بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الخامسة منذ بضع وثلاثين سنة صدر هذا الكتاب، وشق طريقه فى زحام الحياة، وظهرت منه سرا وعلنا طبعات شتى فى أقطار العالم الإسلامى.. ويجدر بى أن أذكر حقيقة تتصل بالطبعة الأولى منه، فقد أخبرنى الناشر أن المفتى الأكبر لفلسطين- سماحة الحاج محمد أمين الحسينى- أمر بشراء ألف نسخة وكلف "اللجنة العربية لإنقاذ فلسطين " بإهدائها إلى من ترى.. وذهبت إلى المفتى المجاهد لأشكره فقال لى: إنك كشفت المحور الذى يدور عليه الاستعمار العالمى، وعريته من ألبسة الزور التى يستخفى فيها، وفضحت وسائله وسماسرته وأهدافه.. وقد سبقك جمال الدين الأفغانى إلى تقرير هذه الحقيقة عندما قال: إن الغرب لايزال ينظر إلى الشرق الإسلامى بعين "بطرس الناسك "، وسريرته السوداء!! وهى كلمة حق تحتاج إلى الشرح وقد قمت به.. ولم يطل فى القاهرة بقاء القائد الإسلامى لثورة فلسطين! سرعان ما جرحت كبرياؤه وأحرجت مكانته- بدسائس سوف نكشفها يوما - فذهب إلى لبنان ليموت مستوحشا مهزوما، ولتتحول قضية فلسطين إلى ثورة علمانية مبتوتة الصلة بالإسلام.. وفي تلك الأيام ثارت قبرص على إنجلترا لتتحرر من سلطانها، وتتولى قيادة ثورتها "الأسقف مكاريوس " ولا عجب فهو الوجه الدينى للتمرد اليونانى، ولم ير العرب بأسا فى الاعتراف به والتنويه بزعامته، بل لقد جاء القاهرة وزار الأزهر!! قلت فى نفسى: لماذا رفض الوجه الإسلامى للثورة الفلسطينية، وقبل الوجه الدينى للثورة القبرصية؟؟ إن للعلمانيين العرب منطقا عجبا.. ومضت الأيام، وانقسمت قبرص، بعد ما شعر المسلمون فيها بالغبن، وظل الفلسطينيون إلى يوم الناس هذا يتصببون عرقا فى كفاح يائس! نرى هل أفادتهم العلمانية شيئا؟
ص _004(1/1)
إن إسرائيل تنمو، وحلفاءها يزدادون ضراوة! ولن يرزق عرب فلسطين سهما من نصر إلا إذا عادوا إلى دينهم ظاهرا وباطنا، إن النصر يبعد عن المسلمين قدر ما يبعدون عن دينهم! وليس المهم أن تعود عمامة المفتى! إنما المهم أن يعود فؤاده وبصيرته، المهم أن نستند إلى الله ونحن نقاتل عدوه وعدونا.. بعد عشرات السنين من صدور هذا الكتاب أرى أن اختلاف الليل والنهار يؤيد التجارب التى ذكرها، والحوادث التى ساقها، والمبادئ التى أكدها. إننا لا نطغى وإنما نحارب الطغيان. إننا نحتفظ بحقنا فى الحياة، ونكافح من يريد حرماننا منه! أهذا كثير؟ هذا هو كفاح دين..!! دين يريد البقاء ويريد له خصومه الفناء (إنه يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون * وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين * قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون) * * * محمد الغزالي ص _005(1/2)
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الرابعة أليس عجيبا أن يظل الغرب ـ مع تفوقه العلمى الظاهر ـ صريع أحقاد قديمة وأفكار بالية، وأحكام يرسلها على الناس إرسالا لا يضبطها عقل، ولا يزنها ضمير؟؟ إنه مازال يخاصمنا دون وعى. إنه ما فكرقط فى تصحيح علاقتنا به على أسس كريمة نقية. إنه يتابع- فى حماقة- سلوك الأسلاف فى العصور الوسطى، فما يعمل إلا طالبا لثأر مزعوم، أو متحركا بترة يتخيلها!! ومن ثم تبرز فى سياسته ضغائن صليبية مفتعلة لا تحتاج رؤيتها إلى بصر حديد، فهى بادية كالحة تقطر سُّمًا على الإسلام وأهله، وعلى العروبة وجنسها..!! إن هذه السياسة تتخذ من الإنسان النبيل "عيسى بن مريم " تكأة تعتمد عليها، وتتذرع بها إلى فعل الكثير. وهى بهذه الشارة المجلوبة تحاول- مستميتة- محق التراث الدينى لرجل من إخوة عيسى. ومن أجل شركائه فى شرح الحق، وهداية الحلق، ومكافحة الباطل، وإفاضة نعمة الله على جميع عباده، ألا وهو "محمد بن عبد الله " صلى الله عليه وسلم النبى العربى الكبير، وصاحب الرسالة التى أنارت العالم بعد ظلمة، وآنسته بعد وحشة، وبذرت فى أكنافه أصول العدالة والمرحمة، واحتفظت فى كتابها بمعالم الوحى الإلهى الذى آخى بين النبيين، وسوى بين الأمم، ونوه بقيمة الفطرة، ومكانة العقل، وعظمة الكون، واستخلاف الله للإنسانية فيه. لقد طلع الاستعمار على العالم بنية مغشوشة ووجه مشئوم، ورمانا- نحن المسلمين- بأوزاره الثقال. وها قد مرت سنون طوال والجهود دائبة لمحو عاره وغسل آثاره. وقد وصلنا اليوم لمرحلة عظيمة نحو الخلاص منه. ص _006(1/3)
وفى أقطار شتى من الشرق الأوسط والأدنى، نسمع أصداء متجاوبة تتحدث عن العروبة ويقظتها وآمالها وحقوقها، كما نرى المد الاستعمارى ينحسر عن بقاع شتى ظل بها أمدا. إنها حركة ناجحة، وإن زحف الأحرار ليأخذ طريقه إلى الأمام. وإعزاز العروبة من شعائر الإسلام. روى الترمذى عن سلمان الفارسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "يا سليمان لا تبغضني فتفارق دينك قلت يا رسول الله كيف أبغضك وبك هدانا الله ؟ قال : تبغض العرب فتبغضني " وروى الترمذى عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من غش العرب لم يدخل في شفاعتي ولم تنله مودتي ". فما من مسلم إلا وله من دينه دوافع تجعله- ولو كان هنديا أو فارسيا أو تركيا- يحب العروبة ويحمى بيضتها ويصون حماها. والعربى المسيحى، لن يكره جنسه مادام مستقيما مع طبيعته! بل هو لم يكره محمدا! صلى الله عليه وسلم إو يضيق بأتباعه. إنه يؤمن بعبقريته إن لم يؤمن برسالته. وهو يتغنى بأمجاد قومه ودعائم حضارتهم إن لم يشركهم فى صلاة، أو يصدقهم فى اعتقاد..! وهنا يتدخل الاستعمار، أو من هنا حاول بث مكايده، وتأمين مآربه، وإشباع ضغائنه..!! إنه من أمد بعيد يرتب الأمور على النحو الذى يشتهى، ويحفر المسايل كى تجرى الأفكار والمشاعر إلى الغايات التى حدها وداخل الشطآن التى أعدها!! وما يبغى؟ يبغى القضاء على الإسلام! وفى سبيل القضاء عليه يجب أن تموت العروبة. فإذا قدرت له أو لها حياة، فيجب أن يتدخل ليجعل الدين عنوانآ بلا موضوع وليجعل العروبة جسماً بلا روح. * * * والحق أن ظهور القومية العربية- مع تحفظنا على هذه النزعة- وانتصارها فى أكثر ص _007(1/4)
من ميدان، كان مباغتة متعبة للاستعمار، وعنصرا مربكا لخططه. فهى فى ناحية الشكل عنوان لاينبغى أن يخيف. لكنها من ناحية الموضوع قد تقوم على موادة الإسلام ومواصلة أهله. وهذا ما يغتاظ منه، وينتصب لمخاصمته، إنه يكره العروبة لأنه يكره الإسلام. وهو لم يتوان فى حربها أو يدخر وسعا فى تقليب الأمور لها. ومن الكذب على الله وعلى الناس، الزعم بأن الاستعمار لم يكن مدفوعا فى هذه العداوة بأسباب دينية يخفيها حينا ويبديها حينا آخر، وفق الظروف التى تعرض له! وأنا رجل عربى الجنس أدين بالإسلام. وهناك نصارى عرب لا يوافقوننى فى معتقدى. وأعرف أن القومية العربية تشملنى وتشملهم، وأن دائرتها تجمعنى وإياهم فى نطاق واحد. وماذا فى ذلك؟ وأى ضير على أو عليهم؟ ليبقوا على دينهم ولأبق على دينى!! لكن الاستعمار يرفض هذا ويغتاظ له كما قلنا! إنه يريد القضاء على الإسلام، وإيصاد الأبواب أمام معتنقيه. وهو لو أبقى العروبة العامة، وبقى معها إسلام عربى ومسيحية عربية، فإن أمنيته الآثمة فى الفتك بهذا الدين لم تتحقق. فلابد إذن من القضاء على هذه العروبة، حتى لو كلف العرب المسيحيين أن يتخلوا عن جنسيتهم ويبرأوا من دمهم، ويفصموا الأواصر بينهم وبين ماضيهم وحاضرهم! وهم- فى نظره- فاعلون. وقد أوعز الاستعمار إلى زبانيته كى يدفعوا بالأوضاع العلمية والاجتماعية والسياسية إلى هذا المصير، وأدار مؤامراته فى وادى النيل، وفى أقطار المغرب، وفى ربوع الشام لبلوغ هذا الهدف الخسيس. ووقع فى أحابيله جم غفير من المسلمين والنصارى. ص _008(1/5)
بيد أن الأقدار الطيبة لا تزال معنا (ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون). ولست أحب أن أخدع أحدا، ولا الخداع من شيمى. إنى أحب العروبة وأعمل على إنجاح قضاياها وإنصاف أهلها وتقدير رجالها لأننى مسلم. واستمساكى بدينى لا يعنى أبدا أن أحرم مواطنى العربى- أيا كان دينه- حقوق الوفاء والبر والمودة الواجبة له. وأريد منه أن يعاملنى بهذه القاعدة لا يعدوها ولا يزيد عليها. أما أن يقال: دع دينك فقد أصبح الكل عربا. فهذا هو اللغو السخيف. أو هذا مايود الاستعمار أن تنتهى الأمور إليه. حتى لا يكون إسلام ولا قرآن! وقد ألفت هذا الكتاب لأنفى الجو العربى من هذه النزعات. ولأقطع الطريق على ما تجيش به نفوس المستعمرين من وساوس. ولأنصف دينا تلح الليالى على النيل من قداسته. ولألقى أضواء على الأمشاج الهائلة التى تطفح بها دنيانا بعد ما بلونا فنونا لا تحصى من الغزو الثقافى الجلى منه والخفى. بل بعد ما أفلح هذا الغزو فى خلق أشباح متحركة تعمل لحسابه، وهى تدرى أو لا تدرى! قلت: إن ظهور القومية العربية، وتسلمها زمام الأمر فى مصر وسوريا، وتردد صداها فى كل فج كان مفاجئة بعيدة الأثر فى السياسة العالمية من ناحية، وفى الأوضاع المحلية لدينا من ناحية أخرى. ذلك أنه مسح ـ بين عشية وضحاها ـ كل ما أثاره الاستعمار من نعرات إقليمية ضيقة. وأنه أخرس المتهجمين على اللغة العربية وآدابها، ورد إليها الحياة فى عالم التجارة والمال، وفى أنحاء المجتمع والدولة. ص _009(1/6)
وأنه أنعش مقوماتنا الخاصة، وتاريخنا وكياننا المادى الأدبى، واستعاد ماسرقه الاستعمار من هذه الأمجاد. وشىء آخر أقوله: إن هذه القومية العربية ستحرر الكنيسة الشرقية من تأثرات التوجيه الغربى المشوب. وتمكن المسلمين ـ كذلك ـ أن يعملوا بدينهم، وأن يحيوا وفق نظمه، وأن يعيدوا إليه المكانة التى اجتهد الاستعمار فى إسقاطها، أو التى خلق أجيالا لا تعترف بها. إنما تنطلق العروبة إلى غايتها الرفيعة برجالها الأصلاء، ورجالها الفاقهين لحقيقتها المتجاوبين مع طبيعتها. اللابسين إشاراتها عن صدق واقتناع. ونحن قد يتملكنا الضحك الساخر حين نجد فى موكب العروبة نفرآ من الناس يزعقون وينعقون دون وعى أو دون إخلاص! لقد بوغتوا باسم القومية العربية، فإذا هم يمثلون فى نصرتها الدور الذى مثلوه فى نصرة غيرها أيام العهود السابقة. إن هناك صحافيين ـ لا تنقصهم القحة ـ حيوا فاروق أجمل تحية، ثم حيوا من بعده جمال عبد الناصر. ومنهم من هزأ بالعروبة وجامعتها، دعا إلى المصرية الخالصة. وهو- الأن- بادى الحماس فى تأييد القومية وتحية أبطالها. وقد يكون فى المجال متسع للمنافقين والمخلصين على سواء مادام العمل صحيحا. ونيات الناس إلى الله بعدئذ. فهو سبحانه الذى يجزيهم بما فى قلوبهم. هذا حق، وليس لنا أن نتدخل فى مكنونات السرائر. لكن الذى نخشاه، ونحذر منه، ونتوجس من عقباه على مستقبلنا، ذلكم الصنف من الناس الذى لا يعرف من العروبة شيئا قط إلا طنينا يزعج آذانه أو يحرك لسانه. أما هو، فإنسان خلقه الاستعمار القديم خلقا. ملأ أقطار نفسه وحسه، وشحنه بقوى معينة فهو يدور بها وحدها كما تدور لعبة الطفل بعد ما يملأ آلاتها، ثم تسكن بعد فراغها. كيف يكون عربيا هذا المرء الذى انسلخ من طبيعته وماضيه وقومه الأولين ولغته العريقة فهو لا يبدى رأيا فى شئ إلا كما علمه الأجانب؟! ص _010(1/7)
ولا يردد كلمة فى فمه إلا والإنجليزية قبلها أو بعدها. ولا تسمع له حكما إلا إذا كان ترددا لقول مستشرق. فإذا استقصينا منابع فكره لم تجد فيها ينبوعا عربيا. وإذا تحسست آماله وآلامه، وجدته مبتوت العاطفة بإخوانه وجيرانه. ومع ذلك يقول: إنه عربى! إن العروبة لو كانت زيا يلبس ما كلف نفسه دفع ثمنه! فكيف وهى حضارة، وآصرة، ولسان، وخليقة، ودعوى، وحقيقة؟ إن أول ما نصنع لحماية العروبة هى الضرب على أيدى هؤلاء، وتأخيرهم من حيث أخرهم الله. قال الدكتور "محمد البهى" فى محاضرته عن "مستوى الكفاية الفنية" بعد كلام عن فريق من هؤلاء: "... أريد أن أخلص من ذلك إلي أن الروح التى خلقها الاستعمار البريطانى ونماها على النحو الذى أشرنا إليه آنفا، لم تمت بقيام الثورة المصرية الحديثة. سنة 1952 حتى الآن. وكل ما للثورة من أثر فى ذلك أنها جعلت أتباع "ديوى" يتوارون خلف مبادئ الثورة- متظاهرين باعتناقها- ثم يدفعون ما بأنفسهم إلى الأمام، متسما بما يوائم طابع هذه الثورة فى التوجيه العام ". ثم قال الدكتور: "إن الإسلام لا يهاجم ". ونحن لا نريد من أتباع "ديوى" أن يتخلوا عن مناصبهم فى وزارة التربية والتعليم، ولا نطلب من الوزارة نفسها أن تعفيهم من هذه المناصب. إنما نريد لأتباع "ديوى" فى مصر أن يعيشوا فى تفكير القرن العشرين، لا فى تفكير القرن التاسع عشر، وهو تفكير "اسبنسر"، و"ديون ". وأن يدركوا خصائص الثورة المصرية الحديثة التى قامت منذ بداية النصف الأخير من قرننا الحاضر. ص _011(1/8)
إننا نطلب إليهم أن يستقلوا فى التفكير التربوى، كما استقلت مصر فى عهد الثورة فى سياستها الخارجية، وتخلصت من جاسوسية شركة قناة السويس ونشاطها الهدام فى مصر. نطلب إليهم أن يدرسوا تراث هذا الوطن العربى الإسلامى، وأن يفهموه جيدا. فإذا فهموه عرفوا أن الإسلام لا يهاجم، كما هاجم بعض مفكرى المادية الغربية فى القرن التاسع عشر الكنيسة الكاثوليكية. إذا فهموه عرفوا أن الإسلام لا يتجر بصكوك الغفران، ولا يقر الوثنية فى أية صورة. فلا يقر الوسيلة والتوسل، ولا يقر قداسة. المفتى فيما يفتى به، ولا عصمة المفسر لكتاب الله. إنه يدعو إلى التوحيد. وما هو التوحيد ؟ إنه إله واحد، إنسان واحد، ومجتمع واحد. إذا فهموه عرفوا أن الإسلام يدعو إلى العلم، وإلى الهداية! (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) إنه يؤيد العلم، إذا كان يقينا، وحقا، وهداية. ولكنه لا يؤيد العلم- الذى هو ظن واحتمال، لأن الظن لا يصلح للهداية- وإنما يصلح لها الحق وحده. إن أتباع "ديوى" يعيشون على أرض هذا الوطن غرباء. وآن لهم أن يدركوا مقومات هذا الوطن العزيز وتوجيه هذه الثورة العربية الحديثة. ذلك إذا أرادوا تنظيم التوجيه، وإيجاد وعى عربى سليم عن طريق التربية والحقيقة أن ذلك أصبح أمرا لابد منه. فقد أصبحت كلمات "القومية العربية" و"الحياد الإيجابى" معالم بارزة لاتجاهنا السياسي، وتحديدا حاسما لمواقفنا فى أغلب القضايا العالمية. ص _012(1/9)
ونحن سعداء بهذا الفهم الواعى لحاضرنا ومستقبلنا. ولكن يظهر أن لهذه الكلمات دويآ فى بعض الرءوس يشبه دوى الصناديق الفارغة. بل إن البعض يجعل هذه الكلمات غطاء لما رسب فى ذهنه من بقايا الاستعمار. فهو أجنبى القومية، غريب النزعة، عاجز عن المواءمة بين ماضيه الذى أفسده الغزو الثقافى وبين نهضة البلاد إلى استعادة أمجادها الأولى، ووصل ما انقطع من حضارتها العظيمة. وهو- لذلك- غير محايد فى فهمه للأمور، ولا فى حكمه عليها. وسياسة عدم الانحياز التى تشرف نشاطنا الخارجى لا وجود لها فى النشاط الذهنى لهؤلاء الذين تربوا أمدا طويلا على الإعجاب بالدروس المغشوشة التى تركها الاستعمار فى نفوسهم. فهم منحازون- فعلا- إلى آراء سادتهم الأقدمين يفكرون بالعقول التى صنعها هؤلاء السادة فحسب ومثل هؤلاء لا يوقنون على توجيه، ولا يوثق بهم فى لون ثقافى، ولا يجوز أن نترك الأجيال المقبلة وديعة بين أيديهم، فهم مفسدوها حتما. إن رئيس الجمهورية.. صاحب فلسفة الثورة.. أوضح ـ بجلاء ـ أن العروبة أساس الثورة.. وأن الإسلام دين الدولة. ومن ثم فكل اتجاه لتغليب الطابع الأجنبى، أو تهوين الروح الدينى، أو إضعاف الأدب العربى، أو تسويغ الانحلال الخلقى، أو تشويه التاريخ الإسلامى يعد خروجا على الدستور، وتعويقا لثورة البلاد. إن الزعم بأن القومية العربية تعنى إقصاء الإسلام، وإهمال شأنه، والزهادة فى أصوله وفروعه، زعم فاسد قذر. وهو محاولة من الإنجليز السمر ـ أعنى العلوج التى رباها الاستعمار الأجنبى ـ لنفث سمومها فى مجتمعنا والمواءمة بين الأفكار الفاسدة التى تربت عليها، والنهضة العربية الحديثة التى صنعناها، والتى حققنا مكاسبها بدماء المؤمنين وحدهم! * * * ص _013(1/10)
وهذا الكتاب للبناء لا للهدم، وللوحدة لا للتفرقة. لقد أظهرت فيه ما يقع للإسلام وأهله من أذى حيث تنجح سياسة الاستعمار فى إقامة حكومات موالية لها. وسيرى القارئ من فضائح الغل الدينى ما يجعله يوقن بضرورة إنهاء المآسى التى خلقها هذا الاستعمار اللعين. ثم تتبعت آثار الاستعمار فى البلاد التى أكره على الرحيل منها، وكيف أنه طوى بساطه من بعض الأراضى وبقى ممدود الرواق فى نفوس لا تزال يحتلها ويلقى خيامه فيها ! وقد ذكرت أمثلة موجزة ونماذج منوعة. فلست أملك وسائل الحصر والاستقراء. وأسأل الله أن يجعل منه ذكرى نافعة وبصيرة لأولى الألباب. محمد الغزالي ص _014(1/11)
التعاون بين الإسلام والمسيحية فكرت مليا فى النزاع القديم المطرد بين النصرانية والإسلام.. ووددت لو استقرت العلاقة بين الدينين على دعائم إنسانية أرقى وأرق. وتساءلت: أما من خطة قاصدة راشدة تتيح لأتباعهما أن يعيشوا أصفياء أنقياء وإن اختلفت عقائدهما؟ أما من خطة قاصدة راشدة تتيح لمبادئهما أن تلتقى فى ميادين الحياة دون صدام يقدح الشرر، ويلقح الحروب؟ أما من خطة قاصدة راشدة تنصف رسالات السماء وتشرف الضمير الدينى، وتنفث فى روع الناس أن الذين ينسبون أنفسهم إلى الله أصحاب سلوك يستحق الاحترام والإعجاب؟ لست جانحا إلى الخيال فى هذا التمنى، ولا بعيدا عن الواقع. أنا أعلم أن هناك نوعا من التهجم للدين كله يجمع بين أقوام بعضهم مسلمين وبعضهم نصارى- حسب تسمياتهم الموروثة- ويجعلهم مواطنين معتدلين. لكن هذا التجمع فى ظلال الانحلال وقلة الاكتراث بحقيقة الإيمان لا قيمة له عندى. فالفراغ النفسى الذى يضم فى دائرته ألوف الناس ويشغلهم بأمر القوت وحده، ويجعل ماعدا ذلك نافلة ساقطة الاعتبار- هذا الفراغ شر، يساوى أو يربو على شرور التعصب الأعمى. بل قد يكون التمسك الحاد بدين ما أجدى من الانصراف المطلق عن الأديان كلها. إنني أبتغى خطة تجمع- على السماحة والمياسرة- بين مسلم يرى أنه موصول بالله على أهدى طريق، ونصرانى يرى أنه يعرف الحق الذى جهله الآخرون... ومع ذلك البعد فى وجهات النظر فكلاهما ينأى فى معاشرته للآخر عن الغدر والختل والبغضاء والشحناء. بل كلاهما يقيم معاملته لصاحبه على الود والعدل، ويتمنى له التوفيق والخير...! ص _015(1/12)
وفى المعاملات العامة بين الناس كثيرا ما نفصل بين عواطفنا بإزاء شخص معين وبين حكمنا على أفكاره ومعارفه... فنقول: فلان يعتقد كذا وكذا من الأخطاء الغربية، ومع ذلك لا نبالى بما يسكن ذهنه من أغلاط ونلتفت إلى السلوك العام فحسب، ثم نبنى علية شتى الصلات.. إننى مستعد لمصادقة امرئ يؤمن بأن الأرض محمولة على قرن ثور!! ومستعد لموادة امرئ يوقن بقداسة العجول، ونسبها الموهوم إلى الآلهة. بل إننى أعتذر لشرود كثير من أصحاب العقائد الباطلة، وأقول فى نفسى: وراثات كبلت عقولهم، وقيدت مشاعرهم، وما يمكن أن تنفك قيودها ولا أن تتقطع حبالها إلا على أزمنة متراخية يسودها السلام، ويخفى منها العناد، وتنفصل فيها العقائد عن الملابسات التى تغرى بالركون إلى جهل أو التنكر لعلم. وأنا رجل مسلم وثيق الصلة بدينى، راسخ القدم فيه، عنيف الغضب لما يوجه إليه من إساءات، مطمئن القلب إلى أن غيره من الديانات قد اعوجت به السبل، وأفلت منه الحق. ومع إيمانى التام بأن النصرانية- مثلا- تنطوى على أخطاء جسام فى تصورها لله، وإنفاذها لحكمه، وفقهها لأمره... مع ذلك فلست أرى أبدا أن طريق المعايشة السليمة ضيقة بأتباع الدينين. ولا أستغرب أبدا أن تقوم مودة صافية بين رجلين يؤمن أحدهما بأن الله واحد، ويؤمن الآخر بأن الله ثلاثة... إن الخلاف العقلى فى مثل هذه الشئون لن تفصل فيه محكمة تؤلف اليوم أو غدا. إنه خلاف سيبقى حتى يلقى الناس ربهم. وعندما تتلاقى كل هاتيك الفرق المتنازعة، وتمثل بين يدى الله، يومئذ- فحسب - يعرف المخطئ سر انحرافه: (إنك ميت وإنهم ميتون * ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون). أجل.. وسوف يسمع الله هذا الاختصام وسوف تترك الفرصة كاملة ليدلى كل فريق بما عنده.. لم؟ ص _016(1/13)
(ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين). * * * على أن ذلك السلام المنشود بين أهل الأديان يتطلب أمورا لابد من إيجادها واستدامتها... لعل فى أولها الاعتراف المتبادل بحق الحياة الشريفة لأصحاب العقائد المتباينة... ومنح كل دين الحرية المعقولة ليبين عن نفسه ويذود عن معناه. وتأمين الأتباع على أموالهم وأعراضهم ودمائهم فلا يضارون فى شىء منها لإيثارهم دينا على غيره. والجور على هذه المعانى وقع ولا يزال يقع بين الناس. لا بين أتباع الديانات المختلفة فحسب، بل بين رجال الدين الواحد عندما تضطرب أفهامهم فى تفسير أصوله أو فروعه!! ومرجع ذلك- فى أغلب الأحيان- ليس المبالغة فى إرضاء الله تعالى كما يعتقد الجائرون المتعصبون- بل هو ضيق العقل، واستحكام الهوى وقدرة النفس الإنسانية - للأسف الشديد- على إشباع شهواتها وارتكاب مظالمها، وكأنها تتقرب إلى ربها، وتقيم حقوقه بدقة وحماس.!! ولنعد إلى الماضى البعيد نستبين أحداثه! وكم من مشابهة غريبة بينه وبين الحاضر القريب؟ لقد ظهرت المسيحية قبل الإسلام بنحو ستة قرون، وقامت باسمها حكومات مرهوبة الجانب. وافترق المسيحيون فى فهمهم لطبيعة دينهم فرقا كبيرة، تحول النزاع بينها إلى صراع يسفك فيه الدماء. والاختلاف طبيعة البشر. والنزاع الداخلى بين أهل ملة لا يعنينى كثيرا، وإنما يعنينى هنا أن النصرانية استقبلت الإسلام بصدر ضيق. وأنها ما إن رأت الجماهير تقبل عليه حتى قررت اعتراض مسيره بالقوة، وإسكات دعاته الذين يشرحون حقيقته. ويشرحون صدور الناس باعتناقه. ص _017(1/14)
لقد نظر الرومان- وهم فى ذلك العصر أصحاب السلطان- باسم النصرانية. نظروا إلى الإسلام لا على أنه دين يعاون فى هداية البشر وإخراجهم من الظلمات إلى النور. بل على أنه منافس محذور النجاح. كما ينظر التاجر القديم إلى مؤسسة جديدة مزودة بأسباب النهوض والنماء، فهو يرى امتدادها والإقبال عليها خطرا على كيانه وبقائه. والنصرانية من هذه الزاوية معذورة فى كراهيتها للإسلام. بيد أننا نتساءل: أكل جديد فى ميدان العلم والمال والرأى والفقه ينبغى أن يصد عنه ويستباح حماه لأن هناك من يكرهه ومن يضيق به؟!! كلا. فليترك المجال فسيحا للتنافس المشروع، ولتترك العقائد المختلفة تستمد حياتها وقداستها من سلامة مبادئها ومدى استجابة المؤمنين لها، وبقائهم عليها، دون ضغط أو قسر!! لكن رجال المسيحية- كما سنرى من استعراض التاريخ فى الماضى والحاضر- يأبون على الإسلام أن يحيا، ويرفضون فى بغضاء عميقة أن يرتفع له لواء. وخبثهم الاستعمارى فى العصر تجديد لسيرتهم الأولى أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته. لم تتغير فيه إلا الوسائل. أما الغايات والنيات فهى هى حذوك النعل بالنعل. وكان من المستطاع لو صلحت المقاصد وزكت الأهداف أن يقوم تصالح على ترك العناصر المشتركة بين الدينين تسير طليقة أو- على الأصح- تسير مدفوعة بإخلاص الفريقين لها. ثم ينفرد كل بما اختص به يدعو إليه على حدة دون اشتباك دام مع الآخرين. فمثلا يجب أن ندعم جميعا عقيدة الإيمان بالله واليوم الآخر. وأن نحارب جميعا دعوة الإلحاد والفساد. ثم من حقنا- نحن المسلمين- بعد ذلك أن نفهم الجميع بأن الله واحد لا ولد له ولا والدة، وأن تتاح لنا فرص الدعاية لما ندين به. على أن تتاح هذه الفرص نفسها لمن يرون أن الله مكون من ثلاثة أقانيم كما تتكون الإصبع من ثلاث عقد. كل واحدة منها إله. وكلها كذلك إله. ص _018(1/15)
ولا معنى لاستخدام السلاح فى الاستدلال على شىء من هذا الكلام أو فى الإقناع به، ولا لإقحام الدولة فى فتنة المؤمنين عما استراحت إليه ضمائرهم من هذه الخلافات والمذاهب. وما يمكن التعاون عليه بإخلاص وصدق كثير. وما وقع من خلاف يعز على التفاهم، فلنفوض فيه الأمر إلى الله. ويجب ألا يكون ذريعة عدوان أو تحاقد أو بغى. لقد استقبلت بهذا التفكير الدعوة إلى عقد مؤتمر مسيحى إسلامى. وكان- من حسن الحظ- أن حضرت جلساته التى انعقدت فى الإسكندرية من بضع سنين. وأحسب أن ألوف العقلاء يسرهم الوفاق بين طوائف البشر. غير أن الحوادث الرهيبة التى سبقت ولحقت هذا المؤتمر، وسير المناقشات فيه يجعلنى أتشاءم من مستقبل العلاقة بين الدينين، ويجعلنى أحاذر من عودة الأمور إلى مجراها المؤسف القديم... ولدت فكرة "التعاون المسيحى الإسلامى" فى ظروف كئيبة. إذ أن أبناء الإسلام كانوا يتلوون من الألم والأذى بعد الضربة الشائنة الموجعة التى نزلت بهم فى فلسطين.. ألم تتآمر الدول النصرانية- كبراها وصغراها- على طرد العرب من ديارهم وأموالهم، وتتفق- فى صفاقة نادرة- على توريث اليهود أرض الأحياء المقهورين ثم تنتصب أعظم الأمم المسيحية على ظهر الأرض- وهى "أمريكا" و"إنجلترا" و"فرنسا"- لإقرار ذلك الجور بقوة السلاح وإعلان الاستمساك به وحمايته؟! ولو كان ذلك العمل غفوة ضمير نام ثم استيقظ، أو زلة قدم سقطت ثم تابت لقبلنا المعذرة. فكيف وهذا العدوان الفاحش سبقه ولحقه التحدى والإصرار؟ وبعد تسع سنين من وقوعه تستأنف إنجلترا وفرنسا- ومعهما اليهود- الهجوم على مصر نفسها لإذلالها وإخماد أنفاسها.. فإذا أنجاها القدر الأعلى تدخلت أمريكا لتزويد إسرائيل قوة على قوة. ولتفك الحصار الضئيل المفروض عليها، فترسل أسطولها الضخم ليجعل الملاحة فى خليج العقبة ميسر لليهود. ص _019(1/16)
وأمريكا بهذا العمل تشبع أحقادا صليبية دفينة، وتفتح ثغرة فى الكيان الإسلامى، إن استترت اليوم فستنكشف غدا. إذ هى تؤمل فى إذلال المسلمين وتهديد مواطنهم فى تلك البقاع الحساسة، وإليك نبذا من بيان نشرته الهيئة العربية العليا لفلسطين يوضح هذه الحقيقة: إن المطامع الاستعمارية فى خليج العقبة ليست حديثة، بل هى قديمة العهد من زمن الحروب الصليبية. فمن خليج العقبة قامت حملة "البرنس أرناط "- عام 578 هجرية- فهاجمت شواطئ البحر الأحمر على الجانبين الآسيوى والإفريقى، ونزلت فى أرض الحجاز حتى كادت تطرق أبواب المدينة المنورة لولا وصول حملة التأديب المصرية بقيادة الأمير "حسام الدين لؤلؤ" قائد أسطول مصر فى عهد صلاح الدين، فقضى على حملة أرناط وأغرق أسطولها. ولا نعدو الحق إذ قلنا: إن كثيرا من ساسة العرب وقادته المتأثرين بالنزعات التبشيرية ما زالت تسيطر على نفوسهم وتصرفاتهم روح العصبية المعادية للإسلام والعروبة. وفى شأن خليج العقبة وتمجيد حملة "البرنس أرناط " ننقل هنا ما قاله الأب لامانسى اليسوعى: "لفت خليج العقبة وموقع أيلة أنظار البطل الصليبى أرناط، ولمس أهميته فعمل على احتلال تلك البقعة، ونشر الرعب فيها بأسطوله. ولا شك أنه ضرب مثلا بإقدامه وجرأته لجمع كبير من أبطال الاستعمار الأوروبى الذين جاءوا من بعده وجاهدوا مثل جهاده. فهو الذى شق الطريق أمامهم وهم نسجوا على منواله ". وفى عام 1906 حينما كانت إنجلترا تحتل مصر، حاولت أن تنترع العقبة وخليجها من الدولة العثمانية وتضمها إلى سيناء المصرية التى كانت تحت حكمها وسيطرتها، وحدث من جراء ذلك نزاع طويل بين الدولتين انتهى بفشل إنجلترا. على أن إنجلترا ظلت تترقب الفرص لانتزاع العقبة وخليجها إلى أن انتهزت فرصة سقوط الحجاز بيد الملك عبد العزيز آل سعود سنة 1926 فعملت على ضم العقبة إلى الأردن الذى كان حينئذ تحت حكم إنجلترا وسيطرتها. وقد اعترض على ذلك الملك عبد(1/17)
العزيز وأبرق إلى الحكومة البريطانية باحتجاجه الشديد. ص _020
وقد بحث المؤتمر الإسلامى العام المنعقد فى مكة سنة 1926 وشهده مندوبون يمثلون جميع الأقطار الإسلامية، مسألة العقبة وخليجها، وقرر بالإجماع وجوب بقائها كجزء من أراضى الحجاز حرصا على سلامة الأماكن الإسلامية المقدسة فى مكة والمدينة المنورة، وصيانة لطريق الحج إلى بيت الله الحرام. وتنفيذا للخطط الاستعمارية البريطانية البعيدة المدى حرصت إنجلترا مدة احتلالها لمصر سبعين عاما على إبقاء الخراب مسيطرا على شبه جزيرة سيناء المتصلة بخليج العقبة اتصالا مباشرا، وجعلتها منطقة عسكرية مغلقة تحت سلطة حاكم إنجليزى كان يمنع كل محاولة لعمرانها وزيادة عدد السكان المصريين فيها، لتبقى خاضعة لسيطرة الاستعمار وميدانا خاليا لتحقيق مطامع اليهود. وفى سنة 1949 كانت أم الرشاش (موضع إيلات) مخفرا للشرطة تابعا لفلسطين، وبه مركز لشرطة البوتاس وأملاح البحر الميت. ولكن الجنرال "جلوب " الذى كان يسيطر بجيشه عليها- حينئذ- أمر بإخلائها وتسليمها لليهود. فكان من جراء ذلك أن تمكنت إسرائيل من احتلال هذا الموقع الحيوى واستطاعت الوصول إلى البحر الأحمر، وبناء ميناء إيلات فى هذا الموقع الخطير. فإذا تجاوزنا الاستعمار الصليبى فى فلسطين. وأفاعيله الملتوية بأهلها وبنا جميعا وجدنا أمامنا صورة أخرى لأحزان موصولة السواد فى الجزائر الذبيحة. وهمجية الفرنسيين التى تمدها سائر دول الغرب لا ترضى إلا بإبادة المسلمين وإحلال غيرهم مكانهم. وقد رسموا سياستهم على هذا النحو فلن يصدهم عن إنفاذها إلا أن يهلكوا قبلها. وفى جحيم الاضطهاد قد يرتد بعض المسلمين عن دينهم، ويتحولون إلى المذهب الكاثوليكى المسيحى. ومع ذلك فإن عمى التعصب وغليان الحقد يفرضان فى معاملة أولئك المنهارين سياسة احتقار وإقصاء. كأن ظفرهم بالحياة بعد ذلك التحول المنكسر جاء على غير رغبة القوم. إنهم ما كانوا يريدون لهم إلا(1/18)
الموت. ص _021
الموت الذى أنزله الاستعمار الصليبى بسكان أمريكا واستراليا الأصلاء، والذى يجب أن ينزل بالعرب كذلك، فلا ينجو منهم أحد وإن زعم أنه مسيحى! من يدرى لعله مسلم فى قرارة قلبه، وما حمله على إظهار تنصره إلا النجاة من الفناء؟.. لقد قال ناقد فرنسى يشرح مسلك قومه: "والإحساس بالتفوق المتأصل فى نفوس المستوطنين الفرنسيين ربا حتى بلغ حد "مركب الاستعلاء". واسمع إلى "أندريه جوليان " أستاذ تاريخ الاستعمار بجامعة باريس يصف أحوال المستوطن الفرنسى فى المستعمرات فيقول: إنه يمثل القاهر الذى يخشى بأسه أو القادر الذى يرجى حمايته، أو العدو الذى لابد من صداقته. ومما يؤكد هذا التعصب العنصرى أن الفرنسيين لم يغيروا موقفهم من القلة الجزائرية التى أفلح المبشرون فى تحويلها من الإسلام إلى الكاثوليكية. ففى مذكرة رفعها المجلس الاستشارى بالجزائر سنة 1953 طالب المستوطنون الفرنسيون ألا يعطى المسلمون الكاثوليك الحقوق نفسها التى يتمتع بها الفرنسيون الكاثوليك. وهذه العبارة الغبية السمجة تعنى بالمسلمين الكاثوليك العرب المتنصرين. فالإسلام هو العروبة. والعرب الذين تركوا دينهم تحت وطأة الاحتلال الفرنسى يجب ألا يتساووا مع السادة الأوربيين. وعندما دخل الأميرال "ستيفا" المقيم العام فى تونس على "الباى" فى أحد الأعياد، وقام له كبار الموظفين لاحظ أنهم جميعا فرنسيون، فعثر المقيم عن أمله أن يرى بينهم العام القادم بعض التونسيين.. فأجابه "ستيفا": إن الفرنسيين وحدهم هم الجديرون بالوظائف الكبرى. ولما أسست المجالس البلدية فى تونس وتقرر فيها تمثيل العنصرين- أى الفرنسى والتونسى- على النحو المجحف المعروف رفض الفرنسيون الجلوس مع التونسيين فى قاعة واحدة قائلين: إن القبعات لا تجلس مع البرانس فى مكان واحد. والبرانس هى الزى الوطنى لعرب المغرب جميعا. * * * فى هذا الأفق المكفهر ظهرت فكرة التعاون المسيحى الإسلامى. ص _022(1/19)
إذ أن الفكرة ـ على ما فيها من نبل وخير ـ اكتنفها ما يبعث على التساؤل العاجب، إن لم نقل: التساؤل المنكر المدهش..!! ماذا يبغى الضارب من المضروب؟ لماذا يقترب منه ويتأبط ذراعه؟ إلى أين يسيران يا ترى وعلام يصطحبان.؟ هل كف الظالم يده، وواسى جراحه، ثم جاء يستأنف خطة جديدة أساسها السماحة والتعاون والرضا؟؟. لا.. إن شيئا من ذلك لم يكن. إن الأوضاع السياسية الجائرة ما زالت آخذة بخناق المسلمين توشك أن تكتم أنفاسهم، وتجهز على دينهم. فأنى توجد صداقة مع هذه الحال؟ وكيف تفترض مودة أوهنت أنت حبالها؟ إنه من الاستهانة بكرامتى، بل من الاتهام لإحساسى المادى والأدبى أن أرى الغرب المسيحي يضربنى بعنف وهمجية، ثم يرتقب بعد أن أكون حليفا منطويا على ولائه، حريصا على نصرته! ولذلك لم أستغرب لما رفض الجامع الأزهر أن يشارك فى هذا المؤتمر. ولم أستغرب لما رأيت كثيرا من الهيئات الإسلامية تثير الريب حول مقاصده ومراميه...!! لكن نفرا من خيار المسلمين اختار أن يذهب، وأن يقول ما عنده، وأن يصارح رجال المسيحية بما لديه.. إن النزاع القاسى المتطرف بين النصرانية والإسلام ينبغى أن يقف عند حد. والوقود الذى يشعل النار فى ذلك الخلاف من الخير أن ينطفئ... وإنها لخطوة طيبة أن يفكر نفر من النصارى فى ذلك. وسواء أكان الدافع نقيا كما نحب، أم سياسيا كما يشجع البعض، فإن هذا التلاقى فرصة يمكن استغلالها لمرضاة الله، وتجنيب عباده ويلات التجهم والتعادى. ولا شك أنه عندما تتحدد الوسائل وترسم الخطوط التى ترى الديانتان كلتاهما أنها أدنى إلى تقوى الله وإقرار النصفة بين أتباعهما، فإن أطماع الحكام، وحماس الجهال، وقصور العوام، لن يكون له كبير أثر فى إشعال حرب باسم الدين، والدين منها براء. ص _023(1/20)
ثم إننى ـ شخصيا ـ أعرف أن الإسلام تحفل مظالم ثقيلة من عداته، وأنه لا معنى لطى الإساءات التى نالته ما دمنا فى معرض التصافى والعتبى.. ولن أنكص عن شهود مجلس قصارى ما أطلبه فيه الحرية الدينية. الحرية التى اغتالها جمهور كثيف من آباء الكنيسة أول الدهر. ولا يزالون يغتالونها إلى هذا اليوم، ويستكثرونها على الإسلام وعلى أتباعه فى المشارق والمغارب. نعم.. إن مكمن الداء هنا. هل المسيحية ترضى أن يعيش الإسلام إلى جوارها؟ إن رفضها وجود دين التوحيد بجانبها هو سر القتال الذى خاضه المسلمون الأولون استنقاذا لحياتهم واستبقاء لجوهر الإيمان الذى ارتضوه لأنفسهم.. ثم هو سر حروب التحرير التى تدور رحاها الآن لتطهير أرض الإسلام من الفتانين والفتاكين، الذين طغوا فى البلاد فأكثروا فيها الفساد.. إن المسيحية ضنت على بعضها بهذه الحرية، وذكرى المذابح التى نصبها الكاثوليك لخصومهم لا تزال باقية. أفكان الإسلام يظفر بخير من هذا المصير وهو يرى المسيح بشرا رسولا. بينما كانت الكنيسة تفتك بمن يرى أنه إله فيه طبيعة بشر؟؟ إننا مصرون على توطيد أركان الحرية الدينية، ووضع سدود غلاظ أمام البغضاء التى أتعبت أسلافنا الأقدمين، وأرهقتنا ـ نحن المسلمين ـ فى هذه الأيام الكالحة. إن حقد الصليبية على الإسلام وأهله مشكلة يجب أن تحل. وحلها فى مؤتمرات السلام أولى من حلها فى ميادين القتال. وفى هذه المؤتمرات يجمل أن نتصارح. لنقل للنصارى: ما الذى يريبكم منا لنتركه؟ ما الذى يهيجكم علينا لنبتعد عنه؟ اطلبوا كل شئ إلا أن ندع ديننا. فإنكم إن أصررتم على هذا الطلب المنكر لن تجف من الأرض الدماء.. ووزرها عليكم لا علينا. * * * ص _024(1/21)
تفرست فى وجوه الأعضاء المجتمعين بفندق "سيسل " بالإسكندرية، ثم خامرنى إحساس بالطمأنينة. كان هناك قساوسة يبدو على ملامحهم الجد، وشباب مثلى فى حركاتهم مرح وقوة. ونساء خط المشيب رؤوسهن، ومازلن مقبلات على الدرس والبحث. وخليط من الشرق والغرب مختلف العقيدة واللسان. بيد أن حب الخير المطلق ظاهر عليه. لم أشعر - والحق يقال - أننى مع عملاء للاستعمار كما انطلقت بذلك الإشاعات. نعم.. قد يكون لأمريكا غرض من وراء هذا المؤتمر. ولو صح هذا ما تأخرت عن حضوره، فمن يدرى؟ ربما كان الأمر كما قال أحد السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له. إذا كان للساسة مأرب من وراء التقاء رجال يمثلون المسيحية والإسلام، فإن هذا الالتقاء يجب أن يتم على أى حال. ويجب أن يتمخض عن خير تهش له الألوف المؤلفة فى المشارق والمغارب من المسلمين والنصارى. إن هذا اللقاء لو نظم وتعلقت بنتائجه القلوب فإن القضايا التى يعالجها قد تخفف - إن لم تحسم - شرور كثيرة. أيا ما كان الأمر فإننى أطلق القول كمسلم فاقه لدينه، محب لله ورسله، رقيق القلب لجميع عباده: إن هذه المؤتمرات يجب أن تشجع، وأن يكترث بها، وأن تبذل المحاولات الجاهدة كيما تثمر السلام للناس. وأعنى بالسلام: السلام الشريف الذى لا يحمل على أحد ضيما، أو يلزمه عارا. وأنا هنا لا أقص ما قيل فى المؤتمر المسيحى الإسلامى، المنعقد بالإسكندرية فى دورته الثانية.. وإنما أتعرض فحسب لما يتصل بموضوع هذا البحث. فإن توفير الحرية الدينية كان لاشك من أهم الأهداف التى ناقشها المجتمعون. ص _025(1/22)
ويظهر أن الدكتور "هتشنسون " الأمريكى، كان يائسا كل اليأس من حصانة الضمير الدينى، ومتشائما كل التشاؤم من تسليم أزفة الحكم له. ولذلك دعا ـ بقوة وحرارة ـ إلى فصل الدين عن الدولة. رائيآ أن ذلك هو الضمان الوحيد لتوطيد الحريات العامة، وأنه كذلك هو السياج القوى لمنع الاضطهاد الدينى. والدكتور الفاضل يرى أن أمريكا ـ يعنى الولايات المتحدة ـ لا يصح أن تسمى دولة مسيحية، وإن تكونت من أتباع لهذا الدين، فإن انفصال الدين عن الدولة قائم أو يجب أن يقوم... وهذا الكلام نرضى بواعثه وننكر وسائله. فإن فصل الدين عن ا الدولة نغمة ولدت فى الغرب للخلاص من القيود الكنسية على حرية العقل والضمير، ثم نقلت إلى الشرق كى تمهد العقبات أمام الزحف الاستعمارى، وتهد قلاع المقاومة الهائلة التى ثارت فى وجهه. أى أنها كلمة قيلت هناك للحد من طغيان رجال الدين، وتقال هنا لهدم دين كامل، والإتيان على بنيانه من القواعد. وقد قيلت هناك وبقيت روح الغرب المسيحى تعمل عملها فى الكيد لنا، وتمزيق شملنا، ثم قيلت هنا لنقبل هذا الكيد، ونستكين لهذا التمزيق. والدول التى زعمت أن الدين منفصل عنها، هى بعينها الدول التى تهيج الفتن فى العالم الإسلامى، وتنبعث فى سياستها عن تعصب مقيت ضده. ولو نفخنا الأغشية الرقيقة التى تخفى الأساليب العسكرية والمدنية والثقافية فى معاملاتنا لوجدنا لإنجلترا وفرنسا وأمريكا وغيرها وجها صليبيا كالحا يقدح بالشرر ويتميز بالغيظ. إن تأمين الحريات الإنسانية، فى مقدمتها الحرية الدينية، لا يتأتى بفصل الدين عن الدولة على النسق الذى عرفناه فى دول الغرب صغراها وكبراها. فإن هذا الفصل المزعوم كان أكذوبة كبرى. وترويجه فى أقطار الشرق الإسلامى خدعة رديئة لا تغيب دلالتها عن بصير، وإن اشتغلت بذلك صحف ومجلات، واحتشد أدباء مغرورون أو مأجورون. إن الإسلام أرحب الأديان حضارة، وألينها عريكة، وأرحمها معاملة، وأحناها على مخالف وجاهل. ص(1/23)
_026
وإذا كان يؤخذ على المسلمين شىء فهو أنهم أشد إحساسا بمطالب غيرهم من إحساسهم بمصالحهم الخاصة. وأنهم فى عنايتهم بمخالفيهم قد يهضمون أنفسهم كالفقير الكريم يجود بما لديه وأهله أحوج إليه. وقد اتسع العقل الإسلامى لضروب من الخلاف والجدل وصلت إلى مرتبة الإسراف. واتسع الضمير الإسلامى لقبول ألوان شتى من الخصومات فما عكرت صفوه ولا غضنت وجهه. ومن ثم نتجاوب أوسع التجاوب وأتمه مع الدكتور "هتشنسون " حين يقول: إن الحرية الدينية أهم ركن فى حرية الأفراد. كما أنها إحدى الأسس المهمة التى قامت عليها الديمقراطية. ولكننا نرى الآن أن الحرية الدينية قد حددت لدرجة لا يمكن مقارنتها بأى قرن من القرون الماضية. كما ازداد الآن عدد الدول التى لا يتمتع أهلها بحرية العبادة، وإقامة شعائر دينهم أكثر من أى وقت مضى. فإذا كانت هذه هى الحقيقة- أو بعض الحقيقة- فلقد أزف الوقت الذى يجب أن نبحث فيه هذا الركن الخطير من الحرية الإنسانية. وقبل أن نتعمق فى هذه الناحية يجب أن نحدد مصطلحاتنا. فالحرية الدينية تعنى حق كل فرد فى عبادة ربه بأى طريقة يختارها طالما أنه لا يعتدى على حرية وأمن الآخرين. لكل فرد الحق فى أن يتبع أى عقيدة دون أن يتعرض لعقاب قانونى، أو خسارة اقتصادية، أو تفرقة اجتماعية، أو أى عقوبة أخرى. إنه يتضمن أيضا حق الفرد ألا يؤمن بأى عقيدة. إنه الحق فى أن يقوم الفرد بتعليم دينه للآخرين إذا اعتقد بأنه وجد الطريق إلى الله وإلى الخلاص. إنه الحق فى أن يعارض أية عقيدة طالما أن معارضته ستكون عن طريق الإقناع لا القوة. إنه الحق فى أن يتبع تعاليم دينه لخدمة الإنسانية. ص _027(1/24)
إنه الحق فى أن يتقرب الفرد إلى الله بالطريقة التى يفهمها هو أو يبتعد عن الله إذا اختار ذلك دون أن يتعرض لأى عقاب أو تقييد اجتماعى، أو سياسى، أو اقتصادى، أو قانونى. والسؤال الذى نوجهه للنصرانية هو: هل احترمت فى ماضيها الحرية بهذا المعنى الشامل وذلك الإصلاح الرحب؟ وإذا كانت لم تفعل ذلك فى الأمس القريب أو فى الأمس البعيد. فهل تنوى أن تقيم صلاتها بالأديان الأخرى فى الحاضر والمستقبل على هذه الأسس؟ إننا قبل أن نجد إجابة على هذه الأسئلة المتمنية. يجب أن نقطع الطريق على مزاعم المستعمرين وعملائهم ممن يريدون تزييف التاريخ لحساب دين بعينه. فلنقل هنا كلاما للدكتور "هتشنسون " نفسه يلقى ضوءا على الموضوع، ولنلفت النظر إلى ثلاث نقاط بارزة فى ذلك الكلام: ا- إن الكنيسة انتحلت لنفسها سلطة الإشراف على الدولة وتسيير دفة الحكم وذلك خلاف ما توحى به النصوص الدينية عند القوم. 2- إن هذا التسلط استغل استغلالا سيئا فى الاضطهاد والفتنة وإشاعة الأهواء والمظالم 3- إن بناء الإيمان لم يلزم خطة الإقناع والمنطق، بل جنح الكهنة فيه إلى القسر وإذلال الخصوم. قال الدكتور الفاضل: "كتب البروفيسور - جريدو دى روجيريو - وهو كما أعتقد أحد كبار المؤرخين الكاثوليك يقول فى دائرة معارف العلوم الاجتماعية: "إن المسيحية هى القوة الفعالة التى وقفت ضد صراع العالم البشرى للحصول على الحرية الدينية. إذ أنها زادت من قوة العناصر التى تشجع على عدم التسامح، والتى جاءت ضمن التراث العبرى. بل أضافت إلى تلك العناصر إدخال عدة دوافع جديدة قوية وهى فكرة نشر رسالة موحدة فى أنحاء العالم، ونشر بعض التعاليم التى لا تقبل المناقشة. وغرس فكرة أن الكنيسة هى همزة الوصل بين الخالق والإنسان ". ثم قال: "إننى لا أعتقد- كما سأبين فيما بعد- أن هذه هى الأسباب، ولكن البروفيسور "روجيريو" على حق فى أن المسيحية كانت القوة الفعالة على مدى التاريخ ضد تحقيق(1/25)
الحرية الدينية. وفى الوقت نفسه تحوى المسيحية بين طياتها أعظم التعاليم التى تدعو إلى حرية الإنسان. أى المسئولية المباشرة للفرد أمام الخالق. ص _028
وعلى ذلك فهناك صراع قوى فى المسيحية بخصوص مشكلة الحرية الدينية. وهو الصراع الذى أشعر بالأسف حين أقول: إنه لم يعضد فى أنحاء العالم ليحقق الحرية. ولن يسمح لى المجال لكى أؤرخ ذلك الصراع. ولكن المسيحية ـ مثلها فى ذلك مثل أى شعب من الشعوب ـ كانت تنادى بالحرية حين تشعر بالاضطهاد، ولكنها تنكر الحرية على الآخرين حين النصر". ثم قال الدكتور: "لقد حمل المسيحيون الأولون فى القرون الأولى شعلة الحرية الدينية. كما أن كثيرين منهم لاقوا حتفهم شهداء فى أثناء الاضطهاد. ولكنهم أصبحوا متعصبين وقساة بعد أن قوى ساعد المسيحية واشتد أثناء حكم قسطنطين وبعده. وبعد قرار عام 313 بسبع سنوات صدرت عدة تقييدات ضد الحفلات الدينية الخاصة التى قام بها الوثنيون. وضد العمل أيام الآحاد. إذ اعتبر كل من يعمل يوم الأحد كافرا، وكذلك ضد هذه أو تلك من المعتقدات أو التعاليم الدينية المخالفة. ولقد طلب نستوريس من الإمبراطور ثيودسيوس. إصدار ثمانية وستين قانونا ضد الوثنيين. وعلى الرغم من احتجاجات "الكوين " رجل الكنيسة العظيم، تم تنصير السكسون بالقوة وإراقة الدماء. وفى عام ص 3 بدأ اضطهاد اليهود، وأخذ يزداد بانتظام حتى قرر مجلس وزراء طليطلة بطلان أعمال التعذيب. ونستطيع أن نكمل تلك القصة فى عصرى الاضطهاد والإصلاح. فنجد المصلحين البروتستانت يناضلون في سبيل الحرية الدينية بينما يقومون فى الوقت نفسه باضطهاد كل من يعتبرونه وثنيا. ونجد البروتستانت الإنجليز يقومون بتعذيب الكاثوليك. والكاثوليك يضطهدون البروتستانت. ص _029(1/26)
والمهاجرون الذين ذهبوا إلى أمريكا فى سبيل الحرية الدينية قاموا بتعذيب الوثنيين الذين بين ظهرانيهم. إنها قصة حزينة تركت آتارها فى حياة كثير من الأبطال مثل "أوجستين ". و "جيروم " و "لوثر" و "كلفن "، وكثيرين غيرهم الذين ناضلوا فى وقت ما فى سبيل الحرية الدينية، بينما أنكروها على الآخرين فى وقت آخر". * * * وما ذكره الدكتور عن التعصب الصليبى إشارة خفيفة أو قطرة من بحر بالنسبة إلى ما سجله التاريخ من مآسى القوم. والشيء الذى لا تنقطع الدهشة منه هو ما يظهرونه من براءة وشرف بعد اقتراف أشنع الجرائم. فالإنجليز الذين احتلوا مساحات من أقطار الأرض الفسيحة تزيد على سبعين ضعفا من بلادهم يسمون الجهاز العسكرى الذى صنع هذا وزارة الدفاع. أما دولة الأردن التى تعيش على إعانات من هنا وهناك فلها وزارة حرب! لله ما أغرب خداع العناوين فى هذه الدنيا. رئيس وزراء فرنسا يقول: إننا نعتبر الجزائر كالأ ندلس، ونعد عربها فرنسيين ونقاتل دون هذا. فإن قاوم أصحاب البلاد هذا الفجور السياسى السمج قيل لهم: أنتم متعصبون! وعندما كافح شعب لبنان محاولات المارون محو الطابع العربى عن بلاد تسعة أعشارها عرب وسبعة أعشارها مسلمون قيل له: أنت رجعى، أنت متأخر، أنت متعصب! لماذا؟ لأن كثرة الأهلين فى لبنان إن لم يخضعوا للقلة الموالية لفرنسا وإنجلترا وأمريكا، والتى تريد إثبات الطابع الصليبى للبلاد بالقوة فهم متقمون بالتعصب! أما أذناب الغرب وأشياعه فهم فوق التهم!. إن للتعصب الصليبى صورا لا حصر لها، وإثارات تخلق رد الفعل عاتيا قاسيا، وسنرى من ذلك أمثلة شتى. والدكتور يرى أن التعصب ـ عموما ـ ينشأ من تسلط الدين على الدولة فيقول: "إن السبب الرئيسى للاضطهاد الدينى يتركز فى ارتباط الدين بالدولة، فنلاحظ أنه ص _030(1/27)
فى كل حالة قامت المسيحية فيها بحرمان الأفراد من الحرية الدينية كانت السلطة الحكومية مركزة فى يدها. والحكومة دائمآ فى وضع يسمح لها بإرغام الأفراد، إذ أنها قوة منظمة أو غير منظمة، تملك ماتشاء. وهى بطبيعة تكوينها لا تخرج عن كونها قوة مادية. وقد تكون الحكومة ضرورة لتنظيم وإدارة شئون الأفراد. ولكنها- على الرغم من ذلك- تمثل التسلط والإرغام. بيد أن الدين شىء روحى، إنه اتصال الله بقلب وعقل الإنسان بالإقناع والتعليم دون ما قوة وإرغام. فالدين يثبت عن طريق الإقناع والإلهام. أما الحكومة فعن طريق الإرغام والقوة. وهما بذلك لا يتفقان فى شىء، بل إنهما متضادان. فإذا تسلط الدين على قلوب الأفراد فليست ثمة حاجة حينئذ إلا لسلطة حكومية بسيطة. وهذا هو ما دعا "جفرسون " إلى أن يقول: "أفضل الحكومات أقلها سلطة". إذ أنه كلما زادت سلطة أحدهما قلت سلطة الآخر. فالدين والحكومة يكمل أحدهما الآخر، ويعوض أحدهما عن الآخر. ولكن لا يمكن أن يتحدا دون استخدام العنف والتعذيب. وهنا يقع الزغل الكبير فى تاريخ المسيحية. وهذا الزغل قد أدى إلى التعصب الذى قاوم الحرية الدينية. فإذا قرأت جيدا أخبار ستة عشر قرنا من القيود الدينية والاضطهاد والتعصب فى جميع الدول المسيحية الأوروبية، وفى شمال وجنوب أمريكا، سواء أكانت تلك الدول كاثوليكية أم بروتستانتية فلن تجد إنكارا للحرية الدينية يستحق الذكر إلا من الدول التى اتحد فيها الدين مع الحكم برباط قوى لا يمكن فصمه ". وعلى هذا النحو مضى الدكتور يغرينا أو يؤكد لنا أن الدين يجب فصله عن الدولة. ص _031(1/28)
والحجة الأولى والأخيرة أن المسيحية حكمت فأعنتت، وملكت السلطة فصادرت الحرية، ووضعت يدها على الدولة فأصابت حقوق الأفراد والشعوب بشر كبير. وإذن فيجب تجريد كل دين من سلطان الدولة، ويجب تجريد الإسلام- بالذات- من كل سناد حكومى!! وهذا الكلام لايمكن غض النظر عما فيه من تهاو واضطراب. فإن قياس دين بدين ونتيجة بنتيجة لا يجيئان بهذه السهولة. بيد أن الريبة العظمى تملأ قلوبنا حين نسمع الكلام المذكور فى وقت تتضافر فيه قوى الأمريكان والإنجليز والفرنسيين ومن وراءهم وهم يستميتون فى سحق الإسلام وتدويخ أهله. إن هؤلاء الناس ـ حكومات وشعوبا ـ لا يدعون فرصة تمر دون بسط اليد بأى أذى يمكن إلحاقه بنا وبديننا. فكيف نستطيع المقاومة الناجحة إذا كانت العقائد المعتدية تظاهرها قوى كبيرة، على حين نطلب من الإسلام ومن معتنقيه ألا يفكروا أبدا فى إقامة دولة به أو دولة له؟! إن هذا الكلام ليس بحثا علميا خالصا، بل هو أشبه بالاحتيال الثقافى، أو هو تسوفي لما يصنعه الغربيون بنا، ونحن فى حل من رفضه، دون تردد. إن الإسلام لو كان دينا نظريا أو فلسفة خيالية لكان عليه ـ كيما يحتفظ بحياته ـ أن يواجه المواقف الآتية: ا- قيام دول مادية تمثل الإلحاد المسلح، وتنشر مبادئه فى كل مكان. 2- قيام حكومات بادية القوة تشتغل بنهب الأقطار المتخلفة واسترقاق أبنائها ووضع العوائق للحيلولة دون ارتقائهم. 3- قيام حضارات تعتمد على الشهوات الإنسانية، وتبنى تعاليمها على توهين صلة الأرض بالسماء، أو تزييف هذه الصلة ودفعها فى مجرى يصبغ العالم بجاهلية حديثة. 4- انفجار الأحقاد ضد الإسلام، من الصهيونية التى حملت السلاح علانية ضد العرب، ومن الصليبية التى تستخفى حينا وتكشر عن نابها أحيانا. فهل تلك الأحوال المخوفة هى المقدمات المعقولة التى تنتج انسلاخ الإسلام عن الدولة، ووجوب تجرد الدين من كل سلطة تنافح عنه، وتشرب روحه، وتقيم حدوده، وتذود عنه المعتدين؟؟(1/29)
ص _032
إن أركان الدولة جزء من تعاليم الإسلام، كما يعلم ذلك أى دارس للقرآن الكريم والسنة المطهرة. وتكليف الإسلام أن يتفق مع النصرانية على حذف الدولة من رسالته لا يليق. وهو أشبه ما يكون بتكليف شخصين يملك أحدهما مائة قرش، والآخر يملك ألف جنيه أن يتبرعا بما معهما. إن الغرم كله واقع على المكثر لا على المقل. واهتمامنا بأمر الدولة يرجع إلى أن هنافي أحكاما تتفق الأديان كلها على ضرورة إقامتها، فرط فيها غيرنا مع علمه بأمر الله فيها، فلماذا يفرض علينا أن نفرط فيها نحن الآخرين؟ وذلك كحرمة الربا والزنا. فإن الدولة المسيحية تكاد تجمع على استباحتهما وتسن القوانين المالية والاجتماعية وفيها إغضاء مطلق عن هذا التحريم. ونحن نعتقد أن من وظيفة الدولة تنظيف المجتمع من هذه الأوبئة. ولا نرى فصل الدين عن الدولة فى تلك الشئون. على أن للإسلام غايات يسعى إليها، ومثلا عليا يحتضنها. كإقامة الإيمان وحمايته، وحفظ الصلة الإلهية بين الله وخلقه، والاهتمام بأمر الصلاة والزكاة والحق والخير، والإسهام مع أى فرد أو جماعة فى إقامة حضارة تحترم العدالة وتقر الإنصاف وتسعد البشر؟. فلماذا تبتر الدولة من تعاليم الإسلام؟. وهى التى تحمل هذا العبء فى الوقت الذى تقوم فيه عشرات الدول المسيحية بشن حملات مترادفة على الإسلام لتوهن قواه وتبدد شمله وتذيق أهله الأمرين؟؟. إذا كان لأحد أن يعض بنان الندم ألف مرة على ما صنع بنفسه. فنحن- المسلمين- الذين نلعق مرارة الحسوة لأنا سمحنا للدين أن ينفصل عن الدولة، أو بتعبير أصرح: سمحنا للاستعمار أن يغزونا فى عقر دارنا فكانت تلك المآسى السود فى ديار الإسلام التى لا تزال محتلة بالأجانب، أو فى الديار التى جلوا عنها وبقيت آثارهم فيها تحتاج إلى تطهير ممض طويل..، ص _033(1/30)
ومن البديهى أن حرية الدعوة إلى الله، واعتناق دياناته المختلفة شىء لا يتنافى مع بقاء الدولة فى أحضان الإسلام... إن تجارب أربعة عشر قرنا مضت تهتف بأن الحكم الإسلامى لم يستغل السلطة يوما فى الإكراه على الدين، أو التحويل عن مذهب. وسجلات التاريخ تعى النقائض فى هذا المضمار بالنسبة إلى المسيحية، ومذاهبها الكثيرة... وعندما ننظر إلى الأحداث التى تظلنا الآن- نجد أن دولا اصطنعت اصطناعا فى بيئات، ما كان يمكن أن تتمخض عنها- لتكون هذه الدول سوط عذاب للإسلام وأهله. فى "غانا" و "الحبشة" و "لبنان "- مثلا- اختلفت فيها حكومات مسيحية مع أن كثرة الشعب فى هذه الأقطار مسلمة!! لماذا؟ لأن النصرانية تريد استغلال الجهاز الحكومى الخطير فى مد حياتها ووأد عداتها، ثم يقال بعد ذلك للمسلمين: افصلوا الدين عن الدولة !! واقتران التبشير بالاستعمار أمر معروف، وقد رأينا كيف يمهد رجال الكنيسة فى أواسط إفريقيا وجنوبها وشمالها لحكم إنجلترا وفرنسا.. ثم أمريكا أخيرا. ولنضرب الأمثال لكى يعرف القارئ كيف تسيطر النزعة الدينية على الحكم وتوجه أداته تبع هواها... ص _034(1/31)
