تقديم الشيخ العلامة
عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، آله وصحبه.
وبعد: فقد قرأت هذه الرسالة في موضوع فناء الدنيا وتقلبها وزوال زهرتها، فلقد أحسنت الأخت الكاتبة جزاها الله خيرًا في الاختيار، وتتبع الكلمات والعبارات المفيدة، وحرصت على إيراد النصوص من الكتاب والسنة التي في الزهد وفي التقشف، والتي يحصل بها الاعتبار والتذكار وعدم الانخداع بزينة الدنيا وزهرتها مما يحصل معه الغفلة ونسيان الموت وما بعده.
فنوصي بقراءة هذه الرسالة وأمثالها كالزهد لابن المبارك، والزهد للإمام أحمد، والورع للإمام أحمد، وكتاب عدة الصابرين لابن القيم، وأمثالها مما تشمل سيرة الصالحين وتقللهم من زهرة الدنيا وشدة رغبتهم في الأعمال الصالحة التي تقربهم إلى رضوان الله تعالى وكرامته.
نسأل الله تعالى أن يوزعنا شكر نعمه، وأن يدفع عنا نقمه، وأن يرزقنا الاستعداد ليوم المعاد إنه على شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 27/7/1423هـ.
كتبه: عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين
...
... بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أولا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، سرًا وجهرًا... اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، اللهم صل على محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصل على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وصل على محمد وعلى المهاجرين والأنصار، وسلم تسليمًا كثيرًا.. أما بعد:
قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران: 102]، وقال سبحانه: { وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } [البقرة: 48].(1/1)
يا عبد الله، ويا أمة الله، دعونا نتقلب بين طيات الذكرى.. قد كنت يومًا جنينًا في رحم أمك؟!.. لقد كنت ماءً دافقًا قد تجمع، وكنت نطفة مذرة، قال الله تعالى: { ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ } [المؤمنون: 14].
ثم خرجت إلى الدنيا غريبًا لا تعرف من أنت وكيف خرجت؟ فسبحان من علمك! هل تذكر يوم أن كنت طالبًا صغيرًا؟ أتذكر ذلك السؤال: من ربك؟ ما دينك؟ ومن نبيك؟ هل تذكر تلك الحصة يوم تعلمنا فيها قوله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [الذاريات: 56]؟ لقد كنا نرددها غادين رائحين، نحفظ تلك الدروس نخشى ألا نجيب على الأوراق وحينما كبرنا درسنا ماهية العبادة، وقلنا: إنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة. حينما يأتي يوم الاختبار، فإذا أنفاسك تضايقت، وتلك اليدان ترجفان، وذاك العرق له تصبب، وأحيانًا الدمع سكيب، كنت تحفظ تلك الكلمات جيدًا.. وكنت تدعو الله وترجوه التوفيق والنجاح.
وحينما نجحت في تلك الأيام.. هل عملت بما تعلمت؟ هل قمت به حق القيام؟ جعلت تتقلب في عالم النسيان وكأنك لم تتعلم ألف باء! كأنك لم تدع الله يومًا واحدًا أو ترج ثوابه، وكأنك ما خلقت لعبادة الله بل كأنك ما عرفت الآية وما دلت عليه.. أخي تدبر قوله تعالى: { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [المؤمنون].
أغرتك الدنيا بجمالها؟!..
وألهتك عمّا بعدها؟!..
الدنيا تراها فتسر للقياها ... وإن تجالسها ترجو فرقاها(1/2)
دار شقاء وبلاء، صراخ وبكاء، دارٌ السعيد فيها من يراقب الله ويخشاه.
هيا لدنيا تقول بملء فيها ... حذار حذارِ من بطشي وفتكي
فلا يغرركمو مني ابتسام ... فقَوْلِي مضحكٌ والفعل مبكي
يا راكبًا سفن الآمال والأحلام، لا يطول بك الأمل فتهلك، ويا ناعسًا في ظل الملذات والشهوات، ما دام ظل بعده شمس تحرق، يا غارقًا في بحر الدنيا كيف تنجو من أمواج تداعب بعضها بك؟.. هل نسيت أن لكل بداية نهاية؟ وأن لكل سفينة مرسى، ولك سفر عودة؟
هل نسيت أن لكل حياة ممات؟ ولكل موت سكرات؟
وإن القبر ظلمات، والآخرة أهوال موحشات؟
هل نسيت حسرات وصيحات؟
أم نسيت { يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا } ؟
يا عبد الله: أما آن لك أن تتوب وترجع؟ وتعود فتخضع؟
اتق الله.. يا أسير الغفلات.. أناديك – وربي – بلسان المشفق.
ما المجهول المنتظر؟ من الطارق؟ ماذا خلف الجدار؟
ماذا ستفعل إذا يبس منك اللسان.. وارتخت اليدان.. وضعف الجنان.. وشخصت العينان.. وبردت القدمان؟.. { وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ } [القيامة].
ماذا ستفعل إذا ضاقت أنفاسك؟ وارتعشت أقدامك؟..
فيا لها من لحظة لهي أشد من ضرب بالسيوف.. ونشر بالمناشير.. وقرض بالمقاريض، قال تعالى: { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ } [ق: 19].. وقال تعالى: { فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ } [الواقعة]..
أين دواء الطبيب وبكاء الحبيب ودعاء الغريب؟ وأين أمك وأبوك، وأختك وأخوك؟ أين من أخلصت لهم نفسك، وخسرت لهم وقتك؟ أين الليالي والسهرات؟ أين الأفلام والمسلسلات؟ أين البنين والبنات؟ أين الأهل والملذات؟(1/3)
قال الله تعالى: { فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [الواقعة]، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن العبد المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وانقطاع من الدنيا، نزلت إليه الملائكة كأن على وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة، وحنوط من حنوط الجنة، فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة، اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان. قال: فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وذلك الحنوط ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، قال: فيصعدون بها فلا يمرون – يعني بها - على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا بها إلى السماء فيستفتحون له فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينُتهي بها إلى السماء السابعة فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى». أخرجه الإمام أحمد وأبو داود.
