كلام الأقران بعضهم
في بعض
أسبابه ونتائجه
للدكتور
أيمن محمود مهدي
أستاذ الحديث وعلومه المساعد
ورئيس قسم الحديث بكلية أصول الدين بطنطا
الطبعة الأولى
1427هـ - 2006م
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيد الأنبياء محمد - صلى الله عليه وسلم - وعلى آله وصحبه الأوفياء إلى أن يرث الله الأرض والسماء.
وبعد
فإن من رحمة الله بنا ، وإرادته الخير لنا أن جعلنا من أمة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وحفظ لنا مصادر ديننا الأصلية ، فالقرآن الكريم هو معجزة الإسلام الكبرى ، وكتابه المقدس ، ودستوره الأعظم ، وهو المصدر الأول للتشريع ، ولقد تعهد الله بحفظه من الزيادة والنقصان فقال تعالى { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (1) والسنة المطهرة هي المصدر الثاني للتشريع، فهي تبين الكتاب وتشرحه ، وتوضح معانيه ، وتفسر مبهمه فهي من القرآن بمنزلة الشرح يفصل مقاصده ويتمم أحكامه.
وقد حفظ الله دينه وشريعته وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - من التحريف والتبديل ، والزيادة والنقصان ، فقيض لها حفاظا أيقاظا ، وعلماء نبهاء في كل عصرٍ ومصر منذ عهد الصحابة الكرام وحتى يومنا هذا .
وقد وضع العلماء للسنة المطهرة أسسا منهجية ، وقواعد علمية ، وحرصوا على جمعها وشرحها ، وفدوها بالغالي والنفيس ، وحموها من دس الكائدين ، وإفك المفترين ، وشبهات الحاقدين .
وقد وضع العلماء علوماً عدة من أجل الحفاظ على السنة من الكذب والافتراء فتتبعوا أحوال الرواة ، وحكموا عليهم جرحاً وتعديلا ، وميزوا بين الغث والثمين ، والمقبول والمردود ، وقد تصدر لهذا الأمر علماء أجلاء كانوا مُثُلا تُحتذى في الفهم والذكاء والعدل والإنصاف .
__________
(1) الحجر : 9 .(1/1)
ولكن جرت سنة الله في خلقه أن لكل جوادٍ كبوة ، ولكل سيفٍ نبوة ، ولكل عالمٍ هفوة ، وكلٌ يُؤخذ من كلامه ويرد عليه إلا الأنبياء المعصومون فوجدنا في هذا البحر الخضم من أقوال أئمة الجرح والتعديل أقوالاً غير مقبولة ، وأحكاماً خرجت عن القواعد التي وضعوها وشذت عن الأصول التي ارتضوها فرصدها العلماء ، ولفتوا الأنظار إليها حتى لا تكون سببا في تجريح ثقة ، فالأصل الذي جرى عليه العلماء هو : تزكية العدل وقبول روايته ، وتجريح الضعيف ورد روايته ، فإذا وجدنا لأحد العلماء كلاما يخالف هذا الأصل وجب رده والتحذير منه وإحسان الظن بقائله مع حسن التأول له ما أمكن.
مع الاعتقاد التام أن العلماء بشر غير معصومين يصيبون غالبا وقد يقع منهم الخطأ نادرا وأخطاؤهم مغمورة في بحار صوابهم.
ولكنها أمانة العلم وحقه أن نرصد الخطأ ، وننبه عليه ، ونحذر منه ، وقد رصد العلماء صورا عدة للجرح غير البريء ومنها : كلام الأقران بعضهم في بعض ، وقد نبه عليها السلف الصالح ، وحذروا منها ، وأول من عرفته أهتم بالتنبيه على هذه القاعدة هو : الإمام ابن عبد البر في كتابه " جامع بيان العلم وفضله " فلقد أفرد فيه بابا بعنوان : " حكم قول العلماء بعضهم في بعض " وذكر فيه جملةً من الأحاديث والآثار تبين خطورة هذا الأمر وتحذر منه ثم ضرب عدة أمثلة لكلام الأقران المردود ثم ختم هذا الباب بالتأكيد على هذه القاعدة : " كلام الأقران يطوى ولا يروى " .
ولقد اهتم العلماء بهذه القاعدة والتزموا بتطبيقها ، وبرز التحذير من كلام الأقران بعضهم في بعض بدون سبب حقيقي في مصنفاتهم ، ومن ابرز من رأيته اهتم بهذه القاعدة الإمام الحافظ شمس الدين الذهبي شيخ المحدثين وإمام الجرح والتعديل فلقد أكثر من الإشارة إلى هذه القاعدة والتنبيه عند مخالفتها خاصة في كتابيه : " ميزان الاعتدال " و كتاب " سير أعلام النبلاء " ثم تبعه الحافظ ابن حجر والحافظ السخاوي وغيرهما .(1/2)
وهذا المنهج الذي وضع أساسه ابن عبد البر وأرسى قواعده الإمامان : الذهبي وابن حجر وغيرهما يحتاج المسلمون عامة إلى فهمه وتطبيقه كما يحتاج إليه بشكل أخص طلاب العلم الشرعي حتى لا يقعوا في الحسد المذموم والغيرة الممقوتة التي تجرهم إلى النيل من أعراض إخوانهم دون سببٍ شرعي يستلزم ذلك ، نسأل الله السلامة والعافية من هذا الداء الحقير .
والجدير بالذكر أن كلام الأقران بعضهم في بعض ليس مرضا خاصا بطائفة معينة بل هو مرتبط بالإنسان أينما كان وحسبما كان تفكيره ، بل إن المتأمل في حال المجتمعات الإنسانية عموما وساحة الدعوة الإسلامية خصوصا في مختلف فروع العلوم والمعارف ليدرك جيدا أن كثيرا من الخلافات والخصومات والتصدعات في البناء الأخوي بين الدعاة مرده إلى الاختلافات المذهبية والعقديه والتحاسد الواقع بين الأقران ، والذي يؤدي ببعضهم إلى الوقوع في الظلم والنزاع والشقاق والفرقة وتصيد الأخطاء وإساءة الظن بالمخالف مما يجعل ذلك السبب من أشد معوقات الدعوة وأخطرها على الفرد والمجتمع .
ولقد وضع العلماء مجموعة من القواعد يستلزم كل من يتعرض للجرح والتعديل الالتزام بها فالواجب على طالب العلم أن يصون نفسه عن الكلام في إخوانه وأن يجاهد نفسه على إزالة ما يقع في قلبه من حسد يجر إلى معصية ، وأن يحرص على ما يجمع القلوب ويوحد الجهود وأن يلتزم بهذه القاعدة أن يتعاون العاملون للإسلام جميعا على اختلاف اجتهاداتهم فيما اتفقوا عليه وأن يعذر بعضهم بعضا فيما اختلفوا فيه حتى تسلم النفوس وتطمئن القلوب وتثمر الجهود .(1/3)
ولقد رأيت العلماء يحذرون من هذا الداء العضال ولم أر من حاول جمع أسبابه لتحليلها واستخلاص النتائج المترتبة عليها ، فاستعنت بالله تعالى على الكتابة في هذا الأمر وطالعت لأجله المئات من كتب أهل العلم عامة وكتب الجرح والتعديل والرجال خاصة ، ويعلم الله أن هذا البحث على صِغَرِ حجمه قد استغرق مني سنوات طوال أضيف إليه وأحذف منه وأغير فيه وأعيد ترتيبه حتى خرج بهذا الشكل ، ومن العقبات التي قابلتني أني كنت مترددا في نشره لأنه يتعرض لهفوات بعض علماءنا الأجلاء الذين نحبهم ونحترمهم ولكني استشرت أساتذتي ومشايخي وزملائي فأشاروا علي بأنه لا مانع من نشره مع توضيح أن الهفوات تذكر لتعرف وتجتنب ، مع ضرورة توفر القلوب على حب الصالحين والعلماء رغم وقوع الخطأ في بعض كلامهم ، ومن ذا يسلم من الخطأ ، وكل بني آدم خطاء .
وقد قسمت هذا البحث إلى : مقدمة ، وأربعة فصول وخاتمة .
ولا أزعم أني وصلت في هذا البحث إلى الكمال بل هو جهدي الضعيف مع قلة بضاعتي وكثرة ذنوبي فان كان فيه من حق وصواب فهو من الله وحده ، وإن كان من خطأ فهو مني ومن الشيطان ، والله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - منه بريئان .
الفقير إلى عفو ربه
د. أيمن مهدي
الفصل الأول : كلام الأقران بعضهم في بعض أسبابه ونتائجه
المبحث الأول : تعريف الأقران
أولاً : التعريف اللغوي
الأقران لغة : جمع قِرن - بكسر القاف - وهو الكفء والنظير في الشجاعة والحرب ، وفى حديث ثابت بن قيس : " بئسما عودتم أقرانكم " (1) أي : نظراءكم ، وأكفاءكم في القتال (2) ، وجمعه قرون .
والقَرن هو : القوم المقترنون في زمانٍ واحد ، وقيل هو : الأمة تأتى بعد الأمة ، وقيل هو : الوقت من الزمان .
__________
(1) صحيح البخاري كتاب الجهاد والسير باب التحنط عند القتال 6 / 60 رقم 2845 .
(2) النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 4 / 49 ، ولسان العرب لابن منظور11/ 140 .(1/4)
وقد اختلف العلماء في تحديد مدته فقيل : مدته عشر سنين ، وقيل : عشرون سنة ، وقيل : أربعون سنة ، واستدلوا لذلك بقول النابغة الجعدي :
ثلاثة أهلين أفنيتهم وكان الإله هو المستأسيا
فإنه قال هذا وهو ابن مائةٍ وعشرين سنة ، وقيل : ستون سنة ، وقيل : سبعون سنة ، وقيل : ثمانون ، وهو مقدار التوسط في أعمار أهل الزمان ، وقيل : مائة سنة ، وهو أرجح الأقوال وأشهرها ، واستدلوا لصحة هذا القول بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح رأس غلامٍ وقال : " عش قرنا ً" (1) فعاش مائة سنة .
وقيل : هو مطلقٌ من الزمان ، وهو مصدر قَرَن يَقْرُن .
وقيل القرن هو : أهل كل زمان ، وهو مقدار التوسط في أعمار أهل كل زمان مأخوذ من الاقتران فكأنه : المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم قال الشاعر :
إذا ذهب القرن الذي أنت فيهم * وخلفت في قرن فأنت غريب (2)
قال الأزهري : والذي يقع عندي والله أعلم أن القرن : أهل كل مدة كان فيها نبي أو كان فيها طبقة من أهل العلم قلّت السنون أو كثرت ، والدليل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " خيركم قرني - يعنى أصحابي - ثم الذين يلونهم - يعنى التابعين - ثم الذين يلونهم " (3) يعنى أتباع التابعين .
__________
(1) الحاكم في المستدرك 2 / 599 رقم 4016 ، والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة 9 / 90 ، والبخاري في التاريخ الصغير 1 / 186 رقم 868 ، وقال الحافظ الهيثمي : رواه الطبراني والبزار ورجال أحد إسنادي البزار رجال الصحيح غير الحسن بن أيوب الحضرمي وهو ثقة مجمع الزوائد 9 / 404 ، 405 .
(2) راجع : النهاية في غريب الحديث 4 / 45 ، لسان العرب 11 / 137 .
(3) البخاري كتاب الشهادات باب لايشهد على شهادة جور إذا أشهد 5 / 306 رقم 2651 ومسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم 4 / 1962رقم 2533 .(1/5)
قال : وجائز أن يكون القرن لجملة الأمة وهؤلاء قرون فيها ، وإنما اشتقاق القرن من الاقتران فتأويله : أن القرن الذين كانوا مقترنين في ذلك الوقت والذين يأتون من بعدهم ذوو اقتران آخر (1) .
ومحصَّلة هذه الأقوال أن القرن هو : مدةٌ من الزمان على اختلاف العلماء في تحديد هذه المدة ، وإن كان أشهر الأقوال وأرجحها أنه : مائة سنة ، وهذا ما تعارف عليه الناس .
والأقران هم : جماعةٌ عاشوا في تلك المدة ، وكانوا نظراء وأكفاء لبعض سواءً في الشجاعة والحرب ، أو في العلم والحفظ ، أو في غير ذلك .
قال الإمام الشافعى :
احفظ لسانك أيها الإنسان * لا يقتلنك إنه ثعبان
كم في المقابر من قتيل لسانه * كانت تخاف لقاءه الأقران
ثانياً : التعريف الاصطلاحي
لم يخرج التعريف الاصطلاحي لرواية الأقران عند علماء مصطلح الحديث عن حدود هذه المعاني :
فالأقران عندهم هم : الذين تقارب إسنادهم وسنهم .
قال الإمام الحاكم : إنما القرينان إذا تقارب سنهما وإسنادهما (2) .
وقال ابن حجر: إن تشارك الراوي ومن روى عنه في أمرٍ من الأمور المتعلقة بالرواية مثل : السن واللقى وهو : الأخذ عن المشايخ فهو النوع الذي يقال له : رواية الأقران لأنه حينئذٍ يكون راوياًً عن قرينه (3) .
وقال السخاوي : الأقران هم : من تماثلوا أو تقاربوا في السند يعني : الأخذ عن الشيوخ ، وكذا في السن ، لكن غالباً ، لأنهم ربما يكتفون كالحاكم بالتفاوت في الإسناد وإن تفاوتت الأسنان ، مع أن ظاهر كلام شيخنا - يعنى ابن حجر العسقلاني - أنه لو حصلت المقارنة في السن دون الإسناد كفى (4) .
__________
(1) راجع : معجم البلدان لياقوت الحموي 4 / 332 .
(2) معرفة علوم الحديث للحاكم 1 / 215 .
(3) نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر ص55 ، 56 .
(4) فتح المغيث شرح ألفية الحديث للسخاوي 3 / 139 .(1/6)
ومحصَّلة هذه النقول : أن الأقران هم جماعة من العلماء تقاربوا في السن وتقاربوا في الإسناد أيضاً .
ومعنى تقارب الإسناد : أن يكونوا اتفقوا في الأخذ عن مجموعةٍ من الشيوخ .
ومعنى تقارب الأسنان : أن يكونوا أحياء في عصرٍ واحد وإن تفاوتت أسنانهم .
والإمام الحاكم وغيره من العلماء يكتفون بالتقارب في الإسناد وإن تفاوتت أسنانهما ، وابن حجر وغيره يكتفون بالاشتراك في أحد الأمرين .
والأقران المعنيون في هذا البحث هم : جماعةٌ من العلماء عاشوا في زمنٍ واحد ، وعاصر بعضهم بعضاً ، وإن تفاوتت أسنانهم ، وقد يكونون متفقين في الأخذ عن بعض الشيوخ أولاً .
المبحث الثاني : رواية الأقران عند المحدثين
تناول المحدثون رواية الأقران وجعلوها أحد علوم الحديث ثم قسموها إلى قسمين :
القسم الأول : أن يروي كل واحدٍ من القرينين عن الآخر كرواية عائشة عن أبى هريرة ورواية أبى هريرة عن عائشة ويسمون هذا النوع : المُدَبَّج .
القسم الثاني : أن يروي أحد القرينين عن قرينه دون عكس ، ويسمون هذا النوع : رواية الأقران .
والعلماء يعدون رواية الأقران بقسميها من لطائف الإسناد .
وليس المقصود في هذا البحث رواية الأقران بقسميها وإنما سأتناول كلام الأقران- أى قدحهم - بعضهم في بعض .
وسأحاول جمع الأسباب الدافعة لذلك واستخلاص النتائج المترتبة عليه ثم وضع القواعد المنظمة والضابطة لهذا الجرح قبولاً أو رداً .
وأحب أن أشير في البداية إلى أني لا أقصد في هذا البحث كلام العالم الناقد الثقة في قرينه الضعيف المتهم فذلك جارٍ على قواعد المحدثين في الجرح والتعديل ، وإنما أقصد كلام العالم الناقد الثقة في قرينه العالم الناقد الثقة لأمرٍ خارج عن العدالة والضبط ، وهو ما يطلقون عليه في علم الجرح والتعديل : الجرح غير البريء أو الجرح المردود .(1/7)
ولا أشترط أيضاً أن يكون العَالِمَين تكلم بعضهم في بعض وإن كنت أحرص على هذه الصورة بل يكفيني مجرد كلام أحدهما في الآخر دون بيِّنة وتفسير .
كما أني أحرص على إيراد كلام الأقران المتعاصرين ولكني قد أعدل عن ذلك نادراً فأورد كلام عالمٍ متأخرٍ في إمامٍ متقدم عنه لغرابة هذا الكلام وللتعجب منه ولوضوح عِلَّته التي أشير إليها في موضعها .
الفصل الثاني : أسباب كلام الأقران بعضهم في بعض
الأصل الذي جرى عليه المحدثون في قواعدهم عند قيامهم بالجرح والتعديل هو : توثيق العدل الضابط وقبول روايته ، ورد رواية فاقد العدالة أو الضبط ، وهذه القاعدة مُدوَّنة في السطور ، محفورة في الصدور ، ولكن جرت العادة أن كل قاعدة مهما كانت ظاهرة أو متفقاً عليها فإن لها شواذ تخرج عنها .
فالأصل : توثيق العدل الضابط ومدحه والثناء عليه ، وهذا ما حوته كتب الرجال إلا أنه قد وُجد بجوار ذلك : اتهامٌ وقدحٌ في بعض العلماء الذين ثبتت عدالتهم وظهرت ثقتهم ، وسأحاول في هذا البحث : استكشاف أسباب هذا الجرح الشاذ ، وسأحاول حصر هذه الأسباب ما استطعت ، ولكني أشير إلى أنني لن أفترض أسباباً ، أو أعتمد على الاحتمالات العقلية وحدها ، وإن كان إعمال العقل لازماً ، وإنما سأحرص على جمع هذه الأسباب من خلال أقوال أئمة الجرح والتعديل ، ومن خلال تعليق النقاد على هذه الأقوال حتى يكون هذا البحث معتمداً على مادة علمية صحيحة ووقائع ثابتة حتى تتحقق الثقة بالنتائج المستخلصة بعد ذلك .
وسأورد لك أهم الأسباب الداعية إلى كلام الأقران بعضهم في بعض .
أولا ً: الحسد والغيرة والمنافسة
الحسد هو أن تكره النعمة التي أنعم الله بها على غيرك وتحب زوالها عنه (1) ، وهو على أربعة مراتب :
المرتبة الأولى : أن تحب زوال النعمة عن أخيك وإن لم تصل إليك ، وهذا غاية الخبث .
__________
(1) إحياء علوم الدين للإمام الغزالي 3 / 179 .(1/8)
الثانية : أن تحب زوال النعمة عن أخيك لتحصل أنت عليها .
الثالثة : أن تحب أن تحصل على النعمة التي حصل أخوك عليها فإن عجزت عن الحصول عليها أحببت زوالها عنه لئلا يظهر التفاوت بينكما .
الرابعة : أن تحب الحصول على مثل هذه النعمة فإن عجزت عن الحصول عليها فلا تحب أن تزول عنه ، وهذه تسمى غِبطة ، وقد تُسمَّى منافسة.
والمراتب الثلاثة الأولى مذمومة ، والرابعة معفوٌ عنها إن كانت المنافسة في أمرٍ من أمور الدنيا ، ومندوبٌ إليها إن كانت المنافسة في أمرٍ من أمور الدين .
وقد تُسمَّى المنافسة في الحصول على الشيء : حسداً ، وقد يوضع أحد اللفظين موضع الآخر ، ولا مشاحة في الاصطلاح ، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني ، وعليه يفهم حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - : " لا حسد إلا في اثنتين : رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار " (1) .
والحسد خلقٌ ذميمٌ لا يكاد يسلم منه أحد ، ولذلك وردت آثارٌ كثيرة تذم الحسد وتُحذِّر منه وفي الحديث: " الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب " (2) .
__________
(1) البخاري كتاب التوحيد باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار 13 / 511 رقم 7529 ، ومسلم كتاب صلاة المسافرين وقصرها باب فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه وفضل من تعلم حكمة 1 / 458 رقم 558 .
(2) أبو داود كتاب الأدب باب في الحسد 4 / 278 رقم 4903 ، وابن ماجة كتاب الزهد باب الحسد 2 / 1408 رقم 4210 .(1/9)
وقد تنبَّأ النبي - صلى الله عليه وسلم - بظهور الحسد وفُشوِّه في أمته فقال : " سيصيب أمتي داء الأمم " قالوا : وما داء الأمم ؟ قال : " الأشر ، والبطر ، والتكاثر ، والتنافس في الدنيا ، والتباعد ، والتحاسد حتى يكون البغي ، والهرج " (1) .
وقال - صلى الله عليه وسلم - : " دّبَّ إليكم داء الأمم قبلكم : الحسد ، والبغضاء هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين ، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أنبئكم بشيءٍ إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم " (2) .
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أمته عن الحسد فقال : " إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تحسسوا ، ولا تجسسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تدابروا ، ولا تباغضوا ، وكونوا عباد الله إخوانا " (3) .
وقد حذَّر العلماء من هذه الآفة ، وبيَّنوا خطورتها خاصةً إذا كانت بين العلماء .
قال ابن عباس : استمعوا علم العلماء ، ولا تُصدِّقوا بعضهم على بعض ، فوالذي نفسي بيده لهم أشد تغايُراً من التيوس فى زربها (4) .
وقال أيضاً : خذوا العلم حيث وجدتم ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض فإنهم يتغايرون تغاير التيوس في الزريبة (5) .
__________
(1) الحاكم في المستدرك 4 / 185 رقم7311 وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي .
(2) الترمذي كتاب صفة القيامة 4 / 288 رقم 2518 ، وأحمد في مسنده 2 / 189 رقم 1412 وإسناده صحيح .
(3) البخاري كتاب الأدب باب ما ينهى عن التحاسد والتدابر 10 / 496 رقم 6064 ، ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وماله وعرضه 4/1986 رقم 2564 .
(4) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ص 435 رقم 1183 .
(5) جامع بيان العلم وفضله ص435 رقم 1183 .(1/10)
وقال مالك بن دينار : يُؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض فلهم أشد تحاسداً من التيوس (1) .
والعلماء لا يحسدون بالمعنى المذموم البغيض ، وإن كان ينشأ بينهم نوعٌ من التنافس قد يجر إلى قليلٍ من الحسد فينشأ عنه كلام سوء ، وخروج عن الجادة .
والحسد مذموم ، والمنافسة محمودة ممدوحة وهي : الرغبة في الشيء ، ومحبة الانفراد به والمغالبة عليه (2) .
وفى القرآن : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ } (3) .
والفرق بين المنافسة والحسد : أن المنافسة : هي المبادرة إلى الكمال الذي تشاهده في غيرك لتنافسه فيه لتلحقه أو تجاوزه ، فهو من شرف النفس وعلو الهمة وكبر القدر ، والحسد خلق نفسٍ ذميمةٍ وضعيفةٍ ليس فيها حرص على الخير(4) .