حكومات مسيحية لشعوب مسلمة لـ "لبنان " قضية ينبغى أن تألف الآذان سماعها، وأن تستحضر باستمرار مغزاها. قصة الشعب المسلم الذى تواطأت الأقوال على أنه قلة وهو كثير. والدين الذى زعموا أنه يستمتع بحريته وهو يختنق ويذوى وراء سياسة محكمة من الإقصاء والتضييق... وهى قصة تثير السخط والضحك. أما السخط، فلهذا التآمر على إخفاء الحقيقة. وتجاهل وجودها وكتم أنفاسها كلما قامت بحركة تنبئ عن حياتها... وأما الضحك- وهو بداهة ليس ضحك التبسط والسرور. ولكنه ضحك الدهشة والعجب- فهو أن المظلوم يرد الضربات عن نفسه وهو يصيح: لست متعصبا!! نعم.. هذا المظلوم يخفف من قبضة الأصابع الحديدية على عنقه، ثم يصيح- وهو لا يكاد يلتقط أنفاسه-: أنا لا أريد إماتة أحد.. أليس ذلك موقف المسلمين فى لبنان؟ إن الدستور القائم حكم أن توضع مصائرهم فى يد طائفة حاقدة. وجعل الميزان مقلوبا فى كل شأن سياسي واجتماعى. لمصلحة ثلاثمائة ألف "مارونى" اعتبروا الكثرة الساحقة، بينما اعتبر نحو مليون مسلم قلة صغيرة فإذا تحرك المسلمون بين الحين والحين لينقذوا ما يمكن استنقاذه من دينهم ودنياهم، كان الاتهام الذى ينشغل المسلمون بدفعه أنهم ليسوا متعصبين.. نسمع هذا السياسى، وهذا المفتى، وهذا الموظف، وهذا التاجر، وغيرهم من قادة الطائفة الإسلامية- كما تسمى فى لبنان- نسمع أولئك جميعا يجتهدون فى نفى تهمة التعصب عن أنفسهم. لماذا؟.. لأن الإسلام الذى يلطم على وجهه هو أول التهمة. أما المارونية التى تلطمه فهى فوق المآخذ والريبة. ص _035(1/32)
الكثرة المنكورة الحق متعصبة. والقلة المنتفخة المفتئتة على غيرها، لا. وعلى الدم الإسلامى أن يُسقك وهو ظنين موصوم.. وعلى القتلة- ومن ورائهم "أمريكا " و "إنجلترا " و "فرنسا "- أن يزعموا أن الصليبية السالبة الناهبة لم تقترف ذنبا ولم تعرف تعصبا. فإعطاء الكثرة المسلمة النزر اليسير شىء مفهوم. وتضخم القلة المارونية، ومضاعفة أنصبتها من كل شىء أمر مفهوم أيضا. وهذا ما يحكم به العقل ويرتضيه العدل. أما القول بغير ذلك فهو من الإسلام تعصب، ومن المسلمين تطلع يقاوم بحد السيف.. * * * من ثلاثين سنة اصطنع الفرنسيون إحصاء مزورا لسكان لبنان، قصدوا من إجرائه إقامة وطن مسيحى قومى بجوار الوطن القومى لليهود فى فلسطين.. ويكون من هذا الصنيع المفتعل حاجز يفصل الإسلام عن شرق البحر الأبيض المتوسط، ويمزق كيانه الممتد بين آسيا وإفريقيا. ولما كانت هذه المناطق إسلامية خالصة، ولا يوجد فيها من اليهود والنصارى إلا عدد قليل، فقد رأى الاستعمار تسخير جميع الوسائل، واستخدام القوة والحيلة، والجيش والسياسة، والخيانات المحلية والدولية لتهويد فلسطين، وتنصير لبنان.. وأقيمت دولة إسرائيل بعد استقدام الألوف المؤلفة من يهود أوروبا ليكاثروا عرب فلسطين بعددهم.. وفى عُرف السياسة الغربية يجوز وصف هذا العمل بأى صفة إلا أنه تعصب ضد الإسلام والتهام لحقوق أهله. وأقيمت دولة لبنان بعد أن زيف إحصاء غريب أهملت فيه جماهير كثيرة من السكان المسلمين، ثم ضمت فى الوقت نفسه ألوف مؤلفة من النازحين إلي الأمريكتين الذين تجنسوا من نصف قرن بالجنسيات الأمريكية المختلفة، اعتبروا جميعا مسيحيين لبنانيين. ص _036(1/33)
وبذلك ـ وبفنون عجيبة أخرى من الكذب والتشويه ـ أمكن جعل المسلمين نحو 48% من السكان. ثم جعلت شارة الدولة وأجهزتها وسياستها مسيحية من الألف إلى الياء. وأخذت السلطة التى أقامها الاستعمار ورسم لها وجهتها تؤدى وظيفتها وتمشى رويدا إلى غايتها.. فقامت سياسة التوظف على وضع المناصب الكبرى والصغرى بيد المسيحيين وحدهم، حتى ليندر أن يُرى موظف مسلم فى عمل رئيسى. ونسبة المسلمين فى الوظائف العسكرية والمدنية والخارجية لا تتجاوز 10%. وقامت سياسة التعليم على مثل ذلك. فأغلقت فى عهد "إميل إده " جميع المدارس الإسلامية. ونشطت الحكومة فى إقامة تعليم ذى صبغة معينة يتسع فى مرحلتيه الأولى والمتوسطة لعدد من المسلمين. فإذا جاء دور التعليم الجامعى سدت الأبواب فى وجه الكثرة، أو سمح لنفر يحصون على الأصابع بدخول بعض الكليات النظرية. أما الطب والهندسة، فيصعب أو يستحيل أن يتيسر أمام الطلاب المسلمين. وفى "لبنان " ثلاث جامعات مسيحية تشرف حكومة "لبنان " على إحداها، ويشرف الفاتيكان على الثانية، ويشرف الأمريكان على الثالثة. وكلها تتسابق بهمة ظاهرة لإماتة الإسلام فى نفوس المسلمين وبين صفوفهم، وتخريج طبقة من المثقفين تدين بولائها الروحى والعلمى للغرب فحسب. وفى "لبنان " التقت جهود نصارى العالم أجمع، كيما يتم إنجاح الغزو "الصليبى السلمى" لهذه البقعة... فهناك بعوث وأديرة ومدارس يسهم فى تمويلها وتعضيدها أهل السويد فى شمال أوروبا، وأهل النمسا من وسطها، عدا الفرنسيين فى الجنوب. وذلك إلى جانب جهود الأمريكان فى القارتين الشمالية والجنوبية. * * * ص _037(1/34)
كتب "جوردن جاسكيل " فى مجلة "المختار" تحت عنوان: " لبنان واحة الشرق الأوسط " عدد يونيه سنة 1958 ما يأتى: يقول المثل : " ألق حجرا على أى حشد لبنانى، وستكون واثقا من أنك ستصيب أسقفا واحدا على الأقل "! إن بيروت تزخر بالأساقفة، وبها اثنان من الكرادلة الكاثوليك ـ وهى المدينة الوحيدة فى العالم التى تجمع مثل هذا العدد عدا روما ـ ذلك فضلا عن جيش ضخم من البطاركة، والكهنة والأرشمندريت.. الخ. يتم كل هذا؟ لمحاولة تنصير لبنان! وإنشاء وطن قومى مسيحى يكمل الوطن القومى اليهودى المقام فى فلسطين. المهم هو إتمام ذلك العمل الدنئ فى صمت وليونة ما أمكن. فإذا لم ينجح هذا الأسلوب فليس هناك إلا الذبح والاستئصال للتغلب على الإسلام " المتعصب "! * * * المال والعلم والفن وصنوف المعاونات الجلية والخفية تآمرت جميعا ضد المليون مسلم المقيمين فى "لبنان " والذين يراد طيهم فى أكفان الموت الأدبى والمادى. تلك التى نسجتها الصليبية الغربية، فأحكمت نسجها. بيد أن الأمر تطلب عملا آخر، فإن المسلمين لا تزيدهم الأيام إلا كثرة، ولا بد من مغالبة هذا التزايد الذى صحبته يقظة معنوية خطيرة.. وهنا تجئ سياسة التجنيس. فقد دأبت حكومة "لبنان " على اصطياد أى مسيحى والتبرع له بجنسية لبنانية، آملة من وراء ذلك تحويل الكثرة المزعومة إلى كثرة حقيقية.. وعندما زرت "لبنان " تعرفت على بعض المصريين النازحين ابتغاء الرزق. فأما المسلم منهم فهو يحمل إذن إقامة موقوتة. وأما القبطى فقد منح جنسية لبنانية. وكذلك صنعت حكومة "لبنان " مع اللاجئين الفلسطينيين. ص _038(1/35)
المسلمون منهم يلقون الهوان والتجريح. وأما المسيحيون فقد اعتبروا مواطنين صالحين. وتوجد فى "لبنان " طائفة كردية قدمت إلى هذه البلاد وتوطنتها قبل أن يجئ الأرمن إلى "لبنان " بأمد طويل. ومع ذلك فإن الأرمن- لأنهم نصارى- نالوا الجنسية اللبنانية فى هدوء وبساطة. أما الأكراد المسلمون فقد حرموا هذا الحق.. ولما شعروا بالعلة الخافية وراء حرمانهم لجأ بعضهم إلى الحيلة. فأعلن تنصره، وسارع أولو الأمر على عجل فأعطوه الجنسية اللبنانية، فلما نالها واطمأن عاد إلى الإسلام مرة أخرى، وهنا ثارت ثائرة الحكومة اللبنانية وقرر رجالها ألا يقعوا فى هذا الفخ. وحظروا ألا يدخل أحد من الأكراد فى الجنسية اللبنانية!.. والوجه الصليبى لحكومة "لبنان " لا تستره التزويقات المصطنعة، فثوب الرياء يشف عما تحته. وقد رأى أخيرا بعض ساسة "لبنان " ألا ضرورة لهذا الرياء، فكاشف بما يضمر، وأعلن فى المجالات الدولية عن حقيقة نفسه. ومن هنا رأينا الطابع الخارجى لسياسة "لبنان " غربيا بحتا. لا على أساس من المصالح المشتركة، بل على أساس من العواطف المشتركة. وكان من المضحك أن يؤيد "لبنان " مشروع "أيزنهاور" قبل أن يؤيده البرلمان الأمريكى، وأن يكون مركزا للشغب الدائم ضد التيار العربي المتحرر. وانفجر الجمهور فى "لبنان " ضد حكومته المتعصبة الحاقدة. فماذا حدث؟ سارعت إنجلترا وفرنسا وأمريكا- وهى دول الاتفاق الثلاثى لحماية إسرائيل- سارعت إلى الوقوف مع السلطة الجائرة فى "لبنان " ومغاضبة الثورة الحرة واتهامها، ومحاولة إرغام المليون مسلم على الخضوع الذليل للحكم الذى صنعه الاستعمار وحدَّد أهدافه. وفى هذه المناسبة الدقيقة، واحتقارا للدم الأبى المسفوك فى القُطر المضطهد. يبرز فى دنيا السياسة العالمية اتفاق يجعل السيد "شاول مالك " وزير خارجية لبنان رئيسا لهيئة الأمم المتحدة. ص _039(1/36)
كأن الصليبية العالمية تقول لعملائها فى "لبنان ": لاتقلقوا، نحن من ورائكم. ثم تنشط دول الغرب الثلاث، وتتصل بالجمهورية العربية المتحدة لتحول بين عونها وبين الشعب اللبنانى الثائر. إن حكومة "لبنان " ربيبة أخرى لحكومة إسرائيل، وإن أمريكا هى الوالد الروحى والمادى لهذه الربائب الملعونة. ولو أن هذه المأساة أخذت عنوانها الطبيعى لقلنا: حلقة فى سلسلة المظالم التى يرتكبها بعض التشر مع البعض الآخر. وما أكثر ما يتغابن الناس على مر العصور. لكن المزعج فى هذه القصة أن القتيل يرضى وليس يرضى القاتل. وأن البرىء يتغاضى والمجرم يتطاول. وأن الإسلام الجريح النبيل يتحامل على آلامه، ويريد أن يتجنب العراك وألا يثير اللجاجة. أما خصومه فهم يمضون فى طريق الضغائن والافتراء لا يردهم شىء. وعندما شاعت فكرة القومية العربية، وصار لها شأن يُذكر فى ميدان السياسة وتطلع لها جمهور كبير فى "لبنان " قال رجل "مارونى" لأحد المسلمين: إن العروبة تعنى الإسلام، وأنتم تتسترون وراءها لعلة لا تخفى. فقال له المسلم: إن العروبة أوسع دائرة، وهى لا تعنى دينا ولا مذهبا! ويجب أن تفسحوا لها الطريق، وأن تُشرحوا بها صدرا. قال المارونى: مهما ارتضيتم لها من تفاسير فنحن نأباها. وعلى أى حال فنحن لسنا عربا، إننا جنس آخر ارتبط بالغرب فى روحه وفكره. وحاول المسلم الساذج أن يقنع صاحبه بأنه عربى، وأن العروبة لا تعنى الإسلام، وكان رد "المارونى": كلا، وأنتم متعصبون!. وغاظنى أن تسقط الحقيقة إلى هذا الدرك، وأن تجد الصفاقة هذه الجرأة. فقلت: هب العروبة تعنى الإسلام، فماذا فيها من تعصب؟. هل الذى يطلب حق الحياة متعصب، والذى يستكثر هذا الحق على غيره متسامح؟ ص _040(1/37)
هل القلة التى تزيف الأوضاع لتسود باسم الدين متسامحة؟ والكثرة التى تنشد العدل وتحترم الواقع هى التى تتهم بالتعصب؟! إن الفرنسيين جاءوا إلى هذه البلاد، فكذبوا على تاريخ الماضى والحاضر وأرادوا أن يجعلوا منكم ملوك لبنان كما أراد حلفاؤهم أن يجعلوا اليهود ملوك فلسطين. أفيُعتبر العرب متعصبين لكراهيتهم هذا الكذب الصراح. وتعتبرون متسامحين لأنكم صدقتم ما افتريتم، وأقمتم حياتكم عليه؟! أليس فى وجوهكم بقية حياء تمنعكم من اتهام المسلمين بصفة أنتم أسرع الناس إليها، وهم أنأى الناس عنها؟ إما أن تحكم القلة الكثرة، وأن يخنع المسلمون لغيرهم، وأن يتنازلوا فى صغار عن أحكام دينهم، وإما علت الصيحات الكذوبة تزعم أن المسلمين متعصبون. * * * وراقبت انفجار الشعور العام فى "لبنان " ضد حكومة "شمعون " وأخذت أتسمع الأنباء من هنا وهناك- أمريكا وإنجلترا وفرنسا- تساند عملاءها وتمدهم جهرة بالسلاح. والحكومة التى صنعها الاستعمار الغرب تسخر قواها فى الفتك وسفك دماء الأحرار الثائرين.. والمناطق الإسلامية تكافح- بشرف وشجاعة- ظلم الأوضاع العالمية والمحلية. والزعماء المسلمون لا يفتأون يرددون بين الحين والحين هذه الكلمات: إننا لا نقاتل عن الطائفية، ولا نقاتل ضد دين... بل كادوا يقولون: لا نقاتل عن دين... إنهم مساكين متهمون بالتعصب، فهم يردون الاتهام بهوس.. والذين يوجهون لهم هذا الاتهام هم الرجال الذين صنعوا إسرائيل على أنقاض العروبة والإسلام... والذين يريدون تكرير المصيبة نفسها فى لبنان. إن المرأة العاهرة أقدر الناس على تجريح الغافلات المحصنات. لقد علم الأولون والآخرون أن التعصب منكم بدأ، وإليكم يعود. أما المسلمون.. فهم أقرب خلق الله إلى فضائل السماحة والتلطف والعدالة والإنصاف * * * ص _041(1/38)
ولندع "لبنان " إلى مكان آخر من أرض الله.. لندعه إلى الحبشة مثلا. وسترى أن وظيفة الحكم فى "الدولة المسيحية" لا تعني شيئا إلا إرهاق الإسلام وانتقاص أطرافه، وتجميع العداوات الوافدة من الغرب لتلتقى على الكيد والصد عنه. وسياسة هذه الدول لا تتخلى عن مبدئها العتيد.. تذأب واضرب، والبس ثياب الحمل الوديع. هاجم الآخرين ثم قل: كانوا ينوون العدوان علينا. سياسة هذه الدول: أن الجزيرة- كى تأمن غوائل المد والجزر- يجب أن يتحول البحر من حولها إلى يابسة. فإذا قيل لها: لقد مرت قرون والبحر هادئ لا يثور، قالت: ربما ثار فى المستقبل، وعلى كل حال يجب أن يقاوم ظلمه المتوقع بجميع الوسائل وأن تبدأ هذه المقاومة من اليوم. وإليك صورة من هذا الاحتكار المفتعل، تؤكد خطوط السياسة الصليبية المنتهجة ضدنا. * * * فى إفريقيا الشرقية أمة إسلامية كبيرة بعثرتها الظروف السيئة على أقطار شتى، ثم أدركتها أطماع الاستعمار فنالت منها كل منال. من هذه الأمم البائسة "أريتريا" التى سقطت فى براثن الاحتلال الإيطالى، ثم البريطانى. وما كادت تنتعش قليلا وترجو الخلاص من كلا البلاءين حتى تحركت نحوها الحبشة تطلب أن تضمها إليها فيما يسمى "الاتحاد الفيدرالى". وهب الجمهور الساخط يطلب الاستقلال بأمره، والنجاة من غول التعصب الحبشى القائم. بيد أن الأحباش كانوا بالمرصاد لهذه الحركات. فأرسلوا رجالهم بالخناجر والمسدسات يقتلون الأحرار ويبثون الرعب. وعندما حاول أحد الزعماء الذهاب إلى منظمة الأم المتحدة لعرض قضية بلاده اغتاله الأحباش وهو على أهبة السفر. ص _0 ص(1/39)
ثم التقى الساسة الأحباش مع الساسة العالميين على أمر قد قدر. فضمت "أريتريا" المسلمة إلى الحبشة. وشرع هؤلاء- فور تسلمهم مقاليد البلاد- فى إزهاق روح الإسلام وقتل كل كرامة لأهله! والغريب أن دول الجامعة العربية وافقت على هذا العمل المنكر. لماذا؟ كى لا تتهم بالتعصب. وكادت المأساة تتكرر فى "الصومال ". القطر الآخر الملاصق للحبشة. وشرع الإمبراطور الإفريقى مع رجالات أمريكا وأوروبا يبيتون الشر لذلك الشعب الناهض. ولا يزال الكفاح دائرا، وليس يعلم إلا الله عقباه. ولا بأس أن ننقل هنا نبذا من كتاب "مؤامرة إفريقيا" لـ "أحمد بهاء الدين ".. يكشف جانبا من أطراف الكفاح الطويل الذى يحمل الصومال عبئه ليفوز بحريته وعقيدته معا.. قال: "هذا الصراع الذى يدور له الرأس.. هذا الصراع الذى تشترك فيه إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وأمريكا.. ليس كل شئ فى هذا البلد الصغير. فالصومال له جارة أكبر وأقوى، هى أثيوبيا. قد كان المفروض أن تجد الصومال فى جارتها الإفريقية نصيرا ومساعدا لها. كان، المفروض أن تجد فى جارتها الإفريقية جدارا تسند ظهرها إليه إذا تكاثر عليها الطامعون. ولكن الظروف السياسية ـ مع الأسف ـ جعلت من هذه الجارة مصدرا آخر للخطر على الصومال. وطامعا آخر يشترك فى الصراع فى هذا البلد الصغير. والأسباب من بينها ـ مع الأسف ـ أن أثيوبيا مسيحية، والصومال مسلمة. والأصل فى هذا العصر أن الدين لا يجب ألا يكون قضية سياسية، ولا سلاحا سياسيا. ولكننا سوف نرى بعد قليل كيف أن الاستعمار هو الذى لجأ إلى السلاح، وهو الذى بدأ باستغلال الدين. ص _043(1/40)
ومن بين هذه الأسباب- أيضا- أن أثيوبيا مرتبطة إلى حد بعيد بالسياسة الغربية عموما، والأمريكية بوجه خاص. فأثيوبيا غاصة بالخبراء الأمريكيين والضباط والطيارين الأمريكيين. وهى مرتبطة بمعاهدات كثيرة للمساعدة الفنية والاقتصادية والعسكرية. فهى الدولة الإفريقية التى يظهر فيها النفوذ الأمريكى أكثر مما يظهر فى أى بلد إفريقى آخر. ومن بين هذه الأسباب ـ أخيرا ـ أن أثيوبيا لها مطامع إقليمية فى الصومال. فعندما انتصرت القوات الإنجليزية سنة 1941 على القوات الإيطالية وطردتها من الصومال، ومن الحبشة على السواء، بقيت هناك حتى عاد الإمبراطور هيلاسلاسى إلى عاصمته "أديس أبابا" فانسحبت إنجلترا من "أثيوبيا" وبقيت الصومال حتى سنة 1950 عندما تقرر وضعها تحت وصاية إيطاليا. وقبل أن تنسحب إنجلترا من الصومال، قامت برسم خط حدود بين الصومال وأثيوبيا، وصفته بأنه خط مؤقت. وبمقتضاه انتزعت منطقة "أوجادين " من الصومال وأعطتها أثيوبيا. ومن ذلك الوقت وكل المباحثات التى تجرى لتسويتها تفشل. وأثيوبيا ـ بالذات ـ ليست متلهفة على الوصول إلى حل. فالأوجادين على أى حال فى يدها، وكل يوم يمر يثبت أقدامها هناك. وفى سنة 1955، فوجئت الصومال- كما سبق أن ذكرنا- باتفاقية سرية أخرى تعقد بين إنجلترا وأثيوبيا تعطيها بمقتضاها مناطق أخرى صومالية كانت تحت الإدارة الإنجليزية. والأوجادين منطقة مسلمة كلها، وسكانها جميعا صوماليون، ليس بينهم ولا أقلية من الأحباش. ومن ذلك الوقت ثار الصوماليون على أثيوبيا وأصبحوا يعادونها ويشكون فى نواياها، كما يعادون الإنجليز ويشكون فى نواياهم. وقد ظهر دور أمريكا فى هذه القضية واضحا، عندما نوقشت قضية الحدود بين الصومال وأثيوبيا أمام لجنة الوصاية فى الأمم المتحدة. ص _044(1/41)
لقد تقدم السيد "رفيق عشى" مندوب "سوريا" بمشروع قرار خاص بمشكلة الحدود يوصى فيه بتعيين وسيط فى حالة فشل المفاوضات بين إيطاليا وأثيوبيا لتسوية الحدود بينها وبين الصومال. وقد نشط الوفد الأمريكى فى الاتصال بوفود الدول للتصويت ضد مشروع القرار السورى. وقام "كمال الدين صلاح " والسيد "رفيق عشى" بالاتصال بالوفود للحصول على تأييدها، وقد عاونهما فى ذلك مندوبو الهند، وسلفادور، وهايت!ا. وكان يتزعم الحملة على مشروع القرار مستر "مولكاهى" عضو الوفد الأمريكى الذى يعتبر مستشار وزارة الخارجية الأمريكية فى شئون شرق ووسط إفريقيا الاستوائية، وذلك لسابق خدمته فى أريتريا. ولما كانت الولايات المتحدة قد بدأت تبدى اهتماما واضحا بهذه المناطق، واتخذت من أثيوبيا مركزا لمباشرة نشاطها وتنفيذ سياستها الإفريقية، فقد كان من المنطق أن يعارض الوفد الأمريكى فى مجلس الوصاية فى أى إجراء فيه تعريض أو إحراج للحبشة. وفى أثناء مناقشة خاصة بين "كمال الدين " ومستر "مولكاهى" ذكر الأخير أن مشروع القرار السورى سيكون له رد فعل سيئ فى الحبشة، لأنه مقدُّم من دول إسلامية! والأحباش يشعرون أنهم جزيرة مسيحية فى بحر إسلامى. ويشعرون بالأخطار التى تهدد كيانهم من كل جانب! ويبدو أن الفقرة الأخيرة من كلام المندوب الأمريكى كانت فلتة لسان. فقد حاول بعد ذلك أن يفسرها بمعنى آخر، وأن يقول: إن هذا تفكيره الشخصى. فأجابه "كمال الدين " بأنه لا مبرر لمثل هذا الشعور أو التفكير، وأن الاعتقادات الدينية وحدها ليست أساسا تبنى عليه تصرفات الدول. ثم إن رفض مشروع القرار السورى معناه بقاء مشكلة الحدود معلقة مع ما يؤدى إليه ذلك من متاعب وعدم استقرار فى هذه المنطقة. وقد وافق المجلس على الاقتراح السورى. على أننا يجب أن نقف لحظة عند فقرة مهمة وردت فى كلام المندوب الأمريكى عن شعور الحبشة بالأخطار التى تتهدد الحبشة من كل جانب!.. ص _045(1/42)
ما هى الأخطار التى تتهدد الحبشة من كل جانب؟ إن كل الدول المحيطة بها إما مستعمرات، أو دول مستقلة أقل منها قوة. ولم يعرف أحد أن هناك دولة واحدة فى هذه المنطقة لها مطامع فى أى مكان على الأرض... إنها كلها شعوب تريد أولا أن تستقل أو أن تحل مشاكلها الداخلية. ثم إن أثيوبيا فى منطقة بعيدة عن التوتر الدولى والحروب الباردة.. فهى نموذج للبلد الذى لا تتهدده أى أخطار... ولكن السياسة الأمريكية- فيما يبدو- يهمها إفزاع دولة كأثيوبيا وإقناعها بأن هناك أخطارا وهمية تحيط بها، وتخويفها كذبآ بأنها جزيرة مسيحية فى بحر مسلم!! فبذلك تستطيع أن تتغلغل، ولن تستطيع أن تبنى فيها قواعد عسكرية إلا إذا أقنعتها بأنها للدفاع عنها "ضد خطر ما".. وقد أثمرت هذه السياسة حتى فى المسائل الخارجية البعيدة نسبيا عن أثيوبيا. فعندما نوقشت قضية الجزائر فى الجمعية العامة للأم المتحدة صوتت أثيوبيا ضد طلب إدراج القضية، كما صوتت الولايات المتحدة. وكان غريبا أن تصوت دولة إفريقية قاست الاستعمار خمس عشرة سنة ضد حرية شعب إفريقى آخر يكافح بالدم ضد الاستعمار!.. إنه موقف غريب، جاء ثمرة السياسة الأجنبية، التى تريد أن تخلق العقد النفسية، وتخلق أسباب التنافر بين الدول الإفريقية بعضها من البعض الآخر... رغم أنها دول متحدة المصالح فى واقع الأمر". * * * وأغرب من ذلك التعاون الوثيق بين حكومة الحبشة النصرانية وإسرائيل! لقد وحدت عداوة الإسلام بين الخصوم الأقدمين. فإذا سلسلة الغدر تستحكم للإجهاز عليه... واسمع إلى هذه الحقائق: ا- إن الاستعمار جعل من اليهودى "ناتان مادين " الإسرائيلى مستشارا قانونيا عاما للحكومة الأثيوبية. ص _046(1/43)
وهو أيضا النائب العام المختص بوضع قوانين الدولة... 2- أعادت وزارة الخارجية الأمريكية الدكتور "سبنسر" اليهودى الأمريكى إلى أثيوبيا ليكون مستشارا لوزارة خارجيتها. وهو يشغل هذا المركز منذ عهد الرئيس روزفلت (عام 1944). 3- إن مستشار وزارة التجارة والصناعة هو البريجادير "فرانكو ستافورد" وهو يهودى إنجليزى أعارته بريطانيا لأثيوبيا لكى يشرف فيها على شئون التجارة والصناعة . * * * لقد ضحكت ضحكة العارف بما هنالك عندما سمعت اقتراح فصل الدين عن الدول يعرض علينا- نحن المسلمين- لنأخذ به ونستريح إليه!! فى هذا العصر الذى استطاعت شتى النحل أن تسخر كل ما ينطوى عليه معنى الدولة من سلطة ونفوذ لدعم كيانها. وتوهين غيرها، يقال للمسلمين: من الخير فصل الدين عن الدولة..! فى هذا العصر الذى استهدف الإسلام فيه لحرب اشتركت فيها شعوب مضللة وحكومات جشعة مجرمة، والتقت على المكر به سطوة القهر ولين الخداع، يقال لنا: من الخير فصل الدين عن الدولة..! والحقيقة الكالحة أن الدين فى أوروبا لم يستغل الدولة لبلوغ أهدافه. بل إن الدولة هى التى استغلته لبلوغ مآربها!.. أى أن الدين فى منطق الاستعمار لا يعدو أن يكون مطية لأمانيه السافلة فى خنق الحريات، وسحق الأمم، وتسويغ الجور، وإبقاء قارات بأكملها بقرة حلوبا لحفنة من المغامرين والخطفة!! إن من حق المسيحية أن تبشر بعقائدها، وأن تعرضها على كل ذى لب كى يقبلها أو يرفضها. وذلك حق نقرره لكل دين. لكننا نشمئز من أن تقوم الأديان بدور الوسيط فى سياسة الغشم والغصب وسرقة المال وسفك الدم... ص _047(1/44)
ووددت لو أن المسيحية نزهت نفسها عن القيام بذلك الدور. لكنها لم تفعل. وهاك فصلا يميط اللثام عن بعض المناكر التى تقترف فى ذلك المجال: الدين فى خدمة البترول.. قسيس إيطالى اسمه "فليبينى" يروح ويجىء فى أنحاء الصومال منذ خمس وعشرين سنة. إن مهمته الرسمية هى أنه رئيس بعثات التبشير الكاثوليكية فى الصومال. ولكن الإدارة لا تعامله معاملة قسيس عادى. فهو متمتع بالحصانة الديبلوماسية، والإعفاءات الجمركية. وسيارته الخاصة تحمل رقما من أرقام "الهيئة السياسية". إن مهمة هذا القسيس سياسية فى الدرجة الأولى. وكذلك مهمة كل بعثات التبشير! لقد تعود الشرق منذ زمن بعيد أن يكون شعاره: الدين لله والوطن للجميع. وأرض هذا الشرق هى التى أنبتت كل الأديان، فكان من الطبيعى أن تألف وجود الأديان المختلفة جنبا إلى جنب. ولم يعرف الشرق أبدا الحروب الدينية التى عرفتها أوروبا مثلا. لم يعرف الشرق الحروب الدينية إلا على يد أوروبا التى كانت تبرر موجات غزوها للشرق بأسباب دينية، كما تفعل الآن إسرائيل.. وفى إفريقيا- بالذات- نجد أن الاستعمار لا يتورع عن استخدام الدين وجعله مطية لتحقيق أغراضه... إن الشعب الصومالى شعب مسلم، منذ أكثر من ألف سنة. فإذا كان الغرب يحترم كل الأديان ويقدرها كما نحترمها ونقدرها نحن فى الشرق.. فلماذا يحاول أن يخرج هذا الشعب عن دينه؟ أليس هذا- وحده- عدوانا واستفزازا وإثارة للمشاكل..! فما بالنا إذا كان الأمر ليس قاصرا على الدعوة الدينية فقط.؟ ص _048(1/45)
ما بالنا إذا كان هذا التبشير الدينى يسير دائما فى ركاب الاستعمار، متلونا بلونه، متلائما مع ظروفه، ملبيا لحاجته..؟ فى الأصل كانت أكثر البعثات التبشيرية فى الصومال بعثات بروتستانتية. فلما دخل الاستعمار الإيطالى، أخذ يطارد المبشرين البروتستانت، حتى تخلص منهم وأفسح المجال أمام المبشرين الإيطاليين... الكاثوليك!... والآن... منذ سنوات فقط. أى نفوذ سياسى واقتصادى بدأ يجتاح العالم الغربى على أنقاض النفوذ الاستعمارى القديم، إيطاليا، أو فرنسا، أو إنجلترا.. إنه النفوذ الأمريكى. ومن أجل ذلك بدأ زحف المبشرين الأمريكيين- البروتستانت- يغزو الصومال... دخلها مع النقطة الرابعة، وشركات التنقيب عن البترول، والخبراء! وكانت هذه معركة أخرى على "كمال الدين صلاح " أن يواجهها.. عندما ذهب أول الأمر، كانت السطوة ما تزال فى أيدى بعثات التبشير الإيطالية، كان "فليبينى" الذى يقيم فى الصومال منذ 25 سنة حتى عرف لغة البلاد، وأهلها، وعاداتها، وتقاليدها، هو النجم اللامع والأب الروحى للتبشير. وكان "أدموندو" هو ابن التبشير وتلميذه البكر... إن "أدموندو" ليس إيطاليا، ولكنه صومالى. صومالى مسلم فى الأصل. اسمه "محمد شيخ عثمان " ولكنه دخل- منذ كان صبيا- فى مدارس التبشير وارتد عن الإسلام. ولكنه عندما كبر ودخل الحياة العامة ترك المسيحية وعاد أدراجه إلى الإسلام. وظل أمام الناس- وأمام نفسه- بغير دين، وبغير اسم... والإدارة الإيطالية تهتم بأن تمنح خريجى مدارسها التبشيرية أحسن المناصب وأكبر المرتبات حتى يظهروا متفوقين على أهلهم وأقرانهم الباقين فى الإسلام، أملا فى أن يكون فى هذا دعاية كافية للتبشير.. أما "أدموندو" الابن البكر للتبشير، فقد أسست الإدارة له حزبا اسمه الحزب الديمقراطى، وعينته سكرتيرا عاما له وأرسلته إلى "روما" ليتمرن فى وزارة الخارجية الإيطالية.. فمن يدرى؟. ص _049(1/46)
لعله يكون فى المستقبل وزيرا أو سفيرا، فلا ينسى أن يكون عميلا لأرباب نعمته. إنه نموذج حى فريد من نماذج الأشخاص الذين يصنعهم الاستعمار. فبعد أن يسلبهم كل مقومات الشخصية السليمة، فى التاريخ والكيان، والبناء النفسى، يدفعهم إلى المراكز العليا والمسئوليات، لأنه يعرف أن لا خطر منهم قط بعد أن انتزع منهم كل صفحات الشخصية والاستقلال!.. ولكن حركة التبشير الإيطالية لم تلبث أن بدت ضعيفة خائرة إزاء الغزو البروتستانتى الجديد الآتى مع الأمريكان.. لقد وصلت إلى الصومال بعثتان على التوالى، الأولى، بعثة Somulia minuaita moniin يرأسها قسيس بروتستانتي اسمه "ويلبرت لند"... والثانية برئاسة قسيس آخر اسمه "مورديكر".. وقد بدأت كل بعثة بإقامة مركز تعليمى لدراسة اللغة الإنجليزية والدين. وبدأ رئيسا البعثتين يهاجمان الدين الإسلامى والمعتقدات الإسلامية علنا. وبسرعة تحسد عليها البعثتان، بدأتا تتدخلان فى القضايا المحلية والسياسية وفى مقدمتها: قضية اللغة. أصبحت كل من البعثتين مركزا للحملة على اللغة العربية وثقافتها وتراثها، ومركزا للدعوة الاستعمارية السياسية إلى كتابة اللغة الصومالية بحروف لاتينية. بل إن القسيس "مورديكر" أعلن أنه لن يقبل فى مدرسته من يتعلم اللغة العربية. حتى إن بعض الشباب الراغبين فى دخول مدرسة التبشير لمجرد دراسة اللغة الإنجليزية، كانوا يخفون دراستهم للغة العربية حتى لا يتعرضوا للطرد! وفى خارج العاصمة، أحضر "مورديكر" أسطوانات تتكلم باللغات: العربية، والصومالية، والإنجليزية، داعية الأهالى إلى ترك الدين الإسلامى، واعتناق المسيحية. فكان الأهالى فى بعض المناطق يتركونها تصرخ، وفى مناطق أخرى كانوا يقذفونها بالحجارة، ويطردونها من قراهم. إنه من المحزن أن يستخدم دين ما ضد الحرية والحق، وضد الخير والسلام. ص _050(1/47)
وموقف المسيحية من معاضدة الاستعمار سوف يجر عليها مخازى كثيرة. انظر ما كتبه "إدلاى ستيفنسون " عن الحالة فى إفريقيا. قال: إن هذه القارة الواسعة الممتدة حوالى خمسة آلاف ميل لا تستقر فيها الأحوال. ففى الشمال حيث مراكش، وتونس، والجزائر، ثارت الكثرة العربية على القلة الفرنسية. وفى الجنوب تتحكم جماعة من الأوروبيين وهى فى حالة خوف دائم من أن تكتسحها جماهير الإفريقيين. ومن الوضح أن المشكلة ستبقى ما دام هؤلاء مصممين على اكتساب حريتهم كاملة، وإتاحة الفرص الاقتصادية الواجبة لهم. وفى المناطق المزدحمة بالسكان البيض مثل "كينيا" و"روديسيا" ينظر الإفريقيون بشراهة إلى الأرض الجيدة التى يحتفظ بها الأوربيون. ولقد حكى لي أحد المبشرين قصة ذلك الإفريقى الذى تحدث عن أحوال قومه بصراحة تامة قائلا: "عندما جاء الأوربيون كانوا يملكون "الإنجيل " وكنا- نحن- نملك الأرض. أما الآن فقد أعطونا الإنجيل وأخذوا منا الأرض ". نعم.. أعطوهم الإنجيل وأخذوا منهم الأرض. هذا هو العوض العادل الذى ارتضاه الفاتحون المتدينون!! الفاتحون الذين يسمون طلب الحرية مشكلة، والتطلع إلى الأرض المغصوبة شراهة، وقتال المغيرين عليها رجعية!! ولعلهم عندما أعطوهم "الإنجيل " لفتوا أنظارهم بقوة إلى الآيات المشهورة فيه: "من ضربك على الخد الأيمن، فأدر له الأيسر، ومن سخرك ذراعا فامش معه ميلا". لفتوهم إلى هذه الآيات لتكون أساس السلوك الواجب على السود بإزاء البيض أو الواجب على المسلمين بإزاء أهل الكتاب أجمعين من صليبيين وصهيونيين. ص _051(1/48)
وأخيرا نثبت هنا ما سجله الشهيد "كمال الدين صلاح " مندوب مصر فى هيئة الوصاية الصومالية. فقد وعى ملاحظتين مهمتين يجب أن نحفظهما نحن وأن نتدبرهما: الأولى: أن كل بعثات التبشير، والشركات والهيئات الأمريكية التى تعمل فى الصومال تخضع لإشراف ورياسة سفير الولايات المتحدة فى "أديس أبابا" عاصمة الحبشة. تلك العاصمة التى تعتبر الآن نقطة الارتكاز الأولى لأمريكا فى قلب إفريقيا. وأن سفير الولايات المتحدة فى "أديس أبابا" كان فى الأصل قسيسا من رجال التبشير. والثانية: أن كل البلاد التي اختارتها بعثات التبشير لممارسة نشاطها الدينى تتركز فى مناطق معينة- مناطق تنقب فيها الشركات الأمريكية للبترول- أو تبحث فيها عن مغنم اقتصادى-.. أى أن وجه التبشير ما يبدو إلا مقنعا، وأن أداته ما تسير إلا فى ظلال أعمال أخرى. وهذه السيرة الدائمة اللازمة لسياسة أمريكا هى التى جعلت التعاون المسيحى الإسلامى يفشل، وهى التى جعلتنا نقلب النظر فى مؤتمرها. ثم ننقلب آسفين. ص _052(1/49)
ذئاب الحبشة تنهش الإسلام! أمة تذبح. ودين يذوب. أما الأمة فتسعة ملايين إنسان فى الحبشة. وأما الدين فهو الإسلام الحنيف وراء ستار لا يخترق، وداخل سجن معتم مترامى الأطراف تقع هذه المأساة التى تمزق الأكباد. تفتن أمة عن دينها لترتد عنه بالجوع والتشريد والحديد والنار.. ودون أن يسمع لها أنين، أو تُشهد لها عَبرة، أو يسمح لأحد من المسلمين فى أنحاء الدنيا بكلمة عطف فضلا عن صيحة زجر، وصرخة إنذار وتألم. لقد كنت أعرف- كما يعرف الثقات- أن ثلثى الحبشة مسلمون. وكنت أدرك- على سبيل الإجمال لا التفصيل- أن هذه الكثرة المنكودة تعانى ضغطا يوشك أن يكتم أنفاسها حتى جاءنى نفر من المجاهدين الفارين، يحدثنى بالهول الذى ترك خلفه، يصلاه جمهور المسلمين البائسين. وآثر أن يودع ما لديه رسالة تنضح بالأسى والصدق، وتنطق بما هنالك من مظالم تقصم الظهور. وهذا نص الرسالة.. أنشرها كما جاءتنى، لعلها تعرف الجاهلين، وتذكر الغافلين. ص _053(1/50)
بسم الله الرحمن الرحيم سيدى.. نحن من "هرر" طالبان فى الأزهر الشريف. ومن حديثنا هذا الموجز ستعرفون لماذا لجأنا إليكم. إننا نود أن نقدم إليكم عرضا سريعا عن حال المسلمين فى الحبشة. ولكى تأخذوا فكرة مختصرة تتعرفون منها على حال المسلمين فى الحبشة وماهم فيه من اضطهاد، وعلى مستقبلهم وما يبيت لهم من عسف. نأسف إذ ننقل إليكم ما قاله "إمبراطور الحبشة" فى "الكونجرس الأمريكى" فى أثناء زيارته للولايات المتحدة منذ سنوات عندما سئل عن أهدافه وبرامجه لنهضة بلاده قال: "إن أهم الأهداف التى نسعى إليها هو توحيد الدين واللغة فى بلادنا، وبدون ذلك لا يمكن أن نحقق شيئا من التقدم ". ولما سئل عن المسلمين قال: "نعم.. توجد هناك أقلية مسلمة فى الجنوب (إقليم هرر) اعتنقت الإسلام بتأثير الأجانب، وقد وضعنا لها برامج منذ اثنى عشر عاما، فلا يمضى وقت طويل إلا وقد عادت إلى حظيرة دين آبائها". هذا ما قاله إمبراطور الحبشة الذى يملك مصير الشعب هناك، وهو الحديث نفسه الذى تعرض له فى خطاب العرش عند افتتاح البرلمان الصورى فى سنة 1957، وإن كان فى صورة مقنعة. فإلى أى مدى يمكنكم التنبؤ بما قد يصيبنا فى المستقبل إذا كانت هذه هى إرادة الإمبراطور الممتلئ بروح العداء والمقت والكراهية للإسلام؟ والذى يجعل من هذا كله وسيلة لدعم سلطانه فى نفوس المسيحيين، واكتساب احترامهم ومحبتهم "كحامي حمى المسيحية" و "منقذ الصليب المقدس ". وهى إرادة لها جميع الإمكانيات لتنفيذ ما ترسمه، إذا عرفنا أنه الحاكم المستبد المطلق الذى لا يقف فى وجهه أحد. ص _054(1/51)
وتؤيده فى ذلك الكنيسة التى تدعم فكرة كونه المختار من الله ليحمى الحبشة "المسيحية" من "المسلمين " والتى تثبتها فى عقول المسيحيين هناك بكل وسيلة. وهى بذلك قد أعطته السلطة الدينية إلى جانب سلطاته الدنيوية. * * * والواقع أن محاربة الإسلام والمسلمين فى الحبشة لم تبدأ فى عهد "هيلاسلاسى"، بل تمتد جذورها إلى زمن بعيد حيث كان الصراع مستمراً بين "هرر" معقل الإسلام فى ذلك الجزء من إفريقيا، وبين الحبشة المسيحية. ففى خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر حدثت معارك رهيبة بين "هرر" والحبشة المسيحية. استولى فيها المسلمون على أراضى المسيحيين "شوا، عندار، تجرى، فوجام " وغيرها من البلدان، وحكموها سنين عدة. وأشهر هذه المعارك حملة الإمام "أحمد بن إبراهيم " القائد الهرى، ومن بعده الأمير نور. ولم يتمكن المسيحيون قط من غزو أراضى المسلمين إلا فى أواخر القرن التاسع عشر عندما بدأت المنافسة بين الاستعماريين الغربيين فى ابتلاع إفريقيا. وخاصة شرقى إفريقيا الذى بدا جليا خطورة مركزه الاستراتيجى بعد حفر قناة السويس بالنسبة لحماية المصالح التجارية. وبذلك سارعت كل من فرنسا، وإيطاليا، وبريطانيا إلى احتلال السواحل الشرقية للقرن الإفريقى. وكانت البرتغال إحدى الدول الاستعمارية التى كانت تطمع من وقت طويل فى احتلال "هرر" لولا فشل جميع محاولاتها. ولم تكن هناك وسيلة إلا استغلال العداء التاريخى والدينى فى نفوس الأمهريين ضد الهرريين، فحملتهم بذلك على إثارة حرب كانت هى ممولته تمويلا هائلا. فسقطت أقدم مدينة فى شرق إفريقيا، وأكثرها مدنية وأكبر معقل من معاقل الإسلام فيها. وقد وقف إلى جانب الأحباش فى هذه الحرب جنود البرتغال، وعشرات المدافع الثقيلة، وكثير من الأسلحة الخفيفة. ص _055(1/52)
على حين لم يكن للهرريين غير بضعة مدافع (أقل من عدد أصابع الكف)، وكان اعتمادهم على الأسلحة التقليدية، وبذلك استشهد أفراد المدفعية، وكان معظمهم من المصريين الذين استوطنوا هرر. بعد انسحاب الحامية المصرية قبل ذلك بثلاث سنين. وانحسرت المعركة عن انهزام الجيش الهررى، والحق أنه استشهد كله. وهكذا سقطت هرر العاصمة سنة 1887، ودخلها الأمهريون ولم يكونوا يفكرون فى حكمها، بل فى فرض جزية على أميرها مع غرامة حربية، وعلى ذلك تم الاتفاق ووقعت المعاهدة، ولحين استفياء الدين تبقى هرر محتلة مدة أقصاها عشر سنوات، ولم تمانع البرتغال فى ذلك مادام الوقت يتسع. وهنا بدأ الصراع بين كل من بريطانيا وفرنسا اللتين رأتا فى البرتغال منافسا خطيراً. فعملتا بجميع الوسائل حتى أزاحتاها عن الميدان، ووقعتا معاهدة مع الإمبراطور "منليك " تتعهدان له فيها بإقامة إمبراطورية تشمل جميع الممالك الإسلامية التى لابد من سقوطها بعد سقوط "هرر"- ذات المكانة العظيمة فى نفوس المسلمين-، وتعترفان له بمملكة "هرر"، وبذلك أحلتاه من الاتفاقية الهررية الأمهرية. والغريب أن بريطانيا وفرنسا كانتا قد حضرتا هذه الاتفاقية. وأخذتا- مقابل ذلك- أراضى من الجنوب والشرق. فأخذت " بريطانيا " الجنوب، واستولت "فرنسا " على الشرق فضلا عن امتيازات هائلة لهذه الأخيرة فى المديرية الشرقية، منها مد خط حديدى، يصل ثغر "جيبوتى" بـ "أديس أبابا" مارا بالمديريات الشرقية والشمالية، واحتكاره لمدة تسعة وتسعين عاما فى مقابل مبلغ لا يقوم بنفقات عمارة واحدة. وجعلت "فرنسا " قاعدة هذا الخط الحديدى مدينة "دريدوه " عاصمة المديرية الشرقية حتى تتمكن في إدارة الإقليم مباشرة. فكان القنصل الفرنسى فى "دريدوه "، "هرر" هو الحاكم الحقيقى، وإن كان القنصلان الإيطالى والإنجليزى يزاحمانه فى هذا النفوذ، وخاصة فى المديريات الغربية والجنوبية...، حيث تتاخم حدودهما إقليم هرر. وقد اتخذ الصراع(1/53)
الديني منذ ذلك شكلا جديدا بإضافة الصراع السياسى إليه. ودخل الميدان فرنسا وبريطانيا، وبدأت محاربة الإسلام بوسائل أخرى. ص _056
ولم يكن هم فرنسا أن تبسط نفوذها على الحبشة بقدر ما كان يهمها أن تبسط نفوذها على هذا الإقليم الخصيب الذى كان له أهميته الاستراتيجية والاقتصادية، والروحية بعد أن وطدت أقدامها بواسطة الأمهريين، وقدمت لهم مساعدات عسكرية وفنية... وفى أثناء مد الخط الحديدى شرد الآلاف من الناس، وأحرقت قرى، وأبيد الذين أبوا أن يجلوا من أراضيهم دون تعويض أو حماية لحقوقهم. ولم يسمع أحد عن هذه المجازر الرهيبة، وكانت تشبه مجازر الأمريكيين فى الهنود الحمر تماما... وأدركت "فرنسا" أن أهم شئ يجب القضاء عليه هو اللغة العربية والحروف العربية اللتان ذاقت منهما الكثير فيما استعمرته من الأراضى. فأوعزت إلى الإمبراطور بفتح باب الهجرة الإجبارية للمسيحيين من ناحية، واستعملت نفوذها من ناحية أخرى فى التقليل من مكاتب القرآن، فى الوقت الذى فتحت فيه مكاتب تبشيرية ومستشفيات ومدارس، ونشرت دعايات باللغة الحبشية فى الكتب والمنشورات وغيرها. وزحف جيش المهاجرين من الشمال ووقعت القرى الهررية تحت أفظع نوع من الإقطاع، ونظام التبعية، وصار الناس عبيدا بكل مافى هذه الكلمة من معنى. وأرغم الإقطاعيون سكان القرى والفلاحين الذين يعيشون فى أراضيهم على حضور القداس وحمل صليب خشبى على رؤوسهم كل يوم أحد كنوع من إظهار الولاء لسادتهم!! وكانت القيود والسياط هما اللغة الوحيدة التى يخاطب بها أولئك الفلاحون المساكين. ونزلت إلى ميدان التبشير البروتستانتية مع الأرثوذكسية التى كانت تساعدها الحكومة باضطهاد المسلم حتى يلجأ إلى التنصر. وفعلا كانت تحصل حالات نادرة من ضعاف النفوس حيث كان يتعمد الأمهريون إعطاءهم أراضى واسعة ونياشين، بل يضعون تحت تصرفهم كثيرا من الفلاحين الذين كانوا إخوتهم بالأمس. ص _057(1/54)
ودار الزمن، وعجلة الإقطاع لاتكف عن السحق والدق. فاستولى "هيلاسلاسى" على العرش. وكان أول مافعله هو التخلص من الزعماء الهرريين الذين كانوا لايزالون يطالبون بحقهم فى الجلاء وإعادة ممتلكاتهم وأراضيهم، فسادت موجة من الجرائم الغامضة والخطف والاغتيال حتى كادت العاصمة تخلو من إنسان يفكر فى أمته وغده بعد أن تركز عليها الاضطهاد بكافة أنواعه.. باعتبارها مقرا لخلاصة الطبقة الوطنية والمثقفة لجميع القبائل فى ريف هرر. غير أنه- بالرغم من ذلك الاضطهاد والاستبداد، وانتزاع الأراضى وتجويع الناس، وكبت حرياتهم- لم يستطيعوا قتل الروح الوطنية فى الشعب تماما. ولم تكف أصابع المبشرين الفرنسيين ـ الذين كانوا مدرسين على حساب الحكومة ـ من الكيد للغة العربية بغية محوها... بيد أنهم فوجئوا بالغزو الإيطالى بعد أن كادت محاولاتهم تنجح نوعا من النجاح. واستولى الإيطاليون على الحبشة فى أواخر 1935. وبذلك توقف أدنأ برنامج بيت لشرق إفريقيا. وكان ذلك الاحتلال ضربة قاضية لفرنسا وتلميذتها. فتحطمت السلاسل والقيود التى كان يرسف فيها المسلمون فى معظم الحالات باعتبارهم الطبقة العاملة التى عليها أن تدفع الضرائب والجباية والعشور... إلى غير ذلك من وسائل السلب والنهب. وكان يخول الإقطاعى أن يحكم بنفسه على أى فرد تحت إمرته. ويقيد بالسلاسل ويقضى عليه بالشنق أحيانا فى بيته دون اللجوء إلى الحاكم. خرج من سجن "هرر" وحده أكثر من سبعة آلاف شخص. ظل بعضهم مقيد الرجلين واليدين على شكل قوس لمدة أكثر من عشرة، وخمسة عشر عاما. فلما أفرج عنهم لم يعودوا إلى حالتهم الطبيعية. إذ تشكل العمود الفقرى بذلك الشكل القوسى. واختفت السياط الرهيبة التى يزن الواحد منها أكثر من خمسة وعشرين رطلا وهى عبارة عن سيور جلدية مضفورة بإحكام تتدرج فى الدقة؟؟ حتى الطرف. ص _058(1/55)
واختفى الرق أيضا. وتنفس المسلمون الصعداء، إذ وقفوا لأول مرة منذ أكثر من خمسة وأربعين عاما سواسية مع المسيحيين. وأعيدت لهم معظم أراضيهم. وبدأوا يشعرون بأنهم بشر. ونشطت حركة التجارة التى كانت قد ماتت تماما. كما افتتحت المدارس العربية وظهرت الصحف المحلية. وجئ بمدرسين من طرابلس الغرب. ولكن هذه الفترة لم تطل: فما إن أطل شهر مايو من عام 1941 حتى عاد الأمهريون فى ركاب البريطانيين وحدثت عدة ثورات تولت بريطانيا إخمادها بوحشية. وانبعث من جديد عواء السلاسل، وفرقعة السياط. وعادت شهوة الانتقام والسيادة أعنف من ذى قبل. كأنما يستدركون الأيام التى فاتتهم إبان الاحتلال الإيطالى. وانطلقت الكنائس معلنة لا عن التسامح والأخوة. بل عن الحقد والكراهية، وبانطلاقها انطلقت كل الأشياء التى كانت تجعل من المسلمين عبيدا وخدما. فأزيحوا عن الوظائف التى كانوا يشغلونها. وسرح الجند منهم والشرطة. وصودرت الأملاك من جديد، حتى تلك التى وهبتها الحكومة الإيطالية عوضا لمن لحقتهم خسائر مادية. ولكم أن تتصوروا مدى البغضاء التى امتلأت بها نفس "هيلاسلاسى" حين رأى الجيش الذى هزمه فى معركته ضد الإيطاليين (وكان معظمهم من المسلمين الطرابلسيين والصوماليين وغيرهم). وهذا من الأسباب التى جعلته عازما على استئصال شأفة الإسلام والمسلمين فى الحبشة بأى ثمن. وذلك ما أشار إليه فى الكونجرس الأمريكى متحدثا عما زعمه أقلية مسلمة تعيش فى الإقليم الجنوبى. وأنه وضع لها برنامجا خاصا. وهنا- فقط- لم يتوخ الدقة فى التاريخ. فبدلا من اثنى عشر عاما كان أولى به أن يقول: خمسة عشر عاما. وهو الوقت الذى تنازلت فيه الإدارة البريطانية له عن إدارة هذا الإقليم. ومنذ ذلك الحين وضع خطة جديدة بدأها بالمصادرات الجماعية للأراضى التى كان الإيطاليون قد أعادوها إلى أصحابها الحقيقيين. ثم مطالبة ملاك الأراضى الصغار ص _059(1/56)
بضرائب السنين الخمس وما قبلها حتى عجز صغار الملاك عن الدفع. فاستولى عليها. ووزعها على عائلته. وهى بدورها بدأت تؤجرها بأجور مرتفعة للفلاحين. ثم عزل سكان المدن عن الريف. وحزم على أهل المدن الانتقال إلى القرى إلا بإذن خاص. كما عزل المديريات بعضها عن بعض. وفرض قيودا ثقيلة على التنقل بينها، وذلك إلى جانب الدعايات الكنسية ضد المسلمين. ويتحمل كل مسيحى حماية الدولة... وبذلك أصبح لكل فرد منهم حق اتهام أى مسلم لأقل سبب وتقديمه للمحاكمة. وأى موظف لا يركع له المسلم فى مكتبه حينما يدخل عليه يعتبر ذلك إهانة موجهة إلي السلطة العليا التى تمثل الذات الملكية، وجزاؤه أن يجلد 45 جلدة- ربما لا يبقى حيا بعد عشرين منها- وأن يحبس مدة تتراوح بين سنتين وخمس سنين. وأى كلمة يقولها المسلم يمكن أن تفسر تفسيرا سياسيا ضد الدولة. وتعتبر جريمة يعاقب عليها. وبذلك تعرض المسلمون للون جديد من الإرهاب.. أساسه الظنة والاتهام. وإذا كان الحاكم والقاضى والشرطى وسائر الموظفين مسيحيين، وجميع السلطات مسيحية فإلى أى مدى يمكن أن يتعرض المسلم للظلم؟ وأى إجحاف واضطهاد يقعان عليه دون أن يملك ردا أو يستطيع دفاعا؟ والمحاكم دائما ملأى بالمتهمين. والسجون غاصة بالمظلومين وكثرتهم من المسلمين. فهم دافعو الضرائب والغرامات. ومتحملو الخسارات. وهم الذين أرهقتهم الأثقال الجائرة. فعجزوا عن الدفع.. فاستضافتهم السجون. وما أسهل أن تنسب الحوادث التى ترتكب- ولا يعرف فاعلها- إلى المسلمين!. وهاكم حادثة وقعت سنة 1946: فى قرية صغيرة من قرى "كمبولتشا"- إحدى المراكز شرقى العاصمة "هرر"- وجد جندى أمهرى قتيلا. فبعثت الحكومة كتيبة مؤلفة من مائتى رجل بكامل أسلحتهم. واقتحموا القرية ليلا وقتلوا منها أكثر من ثمانين شخصا، منهم الشيخ والطفل والمرأة. وأحرقوا الأكواخ عن آخرها. ونهبوا المواشى. وزجوا بالعشرات فى السجون وذلك كله قبل أن يتحروا عن الحادث. ص _060(1/57)
وبعد مضى مدة تبين أن القاتل كان زميلا للقتيل... فى فرقته نفسها فاتهمه بعلاقته بامرأته. وهكذا ذهب أولئك المساكين ضحية الخيانة والانتقام والحقد والكراهية. هذا واحد من مئات الأمثلة التى حدثت ولا تزال تحدث فى كل وقت مادام هناك حاكم أمهرى. ومحكوم مسلم. ومادام المسلمون يقرءون القرآن العربى. ولقد كانت خلال هذه السنوات ثورات ضد هذا الظلم، ولكن قوى الشر والاستعمار. وأصحاب المصالح تكتل ضدها، فتخمدها. ففى "جرسم " مثلا ـ إحدى المديريات الهررية التسع ـ ثار الشيخ عبد القادر آدم ضد الضرائب الفادحة التى فرضت على هذه المديرية، وضد الأوامر التى كانت تقضى بأن يخبز نساء المركز المسلمات جوالا من الدقيق كل أسبوع للمعسكر ويحملنه إليه. وبعد أن دخل رجال الثورة الغابات للمقاومة جمعت الحكومة الشيوخ والأطفال والنساء فى أكواخ كل عشرين أو ثلاثين منهم فى كوخ.. وهو يبنى عادة من الحشيش أو القصب، وسكبت عليها صفائح البنزين فأحرقت جميعا بمن فيها. والذى أمر بهذه الجريمة المروعة لا يزال موجودا، وهو وزير الحربية الرأس "أببا أراغى". أما المواشى فقد أبيدت بالسم والرصاص. وكان هذا العمل انتقاما من الرجال الذين لجأوا إلى الغابات. ومن جهة أخرى لبث الرعب فى القرى المجاورة. وكانت هذه الأعمال تسير جنبا إلى جنب مع جميع أساليب الاضطهاد الوحشية سواء فى المحاكم أو فى السجون أو فى المصالح الحكومية. بل فى المستشفيات، والمراكز التبشيرية. وللمبشر الأرثوذكسى ـ وهو الدين الرسمى للحكومة ـ حق مطالبة إعدام أى مسلم دون إبداء الأسباب أحيانا، واتهامه بانتقاص الدين الرسمى أحيانا أخرى. وهذه الأشياء لا تظهر فى المدن بالطبع، بل تتركز فى القرى النائية البعيدة عن العمران، ولهم فى تكتم الأخبار ألف وسيلة ووسيلة. وما إن أهل عام 1948، وقد بلغ حدا بعيدا، حتى هبت "هرر" تطالب بحقوقها العادلة، ومساواة أهلها بالمسيحيين مما اعتبرته الحكومة وقاحة(1/58)
وخيانة. ص _061
فجردت له ثلاثة ألوية من الجيش اقتحمت المدينة، وأعملت فيها السلب والنهب والتعذيب. واشترك معهم رجال الشرطة والمدنيون- وقد رخص لهم باقتناء السلاح فى هذه الحملة الإرهابية. فصودرت المتاجر والمدارس والمزارع، وأقيمت محاكم للتطهير، واعتقل الآلاف، ووضعوا فى معسكرات التعذيب. وأخذت أوقاف المساجد وضمت إلى الكنائس، وأرسل الزعماء إلى مناطق نائية، وكان التعذيب وحشيا لم يقتصر على إطفاء السجائر فى الأجساد. أو تعريض الناس للشمس اللافحة فى حالة جوع وظمأ شديدين، وقد وضعت على مقربة منهم براميل من الماء والطعام. أو هتك الأعراض على مرأى من الأزواج والآباء، أو العبث فى ظهورهم بالسياط. بل تعداه إلى دق "خصيات الرجال " بأعقاب البنادق، وإلى قذفهم بين أسلاك شائكة تمزق أجسادهم، والجنود يتلذذون بذلك المنظر الوحشى. واستخدمت كل وسائل العنف والتعذيب فى الاستجواب. واستمرت هذه الأعمال الفظيعة سبعة أشهر كاملة، قتل فيها من قتل وهلك من هلك بسبب الجوع والبرد. وفى تلك الأيام قدم وفد مسلمى "هرر" إلى القاهرة ليعرضوا شكواهم على العالم الإسلامى. فلم يجدوا سندا ولا نصيرا. والظروف لم تكن فى صالحهم. والعالم الإسلامى لم يقدم لهم شيئا بالرغم من أن الوفد عرض أمره على حكومة الحجاز واليمن. وقدم مذكرات إلى الكثير من سفارات الدول الإسلامية وغير الإسلامية. ومن يومها اعتبرت "هرر" منطقة مفتوحة لكل أنواع التبشير- ماعدا الإسلام- إن كان هناك تبشير إسلامى- للتعجيل بتنصيرها. وعين لها حاكم عسكرى هو نفسه الذى كان يتولى التحقيق والتعذيب والاستجواب فى تلك الحركة. وفى "هرر" الآن البعثات البروتستاتينية والكاثوليكية. وبرج المراقبة. والأرثوذكسية والسويدية والمنهجية. ص _062(1/59)
وخصصت مديرية "عروس " للتبشير الأرثوذكسى ولا يقربها أحد. كما منح رجال الدين هناك- مع السلطات المحلية- حق الإجبار ومطاردة الأشخاص الخطرين (المشايخ). ونتيجة لهذه الموجة من الإرهاب والنهب اللذين حدثا فى "هرر" قلت موارد الناس وهبطت حركة التجارة وكثر العاطلون. وعجز الناس عن دفع أى ضريبة. مما سهل للحكومة الاستيلاء على الممتلكات والمزارع. وفى الوقت نفسه افتتحت بعض المدارس الأمهرية المسيحية، وطلب إلى المسلمين أن يدخلوا أبناءهم فيها بعد أن أغلقت مدارسهم الخاصة. ومن المعلوم أن المدرسين فئة منتقاة من الجزويت والهندوك المعروفين بميولهم العدائية نحو الإسلام. وعليه فإن التحاق أبناء المسلمين بتلك المدارس نوع من الانتحار الدينى والوطنى. فضلا عن البرنامج الذى يدرس. والمبثوث فيه كل ما من شأنه إهانة الإسلام والمسلمين. والتعليم الدينى إجبارى. وليس للمسلمين حق افتتاح مدارس خاصة بهم. كما أنه يحرم على أى هيئة أو طائفة إسلامية أن تزور أرضهم. أو أن تتصل بهم مثل ما فعل بالبعثة الأزهرية قبل بضع سنوات إذ منعت من الدخول إلى منطقة "هرر". ومن الأساليب التى تلجأ إليها الحكومة لتقوية التبشير الأرثوذكسى أسلوب غريب. هو إشاعة أن روح جبريل ظهر فى ديير صغير فى قرية "قلبى" بوساطة القسيس، وهذه القرية تبعد حوالى 45 كيلومترا من "هرر" وهى أشد مناطق "هرر" ازدحاما بالريفيين "السذج "، وأن هذا الروح طلب من المسيحيين من كل بقعة فى الحبشة أن يجتمعوا سنويا فى هذا المكان ويؤدوا اليمين المقدس لنصر المسيحية. وأحيطت هذه الإشاعة بهالة من الخرافات وخوارق العادات التى عرضت لمن زار هذا المكان. وكان أول من استجاب لهذا النداء هو الإمبراطور نفسه مع جميع أفراد عائلته ووزرائه.. وقدم النزور والتبرعات. ص _063(1/60)
وبذلك صار الذهاب إلى هذا المكان حجا مقدسا. يفد إليه المسيحيون من كل أطراف الحبشة. والهدف الذى يرمون إليه من وراء هذا العمل هو جعل هذا المكان أرضا مقدسة يدافع عنها كل مسيحى ضد أى تحرر أو اضطراب من جانب المسلمين الذين تخصهم هذه الأرض. ثم استغلال العاطفة الدينية لجمع التبرعات التى تبلغ سنويا ثلاثة ملايين من الدولارات مخصصة كلها للتبشير فى مقاطعة "هرر". ويستعرض القساوسة هناك النتائج أمام الوزراء والكبراء، ورجال الحكم، والعائلة المالكة. ويقدمون من هداهم الله على أيديهم إلى الدين المسيحى- بحسب زعمهم- بين عاصفة من التصفيق وقراءة المزامير والموسيقى! وتطلق الأعيرة النارية ابتهاجا بهذا النصر. ويقوم الجيش باستعراض. ثم تقدم العطايا والبركات من الإمبراطور أو أحد أعوانه لأولئك المرتدين. ثم توزع عليهم النياشين. كل ذلك بغية التأثير على غيرهم من القرويين الذين يحيطون بهذا المكان. ولا غرابة فى أن يكون لها تأثيرها إذا كان المسلمون فى تلك النواحى متأخرين وقد أرهقتهم الضرائب والمطالب التى لا تنتهى من جانب الحكومة. فهم- بذلك- يحاولون التخلص من الأثقال التى عليهم ولا يدرى بذلك أحد. وليست "هرر" إلا صورة من الصور المنتشرة فى جميع المقاطعات الإسلامية. وما فى "جمة" من الاضطهاد و الظلم لو ورع وحده على إفريقيا كلها لأصبحت أرض الجوع والدموع. فحينما كان "مشفن شاسى" وزير الداخلية حاليا ـ حاكما عاما لمقاطعة "كفا جما" اشترع قوانين جائرة بنفسه، وشرد الألوف، واغتصب أراضيهم وقتلهم بطريقة غامضة، لأنهم أبوا التنازل عن أراضيهم واستولى عليها. والخلاصة أنه دخل "جمة" والمسلمون يمتلكون من الأراضى 90%، وغادرها وهم لا يملكون غير 25%. وكان نصيبه فى ذلك من لا شئ إلى 25%، والباقى موزع بين الحكومة والعائلة المالكة والمهاجرين الأمهريين. ص _064(1/61)
ولم يقف فى ظلمه عند هذا الحد من اغتصاب أموال الشعب وأراضيه. بل اخترع طريقة أخرى. هى أنه لا يجنى البن إلا إذا أصدر أمرا بذلك. فى الوقت الذى تجنى فيه مزارعه الواسعة. وتجفف وتباع بأسعار مرتفعة لأنها فى هذه الحالة ستكون المعروضة الوحيدة فى السوق. وبعد أن ينتهى من ذلك يكون قد تلف أكثر محصول البن فى المزارع الشعبية إما بتساقطه أو بأن تلحقه الأمطار. ويستغل هذه الفرصة أيضا ليبعث سماسرته فى القرى والأرياف لشراء البن بأثمان زهيدة. وفضلا عن ذلك فقد أقام مصافى للبن. ولا يمكن لإنسان أن يصفى بنه فى غير هذه المصافى. ولا يمكن أن تحمل العربات إلا من هذا المكان. ولا يمكن أن يقدر رطل واحد من البن دون أن يحمل الإيصال الذى يشهد له بأنه قد صفى فى ذلك المكان المعين. ولا عربة دون أن يكون لها إيصال يكون بموجبه قد دفعت ستين دولارا عن كل شحنة. وهذه الأموال الطائلة لا تذهب إلى خزينة الحكومة. بل إلى جيبه. والمعلوم أن المسلمين من أصحاب البلد وغيرهم من العرب هم الذين يتجرون. وبذلك يضمن إفقارهم. وهذا ما حدث فعلا. وقد أثرى ثراء فاحشا حتى أصبح مليونير الحبشة. فمزارعه التى اغتصبها يستخدم فيها مساجين المسلمين دون مقابل. وقد ارتفعت درجته لدى الإمبراطور لأنهما يتقاسمان تلك الأرباح. فمن درجة "صاغ " إلى "لواء" فى الرتب العسكرية. ومن درجة "فيناز ماترس " إلى "رأس " وهى أكبر رتبة مدنية بعد الإمبراطور ثم عين وزيرا للداخلية. وفى خلال حكمه رأت "جمة" المسلمة أفظع أنواع الحكم والاضطهاد. وكان كل من يقوم فى وجه التبشير المسيحى يوضع فى حفرة عميقة، ويقذفه الجنود الأحباش بصخور وحجارة كبيرة. ص _065(1/62)