وفي رواية: «حتى إذا خرجت روحه صلى عليه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وفتحت أبواب السماء ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله أن يُعرج بروحه من قبلهم».
اللهم إنا نسألك من فضلك.. هذا ما يثلج الصدر.. ولكن يا عبد الله تخيل لو حيل بينك وبين ما تتمناه، وحيل بينك وبين حسن الختام؛ مما فعلته من آثام، وتقلبت على سرير الآلام والحسرات العظام، حينما تنتزع منك الروح ولا تقبل منك توبة نصوح.(1/4)
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : «وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه الملائكة سود الوجوه، معهم المسوح، فيجلسون منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، أخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتتفرق في جسده فينتزعها كما يُنتزع السفود من الصوف المبلول فيأخذها، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح، ويخرج كأنتن ريح خبيثة وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح له فلا يفتح له، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } [الأعراف: 40] فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابه في سجين (في الأرض السفلى) فتطرح روحه طرحًا، ثم قرأ: { وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [الحج: 31]» رواه أحمد وأبو داود. والمسوح هو: الكساء من الشعر، والسفود هو: حديدة ذات شعب يُشوى بها اللحم.(1/5)
وفي رواية: «ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة، اخرجي إلى سخط من الله وغضب. قال: فتتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود الكثير من الصوف المبلول فتقطع معها العروق والعصب، فيلعنه كل ملك بين السماء والأرض، وكل ملك في السماء، وتغلق أبواب السماء، ليس من أهل باب إلا وهم يدعون الله ألا تدرج روحه من قبلهم»، قال تعالى: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [آل عمران: 185]، وقال تعالى: { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ } [الحديد: 20].
أيا عبد الله، ويا أمة الله، قد بين الله في آيات كثيرة ما هي الدنيا وما حالها؟ وكم ضيعنا الكثير بسرابها، نراها خضراء مبتسمة، وهي نيران محرقة، نسير فيها حاملين أوزارًا بثقل وزن الجبال، ونخرج منها بكفن.. هذا كل ما أخذناه من دنيانا؟!
{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [هود]
أين الجاه وأين المنصب؟ أين المال والزوجة والأهل؟ أين العشيقة وأين المحبوب؟.
يا أسير الهوى والغفلات.. ألم تعلم أن للنار زفرات؟(1/6)
يا أخي.. والله إنها دار بلاء وامتحان { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } [الأنبياء: 35] فاعمل صالحًا أخي تظفر، وانظر إلى الدنيا نظرة المودع وإلى الآخرة نظرة المشتاق الخائف الوجل، واعلم أن الدنيا ساعة فاجعلها طاعة، ولا تكن ممن قال الله فيهم: { وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللهُ أَلا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [آل عمران].
يا أخي ويا أخيّتي: الدنيا مركب، والموت رحلة، والقبر أول منازل الآخرة.. قال - صلى الله عليه وسلم - : «مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب، قال في ظل شجرة ثم راح وتركها». رواه الترمذي وقال: حديث صحيح.
قال تعالى: { إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ } [لقمان].
أُخذت أرواحنا دون وعود، ولن تعود، أخذنا أهلونا فوق المحمة جردونا، غسلونا حنطونا كفنونا، إلى المصلى جعلونا، كبروا صلوا علينا، على الأكتاف حملونا، إلى القبور شيعونا، أنزلونا دفنونا تحت التراب تركونا، ذهبوا ولم يأخذونا، ظلمة وضمة أودعونا، غربة ووحشة تراودنا، طرقعات حذائهم أسمعونا، تركونا في دور وحدنا، لا أنسة ولا بسمة تسعنا، أين الوفاء والعهد الذي بيننا؟ أيا أبناءنا أنقذونا، أخرجونا أرجعونا.. كم تركنا لكم من الأوقات وكم خسرنا من الساعات والأيام والأزمان،
ننصح أحبتنا أقيموا حقوق الله وله اعبدوا، ولا يغرنكم طرب وأنس، أو لذة تجئ وتفنى.
يا ساكن القبر عن قليل ترحل ... ماذا تزودت للرحيل(1/7)
رحلنا عن الدنيا وأهلها، ودخلنا مسكنًا جديدًا لن يدوم هو أيضًا.. ولكنه وحش صامد لا يفر ولا يغتر، ذلك الدار الذي لا بقدر غرفة من غرفنا المعتادة، بل كأنه يعلم طولنا وعرضنا لا يزيد ذلك ولا ينقص، فهو أول منازل يوم القيامة، فإما روضة من رياض الجنة، وإما حفرة من حفر النار.
فيا أهل القرآن.. أعدوا له ما استطعتم من التوبة والاستغفار والأعمال الطيبات، فوربي لا ينفعكم الهوى والتكبر على الله.. فترك الصلاة تكبر، وترك الدعاء تكبر، وترك الهدى تكبر وطغيان.
قال - صلى الله عليه وسلم - : «يتبع الميت ثلاثة: أهله وماله وعمله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله».