والكلام المبني على الحسد منتشر وشائع حتى بين العلماء ، ولذلك قال الإمام المناوي : من الصبر الحسن التصبر على ما ينشأ عن الأقران وأهل الحسد سيَّما ذوي البذاءة منهم ، ووقوع هؤلاء في الأعراض ، ونقصهم لما يهمهم من الأمراض ، وذلك واقع في كل زمان ، وحسبك قول الشافعي في عقود الجمان في الذب عن أبى حنيفة النعمان : كلام المعاصرين مردود غالبه حسد ، وقد نسب إليه جماعة أشياء فاحشة لا تصدر عمن يوصف بأدنى دين وهو منها بريء قصدوا بها شينه وعدم انتشار ذكره (5) .
ولذلك لما قيل لابن المبارك فلان يتكلم في أبى حنيفة أنشد بيت قيس بن الرقيات :
حسدوك إن رأوك فضلك * الله بما فضل به النجباء (6)
وقال أبو الأسود الدؤلي :
حسدوا الفتى إذا لم ينالوا سعيه * فالناس أعداء له وخصوم (7)
__________
(1) حلية الأولياء 2 / 378 ، وجامع بيان العلم وفضله ص435 رقم 1183 .
(2) النهاية في غريب الحديث 5 / 83 .
(3) المطففين : 26 .
(4) فيض القدير للمناوي 3 / 123 نقلاً عن ابن القيم .
(5) فيض القدير 4 / 234 .
(6) جامع بيان العلم وفضله ص449 .
(7) جامع بيان العلم وفضله ص 449 .(1/11)
ولذلك حكم العلماء بردّ كلام الأقران بعضهم في بعض إذا كان ناشئاً من المنافسة والغيرة والحسد .
قال الذهبي: لا يُعتدُّ غالباً بكلام الأقران إذا كان بينهما منافسة (1) .
وقال أيضاً : قد عُرِف وهن كلام الأقران المتنافسين بعضهم في بعض نسأل الله السماح (2) .
وقال أبو عبد الله الحاكم مُعلِّقاً على كلام من تكلم في ابن حبان من أقرانه : وأبو حاتم كبير في العلو ، وكان يُحسد لفضله (3) .
وقال ابن حبان : والمحسود أبداًً يُقدح فيه ، لأن الحاسد لا غرض له إلا تتبع مثالب المحسود فإن لم يجد ألزق مُثلةً به (4) .
وتكلم الإمام الذهبي عن أسباب رفض الجرح وعدم الاعتداد به فقال : ويلتحق بذلك ما يكون سببه المنافسة في المراتب ، فكثيراً ما يقع بين العصريين : الاختلاف والتباين (5) .
وقال أيضاً : كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به ، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة ، أو لمذهب ، أو لحسد ، وما ينجو منه إلا من عصمه الله ، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس ، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رءُوفٌ رحيم (6) .
ولذلك يجب البحث والتحري ، والدقة والتروي ، وعدم التسرع في قبول كلام الأقران بعضهم في بعض خاصةً إذا ظهرت قرينة تؤكد صدوره بسبب الحسد أو المنافسة .
لأن المنافسة والرغبة في التقدم وسبق الأقران قد تؤدي بصاحبها إلى نوعٍ من الحسد ، وهذا لا يسلم منه أحد ، والأمثلة الدالة على ذلك كثيرة منها :
__________
(1) سير أعلام النبلاء 14 / 42 .
(2) سير أعلام النبلاء 17 / 462 .
(3) لسان الميزان 5 / 121 .
(4) الثقات 8 / 26 .
(5) لسان الميزان 1 / 109 .
(6) ميزان الاعتدال للذهبي 1 / 111 .(1/12)
المثال الأول : موقف الإمام محمد بن يحيى الذهلي من الإمام البخاري في مسألة اللفظ (1) وفي هذا السبب الذي يقوله التاج السبكي عبرة بالغة .
فقد نزل الإمام البخاري نيسابور فاجتمع إليه الناس جميعا العلماء والعوام، وانفض كثير من الطلبة عن حلقات غيره حتى ظهر الخلل في حلقة محمد بن يحيى الذهلي فحسد البخاري لذلك ، وأساء القول فيه .
فقد قرر السبكي في ترجمة البخاري أن سبب ذلك الموقف هو : حسد الذهلي للبخاري فقال : ولا يرتاب المنصف في أن محمد بن يحيى الذهلي لحقته آفة الحسد التي لم يسلم منها إلا أهل العصمة (2) .
وقد سأل بعضهم البخاري عما بينه وبين محمد بن يحيى فقال البخاري : كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء (3).
وقال الحسن بن محمد بن جابر : سمعت محمد بن يحيى قال لنا لما ورد محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه فذهب الناس إليه وأقبلوا على السماع منه حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى فحسده بعد ذلك وتكلم فيه (4) .
وقد علّق الذهبي على موقف الذهلي من البخاري قائلاً : ومازال كلام الكبار المتعاصرين بعضهم في بعض لا يُلَوى عليه بمفرده (5) .
المثال الثاني : قال مكحول : ما زلت مضطلعاً على من ناوأني حتى عاونهم عليَّ رجاء بن حيوة ، وذلك أنه كان سيد أهل الشام في أنفسهم (6) .
__________
(1) إشارة إلى الخلاف الواقع بين العلماء حول قضية اللفظ بالقرآن أهو مخلوق أو غير مخلوق ؟ راجع : هدي الساري ص514 .
(2) طبقات الشافعية الكبرى للتاج السبكي 2 / 230 .
(3) سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي 12 / 457 .
(4) تاريخ بغداد للخطيب 2 / 30 ، وسير أعلام النبلاء 12 / 453 .
(5) سير أعلام النبلاء 12 / 285 .
(6) سير أعلام النبلاء 4 / 558 .(1/13)
وقال مرةً أخرى : ما زلت مستقلاً بمن بغاني حتى أعانهم عليَّ رجاء ابن حيوة ، وذلك أنه رجلٌ من أهل الشام (1) .
وقد علَّق الذهبي على كلام مكحول قائلاً : كان ما بينهما فاسداً، وما زال الأقران ينال بعضهم من بعض ، ومكحول ورجاء إمامان ، فلا يلتفت إلى قول واحدٍ منهما في الآخر (2) .
المثال الثالث : قال الإمام الذهبي في ترجمة المحدث محمد بن عبد الله ابن سليمان الملقب بمُطيَّن : تكلم فيه محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، وتكلم هو في ابن عثمان ، فلا يُعتدُّ غالباً بكلام الأقران ، لا سيَّما إذا كان بينهما منافسة ، فقد عدَّد ابن عثمان لمُطيَّن نحواً من ثلاثة أوهام ، فكان ماذا ؟ ومطيَّن أوثق الرجلين ، ويكفيه تزكية مثل الدارقطني له ، فقد سئل عنه الدارقطني فقال : ثقةٌ جبل (3) .
وقال ابن عدي الجرجاني بعد أن ذكر قول مطين في محمد بن عثمان ابن أبي شيبة: ولعلَّ مطين بالبلدية (4) لأنهما كوفيان جميعاً قال فيه ما قال (5) .
المثال الرابع : الإمام الحافظ الحسن بن علي بن شبيب أبو علي البغدادي المعمري قال عنه الحافظ الذهبي : الإمام الحافظ المجود البارع محدث العراق جمع وصنف وتقدم (6) .
وقال عنه الخطيب : كان من أوعية العلم ، يُذكر بالفهم ، ويُوصف بالحفظ (7) .
وقال عبدان : سمعت فضلك الرازي ، وجعفر بن الجنيد يقولان : المعمري كذاب .
ثم قال عبدان : حسداه ، لأنه كان رفيقهم ، فكان إذا كتب حديثا غريبا لا يفيدهما (8) .
الثاني : العداوة والبغضاء
__________
(1) تهذيب الكمال 9 / 154 .
(2) سير أعلام النبلاء 4 / 558 .
(3) سير أعلام النبلاء 14 / 42 .
(4) يقصد ابن عدي : أن سبب كلام مطين فيه هو الحسد والمنافسة لأنهما من بلدٍ واحد كما أشار إليه بعد .
(5) الكامل في ضعفاء الرجال 6 / 295 .
(6) سير أعلام النبلاء 13 / 511 .
(7) سير أعلام النبلاء 13 / 512 .
(8) ميزان الاعتدال1 / 504 .(1/14)
ربما يختلف القرينان في المذهب أو في فروع الاعتقاد أو في غير ذلك فتنشأ عن ذلك عداوة بينهما ، وكل واحدٍ منهما يظن صاحبه مخطئاً فيقول فيه ، والعداوة إذا وقعت بين اثنين مؤمنين متفقين في المذهب والاعتقاد لم يُقبل كلام أحدهما في الآخر فكيف إذا كانت العداوة بسبب العقائد التي كان من جرّاء الاختلاف فيها : هتك المحارم وارتكاب العظائم وسفك الدماء ؟ نسأل الله السلامة .
والحب يتولَّد عنه رضا يجعل الإنسان لا يرى إلا الحسنات ، ويغفل عن السيئات ، فلا يرى إلا كل خير ويتأول لما يراه من خطأ أو تقصير ، والبغض يجعله لا يرى إلا السيئات ، ويغفل عن الحسنات ويقلل من قدرها ، ويعظم قدر السيئات ، فيرى القذاة جذعاً والفأر جبلاً وصدق الشاعر إذ يقول :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة * ولكن عين السخط تبدي المساويا
وفي الحديث : " حبك الشيء يعمي ويصم " (1) .
أي يجعلك الحب أعمى عن عيوب المحبوب ، أصم عن سماعها حتى لا تبصر قبيح فعله ولا تسمع فيه نهي ناصح ، بل ترى القبيح منه حسناً ، وتسمع منه الخنا قولاً جميلاً قال الشاعر :
وكذبت طرفي فيك والطرف صادق * وأسمعت أذني فيك ما ليس تسمع
فالواجب في مثل هذه الحالة عدم قبول قول بعضهم في بعض ورد القولين معاً وقبول كلام المنصفين المعتدلين .
قال الذهبي : لا يُسمع قول الأعداء بعضهم في بعض (2) .
__________
(1) أبو داود كتاب الأدب باب في الهوى 4 / 336 رقم 5130 ، وأحمد في مسنده 16 / 64 رقم 21590 ، وقال الحافظان العراقي وابن حجر : يكفينا سكوت أبي داود عليه فليس بموضوع ولا شديد الضعف فهو حسن ، وقال القاري : فالحديث إما صحيح لذاته أو لغيره مرتق عن درجة الحسن لذاته إلى صحة معناه وإن لم يثبت مبناه راجع : كشف الخفاء للعجلوني 1 / 410 حديث رقم 1095.
(2) ميزان الاعتدال 2 / 433 .(1/15)
وهذا لا يعني أن العلماء يُعادي بعضهم بعضاً فيقعون في بعض بسبب ذلك بل العلماء في جملتهم منزهون عن ذلك ، ولكن قد تقع العداوة من بعضهم - وهو نادر - لسببٍ من الأسباب فيُرَدُّ قوله .
قال الذهبي : لسنا ندَّعي في أئمة الجرح والتعديل العصمة من الغلط النادر ولا من الكلام بنَفَسٍ حاد فيمن بينه وبينه شحناء وإحنة ، وقد عُلِم أن كثيراً من كلام الأقران بعضهم في بعض مهدرٌ لا عبرة به ولاسيَّما إذا وثَّق الرجل جماعة يلوح على قولهم الإنصاف (1) .
وهذه القاعدة النفيسة لو أنها أُعملت في كثيرٍ من النزاعات التي تحدث بين بعض أقران العلماء أو الدعاة في عصرنا ؛ لاطَّرحنا كثيراً من النزاع والجدل الذي نسمعه أحياناً هنا أو هناك ، ولاستقرت القلوب على حب العلماء واحترامهم .
وقال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة : إذا صدر الجرح من تعصب أو عداوة أو منافرة أو نحو ذلك فهو جرح مردود ، وكذا جرح الأقران بعضهم في بعض إذا كان بغير حجة وبرهان وكان مبنياً على التعصب والمنافرة فإن لم يكن هذا ولا ذاك فهو مقبول فافهم (2) .
وهذه أمثلة تبين لك أثر العداوة في كلام الأقران في بعض :
المثال الأول : قال الذهبي في ترجمة أبى الزناد عبد الله بن ذكوان : قال ربيعة فيه : ليس بثقةٍ ولا رضي .
قال الذهبي: ولا يُسمع قول ربيعة فيه ، فإنه كان بينهما عداوة ظاهرة (3) .
وقال ابن حجر : لم يلتفت الناس إلى ربيعة في ذلك للعداوة التي كانت بينهما بل وثَّقوه (4) .
بل تأمل كيف فعلت بهم هذه العداوة :
قال إبراهيم بن المنذر الحزامي : هو كان سبب جّلْدِ ربيعة الرأي - أي أبو الزناد - ثم ولي بعد ذلك المدينة : فلان التيمي فأرسل إلى أبي الزناد فطيَّن عليه بيتاً فشفع فيه ربيعة .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 / 41 .
(2) قواعد في علوم الحديث للتهانوي ص 197 .
(3) ميزان الاعتدال 2 / 36 .
(4) هدى الساري مقدمة فتح الباري ص 433 .(1/16)
قال الذهبي : تؤول الشحناء بين القرناء إلى أعظم من هذا ، ولمَّا رأى ربيعة أن أبا الزناد يهلك بسببه ما وسعه السكوت فأخرجوا أبا الزناد وقد عاين الموت وذبُل ومالت عنقه ، نسأل الله السلامة (1) .
المثال الثاني : قال الذهبي في ترجمة ابن أبى داود : لا ينبغي سماع قول ابن صاعد فيه كما لم نعتد بتكذيبه لابن صاعد ، وكذا لا يُسمع قول ابن جرير فيه فإن هؤلاء بينهم عداوة بيِّنه ، فقف في كلام الأقران بعضهم في بعض (2) .
وعلَّق على كلام ابن جرير في ابن أبى داود قائلاً : لا يُسمع هذا من ابن جرير للعداوة الواقعة بين الشيخين (3) .
وعلَّق على كلام ابن مندة فيه فقال : لا يُسمع قول العدو في عدوه (4) . وقال أيضاً : وقع بين ابن جرير وبين ابن أبى داود وكان كل منهما لا يُنصف الآخر ، وكانت الحنابلة حزب أبى بكر بن أبى داود فكثروا وشغبوا على ابن جرير ، وناله أذى ، ولزم بيته ، نعوذ بالله من الهوى (5) .
المثال الثالث : نقل الذهبي قدح أبى نعيم في ابن مندة ثم قال : لا نعبأ بقولك في خصمك للعداوة السائرة كما لا يُسمع أيضاً قوله فيك ، فلقد رأيت لابن مندة حطاً مُقْذِِِعاً على أبى نعيم وتبديعاً ومالا أحب ذكره ، وكل منهما فصدوق في نفسه غير متهم في نقله بحمد الله (6) .
وقال في موضعٍ آخر مخاطبا أبا نعيم : لا يُعبأ بقولك في خصمك للعداوة المشهورة بينكما كما لا يُعبأ بقوله فيك ، فلقد رأيت لابن مندة مقالاً في الحط على أبى نعيم من أجل العقيدة أقذع فيه ، وكل منهما صدوق غير متهم بحمد الله في الحديث (7) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 5 / 448 .
(2) تذكرة الحفاظ للذهبي 2 / 772 .
(3) سير أعلام النبلاء 13 / 230 .
(4) سير أعلام النبلاء 13 / 299 .
(5) سير أعلام النبلاء 14 / 277 .
(6) سير أعلام النبلاء 17 / 34 .
(7) تذكرة الحفاظ 3 / 1034 .(1/17)
وقال أيضاً : كان عبد الله بن مندة يُقذع في المقال في أبى نعيم لمكان الاعتقاد المتنازع فيه بين الحنابلة وأصحاب أبي الحسن ، ونال أبو نعيم أيضاً من أبي عبد الله في تاريخه ، وقد عُرف وهن كلام الأقران المتنافسين بعضهم في بعض نسأل الله السماح (1) .
وكانت سبب الوحشة بين أبي نعيم وابن مندة : الخلاف المتأجج بين العلماء وقتئذٍ حول قضية اللفظ بالقرآن أهو مخلوق أو غير مخلوق ؟
وقد صنف أبو نعيم في ذلك كتابه في الرد على اللفظية والحلولية ومال فيه إلى جانب النفاة القائلين بأن التلاوة مخلوقة ، ومال ابن مندة إلى جانب من يقول : إنها غير مخلوقة ، وحكى كل واحدٍ منهما ما يؤكد قوله ووقع كلٌ منهما في الآخر بسبب ذلك ، غفر الله لهما وتجاوز عنهما .
المثال الرابع : أحمد بن صالح المصري إمام ثقة سمع من حرملة بن يحيى الأحاديث التي رواها عن ابن وهب ولكن حرملة أعطاه نصف سماعه ومنعه النصف .
قال ابن عدي : فتولدت بينهما العداوة من هذا (2) .
فكان طالب العلم إذا دخل مصر فبدأ بالسماع من حرملة لم يحدثه أحمد ابن صالح للعداوة الواقعة بينهما حتى قال عبد الله بن محمد بن سَلْم المقدسي : قدمت مصر فبدأت بحرملة ... ثم ذهبت إلى أحمد بن صالح فلم يحدثني فحملت كتاب يونس (3) فخرّقته بين يديه أرضيه بذلك ، وليتني لم أُخرّقه فلم يرض ولم يحدثني (4) .
قال الذهبي : نعوذ بالله من هذه الأخلاق ، صدق أبو سعيد بن يونس حيث يقول : لم يكن له آفة غير الكبر فلو قُدِح في عدالته بذلك ، فإنه إثم كبير (5) .
فانظر رحمك الله كيف تفعل العداوة بالإنسان ، نسأل الله سلامة الصدر ومحبة الصالحين ، والإنصاف مع المحبين والمبغضين .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 17 / 462 .
(2) الكامل في الضعفاء 2 / 461 .
(3) يقصد الكتاب الذي سمعه من حرملة وهو كتاب يونس بن يزيد .
(4) سير أعلام النبلاء 12 / 173 ، 174 .
(5) سير الأعلام 12 / 173 ، 174 .(1/18)
الثالث : الغضب وسوء الرأي
الغضب جمرةٌ من النار وضعت في قلب ابن آدم ، فإذا ثارت أحرقت ضياء العقل ، وإذا اشتعلت أفسدت حكمة القلب ونوره ، فإن تمادت بصاحبها أورثت حقداً وحسداً .
والغضب كالحب يعمي ويصم ، وعندما يغضب الإنسان لا يرى إلا كل سيئ ، ولا تطلع عينه إلا على كل قبيح .
والعلماء بشرٌ يرضون فيرون الحسن ويذكرونه ، وقد يغضب أحدهم فلا يرى إلا القبيح ، وقد يستفزهم الغضب فيحملون الأمر على ظاهره السيئ ويسيئون الرأي في فاعله ، وقد يكون له مخرجٌ حسن وتأويلٌ مقبول ، وهذا ينافى الكذب الذي هو مخالفة الحقيقة عمداً .
عن ابن عباس قال : اجتمع عند النبي - صلى الله عليه وسلم - : قيس بن عاصم ، والزبرقان ابن بدر ، وعمرو بن الأهتم ، ففخر الزبرقان فقال : يا رسول الله أنا سيد تميم ، المطاع فيهم ، والمجاب منهم ، آخذ لهم بحقوقهم ، وأمنعهم من الظلم ، وهذا يعلم ذلك ، يعني عمرو بن الأهتم ، فقال عمرو : وإنه لشديد العارضة ، مانعٌ لجانبه ، مطاعٌ في أدانيه ، فقال الزبرقان : والله لقد كذب يا رسول الله ، وما يمنعه أن يتكلم إلا الحسد ، فقال عمرو : أنا أحسدك لِلَّهِ فوالله إنه للئيم الخال ، حديث المال ، أحمق الوالد ، مبغض في العشيرة ، والله يا رسول الله ما كذبتُ فيما قلتُ أولاً ، ولقد صدقتُ فيما قلتُ آخرا ، لكني رجل رضيتُ فقلت أحسن ما علمت ، وغضبتُ فقلت أقبح ما وجدت ، ولقد صدقتُ في الأمرين جميعاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إن من البيان لسحرا " (1) .
__________
(1) الحاكم في المستدرك 3 / 710 رقم 6568 ، والطبراني في المعجم الأوسط 7 / 341 رقم 2185 .(1/19)
ولذلك كان النبي يسأل ربه أن يرزقه قول الحق في الغضب والرضا ففي الحديث أن رسول الله كان يدعو ربه قائلاً : " وأسألك كلمة الحق في الرضا والغضب " (1) .
ولقد أورد ابن عبد البر بعض ما وقع بين الصحابة وكبار العلماء ثم قال:
وقد كان بين أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلة العلماء عند الغضب كلام هو أكثر من هذا ، ولكن أهل العلم والفهم والفقه لا يلتفتون إلى ذلك لأنهم بشر يغضبون ويرضون ، والقول في الرضا غير القول في الغضب ، ولقد أحسن القائل : لا يُعرف الحكيم إلا ساعة الغضب (2) .
قال ابن الصلاح : وذلك لأن عين السخط تبدى لها مساوئ لها في الباطن مخارج صحيحة تعمى عنها بحجاب السخط لا أن ذلك يقع منهم تعمداً للقدح مع العلم ببطلانه ، فاعلم هذا فإنه من النكت النفيسة المهمة (3) .
وقال السخاوي : ربما حصل غضبٌ لمن هو من أهل التقوى فبدرت منه بادرة ، فحبك الشيء يعمي ويصم ، لا أنهم مع جلالتهم ووفور ديانتهم تعمدوا القدح بما يعلمون بطلانه ، حاشاهم وكل تقي من ذلك (4) .
وقد تكلم بعض الأقران في بعض ولم يحملهم على ذلك إلا مطلق الغضب وهذه أمثلة تبين ذلك :
__________
(1) النسائي كتاب السهو باب نوعٌ آخر من الدعاء 3 / 55 ، وأحمد في مسنده 14 / 138 رقم 18241 ، والحاكم في المستدرك 1 / 524 وصححه ووافقه الذهبي .
(2) جامع بيان العلم وفضله ص440 .
(3) علوم الحديث لابن الصلاح ص390 .
(4) فتح المغيث 3 / 274 ، 275 .(1/20)
المثال الأول : فهذا أحمد بن صالح المصري أحد أئمة الحديث الحفاظ المتقنين الجامعين بين الفقه والحديث ، وثَّقه البخاري ، وأبو حاتم ، ويعقوب الفسوي ، والعجلي وغيرهم ، واحتج بروايته جميع الأئمة إلا النسائي ، فقد كان سيئ الرأي فيه ، وكان يتهمه ويقول فيه ، فلقد ذكره مرة فقال : ليس بثقة ولا مأمون (1) .
ونقل في ذلك قول يحيى بن معين حينما سُئل عن أحمد بن صالح فقال : كذاب يتفلسف ، رأيته يخطر في الجامع بمصر (2) .