وقد أجبر المسلمين على بناء كنيسة "مريم "، واعتقل الذين لم يتبرعوا، وصادر أملاكهم. وهو الذى استن بناء كنيسة على مدخل كل مدينة مسلمة حتى تظن أن الحبشة كلها مسيحية. * * * كانت التجارة هى الطريق الوحيد الذى بقى للمسلمين بعد ما سلبت الأراضى الزراعية من أيديهم. غير أن قيودا ثقيلة فرضت على هذه التجارة، ومنحت امتيازات التصدير والاستيراد للأجانب. وبذلك أخذ المسلمون يتدهورون اقتصاديا ومعنويا. ليس هذا فحسب، بل أخذوا يتدهورون خلقيا بعد تشعب طرق محاربتهم. فقد سمحت الحكومة للعاهرات بالهجرة إلى كل من "هرر" و"جمة" وجميع المدن الإسلامية الأخرى. وفتحت بيوت الدعارة بتشجيع من البلدية المحلية فى كل مقاطعة، وفى كل شارع كبير من شوارع المدن، وانتشرت الحانات. ولعل أفظع منظر هو الذى يطالع المرء حول جامعى "هرر" و"جمة" حيث تحيط بهما بيوت الدعارة والحانات. وقد حاول المسلمون أن يحتجوا، وأن يقفوا ضد هذا الوباء الخلقى لكنهم باءوا بالفشل. وقد أخذ التضييق على إقامة الشعائر الدينية يزداد يوما بعد يوم فى السنين الأخيرة، فالأعياد ممنوع إقامتها إلا فى المدن الرئيسية بعد تقديم طلب بالسماح، ويحدث ألا يسمح بها فى الوقت المعين، وترجأ إلى ما بعد يومين أو ثلاثة من الميعاد. أما الحج فأمره معروف، إذ منعوه صراحة، ولا يحج إلا عدد محدود توفرت فيه الشروط التى تكفل إغلاق فمه، وهذا العدد المحدود يقل كل عام. وفى العام الماضى أصدر وزير الداخلية "مشفن شلسى" ووزير المالية "مكنن هبت ولر" أمرا بمنع الحجاج من مغادرة الأرض الحبشية. ص _066(1/63)
وفى آخر لحظة سمح الإمبراطور لعدد معين منهم بعد شكاوى وعرائض قدمت وكان هو نفسه وراء هذا المنع! وفى العام نفسه نشر كتاب "الإسلام وإفريقيا" لمؤلفه القس الإنجليزى "جودى فريل ديل "، ترجمه وعلق عليه القس الأمهرى "جونزى طافطا" وهذا الكتاب ـ من أول حرف فيه إلى آخر حرف ـ تهجم صريح على الإسلام، وسب فاضح لنبى الإسلام والتشهير به. فأجيز المترجم، واحتفلت به الأوساط الدينية، وعلى رأسها كاهن الحبشة الكبير "باسليوس " وهو أعدى أعداء الإسلام الذى يدبر هذه المآسى كلها ضد حرية العقائد والأديان، ومعه الإمبراطور. أما لماذا وكيف لا يثور المسلمون؟ فهناك أسباب كثيرة، ولو أنهم قد فعلوا فى حدود ضيقة لاسيما فى "هرر". منها أن معظم المسلمين متأخرون بسبب فرض الحصار على تعليمهم، وأنهم غير مركزين فى إقليم واحد، فهم متباعدون جدا وأقاليمهم تفصل بينها أراضى الأمهريين. ومنها بث روح التفرقة التى تشنها الحكومة فيما بينهم بإحياء التعصب القبلى، وإثارة الخلافات الدموية بسبب الحدود الوهمية التى تصنعها كل قبيلة. ومنها حكمهم حكما إرهابيا أفقدهم الثقة بأنفسهم، وقتل فيهم الروح المعنوية، فضلا عن عدم حيازتهم للأسلحة. ومنها يأسهم من مساعدة إخوانهم المسلمين فى العالم الإسلامى عامة، وفى مصر خاصة. ومنها العجز الاقتصادي الذى منوا به فى السنوات الأخيرة، وضغط الحكومة عليهم من كل ناحية، حتى فقدوا الإحساس بالظلم نفسه. ولعل الإنسان يفقد إحساسه بكل شئ حينما يصل به الألم والظلم إلى نقطة معينة من التشبع به. وأسباب كثيرة أخرى صارت عقبة فى طريق تقدمهم وتحررهم. ص _067(1/64)
وآخر صورة من صور التعسف هى إجبار الفلاح الهررى على بيع أبقاره إلى شركة "إنكودا" اليهودية، بعد أن اكتشف أن هذه الأبقار لا تذهب إلى مصر وبالطبع لم نستطع إزاء ذلك أن نفعل شيئا. هذا هو موجز لحال المسلمين فى الحبشة عامة، وفى "هرر" خاصة. واسمحوا لنا بتقديم أنفسنا كهاربين من هذا الاضطهاد والإرهاب والظلم والوحشية. ذلك أننا اشتركنا فى كثير من المقاومات السرية ضد الحكومة، وانتقلنا إلى كثير من البلدان الإسلامية نفتتح فيها المدارس الصغيرة لتعليم اللغة العربية، ونعرف الأهالى ما يهدد مستقبلهم ومستقبل أبنائهم. وحينما كان يكشف أمرنا كان إغلاق المدارس والاستجوابات والسجن أحيانا هو الجزاء لهذه الأعمال. وقد ذهبنا إلى " هرر" ثم "دسى " ثم " عروس ". وأخيرا ذهبنا إلى "دريدوه " حيث افتتحنا مكتبا للقرآن والقراءة العربية. واستطعنا أن نصمد أكثر من سنة، وهيأنا بذلك أسباب الاستمرار، وجعلنا الشعب يلتف حول هذا العمل.. ثم عرفنا أن الحكومة تسعى إلى تلفيق تهمة هى وجود علاقة ضارة بالبلاد بيننا وبين مصر.. فحاطتنا بشبكة من الجواسيس، وكان ـ لحسن الحظ ـ لنا من بينهم أصدقاء أنقذونا فى آخر لحظة.. وكان الخيط الوحيد الذى أمسكت به الحكومة ـ لتبنى عليه حكمها ـ أن كلا منا كان فى مصر مدة من الزمن، وعاد ليواصل الكفاح فى الإجازة، وهكذا بقينا مراقبين مدة طويلة. واستطعنا أخيرا الهرب، ولم يكتشفوا ذلك إلا بعد وصولنا إلى السودان، ذلك لأننا خرجنا فى أيام كانت أعيادا مسيحية متوالية، وتلتها أعياد إسلامية، فانتهزنا هذه الفرصة للهرب. وقد أخطروا السفارة الحبشية فى السودان للاتصال بحكومة السودان لإعادتنا ومن حسن الحظ أننا عرفنا ذلك فى الوقت المناسب ووصلنا إلى مصر. ص _068(1/65)
وكنا نعتقد أننا سنجد آذانا مصغية، وقلوبا رحيمة، ورجالا يفهمون قضيتنا. لكننا أينما ولينا وجوهنا قوبلنا بفتور وقلة اكتراث، حتى كدنا نشك فى أننا مسلمون أو أننا بين مسلمين! وأخيرا طلبنا العون لكى نحيا فحسب. طلبناه من كل هيئة تهتم بالشئون الإسلامية، وفى مقدمتها المؤتمر الإسلامى الذى تركنا نتردد عليه أكثر من سبعة أشهر، ثم قال لنا أخيرا: ليس لدينا عون نستطيع تقديمه لكم! وعجبنا لماذا لم يصارحنا بهذه الحقيقة من أول الأمر؟ إننا نأسف إذ نقول: لقد اكتشفنا أنه مؤتمر اسمى لا إسلامى، وأن قضايا المسلمين ـ ومن بينهم مسلمو الحبشة ـ آخر شئ يهتم له المؤتمر. كنا نأمل أن يأخذ بيدنا، ويوجهنا إلى ما فيه خيرنا وخير أمتنا.. ولكن هيهات. والتحقنا بالأزهر، فوجدنا فيه ما يحفظ علينا أنفسنا ـ أو بتعبير أدق ـ ما يقيم أودنا. وما لهذا جئنا، فإن علينا واجبات كثيرة نريد أن ننهض كيما نحرر أمتنا، ونصون عقيدتنا. إن "الأزهر" يعطينا ما يسد الرمق، فمن أين نأتى بما يعيننا على إنجاح قضيتنا وإنقاذ إخوتنا؟ إننا لم نأت طلبة علم فحسب، بل جئنا ليرانا العالم على حقيقتنا: مآسي تعرض نفسها فى صمت، علها تجد دمعة تترقرق لوطن منكوب وإسلام مستباح، أو لسان يقول: أوقفوا هذه الجرائم فى الحبشة، واحموا حرية العقائد، واكفلوا حقوق الإنسان. جئنا لنطالب "الأزهر" ـ وغير "الأزهر" من الهيئات الدينية ـ ليبعث بعوثا علمية إلى المسلمين هناك، المسلمين المحجوبين عن النور والعدل، المتطلعين إلى الإنصاف والرحمة. إننا نطالب المسلمين هنا بأداء هذا الحق إن كانت لديهم ذرة من الحمية الدينية أو الأخوة الإسلامية أو العاطفة الإنسانية، ولو كلفهم ذلك تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة "فرع حقوق الإنسان ". وإذا كانت حرية التبشير مكفولة للجميع، فمن حق "الأزهر" أو "المؤتمر الإسلامى" أن يطالبا بذلك أسوة بالآخرين. ص _069(1/66)
ثم ما الذى يمنع أن تكون الروابط بين مسلمى الحبشة و"الأزهر" مثل الروابط بين الكنيسة الحبشية وأقباط مصر؟! إن الحكومة المصرية لم تمنع تدخل البعثة التى قدمت أخيرا لحل المشاكل المعلقة بين الكنيستين. لماذا لا يطالب "الأزهر" ـ أو غيره ـ بحق النظر فى شئون المسلمين الأحباش؟ إننا نأمل أن نجد من يتبنى هذه القضايا، ويبذل الجهد لإنجاحها، وقد أودعنا صدوركم هذه الأمانة، وعسى أن يوفقكم الله لحملها. نرجو أن تسمعوا شكوانا كل أذن، وأن تلفتوا إليها كل قلب، وأن تنتهزوا لنشرها كل فرصة، وألا تكفوا عن شغل الأذهان بها ـ وإن ذلك دأبكم دائما ت لعل الله يكشف الغمة، وينير الطريق. * * * وليس لدى ما أقوله إلا أن يراجع المسئولون موقفهم من هذه الدولة الجائرة الكنود. وأن يميطوا اللثام عن سياستها العاجزة ضد الكثرة المسلمة المغلوبة على أمرها. وأن يفضحوا النفاق الذى يبرز به البعض حين يتصل بنا كأنه صديق، وهو مع الاستعمار ضالع، ولأعداء العروبة عون، وللإسلام وأهله خصوم خبيث العداوة حقير الأسلوب. إن كارثة المسلمين فى الحبشة يجب أن تطوف أنباؤها العالم، وأن تنكشف تفاصيلها للقريب والبعيد. ولا بأس أن يضيف المسلمون بها جديدا إلى معارفهم، فهم وإن ألفوا من سورات التعصب ما ألفوا ـ ينبغى أن يتأملوا فى هذا الدرس الجديد، وأن يقارنوا بين معاملة ومعاملة، وسياسة وسياسة. ولله عاقبة الأمور. * * * ص _070(1/67)
ليست الصليبية ولا الصهيونية ديانات معروف أنه من تمام اعتقاد المسلم التصديق برسالتى موسى وعيسى عليهما السلام والإيمان بأنهما مثل "محمد" صلى الله عليه وسلم فى التلقى عن الله وإبلاغ هداياته للخلق، وأن توجيه أى انتقاص لقدر واحد من أولئك الأنبياء العظام يعد . والمسلم - إذ يؤمن بموسى وعيسى - يعتقد أن الوحى الذى نزل عليهما حق، وأن القرآن نزل مُصدقا له، كما يعتقد أن الرجال الذين اتبعوهما هم عباد الله الصالحين، وأنهم نصروا الله ورسوله، واستحقوا على ذلك الجزاء الأوفى. فالمسلم يرى أنه موصول الحبال بموسى وعيسى، موثق الصلات بالرجلين الكبيرين وبغيرهما من المرسلين، وأنه أحق بالنسبة إليهم من أولئك المزورين الذين يزعمون الانتماء إليهم وهم - بما يفعلون - كاذبون ومكذبون. (إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين). أجل.. إن محمدا ومن معه هم على الطريق العتيدة التى مضى فيها- من قبل إبراهيم وموسى وعيسى.. أما اليهودية بعد ما تحولت صهيونية، وأما النصرانية بعد ما تحولت صليبية، فقد انخلعتا من كل شعار يربطهما بأنبياء الله، وينسبهما إلى السماء.. وأحوال الفريقين الآن على النقيض التام من أحوال السلف الصالح الذى صحب موسى وعيسى.. كان اليهود الأقدمون ضحايا الجبروت والاستعلاء، وكانوا مستباحى الدماء والحرمات. وكان فرعون (يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم). ص _071(1/68)
فاتجهت جهود أنبياء الله إلى تحرير رقابهم واستنقاذهم من العذاب الهون. فانظر إلى الأرقاء بعد ما أعتقوا. لقد تحولوا اليوم إلى فراعنة يعلون فى الأرض يستضعفون من وقع فى براثنهم. أى أن الرسالة التى بدأت باستنكار الفساد والعدوان قد حولها اليهود إلى أداة إفساد واعتداء.. أما كان أولى بهم أن يتمسكوا بالعدل ويلتزموا الإنصاف. وأما المسيحية فإن أبرز خلال رجالها الأولين الرقة واللطف. وقد وصف الله عيسى بقوله : (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة). واستخراج الرأفة والرحمة من قلوب الصليبيين الآن يشبه استخراج المياه من الصحراوات القاحلة. إن صناعات الموت ووسائل الفتك وأسباب المحن والرزايا ما تجود الآن فى مكان مثل ما تجود فى أقطار الغرب الصليبى. وما ابتأست بلاد بدخول قوم فيها مثل ما ابتأست الأقطار "المتخلفة" بدخول الرواد والمكتشفين الغربيين، لقد تحولت "الرأفة والرحمة إلى لعنة وهمجية ". ونحن حين نستقرى أخبار "المستعمرين " والفاتحين الأوروبيين والأمريكيين نزداد يقينا بأن القوم لا علاقة لهم بعيسى ولا بكتابه. إن البون بعيد بين وحى الله وما فى أيدى القوم الآن من تراث روحى مضطرب. ولندع الصهيونية جانبا لنتأمل فى المسيحية.. فإن الصهيونية لا تكيد كيدها اليوم إلا وهى فى حماية دول "أوروبا" القوية أو على الأصح بتحريضها السافر. نرى ماذا دهى المسيحية حتى صادقت اليهود، وخاصمت الإسلام، وقررت إيذاء أهله وتحطيم آمالهم؟ هل للانحراف الذى دخل على النصرانية أثر فى قسوتها على خصومها ورغبتها فى الاستئثار بالسلطان واجتياح المعارضين؟ ص _072(1/69)
إننا نكاد نجزم بأن ذلك هو السر الكامن وراء التعصب البالغ الذى غرف به تاريخ القوم. فقيام عقيدة ما بعيدآ عن قواعد المنطق معناه رفض الجدل فى أساسها، ومنع الفكر من التعرض لها، وخلق جو لا يسمح بالعيش لغيرها. وذلك فى نظرنا هو السبب الوحيد لسياسة الإكراه والتزمت والأثرة التى برزت فى تاريخ المسيحية كما لم تبرز فى تاريخ دين آخر. ونحب أن ننقل هنا ـ دون أن نناقش ـ ما كتبه الفيلسوف الفرنسى "هنرى دى لاكروا" فى شرح أصول المسيحية وطرق سيرها إلى الضمائر والعقول. قال: "ولننظر فى الاعتقاد المسيحى: إله ينزل إلى الأرض ليفتدى الإنسان، وإله واحد فى ثلاثة أشخاص..! هذا الاعتقاد لا يماشى العقل، ورجال اللاهوت أنفسهم يعلمون ذلك حق العلم، والمؤلفة أنفسهم يترددون بإزاء إله كهذا مكون من ثلاثة أشخاص، إله له طبيعتان: طبيعة إلهية وطبيعة بشرية. يترددون بإزاء كائن خالد صمد يصبح إنسانا فيأثم كالإنسان ليفتدى خطايا البشر..!! إن فى المسيحية أنواعا من المعتقدات العجيبة يلقى أرسخ المدافعين عنها أكبر الصعوبات فى تسويغها. ومعنى ذلك أن الاعتقاد بشيء غير عقلى قد تؤمن به أحيانا لأسباب عقلية، وأحيانا أخرى لأسباب غريبة عن العقل..! ومن ثم فالإيمان الدينى لا يمكن أن يكون إيمانا عقليا محضا. ومع ذلك يسعى هذا الإيمان إلى أن يكون عقليا! لماذا؟ لأنه بدون مسوغ عقلى يمكن لأى اعتقاد أن يبدو شيئا مشروعا. وإذا كنا نستطيع أن نؤمن معفين أنفسنا من فحص أدلة ذلك الإيمان، فلماذا لا نؤمن عندئذ بكل الخرافات التى ترويها الأساطير القديمة؟ ص _073(1/70)
ومن هنا وجب أن تكون لدينا أسباب معقولة لما نؤمن به، وأن نبسطها للآخرين".. ثم يقول: "ولكنه إذا كانت الأسباب مسرفة الوفرة، خرج الإيمان الدينى عن أن يكون قلبيا حقا صادرا عن إلهام من الروح المقدسة..! وهنا الحيرة التى يقع فيها المسيحى فيما يتعلق بالإيمان ". ونحن نقول: أى حيرة تنتظر إذا كثرت الدلائل على صحة شئ ما؟؟ لا حيرة أبدا. بل إن النصرانية يعوزها كل الإعواز أن تقيم كيانها الأدبى على أثارة من علم.. ولذلك فهى تجنح إلى جعل الإيمان أمرا من أحوال القلوب فرارا من سطوة العقل عليها وهو يفند أصولها. ومن ثم نراها تبنى دعايتها العامة وأسلوبها الخاص فى التربية على ما يلى: 1- أزح العوائق الفكرية أمام سير الإيمان، وعود نفسك الاستسلام للترهات، واغض عما يضيق به عقلك فذلك تمهيد فغال لحسن التدين. 2- لا تعول على قيمة العقل، ولا تربط ثقتك بأحكامه، فالعقل قاصر. 3- الإيمان منحة لا كسب، أى أن الإنسان مهما اجتهد فمستقبله مرهون بعوامل خارجية هى الحاسمة فى مصيره. وهاك ما يذكره فى تفسير هذه الأمور الثلاثة "هنرى لاكروا". قال: "لكى ننفث شيئا من الحياة فى هذا العرض النظرى، دعنا نأخذ "بسكال " كمثل. وهو قد حقل الإيمان المسيحى تحليلا بالغ العمق فقال بوجود ثلاث وسائل للإيمان المنشود هى: " العقل، والعادة، والإلهام " فالعادة وسيلة ما سميته بالإيمان الضمنى، والعقل وسيلة الإيمان العقلى، والإلهام فى نظر الباحث النفسى وسيلة الإيمان العاطفى. للغرف أو للعادة عند "بسكال " فضل كبير إذ يمحو العقبات من سبيل الإيمان، فالرجل الذى يأخذ ـ قبل أن يؤمن ـ فى تأدية الشعائر كما يؤديها المؤمن يعد نفسه بعمله هذا للإيمان. وذلك أولا لسبب سلبى هو محوه لنوع من الحياة لا يتفق وطبيعة الإيمان. وأنت إذا أسلمت نفسك للذات والشهوات لن تصل إلى الإيمان مهما أجهدت عقلك. ص _074(1/71)
وعلى العكس من ذلك: عش كما لو كنت مؤمنا، وأرغم نفسك على ذلك النوع من الحياة ترى أنك قد حطمت العقبة الأساسية. إننا بعمل ما يعمله المؤمن نصل أحيانا إلى أن نوحى لأنفسنا بالإيمان نفسه، وهذه ملاحظة نفسية بالغة العمق. ونحن نعلم أنه فى تصنع عاطفة ما بدء بالإحساس بها. فإذا عملنا على التمكين لذلك الموقف وأخذنا فى تنمية البذرة لن نلبث أن نخلص من عملنا هذا بصورة تخطيطية صادقة لتلك العاطفة. وكذلك الأمر فى الإيمان، فالرجل الذى يرغم نفسه، ويستبله، فيأخذ من الماء المقدس يمكن أن يبدأ فى الإيمان بتصنع صادق، ومن ثم يصبح فى النهاية وقد أحرز إيمانا قويا. وللعادة أثر آخر، فهى تمكن للاعتقادات وتثبت فى النفس أعرق النتائج والحجج التى تصل إليها ـ بعد الجهد النظرى. وليس هذا مبدأ آخر. وذلك لأننا لسنا الآن بإزاء إرغامنا لأجسامنا ـ وإنما نحن إزاء مؤمن اجتمعت لديه أسباب للإيمان ثم أتت العادة فثبتت فى نفسه أعرق النتائج التى استخلصها مما لديه من حجج، وبذلك أعفته من وضعها باستمرار نصب عينيه. والوسيلة الثانية هى العقل، و "بسكال " بلا ريب ـ لم يترك له إلا مجالا ضيقا، وسوف ترى لماذا فعل ذلك، ومع هذا فإنه يستخدمه. إنه يستخلص من الانتقادات التى يوجهها العقل لنفسه سببا للإيمان. وما هى العقبة الكبرى التى تعترض المسيحى؟ أليست العقل الذى يناقش الدين؟! لكن العقل بنقده لنفسه لن يلبث أن يعترف بوجود عدد كبير من الحقائق التى تتجاوزه، فيعجز عن إدراكها، وبذلك يسلم بأن الحقيقة المطلقة ليست فى الواقع فى متناوله. ص _075(1/72)
فإذا صح فلك فلماذا لا نسلم بأن الاعتقاد الذى يعدو العقل يمكن أن يكون صحيحا؟ و "بسكال " يحاول أن يظهر أن اليقين نفسه، وأن الوضوح نفسه فيهما شئ لا يمكن التدليل عليه، ثم يقول: "إننا نسلم بنوع من الجبر الداخلى الذى لا يمكن تعليله، وهو أشبه ما يكون بالغريزة"، ثم يقول بعد ذلك كله: "إن للقلب حججه التى لا يعرفها العقل ". قلب وغريزة ومبادئ...! وعالم الهندسة هذا يزعم أنه يصل فى نهاية برهانه إلى أشياء من الوضوح بحيث لا تقبل برهانا. وهو نسلم بها بحافز شعورى لا بإيمان عقلى يمكن تبريره. ومن ثم فإنه لما كان القلب عند "بسكال " هو الذى يحس بوجود الله لا العقل، فإن ذلك الإله الذى يدركه القلب يصبح إلها مشروعا أمام العقل بحكم نقد ذلك العقل لنفسه... وهذا ليس معناه عدم وجود أسباب للإيمان كما يرى..! فهناك ـ مثلا ـ معجزات "المسيح " وفيها يرى " بسكال " سببا للإيمان. ولكن العقل يقبل الشك فيها لما فيه من ضياء وظلمة. وفى ضيائه أحيانا من الاضطراب ما يمنعنا من أن نستسلم إليه طائعين. ومن ثم يعجز بنفسه عن أن يحملنا على التسليم. وإذن فأسباب الإيمان ليست حاسمة بالنسبة إلى المؤمن. ووظيفة العقل الأساسية فى الإيمان العقلى ليست إلا فى نقده لنفسه. وهذه الفكرة قد استخدمها رجال الدين مرات كثيرة محاولين تحطيم العقل بالعقل نفسه وذلك خدمة للإيمان! هل انتهيت من قراءة هذا الدفاع المتين عن الدين بعد انفصاله عن العقل؟ إن هذا الكلام المنمق المزوق اسمه فلسفة. وأول تلك الفلسفة أن تتباله وتتغابى لتبلع النقائض المستعصية وتتعود الإيمان. وثانيه أن تقتحم على العقل مكانه العتيد، وتقول ما أنت؟ وهنا مغالطة مكشوفة تضم ما يستعصى على العقل فهمه إلى جوار ما يحكم جازما باستحالته. والبون بعيد. ص _076(1/73)
فما يعجز العقل بطبيعته عن إدراكه والحكم فيه ـ لأنه وراء ما قلته ـ شئ غير ما يمكنه تصوره والبت فيه برأى حاسم. واتهام العقل بالقصور فى المسائل الأخيرة لأنه عاجز فى المسائل الأولى كلام فارغ، وما نظن "بسكال " إلا مخبولا ساعة قاله.. ولكن هذا الخبل فلسفة دين! ثم تجئ وسيلة أخرى للإيمان. والوسيلة الأخرى هى الإلهام، والإلهام عند "بسكال " هو الشعور القلبى الذى يحمل الإنسان على أن يهب نفسه. يهبها هبة تامة كما يفعل المولهون. والإيمان أشبه ما يكون بالوله، ولكن الإلهام أيضا التفاتة إلهية، إنه فيض من الله. أقول: وهذا أسلوب فى الفهم والإقناع لا قبل لنا به. وأخوف ما نخافه ـ بعد الزعم بأن الإيمان هبة عليا ـ أن يعتبر المحرومون من هذه الهبة أنجاسا تستأصل شأفتهم وتستباح حرياتهم وحقوقهم لأن بركات السماء لم تحل بهم. ويظهر أن نظرة النصارى إلى معارضيهم فى قصة التثليث والصلب تأخذ هذه الوجه المعينة. وهنا يقوم السيف مكان الحجة، ويقوم الإرهاب مكان الإقناع. وتلجأ الكنيسة فى معاملة خصومها إلى الاضطهاد والمصادرة. ومن وراء هذه السياسة شعور بأن المعارضين قوم خلت قلوبهم من نفحات السماء وحقت مكانها أرواح الشياطين، ولذلك ينبغى أن يضربوا دون هوادة. * * * إن الحياة الإنسانية سوف تمر بأدوار طويلة من الشقاء ما بقيت هذه الأفكار تسودها. ونحن نعلم أن الصليبية جرَّبت سياسة القوة والعنف أزمنة متعاقبة، أو جرَّبت سياسة المختل والمداراة التى تسندها المدافع والقاذفات كما يحدث فى ذلك العصر. فهل لها أن تجرب سياسة الأدب والملاينة، واحترام العقل، وقبول العيش إلى جوار مبادئ أخرى؟ وسواء قبلت أم رفضت.. فإن الإسلام لن يدع سبيلا يبقى عليه حق العبادة إلا سار فيها. فإن كانت السلم، فبها ونعمت، وإلا استقتل فى الذود عن حقيقته وحماه. * * * ص _077(1/74)
اتجاه الصليبية حديثة من تزوير التاريخ على نطاق واسع- بدوافع من التعصب الأعمى- إنكار فضل العرب والإسلام على أوروبا وعلى حضارتها العلمية وتقدمها الفكرى والصناعى. حتى إن كثيرآ من المتعلمين الحدثاء يجهلون أن هناك أثرآ ما لحضارة العرب فى حركة الإحياء التى عمت الغرب من بضعة قرون ونقلته من حال إلى حال! وهذا الجحود المطبق لا يستند إلى أثارة من حق. بل لا سناد له إلا الحقد على الإسلام وأهله، ومحاولة انتقاص هذا الدين والغض من شأنه وتجريده من كل خير، ثم إظهاره وكأن العالم لم يجن من وجوده إلا الشوك والحنظل! وللكتاب الصليبيين جهد غير مشكور فى إشاعة هذا الزور. فقد عقموا قومهم أن "محمدآ" صلى الله عليه وسلم كلب كافر! وأن أتباعه همج مخربون، وأن دينه فى القرون السالفة لف الدنيا فى ليل ما له فجر! ومع أن ضياء الحقيقة الكبرى بدد هذه الأوهام، وجعل الألوف المؤلفة من أصحاب النظر السليم يحتقرون مصدرها ويزرون عليه، إلا أن العوام وأشباههم من ضعاف الرأى لا يزالون يكرهون الإسلام ونبيه من آثار هذه الدعايات البذيئة. وهم يظنون المسلمين أمة تعبد "محمدآ"صلى الله عليه وسلم ، وتعالج نوعآ مبهمآ من الطقوس الوثنية،" وتعاشر الرذائل بنهم، وتكره المعرفة، وتتنكر للحضارات، وتقوم بتخريبها إن واتتها فرصة! وإن كان لفيف من رجال الكنيسة القدماء والحدثاء، يشتغلون بترويج هذه السخافات عن الإسلام، فماذا نقول. وبماذا نرد؟ وإذا كانت صياغة التاريخ الإنسانى قد خضعت لهذا السقوط الخفقى فكم من الجهود نبذل لنصحح الأوضاع ونجرف الأباطيل؟ نحن نعلم أن هناك أوروبيين استيقظوا من ضلالهم وأطرحوا هذا العبث فى تصور الإسلام وتاريخه. ص _078(1/75)
بيد أن الجماهير لا تزال تجهل حقيقة فضل الإسلام على العالم منذ ظهر إلى يوم الناس هذا. إنه لولا الإسلام ـ لبقيت أوروبا كما عاشت خمسة عشر قرنا لا تحسن شيئا البتة من دين الله ولا من دنيا الناس. نعم.. لولاه ـ لظلت الأحوال الخلقية والاجتماعية والعلمية والعملية كما غبرت طول هذه القرون جامدة بليدة، ولبقيت "أوروبا" هذا الدهر الطويل ـ كما بقيت أواسط إفريقيا منذ القدم إلى أن اكتشفت ـ تحيا على نسق واحد ويشملها ـ على اختلاف الليل والنهار ـ مستوى إنسانى محدود. لولا أن الإسلام دخل "أوروبا" كما دخلت الحضارة الحديثة بلاد الزنوج ما عرف الأوروبيون شيئا عن المدنية، ولا نالوا قسطا من ارتقاء. والفارق بين الحالين أن الإسلام لم يضن على الأوروبيين بنور يمشون عليه. أما الغربيون فهم يسخرون اليوم تفوقهم فى إذلال الآخرين واستغلالهم. كان كل شئ فى "أوروبا" راكدا كالمستنقع الآسن، وكان يمكن أن يبقى كذلك إلى يوم النشور لولا العرب الذين سكنوا الأندلس وجنوب إيطاليا، وشرعوا يصدرون الرقى والازدهار إلى قبائل الغالة والقوط والوندال والسكسون والجرمان وإلى غيرهم من شعوب أوروبا. إن الأصول العقلية والنفسية للحضارة الحديثة لم تنبت من داخل أوروبا. وكل مطلع على طبيعة الحياة الأوروبية فى الخمسة عشر قرنا الأولى للميلاد يجزم بأن أوروبا وحدها ـ بما تألف من أفكار ومشاعر لا تستطيع أن تكون شيئا يذكر. وأنه لولا ما وفد عليها من فكر خارجى وهِمَّة لا عهد لها بها ما استطاعت أن تتغير وترتقى. لقد كانت الحضارة العربية ـ لأوروبا ـ كمواد الخصب ولجج الماء العذب بالنسبة للصحراء كى تزدهر وتنتج. وإلا فستبقى الصحراء لا تنفح إلا السموم، وستبقى أوروبا كما عاشت ألفا وخمسمائة سنة بعد الميلاد لا تطفح إلا بالعمى والجهالة.. ولا تقدم لها النصرانية بصيصا من نور وهداية. ص _079(1/76)
ودعك من الكنود القذر الذى تواصى به الأحبار والرهبان لغمط هذا الفضل وإنكاره على ذويه. على أنه كما وجد فى حاشية فرعون مؤمن ينكر ألوهيته، وجد بين مفكرى أوروبا من أنصف العرب ونسب إليهم فضلهم المنكور، وعاب على قومه هذا الجحود الغريب. وإننى أوصى كل قارئ عربى بمطالعة كتاب "فضل العرب على الإنسانية" الذى ألفه "روبرت جريفال ". وسيبهرك فى هذا الكتاب الصغير أن تجد العرب هم وحدهم الأساتذة الذين علَّموا أوروبا ما لم تكن تعلم. حتى لتحسب أن ازدهار أوروبا الآن هو التكملة الطبيعية والامتداد العادى لرقى العرب الأوائل وطول باعهم فى شئون العمران وأصول الحياة. وأن انحطاط المسلمين الآن هو التكملة التبعية والامتداد العادى لجهالة أوروبا القديمة وقصورها الفكرى والاجتماعى. ولا غرو فإن المسلمين من قرون طوال لم يقدروا النعمة التى حبتهم بها المقادير فعبثوا بالإسلام وزاغوا عن هديه وناموا فى ضحاه الغامر. كأولاد الغنى الذين ورثوا كنوزه دون كدح، ثم شرعوا يبعثرونها بسفه. على حين يوجد حولهم نفر من الفقراء الذين عرفتهم الحاجة قيمة المال، فهم يحرصون عليه ويجمعون منه ما يفرقه الورثة المخبولون. وتمر السنون على تلك الحال فإذا أغنياء الأمس صعاليك. وإذا صعاليكه ملوك. ولا بأس على ملوك اليوم أن يختلقوا لهم أنسابا عريقة، وأن يرموا خصومهم بكل موبقة ويجردوهم من كل شرف. ولنلق نظرة على كتاب "فضل العرب على الإنسانية". إنه يتسم بالطابع العلمى المجرد. وإن كان صاحبه لم يخلص كل الخلوص من بعض رواسب البيئة التى عاش فيها فانساق ـ دون تعمد ودون غرض ـ إلى إرسال بعض الأحكام على الإسلام. ص _080(1/77)
لم يطرد فيها ـ للأسف ـ النسق العلمى الجميل الذى شاع فى سائر بحثه، والذى ترقرق فى فصوله كلها طولا وعرضا. بيد أن الهنات. لا تمنعنا من تقدير الحقيقة العظيمة التى جلاها هذا المؤلف الكبير وأبرزها فى إطار من الأدلة الحاسمة دلت على سعة نفسه واستبحار علمه وشمول نظرته ونقاء صحيفته. تلك الحقيقة هى فضل العرب على التقدم العلمى فى الغرب وأثر حضارتهم الزاهية فى حركة البعث التى أحيت أوروبا من موت طويل. لقد ظلت أوروبا سبعة قرون قبل ظهور الإسلام وثمانية قرون بعد ظهوره، وهى لا تعرف شيئا طائلا عن فلسفات العالم القديم، بله أن تستفيد من هذه الفلسفات فى رفع مستواها الذهنى ودعم مكانتها الأدبية. ثم تحركت "أوروبا" وبدأ عصر النهضة يهزها من سباتها. فما الذى جد عليها؟ وما الذى بدل حياتها من جهل إلى علم، ومن ظلام إلى نور؟ يقول أصحاب الغرض ومنكرو الفضل: إنه تراث يونان وأثر أثينا وروما… عجبا.. فقد كان ذلك أجمع ركاما مندثرا فى أعماق الماضى ظللتم بإزائه دهرا طويلا فما حبسكم عنه؟ وما منعه عنكم؟. يقولون: لقد جاء به إلى الغرب علماء دولة الروم الشرقية بعدما سقطت عاصمتها فى يد الترك ومنذ هاجروا بدأ عصر الإحياء. نقول: لقد ظلت دولة الروم الشرقية ومعها هذا التراث ألفا من السنين فما صنعت به؟ إنها ما رفعت به رأسا ولا أعلى مستواها المادى والأدبى فى قليل ولا كثير. الحقيقة التى أراد الغرض السيئ ـ أو الحقد الرديء ـ أن يطويها هى فضل العرب على الإنسانية كلها وعلى الفرنجة خاصة. إن نهضة العرب الكبرى إبَّان العصور الوسطى كانت الأصل الأول لحركة البعث العلمى والإصلاح الاجتماعى والمدنى فى أوروبا. وإن الأندلس وجنوب إيطاليا وشرق أوروبا كانت معابر فياضة بالنشاط الإنسانى الراقى لتمدين بلاد غبرت عليها العصور وهى لم تتذوق طعما للمدنية بعدما طاحت روما وأثينا وعفى على آثارهما الزمن. ص _081(1/78)
ونحن نستغرب هذا الكنود ونرى لزاما علينا أن نذكر أبناءنا به لا لشيء إلا ليعلموا ما لهم من حقوق، وما تكنه أفئدة الآخرين من عقوق وحسب. ويسرنا أن يوجد علماء منصفون من رجالات الغرب يروون الحقيقة العلمية غير مشوبة بلوثات التعصب الأعمى. ومن بين هؤلاء العلامة "روبرت بريفال " الذى ملأ كتابه بالأدلة القاطعة على ما للعرب من أياد سابغة أهلهم لأدائها تفوقهم العظيم على العالم كله يوم كانت أزمة العالم فى أيديهم.. فهذا العالم المنصف يستعرض تاريخ أوروبا فى القرون الأولى للميلاد إلى عصر النهضة الحديثة استعراضا مستوعبا نفاذا، ثم يجزم فى ثقة العالم المستبصر ـ بأن المقدمات التى تنتزع من دراسة هذا التاريخ يستحيل أن تنتج ما يدعيه بعض المدعين من أن النهضة الحديثة كانت جنينا تم تكوينه فى أحشاء أوروبا. كلا. كلا.. إنها نهضة مجلوبة البذور من الخارج، واسمع ما يقول: "إن النور الذى اشتعلت منه الحضارة مرة ثانية لم تشرق من جذوة الثقافة اليونانية الرومانية التى استخفت بين خرائب أوروبا، ولا من الحى الميت على البسفور (يعنى بيزنطة).. إنه لم يظهر من الشمال ولا من الهاجمين على الإمبراطورية من الجنوب. بل برع من العرب ".. ثم يقول: إن النهضة الحقيقية لا ترجع إلى القرن الخامس عشر فحسب، بل إلى تأثير العرب والمغاربة فى إنهاض الثقافة. ولم تكن إيطاليا مهدا لحياة أوروبا الجديدة بل الأندلس (أسبانيا). لأن أوروبا ـ بعد هبوطها المتواتر فى الحالة الوحشية من أدنى إلى أسفل ـ كانت قد بلغت الأعماق من الجهل والفساد، بينما مدن العالم العربى "بغداد" و "القاهرة" و "قرطبة " و "طليطلة " كانت وحدها مراكز الحضارة والنشاط العقلى...ومن ثم ظهرت الحياة الجديدة التى نمت فى شكل ارتقاء إنسانى جديد...ومن امتداد الزمن الذى أثر فيها نفوذ ثقافتهم بدأت الحياة الجديدة تتحرك... ثم قال: وهنا أمر قد ذكر مرارا ولكنه مع هذا قد أهمل بالعناد واستخف به(1/79)
الإصرار. ص _082
إن دين أوروبا " للكلب الكافر" طبعا لم يجد محلا فى نسق التاريخ المسيحى.. والتزوير الموصول قد غلب جميع التصورات اللاحقة... حتى المؤرخ "جيبون " قد عامل الإسلام بما لا يستحقه. وهذا مثال لسلطان التقاليد العرفية على أفطن مخالفيها. فلم يكن هناك إلى القرن الماضى شئ يوصل إلى العلم الصحيح بتاريخ العرب وثقافتهم.. وأما التقارير التى نشرت عن محمد (صلى الله عليه وسلم)، وعن "الإسلام " قبل بداية القرن التاسع عشر، فإنها تستحق أن تُعتبر تحفا أدبية محضة . واليوم كذلك حين سهل الوصول إلى أصح العلم وأوسعه يندر أن يعترف تاريخ من تواريخ القرون الوسطى برعاية الثقافة الإسلامية للعلم إلا اعترافا موسوما بالتحقير. إن تاريخ بعث "أوروبا" من مواتها قد كتب دائما دون إشارة إلى نفوذ الحضارة العربية اللهم إلا بيان "فوز الصليب على الهلال " أو "مطالبة أسبانيا بالتحرر من نير العرب "... كما أن الدكتور "أوسبرن تايلر" قد أتم ـ ببراعة ـ مجلدين كبيرين عن نشوء العقل فى القرون الوسطى ولكن من دون تنويه ما ـ بوجود الثقافة الإسلامية ولا بآثارها العظيمة"!!! * * * ونحن لا ندرى متى ينتهى حقد "أوروبا". ونعجب لاطراد هذا الأسلوب فى غمط حقنا وجحد فضلنا...! وقد تكون ميادين السياسة ملأى بالأطماع والمآرب الصغيرة. لكن أما كان الأجدر بميادين العلم أن تتنزه عن أحقاد الساسة وهى تخط تاريخ الإنسانية؟ ثم إن الإسلام فتح ذراعيه للعلماء من كل دين! ورفع مكانتهم فى بلاده دون تحرج. بل إن الإسلام ترك لكل ذى همه من أبناء الأديان الأخرى أن يتابع نشاطه وأن يظفر بثمار جهوده من غير تنقص ولا هوان... أفما كان يجب أن يلقى مثل هذه المعاملة أو بعضها..! ص _083(1/80)
إن الأستاذ المؤلف لا يسعه إلا الاعتراف بهذه الحقيقة فى كتابه حيث يقول: إن اليهود كانوا يشتركون تحت التسامح التام من قِبلِ حكومة العرب فى الارتقاء الثقافى لدولة الخلافة ".. وعندما انتشروا فى أوروبا على الأخص بعد انتصار الموحدين، حملوا تلك الثقافة إلى أبعد أراضى البرية... ونحن نجد أنهم كانوا يعلمون ويتباحثون بحرية مع ساكنى الصوامع المنعزلة الذين غلب على تعصبهم الدينى إعجابهم بتلك العلوم العربية... فرهبان فرنسا وألمانيا كانوا ينالون منهم كتب هذه العلوم الجديدة حتى الراهبات المتعلمات فى صومعات " نورنجيان " مثل: "هيلديجارد" الشهيرة و "هروسوتيا " لم تزورا عن الاستفادة من علومهم. وقد أنشأنا مدارس كثيرة فيما بعد مثل مدرسة "كيم هيس " و "بن عذرا" فى "ناريون " حيث كانت العلوم العربية رائجة والعناية بترجمة الكتب العربية قائمة. وكثير من اليهود تبع "وليم النورماندى" إلى إنجلترا ونالوا حمايته. وبنوا هناك لأول مرة البيوت الحجرية التى يمكن أن تشاهد إلى الآن فى "لنكولن" و "سان اندموند سيرى" ثم أنشأوا مدرسة للعلوم فى أكسفورد... وبإشراف خلفائهم فى مدرسة "أكسفورد" ـ هذه ـ تعلم "روجر بيكون " اللغة العربية والعلوم العربية.. أقول: وأثر العرب المتغلغل فى الفكر الأوروبى، لا يقل عنه أثرهم فى التقدم العمرانى والارتقاء الفنى. إن هؤلاء المتدينين القدامى من حملة الإسلام هم أصحاب اليد الطولى فى إيقاظ اقتصاديات أوروبا! يقول المؤلف تحت عنوان "تجديد أوروبا ": "إن الحركة الصناعية والتجارية للشرق وللعرب فى الأندلس وصقلية هى التى خلقت تجارة أوروبا وصناعاتها ". ومنها تقدمت الثروة وتضاعفت القوة لطبقات التجار، ونشأت المدن التجارية ثم تقوت الهيئات النيابية إلى أن اشتبكت بسلطات النظام الإقطاعى فنشأت قوة جديدة للجمهوريات الحرة ومجالس الشورى قوضت ظلم النظام البارونى وعدوانه. ص _084(1/81)
وهكذا دخلت الحرية السياسية والنظم أوروبا مثل دخول الثقافة مع رزم الأمتعة من سواحل بحر الروم الشرقية. وقبل أن تنمو التجارة والصناعة، وقبل أن تكبر المقاطعات فى الجوهر والمعنى بواسطة التجارة الشرقية لم يكن هناك مجالي للثروة، ولا كانت هناك المدن. إن المدن على سواحل "قلطالونيا" و "برانس " كانت أولى تقدما وأبرز فى الأهمية والحياة بوساطة الاتجار مع العرب.. وكانت الجمهوريات المستقلة قد تأسست فى "مارسيليا" و "آرل وينس ". والمصدر الذى صدرت منه تلك الثروة من أقدم الزمن يمكن أن يستنبط من بيان بطريرك أورليانز "ثيوذولف " فى وصف رحلته إلى جنوب فرنسا بوصف كونه أحد موفدى شارلمان، إذ يقول هذا البطريرك: "إنه عند وصولنا إلى مرسيليا جاء الناس من الرجال والنساء والأولاد والشيوخ أفواجا أفواجا حاملين معهم هدايا مقتنعين بأنهم يقدمونها إلينا ليقضوا بغيتهم. فأحدهم كان يقدم البلورات واللآلئ الشرقية... والثانى كومة من قطع الذهب كانت تلمع عليها حروف وعبارات عربية. والثالث كان يقول: عندى ثياب عربية لا يمكن أن يكون أى شىء آخر أحسن منها فى ثبات اللون وجودة الصناعة... والآخر كان يرينا جلودا مدبوغة من قرطبة.. بعضها أبيض ناصع، وبعضها أحمر قان، بينما الثانى كان يقدم لنا السجاجيد.. لله ما كان أعظم تقدمنا ". ونتمنى أن يقع الكتاب بين يدى القارئ حتى يستطيع أن يستبين من سطوره أطراف الموضوع كله فى إيجاز ودقة ووفاء. وتلك خطة فى حرية البحث تحمد للمؤلف الكبير وتعد فى مجال الصدق العلمى مثلا يحتذى... والمترجم السيد "أبو النصر الحسينى" مسلم هندى فاضل تعرض للترجمة حتى أخرجها فى هذا الثوب الحسن... ثم تتبع بتعليقات يسيرة بعض الأفكار التى التبس فيها الأمر على صاحب الكتاب فشرحها على ضوء ما يعرف المسلمون دينهم من مصادره وحدها. ص _085(1/82)
وأملنا أن تتحقق بنشر هذا الكتاب غاية كريمة لا يختلف عليها الناس، وإن تباينت مذاهبهم وأهواؤهم... إن الحقيقة التى يحاول التعصب طمسها ـ ولن يتيسر له ذلك ـ هى أن العرب وصلوا ما انقطع من تفكير الإنسانية الراقى، وتناولوا تراث الأقدمين العقلى والروحى بعناية، فصوبوا ما يستحق التصويب، وخطئوا ما يستحق التخطئة... وأن ظهورهم كان يمنا على العالم، وبركة فى هذه الأرض... وأن أوروبا لم تستفد منهم ما دعم كيانها المادى والأدبى فحسب. بل ما خلقها خلقا جديد ألم يخطر على بال سكانها القدماء، خلقا لم تكن لتتهيأ له قط لو وكلت إلى نفسها وتركت مع ظروفها... لكن فضل الإسلام على أقطار الدنيا شئ تضيق به الكنيسة أشد الضيق وتسخط عليه السخط كله.. وهى فى يوم الناس هذا تبذل كل ما أتيح لها من وسائل الدعاية لتوهم الأجيال الجديدة أن الإسلام دين لا يستحق البقاء... وأنه يجب القضاء على أهله ورمى آمالهم بالخيبة، وقضاياهم بالفشل، وحظوظهم بالنحس. وأن الإسلام ـ فى حاضره القريب ـ مرهوب العدوان... مخوف التعاليم! وأنه ـ فى البعيد ـ قليل الخير قريب الظلم... ومن ثم ينبغى الخلاص منه بأى وسيلة... وبهذا المنطق المسود الغشوم الجحود يراد تصوير تاريخنا، وتصوير ديننا، ومعاملة الألوف المؤلفة التى تعيش به راضية وتنعش العالم بتقاليد النبل والفضل، هذه التقاليد التى نحيا فى نطاقها من قرون... الحق يقال: إن أضغان الصليبية على الإسلام وأهله أعيت المداوين وانتشر سوادها فى الأولين والآخرين... وما بد من أن يفتح المسلمون عيونهم، ويأخذوا حذرهم... وفى الحرب الباردة الناشئة الآن بين الشرق والغرب، أراد "الجنرال أيزنهاور" أن يتلطف بشىء من فضل العرب الأولين على المدنية الحديثة. وأشاد بما قدموا للعلم من أياد مذكورة. والرئيس "أيزنهاور" هو قائد الولايات المتحدة، إحدى الدول الكبرى الثلاث التى تحمى إسرائيل بعد إقامتها من الوهم. ص _086(1/83)
ويسرنى أن أثبت تعليق الدكتور "سعيد عبده " على هذه الشهادة... قال: أعجبنى فى كلمة الرئيس "أيزنهاور" أمام الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة قوله : " إنى عندما أنظر إلى المستقبل أرى دولا عربية تبرز، وتسهم فى أمور هذا القرن إسهامآ يفوق ما نستطيع أن ننساه لأسلافنا الماضين. إننا ما زلنا نذكر أن علم "الحساب " وعلم "الجبر" الحاليين مدينان بالكثير إلى العلوم الرياضية العربية. كما نذكر أن العرب قد وضعوا أسس العلوم الطبية والفلكية التى يتمتع بها الغرب الآن. وفوق ذلك.. فإننا نذكر أن الشرق الأدنى كان مهبط الديانات الثلاث ". إنها كلمة حق جاءت متأخرة بعد إنكار طويل يكاد يكون متفقا عليه بين الكتاب الغربيين، إنكار لفضل العرب على حضارة العصر الحديث. إن الوسام الأكبر الذى كان هؤلاء الكتاب ينعمون به على العرب. هو أنهم سعاة بريد بين حضارتين، أى مجرد مترجمين ونساخين لحضارة الإغريق. بيد أن هناك ـ إلى جانب أفضال العرب التى ذكرها الرئيس "أيزنهاور" ـ فضلا آخر لم يتنبه إليه الرئيس. وربما كان فى الظروف الدولية الحاضرة ـ أولى بالذكر والتنويه ـ من الفلك والطب والكيمياء والجبر والحساب. وهذا الفضل هو أن العرب هم الذين وضعوا سياسة "سيف المعز وذهبه ". هذه السياسة التى حاولت الدول الغربية كما يحاول الرئيس "أيزنهاور" الآن فرضها على العرب فى مشروعه الأول الذى مات فى عمر الزهور. وفى"مشروعه الثانى الذى ابتلى بالإجهاض يوم الحمل. إن الدول العربية تدرك تماما ما وراء السيف والذهب. إنها عملة ضربت عندنا منذ قديم الزمن ـ ومن المحال أن تخدعنا مهما بذل فيها من زيف وتمويه. والدول الغربية التى ما زالت تحاول فرض هذه السياسة على العرب. سياسة الإرهاب والرشوة، أو الرفاهية فى الأقفاص الذهبية، والأغلال المصنوعة من الحرير. إنما تحاول أن تبيع "التمر" فى أسواق "مكة " أو أسواق" بغداد". * * * ص _087(1/84)
الإسلام طريد القانون الدولي إن التدين المريض إذا تسلَّط صنع المآثم، وإذا تعصَّب عمى عن القيم كلها، ولم يعترف لخصومه بحمى يأوون إليه. ونحن ـ المسلمين ـ نسائل من سبقونا من أهل الكتاب: إن الله واهب الحياة لنا ولكم، فكيف تستكثرونها علينا؟ ومهد الأرض لنا ولكم، فكيف تحتازونها دوننا؟ ومنحنا وإياكم الفكر، فكيف ترضون لأنفسكم ما ترون من رأى وما تذهبون من مذهب، ثم تغضبون أن نرى ما لا ترون، وأن نذهب إلى غير ما تذهبون؟ من الذى خضكم بالعصمة، وأخطاؤكم زحمت البر والبحر؟! وهبوا أن الحق تاهت معالمه بيننا وبينكم، فلماذا لا نلتقى على خطة سواء، تسع كل امرئ وما يعتقد؟ يا قوم.. ماذا يصنع المسلم إذا كنتم ترخصون دمه، وتهدرون كرامته، وتعوقون دعوته، وتسوئون سمعته، ولا ترضون منه إلا أن يدع دينه، وهو يوقن من أعماق قلبه بصحته وسلامة منهجه، ورضا رب العالمين؟ (قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ). قل يصدق القارئ أن أحقاد أوروبا على الإسلام لم تهدأ فى قرن من القرون القديمة أو الحديثة، وأن عاطفتها هذه ضد الدين النقى الطيب، قد ترجمت عنها فيما شرعت من قوانين، لا لتعاقب بها المسلمين كأفراد، بل لتنكر وجودهم الإنسانى كجماعات ودول.! إن هذه هى الحقيقة الكالحة. ولقد رسمت هذه الخطة ثم وكل إلى القادة العسكريين والزعماء السياسيين، وإلى حشد هائل من رجال القلم ودهاة الأمم أن ينفذوها فى أمد يطول أو يقصر حسب الظروف المتاحة والمقاومة المتوقعة. ص _088(1/85)
ونجحت " أوروبا " ومعها "أمريكا" فى إلحاق نكبات فادحة بالإسلام، كما استطاعت نفث دخان كثيف فى آفاقه وإلحاق أذى كثير بسمعته. ونجحت "أوروبا" ومعها "أمريكا" فى تخسير القضايا الإسلامية وإسقاط قيمتها فى المجال الدولى. بل إنهما بعد أن تآمرتا علي ذبح المسلمين فى فلسطين ـ لأنهم مسلمون فحسب ـ حظرت عليهم أن يرسلوا أنيناً أو يقدموا شكاة بهذا العنوان البغيض، عنوان الإسلام المضطهد المستباح أهلوه. فليتظلموا مما أصابهم باسم العروبة مثلا. وفى هذه الحالة يقبل التظلم شكلا ولكنه يرفض موضوعا. أجل.. يقبل شكلا احتراما لمراسم المدنية الحديثة. ويرفض موضوعا لأن سحق المسلمين، ومحو دينهم من العالمين هدف استعمارى يتواصى الكل بضرورة الوصول إليه. وقد رأينا "أوروبا" و "أمريكا" يتخذان للقضاء على الإسلام الخطة الآتية: 1- كان الخليفة العثمانى ـ يشبه بابا روما ـ فى أنه رمز دينى لمئات الملايين من الأتباع المنتشرين على الأرض. وقد أمكن فى الحرب العالمية الأولى طرد الخليفة والقضاء على الخلافة ومحو هذه الشارة التى تترابط على بريقها الباهت فلول الإسلام المهزوم. 2- اتجهت جهود الاستعمار بعد ذلك إلى تفكيك الأمة الإسلامية حتى يتلاشى كيانها المادى والأدبى. فقسمها إلى عشرات من الدول الصغيرة، وأقام بين كل دولة وأخرى حدودا لا تعدوها.. 3- جعل القومية الخاصة شعار كل دولة من هذه الدول المصنوعة. ومنع ـ فى صراحة حينا وفى التواء حينا آخر ـ أن يكون الإسلام روحا للدولة أو دعامة لنظمها. 4- حظر الاحتكام إلى قوانين الإسلام فى الشرائع المدنية، والجنائية، والتجارية وما إليها. ص _089(1/86)
وترك قوانين الأحوال الشخصية ريثما تسنح فرصة للقضاء عليها هى الأخرى. 5- فصل الدين عن التعليم العام، ليخلق أجيالا مبتوتة الصلة بالإسلام، أجيالا تتردد بين الجهل به والجحود له. 6- فصل الإسلام عن تقاليد المجتمع فى البيت والشارع والأماكن العامة والخاصة، حتى ينظر إلى الإسلام وكأنه الآثار القديمة التى يجب إطراحها، أو يمكن الاستغناء عنها. 7- تمكين الآفات العلمية والخلقية من نهش الإسلام ونقد أصوله وفروعه والعبث بمقدساته وشعائره، مع إبراز الأديان والمذاهب الأخرى فى إطار من الهيبة والكرامة.. والواقع أن الاستعمار لم ينقطع له دأب، منذ احتل بلادنا كى يحيل الإسلام ركاما من الأنقاض، وأهله أوزاعا من العبيد، وبذلك يخلص منه ومنهم على السواء ولو أن الأمور سارت وفق ما يشتهى لكان الإسلام اليوم أثرا بعد عين. إن عناية الله أدركتنا قبل أن ينتهى ديننا وننتهى نحن معه. وقد لحقتنا هذه العناية والمعركة بين المغيرين والمدافعين تنتقل على عجل من دور إلى دور، وتأخذ صورا شتى. ومن الخبر أن نستبين مواقفنا استبانة جيدة. فإن الأمة الإسلامية المترامية الأطراف إن كانت قد أحرزت مكاسب قليلة هنا وهناك، فالحقيقة المريرة لا تزال قائمة. وهى أنها ضعيفة الأخذ لنفسها وسط عداة يضيقون عليها الخناق وينسجون لها الأكفان. إن "ريتشارد" و "لويس " وغيرهما من قادة الصليبية القديمة قد عادوا للحياة مرة أخرى يحملون أسماء غير الأسماء. ولكن أحقادهم واضحة ونياتهم لائحة، وخططهم لم يغيرها إلا فارق من الزمن فحسب. ما بد من أن نراجع أنفسنا وأحوالنا، وأن نحصى مغارمنا ومغانمنا، وأن نتفرس فى ملامح خصومنا ونتغلغل فى طواياهم حتى نبنى دفاعنا المستقبل على ركائز قويمة. الأخطاء التى ارتكبها أسلافنا فسقطوا لا يجوز أن نقع فيها. ص _090(1/87)
والحيل التى جرَّبها أعداؤنا فظفروا لا يجوز أن ننخدع بها. لقد كنا كجسم فارغ رائع، نشبت فيه حمى مهلكة، ما يصاب بها أحد وينجو. إلا أن الداء الذى طوى العماليق نجانا الله منه، والاستعمار الذى أباد أجناسا أخرى فى قارات الدنيا بطل كيده عندنا. وأفلحت الأمة الإسلامية فى استرداد سلامتها منه، وهى لما تزل من عقابيل العلة تجاهد فى طلب العافية التامة. ونحن لا نريد أن تعروها نكسة، أو يؤخر شفاءها تهاون. ولذلك نكتب هذه الكلمات، استقصاء لأسباب العافية وتتبعا لأعراض المرض وجراثيمه ومكامنه ومساربه حتى نبرأ إلى الأبد منه. ص _091(1/88)
برنامج للارتداد كان بالنا - نحن المسلمين - خاليا حين استقبلنا هذا العصر. وكان تفكيرنا قريبا، وأخذنا للأمور من أيسر جوانبها. وصحيح أننا وجدنا الأوربيين جاسوا خلال ديارنا ووضعوا أيديهم على مقاليدها وغصبونا كثيرا من الحريات والحقوق التى تقررها الفطرة لنا. بيد أن ذلك - كما فهمنا بادى الرأى - كان غلب القوى على الضعيف. وللغلب المادى منطق حيوانى يؤذى المشاعر، ولكن علاجه قصير، والخلاص منه تقرره جولة أو جولتان. لم تكن المشاعر التى صرفت الناس فى القرون الوسطى تمر بأذهاننا. أعنى: لم تكن الخصومة بسبب الدين مظنة الجور علينا واحتلال أرضنا. كذلك كنا نفكر.. حتى صحونا من منامنا، أو استفقنا من بلاهتنا، فوجدنا الأوربيين الغزاة يطوون أفئدتهم على جميع المشاعر التى حركت أسلافهم الأقدمين حين حاربونا باسم "الصليب " زهاء قرنين من الزمان. إنهم هم هم، بغضاؤهم للإسلام لم تنقص، بل ظلت فى نماء، وسخطهم على أهله لا تزيده الليالى إلا ضراما. كل ما أفادوه من تقدم علمى فى إبان غفوتنا الأخيرة، أنهم غيروا الوسائل وأضافوا إليها مقدارا أكبر من الختل والخبث، وطوروا السلاح ليجعلوه أشد فتكا وأوسع هلكا. ثم حشدوا كل ما لديهم ليجهزوا - فى سكون أو ضجيج - على الكتاب والسنة، أى على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم عدوهم الألد. ثم ليمزقوا أمته شر ممزق، فيسلطوا عليها من صنوف البلاء ما يجعلها تتعثر فى طلب النجاة دون جدوى. إن الأمة الإسلامية ظلت دهرا، وهى فى نظر الغرب لا يعترف لها بكيان أدبى ولا تتوارث الأجيال غير كراهيتها والسطو عليها. صحيح أنه قام الآن بناء للأمم المتحدة يسوى فى عنوانه بين أهل الأرض. ص _092(1/89)
ولكن هذا العنوان شىء غير ما يخفى تحته. إنه يعتبر قيام " إسرائيل " على أنقاض العرب حقيقة محتومة. ويرى الدفاع عن. وجودها قانونا ملزما. ويرى عودة أهل "فلسطين " إلى بلدهم أمراً ضد النظام العالمى والأمن الدولى! إن هذا التفكير بقية من ضغائن الغرب على الإسلام وأتباعه، وهى بقية تنكمش الآن أمام الظروف المحرجة. وعندما تواتيها الفرصة، فسوف تمتد لتجتاح أقطار الإسلام كلها. وهناك الوضع القانونى "لدار الإسلام" كما شرحه الدكتور "محمد حافظ غانم"فى كتابه"المجتمعات الدولية الإقليمية" تحت عنوان"العائلة الدولية كانت تستبعد دار الإسلام من حظيرتها" قال: "ومنذ نشأة القانون الدولى الحديث كان من المقطوع به اعتبار الإسلام خارج نطاق العلاقات الدولية، وعدم الاعتراف بتمتع الشعوب الإسلامية بالحقوق التى يقررها هذا القانون . وعلى هذا الأساس لم يكن الفقهاء الأوروبيون راغبين فى اعتبار الدولة العثمانية جزءا من الجماعة الدولية. فـ "جروسيوس " أب القانون الدولى قال بوجوب عدم معاملة الشعوب غير المسيحية على قدم المساواة مع الشعوب المسيحية. ومع أنه يرى القانون الطبيعى يجيز عقد معاهدات مع أعداء الدين المسيحى إلا أنه نادى بتكتل الأمراء المسيحيين ضد أعداء العقيدة. و "جنتيس " هاجم "فرنسوا الأول " ملك فرنسا لعقده معاهدة مع السلطان سليمان العثمانى فى سنة 1535 م. مع أن هذه المعاهدة أقامت سلاما بين الدولتين مدة حياة الملكين. ص _093(1/90)
وأعفت الرعايا الفرنسيين من دفع الجزية التى كانت مقررة على غير المسلمين إذا ما أقاموا فى دار الإسلام، ومنحتهم امتيازات دينية وقضائية. وذلك على أساس أن هذه المعاهدة تقيم تعاونا بين ملك مسيحى، وبين غير المؤمنين!. بل لقد ذهب فقهاء آخرون إلى أنه من الممكن إقامة سلام دائم فى أوروبا على أساس تكتيل الدول المسيحية ضد العثمانيين. فظهرت عدة مشروعات من هذا النوع فى خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر كمشروع " ويليام بن " ومشروع " الكاردينال البرونى ". كما أن الدول الأوروبية من ناحيتها لم تكن راغبة فى إشراك "الدولة العثمانية" فى العائلة الدولية. فحيثما وضعت أسس القانون الدولى فى مؤتمر "وستفاليا" سنة 1648 لم تشترك الدولة العثمانية فى هذا الشأن. وفى القرن الثامن عشر تبين للدول الأوروبية ضعف قوة الدولة العثمانية وتنافست فيما بينها على التهام أملاكها. ولم يكن من مصلحتها أن تمنح هذه الدولة الحقوق للدول فى القانون الدولى العام. بل إن الدول الأوروبية فى تعاملها مع الشعوب الإسلامية كانت تنظر إليها كجماعات همجية غير جديرة بالتمتع بقواعد قانون الحرب . لقد اعتبر الاستيلاء على أراضى المسلمين عملا فاضلا يدعو إلى الفخر. وبعد انتهاء الحرب النابوليونية فكرت بعض الدول فى دعوة الدولة العثمانية إلى مؤتمر فيينما سنة 1815 حتى يمكن تخفيف المنافسة بين الدول الأوروبية على اقتسام أملاك هذه الدولة. ص _094(1/91)
ولكن هذا الاتجاه لم يلق قبولا لدى الجميع، وبقيت الدولة العثمانية خارج الجماعة الدولية . ومع أن الدولة العثمانية تبادلت التمثيل الديبلوماسي مع الدول الأوروبية. ومع أنها عقدت معها معاهدات متعددة، إلا أن فقهاء القانون الدولى ظلوا ينكرون خضوع الدول الإسلامية للقانون الدولى العام. فقرر " سير وليام سكوت " أن القانون الدولى لا يطبق على الشعوب التى توجد خارج أوروبا. وذكر أنه من الصعب مثلا مطالبة رعايا مراكش باحترام قواعد القانون الدولى كما تسرى بين الدول الأوروبية. وقرر " هولاند" أن اختلاف مستوى الحضارة بين الدول الأوروبية وبين الشعوب غير الأوروبية يمنع المساواة بينها . ومع ذلك وجد من الفقهاء من قرر أنه نظرا لأن الدولة العثمانية عقدت المعاهدات وتبادلت التمثيل الديبلوماسى مع الدول الأوروبية، فإن القواعد العامة للقانون الدولى تطبق عليها. ويخلص مما تقدم أنه حتى النصف الأول من القرن التاسع عشر لم تكن الدولة العثمانية أو أى دولة إسلامية أخرى تتمتع بحقوق القانون الدولى. وقرر "ويتون " فى سنة 1845 أنه: "فيما يتعلق بالعلاقات بين الدول المسيحية وبين الدول الإسلامية كانت المسيحية فى بعض الأحوال تقبل القانون الإسلامى أو تعدل القانون الدولى للمسيحية فى علاقاتها مع المسلمين، فكانت مثلا تقبل فدية للأسرى" . وفى خلال حرب القوم (سنة 1854- 1856) اتضح للدول الأوروبية أن استمرار استبعاد الدولة العثمانية من العائلة الدولية يزيد الصراع فيما بينها على الاستيلاء على أملاك الرجل المريض. ص _095(1/92)
ولهذا دعى السلطان العثمانى باتفاق جميع الدول الموقعة على صلح باريس سنة 1856 إلى الاشتراك فى القانون العام وفى الجماعة الأوروبية . ولقد فسر أغلب الفقهاء الأوربيين نص هذه المادة على اعتبار أنه يمنح "تركيا" كل مزايا القانون الدولى ، ويفيد دخولها فى العائلة الدولية، وبذلك بدأ اشتراكها فى وضع قواعد القانون الدولى. * * * * الدول العربية لم تشترك فى وضع القانون الدولى: من الجلى أن الدولة العربية لم تساهم فى وضع القواعد التقليدية للقانون الدولى العام. فمن ناحية.. ظلت هذه الدول مستبعدة عن العائلة الدولية فترة طويلة- كما قدمنا- على اعتبار أنها كانت جزءا من دار الإسلام. ومن ناحية أخرى.. حينما قبلت بعض الدول الإسلامية فى العائلة الدولية كانت أغلب الدول العربية غير مستقلة. إذ أنها كانت تخضع للسيادة العثمانية أو للاستعمار الأوروبى. وكان من اللازم أن تنتظر أكثر الدول العربية حربين عالميتين حتى تحصل على استقلالها . وعلى هذا النحو قبلت كل دولة عربية بمجرد تخلصها من الحكم الأجنبى والاعتراف بسيادتها كل قواعد القانون الدولى كشرط لدخولها فى العائلة الدولية، علمآ بأن كثيرآ من هذه القواعد لا يمكن تبريرها إلا على أساس كونها تلائم مصالح الدول الأوروبية. فالقانون الدولى التقليدي يعترف بالاستعمار، ولا يقر حق تقرير المصير. ويعترف بشرعية المعاهدات التى تفرض على الشعوب بغير رضاها. ولا يضمن حقوق الإنسان، ولا يكفل حماية تملك كل دولة لمواردها الاقتصادية. ويضع أنظمة تبيح تسلط الدول الكبرى على أنواع من مياه الدول الداخلية والإقليمية. ص _096(1/93)