فما هو عملك المكنون؟
فارقت موضع مرقدي ... يومًا ففارقني السكون
القبر أول ليلة ... بالله قل لي ما يكون؟
ذاك القبر كم كان في أحشائه من القصص الموجعات، وكم به من بكاء وصرخات «لم يأت على القبر يوم إلا تكلم فيه فيقول: أنا بيت الغربة، أنا بيت الوحدة، أنا بيت التراب، أنا بيت الدود، فإذا دفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبًا وأهلا، أما إن كنت لأحب من يمشي على ظهري إلي، فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسَتَرى صنيعي بك، قال: فيتسع له مد بصره ويفتح له باب إلى الجنة. قال: وإذا دفن العبد الفاجر أو الكافر قال له القبر: لا مرحبًا ولا أهلا، أما إن كنت لأبغض من يمشي على ظهري إلي فإذا وليتك اليوم وصرت إلي فسترى صنيعي بك قال: فيلتئم عليه حتى يلتقي عليه وتختلف أضلاعه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعه. فأدخل بعضها في جوف بعض قال: ويقيض الله له سبعين تنينا لو أن واحدًا منها نفخ في الأرض ما أنبتت شيئًا ما بقيت الدنيا، فينهشنه ويخدشنه حتى يفضي به إلى الحساب». كما في سنن الترمذي.(1/8)
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة» فدعا بجريدة رطبة فشقها نصفين وغرسها فيهما، وقال: «لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا».
نعوذ بالله.. هذا لأن أحدهما كان لا يتطهر من بوله والآخر كان يمشي بالنميمة، فكيف بتارك الصلاة اليوم؟ وكيف بالغيبة والبهتان والغش والظلم وعقوق الوالدين والكثير الكثير؟ فوالله إننا نسمع ونرى الأهوال ما تقشعر له الجلود وتشمئز منه القلوب.
أما إذا تحدثنا عن نعيم القبر وعذابه وما يحل بالمؤمن من ضيافة القبر له وما يعمل القبر للكافر من الاستقبال فقد سبق الحديث الذي ذكرناه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن موت المؤمن وموت الكافر، وكيف تكون أحوالهما، أما المؤمن قال: «فتعاد روحه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله. فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله. فيقولان: ما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت. فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي، فأفرشوه من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة؟. قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له في قبره مد بصره. قال: ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول له: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجئ بالخير. فيقول: أنا عملك الصالح. فيقول: يا رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي». اللهم إنا نسألك نعيم القبر ونعوذ بك من عذابه.(1/9)
وأما الكافر: «فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي مناد من السماء: أن كذب فافرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسؤوك، هذا يومك الذي كنت توعد. فيقول: من أنت؟ فوجهك الوجه الذي يجئ بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة» رواه أحمد وأبو داود.
سبحان الله!! ألم تكن تلك الكلمات الثلاث: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟. هي التي تعلمناها منذ الطفولة، وأخذنا عليها الشهادات وملكنا بها المناصب، تلك الثلاث تكون صعبة عسيرة في القبر، إلا من عمل بها في الدنيا وثبته الله عليها فهو يثبت يوم القبر. ذلك لقوله تعالى: { يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ } [إبراهيم].
يا من بدنياه اشتغل ... وغره طول الأمل
الموت يأتي فجأة ... والقبر صندوق العمل
سكنت قبرك وحيدًا، لم يقرع بابك من ملذات الدنيا شيء، ولم يفكر بك أحد، حملوك وأودعوك، بكوا عليك لحظات ونسوك، أما أنت لم يأت معك من الدنيا سوى عملك إن طيبًا فطيب، وإن خبيثًا فخبيث.(1/10)
يروي أحد المشايخ: أن أحد الذين كانوا يدرسون في أحد المعاهد العلمية في بلادنا حدثني يقول: أقسم بالله ثلاثًا وليس لي حاجة أن أكذب قال: كنت مريضًا في أحد المستشفيات، فأتي بمريض بجانبي في الغرفة التي كنت مطروحًا فيها على السرير، وقد اصفر لونه بشدة، فإذا به في اليوم الثاني ينقلب إلى اللون الحنطي، وفي اليوم الثالث يكون لونه كأمثالنا. قلنا: لعل هذا سوف يتحسن بإذن الله، يقول: وفي اليوم الرابع بدأ اللون يتغير إلى الأسود. يقول: وفي اليوم الخامس – وهو يقسم بالله – أن الرجل أصبح أسود أسود يقول: فارتعدنا وخفنا من هذا الرجل يقول: وكنت أعرفه؛ لأنه يعيش معنا وكان يتخلف عن الصلوات، ويسافر خارج البلاد، ويتعاطى المخدرات، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقول: فاقتربت منه وبدأت أقرأ عليه القرآن يقول: وتخرج منه روائح كريهة، والله إنها روائح منتنة يقول: فلما بدأت أقرأ عليه القرآن شهق شهقة عظيمة، فخفت وابتعدت. وقال لي مريض آخر: واصل القراءة. فقلت: والله لن أقرأ عليه. فقال: اذهب إلى فلان في الغرفة المجاورة وناده؛ فليقرأ عليه. وجاء هذا الشاب فبدأ يقرأ عليه فشهق شهقة عظيمة، فما زال الشاب يواصل القراءة يقول: فشهق شهقة ثالثة عظيمة، فقال للشاب: اذهب وناد الدكتور. يقول: فلما ذهبت إلى الطبيب وجاء الطيب ووضع السماعة على صدره قال: لقد مات. نعوذ بالله من سوء الخاتمة وقبيح الأعمال.
وأنت يا مسكينة، ويا أرجوحة كل لاعب، ويا دمية كل كاذب، أين المساحيق والأسواق وأين المرايا والزينات؟ كم أسرفت لها من ساعات؟ أين العباءة المزركشة؟ خرجت من الدنيا بكفن أبيض خمسة أثواب ملفوفة بها. أين المجلات والموديلات؟ أين الليالي والسهرات؟ أين النمص؟ يا مخدوعات.
