... ...
الجمهورية العربية السورية ... كشف خفايا علوم السحرة
موافقة وزارة الإعلام ـ مديرية الرقابة ... (الجزء الأول)
تحت رقم/79541/ تاريخ 2/6 /2005 ... لفضيلة العلاَّمة الإنساني الكبير
محمَّد أمين شيخو
- ... قدَّس الله سرّه
جمعه وحققه المربِّي الأستاذ
عبد القادر يحيى الشهير بالديراني
تطلب كتب فضيلة العلاَّمة الإنساني الكبير
محمَّد أمين شيخو قدس الله سره من:
دار نور البشير
سوريا ـ دمشق ـ ص.ب: ( 11777)
هاتف: 6329717(0096311)
عنوان دار نور البشير على شبكة الانترنت:
www.ThingsNotSaid.org
فضيلة العلاَّمة الإنساني الكبير
محمَّد أمين شيخو
قدّس الله سره
كَشفُ خَفَايَا عُلومِ السَّحَرة
(الجزء الأول)
... جمعه وحقَّقه المربي الأستاذ ...
عبد القادر يحيى الشهير بالديراني
نظرات من إيحاءات علوم العلاَّمة الإنساني الكبير
... محمَّد أمين شيخو (قدِّس سره) ...
...
دفع الفضول كثيراً من الناس وحبب إليهم الاستطلاع إلى مكنونات الأمور، واستقصاء توابعها من توقعات للمستقبل القريب والبعيد، فراحوا يلجؤون إلى الكهنة والعرّافين والبصّارين والسحرة المشعوذين.
فَحَلا للكثير منهم مع قهوة الصباح مطالعة أبواب الحظ " الأبراج " بالصحف، قبل الانطلاق للعمل والدخول في دوامة الحياة اليومية، رغبة ملحّة فيهم باستجلاب التفاؤل والبشرى، والتشوق ليوم عامر بالأمل والبهجة .. ولكن..!.
ومنهم من يظل باحثاً وراء كل نافث له بعُقَد، أو كاتبٍ له برقْية، أو متعوّذ له من جمْع وتفريق.
كما أنَّ منهم من يبحث عمَّن يُلحِق بأعدائه أذى بسبب الحسد والعين، أي بواسطة هؤلاء الدجالين السحرة. وآخرين يرغبون لرؤية خوارق العادات وإلى غير المألوف.(1/1)
ومنهم من يرغب برؤية الكرامات " ظنّاً منه أنها كرامات " من ضرب شيشٍ وتحضير أرواحٍ، وإخبارٍ له بالمغيبات من التكهّن والتبصير والمندل ... وأيضاً فإنَّ منهم من يطمع إلى جمع القناطير المقنطرة من الذهب وكشف الكنوز الذهبية من باطن الأرض دون جهد ولا عمل، فيلجأ للسحر والسحرة.
كما أن منهم من يطمح إلى رداء العظمة والتّفوق على البشر، أي على مبدأ إبليس اللعين: {.. أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ ..} (12) سورة الأعراف، يطمح إلى حب السيطرة والاستعلاء على الغير.
كما أن منهم من يبغي الفواحش ولكن خفية عن الأنظار، فيلجأ أيضاً إلى السحرة بل التلمذة عندهم ليغدو ساحراً منهم، يمارس ما بطن من الفواحش.
متى يظهر السحرة؟. ... وعلى مر العصور والأزمان تظهر في المجتمعات بؤر من الأوبئة والضياع الروحي
والإنساني،ناشئة من نوازع وشذوذات أخلاقية وانهزامات مسلكية عن الشريعة والنهج القويم، مآلها إلى هاوية تُودي بصاحبها إلى الدمار الإنساني من أجل لذائذ قاتلة فانية وزائلة تعقبها الآلام،حيث يفقد المرء إنسانيته ويتمسك بأهوائه، يريد أن يحقق لنفسه ملذّاتها من طريق ناري حقير قذر، فيغدو الإنسان عدواً لبني البشر
أيّاً كان، حتى ولو كان ابنه أو أخاه أو أمه يسعى ليرديهم مثله، ليفقدهم شخصيتهم، فيكرِّس وجوده ليمسخ استقلال ذاتهم ويسلبهم إرادتهم، ليراهم منقادين له طائعين، ولو خرج على الناس بوجه إنساني متلبِّساً الخوارق،أو الحكمة والعلم،أو الطب الروحي والمداواة المادية والنفسية.
ألا إنهم (السحرة والمشعوذون)، ولطالما هناك فئة كبيرة من الناس لا تفكر لذا تنقاد وراءهم، تؤمن بقدراتهم وأفكارهم، وفي خضمِّ هذه الحياة وطغيان المادة تزداد سوقهم رواجاً في مثل تلك الفئات الساذجة من الناس.(1/2)
لذا كان لا بدَّ لنا من الوقفة بحلقات متعاقبة، نكشف فيها للقراء الكرام حقائق تلك البؤر من السحرة والمشعوذين المختبئين وراء الطيالس والجبب، أو العمائم واللحى، أوالمظاهر الخدَّّاعة من أسماء متباينة:(كعالم مغناطيسي، وطبيب روحاني، وساحر نافث بعقد، ومنجِّم فلكي، وشيخ صاحب برهان يضرب الشيش، وآكل الزجاج، والسائر على النار، والعائش لفترة تحت الماء، محضر للأرواح، ومُخبر بالمغيَّبات، متكهن، بصَّار، أو ضارب بمندل) وغيرها ... تعددت الوجوه والشعوذة واحدة،وكلها تنصبُّ في بوتقة واحدة من مشرب آسن.
لِمَ علوم العلاَّمة وحدها كشفت علوم السحر؟. ... فمن أراد كشف زيفهم ودحض باطلهم فليس له إلاَّ الرجوع للقرآن الكريم والسنَّة المطهَّرة؛ كشَّافا خفايا علومهم ومكنونات
سرائر أخبارهم وأخبار أوائلهم وأواخرهم، وإبطال مقالاتهم، وردِّ مذاهبهم المهلكة، فالقرآن الكريم كتاب: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ..} (42) سورة فصلت. انتشرت في عصرنا هذا ظاهرة تبدو غريبة وعجيبة كونها تخللت في فئات اجتماعية وثقافية مختلفة..ألا وهي الميل والتصديق بأولئك الناس الذين يستخدمون "السحر"،ويدَّعون بأنهم يمتلكون القدرة على تسخير عالمَ الجن المؤمن لتحقيق الأماني والأحلام، وحلِّ المشكلات التي استعصت على الناس.(1/3)
ونظراً لأهمية هذا الموضوع وخطورته أحببنا أن نسير بالأصول في سبيل كشف طوايا السحر، وتعريف الناس بمدى مصداقيته وفعَّاليته، فلم نجد من يكشف حقائقه على وجهها الصحيح أبداً إلا العلاَّمة الإنساني الكبير محمَّد أمين شيخو "قدِّس سره"، ولهذا اقتبسنا حلقات البحث الآتية من أفكاره وعلومه المستوحاة من كتاب الله الذي ما فرَّط فيه تعالى من شيء، وبذا كان" العلاَّمة قاهرهم " الذي كشف حقائق هذا المجال من الدجل، وفصَّل فيه تفصيلاً مستنداً إلى أدلَّة علميَّة ومنطقيَّة وشواهد من كتاب الله تعالى، ولسان الحال يقول لأولئك الذين آمنوا بعدوهم الطاغوت: {قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ،أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} (66-67) سورة الأنبياء.
كلُّ ساحرٍ متسوِّل ... الكثير من الناس شاهدوا منذ عدة سنوات أولئك الذين كانوا يسيرون في الشوارع والأسواق، ويمارسون أمام الناس
ألعابهم ( أبواب سيما ) كيف يُخرِجون من أفواههم البيْض وليرات الذهب وشفرات الحلاقة والطيور، والغريب كل الغرابة: أن هذا ( الساحر) المُوجد من العدم، والعالم بالغيب على زعمه، تراه بعد انتهائه من ألاعيبه هذه وبنهاية العرض يمدُّ يده للناس ليعطوه النقود لقاء عرضه على ما فعل وأتى، ليسدَّ رمقه من جوعه وفقره إذن!. فالسحر أبداً لا يأتي بالمال، فلِمَ لا يخلق الساحر نقوداً وأموالاً ولو لكفايته فقط ؟!. تغنيه عن التسول لسدِّ رمقه!.
مَثَلُهم في ذلك من القرآن الكريم السحرة الذين استدعاهم فرعون ليأتوا بسحرٍ عظيم يبطل معجزة العصا التي جاء بها سيدنا موسى عليه السلام .(1/4)
قال تعالى يصف فقرهم وتسوُّلهم: {فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} (41) سورة الشعراء، أي: إن غلبنا تعطينا أجراً، وبهذا يطلبون مالاً وهم أساطين الإتيان بالعجائب والغرائب، مع أن كلاًّ منهم سحَّار عليم ولا يؤتون أنفسهم ما يكفيهم العَوَز!. وأمثالهم السحرة في كل زمان ومكان.
أيضاً هناك أشخاص يدَّعون أنهم من أهل الله وما هم من أهل الله، ومن أصحاب الكرامات وهم أصحاب السفالات، فيقومون بضرب أنفسهم بآلات حادة كالرماح والسكاكين أمام حشد من الناس،أو يقومون بتحضير الأرواح، ومنهم من يستخدم ما يسمونه بالمندل في كشف الأمور الخفية، وهناك من يقضي أياماً وأسابيع في بحيرة تحت الماء دون هواء بواسطة القرائن الشيطانية التخييلية، أو يمشي على الجمر حافي القدمين، أو يأكل الزجاج، وقد تم تصوير العديد منهم.
وإذا سألت هؤلاء الناس الذين يدَّعون بأنهم من أهل الله عن سبب قيامهم بمثل هذه الأعمال لأجابوك: إننا نقوم بها لدعم وإثبات صحة دين الإسلام أمام الكفَّار. مع أنهم يقومون بها في قرى إسلامية ليس فيها كافر. إذن: هم يعتقدون أن الناس جميعاً كفرة ما عداهم. فنقول:
أولاً:
الإسلام دين عقل ومنطق،وأصول وقوانين يسير عليها الإنسان ليصل إلى الإيمان فالتقوى، وهي :( الاستنارة بنور الله )، ليست طريقاً اعتباطياً وخروجاً عن القوانين والأنظمة الكونية الملموسة المحسوسة، والمخالفة للتفكير الذي به يتميز الإنسان عن الحيوان،هذه الأمور المخالفة للواقع والمناقضة للتفكير برؤية من يدخل السكين أو الرمح في بطنه،أو من يمشي على النار ليخيِّل إلى ناظره أنه يفعلها، إنَّما هي سحر وتخيُّلات وهمية، والإسلام دين حقائق يدرك الإنسان سموه بسلوكه، لا بنظره إلى أفعال المشعوذين والدجَّالين.(1/5)
الصابئة أقدر على العجائب الشيطانية من هؤلاء ... ولو كان الإسلام يقاس بضرب الشيش فيجب أن نتبع عبَّاد البقر والنار , فكما ذكر ابن بطوطة في أخبار السحرة في بلاد الهند:
أنه سمع ورأى منهم العجائب، فأثناء زيارته للهند دخل على سلطان أحد البلاد، وكان عنده رجلان يلتحفان بالملاحف ليعيشوا بنفوسهم في عوالم القرائن السفلية الشيطانية، ويغطُّون رؤوسهم لأنهم ينتفونها بالرماد كما ينتف الناس آباطهم، فأمر السلطان بأن يُريا ابن بطوطة العجائب، فتربع أحدهما ثم ارتفع عن الأرض حتى صار بالهواء فوق رؤوس الجالسين وهو متربع، فأغمي على ابن بطوطة من هذا المشهد، ولمَّا صحا من إغمائه كان الشخص لا يزال مرتفعاً بالهواء متربعاً، وحمل الرجل الآخر نعلاً وضرب بها الأرض، فصعدت النعل إلى عنق المتربع، وجعلت تضربه وهو ينزل قليلاً قليلاً حتى عاد وجلس على الأرض.
وكذلك روى ابن بطوطة عن عجيبة ثانية شاهدها في بلاد الصين من أحد السحرة: حين أمره الأمير بأن يريهم العجائب، فرمى بحبل طويل في الهواء فامتد بنهايته حتى غاب ممتداً في السماء عن الأنظار، ثم أمر طفلاً ليصعد الحبل فصعده في الهواء حتى اختفى عن الأنظار،ثم دعاه لينزل ثلاث مرات فلم يفعل، فأخذ المشعوذ سكِّيناً حملها بفمه وصعد الحبل المنصوب بالهواء خلف الولد حتى غاب أيضاً، ثم رمى بيد الصبي،ثم برجله، ثم بيده الأُخرى ... ثم برأسه، لقد قطَّعه بالسكين، ثم نزل المشعوذ للأرض وهو يلهث وثيابه ملطخة بالدم، وقبَّل الأرض بين يدي الأمير وكلَّمه بالصيني، فأمر له الأمير بشيء من المال، ثم أخذ أعضاء الصبي فألصقها وركله برجله فقام سويّاً. وكان معه قاضٍ اسمه " فخر الدين " قال لابن بطوطة :
(والله ما كان من صعود ولا نزول ولا قطع عضو إنما شعوذة وخداع بصر).(1/6)
قال تعالى عن سحرة فرعون: {.. سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (116) سورة الأعراف فإذا كان عبدة البقر والنار يفعلون هذه الأفعال التي بحقيقتها تخيُّلية، أليس من الأوْلى أن يكون دينهم هو الدين الصحيح؟!. إن كان المقياس بهذه الأمور ( من ضرب للشيش، وقرط للزجاج، ومشي على النار..) لإثبات صحة الإسلام ، فالأعاجيب التي رآها ابن بطوطة في الهند والصين والتي لا يزال السحرة هناك يمارسونها حتى يومهم هذا أعظم من أعاجيب مدَّعي الإسلام والإيمان ( أصحاب الشيش الذي لا يُذكر تجاه أعاجيب سحرة الهند والصين التخييلية والشعوذات)، وهي تصدر عن أناس يعبدون البقر والنار، فهل ديانتهم التي انحدروا منها صحيحة؟!. ذلك إن كان ما يدَّعيه المشعوذون بأنهم هم من أهل الله وهذه لهم كرامات!!.
وأيضاً ما يعمله بعض السحرة الروسْ أو مَنْ يسمُّون أنفسهم علماء مغناطيسيين، يعرضون عجائبهم على المسارح في "دمشق" كيف أن أحدهم يحدِّق بعيني فتاة معه على أعين الناس، ويشير بأصابعه على وجهها فيغمى عليها وتقع، فيتناولها بكلتا يديه ويمددها على طاولة على مرأى من الجمهور وهو على المسرح، فيتمتم فترتفع الطاولة بمقدار نصف متر بالهواء، ويأخذ حبلاً ثخيناً، فيلفَّها ويربطها بالحبل ربطاً محكماً بالطاولة، ثم يسكب عليها البنزين ويشعله عن بعدٍ فتحترق الطاولة والفتاة، وبعدها يصفق بكلتا يديه فتخرج الفتاة نفسها من باب خلفي بالمسرح لتحيي الجمهور وهي سليمة معافاة، ومن ثمَّ يتقاضى أجره على ما فعل، فأي شيش ورمح يذكر تجاه إحياء الموتى بعد حرقهم؟!.
أوَ ما تفوَّقت لعبة الساحر على كرامة الشيشيين ضاربي الرمحَ بأجسامهم أو آكلي الزجاج لإثبات صحة الدين؟!.
فعجبٌ قولهم، والأعجب من يصدِّقهم!..
ثانياً:(1/7)
وإن العقل السليم والفكر القويم لا يقبل بأن إنساناً يضرب بدنه بسكين ولا يؤذى،ولو كان ذلك صحيحاً لكان أسبقهم في هذا المضمار الرسل الكرام:
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ .. } (11) سورة إبراهيم وصحابتهم" وحاشاهم "، والذين مَن استشهد منهم في المعارك إثر الطعن والجروح.
فهذه الأفعال طبعاً هي أفعال سحرة حصراً، ولا مجال لأخذ ورد في ذلك، كما حاول البعض في تفسير مثل هذه الأفعال تفسيرات علمية ففشل!!.
فأي علمٍ هذا الذي يفسِّر المشي على الجمر والنار،أو إمرار رمح من جانب البطن ليخرج من الجانب الآخر تفسيرات مادية؟!.
فالإنسان يتكون من لحمٍ وعظمٍ، ومن جملةٍ من الأعصاب والأحاسيس والعروق الدموية، فهل بُنْيتهم غير بنية بقية البشر، أم لهم خلْق وقانون حياتي آخر حتى لا يتأثروا بالنار وقطْع الرماح والسكاكين؟!. وهم ولدوا مثلنا وأكلوا مما أكلنا!. بل هم من طينتنا وعجينتنا،أصلهم بنو بشر لكنهم ارتدوا نفوس قرنائهم من خبثاء الجن من أجل ارتكاب الفواحش الخفية بنفوسهم، يصاحبون القرناء الذين شطنوا لعالَمنا استجابة لنداء خبثاء الإنس السحرة، فعبروا عبر أجسامهم لنفوسهم فلبسوها، هنا جعلوا قرناءهم من الجن لباساً لأجسامهم الذين هم من النار مخلوقون، لذا كانت السيطرة لنفوس الجِنَّة وقاية لهم من الاحتراق بالجمر الذي كانوا عليه يدوسون، فقاموا بأعمال الجِنَّة الإبليسية التخييلية النفسية لا المادية :تخييل للأعين لا حقيقة.(1/8)
فلو وُجِد بين المتفرجين على أعاجيب الساحر مؤمن شهودي واحد قلبه مرتبط برسول الله السراج المنير صلى الله عليه وسلم وذكر اسم الله في نفسه لفرَّت القرائن الشيطانية بنفوسها من جسم الساحر، ولتوقَّف شغل الساحر ولما استطاع الإتيان بعجيبة واحدة، عندها هو يعلم عِلمَ اليقين أنه لو داس على الجمر لاحترقت قدماه، ولو ضرب الشيش "الرمح" في بطنه لمات، وحلّت به الآفات، فمتى فُقِدَ الإيمان الحقيقي الشهودي ظهرت نفوس القرائن من الشياطين على السحرة بعد عبورها بهم بناءً على طلبهم،فبوجود المؤمنين الذاكرين الله المرتبطة قلوبهم بسراجهم المنير صلى الله عليه وسلم قُضي على السحر والسحرة، وبطُلَ دجلهم وتعطَّل سريان خبثهم، فإن كان المؤمن قوياً قُضي على إفكهم ودجلهم، أي: احترقت شياطينهم تماماً كما قضى سيدنا موسى عليه السلام على شياطين السحرة فآمنوا، ونور ونار لا يجتمعان.
وكذلك كما قضيَ على السحر والسحرة بعد ظهور سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية إلا قليلاً ممن قضى عليهم صحبه الكرام البررة.
وإن فُقد الإيمان استشرى هذا المرض من السحر وراجت سوق السحرة، وما هم بضارين به من أحدٍ إلا الخبثاء المرتكبين كبائر ما يُنهون عنه من المحرمات كالفواحش... عندها يتم الاستحقاق على العصاة ما لم يتوبوا ويسلكوا مسالك الحق وأهله، فإن تابوا بصدق زال عنهم تأثير كل سحر، وانتقلوا بقلوبهم إلى عوالم النعيم المقيم والغبطة الأبدية مع النبيين أو الصدِّيقين أو المشاهدين للحق أو الصالحين، وحسنت حياتهم وطوبى لهم.
إذن: ما هذه الأعمال إلاَّ محض سحر وعلاقة وتعاون مع عالَم الشياطين بالخفاء، حتى تظهر هذه التخييلات والأوهام لتسحر أعين الناس.
ثالثاً:
السحرة هم أشد الناس بعداً عن الاستقامة ... الاستقامة عين الكرامة، فليست الكرامة أن يطير الإنسان بالهواء، ولا أن يمشي على الماء، لأن كثيراً من الحيوانات والحشرات تفعل ذلك.(1/9)
وقد صدق الشيخ أمين كفتارو (رحمه الله) بقوله:
(الكرامة الحقيقية أن تخرق عوائد نفسك لا عوائد الكائنات).
وقد جهد الشيخ على تصحيح ذلك الفهم الخاطئ الذي كانت الناس ولا تزال تتخذه مقياساً في تمييز الولاية من الأعمال البهلوانية الفارغة، والتي تظهر على يد الشيوخ السحرة كما تظهر على يد الفاسق، والتي ما أُثرت عن سلف صالح ولا عن خلف طامح(1)، فالحقيقة لو أنك تتبعت أفعال وسلوك السحرة ( الذين يدَّعون الإسلام ) لوجدتهم أشد الناس اقترافاً للمعاصي والفواحش.
فما هذه الأفعال (ضرب الشيش، وأكل الزجاج، والمشي على الماء كما يدَّعون أو النار، والتنبؤات الغيبية بواسطة القرائن الشيطانية) ما هي إلا دجلٌ وسحرٌ وخزعبلات{.. وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (69) سورة طه(2)، والإسلام دين منطق وقوانين سامية، لا خروج فيه عن النظام الكوني البديع الصارم بالدقة، والذي بالنظر فيه يتولد الإيمان، وبالإيمان تكون الاستقامة على أمر الله، والاستقامة عين الكرامة، حيث تتبدل صفات النفس الذميمة وعاداتها القبيحة بالصلاة الصحيحة، فتنحتُّ الشهوات الذميمة وتتبدَّل بصفات الكمال، من حُسْن الخلق ولطف المعشر والكرم والشجاعة والصفات الإنسانية الكريمة.. وغيرها...
رابعاً:
__________
(1) لطفاً انظر كتاب الشيخ أمين كفتارو في ذكرى مرور خمسين عاماً على وفاته.
(2) سورة طه: الآية (69) .(1/10)
إن كان أهل الكرامات " أهل البدع " في هذا الزمان أولياء الله وأحبَّاؤه من دون الناس، والشيش لا يؤثر بهم، والنار لا تحرقهم، ويدَّعون علم الغيب زوراً، ولا يعلم الغيب إلاَّ الله،ولكنها القرائن الخبيثة الشريرة تنقل لهم ما يسمعون من قرائن غيرهم عن الناس... فلِمَ لا يفعلون خيراً ويحرِّروا إخوانهم المسلمين من أيدي المغتصبين؟!. فلا رصاص يؤثر بهم ولا قنابل وهم الألوف المؤلفة يشكِّلون جيشاً!. بل إنهم فقراء متسوِّلون يسألون الناس، فلم لا يغنون أنفسهم كيلا يذلُّوا؟!.
وما سمعناه عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يجرحون بالقتال، ومنهم من ذهبت عيونهم في المعارك، وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه استشهدوا، ونالوا شرف الشهادة بسبب الطعن سواء بخنجر أو برمح أو بسيف، فهل هؤلاء الأولياء ( أصحاب الشيش،أو السيخ ) من غير طينة البشر حتى لا تؤثر بهم المادة؟!. أم أنهم فاقوا الصحابة الشهداء بالولاية؟!.
خسئوا وخابوا. بل حاشا وكلاَّ.
خامساً:
لا معجزة بعد القرآن الكريم بأدلَّة قرآنية: ... القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الأبدية، ولا معجزات غيره(1). فالله تعالى يقول في محكم كتابه وبنص صريح واضح بالآية :
{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} (59) سورة الإسراء.
فهؤلاء قريش طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزة، فأنزل تعالى عليه الآية:
{ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ }: فهلك الأولون، إذ جاءت المعجزات وما آمنوا.
__________
(1) انظر كتاب (محمَّد أمين شيخو يرد على معارضيه) ص/439/ بحث القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم الأبدية.(1/11)
وقوم ثمود طلبوا الناقة معجزة من سيدنا صالح عليه السلام، فظلموا أنفسهم بعقرها فهلكوا ... فكان آخر علاج لهم وانتهت قضيتهم بالهلاك لهم،والله لا يحب لهم ذلك المصير.
وبهذا الخطاب الموجَّه لطالبي المعجزة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول لهم تعالى: {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا} فالآيات كلها وغيرها كالقحط والأعاصير والزلازل ليحصل الخوف، فتلجأ نفس المرء إلى ربها خشية الحساب والعذاب، ويعلم الإنسان أن هناك يداً تسيِّر وتمد، فإذا لم يخف الإنسان ولم يجتمع فكره مع نفسه، فيفكر ببدايته حين كان نطفة وبنهايته حين يوضع في القبر ليصدق في طلب الحق والحقيقة، فلن يسير بطريق الهدى ولن يهتدي.
فقوم فرعون رغم كل ما جاء به سيدنا موسى عليه السلام من معجزات، كالعصا التي غدت حيَّة، واليد التي تخرج بيضاء، بل الآيات التسع كلها كذَّبوا بها: {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (132) سورة الأعراف
فكفروا وما استفادوا لأنهم ملتهون بالرذيلة، ولم يفكروا بآيات الله فهلكوا.
وقوله تعالى: {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا...} (203) سورة الأعراف : لولا أتيت بها، معجزة تشهد برسالتك، فأجابهم صلى الله عليه وسلم بما أمره تعالى: { قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي }: هذا القرآن { هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ }(1)، بياني هذا ألا تفكرون فيه؟. ألا يوصل هذا للحق ؟!. القرآن معجزة، هذا الحق الذي يفيدكم،
أما هو منطق؟!.