كل هذا يفسر عدم رضاء الشعوب العربية - وهى تتفق فى هذا مع كافة الشعوب الآسيوية والإفريقية - عن كثير من قواعد القانون الدولى العام . ولا جدال فى أن اشتراك الدول العربية فى المجتمع الدولى الحديث سوف يتيح لها مناقشة قواعد القانون الدولى، والاشتراك فى تعديلها. وهذا أمر اتضح بالفعل فى خلال اجتماع المؤتمرات الدولية كمؤتمر "سان فرانسيسكو" سنة 1945 وفى مناقشات وقرارات المنظمات الدولية حيث كانت الدول العربية تحاول على الدوام أن تجعل قواعد القانون الدولى تتمشى مع مصالحها ومصالح الشعوب الآسيوية والإفريقية، ومبادئ المساواة والعدالة واحترام حقوق الإنسان. ونحن نعتقد أنه من اللازم أن تبذل الدول العربية قصارى جهدها فى هذه المرحلة الانتقالية للقانون الدولى العام لكى تراجع - بصفة عامة - كافة قواعد هذا القانون، ولكى تساهم فى تطوير القانون الدولى بشكل يتفق مع احتياجاتها وظروفها ومع الصالح العام للمجتمع الدولى. ولا ريب فى أن قيام الفقهاء العرب بإظهار فقه عربى أصيل فى ميدان القانون الدولى سوف يسهل هذه المهمة. ومن الواضح أن الأزمة الطاحنة التى يمر بها القانون الدولى العربى الآن ما هى إلا مظهر من مظاهر تدهور الثقافة الغربية وزوال سيطرتها على العالم . ونحن نأمل أن تساهم الثقافة الإسلامية والثقافات غير الأوروبية بصفة عامة فى وضع نظام جديد لحكم العلاقات الدولية، لا يستمد مصدره من حضارة قارة بعينها أو جنس بمفرده. * * * أقول: وربما حسب القارئ أن أوروبا تراجعت عن تعصبها وهذبت من سلوكها حين رضيت أن تكون الدول العربية والإسلامية معها جنبا إلى جنب، أو أن آلام حربين كبيرتين هى التى أثمرت هذا الاعتدال فى السياسة، وأوحت إلى الأخلاف أن يتركوا سياسة الأسلاف. الواقع ينطق بغير هذا.. إن العرب انضموا إلى الحلفاء فى الحرب الأولى فجوزوا على صداقتهم بوعد "بلفور". ص _097(1/94)
وانضموا إليهم فى الحرب الثانية فجوزوا بتنفيذه، وخلق "إسرائيل ". وقيل بعد ما أنشئت: إنها خلقت لتبقى. إذن ما سر هذا التحول الظاهرى؟ والجواب أن حقد "أوروبا" على الإسلام وأتباعه لم ينقص إن لم يكن زاد بقدر ما يلقى الاستعمار فى الدنيا من كفاح ومقاومة. وكل ما حدث أن أوروبا اصطنعت أساليب جديدة لمحو الإسلام من داره، استئصاله - كما تزعم - من جذوره. وهى لم تفتح المجال الدولى أمام العرب وسائر المسلمين إلا بعدما اطمأنت أن هؤلاء وأولئك قد استدرجوا للانسلاخ عن دينهم والتخلى عن حضارتهم، والبراءة من ماضيهم. وأنها قد طبخت الأمور فى الداخل والخارج، وهيأت من وسائل اللطف والعنف واللذة والألم ما يجعل المسلمين صائرين - حتما - إلى ما رسمه الغرب لهم. والواقع أن النظرة السطحية كانت توحى بأن الإسلام قد أدبرت دولته وسقطت رايته، وأن التعلق به - خصوصا فى أوساط السادة والقادة - أمسى شيئا غير مستساغ. وما زلت أذكر أن "مصر" لما سارعت إلى الاعتراف بأندونيسيا عقب تحررها من الاحتلال الهولندى قالت إحدى الصحف الغربية: إن ذلك لوحدة الدين. فانبرى رجال خارجيتنا يردون - بحماس وغضب - قائلين: إن عامل الدين لم يخطر لهم ببال فى هذا الاعتراف. ياللسفالة!! وماذا ينكر علينا إذا تمسكنا بهذا الدين؟ واهتممنا أشد الاهتمام بأحوال إخواننا فيه؟ لكنه الاستعمار الثقافى - بعد الاستعمار العسكرى - فعل فعله فى نفوس الكثيرين وجعل أوروبا تحسب أنها قد بذرت فى دار الإسلام فتنا لا تنتهى إلا بانتهاء هذا الإسلام المضطهد. بيد أن الذخائر الروحية فى أمتنا لا تنفد. وها هى ذى تقوم من سقطتها، وتقاوم خصومها، وتتشبث بالحياة العزيزة وتتهيأ لأداء رسالتها الكبرى مرة أخرى. * * * ص _098(1/95)
معنى انتشار الإسلام الإسلام شهادة بأن الله حق، وشهود لآثار ألوهيته فى صحائف الكون، وصوغ للحياة النفسية والاجتماعية وفوق ما أوحى الله لرسله. وإعداد أجيال البشر الحاضرة والمستقبلة للسير على هذا الصراط، ما نبض فى أبدانهم عرق، وخالج أفئدتهم شعور.. والإسلام من قبل ذلك علاقة عامة بين الكائنات كلها وبين بارئها الأكبر تجل جلاله.. فالعالم أجمع ـ من عرشه إلى فرشه ـ فقير أبدا إلى ربه، قائم به، خاضع له، عان لأمره. وتلك حقيقة علمية لا يمارى فيها إلا أحمق. ومن ثم فإن التمرد على الله شذوذ مستغرب وإلازورار عن دينه خطأ مبين. (أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون). إن الإسلام لله هو الصلة الطبيعية الفذة بين المخلوق والخالق. وإذا كان البشر فى هذا العصر يتواضعون على حقائق هندسية وكيماوية وفلكية مقررة ففى صدر هذه الحقائق يجب أن يعرف أن الله واحد، وأن السيرة التى يرتضيها من عباده دلالة على انقيادهم له، وتحقيقا لما يحبه لهم من خير. هى سيرة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم فهو الإنسان الكامل الذى التقت فى شخصه المثل الرفيعة للإنسانية كلها. إن الشهادة بأن الله واحد بيان لحق الخالق على المخلوق. والشهادة بأن محمدا رسوله بيان للطريق التى يسير فيها المخلوق كى يرضى الخالق. وهاتان الشهادتان هما الدعامة الأولى للإسلام. ص _099(1/96)
وقد فهم المسلمون من نصوص دينهم، أن صاحب الرسالة الخاتمة جاء متمما لما مهد إخوانه الأنبياء السابقون. وأن هؤلاء الأنبياء كانوا دعاة للإسلام بمعناه الشامل العميق. وأن مر الزمان وتفريط الأتباع طمسا معالم الرسالات السابقة وأتاحا للغو والابتداع والتحريف أن تعدو على طبيعة الدين ووجهته. فلم يكن بد من رسالة عامة ثابتة تعيد الحق إلى نصابه، وترد الكلم إلى مواضعه، وتجلو كل ما غشى وجه الفطرة من خرافة وهوى، وتضمن ألا يتكرر فى المستقبل ما حدث فى الماضى من زيغ وشرود. فكان هذا القرآن الذى غلب الزمن، وبقى محفوظا من كل ريبة. وكان رسوله الذى نشر الحق إلى أبعد مدى يبلغه جهد بشر، والذى صدع أركان الباطل فماتت بعد لأى: ( تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم ولهم عذاب أليم * وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون). * * * وانطلق صحابة محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه فى أقطار الأرض يحملون البلاغ السماوى الأخير. انطلق الصوام القوام الخاشعون المخبتون إلى كل فج عميق يعرضون الإسلام على الناس. باللغة العالمية التى يفهمها أهل الأرض كلهم جميعا، لغة الخلق الزكى والسلوك العالى. نعم إن السلف الذى حمل الإسلام، وعبر به الأبعاد الشاسعة، أرى الناس من نفسه نماذج رائعة فدخل الناس فى دين الله عن إعجاب ورغبة. وما كادوا يتعمقون هذا الدين ويتعرفون دخائله حتى صاروا حراصا على دعوته العامة مثل العرب الذين جاءوا به، أو أشد... وقد وقع قتال فى أثناء سعى العرب لتحرير الشعوب السجينة، وفك الأغلال عنها. ص _100(1/97)
وهل كان يمكن قمع الاستعمار القديم أو الحديث إلا بالسلاح؟ إن أنبل قتال وقع على ظهر الأرض هو ما خاضه أتباع محمد صلى الله عليه وسلم لرد "الرومان " إلى أوروبا من حيث جاءوا لكسر شوكة المجوسية فى فارس. ولكن كيف يتصور امرؤ راشد أن أربعة آلاف عربى مثلا يصلحون قوة عادية لفتح مصر، وتوطين الإسلام فيها جيلا بعد جيل؟؟ إنه لولا انبهار الأمم بالدين الجديد، وتجاوبها معه، وإحساسها بأنه هدية الأقدار إليها، ما دانت لأهله، ولا دخلت فيه.. ماذا عسى يصنع أربعة آلاف رجل فى قطر كمصر، أمام عشرات الألوف من جند الرومان، ومشا يعيهم؟ وهب أنهم جن فى الوغى، وأن خصومهم هباء، ما الذى جعل جماهير الشعب تسالم الوافدين، ثم تشرح صدرا بعقائدهم، ثم تهب هى لنصرتها بعد ما اعتنقتها؟ إنها طبيعة الحق عندما يحسن عرضه، وتنزاح العواقب أمام الرغبة فيه. وما مصر إلا مثلا لشقيقاتها التى كانت عانية فى أسر الرومان، ثم شامت أنوار الصدق فى هذا الدين فهوت إليه قلوبها، ثم حملت لواءه إلى يوم الناس هذا عن اعتزاز وحب. وعمر الباطل يطول بين الناس بمقدار ما تطول غيبة الحق عنهم، ولعل لهم عذرا فى البقاء عليه ما داموا لا يعرفون غيره. وقد كان الناس على نحلهم الأولى قبل الإسلام بين راض بها عن قصور، أو راض بها عن اقتناع. فلما ظهر الدين الجديد، وتيسرت المقارنة، والمقابلة، بدأ التحول العظيم يشمل سواد الشعوب هنا وهناك، فما مضى قرن على البعثة حتى كان الإسلام ملء السمع والبصر، وكانت أجهزة الدولة الإسلامية ترقب هذا التحول من بعيد وهى دهشة، بل إن بعض الولاة استبقى ضريبة الجزية على من يدخل فى الإسلام! كأن وظيفة الحاكم تعويق الناس عن الإيمان لا إغراؤهم باعتناقه. وما نذكر هذه القصة إلا لنشير إلى كذب من يزعمون أن شائبة إكراه وقعت فى انتشار الإسلام. ص _101(1/98)
إن الدولة لم تستخدم فى الإسلام قط أداة قسر على ترك دين واعتناق آخر، كما وقع ويقع فى أقطار أخرى، لخدمة أديان أخرى. وما حاجة الإسلام إلى الإكراه ومبادئه تنساب إلى القلوب من تلقاء نفسها لأنها الفطرة، وتعاليمه تنساق إلى العقول كما تنساق البديهات التى يلقاها الفكر بالتسليم ولا يستطيع أمامها مراء. إن البيئة الحرة أخصب مكان لازدهار الإسلام، ولولا شقوة الناس ما نصبوا العوائق أمام رسالته، ولتركوها تبين عن طبيعتها فى هدوء.. ومنذ أيام وقع فى يدى كتاب من هذه الكتب التى يؤلفها المبشرون والمستشرقون، ويملؤنها بالطعون فى الإسلام والضغن على نبيه. ولما كنت قد ألفت تهجم القوم فإننى لم أفزع لما ورد فى الكتاب من تهم، أعرف ويعرف غيرى قيمتها. لكن الكتاب الذى قرأته تضمن عبارات فى التعليق على انتشار الإسلام أرى من المصلحة إثباتها لأنها ترد نجاح الإسلام وارتفاع شأنه إلى خلل طارئ على القوى التى واجهها، لا إلى صلاحيته الذاتية، وأصوله النفسية والفكرية. قال المؤلف المذكور: إذا أمعنا النظر فيما كتبه مؤرخو الكنيسة منذ القرن الثالث للميلاد ألفينا حال الأمة النصرانية لذلك العهد بعيدة جدآ عما وصفها به بعض المصنفين من تقوى وصلاح. وذلك أنها فضلا عن كونها لم تكن مؤيدة بالنعمة الفعالة والغيرة والتقوى، ولم تكن راسخة على أساس التعليم الصحيح وعلى الاتحاد وثبات الإيمان كما زعموا. كان رعاتها مشتغلين بالمطامع الشخصية يتخذون العويص من مسائل الدين ذريعة للمشاجرات والمماحكات. وقد انقسموا فيها إلى فرق وبدع لا تعد. ونفوا من صدورهم ما ندب إليه الإنجيل من الموادعة والمحبة والمواساة، وعدلوا إلى المناوآت والضغائن وسائر المفاسد حتى إنهم بينما كانوا يتماحكون فى أوهامهم فى الدين أضاعوا جوهر الدين نفسه وكادت مشاجراتهم فيه تستأصله بتة. ومعظم ما ننكره الآن على بعض فرق النصرانية من باطل العقائد إنما نشأ وتأصل فى تلك الأعصر المظلمة(1/99)
فعاد بالنفع على الإسلام وأعان على انتشاره. ص _102
ونخص من تلك العقائد بالذكر عبادة القديسين والصور فإنها كانت قد بلغت وقتئذ مبلغا يفوق كل ما نراه اليوم عند بعض فرق النصارى . أما الكنيسة الشرقية فإنها أصبحت بعد انفضاض المجمع النيقاوى مرتبكة بمناقشات لا تكاد تنفض، وانتفض حبلها بمحاكمات الآريوسيين والنساطرة واليعقوبية وغيرهم من أهل البدع. على أن الذي ثبت بعد البحث أن كلا من بدعتى النساطرة واليعاقبة كان بأن تدعى اختلافا فى لفظ التعبير عن المعتقد أولى من أن تدعى اختلافا فى المعتقد نفسه، وبأن تدعى حجة يعنت بها كلا المتناظرين على الآخر أولى من أن تدعى سببا موجبا لالتئام مجامع عديدة يتردد إليها جماعة القسس والأساقفة ويتماحكون ليعلى كل واحد منهم كلمته ويحيل القضايا إلى هواه . ثم إن نافذى الكلمة وأصحاب المكانة فى قصر الملك كان واحد منهم يختص نفرا من قواد الجيش أو أصحاب الخطط يكون له عليهم الولاء ويتقوى بهم، وبذلك صارت المناصب تنال بالرشى، وصارت النصفة تباع وتشترى جهارا. أما الكنيسة الغربية فقد كان فيها من تهالك "داماسوس "، و "أورسكينوس " فى المشاحنة على منصب الأسقفية ـ أى أسقفية روما ـ ما أفضى إلى احتدام نار الفتنة وسفك الدماء بين حزبيهما حتى إن الوالى لما رأى أنه لا قتل له بقمع هذا الشر انصرف عن المدينة وترك المتنازعين وشأنهما. وكان الفوز بعد ذلك لـ "داماسوس ". قيل إن القتل استحر فى الناس فى هذه النازلة حتى بلغ عدد القتلى فى كنيسة "سيكينيوس " مائة وسبعة وثلاثين فى يوم واحد. ولم يكن من العجيب أن يشتد حرصهما على تبوء ذلك المنصب المهم لأنه كان من يتبوأه يصبح ذا دنيا عريضة وينال من صلات السيدات الرومانيات ثروة وافرة فيخرج فى الموكب والأبهة بالمركبات والمحفات مسرفا فى ترف العيش أكثر من إسراف الملوك لما كان عليه أساقفة المدن الصغيرة من الاقتصاد والزهد، ولو بعض الشىء . ص _103(1/100)
وكان أكثر ما تنشأ هذه المناقشات عن القياصرة أنفسهم ولا سيما القيصر "قسطنطيوس " فإنه إذا لم يقدر أن يميز بين صحيح الدين المسيحى وخرافات العجائز ربك الدين بكثير من المسائل الخلافية بدلا من أن يلم شعث أهل الخلاف فيه فأسعر بذلك نار مشاحنات عديدة كلما خمدت أضرمها بغيرها مما لا نهاية له. ثم ازدادت هذه الحال سوءا على عهد "يوستنيانيوس " فإنه لم يؤثر أن يقصر فى الغيرة على الدين عن أساقفة القرن الخامس والسادس حتى كان إذا قضى بقتل من يخالفه فى المذهب لا يرى أنه جاء شيئا فريا. فلما فشا فى أولياء الأمور وأرباب الدين هذا الفساد فى العقائد والأخلاق والسيرة، نشأ عنه بالطبع فساد سيرة العامة من الناس فأصبحوا على اختلاف طبقاتهم، وليس لأحدهم هم سوى جمع الأموال من الوجوه المحللة أو المحزمة، ثم إتلافها فى سرف العيش وانتهاك حرمات الله . هذا ما كان عليه حال النصرانية فى غير بلاد العرب. أما حالها فى بلاد هذه الأمة التى هى موضوع بحثنا ـ يقصد بلاد العرب ـ فلم يكن خيرا من ذلك. فقد اشتهرت هذه البلاد منذ القديم بكثرة البدع، ولعل ذلك ناشئا عن حرية القبائل واستقلالها. فكان فى نصارى العرب قوم يعتقدون أن النفس تموت مع الجسد ثم تنشر معه فى اليوم الآخر. وقيل إن "أريجانوس " هو الذى دس فيهم هذا المذهب. وكم وكم من بدعة انتشرت فى جزيرة العرب لا نقول نشأت فيها. فمن ذلك بدعة كان أصحابها يقولون: بألوهية العذراء مريم ويعبدونها كأنما هى الله، ويقربون لها أقراصا مضفورة من الرقاق يقال لها "كليرس "، وبها سمى أصحاب هذه البدعة "كليريين ". وهذه المقالة بألوهية مريم كان بعض أساقفة المجمع النيقاوى يقولون بها أيضا. فإنهم كانوا يزعمون أن مع الله الآب إلهين هما عيسى ومريم. ومن هذا كانوا يدعون بـ "المريمين ". وكان بعضهم يذهب إلى أنها تجردت عن الطبيعة البشرية وتألهت. وليس هذا ببعيد عن مذهب قوم من نصارى عصرنا قد فسدت عقيدتهم حتى(1/101)
صاروا يدعونها تكملة الثالوث. كأنما الثالوث ناقص لولاها. وقد أنكر القرآن هذا الشطط لما فيه من ص _104
الشرك (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق) ولا تجزم. ثم اتخذه محمد ذريعة للطعن فى عقيدة التثليث . وفضلا عن ذلك، فقد اجتمع أيضا فى جزيرة العرب عدد وافر من الفرق المختلفة لجأوا إليها هربا من اضطهاد القياصرة. فأدخل محمد كثيرآ من عقائدهم فى دينه كما سترى . أما اليهود الذين كانوا فى سائر البلاد أذلاء لا يعتد بهم فقد قويت شوكهم فى بلاد العرب حيث لجأ كثير منهم على إثر خراب بيت المقدس وهودوا كثيرا من ملوك العرب وقبائلهم. ولذا كان محمد فى بادئ أمره يداريهم حتى إنه أخذ عنهم كثيرا من مقالاتهم ورسومهم وعاداتهم تألفا لهم لعلهم يشايعونه، لكنهم جريا على سننهم المألوفة فى العناد لم ينقادوا له. بل ناصبوه العداوة، وكانوا من أشد خصمائه يحاربونه ويكايدونه دائما، ولم يتأت له قهرهم إلا بعد المشقة والعناء وتعريض نفسه لمهالك أودت بهم آخر الأمر. وما ذكرناه من شدة بغضهم له ولد فى قلبهم آخر الأمر بغضة لهم تضاهيها، فصار يعاملهم فى باقى عمره بأقبح مما كان يعامل به النصارى ويكثر الطعن فيهم فى قرآنه. وقد تابعه المسلمون على ذلك إلى يومنا هذا، فهم يفرقون بين اليهود والنصارى ويعدون اليهود أحقر أمة على وجه الأرض وأذلها. وقد قال بعض من اشتهر بسداد الرأى فى السياسة: إنه لا يتسنى لأحد أن يسئ قوما وينشئ دولة ما لم تساعده الفرص. فإذا علمت هذا جزمت بأن اختلال أحوال النصرانية كان من الفرص التى أعانت محمدا من الجهة الواحدة على نيل مأربه، كما أن وهن قوى الروم والفرس أطمعه من الجهة الأخرى فى الظفر بمراده فيما يقدم عليه من هاتين المملكتين اللتين كانتا قبل ذلك من القوة على ما هو معلوم، ولو كانتا باقيتين على بأسهما لكانتا ولا شك حطمتا(1/102)
الإسلام وهو فى مهده. لا تجزم أنه لم ص _105
يكن له أعوان على النشوء من النجاح الذى فازت به العرب حينما تصدوا لفتحهما وهم ينسبون فوزهم ذلك إلى دينهم الجديد والعون الإلهى الذى وصل إليهم بسببه . أما مملكة الروم فكانت قد أخذت فى الوهن والانحطاط من بعد "قسطنطين " حتى كان أكثر خلفائه لا يعرفون إلا بذميم الخلال ولا سيما الجبن والفظاظة. ولما ابتدأ أمر الإسلام كان برابرة القوط قد أغاروا على القسم الغربى من الملكة الهنكارية وتغلبوا عليه. وأما القسم الشرقى فكان برابرة الترك يغزونه من الجهة الواحدة والفرس من الأخرى، حتى أصبح وليس للروم فيه طاقة على دفع عدو قوى يهاجمهم. فلذا اضطر القيصر "موريقس " أن يؤدى الجزية إلى خاقان الترك. ولما خرج الدمستق " فقاس " على هذا القيصر وقتله. أثار بعض الجند على بعض فتفانوا عن بكرة أبيهم. حتى إن "هرقل " لما تبوأ منصب العاهلية بعد ذلك بسبع سنين لا غير، ورام أن يجمع قلبهم لم يجد حيا سوى اثنين فقط من كل الجنود الذين كانوا تحت السلاح حينما اغتصب "فقاس " السلطان. ومع أن "هرقل " هذا كان ولا شك رجلا هماما ذا رأى وتدبير، وقد أفرغ جهده فى لم شعث الجيش ورده إلى الطاعة، وظهر على الفرس حتى أخرجهم عما كانوا قد استولوا علية من بلاد الروم وتغلب أيضا على قسم من بلادهم، إلا أن مقاتل المملكة قد أصيبت . حتى لم يكن قط وقت أشأم عليها من هذا ولا أيمن منه لما كانت العرب تنويه بها. فكأن الله جلت حكمته رام أن ينتقم من نصارى المشرق لتنكبهم على نهج الدين الأقدس الذى وضعه لهم فأرسل عليهم هؤلاء العرب يضربهم بهم. * * * ص _106(1/103)
ونحن نثبت هذه العبارات على طولها، لأنها تتضمن دفاعا حارا ضد الإسلام، دفاعا لا ينقصه الذكاء ولا الجهد. إن الرجل ينسب انتشار الإسلام على حساب الرومان ـ خاصة ـ إلى ما ساد بينهم من اختلاف مذهبى، وشهوات بدنية ونفسية. ويرى أن هذا الاختلاف لفظى لا حقيقى، وأن تلك الشهوات موقوتة لا دائمة. ونحن نصدقه فى نصف ما قال ونخالفه فى النصف الآخر. أو نصدقه فيما قاله، ونخالفه فى العلل التى ذكرها. إن التثليث مولد ذاتى للخلاف والغموض على تراخى العصور. ومشكلاته حقيقية لا شكلية.. وذلك بخلاف التوحيد المطلق الذى قرره الإسلام. ثم إن الإنسانية بعد نموها الفكرى الظاهر، الذى لم يعهد مثله فى تاريخها الأول تحتاج فى إقناعها العقلى، وتربيتها النفسية، وتنظيمها الاجتماعى والسياسى، إلى دين يكافئ هذا الامتداد فى مواهبها وخصائصها. دين يشبع جوعها الروحى، وتألقها الذهنى. إنها بحاجة إلى الدين الذي تعاون النبيون جميعا على إبلاغ أصوله وتوطيد أركانه، ثم جاء صاحب الرسالة الخاتمة فأعطاه صورته النهائية المقنعة المشبعة. وإذا لم تعترف أوروبا بهذا الدين، فستبقى آخر الدهر فريسة المذاهب المادية شرقية كانت أو غربية. وستبقى صريعة الشهوات التى تغتال الطهر فى الأنفس والعدل بين الأمم، ولله الأمر من قبل ومن بعد. ص _107(1/104)
حول الخلافة الغاربة كنت طفلا فى السابعة من عمرى عندما طرد "السلطان عبد المجيد" آخر الرجال الذين حملوا لقب خليفة فى الآستانة. وسقوط الخلافة الإسلامية (الاسمية) فى العصر الحديث يشبه سقوط "روما" قديما فى البرابرة. كان له دوى بعيد المدى وإن لم نحس نحن به "فى طفولتنا، ولا شعرنا- بعد- بآلام ذلك الحدث الخطير. فقد تعلمنا فى ظل الاحتلال أنه ليس من الضرورى أن تكون للأمة الإسلامية جامعة عامة ولا خلافة قائمة...!!! ثم إن المآسى التى اقترفها الأتراك، والمهازل التى صنعها السلاطين المدعون للخلافة أعانت على تقبل الأمة لما وقع، وتخاذل الجهود لمداواة آثاره السيئة.. وأرى لزاما على الكاتب المسلم أن يشرح لأمته ملابسات ذلك السقوط الشنيع والنتائج التى تمخض عنها. ( أ ) إن منصب الخلافة ـ على جلالته ـ استمكن منه ـ فى عصور طويلة ـ أناس لا ترشحهم خلالهم أبدا له. والوظيفة تظلم إذا وليها من يعجز عن أمانتها، ومن ينزل بخلائقه عن مكانتها. وعلاج هذا الاضطراب لا يكون بإلغاء المنصب، وإنما بمضاعفة الضوابط التى تحول دون وصول المغموصين إليه. وتاريخ العالم السياسى حافل بسير الملوك والوزراء الذين نالوا مناصبهم الكبيرة بطرق صغيرة. وعندما تيقظت الشعوب لمنع هذا الخلل شرعت الدساتير التى تكفل اختيار رؤساء صالحين، ولم تصدر أحكاما قاضية بإلغاء الرياسات كلها.. وقد كان سلاطين " آل عثمان " ملوكا على حظ كبير من الغشم. ولا يصلحون ـ بداهة ـ للنيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى إقامة شئون الدين والدنيا. ص _108(1/105)
إلا أن ادعاءهم للخلافة فيه اعتراف بأن المنصب المرموق باق يحمل المعانى المنوطة به. وعلى الذين يبتغون الإصلاح أن يزيلوهم عنه ليجيئوا بأفضل منهم. أما الحكم عليه وعليهم بالإعدام فذلك ما لا مساغ له.. لكن القائد التركى "مصطفى كمال " قرر طرد الخليفة "السلطان عبد المجيد" لا لأنه حط من قدر منصبه، بل لأن السيد "مصطفى" كان متفقا مع دول أوروبا على إزالة الخلافة نفسها من تركيا. والقائد التركى عندما ألغى الخلافة لم يقصد فقط إلى فصم الروابط التى تصل تركيا بالعالم الإسلامى، بل كان ـ إلى جانب ذلك ـ يريد فصل الإسلام نفسه عن جهاز الدولة كلها، وإقامة حكومة لا دين لها. أى أنه ـ بضربة واحدة ـ حقق أمانى "أوروبا" التى تسعى لها من بضعة قرون. لقد قال لإنجلترا وفرنسا وسائر الحلفاء: دعونى أصنع بيدى ما تصبو إليه أنفسكم.. فتركوه.. وانطلقت الدعايات بعد ذلك تردد أن تركيا انتصرت، وأن الحلفاء الصليبيين انهزموا...!!! (ب) وإزالة الخلافة وإقصاء الإسلام عن الدولة لم يتما بجرة قلم. فإن جمهور الأتراك يحترم دينه ويخضع لسلطته عن طواعية. وقد ضحى هذا الشعب المؤمن كثيرا طوال خمسة قرون فى سبيل العقيدة التى ارتضاها. غير أن تضحياته الجمة ضيعها فساد الحكام وسفه "آل عثمان " وعوج السياسة التى رسموها لأنفسهم وللأمة الإسلامية معهم.. وقد ركب "مصطفى كمال " الصعب والذلول لتنفيذ مأربه، واقترف صنوفا من الغش والاحتيال والظلم والقتل لحمل الأمة على قبول فكرته، وسخر جهازا من الأجراء والمنتفعين لتلويث سمعة خصومه وتلفيق التهم ضدهم. ولن يعرف مقدار ما صنع "الكماليون " لتثبيت نظامهم الجديد إلا إذا انقضى هذا الحكم، وانكشفت الصحائف التى يطويها الآن عامدا. وحسبنا أن نلقى نظرة عجلى على الطريقة التى ولدت فيها جرثومة هذا النظام الخبيث لنتبين أسلوبه فى السير والإقناع. * * * عندما اقترح "مصطفى كمال " فصل الدين عن الدولة، وتقدم بمقترحه هذا إلى(1/106)
مجلس النواب رأى أغلب الأعضاء أن يناقشوا الفكرة، وأن يتعرفوا حقيقتها، وأن يزنوا نتائجها بضمائرهم وأفكارهم... ص _109
خاف صاحب الاقتراح عقبى البحث والدرس! وطلب أخذ الرأى دون نقاش ووافقه على ذلك أصدقاؤه من النواب. إلا أن المجلس قرر إحالة الاقتراح على لجنة الشئون القانونية لتبدى أولا وجهة نظرها فيه، ثم تعرضه بعد ذلك على المجلس، وهذا إجراء دستوري سليم. وذهب الاقتراح إلى اللجنة التى عكفت على دراسته. ولم تلبث طويلآ حتى رأت مخالفته الجلية لأصول الإسلام فرفضته. قال الشيخ " تقى الدين النبهانى": لكن "مصطفى كمال " يريد فصل الدين عن الدولة استجابة لطلب الحلفاء الذين يبغون القضاء على آخر معالم الدولة الإسلامية. لهذا فإنه ما إن رأى اتجاه اللجنة إلى الرفض حتى فقد سيطرته على أعصابه وقفز فجأة ثم اعتلى مقعدا وهو يتميز من الغيظ وصاح: "أيها السادة.. لقد اغتصب السلطان العثمانى السيادة من الشعب بالقوة، وبالقوة اعتزم الشعب أن يستردها منه. إن السلطنة يجب أن تفصل عن الخلافة وتلغى، وسواء وافقتم أم لم توافقوا فسوف يحدث هذا.! كل ما هنالك أن بعض رءوسكم سوف يسقط فى غضون ذلك.. "!! وكان يتكلم بلهجة الديكتاتور فانفض اجتماع اللجنة. ثم دُعيت الجمعية الوطنية من فورها لتناقش الاقتراح وتبدى رأيها فيه.. وأحس "مصطفى كمال " أن الاتجاه السائد يميل إلى رفض هذا الاقتراح فجمع أنصاره من حوله وطلب أخذ الرأى عليه برفع الأيدى مرة واحدة!! فاعترض النواب على هذه الخطة وقالوا: إن كان لابد من أخذ الرأى فليكن مناداة بالاسم.. فرفض "مصطفى كمال " وصاح ـ وفى صوته رنة التهديد ـ قائلا : " أنا واثق من أن المجلس سيقبل الاقتراح بإجماع الآراء، ويكفى أخذ الأصوات برفع الأيدى". ثم طرح الاقتراح على الأعضاء فلم ترتفع غير أيدى قليلة لتأكيده. لكن النتيجة أعلنت أن المجلس أقر الاقتراح بالإجماع!! فدهش النواب لذلك وقفز بعضهم فوق مقاعدهم محتجين(1/107)
صارخين: هذا غير صحيح، ونحن لم نوافق.. فصاح بهم أنصار الغازى يسكتونهم ويتبادلون معهم الشتائم...!! * * * ص _110
ونحن لا ينقضى لنا عجب من شئ واحد، جرأة هؤلاء المستبدين على الكلام باسم الشعب. وهم يعرفون معرفة اليقين أن الشعب ينبض بكرههم ويمسى ويصبح فى لعنهم. إن هذا " المصطفى كمال " يزعم أن الخليفة اغتصب وجوده الأدبي من الشعب التركى.. وأن هذا الشعب وكل إليه استرداد حقه المغتصب. مع أن الشعب ـ ممثلا فى نوابه ـ أعلن كراهيته واشمئزازه من سياسة "مصطفى كمال " وأفكاره وأساليبه. فباسم أى شعب يتكلم هذا الرجل؟ إنه يدرى أن الأتراك يمقتون شخصه وحكمه ويودون الخلاص منه فى لمح البصر. ومع ذلك يقف هذا القائد الفاجر ليقول: باسم الشعب التركى آمر بكذا، وأنهى عن كذا. قال الشيخ تقى الدين: تيقن الناس أن حكام أنقرة الجدد كفرة ملعونون، صاروا يلتفون حول الخليفة "عبد المجيد" يحاولون رجع السلطة إليه ليكون الحاكم الحقيقى فى البلاد فيقضى على هؤلاء المرتدين. وأدرك "مصطفى كمال " الخطر مجسما، وعرف أن كثرة الشعب تكرهه، وتصمه بالزندقة والإلحاد، فنشط في الدعاية ضد الخليفة والخلافة، وأثار حماسة الجمعية الوطنية حتى سنت قانونا يقضى باعتبار كل معارض للجمهورية وكل ميل إلى السلطان خيانة عقابها الموت. وشرع "الغازى" يهيئ الأجواء لإلغاء الخلافة. فقام بعض النواب يتحدثون عن فائدة الخلافة لتركيا من الوجهة السياسية العامة. فقاومهم "مصطفى كمال " وقال: "أليس من أجل الخلافة والإسلام ورجال الدين قاتل القرويون الأتراك وماتوا طيلة خمسة قرون؟ لقد آن أن تنظر تركيا إلى مصالحها وحدها، وتتجاهل الهنود والعرب، وتنقذ نفسها من زعامة المسلمين ". كذلك سار "مصطفى كمال " فى دعايته ضد الخلافة. ثم تابع حملاته على الخليفة فأبرزه هو وأنصاره فى صورة الخونة الذين يشتغلون لحساب الإنجليز. ص _111(1/108)
ولم يكتف بذلك، بل خلق موجة إرهاب ضد النواب الذين يريدون استبقاء الخلافة فى تركيا، فإن أحدهم صرح بضرورة الخلافة ووجوب المحافظة على الدين. فما كان من "مصطفى كمال " إلا أن كلف شخصا باغتياله فى الليلة التى تحدث فيها. فاغتيل هذا النائب المسلم وهو راجع إلى بيته من الجمعية الوطنية. وألقى نائب آخر خطبة إسلامية فأحضره "مصطفى كمال " وهدده بالشنق إذا فتح فمه بمثلها مرة أخرى. وبذلك نشر الرعب فى طول البلاد وعرضها، وضمن ألا يشغب عليه معارض. ثم أرسل إلى حاكم استانبول يأمره بالتشديد على الخليفة وإنذار أتباعه كى يتخلوا عنه. وتحركت الغيرة الإسلامية فى قلوب بعض الكماليين الذين توجسوا الشر من إلغاء الخلافة، فعرضوا على زعيمهم أن ينصب نفسه خليفة للمسلمين فأبى. ثم جاء وفدان أحدهما من "مصر" والآخر من "الهند" وطلبا إليه أن ينصب نفسه خليفة للمسلمين فكرر إباءه، ثم استعد للضربة القاصمة وأعلن للعالم إلغاء الخلافة فى أيار (مايو) سنة 1924. وقد يتساءل البعض: لماذا رفض هذا القائد أن يكون خليفة للمسلمين؟ أليس ذلك أمارة على كرهه الخاص لذلك النظام، وشعوره بلزوم التخلى عنه؟ ورأينا أن الرجل كان منطقيا مع رغبته فى الحكم وفى مستقبله السياسي عندما أصر على إبعاد الخلافة عن تركيا وعن شخصه أيضا. ولو أنه رضى أن يكون خليفة لعاودت قوات الحلفاء هجومها، وثابرت على القتال حتى تسقط بقية الحياة الإسلامية فى الميدان الدولى. إن أوروبا المتعصبة تحارب بالسيف وبالمال وبالعلم والقلم كل زعيم شرقى تشم فى قيادته رائحة يقظة إسلامية. والغازى "مصطفى كمال " لم تكن لديه الطاقة النفسية ولا العقلية لتحمل هذا العداء. ولذلك آثر الجبان أن يحارب أمته بدلا من أن يحارب دول أوروبا، وأن يقضى على دينها ليظفر هو بالبقاء. * * * ص _112(1/109)
قال المرحوم أحمد شوقى يرثى الخلافة، ويبكى فقدها، ويندد بسياسة مصطفى كمال نحوها: ضجت عليك مآذن ومنابر وبكت عليك ممالك ونواح الهند والهة ومصر حزينة تبكى عليك بمدمع سحاح والشام تسأل والعراق وفارس أمحا من الأرض الخلافة ماح؟ وأتت لك الجمع الجلائل مأتما فقعدن فيه مقاعد الأنواح ياللرجال لحزة موءودة فتلت بغير جريرة وجناح إن الذين آست جراحك حربهم قتلتك سلمهم بغير جراح هتكوا بأيديهم ملاءة فخرهم موشية بمواهب الفتاح نزعوا عن الأعناق خير قلادة ونضوا عن الأعطاف خير وشاح حسب أتى طول الليالى دونه قد طاح بين عشية وصباح وعلاقة فصمت عرى أسبابها كانت أبر علائق الأرواح جمعت على البر الحضور وربما جمعت عليه سائر النزاح نظمت صفوف المسلمين وخطوهم فى كل غدوة جمعة ورواح بكت الصلاة، وتلك فتنة عابث بالشرع عربيد القضاء وقاح أفتى خزعبلة وقال ضلالة وأتى بكفر فى البلاد براح ثم قال يصف مصطفى كمال: أدوا إلى الغازى النصيحة ينتصح إن الجواد يثوب بعد جماح إن الغرور سقى الرئيس براحه كيف احتيالك فى صريع الراح؟ نقل الشرائع والعقائد والقرى والناس نقل كتائب فى الساح تركته كالشبح المؤله أمة لم تسل بعد عبادة الأشباح هم أطلقوا يده كقيصر فيهمو حتى تناول كل غير مباح غرَّته طاعات الجموع ودولة وجد السواد لها هوى المرتاح وإذا أخذت المجد من أمية لم تعط غير سرابه اللماح ص _113(1/110)
ثم قال: لا تبذلوا بُرْدَ النبى لعاجز غزل يدافع دونه بالراح بالأمس أوهى المسلمين جراحة واليوم مد لهم يد الجراح فلتسمعن بكل أرض داعيا يدعو إلى "الكذاب " أو لسجاح ولتشهدن بكل أرض فتنة فيها يُباع الدين بيع سماح يفتى على ذهب المعز وسيفه وهوى النفوس وحقدها الملحاح * * * (جـ) إن قصة إلغاء الخلافة تفتح لنا باب الكلام عن صلة المسلمين بدول أوروبا وأمريكا تلك التى تسمى دون حياء ـ دول العالم الحر. هذه الدول تؤمن بالحرية لنفسها كى تصنع ما تشاء بخصومها وهى تمقت الحرية أشد المقت للآخرين، خصوصا المسلمين. ومن ثم فهى إن لم تباشر إذلالهم بحكام من دمها وجلدتها بحثت عن الحكام الخونة الذين يتسلطون على شعوبهم بالحديد والنار، ثم تعاونت معهم سرا وعلنا. إن الحرية مرادفة للإسلام. فإن الإنسان في نظر هذا الدين لا يعرف له إلا ربا واحدا يخضع له ويحتكم إليه ويناصى العباد طرا أمامه. وأزمات الحرية فى بلاد الإسلام نشأت قديما وتنشأ أبدا من ضعف الإيمان ورقة العقيدة واضطراب معنى التوحيد. ولذلك استمات المصلحون فى محاربة الاستبداد ومظاهره وتوفير الحريات كلها للأمة الإسلامية. إذ أنهم بذلك لا يضمنون الخير للناس فحسب، بل يضمنون بقاء الدين فيهم وبقاءهم على الدين. إن تقلص الحرية معناه سيادة الوثنية وذهاب الإسلام أو تزوير صور له بعيدة الصلة بجوهره. وقد اجتهد المسلمون فى أواخر دولة الخلافة كى يرسوا القواعد لحياة دستورية سليمة، وكادوا يفلحون. ص _114(1/111)
حتى جاء ذلك الأفاك التركى "مصطفى كمال " فألغى الخلافة، ومحا الشورى، وأحال النظام الدستورى أنقاضا، وتحولت تركيا ـ للأسف ـ إلى دويلة تافهة لا وزن لها ولا خطر. وتعلمت "دول العالم الحر" أن الاستبداد هو وسيلتها الفذة لتحويل الشعوب المسلمة عن دينها. فقررت أن تعبث بالدساتير فى كل بلد إسلامى، وأن تظاهر حكاما بينهم وبين الجماهير فجوات بعيدة القرار. ذلك أنه فى غيبة الحرية وسطوة القهر يمكن إلغاء مظاهر إسلامية كثيرة. أما والشعوب تحسن الأخذ لنفسها والتعبير عن مشيئتها فهى لا تدع الإسلام أبدا ولا تقبل التفريط فيه. إذا كان الإسلام قد تأذى فى الماضى من كبت الحريات فهو لم تنتقص أطرافه فى الحاضر القريب إلا تحت وطأة الاستبداد. ودول العالم الحر ـ كما تتسمى ـ تعرف أن لها علاقات بحكام لو ملكت شعوبها شيئا من الأمر لطوحت بهم تحت صفائح القبور. ولكنها دول يشد بعضها إلى البعض الآخر حقد دفين على الإسلام، وغش خبيث لأهله، من كانوا وأين كانوا! إن الاستبداد غول الأفراد والجماعات، غول الذم والكرامات. وهو ـ لا شك ـ سيبرز لك وحده، وستبدو جرثومته الخبيثة عندما تبحث عن السر فى تأخر المسلمين، وتخلف قافلتهم منذ عدة قرون. أجل.. فإن العلم لا يزدهر، والأدب لا ينهض، والقوى البشرية لا تنشط، والمواهب العليا لا تزكو، وسوق المناقشة لا تقوم.. إلا فى سعة الحرية. إن الحكم الفردى المطلق قد يظهر لماما فى بعض البلاد. وقد يكون علاجا موقوتا لبعض الحالات. وقد يكون بعض الرؤساء عباقرة على حظ كبير من الذكاء الخارق والقدرة الرائعة.. ومع التسليم بصلاحية هذا النوع من الحكم فى ظل الضرورات التى تدعو ص _115(1/112)
إليه كما يقولون. فنحن نجزم بأن المسلمين على مر العصور لم يستفيدوا منه يوما، وأن المستبدين الذين تداولوا حكم كانوا نفرا من الفراعنة دمروا على الناس معاشهم ومعادهم.. ونحن نعرف أن الحكم فى روسيا فردى. ومع ذلك فإن صاحب هذا الشأن يعلن نفوره من نزعات الأثرة التى تقارن سيطرة القادة. ويقول: إنه لا يملك ـ من نفسه ـ حق الحكم وإنما يملك باسم الحزب! نشرت الصحف تحت عنوان "أسباب إقصاء الماريشال زوكوف عن منصبه ": أعلن "خروشيشيف " لأول مرة أسباب إقصاء الماريشال "زوكوف " وزير الدفاع السابق عن منصبه وذلك فى حديثه الخاص لمدير "يونايتد برس "، فى موسكو فقال: إن " زوكوف " كان فظا تتجه أساليبه إلى الديكتاتورية. لقد كان ينفرد بالرأى غالبا دون التشاور مع زملائه. لقد كان هذا مغتفرا فى وقت الحرب ولكن ذلك لا يغتفر فى وقت السلم. وعلى الرغم من ذلك فالماريشال "زوكوف " جندى ممتاز، ولكن إذا كان "زوكوف" عظيما، فإن الحزب الشيوعى أعظم منه وأكثر أهمية ". ومضى "خروشيشيف " فقال: "إن ظهور شخصية أخرى كشخصية ستالين أو إحياء مبدأ "تقديس الشخصية" أصبح أمرا مستحيلا فى روسيا. وقد أبعد "زوكوف " عن منصبه بواسطة الهيئة الرياسية. واللجنة المركزية للحزب الشيوعى!، وليس بواسطة قواد الجيش. وأردف يقول: لقد كانت أساليب "زوكوف " ديكتاتورية، ولكنه لم يصل إلى مرتبة "ستالين " أو إلى نصف ما وصل إليه ستالين ". والغريب أن خرافة تقديس الشخصية التى يتمرد الروس عليها أو يتبرءون من وصمتها ـ هذه الخرافة يراد أن تعيش فى الشرق الإسلامى، وأن تمتد جذورها فى تربته. مع أن الإسلام أبعد شئ فى العالمين عن هذه السخافة، ويستحيل أن تعيش فى كنفه أو تحيا ويحيا هو معها حياة صحيحة. * * * ص _116(1/113)
تحقير الإسلام في بلادنا استغل الغرب تفوقه السياسى والعسكرى وسقوط أغلب الأقطار الإسلامية فى قبضته ليمحو من النفوس والأذهان كل إعزاز لهذا الدين أو إحياء لتعاليمه. ورسم خطة شاملة واعية للقضاء عليه نظريا وعمليا، واجتثاث جذوره عنوانا وموضوعا، وتوهين روابطه فى الأفراد والجماعات، وإثارة فوضى عامة فى كيانه المادى والأدبى تنتهى ـ حتما ـ بزواله وإن استغرق زمنا طويلا أو قصيرا. واختلفت دول الغرب فى طرائق إجهازها على الإسلام. فمنها المتعجل الذى يريد ذبحه بالسكين، والقضاء على أهله بالسرعة التى تقرب الغاية المنشودة. ومنها المتأنى الذى يذبح بغير سكين، ويقتل من غير أن يسفك الدماء، ويلجأ إلى العنف فى الفترات التى تستعصى فيها الضحية، ولا يبقى من التكشير عن الناب بد. وكانت سياسة " إنجلترا " فى مصر من الطراز الأخير. استطاعت هذه الدولة الماكرة أن تطعن الإسلام فى صميمه دون أن تفتعل ضجة. وما غر عليها بلوغه بنفسها وكلت إلى صنائعها تنفيذه وهى مختفية! وفى نصف المدة التى احتلت فيها مصر تمكنت من طى رقعة الإسلام عن آفاق واسعة، وخلقت طوائف شتى : بعضها غريب على الإسلام وبعضها عدو له، وبعضها يؤمن بجزء من تعاليمه ويكفر بجزء آخر. واستشرت الجراءة على هذا الدين جملة وتفصيلا. فهذا ينكر أصل الإيمان. وهذا يمارى فى حقيقة النبوَّات وإمكان الوحى. وهذا يتساءل: لم تحرم الخمر مع فائدتها للصحة؟ ثم يقول: إن تحريمها خطل!.. وهذا يرى الوقاع الجنسى مادام بتراضى الطرفين لا شىء فيه، ويستغرب تسميته زنا. وهذا يمضى فوائد الربا ويسخر من حظرها. ص _117(1/114)
وهذا يصف الصلوات الخمس بأنها مضيعة للأوقات ومشغلة عن الواجبات. وهذا يستنكف من التذكير باليوم الآخر ويظن الحديث عنه رجعية. واطرد نشاط الإنجليز فى هذا المجال! وشددوا النكير على بقايا الإسلام المهزوم فى القلوب الخاوية والصفوف المتراخية. وكان تخلف المسلمين الحضارى ثغرة ينفذ منها أولئك المتربصون حين يتساءلون فى خبث: كيف تبقون على الإسلام وقد اكتشف الغرب الكهرباء؟! لماذا لا تتخلون عن تاريخكم وتقاليدكم وأنتم تستوردون حاجاتكم كلها من بلادنا؟ وقد ينضم إلى هذا التساؤل السمج وسواس آخر يدلف إلى نفس الشباب فى مكر ودهاء يقول له: افتح ذراعيك لهذا الجديد الغالب، ودع عنك ربك ونبيك وقومك. إن المستقبل الدافئ السخى المأمون لا تكفله إلا هذه الحياة الوافدة ولا ينمو إلا فى ظل أصحابها المنتصرين. سبعون سنة والإنجليز الحمر، والإنجليز السمر ـ أعنى صنائعهم من أبناء جلدتنا ـ يتابعون حملاتهم على الإسلام ويلحون فى تقصير خطوطه حتى وصلوا آخر الأمر إلى نتائج مروعة، نثبتها هنا ليعرف أولوا النهى من أين أتينا؟ وكيف النجاة؟.. أفلح الاستعمار فى تكوين جيل يستحى من الانتساب للإسلام ويكره أن يرى وهو يقوم بشىء من شعائره، خصوصا بين المثقفين الكبار، والطبقات التى تهيأ للحكم والنفوذ. الواحد من هؤلاء يحب أن يراه الناس خارجا من حانة، ولا يحب أن يروه خارجا من مسجد. ومن السهل عليه أن يوصف بأنه زنا بعشر نسوة. لكن وجهه يسود لو قيل: متزوج من اثنتين. أما أن يفكر فى تلاوة آيات من القرآن أو يرجع إلى شىء من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذلك ما لا يخطر له ببال... إن الغزو الثقافى احتل أقطار نفسه جميعا وزلزل ثقته بدينه أو هدمها عن آخرها فهو محسوب على الإسلام باسمه فحسب. بل هو يجتهد أن يبعد أولاده عن الإسلام بصلة الاسم التى لزقها القدر به. ولذلك ما يسمى ابنه محمدا ولا عبد الله ولا حسنا ولا ما أشبه ذلك. ص _118(1/115)
بل يختار أسماء تجعل صبغة الإسلام بعيدة عنهم، بنات كانوا أم بنين! هذا الصنف من المتعلمين لا يكاد يخلو منهم ميدان. وكنودهم للإسلام ونأيهم عنه ظاهران أتم الظهور فى حياتهم الخاصة والعامة.. وهم يقرءون فى الصحف أن واعظ "أيزنهاور" ـ مثلا ـ حضر إلى القاهرة، وأن رئيس الولايات المتحدة لا تفوته صلاة بالكنيسة، وأن رئيس لبنان ذهب إلى البطريق المارونى ليطلب منه البركة.. وأن.. وأن... فيظنون أن كل دين فى الأرض له أهله الذين يتمسكون به ويتعصبون له.. أما الإسلام فلا، كذلك علمهم الاستعمار!! من حق عابد العجل فى الهند أن يعلن ديانته، ومن حق تابع التوراة فى "إسرائيل" أن يقدس كتابه وتلموده. أما الإسلام فيجب أن تفرغ النفوس من ذرة توقير له، أو رعاية لحرماته.. إن وطأة الغزو الثقافى فى الأجيال التى أنشأها وغذاها ثقيلة أشد الثقل، إنه صنعها على عينه. ورسالته الكبرى حطم هذا الإسلام والإتيان على بنيانه من القواعد... وقد تبقى عند نفر من الناس بقايا من التدين تثبت سلوكهم وتضبط تصرفهم ولكن الدعاية الهائلة ضد الإسلام تجعلهم يعجزون عن إتيان ما يأتون تحت عنوان الدين الذى يعتنقون. ونسأل: ما سبب هذا الفتور في الإقبال على الدين، والمعالنة بالتمسك بآدابه والأخذ بهديه، فلا نحير جوابا شافيا، أو دليلا مقنعا. قال الأستاذ عبد الكريم الخطيب: "إن كثيرا من الناس عندنا قد يطوون قلوبهم على احترام الدين والتمسك به. لكنهم ـ حين يضمهم مجتمع من مجتمعات الحياة التى يغشاها عليه القوم وكبار الناس ـ يتصاغر فى أنفسهم هذا الشعور بالدين، ويضمر فى كيانهم هذا الإحساس ". ويرون من الخير ستره عن الناس، حتى لا يقال: إنهم متدينون، وحتى لكان الدين عار يزرى بأهله، وسنة يفر الناس منها. هذا أمر واضح لا ينفع فيه إنكار.. ص _119(1/116)
فحيث تكون الحياة وتكون النعمة والوجاهة، ينكمش الدين، ويتعرى منه حتى أهله خوفا من أن يقال: إنهم أهل دين!! فما مرجع هذا؟ وهل فى طبيعة الإسلام ما يعوق سير الحياة ويسد الطريق على الآخذين بأسباب الوجاهة والجاه؟ إنه لظلم عظيم أن يفهم الدين هذا الفهم. وإنها لخيانة غليظة لأنفسنا أن ننزل الإسلام فى حياتنا هذه المنزلة، فلا نتوج به رءوسنا، ولا نتخذه أوسمة نحلي بها صدورنا فى كل مجتمع وفى كل موقف كريم من مواقف الحياة. إن الدين يتطلب النفوس الكبار.. وقد صغرت نفوسنا فصغر فيها كل معنى كريم أو مثل فاضل. إن النفوس المريضة تنقلب فيها حقائق الأشياء كما تنقلب صورة المرئيات فى العين المريضة وكما تنحرف مذاقات الطعوم فى الفم السقيم! ونحن قد أصبنا فى القرون الأخيرة بعلل وأوجاع أفسدت حياتنا، وأنزلتنا منازل الهون فى دنيا الناس. وكان من خداع المستعمرين أن صوروا لنا الدين فى صورة العدو الذى ادخل علينا بهذا الضعف والهوان، وكان السبب فى هذا التأخر الذى صرنا إليه. ولقد عمل الاستعمار جاهدا على أن يمكن لهذا الضلال من نفوسنا بما أذاع فينا بأساليبه وصنائعه من مفتريات على الدين وتهجم عليه، وازدراء لأهله واستخفاف بمنازلهم !نى الحياة، وحرمانهم من كل مكان كريم فيها. ونحن اليوم فى بعث جديد.. حطمنا قيود الاستعمار، وأزحنا معالم الضعف من مرافقنا المادية. ولازال موقفنا في الدين كما كان من قبل، لم نحاول أن نجد فيه قوة دافعة نستند إليها، ومجدا عظيما نحرص عليه. ولازالت نظرتنا للدين والمتدينين نظرة باردة فاترة لا تغنى شيئا ولا توحى بشىء. ماذا فى الدين؟ ولم نخاف صحبته فى انطلاقنا مع الحياة؟ هل الدين شىء والحياة الكريمة الرفيعة شىء آخر؟ ص _120(1/117)
لندع الأصول العامة للإسلام، ولنترك ما قرر من مبادئ المساواة المطلقة بين الناس، وما قرر من صيانة الدماء والأموال والأعراض، فذلك أوضح من أن يحتاج إلى بيان. إن المقياس الصحيح فى هذا العصر للرقى الإنسانى، هو فيما يبلغه الإنسان من رقة الحس ورفاهية الوجدان وذكاء العقل. وقد ارتفع قدر الأمم الغربية فى نظرنا لما بلغته مجتمعاتها من منزلة عالية فى هذه الصفات. وكان غاية طلاب الكمال عندنا أن ينالوا حظا فى هذه الصفات ليجدوا فى أنفسهم طمأنينة الرضا، وليجدوا أنهم شئ فى عالم التمدن والرقى. وفى أدب الإسلام مناهج دقيقة محكمة لمراسم الذوق السليم، والحس المرهف، والوعى اليقظ.. لقد تحول الإسلام بالعرب من جاهلية غليظة جافة، وبداءة صلدة شائكة، إلى حياة مخصبة بأرق العواطف، وأنبل الأحاسيس. حتى لكأن رجل الجاهلية التى عاش بها عمرا طويلا قد خلقه الإسلام خلقا آخر فى شهور أو سنوات عاشها فى الإسلام. ما ترك الإسلام شيئا يتجمل به الإنسان ويبلغ به مراتب الكمال فى عقله وخلقه إلا كان ذلك من صميم دعوته ونهج تعاليمه. * * * ص _121(1/118)
إضعاف الوازع الديني إن إعادة بناء الأمة الإسلامية مرة أخرى بعد ما خرب الاستعمار عامرها وتجفف غامرها أمر يحتاج إلى جهود مضنية. وليست الإعادة المنشودة شق شوارع تقوم القصور المنيفة على أكنانها، ولا تجميل شواطئ الأ نهار والبحار وبث الأرائك المريحة حولها. كلا.. ولا هى نقل المصانع والآلات وتشغيل ألوف العمال فيها. إن ذلك ـ وإن مست إليه الحاجة ـ لا يعنى بناء أمة تنفع نفسها إذا كان الغزو الأجنبى قد نجح فى تخدير أعصابها وإماتة ضمائرها واستلال اليقين من أفئدتها والهدف العالى من ضمائرها.. ذلك أن الأم تفتقر قبل كل شئ إلى العقيدة التى توقد نشاطها، والغاية التى تكدح لبلوغها، والحداء الذى يهون عليها مصاعب الطريق، والعزاء الذى يصبرها على لأواء الحياة. فإذا جفت هذه المعانى فى أمة لم يغن عنها شىء ما، وهى صائرة حتما إلى إدبار! إننى عندما أرى دبابة تسير فى الميدان يعجبنى هيكلها المتين وبناؤها الحصين، وأنظر إلى هذا الحديد المتشابك المتراكب وهو يتهادى وئيدا شديدا يطحن أمامه الصخر ويقذف باللهب فأقول: ما أروع هذا البرج وما أسرع فتكه فى أجسام العدا. لكنى ـ وأنا أهمس بهذه الكلمات ـ يعاجلنى شعور آخر بالتريث والاسترخاء: إن المهم فى قائد الدبابة، لا الدبابة نفسها. إن مصير المعركة معلق بالرجال الذين يملأونها، ووثاقة إيمانهم ورباطة جأشهم وطول صبرهم وبشاشة رجائهم... إن ذلك هو اللبنة الأولى فى النصر. وعندما كنت أرى أبنية قصر العينى فى القاهرة وألمح الأدوات والاستعدادات لمداواة المرضى، تأخذنى الدهشة لضخامة هذا المستشفى ورحابة غرفه وكثرتها. ووفرة وسائل التمريض وأسباب الشفاء، ثم وذلك الجيش الكثيف من الأطباء والأعوان والخدم، وذلك المدد الدافق من النفقات المبذولة والمطالب الميسرة. ومع هذا المظهر المطمئن فإن الفؤاد لم يكذب إذا أبدى قلقه وأسر وجله. ص _122(1/119)
حدثنى أولا: هل تتوفر مشاعر الرحمة وعناصر الأمانة؟ وهل ينضبط سير الأمور تلبية لنداء الواجب، وأداء لحق الجماعة، وحياطة لكرامة الإنسان؟؟ إننى أمر أحيانا بالليل قريبا من هذا المستشفى فأتساءل: ترى أهناك عين ساهرة ترعى المرضى، أم عين زائغة لموظف شاب يبحث عن فتاة تطاوعه؟ إن الغزو الثقافى الأوروبى بذل جهوده كلها حتى يوجد شبابا لا إيمان له، شبابا لا يعرف الله فضلا عن أن يخشاه أو يتطلب رضاه. نعم.. لقد ركز الاستعمار ضغطه كله على القلوب أولا حتى تفرع من العقيدة، واستبد به الجنون وهو يخرب كل ما أودع الإسلام فى القلوب من تقوى ورعاية. إنه مستميت فى تكوين أجيال تضيع الصلاة وتتبع الشهوات.. إنه مستميت فى تكوين أمة تستثيرها الغرائز الدنيا، وتذهل عن معانى الأمور وتتبع سفاسفها. وعندما يحقق هذه الأمنية يعلم أنه قضى القضاء المبرم على الأمة الإسلامية. فما قيمة ثقافة لا تعتمد على إيمان، ولا يحصنها خفق، ولا يشدها مثل أعلى؟ عندما سرق الاستعمار "الإسلام " من قلوب الشباب الذين طعموا من موائده وربوا فى حجراته كان يعلم أنه سرق الوقود من خزان السيارة أو القطار. والشاب الذى لا عقيدة له يمكن أن يدفع بالأيدى إلى الأمام. بيد أنه لن يندفع من تلقاء نفسه، وهيهات أن يقطع شوطا أو يبلغ هدفا.. ومن هنا نرى ألوف التلامذة من المسلمين كسالى وكذلك ألوف الموظفين، وألوفا أخرى من هنا وهنالك.. إن الاستعمار الذى احتل البلاد الإسلامية منذ قرن أحدث ثقوبا شتى فى صدورهم تسرب منها اليقين، وتسرب معه النشاط والإقدام. ومن المستحيل أن تنهض أمة دون إيمان ما.. إنه لكى تنهض أمتنا لابد من رد الاعتبار إلى هذا الدين المهان. لابد من إعادة الاحترام إلى الإسلام الذى يتسلى أى وغد باللغط عليه والنيل منه. ص _123(1/120)
لابد من الاعتماد على هذا الإسلام فى شئون التربية، ومن توفير القداسة لنصوصه وتعاليمه التى استقتل الغرب فى تهوينها كى يخلق أمة معتلة لا جهد لها ولا أمل، ولا رجاء فيها ولا معول عليها. إن إضعاف الوازع الدينى بلاء ذريع الفتك بكل ما نحرص على بقائه وصيانته، بل هو أقصر الطرق إلى إفناء أمتنا ماديا وأدبيا. وقد نزل الاستعمار بالشرق فوجد به يهودا ومسلمين ونصارى. فاستبقى كلا الفريقين من يهود ونصارى على ديانته، واجتهد فى سلخ المسلم من عقيدته حتى يشب المرء المسلم وهو سقيم الضمير فارغ اللب مبلبل الفكر.. وبذلك يكون غيره مرتبطا بعقيدة يتحمس لها وينشط لخدمتها ويحب اتباعها. أما المسلم ـ بعد ما مسخه الاستعمار على النحو الذى ذكرنا ـ فهو يحيا منفلت القيادة مضطرب الخطو لا يدرى يصادق صديقا أو يعادى عدوا.. وأثر العقيدة فى توجيه السلوك وتكثير الإنتاج وضبط الأعمال لا يمكن إنكاره. وقد يكون الإنسان ذا حصيلة ضخمة من المعرفة فى أى شأن من شئون الحياة. ولكن خلو نفسه من الإيمان الدافع يجعله أشبه برجل يملك عشرات الأسلحة ولا يحسن استعمال واحد منها. إن شخصا آخر بعصاه، أو بذراعه، يستطيع التغلب عليه. وهذا الذى يملك أنواع السلاح ويعجز عن استخدامها ربما عجزه عن الكسل والفتور لا من الجهل وقلة الدراية. ومن هنا نرى الرجل الضعيف الإيمان الواهى الاعتقاد تتوافر لديه طاقات كثيرة للعمل و الخدمة، ومع ذلك فهو مخبول مربوط لا ينتج شيئا طائلا. أما غيره من أصحاب الرغبات المشبوبة والقلوب المشحونة فهو يخلق من الفراغ شيئا.. وقد قيل: الحاجة أم الاختراع، والحاجة لا تولد فى جو البلادة، ولا تنبتها أرض موات. إن العقيدة أصل هائل لكل نهضة. وإذا أفلح الاستعمار فى توهين العقيدة الإسلامية وحدها مع بقاء العقائد الأخرى تسير أصحابها ـ بغض النظر عن نصيبها من الحق والبطلان ـ فمعنى ذلك أنه دوخ نهضتها، لا، بل وقف دولابها، وسود مستقبلها. ص _124(1/121)
انظر، كم خرجت جامعات أوروبا من فتياننا وفتياتنا؟ ومع ذلك فهم يعودون وكثرتهم الكبرى لاتؤدى عشر مايؤديه زملاؤهم المتخرجون معهم فى هذه الجامعات نفسها. بل إن الشيوعيين أحسن منهم حالا فهم أصحاب مبدأ. أما هؤلاء فإن الغذاء العلمى والروحى الذى تلقوه فى البيت والمدرسة جعل منهم أقوامآ تحسن الوجاهة والمظاهر ولا تحسن العمل والحركة. وتعنى بمطالب الحياة المادية التافهة، ولا يشغلها مثل أعلى أو جهاز رفيع. يجب أن تعود للإسلام مكانته الجلية فى نفوس أتباعه. وعندما تصدق هذه العودة، فإن الحياة ستدب فى جهاز حكومى عفن، وفى مئات المدارس الصغرى والكبرى، وفى عشرات المصانع والشركات، وفى سائر أحوالنا المادية والاجتماعية. إن المعتقد المسيحى فى الغرب موضع عناية كبيرة، وأثره متغلغل فى توجيه السياسة الأوروبية، وشاراته فى المدارس والجامعات بارزة، والانبعاث عنه فى وجوه النشاط المختلفة أمر غير منكور. فلماذا يفرض على الحياة العامة فى بلاد الإسلام أن تتخلى عن صلتها بدينها وأن تولى ظهرها له؟ وقد قامت هناك فلسفات عنصرية ونزعات قومية لم تتخل عن المسيحية فى دعم مبادئها. فالنازية والفاشستية كلتاهما استظهرت بالكنيسة فى سياستها ورسمت الصليب على رايتها. والبلاد التى نبذت النصرانية مثل "روسيا" جعلت من الشيوعية عقيدة مذهبية تملأ الفراغ الذى أبعدت عنه الديانات المتروكة. بل قد يكون الإيمان بالشيوعية أوسع نظرة إلى الرفعة التى يعمل فيها من الإيمان بالمسيحية. فهل تمتلئ نفوس الناس بعقائد الأرض والسماء ويحظر علينا وحدنا أن نستمسك بديننا وأن نأخذ أولادنا به؟ ص _125(1/122)
ذلك ما تريده الصليبية الغازية! إنها تعلم أن المسلم لن يرتد إلى اليهودية ولن يرتد إلى النصرانية. فليترك الإسلام وكفى!! وليكن "وجوديا" أو "إباحيا" أو "شيوعيا" أو ما شاء من النحل. والنتيجة أننا لن نستطيع أبدا بناء أمتنا وبعث الحياة فيها. لأن أسلوب نهضتنا لابد له من مبدأ قائم وسناد روحى واضح. أى لابد له من الإسلام، والإسلام الذى عشنا به وله دهورا فكنا سادة مقسطين لا نظلم ولا نظلم. منذ قرنين والزحف الصليبى يتدفق على بلاد الإسلام وهو بادى القوة حاد الأظفار. والمسلمون يتراجعون أمام امتداده فى كفاح مر المذاق كالح العقبى. حقا.. إنهم ما تركوا شبرا إلا وعليه من ضحاياهم ركام. بيد أن فوضى الحكم والعلم، وطبيعة التخلف فى الدين والدنيا جعلتا الأمة الإسلامية الكبيرة تترنح تحت وطأة الضربات المتتابعة، ثم تسقط فريسة استعمار أسود الضمير طافح الشهوة. وانفردت الصليبية فى الأرض العريضة بالبأس والسلطان، فماذا صنعت؟ لقد امتلكت أزمَّة العالم، واحتكرت سوق الدعاية، وسخرت القوى الجديدة من مدنية وعسكرية، وفسحت المجال لتعليمها وحدها وضيقت الخناق على كل دعوة دينية أخرى، وساقت رجالها فى المدارس والجامعات والأندية والمستشفيات ودور الصحف والإذاعة والمسرح. ونظمت برامج التبشير فى المدائن الزاهرة والمجاهل الطامسة. وأخرست الإسلام وأهله حتى لا يسمع لهم صوت، بل حتى يبدو هذا الدين وأتباعه فى إطار البلى يدعو للسخرية. فماذا كانت نتيجة هذا الجهد الراكض الموصول مائة سنة؟ هل أصلحت الصليبية حال العالم؟ هل وطدت أركان الإيمان؟ هل زينت جانب الفضيلة؟ ص _126(1/123)