ذهبتن في أحشاء القبور وتركتن الدور والقصور، ما تحملن من أساور ولا تلبسن الحرائر، خرجتن محمولات على آلة حدباء، وسكنتن ظلمة سوداء.(1/11)
ذكرت لي إحدى الداعيات – أثابها الله – قصة فتاة في عمر الزهور، ذهبت إلى الكوافير وطلبت منها أن تنمص حاجبيها لها، وكانت تلك العاملة تقول لها: لا تتحركي حتى تعمل جيدًا وتزينها كما تزعم، أما الفتاة فكانت تتحرك، فتقول لها: لا تتحركي، فكانت تتحرك وما زالت على ذلك وفي النهاية إذا بها رحلت وتركت الدنيا التي كانت تتنمص من أجلها، تلك الحركات ما هي إلا سكرات ذلك الاحتضار، رحلت عن الدنيا وهي تفعل النمص الحرام، متجاهلة قول النبي - صلى الله عليه وسلم - «لعن الله النامصة والمتنمصة».
تخيلي نفسك – يا أخية – أنك تلك الفتاة، اجعلي نفسك مكانها، ما كنت فاعلة؟ نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
وذكرت لي إحدى الأخوات أن هناك من كانت تغسل الأموات فدعاها أهل فتاة إلى أن تغسل فقيدتهم، فدخلت المغسلة إلى ذلك المكان حتى تغسلها فأغلقوا الباب عليها وعلى الميتة، أما الميتة فحالها لا يسر كما يقال: لقد وجدت وجهًا قد قلب وأصبح لونه أسود، وكلما أرادت المغسلة أن تغسل عضوًا من أعضاء الميتة وجدت عظامها تتفتت، فغسلتها بسرعة وكفنتها بسرعة، فجعلت تطرق الباب وتصرخ بأعلى صوتها، ففتحوا لها الباب فهربت بسرعة دون نقاش، مكثت المغسلة ثلاثة أيام وهي تفكر في ذلك الموقف، ولما سألت الشيخ «...» فأخبرها بأن تسأل أهل الميتة بسؤالين هما: لماذا أغلقوا عليها الباب؟ ولماذا حال الفتاة هكذا؟
أما إجابتهم على السؤال الأول قالوا لها: بأنك أنت سابع مغسلة والأخريات يهربن من منظرها. وأما إجابتهم على السؤال الثاني قالوا: بأنها كانت لا تصلي، وأنها كانت تتكشف في حجابها.
نسأل الله العافية في الدنيا والآخرة؛ هذا لأجل الصلاة ولأنها لم تتستر الحجاب المفروض.
* * * *
نداء عاجل..(1/12)
يا من أنزلت الحجاب من الرأس على الكتف، وجعلت الغطاء على الأنف، تقولين لبست عباءة!! فوالله ما هذه عباءة، وما ذلك جلباب، ما هي إلا ثوب قد لبسته كأنه معطف على ما قد لبست، أما تخجلين من الله الذي يراك؟ أما تستحين من الكرام البررة عن اليمين وعن الشمال؟ ألهذا الحد سولت لك نفسك وزين لك الشيطان سوء عملك؟ يا مسكينة حالك، يا أسيرة آلامك وأحلامك، استيقظي من نومك العميق واعلمي أننا في رحلة لا نعلم متى تنتهي.. أتضمنين أن عمرك أن تعيشي طويلا؟.. أتضمنين دقيقة واحدة؟.
يا ولاة الأمور.. أين صيانة الأمانات؟ فتيات نراهن يتبخترن في الطرقات أين الغيرة على الأعراض؟ وبربي كم رأينا في الأسواق من نساء كاسيات عاريات يلبسن العباءة ولا أقول عباءة بل هي معطف مزيف وتتلثم، أفلا تخشى أن يكون لجامًا من نار.. -والعياذ بالله- وتضرب برجليها، وتبطش بيديها متبخترة في مشيتها، العينان مدعوجتان، والحاجبان منموصان، والقدمان فاتنتان فكأنها ذابهة إلى مجلس نساء لا إلى السوق!! وللأسف من معها؟؟ زوجها حاملا على كتفه طفلها!!.
أين الغيرة؟ طارت محلقة مكسورة الجناحين؟! واأسفًا!!. ماذا أقول والله سبحانه يقول: { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ } [يس: 30] فماذا عسانا نقول سوى حسبنا الله ونعم الوكيل. يا فتاة الإسلام: أنا أخيتك وربي كم سالت من أجلك دموعي لا يهوديًا ولا نصرانيًا ذرفت من عينيه دمعة واحدة من أجلك بل هو يعض الأنامل من غيظه فاجعليه يموت غيظًا.
يا أخية.. الدنيا دار ابتلاء وفناء ملذاتها سحابة تظل وتذهب، أناديك بأجل الأسماء.. يا أخت فاطمة ويا حفيدة عائشة، يا ابنة حواء، يا أمًا حنونة، يا زوجة صالحة.. أذكرك بقول الله { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [الرحمن: 26]، وقوله: { كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ } [الأنبياء: 35].. احذري يا أخية فهناك خطاف يغلب ألف ألف خطاف إنه هادم اللذات مفرق الجماعات آخذ البنين والبنات.(1/13)
أيها المسلمون... أين الذين من قبلكم أين مساكنهم وجنانهم؟ أين أحلامهم وآمالهم ذهبوا وتركوا كل شيء { كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ } [الدخان] والله.. إخوتي لو كانت الدنيا قد دامت لغيركم ما وصلت لكم.
ولا تنس ذكر الموت فالموت غائب
ولابد يومًا للفتى من لقائه
فخذ أهبة للموت من عمل التقى
لتغنم وقت العمر قبل انقضائه
وإياك والآمال فالعمر ينقضي
وأسبابها محدودة من ورائه
وحافظ على دين الهدى فلعله
يكون ختام العمر عند انتهائه
وبعد أن نسكن القبور تأتي أدهى الأمور وأمرها على الإطلاق { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ } [ق: 20].