فاستند النسائي في تضعيفه لأحمد بن صالح على هذا القول ، ونقله واستروح إليه ، وإنما حمله على ذلك - وهو الإمام الناقد - : سوء رأيه في أحمد بن صالح ، وشدة غضبه منه .
وقد ذكر أبو جعفر العقيلي سبب غضب النسائي من أحمد بن صالح المصري فقال : كان أحمد بن صالح لا يُحدِّث أحداً حتى يسأل عنه ، فلما أن قدم النسائي مصر جاء إليه وقد صحب قوماً من أهل الحديث لا يرضاهم أحمد فأبى أحمد أن يأذن له ، فكل شيء قدر عليه النسائي أن جمع أحاديث قد غلط فيها أحمد بن صالح فشنع عليه بها ، وما ضره ذلك شيئاً ، وأحمد بن صالح إمام ثقة (3) .
وقال ابن عدى : وسبب كلام النسائي في أحمد بن صالح المصري أنه حضر مجلسه فطرده ، فحمله ذلك على أن تكلم فيه (4) .
__________
(1) الضعفاء والمتروكون للنسائي ص 61 رقم 69 من المجموع في الضعفاء والمتروكين دراسة وتحقيق عبد العزيز السيروان .
(2) اختلف العلماء في توجيه كلام يحيى في أحمد بن صالح فقال ابن عدى : كلام ابن معين فيه تحامل راجع : الكامل في الضعفاء لابن عدى 1 / 183 ، وقال ابن حبان : لم يُرد ابن معين أحمد بن صالح المصري وإنما قصد أحمد بن صالح الشمومي فأما هذا فهو يقارن ابن معين في الحفظ والإتقان الثقات 8 / 26 ، ورجَّح ابن حجر هذا القول راجع : تهذيب التهذيب 1 / 71 .
(3) تهذيب التهذيب 1 / 71 .
(4) الكامل في الضعفاء لابن عدى 1 / 183 .(1/21)
وقال الخطيب البغدادي : نال النسائي منه جفاءاً في مجلسه ، فذلك الذي أفسد الحال بينهما (1) .
وقال أبو يعلى الخليلي : اتفق الحفاظ على أن كلامه فيه تحامل (2) .
وقال مسلمة بن القاسم : كان سبب تضعيف النسائي له : أن أحمد بن صالح كان لا يحدث أحداً حتى يشهد عنده رجلان من المسلمين أنه من أهل الخير والعدالة فكان يحدثه ، ويبذل له علمه ، وكان يذهب في ذلك مذهب زائدة ابن قُدامة ، فأتى النسائي ليسمع منه ، فدخل بلا إذن ، ولم يأته برجلين يشهدان له بالعدالة ، فلما رآه في مجلسه أنكره ، وأمر بإخراجه ، فضعفه النسائي لهذا (3) .
وقال الذهبي : أما كلام النسائي في أحمد بن صالح فكلام موتور لأنه آذى النسائي وطرده من مجلسه فقال فيه : ليس بثقة (4) .
قال ابن حبان : كان أحمد بن صالح صلفاً تياهاً لا يكاد يعرف أقدار من يختلف إليه ، وكان يحسد على ذلك (5) .
المثال الثاني : قال الحافظ أبو حامد بن الشرقي : كان يحيى بن معين وأبو عبيد سيئا الرأي في الشافعي .
قال الذهبي معلقا ً: فصدق والله ابن الشرقي أساءا في ذاتهما بالكلام في عالم زمانه (6) .
فسوء رأيهما في الشافعي ناشئ من عدم معرفتهم به ، وعندما خالفهم في فروع الفقه غضبا ، وأساءا الظن به ، فأساءا القول فيه ، رحمهم الله جميعا وغفر لهم .
الرابع : الجهل بقدر العلماء
وذلك بسبب عدم اللقاء بهم ، أو المجالسة لهم ، أو المذاكرة معهم ، والحكم على الشيء هو فرع عن تصوره ، ونقد الراوي يجب أن يُبنى على معرفته ، أو نقل كلام الثقات المصنفين الذين يعرفونه .
__________
(1) تاريخ بغداد 4 / 200 .
(2) هدى الساري ص 405 .
(3) سير أعلام النبلاء 12 / 167 ، 168 .
(4) سير أعلام النبلاء 11 / 83 .
(5) الثقات لابن حبان 8 / 25 .
(6) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ص30 .(1/22)
ولكن المعاصرة حجاب ، فقد يخفى قدر المعاصر وشرفه على معاصريه فيتكلم فيه بعضهم ، خاصةً إذا لم يجالسوه ويدارسوه ، أو سمعوا عنه من حاسديه ومبغضيه فقط ، وهذه أمثلة وشواهد تؤكد هذا المعنى :
المثال الأول : حينما تكلم يحيى بن معين في الإمام الشافعي علَّق الإمام أحمد بن حنبل على ذلك قائلاً : من أين يعرف يحيى بن معين الشافعي ؟ هو لا يعرف الشافعي ، ولا يعرف ما يقوله أو نحو هذا ، ومن جهل شيئاً عاداه (1).
وعلَّق ابن عبد البر على ذلك قائلاً : صدق أحمد بن حنبل رحمه الله إن ابن معين لا يعرف ما يقول الشافعي رحمه الله ... ولقد أحسن أكثم بن صيفي رحمه الله في قوله : ويل لعالم أمر من جاهل ، ومن جهل شيئاً عاداه ، ومن أحب شيئاً استعبده ، ثم ذكر قول من صرف كلام ابن معين إلى غير الإمام الشافعي وقال : وهذا كله عندي تخرص وتكلم على الهوى ، وقد صح عن ابن معين من طرق أنه كان يتكلم في الشافعي على ما قدمت لك حتى نهاه أحمد ابن حنبل رحمه الله ونبهه على موضعه من العلم وقال له : لم تر عيناك قط مثل قول الشافعي (2) .
ولذلك تعجَّب الإمام الذهبي ممن تكلم في الإمام الشافعي حتى قال : ما تكلم في الشافعي إلا حاسد أو جاهل بحاله (3) .
وقال في معرض الحديث عنه : من نال منه بجهل وهوى ممن عُلم أنه منافس له فقد ظلم نفسه (4) .
المثال الثاني : قال العجلي عند ترجمته للإمام الشافعي : هو ثقة صاحب رأي ، وليس عنده حديث .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله ص 447 .
(2) جامع بيان العلم وفضله ص 447 .
(3) سير أعلام النبلاء 10 / 48 .
(4) سير أعلام النبلاء 10 / 94 .(1/23)
وقد نقل الإمام الذهبي هذا الكلام ثم عقّب عليه قائلاً : هو قول من لا يدري ما يقول في حق الإمام أبى عبد الله ، وما عرفه العجلي ولا جالسه فالشافعي من جلة أصحاب الحديث ، رحل فيه وكتب بمكة والمدينة والعراق واليمن ولُقِّب ببغداد : ناصر الحديث ، وهو قلَّما يوجد له حديث غلط ، والله حسيب من يتكلم بجهل أو هوى ، فإن السكوت يسع الشخص (1) .
المثال الثالث : قال الإمام مالك في حق محمد بن إسحاق بن يسار: هو دجال من الدجاجلة .
وقد حمل بعض العلماء كلام مالك هذا في ابن إسحاق بأنه ناشئ عن عدم المعرفة التامة به ، أو المجالسة له والسماع منه واختبار ما عنده .
فعن يعقوب بن شيبة قال: سألت علياً - يعني ابن المديني - فقلت : كيف حديث ابن إسحاق عندك صحيح ؟ فقال : نعم حديثه عندي صحيح .
قلت : فكلام مالك فيه ؟ قال : مالك لم يجالسه ولم يعرفه ، وأي شيءٍ حدث به ابن إسحاق بالمدينة ؟ (2) .
المثال الرابع : ذُكر عند يحيى بن سعيد القطان : إبراهيم بن سعد وعقيل بن خالد فجعل يقول : عقيل وإبراهيم بن سعد كأنه يضعفهما ، فقال أحمد بن حنبل : وأيش ينفع هذا ؟ هذان ثقتان لم يخبرهما يحيى (3) .
الخامس : طبيعة البشر وأن أحداً لم يسلم من الطعن فيه
لأن لكل إنسان أحباباً وأعداءً ، وموافقين ومخالفين ، ومحبين ومبغضين ، وقد جُبِل الإنسان على الكلام في أعدائه ومخالفيه ومبغضيه - إلا من رحم الله - وقلَّما يسلم من ذلك أحد ، ولذلك لم يسلم أحدٌ من الكلام والطعن فيه حتى رب العزة عز وجل لم يسلم من الكلام فيه ونسبة ما لا ينبغي إليه قال تعالى :
{ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ } (4)
وقال تعالى :
{
__________
(1) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لايوجب ردهم ص 32 .
(2) سير أعلام النبلاء 7 / 44 .
(3) هدى الساري ص 407 .
(4) المائدة : 64 .(1/24)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } (1) .
قال عبد الرحمن بن عمر الأصبهاني : كنا في مجلس عبد الرحمن بن مهدي ، إذ دخل عليه شاب ، فما زال حتى أجلسه إلى جنبه . قال : فقام شيخ من المجلس فقال : يا أبا سعيد إن هذا الشاب يتكلم فيك حتى إنه ليكذبك ، فقال عبد الرحمن : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ... قال تعالى : { ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (2) ثم قال عبد الرحمن : حدثني أبو عبيدة الناجي قال : كنا في مجلس الحسن البصري إذ قام إليه رجل فقال : يا أبا سعيد إن هاهنا قوما يحضرون مجلسك ليتتبعوا سقط كلامك . فقال الحسن : يا هذا إني أطمعت نفسي في جوار الله فطمعت ، وأطمعت نفسي في الحور العين فطمعت ، وأطمعت نفسي في السلامة من الناس فلم تطمع ، إني لما رأيت الناس لا يرضون عن خالقهم علمت أنهم لا يرضون عن مخلوق مثلهم (3) .
وقد رُوي أن نبي الله موسى عليه السلام قال : يا رب اقطع عني ألسن بني إسرائيل فأوحى الله تعالى إليه : يا موسى إذا لم أقطعها عن نفسي فكيف أقطعها عنك (4) .
ولم يسلم الأنبياء من الطعن فيهم والنيل من أعراضهم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } (5) .
__________
(1) آل عمران : 181 .
(2) فصلت : 34 ، 35 .
(3) تبيين كذب المفتري: ص 422.
(4) جامع بيان العلم وفضله ص 448 .
(5) الأحزاب : 69 .(1/25)
وكذا كبار الصحابة كالخلفاء الأربعة وغيرهم فهذا سعد بن أبى وقاص يتكلم فيه الكوفي ، وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأحد الستة الذين جعل عمر بن الخطاب الشورى فيهم ، وقال : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض (1) .
فمن الذي يسلم من الكلام فيه بعد هؤلاء ؟ .
ولذلك قال الإمام محمد بن جرير الطبري : لو كان كل من ادُّعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ما ادُّعي عليه ، وسقطت عدالته ، وبطلت شهادته بذلك للزم ترك أكثر محدثي الأمصار ، لأنه ما منهم أحد إلا وقد نسبه قوم إلى ما يُرغب عنه (2) .
ويكفي أن تنظر في فهرس كتاب : " الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم " للإمام الذهبي لتجد فيه أمثال : أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وإسماعيل بن عُلَيَّه ، وجعفر الصادق ، وأبو داود الطاليسي ، وسليمان ابن مهران الأعمش ، وعبد الرزاق بن همام الصنعاني ، وعلي بن الجعد ، وقيس بن أبى حازم ، ومالك بن دينار ، ومحمد بن إدريس الشافعي ، ومعمر بن راشد ، ووهب بن منبه ، وأبو إسحاق السبيعي وغيرهم من كبار الأئمة .
فرغم أنهم أئمة كبار ، وعلماء ثقات إلا أنهم لم يسلموا من الطعن فيهم فمتى اتُهم هؤلاء وطعن فيهم فكيف يسلم لنا ديننا ؟ ولكن طبيعة البشر تأبى إلا الخوض في كبار العلماء عند المخالفة في المذهب أو الاعتقاد .
__________
(1) البخاري كتاب المناقب باب قصة البيعة والاتفاق على عثمان بن عفان 7 / 74 رقم 3700 ، ومسلم كتاب المساجد ومواضع الصلاة باب نهي من أكل توماً أو بصلاً أو كراثاً أو نحوها مما له رائحة كريهة عن حضور المسجد حتى تذهب تلك الريح وإخراجه من المسجد 1 / 396 رقم 567 .
(2) هدى الساري ص 449 .(1/26)
قال محمد بن مفلح : ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم نحو ما يُذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي ، وكلام الشعبي في عكرمة وفيمن كان قبلهم ، وتناول بعضهم في العرض والنفس (1) .
ولقد أحسن أبو العتاهية حيث يقول:
ومن ذا الذي ينجو من الناس سالماً * وللناس قال بالظنون وقيل (2)
فهذا الإمام مالك بن أنس أحد أعلام الأمة وأئمتها تكلم فيه : محمد بن أبى ذئب ، وإبراهيم بن سعد ، وإبراهيم بن أبى يحيى ، وعبد العزيز بن أبي سلمة ، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، ومحمد بن إسحاق ، وابن أبي الزناد وعابوا أشياء من مذهبه وتكلم فيه غيرهم ... ونسبوه إلى ما لا يُحسن ذكره ، وقد برَّأ الله عز وجل مالكاً عما قالوا ، وكان إن شاء الله عند الله وجيهاً (3) .
وقال الإمام الذهبي : هذا مالك هو النجم الهادي بين الأمة وما سلم من الكلام فيه (4) .
ولم ينج الإمام الشافعي ، والإمام أبو حنيفة ، والإمام أحمد من الكلام فيهم حنى قال الإمام الذهبي في معرض ترجمته للإمام أحمد والدفاع عنه : تكلم فيه بعض من ابتدع ، وبالضرورة فما زالت رؤوس البدع يتكلمون في أئمة السنة (5) وما مثل من تكلم في مالك والشافعي ونظائرهما من الأئمة إلا كما قال الأعشى :
كناطح صخرة يوماً ليوهنها * فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
أو كما قال الحسين بن حميد :
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه * أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل (6)
السادس : التأويل واختلاف الاجتهاد
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 / 40 .
(2) جامع بيان العلم وفضله ص 448 .
(3) جامع بيان العلم وفضله ص 447 ، 448 .
(4) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ص 25 .
(5) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ص 56 .
(6) جامع بيان العلم وفضله ص 448 .(1/27)
جرت طبيعة البشر أنهم يختلفون في النظر والحكم على بعض الأشياء فهذا يحبها وهذا يبغضها ، وهذا يقبلها وهذا يرفضها ، فقد يدخل بعض العلماء على السلطان ويرى ذلك سائغاً له لنصحه وإرشاده ، ولرفع بعض الظلم عن المظلومين ، أو لحماية ماله وثروته ، أو لغير ذلك من الأسباب التي يراها الداخل على السلطان سائغة بينما يرى البعض ذلك قادحاً فيه ، ويتكلم فيه لذلك .
وقد يأخذ بعض العلماء أجراً على التحديث ، ويرى ذلك جائزاً له لأنه يستغرق وقته ، وليس عنده ما ينفق منه على أهله ، ولم يثبت عنده تحريم هذا الأجر بينما يرى غيره عدم جواز ذلك ويقدح فيه من أجل ذلك .
وقد يرى بعض العلماء جواز التمتع بزينة الحياة الدنيا فيظهر عليه أثر الغنى في ملبسه ومأكله فيتهمه البعض ويقدح فيه من أجل ذلك .
وقد يفتي البعض بتحريم أمرٍ ما ويفتى غيره بجوازه فيقدح فيه لذلك . وأمثال هذه الأمور كثير مما تختلف فيه وجهات النظر والطباع ، وتتعدد فيه الآراء والاجتهادات ، سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا ، ولا ضير في هذه الاختلافات طالما كان المختلفون ملتزمين بقواعد الشرع وأحكام الإسلام لكنها تجاوزتها أحياناً إلى القدح والتضعيف بما لا يوجب ضعفا .
قال ابن حجر: عاب جماعةٌ من الورعين جماعةً دخلوا في أمر الدنيا فضعفوهم لذلك ، ولا أثر لذلك التضعيف مع الصدق والضبط (1) .
وهذه أمثلة تبين ذلك وتؤكده :
المثال الأول : حميد بن هلال العدوي من كبار التابعين وثَّقه ابن معين ، والعجلي ، والنسائي وغيرهم بينما قال يحيى القطان : كان ابن سيرين لا يرضاه وقد بيَّن أبو حاتم الرازي سبب قدح ابن سيرين فيه فقال : إن ذلك كان بسبب أنه دخل في شيءٍٍ من عمل السلطان (2) ، وكان في الحديث ثقة (3) .
__________
(1) هدى الساري ص404 .
(2) الجرح والتعديل لابن أبى حاتم 3 / 230 .
(3) الجرح والتعديل لابن أبى حاتم 3 / 230 .(1/28)
ويدخل في هذا الباب ما ذكره الميموني قال : قلت لأحمد بن حنبل : إن أهل حران يسيئون في أحمد بن عبد الملك بن واقد الحراني فقال أحمد : إن أهل حران قلّ أن يرضوا عن إنسان ، هو يغشى السلطان بسبب ضيعة له (1) .
قال ابن حجر: فأفصح أحمد بالسبب الذي طعن فيه أهل حران من أجله وهو غير قادح ، وقد قال أبو حاتم : كان من أهل الصدق والإتقان (2) .
المثال الثاني : طعن أبو داود في أحمد بن المقدام العجلي وهو ثقة من رجال البخاري فلما سُئل عن ذلك قال : لا أحدث عنه لأنه كان يُعَلِّم المجان المجون ، كان مجان البصرة يصرون صرر دراهم فيطرحونها على الطريق ويجلسون ناحية فإذا مرّ مارٌ بصرة وأراد أن يأخذها صاحوا : ضعها ، ليخجل الرجل ، فعلّم أبو الأشعث المارة فقال لهم : هيئوا صرر زجاج كصرر الدراهم فإذا مررتم بصررهم فأردتم أخذها فصاحوا بكم فاطرحوا صرر الزجاج وخذوا صرر الدراهم التي لهم ففعلوا ذلك (3) .
وتعقب ابن عدي كلام أبى داود هذا فقال : لا يؤثر ذلك فيه لأنه من أهل الصدق (4) .
قال ابن حجر: ووجه عدم تأثيره فيه أنه لم يُعلِّم المجان كما قال أبو داود وإنما علَّم المارة الذين كان قصد المجان أن يخجلوهم ، وكأنه كان يذهب مذهب من يؤدِّب بالمال ، فلهذا جوّز للمارة أن يأخذوا الدراهم تأديباً للمجان حتى لا يعودوا لتخجيل الناس ، مع احتمال أن يكونوا بعد ذلك أعادوا لهم دراهمهم ، والله أعلم (5) .
__________
(1) تاريخ بغداد 4 / 266 .
(2) هدي الساري ص 406 .
(3) تاريخ بغداد 5 / 165 .
(4) الكامل في الضعفاء لابن عدي 1 / 179 .
(5) هدى الساري ص 406 .(1/29)
المثال الثالث : ويُعدُّ من ذلك الباب ما نشأ من خلافٍ طويلٍ ومرير بين مدرسة الرأي ومدرسة الأثر حتى طعن بعضهم في بعض دون بينه شافية ، حتى قال الإمام مالك وقد سُئل عن أهل العراق فقال : أنزلوهم عندكم بمنزلة أهل الكتاب لا تصدقوهم ولا تكذبوهم ، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا
وإلاهكم واحد (1) .
ولقد روى ابن عبد البر بسنده عن عبيد الله بن يحيى عن أبيه قال : كنت آتي ابن القاسم فيقول لي : من أين ؟ فأقول : من عند ابن وهب فيقول : الله الله اتق الله فإن أكثر هذه الأحاديث ليس عليها العمل .
قال : ثم آتي ابن وهب فيقول : من أين ؟ فأقول : من عند ابن القاسم فيقول : اتق الله فإن أكثر هذه المسائل رأي (2) .
ولقد بلغ الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث ذروته حتى قال الإمام أحمد بن حنبل : مازلنا نلعن أهل الرأي ويلعنوننا حتى جاء الشافعي فمزج بيننا (3) .
وعندما سُئل أبو زرعة الرازي عن الحارث المحاسبي وكتبه قال : إياك وهذه الكتب ، هذه كتب بدع وضلالات ، عليك بالأثر فإنك تجد فيه ما يغنيك عن هذه الكتب (4) .
سابعاً : الخلافات العقائدية
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله ص 443 ، وسير أعلام النبلاء 8 / 68 .
(2) جامع بيان العلم وفضله ص 445 .
(3) ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك للقاضي عياض 1 / 91 .
(4) تاريخ بغداد 8 / 215 .(1/30)
خلق الله البشر بطباعٍ مختلفة ، وفهومٍ متفاوتة ، ولذلك اختلفوا في التعامل مع النص الشرعي ، فمنهم من يحمله على الحقيقة ، ومنهم من يحمله على المجاز ، ومنهم من يقول إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ومنهم من يعكس ، ومنهم من يقبل الراوي ويصحح أحاديثه ويحتج بها ، ومنهم من يضعفه ويوهن أحاديثه ولا يحتج بها ، ومنهم من يفسر اللفظة بمعنىً ، ويفسرها غيره بمعنى آخر ، ومنهم من يقف عند ظاهر النص لا يتعداه ، ومنهم من يهتم بمقصد النص لا بظاهر ألفاظه ، إلى غير ذلك من الأسباب المنطقية المقبولة والتي أدت إلى وقوع الخلاف في الفروع العقائدية كمسئلة تفضيل أبي بكر على علي كما هو مذهب أهل السنة ، أو تفضيل علىّ عليه كما هو مذهب الشيعة ، وكمسئلة خلق القرآن أو قدمه ، وكالقول بخلق أفعال العباد أو عدمه ، وكمسئلة رؤية الله في الآخرة أو عدمها ، وكعقيدة النصب ، والتشيع ، والإرجاء ، والاعتزال ، والقدرية ، والجهمية ... الخ .
وقد كان أغلبية العلماء - ومازالوا - قديماً يختلفون في جوٍ من الود والمحبة والنقاش العلمي النزيه - مادام للمخالف وجه مقبول ورأي سائغ وتأويل مقبول - ويعتبرون الخلاف رحمةً ونعمةً لا شراً ونقمة .
قال الإمام أحمد مادحاً الإمام إسحاق بن راهويه : لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق ، وإن كان يخالفنا في أشياء ، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً (1) .
__________
(1) تاريخ بغداد 6 / 348 .(1/31)
والخلاف بين العلماء في المذاهب والمشارب أمر مركوز في الطبائع والفِطَر الإنسانية ، ولا يمكن انتفاؤه من صفوف أهل العلم والفضل والصلاح ، غير أن الخلاف لا يوجب قدحاً في المخالف طالما كان مقبولاً ، ومبنياً على الاختلاف في فهم النص الشرعي ، غير أن البعض - خاصةً المتأخرين - جرّه الخلاف إلى سوء الظن ، فأساء القول ولم يُنصف مخالفه ، فتكلم بعض الحنابلة والأشاعرة في بعض ، وتكلم أصحاب الحديث وأصحاب الرأي في بعض ، وتكلم أصحاب المذاهب الفقهية والعقدية في بعض ... الخ .
