . (1)
و عن كيفية قيام الليل بطرد الداء من الجسد فقد ثبت الآتي: " يؤدي قيام الليل إلى تقليل إفراز هرمون الكورتيزون ( وهو الكورتيزون الطبيعي للجسد ) خصوصاً قبل الاستيقاظ بعدة ساعات. وهو ما يتوافق زمنياً مع وقت السحر(الثلث الأخير من الليل )، مما يقي من الزيادة المفاجئة في مستوي سكر الدم، والذي يشكل خطورة علي مرضي السكر، و يقلل كذلك من الارتفاع المفاجئ في ضغط الدم، ويقي من السكتة المخية والأزمات القلبية في المرضى المعرضين لذلك كذلك يقلل قيام الليل من مخاطر تخثر الدم في وريد العين الشبكي، الذي يحدث نتيجة لبطء سريان الدم في أثناء النوم، وزيادة لزوجة الدم بسبب قلة تناول السوائل، أو زيادة فقدانها. أو بسبب السمنة المفرطة وصعوبة التنفس مما يعوق ارتجاع الدم الوريدي من الرأس ويؤدي قيام الليل إلى تحسن و ليونة عند مرضى التهاب المفاصل المختلفة، سواء كانت روماتيزمية أو غيرها نتيجة الحركة الخفيفة والتدليك بالماء عند الوضوء.
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد في مسنده و الترمذي و البيهقي و الحاكم في المستدرك عن بلال وابن عساكر عن أبي الدرداء، و أورده الألباني في صحيح الجامع برقم4079.(1/159)
قيام الليل علاج ناجح لما يعرف باسم " مرض الإجهاد الزمني " لما يوفره قيام الليل من انتظام في الحركة ما بين الجهد البسيط والمتوسط، الذي ثبتت فاعليته في علاج هذا المرض ويؤدي قيام الليل إلى تخلص الجسد من ما يسمي بالجليسيرات الثلاثية ( نوع من الدهون ) التي تتراكم في الدم خصوصاً بعد تناول العشاء المحتوي علي نسبه عالية من الدهون والتي تزيد من مخاطر الإصابة بأمراض شرايين القلب التاجية بنسبة 32% في هؤلاء المرضي مقارنة بغيرهم، ويقلل قيام الليل من خطر الوفيات بجميع الأسباب، خصوصاً الناتج عن السكتة القلبية والدماغية وبعض أنواع السرطان كذلك يقلل قيام الليل من مخاطر الموت المفاجئ بسبب اضطراب ضربات القلب لما يصاحبه من تنفس هواء نقي خال من ملوثات النهار وأهمها عوادم السيارات ومسببات الحساسية قيام الليل ينشط الذاكرة وينبه وظائف المخ الذهنية المختلفة لما فيه من قراءه و تدبر للقرآن و ذكر للأدعية و استرجاع لأذكار الصباح و المساء. فيقي من أمراض الزهايمر وخرف الشيخوخة والاكتئاب وغيرها وكذلك يقلل قيام الليل من شده حدوث والتخفيف من مرض طنين الأذن لأسباب غير معروفه (1).
ثانياً:الرحمة والتأثير النفسي :
إذا تناولنا الحياة العقلية والانفعالية للإنسان لوجدنا أنها تتغير من يوم إلى يوم ، بل من ساعة إلى ساعة - فهو اليوم سعيد و غداً حزين ،يشعر بالحب أحياناً ويبغض الناس أحيانا أخرى .
فعلى أي شيء تعتمد هذه التغيرات النفسية المستمرة ؟
إنها تعتمد على التغيرات البسيطة التى تحدث فى إفرزات تلك الغدد التى تهيمن على الأوتار الداخلية فى قلب الإنسان ووجدانه ، أى على مشاعره.
__________
(1) مقالة لـ د. صلاح أحمد حسين أستاذ بطب أسيوط جريدة الأهرام 27/7/2004 بتصرف.(1/160)
والمرض العقلي النفسي والوظيفي كلاهما يتسبب فى اضطراب هرمونية الغدد : هناك زيادة فى إفراز الأدرينالين وهناك قلة فى هرمون الغدة الدرقية ..... وهكذا تضطرب الوظائف الحيوية للغدد.
حصيلة كل ذلك ضياع التوازن الهرموني وضياع التوافق الكيميائي فى نهاية المطاف - والنتيجة هى المرض المؤكد والضياع .