مثل لنفسك أيها المغرور
يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت
حتى على رءوس العباد تسير
وإذا الوحوش لدى القيامة أحضرت
فتقول للأفلاك أين نسير
فيقال سيروا تشهدون فضائحًا
وعجائبًا قد أحضرت وأمور
وإذا الجحيم تسعرت نيرانها
فلها على أهل الذنوب زفير
وإذا الجنان تزخرفت وتزينت
لفتى على طول البلاء صبور
وإذا الجنين بأمه متعلق
يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف لهوله
كيف المصر على الذنوب دهور(1/14)
وعيد لا يؤخر، إذا جاء لا يرد، ينفخ في ذاك القرن ثلاثًا، أولاها نفخة الفزع بعد أن يعرق الناس في بحر من الشهوات والملذات والأمور المنكرات، فيجئ بهم زمان ينكح فيه الرجل أمه وأخته وابنته، يزنون في الطرقات، لا يتناهون عن منكر فعلوه، وتتقلب بهم الأحوال إلى أن يعبدوا الأصنام، فيغضب الله الغضب الشديد، فيأمر إسرافيل - عليه السلام - بأن ينفخ في الصور النفخة الأولى (نفخة الفزع) فتتبدل الأحوال الكونية، ينزل بهم غضب الله وهم في غمرتهم ساهون في أسواقهم وملذاتهم نائمون حينها يود كل امرئ منهم العودة إلى الله، ولكنها لحظة لا ينفع فيها دعاء ولا بكاء ولا توبة، بل الخسران المبين، ثم يأمر إسرافيل بنفخة الصعق فيموت كل الخلائق أهل السماء وأهل الأرض، فلا يبقى سوى المولى جل وعلا { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ } [الرحمن: 27]، { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللهُ } [الزمر: 68].
كلنا نفنى، أيامنا تطوي ثيابها راحلةً لن تعود، ضحكاتنا، لذاتنا، سنون نتقلب بين طيات الدنيا نلعب ونلهو، نغتاب باللسان وبه نغزو، خرجنا من الدنيا بماذا؟ ماذا فعلنا؟ آهٍ، يا وليتنا.. أين بطشنا؟ أين كبرياؤنا؟ أين شهواتنا؟ فلتأت اليوم وتنقذنا.. ولكنها لحظة لا ينفع فيها صياح ولا نياح.(1/15)
وبعد نفخة الصعق تمطر الأرض مطرًا أبيض غليظًا كمني الرجال، أربعين صباحًا فينبتون في قبورهم كما تنبت الشجرة والعشب، فإذا تكاملت الأجنة وأقربت الأم وكان وقت الولادة أمر الله سبحانه إسرافيل - عليه السلام - فنفخ في الصور نفخة البعث { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ } [ق: 42] فتتشقق الأرض عنهم { يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } [ق: 44]، وقال سبحانه مثبتًا أن هنالك بعثًا { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ } [الزمر: 68].
يقول المؤمن: «الحمد الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور» فتجئ الملائكة إلى المؤن فتبشره وتطمئنه كما بشرته عند الموت وفي القبر وهي تتولاه عند الفزع الأكبر { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ } [البقرة: 277] أي هم آمنون يوم الفزع الأكبر غير محزونين على ما فاتهم في الدنيا { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } [فصلت].(1/16)
ويقول الكافر: { يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ } [يس: 52] فيساقون إلى المحشر حفاة عراة غرلا، ومع كل نفس سائق يسوقها وشهيد يشهد عليها: { وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ } [ق: 21] وهم بين مسرور ومثبور،، وضاحك وباك { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أَوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } [عبس]، الشمس فوق رءوسهم قدر ميل، والناس بحسب ذنوبهم من العرق.(1/17)
عن المقداد - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «تدنى الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم قدر ميل» قال سليم بن عامر -الراوي عن المقداد-: فوالله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض؟ أم الميل الذي تكتحل به العين. قال: «فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق: فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حقويه، ومنهم من يلجمه إلجامًا» قال: وأشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده إلى فيه. رواه مسلم، فيظل الله في ظله – ظل ظليل، ظل عرشه – يظل من يشاء، فإذا هم جميع لدى المحشر محضرون { إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ } [الانفطار] تشققت السماء وانتثرت الكواكب ونزلت ملائكة السماء فأحاطت بهم ونزلت ملائكة السماء الثانية فأحاطت بملائكة السماء الدنيا، ثم كل سماء كذلك { وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى } [الفجر: 22، 23]، العرض: { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ } [الحاقة: 18] تنشر الصحف وكل يأخذ كتابه فآخذ بيمينه وذاك المؤمن أما الكافر فيريد أن يأخذها باليمنى فتقطع فيأخذها بالشمال { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ } [الحاقة] { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } [الحاقة: 25-29] ذلكما هما ميسور ومعسور، مسرور ومثبور، سعيد وشقي، فيأتي موقف شديد الخطورة.. الحساب..(1/18)
ذاك المشهد الفظيع { وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } [الزمر: 70] يا ابن آدم تخيل نفسك وأنت تقرأ كتابك كم فيه من السيئات وقليل حسنات، يا ابن آدم من أي اليدين تحمل كتابك؟ فمن أوتي كتابه باليمنى فهو من المفلحين وحسابه سهل يسير، ومن أوتي كتابه بشماله من وراء ظهره فحسابه عسير، ومن نوقش الحساب هلك لما روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ليس أحد يحاسب إلا هلك» قالت: قلت: يا رسول الله جعلني الله فداك أليس يقول الله عز وجل: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } [الانشقاق] قال: «ذلك العرض يعرضون ومن نوقش الحساب هلك»، فالله يعفو عن كثير ويغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء.
يا عبد الله اعلم – وفقك الله – أن الله سبحانه وتعالى ستير يستر ذنب المؤمن ويغفر له ويعفو عن كثير. عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سئل: كيف سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى؟ قال: سمعته يقول: «يدنى المؤمن يوم القيامة من ربه عز وجل حتى يضع عليه كنفه (عفوه وستره) فيقرره بذنوبه؛ فيقول: هل تعرف؟ فيقول: أي ربي أعرف. قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وإني أغفرها لك اليوم، فيعطي صحيفة حسناته، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رءوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله» فأي الفريقين تريد؟!(1/19)
وقد أحصى تبارك وتعالى على خلقه جميع أعمالهم خيرًا وشرًا كما قال سبحانه: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [الزلزلة: 8]، { وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } [الكهف: 49].