قال الإمام مالك : ما في زماننا شيءٌ أقل من الإنصاف .
وعلَّق الإمام القرطبي على ذلك قائلاً : هذا في زمان مالك فكيف في زماننا اليوم الذي عمّ فيه الفساد ، وكثر فيه الطغام ، وطُلب فيه العلم للرياسة لا للدراية ، بل للظهور في الدنيا ، وغلبة الأقران بالمراء والجدال الذي يقسي القلب ويورث الضغن ، وذلك مما يحمل عليه عدم التقوى ، وترك الخوف من الله تعالى (1) .
هذا في زمان القرطبي فكيف في الأزمان المتأخرة عنه والتي شاع فيها الجهل ، وغلب فيها الحسد ، والتنافس من أجل الدنيا ، وأصبح المخالف يُرمى بالبدعة والكفر لأدنى خلاف ، نسأل الله العفو والستر .
قال ابن حجر: اعلم أنه قد وقع من جماعةٍ الطعن في جماعةٍ بسبب اختلافهم في العقائد ، فينبغي التنبُّه لذلك ، وعدم الاعتداد به إلا بحق (2) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطي 1 / 245 .
(2) هدى الساري ص385 .(1/32)
وقال التاج السبكي : ومما ينبغي أن يُتفقَّد عند الجرح : حال العقائد واختلافها بالنسبة إلى الجارح والمجروح ، فربما خالف الجارح المجروح في العقيدة فجرحه لذلك ، وإليه أشار الرافعي بقوله : وينبغي أن يكون المزكُّون برآء من الشحناء والعصبية في المذهب خوفاً من أن يحملهم ذلك على جرح عدل ، أو تزكية فاسق ، وقد وقع هذا لكثيرٍ من الأئمة جرحوا بناءاً على معتقدهم وهم المخطئون والمجروح مصيب (1) .
وقال أيضا : قد استقرأت فلم أجد مؤرِّخاً ينتحل عقيدة ويخلو كتابه عن الغمز ممن يحيد عنها ، سنة الله في المؤرخين ، وعادته في النقل ، ولا حول ولا قوة إلا بحبله المتين (2) .
ولقد حذَّر ابن حجر من يتصدى لمهمة الجرح والتعديل من السقوط في شرك الهوى أو العصبية أو جرح مخالفه في العقيدة فقال : وليحذر المتكلم في هذا الفن من التساهل في الجرح والتعديل فإنه إن عدّل أحداً يغير تثبت كان كالمثبت حكماً ليس بثابت ، فيُخشى عليه أن يدخل في زمرة من روى حديثاً وهو يظن أنه كذب ، وإن جرّح بغير تحرز أقدم على الطعن في مسلم بريء من ذلك ووسمه بميسم سوء يبقى عليه عاره أبداً ، والآفة تدخل في هذا : تارةً من الهوى والغرض الفاسد ، وكلام المتقدمين سالم من هذا غالباً ، وتارةً من المخالفة في العقائد ، وهو موجود كثيراً قديماً وحديثاً ، ولا ينبغي إطلاق الجرح بذلك (3) .
__________
(1) قاعدة في الجرح والتعديل ص35 .
(2) طبقات الشافعية الكبرى 4 / 162 .
(3) نزهة النظر ص 69 .(1/33)
وكان العلماء قديماً يختلف بعضهم مع بعض ، ويحب بعضهم بعضاً فنبتت نابتة شاذة لا تؤمن إلا بوجهٍ واحدٍ من الرأي ، وتنكر الخلاف ، وتتعصب للحق - في زعمهم - وهو دائماً معهم ، ومن خالفهم رموه بكل كبير ، واتهموه بالبدعة ، والخروج عن الجماعة ، وقد يحكمون عليه بالكفر ، ويهدرون دمه ، ولهم جذور قديمة ذكرها الإمام الذهبي في معرض ترجمته لأبى نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء فقال : كان أبو نعيم في ذلك الوقت مهجوراً بسبب المذهب ، وكان بين الأشعرية والحنابلة تعصبٌ زائد يؤدى إلى فتنة ، وقيل وقال ، وصداع طويل ، فقام إليه أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام ، وكاد الرجل يقتل .
ثم علَّق الذهبي على هذا الموقف فقال : ما هؤلاء بأصحاب حديث بل فجرة جهلة ، أبعد الله شرهم (1) .
ومن هذا الباب ما ذكره السبكي قال : مما ينبغي تفقُّده - وقد نبَّه عليه شيخ الإسلام ابن دقيق العيد - : الخلاف الواقع بين كثيرٍ من الصوفية وأصحاب الحديث ، فقد أوجب كلام بعضهم في بعض ، كما تكلم بعضهم في حق الحارث المحاسبي وغيره ، وهذا في الحقيقة داخل في قسم مخالفة العقائد .
والطامة الكبرى إنما هي في العقائد المثيرة للتعصب والهوى ، نعم وفي المنافسات الدنيوية على حطام الدنيا ، وهذا في المتأخرين أكثر منه في المتقدمين ، وأمر العقائد سواء في الفريقين (2) .
وهذه أمثلة لكلام الأقران في بعض بسبب اختلاف العقائد :
المثال الأول : قال الذهبي : كان أبو عبد الله بن منده يُقذع المقال في أبى نعيم لمكان الاعتقاد المتنازع فيه بين الحنابلة وأصحاب أبى الحسن - يقصد الأشعري - ونال أبو نعيم أيضاً من أبى عبد الله في تاريخه ، وقد عُرف وهن كلام الأقران المتنافسين بعضهم في بعض نسأل الله السماح (3) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 17 / 460 .
(2) قاعدة في الجرح والتعديل ص 54 .
(3) سير أعلام النبلاء 17 / 462 .(1/34)
وسبب الخلاف بين أبي نعيم وابن مندة : أن أبا نعيم كان يميل إلى جانب القائلين بأن التلاوة مخلوقة بينما مال ابن مندة إلى جانب القائلين بأنها غير مخلوقة ، ولذلك يقول الذهبي : البلاء الذي بين الرجلين : الاعتقاد (1) .
المثال الثاني : قال الذهبي : ممن ينبغي أن يُتوقَّف في قبول قوله في الجرح : من كان بينه وبين من جرحه عداوة سببها : الاختلاف في الاعتقاد ، فإن الحاذق إذا تأمَّل ثلب أبى إسحاق الجوزجاني لأهل الكوفة رأي العجب ، وذلك لشدة انحرافه في النصب ، وشهرة أهلها في التشيع ، فتراه لا يتوقف في جرح من ذكره منهم بلسان ذلقة ، وعبارةٍ طلقة ، حتى أنه أخذ يليّن مثل الأعمش ، وأبى نعيم ، وعبيد الله بن موسى ، وأساطين الحديث ، وأركان الرواية ، فهذا إذا عارضه مثله أو أكبر منه فوثق رجلاً ضعَّفه قُبل التوثيق ، ويلتحق به : عبد الرحمن بن يوسف بن خراش المحدث الحافظ فإنه من غلاة الشيعة بل نُسب إلى الرفض ، فيُتأنَّى في جرحه لأهل الشام للعداوة البيِّنة في الاعتقاد (2) .
المثال الثالث : لمَّا دخل البخاري نيسابور اجتمع عليه الناس فسأله رجل فقال : يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أو غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه ثلاثاً ، فألح عليه فقال البخاري : القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأفعال العبادة عير مخلوقة ، والامتحان بدعة . فشغب الرجل وقال : قد قال : لفظي بالقرآن مخلوق (3) ، فبلغ ذلك محمد بن يحيى الذهلي وكان يحسده فقال : القرآن كلام الله غير مخلوق ، ومن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ، فلا يُجالس ، ولا يُكلَّم ، ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مذهبه (4) .
__________
(1) ميزان الاعتدال 6 / 76 .
(2) لسان الميزان 1 / 108 ، 109 .
(3) هدى الساري ص 515 .
(4) هدى الساري ص 515 .(1/35)
ولقد تجاوز بعضهم وتعدَّى بسبب هذا حتى قال : البخاري تركه أبو زرعة ، وأبو حاتم ، وهو ما حدا بالتاج السبكي أن يقول : فيالله والمسلمين أيجوز لأحدٍ أن يقول : البخاري متروك ، وهو حامل لواء الصناعة ، ومقدم أهل السنة والجماعة ؟ ثم يالله والمسلمين أتُجعل ممادحه مذام ؟ فإن الحق في مسألة اللفظ معه ، إذ لا يستريب عاقل من المخلوقين في أن تلفظه من أفعاله الحادثة التي هي مخلوقة لله تعالى ، وإنما أنكرها الإمام أحمد رضي الله عنه لبشاعة لفظها (1) .
المثال الرابع : قال أبو إسماعيل الأنصاري : سمعت يحيى بن عمار الواعظ وقد سألته عن ابن حبان فقال : نحن أخرجناه من سجستان كان له علم كثير ، ولم يكن له كبير دين ، قدم علينا فأنكر الحدّ لله فأخرجناه .
قال الحافظ الذهبي (2) : إنكاركم عليه بدعة أيضاً ، والخوض في ذلك مما لم يأذن به الله ، ولا أتى نص بإثبات ذلك ولا بنفيه " ومن حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه "(3) وتعالى الله أن يُحدّ أو يوصف إلا بما وصف به نفسه أو علّمه رسله بالمعنى الذي أراد بلا مثل ولا كيف { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ } (4) .
وقال التاج السبكي منكراًً على هذا القائل : قال بعض المجسمة في أبي حاتم ابن حبان : لم يكن له كبير دين ... فذكر كلامه ثم قال : فياليت شعري من أحق بالإخراج ؟ من يجعل ربه محدوداً أو من ينزهه عن الجسمية (5) .
وقال أيضاً في معرض تعليقه على هذا الكلام :
__________
(1) قاعدة في الجرح والتعديل ص 36 .
(2) سير أعلام النبلاء 16 / 97 .
(3) مالك في الموطأ كتاب حسن الخلق باب ما جاء في حسن الخلق ص 688 ، والترمذي كتاب الزهد باب فيمن تكلم بكلمة يضحك بها الناس 4 / 142 رقم 2325 .
(4) الشورى : 11 .
(5) قاعدة في الجرح والتعديل ص37 .(1/36)
انظر ما أجهل هذا الجارح ؟ ليت شعري من المجروح ؟ مثبت الحد لله أو نافيه ؟ وقد رأيت للحافظ العلائي رحمه الله تعالى على هذا كلاماً جيداً أحببت نقله بعبارته قال : يالله العجب ؟ من أحق بالإخراج والتبديع وقلة الدين ؟ (1) .
المثال الخامس : وإنك لتعجب أشد العجب حينما تقرأ كلام السبكي في طبقاته عن شيخه وأستاذه الذهبي ، فهو شديد التحامل عليه ، مفرط في انتقاده لأن السبكي شافعي المذهب ، أشعري الاعتقاد ، والذهبي حنبلي المذهب والاعتقاد ولذلك وبسبب مخالفته له في بعض فروع الاعتقاد تراه يأخذه التعصب والتحامل حتى يخرجه عن حد الإنصاف والاعتدال ، وهو الذي طالما عاب غيره بذلك فتراه يقول عن شيخه الذهبي : وقد وصل من التعصب المفرط إلى حدٍ يُسخر منه ، وأنا أخشى عليه يوم القيامة من غالب علماء المسلمين وأئمتهم الذين حملوا لنا الشريعة النبوية فإن غالبهم أشاعرة ، وهو إذا وقع بأشعري لا يُبقي ولا يذر ، والذي أعتقده أنهم خصماؤه يوم القيامة عند من لعلّ أدناهم عنده أوجه منه (2) .
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى 3 / 132 .
(2) قاعدة في الجرح والتعديل ص44 .(1/37)
وهذا منه - رحمه الله - إفراطٌ في النقد ، ومبالغةٌ طافحة ، وتحاملٌ مكشوف ، وقال بعد ما ذكر تأثير الخلاف في العقيدة على قول الجارح : وهذا شيخنا الذهبي من هذا القبيل ، له علم وديانة ، وعنده على أهل السنة تُحامل مفرط ، فلا يجوز أن يُعتمد عليه - سبحان الله أمثل الذهبي في علمه وورعه وتقواه يُقال لا يُعتمد عليه بعدها - ثم نقل قول العلائي عن الذهبي ونصه : الشيخ الحافظ شمس الدين الذهبي لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقوله الناس ، ولكنه غلب عليه مذهب الإثبات ، ومنافرة التأويل ، والغفلة عن التنزيه حتى أثّر ذلك في طبعه انحرافاً شديداً عن أهل التنزيه ، وميلاً قوياً إلى أهل الإثبات ، فإذا ترجم واحداً منهم يطنب في وصفه بجميع ما قيل فيه من المحاسن، ويبالغ في وصفه ، ويتغافل عن غلطاته ، ويتأوّل له ما أمكن ، وإذا ذكر واحداً من الطرف الآخر كإمام الحرمين والغزالي ونحوهما لا يبالغ في وصفه ، ويكثر من قول من طعن فيه ، ويعيد ذلك ويُبديه ، ويعتقده ديناً وهو لا يشعر ، ويُعرض عن محاسنهم الطافحة فلا يستوعبها ، وإذا ظفر لأحدٍ منهم بغلطة ذكرها ، وكذلك فعله في أهل عصرنا إذا لم يقدر على أحدٍ منهم بتصريح يقول في ترجمته : والله يصلحه ونحو ذلك ، وسببه المخالفة في العقائد .
وبعد أن أورد هذا النقل واستروح إليه لم يعجبه هدوء ألفاظه على رغم ما فيه من شدة حتى قال : والحال في حق شيخنا الذهبي أزيد مما وصف ، وهو شيخنا ومعلّمنا غير أن الحق أحق أن يتبع ... والذي أدركنا عليه المشايخ النهي عن النظر في كلامه ، وعدم اعتبار قوله ، ولم يكن يستجري أن يظهر كتبه التاريخية إلا لمن يغلب على ظنه أنه لا ينقل عنه ما يُعاب عليه .(1/38)
وأما قول العلائي : لا أشك في دينه وورعه وتحريه فيما يقول ، فقد كنت أعتقد ذلك وأقول عند هذه الأشياء إنه ربما اعتقده ديناً ، ومنها أمور أقطع بأنه يعرفها بأنها كذب ، وأقطع بأنه لا يختلقها ، وأقطع بأنه يحب وضعها في كتبه لتنتشر ، وأقطع بأنه يحب أن يعتقد سامعها صحتها بغضاً للمُتحدَّث فيه ، وتنفيراً للناس عنه مع قلة معرفته بمدلولات الألفاظ ، ومع اعتقاده أن هذا مما يوجب نَصْرَ العقيدة التي يعتقدها هو حقاً ، ومع عدم ممارسته لعلوم الشريعة .
غير أني لمَّا أكثرت بعد موته النظر في كلامه عند الاحتياج إلى النظر فيه توقفت في تحريه فيما يقوله ، ولا أزيد على هذا غير الإحالة على كلامه فلينظر كلامه من شاء ثم يبصر هل الرجل متحرٍ عند غضبه أو غير متحر ٍ؟ وأعني بغضبه وقت ترجمته لواحدٍ من علماء المذاهب الثلاثة المشهورين من الحنفية ، والمالكية ، والشافعية فإني أعتقد أن الرجل كان إذا مدّ القلم لترجمة أحدهم غضب غضباً مفرطاً ، ثم قرطم الكلام ومزقه ، وفعل من التعصب مالا يخفى على ذي بصيرة .
ثم هو مع ذلك غير خبيرٍ بمدلولات الألفاظ كما ينبغي فربما ذكر لفظةً من الذم لو عقل معناها لما نطق بها ، ثم عاب عليه ذكر الفخر الرازي ، والسيف الآمدي في ميزان الاعتدال ثم قال : ثم حلف في آخر الكتاب أنه لم يعتمد فيه هوى نفسه فأي هوى نفسٍ أعظم من هذا ؟ فإمّا أن يكون ورّى في يمينه ، أو استثنى غير الرواة فيقال له : فلِمَ ذكرت غيرهم ؟ وإما أن يكون اعتقد أن هذا ليس هوى نفس وإذا وصل إلى هذا الحد والعياذ بالله فهو مطبوعٌ على قلبه (1) .
__________
(1) قاعدة في الجرح والتعديل 38 - 46 .(1/39)
فيالله والمسلمين كيف يُقال في مثل الذهبي : إنه لا يجوز أن يُعتمد عليه ، وكيف يُقال إن المشايخ كانوا ينهون عن النظر في كلامه ؟ وأيُّ مشايخ هؤلاء ؟ ولماذا لم يذكر لنا السبكي أسماء بعضهم ؟ بل إنك لتعجب أشد العجب حينما تجد السبكي يقول عنه في موضعٍ آخر : إنه كان شيخ الجرح والتعديل , ورجل الرجال , وكأنما جُمعت الأمة في صعيدٍ واحد فنظرها ثم أخذ يعبِّر عنها إخبار من حضرها (1) .
فإذا لم يُعتمد على قول هذا فمن يُعتمد على قوله إذاً ؟ وهل يتصور عاقل أن يُقال مثل هذا الكلام في مثل الإمام الذهبي ؟ ولله في خلقه شئون .
ثم يقول : وإذا وصل إلى هذا الحد فهو مطبوعٌ على قلبه .
ووالله إنها لكبيرة أن تُقال هذه الكلمة في مثل هذا الإمام الكبير , فإذا كان الإمام الذهبي مطبوعاًً على قلبه فمن من علماء الأمة يسلم من الطبع على قلبه ؟ نسأل الله السلامة من الشطط وسوء الأدب .
وقد علَّق السخاوي على كلام السبكي فقال : بالغ السبكي في كلامه مع أن الذهبي عمدته في جلّ التراجم , وكونه هو - أى السبكي - قد زاد في التعصب على الحنابلة كما أسلفته فشاركه فيما زعمه من التعصب ودعوى الغيبة , مع أنى لا أنزه الذهبي عن بعض ما نُسِب إليه ... ويكفينا في جلالة الذهبي شرب شيخنا الحافظ ابن حجر ماء زمزم لنيل مرتبته , وهل انتفع الناس في هذا الفن بعده وإلى الآن بغير تصانيفه ؟ والسعيد من عُدَّت خطاياه (2) .
ولكنه اختلاف العقائد جرّ إلى التعصب حتى قال السبكي : والذي أفتي به أنه لا يجوز الاعتماد على كلام شيخنا الذهبي في ذم أشعري , ولا شكر حنبلي (3) .
وسبب هذا الكلام القاسي هو : الاختلاف في وجهة الاعتقاد ، نعوذ بالله من الغضب المفضي إلى سوء الأدب .
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى 9 / 101 .
(2) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ 73 ، 74 .
(3) قاعدة في الجرح والتعديل ص77 .(1/40)
قال الإمام الصنعاني : لا يخفى أن ابن السبكي شافعي حادّ أشعري , وأن الذهبي إمام كبير الشأن , حنبلي الاعتقاد , شافعي الفروع , وبين هاتين الطائفتين : الحنابلة , والأشعرية في العقائد وفى الصفات وغيرها تنافر كلي , فلا يُقبل السبكي على الذهبي بعين ما قاله فيه , وإذا كان الأمر كما سمعت فكيف حال النظر في كتب الجرح والتعديل , وقد غلب التمذهب والمخالفة في العقائد على كل طائفة حتى إن طائفةً تصف رجلاً بأنه حجة , وطائفة أخرى تصفه بأنه دجال باعتبار اختلاف الاعتقاد والأهواء , فمن هنا كان أصعب شيءٍ في علوم الحديث : الجرح والتعديل , فلم يبق للباحث طمأنينة إلى قول أحدٍ بعد قول ابن السبكي : إنه لا يُقبل قول الذهبي في مدح حنبلي , ولا ذم أشعري , وقد صار الناس عالةً على الذهبي وكتبه , ولكن الحق أنه لا يقبل على الذهبي ابن السبكي لما ذكره هو , ولما ذكره الذهبي من أنه لا يقبل كلام الأقران بعضهم على بعض (1) .
وقد انتقد الشوكاني قول السبكي عن الذهبي : إنه لا يدري ما يقول فقال : هذا باطل ، فمصنفاته تشهد بخلاف هذه المقالة , وغالبها الإنصاف والذبُّ عن الأفاضل , وإذا جرى قلمه بالوقيعة في أحدٍ فإن لم يكن من معاصريه فهو إنما روى ذلك عن غيره , وإن كان من معاصريه فالغالب أنه لا يفعل ذلك إلا مع من يستحقه , وإن وقع ما يخالف ذلك نادراً فهذا شأن البشر , وكل أحدٍ يُؤخذ من قوله ويترك إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - , والأهوية تختلف , والمقاصد تتباين , وربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون (2) .
نسأل الله العدل في الرضا والغضب , والسلامة من الإفراط والتفريط .
__________
(1) توضيح الأفكار لمعاني تنقيح الأنظار 2 / 278 .
(2) البدر الطالع للشوكاني 2 / 111 .(1/41)
وبسبب هذه المبالغة الطافحة من السبكي في حق شيخه الذهبي وغيره من العلماء قال العز الكناني في معرض نقده للسبكي : هو رجلٌ قليل الأدب , عديم الإنصاف , جاهل بأهل السنة ورتبهم يدلك على ذلك كلامه (1) .
وإن كنا لا نرتضي هذا الكلام ونعتبره تجاوزاً لا يليق , ولكن السبكي هو الذي أودى بنفسه في هذه المهالك وتجرأ على كبار علماء الأمة بما لا يليق ، فتجرأ عليه غيره بما لا يليق ، غفر الله لهم جميعاً ووهب نقصهم لفضلهم وخطأهم لصوابهم ، وحشرهم إخواناً متحابين .
وقد بيَّنا أن كلام الأقران لا يُقبل إذا كان منشؤه الخلاف المذهبي .
قال السبكي : ثابت العدالة لا يُلتفت فيه إلى قول من تشهد القرائن بأنه متحامل عليه إما لتعصب مذهبي أو غيره . وهذه أمثلة تبين ذلك وتوضحه :
المثال الأول : الإمام الزهري إمامٌ جليلٌ متفقٌ على عدالته وإتقانه وكثرة علمه وتقواه وورعه , ومع ذلك فقد نُقل عنه قوله : ما رأيت قوماً أنقض لعرى الإسلام من أهل مكة .
قال ابن عبد البر : هذا ابن شهاب قد أطلق على أهل مكة في زمانه أنهم ينقضون عرى الإسلام وما استثنى منهم واحداً , وفيهم من جلة العلماء من لا خفاء بجلالته في الدين , وأظن ذلك والله أعلم لما روي عنهم في الصرف ومتعة النساء (2) .
المثال الثاني : ومن هذا الباب ما حكوه عن سعيد بن جبير أنه قال في العمرة : هي واجبة فقيل له : إن الشعبي يقول : ليست بواجبة فقال : كذب الشعبي (3) .