هل مهدت ليوم آخر، وعلقت القلوب بثواب الله أو حذرتها عقابه؟ هل أشاعت عدلا أو رحمة؟ هل نقلت الإنسانية إلى أمام أو رفعتها قليلا إلى أعلى؟ كلا... إن هذه الصليبية لم تستطع أن تسدى خيرآ إلى الحياة المحرومة الحائرة. ونظرة إلى فلسفة السلوك وسياسة المعاملة التى تسود الدنيا الآن تجعلك تجزم بهذه الحقيقة الخطيرة. قال الأستاذ "أحمد خليفة" مدير المعهد القومى للبحوث الجنائية فى حديث عن أسباب انحراف الشباب: سنقتصر على ناحية واحدة تتصل بموجة المادية التى عرفها العالم الحديث فى بداية القرن التاسع عشر، والتى ظل بعدها يرتفع من ذلك الحين. فإننا نعتقد أن هذا الجو المادى الذى اكتنف حياة الإنسان فى هذا العصر المسئول أساسآ عن تهيئة البيئة لعوامل الانحراف النفسى والسلوكى. ربما لايكون هذا الجو المادى فى بلادنا ملبدآ إلى الحد الذى تعرفه بلاد أخرى. ولكن العالم اليوم قد جعلته سرعة المواصلات، وتشابك العلاقات عالما واحدآ ولم يعد فى الإمكان أن تنكمش حضارة وتنطوى على نفسها إلى مدى طويل. ولما كانت الحضارة المادية هى القابضة على زمام الطبيعة، عن طريق التقدم العلمى والفنى، فإن هذه الحضارة هى التى تزحف اليوم على كل البقاع لتنشر فيها رسالتها عن قصد أوعن غيرقصد. والمادية تهدف إلى تحطيم المعانى والمثاليات، وإلى تجريد الأشياء من كل قيمة عدا قيمتها التى تقدر بالمال، بل وصل الأمر إلى تقدير الإنسان بالمال! أصبحنا نسمع عن إنسان يساوى مليونآ، وابتسامة تساوى مائة ألف! أصبح الكسب المادى مسوغا للإقدام، والخسارة مسوغآ للإحجام! الذى يسير على قدميه لم يعد يفكر فى متعة للسير فى أحضان الطبيعة بقدر مايفكر فيما يعود عليه من قدرة بدنية تعينه على العمل والإنتاج والكسب. أصبحنا نقدر حياتنا على أساس ماحققناه من كسب مادى دون أن ندخل فى الحساب عملا من أعمال الخير، أو لفتة من لفتات القلب، أو لحظة من لحظات الحب والتضحية. ص _127(1/124)
الحياة أصبحت مشروعا يجب أن ينجح ويحقق أرباحا، لم تعد الحياة ـ كما كانت ـ عطية الخالق نقنع بها ونحمده من أجلها، لهذا شاع الانتحار فى عصرنا برغم أن حياتنا أصبحت أشد يسرا، وانتشر الإدمان والمرض العقلى وانهيار الأعصاب. وقد حذر العلامة الفيلسوف "شوايتزر" بنى عصره من طغيان الارتقاء المادى على الجوانب الروحية فى الحياة فقال بحق: "إن المدنية التى لا تعنى بغير جوانبها المادية كسفينة مكسورة الدفة تشق طريقها إلى الكارثة". إن النضج المادى ـ لا الروحى ـ أبرز سمة تنذر بخطورة مدنية العصر، حتى اختل توازنها. وفى غمرة حماستنا لما حققته هذه المدنية من قوة ورفاهية ومعرفة ضللنا الطريق، لقد غالينا فى تقدير انتصاراتنا وأغفلنا خسائرنا الروحية. إننا لنتساءل فى حيرة : فى مثل هذا المجتمع الذى يعبد المادة واللذة، أين تقع الأخلاق؟ وأين يقع الدين؟ السلوك الخلقي مبناه ـ مهما يتجه ـ أن الإنسان هو غاية كل شئ، كيف إذن يكون الخلق شيئا مذكورا فى حياة تجعل الإنسان آلة مسخرة من أجل القيم المادية. حقا إن هناك أخلاقا فى هذا العصر ولكنها أخلاق ضيقة الأفق، لعلها لا تعنى بغير فكرة الأمانة فى المعاملات. هذا المعنى الضيق حجب إلى حد كبير فكرة الخير والشر. ولاشك أن الأمانة فضيلة، ولكن حب الجار، ومشاركة الآخرين آلامهم والتضحية فى سبيل المثل ليس مما تشمله الأمانة. ومع ذلك.. فما زالت الأخلاق التقليدية قائمة، قائمة منذ أوقدت الأديان جذوتها ولأنها تراث آلاف السنين، إننا نعيش على الشعلة التى أوقدتها أيدى من قبلنا، إن لم نغذها بوقود جديد فمصيرها يوما إلى الفناء. والدين؟ إن كنا نقصد بالدين شيئا نؤمن به فلاشك أن لهذا العصر دينا ـ هو النجاح! وإن كنا نقصد عبادة الإله رب الكائنات، فإن فلسفة هذا القرن لا تتفق مع انتشار هذا الدين. هذا القرن الذى لا يرتفع بصره إلى أرفع من أمانة المعاملات، ولا شأن له بعد ذلك بالقلب والحب والعاطفة، هذا(1/125)
القرن يقدم قرابينه للسوق ومن بعدها الطوفان، فكيف يعنى الناس برب الكائنات؟ ص _128
والبعض يؤمن بوجود الله.. وانتهينا. والبعض لايؤمن به.. وانتهينا أيضا. العبادة بدون ألم، والإيمان بدون ألم، ليس هناك تقوى ولا ليال مؤرقة، ولا دموع إيمان ولا أنين شك، ليس بين المؤمن وغير المؤمن فارق كبير، كلاهما وضع إيمانه ـ أو شكه، أو كفره ـ على الشاطئ ثم خاض نهر الحياة بحثا عن الصيد السمين. الله لم يعد فى قلوبنا ومن حولنا ـ إنه على أحسن الفروض ـ " المدير العام " لمؤسسة ضخمة اسمها الكون! لقد كان الدين يحدد للإنسان طريقه فى الحياة ويضع لحياته هدفا، ثم جاء العلم، وحار الإنسان أين مركزه فى الحياة؟ حطم العلم أهدافه، ولم يقم بدلها أهدافا أخرى، وحار الإنسان ما هدفه فى الحياة؟ فانطلق وراء رغباته، يتخبط فى الظلام. كان البدائى يعد عشيرته أو قبيلته هى العالم، وفى القرون الوسطى امتد العالم ليشمل الأرض كلها، وفى القرن السابع عشر ظهر أن الأرض ليست الخليقة كلها بل هى جانب من الكون، ومع ذلك ظل الكون بالنسبة للإنسان شيئا محدودا، حتى جاء القرن العشرون بكشوفه العلمية الضخمة التى أذهلت الإنسان وعمقت لديه الشعور بأنه ليس هدف الخليقة أو مركز الكون، وإذن فكل شئ ممكن، وإذن فنحن هباء، وإذن دعونا نطع حوافزنا ونظفر بالمتاع! ولكن النفس البشرية أشد تعقيدا من أن تقبل إطلاق العنان للنزعات. ومن ثم انتشر الشعور بالنقص، والشعور بالذنب، وأصبحنا نعيش فى عصر عصابى رائده اقتناص المتعة والاستسلام للقلق! وكان للمادية صداها الضخم فى شئون الجنس، وهو أخطر طاقة فى الشخصية الإنسانية فأصبح الجنس يعنى الإغراء. جردت المادية الشهوة من معانيها التى غلفتها آلاف السنين، أفقدتها معنى الحب الذى ملأ قلوب أسلافنا واتجه بهم إلى السماء، والرسل، والقديسين، والآباء والأمهات. وسخر الفن نفسه لهذا الإغراء الجنسى. الرسم الذى سعى دائما إلى إبراز المشاعر،(1/126)
اتجه إلى إبراز المفاتن وإهاجة الحس! والموسيقى التى كانت تدعو إلى الارتفاع، أصبحت تدعو إلى الحضيض! أما الحب فأصبح فنا له قواعده وله صناعته، وأصبح ص _129
القلب البشرى مجرد آلة مولدة للطاقة وليست تلك الطاقة من الخير والفضيلة التى تشعر فيما حولها وتسجد لها الأفهام. فى غسق مدينة ذات قيم وفجر مدنية تقوم على رقائق الفولاذ، وعلى ضجيج المادة وهى تسحق ما حفل به تاريخ البشرية من أرق المعانى يعيش شباب العالم اليوم. وهذا كله حق. إن فى العالم جفافا روحيا يحرق حضارته ويجعل شياطين الذهول والفجور هى التى تجوب رحابه شرقا وغربا. فما علاج ذلك النكر؟ هل علاجه أن تظل الصليبية حاقدة على الإسلام، منكرة عليه حق الحياة والدعاية والانطلاق. إن الإسلام فى إبان قوته الأولى تركها تعمل إلى جانبه وتعرض ما لديها إلى جوار ما لدى الإسلام من عقائد ومبادئ. وكان هذا كسبا للعالم، وتهيئة لبذور الإيمان وأسباب الخصب وأنواع الازدهار. وماذا على المسيحية لو تركت الإسلام يدعو إلى الله، ويغرى بالعمل الصالح، وينذر بالدار الآخرة على النحو الذى جاء به؟ من يدرى؟ ربما استراح إليه من ينقبض عنها فتكسب الحياة مؤمنا بدل أن يتحول هذا المخلوق إلى ملحد بالدين كله. من يدرى؟ ربما كانت لدى الإسلام أدوية شتى تشفى تطلع النفوس إلى الشهوات الحرام، وحصانات تمنعها من التردى فى مهاوى الأثرة والظلم والعدوان. فلماذا يطوى ذلك كله تحت ضغط الاستعمار الجائر، وينكمش أمام حقد العدوان المسلح؟ ولنفرض الإسلام دينا فارغا من هذه الطاقة التى يدعيها لنفسه. فما المانع من تركه يواجه عواقب دعواه التى لا أصل لها ـ كما يرى خصومه؟ وما هذا التألب على مخاصمته وإحراجه؟ إن العالم لن يعرف السلام ما بقيت تحكمه نوازع البغى والحسد. ص _130(1/127)
بيوت العبادة من مقارنة سريعة بين أحياء القاهرة فى الحضارة الإسلامية، وأحياء القاهرة فى ظل المدنية الحديثة يستطيع أى رجل خالى الذهن إصدار حكم عادل صارم، بأن المساجد لحقها ظلم فادح، وأنها تجوهلت بطريقة يزرى بالإسلام وأهله... فالمساجد فى أحياء " الغورية " و "الدرب الأحمر" و " الخليفة ". و"الأزهر" وما إليها تكفى الرواد وتتسع للمزيد، وإن كان الإهمال قد كساها بثوب من البلى لا يخفى على الناظرين... أما حيث امتد العمران فى العصور الأخيرة، وانتشرت المبانى فى " شبرا " و "الزمالك " و "الزيتون " و "مصر الجديدة" فإن الشح فى بناء المساجد ظاهر. بل إنك تخترق شوارع كبيرة، وتمشى مسافات طويلة دون أن يقع بصرك على مسجد واحد! ولأضرب لك مثلا من الواقع المحسوس؟ سر من "ميدان التحرير" إلى "ميدان رمسيس " فلن يلقاك مسجد واحد، ويمكنك أن تحصى بين الميدانين سبع كنائس سامقة... ثم استأنف المسير إلى ضاحية "مصر الجديدة " فلن تجد كذلك شيئا من البيوت التى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه... ولا داعى لإحصاء الكنائس... وحسبنا أن نقول: إن فى "مصر الجديدة" وحدها 34 (أربعا وثلاثين) كنيسة لطوائف مختلفة وفيها سبعة مساجد للمسلمين...!!! غير أن المدنية الحديثة ـ ويقال إنها لا تتعصب لدين ولا تتعصب ضد دين ـ هذه المدنية وضعت خطتها ببصر، ونفذتها بأناة وتعمد، وقصدت قصدا صريحا أن يندسر الإسلام وتضمحل شعائره فى العمران الجديد وأن تبقى المسيحية وحدها. ص _131(1/128)
وضاحية مصر الجديدة ليست إلا مثلا لغيرها من البقاع التى يمتد فيها العمران ولا يمتد فيها الإيمان وهو ما تلحظه بسهولة فى كل مكان. إن منطقة الرمل بالإسكندرية ـ وهى نصف المدينة ـ بها فوق السبعين كنيسة، على حين ليس للمسلمين ـ وهم كثرة السكان ـ غير بضعة مساجد. لماذا يا قوم نعامل بهذه الضغينة ؟ ولماذا نبذل هذه المحاولات السيئة لإظهار الكثرة المسلمة محقرة العقيدة مغموصة الشارات؟. إن المسجد فى المجتمع الإسلامى ضرورة ما مثلها ضرورة، وأتباع هذا الدين مكلفون بالتردد عليه خمس مرات فى اليوم. ثم هو يضم إلى ساحة العبادة مرافق للنظافة والتطهر تؤدى خدمة جليلة للحياة العامة فى بلد أكثر من تسعة أعشاره مسلمين. قلت: إن الحضارة الإسلامية بارزة فى أحياء القاهرة القديمة وهى حضارة لم تحاب المسجد ولم تجر على الكنيسة. بل أقامت من المساجد ما يكظ المسلمين دون نقص. ومن الكنائس ما يكفى المسيحيين دون زيادة. لكن الموقف الآن تغير تغيرا يستدعى التأمل. فإنك تمر بميدان " التوفيقية " فى القاهرة فتجد نحو سبعة آلاف مسلم يصلون الجمعة فى الطريق العام، يفترشون الحصير أو ورق الصحف. أو الأرض العراء.. مساكين لا مسجد لهم ! بينما قريب منهم، وعلى مسافة مئات الأذرع جملة كنائس متجاورة.. أما الأحياء التى تكاثف فيها السكان، فجمهور المصلين يحتاط بالمسجد ويتناثر حوله يستقبل الحر والقر. إن القاهرة عاصمة الأمة العربية الضخمة ـ تضم الآن قرابة ثلاثة ملايين نسمة. والمساجد التى بها هى التى بنيت يوم كان السكان عشر هذا العدد لم تزد شيئا يذكر... فهل جمدت بيوت العبادة الإسلامية كى تبلى مع الزمن، وتذهب مع الماضى؟ واليوم أقرأ فى مجلة المصور كلاما يستحق التسجيل، وهاك نصه : ص _132(1/129)
" أريد أن أستجوب الأستاذ الشيخ "أحمد حسن الباقورى" ـ وزير الأوقاف ـ : هل فكر سيادته مرة فى الطواف بشوارع العاصمة عند صلاة الجمعة، ليرى أن الدنيا لا تزال بخير، وأن الإسلام لا يزال بخير، وأن بيوت الله عامرة إلى حد أنها تضيق بالمصلين. فلا يجد أكثرهم مكانا له إلا فى الطريق العام فهو يفترش الصحف، وتحرقه حرارة القيظ فى الصيف، ويغرقه وابل المطر فى الشتاء؟ إننى أطالب الأستاذ الباقورى بأن يطل مرة من نافذة وزارته، ليرى المسلمين أمام "الجامع " الملاصق لها.. "جامع جركس " ليراهم وقد سدوا الطريق وخفضوا جباههم لله فى عرضه وعلى أرضه! ثم أطالبه بأن يقوت على نفسه مرة صلاة الجمعة ـ وسيغفر الله له هذه المرة ـ إذا هو طاف خلالها بطرقات العاصمة، ليرى المشهد نفسه، الذى يراه أمام "جامع جركس"، أمام جامعى "الكخيا" و "أولاد عنان ". وككل جامع فى البلد. بل إنه لو كلف نفسه مشقة الذهاب إلى شارع "عرابى" ـ مثلا ـ فسيرى شارع سوق "التوفيقية" وقد تحول إلى مسجد فى العراء.. فى عرض الطريق.. لأن هذا الحى كله ليس به مسجد واحد. ولو زاد سيادته نفسه مشقة، فسيرى أحياء كثيرة شأنها شأن ذلك الحى. وأشهد أننى لم أر واحدا من أبناء العقائد الأخرى يؤدى صلاته فى الطرق، فى أى بلد من بلاد العالم. ولكن الإسلام دين سمح، يبيح لصاحبه الصلاة فى أى مكان. بيد أن وزير الأوقاف لا يجوز له أن يستغل هذه السماحة فى تعذيب المصلين بقيظ الصيف وبرد الشتاء. وإذا كانت ميزانية الوزارة لا تسمح ببناء مزيد من المساجد، فلماذا لا تتحول المدارس مثلا، وهى معطلة يوم الجمعة، إلى مساجد يؤدى المسلمون فيها فريضة الصلاة " ؟ وليت وزارة التربية والتعليم ترضى أن تكون مدارسها مساجد يوم الجمعة. إن أغلب المسيطرين على هذه الوزارة يوجلون من أى سمة إسلامية تصبغ المعاهد والجامعات. ص _133(1/130)
كأنما كتب على دور العلم عندنا أن تعيش بلا نسب ولا وجهة، وذلك فى بلادنا وحدها. أما جامعات الغرب ومدارسها فإن الصلبان فوقها والكنائس فى مداخلها، وثياب الكهنوت يرتديها الرجال المسئولون حتمآ عند توزيع الإجازات العلمية الكبرى. ما أتعس حظ الإسلام!! ولنترك "وزارة التربية والتعليم " إلى "وزارة الأ وقاف " وهى موضوع القضية المعروضة. ولست هنا أحاول الدفاع عن سياستها فى رعاية المساجد. ولكنى أعرف قصة لجامع "جركس " هذا. ينبغى أن تذاع. فقد وضعت الوزارة مشروعآ بإعادة بنائه موسعآ مجملا. وعرض المشروع على بلدية القاهرة لإقراره، وصادف ذلك صدور قانون يمنع هدم العمارات القائمة وإعادة بنائها. ورأى رؤساء البلدية ـ وهم مهندسون أذكياء جدا ـ أن يطبقوا القانون على المسجد! كأن وزارة الأوقاف ستهدم المسجد كى تؤجره بعد تجديده بثمن أغلى.. وبقى المسجد على حالته الرثة وضيقه البالغ. وعندما تلقى نظرة على مبنى مسجد "الكخيا" وتقارن بينه وبين العمارات الوضيئة الرشيقة المقامة حوله تشعر بغُصَّة. وأعرف أن الوزارة تساوم البلدية منذ سنين كى تسمح بضم القطعة المجاورة له وإعادة بناء المسجد بعد دفع ثمن مناسب للأرض التى ضمت. ولكن البلدية قاومت وتراخت ولا أدرها ما تم إلى كتابة هذه السطور؟ ولكن الذى يدريه كل مسلم أن مسجد " الكخيا " لا يزال خربة كبيرة فى المنطقة التى يقع بها. ولا أدرى. هل مهندسو البلدية هؤلاء يكنون للإسلام حظا ما من احترام؟ أو يعرفون أن " مصر" عرضت لها ظروف نقلتها من حال إلى حال؟ لقد كرهوا أن يبنى مسجد كبير فى ميدان "محطة مصر" يمثل الحضارة العربية، ويستقبل الألوف الوافدة على العاصمة، ويسد فقر هذه المنطقة إلى مسجد رحب منيف. ص _134(1/131)
ورأوا ـ ببصائرهم النيرة، وتربيتهم المدرسية الناضجة ـ أن خير ما يمثل فى هذا الميدان الشاسع هو تمثال "رمسيس " فرعون مصر القديم قبحه الله، وقبح النزعة الفرعونية التى أوحت بإقامته..! وأنا أعلم أن "وزارة الأوقاف " كانت على أهبة كاملة لبناء هذا المسجد فى أرضها وبأموال المسلمين، لكنها توقفت مرغمة.. أما المصيبة التى لا تقابل ببكاء ولا يسمح فيها لرثاء، فهى مصيبة تجميل القاهرة. فإن هذا التجميل اقتضى هدم أربعة عشر مسجدا لوزارة الأوقاف عدا بضعة مساجد للجمعية الشرعية وغيرها. ونحن مذهولون، لهذا الصنيع الذى اجترحه الإنجليز السمر. ويكاد القلب يقف لهذل الصنيع الشائن. وأثبت هنا أسماء المساجد التى درست معالمها، وذهبت مع الريح: ا- مسجد سليمان الغزى تفتيش ثان 2- مسجد العدوى تفتيش ثان 3- مسجد البلخى! تفتيش ثان 4- زاوية أولاد شعيب تفتيش ثان 5- مسجد أبى قابل العشماوى تفتيش ثان 6- محمود كاتم السر تفتيش ثالث 7- زاوية الكزرونى تفتيش ثالث 8- شمس الدين أغا تفتيش ثالث 9- زاوية عثمان تفتيش ثالث 15- زاوية بشير أغا تفتيش ثالث 11- مسجد عز الدين الخطيرى تفتيش رابع 12- مسجد المسيرى تفتيش رابع 13- مسجد بشير أغا المستجد تفتيش رابع 14- مسجد الحفنى تفتيش خامس ص _135(1/132)
وهناك مساجد أخرى للجماعات الإسلامية نذكر منها اثنين للجمعية الشرعية: ا- مسجد التنظيم بشارع مجرى العيون البحرى. 2- زاوية عثمان بمراسينا. ولست أدرى لماذا ركب السيد "عبد اللطيف البغدادى" وزير الشئون البلدية والقروية هذه الخطة الجائرة؟ لقد كان العزاء الوحيد من فقدان هذه البيوت التى أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، أن تمهد إدارة البلدية عشرين قطعة أخرى من الأراضى التى تملكها فى الأحياء الحديثة، وأن تتولى بناء مساجد عليها تكون عوضا عن تلك التى هدمت فإن عجزت عن ذلك الصنيع، قدمت الأرض الصالحة للبناء، والمال القليل أو الكثير الذى تستسيغ دفعه، وطلبت إلى "وزارة الأوقاف " أن تنشئ هذه المساجد.. ولكن البلدية لم تفكر فى شىء من هذا. ومن أين يجيئها التفكير الطيب، ومنزلة بيوت الله لدى رؤسائها نزلت إلى درجة الصفر..؟ وزاد الطين بلة أن "وزارة الأوقاف " نفسها مهددة بالزوال. وبين الحين والحين تسمع صحفيا هنا وهناك، يندد بوجودها ويستعجل دفن رفاتها!!. والحماس الكامن وراء عبارات الطعن فى الوزارة والتهكم على رسالتها يستدعى التأمل. فإن أصحابه تبرد مشاعرهم وتفتر حرارتهم، حين يتكلمون عن حانات الخمر، وصالات الرقص. كأن هذه المؤسسة الدينية أخطر على الأخلاق والآداب من مباءات الرجس والفجور. ونحن نعلم أن هناك تقصيرا فى أعمال هذه الوزارة يجب علاجه. ولكن البون بعيد بين ناقد يريد بكلامه تحقيق الصالح العام للدين والأمة. وآخر يريد بكتابته الإتيان على بقايا الإيمان والخير فى هذه البلاد... وعندما صدر القانون بالاستيلاء على الأوقاف الخيرية وتمليكها لصغار الزراع، كنت أرى العجب... ص _136(1/133)
هذا القانون يقضى بتوزيع نحو خمسين ألف فدان يملكها الأقباط ، ونحو مائة وخمسين ألف فدان يملكها المسلمون على الفلاحين ، بعد أن تتولى الدولة - بطريقة مرسومة كما يقال - الإنفاق على جهات البر لدى الفريقين.. ومع ذلك فقد كان مندوبو الإصلاح الزراعى يدخلون وزارة الأوقاف كما كان الجنرال "غورو" يدخل دمشق، ويتعجلون الاستيلاء والتوزيع بلهفة ظاهرة . فى حين أن أحدا منهم لم يذهب إلى "دار البطريريكية" لتنفيذ ذلك القانون. وهذا عوج فى السلوك يبعث على الريبة ويثير الحفائظ. ولستُ أتصور أنهم يفكرون فى اجتياح أوقاف المسلمين وحدها. وغن كانت الدلائل تشير إلى ذلك. إنَّ ذلك مستحيل - كما اعتقد - لكن ما معنى الإسراع هنا والبطء هناك؟ وعندى أن من الخير إلغاء هذا القانون كما ألغى مرسوم القانون بإنشاء مديرية التحرير ، فذلك أروح للقلوب وأدعى إلى طمأنينة المؤمنين. * * * وكارثة أخرى حلت بالمساجد ، وأصابتها بضر شديد ..!! تجمعت مقدمات هذه الكارثة من سنين طوال أيام الاحتلال البريطانى. ثم بعد اضمحلال الروح الدينى وسطو الحكام والكبراء على الأوقاف وتبديد مصارفها فى غير ما أنشئت له وحُبست عليه.. ونجم عن ذلك أنَّ عشرات المساجد لحقها البلى، ونال منها الإهمال. فتداعت جدرانها وحالت معالمها ، وعطلت مغانيها.. والعجب أنَّ ذلك يحدث فى بيوت الله عندنا ، فى حين أنَّ الأموال الأمريكية ترد بكثرة لبناء مزيد من الكنائس الشاهقة، وإن كانت هذه الأموال تظهر فى صورة تبرعات مجموعة من المواطنين وليست عوناً من الخارج لأغراض مريبة..! ونحن - المسلمين - لابد أن نواجه هذه الحال ، وأن نرصد من الأموال ما يصون بيوت العبادة لدينا ويحفظ مكانتها ويستديم هيبتها. والمسجد ليس مرفقا خاصا لطائفة معينة ، إنه مؤسسة اجتماعية منوعة الأهداف رحيبة الغايات ترتبط بازدهارها أخلاق لا تقوم أمتنا إلا بها. ص _137(1/134)
وليس من المجون أو من الغرور أن الاستعمار يريد الإتيان عليه والإجهاز على رسالته. إن القضاء على المسجد يعنى إبادة دين، ومحو تاريخ، واستئصال أمة. ولذلك نرى من حقه على الدولة أن تهتم به وأن تعين على بقائه. وأن ترصد من الميزانية العامة ما يحقق ذلك. كم تظن عدد المساجد الخربة فى القاهرة وحدها؟ إنها تقارب المائة. منها نحو السبعين تتبع وزارة الأوقاف عدا ما يتبع مصلحة الآثار، وما يتبع الأهالى. ونحن نناشد الدولة أن تتلافى هذه المأساة. وهاك بيانا بأسماء المساجد الخربة التابعة لوزارة الأوقاف، ومواقعها. بيان بأسماء المساجد الخربة والخرابات التابعة لوزارة الأوقاف بمدينة القاهرة. التفتيش الأول اسم المسجد الموقع ا- الفضاء المتخلف من مسجد الصالح أيوب حارة الزهرية بالنحاسين 2- مسجد الغورى خان الخليلى 3- الفضاء والإيوانات والخرابة خلف مسجد الملك الناصرالنحاسين 4- خربة خلف مسجد برقوق من الجهة الغربية النحاسين 5- خربة خلف مسجد السلطان الكامل بالجهة الغربية النحاسين 6- زاوية جولامد برجوان 7- مسجد الغمرى مرجوش الجوانى 8- بهى الدين البلقينى أمير الجيوش 9- شمس الدين الزركشى بين السيارج 15- سيدى كمال الحسينية ص _138(1/135)
اسم المسجد الموقع 11- المدبولى البيومى 12- زاوية العنبرى الدراسة 13- زاوية الجندى كفر الزغارى 14- السلامونى حارة الكفر 15- خربة خلف مسجد الشيخ خليل كفر الزغارى الجديد 16- مسجد القرافى بدر الدين حبس الرحبة 17- نور الدين العجمى الصالحية 18- زاوية خان سرور خان سرور رقم 95 19- زاوية محمد سعيد شقمق خان الخليلى 20- الشيخ الجبعانى السبع قاعات البحرية رقم 19 21- القاضى بركات الشهير بالمنسى حارة اليهود الربانيين 22- زاوية الزنكلونى خامس سوق السمك القديم 23- مسجد نجم الدين أول شارع نجم الدين ـ باب النصر 24- خربة خلف دورة المزهرية البنهاوى التفتيش الثانى اسم المسجد الموقع ا- ضريح وزاوية أم العش درب المحكمة 2- ضريح وزاوية بهاء الدين حارة بهاء الدين 3- مسجد محمد العراقى حارة الطمار 4- زاوية الدعكى حارة الدعكى بير حمص 5- شهاب الدين درب الشرفا رقم 46 6- مسجد وضريح الأنصارى شارع مشتهر بعابدين 7- ضريح محمد دقيق العيد حارة أبو قدرة ص _139(1/136)
اسم المسجد الموقع 8 ـ ضريح حسن الأكبر داخل قصر عابدين 9ـ مسجد مصطفى الصغير علوة الكرم 10ـ زاوية وضريح محمد الخباز حارة النوبى رقم 37 11ـ مسجد خربة ودكاكين الجامع الأحمر 12ـ زاوية الأربعين حارة الأمير حسين المتفرعة من درب عبد الخالق 13ـ مسجد أبى بدير العريان أبو الوفا بالفوطية 14ـ مسجد البرماوية باب البحر 15ـ خرابة ومساكن تابعة لوقف الست سالمة باب البحر 16ـ الجدعلى درب الخف المتفرع من باب البحر 17ـ زاوية إسلامى أغا زقاق الجامع المتفرع من درب الإبراهيمى 18ـ زاوية السنى السد المتفرع من حارة سنتات 19ـ زاوية سعدة درب سعادة سابقا ـ باب البحر 20ـ زاوية القوصية شارع الطواشى 21ـ زاوية البوارين حارة البوارين 22ـ زاوية محمد زيادة الأنور شارع بين الحارات 23ـ زاوية وضريح أبى طالب شارع الصبان ـ عطفة المبرقعة التفتيش الثالث اسم المسجد الموقع 1ـ مسجد الجنيد الدرب الجديد بالسيدة زينب 2ـ مسجد محمد الكردى حارة الهياتم درب الجماميز ص _140(1/137)
اسم المسجد الموقع 3- زاوية سعد الدين درب الجماميز 4- زاوية أغاشكيان حارة عمر شاه 5- زاوية وضريح الأربعين شارع الخضيرى 6- مسجد شجرة الدر شارع الركبية 7- مسجد بدر الدين الوفائى شارع بدر الدين الوفائى 8- مسجد المسجيين شارع الجديد طريق المقطم 9- زاوية وضريح سيدى عوض حارة عبد الباقى 10- زاوية وضريح الشيخ محمد أبى زغلول حارة اللبودية 11- مسجد يوسف الكردى درب الجماميز 12- زاوية محمد بك عبده سوق السمك بالبغالة 13- زاوية بمبة فائق خليل شارع نافعى بالسيدة زينب التفتيش الرابع اسم المسجد الموقع ا- فضاء مسجد الخضيرى شارع الكورنيش الجديد ببولاق 2- زاوية سميحة شارع الجوابر ببولاق 3- زاوية عشش النخل شارع عشش النخل ببولاق 4- زاوية الكسات شارع الخضيرى 5- زاوية بشير أغا حارة الجامع التفتيش الخامس اسم المسجد الموقع أ- مسجد عبد الله جاويش شارع النبوية 2- زاوية السبع بنات الأيتام ملاحق لمسجد النبوية 3- مسجد العنبرى درب الدليل 4- مسجد الحرشلى شارع سكة المردانى ص _141
اسم المسجد الموقع 5- زاوية صالح كتخدا شارع سوق السلاح 6- مسجد محمد سودون شارع الغندور 7- زاوية الروزمانجى شارع الوالى حسين 8- زاوية الأربعين شارع نور الظلام عطفة المطبعة 9- مسجد بنت المعمار شارع الألفى حارة العمارشة بالحلمية 10- مسجد عثمان الحطابى شارع درب سعادة * * * * ذلك إحصاء ناطق الدلالة... ولن نُعقَّب عليه!!..... ص _1 ص(1/138)
الموظف النموذجي قلت آنفا: إن سياسة الاستعمار القريبة المدى والبعيدة المدى تستهدف القضاء على الإسلام وتسويد يومه وغده. وقد أعدت لذلك أجهزة حكومية معينة اختارت أعضاءها بدقة ليؤدى كل منهم دوره المنوط به فى حدود تنسجم مع الغرض العام وتتفق مع النتائج المقدرة. والشوط الأول للموظف الذمي يحوز رضاء الرؤساء أن يكون فارغ القلب من الإيمان، لا تشغله مصلحة قومية عليا، ولا تحركه عاطفة إسلامية، ولا يبالى بشيء أبدا إلا بأداء واجبات الوظيفة كما رسمت له. ولا بأس بعد ذلك أن يكون فاسقا سكيرا هاجرا للصلاة جريئا على حدود الله، فتلك أمور أقل ما توصف به أنها لا تهم المستعمرين. حدثنى صديق أن "وزارة المعارف " أرسلت أحد مفتشى اللغة العربية إلى مدرسة أجنبية لبحث حالتها، وكان ذلك فى رمضان. وحار الناظر ـ وكان يونانيا ـ كيف يحي المفتش القادم؟ ترى أصائم هو أم مفطر؟ فقال ـ مختبرا ـ: أقول رمضان كريم.. وأجاب المفتش: ليس لرمضان عندى شىء!! وهنا أمر الناظر اليونانى بإحضار القهوة للمفتش المسلم! الذى يتجرعها ـ إن شاء الله ـ لهيبا يوم القيامة. والغريب أن المفتش من "دار العلوم ".. ولكن أبناء "الجامع الأزهر" و "دار العلوم " إذا كفروا كانت لعنتهم نكراء زعراء، لأنهم يحاولون أن يظهروا للناس وكأن الدين لم يعترض حياتهم يوما، أو أنهم لم يتأثروا به قط. أما العشرون سنة التى انقضت أمام عصا الفقيه فى الكتاب وأمام تراث الأقدمين فى المعاهد والكليات.. فهذه ذهبت سدى. ولِمَ ذلك؟ لضمان المستقبل الرخى والترقيات المتتابعة! ص _143(1/139)
فإن يك هذا الشأن من له بالتعليم الدينى صلة، فكيف بخريجى التعليم المدنى الذين لا يعرفون من الإسلام إلا ما أعرفه أنا أو تعرفه أنت عن حياة سكان المريخ؟ من هؤلاء الناس، ومن أبناء الديانات الأخرى كون الاستعمار الجهاز الحكومى المشتمل على ألوف الموظفين، ووكل إليه أن يحرس مستقبل أمتنا العزيزة!! وحسبى أن أضع تحت النظر المتفرس صورتين لهذا اللون من الموظفين إحداهما من بيروت، والأخرى من القاهرة. * * * قال صاحب مذكرات بيروتى: "كان ذلك الموظف يسكن حيا إسلاميا، وكان بجواره مسجد يذكر فيه اسم الله، ويدعو فيه المؤذن خمس مرات فى اليوم إلى الصلاة والعبادة والخير: "حى على الصلاة، حى على الفلاح ". ولكن هذه الدعوة النبيلة وهذا الكلام الجميل لم يعجبا ذلك الإنسان، ولم يكن بوسعه نقل المسجد من جواره، فارتحل عن الحى. وسأله أحدهم: غريب أمرك يا فلان.. لقد كان آباؤك وأجدادك يطربون لهذا الأذان، فما الداعى للنفور منه الآن؟! قال: لهم رأيهم، أما أنا فيزعجنى هذا الأذان. وقد تتهمنى بالتعصب، وذلك رأيك، ولكن هذه هى الحقيقة. كان صاحبنا من كبار الموظفين فى الدولة، وكان فى دائرته موظفون كثيرون من مختلفى الطوائف، ولكنه كان يطبق نظرية الوطن القومى بصرامة. لم يكن يكره المسلمين فى "لبنان " فحسب، بل فى كل بلد له بلبنان صلة. هو يكره " السورى " لأنه مسلم، ويكره " المصرى " لأنه مسلم، ويكره " العراقى" لأنه مسلم. ويفضل أن يعيش فى عزلة منكمشا على نفسه. إنه مثال الموظف النموذجى الذى يطبق سياسة "الغرفة السوداء"، تراه ضيق الخبال محدود الذكاء، يحفظ القوانين، ولا يحسن التصرف بها. يعقد المسائل أكثر مما يسهلها، ويخلق حولها جوا من الغموض والإبهام. ص _144(1/140)
إنه حقود حسود، لا يترك فرصة تمر من غيرأن ينتقم من الذين يخالفونه فى الرأى ولو بعد سنين، مستخدما فى ذلك نفوذه ووظيفته. شغل عدة مراكز إدارية، ونقل إلى عدة دوائر، وأثرى وأصبح من أرباب النعم بفضل عرق جبينه، طبعا!!! ولم يسأله أحد فى يوم من الأيام: من أين لك هذا؟ كان فى دائرته موظف من طائفته يحضر إلى مكتبه متى شاء، ويتغيب متى شاء، ولا حساب، ولا عتاب. وكان إلى جانبه موظف مسلم يرى ذلك بأم عينه، فيسكت خشية الانتقام منه. وحدث مرة أن طلب الموظف المسلم إجازة نظرا لضعفه ومرضه، فرفض حضرته منحه يوما واحدا، وانتهره قائلا: "إن أشغال الدائرة تتراكم يوما بعد يوم فكيف تتغيب؟ ولمن تتركها؟ ـ ولكن فلانا يا سيدى يتغيب باستمرار، إنه لا يحضر إلا فى المناسبات. ـ عليك نفسك، ولا تتدخل فيما لا يعنيك! لقد كان صاحبنا يجمع المجد من أطرافه: فهو ابن أسرة معروفة. وهو تلميذ معاهد الرهبان، وربيب "الغرفة السوداء" يحضر اجتماعاتها، ويطبق سياستها، وينفذ خططها المرسومة بحكمة وإخلاص. أضف إلى هذه المزايا أنه صنيعة الفرنسيين، فهم الذين خلقوه، وفسحوا أمامه مجال الترقى والتقدم. فكان يترقى بقدر ما يظهر من تعصب،يثبت كفاءته فى هذا الميدان. كم هم الموظفون النموذجيون الذين ورثهم عهد الاستقلال من أمثال هذا المخلوق؟ لندع الشمال إلى الجنوب، ولنفتش نحن أيضا عن مواريثنا من الأشخاص الذين احتل الاستعمار عقولهم وقلوبهم، فلما طردناه من أرضنا، بقى فى نفوسهم لم يخرج. ... هو مهندس كبيرـ ويؤسفني أن تجيء الأمثلة من هذه الطائفة مع أن بها رجالا يستحقون كل إجلال ـ تولى منصبا يستطيع فيه أن يأمر وينهى وأن يتعب ويريح... ص _145(1/141)
وكان يسكن فى "مصر الجديدة" على مقربة من ساحة فيحاء، نهضت على جانبها البعيد كنيسة تنطح الآفاق بأبراجها الشم، ويشهد طرازها البيزنطى الفاخر والمكان الذى شغلته بأنها تكلفت نحو مائتى ألف جنيه. ولا أحب الاستماع إلى الإشاعات التى تقول : بأن مهندسنا المحترم هذا له يد طولى فى التصريح بالبناء وإتمامه. ولكن الشىء الذى يجب أن نتابعه بعناية هو أن مسلمى الحى كانوا يحتشدون للصلوات فى الجانب الآخر من الساحة العريضة. ولقد وسعتهم هذه البقعة من أرض الله، وأذكر أنى صليت معهم الظهر ـ ومعى زميلى الشيخ سيد سابق. وأرسلت طرفى يمنة ويسرة، فرأيت سورا من القصب واللبن حول قطع مبعثرة من الحصر، وفى جهة القبلة كرسى يمثل المنبر! وطابع المكان كله يدل على العوز الشديد. واقترب منى أحد الأهلين وقال: إن جمعية " الإمام على بن أبى طالب " سوف تبنى مسجدا بهذا المكان، وهى تجمع الصدقات له. وبعد فترة من الزمن جاءنى النبأ الغريب. إن المهندس الكبير ـ وكان رئيسا للبلدية ـ أمر بإزالة السور ومحو المسجد ومنع البناء. وأرسل إلى رجال الشرطة يطلب إليهم التنفيذ. ولكن منع الجمهور من أداء الصلاة والأذان لها فى بقعة ملائمة لهم أمر يستحيل تنفيذه! وهَبْ أن السور التافه قد زال بغتة.. إن المؤمنين سوف يستحثهم ذلك إلى إعادته وحراسته. وفى ليلة معينة اجتمع ستة عشر بناء، وتواصوا بينهم ألا يطلع الصبح حتى يكونوا قد رفعوا السور أربعة أمتار، وحتى يكونوا قد أبرزوا بناء المسجد فى ذلك الميدان! وجن جنون رئيس البلدية لهذه الجريمة النكراء، كيف أمكن المسلمين بناء مسجد متواضع بهذه السرعة! إنه ـ وهو الموظف الكبير ـ يجب أن يمنع هذا العدوان الغاشم. ص _146(1/142)
والمضحك أن هذا الرجل يحمل اسما إسلاميا كتبه أبواه فى شهادة الميلاد. شرع ذلكم الرئيس المسلم يتخذ الأهبة لهدم المسجد، فطلب إلى رجال الشرطة منع أى زيادة فى البناء. ثم أرسل إلى وزارة الأوقاف مهندسا يحمل استفتاء خلاصته: هل يجوز اقتطاع جزء من الميدان لبناء مسجد عليه دون إذن؟ وصياغة القضية فى هذا التساؤل الخبيث لها دلالتها. الرجل يريد هدم بيت الله بفتوى من رجال الشرع!! وتلقيت أنا السائل، وكتبت الجواب الحق، حمله باليد السيد المهندس الذى حضر إلى الوزارة لاستعجال الفتوى. وأشهد أن الرجل كان محرج الصدر لتصرف رئيسه، لكن ما عساه يفعل! ولم تعجب الإجابة طالبها. بيد أن يقظة الشعور العام فى المنطقة أكرهت الرجل على التريث فى أمر الهدم، فعلقه بإنجاز وزارة الأوقاف لمسجد تبنيه فى ناحية أخرى مجاورة. فإذا أتمت الوزارة مسجدها هدم ذلك المسجد.. وعز على الأهالى أن يكون الرجل جريئا فى كفره إلى هذا الدرك. ووصلت المسألة كلها إلى المسئولين الكبار فعالجوا الأمر بما ينبغى من حكمة. وكان ذلك المهندس الحقود على الإسلام قد ترك خدمة الحكومة لأمر ما. فرأت البلدية أن تدع الجمهور يكمل بناء المسجد، وأبلغت الجمعية المشرفة عليه هذا الإذن، وهى الآن بصدد إتمامه . * * * ص _147(1/143)
صحافيون شرفاء أظن عداوة الاستعمار للإسلام أصبحت لا تخفى على من له مسكة، وأحسب أن وسائله قد افتضحت فما يخدع بها إلا غافل. إن مصلحته العاجلة والآجلة فض المسلمين عن دينهم، وإرخاص قيمته فى أعينهم وتلقينهم الاستهانة بأوامره والجرأة على نواهيه، والانصراف عن قضاياه ودس هذه السموم جميعا فى تعاليم معسولة. ظاهرها الاعتدال والحياد والنظر المجرد إلى الأشياء، وباطنها فصم العلاقات النفسية بين المرء ودينه حتى يحيا وهو سليب الإرادة طائش الوعى. ينجذب إلى كل تيار ويجرى مع كل صيحة.. والسفارة الأمريكية فى "مصر" وحدها أعدت فى قسم الاستعلامات قرابة مائة موظف، لأغراض النشر والدعاية، وتزيد الميزانية المرصدة لهذه الشئون على ميزانية جامعة الدول العربية..!! وأعلم ـ ويعلم غيرى ـ أن الأرقام التى تدل على المصروفات الظاهرة شىء آخر قد يقل كثيرا عما يصرف فى السر لضمان الأشياع والمحبين! وقد نتساءل: ما علاقة هذا بعداوة الإسلام والكيد له. وتلك نفقات لها نظائر فى عشرات الدول الأخرى؟؟ وهو سؤال يرد حتما! بيد أن الذى يعرف أن شركة قناة السويس ـ قبل تأميمها ـ كانت تنفق بضعة ملايين من الجنيهات على أغراض النشر والدعاية، وأن من بين هذه الأغراض إعطاء الإرساليات التبشيرية والمدارس الأجنبية، ولفيف من حملة الأقلام ورجال الفن. الذى يعرف هذا يدرك أن الاستعمار لا يضيع أمواله سدى، ولكنه يوظفها وفق سياسة خاصة... إن صورة "الشيخ متلوف " التى كان يراد بنشرها تحقير العالم المسلم وإسقاط منزلته بين الناس كان صاحبها يتقاضى خمسين جنيها! خمسين جنيها على الصورة الواحدة! لِمَ هذا كله؟ ص _148(1/144)
حتى تنفتح شهية الحيوان الرسام لمزيد من الفن فى تحقير رجال الإسلام... فإن رجال الدين الإسلامى ـ إن صحت التسمية ـ يفعلون ما لا يفعله فى القديم ولا فى الحديث رجال النصرانية واليهودية وسائر الأديان. فيجب أن توضع الجوائز المغرية لقتلهم هم وحدهم دون غيرهم من أى ملة أخرى! إن المرتزقين من أموال الاستعمار والذين يتطوعون من تلقاء أنفسهم للحط من هذا الدين تجمعهم ـ طوعا أو كرها ـ غاية واحدة. هى إقصاء الإسلام من الحياة العامة حتى يخلو الطريق للغزو الأجنبى فيعربد كيف يشاء. من الذى كان يتصور أن السيد "كميل شمعون " جاسوس إنجليزى وهو رئيس دولة يشار إليه بالبنان إن الاستعمار يتخير الرجال الذين يعملون معه من شتى الطوائف، ولكل واحد دور خاص يقوم به، ومن جملة الأدوار الموزعة بعناية تمثيل الرواية القذرة، التى يضار بها الإسلام وأهله أشد الضير. والمتتبع لما يكتب فى الصحف ضد الإسلام يستغرب كيف جندت هذه الأقلام كلها لمناوشة هذا الدين وإسقاط رايته...؟ وسأفترض أن هؤلاء الكتاب شرفاء لا يعملون لحساب جهات أجنبية، وأن إهانتهم للإسلام نابعة من أفكارهم التى اقتنعوا بها، وأنهم ليسوا ببغاوات تردد ما يلقى إليها، إننى أفترض هذا. لكن ما الرأى إذا كانت هذه الجهود المنظمة المترادفة تحقق برغم أنف أصحابها آمالا صليبية معروفة؟ فى برنامج "الشباب يريد أن يعرف.. " الذى قدمته الإذاعة المصرية حينا من الدهر. قال السيد "فكرى أباظة": إن أعظم رجل فى التاريخ الحديث هو "مصطفى كمال" فى تركيا. ولا أدرى لماذا يحترم رجل أبعد الإسلام عن الدولة، ورسم سياسة جعل بها أمته ذيلا للغرب، وصديقا لإسرائيل، ومتسولا يمد يده طلبا للعون، وظهيرا ضد قضايا التحرر والشرف فى الشرق الأوسط..؟ ص _149(1/145)
ما الذى يجب أن يعيه الشباب من أستاذهم "فكرى أباظة" فى هذا المجال، ولحساب من يقال هذا الكلام..؟ وسئل "فكرى أباظة": لماذا لم يتزوج؟ فشرع يعرض على آذان الشباب رموزآ للنساء التى عرفها وكان لها أثر فى حياته! هذا الصحفى الماجن شاخ فى العبث. وإذا كان الله لم يصن عرضه بالزواج فلماذا يذكر عهره للشباب؟ وما الذى يجب على الشباب أن يتعلمه من هذا المسلك الشائن؟ والتقيت بمدير الإذاعة فى مكتب أحد الوزراء، وقلت له: كيف تسمح لهذا الكلام أن يسمع إليه الناس؟ ووعد الرجل خيرا… ثم أنصت للراديو بعد أيام فإذا هو يعيد الحديث المسجل.. وقال لصديق: كأن هذا تحدي فأجبته : لا. لا..!! إن الرجل نسينى بعد ما خرج فما خطرت له على بال.!! كيف تظن أنهم يأبهون لنصح عالم مسلم؟. إن التوجيهات الحديثة توصى بازدراء نصائح علماء الدين وتجاهل أشخاصهم... لقد ذكرت لى أنك منذ أيام نصحت غلاما فى السينما أرسل ست نكت متتابعة عن المرأة وزوجها وعشيقها المختبئ تحت السرير. غلام فى الخامسة عشرة من عمره فى مرحلة التعليم الإعدادى عنده هذه القدرة؟ إنه خريج مدرسة أخبار اليوم، إنك نصحته ثم أدبر عنك!! ذاك لأنك تلبس بدلة إفرنجية، ولو أنك تلبس العمامة لأمسك بخناقك وأعانه الآخرون على إخراجك من المكان.. إن سبعين سنة من الاحتلال البريطانى لمصر يجب أن تخلف كل هذه الرواسب الكدرة.. دعنا من هذا الاستطراد، ولنعد إلى السيد "فكرى أباظة"... إن حديث سُكْره وتسوله الجنسى ليس موضع تعليقنا. ولكن الذى ألفت النظر إليه أن هذا الرجل صحا بغتة من مجونه ليعقب على مقترحات " مجلس الأمة " أيام انعقاده، فإذا هو يغتاظ من مشروع قانون لتحريم الخمر ويغتاظ أكثر من مشروع قانون لفرض الزكاة... ص _150(1/146)
عجبا.. أموكل أنت يا رجل باعتراض كل عمل إسلامى؟ أهذه هى الوطنية؟. إن الاستعمار لا تقر عينه بشيء كما تقر للكلام الذى تقول.. الإسلام ـ يجب إبعاده عن الدولة، الخمر حلال، الزواج نافلة، الزكاة لا تفرض.. ومع ذلك فالسيد فكرى أباظة مسلم مشهور.. لقد أثبت فى كتابى "الاستعمار أحقاد وأطماع " و "ظلام من الغرب " مقالات كثيرة ناطقة بنية السوء ضد الإسلام ونبيه وكتابه، فلن أطيل السرد والاستشهاد هنا. ولكنى أحب أن أومئ إيماءة خفيفة إلى قضية الأسرة ورغبة الكتاب المعاصرين فى حلها على هواهم. هناك نفر يعلنون ـ بصراحة ـ أن تنصير المجتمع فى العلاقات الشخصية قد آن أوانه، ويجب منع تعدد الزوجات، وتقييد الطلاق، وإلغاء الأحكام الإسلامية فى هذا الشأن... ومع إلحاح هذا النفر وانتهازه كل فرصة للطعن فى تعاليم الإسلام والتحريض على نبذها فإن الجبهة الإسلامية لا تزال ترد الضربات بقوة وصبر. لكن المدافعين عن الإسلام فوجئوا بهجوم آخر. فإن الأستاذ " محمد زكى عبد القادر " ـ وكان الظن به حسنا ـ طلع علينا بمقال يغض فيه من نظام الأسرة، بل ينقضه من دعائمه. ويذكر أن هناك آراء بأن يعيش الناس هكذا.. وهى آراء لها وزنها. ولا ندرى هل نضح على الرجل جو الكفر الذى تضطرب فيه صحافتنا أم هى زلة يوشك أن يتوب منها؟ نرجو. وهاك كلمة الأستاذ ـ المتزن ـ ضد نظام الأسرة... قال: "إن الأسرة فى مصر تتدهور كما هو حالها فى كثير من البلاد، وإذا استمر هذا التدهور بمعدله الحالى. فليس يعرف أحد ما سيكون مصير الزواج. ولا مصير الجنس البشرى كله. ولا يزعم أحد أن الزواج لا يمكن أن يلغى لأنه سنة من سنن الوجود، أو حاجة ضرورية من حاجات الإنسانية. فإن التطور الخطير الذى يجتازه العالم. ويكاد يزعزع الكثير من القيم التى نبتت آلاف السنين. لا يبعد أن يتناول الزواج أيضا. ص _151(1/147)
إن الدين نفسه ـ وهو سند أساسي لنظام الزواج ـ يتعرض لحملات شديدة. وتأثيره الروحى فى النفوس يتضاءل شيئا فشيئا. وفى كل مائة حالة زواج فى مصر يقع الطلاق فى ثلاثين حالة. ولا يكاد يعتقد أحد أن السبعين الباقية هى حالات سعيدة.. فأغلب الظن أنها سيئة أيضا وإن لم تبلغ حد الانفصال. ويرى البعض أن أسوأ ما فى الزواج أنه استمرار على حالة واحدة متكررة داعية إلى السأم والضيق، فى عصر يبدو كل شىء أمام الإنسان فيه وكأنه يتطور ويتغير من يوم إلى يوم. والزواج يستند إلى مفهوم دينى أكثر مما يستند إلى ضرورة طبيعية. وقد وجد من الفلاسفة والمفكرين من اعتبروا الزواج حالة منحطة من حالات الإنسان. وقال آخرون: إن الإنسان يستطيع أن يعيش من غير زواج، ولكنه لا يستطيع أن يعيش من غير طعام. ودليلهم على ذلك أن هناك ألوفا مؤلفة من النساء والرجال لا يتزوجون. ومن الوسائل التى يلجأ إليها بعض المتزوجين فى "أوروبا" و "أمريكا" حتى يقطعوا رتابة الزواج وملله. أن يعطى الزوجان أحدهما الآخر إجازة تطول وتقصر حسب الظروف. حتى يتجدد الحنين إلى البيت والأولاد. وكان مما يحفظ الزواج فيما مضى من الانهيار، أن سلطة الزوج كانت كاملة. وأن الزوجة تعتمد عليه اعتمادا تاما.. أما اليوم ـ وقد استقلت الزوجة اقتصاديا فى كثير من الحالات، وأخذت تطالب بحقوق متساوية مع الرجال ـ فإن الأمر أصبح أكثر تعقيدأ ". إن هذا الكلام يحمل فى طياته متفجرات تنسف نظام الأسرة وتأتى عليه من القواعد. ونظام الأسرة ليس فكرة إسلامية فقط، بل رباط إنسانى عام، اتفقت الديانات كلها على توثيقه وحياطته. وليت شعرى ما هو العوض الذى يقترحه الكاتب عن الزواج؟ ص _152(1/148)
إن اتصال الحياة على ظهر الأرض لا بد له من إحدى وسيلتين: إما الوسيلة المشروعة المعروفة التى تضبط بها العلاقات الجنسية، وتكفل بها حضانة الأولاد، وتقرر بها الأ نساب والمواريث. وإما... الدعارة وتنقل الرجل بين من شاء من النساء، وتنقل المرأة بين من شاءت من الرجال. أو اشتراك عدة رجال فى امرأة كالحكاية التى روتها " أخبار اليوم " ودقت بين يديها الطبول. أو ارتباط رجل بامرأة ارتباطا اسميا على أن يأخذ أى منهما إجازة من الآخر ليستريح منه أو يستريح مع غيره كما يروى هنا الأستاذ "محمد زكى عبد القادر".. أهذا كلام يكتب؟ أفكر كاتبه فى أنه سوف يلقى الله يوما فيسأله عنه! أقدر أن هناك دينا اسمه الإسلام ينتمى إليه ـ ولو بالوراثة ت وينتمى إليه أغلب قراء صحيفته! أى خبط هذا الذى يقع فيه أولئك الكتاب دون اكتراث لدين أو فضيلة!! وخير ما نرد على ذلك الكلام أن يقارن القارئ بينه وبين ما نشرته مجلة "الإذاعة" تحت عنوان: الدنيا بين يديك. وهذا نصه: "من الظواهر العجيبة فى الولايات المتحدة الأمريكية أن السلطات قبضت خلال العام الماضى على أكثر من نصف مليون شاب وشابة بسبب خروجهم على القانون. وأن هذا العدد الضخم ضم شبانا ينتسبون إلى جميع الجاليات الأجنبية، التى استقرت منذ زمن بعيد فى أمريكا إلا جالية واحدة لم يقبض على فرد واحد منها.. وهى الجالية الصينية. وقد صرح أحد العلماء الأمريكيين بأن هذه الظاهرة ترجع إلى أسباب كثيرة، على رأسها أن الجالية الصينية لا تزال تحافظ على التقاليد الشرقية القديمة التى تقدس الأسرة وتربط بين أفرادها برباط متين. كما أن المادية التى سيطرت على حياة الأمريكيين، لم تستطع أن تنال من تدين أفراد الجالية الصينية، أو من الاهتمام المتصل بقراءة كل ما تقع عليه أعينهم من الإنتاج الأدبى الرفيع ". ص _153(1/149)
وختم العالم الأمريكى تصريحه قائلا: "إن نجاة شباب الجالية الصينية من الانحراف الذى أصاب الشباب الأمريكى دليل على أن روحانية الشرق لها من الجذور القوية المتأصلة فى نفوس المؤمنين بها ما يمكنهم على الدوام من أن يثبتوا أمام عواصف الانحلال التى تجتاح الملايين من حولهم ". * * * ومن بين رجال الصحافة أفاك يعد من أنشط جنود إبليس هو الخواجة " سلامة موسى" الذى ذهب إلى الله من أيام ـ ترى هل يؤمن بعد أن لقيه! لطالما جحد وجوده فى الدنيا وجبه المؤمنين وهم يعملون له ويوقرون وصاياه.! هذا الصحافى كان يمزج فى سلوكه بين سياستين لا تناقض بينهما فى نظرى، لأنهما ينبعان من طبيعة واحدة ويسيران فى مجرى واحد.. أولاهما: أن يظهر بين الناس ـ أعنى المسلمين خاصة ـ بأنه رجل علمانى بحت فهو ينقل أفكار " ماركس " و " دارون " و " فرويد "، ويصدر فى جميع ما ينشره بيننا عن فلسفة مادية مجردة لا تعرف إلا النشوء والارتقاء، ولا تصدق إلا بما يقع فى نطاق هذا الكون المعروف، ولا تفسر تاريخ الماضى والحاضر والمستقبل إلا بمنطق المعدة والسعادة العاجلة، واللذة للجميع، وإقرار السلام كما يقولون. أما أخراهما: فهو يقبع بين المواطنين الأقباط يستثير نفوسهم ويستفز ساكنهم ويحرضهم على فعل المنكر. ولو أحصينا ما كتبه فى جريدة "مصر" الطائفية المعروفة ضد الإسلام وضد المسلمين المصريين لخرجنا بسجل من أقذر ما عرف فى الصحافة المصرية منذ أنشئت!! والواقع أن الرجل كان مسقطا على هدم الإسلام بكلتا الطريقتين. إشاعة الإلحاد بين أتباعه، وإهاجة الأقباط عليهم إن هم تمسكوا بدينهم!! والمضحك أن من النعوت التى شيع بها الرجل بعد موته أنه "أستاذ الجيل "! وتبارت صحفنا فى الكلام عن إيمان الرجل وعظمته. حتى خيل للعيان التى تطالع الصحف أن كوكبا هوى لا أن فتنة انطفأت. وأصدق ما وصف به "سلامة موسى" هذه الكلمة التى جرت على لسان الأستاذ الكبير "عباس محمود العقاد": ص(1/150)
_154
"إن الأدباء لا يحاسبونه لأنهم يزعمونه من العلماء، والعلماء لا يحاسبونه لأنهم يظنونه من الأدباء، وهو فى الواقع لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء". نعم.. هوليس من العلماء ولا من الأدباء. إنه رجل كرس حياته لمحاربة الدين ـ أعنى الإسلام وحده ـ لحساب الاستعمار والأديان الأخرى. وانظر ما كتبه عنه السيد " فتحى غانم " فى مجلة "روز اليوسف " فى معرض الحديث عن كتابه "مقدمة السوبرمان ": ... يتكلم عن إيمانه بالتطور فتظن أنه شيوعى! ثم يدافع عن السرقة والخطيئة وفلسفة القوة فتظنه فاشيستيا. ومع ذلك فما قيمة هذا التناقض! المهم أنه ينقل إلينا العلم!! وفى حماسة للعلم يندفع "سلامة موسى" بحرارة الشباب كلها ويقول مع الفيلسوف الألمانى نيتشه: "إن الله قد مات "... ثم ماذا يا سيد فتحى غانم؟! يقول: كان التعب قد نال من " سلامة موسى ".. لقد قطع رحلة طويلة من التفكير والدراسة والدعوة إلى العلم! إنه يريد أن يستريح. ولجأ "سلامة موسى" إلى الدين يقول: عدت إليها ـ إلى الكنيسة ـ فى حنان، فليس من شك فى أن المتدين يحس سلاما ويجد ابتهاجا يحرم منهما غير المتدين. عجبا.. ومتى تركتها يا رجل حتى يقال : إنك رجعت إليها؟. إن عاطفتك المشبوبة وغضبك الهائل وأنت تهاجم الإسلام فى جريدة " مصر " الطائفية لا نظير لهما فيما كتبت من قبل ومن بعد!! نحن نعلم أن الموت بداية الحياة الحقة وختام فترة الاختبار على ظهر هذه الأرض، وإنما نهز رأسنا عجبا لمهازل كثيرة من الصحفيين فى هذه البلاد. ولو أن الصحافة تشعر بأدنى تهيب للإسلام وإجلال لرسالته لخففت من تعرضها له، ونيلها منه. ص _155(1/151)
لكن المؤسف أن أغلب رجال الصحافة عليل اليقين، زائغ القلب، يسيل ريقه لمن يبذل المال أو يوجل فؤاده لمن يملك السوط. فهو عبد رغب يذله، أو رهب يضله. وكأنما تواطأ حملة الأقلام على الفتك بأصول الاعتقاد، وفك عرا الإسلام، وتجاهل حرمة النصوص، وتهديم كل ما شاد الأوائل طوال أربعة عشر قرنا. ولا ريب أن هناك أقلاما مؤمنة تستطيع أن تخرس ألسنة الإلحاد، وأن تنزل معها فى صراع حر لا ترى بعده إلا أن تفر وتخزى.. لكن الحرب غير متكافئة. فالكتاب المؤمن تتضافر دون انتشاره قوى كثيرة. والصحيفة المؤمنة لا تملك من وسائل الإجادة والذيوع شيئا. ومن ثم فهى تناوش عناصر الشر بجهد المقل. وجهد المقل فى ذلك المجال لا يغنى فتيلا. وصور قليلة من كفاح هذه الصحف تشعرك بأن المعركة على الإسلام نفسه، وعلى كل ما ينطوى عليه هذا الإسلام من فضائل وتعاليم. منذ عام دأبت إحدى الصحف الدخيلة الكبرى، على نشر قصص مبتذلة تقوم على الترويج للخيانة الزوجية.. والدفاع عنها. وكأنها تهدف من وراء ذلك إلى إفساد المجتمع المصرى وبذر بذور التحلل والإباحية بين الأسر.! ولسنا ندرى لحساب من تعمل هذه الصحيفة الكبرى؟ ولكن الذى ندريه هو أن كتاب هذه القصص جميعهم من اليهود والأجانب. وبقى أن يفهم القراء المغزى الحقيقى من نشرها. هذه قصة خصصت لها الجريدة نهرين كبيرين فى صفحتها الحادية عشرة. تتخلص فى أن زوجة ضاقت ذرعا بغيرة زوجها عليها فأرادت أن تنتقم منه. فقالت لأول رجل صادفها فى الطريق بعد مغازلة سريعة:"خذنى إلى أى مكان تريد.. ألا تفهم؟ وتروى الجريدة باقى القصة فتقول: "…. ولم يجد " فلان " صعوبة فى الذهاب بها إلى بيته. ص _156(1/152)
وفى الساعة السابعة مساء خرجت السيدة المذكورة وقد تناثر شعرها، واحمر وجهها، واضطربت زينتها، ولكنها تشعر بهدوء فى النفس، وراحة فى البال، لقد انتقمت من زوجها "!! وهذه قصة أخرى نشرتها الجريدة المحترمة فى 26 أكتوبر الجارى. وتتلخص فى أن الزوج دعا صديقا له لقضاء عطلة الأسبوع فى بيته الريفى.. وفى أثناء نزهتهما ـ مع الزوجة ـ فى قارب سقط الصديق فى الماء وابتلت ملابسه، وعاد الجميع إلى المنزل حيث قدم له الزوج "الروب دى شمبر" الخاص به، وأقبلت الزوجة تحمل الحساء الدافئ إلى صديق زوجها.. فإذا هى ـ وقد وقع نظرها عليه فى لباسه ـ تقف جامدة فى مكانها! وتروى الجريدة باقى القصة فتقول بالحرف الواحد: "لم تكن " الزوجة " قبل ذلك ألقت بالا إلى ذلك الصديق. ولكنها لاحظت فجأة وجهه الوسيم، وشفتيه الحمراوين، ومظهره الذى يذكر الناظر بنجوم السينما. فقدمت إليه الحسناء الحساء الدافئ وهى تقول له فى رفق وعذوبة: اشرب يا صديقى! وتلامست أصابعهما لحظة، ومرت بجسد الزوجة رعدة، وتعلقت عيناها بعين الصديق، وراعها سحرهما وعمقهما، فقالت له بعينيها كلاما ما كان يرضى مسيو ريكيه " الزوج " أن يسمعه "! ولا داعى لذكر النتيجة التى انتهت هذه القصة القذرة إليها. ففى استطاعة القارئ الكريم أن يستنبطها. إننا نحذر هذه الجريدة الدخيلة، فنحن لها بالمرصاد. ونلفت النظر إلى هذه السموم التى تعمل على بثها قى وقت تجدّ فيه الأمة للدفاع عن ذمارها وتجنيد شبابها. بل فى الوقت الذى تنشر فيه الجريدة المذكورة صور الاحتفال بالشهداء الذين سقطوا فى معركة "الصبحة" صرعى برصاص اليهود. وهذه صورة من مجلة "المسلم ": ص _157(1/153)
" نشرت جريدة الأهرام أن الاتحاد النسائى يجتمع للبحث فى المطالبة بتوريث البنت ميراث الابن... الخ. ولم يكن ذلك مستبعدا عند من يعرف طريق التهور والاندفاع الذى تسلكه التجمعات النسائية فى مصر، بإغراء وتأييد من طوائف المنحلين واللادينيين ـ وكثير ما هم. وقد أصبح بأيديهم من الجاه والسلطان والإمكانيات والوسائل والأموال الأنجلو أمريكية وغيرها، ما يحملهم كرها على التبجح والالتواء على القدس الأعلى. وقد كنا ننتظر ذلك بعد أن فتحنا الباب على مصاريعه لناقصات العقل والدين من الكاسيات العاريات، التالفات المتلفات، حتى لم يبق ظل لفضيلة، ولا أثر لإنسانية، لم يرخصها الرجس أو يعابثها النجس. فأصبح التعرى تأدبا، والمخادنة تساميا، والمعابثة مجاملة، والتعفف رذيلة، والتصون خرافة، ومجرد الإشارة إلى الدين جريمة اجتماعية تقعد من أجلها الدنيا وتقوم. لقد تأول المنحلون ما تشابه من الكتاب والسنة، فلم يبقى إلا العدوان الإجرامى على المحكم الصريح الذى لا يقبل تأويلا ولا تحويلا، فى التوريث الذى يؤكد أن: (للذكر مثل حظ الأنثيين). ولقد وجد النسوان من أشباه أهل العلم من أعانهن على بعض الإثم. وإنى لا أستبعد أبدا أن يتبرع متوقح رقيع من أشباه أهل العلم، بالوقوف إلى جانب هذه الجريمة المستحدثة، طلبا للشهرة أو المال ". ذلك وكتب الدكتور "محمد البهى" يكشف عن جانب آخر من رسالة الصحافة الصفراء: "عمل الإنجليز إذن ـ وهم أصحاب التوجيه للسياسة التعليمية فى "مصر"عن طريق القس المبشر "دانلوب " ـ على تقوية التعليم المدنى اللادينى، وعلى أن يكون ذا سيادة على تعليم الأزهر. ثم استعانوا بعد ذلك بالصحافة الدخيلة فى "مصر" على أن تقاوم ما سموه بالرجعية والتعصب. ص _158(1/154)