__________
(1) سورة الأعراف: الآية (203) . ... ...
...(1/12)
كثيرٌ رأوا المعجزات فما أغنت عنهم، ألا يقتضي منكم أن تفكِّروا في القرآن وتسيروا به؟!. فإن لم يسلك الإنسان طريق الإيمان الذي بيَّنه تعالى مهما رأى وسمع فلن يستفيد شيئاً، لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ }(1)، ومشيئة الله تعالى مبنيّة على صدق الإنسان بطلب الحق وتركه المنكر: {..ِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..}(2).
{وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً ..}(3): فمتى صدق المرء بطلب الحقيقة والحق عدّل تعالى له أموره، فإن صلّى طهرت نفس هذا الإنسان، ومتى صدق يلج الإيمان قلبه لا بالمعجزات، فعليه التفكير بالموت حتى تذعن نفسه، وبهذا تجتمع النفس مع الفكر، عندها إذا فكَّر بآيات الله من شمس وقمر وليل ونهار ومطر وغيوم وسماوات وأبراج ونجوم وغيرها من الآيات الظاهرة الكثير ... يستدل بأن له خالقاً مربِّياً مسيِّراً، يده مهيمنة على الكون، فيستقيم فيقبل على الله، فيلج الإيمان صدره ويسري في كل ذرة من نفسه، ويُشرح صدراً بالإسلام، فيصبح محسناً لكل الخلق، وهذه هي الغاية من خلْقنا وإخراجنا للدنيا: بأن يصبح المرء إنساناً حقاً تأنس به سائر المخلوقات(4)،وحينما ينتقل إلى دار المقر الأبدي بالآخرة يبيضُّ وجهه بأعماله الطيبة عند الله، فيرقى بالجنات العليَّة، هذا مراد رب العالمين من خلْقنا،للسعادة الكبرى خُلقنا وهذا طريقها.
__________
(1) سورة الأنعام: الآية (111). ... ... (2) سورة الرعد: الآية(11). ... ... ...
(3) سورة الأنعام: الآية(115).
(4) لطفاً انظر كتاب البحوث المجيدة بحث(غاية الحق من إيجاد الخلق). للعلاَّمة الكبير محمَّد أمين شيخو (قدِّس سره).(1/13)
ولو أُنزلَت آية لما قال سبحانه وتعالى: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}(1): فلا توجد ثمة إشارة بالقرآن الكريم بأنه أنزلت آية واحدة (معجزة) غير القرآن الكريم على رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ ..}(2)، أبعد هذا البيان والآيات الصريحة من يجرؤ فيقول أن هناك معجزات غير القرآن
(ضرب الشيش) وما يسمونه كرامة تهرُّباً(3)؟!.
سادساً :
نظرة : ... المعجزات ما أفادتْ كل الأمم قبل المسلمين شيئاً. وقد ضرب الله تعالى لنا من الأمثلة عن
هل تفيد المعجزات؟!.
__________
(1) سورة الشعراء: الآية (4) . ... ... ... ... (2) سورة العنكبوت: الآية (51) .
(3) أما قضية الإسراء مسألة خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً ..} سورة الإسراءالآية(1)، وليست أمام الملأ من قريش، كما أن انشقاق القمر أثبت القرآن الكريم نفيها والعلم أيضاً، فكيف يدخل نصف القمر في كُمِّ الثوب وهو أكبر من عشرة آلاف جبل من جبال حيملايا. لطفاً انظر كتاب "محمَّد أمين شيخو يرد على معارضيه"بحث"القرآن معجزة الرسول الأبدية". ص/439/.(1/14)
الأقوام السابقة، فقوم بنو إسرائيل رأوا المعجزات: ( انشقاق البحر، والعصا ضرب بها سيدنا موسى عليه السلام الحجر فانبجست منه اثنتا عشرة عيناً، والأفعى، اليد البيضاء، وبقية معجزات سيدنا موسى عليه السلام التسع كلها ... ) ومع هذا تركهم أربعين يوماً فعبدوا العجل رغم وجود سيدنا هارون عليه السلام معهم، وما أفادتهم المعجزات شيئاً. فمن ذا الذي سيؤثِّر بكراماته التخييلية أكثر من تلك المعجزات؟!. كانفلاق البحر اثنا عشر فرقاً كل فرق كالطود العظيم، حيث وقفت المياه كالجبال جامدة ورأت بنو إسرائيل ذلك ... فما أن خرجوا من الماء ومروا على قوم يعبدون الأصنام حتى طلبوا من سيدنا موسى عليه السلام أن يجعل لهم صنماً يعبدونه. فأين ضربة الرمح " الشيش " المزعومة من تلك المعجزات؟!.
وسيدنا عيسى عليه السلام أحيا الموتى، وخلق من الطين كهيئة الطير، ونفخ فيه فغدا طيراً ذا لحم ودم بإذن الله، وشفى الأكمه والأبرص بإذنه و...
ومع كل ذلك كذّبته اليهود وكادت لقتله، فحرموا أنفسهم من هذا الفضل (عيسى عليه السلام)، إذ آواه تعالى وأمَّهُ إلى ربوةٍ ذات قرار ومعين. فأين مُدَّعو الكرامات من هذه المقامات وهذه الآيات؟!. .
سابعاً:
هل بضرب الشيش هدى الصحابة - رضي الله عنهم - الأمم؟!. ... المعجزة تأتي بما يناسب الزمان والأقوام وكما سبق وقدمنا:
? فسيدنا موسى عليه السلام جاء بعصر
السحر،فأتى بمعجزات قصمت ظهر السحر وأبطلته في العالم كلِّه آنذاك،وجعلت السَّحرة يلقون بعلمهم ساجدين أمام عظمة علم سيدنا موسى عليه السلام،هذا ولم يستفد فرعون وقومه ولا حتى بنو إسرائيل شيئاً.
? وسيدنا عيسى عليه السلام جاء بعصر الطب، فجاء بمعجزات تعلو فوق علومهم الطبيَّة، ومع ذلك لم يستفيدوا شيئاً.(1/15)
? وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جاء في عصر الشعر والشعراء، عصر البلاغة والفصاحة. ببيت شعر واحد ترفع القبيلة أو تُذل، فجاء بمعجزة القرآن الكريم التي ما أبقت على شاعر ولا بليغ ولا فصيح إلا وأذهلته وأعجزته ولو كان من المعارضين. فكم وكم بعثت قريش من فصحائها وبلغائها لينظروا ماذا يتلو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فينقلبوا صاغرين مادحين راكعين أمام هذه المعجزة، بل وتحدَّاهم أجمعين أن يأتوا بمثله فما أتوا، وتحدَّى العصور كلها بذلك فما أتوا ولن يأتوا أبداً، فكان المعجزة الخالدة منذ ما ينوف عن:/ 1400/ سنة وإلى قيام الساعة.
فهل الصحابة الكرام هدوا الأمم الضاربة المعتدية بضربهم الشيش؟!. أم بنقلهم هذه المعجزة الخالدة إلى العالمين!.
إذ من المعلوم بالبداهة أن الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين وعامتهم لم يكونوا يعملون السحر ولا تعلَّموه ولا علَّموه.
ثامناً:
النتيجة العملية خيرٌ من الوهم: ... ألا ترى بعينك أخي القارئ توافد غير العرب على الإسلام بسبب الشيش وغيرها من خرافات وشعوذات؟!.
وإن كان الشيش دلالة حق للإسلام بزعمهم، فكما ذكرنا فإن السحرة بالهند والصين عندهم ما يفوقه بكثير: من تقطيع وتوصيل،وتحريق وإحياء.. فهم أحق بالإتباع من الإسلام بهذا الزعم الخاطئ. أنصدقهم ونقبل بعبادة النار وعبادة البقر؟!.
وأخيراً:
الإسلام دين عقل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:« دين المرء عقله، ومن لا عقل له لا دين له»(1)، فهو بريء من كل ما ألصق به من الخروج عن المنطق والمعقول، ومما ينافي القرآن الكريم كلام الله وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الجامع الصغير ج3، رقم الحديث /4242/.(1/16)
فالكفر لا يزيله من النفس رؤية الخوارق ولا المعجزات، وأنه ليس يخلِّص الإنسان من الكفر وينقله إلى الإيمان إلاَّ شيء واحد، ألا وهو إعمال الفكر والتأمل في هذه الكائنات، فهي صنع الإ?له العظيم القائم عليها بالإمداد والتسيير، مع يقين طالب الحقيقة بالموت الذي لا بدَّ واقع والخشية منه، فيتم الصدق للإيمان، أو الإصغاء المقرون بالتفكير إلى نداء المنادي يدعو الإنسان إلى الإيمان ... ليصل به إن كان صادقاً للشهود اليقيني، وفي الحديث الشريف:
« تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة»(1)، فبالتفكير بصدق للوصول للحق تؤمن كما آمن أبونا إبراهيم عليه السلام وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بغار حراء .
" وسنأتي على تفصيل ذلك لاحقاً "
( ( (
{.. إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}(2)
تقهقرت مركبة الإسلام، وضعف الحق في قلوب الرجال من بعد قوة أنكاثاً، وأمسى الدين غيضاً، وانتشر الجهل فيضاً، سبب ذلك هجر الناس سلوك التفكير واتباعهم طرق التقليد، فعمَّت أساليب السحر كل ميدان، واتخذ المشعوذون الإسلام مطيَّة لمآربهم الخبيثة .
لبس الذئب ثوب الإنسان ليخفي بين أنيابه الموت الزؤام، وغدا للباطل صولة ولأهله دولة، وصار العوام من الناس كريشةٍ في مهب ريح هَوجاء تتلاعب بهم وتتقاذفهم ثم تُسقِطَهم صرعى، لا يعرفون للنجاة مخرجاً:
وإذا ما خلا الجبان بأرضٍ ... ... ... ... ... ... طلب الطعن وحده والنزالا
إلا أنها رحمة الإ?له منقذة العباد تأبى الظلم والهوان، وتسعى دائماً للنهوض بالإنسانية وصلاً، وإتمام الأنوار القدسية فضلاً وتكرُّماً.
__________
(1) وعن ابن عباس وأبي الدرداء بلفظ " فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة ".
(2) سورة طه: الآية(69).(1/17)
دار الزمان دورته، وقد أشرقت شمس عليَّة بدَّدت حالك الظلم، ففاضت ينابيع الحكمة الإ?لهية على قلب علاَّمتنا الجليل محمَّد أمين شيخو، وجرت على لسانه بعلوم عمليَّة واقعيَّة كشفت خفايا علوم السحرة وألاعيبهم الشيطانية، إنها حقائق جبارة، نسفت باطلهم أصلاً، ودعمت الحقَ رُكناً.
أآلهة جديدة في سماء الإسلام؟!.
قد يعجب المرء من هذا العنوان، بل قد يعدُّه كفراً وإلحاداً بالنسبة لرسالة الإسلام السامية التي تدعو إلى إ?له واحد.
ولكن لو بحثنا وتقصّينا أخبار تلك الطرق الهامشية التي اسْتُجلِبَت مؤخراً إلى المسلمين جرّاء احتكاكاتهم بالديانات الأخرى ( الزرادشتية، والهيلينية ولا سيما الهندية.. )، إذ لما سعى العبَّاد بالعكوف على الطاعة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يُقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والإنفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة،كان ذلك عامّاً بين السابقين، ولا يزال يترقى الزاهد العابد بين الصفاء والأحوال حتى يشهد أن لا إ?له إلا الله، وينتهي إلى المعرفة والتوحيد التي هي الغاية المطلوبة للسعادة، ثم ينهض للعمل والجهاد لمرضاة الله الرحيم.
غير أن بعض المتأخرين الذين لم يؤمنوا بلا إ?له إلا الله حقاً، ولا يبغون الإيمان بالله، انصرفوا إلى تلك الخلوات غايتهم كشف الحجب والكلام الاستعلائي في المجالس، بعد أن باؤوا بالفشل للاستعلاء في الظاهر، فعمدوا إلى البحث عن وسائل للاستعلاء من طرفٍ خفي.(1/18)
واختلفت طرق الرياضات الروحية في إماتة القوى الحسيَّة، وانحرفوا بمنهجهم عن الاستقامة،وأدركوا أن التجرُّد النفسي يحصل لصاحب الجوع والخلوة، فاختلوا دون استقامة، وجاعوا بنيَّة الاستعلاء،وشفَّت نفوسهم وصفت، ولكن لتعكس العوالم السفلية، وصدَّق عليهم الشيطان ظنَّه وتعلَّموا منه السحر، وخرجوا على الناس يدَّعون التنبؤ والاتصال بالغيب، والاستمداد من السماء ومحاكاة النجوم، وأن بينهم وبين الله نسباً،كما أن بينهم وبين الجن المؤمن نسباً .. هؤلاء السحرة والمشعوذون الدجّالون المختبؤون وراء ألبسة رجال الدين والطيالس واللحى، توسعوا باتصالهم بالسحرة من غير بلادهم، فأتوا لأقوامهم بالسحر باسم الكرامة، وألبسوا أنفسهم هالات مقدَّسة سيطرت على عقول السذَّج من الناس، من أنهم يستطيعون أن يقرِّبوا إلى الله من يشاؤون، ويحرموا من الجنة من يشاؤون، ويسيطروا على من يشاؤون ليعصوا الله متى تمكَّنوا، ويفعلوا ما يحلو لهم بسحرهم وتعاويذهم وتعزيمهم وما إلى ذلك..
وادعوا أنهم من أهل التشريف لا من أهل التكليف، فيعصون الله، وعصيانهم هم وحدهم من دون الناس فقط طاعة {.. قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ..}(1).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخلع ثوب الطاعة حتى لقاء الله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}(2):أي الموت، فهل هم خير منه صلى الله عليه وسلم؟!. حاشا وكلاَّ.
وهكذا لجؤوا بمكرهم وحيلهم إلى ادِّعاء سلطة خفية يستمدُّون منها سلطانهم، فبسطوها على البُلْه وغير المفكرين، حيث لاقت أرضاً خصبةً ومرتعاً حسناً لها عندهم لضعف عقولهم وعدم تفكيرهم وخبث نواياهم، وكل هذا حرب منهم على كلمة: (الله) ودينه الحق، وطاعةً للشيطان الأول إبليس اللعين عدو بني سيدنا آدم عليه السلام.
__________
(1) سورة المائدة: الآية(18). ... ... ...
(2) سورة الحجر: الآية(99).(1/19)
ونسبوا تلك الطرق لأناس صلحاء هم منها براء.
بعد ذلك تولَّد للإسلام أطفاله العاقُّون الضالّون إثر الهرطقات(1)والفلسفات وتجديداتها واندماجاتها التي أسقطت الفواصل التقليدية بين التقسيمات الإسلامية، وكلها تمجِّد وتقدِّس الأولياء وتتبرَّك بقبورهم، وتُلبس عليهم قصصاً شعبيةً من الخرافات والشعوذات. وذهب أولئك إلى ما ذهبت إليه الصابئة من أصحاب الروحانيات الذين يقولون:
( لا نتعرَّف بصانع الكون المقدَّس عن سمات الحدثان، وواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله، وإنما نتقرَّب إليه بالوسطاء المقرَّبين لديه، وهم الروحانيون المطهرون المقدَّسون جوهراً وفعلاً وحالةً.
المقدَّسون عن المواد الجسمانية، المبرَّؤون عن القوى الجسمانية، المنزهون عن الحركات المكانية والتغيُّرات الزمانية، فنحن نتقرَّب إليهم، ونتوكل عليهم، فهم أربابنا وآلهتنا ووسائلنا وشفعاؤنا عند الله، وهو ربُّ الأرباب وإ?له الآلهة(2).
فالواجب علينا أن نعمل ما يجعل لنا مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات، فنسأل حاجاتنا منهم، ونعرض أحوالنا عليهم، ونصبو في جميع أمورنا إليهم، فيشفعون لنا عند خالقنا. واستمدادنا من جهة الروحانيات لا يتم إلا بالتضرُّع والابتهال بالدعوات، وإقامة الصلوات وتقريب القرابين والذبائح، وتبخير البخور وتعزيم العزائم، فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة، بل ويكون حكمنا وحكم من يدعي الوحي على وتيرة واحدة). وذلك ما نجده في كثير من أقوال أولئك السحرة المحتالين. ألِدين الصابئة نعود بعد أن هدانا الله؟!.
اللهم احفظنا بقرآنك الحكيم.
* ... * ... *
بين الشرك والارتباط
__________
(1) الهرطقات: فلسفة الكفر.
(2) قولهم هذا عين ما قاله وثنيّو قريش عن الأصنام:.} ..مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى.. { سورة الزمر: الآية(3).(1/20)
لو اتَّخذ المرء الحيطة لصيانة دينه من عبث الأهواء، وأعمل تفكيره فيما أتاه عن السابقين، وأرجع نتائج ما وصل إليه إلى كتاب الله تعالى ربّ العالمين الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لرسا مركبه على شاطئ الأمان.
فزيغُ الأغراض عند الزنادقة والملاحدة جعلتهم يتصيَّدون الفرص لإشباع أهوائهم بالدس والكذب، والاختلاق في الحديث والسيَر للتشنيع على أهل الإسلام وتعكير صفائهم.
وتقادمت الأيام على هذه الروايات، ومضى عليها حين من الدهر، واقتصر الناس بوجهتهم على أولئك الأشخاص ( أصحاب الكرامات والعجائب في الروايات والتنبؤ بالمغيبات لاسيما التي نسبت لأناس صلحاء هم منها براء)، وعكفوا عليهم، وظنوا أن لهم حولاً وقوة، وبذلك انقطعت نفوسهم عن الله وعن الخوف من الله، ووقعوا فيما وقعوا فيه من الشرك والبعد عن الله بسبب الغلوِّ في الدين، والخروج عن الحد الذي رسمه الله تعالى للناس بكتابه الكريم.
فالله تعالى أمر بني آدم بالارتباط برسلهم والإقبال بمعيَّتهم على الله، ليكون أيٌّ من هؤلاء الرسل الكرام سراجاً منيراً لنفوس المرتبطين بهم وضياء لقلوبهم، وبواسطتهم يتوصلون إلى معرفة الله، وبالنور المتوارد على نفوسهم من الله تعالى يستطيع المقبلون بمعيَّتهم على الله أن يروا الكمال الإ?لهي والأنوار البهية، وهذا ما يوضح لنا قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).
وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(2).
__________
(1) سورة الحديد: الآية(28). ... ... (2) سورة الأحزاب: الآية(56).
(2) سورة الإسراء: الآية(57). ... (4) سورة التوبة: الآية(16).(1/21)
فما الصلاة على النبي في حقيقتها إلا الصلة والارتباط بتلك النفس الكريمة الطاهرة نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم الدائمة القائمة في حضرة الله.
المرتبط بنفسه برسول الله صلى الله عليه وسلم يعرج له بها صلى الله عليه وسلم بلطف إلى حضرة الله، وتكون نفسه صلى الله عليه وسلم سراجاً منيراً للنفس المرتبطة بها، وضياء لقلب المصلي بمعيَّتها، على ذلك استند المؤمنون بإقبالهم على ربهم بمعيَّة الصالحين المقبلين الذين تأهَّلت نفوسهم لأن تكون ضياء وواسطة إلى السراج المنير صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}(1).
وقوله تعالى: {.. وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ..}(2).
أولئك الذين يدعون ربهم حقاً، يبتغون إليه الوسيلة برسول الله صلى الله عليه وسلم، يرتبط به ليقبل معه على الله، وإن لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتبطون بأقرب مؤمن صالح، يتوسلون إلى الله بالقريب أكثر، فأقرأ شخص وأعلم وأفهم إنسان يُنتخب إماماً ليدخل المصلُّون بمعيَّته، وهذه هي الشفاعة والوسيلة،ولا إله إلا الله، وكل مرشد
أو رسول فهو معلِّم.
وما مثل المرشد في هذا إلا كمثل القارب يحمل الذين يريدون السفر فينقلهم من الشاطئ إلى السفينة العظيمة، فمهمة القارب تنحصر في النقل من الشاطئ إلى السفينة لا تعدو ذلك، أما السفينة فتنتقل إلى لجج البحار، بحار المعرفة والمشاهدة للكمال الإ?لهي . فالسفينة واحدة، والقوارب التي تنقل إليها عديدة، فإذا مات المرشد فقد انتهت وظيفته وانتقلت إلى مرشد حيّ آخر من بعده:
{
__________
(1) ... ...(1/22)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ } , {رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ..}(1).
فقد أمر تعالى المؤمنين جميعاً بالاعتصام والارتباط بهذا الرسول الكريم، وعدم التفرُّق عنه، وثبت هذا المعنى بصريح الآية بأمره تعالى{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ ..}(2)، فما الحبل إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ }(3)، وما خصَّ الله تعالى عالماً دون عالم، فهو صلى الله عليه وسلم رحمة ومنقذ للإنسانية وهادٍ للبشرية جمعاء :
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ} { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(4): أيضاً مؤمنين أمّوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليوصلهم لحضرة الله كالفريق الأول المذكور في أول الآية. {.. لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ..} :بالزمن. أي: سيأتون بأزمان من بعدهم، آمنوا بالله وساروا على نهجهم على كتاب الله، كذلك يتلو عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات الله بالصلاة ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، هؤلاء المؤمنون الذين تولدت في أنفسهم ثقة بأعمالهم الطيِّبة واستقامتهم وطاعتهم لربهم فأقبلوا على الله بمعية رسوله صلى الله عليه وسلم بإذن منه تعالى حيث حصلت لهم الطهارة، وإلى ذلك أشار تعالى:
{
__________
(1) سورة النور: الآية(36-37). ... ... (2) سورة آل عمران: الآية(103). ...
(2) سورة الأنبياء: الآية(107). ... ... ... (4) سورة الجمعة: الآية(2ـ3). ... ...(1/23)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}, {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(1)، وبهذا السراج يرى المؤمن المصلي بقلبه المستنير الكمال الإ?لهي والحكمة من الأوامر وما فيها من خيرات.
أما السير بدلالة المرشدين من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى : {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(2)، فهؤلاء من بعد الرسول يدعونك إلى سلوك سبيل الحق، فإذا أنت سرت بدلالتهم المأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حصراً من كتاب الله انبعثت في نفسك الثقة برضاء الله عنك، وعندها تقبل على الله تعالى، وبإقبالك عليه تعالى ينطبع الكمال في نفسك.
يدخل الإنسان على الله بواسطة نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاهرة النقيّة بمعية رجل مؤمن، تجمع نفسك بنفسه وتقبل معه.
أما إذا قصر الإنسان وجهته على الرسول أو الولي أو المرشد الصالح واتَّجه إليه وحده دون أن يتجه بمعيته إلى الله فذلك هو الشرك بعينه، وهو أشبه بعبادة الأصنام وهذا ما يدَّعيه السحرة.
وللوقوف موقف المعتدل بين أولئك الذين غالوا في دينهم فقصروا وجهتهم على المخلوق دون الخالق فوقعوا في الشرك بتحوّلهم عن الله، وبين أولئك الذين أنكروا الارتباط بالصالحين وأنكروا الإقبال على الله بمعيّة الرسول الكريم، فليس الأولون على حق بشركهم وتحولهم عن الله، ولا الآخرون على حق بإنكارهم الوسيلة وانقطاعهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالتالي عن حضرة الله، وقد ذكرها تعالى بالقرآن:
{
__________
(1) سورة الأحزاب: الآية(45ـ46). ... ...
(2) سورة آل عمران: الآية(104). ...(1/24)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا}(1)، فكلا الفريقين السابقيْن بإفراط أو بتفريط، حادوا يمنةً ويسرةً عن الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم، والوسط الحق هو: أن يقبل المؤمن على الله وحده بمعية وصحبة المقربين إلى الله من الأحياء المستقيمين على أمر الله وحده في كتابه الكريم، وهناك يرى هذا المؤمن نور وكمال الله وعدله، ويشهد بعين بصيرته أن الكون كله مسيَّر بأمره تعالى وحده، ويعلم حق العلم أن لا إ?له إلا الله حقّاً وصدقاً.
* ... * ... *
هل يجوز الارتباط بالشيخ عبد القادر الجيلاني
أو الشيخ أحمد الرفاعي أو غيرهم من الأولياء السابقين
( رحمهم الله)؟!.
لا يكون الارتباط إلا بالأحياء، إذ أن وظيفة المرشد الكامل تتضمن عملين اثنين:
? فهو يدلك أولاً بمقاله على الله، ويعرِّفك بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدلالة على الله ضمن كتاب الله وحده .
? وهو إلى جانب ذلك يصل بك إذا أنت صدقت معه وارتبطت به قلبياً إلى محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب الخلق جميعاً إلى الله، فبحبك الصادق لهذا المرشد الكامل ينطبع في نفسك ما هو مطبوع في نفسه من الحب العالي لله ولرسول الله، فلا تلبث أن ترى نفسك مرتبطة بهذا الرسول الكريم ملازمةً له لا تنفكُّ عنه في اتصالك بالله وإقبالك العالي عليه تعالى.