__________
(1) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للسخاوي ص74 .
(2) جامع بيان العلم وفضله ص 438 .
(3) جامع بيان العلم وفضله ص 441 ، والمراد بقول سعيد : كذب الشعبي أي : أخطأ وغلط ، ولم يرد به تعمد الكذب لأن الكذب إنما يجري في الأخبار المخالفة للواقع والشعبي إنما أفتى فتوى وقال رأياً اعتقد صحته فلا يقال في مثله أخطأ ، والعرب تستخدم الكذب في موضع الخطأ ، ومنه قول عبادة بن الصامت : كذب أبو محمد أي أخطأ ووهم .(1/42)
المثال الثالث : ما رواه أيوب السختيانى قال : سأل رجل سعيد بن المسيب عن رجل نذر نذراً لا ينبغي له من المعاصي فأمره أن يوفي بنذره فسأل الرجل عكرمة فأمره أن يكفر عن يمنيه ولا يوفي بنذره فرجع الرجل إلى سعيد بن المسيب فأخبره بقول عكرمة فقال ابن المسيب : لينتهين عكرمة أو ليوجعن الأمراء ظهره فرجع الرجل إلى عكرمة فأخبره فقال عكرمة : أما إذا بلَّغتني فبلِّغه : أما هو فقد ضرب الأمراء ظهره , وأوقفوه في تبان من شعر , وسله عن نذرك أطاعة هو لله أم معصية ؟ فإن قال : هو طاعة فقد كذب على الله لأنه لا تكون معصية الله طاعته , وإن قال هو معصية فقد أمرك بمعصية الله (1) .
المثال الرابع : قال الإمام الذهبي : لما سكن الإمام الشافعي مصر وخالف أقرانه من المالكية ووهّى بعض فروعهم بدلائل السنة وخالف شيخه في مسائل تألموا منه ونالوا منه , وجرت بينهم وحشة غفر الله للكل (2) .
ولقد أدخل بعض العلماء كلام يحيى بن معين في الشافعي في هذا الباب فقال الذهبي بعد أن أورد طعن يحيى في الشافعي : هذا من فلتات اللسان بالهوى والعصبية فإن ابن معين كان من الحنفية الغلاة في مذهبه وإن كان محدثاً (3) .
ثامناً : التعصب وعدم الإنصاف
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله ص 441 .
(2) سير أعلام النبلاء 10 / 95 .
(3) الرواة الثقات للذهبي ص30 .(1/43)
قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِن اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) } (1) فهذه الآية تمثل منهجاً دقيقاً يشمل جميع صور القسط والعدل مع القريب والبعيد ، وينهى عن جميع صور الجور والظلم مع كلِّ أحد ، فالظلم محرمٌ بكل حال ، فلا يحل لأحدٍ أن يظلم أحداً ، ولو كان كافراً (2) .
وقد ضرب الصحابة أروع الأمثلة في العدالة والإنصاف ، وعدم الظلم للقريب والبعيد ، للحبيب والبغيض ، وقد سار المحدثون على دربهم ، وترسموا خطاهم ومن شذ منهم عن ذلك - وهم قليل - فقد أساء إلى نفسه ، وجلب لها اللوم والعتاب ، وقد ذكرت لك من أقوالهم وأفعالهم ما يؤكد هذا المعنى ويثبته .
ومن لطائف ما يروى في هذا الباب ما رواه سليمان بن يسار قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبعث عبد الله بن رواحة إلى خيبر فيخرُصُ بينه وبين يهود خيبر قال : فجمعوا له حُلياً من حُليِّ نسائهم فقالوا : هذا لك ، وخفف عنا ، وتجاوز في القسْم ، فقال عبد الله بن رواحة : يا معشر اليهود والله إنكم لمن أبغض خلق الله إليَّ ، وماذاك بحاملي على أن أحيف عليكم ، فأما ما عرضتم من الرشوة فإنها سُحت لا نأكلها ، فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض (3) .
__________
(1) المائدة : 8 .
(2) جامع بيان العلم وفضله ص 441 .
(3) مالك في الموطأ كتاب المساقاة باب ما جاء في المساقاة ص 540 ، ورواه أحمد في مسنده من طريق جابر بن عبد الله 12 / 32 رقم 14894 وإسناده صحيح ، قال الهيثمي رجال أحمد رجال الصحيح مجمع الزوائد 4 / 121 .(1/44)
وفي عصرنا هذا الذي عزّ فيه الإنصاف ، يحتاج الداعية إلى الرجوع إلى منهج المحدثين ليزن الأمور كلها بالميزان القسط ، حيث أصبحت الأهواء هي التي تتحكم في الآراء والتوجهات ، حتى إن الإنسان قد يتغاضى عن أخطاء من يحب ـ مهما كانت كبيرة ـ ويزينها ، بل تتحول هذه الأخطاء إلى محاسن ويجعل محبوبه في أعلى المنازل ، ولا يقبل فيه نقداً أو مراجعة !
وفي المقابل تراه إذا أبغض أحداً ـ لهوى في نفسه ، أو تقليداً لغيره ـ جرّده من جميع الفضائل ، ولم ينظر إلا إلى سيئاته وزلاته يضخمها ، وينسى أو يتناسى محاسنه الأخرى مهما كانت بيِّنة ، بل قد تتحول المحاسن ـ المتفق على حسنها ـ إلى سيئات ، لغلبة الهوى والبغض ، والعياذ بالله !
قال الإمام ابن القيم : واللّه تعالى يحب الإنصاف ، بل هو أفضل حِلية تحلّى بها الرجل ، خصوصاً من نَصَّب نفسه حكماً بين الأقوال والمذاهب ، وقد قال الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - : { وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } (1) .
فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف ، وألا يميل أحدهم مع قريبه وذوي مذهبه وطائفته ومتبوعه ؛ بل يكون الحق مطلوبه ، يسير بسيره ، وينْزِل بنزوله، يَدِين العدل والإنصاف، ويُحكِم الحجة، وما كان عليه رسول الله وأصحابه فهو العلم الذي قد شمّر إليه ، ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه ، ولا يثني عنانه عنه عذل عاذل، ولا تأخذه فيه لومة لائم، ولا يعيده عنه قول قائل (2)
ومن لطائف الإنصاف ذلك الحوار الماتع بين المِسْور بن مخرمة ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما :
__________
(1) الشورى : 15 .
(2) إعلام الموقعين 3 / 94.(1/45)
قال الزهري : حدثني عروة أن المِسْور بن مخرمة أخبره أنه وفَد على معاوية فقضى حاجته ، ثم خلا به ، فقال : يامِسْور ، ما فعل طعنك على الأئمة؟ قال : دعْنا من هذا وأحسِن . قال : لا واللّه ، لتكلِّمنِّي بذات نفسك بالذي تعيب عليَّ ، قال مِسْور : فلم أترك شيئاً أعيبُه عليه إلا بيَّنتُ له . فقال : لا أبرأ من الذنب ، فهل تعُدُّ لنا يا مسور ما نلي من الإصلاح في أمر العامَّة ، فإنَّ الحسنة بعشر أمثالها ، أم تعُدُّ الذنوب وتترك الإحسان ؟ قال : ما تُذكر إلا الذنوب . قال معاوية : فإنَّا نعترف للّه بكل ذنبٍ أذنبناه ، فهل لك يا مسور ذنوبٌ في خاصتك تخشى بأن تُهْلكك إن لم تُغْفَر ؟ قال : نعم . قال : فما يجعلك الله برجاء المغفرة أحقَّ مني ، فوالله ما ألي من الإصلاح أكثر مما تلي ، ولكن والله لا أُخيَّر بين أمرين ، بين الله وبين غيره ، إلا اخترت الله على ما سواه ، وإني على دينٍ يُقبل فيه العمل ويُجزى فيه بالحسنات ، ويجزى فيه بالذنوب إلا أن يعفو الله عنها ، قال : فخصمني .
قال عروة : فلم أسمع المسور ذكر معاوية إلا صلَّى عليه (1) .
يا سبحان الله لِلَّهِ أرأيتم كيف أن الإنصاف سببٌ للمِّ الشَّعْث وتقارب القلوب ؟
ولذلك قال عمار بن ياسر : ثلاثٌ من جمعهن فقد جمع الإيمان : الإنصاف من نفسك ، وبذل السلام للعالَم ، والإنفاق من الإقتار (2) .
قال ابن عبد البر : من بركة العلم وآدابه : الإنصاف فيه ، ومن لم يُنصف لم يفهم ولم يتفهم (3) .
وصدق ابن عبد البر ، فكم من إمامٍ حمله التعصب على عدم الإنصاف فقال قولاً شائناً بعيداً عن الفهم والمعرفة .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 3 / 150 ــ 151 ، 391 ــ 392 .
(2) البخاري كتاب الإيمان باب إفشاء السلام من الإسلام 1 / 103 .
(3) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 1 / 245 .(1/46)
قال الشيخ عبد العلي اللكنوى : لابد للمزكي أن يكون عدلاً ، عارفاً بأسباب الجرح والتعديل ، وأن يكون منصفاً ناصحاً لا أن يكون متعصباً ومعجباً بنفسه ، فإنه لا اعتداد بقول المتعصب ، كما قدح الدارقطنى في الإمام أبى حنيفة بأنه ضعيف في الحديث ، وأي شناعة فوق هذا ؟ إلى أن قال : والحق أن الأقوال التي صدرت عنهم في حق هذا الإمام الهمام كلها صدرت من التعصب ولا تستحق أن يُلتفت إليها ، ولا ينطفئ نور الله بأفواههم فاحفظه (1) .
وفى حقيقة الأمر أن الجارح إنما يدفعه إلى التعصب : إما بغض المتكلم فيه ، أو مخالفته له في العقيدة ، أو المذهب ، أو سوء رأيه فيه ، فليس التعصب سبباً بذاته ، وإنما يدفع إليه غيره .
وأئمة الجرح والتعديل وإن كانوا أئمة الورع والنزاهة ، وأعظم الناس إنصافاً ؛ إلا أنهم ليسوا معصومين .
وقد يغلب على الظن وقوع الناقد في عدم الانصاف ، إذا لاحت بينهما عداوة ، أو اختلاف مذهب .
وهذه أيضاً ليست على إطلاقها ، وإنما يُلجأ إليها إذا ما كان الأكثر على خلاف قول ذلك الناقد ، أو عُرف من ذلك الناقد شدته على مخالفيه كالجوزجاني في كلامه عن الشيعه .
تاسعاًًُ : سوء الظن والأخذ بالتوهم والقرائن التى تتخلف
ذكر الشيخ ابن دقيق العيد أن الآفة تدخل على علماء الجرح والتعديل من خمسة أبواب وذكر منها :
عدم الورع ، والأخذ بالتوهم ، والقرائن التى تتخلف .
قال : فإن من فعل ذلك دخل تحت قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إياك والظن ، فإن الظن أكذب الحديث " (2) .
__________
(1) فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت 2 / 154 .
(2) البخاري كتاب النكاح باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع 9 / 106 رقم 5143 ، ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب تحريم الظن والتجسس والتنافس والتناجش ونحوها 4 / 1985 رقم 2563 .(1/47)
وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال : احمل أمر أخيك على أحسنه ولا تظنن بكلمةٍ خرجت منه شراً وأنت تجد لها في الخير محملاً (1) .
قال ابن دقيق العيد : وهذا ضرره عظيم فيما إذا كان الجارح معروفاً بالعلم ، وكان قليل التقوى ، فإن علمه يقتضي أن يُجعل أهلاً لسماع قوله وجرحه فيقع الخلل بسبب قلة ورعه وأخذه بالتوهم .
ثم قال : ولقد رأيت رجلاً لا يختلف أهل عصرنا في سماع قوله إن جرَّح ، ذكر له إنسان أنه سمع من شيخ فقال له : أين سمعت منه ؟ فقال : بمكة أو قريباً من هذا ، وقد كان جاء إلى مصر يعني في طريقه للحج ، فأنكر ذلك وقال : إنه كان صاحبي ، ولو جاء إلى مصر لاجتمع بي ، أو كما قال . قال : فانظر إلى هذا التعلق بهذا الوهم البعيد ، والخيال الضعيف فيما أنكره (2) .
فربما يسمع القرين عن قرينه شيئاً يشينه فيسيئ به الظن ، ويحمله على أسوأ وجوهه ، ويقدح فيه من أجله مع أن له مخرجاً سائغاً ، وعذراً مقبولاً ، ولله في خلقه شئون .
قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تظن بكلمةٍ خرجت من أخيك المسلم سوءًا وأنت تجد لها في الخير محملاً (3) .
وقال ابن القيم : والكلمة الواحدة يقولها اثنان ، يريد بها أحدهما : أعظم الباطل ، ويريد بها الآخر : محض الحق ، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه ، وما يدعو إليه ويناظر عنه (4) .
الفصل الثالث : نتائج كلام الأقران بعضهم في بعض
ذكرت أغلب الأسباب الدافعة لكلام الأقران بعضهم في بعض ، ولقد ترتب على هذا الكلام عدة نتائج حاولت رصدها للاستفادة منها والانتباه لها
من أهم هذه النتائج :
أولاً : عدم تضرر المُتَكَلَّم فيهم بل ربما كان القدح فيهم سبباً لتعريف الناس بفضلهم وذيوع صيتهم وشهرتهم
__________
(1) التدوين في أخبار قزوين 1 / 217 ، وكشف الخفاء 1 / 45 ، وفتح المغيث 3/276 .
(2) فتح المغيث 3 / 276 .
(3) تفسير القرآن العظيم لا بن كثير 4/212 .
(4) مدارج السالكين 3 / 521 .(1/48)
في أغلب الأحيان لا يُؤثِّر كلام الأقران في منزلة أحد الطرفين ، ولا ينزل من درجة المُتكلَّم فيه ، بل يعتبره العلماء من قبيل اللغو ، أو الوهم ، أو الهوى الواجب إهماله وعدم البناء عليه فيظل الرجلان ثقتين .
قال الإمام الذهبي بعد أن أورد طعن محمد بن إسحاق في الإمام مالك :
لم يؤثِّر كلام محمد فيه ولا ذرة ، وارتفع مالك ، وصار كالنجم (1) .
وقال بعد أن أورد طعن محمد بن أبى ذئب في الإمام مالك :
وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعوَّل على كثيرٍ منه ، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبى ذئب فيه ، ولا ضعَّف العلماء ابن أبى ذئب بمقالته هذه ، بل هما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما (2) .
وقال بعد أن أشار إلى طعن ابن أبي داود وابن صاعد في بعض :
ونحن لا نقبل كلام الأقران بعضهم في بعض وهما بحمد الله ثقتان (3) .
وقد يكون الجرح سبباً في البحث عن أحوال المُتكلم فيه فيشتهر ، ويعرف الناس فضله وقدره ، وقديماً قال الشاعر:
وإذا أراد الله نشر فضيلةٍ طويت * أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت * ما كان يُعرف طيب عَرف العود (4)
ولذلك قال الذهبي: ما تكلم في الشافعي إلا حاسد، أو جاهل ، فكان ذلك الكلام الباطل منهم موجباً لارتفاع شأنه وعلو قدره وتلك سنة الله في عباده (5)
قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا } (6) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 / 41 .
(2) سير أعلام النبلاء 7 / 143 .
(3) سير أعلام النبلاء 14 / 505 .
(4) لأبى تمام .
(5) سير أعلام النبلاء 10 / 48 .
(6) الأحزاب : 69 .(1/49)
وقال الخطيب البغدادي : مثل الشافعي من حُسِد ، وإلى ستر معالمه قًُصد ، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ، ويظهر من كل حق مستوره ، وكيف لا يُغبط مَن حاز الكمال بما جمع الله له من الخلال اللواتي لا ينكرها إلا ظاهر الجهل ، أو ذاهب العقل ثم قال :
أبى الله إلا رفعه وعلوه * وليس لما يُعليه ذو العرش واضع (1)
ثانياً : عيب المُجرِّحَ أو تضعيفه والقسوة في الرد عليه
فقد يتكلم القرين في قرينه بهوى أو عصبية أو غير ذلك مما ذكرنا فيتصدى للرد عليه أئمة الجرح والتعديل ، وقد يعيبونه بذلك ، وقد يضعفون أقواله ، ويقسون في الرد عليه ، وقد يحتملون خطأه ويغتفرون زلته .
قال ابن عبد البر : ما مثل من تكلم في مالك والشافعي ونظائرهما من الأئمة إلا كما قال الشاعر الأعشى :
كناطحٍ صخرةً يوماً ليوهنها * فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
أو كما قال الحسين بن حميد :
يا ناطح الجبل العالي ليكلمه * أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل (2)
وقال التقي لسبكي بعد عرضه لصورٍ من الجرح غير البريء :
فإن قلت : فهذا يعود بالجرح على الجارح حيث جرح لا في موضعه
قلت : أما من تكلم بالهوى ونحوه فلا شك فيه ، وأما من تكلم بمبلغ ظنه فها هنا وقفةٌ محتومةٌ على طالب التحقيقات ، ومزلّة تأخذ بأقدام من لا يبرأ عن حوله وقوته ويكِلُ أمره إلى عالم الخفيات فنقول : لا شك أن من تكلم في إمامٍ استقر في الأذهان عظمته ، وتناقلت الرواة ممادحه فقد جرّ الملام إلى نفسه ولكنا لا نقضي - أيضاً على من عُرفت عدالته إذا جرح من لا يُقبل منه جرحه إياه - بالفسق بل نُجِّوز أموراً :
أحدها : أن يكون واهماًً ، ومن ذا الذي لا يهم ؟
والثاني : أن يكون مُؤوِّلاً قد جرح بشيء ظنه جارحاً ولا يراه المجروح كذلك كاختلاف المجتهدين .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 10 / 95 ، وهذا البيت لابن زيد الأزدي .
(2) جامع بيان العلم وفضله ص 448 .(1/50)
والثالث : أن يكون نَقَلَه إليه من يراه هو صادقاً ونراه نحن كاذباً .
وهذا لاختلافنا في الجرح والتعديل فرب مجروح عند عالم معدّل عند غيره ، فيقع الاختلاف في الاحتجاج حسب الاختلاف في تزكيته ، فلم يتعيَّن أن يكون الحامل للجارح على الجرح مجرد التعصب والهوى حتى يجرحه بالجرح .
ومعنا أصلان نستصحبهما إلى أن نتيقن خلافهما : أصل عدالة الإمام المجروح الذي قد استقرت عظمته ، وأصل عدالة الجارح الذي ثبتت عدالته فلا يُلتفت إلى جرحه ولا نَجْرحه بجرحه فاحفظ هذا المكان فهو من المهمات (1) .
قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة تعليقاً على هذا الكلام : وقد يكون الجرح لغير الأمور الثلاثة التي جوَّزها المؤلف هنا : كأن يكون لجفاءٍ ، أو عداوةٍ بينهما ، فيرى الجارح القذاة في مجافيه جِذْعاً ، والخطأ الخفيف المحتمل كبيرة لا تغتفر ، فينفخ في الشعرة إذا استطاع لتكون حبلاً غليظاً ، أو جبلاً عريضاً لما بينهما من الكراهة والجفاء (2) .
قلت وقد يكون الجرح لغير ذلك من الأسباب التي ذكرتها قبل فيؤدي ذلك إلى تنقيص المُتكلِّم أو الإغضاء عن كلامه واعتباره من هفواته .
وهذه أمثلة تبين ذلك وتوضحه :
__________
(1) قاعدة في الجرح والتعديل ص 55 ، 56 .
(2) قاعدة في الجرح والتعديل ص55 .(1/51)
المثال الأول : ترجم الذهبي للإمام الشافعي ثم نقل ثناء العلماء عليه ثم قال : وإمامنا بحمد الله ثبتٌ في الحديث ، حافظٌ لما وعى ، عديم الغلط ، موصوفٌ بالإتقان ، متين الديانة ، فمن نال منه بجهلٍ وهوى ممن عُلم أنه منافس له فقد ظلم نفسه ، ومقتته العلماء ، ولاح لكل حافظٍ تحامله ، وجرّ الناس برجله ، ومن أثنى عليه ، واعترف بإمامته وإتقانه وهم أهل العقد والحل قديماً وحديثاً فقد أصابوا وأجملوا وهدوا ووفقوا ... ثم قال : وقد كنت وقفت على بعض كلام المغاربة في الإمام رحمه الله فكانت فائدتي من ذلك تضعيف حال من تعرَّض إلى الإمام ، ولله الحمد (1) .
ولقد صدق الذهبي ، وأيّد التاريخ كلامه ، فمن طعن في الإمام الشافعي ونظائره جرّ الكلام إلى نفسه ، وعيب واتُّهِم ، فقد عرض الذهبي طعن يحيى بن معين في الإمام الشافعي ثم قال : قد آذى ابن معين نفسه بذلك ، ولم يلتفت الناس إلى كلامه في الشافعي ، ولا إلى كلامه في جماعةٍ من الأثبات (2) .
ولقد عرض تاج الدين السبكي كلام ابن معين في الشافعي ثم رجَّح أنه لم يطعن في الإمام الشافعي وإنما طعن في راوٍ آخر يقال له : الشافعي ، ومع ذلك فقد بالغ في الرد عليه ، وقسا في ألفاظه فقال : وبتقدير إرادته الشافعي فلا يُلتفت إليه ، وهو عارٌ عليه ، وقد كان في بكاء ابن معين على إجابته المأمون إلى القول بخلق القرآن ، وتحسُّره على ما فرَّط منه ما ينبغي أن يكون شاغلاً له عن التعرض إلى الإمام الشافعي ، إمام الأئمة ، ابن عم المصطفى - صلى الله عليه وسلم - (3) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 10 / 94 .
(2) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم ص 23 ، 24 .
(3) قاعدة في الجرح والتعديل ص24 .(1/52)
ولقد أفرط السبكي وتجاوز في نقده لابن معين حتى قال الشيخ عبد الفتاح أبو غدة : ما كان ينبغي للسبكي أن يغمز في ابن معين هذا الغمز كله ويشط عن الجادة ، ولا شك أن كلام ابن معين في الشافعي رضي الله عنهما - على فرض ثبوته - مردود (1) ، ولكن المؤلف انتقل بسبب غلط اجتهادي وقع - على الاحتمال - من ابن معين إلى غلطٍ أشد منه وقع هو فيه ولا اجتهاد فيه وهو : تعييره ابن معين بما وقع منه في مسألة خلق القرآن ، وغيرُ لائقٍ بمثله رحمه الله تعالى فإن المرء ما يدري ماذا يكون موقفه لو كان في موضع يحيى بن معين ؟ ورأى ما رآه يحيى بن معين ، وعلي بن المديني ، وأبو نصر التمار، وغيرهم من عرضهم على السيف والعذاب بشأن الامتناع عن الإجابة في تلك المسألة ، نسأل الله العافية من كل بلاء ، والعدل في القرباء والبعداء (2)
المثال الثاني : قال الذهبي : بتكفير الخوارج للصحابة انحطت رواياتهم بل صار كلام الخوارج والشيعة فيهم جرحاً في الطاعنين ، فانظر إلى حكمة ربك ، نسأل الله السلامة ، وهذا كثير من كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يطوى ولا يروى، ويطرح ولا يجعل طعناً ، ويعامل الرجل بالعدل والقسط (3) .