والذى سمى بالرجعية والتعصب إذ ذاك هو الأزهر. والذى سماه هم الإنجليز أنفسهم. وتبنت مجلة "الهلال " الدعوة ضد الرجعية والتعصب نيابة عن الاستعمار الإنجليزي. ومن يقرأ فى بعض أعدادها يدرك جيدا هذه الغاية. فمثلا نقرأ فى عدد نوفمبر سنة 1924 ما يلى: " الحضارات الشرقية تقدس الشريعة على أنها إرادة واحد قهار، لا على أنها عدل، ولا على أنها لا تتغير إلا بمشيئة السيد. وما مشيئته إلا حاجة فى نفسه إن كان أرضيا، أو أحجية لا تُفسِّر إن كان سماويا". كما نقرأ فى عدد يونية سنة 1931، تحت عنوان " العلم والإيمان وديانات الإنسانية " ما يلى: "إن هذه الديانة الجديدة قد انتشرت فى أمريكا، وإن أصحابها يقولون : إن مسألة وجود الله أو عدم وجوده ليست من المسائل الجوهرية، لأنه إذا عمل الإنسان ما هو صالح فى هذا العالم فقد فعل ما هو مطلوب منه. سواء أكانت له روح خالدة أم لم تكن.. وإن أصحاب هذه الديانة يقولون أيضا : لو كان جميع الناس يعتقدون كما اعتقدنا أن هذا العالم هو الفردوس الوحيد الذى ليس بعده فردوس آخر، لوجهوا كل قواهم إلى تحسينه، ليصبح فردوسا حقيقيا بكل معنى الكلمة. أما وهم يؤمنون بوجود فردوس آخر أفضل وأن الإنسان نزيل فان على هذه الأرض، فهم يحرضون كل واحد على احتقار الحياة وعلى تصويرها بأشنع صورها حتى تصبح جحيما لا يطاق " وهذا الذى تدعو إليه مجلة الهلال هو ما يعرف بواقعية " أوجست كونت " الفيلسوف الفرنسى فى القرن التاسع عشر. و "أوجست كومت " وضع فلسفته الواقعية لمحاربة الكنيسة الكاثوليكية فى تصويرها للحياة الدنيا والآخرة. وأصبحت هذه الواقعية بهذا الأسلوب تقال هناك فى مقابل المسيحية الكاثوليكية ولكنها ـ بعد أن انتقلت إلى الشرق ـ أصبحت تقال فى مقابل الدين السائد فيه، وهو " الإسلام ". ص _159(1/155)
وأصبحت الواقعية تساوى: لا إسلام، والإسلام يساوى لا واقعية. وصاحب كتاب "على هامش السيرة" يقول فى مقدمة هذا الكتاب: " وأنا أعلم أن قوما سيضيقون بهذا الكتاب لأنهم محدثون يكبرون العقل ولا يثقون إلا به، ولا يطمئنون إلا إليه. وهم لذلك يضيقون بكثير من الأخبار والأحاديث التى لا يسيغها العقل ولا يرضاها. وهم يشكون ويلحون فى الشكوى حين يرون كلف الشعب بهذه الأخبار، وجده فى طلبها، وحرصه على قراءتها والاستماع لها. وهم يجاهدون فى صرف الشعب عن هذه الأخبار والأحاديث واستنقاذه من سلطانها الخطر المفسد للعقول. وهؤلاء سيضيقون بهذا الكتاب بعض الشىء لأنهم سيقرأون فيه طائفة من هذه الأخبار والأحاديث التى نصبوا أنفسهم لحربها ومحوها من نفوس الناس. وأحب أن يعلم هؤلاء: أن العقل ليس كل شىء، وأن للناس ملكات أخرى ليست أقل حاجة إلى الغذاء والرضا من العقل. وأن هذه الأخبار والأحاديث إذا هى لم يطمئن إليها العقل، ولم يرضها المنطق، ولم تستقم لها أساليب التفكير العلمى، فإن فى قلوب الناس وشعورهم وعواطفهم وخيالهم وميلهم إلى السذاجة واستراحتهم إليها من جهة الحياة وعنائها- ما يحبب إليهم هذه الأخبار ويرغبهم فيها ويدفعهم إلى أن يلتمسوا عندها الترفيه عن النفس، حين تشق عليهم الحياة. وفرق عظيم بين من يتحدث بهذه الأخبار إلى العقل ـ على أنها حقائق يقرها العلم، وتستقيم لها مناهج البحث ـ ومن يقدمها إلى القلب والشعور على أنها مثيرة لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت، واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش ". وإذن أخبار السيرة النبوية وأحاديثها ـ فى نظره ـ لا تستقيم لها مناهج وليست حقائق يقرها العلم، أى لا تتصل بالواقعية. هى مثيرة فحسب لعواطف الخير، صارفة عن بواعث الشر، معينة على إنفاق الوقت واحتمال أثقال الحياة وتكاليف العيش. ص _160(1/156)
والدين ـ وهو مصدر إثارة العواطف الخيرة، والإبعاد عن بواعث الشر ـ ليس حقائق يقرها العلم، وتستقيم لها مناهج البحث، أى ليس واقعيا!! وكتاب " على هامش السيرة " ـ كما يصور أخبار وأحاديث صاحب الدعوة الإسلامية صلى الله عليه وسلم يصور مبادئ الإسلام نفسه. هناك إذن اتجاه العقلاء واتجاه الواقعيين فى البحث. وكلاهما لا يعترف بالدين، كمصدر للمعرفة والعلم. * * * والمسلاة التى يلجأ إليها الصحافيون فى الأيام الأخيرة والتى تشبه أعراض المرض المزمن هى "تعدد الزوجات وإباحة الطلاق ". ويظهر أن " السادة " الذين يحركونهم من وراء ستار يرون أن قوانين الأحوال الشخصية فى مصر هى آخر ما بقى من التراث التشريعى للإسلام. ولذلك يجتهدون فى الإتيان عليه حتى ينفضوا أيديهم فى ارتياح من آخر حياة قانونية للإسلام. وإنارة للأذهان اضطررت للكتابة فى هذا الموضوع مرة أخرى بمجلة " منبر الإسلام " دحضا للشبهات التى يفتأ يثيرها أولئك الكاتبون. ص _161(1/157)
حول إصلاح القوانين الشخصية عادت إلى الظهور مرة أخرى مقترحات ترمى إلى ما يأتى: 1- "تقييد تعدد الزوجات ". 2- "تقييد الطلاق ". 3- "إلغاء بيت الطاعة". ونحن نناقش ـ فى هدوء ـ هذه المقترحات لنزن مدى الأضرار والمنافع التى تترتب عليها، ولنرى هل يتفق مع المصلحة أو مع الدين تحقيقها؟؟. ولا بد ـ قبل تناول الموضوع نفسه ـ من إلقاء نظرة عجلى على قانون العقوبات الذى تحكم به البلاد. والباب الرابع من هذا القانون يتعلق بجرائم هتك العرض وإفساد الأخلاق. والمتأمل فى مواده ابتداءً من (267) إلى (279) يخرج بنتيجة واحدة هى: " أن الزنا لا يعد جريمة ما دام الطرفان قد أديا العملية الجنسية برضا متبادل وحرية تامة ". " وأن العقاب بالأشغال الشاقة أو الحبس إنما يوقع على الشخص فى أحوال الإكراه، أو عند وجود ظرف يخدش تمام الرضا وكمال الحرية". والمادة 826 تنص فقرتها الأولى على ذلك. " من واقع أنثى بغير رضائها يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة أو المؤقتة ". وكذلك الفقرة الأولى من المادة 268 فهى تنص على أن: " كل من هتك عرض إنسان بالقوة أو بالتهديد أو شرع فى ذلك يعاقب بالأشغال الشاقة من ثلاث إلى سبع.. " فالجريمة ليست فى العمل، ولكن فى القسر عليه واغتصابه دون الرضا الكامل من الطرف الآخر. فإذا وُجِدَ الرضا فلا جريمة هنالك ولا عقاب.. ص _162(1/158)
ولما كان ركن الرضا مع توفر الإرادة والتمييز لا يوجد فى الأشخاص الذين لم يبلغوا سن الرشد، فإن القانون يعاقب على الزنا بأولئك الصغار، لأن رضاهم قد يكون قائما على الخداع والتغرير.. ولذلك جاء فى المادة 269: "كل من هتك عرض صبى أو صبية لم يبلغ سن كل منهما ثمانى عشرة سنة كاملة بغير قوة أو تهديد يعاقب بالحبس.. " الخ. فإذا انتفت معانى الخداع والضغط. وتبين أن كلا من الرجل والمرأة كامل الأهلية فإن القانون لا يرى وقوع الزنا منهما حرما يرصد له عقابا. وجاء فى المادة 273 أن الزوجة إذا زنت ولم يحس الزوج غضاضة من عمل زوجته أو آثر السكوت على فعلتها، فإن القانون ليس له قبلها أى حق. وإليك نص المادة المذكورة: " لا يجوز محاكمة الزانية إلا بناء على دعوى زوجها... إلا أنه إذا زنى الزوج فى المسكن المقيم فيه مع زوجته كالمبين فى المادة 277 لا يسمع دعواه عليها ". وتنص المادة 274 على أن المرأة المتزوجة التى ثبت زناها يحكم عليها بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنين. ولكن لزوجها أن يوقف تنفيذ هذا الحكم برضائه معاشرته لها كما كانت.. وأخيرا جاء فى المادة 8 من القانون رقم 68 لسنة 1951 لمكافحة الدعارة: " يعتبر محلا للدعارة أو الفجور كل مكان يُستعمل عادة لممارسة دعارة الغير أو فجوره... " أما الذى يُستعمل لممارسة الدعارة الشخصية أو فجور الإنسان نفسه بمن يشاء.. فذلك ليس محلا للدعارة. ومن جملة هذه المواد يعرف أن الاتصال الجنسى مباح أصلا بحكم القانون. وأن العقوبة تعرض له إذا كان عن إكراه أو مخادعة أو ما أشبه. وفى ظل هذا الوضع يراد تحريم العقد الشرعى على زوجة ثانية. أى يراد الاتصال بها دون عقد وفى رضا من قانون العقوبات القائم. ذلك القانون الذى لم تغضب من بقائه إلى اليوم جمعية نسائية، ولم نسمع لها صوتا ينادى بإلغائه. ص _163(1/159)
على حين نسمع صيحات رتيبة متكررة مصرة على تعديل قانون " الأحوال الشخصية " وجعل الزواج بامرأة أخرى جريمة يعاقب القانون لاقترافها. أى أن المراد تحريم الحلال، وتحليل الحرام. وقد تتساءل: هل تعدد الزوجات عفة فاشية فى المجتمع المصرى سببت له أضرارا ونكبات شتى مما يوجب تدخل القانون لوقاية الأمة وحمايتها؟ والجواب يؤخذ من الإحصاءات التى تنطق بأن المصريين لا يعددون إلا فى نسبة لا تتجاوز 3% أو 4%. فهل هذه النسبة الضئيلة التى لا تكاد تحس هى مبعث الصراخ المتكرر من خطورة التعدد. ووجوب سن تشريع يمنعه.؟ إن هذا الصياح مفتعل، ويزيدنا اتهاما لبواعثه أن فى مصر أزمة زواج لا أزمة تعدد. وأن آلاف البيوت مغلقة الآن على فتيات ينتظرن الأزواج بصبر وأمل، بل بنفاد صبر وضعف أمل. والواقع أن الأحوال الاقتصادية السائدة، وارتفاع المستوى المنشود للمعيشة جعل الزواج بامرأة واحدة أمرا صعبا. وجمهور الموظفين من حملة الشهادات العليا حين يوضعون فى الدرجة السادسة يشعرون بصعوبة الحياة ويتوجسون من عواقب الزواج بواحدة فحسب. فأين مجال التفكير فى الجمع بين اثنتين؟؟ فإن تك هذه حال الطبقة الوسطى. فكيف بغيرها؟ قد يقال: إن هناك من أبناء الطبقات الدنيا من يعددون دون وعى!! ونحن نرحب بمنع العاجز من الزواج بواحدة حتى يستطيع أن يقوم بواجبه كرجل فى الإنفاق عليها وتربية أولاده منها. وذلك تنفيذا لقوله تعالى : ( وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضله). ص _164(1/160)
بيد أن منع الفقير من التزوج بواحدة لا يجوز أن يصدر به قانون شرعى إذا كان هناك قانون آخر يبيح له أن يجمع فى بيته واحدة واثنتين دون عقد، لأن الزنا مع التراضى يقره القانون، أو لا يتدخل لمنعه!!.. إن الكلام عن منع التعدد يشبه أن يكون كلاما عن مجتمع فى المريخ. أما المجتمع المصرى القائم فهو لا يعرف شيئا عن هذا اللغط الذى يهرف به البعض تقليدا لأوروبا التى غرقت فى الإثم. وأباحت التعدد الحرام. ومنعت التعدد الحلال!! ومن المتناقضات التى تدعو إلى العجب الدعوة إلى إلغاء " بيت الطاعة " فى الوقت الذى يدعى فيه إلى تقييد الطلاق! إن " بيت الطاعة " هو بيت الزوجية. ومعنى إبعاد الطلاق عنه أن تتضاعف المحافظة عليه. وأن تزيد أسباب صيانته وبقائه. لا أن يطالب بإلغائه!! لكن يبدو أن تصور الحقائق غير متماسك فى أذهان هؤلاء المنادين بإصلاح الأسرة... فالرجل ـ فى نظرهم ـ لا يملك أن يحل عقدة النكاح، ويجب أن يمنع من ذلك قانونا. وفى الوقت نفسه تملك المرأة أن تترك "بيت الطاعة" لأن إبقاءها فيه بالرغم منها إهانة ومذلة !. فلينهدم إذن البيت أو ليبق خاويا يصفر فيه الريح. إن الإسلام أقام " بيت الطاعة " بدلا من بيت المعصية. وجعل للرجل والمرأة فيه حقوقا ظاهرة. وإذا حدث شقاق بين الزوجين استحالت معه العشرة، فلكل من الطرفين أن يحمى نفسه من الضرر اللاحق به. للمرأة حق الخلع. وللرجل حق الطلاق. والخلع بالنسبة إلى المرأة أن تعرض على زوجها رد ما دفعه إليها نظير إطلاق سراحها وفسخ عقد الزواج. وأساسه ما روى عن النبى صلى الله عليه وسلم : أن امرأة رفاعة جاءت إليه تشكو أنها لا تطيق المعيشة مع زوجها وقالت: لا أعتب عليه فى خلق. ولا دين. ولكنى أكره الكفر فى الإسلام. ص _165(1/161)
أى أنها تبغض البقاء معه، وإن كان لا مطعن عليه فى خفقه ولا دينه. وتخشى أن تؤدى هذه الكراهية الجارفة بها إلى ما لا يليق. فقال لها الرسول صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته "؟ ـ وهى المهر الذى دفعه إليها. قالت: أردها وأزيد، ففرق الرسول صلى الله عليه وسلم بينهما. والمرأة التى تريد الخلع ويأباه عليها زوجها. ترفع شكواها إلى القضاء. وهو ـ بعد تقديره لظروف الزوجين ـ يحكم بما يراه أقرب إلى العدالة، وإلى مصلحة الطرفين. فليس الإسلام بالدين الذى يقوم على إذلال المرأة. ولا هو ـ كذلك ـ بالدين الذى يقوم على إذلال الرجل. ولا ندرى سر الحملة على "بيت الطاعة" بعد ذلك إلا أن تكون حملات مبعثها الجهل بالفقه الإسلامى، والتقليد الأعمى للفكر الأجنبى. والطلاق حق الرجل، وإكراهه على ترك هذا الحق لغيره، معناه إرغامه على هجر البيت مع بقاء عقد الزوجية قائما. ومعناه أيضا أن ينطلق كلا الزوجين فى ظل هذا العقد الصورى المفروض كرها ليفعل ما يحلو له... وهذا فساد عريض. إن " أوروبا " لم تقف ألبتة عند القول بتقييد الطلاق، بل أباحته فى نطاق واسع ولأتفه الأسباب. ونحن لا نرحب بشيوع الطلاق فى الأسر "فهو أبغض الحلال إلى الله ". ولكن المحافظة على كيان الأسرة تتم برفع المستوى الدينى والخلقى. وبتفهيم الجماهير أن أكثر ما يشيع بينهم من ألفاظ الطلاق لغو لا يؤخذ به ولا تنحل به عقدة النكاح... أما محاولة إقحام القانون فى ربط المرأة برجل يكرهها ويرفض العيش معها فهو مصدر فساد عريض... ويسرنا أن ننقل رأى الدين، فى قضايا التعدد والتقييد مصورا فى شعر حسن للأستاذ محمد مصطفى حمام. ص _166(1/162)
تزوجوا. وانظموا أوطاننا أسرا لا تتركوا وطن الأمجاد منتشرا لا تجعلوا البيت والتزويج مشكلة ويسروا من أمور العيش ما عسرا لا تخشوا الفقر، كم من أسرة شبعت عزا ومالا، وفرد خاب وافتقرا ولا تخافوا شقاقا فى بيوتكمو بل اضمروا الحب يبق الحب منتصرا فإن تعاظمكم خلف وأعضلكم فخالفوا آمر التفريق إن أمرا واستخلصوا حَكما من أهلكم وخذوا من أهلها حَكما واسترحموا القدرا ولستُ أرضى سوى الأهلين محكمة وليبق سرى وسر البيت مُدخرا فإن قضى الله تفريقا فنازلة إن تلق صبرا فطوبى للذى صبرا وربما كان فى التفريق منفعة قد يبرأ الجسم من عضو إذا بترا حياتنا صفات تلك واحدة منها فذا رابح فيها وذا خسرا * * * * ومن يُعدد زواجا دون ملجئة فقد أتى بضرار أو أتى ضررا ليس التعدد إلا رُخصة فإذا أسرفت فيها ركبت الحمق والخطرا من ينتقص حق أولاد لثانية لم يلق من ربه عفوا إذا اعتذرا وفى التعدد إن أدركت حكمته بر رخى وجبر للذى كسرا من للمطلقة الحسناء يعصمها! وللعوانس تفنى عمرها ضجرا! وللأرامل، والأحزان تعصرها والحزن يفتك بالأعواد إن عصرا ومن لأم اليتامى، هل تقوتهمو بالخد معتصرا والقد مهتصرا !! وما الغطاء لمن زلت وساورها من الفضيحة طيف يرسل النذرا وما السبيل إلى ذرية نُجُب إن كنت زوج عقيم حظها عثرا! هو التعدد يهدى الغارقين إلى بر الأمان ويبنى بيننا أسرا ! هو التعدد كم أوى اليتيم وأشـ باه اليتيم وكم واسى وكم سترا هو الحلال الذى ينفى الحرام وكم حمى من الفحش أنثى أو حمى ذكرا عدد إن استطعت لكن عادلا لبقا لا تعطين الهوى سمعا ولا بصرا واحكم رعاك الله بالحب الصحيح تجد مغناك لا غيرة يشكو ولا غيرا واسأل ضميرك فى أمر التعدد، لا تلجأ لقاض ولا تستأذن البشرا إذا جرؤت على قاضى السماء فلن تكون يوما بقاضى الأرض مزدجرا ص _167(1/163)
ضجة مفتعلة ينكرها الدين والواقع تتبعتُ بشئ قليل من الدهشة اللَّغط الطويل الذى احترف إثارته بعض الناس حول ما يسمى بقوانين الأحوال الشخصية . وأريد أن أنفى أولاً وجود هذه التسمية فى ميدان الفقه الإسلامى وأن أرفض الإيماء المقترن بها . فشرائع الأسرة ليست أحوالاً شخصية تهم أصحابها وحدهم من حقهم أن يُبقوها إذا شاءوا أو يُغيِّروها إذا شاءوا . وإذا كان هذا العنوان اصطلاحاً فنياً محضاً فهو ليس من صنع علماء الإسلام ، ويبدو أنه مترجم عن اللغة الفرنسية ولا وجود لكلمة قوانين الأحوال الشخصية فى كتبنا الفقهية كلها . وندع هذا الاستطراد إلى موضوع حديثنا وهو ما شرع الله فى الزواج والطلاق والحضانة والميراث . فنقول فى حسم : إنَّ أى تفكير فى تغيير هذه الشرائع مرفوض جملة وتفصيلاً ، وأنَّ كلمة " تطوير " قوانين الأحوال الشخصية التى لهج البعض بترادادها ليست غير احتيال منكور للانسلاخ من أحكام الإسلام التي نطقت هبا النصوص ، وانعقد على تفسيرها الإجماع. فالزواج بالواحدة إلى الأربع مباح يقيناً لمن يستطيع العدل . والطلاق حق الرجل لا يمكن لأحد ـ أن يسلبه إياه . وللمرأة نصف نصيب الرجل فى الميراث . والرجل هو رب البيت والقوَّام عليه والراعى الأكبر لأولاده . وما يطلبه النساء اليوم من تغيير لهذه المبادئ الإسلامية ضرب من الغرور يجب أن يُقمع دون هوادة وسنرى عند التأمل فى أحوال المجتمع المصرى أنَّ المزاعم حول انهيار الأسرة المصرية بسبب إباحة التعدد والطلاق مكذوبة من أساسها . ص _168(1/164)
وأن الأسرة المصرية أشرف سيرة وأنقى جوا من الأسرة الأوروبية والأمريكية، وأنه إذا كان هناك ما يعكر صفو الأسرة. فهو سلوك المنحلين الذين أطرحوا تعاليم الدين ظهريا ويريدون إغراء غيرهم بالمروق منها والتمرد عليها. أما الأمة فهى تود لو عاشت ظاهرا وباطنا فى حدود دينها العظيم. لقد سمعنا كلاما كثيرا حول إساءة الناس لحق التعدد، ولإباحة الطلاق. ولا نرد على هذا الكلام بأكثر من ذكر الإحصاءات الرسمية التى تنطق بعكس ما يدّعيه هؤلاء.. وإلى القراء الكرام الجدول المثبت فى صفحة 30 من الكتاب الذى أصدرته مصلحة الإحصاء والتعداد 1960 - 1961 ص _169
جدول 17 ـ عقود الزواج وإشهادات الطلاق ونسبتها لكل ألف من السكان السنوات عقود الزواج إشهادات الطلاق العدد النسبة % العدد النسبة % 1945 1946 1947 1948 1949 1950 1951 1952 1953 1954 1955 1956 1957 1958 275686 287929 260586 272128 280463 272795 252526 231846 216268 219006 226364 222011 241436 228018 14.9 15.3 13.7 14.0 14.1 13.4 12.1 10.8 9.8 9.7 9.8 9.4 10.0 9.2 79991 80415 75404 76154 73827 74881 75277 69538 62296 59580 60331 57187 59948 60044 4.3 4.3 4.0 3.9 3.7 3.7 3.6 3.2 2.8 2.6 2.6 2.4 2.5 2.4 من هذه الأرقام يتضح لكل ذى بصيرة. أولا : أن عدد عقود الزواج فى تناقص مستمر برغم أن الزيادة فى عدد السكان مطردة. لقد زاد عدد السكان خلال هذه السنوات الأربع عشرة نحو ثمانية ملايين، وكان ينبغى أن يصل عدد عقود الزواج إلى أربعمائة ألف. لا أن يهبط إلى مائتى ألف. فالأزمة المخوفة هى قلة الزواج لا كثرته كما يرجف النساء وأشياعهن من الرجال المخدوعين. ص _170(1/165)
ثانيا: إن إشهادات الطلاق التى تمت سنة 1958 وعددها ستون ألفاً يجب أن تذكر معها الحقائق الآتية: أنها تشمل الطلاق قبل الدخول، وبعده، والطلاق الرجعى والبائن، والطلاق بالتراضى أو بحكم القاضى، وأن التصفية النهائية لهذه الأحوال المتابينة تظهر فى الجدول المثبت صفحة 13 من الكتاب الرسمى السابق لمصلحة الإحصاء والتعداد.
جدول 5- تعداد السكان حسب الحالة الزوجية
والنسبة المئوية لكل حالة إلى الجملة
" الأرقام بالألف "
الحالة الزوجية
1947
1957
1967
ذكور
%
إناث
%
ذكور
%
إناث
%
ذكور
%
إناث
%
لم يتزوج أبدا
متزوج
مطلق
أرمل
غير مبين
1202
3628
69
138
88
23
71
1
3
2
662
3766
127
1131
97
11
65
2
20
2
1028
3097
60
129
10
24
72
1
3
–
490
3180
97
932
7
11
67
2
20
–
898
2777
66
105
12
23
72
2
3
–
361
2896
120
870
9
9
68
3
20
–
الجملة
5125
100
5783
100
4324
100
4706
100
3858
100
ص 56
100
* لا يشمل الذكور دون الثامنة عشرة والإناث دون السادسة عشرة.
من هذه الأرقام يتبين أن نسبة المطلقين الذين تخلوا عن تكوين الأسر نهائياً إلى مجموع المتزوجين أرباب الأسر هى 1: 72
فهل هذا هو الباعث على الصراخ والعويل من فوضى الأحكام الإسلامية كما يفترى هؤلاء الكاذبون على دين الله ودنيا الناس؟
إن لغة الأرقام تكشف عن الفراغ الهائل فى منطق المتهجمين على "قوانين الأحوال الشخصية" كما يسمونها.
ص _171(1/166)
وتبين أن هناك بواعث أخرى كامنة فى النفوس هى سر اللغط الذى يتجدد بين الحين والحين ضد تعاليم الإسلام فى هذا المجال. ولقد ألقيت نظرة على بعض التفاصيل فى إشهادات الطلاق فوجدت أن ثلاثة أرباع المطلقين لا أولاد لهم البتة لأنهم طلقوا قبل الدخول أو بعده والزوجة عقيم أو لم تلد. وقلت للمسئول فى وزارة الشئون: إن هذا الإحصاء قاطع بفساد الادعاء أن الطلاق سبب الأسباب فى تشرد الطفولة.. قال: لا تنس أن الربع الباقى فى حالات الطلاق يخلف وراءه ثلاثين ألف ولد. فقلت: هل المطلقون الذين لهم أولاد : صعاليك جميعا. ففيم إذن قضايا النفقة والحضانة التى تشغل الحاكم؟ إن الطلاق أبغض الحلال إلى الله، وما نريد أن يلجأ إليه أحد إلا عند اليأس من صلاح ذات البين. لكن القول بأن الطلاق سبب أول أو ثان أو ثالث لتشرد الأطفال فى مجتمعنا جرأة مستنكرة وتخبط شائن. ونعاود السؤال: إذا كان عدد الذين يتزوجون أكثر من واحدة قرابة 2%، وعدد الذين يطلقون يهبط بعد التصفية التى كشف عنها الإحصاء إلى مثل هذه النسبة.. ففيم عويل النساء؟ وفيم فزع بعض الكتبة الذين طالت ألسنتهم فى الإسلام وتعاليمه؟ ثم لماذا لم نسمع لهؤلاء صوتا يضيق بإباحة الزنا فى الظروف التى حددها القانون؟ إن الجوار هناك والصمت هنا دلالة ضمير خائن ونصيحة مغشوشة، ومن ثم فنحن نلفت الأنظار إلى ما ينطوى عليه هذا التناقض الغريب. قال لى بعض المتحمسين لتقييد الطلاق: إن سهولة الطلاق فى الإسلام يسرت لمن يبغضون زوجاتهم من النصارى أن يتركوا دينهم ويدخلوا فى الإسلام حتى يتخلصوا بالطلاق من الزوجات اللاتى يكرهون. قلت: كأن التشريع المقترح محاولة لمنع هؤلاء الفارين من اللجوء إلينا! لو أن هناك عقلا راشدا لاتخذنا هذا المسلك دليلا على أن سلب الرجل حق الطلاق مزلقة لسلبه دينه. ص _172(1/167)
إن عشرات الأمم المسيحية احترمت الواقع وأباحت للرجل الطلاق بعيدا عن التعاليم المتوارثة بين كهنة الكنيسة، فكيف نفكر نحن أن نضع أيدى المسلمين فى الأغلال التى طرحها غيرهم؟ وماذا يقع لو قيدنا الطلاق كما يقترح هؤلاء القاصرون؟ أما يترك نفر من المسلمين دينهم فرارا من الزوجة التى لا يطيقون؟ بذلك تكون أولى بركات القانون المراد سنه أن نعوق غير المسلمين عن الإسلام، وأن ندفع بعض المسلمين إلى الارتداء حين يعجزون عن ترك زوجاتهم، وذلك كله تحت عنوان إرضاء المرأة أو حماية الأسرة!!!! إن هذا التشريع ـ لو صدر ـ فسيكون ذريعة إلى مفاسد هائلة، وجرائم فاتكة. وإنا لموقنون أن أولى الأمر لن يخدعوا بهذا الضجيج المصطنع مهما تتابع الصياح واستطال الإلحاح. بل إن أملا يتجاوز التزام تعاليم الإسلام بشأن الأسرة إلى إشاعة تعاليم الإسلام فى أرجاء المجتمع كله فتتناول صنوف المعاملات، وتنفخ روح الشرف والحق فى قوانين العقوبات وسائر التصرفات. ويومئذ تكون بلادنا قد نجحت فى صد الاستعمار الثقافى، وعادت سيرتها الأولى تضئ الطريق للحائرين. ص _173(1/168)
ثقافة مهجورة * تعليم دميم الوجه: وأعنى به التعليم الدينى، ذلك النوع من الثقافة التى تحيا على هامش المجتمع تفوح منها رائحة البلى، ويضطرب أصحابها فى عالم يتنكر لهم ويضيق بمرآهم.. إن التعليم الدينى فى بلاد الإسلام وصل إلى قعر الهاوية التى هيأها له الاستعمار ودفعه فى طريقها من عشرات السنين. فهو ينحدر إليها كما تنحدر الشيخوخة إلى الموت. لا تغنى عنها مقومات ولا منشطات. وهاهو ذا قد ركدت ريحه وسكنت حركته وعطبت ثمرته.... ولست أدرى ما سيكون عليه غدنا ـ والحالة هذه. هناك خريجون من " الأزهر" يقومون بتدريس اللغة العربية فى المراحل الأولى والثانوية، ويكلفون كذلك بتدريس ألوان باهتة من تعاليم الإسلام. غير أن هؤلاء المدرسين وتلامذتهم لا يفيدون الإسلام قليلا ولا كثيرا. ولا يفيدون هم أنفسهم شيئا من الإسلام..... وكذلك الحال بالنسبة إلى اللغة العربية وآدابها وقواعدها.. إن ألسنة المتعلمين تكاد تجيد كل لغة إلا العربية!!! والحقيقة أن هذه المحاولات دهان سطحى فوق علل غائرة. ولابد لعمل شئ جديد كل الجدة إذا أريد بقاء الإسلام بين أتباعه، وامتداد تعاليمه مع الأجيال النامية.. * * * سألنى صديق: أنت عالم تخرجت فى الجامع الأزهر من سبع عشرة سنة، ولك غيرة بادية على دينك، فهل دفعت بأولادك إلى الأزهر ليؤدوا الرسالة التى تقوم بها؟ قلت له: لا... ص _174(1/169)
إننى يا صديقى أجنب ذريتى المآسى التى لحقت بزملائى، وكادت تلفنى فى أكفانها لولا أن الله لطف بى... لقد دخلت الأزهر وعمرى عشر سنين، وقضيت فيه خمسة عشرعاما، لم أكن خلالها طالب علم يتفرغ لتلقى دروسه، بل كنت مقاتلا فى حرب دائمة مع المجتمع والدولة!!! كانت الدنيا متجهمة لى، الدنيا الرسمية والدنيا الشعبية.. فأما الدنيا الرسمية.. فإن قوانين الدولة كانت تحظر على أمثالى الالتحاق بالوظائف العامة، وتجعل المناصب كبراها وصغراها لأبناء التعليم المدنى. وكان مفروضا أن جميع الوزارات تزدحم بغيرنا وتوصد أبوابها فى وجوهنا، ويستحيل أن يفلت إلى داخلها أحد منا. والذى بقى لنا بعد ذلك عدة وظائف تافهة، لا يكفل راتبها حياة دابة. وأذكر أنه على عهد " صدقى باشا " عين نفر من علماء الأزهر المتخصصين ـ الذين قضوا فى الدراسة مددا لا تقل إحداها عن خمسة عشر عاما ـ عين الواحد منهم بثلاثة جنيهات فقط. وذلك مرتب دون ما يقرر يومئذ لحامل الشهادة الابتدائية..!!! إن الاستعمار السافر ، منه والمقنع ، دفع بالأزهر ورجاله إلى مستقبل كالح. فإذا تجاوزت الناحية الرسمية إلى الناحية الشعبية، فإن الفجوة التى حُفرت بيننا وبين الناس كانت عميقة ـ ولا تسلنى من حفرها؟ كان كثير من العامة يتعرض لنا بألفاظ السخرية والتهكم. ويرى التندر بملابسنا، والتفكه بعمائمنا.. مسلاة مستباحة.. ولما كان أغلب القادرين الواجدين يرفض تعريض أبنائه لمستقبل أسود. ويفضل الاتجاه بهم إلى التعليم المدنى، فإن التعليم الدينى أصبح منتجع الطبقات الفقيرة. ومصر بلد حكمه الفراعنة قديما، وقامت للإقطاع فيه دولة رأينا سادتها بأعيننا، وفى هذا البلد يحقر الفقير، ويذل، وتقتحمه الأ نظار باستهانة. ولما كان الأزهرى يمثل الدين ويمثل الفقر فهو يجمع بين حالتين مزريتين تضعان أمامه السدود وتثقلان أطرافه بأنواع القيود...!!! ص _175(1/170)
ومن ثَمَّ تكونت فى مصر طائفة غريبة على الحياة العامة. قد يكون فى بعضها ذكاء خارق رائع، أو نفع عميم أو جهد عظيم، ومع ذلك فيكفى أن تكون أزهرية لتقابل بهز الكتفين... وزاد الطين بلة أن الدولة انصرفت عن العناية بهذا المسجد الكبير. ولم تبال أن تتقلص منه عناصر الحياة وأن تسود فيه عناصر الركود والضعف. فماذا ترى الآن؟ إنني أذهب إلى مبانى الكليات الأزهرية وقاعة المحاضرات الكبرى، فأجد عليها جميعا غبرة ترهقها قترة. برج الساعة خال لا ساعة فيه! القاعة مقفرة لا أنيس بها ولا صوت! زجاج النوافذ محطم وقد وضعت فى فراغه أوراق الكرتون! الأطلال القديمة تسفى الغبار. والأبنية الجديدة يبول عليها الرعاع!! وجبل المقطم يلقى ظلال الخيبة على المكان الهامد! ولقد كان من ثلاثين سنة مقابر للموتى، وهو الآن مقابر لنفر من الشيوخ النائمين والشباب الهائمين.. إن أبى ـ رحمه الله ـ كان رجلا طيب القلب، كبير الروح. وقد نذرنى لخدمة الإسلام، ووقف حياته ونشاطه على إدخالى فى الأزهر، وثابر ـ وهو المكافح الجلد ـ حتى نلت إجازتى منه. ورآنى وأنا أبدأ حياتى بمرتب ستة جنيهات. فقد كان الحظ إلى جانبى فى هذه السنوات العجاف، وإلا ما استطعت أن أحصل على هذا المبلغ مع أن مئات العلماء كانوا يتضورون.... وهناك ألوف أمثالى أدخلوا الأزهر بهذه النية الصالحة. وكان من السهل توجيههم الوجهة التى يسهمون فيها بجهد رائع فى خدمة هذه الأمة ورفعة شأنها. ص _176(1/171)
بيد أن سياسة الاستعمار القديمة وأسلوب الرجال الذين تربوا فى جامعاته ومعاهده جعل من الأزهريين قوة مشلولة، ولا أريد أن أقول: طاقة منبوذة.. إن تحقير الأزهريين لأنهم أبناء الفلاحين الفقراء جريمة قذرة. وربما يرتكبها إلى يوم الناس هذا رجال لو نبشنا التراب عن أصولهم لاسودت وجوههم.... وأغنياء مصر ـ بل أغنياء الشرق كله ـ آخر أهل الأرض فخرا بثرواتهم، وتنكرا لغيرهم. وتحقير الأزهريين لأنهم يمثلون الإسلام جريمة قذرة كذلك يرتكبها إلى يوم الناس هذا رجال مسخ الاحتلال البريطانى قلوبهم وعقولهم، وأمات حياءهم وأحيا بذاءتهم. رجال أعرف أنهم ينحنون لذوى العمائم السود، ويتجرأون على أبناء دينهم فحسب. ذلك أثر التربية التى أخذهم به الغالب المحتمل من سبعين سنة. والجراءة على الإسلام هى التى تجعل الواحد من هؤلاء يمسح جبهته بنعل بغى، ويكرع من الخمر حتى يمسح الأرض بلحيته الملوثة. فإذا رأى شيخا مسلما نهره بكبرياء وعنجهية...! وأعلم أن من المحسوبين على الدين ناسا أجلافا ينقصهم زاد كثير من المعرفة الحسنة، والسيرة اللبقة. وأعلم أن من المحسوبين على الدين تجارا يصطادون المال ويدخرونه لعاجلتهم وهم ذاهلون عن آجلتهم. وأعلم أن من المحسوبين على الدين أقواما لا ترشحهم معادنهم العاطفية ولا الفكرية لأداء رسالته وحمل أمانته. غير أن ذلك كله لا يتأدى بأحد إلى إصدار حكم بالإعدام البطيء على الإسلام وعلى تعليم الإسلام وعلى المعهد الذى أقيم لذلك الغرض. إن الظروف التى تعرض لها " الأزهر " لو تعرضت لها جامعة أخرى لاصطفقت أبوابها من زمن بعيد... ولو أن خريجى الآداب والحقوق تعرضوا لألوان الكساد المادى والأدبى الذى تعرض لها الأزهريون لأغلقت كلياتهم ولأدركهم من الهوان ما يواريهم الثرى.... إن الظروف التى تحيا فيها هذه الطائفة، والتجارب التى تمر بها، تجعلك تردد المثل المعروف: "لا تسأل عن الهالك كيف هلك! ولكن اسأل عن الناجى كيف نجا"...(1/172)
* * * ص _177
ولكى تخلص الأمة من ذلكم الازدواج فى التعليم، والانقسام فى المشاعر لابد أن نحدد - بصراحة - موقفنا من الإسلام. ولسنا نحن الذين نحدد هذا الموقف، بل رجال وزارة التربية والتعليم.. هل المراد تنشئة الأولاد على تعاليم الإسلام أم لا؟ وهذه التنشئة لا تعنى حشو أذهانهم بجملة من الدروس الشاحبة، ولا حشد أبدانهم لحضور حصص مفروضة... بل المراد خلق بيئة مكتملة العناصر تتعاون فيها أنواع النشاط العلمى والفنى والرياضى لتكوين جيل متدين. المراد أن يستقر فى أذهان المفتشين والنظار والمدرسين وسائر الموظفين أن غرس تعاليم الإسلام وآدابه واجب فى أوقات العمل والفراغ، فى الفصول وفى الرحلات، فى العلاقات الخاصة والعامة. وبذلك تكون للمدرسة رسالة موصولة بأهداف المجتمع والدولة. وتكون اليقظات النفسية والعقلية للكبار والصغار متساوقة نحو مثل عليا مقررة، مفروغ ابتداء من تقديسها، لا يسمح لأحد أبدا أن ينال منها أو يتجرأ عليها!!! إذا حددنا موقفنا الإسلامى فى التعليم فإن مستقبل الأزهر يكون قد بت فيه، إما بإغلاقه، وإما بكفالة وضع كريم له. والواقع أن نفرا من المسئولين عن التعليم يتأرجحون بين ما تعلموه من أمريكا وإنجلترا... وبين ما فرضته طبيعة الحياة أخيرا فى البلاد العربية والإسلامية. هم تعلموا أن الدين يجب إبعاده عن المدرسة. وهم تعلموا أن سلوك الشباب يجب إطلاقه ليبرأ من الكبت، والعقد النفسية. وهم تعلموا أن الدين يخالف العقل، وأن أحكامه تجافى الطبيعة. وأن إيحاءه يفسد العواطف والأفكار. هم تعلموا هذا فى الكراسات التى حبسهم الاستعمار عليها ولم يسمح لعيونهم أن تعدوها إلى غيرها... كانت النتيجة أن جاءوا إلى أوطانهم بأفئدة موغرة على الإسلام، نافرة من أهله شديدة الحرص على مجافاتهم... ص _178(1/173)
والغريب أن الهجوم الذى رأوه على الدين كان موجها فى بلاده ضد المسيحية فقط فأما نحن فنقلناه إلى بلادنا لنخنق به الإسلام. وأما المسيحيون ـ فى أغلب مدارسهم الوطنية وفى جميع المدارس التى افتتحوها فى بلادنا ـ فإنهم احتقروا هذا الهجوم، وجعلوا الروح الدينية والصلوات الكنسية جزءا لا يتجزأ من برامجهم الدراسية!!.... أرأيت هذا التناقض؟ أرأيت الخيبة المرة التى أصابتنا؟ أرأيت كيف يوكس الإسلام وحده وكيف ينبت أبناؤه وبناته غرباء عنه أو خفاف الزاد منه، أو قليلى الحنو عليه؟ ومن بضع سنين اضطرت وزارة المعارف إلى توظيف عدد غفير من علماء الأزهر تمشيا مع سياسة التوسع فى التعليم. وهؤلاء العلماء الموظفون لم يطلبوا للقيام ببرنامج واسع من التربية الدينية. لا وزارة المعارف أرادت هذا، ولا هم يصلحون لذاك. وإنما طلبوا ليكونوا مدرسى لغة عربية.. بيد أن هؤلاء العلماء عاشوا فى وزارة المعارف كما يعيش الملونون فى الولايات المتحدة! إن ماضيهم الأزهرى لا يغتفر لهم! والحق أن الأزهر ترك فى نفوسهم ومسالكهم آثارا لا تتواءم أبدا مع روح التحرر التى يفهمها رجال وزارة المعارف. روح الانفكاك من الإسلام والغض من قداسته، والنظر إلى الاختلاط الجنسى والواجبات الدينية العامة نظرة كلها تساهل و... إرخاص! إن آراء "فرويد" فى علم النفس لها قداسة ما تعرف لوحى الله! ولما كان جمود الأزهريين بإزاء هذه المسائل مثيرا، فقد صدر قرار بدحرجة بضعة ألوف منهم إلى منزلة دراسية أدنى مما يستحقون، بحجة النقص فى كفايتهم الفنية. ص _179(1/174)
وقد انبرى الدكتور " محمد البهى " لفضح هذا التصرف فى محاضرة كبيرة، كشف فيها النقاب عن التيارات الأمريكية الهدامة فى بلادنا وفى ثقافتنا. ولابد للرجوع إلى هذه المحاضرة للوقوف على جلية الأمر. ونحن نقتطف منها هذه الأجزاء لاتصالها بموضوعنا. قال ـ بعد أن سرد هجوم " فرويد " على الدين ـ : ومع أنه يهودى، فهو لا يقصد من الدين هنا إلا المسيحية، لأنه عدد فى هذا الكتاب النقائص التى أخذها فلاسفة القرن التاسع عشر على الكثلكة المسيحية. قال فرويد: "وإنما ترجع استقامة الشعور فى التصرف، إلى الخلاص من الكبت الجنسى نفسه، هذا الخلاص الذى يؤدى " إلى روح الزمالة " ثم الانصراف إلى العمل المثمر "! وفرويد فى نظرته إلى الغريزة الجنسية على هذا النحو، يجعلها أساس الحياة الإنسانية، من الطفولة إلى الرشد. وهذه النظرية عاشت فترة فى القرن التاسع عشر، وسادت أيام أن ساد الفكر المادى فى الغرب. وتسود يوم يدعو الكتاب إلى المادة العلمية، والوقوف عند حد الحواس وإنكار المعنويات، وفى مقدمتها إنكار الله. ولم تسلم هذه النظرية لفرويد إذ قاومها نفر آخر من علماء النفس من معاصريه أمثال "ألفريد آدلر" ـ ولد سنة 1870 ـ الذى تتلمذ على فرويد نفسه. ف "آدلر" جعل غريزة "حب البقاء" المصدر الأصيل الذى تنشأ عنه كل التصرفات الإنسانية بدلا من الغريزة الجنسية. ورمى أستاذه بالمبالغة فى شأن الغريزة، وبالدعوة عن طريقها إلى إهدار كل القيم الإنسانية، والوقوف بالإنسان عند الحد الحيوانى. وبقيام المدرسة المشتركة، وهى الـ " public School "، فى أمريكا انحطت القيم الأخلاقية فى الحياة الأمريكية التعليمية، والحياة العامة. وربما كان السبب فى ذلك أنه لم يعد هناك كبت للغريزة الجنسية. ولكن ليست " روح الزمالة "، على أى حال ـ التى نشدها " فرويد " من الاختلاط فى التعليم قبل مرحلة الجامعة ـ هى التى حلت أزمة الغريزة الجنسية بين المراهقين والمراهقات. ص _180(1/175)
أما مشروع " مستوى الكفاية الفنية " وتطبيقه فى دائرة مدرسى اللغة العربية والدين، من المتخرجين فى كليتى أصول الدين، والشريعة، من كليات الجامع الأزهر فهو مشروع يعيد إلى الأذهان مشروع " دانلوب " فى التوجيه الفنى والتربوى لمدارس الحكومة المصرية، الذى قصد منه يومئذ الغض من قيمة الأزهر والمتخرجين فيه. إن المتخرج من كلية الشريعة، أو كلية أصول الدين، الذى تولى التدريس فى مرحلة التعليم الابتدائى، ثم نقل من هذه المرحلة إلى مرحلة الإعدادى، ثم نقل من هذه المرحلة إلى مرحلة الثانوى، إذا أعيد من جديد إلى المرحلة السابقة على المرحلة التى يقوم بالتدريس فيها الآن معناه: عدم أهليته للقيام بمنهاج اللغة العربية والدين فى مرحلة الثانوى. ومعناه: عدم اعتبار التجارب السابقة التى اكتسبها فى تدريس اللغة العربية والدين، فى مرحلتى الابتدائى والإعدادى، سواء من الوجهة الموضوعية، أو الوجهة التربوية والمنهجية. معناه: إهدار القيمة العملية لقانون التطور فى الحياة بالنسبة للأزهرى. ثم اشتراط : أنه لا ينقل لمرحلة الثانوى من جديد إلا بعد النجاح فى امتحان يساوى الامتحان النهائى لقسم اللغة العربية فى كلية الآداب أو لطلبة كلية دار العلوم. معناه: أنه مؤهل الآن بالثانوية فحسب، وأن حصوله على الشهادة العالية من كلية أصول الدين، أو من كلية الشريعة، أمر ملغى اعتباره. وإذن.. أربع سنوات قضاها طالب كليتى أصول الدين، والشريعة، يدرس فيها المواد الخاصة بكل كلية، وهى مواد إسلامية عربية، ومن بينها تفسير القرآن الكريم ـ وهو من جانب يعتبر تطبيقا عمليا لأسلوب اللغة العربية وقواعدها ـ بالإضافة إلي سنتين قضاهما فى تخصص التدريس، يدرس فيها مواد التربية، ومنهاجا موضوعيا للغة العربية بفروعها المختلفة بالإضافة إلى ست سنوات أخرى على الأقل قضاها فى ممارسة تعليم هذه اللغة، فى مراحل التعليم الثلاث: الابتدائى والإعدادى والثانوى. تساوي فى نظر(1/176)
أتباع " ديوى " فى مصر صفرا على اليسار فى حياة المتخرج فى هاتين الكليتين، الذى اشتغل بالتعليم الرسمى، حتى مرحلة الثانوى. هذا المعلم، طبقا لمشروع "مستوى الكفاية الفنية" الذى خرج به أتباع " ديوى " على الرأى العام المصرى فى 28 سبتمبر الماضى، عاد من جديد إلى وضع حامل ص _181
الثانوية الأزهرية الفج، الذى لم يكسب خبرة فنية، ولم يتاج فى التعليم العالى دراسة للثقافة الإسلامية العربية فى مدة الكلية، ولا دراسة تربوية فنية وموضوعية، فى تخصص التدريس. وبقيت التسع سنوات التى قضاها هذا المعلم فى مرحلتى الابتدائى والثانوى فى التعليم الأزهرى هى هى لم تتغير، بما أضافه من أربع سنوات فى الكلية وسنتين فى تخصص التدريس، وست سنوات فى التعليم المدرسى بوزارة التربية والتعليم. وأصبح حاصل الجمع العددى لتسع سنوات، حصل فى نهايتها على الشهادة الثانوية، ولأربع في الكلية، ولاثنتين فى تخصص التدريس، ولست فى مدارس وزارة التربية يساوى تسعا فقط!! ثم عندما يريد النقل منذ الآن إلى الثانوى، عليه أن يجتاز الامتحان النهائى لقسم اللغة العربية فى كلية الآداب، ولكلية دار العلوم. ما هى برامج اللغة العربية الآن فى كلية الآداب، وفى كلية دار العلوم لطلاب وطالبات التوجيهية فيها؟ إنها برامج القسم الثانوى لطالب الأزهر فى اللغة العربية. ومعنى امتحانه مرة أخرى فى المقرر النهائى لطلاب قسم اللغة العربية فى كلية الآداب، أو لطلاب دار العلوم، إلغاء اعتبار شهادة الثانوية التى حصل عليها من الأزهر. وعندئذ هو مؤهل فقط فى نظر أتباع "ديوى" فى وزارة التربية والتعليم بالشهادة الابتدائية وحدها! ذلك هو منطقهم، ونتائج هذا المنطق: إهدار قيمة الأزهر بإهدار قيمة المتخرجين فيه. وذلك ما أراده الاستعمار الإنجليزى، يوم تولى السياسة التعليمية فى مصر على يد "دنلوب ". يكتب ديوان الموظفين تقريره عن "مستوى خريجى الجامعات المصرية" لعام (1957- 1958) وتطلع(1/177)
به الصحف المصرية على الرأى العام العربى فى 20 سبتمبر الماضى. أى قبل خروج مشروع "مستوى الكفاية الفنية فى التعليم " فى الصحف بأسبوع، وعنوان هذا التقرير "جهل خريجى الجامعات ". ولخصت جريدة الأخبار الجديدة التقرير فيما يلى: ص _182
ديوان الموظفين يستغيث من جهل خريجى الجامعات : أعلن الديوان أن 66% من الخريجين، نالوا صفرا فى الامتحانات التى أجراها أساتذة الجامعات للديوان. قال: إن الأطباء عاجزون عن التعبير، وعباراتهم ضعيفة، ومعلوماتهم العامة لا وجود لها.! وقال: إن الكيميائيين لا يعتمدون على أنفسهم فى البحث والاطلاع، وأن معلوماتهم جامدة! أما المهندسون.. فمستواهم الثقافى ضعيف جدا وهم لا يقرءون الصحف ولا يحاولون تجديد معلوماتهم الفنية بعد التخرج، ولا يحاولون الاستفادة من الدراسة فى النواحى التطبيقية. ويأتى بعد ذلك خريجو كليات التجارة، وهم جهلة تماما بالمعلومات العامة. ثم مدرسو اللغة العربية ( لم يقل الأزهريين من كليتى الشريعة وأصول الدين بل مدرسى اللغة العربية، وهو كما يشمل هؤلاء، يشمل المتخرجين فى قسم اللغة العربية فى كليات الآداب، وكلية دار العلوم، وكلية اللغة العربية بالأزهر) وهم يخطئون فى النحو. ثم يأتى مدرسو الفلسفة (وطبعا هؤلاء من كليات الآداب)، الذين لا يعرفون شيئا عن الربط بين الفلسفة والحياة العلمية العامة. أما الزراعيون.. فهم جهلة بمعلومات الجغرافيا البسيطة.. الخ! يكتب ديوان الموظفين هذا التقرير، وتنشره الصحف فى 20 سبتمبر سنة 1957، ولاشك أن وزارة التربية والتعليم بالاشتراك مع الجامعات هى جهة الاختصاص فى بحث " مستوى التعليم ". فلابد أنها تلقت هذا التقرير قبل نشره فى الصحف. وبعد أسبوع من نشره فى الصحف يقدم إلينا أتباع "ديوى" فى وزارة التربية مشروع "مستوى الكفاية الفنية فى التعليم ". ولقد لخصته الأهرام الصادرة فى 28 سبتمبر 1957 فيما يلى: "تقرر ألا يظل فى التعليم الثانوى من(1/178)
حملة العالمية فى كليتى الشريعة وأصول الدين مع تخصص التدريس إلا العناصر الممتازة، التى حصلت على جيد جدا، فى عامين متتاليين يسبقهما تقدير جيد (ولعله لا يكون هناك ممتاز من بينهم، فى نظر واضعى التقارير عنهم أصلا) وينقل الباقون إلى المرحلة الإعدادية. ولا تكون الترقية ص _183
من بينهم إلى المرحلة الثانوية إلا باجتياز امتحان فى اللغة العربية فى مستوى امتحان كلية الآداب قسم اللغة العربية، أو كلية دار العلوم ". أما امتحان كلية اللغة العربية الأزهرية، فملغى اعتباره فى نظرهم. الأزهر وحده، وأبناء الأزهر وحدهم، ينخلون من بين أصحاب الشهادات العليا فى مصر الذين جاءت طوائفهم فى تقرير ديوان الموظفين السابق. وأنا أعلم من تجاربى الخاصة ومن تقارير ديوان الموظفين لعدة سنين، ومن ملاحظة الاختبارات التى تعقد بين الحين والحين لملء الوظائف الشاغرة أن مستوى المتخرجين فى الجامع الأزهر وغيره من الجامعات المدنية ضعيف إلى حد محزن. ومعنى هذا أن طعن رجال المعارف فى الأزهريين صحيح! ولكنهم لا يصدقون إذا قالوا: إن هذا هو السبب فى دحرجتهم إلى درجات أدنى. لو كان الأزهريون أقل كفاية من مستواهم الحالى. وأسرع انقيادا إلى العابثين من حماة الرقص التوقيعى، ودعاة المدرسة المشتركة ـ لأمسوا موضع الرضا، ولأغضى عن ضعفهم الفنى كما تنوسى ضعف غيرهم من أبناء المعاهد الأخرى. * * * يؤسفنى أن أصارح بأن هناك غبنا متعمدا يقع على رءوس الأزهريين. إن مستر " نهرو" يحاول إدخال " المنبوذين " فى المجتع الهندى. أما هنا.. فالمحاولات دائبة لإخراج الأزهريين من المجتمع.. الويل لأزهرى يقع فى خطأ. إن الصحف تجعل من الحبة قبة وتتناول قضيته لتحيل الوهم حقيقة. ولا يزال الحزن يخامر قلبى لنفر من العلماء تناولت الجرائد قضيتهم بشماتة ظاهرة وحرص غريب على تلويث سمعتهم وإذلال جانبهم!! كأن هناك ثأرا شخصيا بين هؤلاء الكتاب وبين أولئك المساكين المحرجين، أما(1/179)
غيرهم فتقع منه الخطيئة وإذا الأقلام تتناولها ونصب عينها المثل القائل : " الجبن سيد الأخلاق "!!! ص _184
الجامع الأزهر تاريخ الأزهر مشتبك بتاريخ مصر الإسلامية، ويكاد يسير معه صعودا وهبوطا. ألف سنة أو يزيد مرت على هذا الجامع العتيق وهو يلقى أضواء المعرفة على الشرق الإسلامى كله. ألف سنة مرت وهو يصون تراث العروبة والإسلام، ويستبقى علوم اللغة والدين فى حرز آمن من هجمات الفاتحين وتفريط المفرطين. لقد كادت الثقافة العربية والإسلامية تموت وتندثر فى ليل الحكم التركى الطويل. ذلك الحكم الذى شل النشاط الأدبى فى العالم الإسلامى، وكاد يطوى الحضارة الإسلامية فى أكفانه الكالحة. لولا هذا الأزهر الذى آوت إليه العروبة ولغتها والدين ودراساته... بنى الجامع الأزهر وافتتح للدراسة على عهد " المعز لدين الله " مؤسس الدولة الفاطمية فى مصر. وكان المذهب الشيعى أساس الحكم فى البلاد، وكان كذلك أساس الدراسة الفقهية بين علماء الأزهر وطلابه... ثم لم تلبث الأحوال أن تغيرت فى مصر إذ عاد إليها مذهب السنة بعد ظهور صلاح الدين. فتضافرت مصر ـ حكومة وشعبا ـ على جعل الأزهر مثابة للثقافة الإسلامية، كما يتصورها جمهرة المسلمين. وبقى " الأزهر " على هذا المنهج يفد إليه الطلاب من المشرق والمغرب، وتزدهر فيه علوم الشريعة واللغة، ويقوم برسالته العتيدة فى رعاية من الدولة وإعزاز من الأمة. ولم يكن علماء الأزهر موظفين يشتغلون بالشئون العلمية فحسب. بل كانوا حراسا على تعاليم الإسلام، يذرون الحاكم والمحكوم بها، وينهضون بعبء التوجيه الاجتماعى دون وجل ولا ملل. ص _185(1/180)
وتاريخ " الأزهر" حافل بمواقف شتى على تراخى العهود واختلاف الدول التى تتابعت طوال عشرة قرون. وإن كنا نذكر ـ تبيانا للحقيقة ـ أن مناصب الأزهر الكبرى قد ظفر بها أحيانا بعض من فرطوا فى أمانة التوجيه وحسن الدعوة إلى الله. وقد حكى الجبرتى فى تاريخه قصصا شتى لهؤلاء وهؤلاء. ولا شك أن الحكم الصالح كان يعنيه اختيار أولى الكفاية والخلق ليضع فى أيديهم مقاليد الأزهر وينتظر منهم تربية الجماهير، وإعزاز الإسلام، وغرس فضائله فى النفوس. ومن الصفحات النقية لعلماء " الأزهر" انحيازهم إلى جانب الأمة كلما رأوا ظلما يحيق بها من الداخل أو يهبط عليها من الخارج. ومن هنا كانوا موئل الشعب أيام المماليك، ثم عندما وقعت مصر فريسة الاحتلال الفرنسى. ومما يجدر التنويه به أن علماء الأزهر آزروا بطريرك الأقباط " بطرس السادس " فى نزاع نشب بينه وبين كبير الأمراء المماليك " ابن إيواظ " على الأحوال الشخصية لأقباط مصر. فقد كان هذا البطريرك صلبا فى دينه، متشددا فى تطبيق شريعته، متحمسا فى أخذ رعيته بها مما جعل البعض يضيق به. وعرض الحاكم أمره على علماء الأزهر. فإذا العلماء يقرون البطريرك على مسلكه ويؤيدونه فى سيرته. مما جعل كبير الأمراء يتراجع عنه ويدعه وشأنه. وهذه قصة تكشف عن طبيعة السماحة فى الإسلام، كما تكشف فى الوقت نفسه عن مدى المكانة التى كانت مقررة للعلماء! وقد ظل الأزهر أمينا على التراث الإسلامى كما ظل صلة وثيقة بين مصر وآفاق العالم الإسلامى المترامى الأطراف. بيد أن اتساع المعارف الإنسانية فى هذا العصر، وانتظار المدارس والجامعات التى تقوم عليها، وانتظام الألوف المؤلفة فى سلكها يجعل من حق الأزهر على مصر أن تدعم مكانته ورسالته وهى ـ فى الحقيقة ـ إنما تدعم مكانتها ورسالتها هى. لقد شاءت الأقدار لمصر أن تحتل مكان الصدارة فى عالم العروبة والإسلام، وأن تكون قطب الرحى فيما تستلزمه هذه المكانة من جهاد ثقافى وعسكرى..(1/181)
وهذا شرف يجب أن نحمل مسئوليته. ص _186
بل إننا ابتدأنا فعلا نتحمل هذه المسئوليات منذ أعلنا استقلالنا الفكرى والعاطفى فى المعترك العالمى الحالى، ومنذ تبنينا سياسة الحياد، وتصدينا لكل من يبغى جرنا إلى أحد المعسكرين. نعم.. لقد أعلنا أننا كتلة ثالثة، لها خصائصها ومصالحها، ولها تاريخها وحضارتها، ولها أمانيها ومتاعبها، ولها رسالتها التى تود أن تحيا فى ظلها، وتكره أن تستظل برسالة غيرها... وهذا الموقف يتقاضانا أن نمعن النظر فى ماضينا الطويل، وفى واقعنا المعاصر لنبرز الحقائق التالية: ا- إننا أمة عربية ارتضت الإسلام دينا، فهى لا تقبل مراء فى عروبتها ولا فى إسلامها. 2- إن هناك عللا وأخطاء، تعرضت لها أمتنا فى تاريخها الطويل تتنافى مع مقتضيات العروبة والإسلام فيجب أن تبرأ منها. 3- إن تقوية معدننا وصقله وتوفير أسباب القوى حوله إذا كان أمرا لازما فى كل عصر، فهو فى هذه الأيام ألزم لنستطيع الثبات فى حومة النزاع العالمى القائم. 4- إنه لابد من زيادة الأفكار الداخلية والشبهات الوافدة، وتحصين الأجيال الجديدة من وساوسها، حتى تشب مستقيمة الفكر، نقية الوجدان.. وبناء نهضتنا على تلك الدعائم لا يحتاج إلى استيراد مواد من الخارج!. فإن اللبنات المطلوبة موجودة عندنا. قال الأستاذ " محمد أبو زهرة ": إن التوحيد الفكرى والثقافى والنفسى لا يحتاج إلى إنشاء ولكن يحتاج إلى توجيه وجمع، فإن الأصل قائم ثابت. وحيثما اتجهت إلى بلد إسلامى، فإنك تحس بأن الاتفاق النفسى والفكرى موجود، وأن الفكرة العامة قائمة، والعروة الجامعة لأساليب الفكر الإسلامى ثابتة. ولا يوجد بين أهل دين أو أهل مذهب اقتصادى أو اجتماعى، من تتلاقى أفكارهم حول اتجاه معين لا يحول ولا يزول ما تجد ذلك بين المسلمين. ولقد قدر لى فى الندوة الإسلامية الكبرى التى عقدت بـ "لاهور" أن ألتقى بالوفود التى نزحت من البلاد الإسلامية على اختلاف الطوائف فيها. ص _187(1/182)
فما وجدت ثغرة فكرية بينى وبينهم، لا فرق فى ذلك بين " سنى " و" شيعى " ولا بين " صينى " و " روسى " و " تركى ". وإذا كانت ثغرة بيننا وبين أحد، فما كانت إلا بيننا وبين زنادقة هذا العصر الذين يتسمون بأسماء إسلامية ولا دين لهم كهذا الذى ينكر أحكام آيات المواريث، ويدعى أنها وقتية. أو كهذا الذى ينكر النبوة، وأمثالهم ممن نبذ المسلمون كلامهم فى المؤتمر، كما تنبذ النواة. والسبب فى ذلك الاتحاد الفكرى الذى لا يحتاج إلى الجمع والتوجيه والتنظيم هو وحدة المصدر والاتفاق عليه والالتفاف حوله. فقد اتفق المسلمون جميعا على أن الإسلام له مصدر واحد يؤخذ من نصوصه المحكمة، وهو أولا نصوص القرآن التى لا تقبل تغييرا ولا تبديلا ( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد). وثانيا : أقوال النبى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ وسائر سنته. وإذا كانت بعض الطوائف مختلفة فى طريقة روايتها، فإن الأصل الذى يقوم عليه عمود الدين، وفقه الإسلام وأحكامه متفق عليه. وإذا كانوا ينتهون إلى حكم واحد فى أصول الإسلام والإقرار بجملة السنة التى تدل على هذه الأصول، فإن الغاية قد اتحدت، وأصل الوحدة الثقافية قد ثبت من غير نكير، ومن غير تعاند وتنابز بالأسماء. وإن كانت أنواع من الجدل قد وقعت ومازالت، فذلك لا يضير فى شىء. إنها أحيانا من ضيق الفكر لا من اختلاف الثقافة، كما رأينا فى صدر حياتنا من ملاحاة فكرية بين الشافعية والحنفية. وقد تجئ من عمق الفكر كما يسجل التاريخ الفقهى من مناظرات، بين أتباع هذين المذهبين الجليلين ببلاد ما وراء النهر فى القرنين الرابع والخامس. تلك المناظرات التى كانت محمودة العاقبة منتجة مثمرة، لأنه قد ترتب عليها تأييد الفروع بكلا المذهبين بالأقيسة العميقة وتنقيح الروايات فى الأخبار المؤيدة. ص _188(1/183)
وفى هذا المعترك اقتبس كل مذهب من الآخر... إن هذه حقيقة ثابتة لامجال للريب فيها، وهى وجود نواة الوحدة الفكرية والثقافية والنفسية، فى كل البلاد الإسلامية، مهما تختلف فيها الطوائف والمذاهب. ولكن الأمر الذى نريده، هو توجيه العناصر والعمل على إنمائها، وإيجاد مجتمع فكرى يبنى كيانه على دعائم الإسلام، ويقف حاجزا دون النزعات المنحرفة التى تتغلغل الآن فى صفوفه، وتلقى بالريب على حقائقه، حتى يكشف زيغ أولئك الذين اصطفاهم أعداء الإسلام ليحلوا عراه، ويلقوا بالشك فى أفئدة أهله. ويزيد ـ مع هذا ـ جمع تراث الماضين، لا فرق فى ذلك بين التراث الذى تركه السابقون من الشيعة، وبين التراث الذى تركه أئمة الأمصار ذوو المواهب المعروفة، وغير المعروفة، إذ كان كل ذلك من تراث السابقين، وثمرات غرس الموحدين، فهو تراثنا جميعا، لا فرق بين سنى وغير سنى... وهذا الكلام تبيان حسن للرسالة التى يمكن أن يضطلع الأزهر بها وينهض لحملها. وبذلك تجد الكتلة الثالثة المنبع الذى تحتاج إليه لإسالة العقائد الدافعة والمشاعر الحية والآمال العريضة.. إن هذه الكتلة تبدأ طريقها الآن وسط عقابيل شتى، من وهن الماضى، ومن دسائس المستعمر. بيد أن المنقذ الوحيد لها والسياج المنيع حولها لن يجيئها إلا من الإسلام... والوحدة الشائعة فى جنبات هذه الأمة، ومناطقها المترامية لاحظها أعداؤها أنفسهم.. قال الدكتور " محمد البهى ": "الإسلام ـ كما يقول عنه المستشرق الإنجليزى " جب " ـ قد انتشر انتشارا سريعا فى فترة لا تتجاوز قرنين ونصف قرن. وقد كان من أبرز آثار هذا الانتشار السريع الذى تكونت خلاله الحضارة الإسلامية الكاملة أنها نشأت حضارة موحدة. إذ لم تكن هناك فرصة لتأثير العناصر الإقليمية المختلفة أو الثقافية المتباينة فيه. فلما انتشر الإسلام بعد ذلك فى أقطار الأرض لم يكن دينا ساذجا، ولكنه كان نظاما كاملا للحياة. ص _189(1/184)