فإذا وجدك قد وصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لك: إلزم هذا الباب فقد انتهت مهمتي معك، إذ بلَّغتك من جعله الله تعالى باباً للعالمين، وأمر بالارتباط به أي الصلاة عليه كافة المؤمنين. وإلى ذلك أشار الله تعالى بالآية الكريمة:
{
__________
(1) سورة الإسراء: الآية(57).(1/25)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(1): أي: صِلُوا أنفسكم أيها المؤمنون بنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم ليعرج بكم للحضرة الإ?لهية، فتستنيروا بنور الله استنارة دائمية بالحياة والبرزخ والآخرة، فتصبح ممن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيْمانهم، فالشياطين منهم تفرّ وهي مذؤومة مدحورة، فهم مصابيح الهدى والخير للإنسانية جمعاء.
أما الارتباط بالمرشدين والأولياء بعد انتقالهم فإنه يذهب بوعي المرء وإدراكه ويجذب نفسه .
إذ أن العطاء الذي يتوارد على هؤلاء المرشدين ما أن يتفرغوا له بعد انتقالهم من الحياة الدنيا حتى يُذهل نفوسهم، ولا يدري أحدهم إلاَّ وأن يوم القيامة قد حدث، وكأن القيامة قامت بيوم انتقاله، حيث لا يشعر بالمدة الزمنية الفاصلة بين يوم وفاته ويوم القيامة إلاَّ أنها لحظة أو أقل، لما يغدقه تعالى عليه من عظيم عطاءاته وجليل النعيم، وليس باستطاعة هؤلاء المرشدين بعد موتهم الالتفات إلى مريديهم لذهولهم بما تفضَّل الله به عليهم، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فهم مشغولون مشغوفون بتجلي ربهم العظيم، وجزيل جميل ما ينصبّ عليهم من النعيم المقيم جزاءً بما قدَّموا من جليل الأعمال الإنسانية النافعة لخلق الله.
أما الرسل صلوات الله عليهم أجمعين فإن وظائفهم لا تنتهي إلى يوم القيامة، ولا يتفرغون لعطائهم إلى ذلك الحين: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} , {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ }?, ?{لِيَوْمِ الْفَصْلِ}(2). , { أُوْلَئِكَ.. }: أي: الأنبياء والمرسلون: { ..الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ..} (90) سورة الأنعام(3): أيها المؤمن، فلا يجوز الاقتداء بالأولياء بعد موتهم،
__________
(1) سورة الأحزاب: الآية(56).
(2) سورة المرسلات:الآية(11ـ13). ... ... ...
(2) سورة الأنعام:الآية(90).(1/26)
لا بالشيخ عبد القادر الجيلاني ولا الشيخ أحمد الرفاعي ولا شاه نقشبند رحمهم الله، ولا بسواهم بل بالأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، لقوله تعالى عن النبيين:
{ ..الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ..} .
أما الطرق والمذاهب التي خالفت صريح القرآن الكريم فهي باطلة رغم كثرتها:
{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ..}(1).
وهاكم قصة واقعية:
يعترف فيها صاحب كرامة وخارق العادة برؤيته حقيقة عمله أثناء يقينه بالموت.
* ... * ... *
الرجل الذي هوى
هوت السيارة نحو الوادي، وأفلتَ زمام مقودها من السائق، جحظت العيون نحو المصير الرهيب(الموت) كيف سيكون، وتسمَّرت تجاه الهويان المريع نحو برج من أبراج التوتر الكهربائي العالي الحامل لتيار قطر من الأقطار المجاورة.
وعلم الجميع أنهم هالكون لا محالة، إن لم يكن بالهوي العشوائي فبالاصطدام بعمود التيار الصاعق الحارق الحامل لعشرات الآلاف من الفولطات الكهربائية والتوتر العالي.
جأرت الألسن بالدعاء، والأنفس بالتضرع الصادق: يا الله إنا إليك تائبون، يا الله أنقذنا، يا مغيث يالطيف الطف بنا يا الله يا الله ... وتعالت صيحات الرعب والهلع المريع.
وفي تلك اللحظة المرعبة حيث الموت يكمن بعد ثوان تضرَّع رجل ضال:
(ربَّاه إني تائب).
صدر التضرع عن قلب صادق، إذ أيقنت نفسه لا بدَّ وأنها هالكة بالصعق الكهربائي، فدارت أمامها أعماله بلحظة منذ بلغ السادسة عشرة من عمره حتى يومه هذا، عملاً عملاً بلمح البصر، فلم تَجِد إلاَّ ما يخجلها أمام ربها، فتضرَّعت بالتوبة الصادقة والإنابة والعهد على الاستقامة والإقلاع عن رفاق السوء .
واصطدمت السيارة بالبرج العالي، وشاءت القدرة الإ?لهية أن تقذف بعمود التيار العالي بعد الاصطدام للاتجاه المعاكس، فنجا الجميع بيد اللطيف الخبير..
__________
(1) سورة الأنعام: الآية(116).(1/27)
خرج الرجل من السيارة، وعلم يقيناً عندما أيقن بالموت أن سيره على ضلال، وأن كل ما كان يفعله من قربات لمشايخه وكرامات إن هو إلا شرور وارتكابات ومعاصي، تصل به بعد الموت إلى عذاب جهنم.
عاهد ربه على التوبة والاستقامة من قلب صادق، فهل يرجع إلى شيوخه السحرة وقد شاهد الحقيقة أنه لا فلاح بطريقهم ولا خير أبداً؟!.. حتماً لا، فمن سينزل معي إلى الحفرة إلى القبر الذي ينحصر فيه المستقبل المرعب الذي شاهدته؟!.
ومن سيواجه الملائكة دوني؟!.. وكيف أواجه ربي بنفسي الكاذبة الخاطئة وأعمالي المنحطة؟!.
فلا بدَّ لي من مرشد صادق آوي إليه يحملني على السير بما أمر الله بكتاب الله، فالله أنقذني من الموت بالدعاء الصادق وسيجمعني بالصادقين بالدعاء الصادق.
وشاءت القدرة الإ?لهية أن تجمعه مع مؤمن يعلم أنه صادق، والله يدعو إلى دار السلام. قصَّ عليه قصته وما جرى معه:
لازمت شيوخاً أولي طريقة شيشية، رأيتهم يصنعون خوارق ومعجزات تبرهن على دين الإسلام، فأحببت أن أنقل تلك البراهين والكرامات لقومي، وهم من البدو المستقرين المتمدنين، وأن أقوم بها بنفسي من ضرب شيش وقرط زجاج ومشي على الجمر، فسلكت الطريقة، ولم يكن طلبي بعيد المنال سوى أن سلَّمتُ نفسي لشيخ الطريقة السحرية، فأجازني أينما كنت إن أحببت صنع الخوارق ما علي سوى ذكر شيخي والارتباط بنفسي به، ومن ثم أشعر وكأن أسياخاً من النيران وتيارات نيرانية تنتابني وتسري في جسمي، ومن ثم أقوم بتلك الأعاجيب والخوارق التي هي تخييلات، ولا يؤثر فيَّ الشيش والزجاج والجمر (إذ أصبح الشيطان قرينه ومحركه ومسيّره كما يشاء من حيث يدري ولا يدري).
ولكن حين واجهت الموت رأيت ذلك كله هلاكاً عليَّ وضلالاً، نعم علمت ذلك أثناء يقيني بالموت المحتَّم عند هوي السيارة نحو عمود التوتر العالي، ورأيت كافة أعمالي منذ سن بلوغي حتى يومي ذاك.(1/28)
ولم تكن تلك الكرامات والخوارق سوى هلاك لا عذر لي بها، ولست على شيء من الحق، رأيت ذلك حقيقة وأيقنت به عين اليقين.
والآن تبت عن ذلك، وأنا بين يديك لتعلمني الطريق الصحيح والسلوك القويم. فأجابه المرشد:
الولي هو المتابع لأمر الله، فكن متابعاً لأمر الله تكن ولياً، ولا تستطيع أن تتغلب على نفسك ونزواتها إن لم تثبِّت ذلك اليقين بالموت بنفسك، وكفى بالموت واعظاً، وعليك بالبحث والاستدلال من خلال الآيات الكونية(1):
من شمس وقمر وليل ونهار وصيف وشتاء.. عن الوجود الإ?لهي، وبذلك تؤمن بلا إ?له إلا الله حقاً وتحجزك عن محارم الله.
والقوانين لتلك الخلوات الربانية صباحاً ومساءً وقيام الليل،وارد ذكرها في كثير من مواضع القرآن الكريم:
{وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}(2)، {.. وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ}(3)، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}(4).
وعليك بالبحث الدؤوب والتصميم الصادق حتى تشاهد طرفاً من أسمائه تعالى الحسنى، وإلاَّ ستغلبك نفسك وأهواؤك وتنسى تلك الحادثة واليقين بالموت، وتهبط بعد سمو وعلو، وتكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً لا سمح الله، إن لم تسر بهذه الأصول للوصول لحضرة الله:« ابن آدم اطلبني تجدني.. » كما بالحديث القدسي.
__________
(1) يوجد في القرآن الكريم المئات من الآيات التي تحثُّ الإنسان على التفكير في خلق الله وتلفت نظره.
(2) سورة الأحزاب: الآية(42). ... ... (3) سورة ق: الآية(39).
(3) سورة الإنسان: الآية(26).(1/29)
تبدلت أحوال الرجل، وأصبح يشعر بحلاوة الإيمان والسعادة تختلجه من صحبة ذلك المؤمن، وتواردت عليه الأحوال السامية والراحة والهناءة والسرور المنبعث من ثنايا قلبه، إلاَّ أنه اكتفى بتلك المشاعر والأحوال، ولم يسع من ذاته بذاته، فلم يفكِّر ولم يطلب ربه من ثنايا صنع الكون، فطال عليه الأمد بعد نسيانه لذكرى الموت وآلف قلبه على تلك الأحوال، فلم يعد يتجاوزها للشهود واليقين برب اليقين،ومن ثم وبعد عدَّة أشهر قسى قلبه لتعود نفسه وتشتهي تلك المسالك الشهوانية الجهنمية(1)، والصحب القدامى ذوو الكرامات الإبليسية والشهوات البهيمية.
فنبهه مرشده من مغبَّة أمره وحذَّره، ولكن شهواته المنحطة تغلَّبت عليه، فلم يرعوِ وسدر بطلب الغي ثانيةً.
وأبت الرحمة الإ?لهية أن تتركه.. فقد أيقظ مرشده ذات ليلة بطريقة مثيرة، وقد اعتراه الذهول وموجة من الحيرة والاستغراب وقال:
لقد رأيت مناماً رهيباً .. رأيت أنني وإياكم واقفين أمام ضريح سيدي عبد القادر الجيلاني ببغداد.. وكنت أقف باحترام جَمّ كأنما أقفُ بالصلاة..
كان ضريحه على مرتفع من الأرض، صعدت وأطللت على الضريح، وإذ به مفتوح والشيخ عبد القادر الجيلاني مضطجعاً به يلبس ثياباً بيضاء وهو بنفس عمري، فناداني هات يدك يا صالح، فقفز بنشاط وهمة إلى خارج القبر المفتوح بقفزة رشيقة واحدة.. فحدثتني نفسي قائلة:
كيف يقول مرشدي أن وظيفة الأولياء تتوقف بعد انتقالهم من هذه الدنيا ولا تبقى إلاَّ وظيفة الأنبياء؟!. ها هو القطب الجيلاني قائماً بالوظيفة حيّاً يرزق وهو ولي وليس بنبي!.
__________
(1) لا يثبت المرء على توبته ما لم يؤمن بالله حقاً وشهوداً بل ينكص على عقبيه، وكثيراً ما يُلاحظ نقض التوبة عند التائبين إثر السجون أو المتأثرين بوفاة مقرَّبين، لأن التأثير خارجي تزول التوبة بعد فترة، ولم تنبعث التوبة من قلب صادق مؤمن.(1/30)
ها هو ينطق ويتكلم بجلال وجمال بديعيْن. فأجابني مولاي عبد القادر الجيلاني صاحب طريقتي على ما تحدثت به نفسي بصوت رخيم مسموع وقال: أنا لست بنبي، النبي وظيفته قائمة لا تنتهي،أما أنا فوليّ مؤمن، آمنت في حياتي والحمد لله، فلا وظيفة لي بعد انتقالي، وإنني بريء مما نسب لي ..
فكل ما يتحدثونه عني لا أعلمه، بل نسبوه دجلاً وظلماً لي، وما ذكره لك هذا المؤمن حق صادق، هو ينصحك فالزم غرزه،وأنا وظيفتي بالدنيا انتهت والسلام.
كانت تلك الرؤيا آخر النذر لذلك الرجل المسكين الذي ضرس نفسه بأنياب الشياطين، وأصابه الخزي في الحياة الدنيا، ولعذاب الآخرة أكبر إن لم يتب توبة صادقة فيؤمن ويثبت على الحق.
إذ بعد عدة أشهر من صحبة أهل الحق بدأت نفسه تتوق لطرق الهلاك الشهوانية الإبليسية، وقسا قلبه لأنه لم يجاهد بنفسه حق الجهاد، وأعطاها هواها فانتكس وعاد لطرق الضلال، ولو آمن لنجا.
اللهم ارزقنا إيماناً لا كفر بعده.
* * *
كرامات أم شيطانيات!!.
بل افتراءات على الشيخ عبد القادر الجيلاني(رحمه الله)
وقد نسب السحرة دجلاً للشيخ الجيلاني خوارق عادة أسموها كرامات، وهي دليل وبرهان على صدق الولاية والقرب من الله، بالرغم من أن سحرة الصابئة أقدر على صنع ما هو أكثر منها خرقاً وإعجاباً، وقليل من التفكير الصحيح وعرض ما ذكروه على سنن الشريعة الواردة بالقرآن الكريم يجد أي امرئ مسلم مهما قلَّت ثقافته الدينية تفاهة أمرهم، إذ:
1- قالوا: أن الشيخ عبد القادر حين كان طفلاً رضيعاً كان لا يرضع في نهار رمضان، والسؤال:
هل الطفل الرضيع يكلَّف بصيام أو مجاهدة أو غير ذلك؟!.(1/31)
2- وقالوا: كان صغيراً في بلده جيلان وقد خرج إلى السواد في يوم عرفة وتبع بقرة حراثة، فالتفتت إليه البقرة وقالت: يا عبد القادر ما لهذا خُلقت، بعد هذه المخاطبة قرر السفر إلى بغداد ليشتغل بالعلم ويزور الصالحين، لكن الخضر أوقفه سبع سنين، ومنعه من دخول بغداد، وأقام على الشط يأكل الخضرة والبقول حتى أصبحت الخضرة تظهر من عنقه. إذن:
البقرة أرشدته إلى سبيل تحصيل العلم، أكان مريداً لبقرة؟!. وهو القطب الأعظم والغوث الأكبر!. وإن كان الله أنطقها، فلِمَ أرسل الخضر على زعمهم يمنعه من دخول مدينة العلم؟!.
وهل في ذلك أدنى تحقق شرط للكرامة من تحدٍ وإيمان للكفرة؟!.
والنباتيون الذين لا يأكلون لحماً طوال حياتهم لم تعمل الخضرة في أعناقهم ما أظهرت في عنق الشيخ عبد القادر الجيلاني!.
3ـ أخذ نفسه بطريق المجاهدات، فمكث سنة يأكل المنبوذ ( القمامة) ولا يشرب الماء، وسنة يشرب الماء ولا يأكل ، وسنة لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ، ولما نام بإيوان كسرى احتلم أربعين مرة، واغتسل بالشط أربعين مرة.
أما عن أكل المنبوذ: فقد أحلَّ الله لنا الطيبات، وحرَّم علينا الخبائث، والمؤمن قلبه طيب، ولا يأكل إلاَّ طيباً. ألم تَرَ أهل الكهف حين قالوا{.. فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا ..}(1). وقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ .. }(2).
أما تلك الأفعال من الامتناع عن الطعام والشراب لمدة سنة كما قالوا أو كلاهما
أو واحدٌ منهما فإنها أفعال ومجاهدات شيطانية ليس إلا، ما أنزل الله بها من سلطان، كذا الجمل لا يأكل ولا يشرب قرابة الأسبوع والأسبوعين لأن الله هيَّأ له سناماً يحمل فيه ما يحتاج إليه على شكل دهون وشحوم.
__________
(1) سورة الكهف: الآية(19). ... ... ... (2) سورة المائدة: الآية(4).(1/32)
والدب القطبي ينام بضعة أشهر دون أكل ولا شرب، وكذلك البطريق يصل صيامهُ إلى حدِّ أربعة أشهر، أما الإنسان فلا يقوى على شيء من ذلك، والرسول صلى الله عليه وسلم قال:«.. ما بال أقوام قالوا كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني»(1).
وقالت عنه قريش: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}(2). فمن هذا الذي تفوّق على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!. واخترق قوانين الإ?له!. {.. وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا}(3).
وأما الاحتلام أتلك كرامة أم رذيلة؟!. أليست محض دعوة شيطانية لما بطن من الفواحش؟!.
إنما الشيطان يأمر بالسوء والفحشاء، والله ينهى عن الفحشاء والمنكر.
4- ولم يكن يُعرَف إلا بالتخارس والبكم والجنون، وكان يمشي حافياً على الشوك، لم يأكل حتى قيل له: بحقي عليك كُل، ولم يشرب حتى قيل له: بحقي عليك اشرب، وما فعل أمراً حتى أُمر بفعله.
وهل يأمرنا تعالى أن نتبع مجنوناً؟. ألم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم، ومن تابعهم بإحسان من بعدهم :«..أصلحوا لباسكم حتَّى تكونوا كأنكم شامةٌ في الناس..»(4). كما أن الله يحب المتطهرين لئلا تنفر الناس منهم ومن دينهم. وإن كان يفعل ما يؤمر فلِمَ يحلف عليه تعالى بحقي عليك؟!.
5- لما كلِّف بالكلام أخذ من الله سبعين موثقاً أنه لا يُمكر به، وأن لا يموت له مريد إلا عن توبة. أوَلا يكفي موثقاً واحداً؟!. ألهذا الحد ليس له ثقة بالله؟!. وهل يخاطب الله من لا يثق به؟!.
سبحانه: {.. وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ ..}(5).
__________
(1) مسند الإمام أحمد.
(2) سورة الفرقان: الآية(7). ... ... (2) سورة الأحزاب: الآية(62).
(4) سنن أبي داود/4089/. ... ... (4) سورة الإسراء: الآية(111).(1/33)
حتماً أن الذي دسَّ هذا الكلام لا ثقة له بالله.
6- ولما ابتدأ بالكلام رأى الأنوار تخترق وهي تأتي إليه فسأل: ما الحال وما الخبر؟. فقيل له: إن رسول الله جاء ليهنئك بما فتح الله عليك به، ثم زادت الأنوار وأخذه الحال فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يناديه، فخطا سبع خطوات في الهواء فرحاً، فتفل رسول الله صلى الله عليه وسلم في فمه سبعاً، ومن ثم رأى عليّاً فتفل في فمه ثلاثاً، فاستغرب لِمَ التفاوت بأعداد البصقات؟!. فأجابه عليّ رضي الله عنه: أدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم.. يا لها من شيطانيات سحرة كفرة!!.
وزيف مثل هذه الروايات ظاهر جداً لأن كاتبها يجهل حقيقة العلم، إنّه يظن أنَّ كلام رسل الله وأولياءه وعلمهم الشريف الإ?لهي لا يجاوز أفواههم وتراقيهم، وهو جارٍ بلعابهم، فهو يزعم أن العلم ينتقل من ولي لولي عن طريق التفل والبصاق المقرف القذر. وتلك القرافات المقزِّزة ينفر منها عامة الناس، وبهذه الأكاذيب يشوّهون سمعة الدين والعلماء .
والحقيقة أن أساليب التفل والبصاق والنفث إنما هي من أعمال السحرة الذين ينفثون ببصاقهم على آثار المسحور: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}(1).
وهذه الأفعال بعيدة كل البعد عن العلماء، من انطبع الحق في قلوبهم.
7- كانت مسبحته إذا وضعها على الأرض تدور لوحدها حبَّة حبَّة.
وكانت القصعة التي تركها من بعده لا يمسُّها أحد إلا وأرجفت يده إلى كتفيه (كهرباء) .
كم آمن من الناس بفضل المسبحة المتحركة؟. أو القصعة الصاعقة (الكهربائية)!. وهل كان هناك شخص كافر؟!.
أورد السحرة:
__________
(1) سورة الفلق: الآية(4).(1/34)
8- وهبتْ امرأةٌ ابنَها للشيخ الجيلاني، فقبله وأمره بالمجاهدة واتباع السلف، فدخلت عليه أمه فرأته مصفراً هزيلاً، ودخلت على الشيخ فوجدت عظام دجاجة، فقالت له: يا شيخ أنت تأكل الدجاج وولدي يأكل خبز الشعير !.فوضع يده على عظام الدجاجة وقال لها: قومي بإذن الذي يحيي العظام وهي رميم، فقامت الدجاجة سوية، فنطقت المرأة بالشهادتين، ثم قال لها الشيخ:إذا صار ولدك هكذا فليأكل مما شاء.
وهكذا جعلوه كسيدنا عيسى النبي الرسول عليه السلام خبثاً وكذباً .
نستنتج: بزعمهم أن كل مريد للشيخ باستطاعته أن يصل إلى مقام خلْق الدجاجة بعد أكلها وابتلاعها وإحياء عظامها!.
وقد صدَّق إبليس ظنه على بعض التبَّع، فأوهمهم بالوصول إلى ذلك المقام المزعوم، فقطعوا رأس رجل ليعيدوا له الحياة في قرية من قرى الريف السوري، وكم كان عجبهم شديداً عندما لم يرجع الرأس المقطوع إلى مكانه!!. ممّا عرَّض الولي المزعوم القاطع للرأس للإعدام بارتكاب جناية قتل. قالوا:
9- صرخ الشيخ الجيلاني صرخة عظيمة وقذف بقبقابه في الهواء، لم يجرؤ أحد على سؤاله.
بعد ثلاث وعشرين يوماً، قدمت قافلة من بلاد العجم تعرَّضت لقطّاع الطرق، وكان عليهم قائدان، فقال المسلوبون:
لو جعلنا للشيخ عبد القادر في هذا الوقت شيئاً من أموالنا إن سلمنا، فما استتم كلامنا حتى سمعنا صرختين عظيمتين ملأتا الوادي، وأقبل قطاع الطرق يعيدون لنا أموالنا، ووجدنا القائدين ميِّتين، وعند كل واحد منهما فردةٌ من القبقاب.
لا تحتاج هذه الرواية المختلقة لردٍ لتفاهتها.
-
من أقوال السحرة التي نسبوها بهتاناً للجيلاني "رحمه الله"
ادعاء الألوهية من كتاب الفيوضات الربانية ( الشيطانية)
... " مادح نفسه إبليس" ...