ويمكن لنا تشبيه التغيرات المختلفة فى نفسية الإنسان بألوان الطيف المختلفة أي يمكن تسميتها ((طيف الحياة))
منطقة خطر جداً ... المنطقة ... المنطقة ... المنطقة ... منطقة أمان ... المنطقة ... المنطقة البنفسجية ... منطقة شديدة الخطورة
(تحت الحمراء) ... الحمراء ... البرتقالية ... الصفراء ... (خضراء) ... الزرقاء ... (فوق البنفسجية)
((طيف الحياة))
إذا تصورنا الحياة بألوان الطيف نلاحظ أن هناك ((المنطقة الخضراء )) التى تتوسط الألوان الأخرى المرئية وهذه تمثل منطقة الأمان ، وهناك منطقتان غير مرئيتان الأولى على يمين ((المنطقة الحمراء)) الخطرة وهى أشد خطراً - وتسمى تحت الحمراء ، و المنطقة الثانية على يسار المنطقة البنفسجية وتسمى فوق البنفسجية وهى أيضاً شديدة الخطورة .
وأن لذات الإنسان مؤشر ((مؤشر الحياة )) يقف فى الحالة العادية من منطقة الأمان الخضراء.(1/161)
إذا تصورنا أن ذات الإنسان تتحرك بين تلك المناطق ، التى تتم تحت تأثير عوامل داخلية وخارجية لوجدنا أن الشخص الطبيعي المتوازن ، هرمونياً وكيميائياً فى معظم الأحيان فى منطقة الأمان الخضراء من الطيف ، بمعنى أن موضع ((مؤشر الحياة)) يكون فى المنطقة الخضراء -ونادراً ما يشرد إلى المناطق الطرفية- وقد يتحرك مؤشر الحياة يميناً ويساراً إلى المناطق الطرفية نتيجة انفعالات داخلية نتيجة خوف أو قلق أو غضب - لكن سرعان ما يرجع إلى منطقة الأمان الخضراء عند زوال المؤثر الأصلي خارجياً كان أو داخلياً- وهنا يحدث ضبط التوازن والتوافق الكيميائي المطلوب حيث تسير المنظومة الداخلية بانطلاق جميل وإيقاع سليم مرة ثانية(1).
ويقول د/ ألفرد أدلر عالم النفس لبعض مرضاه النفسيين ((إذا كنت تريد الشفاء فكر كيف تسعد الآخرين ؟
وإذا قابلته فى اليوم التالي هل فعلت ما نصحتك به بالأمس ؟
فيجيب : كلا ... لقد استسلمت للنوم ولم يكن لدى الوقت للتفكير فى هذه النصحية . فأقول له : لا تكف عن القلق بشرط أن تفكر بين لحظة وأخرى فى إسعاد الآخرين ،
وقد يتطوع أحدهم بالسؤال لماذا أسعدهم وهم لا يفكرون فى إسعادي؟
فأجيبه: إن صحتك تتطلب ذلك وسوف يعاني الآخرون ولن يتماثلوا للشفاء أيضاً إذا لم يحاولوا إسعادك!
فالشخص الذى لا يحاول إسعاد الآخرين لابد أن تتكالب عليه المشكلات والأمراض فالحياة تتطلب من الفرد أن عاملاً منتجاً فاعلاً ومؤثراً محباً للناس.))إ.هـ(2)
ولذا كانت عناية الأطباء النفسيين بعمل حملات إعلانية فى وسائل الإعلام على الشاشة يظهر إعلان يقول(3):
- عامل صاحبك برفق
- أو عامله..بحب
__________
(1) بيولوجية الإيمان صـ107،106 ، الأستاذ الدكتور /محمد محمود عبدالقادر رئيس قسم الكيميائية الحيوية - طب القاهرة 1966.
(2) دع القلق وأبدأ الحياة ديل كارنيجي صـ132.
(3) بتصرف من كتاب( الإنسان حيوان تليفزيوني صـ 29،28)(1/162)
و هذا الإعلان جزء من حملة هدفها أن العلاج النفسي أفضل من كل علاج طبي.. بل إن الطريق الأكيد لحياة أفضل تتحقق من خلال العناية بالآخرين ورعايتهم والاقتراب منهم و يظهر طبيب كبير من الهيئة الصحة العالمية يقول:
- الطب الحديث نسى ( لسوء الحظ ) قوة الحب.