ولذلك ترى أن اتساع رقعة العالم الإسلامى من " المحيط الأطلسى " إلى " المحيط الهادى " لم يؤثر فى وحدة الحضارة الإسلامية، على غير ما تقضى به العادة . ثم قال: " الأزهر هو المعهد الذى يجب أن يقوم بإشاعة الوعى الإسلامى ". وإذا كانت قوة الكتلة الثالثة تتوقف على إشاعة الوعى الإسلامى بين أفراد هذه الكتلة من " المحيط الأطلسى " إلى " المحيط الهندى " وعلى قوة الإيمان برسالة الإسلام فلا بد أن يكون هناك مركز ما لتوزيع هذا الوعى، ودفعه، وتأكيد الإيمان بالإسلام فى نفوس المسلمين. ونحن إذا اتجهنا للتفتيش عن مركز يقوم بهذه الرسالة لا نجد سوى " الأزهر " فى رقعة العالم الإسلامى كله، أو فى موطن الكتلة الثالثة. إن الجامعات الحديثة فى هذا العالم الإسلامى هى جامعات لا تعنى بالأيديولوجية ولا بالنظام الفكرى لأصحاب هذه الكتلة. وإنما عنايتها بأمور أخرى كالعلوم والرياضة وفروع الدراسات الهندسية المختلفة وما إليها. وإذا عنيت بأيديولوجية ما فإنما تعنى بفكرة منثورة لا تكون نظاما متكاملا يكون شرقيا، أو غربيا، أو إسلاميا. الأزهر وحده ـ وليست الجامعات الحديثة ـ هو مركز هذا الإشعاع. الأزهر فريد بهذه الرسالة، لا يوجد له مشارك قديم أو حديث فى إطار الكتلة الثالثة. ومنذ أن قام إلى اليوم وهو مركز الرسالة الإسلامية. سواء ما يتعلق بدراسة تعاليمها المباشرة، أم ما يتعلق بدراسة الوسائل التى تصحح فهمها وتصورها، وهى اللغة العربية وما يتصل بها من دراسات ". فى الإمكان ـ بوسائل يسيرة ـ أن يكون الأزهر عونا بالغ النفع فى تحقيق الأهداف التى نسعى إليها، وتقريب الآمال التى ننشدها. بل هو فى وظيفته المنوطة به، والرسالة المعلقة عليه، والتاريخ الطويل الذى بصحبه وتقدير المسلمين الذى يحف به... هو فى هذه النواحى جميعا لا يقوم عنه عوض. ص _190(1/185)
ونستطيع أن نُدرك خطورة العمل الذى يؤديه " الأزهر " ـ لو حيا ونهض ـ فى ضوء الحقائق التالية: ا- أن الاستعمار يتوسل بالتبشير المنظم، وبث الإرساليات، وبناء الكنائس على ترسيخ أقدامه فى إفريقيا وآسيا، وعلى تكوين أجيال ترضى بوجوده، بل تحرص على بقائه، لأنها ترى فى الدين الذى رباها عليه آصرة روحية يلبى نداءها دون حرج. والغرب المسيحى لا يهمه من النصرانية إلا أن تكون طليعة تمهد لزحفه، وإلا أن يكون رجالها عملاء له حيث كانوا. 2- أن دولة " إسرائيل " لا تعرف إلا الدين رباطا يصل بين رعاياها على اختلاف أجناسهم. وهى تجعل من العصبية الدينية وحدها الوقود العاطفى الذى تستبيح به جيرانها وتبيت لاجتياحهم. وقد قرأتُ فى الصحف أن كاهنا يهوديا خطب فى الشعب الإسرائيلى. فقال ـ مبشرا قومه بالنصر فى المعركة الأخيرة: " إن لدينا مائة وبضعة عشر سلاحا سريا، سوف تكتب لنا النصر فى صراعنا مع أعدائنا. أتدرون ما هذه الأسلحة؟ إنها جملة الإصحاحات التى تضمها التوراة المقدسة"!! فإذا كان الدين فى الهجوم السافر علينا مصدر الطاقة العنيفة التى تواجهنا. فمن العجز ألا تقوم جبهة الدفاع عليه، أو أن يخلو المعسكر العربى منه. ودور " الأزهر " هنا أن يرعى عناصر المقاومة بعد أن يصلها بالإسلام، لا على أن التمسك بالدين ضرب من التعصب الأعمى أو إثارة لأحقاد طائفية صغيرة. بل على أن قيام الحقيقة وحراسة الحقوق وكسر العدوان، ومنع الفساد فى الأرض إنما تتم فى ضوء عقيدة دافعة وإيمان نابض، وحماسة تنبعث من الأعماق، وتهون معها التضحيات. والواقع أن أخصب تربة لإنتاج المعانى هى التدين الصحيح. وفى ضغط الحصار الاقتصادى على مصر وزميلاتها من الدول المتحررة، يمكن للشعب المصرى ولغيره من الشعوب الإسلامية أن تتحمل الجوع والعرى. وذلك عندما يكون باعث الإيمان هو المحرك للكفاح. ص _191(1/186)
بل إن الجماهير لتشعر بالسعادة وهى تحتسب عند الله ما تعانيه من حرمان، ولا يمكن أن يسمع لها ضجيج أو شكاة، لو أن رجال الأزهر ينسابون ـ دون تظاهر أو افتعال ـ لتثبيت اليقين فى الأفئدة وتصبير الناس على اللأواء. إن إحياء الأزهر وسيلة لا شك فى جدواها، إذا أردنا ـ على عجل ـ أن نصنع حركة بعث شعورى يساند ما نبغيه من نهوض سياسى عسكرى!! وهناك نظرة أخرى. إن القومية العربية التى نريد أن نجمع عليها شتاتنا ونُرسى على دعائمها تاريخنا الجديد، هذه القومية جزء كبير من الانفعالات العامة التى تتحرك بها أمتنا من "المحيط الأطلسى" إلى " الخليج الفارسى ".. هى جزء كبيرمهم من هذه الانفعالات. والتعويل على هذا الجزء وإبرازه، وإقراره عنوانا فذاً لثورات التحرير المشتعلة هناك. له مبرراته المقدورة، وله ظروفه الإقليمية والعالمية. بيد أن هذه القومية التى نغالى بها ينبغى ألا تنسينا هذه الحقائق: 1- أن الجمهرة الكبرى من عرب إفريقيا وآسيا مسلمون. وأن استمساكهم بمواريثهم العاطفية والفكرية من هذا الإسلام يحتل منطقة واسعة من عقلهم الباطن والظاهر. ومن هنا لا يسوغ تجاهل أسلوبهم فى الحياة وأحكامهم على الأمور. 2- أن العروبة نفسها قطعة من الإسلام بحيث لو انفصلت عنه لما بقيت لها أمجاد تاريخية تذكر، ولا أهداف سياسية تعينها على الحياة. 3- أن أعداء العروبة لا يستطيعون ـ نفسيا ولا عقليا ـ أن يفصلوا بينها وبين الإسلام. ولذلك نراهم حراصا على مخاصمة النزعة العربية المجردة بدوافع دينية قوية. كأن العروبة أسلفت ذنبا لا يغتفر لها أبد الدهر. وهو أنها حملت الإسلام يوما ما لهذا العالم... وأنه يجوز ـ لو أمكنتها الحياة وواتتها القوة ـ أن تحمل هذا الإسلام للناس مرة أخرى… وهذا الحقد المكين ضد الإسلام سر المؤامرات المستمرة فى كل ميدان ضد العروبة المطلقة. ص _192(1/187)
وهو ـ لا شك ـ سر إصرار الدول المستعمرة الكبرى على إقامة " إسرائيل " وتمزيق اللاجئين والتوجس من كل زعامة تحيى العروبة وتشد أوصالها. وواجب الأزهر بإزاء الموقف المعقَّد ضخم ومتشعب ويحتاج إلى رجال ذوى بصر وإخلاص ، كما يحتاج إلى تحديد شامل فى مناهجه وأسلوب حياته . وقبل ذلك .. لابد أن نقنع أنفسنا بالحاجة إلى الأزهر نفسه ليملأ الفراغ المتخلف عن ضعف التوجيه العربى والدينى فى أرجاء الوطن العربى الكبير ، وليغالب ما تركته عصور الصعف الداخلى والغزو الأجنبى من مخلَّفات تعوق النهضة وتؤخر مسيرتها إلى الأمام .. ومن الحقائق التى يجب أن نواجهها فى صراحة ، أن عروبة " لبنان " فى خطر . وأن بقايا الإسلام فى القلوب المؤمنة هى التى تستبقى الحياة فى التيار العربى المناوئ للاستعمار هناك . وأن شرق إفريقيا كله مهدد بطعنة استعمارية غائرة ، يملأ المستعمرون أيديهم بها من الأحوال التى خلقوها خلقاً فى جنوب السودان وفى الحبشة خصوصاً بعد إذلال مسلمى " أريتريا " وضمهم فى اتحاد فيدرالى إلى الحكومة المتعصبة الحاقدة . حكومة " أديس أبابا " ..!! وكذلك الصومال التى تتربى الآن على أرضه عناصر تُضمر الشر للعروبة والعرب أجمعين . إن بقايا الإسلام فى هذه البلاد كلها هى التى تقاوم الاستعمار . وتوجد فى ربوعها بعوث أزهرية مبعثرة ، تافهة الإمكانيات ، بل تافهة القوى الروحية بالنسبة إلى الإرساليات التبشيرية التى توفدها أمريكا وإنجلترا وفرنسا .. ولابد أن تعود الدولة ـ دون تريث ـ إلى موقفها من الأزهر لتجعل منهم مستودعاً معبئاً بالكفايات العلمية والخُلُقية . ومن هذا المستودع تبعث بالأمداد إلى أرجاء الأمة العربية الكبيرة كي تضمد جراحها وتنهضها من كبوتها .. ولتنفخ فى روح الثورة على الاستبداد والاستغلال حتى تنعم بالرفاهية والسلام . إن مكاسب مصر من الأزهر فوق الحصر والتقدير ، لو أنها زودته بأسباب الحياة والازدهار ووصلت ما انقطع من(1/188)
أواصره بالعروبة والإسلام . ص _193
والأزهر الآن يتكون من ثلاث كليات تمثل الدارسة العليا فيه، وبضعة عشر معهدآ تنتشر فى عواصم الأقاليم وتضم عشرات الفصول للدراسة الابتدائية والثانوية الخاصة. ونحن نلقى نظرة عجلى على هذه الكليات الأزهرية أولا: (أ) فكلية أصول الدين، مفروض فيها أن تدرس العقائد والأخلاق والفلسفة الإسلامية وأنواع الملل والنحل والمذاهب الاجتماعية والإنسانية... إلخ. وعلى ضوء من الاستبحار فى "علم النفس " و " الاجتماع " و " التاريخ " يتأهل خريجوها للإمامة والوعظ والإرشاد ونشر الإسلام فى الخارج وتعليمه للنشء فى الداخل. وفى هذه الكلية تخصص الدعوة والإرشاد، يعطى إجازة فنية فى هذا المجال الخطير. وهذا التخصص يحتضر من بضع سنين، ولا ينتسب له إلا لفيف من العميان والمشوهين الذين أحصروا فى سبيل الله ـ كرها ـ لأنهم لا يستطيعون ضربا فى الأرض. وإذا كانت الشكوى لا تنقطع من تفاهة الخطب الدينية وفشل الدعاة الإسلاميين فى السيطرة على المجتمع المصرى وغيره من المجتمعات الشرقية فالسبب لا يعيى الباحثين! السبب أن هذه الكلية لم تؤد الرسالة المرتقبة منها لنقص بين فى مادة الدراسة وفى كفاية الرجال المشرفين على الكلية. بل كذلك لعجز المسئولين الكبار فى الأزهر عن فهم طبيعة هذه الكلية وما يعلق على نجاحها من آمال ضخام. إن الدراسة إذا ضعفت أو اضطربت فى " كلية الطب " فلن يتخرج فيها رجال يؤمَنون على صحة الناس وحياتهم. والدراسة إذا ضعفت أو اضطربت فى " كلية أصول الدين " فلن يتخرج فيها وعاظ أكفاء ولا مرشدون أمناء. وستظل مصر ـ وهى زعيمة البلاد العربية ـ تحس أزمة شديدة فى الرجال الذين يقودون زمامها الروحى ويعقدون أواصر الفضائل وعُرا الأخلاق. وستظل كذلك تحس أزمة فى الرجال الذين توفدهم إلى الخارج ليغرسوا العقائد الدافعة ويحرسوا النهضات الوليدة ويقاوموا تحالف التبشير والاستعمار. (ب) كلية الشريعة الإسلامية...(1/189)
هذه الكلية أسست لتصون التراث الإسلامى فى عالم القانون، ولتذود الغزو التشريعى الأوروبي عنه. ص _194
فتجعل سياسة التقنين منبجسة من طبيعة البلاد وتقاليد أهلها. والمعروف أن الروس مثلا ينظرون - بريبة شديدة - إلى القوانين التى يصنعها الغرب للمجتمعات التى يحكمها. ويرون فى بقائها ذيولا طويلة لسلطانه الأدبى أو لمآربه الكثيرة فى الأقطار التى يفتحها والتى قد تكرهه الظروف على التخلى عنها... إلى حين... ونحن نوقن بصدق النظرة التى أشار إليها السيد رئيس الجمهورية وقال فيها: إن نظمنا الاقتصادية لن تستورد من الخارج. بل سنصوغها من طبيعة حياتنا ووحى عقائدنا وتقاليدنا. وهى نظرة تطرد فى ميادين نشاطنا كلها وتشمل آفاق التشريع جميعا، ولا يستثنى منها قانون معين. ومع تقديرنا للوضع المصرى الحساس فى النواحى التشريعية، ومركزنا الدقيق فى المؤسسات العالمية، فإنه لا يجوز البتة إغفال الدراسات العلمية للشريعة الإسلامية وإبراز معالم الكمال التى تختص بها، وعقد المقارنات بينها وبين شتى التشريعات، وفتح باب الاجتهاد ليمكن إدخال المعاملات المتجددة فى دائرة الإسلام الرحبة.. وينبغى أن ينشأ تعاون علمى وثيق بين "كلية الشريعة" هذه وبين كليات الحقوق الأخرى. والكلية الآن بحاجة ماسة إلى إعادة النظر فى مناهجها ورجالها. فهى - بحالتها الراهنة - تشبه متحفا للأفكار القديمة. وصلتها واهية أو منقطعة بقضايا المجتمع وتطور الحياة وحركة التشريع. إن الثروة الفقهية فى الإسلام بحر متلاطم الأمواج. وكفاح الأئمة فى أصول التشريع وفروعه جهد لا نظير له فى الحضارات الأخرى. وسنرى أنفسنا - مع التغييرات الهائلة التى تطرأ على العالم - مضطرين إلى إمعان النظر فى قوانيننا، حتى تتواءم مع مقتضيات الحياة الجديدة. فلنمهد للنظر الصائب بجعل " الأزهر" يحيى الشريعة الإسلامية. وهو إذا أبرزها على طبيعتها النضرة فستهفو إليها القلوب وتتعلق بها الأبصار. وتلك هى(1/190)
رسالة " كلية الشريعة "... ص _195
(جـ) كلية اللغة العربية.. أنشئت هذه الكلية لحماية علوم اللغة وآدابها. ولا شك أن الصلة قائمة بين قوة اللغة وقوة أهلها. وكلما اتسعت الرقعة التى تنتشر فيها لغة ما، دل ذلك على عظم الشأن وسعة النفوذ. ولعل وحدة اللسان بين الإنجليز والأمريكان كان لها أثر يذكر فى مسارعة هؤلاء إلى نجدة إخوانهم فى حربين عالميتين مروعتين... ونحن نعرف كفاح " الإنجليز " فى نشر لغتهم. حتى إنهم ليخصصون ساعات من إرسال الإذاعة الإنجليزية فى "لندن " لتعليم الأجانب هذه اللغة. وجهد الفرنسيين فى ذلك معروف جيدا. وقد تواطأت الدول المستعمرة كلها على وأد اللغة العربية وتنظيم حرب مستمرة ضد بقائها. وهى تبغى سلخ المسلمين من دينهم وتاريخهم ومقوماتهم المعنوية بأسرها عن طريق تجهيلهم فى لغتهم وتزهيدهم فى قواعدها وتحقير حروفها وإملائها. ومن ثم فإن المحافظة على اللغة ـ بدقة بالغة ـ هى أولى الخطوات للنجاة بأنفسنا من مهاوى الضياع، وبقاء العرب فى القارتين القديمتين متعصبين للسان العربى ضرورة لا محيص عنها فى تماسك كيانها وضمان مستقبلهم. ويجب تمكين " الأزهر " من المحافظة المتزمتة على هذه اللغة. فإن شعوب الأرض المحترمة لا تفرط فى تراثها اللغوى. فكيف يستنكر ذلك على أمة ذات رسالة كبرى، لها دين يقدس اللغة العربية ويجعلها لغة التخاطب الرسمى بين مئات الملايين من المسلمين؟ بل لغة المناجات الأولى فى صلوات المسلمين لله رب العالمين؟ وليس أمر اللغة فقط هو المهم، بل أمر الأدب العربى من شعر ونثر وعلم وفن. إن الكتاب العربى الذى يصدر فى مصر وينتقل بين الدار البيضاء غربا و "سور أبايا" شرقا هو الحبل الروحى المتين بين مصر وجاراتها العربيات وشقيقاتها المسلمات. والواجب أن تبقى "كلية اللغة العربية " بدراساتها القديمة والمحدثة، وأن تزاد قدرتها على تكوين أجيال تعتز بلغتها وتفقه قواعدها وتتذوق روائع الأدب العربى وتجلو(1/191)
الغبار عن المطوى منه. ص _196
لقد مرت أيام كان الكلام مع مراعاة النحو يعتبر سخفا، أو كان معرة يعرف بها الأزهريون ! ولعل ذلك بعض مظاهر البغضاء التى يكنها الاستعمار للغة البلاد، حتى يخرج أقواما يحسنون الرطانة بأى لغة وتحمر وجوههم خجلا لو أخطئوا فى حرف منها... ومع ذلك لا يستطيعون تركيب جملة صحيحة بلغة البلاد.. لغة الآباء والأجداد. أليس الكلام فى النحو أشرف من هذا العجز؟ وحبذا لو أرسلت بعوث أزهرية إلى البلاد الإسلامية الأعجمية، مهمتها الوحيدة تعليم اللغة فحسب… إن ذلك يكون خدمة جلى للعروبة والإسلام. * * * وقبل أن نتحدث عن التعليم الابتدائى والثانوى فى المعاهد الدينية، يجب أن نلفت النظر بقوة إلى قسم البعوث الإسلامية... إن هذا القسم من نعم الله الكبرى على مصر يجيئ إليه أبناء المسلمين من إفريقيا ومن آسيا، وفى أفئدتهم حب جارف وأمل طامح. إنهم يجيئون مسوقين بدوافع الإيمان عند أهليهم. وكان من المستطاع أن توضع سياسة حكيمة حصيفة للإفادة من هذه الوفود الطيبة وقيادة الشرق الإسلامى كله عن طريقها. ولكننا نقرر ـ والحسرة تملأ أنفسنا ـ أن هذه الوفود تغدو وتروح دون جدوى. إن الإنجليز والفرنسيين يصنعون البعثات الأجنبية فى بلادهم صناعة متقنة. ويغرسون فى لحمهم ودمهم معانى خاصة، ويتعاونون ـ رجالا ونساء ـ على جعل البعوث العربية والشرقية أقواما مربوطين بهم ماديا وروحيا، متوجهين إليهم فى كل أفق كما يتوجه النبات المعروف بـ "عباد الشمس " إلى الشمس… وقد كنا نستطيع الاستغناء عن نصف بعوثنا الديبلوماسية وعن أغلب ملحقينا الثقافيين فى إفريقيا وآسيا لو أننا أحسنا العناية بالبعوث المخلصة التى تجيئنا من هنا وهناك. والتى تريد ـ لوجه الله ـ أن تعمل معنا، بل أن تتلمذ علينا. إن قسم البعوث خلف رديء للقسم العام فى الأزهر. ص _197(1/192)
وهذا القسم كان ينتسب إليه عدد كبير ممن يسمون " الغرباء "! والغرباء عنوان وصم به أبناء البعوث من مسلمى القارتين!! وقد ذهب العنوان تقريبا وبقى الموضوع كله. فإن أولئك المبعوثين لا يزالون غرباء فى حياتهم وفى تعليمهم وفى الإشراف عليهم... وكان من السهل رسم سياسة دراسية اجتماعية لرعاية أولئك الوافدين النافعين. بيد أن الأزهر لم يخط فى هذا الميدان الخطوات الصائبة المنتظرة. ولا حرج من التصريح هنا بأن الموظفين الذين وكل إليهم البعوث يفقدون الاستعداد النفسى لهذا العمل. ولا بد من رسم سياسة جديدة واختيار رجال لهم صلاحيات عاطفية وعقلية تتواءم مع الوظائف المتصلة بهذه البعوث.. ومن المفيد استبقاء مدينة البعوث المنشأة حديثا، وجعلها على غرار بيوت الطلبة التى تتبع الجامعة العربية، مع توفير عناصر البيئة الصالحة والتربية الإسلامية فى هذا الجو الذى يتخرج فيه شباب عربى مسلم قد يتولى يوما قيادة " الملايو " أو "إندونيسيا" أو " الكونغو " أو " الصومال ". * * * أما المعاهد الابتدائية والثانوية فمن الخير استبقاؤها مؤقتا... إننا لا نرحب بالتخصص المبكر فى أية دراسة. ولا نرحب كذلك بهذا الانفصال الذى يباعد بين فريقين من الأمة ويقيم بينهما حواجز شتى.. ومن مصلحة الدين وأهله المبلغين له ألا ينشأوا فى هذه البداية الموحشة. بيد أننا مع ذلك نرى الوقت لم يحن لتوحيد التعليم الدينى والمدنى. فإن الأسس التى يتم عليها هذا التوحيد فى أسلوب يطمئن أصحاب الغيرة على الدراسات الإسلامية لم تتضح بعد. ثم إنه لا محل للعجلة فى الإسراع بهذا التوحيد، فإن أمام التعليم العام مشكلات تفتقر إلى بضع سنين قبل أن تحل. ص _198(1/193)
وفى مقدورنا إدخال طائفة من التعديلات على سياسة التعليم الابتدائى والثانوى فى الأزهر، تخفف من حدة العيوب التى ذكرناها آنفا.. وتقوم على الإكثار من العلوم الكونية والدراسات العامة وضم إحدى اللغات الأجنبية. كما تقوم على التخلص من بعض الكتب العتيقة وما تحويه من أفكار سقيمة. ومن الخير الانتقال بحملة الثانوية الأزهرية فى الوظائف العامة، وفتح معاهد تربوية لهم كى يستطيعوا القيام بمهمة التدريس فى المرحلة الأولى. ولو أدى ذلك إلى إغلاق المدارس المدنية التى تقوم بهذه المهمة. كمدارس المعلمين مثلا.. وهذا المجال الجديد يخفف الضغط على الكليات الأزهرية، ويجعل التخصص فى الدراسات الدينية العليا وقفا على من تؤهلهم مواهبهم ورغائبهم لهذا النوع من التعليم، وفى هذا تقليل لـ "الكم " وتكثير فى "الكيف ". إن الخير الغامر سوف يعود على مصر بإحيائها الأزهر ورفعه إلى المستوى اللائق بمكانته. وما دامت العروبة قد أصبحت شعارنا المحلى والعالمى فمن وضع الأمور فى نصابها أن نهيئ فرص الحياة والإنتاج والترقى لهذا المعهد العتيق، وأن نزوده بالقوى المادية والأدبية التى تحقق أمل المسلمين فيه، والتى تدعم مكان القيادة التى تحتله مصر بين الأقطار العربية والإسلامية. وإلى جانب المقترحات التى أومأنا إليها فى أثناء وصفنا لأحوال الأزهر يحسن أن نلخص ضروب الإصلاح التى يجب الأخذ بها للنهوض بهذا الجامع الكبير حتى يؤدى رسالته العلمية والإسلامية على خير وجه: ا- هناك علوم مدنية كملت دراساتها وأحرزت فى المجتمع الإنسانى نجاحا يذكر. ومن الواجب أن تدرس مبادئها فى المعاهد الثانوية كعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد والتغذية والإحصاء وما إليها... ثم يستبحر الطلاب فى شرحها إذا دخلوا الكليات الأزهرية. فذلك أعون لهم على فهم الحياة وتوضيح الإسلام... 2- العلوم الدينية الأساسية ينبغى أن يعاد النظر فى أسلوب دراستها. فيدرس ـ مثلا ـ فقه الكتاب والسنة،(1/194)
ثم يدرس بعد ذلك فقه المذاهب فى المراحل الثانوية، لا أن يتخصص الطالب ابتداء فى أحد المذاهب الأربعة كما يحدث الآن. ص _199
ويجب أن يعاد النظر فى دراسة السنة، فتختار أبواب موصولة بالحياة، ويدرس طرف من علوم القرآن فى المرحلة الثانوية. كما يجب أن يدرس الإسلام كنظام متكامل تتضح فيه المعالم الاجتماعية والسياسية لا دراسة جزئية حرفية كما يحدث الآن. 3- التاريخ الإسلامى لا بد أن تتسع برامجه وأن يدرس دراسة توجيهية.. كما يجب أن يدرس التاريخ العالمى العام وتاريخ كل من اليهودية والنصرانية على حدة. وأن توزع هذه الدراسة على شتى مراحل التعليم الأزهرى. 4- يجب إحياء دروس " المطالعة " و " المحفوظات " و " الأدب العربى " وتزويد الطلاب بأمهات الكتب فى هذه الميادين. 5- يجب فسح المجال أمام خريجى الأزهر حتى يختلطوا بجميع طبقات الأمة، وأن تتاح لهم فرص العمل فى أية وزارة. وأن تسوى الدولة بينهم وبين خريجى الجامعات الأخرى ماديا وأدبيا. 6- العناية باختيار من يملأون المناصب الإدارية كلها من " شيخ الأزهر " إلى " شيخ المعهد الابتدائى ". وتحرى أن يكونوا على حظ ظاهر من الكفاية والتدين والنضج العقلى والخلقى. * * * وكلمة أخيرة حول القيمة الإنسانية للدين، وتعليمه، والأخذ به! إن الدين ضرورة لا بد منها. ولنعلم يقينا ـ أنه لا يغنى عن الدين شىء. والفارغون يجادلون فى ذلك ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون). ومما يجرى على الألسنة ـ تحقيرا للدين، وصرفا عن سبيله ـ أن كثيرا من أتباع الدين ليس لهم خلق قويم، ولا سيرة شريفة، وأنه بحسب المرء أن يكون على حظ من سعة الثقافة، ودقة الذوق، ويقظة الضمير ليكون إنسانا كاملا ولو طرح من قبل ومن بعد كل الواجبات الدينية فلم ينهض إلى صلاة، ولم يعبأ بصيام.. ص _200(1/195)
وهذا كلام معلول من أوله إلى آخره، فلا كمال للبشر إلا فى ظل الدين، ولا شئ يعدل الدين البتة فى تزكية النفس ودعم المجتمع. نعم.. هناك أقوام ينتسبون إلي الدين، ولا يحسنون العمل به، ولا فقه روحه ولا إقامة نصوصه، ولا يكونون أبدا حجة على الدين، أو مثار اتهام له. ومن ذا الذى يحمل المبدأ خطأ الأتباع فى الإدراك والتطبيق؟ وهل يسلم فى الدنيا مبدأ بعد ذلك سواء أكان دينيا أو فلسفيا؟ وهناك أقوام يجيدون أداء صور العبادات دون أن يشربوا روحها أو يحسنوا إقامة الرسوم والأشكال دون نفاذ إلى الجوهر واللب فى منطق العقيدة وفروض الإيمان. وذلك قصور أو تقصير يقع على رءوس أصحابه، ويزرى بمكانتهم وحدهم. وهم فى حكم الدين عصاة، وأمام الله مفرطون. وما يقع فى سلوكهم ـ من غش أو كذب أو خلف ـ فهم مسئولون عنا مؤاخذون به، والدين الذى يتبعونه أول من يحاسبهم على ذلك وأول من يحدد أقدارهم ويزن أوزارهم. وأعرف ـ كما يعرف غيرى ـ أن أدعياء الدين كثير، وقد شكا الأولون والآخرون من ظواهر التقى الكاذبة، وممن يجعلون الصلوات شباكا لاصطياد المنافع وبلوغ المآرب. لكن أحدا من ذوى الألباب لم يتذرع بمسلك هؤلاء إلى القول بأن الدين نفسه لا يصلح وسيلة لإقرار الفضيلة وبلوغ الكمال.. أما الزعم بأن استبحار المعرفة، ويقظة الضمير يغنيان عن الدين، فهذا كلام باطل فكم من علم كثير صحبه فساد الذمة وذهاب الفضل! وأما غناء الضمير عن أصل الإيمان وفرائض الصلاة والصيام فذاك أيضا من أوهام الحالمين، وخيالات الحائرين. إن على الإنسان واجبات شتى. أولها: واجباته نحو ربه الذى خلقه فسواه. والمرء الذى يجحد نعم الله المولى ويمارى فى حقوقه، ويتهرب من فرائضه ويتشهى محارمه شخص ساقط الضمير، لا ثقة به ولا تعويل عليه. ص _201(1/196)
وقد يكون هذا الشخص مقبول السيرة بين الناس أو مضبوطا فى بعض المعاملات أوله خصائص نفسية وعقلية ثمينة. بيد أن ذلك لا يدعو إلى المجازفة فى تقرير قيمته ورفع خسيسته. إن الآلة العاطلة قد يكون بها من الحديد ما لو بيع " خردة " لساوى الكثير، فهل ذلك يعلى من قدرها وبغض توقفها وفسادها؟ الواقع أن الذين يحترمهم المجتمع لما ينسبه إليهم من ارتقاء الضمير، إنما يغالى ببعض نواحيهم ويبرزها ويتجاوز عن البعض الآخر ويهمله. ولو فتشنا فى أحكامهم على الأمور كلها وتصورهم لكثير من القضايا العليا لوجدنا ما يخزى ويسئ. وكثير من أصحاب هذه الضمائر يستحل محرمات شتى، ولا يرى غضاضة من اقترافها. لأنه ـ وهو المقطوع عن السماء ـ لا يعترف بما فيها من قذر. ولو افترضنا ـ جدلا ـ أن نواحيهم الإنسانية كلها بلغت القمة فكيف ننسب الكمال كله لشخص هانت عليه علاقته بربه فأخر حقوقه، وتمرد على مظاهر العبودية المطالب بها وغيره؟ إن ترجيح كفة هؤلاء ضلال كبير، وعقد نسبة بين مضل يكذب، وملحد يصدق هو ضرب من المقارنة المفتعلة لا يراد من إجرائها إلا توهين الدين وتقوية الإلحاد... فلا شأن المصلى أن يكذب. ولا شأن الملحد أن يستقيم، نعم... لا الصدق والاستقامة من خصائص الإلحاد، ولا الكذب من خصائص الدين. وسوق المنطق بهذا الأسلوب كالقول بأن هذا عاهر جرىء، وهذا عفيف هياب، أو هذا إنسان يبطئ فى سيره، وتلك دابة تسرع فى جريها. مامعنى هذه المقارنة؟ إن انعدام الموضع المشترك يجعل هذه المقارنة مغالطة، فإنسان عليل وحيوان قوى مقارنة لا تنشئ حكما بأن الدابة أفضل من الإنسان. فتلك صفات عارضة، أو أن العهر أفضل من العفاف. وعندما نرى المتدين مفرطا فى استكمال شعب الإيمان وخلائق الاستقامة فالطريق الوحيد لتصحيح نفسه أن نشرح له أصول عقيدته وأهدافها وآثارها، وأن نلزمه ص _202(1/197)
ما التزم من تكاليفها.. وأن نقول له : " اتقي النار التى أعدت للكافرين " فلا تسر فى نهجهم، ولا تلم بأعمالهم حتى لا تنتهى إلى مصيرهم. وقد ثار أخيرا لغط حول الاستغناء بالفلسفة عن الدين ـ وهو فى بلادنا ـ الإسلام... وعندما يتمخض هذا اللغط عن النتيجة التى يرقبها المستعمرون، فمعنى هذا أن تذوى شعائر الإسلام، وينصرف المثقفون عن فرائضه ونوافله. وقد قرأنا للأستاذ " العقاد " تفنيدا لهذه الوجهة، وردا على مثيرها الأستاذ محمود الشرقاوى. ننقله هنا : وتلخص فكرة الأستاذ كما قال : " فى أن العقيدة إذا فهمت وآمن بها صاحبها على أنها شعائر تؤذى وصلوات تقام وأوامر وزواجر تطاع بدافع الرغبة فى الجزاء أو الخوف ولم تؤد بمن يعتقدها إلى الاستمساك بالفضيلة الذاتية فهى عند ذلك مسخ للعقيدة لا خير فيه، وخير مِن صاحبها مَن يشك ويجحد ولكنه صاحب خلق يصونه وضمير يهديه ". ونحن نترك للأستاذ الشرقاوى رأيه فى المفاضلة بين دين بلا خلق وخلق بلا دين، ولكننا نحسب أنه لا يستخف بشأن الشعائر لذاتها، لأنها ذات شأن واضح فى كل فريضة اجتماعية تقام بين جمهرة من الناس. إن الغاية من نظام الجندية ـ مثلا ـ أداء الواجب فى الدفاع عن البلاد، ولكن.. الشجاعة فى الدفاع لا تعفى الجندى من الحركات العسكرية ولا من لوازم الكساء والغذاء ومواعيد العمل التى تدين بها الجيوش. ولا تجيز له شجاعته أن يخرق " النظام " المتبع فى الميدان أو فى غير الميدان، ولو لم تكن ضرورة محتومة فى جميع الأوقات. ولا خلاف على ذم الرياء فى العقيدة، فإنه من أوائل المنكرات التى تنبه إليها الأديان، ولكن هذا لا يمنع أن تكون للعقيدة ظواهر وبواطن وشعائر معلنة ونيات مطوية، " وإنما الأعمال بالنيات " كلمة تجمع هذه المعانى كافة بغير حاجة إلى الجدل فى المفاضلة بين ظواهر الشعائر وبواطن الإيمان.. أ هـ. ص _203(1/198)
وهذا كلام طيب جميل فى تفسير وجوب الصلاة والصيام وغيرهما من سائر العبادات.. وضرورة أداء هذه المناسك فى إخبات وتجرد لله رب العالمين. والحقيقة أن الفروض اليومية والسنوية المنوطة بأعناق المؤمنين ليست أعمالا تافهة، أو حركات صماء قليلة الجدوى. إنها مدارج ارتقاء بعيد المدى لمن يحسن معالجتها، ويتجاوب مع حقائقها. وهى - مع العوام السذج - حصانات من شرور وآثام…. وربما رزق بعض الناس شيئا من الصفاء فى معدنهم أو الاستقامة فى طريقتهم وهم مجوس، أو عباد وثن، أو مقدسو بقر. فهل القليل من الجمال النفسى أو البدنى عند هؤلاء يطعن فى قيمة الكثير الذى فقدوه لتصح به أرواحهم وأفكارهم؟ إن العبادات ليست حاجة الله إلى الناس. إنما هى حاجة الناس ليتصلوا بالحقائق العليا فى نظام له مقدماته ونهاياته، ويستحيل أن يعوض عند فقدها شئ... إن هناك حالة واحدة يمكن فيها الاستغناء بالفلسفة عن الدين.. وهى أن يثبت للناس عن طريق اليقين الجازم أن الله لاوجود له، وأن أوامره ونواهيه خرافة، وأن انتظار لقائه والتأهب لحسابه غرور... وفى هذه الحالة وحدها يكون الدين شيئا لا معنى له ولا خير فيه. ولكن إذا كان اليقين الجازم هو العكس، وأن الله هو الحق المبين، وأن الإلحاد مرض يعترى الإنسانية كما يعترى الرمد الأبصار، فكيف يتصور أن الدين نافلة وأن هناك عوضا عنه فيما يصنع الناس لأنفسهم من فلسفات..؟ ولو فرضنا جدلا أن الدين تقلصت ظلاله عن الإنسانية فمن الذى يقول: إن فلسفة الواجب والضمير هى التى ستحل محله؟ إن الذى سيحل محله هو منطق اللذة الحيوانية، أو بتعبير أرقى: منطق المصلحة العامة. وفى دائرة اللذة العاجلة سترتوى الغرائز وتنتشى وتعربد. ص _204(1/199)
وعندما يرتفع اسمها ويتحول من لذة الفرد وحده إلى سعادة الجماعة جملة فلن تكون هذه السعادة ـ المزعومة ـ لأجناس كلهم الأبيض والأسود، الغنى والفقير، العالم والمتخلف، كلا.. بل ستكون هذه السعادة حكرا لأحد الأجناس الغالبة تفسر لمصلحته فحسب، ويستوحى من دلالتها ما يشبع الأثرة والكبرياء..! إن فلسفة الواجب والضمير إنما تنتعش وتجد لها أنصارا فى حماية المعانى الدينية ونضحها الواسع على الأفكار والمشاعر. ولستُ أدرى لحساب من يخاطب الخاصة والعامة بأن الدين يجوز إهمال شأنه وإرخاص تكاليفه؟ إن الدين فى أوروبا وأمريكا قشور لا تنفذ إلى القلوب الذكية. وإذا استمسك بها أفراد، أو تراءت بها دول ففى أسلوب لا يرضى عنه رب العالمين. فهل طبع هذا الكلام فى مصر كى تنتفع به هذه الدول؟ والدين فى بلادنا ـ وهو الإسلام ـ يعانى حربا ضروسا من الجاهلين به، والكائدين له من أمته المفرطة، وأعدائه الحاقدين الطامعين. فلمن يوجه الخطاب بأن الفلسفة تغنى عن الدين، ويقظة الضمير تغنى عن تقوى الله ورعاية وجهه الكريم؟ الحق يقال : إن هذا الكلام ـ وعاه مرسلوه أم لم يعوه ـ جزء من الحملة المدبرة ضد الإسلام، كى يزداد الشباب الحائر حيرة، وكى تظل الأجيال المضللة عن إيمانها موغلة فى إضاعة الصلاة واتباع الشهوات. * * * ص _205(1/200)
فى عالم الملذات * حب الدنيا وكراهية الموت: من أخلاق الضعة التى رمانا بها الاستعمار قديما، الشره فى طلب اللذائذ، والرغبة فى الراحة دون عمل، ونيل المغنم القريب من غير مغرم يبذل، وقعود الهمم عن الآمال العراض والمطامح العظام، مع إدمان غريب للشهوات الدنيا، وتتبع للعورات وتصور ظالم للمرأة وأنواع المتع.... إلى غير ذلك من ذرائع الهزيمة التى لا تتاح معها نهضة، ولا ينجح فى ظلالها سعى... وفى مصر يسر الاحتلال البريطانى ـ للعوام وللمثقفين على سواء ـ أن يرتعوا فى هذه الدنايا، وأن يحيوا داخل نطاقها كما يحيا بعض الحيوان داخل القواقع.... فانتشرت الحانات فى قرى الريف وأحياء المدن. وأبيح البغاء، والوقاع الحيوانى. واحمرت الليالى أكثر العام بالسهر النجس، وألوان الإثم التى يفتن فيها الفارغون... وانضم إلى ذلك ـ بل سبق ذلك ـ إخلاء الحياة العامة من رسالة تنتظم فيها المشاعر، وتجند لها الجوارح، وينشغل الجميع بأعبائها، يفرحون لما يصيبها من نصر، ويكتئبون لما يلحقها من انهزام. نعم.. سبق ذلك أن طمس الإضلال الأجنبى معالم الدين الحق، وترك الناس يموج بعضهم فى بعض. أليس ذلك ما يبغيه، حتى يخلو له الجو فى البلاد التى افتتحها؟ فينهب من خيرها ما يشاء؟ ولن يكون أهلوها ـ وتلك حالهم ـ إلا أدوات فى يده يستخدمها متى يشاء، ويرميها أو يكسرها إذا أحب. لقد أصبحوا عبيد شهواتهم أولا، وعبيده آخراً...!!! ويجب أن نفرق بين تتبع الدنايا ـ كما تعلم كثير منا فى مدرسة الاستعمار ـ وبين ما يقع فى أوروبا وأمريكا من هذا القبيل...! ص _206(1/201)
إن الغربيين أهل كدح ولغوب وراء معايشهم، وقد قدموا من التضحيات فى خمسين سنة مالا يعرف لغيرهم من أهل الأرض.!! ولأضرب مثلا بفرنسا، التى كنا نهتف ضدها فى المظاهرات فنقول : فرنسا العاهرة... هذه الأمة الفرنسية دخلت حربين كبيرتين خسرت فيهما مالا يحصى من العتاد والرجال. ومنذ انتهت الحرب العالمية الثانية، وهذه الأمة تشتبك فى حروب متصلة من الهند الصينية إلى الجزائر. وميزانيتها مرهقة بنفقات هذه الحروب، وشبابها يحملون السلاح ويردون الغمرات. ومع أن هذه الحروب أشعلتها المطامع واستدامها البغى والعدوان، فإن الأمة الظالمة تئن من سيل الدم المسفوك والمال المراق. والأمم التى تألف المصائب على هذا النحو ربما استباحت من المباهج والمرفهات ما يخفف عنها شيئا من ألم الكفاح الدائم... وأنا أتصور الأحوال النفسية التى ينشد فيها الأشقياء والمعنون بعض ما يكسر سورة التعب حولهم. وقد يطلب المقاتل من هؤلاء ـ وهو ذاهب إلى الموت ـ أن يستمتع بالنساء قدر ما يستطيع. بل إننا نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول : إن العمال والموظفين فى أيام السلم يشتغلون ساعات أكثر مما يشتغله أمثالهم هنا فى الشرق. ورغبتهم فى الاستجمام والترفيه بعد هذه المتاعب قد تفهم، وإن ضلوا إليها سبل الحلال... لكن الذى ما فهمته قط، ولا أفهمه أبدا، أن يجيء شعب متراخ موفور الدم خفيف المناكب، فيطلب من الملذات مثل أو أكثر مما يطلبه العانون المرهقون... إن العربى فى بطحاء مكة يريد أن يوفر لنفسه من ألوان النعيم وصنوف المشتهيات مالا نظير له فى "نيويورك "، وما لم يطلبه لأنفسهم الرجال الذين فجروا الذرة!! سبحان الله قاعد حافى القدمين صفر العقل، لا همة له من الدنيا إلا أن يستجلب من اللذاذات، ويقتنى من العمارات ما لم يحلم به العباقرة الذين نهكتهم الأفكار والأشغال؟! ص _207(1/202)
إن هذه الحال من عشق الدنيا أقوى ذرائع الفتك فى كياننا المريض. وهى حال يشجعها الاستعمار الذى غزا الشرق بعقلية اللص!! فليس يهمه إلا أن يعامل مغفلين ذوى شهوات نزقة!!! أترى الاستعمار يألم لأن " الخديو إسماعيل " أسس دار " الأوبرا " فى القاهرة، وأن تفكيره جرى إلى ذلك قبل أن يجرى إلى تأسيس مصنع نافع؟.. كلا! إنه يهتم بمعاملة مثل هذا الحاكم، ويريد أن تسرى روحه إلى كل فرد فى الشعب!! بل إنه سلط سماسرته وزبانيته لدفع الشعوب العربية فى هذه السبيل الوسخة. وحالف فى هذه السبيل، الكتاب والصحافيين والمبشرين كى يبنوا المجتمع الإسلامى على هذه الدعائم المنهارة، وكى يصوغوا أفكار الشباب وآماله، فإذا هى لا تعدو ذلك العبث الصبيانى فى اصطياد امرأة وإجابة نزوة.. هذه هى الأهداف المعنوية التى يسعى الاستعمار لبثها. أمراض الرجولة وإسقاط مستواها وإهاجة الغرائز السافلة، وتنمية الحيوان الرابض فى الدماء، وإضعاف الروح الإنسانى المخنوق، وتمريغ الإسلام فى الوحل إن هو هم بكلمة اعتراض، أو بدت عليه علامة امتعاض وتجرئ الأجراء من بنين وبنات على سلقه بلسان حاد.. كل ذلك جزء من خطة الاستعمار لخلق أمة تلين فى يده وتخلو من أصحاب الأخلاق القوية والسير القويمة والهمم البعيدة. وكثيرا ما أرمق الرجال والنساء فى ميادين القاهرة الكبرى كما يرمق الطبيب أعراض مرض انتشر فى كل فج. مرض اختفى من شره بقدر ما طفح من ضره، يحتاج علاجه إلى جيش من الأساة قد يستعملون مباضعهم للبتر حتى يصونوا الحياة، ويقصوا أسباب العلة ويفتحوا أبواب الحياة!! إن انهيار الرجولة فى الشرق الإسلامى أمام طوفان اللذة الحيوانية التى يبعث بها الغرب، ويسخر أدوات لا تحصى فى نشرها. هذا الانهيار هو تأمين الحياة للاستعمار، وبذر الجراثيم التى تدعو للعودة إن هو ذهب. وما لم نستكبر على هذه الرغبات ونطرحها وراء ظهرنا، ونتبع فى شأنها تعاليم ديننا فلن تصح لنا حياة ولا حرية، ولن(1/203)
تسلم لنا كرامة أو عزة.. والمعروف أن الإسلام يجعل الرجال قوامين على النساء. ص _208
حتى جاء الاستعمار فزعم لنا أن الرجال والنساء سواء.!! والله يعلم أن هذه التسوية لم يقصد بها تكريم المرأة أو دعم جانبها، وإنما قصد استدراجها من حصنها لمآرب شتى... ليكن الأمر كما زعموا.. فما حدث؟ إن الرجل والمرأة ـ فى دنيا الفرنجة ـ سواء فى الظاهر. ولكن فى كثير من الأحيان تبرز الفطرة الإنسانية وتغلب تزويرات البشر، فإذا المرأة تتملق الرجل وتسير وراءه. وتحرص على مرضاته إن كان زوجا، وعلى خدمته إن كان أبا، وعلى تربيته إن كان ولدا.. أما فى الشرق الذى أمرضه الاستعمار ـ أو على الأصح فى البيئات التى خلقها هنا وهناك ـ فإن الرجل ليس قواما على المرأة، ولا مساويا لها. إنها هى القوامة عليه، إنه يتملقها ويطلب رضاها. ويلقنه " أهل الفن " أنواع الآهات التى ترقق قلبها لتسمح بنظرة. إنه يكاد يسرق ليعطيها، أو ليظهر فى لباس يسرها... إنه تابع لا متبوع، والرجل العبد فى بيته لا يكون سيدا فى وطنه. وهذا الصنف من المخنثين لا يصلحون ـ بداهة ـ لكفاح ويستحيل أن يصنعوا مجدا… وهذا الصنف هو ـ للأسف ـ ثمرة الأقلام التى لا ينقطع لها توجيه فاسد فى أغلب صحفنا. ولعمرى إن حملتها شر على البلاد من باعة الحشيش وبقية المخدرات... والرذائل فى بلاد ارتفع مستواها المادى والعلمى تحتف بها أحوال مخففة ويستخدم الرقى الثقافى فى تخفيف وطأتها واستدراك آثارها. أما فى المجتمع المتخلف فإن الرذائل الخلقية والجنسية تولد مضاعفة السماجة والآثار. ومن ثم نرى الفرنجة يقارفون رذائلهم فى شىء من الصمت وفى صورة مخففة النكر. أما الرعاع والمتعلمون فى بلادنا فلو رأيت نظراتهم الجائعة ومتابعتهم النساء بالغزل الرقيع والألفاظ الخادشة ما اقترحت علاجا لهذه الأدواء إلا العصا التى تذاد بها الدواب!! ص _209(1/204)
إن الخلاعة التى انتقلت إلينا من الغرب فتكت بنا أكثر مما فتكت به، لأن جرثومتها سرت دون مقاومة. أما هم.. فلديهم شئ من المناعة أحدثها تقدمها الكبير فى شتى الميادين. وكل يوم يمر تزداد مقادير الخلاعة التى تزودنا بها مصادر التوجيه من صحافة وإذاعة ومسرح، فى الوقت الذى تقل فيه أسباب المناعة العلمية والدينية. ومن المؤسف كذلك أن روح التطلع إلى اللذة رمت أفواج الموظفين وأمثالهم بالخمول والاستكانة. فهم يحبون المدن ويمقتون القرى. لماذا؟ لأن القرى فقيرة فى وسائل اللهو.. حلاله وحرامه. وهم لم يتعلموا إلا ليكون لهم مستقبل لاه لعوب ! فإذا أقاموا فى القرية كرها فليس للقيام بالرسالة النبيلة التى وظفوا لها ومنحوا المرتبات لقاءها.. كلا! الطبيب يريد جمع المال. والمهندس الزراعى يرفض الذهاب للحقل.. وهكذا. بينما نرى المغامرة خلقا ينضح به المجتمع الغربى ويجعل الهمم تباعد بين أبنائه، فما تخلو منهم بقعة خشنة فى أرض الله. ألا فلنحذر على ديننا ودنيانا هذه الميوعة الخسيسة التى اعتلت بها أمتنا!! ومتى اعتلت بها هذه الأمة؟ فى أحرج الفترات من تاريخها وأشد الأزمات إمساكا بخناقها. فى الأيام التى ينبغى أن يخشوشن فيها المنغم، وينتبه فيها الوسنان، ويخاطر فيها الحذر.. إن معركة الإسلام مع الاستعمار لما تبدأ، وتوشك أن تدور رحاها، ونطالب بأعبائها الثقال.. ولن يستطيعها المختالون فى أزيائهم من الشبان الناعمين، ولا المشغوفون بلذاذاتهم من أشباه الرجال. ص _210(1/205)
إن الأجيال المنهزمة تلحقها علة واحدة. ولذلك تلحظ عليها أعراضا متشابهة، وإن اختلف المكان والزمان. فى زحف الصليبية القديم على الشرق الأوسط، أمكن المهاجمين أن ينفذوا أول الأمر إلى أحشاء الإسلام وصميم بلاده. لماذا؟ لأن القوم شغلوا بالعيش الرخى، والقعود اللين عن مغارم الكفاح المر. فكان أن ضربهم الله بالذل، وسلط عليهم الأعداء. واسمع كيف يتحدث إليهم "أبو المظفر الأبيوردى" من قصيدة طويلة: فإيها بنى الإسلام إن وراءكم وقائع يلحقن الذرا بالمناسم أتهويمة فى ظل أمن وغبطة وعيش كنوار الخميلة ناعم؟ وكيف تنام العين ملء جفونها على هفوات أيقظت كل نائم؟ وإخوانكم بالشأم يضحى مقيلهم طهورالمداكى أو بطون القشاعم تسومهم الروم الهوان وأنتم تجرون ذيل الخفض فعل المسالم وكم من دماء قد أبيحت ومن دمى توارى حياء حسنها بالمعاصم بحيث السيوف البيض محمرة الظبا وسمر العوالى ذاميات اللهاذم وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة تظل لها الولدان شيب القوادم وتلك حروب من يغب عن غمارها ليسلم يقرع بعدها سن نادم يكاد لهن المستجن بطيبة ينادى بأعلى صوته يالهاشم أرى أمتى لا يشرعون إلى العدا رماحهم والدين واهى الدعائم ويجتنبون النار خوفا من الردى ولا يحسبون العار ضربة لازم أترضى صناديد الأعاريب بالأذى ويقضى على ذاك الكماة الأعاجم؟ * * * * * فليتهم إذ لم يذودوا حمية عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم وإذ زهدوا فى الأجر إذ حمس الوغى فهلا أتوه رغبة فى المغانم دعوناكم والحرب ترنو ملحة إلينا بألحاظ النسور القشاعم تراقب فينا غارة عربية تطل عليها الروم عض الأباهم ص _211(1/206)
وأين أبو المظفر الآن يستحث العزمات بمثل هذا الشعر؟ إن هذا اللون من الكلام الجيد والتوجيه الحق خفت وخرس رجاله. وقام نفر من الصحفيين ـ لا بارك الله فيهم ـ يسخرون أقلامهم فى ترويج الباطل وإهاجة الشهوات. كسدت سوق الأدب الرفيع، والقراءة العالية، والأغراض النبيلة... وقامت مكانها سوق للكتابات الدنسة، الأدب المفضوح، أو الأدب المكشوف كما يقولون. وصرف الشباب صرفا عن ميادين التربية الجادة، والتعاليم! الصارمة والحدود البينة ليفتح عينيه وأذنيه على ضرب من الكلام يتملق نزواته ويدفعها دفعا إلى مغامرة بعد أخرى.. كأنما أقلام هؤلاء الكتاب المحدثين أهوية تمس الشهوات الدنيا فتزيدها وهجا، وتملؤها ضراما... هذه الأقلام الرقيعة لا تعرف الشدة إلا فى مجال واحد. هو يوم تدخل مع الإسلام فى عراك، عندئذ تضرب بقسوة، لا تخاف عقبى، ولا ترهب قصصا... أما هى من قبل ومن بعد، فسابحة فى بحرها الرحب العميق، بحر الحب والغرام، وما يحويه هذا البحر من عرى وانطلاق... ولا بأس من إثبات مثل لهذا الأسلوب الجديد فى توجيه الشباب. ولولا أنى واثق من حصانة قرائى ما استبحت أن أثبت هذا اللغو الحرام، وهو من آثار الصحفى المعروف " إحسان عبد القدوس " . والأستاذ "إحسان " تجد ـ أحيانا ـ فى كتاباته السياسية والاجتماعية روح شباب متوثب. ولكن حين شاء أن يكتب أدبا قدم للناس كتاب " صانع الحب ".. ثم كتاب " بائع الحب "... والكتاب الأخير هو موضوع حديثى معك. هذا الكتاب تقليد لكتاب الأستاذ : " التابعى". فـ "إحسان " يتحدث أيضا عن نساء عرفهن فى مصر وفى أوروبا، وصور مغامراته معهن تصويرا أكثر وضوحا من تصوير أستاذه التابعى.... ص _212(1/207)
استمع إليه يقول: "وكانت شفتاها تترنحان وتركت نفسها له.. وتركته يلصق خدها بخده، يصهر جيدها بأنفاسه، ويزحف بشفتيه ليلقى بقبلات صامتة فى أذنيها، ويضغطها إلى صدره حتى لم يعد يفصل بينهما سوى خيط أرق من الشعرة ". ويستمر الكاتب فى وصف المغامرة قائلا: "وغابا فى قبلة.. ولم تكن قبلة ناعمة، بل قبلة امرأة فى الخامسة والثلاثين، فقدت العقل، ونسيت الزوج والولد، ونسيت المركز، ونسيت تقاليد عائلة عريقة. نسيت أو تناست كل ذلك، وتركت نفسها تفرج عن الكبت الذى طال أمده وتنفس عن الجسد الذي طال حرمانه، وتهب ساعة للدنيا بعد أن عاشت عمرها للسماء ". ولعلك قد أدركت أن الكاتب يصور لك مغامرة مع امرأة متزوجة، ولها ولد فى التاسعة من عمره... يرى أمه تسقط فى أحضان الرجل الغريب... وهذه الأم تقول على لسان الكاتب: " لقد لمحنا ابن صديقتى صباح أمس وأنا أقبلك فى الزورق، فأسرع إليه وقال له: "إلحق.. إن أمك ستتزوج المصرى فقد رأيتهما فى زورق ورأيتها تقبله "! فى هذا التصوير كله أراد الكاتب أن يطلعك على حياة امرأة عشقها تحت سمع ولدها الذى عذبته الغيرة. وهو يعرض عليك ألوانا من المغامرة فى منتصف الليل وفى النهار، وفى الحدائق والزوارق، ثم يتركها أخيرا للسقوط والانحلال. وهناك امرأة أخرى يعرضها عليك الكاتب.. امرأة تقول: " لا تحاول أن تكون إنسانا، إنك حيوان.. كلنا حيوانات... ومن حقك أن تطالب بحقوق الحيوان.. ولكنك حيوان جميل. إنك تعجبنى، هل تعلم ذلك؟.. هيا بنا.. غرفتك أم غرفتى"؟! وهو يلقى عليك درسا فى فن إيقاع الفتيات على طريقة أستاذه التابعى فيقول لك: "وفى المساء تستطيع أن تجلس فى قهوة "جامبرنيوس " لتسمع إلى أقوى "كونشرتو" فى قهاوى إيطاليا حتى اليوم.... ص _213(1/208)
وبين ألحان "فيردى" و "شوبان " و "تشايكوفسكى" تستطيع أن تلتفت إلى جارتك وتبادلها التحية، وأن تبدى رأيك فى عازف الكمان، وفى قارع الطبل، وتثنى على الموسيقار "فيردى" الذى وضع لحن السلام الملكى المصرى... وبعد هذا أنت وشطارتك "!!! وهو لايكف أيضا عن وصف النساء فى مباذلهن... " كانت مرتدية قميص نوم، فاضحا عن جسدها البريء، وهو قمص نوم أختها الكبرى. وكانت مسدلة شعرها فوق عينيها فى فوضى مثيرة، وكانت عارية القدمين وبين يديها زهرة بيضاء! وأغلقت الباب وراءها، وأسندت ظهرها إليه، وقد انفرجت شفتاها عن دعوة صامتة مكبوتة ". وهو يصور لك ألوانا من شذوذ النساء، فهذه المرأة... " ركلت الملايين وركلت اليخت، وركلت أمريكا، واكتفت بأن تجلس كل مساء فى مقهى "دى بونت " بين فريق من زنوج السنغال، وتختار من بينهم كل ليلة زنجيا! وليست حسناء اليابان وحدها هى التى تفضل زنوج السنغال بوجوههم الكالحة المغبرة وشفاههم الغليظة المشوهة... فالزنوج قد أصبحوا " مودة " فى باريس، محبوبو الحى اللاتينى كلهم زنوج. ومواكب العشاق كلها " أبيض وأسود ". ومن النادر أن تجد زوجين من البيض أو زوجين من السود ". هذا الصنف من النساء الساقطات فى مهاوى الرذيلة، ليس غريبا أن تقول واحدة منهن على لسان المؤلف : " لا تكن عنيدا... ما هو الزواج؟ لا شئ… ورقة بلهاء تستطيع أن تمزقها متى شئت، ولكنها ورقة تجعل لها الحكومات قيمة لأنها حكومات بلهاء أيضا. وبهذه الورقة أستطيع أن أدخل مصر وأن أقيم فيها وأن أعمل فى مسارحها ". ثم تقول أيضا: "إذن فقد أصبح لك حق ارتفاق كل جسدى.. حق المرور حتى تصل إلى أملاكك فى قلبى هل نسيت القانون؟! وابتسمت، ولكنه لم يبتسم، وحاول أن يستمر فى جدله. ص _214(1/209)
وتركته يتكلم دون أن تستمع له، ثم لفت ذراعيها حول عنقه وهوت على شفتيه بشفتيها..!! وحاول أن يقاوم نفسه ولكنه لم يستطع فشرب من شفتيها حتى ارتوى. ثم طاف بوجهها وعنقها وصدرها وذراعيها يقبل كل قطعة فيها، ويملأ أنفه بعبير أنوثتها، ويفرج عن الكبت العنيف الذى عرفه منذ عرفها". وبعد هذه النماذج التى عرضتها عليك من كتاب "بائع الحب " تستطيع أن تدرك - فى يسر - أن مدرسة " التابعى " و" إحسان " قد آتت أكلها وأثمرت ثمراتها المرجوة فى المجتمع المصرى. * * * ما هذا الأكل؟ وما هذه الثمرة؟ انحلال أمة، وفساد دين، وضيعة مستقبل، ومحو تاريخ!!! ذلكم ما تستهدفه عصابة ضخمة من حملة الأقلام فى القاهرة. هذا اللون من الكتابات السافلة! هو أحسن ما يتقنه أولئك الصحافيون الشرفاء. وهو الغذاء الذى يقدمونه للأجيال الجديدة. الأجيال المكلفة بحرب إسرائيل!! وهو غذاء يصنع البطولة التى ترفع اليدين والساقين فى أول لقاء....!!! ص _215(1/210)
الإذاعة والفن أصبحت الإذاعة العامة جهازا من أخطر أجهزة الدولة وأحقها بالدعم، وأولاها بالرعاية والرقابة.. إن "الراديو" شئ بعيد الأثر فى حياتنا، وصوته الهادر يغزو الآذان طوعا، أو كرها. والكلمات المنبعثة منه تسمعها فى البيت، وفى الطريق، ويسمعها أولادك جميعا على اختلاف أعمارهم. ولمسة ساحرة لهذه الآلة العجيبة تجعل بين يديك مزيجا هائلا من أفكار الناس ومشاعرهم. لا فى صحائف ميتة بل فى حركة تنبض بالحياة والشعور، ومع أشخاص تحس كأنك معهم فى مدرسة علم أو مجلس سمر! * * * تعتمد برامج الإذاعات المختلفة فى تكوين مادتها وتخطيط غايتها على العنصرين الآتيين: 1- التثقيف والتربية. 2- الترفيه والتسلية. وتشمل برامج التثقيف جملة الدروس والمحاضرات والقراءات والنشرات الإخبارية والأركان المهنية والطائفية... الخ. وتشمل برامج الترفيه جملة الأغانى والتمثيليات والموسيقات والأحفال وأنواع اللهو الأخرى. وبرامج التثقيف ـ فى نظرنا ـ فقيرة مهوشة لا تقوم على خطة مرسومة. بل هى ـ من ناحية كيانها المادى ـ أشبه بلقيمات من الخبز الجاف تقدم إلى مريض منزرف الدم، ضائع العافية، يحتاج إلى أرطال اللحم والشحم والخضر والفاكهة. إن أمتنا تريد أن تعود سيرتها الأولى. ص _216(1/211)
تريد أن تستعيد أمجادها القديمة. تريد أن تُعرف بين الناس بحضارتها المتميزة وملامحها الخاصة. تريد أن تنتفض من الرقاد الطويل الذى خدر أطرافها، وأطمع الغزاة عصرا طويلا أن يجوروا عليها وينالوا منها. ومن الممكن أن تكون الإذاعة أداة ضخمة فى هذه السبيل. وأن يكون صوتها الجهير فى الصباح والمساء موجها بعيد الأصداء، يحدو القافلة السائرة ويقيمها على الصراط المستقيم. ولابد أن يتصل العمل على توضيح روح النهضة الجديدة لكى تمد الأمة بما يرفع مستواها الفكرى والعاطفى. وفى طليعة البرامج التى تحقق ذلك: ا- تجلية تاريخنا القديم وعرض صفحاته الحافلة بالكفاح، عرضا يستهدف إحياء الحاضر وحل مشكلاته بهداية من عظات الماضى. 2- نفخ روح الحياة فى التراث العربى القديم، والحفاوة بآثار الشعراء والكتاب الأولين، وغرس القداسة فى نفوس النشء نحو اللغة العربية وآدابها. 3- تربية الأخلاق الشخصية وترقية التقاليد العامة، والاستعانة بتعاليم الدين وأنواع الآداب والفلسفات المتسقة معه لخلق أجيال زاكية القلوب والسلوك، رفيعة السيرة. 4- ربط الحياة العامة بالدين عن طريق دروس أملأ بالعلم وأدنى إلى الجد، والعناية بالذكريات والأحفال الدينية، بحيث تتكون فى النفوس عواطف الإجلال للدين والوقوف عند حدوده والمبادرة إلى تلبيته. 5- ملاحظة تيار المدنية الزاحف من ميادين الصناعة والتجارة والزراعة وسائر فروع النشاط الإنسانى. وإطلاع الجماهير بشتى الوسائل على صور هذا التقدم وقيادتها بقوة، حتى لا تتخلف عنه. * * * ويتبع ذلك ـ بداهة ـ منع أى برنامج يصرف النفوس عن الأهداف السابقة، أو يقلل من التعلق بها والإفادة منها. ص _217(1/212)
ولسنا نرمى إلى جعل الإذاعة معاهد فنية تقحم نفسها فى بحوث بعيدة الصلة عن طبيعتها... بل نريد أن تتحول الإذاعة إلى قوة بناءة تؤدى لهذه الأمم مثل ما تؤديه إذاعات كثيرة فى الأمم الأخرى. والعلم ـ فى معاهده الخاصة ـ يدرس بأسلوب فنى معروف. وحين يوجه إلى الجماهير يتخذ طرائق ميسرة، ويقدم منه ما يرفع المستوى العام فحسب. وننتقل إلى برامج الترفيه والتسلية. وهى قسم كبيرة من رسالة الإذاعة. أو هى ـ الآن ـ القسم الأكبر الذى تنصرف إليه الجهود، ويتعلق به العوام والفارغون... إن الترويح عن القلوب أمر لابد منه. ومن المستحيل أخذ النفوس بالجد على اطراد الزمن وتوالى الأيام... والإنسان محتاج إلى ما يجدد مشاعره وينفى عنه الملل والسآمة، ويبعثه على العمل بين الحين والحين كما ينبعث إليه المستيقظ بعد ليل هادئ ونوم مريح... وفى فترات الاستجمام ما يوفر على الإنسان هذا الحظ المرغوب. وكذلك فى عدد من الفنون التى تتجاوب مع نفسه ويشعر فى ظلالها بالرضا والنعيم. وألحان الموسيقى، وأصوات الغناء، لها هيمنة غريبة على الأعصاب. وأغلب المرهقين حين ينصتون إليها يحسون الراحة ويتخففون من أعباء ثقال... ونحن لا نتجاهل حقيقة الإنسان، ولا طبيعة حياته.. إنه عقل وعاطفة. وللعاطفة دخل هائل فى نشاطه وتراخيه، فى تفاؤله وتشاؤمه، وفى كثرة إنتاجه وقلته. ثم إننا لا نريد أن نحجر واسعا، ولا أن نصور النفس الإنسانية على غير ما خلقها الله. إن الزعم بأن أحاديث "الحب " أو العاطفة الجنسية هى الشىء الوحيد الذى يطرب له الإنسان ويستجم فى كنفه كلام فارغ. أو هو ـ بالتعبير الدقيق ـ كلام ساقط. فالإنسان أرفع قدرا من ذلك، وأقطار قلبه أوسع، وآفاق عواطفه أرحب.. ص _218(1/213)
والخطأ الكبير أو الخطيئة الكبيرة التى ارتكبها رجال الإذاعة أنهم ظنوا العاطفة لا تعدو الحب، وأن الغناء لا يعدو الغزل. ومن ثم تنحصر الجمهرة الكبرى من أغانينا داخل النطاق الضيق الصغير. إن الآداب والفنون من أجل وجوه النشاط الإنسانى. والمشتغلين بها يستحيل أن ينجحوا فى عملهم أو يصلوا إلى شئ ذى طائل ما لم يكونوا على قدر كبير من خصب الشعور وعظم الطاقة وسعة الذكاء... إن الفاقهين فى شئون العاطفة الإنسانية، والخبراء بتحريكها وتطمينها، ليسوا أناسا عاديين، إنما هم رجال في قمة البشرية، رجال لهم قلوب أرق حسا، وأزكى معدنا، وأنبل اتجاها، وأبين إيثارا من سائر الخلق. فإذا قارنت بين هذه المثل، وبين أهل الفن عندنا انتقلت من القمة إلى الهاوية. انتقلت من الإنسانية العالية إلى الحيوانية التى تتقلب فى حمأ الشهوات. ودائرة الفن ـ عندنا ـ تكاد تكون مغلقة على هذا الصنف من الناس... الصنف الذى يجهل ربه لأن أصل الإيمان مبتوت من فؤاده. فهو ـ بداهة ـ لا يعرف إليه طريقا من عبادة أو بر. وهو يشرب الخمر كما يشرب الماء. وهو ينظر إلى النساء نظرة السوائم إلى الكلأ المباح. وبتلك المشاعر يغنى ويتأوه ويسلى الجماهير. نعم.. هو يرقق عاطفتها باسم " الفن.. ". فإذا كانت برامج التثقيف كما رأيت، نفعها قليل ولغوها كثير، وإذا كانت برامج الترفيه كما رأيت تعتمد فى كلماتها وتلحينها وأدائها على هذا النفر من الناس الذين يسمون "فنانين " وهم عباد شهوات وأحلاس معصية، فماذا تكون النتيجة؟ النتيجة أن الأمة تسمع ما يضرها ولا ينفعها فى أغلب الأحيان. وهذا داء عز على الأساة. * * * ص _219(1/214)