1- وَقَفْتُ ببَابِ اللهِ وَحْدِي مُوَحِّداً(1) ... وَنُودِيتُ يَا جيلانِي ادْخُل لِحَضْرَتِي
__________
(1) قولهم بزعمهم: وحدي موحِّداً، إذن فالمؤمنون جميعاً سواه غير موحدين.(1/35)
2- وَنُودِيتُ يَا جيلانِي ادْخُلْ وَلاَ تَخَفْ ... عُطِيتَ اللِّوَى مِنْ قَبْلِ أَهْلِ العِنَايَةِ
3- ذِراعيَّ مِنْ فَوْقِ السَّموَاتِ كُلِّها ... وَمِنْ تَحْتِ بَطْنِ الحُوتِ(1)أَمْدَدْتُ رَاحَتي راحتي
4- وَأَعْلَم نَبَاتَ الأَرْضِ كَمْ هُوَ نَابتٌ ... وَأعْلَمُ رَمْلَ الأَرْضِ كَمْ هُوَ رَمْلَةِ
5- وَأَعْلَمُ عِلْمَ اللهِ أُحْصِي حُرُوفَهُ ... وَأَعْلَمُ مَوْجَ البَحْرِ كَمْ هُوَ مَوْجَةِ
6- مَلَكْتُ بلادَ اللهِ شَرْقاً وَمَغْرِباً ... وَإنْ شِئْتُ أَفْنَيْتُ الأَنَامَ بلَحْظَتي
7- وَقَالُوا فَأَنْتَ القُطْبُ قُلْتُ مُشَاهِداً ... وَأَتْلُو كِتَابَ اللهِ في كُلِّ سَاعَةِ
8- وَلَوْلاَ رَسُولُ اللهِ بالعَهْدِ سَابِقاً ... لأَغْلَقْتُ بُنْيَانَ الجحِيم بعَظمَتي
9- أَنَا كُنْتُ مَعَ نُوحٍ أشَاهِدُ في الوَرَى ... بحَاراً وَطُوفَاناً عَلَى كَفِّ قُدْرَتي
10- وَكُنْتُ مَعَ إِبْرَاهيمَ مُلْقىً بنَارِهِ ... وَمَا بُرِّدَ النّيرَان إِلاَّ بدَعْوتي
11- أَنَا كُنْتُ مَعَ رَاعِي الذَّبيح فِدَاءَهُ ... وَمَا نَزَلَ الكَبْشَانِ إِلاَّ بِفَتْوَتي
12- أَنَا كُنْتُ مَعَ يَعْقُوبَ في غَشْوِ عَيْنِهِ ... وَمَا بَرِئَتْ عَيْنَاهُ إِلاَّ بتَفْلَتي
13- أَنَا كُنْتُ مَعْ إِدْرِيسَ لمَّا ارْتَقَى العُلا ... وَأَقْعَدْتُهُ الفِرْدَوْسَ أَحْسَنََ جَنَّتي
14- أَنا كُنْتُ مَعْ مُوسى مُنَاجَاةَ رَبِّهِ ... وَمُوسى عَصَاهُ مِنْ عَصَايَ اسْتَمدَّتِ
15- أَنَا كُنْتُ مَعْ أَيُوبَ في زَمَنِ البَلاَ ... وَمَا بَرِئَتْ بَلْوَاهُ إِلاَّ بِدَعْوَتي
16- أَنَا كُنْتُ مَعْ عيسى وَفي المَهْدِ نَاطِقاً ... وَأَعطَيْتُ دَاوداً حَلاَوَةَ نَغْمَةِ
17- أَنَا الذَّاكِرُ المَذْكُورُ ذِكْراً لِذَاكِرٍ ... أَنَا الشَّاكِرُ المَشْكورُ شُكْراً لِنعمَتي
__________
(1) كانوا يزعمون أن الأرض محمولة على حوت وقد صدّق هذا الزعم على قولهم الخاطئ.(1/36)
18- أَنَا العَاشِقُ المَعْشُوقُ في كُلِّ مُضْمَرٍ ... أَنَا السَّامِعُ المَسْمُوعُ في كُلِّ نَغْمَةِ
19- أَنَا الوَاحِدُ الفَردُ الكَبيرُ بذَاتِهِ ... أَنَا الوَاصِفُ المَوصُوفُ شَيْخُ(1)الطَّريقَةِ
20- وَمَا قُلْتُ هذَا القَوْلَ فَخْراً وَإِنَّما ... أَتى الإذْنُ حَتى يعْرِفُونَ حَقِيقَتي
21- وَمَا قُلتُ حَتَّى قِيلَ لي قُلْ وَلاَ َتَخْف ... فَأَنْتَ وَليي في مَقَامِ الوِلايَةِ
22- وَإِنْ شَحَّتِ الميزَانُ واللهِ نَالَهَا ... بعَيْنَيْ عِنَايَاتي وَلُطْفِ الحقيقَةِ
23- حَضَرْتُ مَعَ الأَقْطَابِ في حَضْرَةِ اللِّقَا ... فَغِبْتُ بهِ عَنْهُمْ وَشَاهَدْتُهُ وَحْدي
24- فَمَا شَرِبَ العُشَّاقُ إلاَّ بقيَّتي ... وَفَضْلَةُ كَاسَاتي بهَا شَرِبُوا بَعْدِي
25- وَلَوْ شَرِبُوا مَا قَدْ شَرِبْتُ وَعَايَنُوا ... مِنَ الحَضْرَةِ العَلياءِ صَافِيَ مَوْرِدِي
26- لأَمْسَوْا سُكَارى قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوا المُدَامَ خمرتي ... وَأَمْسَوْا حَيَارَى مِنْ صَادِمَةِ الوَردِ
27- أَنَا البَدرُ في الدنْيَا وَغَيْرِي كَوَاكِبٌ ... وَكُلُُّّ فَتى يَهْوَى فَذلِكُمُ عَبْدِي(2)
28- وَبَحْرِي مُحِيطٌ بالبحَارِ بأَسْرِهَا ... وَعِلْمِي حَوَى مَا كانَ قَبْلي وَمَا بَعْدِي
29- وَسِرِِّّي في الأَسْرَارِ يَزْجُرُ في الزَّجْرِ ... كَزَجْرِ سَحَابِ الأُفْقِ مِنْ مَلِكِ الرَّعْدِ
-
الشيخ الساحر وقرينه
تنادى الناس وأقبلوا من كل حدب وصوب.
__________
(1) ملاحظة: هنا الشرك ظاهراً بادعاء الألوهية بالأبيات هذه من: (9-19) وغيرها. وهذا القول مشابه لقول إبليس اللعين: {أنا خير منه} سورة ص:الآية(76). و:} إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ..{ سورة النساء الآية(48).
(2) ولا عبودية إلاَّ لله.(1/37)
إنها معجزة حقيقية، فالشيخ لا زال جالساً في بحرة سمك عمقها/2.5م/ متران ونصف في سهل الغاب(1)، وتحت الماء منذ الأسبوع الماضي، وهو يمسك سُبَّحةً بيده يسبح الله ويهلل..
لقد أشده الأبصار وأذهل العقول، كيف لا يكون ولياً لله عظيماً وله مثل تلك الكرامة!..
فمن حلب وحمص وإدلب وكافة محافظات القطر ارتادوا المكان ليروا تأييد الله لوليه بالكرامة العظيمة.. فليس بالمستطاع أن يبقى الإنسان تحت الماء أكثر من دقيقة، فكيف بمولانا وله قرابة الأسبوعين أي أربعة عشر يوماً؟!!. وهو على قيد الحياة يتحرك، ويراه الناس بأم أعينهم تحت الماء، ولكن للأسف، ذاع صيته وانتشرت أنباؤه ودوى خبره فأصبح حديث الناس وفي كل مكان.
__________
(1) سهل الغاب: منطقة تقع في ريف حماة(إحدى المحافظات السورية)، وأهالي الغاب جميعاً يعلمون بهذه الواقعة.(1/38)
ولضرورات أمنية قامت بعض سُلطات الحكومة السورية بإجراءاتها لاضطرابات أمنية، فتوجهوا إلى بيت الشيخ للتفتيش عن مثيري شغب، وعند وصولهم توقعت الناس رجزاً من السماء أو خسف بالأرض يحل بمن اخترق حرمة بيت الولي الكبير. فوقفوا واجمين حذرين يترقبون زلزلة أو صعقة، والشيخ صاحب الكرامة تحت الماء، فجدَّ رجالُ الأمن بالبحث عن مطلوبين للأمن في البيت، وإذ بسرداب تحت أرض الغرفة الخشبي فولجوه، وإذ بالشيخ يقبع في قبو أعدَّه وفيه طعام وفير وماء يكفي لعدة أيام، دون أن يعلم به أحد حتى أقرب ذويه. فأخرجه رجال الأمن مقيداً إلى القرية حيث شاهده الناس جميعاً، ويا لعجب ما شاهدوا.. لقد شاهدوا الشيخ مقيداً بالأصفاد"الكلبشات" يسوقه رجال الأمن، وذات الشيخ يجلس تحت الماء والسبحة بيده، فعلموا أن الذي بالماء هو قرينه، أسرعوا لبحرة الماء ولكن القرين قد اختفى. لقد أتى الشيخ بسحر عظيم، ولكن خاب فأله إذ كُشف الأمر، وأبى الله أن يترك الناس مغرورين بهذا الساحر رغم ضعفهم الإيماني، فسلَّط عليه رجال الأمن، ورأت الناس الشيخ المصفد والقرين الجالس تحت الماء.
وصدق قول الله تعالى إذ بيَّن: {... وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا }(1).
-
من حيث البداية
نشأ مذهب الباطنية خارجاً عن نهج المسلمين في منتصف القرن الثالث الهجري، وضعه قوم أُشرب في قلوبهم بغض الدين وكراهية النبي الكريم صلى الله عليه وسلم من الفلاسفة والملاحدة والمجوس واليهود ليصرفوا الناس عن دين الله، وكانوا يبعثون دعاتهم إلى الآفاق لدعوة الناس إلى مذهبهم لعل دولة طغيانهم تعود، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ظاهر مذهبهم فروع الشريعة، لكن عقيدتهم عقيدة الفلاسفة والملاحدة، وعرف الناس أنهم براء من الشيعة، فظاهر مذهبهم النقض، وباطنه الكفر المحض.
__________
(1) سورة الكهف: الآية(51).(1/39)
وأصل دعوتهم نصب الحبائل للمسلمين وبغي الغوائل بهم، وغش الحق بالباطل، فجعلوا لكل آية تفسيراً، ولكل حديث تأويلاً، فذهبوا إلى أن الفرائض والسنن رموز وإشارات ومثلات، والاعتصام بالغائب المفقود والإعراض عن الحاضر الموجود، وكان داعيهم عارفاً بالفلَك، جعل أصل دعوته اختصاص علي بإمامته، ليستر بجلال الإسلام وبجاه علي وآله كفره وزندقته، وأطلق لسانه في الطعن على الصحابة الكرام، وظهر أيام قرمط، فاجتمعا وأخذا ناموساً يدعوان إليه. فسمّوا بالقرامطة، واجتمع عليهم جماعة يفسدون في الأرض ولا يصلحون، ومن ألقابهم: الإباحية، والملاحدة، والزنادقة. ولهم حيل وأساليب ينصبونها ليصلوا إلى ما يريدون.
وذهبوا في التوحيد إلى القول بإ?لهيْن قديمين العقل والنفس. والباري لا يوصف بموجود ولا بمعدوم. ويقولون بالطبع وبتأثير الكواكب ما يوصل إلى نفي الصانع.
وينكرون الوحي ونزول الملائكة ووقوع المعجزات، ويذهبون إلى أنها رموز وإشارات ومثُلات، فعصا موسى عليه السلام غلبته، وإظلال الغمام إمرته، والقرآن كلام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ}(1). دون إتمام الآية لئلا يُنقض كلامهم ويظهر دجلهم.
فتأوَّلوا المعجزات ليزحزحوا الناس عن عقائدهم ( ولما لم تُجْدِ أساليبهم وتأولاتهم لنفي المعجزات لزحزحة العقائد لجؤوا إلى السحر ليحوِّلوا الناس إليهم، وينسوهم سيرة المرسلين والنبيين بكرامات ومعجزات اختلقوها وألصقوها بأولياءٍ هُم منها براء لتنطلي على البسطاء).
وذهبوا إلى أنه لا بدَّ من إمام معصوم يرجع إليه، وهو كالنبي في عصمته واطِّلاعه.
لا ينزل عليه وحي وإنما يتلقى ذلك من النبي لأنه خليفته (فاختلقوا الخرقة التي يتوارثها أئمتهم لتسلُّم منصب الولاية فيما بعد).
__________
(1) سورة الحاقة: الآية(40). ...(1/40)
وأنكروا القيامة والبعث والنشور والجنة والنار، وجعلوا لكل رمز إشارة، وكما أنهم احتالوا في أصول الدين احتالوا في خداع أتباعهم واستمالة قلوبهم، فأباحوا لهم جملة اللذات والشهوات، فهم صابئة إباحيون كالبهائم أو أشد بهيمية، إذ أباحوا لهم نكاح البنات والأخوات، وأسقطوا عنهم فرائض العبادات، وتأوَّلوا أركان الشريعة، فمعنى الفرائض: موالاة زعمائهم وأئمتهم، ومعنى المحرَّمات: تحريم موالاة الصحب الكرام وكل من خالف مذهبهم، ويؤولون الملائكة على دعاتهم، والشياطين مخالفوهم، ويُسمُّون موافقيهم بالمؤمنين، ومخالفيهم بالحمير والظاهرية. وقد ادَّعى شاعرهم النبوة في أيام علي بن فضل، وأظهر مذهبه في الكفر والبهيمية، واستحلال المحرمات، وتزويج الأخوات والبنات رغم ما فيها من أذى وضرر في النسل، وكراهية ونفور بالمقاربة،كأن الإنسان بهيمة عمياء بل الوحوش أسمى وأعلا.
وقد كان لهم المشهد الأعظم، لا يشهده إلا من دفع للداعي قربانه، فإذا جنَّ الليل ودارت الكؤوس، وطابت نفوس هؤلاء الشياطين للمعاصي، وقد أحضر جميع أهل الدعوة نساءهم وحريمهم، فيدخلن عليهم وقد أطفؤوا السُرج، فيأخذ كل واحد من تقع في يده ويقع عليها، فتنطلق بشكر الداعي على ما أتاه من فضل، فيقول: ليس إلا من فضل أمير المؤمنين، فاشكروه ولا تكفروه على ما أطلق من وثاقكم، ووضع عنكم أوزاركم، وأحلَّ لكم بعض الذي حرّم عليكم جهّالكم، وما يلقاها إلا الذين صبروا (على ماذا؟!)، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم (بشهوة بالحرام عابرة).
فكانوا يخاطبون الناس بحسب عقولهم الشيطانية وأهوائهم وعقائدهم السافلة، ولا تقتصرُ هذه الإباحية على فئة واحدة، بل هناك من يفعلها زوراً باسم الرفاعية والقادرية وغيرهم من الفئات الباطنية، وحاشا للإمام (أحمد الرفاعي) والإمام (عبد القادر الجيلاني) "رحمهما الله" من هذه الفواحش!.
{(1/41)
وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ}, {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ.. }(1). هذا غيض من فيوضات السحر الأسود، لعنهم الله وأذلَّهم ما أحطّهم وأدناهم!. ثم إلى جهنم فالجحيم مثواهم.
لا بدَّ لنا من نبذة موجزة عن ماهية الإنسان وخلقه، وعن الجن وماهيته، قبل أن نكشف السحر والساحر، فنقول:
* ... * ... *
... ماهيَّة الإنسان وخلقه، و الجن وماهيَّته ...
يتكون الإنسان من :(نفس وروح وجسد).
أما الجسد : فهو مادة الإنسان، خلقه الله من تراب، وهو جزء من هذا الكون المادي ليكون له التآلف والارتباط بعناصر الأرض متجاوباً متآلفاً متعايشاً معها، والتي منها سيتأمَّن غذاؤه , وعليها سيعتمد في معيشته، وفيه تسري الروح لتنبعث فيه الحياة والقدرة بأنواعها.
أما الروح: فهي ذلك الإمداد بالنور الإ?لهي الساري بالدم، ومركزها القلب، وبواسطتها تتم الحياة.
والنفس: هي العنصر الأساسي في الإنسان، وذاته المعنويَّة الشاعرة، وهي قبس من نور إ?لهي مركزها الصدر، وأشعتها سارية بالأعصاب في سائر أنحاء الجسم، لتتعرف على ما يحيط بها بواسطة الحواس، فعن طريق العين تبصر، وبالأذن تسمع،وباللسان تذوق الأطعمة... الخ.
فهذه النفس " الذات المعنويَّة الشاعرة " هي التي حملت الأمانة لكي تحظى بالجنان: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ..}(2)،
__________
(1) سورة الحج: الآية(8ـ9).
(2) سورة الأحزاب: الآية (72). ...
(2) سورة الشمس: الآية (7 ـ10) .(1/42)
هذا هو الإنسان الأزلي، نفس مجرَّدة عن الجسم، وهذه النفس سمِّيت نفساً لنفاستها وعليها المعوَّل،وهي المكلَّفة بالسير بطريق الحق: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} , {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} , {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} , {وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}(1)، فهي التي أعدَّها الله لتشاهد من أنواره وتعقل أسماءه الحسنى، وترى الحقائق بنوره جلَّ وعلا بواسطة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، إذ هو صلى الله عليه وسلم " السراج المنير " ينير لها، ويريها من أنواره تعالى ومن أسمائه الحسنى ما يتناسب وحالها وأعمالها وثقتها وإقبالها، وهذا لا يكون إلا بالصلاة.
كذلك فإن النفس باقية لا يطرأ عليها العدم إطلاقاً، إنما تذوق الموت ذوقاً:
{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ..}(2)والفناء بعد الموت لثوبها (الجسد) الذي لا يعود للقيام إلاَّ يوم القيامة.
وسُمِّيت القيامة قيامة: لقيام الأجساد ثانية لتُطوى داخل النفوس، عكس حالها بالدنيا حين كانت تحيط بالنفوس.
فالنفس: مركز العواطف والمشاعر والأحاسيس،تتصل بالحياة الدنيا ومادتها عن طريق جسمها، فتحقق شهواتها ورغائبها علويَِّة كانت أم سفليَّة بواسطة الجسم،وهي الآمرة الناهية على أجهزة الجسم كلها بواسطة الأعصاب، وأشعة النفس تسري فيها.
وتعبر عن مشاعرها وأحاسيسها عن طريق الجسم، ومركزها الصدر:
{.. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}(3)، {.. الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} , {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} , {مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ}(4)، ومسرى أشعتها الأعصاب، فحين تخدير الأعصاب تنسحب النفس من مكان التخدير، فلا يعود المريض يشعر بأي ألم ولو بتر عضو من أعضائه.
__________
(1) ...
(2) سورة العنكبوت: الآية(57). ... ... ... (2) سورة هود: الآية (5) . ...
(3) سورة الناس:الآية(4ـ6) . ...(1/43)
وفي حال مماثلة لنذهب لمثال النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن في قصة سيدنا يوسف عليه السلام، قال تعالى:
{فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ}(1)، لقد قطَّعت النسوة أيديهن لانصعاق نفوسهن لرؤية جماله عليه السلام، فنفوسهنَّ في هذه الحالة غادرت أجسامَهن متَّجهة إلى سيدنا يوسف عليه السلام، فقطَّعن أيديهن وهن لا يشعرن، لقد غادرت ذواتهن الشاعرة أجسامَهن منطلقة من خلال حاسة واحدة ألا وهي حاسة الرؤية، مشيحة عن بقية الحواس الأخرى،كما في حالة التخدير حيث ينعدم الإحساس، ويعود بعد عودة النفس إلى العضو.
ألا ترى خلال المشاجرات أو الحوادث الخاطفة بأن المرء المتشاجر لا يشعر بما أصيب به ولو كانت طعنة سكين؟!. لانشغال نفسه بمجال آخر،ولكن بعد تفرغها لجسدها تأنُّ النفس أنيناً، وتتألَّم ألماً لم تكن تشعر به من قبل رغم وجوده.
وهاكم قصة واقعية حدثت في أحد ولايات أمريكا، يتَّضح لنا من خلالها سريان النفس ومغادرتها جسمها منطلقة من خلال حاسة الرؤية كما حدث في حال النسوة اللاتي قطَّعن أيديهن:
* ... * ... *
هيلمة نفسية
...
جاءته الأوامر من الحكومة أن عليك بالتسلُّح والجاهزية القصوى والحذر، فالعصابات الإجرامية واللصوص شاعت أخبار جرائمهم في البلد، مما يدل على نشاطهم، وأنت المحاسب المالي لشركة ضخمة، والمبلغ المالي الذي تقبضه كل شهر ضخم جداً لا بدَّ أن يثير انتباه أولئك المجرمين..
وبالفعل كانت إحدى العصابات تراقبه.. فدرسوا طبيعته ومدى رباطة جأشه وشجاعته، إذ لا يرغبون بقتله، فهم يريدون المال فقط.
__________
(1)
(1) سورة يوسف: الآية (31).(1/44)
لقد وجدوه يلبس درعاً واقياً من الرصاص، ويحمل مسدساً طلقته في حجرة الإطلاق (ملقّمٌ دائماً) دون أمان، وهو مستعدٌّ للإطلاق الناري بأي لحظة يشعر فيها بخطر السارقين، ولكنه لا يعرفهم.. فما الخطة؟. والمبلغ مغرٍ جداً، وهم لا يريدون التضحية بواحد منهم، أو أن يُمسك بعد إصابته فيأتي بهم جميعاً ويكشف أمرهم..
وفي اليوم المحدد لقبض المبلغ وقرب بوابة البنك، خرج المحاسب المالي وبيده حقيبة تضمنت الملايين من الدولارات، واليد الأخرى في جيبه الكبير الذي أخفى تحته المسدس... وهنا ركض المجرمون أمامه يتشاجرون فيما بينهم بمعركة حقيقية، وبكافة صنوف القتال التي يجيدونها:( الكاراتيه، والجودو، والتايكواندو)، كان حقاً منظراً مثيراً للغاية، ولكنها الطامة الكبرى إذ أخرج أحدهم سكيناً وأغمدها في صدر صاحبه جهة القلب تحت الإبط، ويالهول ذلك المنظر الذي أخذ بمجامع قلوب الناس والمحاسب، إذ جأر ذلك المطعون بصوت متألم هلعت له القلوب، وانساح الدم على الأرض، وسقط على الأرض جثة هامدة..
استيقظ المحاسب المصعوق من هول المنظر.. فلم يجد الحقيبة بيده.
ولم يجد أحداً من أولئك المتشاجرين، لا قاتل ولا مقتول ولا غير ذلك، لقد استخدم معه المجرمون حرب الهيلمة النفسية التي أنسته وجوده حتى عن جسده، وأخذوا الحقيبة من يده وهو لا يشعر بما حوله ولا بما أصابه ولا بسحب حقيبة المال من يده، وهو مذهول بأثر الصعقة التي انتابته من طعنة السكين لصدر المقتول.
تكررت السرقة مرات عدّة، وعجزت أجهزة الأمن الأمريكية عن كشف المجرمين، وكشف أسلوب سرقاتهم الناجحة، حتى أُلقيَ القبض على عصابة السرقة بالصدفة، وأقرَّ بعض عناصر العصابة بالسرقات وكشفوا سرَّ نجاحهم الشيطاني.
تفصيل الخطة الإجرامية بالحرب النفسية ... كان أحد المتشاجرين اللصوص قد ربط كيساً من الدم تحت سترة صدَّاريته، وقد وضع على وجه سترته علامة مؤشِّرة ومحدِّدة لمكان كيس الدم(1/45)
المخفي، بحيث يتعين مكان ضرب كيس الدم بالخنجر لينفجر الكيس وينصب الدم من داخل الجسم لخارجه بكمية كبيرة، فيخال للناظر والناس أن دم الكيس هو دم قلب المجرم الذي يسقط على الأرض، ويتخبَّط بمظاهر ألم الموت العنيف كذباً وتمثيلاً، فتنصعق النفوس المشاهدة لتمثيلية القتل المزيف، وحين تنصعق نفس المحاسب متَّجهة بكليتها نحو المقتول المتخبط بالدم والألم بحسب الظاهر يكون أحد عناصر العصابة الآخرين قد مدَّ يده وسحب حقيبة المال من يد المحاسب المصعوق بمنظر الدماء المتدفِّقة، فتفلت الحقيبة من يده وهو لا يشعر، عندها يأخذ عنصر العصابة الحقيبة ويلقيها في سيارة تنطلق حالاً غائبة متوارية عن الأنظار.
بعد هول الحادثة يحدث العجب، إذ ينهض المقتول المغسول بالدماء فجأة، ويركض بسرعة متوارياً عن المتفرجين، وعندما يشعر المحاسب بفقدان حقيبة المال يكون قد فات الأوان، فيصرخ مستنجداً برجال الأمن الذين يحصرون الناس بالقوة، ويقومون بالتفتيش عن الحقيبة فلا يجدون لها أثراً. وهكذا كُشفت الخطة الإجرامية.
وإليكم هذه الحادثة الثانية التي يتَّضح من خلالها للقارئ مدى تأثير النفس على الجسم:
* ... * ... *
إعدام نفسي
جاء علماء وأطباء نفسانيون بأحد المحكوم عليهم بالإعدام، طلبوه من الدولة لينفذوا حكم إعدامه بإخضاعه للتجربة النفسية حتى الموت.
وقالوا له: لقد أشفقنا عليك، وأردنا أن نطبق الحكم بالإعدام عليك بأيسر السبل وأسهلها، دون أن تشعر بأي ألم، سنقطع لك الوريد في يدك، ونجعلك تنزف الدم حتى تموت، وبذلك لا تشعر بأي ألم اختناق بالشنق المؤلم رحمةً بك.(1/46)
وفي المكان المعدّ للعملية أحكموا له العُصابة حول عينيه، بحيث لا يستطيع رؤية ما يجري إطلاقاً، وخدشوا يده خدْشاً لم يسل منه دم، ثم أقنعوه أن دم يده يسيل، وفي تلك اللحظة كانت قارورة مملوءة بماء دافئ معلقة فوق يده، وفُتِحَ صنبورها ليسكب الماء مكان الخدش وكأن الدم ينزف، إذ بدأ الماء ينصب على وعاء ماء، فيسمع المُعدم صوت الماء وهو منصب عليه، فيظن هذا الماء أنه دم يده النازف، عند ذلك بدأ وجه المجرم يصفر شيئاً فشيئاً، ولم يمضِ سوى اليسير من الوقت.. حتى انخفض الضغط، وبدأت حركات القلب بالانخفاض، وكل الآلات تشير أن جسم ذلك الموهوم تسير من سيء لأسوأ.. وبدت على وجهه صفرة شاحبة، ولم تمض فترة حتى انهارت أعصابه وفارق الحياة إثر ذلك الوهم النفسي الذي حلَّ به.
كذلك أعظم القادة الذين عرفهم التاريخ مثل تيمور بيك (تيمورلنك) كانت جلُّ انتصاراته بالحرب النفسية، والإيهام بكثرة الجيش عن طريق توزّع النار وإكثار الغبار وبقرع الطبول، وإحداث جلبة يوهم معها العدو بضخامة جيشه، فيفرُّ العدو رعباً وفزعاً منذ بدء المعركة، وينهزم طلباً للنجاة مهما كانت عدَّته وعدده.
* ... * ... *
سريان النفس
سريان النفس المحمود ... وإن السريان المطلوب هو:أن تسري النفس في صلاتها وهي متَّجهة إلى البيت الحرام لتجتمع بنفس رسول الله(1/47)
صلى الله عليه وسلم الشريفة، وتشتبك بها برباط المحبة والتقدير لتعرج بمعيَّتها بالنور الإ?لهي , حيث ترى من الحقائق والكمالات والأنوار الإ?لهية، وتغيب في نعيم إ?لهي علوي، وتعشقه تعالى لرؤيتها طرفاً من كماله وجلاله تعالى،وهذه هي الصلاة بحقيقتها، وهذا هو" السريان النفسي " والشهود النفسي لا العيني، والغذاء القلبي الذي طلب منَّا تعالى أن نغذِّي نفوسنا به في صلاتنا،وأن نبقى دائمين عليه، سائحين بقلوبنا به بغية سعادتنا وشفائنا وعطائنا، وذلك بأن أمرنا أن نوجِّه نفوسنا في الصلاة إليه تعالى، وأن نتجه إلى البيت الحرام حيث نفس الإمام صلى الله عليه وسلم وروحانيته العليّة، لينير لنا السبيل إليه تعالى، قال عزّ وجل مخاطباً رسوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ..}(1). وهذا ما تضمَّنه أمره تعالى، إذ أمرنا أن نصلي عليه صلى الله عليه وسلم لتصحَّ صلاتنا، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(2). إذن: فالنفس لها سريانها،والسريان المحمود المطلوب هو السريان بالنور الإ?لهي بواسطة نفس الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ فيه العروج والارتقاء بالأنوار الإ?لهية، والصلاة معراج المؤمن.