فيا أخي ويا أخيتي.. أتودون أن تكونوا من أولئك المجرمين، كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولا ينفع ذلك اليوم أن تقولوا: فلان أضلني أو الشيطان عذرًا متناولا، فالشيطان ذاك الغادر يزين لك السوء ويأمرك به فإذا وقعت فيه ورآك هلكت فما تظنه يقول؟ { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } [الحشر: 16]، يتبرأ وكأنه قال لك كلمة واحدة فلو قلت لله أنه أضلك فما ترى ذلك الحقير أن يقول؟ { قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ * قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } [ق]، قال الله تعالى: { الأَخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف]، وقال تعالى: { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [المجادلة]، فسيرى كل عامل عمله ولا مجال للإنكار؛ لأن هنالك شهداء، فالله سبحانه جعل على جانبيك ملكين عن اليمين والشمال { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ق: 18].(1/20)
فما يكتب عنك شاهد { وَمَا أَنَا بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ } [ق: 29] فلن يظلمك ربك أبدًا وكذلك الكتاب المعروض أمامك لحظة العرض شاهد { الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [يس: 65] فتخيل يا عبد الله اليد التي كنت تراها ملكك تحركها كيف شئت وتفعل ما شئت اليوم هي تملكك فمالك عليها من سلطان آنذاك، وفمك الذي كنت به تغتاب وتغزو وتكذب، ولسانك الذي كنت تسب به وتشتم وتدافع به عن نفسك مختوم مالك عليه من حيلة. وتلك القدمان كم كنت تراها مهانة ذليلة صغيرة لديك وحقيرة تطأ بها ما تريد وتضرب بها كل شبر فتقودك حيث يرتاح بالك وتطمئن نفسك، حرامًا كان أم حلالا. ذلك اليوم يرفعها الله عليك وتذلك هي وتقول ما تقول تشهد على ما فعلته بها في أي طريق سرت وماذا فعلت؟ ويا عبد الله { إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا } [الزلزلة]، فالأرض تشهد، فيا من تعمل في الأرض اليوم وتفسد عليها وتفعل ما تريد، الأرض تملكك مرتين: مرة وأنت في جوفها في القبر، ومرة حين تشهد على ما تفعل، فاجعل شهاداتها لك ولا تجعلها عليك وأنقذ نفسك قبل أن يهوي بك الشهداء يومئذ يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
{ فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبسٍ].(1/21)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [عبس] أي يراهم ويفر منهم، قال عكرمة: «يلقى الرجل زوجته فيقول لها: يا هذه، أي بعل كنت لك؟ فتقول: نعم البعل كنت، وتثني بخير ما استطاعت. فيقول لها: فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنجو مما ترين. فتقول له: ما أيسر ما طلبت ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئًا، أتخوف مثل الذي تخاف» قال: «وإن الرجل ليلقى ابنه فيتعلق به فيقول: يا بني، أي والد كنت لك؟ فيثني بخير، فيقول له: يا بني، إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى. فيقول ولده: يا أبت ما أيسر ما طلبت، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف، فلا أستطيع أن أعطيك شيئًا. يقول الله تعالى: { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } أي هو في شغل شاغل عن غيره عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «تحشرون حفاة عراة مشاة غرلا» قال: فقالت زوجته: يا رسول الله: ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض؟ قال: « { لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } ». انتهى ما ذكره ابن كثير في تفسيره.
الحوض: في غاية العظم والاتساع، عرضه وطوله سواء كل زاوية من زواياه مسيرة شهر ويمد من نهر الكوثر يشخب فيه ميزابان من الجنة، ماؤه أشد بياضًا من اللبن وأبرد من الثلج وأحلى من العسل وأطيب ريحًا من المسك وكيزانه عدد نجوم السماء من شرب منه لم يظمأ أبدًا» وهو لمن نجا وآمن.
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن قدر حوضي كما بين أيلة وصنعاء من اليمن وإن فيه من الأباريق كعدد نجوم السماء» رواه البخاري ومسلم.(1/22)
وعنه - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليردن علي ناس من أصحابي الحوض حتى إذا عرفتهم اختلجوا دوني فأقول: أصحابي، فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك». متفق عليه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي» أخرجه البخاري ومسلم.
الميزان: هنالك إظهار عدل الجبار - جل وعلا - ولا يظلم ربك أحدًا فيحضر الله سبحانه أعمال العباد وإن كانت مثقال حبة من خردل أتى بها سبحانه وكفى به حاسبًا ويقدرها جل شأنه ليكون الجزاء من جنس العمل.
{ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ } [الأعراف: 9].
{ وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ } [الأنبياء: 47].
عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يجتني سواكًا من الآراك وكان دقيق الساقين فجعلت الريح تكفؤه فضحك القوم منه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «مم تضحكون؟» قالوا: يا نبي الله، من دقة ساقيه. فقال: «والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أحد» رواه أحمد في المسند.
هما أثقل في الميزان لأنه لم يسر بهما في طريق حرام، أو في طريق يغضب الرحمن، فهو يسير بهما في الطاعة وطلب العلم ومجالسة الصالحين، فأين نحن منه؟ { فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } [القارعة: 6-10].
فيا أختي ويا أخيتي... عليكم بمثقلات الميزان.(1/23)
وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان» رواه مسلم.
وفي البخاري قوله - صلى الله عليه وسلم - : «كلمتان خفيفتان على اللسان، حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم».
{ وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا } [مريم].