المثال الثالث : قال قطبة بن العلاء : تركت حديث فضيل بن عياض لأنه روى أحاديث أزرى فيها على عثمان بن عفان .
فقال الذهبي : لا يُقبل قول قطبة ، ومن هو قطبة حتى يُسمع قوله واجتهاده ؟ (4) .
وقال أيضا ً: لا يُسمع قول قطبة ، ليته اشتغل بحاله ، فقد قال البخاري عنه : فيه نظر ، وقال النسائي وغيره : ضعيف (5) .
__________
(1) ذكرت سابقاً أن سبب طعن ابن معين في الشافعي هو : عدم معرفته به ، وأن الإمام أحمد نهاه عن ذلك فانتهى .
(2) قاعدة في الجرح والتعديل ص 24 .
(3) الرواة الثقات ص 23 ، 24 .
(4) الرواة الثقات ص 27 .
(5) سير أعلام النبلاء 8 / 448 .(1/53)
وقال أيضاً : فمن قطبة وما قطبة ؟ حتى يجرح وهو هالك (1) .
المثال الرابع : قد يتكلم الناقد في قرينٍ له ويتحامل عليه فلا يُقبل قوله ولا يُعاب لجلالته وإمامته .
قال العلاَّمة محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني : قال ابن إسحاق : اعرضوا عليَّ علم مالك فأنا بيطاره ، فبلغ ذلك الكلام مالكاً فقال تلك الكلمة الجافية (2) التي لولا جلالة من قالها وما نرجوه من عفو الله عن فلتات اللسان عند الغضب لكان القدح بها فيمن قالها أقرب إلى القدح فيمن قيلت فيه ، فلما وجدناه خرج مخرج الغضب لم نره قادحاً في ابن إسحاق ، فإنه خرج مخرج جزاء السيئة بالسيئة ، على أن ابن إسحاق لم يقدح في مالك ولا في علمه ، غاية ما أفاد كلامه أنه أعلم من مالك ، وأنه بيطار علومه ، وليس فيه قدح على مالك (3) .
المثال الخامس : تكلَّم النسائي في أحمد بن صالح المصري غضباً منه وتحاملاً عليه فقال الذهبي : آذى النسائي نفسه بوقوعه في أحمد (4) .
وقال أبو بكر بن العربي في عارضة الأحوذي : أحمد بن صالح إمام ثقة من أئمة المسلمين ولا يُؤثِّر فيه تجريح ، وإن هذا القول يحط من النسائي أكثر مما يحط ابن صالح .
المثال السادس : ذكر الذهبي في نرجمة أبي نعيم الأصبهاني أنه تكلم في ابن مندة بهوى .
ثم نقل كلام ابن طاهر المقدسي : أسخن الله عين أبي نعيم ، يتكلم في أبي عبد الله بن مندة ، وقد أجمع الناس على إمامته ، ويسكت عن لاحق وقد أجمع الناس أنه كذاب .
__________
(1) ميزان الاعتدال 5 / 439 .
(2) يشير إلى قول مالك في ابن إسحاق : إنه دجال من الدجاجلة .
(3) ارشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد ص 13 ، 14 ضمن مجموعة الرسائل المنيرية .
(4) سير أعلام النبلاء 12 / 161 .(1/54)
قال الإمام الذهبي : كلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به ، لاسيما إذا لاح لك أنه لعداوة ، أو لمذهب ، أو لحسد ، وما ينجو منه إلا من عصمه الله، وما علمت أن عصراً من الأعصار سلم أهله من ذلك سوى الأنبياء والصديقين ، ولو شئت لسردت من ذلك كراريس ، اللهم فلا تجعل في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا ربنا إنك رءُوفٌ رحيم (1) .
فانظر رحمك الله كيف جرَّ أبي نعيم لنفسه هذا الكلام القاسي لطعنه في ابن مندة بغير حق .
المثال السابع : قال الإمام السخاوي مبيناً خطورة الجرح المبني على الهوى : ربما يناله -أي المُجَرِّح - إذا كان بالهوى ومجانبة الاستواء الضرر في الدنيا قبل الآخرة ، والمقت بين الناس والمنافرة ، كما اتفق لأبى شامة فإنه كان مع كونه عالماً راسخاً في العلم : مقرئاً محدثاً نحوياً يكتب الخط المليح المتقن مع التواضع والانطراح والتصانيف العدة كثير الوقيعة في العلماء والصلحاء وأكابر الناس ، والطعن عليهم ، والتنقُّص لهم ، وذكر مساوئهم وكونه عند نفسه عظيماً ، فصار ساقطاً من أعين كثيرٍ من الناس ممن علم منه ذلك ، وتكلموا فيه وأدَّى ذلك إلى امتحانه بدخول رجلين جليلين عليه داره في صورة مستفتين فضرباه ضرباً مبرحاً إلى أن عيل صبره ولم يغثه أحد (2) .
ثالثاً : تضعيف المُتَكَلَّم فيه خاصةً عند موافقي المُتكلِّم في المذهب
فقد يطَّلع الناقد المتأخر على قولٍ لبعض المتقدمين في أقرانهم ويخفى عليه سببه فيقول به ويُضعِّف روايته لأجله بينما يطَّلع غيره على علة هذا القول وتوثيق العلماء له فيحكم بصحة روايته ، وهذه الأمثلة تُبيِّن ذلك وتوضِّحه :
__________
(1) ميزان الاعتدال للذهبي 1 / 111 .
(2) فتح المغيث 3 / 265 .(1/55)
المثال الأول : قال الإمام مالك في محمد بن إسحاق : إنه دجال من الدجاجلة ، بينما قال فيه شعبة : إنه أمير المؤمنين في الحديث ، وشعبة إمامٌ ناقدٌ معتمدٌ لا خلاف في ذلك ، وإمامة مالك في الدين معلومة لا تحتاج إلى برهان فهذان إمامان كبيران اختلفا في رجلٍ واحدٍ من رواة الحديث ، ويتفرع على هذا : الاختلاف في صحة حديثٍ من رواية ابن إسحاق وفى ضعفه ، فإنه قد يجد العالم المتأخر عن زمان هذين الإمامين كلام شعبة وتوثيقه لابن إسحاق فيصحح حديثاً يكون من رواية ابن إسحاق قائلاً : قد ثبتت الرواية عن إمامٍ من أئمة الدين وهو : شعبة بأن ابن إسحاق حجة في روايته فهذا خبرٌ رواته ثقات يجب قبوله .
وقد يجد العالم الآخر كلام مالك وقدحه في ابن إسحاق ، القدح الذي ليس وراءه وراء ، ويرى حديثاً من رواية ابن إسحاق فيضعِّف الحديث لذلك قائلاً : قد روى لي إمام وهو : مالك بأن ابن إسحاق غير مرضي الرواية ، ولا يساوي فَلْساً فيجب رَدُّ خبرٍ فيه ابن إسحاق .
فيتعارض التصحيح والتضعيف ، ويحتاج الأمر إلى ترجيحٍ ومعرفة ، فإذا عرف الناقد أنه كلامٌ خرج مخرج الغضب الذي لا يخلو عنه البشر ، ولا يحفظ لسانه حال حصوله إلا من عصمه الله تعالى ، وأنزل كلام مالك على ذلك ، أما كلام شعبة ففيه اعتدال وإنصاف ، وقد خرج مخرج النصح للمسلمين ، وليس له حامل إلا ذلك ، وأما الجامد في ذهنه الأبله في نظره فإنه يقول : قد تعارض هنا الجرح والتعديل فيُقَدَّم الجرح لأن الجارح أولى وإن كثر المعدلون ، وهذا خطأ لأن هذه القاعدة جارية في حق المجهول ، على أن كلام مالك - وقد عرفنا سببه - لا يقدح في ابن إسحاق .
فأنت ترى أنه زلّ بسبب كلام مالك طائفتان من العلماء :
الأولى : طائفة وقعوا على كلام مالك ولم يعرفوا سببه ، ولم يقفوا على كلام شعبة فيه فضعَّفوا ابن إسحاق لذلك .(1/56)
الثانية : طائفة وقعت على كلام مالك وابن إسحاق فقالوا الجرح مقدم على التعديل - دون أن يعرفوا سبب الجرح- ومالك أولى فضعفوا ابن إسحاق كذلك .
والرأي الفصل في هذه المسألة أن كلام مالك لا يقدح في ابن إسحاق لأنه خرج مخرج الغضب فلا يُعتدُّ به ، ويبقى كلام شعبة : أن ابن إسحاق أمير المؤمنين في الحديث سالم من المعارضة ، والكلام في ابن إسحاق مثال وطريق يُسلك منه إلى نظائره .
وقد ذهب بعض العلماء إلى القول بأن كلام الإمام مالك في ابن اسحاق قد أثَّر فيه ، وأنزل حديثه من مرتبة الصحة إلى مرتبة الحسن .
قال الإمام الذهبي عن مالك وابن إسحاق : وهذان الرجلان كلٌ منهما قد نال من صاحبه ، لكن أثَّر كلام مالك في محمد بعض اللين ، ولم يؤثر كلام محمد فيه ولا ذرَّة ، وارتفع مالك وصار كالنجم ، والآخر فله ارتفاع بحسبه ، ولا سيما في السير ، وأما في أحاديث الأحكام فينحطُّ حديثه فيها عن رتبة الصحة إلى رتبة الحسن إلا فيما شذَّ فيه ، فإنه يُعدُّ منكراً ، هذا الذي عندي في حاله ، والله أعلم (1) .
رابعاً : سرعة العقوبة من الله عز وجل
ترتَّب على كلام بعض الثقات في أقرانهم دون بيِّنة أن يُسلِّط الله عليه من أقرانه الآخرين من يتكلم فيه ويتَّهمه دون بينةٍ أيضاً ، ومن عاب الناس عابوه ، ومن افترى افْتُري عليه ، وهذا عاجل الجزاء .
وهذه الأمثلة تبين ذلك وتوضحه :
المثال الأول : أبو نعيم الأصبهاني إمامٌ جليلٌ ثقة ، ولكنه تكلَّم في ابن مندة وأقذع فيه القول دون بيِّنة فسلط الله عليه من تكلم فيه أيضاً .
قال الذهبي : أحمد بن عبد الله الحافظ أبو نعيم الأصبهاني أحد الأعلام صدوق تُكلم فيه بلا حجة ، ولكن هذه عقوبة من الله لكلامه في ابن مندة بهوى (2) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 7 / 41 .
(2) ميزان الاعتدال 1 / 111 .(1/57)
المثال الثاني : الشعبي إمام ثقة ناقد وصف الحارث الأعور بأنه كذَّاب فسلَّط الله عليه من رماه بنفس الداء وهو منه بريء لكنه عقوبة من الله جزاءً وفاقا ً.
عرض ابن عبد البر قول إبراهيم النخعي في الشعبي : ذلك الكذاب لم يسمع من مسروق شيئاً ، ثم قال :
معاذ الله أن يكون الشعبي كذاباً بل هو إمام جليل ، والنخعي مثله جلالة وعلماً وديناً ، وأظن الشعبي عُوقب بقوله في الحارث الهمداني : حدثني الحارث وكان أحد الكذابين ، ولم يَبِن من الحارث كذب ، وإنما نُقِم عليه إفراطه في حب علىّ - رضي الله عنه - وتفضيله له على غيره ، ومن هنا - والله أعلم - كذَّبه الشعبي لأن الشعبي يذهب إلى تفضيل أبى بكر - رضي الله عنه - وإلى أنه أول من أسلم ، وتفضيل عمر رضي الله عنه (1) .
المثال الثالث : تكلم النسائي في أحمد بن صالح المصري تحامُلاً عليه قال السخاوي : أحمد بن صالح هذا تكلم في حرملة صاحب الشافعي ، فقال ابن عدي : تحامل عليه ، وسببه أن أحمد سمع كتب حرملة من ابن وهب فأعطاه نصف سماعه ومنعه النصف فتولدت بينهما العداوة من هذا ... فجوزي أحمد بن صالح بما تقدم (2) .
خامساً : اليقين التام بالنقص البشري ، وأن كل أحدٍ يُؤخَذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم -
حرص علماء الجرح والتعديل على الاعتدال والإنصاف ، وضربوا أروع الأمثلة في ذلك حتى إن الواحد منهم كان يجرح ابنه أو أباه ، أو صديقه أو أخاه ولا يحابي في ذلك أحداً ، ولا تأخذه في الله لومة لائم لأنه يعلم أنه أمر دين .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله ص 439 .
(2) يشير إلى كلام النسائي فيه راجع : فتح المغيث للسخاوي 3 / 274 .(1/58)
وما ذُكر مما يُخالف هذه القاعدة فهو قليل نادر ، وإنما ذكره العلماء ليُعرف ويحذر ، ولكن الأصل : أن علماء الإسلام ونقاد الحديث كانوا على جانبٍ كبيرٍ من الورع والخشية ، والحذر من رمي البرآء بالعيب ، أو محاباة الأقارب أو الأصحاب على حساب قواعد العلم ، فانظر إلى إنصافهم لأهل البدع مثلاً ، بمثل قولهم : ثقة قدري ، ثقة رافضي ، حدثني المتهم في دينه الصدوق في حديثه ، ونحو ذلك ، وانظر إلى تضعيف بعضهم لأبيه أو ابنه أو صديقه الذي يحبه لكنه لا يحابيه وذلك لأنه يدرك أن هذا العلم دين .
فضربوا في ذلك أروع الأمثلة وإليك بعض الأمثلة الدالة على ذلك :-
1- سُئل علي بن المديني عن أبيه فقال : سلوا عنه غيري ، فأعادوا فأطرق ثم رفع رأسه فقال : هو الدين : إنه ضعيف (1) .
2- كان وكيع بن الجراح لكون والده على بيت المال لا يروي عنه منفرداً بل يقرن معه آخر (2) .
3- قال أبو داود : ابني عبد الله كذاب (3) .
4- قال الذهبي في ولده أبي هريرة : إنه حفظ القرآن ثم تشاغل عنه حتى نسيه (4) .
5- وقال زيد بن أبي أنيسة : لا تأخذوا عن أخي (5) .
6- قال الشافعي : يقولون : يحابي ، فلو حابينا لحابينا الزهري وإرسال الزهري ليس بشيء (6) .
7- سُئل جرير بن عبد الحميد الضبي عن أخيه أنس فقال : لا يُكتب عنه فإنه يكذب في كلام الناس (7) .
8- قال شعبة بن الحجاج : لو حابيتُ أحداً لحابيتُ هشام بن حسان كان ختني ولم يكن يحفظ (8) .
__________
(1) الإعلان بالتوبيخ ص 68 .
(2) الإعلان بالتوبيخ ص 68 .
(3) الإعلان بالتوبيخ ص 68 .
(4) الإعلان بالتوبيخ ص 68 .
(5) مقدمة صحيح مسلم ص 27 .
(6) الرسالة للشافعي ص 4699 .
(7) لسان الميزان 1 / 591 .
(8) ميزان الاعتدال 3 / 478 .(1/59)
9- قال عبد الرحمن بن مهدي : اختلفوا يوماً عند شعبة فقالوا : اجعل بيننا وبينك حَكَماً فقال : قد رضيت بالأحول يعني : يحيى بن سعيد القطان ، فما برحنا حتى جاء يحيى فتحاكموا إليه فقضى على شعبة - وهو شيخه ، ومنه تعلَّم ، وبه تخرَّج - فقال له شعبة : ومن يطيق نقدك يا أحول ؟ (1) .
10- سُئل يحيى بن معين عن أبي ياسر عمار المستملي فقال : ليس بثقة ثم قال : هو صديقٌ لي (2) .
11- وسُئل عن علي بن قرين فقال : كذاب فقيل له : إنه ليذكرُ أنه كثير التعاهد لكم ، فقال يحيى : صدق ، إنه ليكثر التعاهد لنا ، ولكني أستحي من الله أن أقول إلا الحق ، وهو كذاب (3) .
12- قال الشعبي أخبرنا الحارث الأعور صاحبنا , وأشهد أنه كان كذابا ً(4) .
13- في ترجمة محمد بن إسحاق الضبعي شقيق الإمام أبي بكر الضبغي قال الحاكم : كان أخوه ينهانا عن السماع منه لما يتعاطاه (5) .
فهؤلاء هم أئمة الحديث ينقدون الراوي ويُضعِّفُونه إذا كان أهلاً لذلك ، لا تمنعهم من ذلك قرابة ولا صحبة ، فلم يحابوا أباً أو ابناً ، أو أخاً أو صديقاً ، أو شيخاً أو قريبا .
قال ابن القيم : ومن له اطِّلاعٌ على سيرة أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة ، وعلى أحوالهم علم بأنهم من أعظم الناس صدقاً ، وأمانة ، وديانة وأوفرهم عقلاً ، وأشدهم تحفظاً , وتحرياً للصدق , ومجانبةً للكذب ، وأن أحداً منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه ، ولا شيخه ولا صديقه ، وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحريراً لم يبلغه أحدٌ سواهم من الناقلين عن الأنبياء ولا عن غير الأنبياء (6) .
__________
(1) مقدمة الجرح والتعديل ص 232 .
(2) تاريخ بغداد 12 / 255 .
(3) تاريخ بغداد 12 / 151 .
(4) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ص 418 .
(5) ميزان الاعتدال 3 / 478 .
(6) مختصر الصواعق المرسلة 2 / 358 .(1/60)
قال الذهبي : نحن لا ندعى العصمة في أئمة الجرح والتعديل لكن هم أكثر الناس صواباً ، وأندرهم خطأً ، وأشدهم إنصافاً ، وأبعدهم عن التحامل ، وإذا اتفقوا على تعديلٍ أو جرح فتمسَّك به ، واعضض عليه بناجِذَيك ، ولا تتجاوزه فتندم ، ومن شذَّ منهم فلا عبرة به ، فخلّ عنك العناء ، وأعط القوس باريها ، فوالله لولا الحفاظ الأكابر لخطبت الزنادقة على المنابر (1) .
ورغم هذا فلكل جواد كبوة ، ولكل صارم نبوة ، ولكل عالم هَفْوة ، ولكل قاعدة شواذ ، ولذلك وقع من بعض العلماء هنات تدل على أنهم بشر يرضون ويغضبون ، ويحبون ويكرهون ، ويصيبون ويخطئون ، وتلك سنة الله في خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلاً .
قال الإمام الذهبي : مازال العلماء الأقران يتكلم بعضهم في بعض بحسب اجتهادهم ، وكل أحدٍ يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (2) .
وقال أيضاً : استفق ويحك ، وسل ربك العافية ، فكلام الأقران بعضهم في بعض أمرٌ عجيب ، وقع فيه سادة فرحم الله الجميع (3) .
وغالب أقوال أئمة الجرح والتعديل مقبولة ما لم تظهر عليها قرينه تدل على خطأهم أو وهمهم فإن كلامهم حينئذ لا يُقبل ، وهذا لا يضرهم في شيء ، وكفى بالمرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبه ، وكفى بالعالم شرفاً أن تعد أخطاؤه ، ولذلك قال الذهبي في ترجمة يحيى بن معين : هو أحد أئمة هذا الشأن ، وكلامه كثير إلى الغاية في الرجال ، وغالبه صواب وجيد ، وقد ينفرد بالكلام في الرجل بعد الرجل فيلوح خطؤه في اجتهاده - إذا خالف الجمهور - فإنه بشرٌ من البشر وليس بمعصوم (4) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 11 / 82 .
(2) ميزان الاعتدال 7 / 87 .
(3) سير أعلام النبلاء 12 / 61 .
(4) الرواة الثقات ص 30 .(1/61)
قال ابن حبان : وفي الدنيا أحد بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعرى عن الخطأ ؟ ولو جاز ترك حديث من أخطأ لجاز ترك حديث الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المحدثين ، لأنهم لم يكونوا بمعصومين (1) .
وهذا يحيى بن سعيد القطان الذي قال عنه علي بن المديني : ما رأيت أحداً أعلم بالرجال منه .
وقال أحمد بن حنبل : ما رأيت بعينىّ مثله (2) .
ومع ذلك يقول عنه الذهبي : كان يحيى بن سعيد مُتعنِّتاً في نقد الرجال (3) .
وقال ابن حجر : يحيى بن سعيد شديد التعنت في الرجال لا سيَّما من كان من أقرانه (4) .
ولقد صدق الإمام أحمد حينما قال متعجباً : ومن يعرى من الخطأ والتصحيف ؟ (5) .
وقال السيوطي : أخطأ غير واحدٍ من الأئمة بجرحهم لبعض الثقات بما لا يجرح (6) .
ولقد تكلم الشوكاني على منهج الحافظ الذهبي في الجرح والتعديل خاصةً عند الترجمة للأئمة فأثنى عليه ثم قال : مصنفاته غالبها الإنصاف ، والذب عن الأفاضل ، وإذا جرى قلمه بالوقيعة في أحد ، فإن لم يكن من معاصريه فهو إنما روى ذلك عن غيره ، وإن كان من معاصريه فالغالب أنه لا يفعل ذلك إلا مع من يستحقه ، وإن وقع ما يخالف ذلك نادراً فهذا شأن البشر ، وكل أحدٍ يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، والأهوية تختلف ، والمقاصد تتباين ، وربك يحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون (7) .
__________
(1) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان 1 / 85 .
(2) سير أعلام النبلاء 9/177 ، وتهذيب التهذيب 9 / 235 ، 236 .
(3) سير أعلام النبلاء 9 / 83 .
(4) هدى الساري ص 445 .
(5) سير أعلام النبلاء 9 / 181 .
(6) تدريب الراوي 2 / 369 .
(7) البدر الطالع 2 / 111 .(1/62)
وبالجملة فالمحدثون كغيرهم من سائر المصنفين ، في كلامهم الغث والسمين ، والسعيد من عُدَّت غلطاته ، وحُصرت سقطاته ، فكل إنسان يخطئ ويصيب ، ويؤخذ من كلامه ويترك إلا النبي المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، وهي الدنيا لا يكمُل فيها شيء ، وكفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه ، والكمال لله عز وجل وحده .
سادساً : عدم صفاء النفوس وتوفُّرِها على حب الأئمة
فإن ترديد كلام العلماء الأقران بعضهم في بعض يُضعِف الثقه بالطرفين ويُشوِّش النفوس ، ويجعل الفكر مضطرباً بين تصديقٍ ورفض , ومحبةٍ وبغض وقد يطَّلع عليه أحد العامة فيسقط كثير من العلماء من نظره ، ويُصدِّق ما قيل فيهم بغير بينة ، وأقل الأضرار أن لا يحبهم وهم حَمَلةُ الشريعة ونَقَلة الدين .
فالواجب قبول جميع العلماء الثقات ومحبتهم , والترضِّي عليهم , والثناء عليهم بما عُرف من طيب أعمالهم , ونشر محاسن سيرهم , والتغاضي عن أخطائهم وهفواتهم القليلة , والتأول لها خاصةً الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم , والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث ، فلا نشتغل بخلافاتهم بل نقول كما قال الحسن البصري : قتال شهده أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وغبنا , وعلموا وجهلنا , واجتمعوا فاتبعنا , واختلفوا فوقفنا .