الجسم مُقعد، ولكن النفس هي التي تعرج في ميادين وبحار الأنوار والكمالات الإ?لهية. ولتوضيح آلية السريان النفسي نضرب المثال التالي:
هب أن إنساناً نائماً يحلم بنومه أنه على شاطئ البحر يأكل ما لذَّ وطاب، ويلهو ويلعب ويضحك ويمرح وهو بغاية البسط والسرور، متنقلاً من مكان لمكانٍ أجمل.
فمن الذي يُسرُّ ويفرح وينتقل يا ترى؟.
__________
(1) سورة البقرة: الآية (150). ...
(2) سورة الأحزاب: الآية (56) .(1/48)
إنها ذاته الشاعرة،إنها " نفسه "، أما الجسم فهو على الفراش ملقى،والقلب ينبض، والصدر يعلو ويهبط، والدم يتحرك.
إذن: الجسم مقعد، والنفس هي السائحة في هذا المنام بوادي الأحلام.
فالسريان المحمود بالنور الإ?لهي بمعيَّة المصطفى صلى الله عليه وسلم، من خلال التوجُّه للبيت الحرام، والاجتماع بنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم بالصلاة، لقوله تعالى:
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ}(1)،ولعمري تلك هي السياحة الحقيقية العظمى في بحور الإ?له العظيم، وهي الصلاة التي هي معراج المؤمن.
أما الخيانة بل عين الخيانة هي: أن تسري النفس الإنسانية بدون نور إ?لهي وبدون واسطة الرسول الكريم، فتسري بالظلمة، وتخوض في عوالمها حيث تتلقفها الشياطين، ويخيّلون إليها ما يشاؤون مما فيه دمارها من معاصي وشهوات مهلكة منحطة، وهي في بُعد عن منبع النور جلَّ وعلا.
العقل: ... إذن، هناك عوالم للحقائق تسري النفس فيها بمعية الوسيط صلى الله عليه وسلم بالنور الإ?لهي، لتنعقد الصلة الحقيقية بالله، ليعقل
__________
(1) سورة التوبة: الآية (112).(1/49)
المؤمن طرفاً من الكمالات الإ?لهية عقلاً نفسياً من بعد أن آمن بها وعقلها فكرياً، كما يعقل سرَّ التشريع الإ?لهي وما انطوت عليه الأوامر التي أنزلها الله تعالى على رسوله في القرآن الكريم، إذ يكون عقل الكمالات الإ?لهية بمشاهدة المصلِّي طرفاً من هذه الكمالات شهوداً نفسياً، يرى العظمة الإ?لهية والعدل، ويشهد الرأفة والرحمة والعطف والحنان والفضل والإحسان، وغير ذلك مما انطوت عليه الأسماء الإ?لهية، وهنالك تتمثَّل نفسه هذه الكمالات، وتعيها، وتغدو مستقرة فيها،وتتَّصِفْ بها، فيغدو المؤمن المصلي رؤوفاً بالخلق رحيماً شجاعاً كريماً،وغيرها من الصفات التي يشتقها المؤمن من الله بالصلاة، ويصطبغ بها:{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً ..}(1).
أما عقل الأوامر الإ?لهية فتكون برؤية ما انطوت عليه من خير، فيرى المصلي مثلاً عندما يقرأ آيات الحجاب فائدة الحجاب، وما فيه من خير للمرأة ذاتها وذويها، وللمجموعة البشرية كلِّها.
وعندما يقرأ الآيات التي تنهى عن الخمر والميسر يرى ما فيها من الأذى، وما ينجم عن تعاطيها من مضرَّات. وكذلك الأمر بالنسبة للميْتة وما ينشأ عن أكلها من أمراض وعاهات، ويرى الفائدة من التكبير على الذبيحة ذاتها مما ينعكس عليها من نعيم مغدق بلقائها لله بدل الآلام، والتخلُّص من الجراثيم والأمراض، والصحة والعافية للأسرة والإنسانية،كما يرى الفائدة من الصيام والصلاة والحج والزكاة،كما رآها الصحابة الكرام بإيمانهم ونقلوها للعالَمين،إلى غير ذلك من الأوامر التي يعقلها أيضاً المصلِّي بما يسمعه في صلاته من آيات القرآن الكريم، فهو لا يسمع بآية إلاَّ ويرى ما انطوت عليه من معانٍ، رؤية متناسبة مع مقدار ما هو فيه من وجهة إلى خالقه، وما هو عليه من صلة وإقبال، وذلك ما نعنيه بعقل الأوامر الإ?لهيّة.
__________
(1) سورة البقرة:الآية(138).(1/50)
ومن لم يشاهد في صلاته طرفاً من الكمالات الإ?لهيّة، ومن لم يعقل ما في الأوامر الإ?لهيّة من خيرات، ومن لم يعقل شيئاً مما تنطوي عليه آيات القرآن الكريم التي يتلوها في الصلاة، فليس بعجيب أن تُلَفَّ صلاتُه كما يلف الثوب الخَلِقُ، ويضرب بها في الهواء، إذ أنه لم يفد منها سوى القليل الذي لا يسمن ولا يغني من جوع نفسي.
أما الطريق إلى العقل الشهودي بالنور الإ?لهي فإنما يكون برفقة ذلك الإمام والاقتداء به، وهو في الحقيقة السيد الأعظم صلى الله عليه وسلم. ومن لم يُصلِّ مقتدياً بذلك الإمام، فلن يستطيع أن يصل إلى العقل النوراني بنور من الله، ولو أنه صلَّى في اليوم مائة ركعة، ولو أنه قام يصلي الليل كلَّه، فالفائدة والمردود القلبي جدُّ ضئيل، لا ينهض بنفس المصلي نهوضاً ولا ارتقاء.
ولعلك تسأل عن السبب، وتعجب من هذا القول، فأقول: (بعين الرأس ترى الأشياء بالأنوار المعروفة:"شمس،قمر،نجوم،نار،كهرباء"، أما الحقائق فلا تراها النفس إلاَّ بنور الله برسول الله صلى الله عليه وسلم).
وإذا كان العقل نتيجة لما يحصل عليه المصلي من شهود ورؤية نفسية، يختزنها المصلي في نفسه وتغدو ملكاً له وجزءاً لا يتجزأ من ذاته، فكيف تستطيع هذه النفس أن تشاهد كمال الله، وليس لها نور تشاهد به هذا الكمال؟. أم كيف تنكشف لها المعاني وليس لها سراج منير يريها هذه المعاني ويبيِّن لها ما في الأوامر الإ?لهية من خيرات؟!. لذلك فهذا المصباح من لوازم الرؤية، وهذا السراج المنير من لوازم وضروريات من يريد أن يصلَ إلى العقل الشهودي القلبي النوراني الذي يكشف به الخير من الشر. وما ذاك المصباح والسراج إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال تعالى مشيراً إلى ذلك: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا},{وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}(1).
__________
(1) سورة الأحزاب: الآية (45-46).(1/51)
نحن المسلمين ... وما أمر الله تعالى رسوله بالاتجاه شطر المسجد الحرام إلا لتكون نفسه مقبلة عليه تعالى من ذلك
لا نعبد الكعبة:
المكان، لنستطيع نحن أن نولِّي وجهنا شطره حيثما كنَّا،وفي أي مكان وُجدنا، فنجعله لنا في إقبالنا على الله إماماً، وليكون لنفوسنا سراجاً مضيئاً، وذلك سر الأمر الإ?لهي ولُبابه. وهكذا فالاتجاه إلى الكعبة الشريفة، واستقبال هذه القبلة ركن من أركان الصلاة للمؤمنين.
ومن لم يصلِّ جامعاً نفسه فيها مقبلاً على الله بصحبة هذا الإمام، فلن يعقل من صلاته شيئاً،لأنه إنما يصلِّي وحيداً فريداً، وبذلك يطمع الشيطان فيه، ويهرع إليه، فيملأ قلبه بالهواجس والوساوس والخطرات، والله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:
{وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}:رسول الله
{ وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}(1). عندما تصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تنلْ عندئذ السلام والأمان حتى مطلع الفجر، وسيريك الله بعد ذلك آياته.
فليكن"ثاني اثنين" صلى الله عليه وسلم رائدك القلبي لله فالنور والمعرفة.
وفي الحديث الشريف: « فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية »(2).
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ.. }(3): أي عنه صلى الله عليه وسلم. وبناءً على ما قدَّمناه نقول:
__________
(1) سورة لقمان: الآية(22).
(2) مسند الإمام أحمد: /كتاب مسند القبائل/ رقم الحديث (26242).
(3) سورة آل عمران: الآية(103). ... ... ... (3) سورة الأحزاب: الآية (56).(1/52)
نحن في صلاتنا واستقبالنا الكعبة لا نعبد الكعبة، ولا نتَّجه إلى الأحجار، بل إنَّما نتجه من ذلك المسجد الحرام إلى الله، ونحن لا نعبد رسول الله، بل إنما نتَّخذه لنا في صلاتنا إماماً، ولنفوسنا سراجاً منيراً، تدخل نفوسنا متى أرادت الإقبال على الله من ذلك المكان، فتجد إمامها به، فتقتدي به، وتقبل على الله بمعيَّته، وهو لها نِعمَ الإمام وخير رفيق.
وتستنير بالنور الإ?لهي الساطع على نفسهصلى الله عليه وسلم بسبب إقباله على الله، ويريها بعض ما استكنَّ في أوامره تعالى من الأسرار والخيرات.. وهذا يوضِّح لنا سرَّ قوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}(1). فما أمرنا الله تعالى بالصلاة على هذا الرسول الكريم إلا لنصل نفوسنا به، فتدخل على الله بمعيَّته، وتستنير بذلك النور الإ?لهي الساطع على نفسه الشريفة، ونكون بسيرنا بهذه الحياة على هدى وأمان.
إذن: هذه هي الصلة الحقيقية بالله، ولا يجد حلاوة الإيمان من لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوته، والسريان النفسي المحمود إلى البيت الحرام حيث الاجتماع بالإمام صلى الله عليه وسلم،بدايتها نعيم وسرور ومشاعر عالية، وتستمر لتصل النفس لمشاهدة الحقائق، ولتميِّز الخير من الشر، فيصبح الإنسان مكلَّلاً بالنور،يرى بنور الله الخير خيراً ، والشر شراً فلا يقع فيه، وهذا النور القلبي يُكسب المرء سعادة، وتشتق نفس هذا الإنسان الكمال الإ?لهي، ويغدو كله خيراً ورحمة، مصبوغاً بصبغة من الكمال الإ?لهي:
{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً..}(2)،
__________
(1) ... ... ...
(2) سورة البقرة: الآية(138).(1/53)
عندها وبهذه الصلة بالله والصلاة بمعيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنحتُّ من نفس المصلي الشهوات الدنيئة، وتتبدل بالشهوات الفاضلة السامية، فيغدو هذا المصلِّي إنساناً حقيقياً إنسانياً، وهذه هي التقوى، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(1).
قلوب العارفين لها عيون ... ... ... ... ... ترى ما لا يراه الناظرون
لها عيون ترى الحقائق المستكنة وراء الصوَر، ترى بنور الله ما لا يراه الناظرون بعين الجسم، أي: عين الرأس.
سريان النفس المذموم وعالم الخيانة: ... هناك أيضاً عالم الخيانة للأمانة التي حملها الإنسان، عالم الظلمة والشياطين حيث البعد عن الله تعالى، بدايتها سريان
النفس لمراتع شهواتها الحقيرة، وخيالات شيطانية تنال من خلالها النفس لذّاتها الجهنّمية في ثوب خيانتها، حيث :" خليلها الشيطان " يُدخلها في عالم الظلمة، عالم الجن الشياطين،ويريها منهم ما تراه من خيال نفسي، لتحقق شهواتها الجهنَّمية في الظلام القاتم والانقطاع عن موئل الفضائل الدائم،لأسوأ الصفات البهيمية، فتهوي من حال سيِّئ لأسوأ منه، وتلبس من ثياب الخيانة بصحبة قرينها الشيطان الذي جرَّها لهذه العوالم.
تبدأ هذه الخيانة بأفكار من وحي الشيطان، تطرق النفس المعرضة عن ربها، ولو كان هذا الإنسان مؤمناً لما سمح لمثل هذه الأفكار أن تبسط ذاتها عليه، بل لا يلتفت إليها مطلقاً، فمثل هذه الإيحاءات الشيطانية تخطر للمؤمن أثناء الغفلة عن الله، لكنه مباشرة يتذكر، ويذْكُر رسوله صلى الله عليه وسلم وصلته بالله،فيعود لينغمر بالنور، ويفر الشيطان هارباً عنه خائباً ذليلاً من النور الإ?لهي الذي غدا المؤمن رافلاً به، قال تعالى:
{
__________
(1) سورة الحديد: الآية (28) . ... ...(1/54)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}(1).
البداية المهلكة ... أما المعرض عن الله تعالى وعن الآخرة فينغمس في هذه الأفكار،وتجد عنده أرضاً
خصبة ويسري فيها بنفسه، وهنالك يستطيع الشيطان أن يَدْلُك من هذه النفس حيث يريد وتريد، فيدخلها عالم الخيال.
وهذه هي المرحلة الثانية حيث تنقلب هذه الأفكار لخيالات تسري فيها النفس، وتتطور هذه المراحل الخطيرة لتصبح في المنام، حيث تسترسل النفس المعرضة في نومها لمراتع شهوتها، كما رتعت أفكارها حال يقظتها، وهنا يستولي عليها الشيطان، ويدخلها عوالم الظلمة لتحقق خياناتها في الظلام،وتسوء الأمور أكثر لتصل لخيالات اليقظة " وتدعى بأحلام اليقظة "، حيث يتحقق للنفس ما يتحقق لها في نومها من فواحش باطنية عقلتها، تعود عليها بالسوء.
والإنسان في الحقيقة أثناء أحلام اليقظة ليس بنائم، إنما أصبح بسريان نفسه كالنائم، وهنا الطامة الكبرى، حيث أن معظم الأمراض النفسية تنشأ في هذه المراحل, حيث يصبح لنفس الإنسان صلة بعالم الشياطين، ويصبح في خيالات وتناقضات،ثم في صراع إن لم يعد يرغب في الاستمرار بهذا الطريق المرعب دنيا وآخرة.
(بالتوبة والاستقامة يشفى مما كان قد ألحق بذاته من أعمال سيئة سببت له هذه الأمراض ). وباستمرار الإنسان المعرض على هذا الحال يصبح ممن يرى العالم الثاني المظلم " عالم الشياطين"، يظهرون عليه يقظة، ونوماً يخيِّلون له، قال تعالى:
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا}(2).
هذا لمن يتبع الشياطين ويعوذ بهم. وهذه هي بداية السحر والشعوذة :
{..
__________
(1) سورة الأعراف: الآية (201).
(2) سورة الإسراء: الآية (64). ... ...
(2) سورة الأنعام: الآية (151) .(1/55)
وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ..}(1)، إذ بعد فترة من المداومة على هذا الحال البئيس من البعد الذريع المريع عن الله، والانغماس في هذه الخيالات والمعاصي الباطنية، والخضوع لتأثير الشياطين " وهو يظن الشياطين ملائكة خطأً " وتعاليمهم وتدريباتهم له على الجرأة في معصية الله، هنالك وطالما هو منساق وراءهم لا يغيِّر ما في نفسه، وغير طالب للتوبة من سابق اقترافاته، يصبح تحت تأثيرهم المطلق وبطاعة أمرهم، أي: أصبح عبداً لهم وسلاحاً فعالاً بيدهم، يسخِّرونه في أعمالهم الشريرة الحاقدة على الإنسان، كما ذكرت الآية القرآنية :
{.. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ..}:أي: من الإنس الذين تسخِّرهم لمآربك، فلقد أصبح الساحر من رجال الشيطان، يعتمد عليه في تنفيذ مخططات الأذى والإضرار بالآخرين. لقد ظن الساحر أنه ينفذ ما يريد، ولكنه بالحقيقة امتلأت نفسه خبثاً وإعراضاً عن خالقها، وذلك برفقتها لخليلها الشيطان في تنفيذ مآربه، قال تعالى:
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}(2).
شياطين الإنس أم شياطين الجن!. ... 1ـ فمن حيث الظاهر: الساحر في نفثه يسوق الشيطان نحو المسحور، ويستخدمه في التخييل إليه بما يرغب من الخيالات.
2ـ ومن حيث الباطن: الشيطان يستخدم الساحر، فيتوصَّل بواسطته إلى المسحور،فيخيِّلُ إليه ما يشاء مما فيه إيقاع الأذى وإنزال الضرر، وبشيء من التفصيل نقول:
__________
(2) سورة الجن: الآية (6).(1/56)
إن الساحر عندما يتَّجه إلى المسحور يسري شعاع نفسه إليه، فينتهز الشيطان هذه الفرصة، ويسري في ذلك الشعاع، ويدخل فيه على المسحور، لأن الشيطان أعمى القلب، لا يستطيع بذاته السريان لنفس المسحور، ولكن بواسطة أشعة نفس الساحر التي يمتطيها يستطيع الوصول لنفس المسحور،وهنالك يخيِّل له ما يشاء من إنشاء روابط، أو نقضٍ، أو حلّ للعلاقات القائمة.
والحقيقة كل الحقيقة: أن الساحر لا يُمكَّن من سَوْق الشيطان، وكذا الشيطان لا يستطيع استخدام نفس الساحر، إلا إذا كان المسحور امرءاً ظالماً من قبلُ مستحقاً لذلك الأذى الذي يشترك الشيطان والساحر في إيقاعه عليه.
قال تعالى:}.. وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ.. {(1).
وإذاً: الشهوة الخبيثة التي تتولَّد في نفس الإنسان عند إعراضه عن الله، وذلك الأذى الذي ينبعث منها ويوقعه المرء بغيره، هو الذي يعيد على الإنسان عمله، فيجعل هذين الشريكين الخبيثين يتسلَّطان عليه ويسحرانه، ولو أنه كان مؤمناً متَّصلاً بالله، أو مصاحباً بنفسه لأهل الحق مُقبلاً على الله لما فعل شرّاً، ولما ناله منهما ضرر ولا أذى.فمعنى كلمة الشيطان: مأخوذة من شَطَنَ وشاط.
وشطن: بمعنى بَعُدَ عن الحق، وشاط: احترق وهلك، فالشيطان: هو البعيد عن الحق المحترق الهالك، فببعده عن طريق الحق أصابه الاحتراق والهلاك، وهو دوماً مقهور مرمي بالعذاب لأنه حرم نفسه من القرب من الله، فهو دوماً ينصبُّ عليه البلاء والشقاء بصورة متمادية.
__________
(1) سورة البقرة: الآية (102).(1/57)
وما أصابه البلاء والشقاء إلا ببعده وإعراضه " فالبعد والإعراض عن الله سبب كل بلاء، ومصدر كل شقاء "، إذن: لفظ الشيطان ينطبق على السحرة وأوليائهم الشياطين، إذ غدا الساحر من شياطين الإنس، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ.. }(1).
وفي سورة الناس قوله تعالى: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ},{الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ},{مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ}.
إذن " السحرة ": هم شياطين الإنس الذين هبطوا بنفوسهم إلى عالم الجن.
أما " شيطان الجن ": فهو من الجن، خرج بنفسه إلى عالم الإنس، فهو مجرم يبغي الأذى والعدوان والتفرقة والضغينة. فالجن هم مخلوقات مكلفة بحمل الأمانة كالإنس: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(2)، وكلمة الجن مأخوذة من فعل " جَنَّ "، وجن: بمعنى ستر، منه الجنين وهو الولد مادام في رحم أمه، وكذلك (المجنَّة): وهي المقبرة حيث توارى وتخفى أجساد الموتى، وقد فصل تعالى بين عالمي الجن والإنس، وجعل بينهما برزخاً،فلا يلتقيان بالحالة العامة النظامية،أما إذا صار شذوذ عن أوامر الله وارتكاب للدنايا، عندها يسلك شياطين الجن مع المرء مسلك العاصي الشاذ المخالف لأمر الله،فيظهرون على الإنسان المخطئ بالارتكابات، ويخيِّلون له الفواحش، ليعبُّوا من الدنيا الدنيَّة، وليقترفوا ما هم مقترفون، إذ نفوسهم سرت لعالم الشياطين، حيث نهاية المطاف تلتقي نفوس الفريقين الشاذين بسبب المعصية والشرور "والعياذ بالله" على الشر والأذى والحرام بأنواعه، وهذا هو الطريق المهلك للإنسان.
__________
(1) سورة الأنعام: الآية (112).
(2) سورة الذاريات: الآية(56).(1/58)
إذن السحر: هو تلك الأعمال والممارسات النفسية الجهنَّمية القذرة التي يقوم بها "الساحر"، والتي تكون مرتبطة أشد الارتباط بعالم الخفاء (الجن)، الشياطين منهم،" فيتم التعاون بينهما في عمل السحر، وهذا العمل خفي في حقيقته عن الأعين "، وهذا هو المدلول اللغوي لكلمة " السحر "، حيث لا يظهر من الساحر المحترف أثناء ممارسته لسحره إلاَّ بعض الحركات أو الأقوال، أو الرموز المبهمة.
وهنا لا بد لنا من التعرُّض لسؤال يطرحه الكثير من الناس البسطاء، ويزعمه الكثيرون من أهل السوء الذين يخوضون في مضمار السحر ، ألا وهو :
* ... * ... *
((هل هناك تسخير للجن المؤمن في أعمال الخير؟. ))
وهل يظهر الجن المؤمن على إخوانه المؤمنين والمؤمنات من الإنس؟.
الحقيقة كل الحقيقة: ...
لا يوجد جن مؤمن يحضر نفسياً لعالم الإنس على الإطلاق، فكل من يحضر من الجن لعالم الإنس فهو حتماً ويقيناً من الجن الكافر، أي: شيطان مَريد، ولكنها دعواهم بأن هناك جِنّاً مؤمناً، ليخدعوا البسطاء من الناس.
فكيف يكون مؤمناً ويعبر في امرأة ؟!. وقد قال تعالى عن الشيطان :
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(1).
{مَا لاَ تَعْلَمُونَ}له أساس أو أصل أو وجود في كتاب الله، بل هو مخالف لكلام الله، فهو مرفوض لأنه من خروقات عدوكم الشيطان لهلاككم.
وتحذير الله تعالى صريح في كتابه :{يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا..}.
هذا قوله تعالى: احذروا أن تستهووا ما يقدمه الشيطان، حيث كانت غايته أن ينزع عن أبينا آدم وأمنا حواء حال الإقبال( لباس التقوى) ليريهما ما يسوؤهما.
{
__________
(1) سورة البقرة: الآية (169) .(1/59)
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ}(1):أدلاّء لإخراج ما فيهم من خبث. فلماذا جعلهم الله تعالى بهذا؟.
المريض لا بدَّ له من علاج. فالتخمة تحتاج لمسهل، الدُمَّل لا بدَّ له من منقِّي مخرج للقيح.
فمن امتلأت نفسه بالخبث، الشيطان يصبح دواءً له، يخرج له مافي نفسه من شهوة خبيثة، بعدها يداويه الله تعالى بشدَّة، ببلاء لعله يرجع. فهو يراكم وأمثاله من الشياطين فقط، وهم أولياء للذين لا يؤمنون، ولا تجد قوماً يؤمنون بالله يواددون من حادَّ الله ورسوله، فلو كانوا مؤمنين لما كانوا أولياء للكافرين من الشياطين.
ليس هناك جن مؤمن يظهر للإنس مطلقاً.
ولكن هناك سؤال:
كيف تحضر الشياطين على الناس كملائكة أم كجنَّة شياطين؟!.
تمَّ بعون الله الجزء الأول
ويليه الجزء الثاني
-
كيف تحضر الشياطين على الناس
كملائكة أم كجنَّة شياطين؟!.
... ...
أقول :
__________
(1) سورة الأعراف: الآية(27).(1/60)
لا يأتي الشيطان إلا عن طريق الغشّ والخداع، فلو عرف الناس أنه شيطان مَريد لما صدَّقوه، ولأفلتوا من تأثيره الضار المؤذي، وقد ورد في القرآن الكريم قول الشيطان ونيته الخبيثة تجاه بني آدم: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ..} (17) سورة الأعراف:فهذه تنطبق على البسطاء من الناس الذين يأتيهم عن أيْمانهم، أي: عن طريق ادّعاء الدين وقراءة القرآن واليُمن والخير ليخدعهم وليستسلموا إليه لإتيانه مكراً باسم الدين، وليطعن بالدين وأهله، فإن ظهر من يدَّعي بأنه جنٌّ مؤمن فهو شيطان مريد , ليثبِّت أقدامه ويستحكم بنفوس المغشوشين به، ويحقق مآربه الخبيثة الشريرة لإهلاكهم. تلك الدعوة الكاذبة تنطلي على كثير من الناس البسطاء،قد ارتداها وتنكَّر بها السحرة في البلاد التي تحمل صبغةً إسلامية، فلقد ظهروا زوراً بطابع ديني، والدين منهم بُراء، والقرآن يحذِّر منهم ويفضحهم .