وقد أعاد التلفزيون اكتشاف أهمية العلاقات الإنسانية فى شفاء الناس وجد الأطباء أن آلآف المرضى بالأزمات القلبية كان السبب فى مرضهم:
الزوجات لأنهن لا يوجهن اهتماما سليما و قوياً للأزواج و ليس المقصود من الدعاية ضد الزواج أو إثبات أن الزوجة هى التى تؤدى إلى أمراض القلب بعد (أمراض الجيب) بل أجمع الأطباء على أن قلوب الأزواج لم تصلها كمية الدم اللازمة لأن هذه القلوب افتقدت كمية الحب الضرورية.
و على الشاشة رأيت الأطباء يقولون:
مفتاح الصحة ليس الجري اليومي، قبل الإفطار، أو الرجيم، أو الطعام الجيد.
بل سر الصحة يتركز فى وجود أصدقاء حولك يهتمون بك وأسرة تحرص، وتخاف عليك.
ونقلوا عن كلية طب جامعة هارفارد بحثاً جديداً يقول عندما ترعى مريضا، أو عندما يرعاك أحد وأنت مريض فإن مواد كيميائية تزيد فى الدم وتساعدك على -مقاومة الأمراض. وبعد أية عملية جراحية فإن العناية من الأهل قبل الأطباء تجعل الجراح تلتئم...وقد أرادوا من هذه الحملة الجديدة أن الناس فى حاجة إلى كلمة طيبة، إلى حب وإلى معاملة إنسانية..بل أكثر من ذلك فإن أطباء السرطان أنفسهم ظهروا على الشاشة ليجمعوا على أن الدفاع ضد الأمراض تقوى و تتدعم فى جسد إنسان يجد حوله..من يحبونه..0
- فمعاملة الآخرين بالرفق والرحمة والمبادرة فى البذل والعطاء وتلبية حاجات الناس ،والإسراع فى إنقاذ من حولنا والسعى على الأرامل والمساكين والضعفاء ، ففى هذا السلوك صحة نفسية وجسدية وإرضاء للرب - جل جلاله - ، والرحمة هى سبيل الصحة النفسية ، فانفعال الرحمة يعنى توافقاً كيمائياً وتوازناً نفسياً.
(حـ)كيف أكون عبداً رحيماً ؟(1/163)
هذا السؤال هو المحك في كل ما أوردناه هاهنا في هذا البحث ، فإن الكلام الذي أوردناه يفتقر إلى من يحوله إلى سلوكيات نابضة بالحياة ، إذ لا قيمة للكلام دون العمل ، وصدق القائل (( يهتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل )).
وكل آية في كتاب الله - عز وجل - تنطق بالعمل مع الإيمان الذي هو قول واعتقاد وعمل ،قال - عز وجل - { وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }(البقرة: من الآية25) ،و قال - عز وجل - { وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ }(البقرة: من الآية82) ،و قال - عز وجل - { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ }(البقرة: من الآية277) .
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ قَالَ :قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَشَارَ بِأَصَابِعِهِ إِلَى صَدْرِهِ )).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ‘ : (( إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ (1))).
والذي أقصده هو المنهج العملي للتربية على الرحمة في عقدة القلب والضمير ، وسلوكًا بين الناس نتراحم به فيما بيننا .
كيف نربي أنفسنا على الرحمة ؟
أولاً : القلب محل الرحمة:
1- التخلية :
مقصود ذلك أن القلب لابد من تفريغه أولاً من ضد صفة الرحمة ألا وهو القسوة ، فإن القلب القاسي ينفر من الرحمة على اعتبارها خور وضعف (2)،
__________
(1) رواهما مسلم .
(2) كما كان يقول محمد بن عبدالملك بن أبان بن الزيات وزير المتوكل: ما رحمت أحدا قط، الرحمة خور في الطبع .فسجن في قفص حرج، جهاته بمسامير كالمسال، فكان يصيح: ارحموني، فيقولون: الرحمة خور في الطبيعة (سير أعلام النبلاء - (ج 11 / ص 173)).(1/164)
فتجد عينه من الدمع قاحلة ،ومشاعر قلبه من الرأفة على خلق الله ماحلة ، بل فلا لنفسه رحم ولا لغيره ، ففي صدره وحشة وثقل ،وبين الناس عبس الوجه لا يهش ولا يبش إلا لممًا ، فلابد من تهذيب القسوة ، وذلك باستخدامها في مواضعها المشروعة في الكتاب والسنة ، أما الأمور التي تعين على ذلك :
1- المعرفة بالله - سبحانه وتعالى - والتعرف على أسمائه وصفاته في الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، وبالأخص أسماء القهر والعظمة والجبروت .
2- معرفة عاقبة القسوة والقساة في الكتاب والسنة.