قال الحارث المحاسبي : فنحن نقول كما قال الحسن , ولا نبتدع رأياً منا , ونعلم أنهم اجتهدوا , وأرادوا وجه الله عز وجل (1) .
قال ابن خراش : أدركت من أدركت من صدور هذه الأمة وهم يقولون : اذكروا من محاسن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تأتلف عليه القلوب , ولا تذكروا الذي شجر بينهم فتُحرِّشوا عليهم الناس (2) .
__________
(1) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 9 / 6142 .
(2) تهذيب الكمال 2 / 589 ، وجامع بيان العلم وفضله ص450 .(1/63)
قال ابن عبد البر بعد ما ذكر كلام بعض الصحابة وكبار العلماء بعضهم في بعض : والذين أثنوا على سعيد بن المسيب وعلى سائر من ذكرنا من التابعين وأئمة المسلمين أكثر من أن يُحصوا ، وقد جمع الناس فضائلهم وعنوا بسيرهم وأخبارهم ، فمن قرأ فضائلهم , وفضائل مالك , وفضائل الشافعي , وفضائل أبى حنيفة بعد فضائل الصحابة والتابعين - رضي الله عنهم - وعني بها ووقف على كريم سيرهم , وسعى في الإقتداء بهم , وسلوك سبيلهم في علمهم, وفى سمتهم ، هُدي وكان ذلك له عملاً زاكياً , نفعنا الله عز وجل بحبهم جميعاً .
قال الثوري رحمه الله : عند ذكر الصالحين تنزل الملائكة ، ومن لم يحفظ من أخبارهم إلا ما نذر من بعضهم في بعض على الحسد والهفوات , والغضب والشهوات دون أن يُعنى بفضائلهم , ويروي مناقبهم , حُرم التوفيق ، ودخل في الغيبة, وحاد عن الطريق ، جُعلنا وإياك ممن يستمع القول فيتبع أحسنه (1) .
وصدق ابن عبد البر فإن الواجب جمع القلوب على حب الصحابة والعلماء براوية فضائلهم ومناقبهم ، ونسيان هفواتهم وزلاتهم التي لا يخلو منها بشر .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله ص 449 ، 450 .(1/64)
قال الذهبي (1) : كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية لا يُلتفت إليه , بل يُطوى ولا يُروى كما تقرَّر عن الكف عن كثيرٍ مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين ، ومازال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف , وبعضه كذب ، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه لتصفوا القلوب , وتتوفر على حب الصحابة , والترضي عنهم ، وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء , وقد يُرخَّص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري عن الهوى بشرط أن يستغفر لهم كما علمنا الله تعالى حيث يقول : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } (2) .
ولذلك جعل الإمام اللكنوي ذكر مثالب الفضلاء من أعظم المصائب لأنه تفسد به ظنون العوام , وتسري به الأوهام في الأعلام (3) .
سابعاً : الخروج عن حدّ الاعتدال في الجرح والتعديل
الأصل المفهوم من قواعد الدين : صيانة أعراض المسلمين , وحرمة الخوض فيها إلا لضرورة مُلجئة , ومصلحةٍ ظاهرة , لأن الجرح بمثابة الميتة للمضطر لا يأكل منها إلا ما يُبقيه حياً دون التفكُّه والتلذذ , ولذلك قالوا : التفكه بأعراض المسلمين حرام , والأصل فيها العصمة (4) .
__________
(1) سير أعلام النبلاء 10 / 92 ، 93 .
(2) الحشر : 10 .
(3) الرفع والتكميل في الجرح والتعديل ص67 .
(4) الفروق الفقهية للقرافي 4 / 206 .(1/65)
ولذلك اشترطوا : أن يكون المجروح من أهل الرواية وإلا فلا فائدة في جرحه ، كما اشترطوا : الاقتصار على الأمور التي تقدح في الراوية فقط فلا يسب أباه ولا أمه ولا نحو ذلك ، كما يجب أن يكتفي في الجرح إذا أمكن بالإشارة المفهمة أو بأدنى تصريح ، ولا تجوز له الزيادة على ذلك ، كما لا يجوز الجرح بشيئين إذا حصل بواحد ، فإن القدح إنما جاز للضرورة فليُقدَّر بقدرها (1) .
وقد حرص العلماء غالباً على التزام هذه القواعد ومراعاة هذه الشروط بل حرصوا فضلاً عن ذلك على التزام الأدب في اختيار ألفاظ الجرح حتى قال المزني : سمعني الشافعي يوماً وأنا أقول : فلانٌ كذَّاب فقال لي : يا إبراهيم اكس ألفاظك أحسنها , لا تقل كذاب , ولكن قل : حديثه ليس بشيء (2) .
جرت عادة العلماء بهذا إلا أن كلام الأقران الناشئ عن الغضب أو الهوى أو العصبية إلى غير ذلك مما ذكرنا قد يجر إلى الخشونة في الألفاظ والخروج عن حد الاعتدال في استخدام الألفاظ لأنه يخالف قواعد الجرح التي وضعها العلماء , ولذلك حينما حذَّر محمد بن مفلح من كلام الأقران بعضهم في بعض قال : وتناول بعضهم في العرض والنفس , ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة (3) .
وهذه أمثلة تبين ذلك وتوضحه :
المثال الأول : قال أبان العطار : ذُكر يحيى بن أبي كثير عند قتادة فقال قتادة : متى كان العلم في السَّمَّاكين لِلَّهِ فذُكر قتادة عند يحيى فقال يحيى : لا يزال أهل البصرة بشرٍ ما كان فيهم قتادة .
وقد علّق الإمام الذهبي على كلامهما قائلاً : كلام الأقران يطوى ولا يروى ، فإن ذُكر تأمله المُحدِّث فإن وجد له متابعاً وإلا أعرض عنه (4) .
__________
(1) راجع : الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 85 .
(2) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ ص 86 ، 87
(3) سير أعلام النبلاء 7 / 40 .
(4) سير أعلام النبلاء 5 / 275 .(1/66)
المثال الثاني : من الألفاظ الغربية والعجيبة التي وردت في هذا الباب ما حكاه الإمام أحمد بن حنبل قال : بلغ ابن أبي ذئب أن مالكاً لم يأخذ بحديث " البيعان بالخيار" (1) فقال : يُستتاب فإن تاب وإلا ضُربت عنقه ، ثم قال أحمد : هو أورع وأَقوَل بالحق من مالك (2) .
قال الذهبي : لو كان ورعاً كما ينبغي لما قال هذا الكلام القبيح في حق إمامٍ عظيم ، فمالك إنما لم يعمل بظاهر الحديث لأنه رآه منسوخاً .
وقيل : عمل به وحمل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " حتى يتفرقا " على التلفظ بالإيجاب والقبول ، فمالك في هذا الحديث ، وفى كل حديث له أجر ولابد ، فإن أصاب ازداد أجراً آخر ، وإنما يرى السيف على من أخطأ في اجتهاده : الحرورية .
وبكل حال فكلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعوَّل عليه كثيرا ، فلا نقصت جلالة مالك بقول ابن أبي ذئب فيه ، ولا ضَعَّف العلماء ابن أبي ذئب بمقالته هذه ، بل هما عالما المدينة في زمانهما رضي الله عنهما (3) .
وهذا الكلام الشديد إنما حمله عليه : المنافسة .
قال الكوثري : كأنه بذلك كفر حتى يُستتاب ويُقتل , ولله في خلقه شئون (4) .
المثال الثالث : قال الإمام الذهبي في ترحمة الحافظ محمد بن سليمان الملقب بمُطيَّن : حطَّ عليه محمد بن عثمان بن أبي شيبة ، وحطَّ هو على ابن أبي شيبة ، وآل أمرهما إلى القطيعة .
قال الذهبي : ولا يُعتدُّ بحمد الله بكثيرٍ من كلام الأقران بعضهم في بعض .
__________
(1) البخاري كتاب البيوع باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا 4 / 362 رقم 2079 ، ومسلم كتاب البيوع باب الصدق في البيع والبيان 3 / 1164 رقم 1532 .
(2) العلل ومعرفة الرجال 1 / 193 .
(3) سير أعلام النبلاء 7 / 142 ، 143 .
(4) تأنيب الخطيب ص 79 .(1/67)
قال أبو نعيم بن عدي الجرجاني : وقع بينهما كلام حتى خرج كلُّ واحدٍ منهما إلى الخشونة والوقيعة في صاحبه . فقلت لابن أبي شيبة : ما هذا الاختلاف الذي بينكما ؟ فذكر لي أحاديث أخطأ فيها مطين ، وأنه ردَّ عليه ، يعني فهذا مبدأ الشر ، ثم قال ابن عدي : فظهر لي أن الصواب الإمساك عن القبول من كل واحدٍ منهما في صاحبه .
قال الإمام الذهبي : مطين وثقه الناس وما أصغوا إلى ابن أبي شيبة (1) .
المثال الثالث : تكلَّم ابن مندة وأبو نعيم الأصبهاني بعضهما في بعض حتى خرجا عن الجادة حتى قال الذهبي : رأيت لابن مندة حطاً مقذعاً على أبى نعيم , وتبديعاً , ومالا أحب ذكره (2) .
وقال : كلام ابن مندة في أحمد بن عبد الله بن إسحاق - وهو أبو نعيم - فظيع لاأحب حكايته , ولا أقبل قول كل منهما في الآخر بل هما مقبولان ، وكلام الأقران بعضهم في بعض لا يُعبأ به (3) .
المثال الرابع : قال الذهبي : وقد كان بين أبى عمرو - الداني - وبين أبي محمد بن حزم وحشة ومنافرة شديدة أفضت بهما إلى التهاجي , وهذا مذموم من الأقران , موفور الوجود , نسأل الله الصفح (4) .
المثال الخامس : وقع السبكي كثيراً في شيخه الذهبي , وأساء القول فيه وأفحش وبالغ , وتحامل عليه كما ذكرتُ شيئاً من كلامه فيما سبق , ولقد بلغ في ذلك الغاية وجاوز الحد حتى قال : اعلم أن هذه الرفقة أعني - المزي والذهبي والبرزالي وكثير من أتباعهم أضرّ بهم أبو العباس بن تيمية إضراراً بيّناً وحمَّلهم من عظائم الأمور أمراً ليس هيّناً , وجرّهم إلى ما كان التباعد عنه أولى بهم وأوقفهم في دكاك من نار ، المرجو من الله أن يتجاوزها لهم ولأصحابهم (5) .
__________
(1) ميزان الاعتدال 3 / 607 .
(2) سير أعلام النبلاء 17 / 34 .
(3) ميزان الاعتدال 1 / 251 .
(4) سير أعلام النبلاء 18 / 81 .
(5) طبقات الشافعية الكبرى 10 / 399 .(1/68)
وسبب هذه القسوة من السبكي في شيوخه : اختلافهم معه في فروع العقيدة فهو أشعري وهم حنابلة ، غفر الله لهم جميعاً .
ثامناً : محاولة أعداء السنة الطعن في الأئمة بتتبع هذه الأقوال واعتمادها والبناء عليها والطعن في منهج المحدثين في الجرح والتعديل
فيصورن الصحابة ومن بعدهم على أنهم طلاب دنيا , وباحثون عن منصب , يُعطَون فيرضون فيمدحون ، ويغضبون فيذمون , وليس لهم منهج علمي في الجرح والتعديل ينطلقون منه ويبنون عليه إنما هو محض هوى واختلاف دنيا .
يقول أحمد أمين : إن أحكام الناس على الرجال تختلف كل الاختلاف فبعضهم يُوثِّق رجلاً وآخر يكذبه , والبواعث النفسية على ذلك لا حصر لها ، ثم كان المحدثون أنفسهم يختلفون في قواعد الجرح والتعديل فبعضهم يرفض حديث المبتدع مطلقاً كالخارجي والمعتزلي ، وبعضهم يقبل روايته في الأحاديث التي لا تتصل ببدعته إلى أن قال : وبعض المحدثين يتشددون فلا يروي حديث من اتصلوا بالولاة ودخلوا في أمر الدنيا مهما كان صدقهم وضبطهم , وبعضهم لا يرى في ذلك بأساً متى كان عدلاً صادقاً , وبعضهم يتزمَّت فيأخذ على المحدث مزحة مزحها ... إلى غير ذلك من أسباب يطول شرحها ، ومن أجل هذا اختلفوا اختلافاً كبيراً في الحكم على الأشخاص , وتبع ذلك اختلافهم في صحة روايتهم والأخذ عنهم (1) .
وقال أيضاً : وكان للاختلاف المذهبي أثر في التعديل والتجريح فأهل السنة يجرحون كثيراً من الشيعة حتى إنهم نصوا على أنه لا يصح أن يُروى عن علي ما رواه أصحابه وشيعته ، إنما يصح أن يُروى ما رواه عنه أصحاب عبد الله بن مسعود ، وكذلك كان الشيعة من أهل السنة فكثير منهم لا يثق إلا بما رواه الشيعة عن أهل البيت وهكذا ، ونشأ عن هذا أن من يعدله قوم قد يجرحه آخرون (2) .
__________
(1) ضحى الإسلام 2 / 117 ، 118 .
(2) ضحى الإسلام 2 / 117 ، 118 .(1/69)
وهذا كلام من لم يطَّلع علي مناهج المحدثين في الجرح والتعديل , ولم ينزل هذه المناهج علي واقعهم ليرى مدي صدقهم وإنصافهم ونصحهم لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - .
ومن المعروف أن لكل منهج علمي وقواعد ضابطة أمور تشذ عنها فتُحفظ ولا يقاس عليها ، وليس من المنهج العلمي في شيء أن تُعتبر هذه الأقوال الشاذة - والتي كان الدافع لها احد الأسباب التي ذكرناها - مقياساً يُقاس عليه وتلغى القاعدة لأجلها ، إنه لا يفعل ذلك إلا مريض القلب مضطرب النفس معوج الفكر ، فإن هناك آلافاً من أقوال العلماء خرجت وفق المنهج العلمي الذي اختطوه لأنفسهم وما خرج عن ذلك يكون نادراً , والنادر لا حكم له .
وكم عانيت في هذا البحث من أجل الوقوف علي أقوالٍ لهم تخالف قواعدهم وناشئة عن سبب نفسي خاص فكنت كالباحث عن ماء في الصحراء لا يجده إلا بشق الأنفس فتيقنت من سلامة منهجهم وندرة أخطائهم وسلامة مقصدهم ، غفر الله لهم جميعا .
أضف إلى هذا أن علماء الجرح والتعديل كانوا يعتقدون جيداً أن الأمر أمر دين فلم تكن للبواعث النفسية أثر في أقوالهم , ولا للمجاملات الشخصية دور في كلامهم , وإنما كانوا يقولون الحق الذي يعتقدونه ، ولا نعني بذلك أنهم معصومون لا يخطئون , بل نعني أن خطأهم قليل مغتفر , وهو معروف نستطيع حصره وتجنبه والحذر منه ، فلا مطعن علي المحدثين في منهجهم لاتباعهم قواعده وضوابطه وهي شاهدة علي صحة مسلكهم واستقامة طريقتهم .
ولكن ههنا قضية ينبغي التنبه لها وهي : أن ما ورد من بعض الأئمة من الكلام في بعض لا يقدح فيهم ولا يطعن في صحة منهجهم لأن مثل هذا الكلام نادر الوقوع , والعصمة متعذرة للبشر سوي الأنبياء عليهم السلام .
قال ابن دقيق العيد : علي أن الفلتات من الأنفس لا يُدَّعى العصمة منها وربما حدث غضب لمن هو من أهل التقوى فبدرت منه بادرة لفظية (1) .
__________
(1) راجع : ٍالاقتراح في بيان الاصطلاح لابن دقيق العيد ص 342 - 344 .(1/70)
فينبغي أن يُحمل ما جاء عن بعض السلف في بعض - علي قلته - محمل ما دعا إلي التأويل واختلاف الاجتهاد أو الغضب أو غير ذلك مما ذكرنا كما حمل بعضهم علي بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً ، ولا يؤخذ بظاهر هذه الأقوال وتعتبر قاعدة يقاس عليها ، ويبقى الأصل سليماً ، لأن مثل هذه النوادر لا تقدح في الأصل لاسيما وقد تتبعها العلماء ووقفوا علي أسبابها وردوها ولم يعولوا عليها (1) .
على أن هناك بعض الناس يطيب لهم أن يثبت ما ينقل من نيل الأئمة رضي الله عنهم بعضهم في بعض , ولا يتحاشى من ذكر الأئمة بالمخازي كما قاله الحافظ ابن عساكر رحمه الله (2) .
نسأل الله السلامة والعافية من الأغراض والأمراض .
الفصل الرابع : القاعدة الذهبية في الجرح والتعديل
حرص علماء الجرح والتعديل علي وضع القواعد الضابطة لعملية النقد بحيث لا يُقبل قولٌ منشؤه الهوى أو التعصب أو الحسد أو غير ذلك ، وهذه هي القاعدة المتعلقة بهذا الموضوع :
من غلبت طاعاته ، وكثرت حسناته ، وثبتت إمامته ، واشتهرت عدالته فإنه لا يُقبل فيه جرح أحد كائناً من كان .
فمن المعروف أن أحد طرق إثبات العدالة هي : التواتر والشهرة والاستفاضة فمتى اشتهر الراوي بالعدالة والإمامة ، وكثر مادحوه ، واجتمع الناس على الثناء عليه قُبلت أحاديثه ، ولم يُقبل فيه جرح أحد ، لأن العدالة إذا ثبتت بيقين فلا تنتفي إلا بيقين مثله ، فلا يُقبل الجرح غير المفسر فيمن ثبتت عدالته .
قال الإمام محمد بن نصر المروزي : كل رجلٍ ثبتت عدالته لم يُقبل فيه تجريح أحد حتي يَبِين ذلك عليه بأمرٍ لا يحتمل غير جرحه (3) .
__________
(1) راجع : أصول منهج النقد عند أهل الحديث للدكتور عصام البشير ص 106 .
(2) تبيينٍ كذب المفتري ص 96 .
(3) تهذيب التهذيب 5 / 638 , والتمهيد لابن عبد البر 2 / 33 , 34 .(1/71)
وقال ابن جرير الطبري : من تثبت عدالته لم يُقبل فيه الجرح وما تسقط العدالة بالظن (1) .
وقال محمد بن مفلح : نهاني مالك عن شيخين من قريش ، وقد أكثر عنهما في " الموطأ " وهما ممن يُحتج بهما ، ولم ينج كثير من الناس من كلام بعض الناس فيهم ، نحو ما يُذكر عن إبراهيم من كلامه في الشعبي ، وكلام الشعبي في عكرمة وفيمن كان قبلهم ، وتناول بعضهم في العرض والنفس ، ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيان وحجة ولم تسقط عدالتهم إلا ببرهان ثابت وحجة ، والكلام في هذا كثير (2) .
وقال ابن عبد البر : الصحيح في هذا الباب أن من صحت عدالته ، وثبتت في العلم إمامته ، وبانت ثقته ، وبالعلم عنايته لم يُلتفت فيه إلى قول احد إلا أن يأتي في جرحه ببينة عادلة يصح بها جرحه على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة وسلامته من ذلك كله فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر ، وأما من لم تثبت إمامته ولا عُرفت عدالته ولا صحَّت - لعدم الحفظ والإتقان - روايته فإنه ينظر فيه على ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه ، والدليل على انه لا يُقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماماً في الدين قول احدٍ من الطاعنين : أن السلف- رضي الله عنهم - قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير ، منه في حال الغضب ، ومنه ما حمل عليه الحسد ، ومنه علي جهة التأويل مما لا يلزم المقول عليه ما قال القائل فيه ، وقد حمل بعضهم علي بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً ، ولا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان وحجة وتوجيه .
ثم قال : ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلة الثقات السادة بعضهم في بعض مما لا يجب أن يلتفت فيهم إليه ولا يعرج عليه .
__________
(1) هدي الساري ص 449 .
(2) سير أعلام النبلاء 7 / 40 .(1/72)
ثم قال : فمن أراد أن يقبل قول العلماء الثقات الأئمة الأثبات بعضهم في بعض فليقبل قول من ذكرنا قوله من الصحابة - رضوان الله عليهم - بعضهم في بعض ، فإن فعل ذلك ضل ضلالاً بعيداً ، وخسر خسراناً ، وكذلك إن قبل في سعيد بن المسيب قول عكرمة ، وفي الشعبي ، وأهل الحجاز ، وأهل مكة ، وأهل الكوفة ، وأهل الشام على الجملة ، وفي مالك ، والشافعي ، وسائر من ذكرناه في هذا الباب ما ذكرناه عن بعضهم في بعض ، فإن لم يفعل ولن يفعل إن هداه الله وألهمه رشده فليقف عند ما شرطنا في أن لا يُقبل فيمن صحت عدالته ، وعُلمت بالعلم عنايته ، وسلِم من الكبائر ، ولزم المروءة والتصاون ، وكان خيره غالباً ، وشره أقل عمله ، فهذا لا يُقبل فيه قول قائل لا برهان له به ، وهذا هو الحق الذي لا يصح غيره إن شاء الله (1) .
وقال الإمام البخاري بعد الإشارة إلى كلام الأقران : ولم يلتفت أهل العلم إلى ذلك ، ولا سقطت عدالة أحد إلا ببرهان ثابت وحجة (2) .
وعرض الذهبي نماذج من كلام الأقران في بعض ثم قال : ولم يلتفت أهل العلم في هذا النحو إلا ببيانٍ وحجة ، ولم تسقط عدالتهم إلا ببرهان ثابت وحجة ، والكلام في هذا كثير (3) .
__________
(1) جامع بيان العلم وفضله ص 436 - 449 بتصرف .
(2) القراءة خلف الإمام ص14 .
(3) سير أعلام النبلاء 7 / 40 .(1/73)
وقال أيضاً : مازال يمر بي الرجل الثبت وفيه مقال من لا يُعبأ به ، ولو فتحنا هذا الباب على نفوسنا لدخل فيه عدة من الصحابة والتابعين والأئمة، فبعض الصحابة كفّر بعضهم بعضاً بتأويلٍ ما، والله يرضى عن الكل ويغفر لهم، فما هم بمعصومين، وما اختلافهم ومحاربتهم بالتي تلينهم عندنا أصلاً، وبتكفير الخوارج لهم انحطَّت رواياتهم ، بل صار كلام الخوارج والشيعة فيهم جرحاً في الطاعنين ، فانظر إلى حكمة ربك ، نسأل الله السلامة ، وهذا كثيرٌ من كلام الأقران بعضهم في بعض ، ينبغي أن يُطوى ولا يُروى ، ويُطرح ولا يُجعل طعناً ، ويُعامل الرجل بالعدل والقسط .
ثم قال : فأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات فما يكاد يسلم احدٌ من الغلط الكثير لكنه غلطٌ نادرٌ لا يضر أبداً إذ علي عدالتهم وقبول ما نقلوه العمل ، وبه ندين لله تعالى (1) .