الولي هو المتابع لحدود الله: ... هذا وإن كان هناك أحد من رجال الدين يقول عكس قول الله فلا ينبغي لمؤمنٍ أن يتبعه، لقوله تعالى:
{مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ ..} (79) سورة آل عمران: فلا نبي ولا رسول يقول للناس اسمعوا كلامي، ولا يقول للناس شيئاً غير ما ورد في كتاب الله، وهذا ينفي كل قَولٍ يخالف القرآن، لا يقول نحن من أهل التشريف لا التكليف، فليس علينا جُناح أن نفعل ما نشاء، لأننا خير من الناس لأعاجيبنا،نفعل العجائب السحرية، ولو ارتكبنا المعاصي فهي لنا طاعات، هذه أقوال شياطين الإنس من السحرة، أما المؤمن فيقول: {.. وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ ..} (79) سورة آل عمران: اسمعوا كلام المربي ،هذا ما يقوله المؤمن: اسمعوا كلامي عن كتاب الله، سيروا بدلالة الله،بالقرآن.
{(1/61)
وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا ..} (80) سورة آل عمران:تقول جاءني الملك فكلَّمني كذا وكذا، وهو مخالف لكلام الله، هذا شرك .
( أتقول إلهام؟!. ما في إلهام ... كله ضمن كتاب الله، إن وافق فهو حق: حتى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم ارجع فيه لكتاب الله، فهو من عند الله إن طابق، وإن خالف فما قاله صلى الله عليه وسلم أبداً وهو كذب عليه )، هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يضمن نفسه إن عصى وحاشاه، فكيف يردُّ عن غيره ممن عصى؟!. وهذا ما تبيِّنه الآية الكريمة:
{قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} (15) سورة الأنعام. فالعبادة لا تكون إلا لله تعالى،والشرك هو السير بكلامٍ يخالف كلامه تعالى، ولو وثَّقه الموثِّقون ووثَّقوه، فرجل الدين حقاً إنما يمشي في مضمار الحق والحقيقة المنبثقة من القرآن وتعاليمه السامية، ومن خالف القرآن فهو ليس برجل دين، إن هو إلا داعٍ للشيطان الرجيم، بل هو من حزبه وجنده. ( فليس هناك جن مؤمن يقْرب عالمنا أبداً )، وما ذكر القرآن ذلك أبداً، بل حذَّر من الشياطين بقوله تعالى لرسوله الكريم: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ،وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ} (97-98) سورة المؤمنون.
فكلمة ( الجن ) بحدِّ ذاتها تشرح هذا، وكما سبق من قبل وبيَّنا , حيث أن عالم الجن مستورون عنَّا، قد فصل الله بيننا، وكل مخالفة لذلك وظهور من ذاك العالم للإنس، فهو معصية وشطَنٌ عن الحق والحقيقة. ( حيث لا يدخل عالمهم نفسياً إلا تابع للشيطان، امرؤ كافر ليس بمؤمنٍ ). هذا وقد حذَّرنا تعالى من هؤلاء الشياطين:
{(1/62)
يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (27) سورة الأعراف: إذن ما غايتهم إلا الضرر والأذى،والأمر بالسوء والفحشاء ظاهراً وباطناً، ومن الناس من يفتخر بأنه يراهم وأنهم يحضرون عليه، ظنّاً منه أنهم ملائكة يتنزَّلون عليه بالأوامر الإ?لهية، وهذا ما يحدث كثيراً عند بعض النساء، إذ يتحدثن بذلك ويعتبرنه فتوحاً، وتكون قد جرت المياه الآسنة من تحتهن سواء علمن أم لم يعلمن ،والشيطان قد مكر بهنَّ، ولفَّ حبال شباكه حولهن، مدَّعياً أنه جنٌّ مؤمن،وحتى أنه قد يدَّعي بأنه مَلَكٌ، والحقيقة أنه شيطان عدو مريد، يبغي تدميرهن وتفريقهن عن أزواجهن وهلاكهنَّ .
فسيدتنا مريم الطاهرة العذراء اضطربت وهي في خلوتها من رؤية رجل، قال تعالى: {فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا،قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ ..}:أي: إنني التجأت واحتميت بالرحمن منك فمن أنت؟!. قال لها: إني مَلَك. فقالت:{.. إِن كُنتَ تَقِيًّا }(17-18) سورة مريم: قالت له:ولو كنت ملكاً، ما دخولك؟. قوانين الله وحدوده فوق كل شيء. ولم تقبل دخوله على خلوتها في حجرتها بصورة بشر حتى تيقَّنت من أنه رسول من قبل الله، لأن الملائكة سبق وبشَّرتها بالسيد المسيح عليه السلام، وأرسل سيدنا جبريل لها نفس سيدنا عيسى المسيح عن طريق فمها أثناء الحديث.
مفاجأة مذهلة: ... ما أصعبها من لحظة على الذين يظنون أنهم يحسنون صنعاً بسماعهم كلام الملائكة(1/63)
على ظنِّهم، عند ظهور الحقيقة أنهم كانوا أتباعاً لأعدائهم الشياطين، يقودونهم للمعاصي ثمَّ لنارٍ تلظَّى، وهم ظانين أنهم بطاعة الله عن طريق الملائكة سائرون، وإذ هم بالشرك والمعصية والرذيلة غائصون.
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} (40) سورة سبأ: فتجيب الملائكة: {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ} (41) سورة سبأ، {.. اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} (30) سورة الأعراف. وعندها لا عودة إلى الدنيا، ولا عمل صالح، بل فقدان الأمل وظهور الفشل يلازمهم، فيلجئهم إلى النيران تخفف عنهم آلامهم النفسية الرهيبة، لما اقترفوا من موبقات ومعاصي قادهم لها الشيطان الرجيم.
إذن: علينا أن لا نصدِّق أبداً أن هناك جنٌّ مؤمن يقرب عالمنا أبداً، ولو ادَّعى أنه ملَك زوراً وبهتاناً. ولا يقرب عالمنا من الجن إلا الشيطان، وهو حتماً من الجن الكافر.
فحذار من سوء البذار، واستجيبوا لربكم من قبل أن يأتي يوم لا مردَّ له من الله، وهو تعالى يخاطب فيه أولياء الشيطان:{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ،وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ،وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} (60-62) سورة يس
وحقائق ... عمدت السحرة على تشويه الأديان السماوية أولاً، وكان هذا ديدنهم بقاءً على
عهدهم مع أبيهم اللعين إبليس بالقعود على الصراط المستقيم، فلا نجد أصحاب الكرامات وخوارق العادات منتشرة فقط بين المسلمين، بل هناك مُسحاء كذبة وأنبياء كذبة كما سماهم السيد المسيح عليه السلام:
((1/64)
يعطون آيات وعجائب تخييلية لكي يضلُّوا لو أمكن المختارين أيضاً )(1).
وقد حذَّر منهم عليه السلام أيّما تحذير وقال:
( احذورا الأنبياء الدجَّالين الذين يأتون إليكم لابسين ثياب الحملان، ولكنهم من الداخل ذئاب خاطفة. من ثمارهم تعرفونهم، وهل يُجنى من الشوك العنب؟!. )(2).
هؤلاء الذين يصنعون المعجزات أو الكرامات وخوارق العادات وبادعائهم الولاية والدعوة للدين الحق باسم رسالة الإسلام أو السيد المسيح ما مصيرهم حقاً؟!.
هؤلاء يدّعون أن كبار سحرتهم رسل وأنبياء، وهم إباحيّون مكارون.
لقد كشف لنا القرآن الكريم خفايا أولئك ونتاج أعمالهم المهلكة، والشقاء الأبدي الذي سيحل بهم، وتبين لنا ذلك جليّاً في السابق.
والآن كذلك أقوال السيد المسيح عليه السلام تكشف لنا نتاجهم المهلك لهم أولاً وأخيراً، فيقول عن يوم الجزاء على الأعمال:
( في ذلك اليوم سيقول كثيرون.. أليس باسمك تنبأنا، وباسمك طردنا الشياطين، وباسمك عملنا معجزات كثيرة؟. ولكني أصرح لهم: إني لم أعرفكم قط!. ابتعدوا عني يا فاعلي الإثم)(3).
وذلك قول رسل الله قاطبةً لمثل أولئك الأدعياء الكذبة مشوهي الأديان...
* * *
كيف يؤثِّر صاحب الألعاب السحرية على مئات المشاهدين؟!.
ولعلك تسأل:
ما هو تأثير ممارسي السحر الذي يعتمد على التخييلات (كضرب الشيش،
أو إخراج الحمام والبيْض، وليرات الذهب وشفرات الحلاقة، وغيرها من
" أبواب السيما " كحرق ولد في مجمر ثم إخراجه، أو المشي على الماء، أو أكل الزجاج ...)؟!.. فالمشاهد في منأى عن الساحر,وهل يعقل أن هذا يؤثر على مئات المشاهدين جملة واحدة؟!. في الجواب نقول:
__________
(2) متى 7/15.
(3) متى 7/22،23.(1/65)
إن من قوانين النفس البشرية تقديرها وإعجابها بنفس متفوقة عليها في ناحية من النواحي,وهذا التقدير والإعجاب له أثره في سلوك الإنسان,وعليه يتوقف سيره واتجاهه في الحياة،لاسيما بالخوارق التي تجذب النفوس لما هو جديد ومجهول ومثير، فيظنونها إعجازاً، وهي بقوانينها الشيطانية دجل (وهيلمة) على عقول من لم يدرس كتاب الله الكريم، ويغدو له بإيمانه نور في قلبه يكشف قوانين السحرة السريانية النفسية القذرة وإخوانهم من أعداء البشرية من الشياطين.
هذا لأن النفس المقدرة المعجبة إنما ترتبط دوماً برباط وثيق، وتصاحب صحبة معنوية تلك النفس التي قدَّرتها وأُعجبت بها، وذلك هو قانون من قوانين النفس، وسُنَّةٌ من سُنَنِها التي رسمها لها خالقها وموجدها:
{.. وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} (62) سورة الأحزاب،{.. وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا } (43) سورة فاطر.
على أن هذا التقدير والإعجاب بالآخرين يختلف من شخص إلى شخص، ومن نفس إلى نفس،فكل امرئ إنما يقدِّر غيره على حسب ما تميل إليه نفسه وما يهوى، فبعض الأنفس السامية المستنيرة بنور الله وغيرها تقدِّر غيرها لعلمه ومعرفته، أو ملكه وسلطانه،أو كماله وخُلُقِه،أو لشجاعته ورحمته وشهامته، أو أي شيء من الأشياء الأخرى، فلكل امرئ ميول ونواحٍ يهتم بها دون غيرها، ولذلك تراه لا يقدِّر إلاَّ من سبقه في تلك الميول وتفوَّق عليه في تلك النواحي.
* ـ فهؤلاء إخوة سيدنا يوسف عليه السلام، وكذلك أبوه وأمه، إنما قدَّروا فيه عليه السلام كماله لأن نفوسهم كانت تهوى الفضيلة والطهارة والكمال أكثر من كل شيء في هذه الحياة: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا ..} (100) سورة يوسف.(1/66)
* ـ أما سحرة فرعون الذين كانوا علماء في السحر فقد قدَّروا علم سيدنا موسى عليه السلام لما رأوا ما أبطل سحرهم وعلمهم وعملهم جميعاً: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ،فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ،فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ،وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ} (117-120) سورة الأعراف.
* ـ وقد سجدت بلقيس ملكة سبأ مقدِّرة سيدنا سليمان عليه السلام لكونها ذات ملك عظيم، فما أن رأت ملكه عليه السلام وتفوُّقه عليها في هذه الناحية حتى عظَّمته وقدَّرته، وارتبطت نفسها به خاضعة لله تعالى :
{قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (44) سورة النمل. أما آثار هذا التقدير والسجود النفسي فهي كما رأينا انعكاس ما في هذه الأنفس السابقة وانطباعه في الأنفس المقدِّرة.(1/67)
فلقد انعكس ما في نفس سيدنا يوسف عليه السلام من السبق في العلم بالله ومحبته في نفوس أبيه وأمه وإخوته,فكان لهم إماماً يرقى بهم رقيّاً نفسيّاً في هذا المضمار. وانعكس في نفوس السحرة ما في نفس سيدنا موسى عليه السلام من إيمان ومعرفة، و: {قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ،رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} (121-122) سورة الأعراف، وما عبؤوا بما هددهم به فرعون من تعذيب وتنكيل وتصليب؛ فخاطبوه بما شهدت نفوسهم من الحق غير عابئين: {قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا،إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى،إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى،وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى،جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى} (72-76) سورة طه.
فيا ترى من أين جاء السحرة بهذا البيان الذي بيَّنوه، وقد جيء بهم من المدائن المختلفة محضَرين؟!. وما سمعوا من سيدنا موسى عليه السلام بياناً ولا دلالة!.
ولم يكن لهم به عليه السلام سابقة اجتماع!.(1/68)
إنه التعظيم والتقدير لعلمه عليه السلام جعل نفوسهم ترتبط بنفسه المقبلة على الله , وهنالك شاهدوا ما شاهدوا من حقائق، فقالوا ما قالوا من كلمات اليقين والإيمان , وهكذا إذا أنت قدَّرت أي شخص من الأشخاص فلا بدَّ لك من أن تدخل مدخله , وترد مورده، وتنعكس أحواله في نفسك، فإن كان من أهل الفسق والإلحاد تبدَّى ما فيه ظاهراً في نفسك، وإن كان من أهل الكمال والإيمان صرت تشعر بهذا الكمال، ودخلت بمعيَّته في مداخل الإيمان، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول داعياً:
« اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي »(1),لقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو بهذا الدعاء لأنه عرف قوانين النفس وسننها، فكان يخشى من وصول هذا الخير إليه على يد بعيد عن الله، خوفاً من أن يميل قلبه فتنعكس أحواله في نفسه.
فانظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الخلق يخشى هذه الخشية، ويدعو بهذا الدعاء حرصاً على صفاء نفسه، فما حالنا نحن إذا ملنا بنفوسنا مستعظمين أهل الضلال والفحش والإلحاد والسحرة والشياطين؟!.
قانون النفس التقدير ونتاجه: ... على أن السحرة وأولياءهم الشياطين أدركوا هذه القوانين النفسية، من ميل النفس
المقدِّرة وسلوكها في وديان النفس السابقة لها بمضمار ميولها وأهوائها.
ولذلك خرجت السحرة إلى الناس بصور شتَّى، واتَّبعوا في هذا طرائق عديدة، أي: "حسب رواج السوق"، ففي البلاد الإسلامية حيث المسلمين البسطاء وميولهم نحو الدين خرجوا إليهم بصورة " شيوخ، أصحاب برهان وكرامات" لتستعظمهم الناس ويغرروا بهم، أما في بلاد انتشر فيها العلم: فظهروا " كعلماء مغناطيسيين "، وفي بلاد ينتشر فيها الطب " أطباء روحانيين "، وهكذا يختبئون وراء القناع المبجَّل لدى الناس.
__________
(1) الأحياءج2، رقم الحديث/1/.(1/69)
فهذا الإنسان بمجالسته للسحرة يتشرَّب منهم الإعراض والظنون السيئة بالله , والأحقاد والضغائن ضد الحق وأهله، بل وضدَّ الناس جميعاً ما لم يكونوا شياطين، حتى ولو كانوا أهله وأقرب ذويه،من حيث لا يدري,كما قال صلى الله عليه وسلم:
« المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل »(1).
وطالما أنه يجالسهم والله نهى عن ذلك، فسيجُرّونه إلى الفحشاء والسوء، وسوف تترك هذه المجالسة نتائج سيئة على الإنسان الذي جالسهم , وهذا ما حذَّر منه سيدنا علي - رضي الله عنه - :(مجالسة أهل الهوى منساة للإيمان، محضرة للشيطان). فما بالك بمجالسة أولياء الشيطان؟!.
فمن جالس شارب الخمر ولم يتجنبه، يأتي يوم عليه يشرب فيه الخمر، فالطبع سرّاق، فجانبوا أهل البدع. وكما قال عليه الصلاة والسلام: « الوحدة خير من جليس السوء، والجليس الصالح خير من الوحدة »(2).
وأخيراً:
قد عرفنا من قبل ما هو الجوهر الأساسي في الإنسان، حيث لب المشاعر والأحاسيس والعواطف وهي النفس، الذات العاقلة التي تعقل الأمور، وتدرك مدلولاتها عن طريق التفكير الدماغي، وتتعرف لما حولها من محيط بواسطة الحواس الخمس،(أما إن صار الإنسان من ذوي البصيرة حيث ترى نفسه الحقائق بالنور الإ?لهي أصبح أُفقُهَا أوسع بكثير من أفق الحواس الخمس، وعقلها ومعارفها أعظم بكثير من عقلها عن طريق الحواس الخمس والتفكير) ،طبعاً عرفنا من قبل أيضاً كيف أصبح الساحر ساحراً، وكيف ارتبط نفسياً وسرى لعالم الشيطان الخفي، وأصبح يرى بظلمة البعد عن نور الله والخيانة رؤىً شيطانية، تنتمي لعالم الجن الشيطاني ، قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ،تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (221-222) سورة الشعراء.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي.
(2) الجامع الصغير ج6،رقم الحديث/9666/.(1/70)
هذه الرؤى هي عكس مشاهدة الحقائق والأنوار الإ?لهية بمعيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، عكسها بـ/180/درجة تماماً، فهما على خطَّيْن متوازييْن لا يلتقيان، فالمشاهدة بالنور الإ?لهي شهود سامٍ علوي، وهو حقيقة الصلاة ولبابها، وفيه الروح والريحان وجنة النعيم في الدنيا قبل الآخرة.
أما سريان الذات الشاعرة (النفس) بالظلمة مع وسيطها الغاسق الشيطان ففيه الدمار والشقاء النفسي الأبدي، إن لم تعقبه التوبة النصوح، والتراجع عن هذا الطريق المرعب الرهيب،فهؤلاء السحرة وبسريان نفوسهم المظلمة لعالم الجن الشيطاني أصبحوا يرون رؤىً بعالم الجن،قال تعالى{.. إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} (30) سورة الأعراف،(رؤى لصور الأمور في عالم الخفاء،لا للحقائق التي هي في عالم النور والبهاء، عكس ما هو عليه أهل التقوى المستشفعين برسول الله صلى الله عليه وسلم )، طبعاً منح الله تعالى النفس "إنساً وجِنّاً وهم المكلفين الذين قبلوا حمل الأمانة " طاقة عظيمة، وذلك لكي يسخروها في الوجه المذكور لتصل للصلاة الحقيقية، أما إن صار العكس تماماً كما هو حال السحرة، فإن هذه الطاقة تمكِّنها من بعد ولوج هذه الخيالات والعوالم القذرة أن تخيِّل بمعيَّة الشيطان "بعد أن تصبح بشفاعة تامةٍ معه " للناس، فيظهر الشيطان المقترن بنفس الساحر بصور وحالات مختلفة غريبة، لا يمكن أن تحدث بالحقيقة أبداً، قال تعالى:
{..(1/71)
سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (116) سورة الأعراف،إذن يستطيع الشيطان أن يظهر للإنسان نفسياً، ويخيِّل إليه هذه التخييلات (نفسية لا حقيقة)، وذلك بعد توجهه إلى نفس الساحر المتحررة من نطاق المادة (الجسم) برياضات نفسية وجسمية شاقة ومرهقة، كما هو الشيطان الذي بطبيعة خلْقه "خلْق الجن عامة" يستطيع أن يتحرر من طبيعة المادة بطبيعته،وبشيء من التفصيل والتبسيط نقول: مثلاً، عندما يقف المشاهد لساحر يريد أن يضرب ذاته بالشيش، هذا الإنسان يتجه بنفسه"ذاته الشاعرة " للساحر يستطلع ويرى ما سيحدث، كما ينظر الطلاب لمعلِّمهم ليقتبسوا العلم والمعرفة نظرة علوية لعلم لم يتوصَّلوا بعدُ إليه.
فالنفس لها شعاع أينما اتجهت يسري إلى حيث تتجه، فعن طريق العين تسري بأشعتها للساحر الذي بلحظة ما يسترجع ذاته ويجعلها مطيَّة للشيطان الذي يتخلله ويمتطيه،وتصبح النفسان نفساً واحدة، عندها يخيِّل الشيطان ما يخيِّله عن طريق الساحر للمسحور، فيرى ويظن نفسه أنه يرى أموراً حقيقية، لكنها بالحقيقة كلها خيال وتخييل، وفي تلك المجالسة والنظرة التقديرية يتم التشرب النفسي من نفوس السحرة وشياطينهم، وسرعان ما تنعكس على النفوس المتشربة الأحوال الشيطانية الخبيثة، من حبٍّ للفواحش وهمٍّ وضيقٍ وضنكٍ وإرهاقاتٍ وهموم وغموم لا تنكشف إلا بإلحاق الأذى بالآخرين، كما هي أحوال الشياطين. ولكن هناك سؤال:
* ... * ... *
كيف خُيِّل إلى سيدنا موسى عليه السلام أن حبال السحرة وعصيهم (أنها تسعى)؟!.
هذه القصة تحتاج لقليل من التدقيق لاستجلاء حقيقتها:
فلو أننا استعرضنا أقوال سيدنا موسى عليه السلام لفرعون وآله وللسحرة قبل المباراة لاستبان لنا وجه الحقيقة،فقوله عليه السلام لفرعون وآله:{.. أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ} (77) سورة يونس.(1/72)
فهل أفلح الساحرون وخيَّلوا له وسحروه كما سحروا أعين الناس؟!. وقوله عليه السلام للسحرة: {فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ،فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} (80-81) سورة يونس.
فلو كان كما ظنوا أن سيدنا موسى سُحِر وحصل له تخيل أو أثَّر عليه التخييل لما استطاع أن يهاجمهم بقوله: ما جئتم به السحر إنَّ الله سيبطله، أي: تخيلات زائفة كالسراب لا حقيقة لها، لأنه قالها بعد أن ألقوا حبالهم وعصيهم، وظهرت لأعين الناس أفاعي ضخمة وحيَّات خيالاً لا حقيقة، ولكن الناس ظنوها حقيقة. إذاً: فلو سُحِر عليه السلام لما قال لهم بعد ما ألقوا حبالهم وعصيهم :
{.. إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ..}، لأن المسحور لا يستطيع أن يهاجم، وذلك القول أبلغ التحدي والاستهزاء بعمل السحرة، فكيف يقولون أنه عليه السلام سحر؟!.
إذن: فقول سيدنا موسى عليه السلام للسحرة:{.. مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ..}: هذا هو السحر: الأعمال التخييلية الشيطانية، هذه الخديعة تنطلي على البسطاء عميان القلوب، ولا تنطلي على أهل البصائر.
ولو أننا قارنَّا بين ما حصل للناس عندما جاء السحرة بسحرهم، وبين ما حصل لسيدنا موسى عليه السلام لوجدنا أن السحرة :{.. سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (116) سورة الأعراف.
فقد وقع السحر على الناس وخافوا مما شاهدوه.
أما سيدنا موسى عليه السلام لما ألقى السحرة: {.. فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى } (66) سورة طه.(1/73)
أي: فكلمة يخيَّل هنا تعني أنه عليه السلام أُرِيَ وشاهد أنها مجرد خيالات لا حقيقة ولا مادية لها، كما أنك ترى الخيال المرتسم على الحائط أمام ضوء الشمعة كجسم كبير أو وحش ضخم جراء شبك أصابعك ببعضها بوضعية ما. فلم يخيَّل عليه كما وقع السحر على الناس، بل جيء بها بين يديه مكشوفة له، فرآها خيالات لا حقيقة لها كالسراب، وبما أنه نبي مستنير بنور الله، يرى حقائق الأمور ولا يخفى عليه خداع البصر لأنه يرى ببصيرته النورانية، خشي على قومه وعلى جمهور قوم فرعون من ألعاب الشياطين والسحرة: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً..} (67) سورة طه: على الناس من مكرهم وتخييلهم ودجلهم، فطمأنه تعالى بكشف زيفهم والنصر عليهم بقوله تعالى:{..مُّوسَى ،قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى} (68) سورة طه: فسننصرك. إذن:
خداع البصر يؤثر على من لم تفتح بصيرته بنور الله، أما الأنبياء فهم أهل البصائر والاستنارة: لا يخيِّل عليهم ساحر، فلا يفلح الساحر عليهم فيما أتى.
وردت الآية صريحة، تبيِّن لنا أن الشياطين ما دنت من سيدنا موسى عليه السلام ولا دخلت عليه، ولم ينطلِ سحرهم عليه، لأنه دائم الوجهة إلى الله، بل كل ما في الأمر أنه خُيِّل إليه، أي: أُرِيَ، وشاهدها مجرد خيالات لا ماديَّة لها،
لا كما وقع للناس، حيث سُحِرَت أعينهم، وتمَّ وقوع السحر عليهم.