وقد ترادفت صرخات المحذرين من سقوط الفن وفساد بيئته، وصورت حريق الغرائز التى تستعر فى أجساد زبانيته، ثم ينتقل لهيبها إلى كيان المجتمع فلا تدع فيه فضيلة ولا عفة ولا حزما.. ولأنقل هنا كلام الأستاذ " عبد المنعم شميس " مدير المطبوعات فى الإقليم المصرى. قال: "ويخيل إلى أن مؤلفى بعض الأغنيات يكونون فى حالة غيبوبة عقلية وتخدير جنسى.. حين يكتبون أغنياتهم لتتوافق مع حركات صوتية معينة تقوم بها النساء المغنيات لبعث النشوة الجنسية فى السامعين. لقد سمعت مرة أن مؤلفا معروفا أقسم بالطلاق أنه لن يغير لفظة رأى الملحن أنها تبعث فى الدماء قدرا أكبر مما يراد من النزوات، وأصر المؤلف على رأيه. وأعجبت المغنية باللفظ المثير الثائر، فاصطنعت للأغنية كلها ما أراده المؤلف لها من ميوعة محترقة والهة. إن أنجح المؤلفين هم القادرون على بعث أكبر قدر من التخدير فى ألفاظهم. وأكثر الملحنين عبقرية أقدرهم على توفيق الأنغام المتسقة مع هذا التخدير. أما المغنيات فهن مسيرات لا مخيرات. لأنهن ـ فى الغالب ـ يسيطر عليهن رجال يرون أن تتمايع المغنية وتتأوه وتتخاذل حتى تصل إلى درجة من فقدان الحس، تنسى ـ بعدها ـ أن الجماهير تتخيلها معها فى صورة معينة. والإذاعة ـ فى ذاتها ـ لا تسير على خطة واضحة فى اختيار أغنياتها. ولكنها تخضع للآراء الشخصية الفجة، والأهواء الذاتية المتناقضة. ويبدو أن المسئولين فيها يحسون بالحرية الكاملة فى تخدير الشعب. لقد سمعت مرة أحد المسئولين السابقين فى الإذاعة يقول لملحن معروف يعمل مع إحدى المغنيات، ألفاظا بذيئة يعاقب عليها القانون. وكان هذا المسئول يضحك ملء فيه لأنه يعتقد ـ فيما يبدو ـ أن الفن لا يكون إلا رقاعة. بل إننى رأيت بعينى كثيرين من المطربين وكثيرات من المغنيات يشربون الخمر قبل أن يوضع الميكروفون أمام أفواههم. ص _220(1/215)
وهم يفعلون ذلك حتى ينسوا أنفسهم أثناء الغناء، وحتى يتخذوا من التخدير الكحولى وسيلة إلى الميوعة الذاتية. إن الظمأ الجنسى يسيطر على أغلب المطربين والمطربات. وهم يوقفون أحيانا عند حد لا يتعدونه إذا كانت الأغنية قد سبقت الموافقة عليها من المسئولين فى الإذاعة. أما فى الحفلات الخارجية الحرة فإنه يحدث كثيرا أن يضطر المذيع إلى إغلاق "الميكروفون " حتى لا تتصل أصوات الفضيحة إلى آذان المستمعين فى لحظات انسجام المغنى أو المغنية مع الجمهور. ثم يقول: الأفلام السينمائية ـ فى جملتها ـ ترمى إلى شئ واحد، هو إبراز الأنوثة العارمة الطاغية. وترمى إلى إظهار المفاتن الجسدية عند النساء بكافة الطرق الفنية الممكنة. فالقصة لا يهم موضوعها أو مغزاها. والهدف الفنى من القصة لا يرجى عند صناع الأفلام، والتعبير الصادق عن حيوات الأشخاص لا شأن لهم به. إنما يهمهم ـ أولا وأخيرا ـ أن يحفل الفيلم بالراقصات المتفننات في التثنى، البارعات فى إظهار أفخاذهن وبطونهن وأردافهن ونهودهن، وأن يحفل أيضا بالفتيات الجميلات فى أوضاع شتى تظهر فتنتهن. ثم يبقى بعد ذلك الغناء. وفى مثل هذا الجو الصارخ المليء بأكوام اللحوم النسائية لا يجوز أن يكون الغناء. إلا تهافتا مائعا، وتخاذلا منسجما مع تلك الرقصات، وتلك الإيماءات، وتلك اللفتات، التى تنبض كلها بالإغراء. ومهما تكن ألفاظ الغناء مهذبة فإن طرق الأداء لا بد من انسجامها مع الجو العام للفيلم. حدثنى أحد المخرجين ذات مرة عن هذا اللون من الفن السينمائى فقال ـ فى حدة وغضب : ص _221(1/216)
اذهب إلى دور السينما من الدرجة الثالثة، وتتبع الفتيان المراهقين فى أوائل الصفوف وانظر ماذا يفعلون؟!!. لقد سكت، ولم أستطع السير معه فى حديثى، لأننى فهمت كيف يؤثر تثنى راقصة وتمايع مغنية فى شاب يعانى الحرمان الجنسى. أجسام شبه عارية ملتهبة. عارمة الأ نوثة، وعيون متكسرة فاترة، وحركات تهز اللين من أجزاء الجسد البض. هذه الأنثى التى تغنى! لو أنها سكتت لأثارت. ولو أنها قالت حكما وأمثالا لهزت مشاعر الفتيان. فكيف بها إذا تحدثت عن الحبيب الهاجر والعاشق القاسى؟ ورغم هذا كله تصرح الدولة بهذا الخزى لتعرض على الجماهير المحرومة! بل تصرح به للمراهقين والمراهقات من.. فتياننا وفتياتنا..! إنها فضيحة تعمل باسم القانون، وجريمة ترتكب علنا فى أماكن عامة تحت سمع الحكومة وبصرها. وهذا الغناء الذى يخرج مع هذه الأفلام تتلقفه الإذاعة سريعا لتملأ به جو البلاد ميوعة وخنوثة وتدهورا وانحلالا. أما "الصالات " و "الكابريهات " فإنها شئ آخر.. شئ يستحق الهدم والإزالة. والغريب أن هذه "الصالات " و "الكابريهات " خاضعة لسيطرة الدولة لا يقال فيها حرف بغير موافقة الرقابة. ويسعى إليها المفتشون ورجال بوليس الآداب لمنع ما قد يحدث فيها من مخالفة للآداب العامة. * * * يقال: إن في الإذاعة عباقرة يضعون البرامج الأسبوعية ويرتبونها ترتيبا لا يستطيع إنسان نقضه. وهؤلاء العباقرة يضعون جداولهم وفق المواد التى أعدها لهم عباقرة آخرون اختاروا كل ما يجب أن يذاع. ص _222(1/217)
وأنا لا أسخر من قصة العبقرية فى الإذاعة. فقد قال بها رجل عظيم يحمل إجازة الدكتوراة، وكان يشغل أكبر منصب علمى فى مصر، ويحمل الباشوية أيضا. هذا العظيم يقول: إن الذين يُقدمون هذه الإذاعات المضطربة الحائرة إلى الشعب عباقرة. ولكنى لم أسمع بعد أن واحدا من هؤلاء العباقرة استطاع أن يثبت عبقريته بعمل واحد نافع أو ناجح. ويزعم العباقرة أنهم يقدمون للناس أحسن ما يقدم إليهم من فن وثقافة، وأنهم غير مسئولين بعد ذلك عن شئ. فماذا قدم حضرات العباقرة للشعب؟ وماذا يريدون أن يفعلوا بالشعب الذى يدفع لهم أجورهم من عرق الجبين؟ أحب ـ قبل أن أمضى معك فى حديث هذه الإذاعة وهؤلاء العباقرة ـ أن أطلعك على أساس واحد ضخم أقيم عليه هذا المرفق الثقافى الشعبى فى مصر. لقد كانت الإذاعة إلى عهد قريب فى أيدى الإنجليز الحمر الذين جمعوا حولهم أفرادا شذاذا من الإنجليز السمر لإشاعة الفساد فى مصر وقتل مظاهر الحيوية فيها. وظلت هذه الرواسب المعلولة تعمل فى الإذاعة على الأسس الاستعمارية التى رسمها الإنجليز. وبقى أفراد شذاذ يدينون بالولاء لسادتهم الأقدمين فكرا وشعورا. هؤلاء الأفراد نماهم الإنجليز على فتات مائدة الاستعمار. ونفخوا فى أرواحهم الذليلة حتى أشعروهم ـ عن غير قصد ـ بأنهم أشخاص يستحقون الحياة ويستحقون المجد. وكبر هؤلاء الأفراد فى أعين الناس. وأصبح الواحد منهم يظن أن العبقرية الفذة هى التى وصلت به إلى المنصب الخطير. منهم من كان كاتبا صغيرا لا تحسن أنامله تحريك مفاتيح آلة الكتابة. ومنهم من كان ساعيا يحمل الأوراق من غرفة إلى أخرى. ص _223(1/218)
ومنهم من كان غلاما تلقى الرطانة عن سيد أحمر، فجرت على لسانه كلمات إنجليزية حملته على التعالى والتعاظم. ومنهم من لا يحسن علما أو ثقافة، ولكنه أصبح ـ بين عشية أو ضحاها ـ رجلا خطيرا، يرجى شفاعته. وجاء الخطر الداهم، خطر النفاق الذليل، والرغبة العاجلة فى المال. فأحس هؤلاء الفتيان أن كبار رجال الفكر يرجونهم ويتقدمون إليهم، فأحسوا بأهميتهم فى الحياة. وزاد غرورهم. شهدت مرة رجلا عظيما تولى كبار المناصب، وبلغ الذروة شهرة ومجدا، يتزلف إلى واحد من هؤلاء الفتيان ليمنحه الفرصة السائحة التى تضع فى يده جنيهات قليلة يتقاضاها على حديث يذاع. وخرجت إلى الطريق مهرولا أبحث فى وجوه الناس عن الكرامة وعفة النفس وتقدير الفن. وخيل إلى بعد ما شاهدت من أمر هذا الرجل العظيم أن الكرامة فى مصر لا يحس بوجودها إلا هؤلاء المساكين الذين يقتلهم الفقر، وتذيب نفوسهم الحاجة، ولكنهم لا يتذللون ولا ينافقون. * * * وقد أثر الفن المريض على الفتيان آثارا خطيرة، وخلق فى نفوسهم الغضة الطرية كل نوازع الشر. إن المواقف الغرامية المثيرة التى يراها الفتيان على الشاشة الفضية يسعون إلى تمثيلها فى واقع الحياة. والأغانى المبتذلة الفاجرة يرددونها استهواء للفتيات. وآثار الحفلات الداعرة والصور العارية، والرقص الخليع ترسب كلها فى أعماق هؤلاء الفتيان وتجذبهم نحو البحث عن اللذات الشهوية من أى طريق. وقد نشرت الصحف أخيرا أن بعض الغلمان يقلدون مجرمى " شيكاغو " فى ارتكاب الجرائم. هؤلاء الغلمان يركبون سيارة أجرة فى الإسكندرية، ثم يسرقون من سائقها كل نقوده. ص _224(1/219)
ثم يقومون بحادث آخر فى الساعة الثانية صباحا مع سائق سيارة أخرى.. يترك لهم سيارته ويهرب. ثم يجرى خلفهم رجال البوليس فيحاول أحدهم إطلاق النار من مسدس كان معه ولكن الرصاصة لا تنطلق. وحين يُسئل هؤلاء الفتيان عن السبب الذى دفعهم إلى ارتكاب هذا النوع من الجرائم يقولون : إنهم يقلدون الأفلام السينمائية التى يشاهدونها. وفى مثل هذه الحادثة تستطيع أن تدرك ـ فى وضوح ـ الأثر الذى تتركه هذه الفنون المريضة فى نفوس الناس. وتدرك أننا لم نكن هازلين حين قدمنا لك هذه الصفحات لترى فيها صورة من صور الانحلال والتدهور والسقوط ". نشرت "الجمهورية " فى العدد (1726) تحت عنوان " حاربوا الجريمة ولا تنشروها " كلاما حسنا نلخصه فيما يلى: فى كل شهر قصة صاخبة الحركات شائقة الوقفات تفتعلها الإذاعة وتقدمها للناس. نعم.. لقد أصبحت الحلقات التمثيلية المسلسلة التى تقدمها الإذاعة لمستمعيها كل يوم... وفى ميعاد معين شيئا رتيبا أشبه بالوضع الذى يظل قائما ولو تغير الموظفون. وقد وجدت هذه الروايات العجيبة رواجا كبيرا بين المستمعين مما جعل المسئولين فى الإذاعة يثبتونها كركن دائم. فما هى القيمة الحقيقية لهذا البرنامج الغريب؟ الواقع أن هذه التمثيليات خواء من كل معنى جاد، ومن وجهة سامية. هذه التمثيليات يربط بعضها بالبعض الآخر ـ مع اختلاف ألوانها ـ شبه قائم، وينتظمها ـ مع تعدد موضوعاتها ـ خيط رفيع. إنها جميعا تعتمد على اللغو الموصول، وتسميم المشاعر والأفكار. وللإصرار على تسلية الجمهور، بهذا الأسلوب المدخول دلالته المريبة. إنه يدل على إصرار متعمد، تسانده فكرة ثابتة لدى المشرفين المسئولين. وإلا فما معنى اختيار التمثيليات ذات الطابع المثير، التمثيليات التى تستعرض الجريمة وظروفها، وتنشر حول فصولها جوا من الرعب والإرهاب؟؟ ص _225(1/220)
كما تصور للمستمعين حيل المجرم للتخلص من معالم جريمته... الخ. إن هذا هو ما تفعله الإذاعة حين تروج لمثل تلك التمثيليات التى يستمع إليها أفراد العائلة فى كل منزل. وفى مقدمتهم الأطفال. أولئك الأبرياء الذين يسألون آباءهم وأمهاتهم ـ فى دهشة ـ عن الكلمات الغامضة ـ بالنسبة لهم ـ كالحشيش مثلا، وهل فعلا هو ذلك النوع الذى تأكله الأرانب؟ وإذا كنا نعلم عن طريق الإحصاءات العلمية أن للأفلام الإجرامية التى يشاهدها الأطفال والمراهقون فى السينما أثرا كبيرا على نفوسهم، وأنها تسهم بنصيب وافر فى توجيههم الإجرامى أدركنا خطر هذه الروايات المسمومة.. إن الإذاعة هى المدرسة الشعبية الكبيرة، بل هى أكثر انتشارا وتأثيرا ونفوذا من أى مدرسة أخرى. وإن الخطر الذى يمكن أن ينجم عن إذاعة مثل تلك الحلقات الإجرامية.. وبتلك الصورة ليس سوى انتحار عملى لرسالة الإذاعة فى هذا البلد وفى هذه الحقبة بالذات التى نحن أحوج ما نكون فيها إلى أن نربى فى نفوس أطفالنا كل ما هو إنسانى ووطنى وشريف. لماذا لا تقدم الإذاعة سير العظماء والأبطال على حلقات..؟ وبهذا التنظيم نفسه الذى ألفه الجمهور واستحبه.. ص _226(1/221)
جراثيم العفن الخلقى الثمرة المعطوبة تعزل وحدها حتى لا يسرى فسادها إلى غيرها.. وكثيرا ما نرى صناديق التفاح والبرتقال تعبأ بطريقة أساسها الحيطة لما يتوهم من علل طارئة. فتُلف كل ثمرة على حدة فى ورقة خاصة. حتى إذا تسرب إليها تلف انحصر فى موضعه ونحبت بقية الثمار منه! وما يقال فى عالم النبات، يطرد كذلك فى عالم الحيوان. كأن المحافظة على المال غريزة تأخذ امتدادها دون افتعال أو تعويق. وكأن تواضع الناس على هذا المسلك استجابة لنداء الفطرة، فما يلقاه أحد باعتراض أو استنكار! ولكن الأمر فى ميدان الأخلاق على العكس. إنه أنزل رتبة وأقل قيمة من أن يهتم فيه بصيانة، أو يطلب فيه سلامة الجوهر والمظهر التى تطلب فى أقة تفاح أو برتقال!! الأمر فى ميدان الأخلاق ـ كما يبدو لى الآن ـ عمل متعمد لنقل الداء من السقيم إلى البريء، ورغبة ملحة فى تحويل المرض الفذ إلى وباء جارف! وحماس خبيث طافح لرؤية حدود الله وقد محيت محوا. وتقاليد النبل والفضل ـ وقد أصبحت آثارا طامسة، ومظاهر الشرف والعفة وقد صارت فى ذمة الماضى البغيض ـ لا يستمسك بها إلا أبله، ولا يعول عليها إلا متأخر!! ومن الذى يصنع هذا الزلزال المهدم لبناء الإيمان والفضيلة؟ نفر من الناس أقفرت حياتهم الذهنية والنفسية من كل خير يشرف به الإنسان فهم دائبون على تلويث منابع الخير، وتصديع أركان الأمة.. وقانونهم الأول والأخير، هو: إذا لم نستطع أن نرقى إلى جو المثل العليا فلنجعل هذه المثل تهبط إلينا! ص _227(1/222)
وإذا عجزنا عن معالجة حياة الاستقامة والتزام فروضها، فلنحفر هذه الحياة ولنجر أصحابها جرا إلى مزالق الإثم والجريمة، حتى يستوى الكل فى المجون والخنا... والشخص القذر يرضيه أن تكون الدنيا كلها على غراره، ويغضبه أن يترفع الناس عن مآثمه وعاره.. ولعل هذا هو التفسير الوحيد لبدعة أخذ الأصوات على الفضيلة والرذيلة. يجتمع نفر من الشكاك ويتساءلون: هل الدار الآخرة حق؟ لنأخذ الأصوات بعد بحث الموضوع! ونبحث الموضوع فى ذلك النطاق الماجن الساخر، ثم تنشر صحيفة ".... " أن الكثرة الساحقة رأت أن الدار الآخرة باطل لا يلتفت إليه. وما صنع فى أمر الآخرة يصنع مثله فى قضية " اللواط " فتنشر صحيفة ".... " أن المجتمعين لبحث الموضوع قرر أغلبهم إباحته. وذلك ـ للأسف ـ ما صنعه قساوسة إنجلترا. ورحب به هنا بعض الصحفيين ترحيبا حارا، ترحيبا ينبعث من أعماق قلوبهم! وطبعا، غمزوا الإسلام وعلماءه لأنهم يقفون ضد هذا الارتقاء. أو يحقرون ذلك الشذوذ..! ومثل ذلك ما نشرته أيضا صحيفة "... " من أن بعض الشباب اجتمعوا وناقشوا موضوع التقبيل فى الطريق العام، ثم أصدروا قرارا بجواز القبلة على أن تكون فى الشارع لا فى الميدان، أو أن تكون فى الحارة لا فى الشارع! وسأل أحد الرجال الطيبين: أيظن هؤلاء أن الله يرى الإثم فى زحام الناس ولا يراه بمعزل عن الزحام؟ فقلت له: يا هذا… ما لهؤلاء شأن بالله، إنه لم يخطر على بالهم من قبل ولا من بعد. عجبا، ما هذا الفسوق عن أمر الله؟ بل ما هذه الجراءة فى إعلان الفسوق والحض عليه، ودفع الخاصة والعامة إليه؟ ماذا يراد بهذه الأمة البائسة؟ وماذا تبيته الصحافة والإذاعة والمسارح والسينمات لهذا الدين الجريح؟ ص _228(1/223)
إننى أمشى فى الطريق فأدهش لافتنان الجاهلية الحديثة فى التهتك وإبراز العورات. وفى استفزازها الغرائز الهاجعة كى تعربد ثم تفتك بكل أثر للإيمان والتحفظ والتقوى.. نعم.. فلو ترك الناس وشأنهم لكان شرهم الحيوانى المعتاد أقل ألف مرة من ذلك الشر المستطار المعتوه الذى تشعل ناره نزوات الملحدين والماجنين كل صباح وكل مساء... فإن أقوى المشاعر وأحدها يبرد أو يعتدل مع ضعف المؤثرات الخارجية وتراخى الزمن. فالأب الثاكل أو الأم المكلومة تخمد نارهما مع التصبر ومر الأيام. ولذلك يقول الشعر: فو الله ما أنسى قتيلا رزئته بجانب قوسى ما مشيتُ على الأرض ثم يعتذر عن استجابة بره بهذه اليمين فيقول: على أنها تشفى الكلوم وإنما توكل بالأبىِّ وإن جَلَّ ما يمضى واندمال الجراحات ـ وإن غارت ـ لا يتم إذا جاءت بين الحين والحين نائحة مستأجرة تنبش الذكريات الدفينة، وتطرد الصبر الوافد، وتحيى الجزع وتستبقيه. وفى هذه الأيام يوجد لفيف من عملاء الشيطان، كرسوا أوقاتهم لمطاردة العفاف والتقوى، وتوطين المجون والهوى، يعبثون بغرائز الشباب ويعملون على بقائها متوترة مضطربة كلما انصرفت إلى جد أزالوها عنه. وكلما وقعت على لهو زينوه لها، وكلما ملت متعة عرضوا فنونا تنفى السآمة وتغرى بالمزيد من العيب والسخف. والغريب أن هؤلاء أعلى صوتا من دعاة الطهر والأدب. بل إن نصائح الواعظين إلى جانب الضجيج الهائل الذى تحدثه فى المجتمع أولئك المنحلون السفهاء تشبه وقع العصا فى معركة تدمدم فيها المدافع والطائرات!! وكثيرا ما أسير فى الطرق العامة، فأرى ما يقذى عيون الأشراف والأطهار، ويملأ بالكآبة والحسرة كل نفس غيور على مستقبل هذه البلاد! ما هذا الضيق البالغ فى ملابس النساء؟ لقد أسأل نفسى: كيف أمكن المرأة أن تدخل فى هذا الثوب الملتصق بكل شئ فى بدنها؟ ص _229(1/224)
لا شك أنها انزلقت فيه بطريقة ما كما تدخل القدم فى النعل الضيقة بعناء وحيلة. ولمن كل هذا التبرج؟ إنه ليس للزوج أبدا. إن كانت هذه المرأة متزوجة فملابس البيت مجردة تماما من كل هذا الإغراء اللعين.. إنه للعيون النهمة، والذئاب المتربصة، ودافعى الثمن المطلوب... نعم.. لهؤلاء وحدهم، تعرية الظهور والنحور. ولف الأرداف حتى تتراقص فى أثناء المسير. وتثير الفتنة. وتحرك الغرائز! ورسالة الصحافة والإذاعة والمسرح والسينما هى تغذية ذلك الفساد، وتنميته حتى يطم ويعم، وحتى لا تفلت من خبثه قرية ولا مدينة، ولا ينجو من غائلته وليد ولا مُعَمَّر!... لحساب من ذلك الانطلاق الحيوانى الشارد المارد؟ إنه ـ بداهة ـ ليس لحساب دين من الأديان؟ فهل هو يتفق مع خصائص القومية العربية التى أعلنا أمام العالمين عودتنا إليها واستمساكنا بها؟.. كلا.. فإن للأعراض عند العرب قداسة، ما خدشت فى جاهلية ولا إسلام. الحقيقة أننا أمام جماعة من الناس كونهم الاستعمار بأسلوبه الخاص. ورمانا بهم كى يهدموا ما نشيد، ويردونا إلى الظلام كلما تلمسنا الطريق إلى الرقى النفسى والاجتماعى. ولن يصح لنا نهوض ما بقى هذا الصنف المخنث الواهن ينفث سمومه وينشر مباذله! والواقع أن أنكى سلاح شرعه الاستعمار ضد الإسلام هو ذلك النفر من الناس الذين يحيون فى مجال حدوده الأربع شهواتهم الدنيا. ويحق لإنجلترا وفرنسا وأمريكا أن تقر عينا بما يكتب هؤلاء وبما يغرسون من أفكار وأهواء فى مجتمعنا العليل. إنهم ليسوا مسلمين ولا يهود ولا نصارى! ولو كانوا عباد وثن ما، لعرفنا لهم عروة يربطون بها، أو حدا ينتهون إليه. ولكنهم عباد الهوى، وعباد الهوى تحكمهم غرائز السوء! وما تنضبط غرائزهم إلا بمس العصا ووقع السوط. ص _230(1/225)
( أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا * أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا ). هؤلاء هم الخطر الخوف على مستقبل الأمة. ومن ثم يجب أن نتيقظ لدسهم، وأن نحتاط لعوجهم، وإلا تعرض جهاد المصلحين للبوار، وكيان الجيل الجديد للدمار! إن المرارة التى تنقطع غضتها من حلوقنا، سوف تبقى ما بقى هذا القطيع المهجن الذى صنعه الاستعمار الأجنبى والغزو الثقافى. إن هذا القطيع النكد يؤثر الإلحاد على الإيمان، يؤثر الفحش على العفاف، يؤثر السكر على الصحو، يؤثر المجون على الجد... وقد أفلح الغرب فى إشراب روحه البغض للإسلام والهزء بتعاليمه، والذهول عن قضاياه والتنكر لأهله... وهل يطلب الشرك لمحو الدين غير هذا؟ وهل يجد لبلوغ مآربه أسرع من هذا الجند؟ لقد قرأت ـ وفى النفس أسف ـ كيف أن مصلحة الشهر العقارى قررت اعتبار شهادة المرأة مساوية لشهادة الرجل فى توثيق المعاملات والعقود. وكيف استصدرت فتوى فى مجلس الدولة بهذا الحكم!! ولسمت متحسرا لأن حكما من أحكام القرآن هدم فحسب، بل لأن المقدمات والأسباب التى سيقت بين يدى هذا التصرف الصغير لمصلحة الشهر العقارى تهيج النفس. فأمين المصلحة- واسمه على ما أذكر "حسن "!! ـ يعتمد فى فعلته تلك على القانون الفرنسى. ويذكر بدقة وإجلال المصادر التى رجع إليها من ذلك القانون. وضرورة التزامها!! عجبا إذا تناول رجل فرنسى؟ كأسا من خمر ثم غمس قلمه فى المداد. وصنع سوادا فى بياض فإن السطر الذى كتبه يصبح قانونا مرعيا.. ص _231(1/226)
أما قول الله فى كتابه: ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ). فهذا الوحى الإلهى دون تخليط الرجل الفرنسى!! يجب أن يؤخر!! بل يجب أن يهمل وأن يحل محله ـ فى القداسة والإنفاذ ـ كلام القانون الفرنسى. بل إن أمين مصلحة الشهر العقارى ـ واسمه مرة أخرى "حسن " ـ يقول : إن هناك رأيا بأن شهادة المرأة أوثق من شهادة الرجل!!! وليس العجيب أن يزيغ امرؤ عن هدى الله... ولكن الغريب أن يقع هذا. فى بلد مسلم. ومن رجل يدفن ـ إذا مات ـ فى مقابر المسلمين... والغريب أن الصحافة أخرجت هذه المأساة إخراجا يليق برسالتها. فهذه تتندر بأن المرأة نصف الرجل فى الشهادة وتخرج لسانها لهذا الحكم. وهذه تعتبر المساواة. التى هدي إليها رجل " الشهر العقارى " تقدما يستحق التنويه. وهؤلاء وأولئك. من ضحايا الإدمان والذهول. يريدون أن تدوخ الأمة معهم وأن تنحدر إلى هاويتهم. ثم لا بأس من تسمية هذه الاستجابة الكاملة للصليبية الغربية تحرر وارتقاء.. ص _232(1/227)
ضبط النفس العكوف على اللذائذ، ومطاوعة الأهواء، وإجابة الرغبات الدنيا، أمراض تصيب الأمم فى عصور الانحلال وتعرضها للهلكة، فهى نذر الفناء ودلائل إدبار السيادة. ولقد لوحظ من استقراء التاريخ أن الحضارات الكبرى لم يقتلها إلا الترف، وأن الأمم العظيمة لم يهلكها إلا البطر، وأن ترك الناس يرتعون فى الشهوات رتع السوائم لن يجر فى أعقابه إلا البوار العاجل ( ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون ). لذلك حرص أولوا النهى أن تشيع فى الجماهير أخلاق الجندية، وتقاليد الخشونة وأن يتعلموا أخذ الحياة من جوانبها الصارمة، ونواحيها الجادة. كما اجتهدوا أن يبتروا من المجتمع مظاهر الاسترخاء والتخنث، وأن يمنعوا استرسال النفوس مع أسباب اللهو والعبث. فإن شباب الأمة يتجدد ما بقيت تحترم العمل، وتتحمل التعب، وتصدف عن المعاصى، وتعاف الغرام بصنوف المتع ولو كان من الحلال. فكيف لو جاءت من الحرام؟ إن هناك خلالا من الطراوة تفقد الأمم عافيتها لو تسربت إليها. وإذا كنا الآن فى فترة بناء لتاريخنا الحديث وعهدنا الجديد.. فيجب أن نسد الأبواب أمام هذه الخلال المبيدة، وأن نصد أصحابها عن المضى فى غوايتهم.. حتى نحتفظ بحياتنا، ونصون مستقبلنا. ولا شك أن ألد أعدائنا. وأخطر الناس على نهضتنا. أولئك الذين يزينون الرذائل للشبان، ويهيجون لدمائهم حب الجريمة، ويصورون الحياة لهم على أنها غرائز يجب إشباعها، وفرص يجب انتهازها، وحرية ليس عليها قيد، وانطلاق لا يهدأ عند حد.. فمن للمشقات بعدئذ يحملها؟ ومن للتضحيات يقدمها؟ ومن للمروءات يصنعها؟ ص _233(1/228)
ومن للبطولات يقوم بها؟ وهل تنهض أمة إلا بهذا كله ، إن الله يقول لداود : ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب * وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار * أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار). هيهات أن يستوى الفريقان. ويستحيل أن تفلح أمة استثقلت مطالب المجد واستمرأت مزالق الرجس. ويستحيل أن تنهزم أمة تغلبت على مطالب الشهوات وتهيأت لتكاليف الواجب. ونحن إذا نظرنا حولنا.. وجدنا الأمم التى تنشد الحياة الكريمة تأخذ لهذه الحياة أهبتها. فهى تغرس فى بنيها حب المخاطرة ومواجهة الصعاب، وهى تزين لهم الأعباء الثقال، ثم تحشدهم لها بالغدو والآصال. وهى تكره لهم سقوط الهمة، وضعف الوسيلة، ومحاقر الأمور، وانتهاب اللذائذ. بل هى ترسم لهم سياسة التقشف، وتضع مناهج الخشونة. ثم تفرض على الشباب والشيوخ جميعا أن يلتزموها. ومما يستحق التنويه أن الهند حزمت الخمور، وحظرت تناولها، مع أن ديانتها لم تشرع ذلك. ولكن القوم تطلعوا إصلاح شئونهم. وإقصاء مظاهر الحيوانية عن نهضتهم، كى تسير على صراط مستقيم. فصنعوا هذا الصنيع الجيد، وضمنوا به سلامة عقولهم وأبدانهم، وبقاء أموالهم بين أيديهم. والحقيقة التى نذكر المسلمين بها: أن الأمة التى تألف قرب المتع. وتجزع من سياسة الحرمان إذا فرضتها ظروف طارئة. أمة لا تستحق الحياة، ولن تجد لها بين الأحياء مكانا... ص _234(1/229)
وأن الشباب الذين تستهويهم أحاديث الشهوة. ولا تستهويهم أحاديث المجد، هم شباب لا خير فيهم، ولا تعويل عليهم. لقد كان من خلق العرب الأولين أن يطووا بطونهم ويكظموا على رغباتهم إذا واجهوا عدوا أو خاضوا حربا. ومن تم يقول قائلهم: قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم عن النساء ولو باتت بأطهار فكيف نرتضى لأنفسنا ـ والأعداء من كل جانب محدقون بنا ـ أن نتشبع من الكماليات، ونستكثر من المرفهات، ونتصايح لفقدان ما لا قيمة له. بل ما لا بأس علينا من تركه إلى الأبد؟ فى "عيد الفطر" انشغلت الحكومة بتدبير المال من العملة الصعبة كى توفر أنواع النقل والسمك المجفف للناس. فلم كل هذا؟. وما قيمة صيام لا يكف أصحابه عن هذه الشهوات. ولا يعلمهم الرضا بما فى أيديهم، والزهد فيما سواه؟… وفى "عيد الأضحى" تذبح ألوف الخراف ليلة العيد. وهذا لحم لا نسك فيه ولا عبادة، وإنما هو تهيؤ لإسراف فى الأكل ولتخمة موجعة وحرمان للفقراء، وخلق لأزمة فى اللحوم ما أغنانا عنها. ومتى يحدث ذلك كله؟ يحدث وحرب الإبادة تدور رحاها فى ربوع الجزائر المتخربة، وبين مغانيها المعطلة، وعلى ثراها المبلل بدماء الشهداء. يحدث والعصابات الإسرائيلية توطد أقدامها فى الأرض المقدسة، وألوف المسلمين مطرودون من دورهم، مفجوعون فى يومهم وغدهم. إن أحزان المنكوبين من أهل الإسلام تعترض مباهج الأعياد كما تعترض ظلمات الخسوف والكسوف أشعة الشمس والقمر. وهى إن أوحت بشىء فبالعزوف عن اللهو واللعب. والتمرس بحياة الكفاح والمصابرة، والصيام الطويل عما يستمرئه الفارغون. وخالوا البال. خصوصا إذا كانت مواد العبث المشتهى من صنع الذين استباحوا حمانا وأرخصوا حرماتنا. ص _235(1/230)
ألا ما أحقر السرور يجيئ وليد غفلة عن الحقوق المقدسة، أو ذهول عن الواجبات الكبار. وليت شعرى كيف تهنأ الأيام، وصوت الباطل يحاول طمس قضايانا، وصريخ المجاهدين يذهب فى الفضاء ولا من مجيب. وصدق القائل: صياما إلى أن يقطر السيف بالدم وصمتا إلى أن يصدح الحق يافمى!! أفطر وأحرار الحمى فى مجاعة وعيد وأبطال الجهاد بمأتم؟ إن أحد سلاح فى يد الأمم الناهضة هو زهدها فى أسباب الترف وإلفها أسباب الخشونة، واكتفاؤها بالقليل الذى تنتجه وتملكه، واستغناؤها عن الكثير الذى تستورده وتتلمسه من أيدى الآخرين أعدائها. خصوصا إذا كان الآخرون أعداءها. ماذا كان يخسره المسلمون لو أنهم لم يطعموا السمك المجفف، وقد اشترى لهم بالعملة الصعبة من فرنسا؟... يخسرون العفاف والقوة؟ يخسرون الصلابة وضبط النفس؟ أهذا هو ما أفطروا عليه بعد صوم رمضان؟… ألم يعلموا كيف صام "غاندى" وكيف علم قومه لبس الخشن من الثياب وأكل الغليظ من المطاعم؟ وما هى إلا جولة حتى اهتزت قوى الاستعمار أمام تجرد الرجل الضعيف... الرجل الذى ملك معدته فشغلها بما يريد، وملك جلده فكساه بما يريد، فكانت العقبى أن ملك أمره كله: لقد صام هندى فروع دولة فهل ضار علجا صوم مليون مسلم؟ تجشم عن أوطانه صوم عامد فجشم أوطان العدا صوم مرغم وخلى بلاد الظالمين بلاده تضيق بجيش العاطلين العرمرم وألقى على منشستر ظل رهبة يضج بأسياج الشقاء المخيم ص _236(1/231)
أهاب بآلات الحديد فعطلت مصانع كانت جنة المتنعم وشل دواليب الرخاء بصرخة أدارت دواليب القضاء المحتم كساها نسيج العنكبوت وكم كست جسوم البرايا بالقشيب المنمم فيا لك من عان لديه تصاغرت جباير أبدان وعقل ودرهم وراحت ملوك المال تشكو ببابه من الفقر ياللظالم المتظلم نعم.. هذه والله طريق المجد وخطة الفوز. وما يستطيعها إلا من حبس شهوته، وأظهر عفته، وأبدى غناه، وكبت فاقته. فأما الذين يهرعون حيث تطلبهم الشهوات الطارئة، والنزوات العابرة فلن يكونوا إلا عبيدا. على أمثال هؤلاء يعيش المستعمرون فى الأرض... من التدليس فى شرع الحرية أن ننقلها من ميدان العقل والضمير إلى ميدان الغريزة والهوى. إن الحرية فى الميدان الأول ارتقاء إنسانى. أما فى الميدان الأخير فهى ارتكاس حيوانى. والعالم إذا كان قد طفر فى نواحى المعرفة ومظاهر القوة فبحرية العقل لا بحرية الشهوة.. والعالم إذا كان مهددا بالرزايا والمخازى فبالحرية الأخرى ـ أى الحرية الحيوانية الدنيئة. فيجب أن نفرق بين نوعين من الحرية يحملان عنوانا واحدا. ولكن بين حقيقتهما بعد المشرقين.. وقد نقل إلينا الغزو الثقافى كلمات مريبة لها ظاهر يومئ إلى الحرية العقلية. بيد أنك لو بحثتا فى باطنها ما وجدت إلا حركة الغرائز المريضة تريد لتتنفس كيفما اتفق، فى غير مبالاة بدين أو شرف. والدعوة إلى محاربة الكبت قد تبدو فى ظاهرها إنماء للخصائص النفسية، وتفتيقا للمواهب الذهنية. ص _237(1/232)
غير أن الأفواه التى نطقت بها والأساليب التى مشت معها كشفت عن سعى حثيث لتجرئ الأجيال الجديدة على فعل ما يحلو وترك ما يثقل. ويستحيل أن يكتمل فرد قرر أن يبنى سلوكه على فعل ما يلذ وترك ما يؤلم. ويستحيل أن تقوم جماعة على مثل هذا الفهم المعلول. وفى هذه المرحلة من تاريخنا بالذات يجب أن نوطد النفس على تحمل الآلام، ونبذ اللذائذ، أى على كبت طويل. إن الإسلام لا يحتقر الغرائز الإنسانية، ولا ينبغى أن يظن هذا بتعاليمه بعد ما حصل جزءا من الثواب الأخروى المحفوف بالرضا يقوم على إرضاء هذه الغرائز حتى تقر وتسعد... ولكن الإسلام يريد أن تملك نفسك، لا أن تملكك نفسك. وأن تكون إنسانا سيدا يحكم رغباته، لا إنسانا تافها تحكمه رغباته. ( والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ). فإذا نجحت فى امتحان الرجولة قدمت لك رغباتك مكافأة تستحقها وتكرم وأنت تنالها. أما الذين يسقطون فليس لهم فى الدنيا إلا الحرمان، وليس لهم فى الآخرة إلا الحرمان... بعض الناس يحقر الشيء إذا فاته الحصول عليه، فهو يهون من شأنه، ويغض من قدره على طريقة الثعلب الذى عز عليه عناقيد العنب فرجع يقول : " إنه عنب حامض "... على هذا المنوال رأينا من يبخس الفضائل حقها لأنه عجز أن يكون فاضلا، وفشل فى أخذ نفسه بعزائم الخير ومعاقد الكمال.. لقد رجع يذم الصدق، لأن مقاومته لشهواته انهارت. فهو يبغى أن يجعل من الاستسلام للشهوات قانونا عاما، وأن يغرى غيره بالسقوط السرج أمام وساوس الشيطان، لأنه هو سقط على عجل.. ص _238(1/233)
ونحن نستغرب هذا المسلك!! أكل مَن عجز عن الصدق فى القول والعمل، يقبل منه تسويغ الكذب، وتحريض الناس على الإفك؟ أكل من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته، يقبل منه أن يسخر من الحسنات ويباهى بالمنكرات؟ كلا.. كلا. يجب أن نعرف للفضائل قدرها. وأن ندرب الشباب على ارتباط بها، وأن نخرس هذا الصياح الملعون بإباحة المتع الحرام، والتهاب الملذات المشتهاة.. وبذلك نبقى أمة تعرف رسالتها وتحظى بعناية الله، واحترام الناس. أتدرى أين تنساق الأمة الإسلامية مع هذه البهيمية الطافحة الباحثة عن اللذة أبدا؟ أتدرى كم ننفق؟ وكم يكلفنا إشباع هذه الطباخ المعلولة؟ لا أجد أفضل من كلمة بارعة للشيخ "محمد على الزغبى" كتبها يدعو إلى تأميم "النفط " نثبتها فى المقال التالى: ص _239(1/234)
ملوك وأمراء وشاهات الذهب! لقد ثبت لساهرينا ومحققينا، أن الدول الطامعة، الشرهة المحتكرة اختلست من ثرواتنا عام 1955 فقط، ما يساوى ربحه خمسمائة ألف مليون دولار أمريكى . وقد تضاعف فيضان الآبار، وعرفت آبار جديدة فى برنا وبحرنا. فتضاعف الربح هذين العامين، وأصبح تسعمائة ألف مليون دولار على الأقل! هذا سوى ما يختلسه المستعمرون من مناجم الذهب والفضة والكبريت. أيها العربى المسكين، هل طاف بخيالك هذا الرقم الجنونى؟ هل لدى أطفالك من حب القمح، ما يساوى هذه الملايين؟ هل عرفت أن ما يحاول " أيزنهاور" ابتياع قلبك به هو جزء من ملايين مما اختلسه من ديارك؟ هل علمت أن نصف هذا الربح، أو ستين من المائة منه يقسم ستين سهما، لتأخذ "المملكة العربية السعودية " أربعة وعشرين، و" الكويت " خمسة عشر. وكل من " العراق " و" إيران " تسعة و" قطر" اثنين و"البحرين " واحدا.. هل تصورت خطر هذه المبالغ؟ هذا سوى عائدات الذهب والفضة والكبريت. لا أريد إذهاب وقتك بعمليات حسابية. يكفى أن تعلم أن المستعمرين أنصار الشركات، لا يعطون هذه العائدات إلا لمن لا يعبد سواهم. بل إن إعطاءها مشروط بعدم إنفاقها فى حقل يعود على ديارك بصالح عام، لاسيما الاستعداد والتأهب لجولة ننال بها من " اليهود " بعض ثأرنا. حسبك أن تعلم أن ما يسلبونه من ديارك هو شريان أجسادهم، ونور عيونهم، وينبوع حياتهم. ص _240(1/235)
وأنَّ أساطيلهم التى تهدد، وملايينهم التى تبتاع قلبك، وراياتهم التى تحاول الارتفاع فى سمائك، قائمة على تلك المسلوبات! وهل تعلم كم حاكوا من المؤتمرات للاستئثار بما لا يزال كامنا فى ديارك؟ - كلوا واشربوا ولا تستعدوا لعدوكم: أجل.. إنهم يتكرمون بفتات من هذه المائدة، على ملوكنا وأمرائنا وشاهاتنا، ويشترطون عليهم عدم إنفاق درهم منها فى سبيل مناهضة إسرائيل. بل يشترطون عليهم إنفاقها فى ما يثلج قلب المستعمر والشيطان. ولو أنفق هؤلاء فى ما يعود بخير على هذا الوطن الكبير، أو وطنهم المحدود، لودعهم الحظ وفارقهم ما يستمتعون به. - الأسرة المحظوظة!! إن الأسرة المالكة، أو الحاكمة بأمرها (طبعا بتوجيه المستعمر واستمداد السلطان منه) تحتفظ من عائدات النفط براتب معلوم، لكل مولود. بل تتخذ كل أميرة من هذه الأسر، وكيلا لأموالها يدعى "وزير مال الأميرة ". إن صاحب " ألف ليلة وليلة " و" السندباد البحرى " لم يستطيعا تخيل هذا! أما كبار الموظفين (وهم من الأسر المحظوظة فحسب) فلهم راتب سوى راتبهم العائلى، ولكن خازن المال الذى لا دفتر عنده، مكلف بتسليم ما يطلبون. لا عجب.. فهذه الأسر تنفذ منهجا رسمه المستعمر، الذى خنقها فى بحر من الذهب، وجعلها تدرك أن بقاءها ووجودها، موقوف على بقائه ووجوده. ليت قومى يعلمون... أنَّ ما تنفقه هذه الأسر فى عام واحد وفى سبيل العار، كاف لتمويل السد العالى، بل كاف لإعادة الأمة العربية أعز مما كانت أيام عمر بن الخطاب. ليتهم يعلمون أن ما ينفقه أحد حاشيتهم، يغنينا عن المساعدات المسمومة، التى يستتر بظلها المرحبون بمشروع "أيزنهاور". ليتهم يعلمون أن أنصار الشركات، شراع يدفع سفينتنا لما فيه حتفنا، وخنجر يقتطع من جسمنا أقوى وأنشط أعضائه، وغل فى عنق نهضتنا، وجرثوم فى غدير سعادتنا. ص _241(1/236)
ليتهم يعلمون أن الأموال لا تنشل من ضيق، ولا تفرج عقدة كارثة، إلا إذا أنفقت منها ثمن كلب ـ على الأقل ـ يخيف اللصوص وينبه صاحب البيت! ليتهم يعلمون أنهم يعيشون فى دائرة من ذهب. ضربها الذين يستنزفون الكنوز ويكبتون الشعور. على أننا ـ والحق يقال ـ لا نتفق مع الأحرار الذين يطلبون من المسرفين الاقتصاد.. إنهم لا يستطيعون الاقتصاد مهما حاولوه، لأن كل ما يناله شخص من مال الأمة دون أن يقدم لها تعبا وجهدا. هو مال خبيث. والخبيث ـ كما يقول الإمام على ـ لا ينفق إلا فى السرف! وهكذا تنفق بعض هذه الأسر ما يدنيها من تخمة الموت، وتضع ما بقى أمانة فى صناديق: " الثعلب الأمين والثعبان التقى "! نعم.. إن ما اعترف به الثعالب والثعابين كحصة للكويت ـ مثلا ـ مائة مليون جنيه إسترليني. ولكن الثعالب والثعابين الذكية الواعية الشريرة.. لا تدفع تلك القيمة كاملة للكويت. إذ تخشى أن تنسى الأسرة المحظوظة، الشروط والوصايا المقدسة، وتنفق جزءا ضئيلا فى صلاح مستقبل الكويت. ولذا يعطى رب الأسرة المحظوظة وحاشيته وأسرته وبطانته، ومن أتقن فن البصبصة، ثم تضع ما فاض أمانة فى صندوقها. وما أشد أمانة الثعالب والثعابين! أجل أمانة، إذ لعائدات "الكويت " و"قطر" و"البحرين " لجنة مؤلفة من ثلاثة إنجليز (طبعا ذوى أمانة مثل كل الإنجليز اليهود). مركزها المدينة المقدسة "لندن " عاصمة التيجان ومزرعة الجلالات والسمو والسعادة وبقية الألقاب.. ووظيفتها توجيه جميع الذين بيدهم العائدات، للإنفاق بطريق لا يعود على عربى أو مسلم إلا بجرعة سموم! لعمرى، هل تستطيع الأسر المحظوظة، مخالفة الشروط والوصايا؟ ص _2 ص(1/237)
وكيف تستطيع، وقد أقامت الثعالب والثعابين لكل فرد من تلك الأسر أخصاما ومعارضين، لتهدده بالتنكر له إن خالف توجيهها؟ أما ما تنفقه لجنة الأمناء على مناطق النفط من أسهم العائدات، فيتولى إنفاقه مستشارون إنجليز، ينفقون لصالح المنطقة العامة ما ينفقه العدو اللئيم، لصالح عدوه الغافل. وهكذا بوركت أموال الإمارات المجمدة. فأصبح للكويت وحدها فى مصارف لندن نحو سبعمائة مليون جنيه إسترلينى. رحم الله الفقير المعدم الذى يتمنى لو وجد أتانا أو نعلا. ورغم هذا يمسح شاربيه قائلا : " لى مال محفوظ عند الأمناء، لو شئت لأصبحت ثريا ". ص _243(1/238)
الكبت بين أدب التربية ومناهج الاحتلال كثر الحديث بين المثقفين عن أضرار " الكبت ". وأخذ المشتغلون بشئون التربية يعالجون علل الأجيال الحديثة على أن "الكبت " سبب مانرى بها من انحراف. ثم استقر الرأى ـ أو كاد ـ على أن محاربة الكبت لابد منها لبناء مجتمع سليم، وإيجاد حياة بعيدة عن العُقد والالتواءات.! ونحن نريد أن نناقش هذا الكلام، وأن نتعرف الحدود التى ينتهى إليها، والمعانى التى تكمن فيه. إن الكبت هو حبس الرغبات التى تجيش فى النفس، وإيصاد المنافذ أمامها حتى لا تجد متنفسا تخرج منه. ولاشك أن كف النفس عما تهوى أمر يصعب عليها وتحس معه العَنَت! فكيف تعالج هذه الحال؟ أتعالج بإرخاء العنان لها وإجابتها إلى كل ما تريد؟ يبدو أن ذلك هدف بعض الناس! فالأسلوب المقبول لديهم فى "التربية" ترك النفوس على سجيتها، ومنح الغرائز حرية السكون والحركة لتخط لنفسها المسلك الذى تحب دون حذر أو ضغط أو اعتراض..!! ولا يسعنا إلا أن نتساءل: إذا كان هذا برنامج "التربية" الرشيدة فما يكون برنامج " قلة التربية "؟ إن علماء النفس عندما شرحوا ناحية السلوك فى الغرائز الإنسانية قالوا : "يمكن أن يغير مجرى الغريزة فى نزوعها الأخير، إما بالتسامى، أو بالتعديل، أو بالكبت". ويقصدون بـ " التسامى" ربط الغرائز بمثل عليا تهيج لها وحدها وتخمد عند فقدانها. ويقصد بـ " التعديل " إشباع الغريزة بمظهر فيه العوض عما تبغى لأن حاجتها الأصيلة لا يمكن قضاؤها. فإن عزر هذا وذاك فليس إلا " الكبت "... ص _244(1/239)
فنأخذ مثلا " الغريزة الجنسية ".. إنها حقيقة لا يمكن تجاهلها. وتطلع البشر إلى إشباعها بالحق أو بالباطل، من الحلال أو من الحرام أمر مفترض، ولابد أن يحسب حسابه.. فما العمل؟ الحل الذى ارتضاه الله، واستكانت إليه الإنسانية هو الزواج. وهو اللون الوحيد من السلوك الذى يقبل فى إجابة هذه الطبيعة العامة. فإذا لم يتيسر هذا الحل، فهناك التسمى بالغريزة. ويقضى هذا التسامى بمنع صنوف المثيرات التى تعترض الشباب وتستفز الشهوات النائمة استفزازا، وتزين لها السقوط تزيينا. ثم شحن أوقات الفراغ بصنوف من الشواغل المعنوية والأعمال المادية والأعباء الحيوية. ثم إمتاع هذا الشباب بفنون التسلية الرفيعة التى يتبدد فيها لهب الغرائز وتخف حدتها إلى أن يستطاع تيسير الزواج، وتقريب الحل الذى ترى فيه النفس ريها الكامل. قد يقال: ليس فيما قلته كبير فائدة! فلا الزواج بميسور، ولا هذا التسامى بمغن، وسيصير الشباب ـ حتما ـ إلى الكبت الذي يفسد أخيلتهم ويمرض أمزجتهم! وهذا الكلام ينطوى على مغالطات فاحشة. فإن الكبت عنصر لابد منه فى كل تربية سليمة. والقول بأن النفس تجاب إلى كل ما تشتهى لا يمكن تعميمه لا فى عالم الإنسان ولا فى عالم الحيوان. هب رجلا أحب زوجة آخر. أينصح بمعاشرتها تجنبا لآلام الكبت؟ أم يقال له: الزم حدود العفاف وضوابط الأدب واكظم على ما فى نفسك من اشتهاء حرام!! إن الكبت يكون فريضة دائمة ـ مادامت الحياة ـ إذا تطلعت النفس إلى ما يستحيل تحقيقه، ويكون فريضة موقوتة إذا عرضت ظروف خاصة. وتصوير الكبت على أنه مثار كل عوج كذب على العلم. ص _245(1/240)
وإغراء الأولاد على الاسترسال مع جماح الهوى، أو مع حرية الإرادة - كما يقولون - لن يخلق جيلا محترما من البشر، بل سيخلق أجيالا واهنة العزيمة، سريعة إلى الجريمة، لا نفع منها ولا خير فيها. * * * نحن نعرف أن الحرمان الدائم له معقبات سيئة، وأن إعلان الحرب على الغرائز البشرية - بغية استئصالها - يتبعه رد فعل شنيع. ذلك أن الله لم يخلق هذا لغرائز لتكبح وتموت، بل لتحكم وتؤدى وظيفتها فى الحياة على صراط مستقيم. ومن قديم عرف "علماء التربية" أن التوسط هو الفضيلة. فإن كانت البطنة شرا، فلن يكون الجوع خيرا. ورياضة النفس بالتجويع ربما كانت أسوأ - فى عقباها ت من البطنة كما قال البوصيرى : واخش الدسائس من جوع ومن شبع فرب مخمصة شرمن التخيم ولكن الذى قال هذا فى التخويف من آثار الكبت قال: والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم وقريب من هذا قول! الشاعر: والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع!! والكبت فى أحوال كثيرة قد يكون تسليط الإرادة البصيرة على طبيعة عمياء، أو الإيثار العالى على أثرة صغيرة، أو تغليب العدالة والحرمان على الظلم والخطف، أو الشرف والكرامة على الدنايا العاجلة!! فكيف يعاب الكبت فى هذه المواطن كلها، وكيف يزعم زاعم أن إنشاء الأجيال الجديدة يجب أن يراعى فيه عدم الكبت؟ أخشى أن يكون عدم الكبت هذا أقصر طريق لخلق طوائف من الأنعام لا طوائف من الأنام ! إن الرجل يقف فى ميدان القتال فيهيج فى دمه حب الحياة، ويود لو نجا من منظر الموت الكالح. ص _246(1/241)
أفنقول له: لا تكبت هذه المشاعر؟ أم نقول له: دُس هذه الهواجس تحت قدميك واثبت ولو فقدت الحياة، واقتل! بالأبطال الذين يقنعون أنفسهم فى هذه المجالات بذلك الرد الوحيد؟.. أقول لها إذا جشأت وجاشت مكانك تحمدى أو تستريحى!! إن الحملة المجنونة على الكبت أوجدت شبابا طريا ورجولة زائفة لا صبر لها على شئ. وأوجدت منطقا يستبيح كل شىء بحجة الحاجة فحسب!! وفى ميدان الغريزة الجنسية رأينا تعمد خلط الرجال بالنساء فى ظروف مريبة وملابسات سيئة.. لماذا؟ منعا لأضرار الكبت!! وليت شعرى لماذا يحرم على الإنسان سرقة " بدلة " يشتهيها، ولا يحرم عليه سرقة عرض يلغ فيه بالباطل؟ إذا كانت الحاجة حجة محترمة مقبولة لأن " الكبت " وخيم العاقبة، فلماذا لا يعمم هذا المنطق فى شئون الحياة كلها، بدل وقفه على الناحية الجنسية وحدها؟ إن أخذ النفس بالشد واجب فى ظروف لا حصر لها. وتكليفها بحمل المشاق وتجرع المر، واحتمال الصعاب هو السبيل الوحيدة لإحراز النجاح وبلوغ القمم. وتاريخ العظمة الإنسانية فى شتى الميادين هو - فى الحقيقة - تاريخ لسلسلة من الكبت الموصول، والتعب المستمر، والتضحيات بالرغبات العاجلة!! وانظر إلى هذى الأبيات من حكم العرب: يقولون: هذا مورد. قلت: قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظمأ! * * * بصرت بالراحة الكبرى فلم أرها تنال إلا على جسر من التعب * * * لا يدرك المجد إلا سيد فطن لما يشق على السادات فعال * * * فجاشت إلى النفس أول مرة فردت على مكروهها فاستقرت ص _247(1/242)
والواقع أن الإسلام لم يكن بدعا فى شق طريق الإيمان وسط زحام من الأهواء المغلوبة والشهوات المكبوتة. نعم.. وسط الجهاد الصارم والكفاح الدائم والبطولة التى تهزم وساوس الشر وهواجس الإثم بسلاح من تقوى الله وحسن مراقبته. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " حُفَّت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ". الجنة المحفوفة بالمكاره، وهى ككل قمة فى ميدان العلم أو الأدب أو الحكم. أو الحرب، أو الإنتاج. لا يمكن أن تنال بالدعة واللذة، ولا أن تدرك بما يرسمه السفهاء من محاربة الكبت وإطلاق الطباخ الحيوانية تعربد كيف تشاء. كلا.. إنها تنال بالعفاف والخفق والصبر. ولا تنال بغير هذا من رخاوة وطراوة وعدم كبت... إن الجيل الجديد المدلل الذى نشهد الآن تكوينه، لا يصلح لدين ولا لدنيا. وكيف يظفر بهذه الصلاحية من يجعل هواه قانونا ومشتهياته تقاليد. لا لشيء، إلا لأن التربية فى نظره يجب أن تبتعد عن أساليب الكبت والقلق والخوف والتعب؟ إن التربية الصحيحة لابد فيها من تحمل الكبت ومواجهة التعب. ولابد فيها كذلك من اقتران الرغبة بالرهبة، واللذة بالألم. إننا لا نوصى بالعنف حيث يجب اللطف، وما ينبغى الجنوح إلى الشدة مادام للتوجيه الرقيق مجال. بيد أن القول بإبعاد القسوة عن ميادين التربية كلها أمر يصادم الطبيعة الإنسانية نفسها. ونحن الآن نجنى العلقم من هذه الآراء المرتجلة أو المنقولة إلى غير موضعها. ففى أسبوع واحد وقعت ثلاث جرائم بين قتل وشروع فيه!! ارتكبها التلامذة ضد أساتذتهم الذين حاولوا منعهم من الغش فى الامتحان!! كيف وقع هذا؟ إنها نتائج محتومة لترك الحبل على الغارب. ص _248(1/243)
إنها الثمرات التى لابد من جناها بعد ما تركنا شئون التربية لكتاب الروايات الغرامية أو صُنَّاع المشكلات الجنسية، أو نقلة الأفكار الأجنبية. إن الذين تخرجوا من الكتاتيب القديمة أشرف نفوسا وأنبل طباعا وألين عريكة وآمن على المصالح الخاصة والعامة من أولئك الذين خرجتهم الأساليب الحديثة، وصنعتهم سياسة محاربة الكبت. نعم.. كانت عصا الفقيه الجاد المؤمن أجدى من تدليل هؤلاء الذين مسختهم أفكار "فرويد" فما أحسنوا فهمها ولا أحسنوا تطبيقها. ولقد تتبعت المقالات والتعليقات التى كتبها الصحافيون بعد مقتل الأستاذ على يد تلميذه. فراعنى أن أغلبها يتناول القضية المؤسفة، وكأنه يعتذر للتلميذ القاتل أو يختلق لفعلته الأسباب المسوغة. ومن أعجب ما قرأت قول " سكرتير المجلس الأعلى للفنون والآداب ": إن الكبت الجنسى هو سر هذه الجرائم. أي أن هذا الشاب القاتل ـ وعمره ثمانى عشرة سنة ـ لو وجد فتاة يزنى بها ما غرز سكينه فى عنق المدرس المسكين!! وأنا لا أحكى هذا الكلام الفارغ لأناقشه. فالأمر أنزل رتبة من أن أتناوله برد. ولكن الذى أدهش له كيف يباح لكل من هب ودب أن يخوض فى آفاق التربية بهذه الجراءة، وأن يلطم وجوه المصلحين بهذه الآراء، أو بهذه السخافات؟؟ إن هناك كُتَّابا، حرفتهم الوحيدة حداء الغرائر السوء فى بيداء الحياة. يقوونها إذا ضعفت، وينشطونها إذا كسلت. فهل أولئك أمناء التربية فى بلادنا؟ والله لو أن آلامنا جاءت من قيود الكبت لبادرنا إلى علاجها وفك الناس منها، لكن مصائبنا جاءت من فوضى الانطلاق. فكيف يعالج السكر بمزيد من الخمر؟ ألا فلنعد إلى رباط الفضائل، نحزم به أمورنا، ونوثق به شئوننا قبل أن يفوت الأوان.. * * * ص _249(1/244)
ثم إن انحلال العزائم تحت ضغط الشهوات المتاحة والرذائل المستباحة، تبعه انحلال آخر فى الأفكار والآراء. أى أن الميوعة الخُلُقية صحبتها ميوعة عقلية لا تقل عنها نكرا. فترى أحلاس اللذة الموجودة، أو المنشودة، مصابين بنوع من البلادة الذهنية يسول لهم الحكم على الأشياء بتخبط ظاهر وقلة اكتراث.... أهو العجز عن التصور الصحيح؟ أهو الكسل عن دقة البحث وحسن الفهم! ربما كانت العلة هذا أو ذاك... وربما كانت استواء الخطأ والصواب عند هؤلاء المرضى بقلوبهم وعقولهم. فترى الواحد منهم لا يهتم بتمحيص قضية ما من قضايا الدين والدنيا لأنه يقول: هب النتيجة كذا أو كذا!! ماذا يعنينى...! إن الذى يعنيه شبع بطنه، وارتواء فرجه، وفراغ باله. واليوم خمر، وغدا خمر أيضا!! والأجيال التى تقاد من أهوائها، كالدواب التى تقاد من أرسانها، لا قيمة لها.! وأولى العلل فى مجتمع من هذا القبيل التافه هى النفاق، النفاق الخسيس المزرى. الرجل يغشى هذا المجلس برأى، ويغشى ذلك المجلس برأى آخر. بل إنه تحت بواعث الرغبة والرهبة يغير رأيه فى المجلس الواحد التماسا للرضا تارة واتقاء للسخط تارة أخرى.. ومادامت الأفئدة خواء من العقيدة فإن النفوس تتلون تلون الحرباء تبعا للجو الذى يحتويها. ولا أحسب الفساد السياسى والاجتماعى يطلب لنفسه أمثل من هذا الجو ليبيض ويفرخ. وقد شاع النفاق فى كل ناحية شيوعا يبعث على الأسى. بل لقد كثرت صوره حتى جعلت بعض الساخرين الظرفاء يتندر بطرافتها. وفى ذلك يقول الشاعر محمد مصطفى حمام: ص _250(1/245)
مادمت فى جنة النفاق فاعدل بساق ومل بساق ولا تقارب ولا تباعد ودر مع الثور في السواقي وضاحك الشمس فى الدياجى وداعب البدر في المحاق ولا تحقق ولا تدقق وانسب شاما إلي عراق وقل كلاما بغير معنى واحلف علي الإفك بالطلاق ولا تصادق ولا تخاصم واستقبل الكل بالعناق فأي شخص كأى شخص بلا اختلاف ولا اتفاق فأي شىء كأي شىء مادمت فى جنة النفاق ونحن نعوذ بالله من جنة النفاق هذه. ونريد لأمتنا مجتمعا يتسم بالصرامة والصراحة، وتزدهر فيه أخلاق الإيمان وشمائل الرجولة... مجتمعا يحق الحق ويبطل الباطل، وينصر الفضيلة بقوة، ويخذل الرذيلة بقوة. ولا يدارى فى تقبيح الفسوق، ولا ينكص عن تجبيه العابثين. ويستحيل تكوين هذا المجتمع إلا من معالم الإسلام الذى يكبت الأهواء ويعرف المعروف وينكر المنكر...!! ص _251(1/246)
الخاتمة * كلمة صريحة: ماذا يكسب الصليبيون من إصرارهم على السياسة الحاقدة التى انتهجوها ضدنا، سياسة تمويت الإسلام ومخاصمة أهله؟ إنهم لم يكسبوا لأنفسهم خيرا، ولا العالم استفاد من هذه الخطة الجائرة غير البغضاء وتواصل الحروب..!! لقد غبرت عليهم أربعة عشر قرنا وهم يفترون على الإسلام الكذب، ويضعون أمام دعاته السدود، ويعملون فى رقاب أهله السيف إذا أسعفتهم القوة، وينسجون لهم الدسائس إذا أعجزهم الضعف. فماذا جنوا بعد هذا كله؟ لا الإسلام مات، ولا قرآنه باد، ولا أمته هلكت. حقا.. إن الهزائم فى العصر الأخير خدشت كرامته، وحطت مكانته. لكن ذلك لم يلحق بالإسلام من غلب النصرانية عليه، أو سبقها إياه. وإنما لحق الإسلام من تفريط بنيه فى حقه، وغرورهم بطول انتصاره، وسلامة مبادئه. وهم مستأنفون سيرهم به لا محالة إذا تابوا من تقصيرهم، وثابوا إلى رشدهم. إن سياسة تمويت الإسلام سوف تفشل برغم ما حشد لإنجاحها من وسائل عظيمة. ولن يكون حظ الصليبية الجديدة أسعد من حظ زميلتها القديمة، وإن طال المدى. ولو عقل الأوروبيون والأمريكيون لراجعوا أنفسهم، وتراجعوا عن مظالمهم، وانسحبوا ـ فى هدوء وأدب ـ من بلادنا التى يحتلونها الآن، ويغمرونها بأفكارهم الخاطئة، وسلوكهم الشائن. إنهم ـ فى إصرارهم على قتل الإسلام مع ما يريدون من سطوة الإلحاد فى الأرض ـ يقدمون للشيطان أعظم العون، ويمهدون الطريق لاستيطان الفجور، واستكمال الباطل. أيها الناس.. دعونا نؤمن بربنا وكتابنا، ولكم دينكم ولنا ديننا. ص _252(1/247)
لقد وصفتمونا بأننا خصوم المسيح ـ كذبتم ـ فما وقر المسيح أحد مثل ما وقرناه. والله يعلم ـ والدنيا تشهد ـ أنكم أعنتم اليهود علينا، وفرشتم جثثنا لنعالهم، وهدمتم دورنا لسكناهم، وشرد تمونا بالعراء لإيوائهم.. وهم... اليهود... الذين يقولون فى عيسى وأمه ما تعلمون. إن ضغائنكم علينا تعيى العقول. ثم ماذا أيها الناس؟ زعمتم أنكم تحاربون الشيوعية لأنها كفر بالله. فهلا هادنتم الإسلام أو تركتموه ينهض بواجبه فى صون تراثه وذياد الإلحاد عن حقيقته...؟ إنكم لم تفعلوا شيئا من ذلك. إنكم أوهنتم قوى الإسلام، حتى تأكد لنا أن انتشار الشيوعية فى الأرض أحب إليكم من بقاء الإسلام معافى، ومن بقاء أمته موفورة. إنكم ـ للأسف ـ تكرهون الإسلام أكثر مما تكرهون الشيوعية، وتتمنون الخبال والذل لأمته أكثر من أي شئ آخر. فلما ذلك...؟ فى بلادنا الآن أمواج متلاحقة من تمرد الشباب، وخلاعة النساء، واطراح الفرائض، ونبذة الصلاة والزكاة، والجراءة على الله وحدوده. فمن أين أتت هذه المفاسد؟ إنها من صنعكم أنتم. من عواصمكم أقبلت، وعلى أيدى رجالكم امتدت. إن الكفر بالله، والاستهانة بالوحى ، جاءا من "لندن " و"باريس " و"هوليود" قبل أن يجيئا من "موسكو". ونحن ـ ولله المنة ـ أقدر منكم على مطاردة الإلحاد الأحمر والأصفر بما بقى لنا من مواريث، وما سلم لنا من عقائد. وكلمة أخرى إلى المؤمنين الأيقاظ، والمكافحين الأحرار: إن الصراع بيننا وبين الغرب لم يدخل بعد دوره الحاسم. ص _253(1/248)
ذلك أنه طُردَ من أقطار شتى، ولكن مخلفاته ـ وهى أخطر منه ـ بقيت تؤدى رسالتها، وتكمل ما بدأ به وأعجلته الأيام عن إتمامه. فاحذروا مخلفات الاستعمار. احذروا هذا الصنف من الناس الذى احتل الغرب قلوبهم وعقولهم، ولم يخرج منها إلى الآن. احذروا هذا الصنف الذى يكره دينه، لأن الغرب بغضه إليه ويجهل تعاليمه، لأن الغرب صرفه عنها. ويثرثر بكلمات فى الإصلاح، وفى القضايا العامة، لا وزن لها ولا قيمة، لأنه ببغاء، يحسن الترداد ولا يعقل شيئا. إنه عبد فى صورة حر. وذنب فى سمت سيد. وجاهل فى إهاب متعاقل. احذروا هذا الصنف وإنكم لواجدوه فى كل مكان. فى المهندسين، والمحامين، والأطباء، والمدرسين، وفى الصحافيين، والمذيعين والموجهين، بل كذلك فى نفر من علماء الدين. إن التحرر الحقيقى أن نغسل بلادنا من أدران الاستعمار بعد أن جلى عن كل شبر فيها. وأن نستأنف القيام برسالتنا العتيدة فى العالم دون عوج أو انحراف.(1/249)