وبعد الميزان نساق إلى الصراط. قال الشيخ عبد الله المشعلي: (الصراط: جسر على جهنم، دحض مزلة، ينتهي الناس إليه بعد مفارقتهم مكان الموقف فإذا وصلوا إلى هذا الموضع تفرق المنافقون عن المؤمنين وتخلف المنافقون وسبق المؤمنون، وعن أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يؤتى بالجسر فيوضع بين ظهري جهنم» قلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: «دحض مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب، وحسكة مفلطحة لها شوكة عقيفًا تكون بنجد يقال لها: السعدان، يمر المؤمن عليها كالطرف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، والركاب، فناج مسلم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنم، حتى يمر آخرهم يسحب سحبًا». متفق عليه. وقد أنكر الصراط والمرور عليه أهل البدعة والهوى من الخوارج ومن تابعهم من المعتزلة، وذلك أنهم تأولوا ورود النار بالمرور لا أنه الدخول فيها، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : «والذي نفسي بيده لا يلج النار رجل بايع تحت الشجرة» فقالت له حفصة: أليس الله يقول: { وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا } ؟ فقال: «ألم تسمعيه قال: { ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا } » رواه الترمذي (5/965)، وقد أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله نسأل الله النجاة والله أعلم. انتهى كلامه.(1/24)
«فمنهم من يمر كانقضاض الكوكب، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كشدِّ الرحل، ويرمل رملا فيمرون على قدر أعمالهم، ومنهم من يكون نوره على إبهام قدمه فيمر على الصراط تجر يد وتعلق يد، وتجر رجل وتعلق رجل وتصيب جوانبه النار، ونعوذ بالله أن نكون ممن يريد الله ألا يجعل لهم حظًا في الآخرة، نعوذ بالله أن نكون ممن قال الله فيهم: { وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ } [يس: 16، 17].
وبعد جواز الصراط، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار فاقتص منهم مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا خلص المؤمنون هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة فلأحدهم أهدى بمنزلة في الجنة من منزله الذي كان في الدنيا» رواه البخاري.
{ لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ } [الحشر: 20].
فيا سبحان الله!.. ويا لهول تلك اللحظة حينما يساق الذين آمنوا إلى الجنة ويساق الذين كفروا إلى النار ذلك اليوم يوم استلام الشهادات فناج رابح وساقط خاسر فليت أن من سقط يعيد الأيام أو حتى السنين إلى أن يظفر وينجح.. لا.. بل { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } لن نرجع إلى الدنيا ونعيد فيها المذاكرة والاجتهاد ونظفر ولن نرجع ونختبر، لا.. بل كل شيء انقضى ما وعد الرحمن، ولن يخلف الله الميعاد.(1/25)
{ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ * قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ } [الزمر].
يُساقون إلى النار جماعات فما تنفعهم شفاعة الشافعين، ولا صراخ ولا أنين، قد تبرأت منهم الشياطين يساقون إلى { نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [التحريم] يتلاعنون فيما بينهم وهم في العذاب مشتركون، أذلة لهم الخزي والهوان واللعن والخذلان، وفي النار هم خالدون، والعياذ بالله من النار وأهلها، فما شرابهم؟ { وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا } [الكهف]، { تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [الغاشية].
وأما طعامهم: فليس لهم طعام إلا من ضريع { لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ } [الغاشية] والضريع: شوك بأرض الحجاز يقال له: الشبرق.(1/26)
وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يلقي على أهل النار الجوع فيعدل ما هم فيه من العذاب فيستغيثون بالطعام فيؤتون بطعام ذا غصة فيذكرون أنهم كانوا يسيغون في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب فيؤتون بالحميم في كلاليب من ناره فإذا أدنيت من وجوههم قشرت وجوههم، فإذا دخلت بطونهم قطعت ما في بطونهم فيستغيثون عند ذلك فيقال لهم { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى } فيقولون: { فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ } [غافر]» رواه الترمذي والطبراني.
{ إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ } [الدخان].
ذكر الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تسير اللطيف المنان في خلاصة تفسير القرآن: «ما أشد شقاقهم وما أعظم عناهم، ينوع عليهم العذاب، تارة يعذبون بالسعير المحرق لظواهرهم وبواطنهم، كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب، وتارة بالزمهرير الذي قد بلغ من برده أن يهري اللحوم ويكسر العظام، وتارة يعذبون بالجوع الشديد والعطش المفزع، وإذا استغاثوا من ذلك أغيثوا بعذاب آخر، ولو من الشقاء ينسي ما سبقه، يغاثون بطعام ذي غصة من شجر الزقوم والضريع الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، قد بلغ نهاية الحرارة وشدة المرارة وقبح الرائحة، إذا وصل إلى بطونهم على فيها كغلي الحميم الذي يوقد عليه في النار، وإذا استغاثوا للشراب أغيثوا بماء كالمهل وهو الرصاص المذاب إذا قرب من وجوههم شواها فإذا شربوه من شدة العطش قطع أمعاءهم لا يفتر عنهم العذاب ساعة ولا يرجون فرجًا ولا مخرجًا قد نسيهم الله في العذاب كما نسوه، وانتقم منهم لما آسفوه». انتهى كلامه.(1/27)
{ وَسِيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [الزمر: 73].
أهل الجنة – جعلنا الله وإياكم منهم – في نعيم دائم، وسعادة خالدة، ورضًا من الله ورحمة، أهل الجنة يسكنون في دار من خير الديار، خير من دار الدنيا وخير من دار القبر وخير من دار النيران، والعياذ بالله منها، عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «يأكل أهل الجنة فيها ويشربون ولا يتغوطون ولا يمتخطون ولا يبولون، ولكن طعامهم ذلك جشاء كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس». رواه مسلم.
دار فيها من النعيم ما لا يخطر على قلب بشر، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، واقرأوا إن شئتم { فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } » متفق عليه.
{ هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ * جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الأَبْوَابُ * مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ * وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ } [ص: 49-52].
عن ثوبان أن يهوديًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟. قال: «زيادة كبد الحوت» قال: فما غذاؤهم على أثرها؟ قال: «يُنحر لهم ثور الجنة الذي يأكل من أطرافها» قال: فما شرابهم عليه؟ قال: «عين تسمى سلسبيلا» قال: صدقت. رواه مسلم، وله شاهد في البخاري.(1/28)
ولباسهم فيها حرير، ففي لباسهم ونعيمهم الكثير الكثير. قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا } [الكهف: 30، 31].
وقال تعالى: { مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ } [محمد: 15].
وقال تعالى: { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [الرحمن: 68-70].
وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن في الجنة لسوقًا يأتونها كل جمعة، فتهب عليهم ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسنًا وجمالا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسنًا وجمالا، فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالا، فيقولون: وأنتم والله لقد ازددتم بعدنا حسنًا وجمالا». رواه مسلم وأحمد والترمذي.(1/29)
وعن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك. فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك فيقولون: يا ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فقال: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا». رواه البخاري ومسلم.
وقد جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: { لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26] فسر أبو بكر الصديق وابن عباس وأبو موسى الأشعري وكثير من الصحابة أن الزيادة «النظر إلى وجه الله عز وجل» بلغنا الله وإياكم رؤيته.
وعن صهيب - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟ فيكشف الحجاب فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم» رواه مسلم.
اللهم نسألك باسمك الأعظم الذي إذا سئل به أعطيت، وإذا دعيت به أجبت يا أحد يا صمد يا من لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. نسأل اللهم أن ترزقنا لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، يا سميع يا عليم. آمين.
يا سلعة الرحمن لست رخيصة
بل أنت غالية على الكسلان
يا سلعة الرحمن ليس ينالها
في الألف إلا واحد لا اثنان
يا سلعة الرحمن ماذا كفؤها
إلا أولو التقوى مع الإيمان
يا سلعة الرحمن أين المشتري؟
فلقد عرضت بأيسر الأثمان
يا سلعة الرحمن هل من خاطب؟
فالمهر قبل الموت ذو إمكان
وعن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار فيقال: هذا مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة» متفق عليه.(1/30)
وقال الله تعالى: { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [السجدة].
فإذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار جيء بالموت في صورة كبش فيذبح بين الجنة والنار فقال: يا أهل الجنة خلود ولا موت فيزدادون فرحًا إلى فرحهم ويا أهل النار خلود ولا موت ويزدادون حسرة على حسراتهم.
{ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } [الحديد].
لقد آن يا نفس أن ترجعي
لربك حيث الرضا والسكون
فمتى يا أخي التوبة؟ ومتى يا أخيتي العودة؟ فالعمر محدود، والموت آت دون وعود، الأنفاس صغيرة والذنوب كثيرة فأحمد الله أخي وأخيتي أننا لا نزال نتقلب بين طيات دار الإمهال لكي نعود إلى الرحمن ونتوب ونستغفر ذا الجود والإحسان.
ويا أيها الغافل يا من تنام في ظل الهوان ها أنا أحمل بين أحرفي على متن سطوري بريق بشارة، أبشر فإن الله يقبل التوبة ويمحو السيئات { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ } [الزمر].(1/31)
والمراد من الآية أن الله يغفر جميع الذنوب مع التوبة ولا يقنط عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت معاصيه فإن باب التوبة والرحمة واسع { وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَحِيمًا } [النساء]، فاعلموا أن الله يغفر الذنوب ويقبل التوب ويعفو عن السيئات ويبدلها حسنات { إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتَابًا } [الفرقان: 70، 71].
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «الله أشد فرحة بتوبة عبده...» إلخ رواه مسلم، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها» رواه مسلم.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» رواه الترمذي.
فيا أمة محمد هذه همساتي إليكم، ونداءٌ عاجل لا يحتمل الكتمان، كلماتي على منابر النصح والإشفاق، العودة العودة من قبل: { أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } [الزمر]؛ حينها لن تعط ما تتمناه فيرد الله عليك { بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ } [الزمر].
فيا إخوتي في الله هذه عباراتي أجعلها بين أيديكم أمانة فلربما لقيت ملك الموت قبل لقياكم فحافظوا عليها إلى حين لقيا مولاكم عز وجل.(1/32)
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } [آل عمران].
{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ } [القصص].
وكن ممن قال الله فيهم: { وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا } [الأحزاب].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت» رواه البخاري.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا، وإن تقرب إلي ذراعًا تقربت إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة» رواه البخاري.
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «اغتنم خمسًا قبل خمس، حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك» صحيح الجامع الصغير (1088).
{ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [فصلت].(1/33)
اللهم تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واعف عنا إنك أنت العفو الكريم، وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة يا سميع يا عليم، اللهم توفنا على الإسلام وأنت راض عنا، اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه، ربنا لا تلبسهما علينا فنضل، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، واجعل خير أعمالنا خواتيهما، ربنا يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوب عبادك على دينك وطاعتك إلى حين لقائك، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وتوفنا مع ألبرار يا عزيز يا غفار، اللهم وضعنا بين يديك حاجتنا، فلا تردنا خائبين ولا عن رحمتك مطرودين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الصادق الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين.
كتبته الفقيرة إلى الله
أم معاذ
غفر الله لها ولوالديها ولجميع المسلمين
3 ربيع ثاني 1423هـ
* * * *
المراجع
1- القرآن الكريم.
2- السنة النبوية.
3- بهجة الناظرين: عبد الله آل جار الله.
4- شرح العقيدة الطحاوية: ابن أبي العز الحنفي.
5- خلاصة معتقد أهل السنة: عبد الله بن سليمان المشعلي.
* * * *(1/34)