ومن الواضح أن حرف{.. إِلَيْهِ ..} يدل على الانفصال، ولم يجرِ سلطان لساحر
أو شيطان على سيدنا موسى عليه السلام.(1/74)
ولبيان عدم إمكان دنو الشيطان من الأنبياء في هذا الحال الجسمي،حيث أن أنفسهم صلوات الله عليهم دائمة الإقبال على الله، فبما عرفت من رأفة الله ورحمته بخلقه، وبما شهدته من كماله تعالى وجماله اللامتناهي، أضحت عاكفة في ذلك الجناب العالي، وهي والحالة هذه مغمورة بذلك التجلي الإ?لهي، مشمولة بذلك النور المتوارد على نفوسهم بصدقهم القوي جداً مع الله، وحبّهم العظيم له تعالى، لذلك لا يستطيع الشيطان دنواً منهم، ولا أن يخترق ذلك النور الإ?لهي.
وهم صلوات الله عليهم بهذا التجلي في حصن حصين من الشيطان، وحرز منيع، بل على العكس تماماً، هم على الشياطين متسلطون هازمون حارقون:
{.. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء ..} (6) سورة الحشر
كيف ولّى سيدنا موسى عليه السلام مدبراً؟!. ... ولعل سائل يسأل: كيف ولّى سيدنا موسى عليه السلام مدبراً ولم يعقب عندما ألقى عصاه فرآها كأنها جان؟! وفي الإجابة على هذا السؤال نقول:
قال تعالى: {وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} (10) سورة النمل. الأنبياء والمرسلون هم نبراس الفضيلة والطهارة والكمال بما اشتقت نفوسهم بإقبالهم العالي على الله تعالى، فهم دوماً في اتجاه وإقبال في مشاهدة ذي الجلال والجمال.
وهذا الإقبال الدائم على الله،وهذه الاستنارة المتواصلة بنور الخالق، جعلت في قلوب هؤلاء الرجال بصيرة نافذة، فرأوا بنور الله تعالى الحق من الباطل، وميَّزوا الشر من الخير، وشاهدوا الطريق السوي واهتدوا إلى الصراط المستقيم، وبمثل هذه الصفات الكاملة التي تحلّت بها نفوسهم، وتلك الرحمة التي اكتسبوها من الله، صاروا أهلاً لأن يصطفيهم خالقهم، وجديرين بأن يختارهم ويجتبيهم ربهم ليكونوا هداة لخلقه قائمين بتلقي رسالته وتبليغها لعباده.(1/75)
هذا ولم يرسلهم تعالى إلاَّ بلسان قومهم، فسيدنا عيسى عليه السلام جاء بعصر الطب وتفوقه بمعجزات ما أبطل علمهم، كإحياء الموتى، وخلق من الطين كهيئة الطير فيكون طيراً بإذن الله، وإبراء الأكمه والأبرص.
وكذلك سيدنا سليمان جاء بعصر الملك، وكيف أن الله وهب له من الملك ما لم يهبه أحداً من بعده.
... وكذلك الأمر على عهد سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم إذ أصبح الزمن زمناً يتبارى فيه البلغاء ويتنافس فيه الشعراء، ولم يبق للملك والسلطان تلك القيمة التي كانت له عندهم من قبل، فبيتُ شعر بنظر العرب آنذاك أثمن لديهم من قصور كسرى وقيصر.
وكذلك عصر سيدنا موسى جاء بعصر السحر والسحرة إذ كان بأوجهِ، فأيَّده الله تعالى بمعجزة أبطل بها شعوذتهم ودجلهم وتخييلاتهم، فعندما أراد تعالى أن يكلفه بالرسالة وقبل أن يذهب إلى فرعون وملئه أوحى له: {وَأَلْقِ عَصَاكَ..}: فلما ألقاها. {.. فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ ..} (10) سورة النمل: رآها تهتز كأنها جا?ن من حركتها الشديدة، فخاف عليه السلام لأن نفسه الطاهرة النقية أبت أن يصدر منها إلاَّ كل كمال وفضيلة، ولأنه يعلم أن تلك الأعمال هي من الشياطين الكفرة وإخوانهم من الجن الذين يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون عن إيقاع الأذى بالأخرين والتخييل لهم، فالسحر أحط وأنجس شيء لذلك خاف عليه السلام وولى مدبراً ولم يلتفت نافراً من تلك العوالم السفلية الخبيثة، فطمأنه تعالى:
{..(1/76)
يَا مُوسَى لَا تَخَفْ..} فنفسك الطاهرة لا يصدر منها مثل تلك الأفعال، وأن هذا ليس بسحر وإنما هي معجزة أيدتك بها لفرعون وملئه و:{..إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} ، فأنا اصطفيتك للناس بكلامي ورسالاتي، واصطنعتك لنفسي، فأنت بوادي الطهارة والكمال، لذلك أوحيت إليك لأنك بتلك الصفة العالية ونفسك تطوي معارج الكمال طيّاً، فأنا اخترتك رسولاً إلى فرعون وملئه، وأيدتك بتلك المعجزة لتكون لهم آية، وإني لا يخاف لدي المرسلون، لأنهم لا يسبقوني بالقول، وكيف يخطئون الطريق ويخافون وهم بأمري يعملون(1)!.
كما أنه لا سبيل للشيطان على كل مؤمن مادامت نفسه مقبلة على الله متجهة إليه، ومرتبطة بنفوس أنبيائه الكرام البررة. قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (99) سورة النحل،إذن نستنتج أنه:
بالإيمان ينعدم تأثيرهم النفسي إطلاقاً: ... ليس هناك ضرب شيش أو رمح بالجسد ولا غيره، بل لو رأى الإنسان وقتها الحقيقة، ولم يتأثر بنطاق السحر هذا وتأثيره على الأعصاب
__________
(1) قوله تعالى في الآية: :{..إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} تدل على عصمتهم، فمنشأ الخوف هو عمل الإنسان ذاته إذ يُكال له ثم يُردُّ عليه، والمرسلون معصومون لعدم انقطاع قلوبهم عن الله، لم يُلبسوا إيمانهم بظلم، فلهم الأمن وبهم الأمان.(1/77)
والنفس السارية من خلال حواسها، لو كان مؤمناً كاملاً فإنه سيرى أن الرمح يمر من جانب الجسم،وليس في الموضع الذي يرى أنه يُضرب برمح، أي أنَّ الرمح حقيقة لا يلمسُ الجسم،فالساحر والشيطان يتعاونان للَّعب بأعصاب المسحور المشاهد لهذا الوهم والتخييل بعد أن يسيطرا على نفسه، فيلعبا بحواسها وإدراكاتها ومشاعرها كيفما شاءا،وكما قال القاضي"فخر الدين "لابن بطوطة( بحادثة الساحر الذي رمى حبلاً وأمر ولداً يصعده...)(1):"والله ما كان من صعود ولا نزول ولا قطع عضو، إنما شعوذة وخداع بصر".
فكما يظهر الشيطان للساحر ويراه ويظن ببداية أمره أنه يرى بعينه المادية، لكنها بالحقيقة رؤية نفسية خيالية تطغى على رؤية المادة وتحجبها،كذلك الأمر بالنسبة للمسحور الذي خضع لتأثير السحر والتخييل، يرى ويظن أنه يرى يقيناً بعينه، لكنها رؤية نفسية انعكست على عينه، إذ طغى التخييل على المادة، وحجبها عن الرؤية إزاء رؤية الخيال.
وهكذا تستطيع أخي القارئ أن تقيس كل الخوارق التي يظهرها سحرة
"أبواب السيما"، وتدرك أنها تتم تماماً بهذا الأسلوب الذي شرحناه بخصوص ضرب الشيش،فحقيقةً: ليس هناك حرق فتاة بالسيرك الروسي السابق الذكر،فماذا بعد الحرق إلاَّ الموت؟!. أم أنه إ?له يميت ويحيي!!. خاب وخسر.
__________
(1) انظر الصفحة رقم/9/ من كتابنا هذا، بحث(الصابئة أقدر على العجائب الشيطانية).(1/78)
فليس هناك تأويل مادي كما يظن البعض، بل الأمر شيطاني حقير، يتم بالسيطرة على ذوات الناس الشاعرة "نفوس المسحورين" بواسطة القرائن الخفيّة الشيطانية، والتخييل لهم، وتصوير ما يشاء الشيطان والساحر أن يُرِيا كل من يشاهدهم،وليس هناك من يخلق الطيور والشفرات وليرات الذهب والبيْض وغيرها ويخرجها من فمه، إنَّما هو وهمٌ وتخييل،فلو كان صحيحاً مادياً ما يفعله صاحب هذه الأبواب لما مدَّ يده بآخر العرض للناس يتسوَّل الليرة والليرتين!!. وكذلك لما أخذ الساحر أجرة بالمسارح على ألعابه السحرية، وكذلك الأمر لكل ما يرى الإنسان منهم من أمور وخوارق تخييلية كما يدَّعون.
وأخيراً:
الساحر امرؤ قلبه مترع بأوخام الدنيا وأقذارها,وروائحه القلبية منتنة،تترع نفسه بما بطَنَ من الفحشاء والمنكر، ولا ينقطع عن أمثاله من الشياطين،شياطين الجن والإنس،فمن يحب أن يكون خليله مثل هذا فهو على دينه.
إذ:« المرء على دين خليله..»(1)كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أمَّن يريد أن يشاهد خوارق السحرة فتلتفت نفسه إليهم مقدِّرة مستعظمة، فتسقط في مجاريهم السفلية الوخمة من حيث لا تدري، فتحب الفحش والحرام والتعدي والخصام؟!.
كما يصيبها مسٌّ من الجان من حيث لا تدري، ليلاً بالكوابيس، ونهاراً بالهموم والغموم،فلا تُفرِّج همومها إلا بالتعدي والارتكابات الحقيرة، لتنسى آنيّاً تعسها وهمها، ولكن لا تلبث حياة الضنك أن تعود ليزداد أذاه ويعمَّ بلاه، فمن دركٍ منحط إلى منزلة دونها للدرك الأسفل.
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا ..} (124) سورة طه
* ... * ... *
تبيان نوايا أهل الحضرات والنوبات والشيش وكيف أنهم يؤثِّرون على الناس بالأصوات الجميلة لسحبهم.
__________
(1) أخرجه أبو داود والترمذي.(1/79)
لقد عمَّت الفتن وكثر المكر والخداع والجهل، والبعد عن الله منبع كل فضيلة وخير وإحسان، ولذا فقد تسلَّل السحرة والدجَّالون والفرق الشيطانية الضالة المضِلَّة إلى عقول الناس الذين يسيرون بالعقيدة والتقليد لا بالتفكير والإيمان، فظنوهم أهل الحق والدين فوقعوا في شباكهم، وانخدعوا بهم.
متخذين من الدين شعاراً ووسيلة لتدمير النفوس والإكثار من حزب الشيطان وأوليائه، متَّبعين أساليب وطرق متعددة لصيد النفوس الضعيفة وسحبها لزمرة الشيطان، ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، وإن هي إلا للالتفاف على عقول ونفوس سذج المسلمين وبسطائهم، وما يقومون به ليس إلا خزعبلات لسحر أعين الناس: {.. وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (69) سورة طه.
فالإسلام دين حق ومنطق وقوانين سامية، ولا خروج فيه عن النظام الكوني البديع الصارم بالدقة، ثم لنتساءل: هل بُنْية أهل الشيش إلا من لحم ودم وعظم وأعصاب وأحاسيس؟. وهل يختلفون عن غيرهم في البنية والتكوين؟!. أم يتميزون بقانون حياتي آخر يختلف عن قوانين البشر حتى لا يتأثروا بالشيش والنار وقطع الرماح والسكاكين، أيعقل هذا؟!.
فكما تبين لنا أن أعمالهم محض سحر وتخيلات وتعاون وطيد بالخفاء مع الشيطان:
ـ تعال أخي نستعرض كيف تبدأ الحضرة الشيطانية (لا الحضرات الرحمانية الناتجة عن الهيام بالله ذي الجلال والإكرام ورسوله الرحيم وأسمائه تعالى الحسنى)، أو النوبة وضرب الشيش وما تنتهي إليه:(1/80)
قرعٌ للطبول، ونقرٌ للدفوف، ورقص كأن صاحبه قد أصبح مجنوناً، وهياج كهياج المخبول، وأصوات شجية تأخذ مجامع القلوب الغافلة عن منبع الجلال والجمال، فتشنف لهم الأسماع، وتطرب لهم القلوب، فتصبح النفوس أسيرة لما تسمع، فقد استيقظ سلطان الهوى وتخدَّر الفكر، وتهفو هذه النفوس المطروبة نحوهم ليتسنى للشيطان العبور إلى نفوسهم والحلول فيها، عندها يسري شعاع من نفوس المحضِّرين للشياطين إلى نفوس السامعين فيصطكُّ بها، ويلامسها وينفذ فيها، وفيما السامع في هذا الحال من الاستغراق المقرون بالغفلة عن الله، وفيما أشعة نفسه متصلة بهذا المطرب الساحر، ينتهز الشيطان الفرصة، لأن الشيطان أعمى إنما يشم الخبث شماً، ولولا شعاع نفس الساحر البعيد عن الله لما استطاع النفوذ إلى السامع، ويتخذ من شعاع نفس الساحر مركباً فيسري محمولاً في هذا الشعاع، كما تسري القوة الكهربائية محمولة في السلك المعدني وإذ بها قد حملها السلك وقد هزَّت من لامسه السلك هزّاً، أو جعلته مصعوقاً مغميّاً عليه، ولولا السلك لما استطاعت السيَّالة الكهربائية إليه وصولاً، ولا مسّته بأذى، وما حركاتهم بحضراتهم السفلية إلا تحضير لنفوس الشياطين، وما أذكارهم وتغنِّيهم بألفاظ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم إلا صورة ماكرة خادعة، أمَّا حقيقتها السافرة: فهي فحش باطني نفسي، وشرك بالله لا يماثله شرك آخر، إذ عندهم أشخاص وأساطين من السحرة يعنونهم في قلوبهم ويطلقون عليهم نفس اللفظ والتسمية (الله، محمَّد) ويتغنون بهم، ليخدعوا السامعين بألفاظهم ويوردوهم موارد التهكلة بنفوسهم.(1/81)
إن هذا المثال الذي قدمناه الآن ينطبق على الشيطان في سَرَيانه هذا تمام الانطباق، فما أن يصل الشيطان إلى الإنسان ويصطك به حتى يخيّل إليه، ويسحر بصره، فيرى ويظنُّ أن ضرب الشيش الذي قام به الساحر حقيقة، وبذا تنطلي عليه الحيلة، وتتوجه نفسه إليه بتقدير وتعظيم، وهنا الطامة الكبرى والبليَّة العظمى على هذا الساذج الغافل عن ذكر الله، فيفرِّغ الساحر ما يستطيع إفراغه من خبث وشهوات في وعاء نفس ذلك السامع، وهنا تتقاذف هذا الإنسان الأهواء والشهوات المهلكة والشكوك بالله ورسوله، فيشيح عنهما إعراضاً، وبُعداً بعد أن امتلأ إناء نفسه بالرذائل والانحطاطات التي لا يجد من تفريغها مهرباً يصبح له الشيطان دليلاً ومعلماً، ولا يجد عن ذلك مصرفاً.
وبذا يكون مُنى الشيطان وهدفه بأن غوى هذا الإنسان، وأوقعه بما أوقعه به من سيء الأعمال ورديئها مبتعداً عن طاعة الله ربه، ويصرفه عن سعادته إلى شقاء أبدي وتعاسة، تجعله بعد أن أوتيَ شهواته المهلكة غداً يهوي في عذاب السعير، ولا يجد عنه بديلاً، تلك سبل السحرة المنحطة وطريقهم المهلك.
فقتْل السحرة إذن يتم بالبعد عنهم، وعن حضراتهم التي يحضّرون فيها شياطينهم الخفيّة.
وما الأمراض النفسية إلا لأن هذا الإنسان كان بعيداً عن خالقه، وسمح لنفسه بحضور مثل تلك الحضرات التي هي من شباك الشيطان، والأوْلى بالإنسان أن(1/82)
لا يحضر مثل هذه الحضرات ( فالطبع سرَّاق فجانبوا أهل البدع )، ولو كان العبد عائذاً بربه مرتبط القلب برسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع في مثل هذه الحفر ولتجنبها، ولو كان مؤمناً مستقيماً على أمر الله وفوجئ بها رغماً عنه لما استطاع هؤلاء الشياطين ضرباً بالشيش ولا بغيره، لأن العائذ بربه محفوفٌ بنور من الله عن طريق رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فلا تستطيع الشياطين الحضور أو الاقتراب من المؤمنين ولا من أتباعهم، ويبطل عملهم فلا يستطيعون للشيش ضرباً، وتبطل أعمالهم التغريرية وأحوالهم النيرانية.
فالنور والنار لا يجتمعان، لأن الشيطان من نار، والنور الذي يحوط المؤمن يحرقه. فالنور المنصب على قلب المؤمن المستعيذ بالله عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكل حاجزاً لا يستطيع الشيطان الاقتراب منه، أو اختراقه، لأنه لو اقترب لهلك واحترق، قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (99) سورة النحل.
وإذا ما سألت هؤلاء: لِمَ هذه الحضرات الهيستيرية والنوبات؟!. لأجابوا: بأننا نبرهن من خلال ضرب الشيش وغيره بأن ديننا هو الحق بين الأديان. ولو عدنا إلى قولهم بموضوعيةٍ لوجدنا أن قولهم هذا هراء وبعيد عن الصحة وتدجيل واضح جلي، فالذي يريد أن يقدِّم برهاناً على أن الدين حق لا يقوم بمثل هذه الأعمال داخل المساجد،أو في منازل المسلمين وقراهم، فما الحاضرون إلا مسلمون لا حاجة بهم إلى دليل أو برهان!!. وكان الأوْلى بهم أن يبرهنوا أن دينهم الحق أمام الكفرة الملحدين . فهل فعلوا ذلك؟!. ومن هو الذي أسلم من الكفرة بين يدي حضراتهم المشبوهة وشيشهم؟!.. بالطبع لا أحد.
طالما أن الشيش والرصاص والنار لا تؤثر بهؤلاء أصحاب الكرامات المزيفة، فالأوْلى بهم أن يذهبوا ويحرِّروا إخوانهم المسلمين من نيران المستعمر الغاصب، ونصرهم على عدوهم .(1/83)
وحيث أنهم فور انتهاء الضرب بالشيش وسحبه من أجسامهم، وعلى حسب ادعائهم المزعوم يضعون قسماً من بصاقهم على الجرح فيلتئم فوراً، ويندمل وكأنه لم يكن، فلِمَ إذاً لا يذهبون إلى المشافي ويضعون ذلك البصاق على جروح المرضى الذين يتعرضون لعمليات جراحية فتلتئم جروحهم فوراً؟!. بل يضطرون للمكوث في المشافي أياماً وأسابيع وهم يعانون ويكابدون أشد الآلام، فأين هي إنسانيتهم؟!.
ناهيك عمَّا في وضع البصاق بأفواه الناس من قرف وتنفير،( وإن من القرف التلف).
وإن هم أنفسهم أي ضاربو الشيش تعرضوا لعمليات جراحية نتيجة ضرب سكين أو حادث اصطدام بسيارة وغيرها من حوادث فسينطبق عليهم ما ينطبق على غيرهم حتماً، لماذا لا يضعون البصاق على جروحهم لتشفى وتندمل؟!.
ألا يدل هذا وبشكل لا يقبل الجدل على مكرهم ودجلهم؟!.
إذن:ما هي إلا أساليب شيطانية ماكرة( تلك الحضرات وضرب الشيش والنوبات) للتسلل إلى نفوس الناس والإيقاع بهم، وجَعْلِهمْ يسيرون في ركب الشيطان، وإخراجهم من النور إلى الظلمات، وهذا ما تأمرهم به الشياطين، وهم لأوامرهم طائعون، وعن الله ورسوله بعيدون مُعرضون، ولأنفسهم من جنات النعيم غداً حارمون، وبنيران الخلد مقيمون، ألا ساء ما يفعلون.
ولو أنهم آمنوا واتقوا وسلكوا سبيل الإنسانية لرفع الله شأنهم، وأمدهم بالعافية والجاه والمال من طريق الحق العالي القويم.
وسنورد لك أخي القارئ فيما يلي بعض القصص الواقعية، لتحكم بنفسك على كذب السحرة أصحاب الكرامات الإبليسية(السفالات)، وخفة عقل من يصدِّق بها وسذاجته...
* ... * ... *
انفخت طبل الإسلام
...
دخل الرجل مذعوراً كأنما أصابه مسٌّ من الجان، رأسه يسبق قدميه، يتعثر في هرولته، مُزِّقت أكمام ثوبه وتلابيبه، يستنفر الناس في المسجد لنصرة الإسلام، وصاح بصوت متحشرج: يا شيخ!. يا شيخ...(1/84)
وانتبه الشيخ أمين كفتارو والمريدون مشدوهين وقد قطع عليهم الرجل صفاء مجلسهم، والتفتوا إلى المستجير المذعور وهو يزدرد ريقه ليعود صارخاً: يا شيخ،
يا مسلمين، أنتم هنا وقد خرب الإسلام، يا غيرة الله يا غيرة الله...
وتلفَّت المريدون مستغربين، فساءلته عيونهم فتابع صارخاً:
لقد انفخت طبل الإسلام، لقد تعدَّت (نوبة برزة) على( نوبة الأكراد) فبعجوا طبل النوبة.. يا أهل النخوة والحمية لقد انفخت طبل الإسلام.
وبهدوء الواثق التفت الشيخ إلى إخوانه مبتسماً، وقال: المصفاة لا يعيبها خرق.
يا بني.. لقد خرق الإسلام من قبل هذا، خُرق من قبل أشياخه ورجاله، وأي خرق أبلغ من أن يقاس واقع الدين من واقع طبل النوبة؟!.
بلدة برزة كانت بأطراف الشام الشمالية الشرقية، اتصلت اليوم بمدينة دمشق، وفيها مقام الخليل المنسوب إلى سيدنا إبراهيم عليه السلام، وكان أصحاب النوبة يجتمعون في موسم سنوي يرقصون عند مقام الخليل.
وكان هناك (كوّة) طاقة صغيرة إلى جوار المقام لا يتجاوز ارتفاعها متراً واحداً، وكان بعض الناشطين من الخيَّالة من أصحاب الطرق يتبارون في اجتياز هذه الكوة وهم على خيولهم.
وكانت طبول النوبة تقرع طويلاً بين يدي حلقات المجتمعين، وبعض فرسان النوبة يقتحمون تلك الطاقة(1)الضيقة وهم على خيولهم، وجرى خلاف حادٌّ بين اثنين من شيوخ النوبة( أولياء الله أصحاب الكرامات)، وتطوَّر من مهاترات كلامية إلى اشتباك بالأيدي والنعال، تورّط فيه رجال النوبتين. وبعج أتباع نوبة برزة طبلة أتباع نوبة الأكراد، وكان هذا المشهد الطفولي مضحكاً لو أن القوم يفقهون.
__________
(1) علماً على أن المهَرَة في ركوب الخيل يستطيعون اجتيازها إثر قليل من التدريب. لكن الخيَّالة من المشعوذين كانوا يجتازون كوَّة الخليل لخداع الناس والهيلمة على عقول الكثيرين ودمجها بأحابيل سحرهم.(1/85)
ولكنه تحوَّل إلى مشهد دموي، تنادى فيه أصحاب النوبتين إلى ثارات دونها ثارات الجاهلية في سبيل طبل الإسلام.
وذهبت مثلاً بين العوام: ( انفخت طبل الإسلام)، يُضرب للتافه من الأمور.
* ... * ... *
حادثة غريبة ولكنها واقعية
أبطلت نوبة برزة
انتدب قائد الجيش والدَرك العام التركي ضابطنا المحبوب العلاَّمة الكبير محمد أمين شيخو على رأس قوَّة من الدَرَك لحفظ النظام في مهرجان نوبة برزة، حيث تَفِدُ حشود كثيرة من الناس لحضور النوبة " للفرجة" ومشاهدة عجائب السحرة الأفَّاكين.
فجأة لاحظ ضابطنا أن شيخ النوبة الأكبر يتناول من (خُرج) حماره منديلاً فيه (قنينة) من زجاج، ويحتسي شراباً ثمَّ ويعيدها ثانية لموضعها.
اقترب منه بفرسه بهدوء وتؤدة، وسحبها من يده بقوة وسرعة خاطفة، وقرَّبها من أنفه" وإذ بها زجاجة خمر".
جرى ذلك على مشاهدة الكثير من الناس في الحشد، عندها:
جرَّه من على ظهر حماره بعد تلبُّسه بالجرم المشهود، وانهال عليه ضرباً بيده وجلداً بالسوط، وأرسله موجوداً إلى السجن مع زجاجة الخمر كشاهد على حقيقته.
* ... * ... *
الشيخ أحمد الحارون
(( وأهل الخطوة))
تاقت نفسه وتشوَّقت إلى الحج... إنه موثر من أصحاب الغنى والترف، ولكن صعُب عليه صرف الأموال لأنه لم يؤمن بالله العظيم، وأنه تعالى الرزاق ذو القوة المتين.
فهو تعالى ينزِّل الأمطار، وبدونها لا ينبت الرزق، وبيده الشمس والقمر، ولولاهما ما أكل لقمته.