ثم أورد بعض النقد الموجه على كبار الأئمة ثم قال :
وهذا بابٌ واسع ، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ، والمؤمن إذا رجحت حسناته وقلَّت سيئاته فهو من المفلحين ، هذا أن لو كان ما قيل في الثقة الرضي مؤثر فكيف وهو لا تأثير له (2) .
ولذلك قال سعيد بن المسيب : ليس من عالمٍ ولا شريفٍ ولا ذي فضل إلا وفيه عيب ، ولكن من كان فضله أكثر من نقصه وُهب نقصه لفضله ، كما أن من غلب عليه نقصانه ذهب فضله (3) .
وقال ابن القيم : من قواعد الشرع والحكمة : أن من كثرت حسناته وعظمت ، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر فإنه يُحتمل منه ما لا يُحتمل لغيره ، ويُعفى عنه ما لا يُعفى عن غيره ، فإن المعصية خبث ، والماء إذا بلغ القلتين لم يحمل الخبث ، بخلاف الماء القليل فإنه لا يحتمل أدنى خبث (4) .
__________
(1) الرواة الثقات ص 23 ، 24 .
(2) الرواة الثقات ص 26 .
(3) جامع بيان العلم وفضله ص 308 .
(4) مفتاح دار السعادة 1 / 176 .(1/74)
وقال الدكتور مروان شاهين : الحق أن لو فُتح الباب علي مصراعيه وقُبل الجرح مطلقاً لما سلِم لنا أحدٌ من الرواة ، ولذهب غالب سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي عليها مدار ديننا الحنيف (1) .
وذكر الذهبي كلام أبي حفص الفلاس في أبى عبد الله السمين ثم قال : هذا من كلام الأقران الذي لا يُسمع فإن الرجل ثبت حجة (2) .
وذكر قول السليمانى في محمد بن جرير الطبري : كان يضع للروافض ثم قال : وهذا رجمٌ بالظن الكاذب ، بل ابن جرير من كبار أئمة المسلمين المعتمدين ، وما ندعي عصمته من الخطأ ، ولا يحل لنا أن نؤذيه بالباطل والهوى فإن كلام العلماء بعضهم في بعض ينبغي أن يُتأنَّى فيه ولاسيما في مثل إمام كبير (3) .
وصدق والله الذهبي فما مثل الإمام الطبري من يقال له هذا ، وما أحسن ما قال الطبري نفسه : لو كان كل من ادُّعي عليه مذهب من المذاهب الرديئة ثبت عليه ، وسقطت عدالته ، وبطلت شهادته بذلك ، للزم ترك أكثر محدثي الأمصار لأنه ما منهم أحدا إلا وقد نسبه قوم إلى ما يرغب عنه (4) .
وقال السبكي : الحذر الحذر أن تفهم أن قاعدتهم : الجرح مقدم علي التعديل علي إطلاقها بل الصواب : أن من ثبتت إمامته وعدالته وكثر مادحوه وندر جارحوه ، وكانت هناك قرينة دالة علي سبب جرحه من تعصبٍ مذهبي أو غيره لم يُلتفت إلى جرحه (5) .
__________
(1) دراسات فى علوم السنة في 48 .
(2) سير أعلام النبلاء 11 / 451 .
(3) ميزان الاعتدال 6 / 90 .
(4) هدي الساري ص 449 .
(5) طبقات الشافعية الكبرى 1 / 188.(1/75)
و قال أيضاً : إنك إذا قلت أن الجرح مقدم علي التعديل ورأيت الجرح والتعديل وكنت غراً بالأمور أو فدماً مقتصراً علي منقول الأصول حسبت أن العمل علي جرحه فإياك ثم إياك والحذر كل الحذر من هذا الحسبان ، بل الصواب عندنا : أن من ثبتت إمامته وعدالته ، وكثر مادحوه ومزكوه ، وندر جارحوه وكانت هناك قرينة دالة علي سبب جرحه من تعصبٍ مذهبي أو غيره فإنا لا نلتفت إلى الجرح فيه ونعمل فيه بالعدالة ، وإلا فلو فتحنا هذا الباب وأخذنا بتقديم الجرح علي إطلاقه لما سلم لنا أحد من الأئمة ، إذ ما من إمام إلا وقد طعن فيه طاعنون وهلك فيه هالكون (1) .
وقال أيضاً : الجارح لا يُقبل منه الجرح وإن فسره في حق من غلبت طاعاته علي معاصيه ، ومادحوه علي ذاميه ، ومزكوه علي جارحيه إذا كانت هناك قرينة يشهد العقل بأن مثلها حاملٌ على الوقيعة في الذي جرحه ، من تعصبٍ مذهبي، أو منافسة دنيوية كما يكون بين النظراء أو غير ذلك فنقول مثلاً : لا يُلتفت إلى كلام ابن أبى ذئب في مالك ، وابن معين في الشافعي والنسائي في أحمد بن صالح ، لأن هؤلاء أئمة مشهورون صار الجارح لهم كالآتي بخبرٍ غريب لو صح لتوفرت الدواعي على نقله ، وكان القاطع قائما علي كذبه فيما قاله (2) .
وقال ابن حجر : كلام الأقران غير معتبر في حق بعضهم بعضاً إذا كان غير مفسر لا يقدح (3) .
وأورد طعن أحمد بن محمد بن الحجاج في عثمان بن صالح السهمي ثم قال : أحمد بن صالح من أقران عثمان فلا يُقبل قوله فيه إلا ببيانٍ واضح (4) .
وقال السيوطي : من اشتهرت عدالته بين أهل العلم من أهل الحديث أو غيرهم ، وشاع الثناء عليه بها كفى في عدالته كمالك ، والسفيانين ، والأوزاعي ، والشافعي ، وأحمد وأشباههم (5) .
__________
(1) قاعدة في الجرح والتعديل ص 19 , 20 .
(2) قاعدة في الجرح والتعديل ص 30 .
(3) تهذيب التهذيب 6 / 188 .
(4) هدي الساري ص 445 .
(5) تدريب الراوي 1 / 301 .(1/76)
ولذلك نصح بعض العلماء بإعدام هذا الجرح إن أمكن ، أو إهماله وعدم الاشتغال به ، لأنه يشوش النفوس ، ويجلب الكراهية والبغضاء ، ويثير الإحن والأحقاد فضلاً عن انه لا ينبني عليه عمل ، خاصةً إذا عُرفت القرينة الدافعة إليه .
قال الذهبي : كلام الأقران بعضهم في بعض يحتمل ، وطيه أولى من بثه إلا أن يتفق المتعاصرون علي جرح شيخ فيعتمد قولهم (1) .
وقال أيضاً : كلام الأقران بعضهم في بعض ينبغي أن يُطوى ولا يُروى ويُطرح ولا يُجعل طعناً ويُعامل الرجل بالعدل والقسط (2) .
حتى قال الذهبي : وأما أئمتنا اليوم وحكامنا فإذا أعدموا ما وُجد من قدح بهوى فقد يقال: أحسنوا ووُفِّقوا ، وطاعتهم في ذلك مفترضة لما قد رأوه من حسم مادة الباطل والشر (3) .
وقال السبكى : ينبغي لك أيضا أيها المسترشد أن تسلك سبيل الأدب مع الأئمة الماضين ، وأن لا تنظر إلى كلام بعضهم في بعض إلا إذا أتى ببرهان واضح ، ثم إن قدرت علي التأول وتحسين الظن فدونك ، وإلا فاضرب صفحا عما جري بينهم فإنك لم تخلق لهذا ، فاشتغل بما يعنيك ، ودع ما لا يعنيك ، ولا يزال طالب العلم عندي نبيلاً حتى يخوض فيما جري بين السلف الماضيين ويقضي لبعضهم علي بعض (4) .
ولقد سار علماؤنا علي هذا الدرب ، وسلكوا هذا الطريق ، فأحسنوا الظن بالعلماء والأئمة، وحذروا طلبة العلم من الانشغال بهذه الأقوال أو روايتها.
__________
(1) سير أعلام النبلاء 11 / 432 .
(2) الرواة الثقات ص 26 .
(3) سير أعلام النبلاء 10 / 94 .
(4) طبقات الشافعية الكبرى 2 / 278 .(1/77)
ولذلك حذَّر الإمام السخاوي من نقل ما وقع بين الأئمة سيما المختلفين في المناظرات والمباحثات وأورد بعض الأئمة الذين أوردوا ذلك في كتبهم ثم قال : فينبغي تجنب اقتفائهم في ذلك ، ولذلك عذَّر بعض القضاة الأعلام من شيوخنا من نُسب إليه التحدث ببعضه ، بل منعنا شيخنا الحافظ ابن حجر حين سمعنا عليه كتاب : " ذم الكلام " للهروي من الرواية عنه - أى من رواية ذلك الكتاب عن ابن حجر مع أنهم سمعوه منه - لما فيه من ذلك (1) .
فيُفهم من نهي ابن حجر لتلاميذه رواية ذلك الكتاب عنه أن سماع مثله لمثله وإسماعه أيضاً لغيره إنما هو للتسجيل والتعريف وليس للبناء عليه والتعويل والاعتماد علي ما فيه ، وهذا مفيدٌ جداً .
علي أننا يجب أن ننبه في هذا السياق لأمرٍ مهمٍ جداً وهو : أنه إذا كنا نقول إن الجرح إذا صدر عن تعصبٍ ، أو عداوة ، أو خلاف مذهبي ، أو عقائدي ، أو منافسة دنيوية كان مردودا ، فليس معني ذلك : رفض الجرح مطلقاً إذا صدر في شأن من كانت بينهما نوع من المنافسة ، أو خلاف مذهبي أو غير ذلك لأن الغالب علي أقوال العلماء هو : الاعتدال والإنصاف ، فإذا صدر الجرح في مثل هذه الحالة فإن غاية الأمر أن تقع الريبة في نفوسنا إزاء هذا الجرح فنبحث عن سبب فإذا تأكدنا أن الباعث عليه هو : الخلاف المذهبي ، أو المنافسة والحسد ، أو نحو ذلك رفضناه ورددناه .
وأما إذا كان للجرح أسباب مقبولة وذكر ذلك غير واحد من أهل هذا الشأن قُبل الجرح حينئذ .
قال الإمام الذهبي : كلام الأقران يُطوى ولا يُروى ، فإن ذُكر تأمله المُحدِّث فإن وجد له متابعاً وإلا أعرض عنه (2) .
وعلى ذلك فجرح الأقران ليس مردوداً مطلقاً كما أنه ليس مقبولاً مطلقا وإنما ردُّه أو قبوله يكون وفق القواعد التي وضعها علماء الجرح والتعديل .
خاتمة
__________
(1) الإعلان بالتوبيخ ص 82 ، 83 .
(2) سير أعلام النبلاء 5 / 275 .(1/78)
وفي ختام هذا البحث أحب أن أؤكد على النتائج التالية والتي يُمكن أن تُستخلص منه :
أولا : الأقران المعنيون في هذا البحث هم : جماعةٌ من العلماء عاشوا في زمنٍ واحد ، وعاصر بعضهم بعضاً ، وإن تفاوتت أسنانهم ، وقد يكونون متفقين في الأخذ عن بعض الشيوخ أولاً .
ثانيا : الأسباب التي أدت إلى وقوع كلام الأقران بعضهم في بعض كثيرة ، وقد رصدت أشهرها ، وضربت الأمثلة الدالة على ذلك وهي : الحسد والغيرة والمنافسة ، و العداوة والبغضاء ، و الغضب وسوء الرأي ، و الجهل بقدر العلماء ، وطبيعة البشر وأن أحداً لم يسلم من الطعن فيه ، و التأويل واختلاف الاجتهاد، و الخلافات العقائدية ، و التعصب وعدم الإنصاف ، و سوء الظن والأخذ بالتوهم والقرائن التى تتخلف .
ثالثا : ترتب على كلام الأقران بعضهم في بعض عدد من النتائج الهامة حاولت رصدها للانتباه إاليها ومحاولة الاستفادة منها ، من أهم هذه النتائج :
عدم تضرر المُتَكَلَّم فيهم بل ربما كان القدح فيهم سبباً لتعريف الناس بفضلهم وذيوع صيتهم وشهرتهم ، وعيب المُجرِّحَ أو تضعيفه والقسوة في الرد عليه ، وتضعيف المُتَكَلَّم فيه خاصةً عند موافقي المُتكلِّم في المذهب ، وسرعة العقوبة من الله عز وجل ، واليقين التام بالنقص البشري وأن كل أحدٍ يُؤخَذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم - صلى الله عليه وسلم - ، وعدم صفاء النفوس وتوفُّرِها على حب الأئمة ، والخروج عن حدّ الاعتدال في الجرح والتعديل ، ومحاولة أعداء السنة الطعن في الأئمة بتتبع هذه الأقوال واعتمادها والبناء عليها والطعن في منهج المحدثين في الجرح والتعديل .(1/79)
رابعا : وضع العلماء مجموعة من القواعد الضابطة لعملية الجرح والتعديل حتى لا يقبل قول منشؤه أحد الأسباب السابق ذكرها ، ومن أهم هذه القواعد ما أطلق عليه بعض العلماء : القاعدة الذهبية وهي : من غلبت طاعاته، وكثرت حسناته ، وثبتت إمامته ، واشتهرت عدالته فإنه لا يُقبل فيه جرح أحد كائناً من كان .
خامسا : دقة الأئمة وورعهم وإنصافهم عند القيام بعملية الجرح والتعديل حتى إن خطأهم في هذا الأمر يمكن رصده ، ومن ثَمَّ جمعه ثم إهماله وعدم القول بمقتضاه ، ومجمل أقوال الأئمة في هذا الباب سالمة من الأسباب السابق ذكرها ، وكفى بالمرء شرفا أن تعد معايبه ، وكفى بالعلم فخرا أن تعد أخطاؤه .
وبعد
فهذا جهدي مع ضعفي وتقصيري ، والله يعلم أني ما أردت إلا النصح والإرشاد لطلبة العلم ، وحسبي أني اجتهدت وسعي ، ورجائي أن أُعَدَّ من خدام السنة المطهرة ، وأن أُحشر يوم القيامة في صحبة النبي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - برحمة الله لا بعملي ، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أ خطأنا ، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به ، واعف عنا ، واغفر لنا وارحمنا ، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
المصادر والمراجع
1) الأحاديث المختارة لأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الضياء المقدسي ، تحقيق عبد الملك دهيش ، نشر مكتبة النهضة الحديثة بمكة المكرمة ، الأولى1410هـ .
2) الإحسان بترتيب صحيح ابن حبان ترتيب الأمير علي بن بلبان الفارسي ، قدم له وضبط نصه كمال يوسف الحوت ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1987م .
3) إحياء علوم الدين للإمام أبي حامد الغزالي ، طبعة النور الإسلامية بدون تاريخ .
4) إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد للصنعاني ضمن مجموعة الرسائل المنيرية 1343 هـ .(1/80)
5) أصول منهج النقد عند أهل الحديث للدكتور عصام البشير ، طبعة مؤسسة الريان ، الأولى 1410 هـ .
6) الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ للإمام السخاوي ، تحقيق محمد عثمان الخشت ، طبعة مكتبة الساعي بالرياض بدون تاريخ .
7) الاقتراح في بيان الاصطلاح لابن دقيق العيد ، طبعة مطبعة الرشاد ببغداد 1402 هـ .
8) البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع للشوكاني ، طبعة مطبعة السعادة 1348 هـ .
9) تاريخ بغداد أو مدينة السلام لأحمد بن علي الخطيب البغدادي ، طبعة دار الكتب العلمية .
10) التاريخ الصغير للإمام البخاري ، طبعة دار المعرفة بيروت .
11) تأنيب الخطيب للكوثري ، طبعة الأنوار 1361 هـ .
12) تبيين كذب المفتري فيما نُسب لأبي الحسن الأشعري لابن عساكر ، طبعة مطبعة التوفيق بدمشق 1347 هـ .
13) تدريب الراوي في شرح تقريب النواوي لأبي بكر جلال الدين عبد الرحمن بن علي السيوطي ، تحقيق الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف ، طبعة دار الكتب الحديثة 1385 هـ .
14) التدوين في أخبار قزوين لعبد الكريم الرافعي القزويني ، طبعة المطبعة العزيزية حيدر آباد الدكن الهند .
15) تذكرة الحفاظ للإمام محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ، طبعة دار الكتب العلمية 1954م .
16) ترتيب المدارك للقاضي عياض ، طبعة الرباط بالمغرب 1384 هـ .
17) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد لابن عبد البر ، طبعة وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب سنة 1387 هـ .
18) تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني ، طبعة دار الفكر ، الأولى 1995م .
19) تهذيب الكمال في أسماء الرجال لأبي الحجاج المزي ، تحقيق بشار عواد معروف ، طبعة مؤسسة الرسالة ، الأولى 1992م .
20) الثقات لمحمد بن حبان البستي ، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند ، الأولى 1973 م .
21) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر ، تحقيق مسعد السعدني ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت ، الأولى 1421 هـ .(1/81)
22) الجامع لأحكام القرآن للإمام محمد بن أحمد القرطبي ، نشر دار الريان للتراث ، طبعة دار الشعب .
23) الجرح والتعديل لعبد الرحمن بن محمد المعروف بابن أبي حاتم الرازي ، طبعة دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند ، الأولى 1271 هـ .
24) حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم الأصبهاني ، طبعة دار الكتاب العربي ، الرابعة 1405 هـ .
25) دراسات في علوم السنة للدكتور مروان شاهين ، طبعة سنة 1418 هـ .
26) الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للإمام محمد بن عبد الحي اللكنوي الهندي ، طبعة دار البشائر الإسلامية بيروت ، الثالثة 1407 هـ .
27) الرواة الثقات المتكلم فيهم بما لا يوجب ردهم للإمام الذهبي ، تحقيق وتعليق محمد إبراهيم الموصلي ، طبعة دار البشائر الإسلامية بيروت1412 هـ .
28) سنن ابن ماجة محمد بن يزيد القزويني ، تحقيق وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، طبعة دار إحياء الكتب العربية .
29) سنن أبي داود سليمان بن الأشعث السجستاني ، طبعة دار الحديث نشر دار الريان للتراث سنة 1988 م .
30) سنن الترمذي محمد بن عيسي بن سورة ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي وأحمد شاكر ، طبعة دار الفكر 1414 هـ .
31) سنن النسائي الصغرى ( المجتبى ) أحمد بن شعيب ، تحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، طبعة مكتبة المطبوعات الإسلامية بحلب ، الثانية 1406 هـ .
32) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ، طبعة مؤسسة الرسالة ، الحادية عشرة 1417 هـ .
33) صحيح البخاري محمد بن إسماعيل البخاري ، تحقيق مصطفي ديب البغا ، طبعة دار ابن كثير ، الثالثة 1407 هـ .
34) صحيح مسلم للإمام مسلم بن الحجاج القشيري ، طبعة دار الحديث 1412 هـ .
35) ضحى الإسلام لأحمد أمين ، طبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1360 هـ .
36) الضعفاء والمتروكين للنسائي ، طبعة دار القلم ، الأولى 1985 هـ .
37) طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ، طبعة الحلبي المحققة 1382 هـ .(1/82)
38) العلل ومعرفة الرجال لأحمد بن حنبل ، طبعة المكتب الإسلامي ودار الخاني ، الأولى 1988 هـ .
39) علوم الحديث المشهورة بمقدمة ابن الصلاح لعثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري ، تحقيق نور الدين عتر ، طبعة دار الفكر المعاصر ببيروت ودار الفكر بدمشق .
40) فتح الباري شرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني ، تحقيق محب الدين الخطيب ، طبعة المكتبة السلفية ، الثالثة 1407 هـ .
41) فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للسخاوي ، طبعة دار الكتب العلمية 1413 هـ .
42) الفروق الفقهية للإمام القرافي ، طبعة دار إحياء الكتب العربية 1344 هـ
43) فواتح الرحموت شرح مسلم الثبوت المطبوع مع المستصفى لعبد العلي اللكنوي ، طبعة بولاق 1322 هـ .
44) فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ، طبعة دار المعرفة بيروت ، الثانية 1391 هـ .
45) قاعدة في الجرح والتعديل وقاعدة في المؤرخين للإمام السبكي ، مطبوع ضمن أربع رسائل في علوم الحديث ، اعتنى بها الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، طبعة دار البشائر الإسلامية بيروت ، نشر مكتب المطبوعات الإسلامية ، السادسة 1999 م .
46) القراءة خلف الإمام للإمام البخاري ، تحقيق فضل الرحمن الثوري ، طبعة المطبعة السلفية لاهور الهند 1400 هـ .
47) قواعد في علوم الحديث لظفر أحمد التهانوي ، طبعة دار السلام ، السادسة 1421 هـ .
48) الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي ، طبعة دار الفكر ، الثالثة 1988 م .
49) كشف الخفاء ومزيل الإلباس عما اشتهر من الحديث علي ألسنة الناس لإسماعيل بن محمد العجلوني ، طبعة دار الكتب العلمية 1418 هـ .
50) لسان العرب لابن منظور ، طبعة دار إحياء التراث العربي ومؤسسة التاريخ العربي ، الثانية 1990 هـ .
51) لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1416 هـ .
52) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للحافظ الهيثمي ، طبعة دار الريان ودار الكتاب العربي 1407 هـ .(1/83)
53) المجموع في الضعفاء والمتروكين للبخاري والنسائي والدارقطني ، تحقيق عبد العزيز السيروان ، طبعة دار القلم ، الأولى 1985 هـ .
54) مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم اختصار محمد الموصلي ، طبعة السلفية 1349 هـ .
55) المستدرك علي الصحيحين لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ، تحقيق مصطفي عبد القادر عطا ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1990 م .
56) مسند أحمد بن حنبل تحقيق أحمد شاكر وحمزة الزين ، طبعة دار الحديث ، الأولى 1995م .
57) معجم البلدان لياقوت الحموي تحقيق فريد الجندي ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1990 هـ .
58) معرفة علوم الحديث لأبي عبد الله الحاكم النيسابوري ، طبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية بحيدر آباد الدكن الهند 1401 هـ .
59) منهج النقد في علوم الحديث للدكتور نور الدين عتر ، طبعة دار الفكر المعاصر بيروت ودار الفكر بدمشق ، الثالثة 1418 هـ .
60) الموطأ للإمام مالك بن أنس ، تصحيح وترقيم محمد فؤاد عبد الباقي ، طبعة دار الحديث ، الثانية 1413 هـ .
61) ميزان الاعتدال في نقد الرجال للحافط الذهبي ، تحقيق علي معوض وعادل عبد الموجود ، طبعة دار الكتب العلمية ، الأولى 1995 م .
62) نزهة النظر شرح نخبة الفكر في مصطلح أهل الأثر لابن حجر العسقلاني ، طبعة مكتبة منارة العلماء 1409 هـ .
63) النهاية في غريب الحديث لابن الأثير الجزري ، طبعة دار الكتب العلمية بيروت ، الأولى 1418 هـ .
64) هدي الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر العسقلاني ، طبعة المكتبة السلفية 1407 هـ .(1/84)