3- الدعاء بأن يتوب الله على العبد ، ويستعيذ بالله من قلبٍ لا يخشع ومن عين لا تدمع.
4- تذكر الموت وما بعده من أهوال القيامة و ما أعد للقساة .
5- زيارة القبور والتفكر في حال أهلها.
6- - النظر في آيات القرآن الكريم .
7- تذكر الآخرة والتفكر في القيامة وأهوالها.
8- الإكثار من الذكر والاستغفار.
9- مجاهدة النفس ومحاسبتها ومعاتبتها، وذلك بمعرفة حقيقة النفس أولاً ، ثم المشارطة ثم المحاسبة ثم المعاتبة.
10- زيارة المعوزين كالأيتام والأرامل والمساكين فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ _:أَنَّ رَجُلًا شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ‘ قَسْوَةَ قَلْبِهِ فَقَالَ : (( لَهُ إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمْ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَأْسَ الْيَتِيمِ.(1))).
11- زيارة المرضى وبالأخص حالات الحروق و السرطان ،لا سيما أقسام الأطفال والحالات الحرجة.
12- قراءة قصص ونهايات القساة والظالمين وسماع محاضرات في الموضوع.
وقد سبق شرح ذلك في علاج القسوة فراجعه ، فإذا خلى القلب من أدران القسوة ، وانقشعت غيومها ، فقد آذن لسحائب الرحمة بالمطر، و دموع الخشية بالهطل ، وللقلب أن يتدثر بالرأفة ، ويستشعر بالغ الحنان ، ويتحلى بالرحمة.
2- التحلية :
__________
(1) رواه أحمد والطبراني في الكبير وقال الألباني في السلسلة الصحيحة (ج 2 / ص 507)-( حسن )برقم 854(1/165)
أن يتخلق بخلق الرحمة واعلم أن (الرحمة التي يتصف بها العبد نوعان:
النوع الأول: رحمة غريزية، قد جبل الله بعض العباد عليها، وجعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والحنان على الخلق، ففعلوا بمقتضى هذه الرحمة جميع ما يقدرون عليه من نفعهم، بحسب استطاعتهم. فهم محمودون مثابون على ما قاموا به، معذورون على ما عجزوا عنه، وربما كتب الله لهم بنياتهم الصادقة ما عجزت عنه قواهم.
والنوع الثاني: رحمة يكتسبها العبد بسلوكه كل طريق ووسيلة، تجعل قلبه على هذا الوصف، فيعلم العبد أن هذا الوصف من أجلِّ مكارم الأخلاق وأكملها، فيجاهد نفسه على الاتصاف به، ويعلم ما رتب الله عليه من الثواب، وما في فواته من حرمان الثواب؛ فيرغب في فضل ربه، ويسعى بالسبب الذي ينال به ذلك. ويعلم أن الجزاء من جنس العمل. ويعلم أن الأخوة الدينية والمحبة الإيمانية، قد عقدها الله وربطها بين المؤمنين، وأمرهم أن يكونوا إخواناً متحابين، وأن ينبذوا كل ما ينافي ذلك: من البغضاء، والعداوات، والتدابر.
فلا يزال العبد يتعرف الأسباب التي يدرك بها هذا الوصف الجليل ويجتهد في التحقق به، حتى يمتلئ قلبه من الرحمة، والحنان على الخلق. ويا حبذا هذا الخلق الفاضل، والوصف الجليل الكامل.
وهذه الرحمة التي في القلوب، تظهر آثارها على الجوارح واللسان، في السعي في إيصال البر والخير والمنافع إلى الناس، وإزالة الأضرار والمكاره عنهم.
وعلامة الرحمة الموجودة في قلب العبد: أن يكون محباً لوصول الخير لكافة الخلق عموماً، وللمؤمنين خصوصاً، كارهاً حصول الشر والضرر عليهم. فبقدر هذه المحبة والكراهة تكون رحمته.(1/166)
ومن أصيب حبيبه بموت أو غيره من المصائب، فإن كان حزنه عليه لرحمة، فهو محمود، ولا ينافي الصبر والرضي ؛ لأنه ‘ لما بكى لموت ولد ابنته، قال له سعد: "ما هذا يا رسول الله؟" فأتبع ذلك بعبرة أخرى، وقال: "هذه رحمة يجعلها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء وقال عند موت ابنه إبراهيم: "القلب يحزن، والعين تدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا. وإنَّا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وكذلك رحمة الأطفال الصغار والرقة عليهم، وإدخال السرور عليهم من الرحمة، وأما عدم المبالاة بهم، وعدم الرقة عليهم، فمن الجفاء والغلظة والقسوة، كما قال بعض جُفاة الأعراب حين رأى النبي ‘ وأصحابه يقبلون أولادهم الصغار، فقال ذلك الأعرابي: إنّ لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، فقال النبي ‘ : "أو أملك لك شيئاً أن نزع الله من قلبك الرحمة؟".
ومن الرحمة: رحمة المرأة البغي حين سقت الكلب، الذي كان يأكل الثرى من العطش. فغفر الله لها بسبب تلك الرحمة.
وضدها: تعذيب المرأة التي ربطت الهرة ، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت.
ومن ذلك ما هو مشاهد مجرب، أن من أحسن إلى بهائمه بالإطعام والسقي والملاحظة النافعة، أن الله يبارك له فيها. ومن أساء إليها: عوقب في الدنيا قبل الآخرة، وقال تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32], وذلك لما في قلب الأول من القسوة والغلظة والشر، وما في قلب الآخر من الرحمة والرقة والرأفة؛ إذ هو بصدد إحياء كل من له قدرة على إحيائه من الناس، كما أن ما في قلب الأول من القسوة، مستعد لقتل النفوس كلها.(1/167)
فنسأل الله أن يجعل في قلوبنا رحمة توجب لنا سلوك كل باب من أبواب رحمة الله، ونحنوا بها على جميع خلق الله، وأن يجعلها موصلة لنا إلى رحمته وكرامته، إنه جواد كريم (1)).
فالإنسان ينبغي عليه أن يسترحم فيُرحم ، وهناك أمور للرحمة جلابة منها على سبيل المثال لا الحصر :
1- المعرفة بالله - سبحانه وتعالى - والتعرف على أسمائه وصفاته في الكتاب الكريم والسنة المطهرة ، وبالأخص أسماء الدلالة على الرحمة والبر والإحسان واللطف.
2- معرفة فضل الرحمة والرحماء في الكتاب والسنة.
3- الدعاء بأن يرزقك الله قلبًا رحيمًا ، ولسانًا لينًا ، ووجهًا بشوشًا هينًا.
4- مخالطة ومعرفة الصالحين من الرحماء والطيبين .
5- مطالعة ودراسة أخبار و أحوال الرحماء(2) .
__________
(1) الشيخ السعدي - (بهجة قلوب الأبرار - حديث رقم 82 - فضل الرحمة والرحماء )
(2) راجع جزء الثاني من كتاب رياض النعيم في ظلال الرحمن الرحيم -فصل خُلق الرحمة في حياة الرحمة المهداة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . :-
· ... في تفسير قوله تعالى { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} ( الأنبياء :107).
· ... في معنى اسمه - صلى الله عليه وسلم - ???نبي الرحمة ) ،?وقوله - صلى الله عليه وسلم - ???إنما أنا رحمة مُهداة ) .
· ... ?في?تنوع صنوف رحمته - صلى الله عليه وسلم - ??
????فى هذا الباب لن يستطيع أحد الاستقصاء فضلًا عن الإحاطة لأنه - صلى الله عليه وسلم - كما قال - عز وجل - فيه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}(الأنبياء:107)، لذا سأكتفى بالإشارة إلى ذكر طرف من رحماته - صلى الله عليه وسلم - فعلى سبيل المثال لا الحصر:
1) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالملائكة - عليه السلام - .
2) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - ? بالأنبياء والرسل - عليه السلام - .
3) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه - رضي الله عنه - .
4) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالنساء.
5) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - ? بالأطفال.
6) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - بخدمه ومواليه.
7) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالأعراب .
8) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالجن
9) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - ? بالأمة في الدنيا والآخرة.
10) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالعصاة .
11) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - ? بالحيوان
12) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - ? بالنبات.
13) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - ? بالجماد.
14) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - ? بالكفار .
15) ... ذكر طرف من رحمته - صلى الله عليه وسلم - بالمنافقين.
16) ... رحمته - صلى الله عليه وسلم - بعيون الآخرين.
وقد أفرد هذا الجزء بالطباعة منفصل تحت اسم { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} تجده في موقع صيد الفوائد http://saaid.net/book/open.php?cat=94&book=3981
- والفصل الذى يليه من نفس الكتاب وهو (خُلق الرحمة في حياة السلف رحمهم الله - عز وجل - ).(1/168)
6- وما سبق في علاج القسوة .(1/169)