لم يفكِّر يوماً من الأيام بأن هنالك ربّاً سيحاسبه، لأنه ظنَّ أنه لن يموت، وهو ظن خاطئ، فكل حيٍّ من المخلوقات يموت وهذه هي الحقيقة، فما دامت الدنيا لمخلوقْ، حتى للسلاطين والملوك والرسل والأنبياء، فظنُّه غير صحيح فلا بدَّ أن يموت.
نعم لم يفكِّر يوماً بأنه سيموت وسيُسأل عن أعماله الخاطئة، بل جلُّ تفكيره مشغول بجمع المال من حلالٍ وحرام.(1/86)
فأنَّى له أن يفكِّر بالموت وتخاف نفسه فتنظر بآيات الله لتستدلَّ عليه تعالى وتؤمن، وهو قد شغلها بجمع المال، وهو لا يظن أنه سيموت ويُسأل، فهو مع كثرة أمواله وأملاكه يخشى الفقر، فلا ينفق شيئاً للفقير والمسكين، كان لا يعرف جانب ربه.
وقد أحبَّ الحج ليذهب للأماكن المقدَّسة فيقول الناس عنه (حجّي)، ويثقون به فتشتغل تجارته ويكثر ماله. لقد صعُب عليه الإنفاق للحج ودفع المال لنفقات السفر بالطائرة والإقامة، وهو يريد الذهاب، فما العمل؟!..
قال في نفسه: ولكن لمَ لا أجد لنفسي مخرجاً من هذا المأزق؟. فأحفظ المال، وأنال الأجر العظيم بالحج والثواب((ببَلاش)).. هذا ما جال في خاطره... وأين إيمانك بأهل الخطوة؟. أنا سمعتُ عن أهل الخطوة، لِمَ لا أصبح منهم؟!...
لكن الأمر يحتاج للإذن... الإذن من الشيخ الشهير المشهود له بالخوارق، إذ يقولون عنه القُطب الأعظم، والغوث الرباني غوث الولاية، فلِمَ لا؟!...
هذا الشيخ الجليل أحمد الحارون موجود، فهو قطب الأقطاب، وغوث الأنجاب، وسيد الأبدال، يتكلم مع مَن شاء، ومتى شاء من خلال الدِّكة(1).
إذن عليَّ التوجُّه إلى الشيخ أحمد الحارون لأخذ الإذن بعد الصلاة، وما أن فرغ الشيخ أحمد من زائريه ومريديه واتَّجه لبيته منفرداً حتى اغتنمها ذاك التاجر الغني فرصةً، فهرع للَّحاق به قائلاً: شيخي.. إني أقصدك بطلبٍ وما خاب قاصدك.. إني أريدكَ أن تدفعني دفعهْ، فأجابه الشيخ أحمد مستغرباً:( دفعة)!.
ما هي؟.. قال: دفشهْ من يدك، نكشهْ، ضربهْ مباركة، عندها تبسَّم الغني الموثر وتمّم حديثه، وأشار بيده نحو الكعبة قائلاً: فهو أمر لا يخفى عليك، فأنت تاج الأولياء، ومعدن الأصفياء وسلطانهم... أنت القطب الرباني.. بدفعة من يدك المباركة أخطو إلى الحج، ثم بدفعة ثانية أعود بخطوة واحدة كما هو معلوم.
__________
(1) الدِّكَّة: كلمة محرَّفة صوابها"التِّكَّة" وهي رباط السراويل من الأعلى.(1/87)
أجابه الشيخ الحارون بحزم وجدٍّ بالغ: دعك من هذا الهراء، وتابع الشيخ طريقه بعد حسم الموضوع، وعلم أن ما تتلوه الشياطين من خرافات وسخف قد غرَّرت بهذا الغني البخيل، وأوقعته بالأوهام والخيالات.
ولكن عجباً، لقد ظن هذا الغني أن الشيخ يمتحنه لأن هذا الأمر سرٌّ لا يجوز أن يبوح به، بينما هو بالحقيقة لم يفقه من جواب الشيخ شيئاً، ومن كلامه معنىً، بل لقد ظنَّ بنفسه أن المسألة تحتاج منه لصدق لكتمان السرّ، وعليه معاودة الطلب هذا، ولم تمضِ فترة طويلة حتى عاد الموثر ليترقب الفرصة التي تسنح له بالانفراد بالشيخ للطلب بصدق وحزم وعزم. وفعلاً تحققت الفرصة، فهرع إلى الشيخ متوسلاً:
أرجوك يا سيدي... يا قطب الزمان والأولياء الكرام ( وكان الشيخ الحارون عَلماً بين المشايخ)، أرجوك يا ركن الشريعة، وعلَم الحقيقة، وموضِّح أسرار الطريقة... أرجوك دفْشهْ.. أرجوك أن تدفعني فقط دفعهْ واحدة، فأنا صادق بطلبي، ولا أبوح بالسرِّ لأحدٍ أبداً... يا راية علماء المعارف والمفاخر.. لكن الشيخ أعرض عنه، وقد تضايق من سخفه وقلَّة عقله وتفكيره، وهو يكرِّر: لا حول ولا قوة إلا بالله، وانصرف.
أطرق الغني الموثر رأسَه مليّاً... ماذا عليَّ أن أفعَل؟!. أليس هنالك"إذْن"؟!.
فالوقوف على عَرَفة بعد بضعة أيام، فيجب عليَّ أن أسرع، لا بدَّ من حلّ.
الحل هو أن أطلب ( الدفْشه) من الشيخ على ملأ من مريديه وطلاَّبه، فلا يخيبني ويرسلني بلا إذْن. فلا بدَّ أن تلك إرادته، ليعلم طلاَّبه أنه ذو كرامة وخارق عادة.. وهكذا تمكَّن منه ما تتلو الشياطين من أوهام على السذّج من الناس، وأخذ منه كلَّ مأخذ. وبينما الناس مجتمعة حول الشيخ أحمد الحارون وأمام طلاَّبه ومريديه خرج صوته يشقُّ الصفوف بنبرات رجاء ومسْكَنَة:(1/88)
سيدي... أيها القطب الأعظم، ويا غوث الولاية... أرجوك لم يبقَ للوقوف بعرفة إلا أياماً قلائل: أرجوك أغثني بدفشة، أصل لمكة البيت الحرام بخطوة.. أرجوك فلقد طلبت ذلك من جنابك مراراً!...
فابتسم الشيخ الحارون وأخذ التاجر الغني جانباً، وعلى انفراد خاطبه بقوله: هل أنت صادق وجادٌّ بطلب الخطوة إلى المسجد الحرام؟. فأجابه: إي وربي.
وأتمم الشيخ: كم لك من أولاد؟. أجاب: عشرة.
فسأله: هل تحلف بالطلاق ثلاثاً دون رجْعهْ ألا تبوح بالسر ولا تخبر أحداً؟. فأقسم بتلهف بالطلاق ثلاثاً دون رجعة إن باح بالسرِّ أو أخبر أحداً. وطار قلبه فرحاً إذ سيتحقَّق مطلوبه، وينال مقصوده دون إنفاق درهم من المال، ما أعظمها!..
عندها قال الشيخ له: إذن عليك أن تأتيني غداً قبل أذان الفجر بربع ساعة إلى جامع التكيّة السليمانية تجاه المتحف بالقرب من ضفاف نهر بردى، ستجدني إن شاء الله بانتظارك عند باب المسجد.(1/89)
لم يطرق النوم له جفناً.. كيف وسيغدو بعد خطوة في المسجد الحرام قرب الكعبة المشرفة طائفاً، أو على جبل عرفات واقفاً مبتهلاً.. وبخطوة معاكسة يعود لداخل بيته.. جاء إلى الموعْد متدسراً بالفرو والملابس الصوفية لشدة برد الشتاء والبسمة لا تفارقه، فرحاً مغتبطاً حيث ألفى الشيخ بانتظاره.. طلب منه الشيخ أن يقف على حافة بحرة ماء كبيرة بوسط باحة الجامع الخارجية من الخارج ويغمض عينيه.. هرع الغني الموثر من غير تردد ليقف الموقف المعد للإقلاع وهو حافة بحرة الجامع، وذكَّره الشيخ بأيْمانه المُعقَّدة.. وكل ذلك وهو في غمامة من الغبطة والفرحة، يفعل ما يؤمر، ومن ثم وضع الشيخ رجله خلف الرجل ودفشه دفشة أوصلته إلى قاع بحرة الماء بعد أن حطَّم الجليد المتشكل على وجهها.. ترك الشيخ هذا الموثر الأبله يغطس في بحرة الماء تحت سطح الجليد المتكون على وجه مائها الذي عمقه نصف متر، وأدبر مولِّياً خارجاً من الجامع هارباً، وهو يقهقه ضاحكاً،إذ علَّمه درساً عمليّاً لن ينساه.
ظل الأمر مكتوماً لا يستطيع الموثر النطق به لما عقَّد عليه من الأيمان كيلا تطلَّق زوجته ويُيَتَّم أطفاله وأولاده.. ولكن الشيخ أحمد الحارون ( حبْكت معه) لم يستطع كتمان هذه الفكاهة، إذ كان دَمِثَ الأخلاق، حلو الحديث، فلم يستطع أن يكتم تلك الطرفة مع صاحب الخطوة... فقصَّها ضاحكاً ساخراً من الذين يعتقدون أمثال تلك الخرافات.
وإنا لنعجب من أمر هؤلاء... إذ كيف يعطِّلون قانوناً عالمياً عملياً سارياً في كل محاكم العالم يقضي بصحَّة براءة المتَّهم إن أثبت عدم وجوده في مكان الجريمة؟!.
إذ من المستحيل أن يكون إنسان في مكانيْن بوقت واحد، فأين عقول من يقبل بخرافة الخطوة وأهل الخطوة الدجَّالين؟!... فعلى زعمهم أن الحجاج يرونه بمناسك الحج، وأهله وأصحابه يرونه معهم في بلدهم لم يغادرها.(1/90)
هذا ولو كانت الخطوة وأهل الخطوة في شيء من الدين الإسلامي لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق بها وأهلها، ولما تكبَّدَ السير الطويل والأهوال في الهجرة عشرات الأيام والليالي مشياً على الأقدام مع صاحبه للوصول إلى المدينة المشرفة.
فالخطوة وأهلها إنما هي تصوراتٌ وهمية لا واقعية، ولا يقبل بها أي مفكر وعاقل، إنما هي من اختلاق السحرة وأعوانهم وأذنابهم الضَّالين المضلِّين.
حمانا الله وإياكم من شرِّ الاعتقاد بهم أجمعين.
* ... * ... *
(قضايا للحوار)
? هناك من يدَّعي أنه يقتدي بخالد بن الوليد بالقصة المختلقة من شربه للسم مع التسمية.
? بينما ذهب آخرون بأن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعيَّنة.
? وهناك أيضاً من ذهب إلى أن العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور مستنداً إلى قصة سيدنا سليمان عليه السلام وتسخير الجن له، حسب ما تلت الشياطين على بني إسرائيل حينما هجروا كتاب الله التوراة، واتبعوا تلاوة الشياطين على مُلك سليمان: {.. وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ..} (102) سورة البقرة، كما في القرآن العظيم. فهؤلاء أيضاً اتبعوا تلاوة الشياطين.
لهذا كله وجب علينا كشف حقائق تلك القضايا الهامة السارية بين المسلمين بعد أن انكشف لنا من هو الساحر؟. ومن هو الجن الذي يسخِّره الساحر لعمله، أو بالأحرى من يستخدم الآخر مطيَّة له؟.
* ... * ... *
وزعموا لخالد بن الوليد كرامة ولكن!.(1/91)
وأما ما ذُكر عن قصة خالد بن الوليد، من أنه شرب السمَّ بعد أن سمَّى بالله ليثبت صحة دين الإسلام وأنه دين حق، ما هي إلا رواية دُسَّت للدجل على عقول الساذجين البسطاء، فإن اجتمعوا مع عدوهم مكر بهم، وقال لهم: أثبتوا لنا أن مذهبكم حق، ودينكم هو الصحيح بشربكم من هذا السُّم , فما أن يشربوه اقتداءً بخالد بن الوليد " بزعمهم " حتى توافيهم الإصابات العنيفة، إن لم يكن الموت المحتَّم، فيكون العدو قد سخر منهم ومن دينهم، وقَتَلهم فأرداهم.
وفي الرد عليهم نقول:
1- أما نهانا تعالى عن قتل أنفسنا؟. {.. وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} (29) سورة النساء، أوَ ليس السم الزعاف بقتَّال؟!. ما هذا القول السخيف؟!.
أيخالف خالد بن الوليد كلام الله تعالى؟. والله يكرمه!.
فما هذا التناقض الغريب؟!. كرامة لمخالفة الله بقتل أنفسنا، وهو تعالى ينهانا!. من يصدق كلام عدوه ويقتل نفسه باحتساء السم إلا المجانين!..
ما هذا الدجل؟!... ليشرب السمّ راوي هذه القصة التي لا يصدقها الأطفال!.
وقد أُحرج القس ستانلي شوبرج من أحد المستمعين أثناء مناظرة له مع الشيخ أحمد ديدات بأن قال له ذلك المستمع : إن كنت تؤمن حقاً بالمسيح، فالمسيح كما ذُكر بالكتاب المقدَّس يقول: (من آمن بي حقاً لن يضره شيء ولو كان سمّاً مميتاً ).
تخلَّص القس بأسلوب مضحك مزري بأن قال: إن زوجتي تتنبَّأ لي منذ ثلاثة أيام أن هناك من يريد قتلك، وقد عاودتْ عليَّ ذلك القول صباح اليوم، فإن كنتم تنوون قتلي فأمهلوني خمس دقائق.
2- الإسلام دين منطق سليم وتفكير قويم،وبراهين مبنية على قوانين وأسس ثابتة دقيقة،يفوق بمبادئه وأفكاره وقوانينه كل المبادئ والقيم الأخرى التي هي من وضع البشر.(1/92)
فكلمة: {بسم الله الرحمن الرحيم} تعني: السير بالقانون الإ?لهي لا مخالفته بالخوارق،كما يقول القاضي: باسم القانون، أي: أحكم بما في نصوص القانون وعدم الخروج عنه،ويقول الرئيس: باسم الشعب،أسير كما يرضى الشعب دون مخالفة،فكيف يقول خالد بن الوليد (بسم الله) " بدعواهم " ثم ينفِّذ العكس ويشرب السمّ؟!. فهل هذا الشيء وارد بقانون الإ?له؟!.
3- السمّ منذ عرفته البشرية قاتل لشاربه،وتناوله بمحضِ الإرادة يعني الانتحار،والانتحار محرَّم قطعاً بالإسلام.
يقول تعالى: {.. وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ..} (195) سورة البقرة،ولا اجتهاد فيما ورد فيه نصُّ صريح القرآن.
وكما روى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المنتحر كافر، يرى نفسه يحتسي السمّ بآلامه منذ مغادرته الدنيا إلى يوم القيامة،فهم ينقضون كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الأكذوبة على صحابي جليل، والانتحار نتيجته الخسارة والعذاب الأبدي، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من تردَّى من جبل فقتل نفسه، فهو في نار جهنم يتردَّى خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة، فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً »(1).
فمهما كانت النيَّة عالية سامية فلا يجوز مخالفة قانون الله، فإنه تعالى لا يسمح بتناول السمّ لأنه قتل بمحضِ الإرادة.
فكلمة :{بسم الله} تعني: أن تسير ضمن قانون الله وعلى شريعته، ولا تسوِّغ كلمة: :{بسم الله} أن يشرب أحد السمّ ولو كان أتقى الأتقياء.
وقد قال خالد بن الوليد:
(
__________
(1) سنن النسائي ج4ـ باب" ترك الصلاة على من قتل نفسه".(1/93)
لقد شهدت مائة زحف أو زهاءها، وما في جسمي موضع شبرٍ إلا وفيه ضربة سيف أو رمية بسهم أو طعنة برمحٍ،"ولم يقل أو شربة بسمّ " وها أنا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء). فكيف يدَّعون أنه شرب السمَّ ولم يؤثِّر به؟!.
4- هناك قصص وروايات مُخْتلقة تقول :( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات متأثراً بسبب آثار سم دُسَّ له )بعد أن لقي تحدِّياً من امرأة يهودية، وخالد بن الوليد يشرب كأس سمٍّ ولا يتأثر " على زعمهم "!!.
إذن فما هذه القصة والتي قبلها إلا من نسج السَّحرة والمشعوذين، الذين يرتدون رداء الدين الإسلامي طعناً بالدين وأهله،ويتسترون به أمام الناس،ويدَّعون أنهم يحاولون إثبات صحة الدين الإسلامي أمام أولئك الناس، وهم يطيعون الله فقط على عيون الناس مراءاة ومخادعة ليغرِّروا بهم.
مادح نفسه إبليس: ... إن ما يفعله أولئك إن هو إلاَّ محض خيالات شيطانية، وليس به أدنى اتصال بالحقيقة والواقع والدين،نواياهم بذلك
نوايا خبيثة، فالدَّاعي إلى الله يوجِّه الناس ويرشدهم إلى الله، ليعظِّموه تعالى عن طريق التفكير بنعمه وعظيم خلْقه جلَّ وعلا،ولا يوجِّه الناس له أن "عظِّموني"،
" قدِّروني"، ومادِحُ نفسه إبليس، بل ويجعل لنفسه فوقية على الناس بالدجل، لأنه يفعل ما لا يستطيع الناس فعله!. ومن رأى فعلاً لنفسه هلك، إذ الفعَّال هو الله وحده. قال تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ ..} (29) سورة الأنبياء:هؤلاء يقولونها حقاً ولفظاً، حين تخلو لهم الفرصة، وينسبون الفعل لأنفسهم أنهم الفاعلون:{.. فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}، فكل من يقول من الخلق أنا أعمل، أترك .. هذا نتيجته الذل والحقارة.(1/94)
فكلمة:{ إِنِّي إِلَهٌ}: أي: أنا أعطي، أمنع، أضرب،"أشلَّك،أجننك،وانتظر الكوابيس الليلة،أنا أميرال البر والجو والبحر"، إلى ما هنالك من ترَّهات أقوال السحرة:{ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}: الذل والحقارة له. فهذا نهايته الذل،لأنه يرى الفعل والقوة بيده لا بيد الله، مع أنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
* * ... *
أيخلقون مالاً يسدُّ عوزهم؟!.
ذهبت فئة من الناس للقول: أن الله يخلق الأشياء عندما يقول شيخ الطريقة(الساحر) تلك الرقى والكلمات المعيَّنة، فنقول:
1- إن كان كذلك فهذه معجزات بإذن الله، وكما تبيَّن لنا من قبل بأنه لا معجزات بعد القرآن الكريم أبداً، كما ورد في آيات الكتاب الحكيم قوله تعالى:
{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ..} (59) سورة الإسراء. فبعد التكذيب بالمعجزة الهلاك الحتمي، والله يدعو إلى دار السلام، ولا يرضى لعباده الهلاك، فهل يرسل لهم ما يهلكهم وهو العليم بأحوالهم وبتكذيبهم؟!. فإن جاءت المعجزات وما آمنوا سيهلكون، وهم لن يؤمنوا،وهاكَ نظرة سريعة لصنائع المعجزات.
? فالنار: كانت على سيدنا إبراهيم عليه السلام برداً وسلاماً،وما زاد ذلك قومه إلاَّ كفراً وعناداً، ولم يؤمن من قومه أحد، وأصبحوا فيما بعد قوم لوط المرجومين بحجارة من سجيل.
? خروج الناقة من الصخرة: معجزة أرسلت مع سيدنا صالح عليه السلام بناء على طلبهم، ومعها ابنها ومن صخرة هم عيَّنوها،فما جعلت قومه يعظمونه في شيء، بل
ما كان منهم إلا أن قالوا : {مَا أَنتَ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا ..} ، ثم عقروا الناقة، وعتوا عن أمر ربهم، وقالوا: {.. يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} (77) سورة الأعراف،وهلكوا.(1/95)
? ما كان من فرعون لما ألقي السحرة ساجدين إلا أن هددهم بقوله: {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} (124) سورة الأعراف، وما أفادته المعجزة، ولم تُفِدْ أحداً من قومه.
? وقال آل فرعون لسيدنا موسى عليه السلام بعد أن رأوا ما رأوا من آيات بيِّنات ومعجزات: {.. مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (132) سورة الأعراف،وازدادوا كفراً وعناداً.
? معجزات سيدنا عيسى عليه السلام أحيا الميت وأبرأ الأكمه والأبرص، وخلق من الطين طيراً بإذن الله، أما قومه: {.. فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ} (6) سورة الصف،ومكروا مكراً ليقتلوه عليه السلام، وحل بهم الهلاك الحقيقي إذ حُرموا من :بعد كفرهم. والله آواه وأمه إلى ربوة ذات قرار ومعين، ويقال أنها ربوة دمشق،أي: سحب تعالى هذا الخير العظيم عليه السلام عنهم بكفرهم.
? أشارت الآية الكريمة إلى أنه لا فائدة من رؤية المعجزات إن لم يصدُقْ الإنسان بطلب الحق في قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ،لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} (14-15) سورة الحجر. فالمعجزات ليست بناقلة أحداً من الكفر إلى الإيمان من الأقوام السابقة، لذا أتت الآية الكريمة بإيقاف ظهور المعجزات:
{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ..} (59) سورة الإسراء، بل لا بدَّ من إعمال الفكر الدقيق فيما يسمعه الإنسان من الهدى والبيان، أو النظر والتأمل في هذه الكائنات، مع الخشية من الفراق الذي لا بُدَّ منه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} (37) سورة ق.(1/96)
فلا بدَّ من الإيمان بلا إ?له إلا الله، لنفهم معاني القرآن وإدراك طرف من أسراره، للسير بأوامر الله تعالى على بصيرة،وللذهاب بعيداً عن التصديق الأعمى الأرعن باتباع السحرة المشعوذين.
2- إن كان تعالى يخلق لهم ما يشاؤون عند إلقاء هذه الكلمات بادعائهم..
فلِمَ كما سبق وألمحنا لا يخلق لهم ما يكفيهم ويسدُّ رمقهم؟!: {.. فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} (13) سورة الجن، فلا تراهم إلا مقهورين مرهقين متسوِّلين ،أليس ذلك دليل على أنهم يعيشون عالة على الناس ولا حقيقة معهم أبداً؟. بل خيال وتمويه وخزعبلات، بل وآلام وخيانات.
3- لو تقصَّى أي إنسان أعمالهم، لوجد أنهم بعيدون كل البعد عن شرع الله تعالى، فيراهم منغمسين بالمعاصي والإقترافات، والله يقول: {.. وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } (51) سورة الكهف، فكيف يساعدهم ويمدُّهم بما يُضلُّ عباده ؟!.. " حاشا لله ".
4- لِمَ لَمْ يُعلّم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عند الهجرة من مكة إلى المدينة تلك الكلمات؟!. لِمَ لمْ يكن صلى الله عليه وسلم من أهل الخطوة؟!. كالذي ينسبه أولئك الدجَّالون من أن أولياء الله يخطون خطْوةً من بلادهم إلى الحج ويعودون بعده بخطوة واحدة!.
فلمَ لم يخطُ صلى الله عليه وسلم بالهجرة خطوة واحدة من مكة إلى المدينة؟!..
ذلك يثبت دجلهم وكذب ادِّعائهم.
وإن كان ذلك شأن الملائكة (كما يزعم المشعوذون)، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قائدهم وهم يصلون عليه،فمن ظن أنه بهذه القصص ينصر الإسلام ويدعِّمه، عليه أن يُعمل تفكيره قليلاً، ويرجع إلى كتاب الله وأوامره، فهو الحكَم والفصل، كيلا يضل ولا يخزى.
* ... * ... *
عالِمُ السحر أخو الشيطان وخليله(1/97)
وهناك من ذهب إلى أن " العلم بالسحر ليس بقبيح ولا محظور " مستنداً إلى قصة سيدنا سليمان عليه السلام وتسخير الجن له , وإلى قصة الملكيْن المدسوسة، وإلى حديثٍ مدسوسٍ على لسان المصطفى، وهو صلى الله عليه وسلم منه بُراء، بأنه قال: ( تعلَّموا السحر ولا تعملوا به ).
والحقيقة لا يجرؤ على السحر إلاَّ كافر، ومن تعلَّم السحر غدا أخاً للشيطان ومن حزبه وأعوانه , وعدواً لبني الإنسان، يتلذذ بشقائهم وآلامهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ} (3) سورة الحج: حيث يظن أنَّ لهم فعلاً، من جمع وتفريق وإغاثة وإغناء وكشف كنوز، والحقيقة :
{كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} (4) سورة الحج، فهذا قانون مسطَّر، من اتبع الشيطان يضله ويشقيه، ومن يكن له الشيطان قريناً فساء قريناً.
براءة سيدنا سليمان عليه السلام من السحر: ... أما ما ذُكِرَ: ... 1ـ عن قصة سيدنا سليمان عليه السلام وتسخير الجن له عن طريق السحر، فهو باطل ولا أصل له, وبالعكس
هي حجة على من أرادوا إثبات جواز استخدام الجن والسحر في أعمال الخير زوراً.
? لقد وردت هذه الحادثة في القرآن الكريم بمعناها الصحيح والصريح. حيث اتَّبع اليهود ما يتكلم الشياطين من الكذب على سيدنا سليمان عليه السلام، بأنه ملك بالسحر.(1/98)
قال تعالى: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ..} (102) سورة البقرة: قالوا سليمان مَلَكَ ذلك المُلْك بالسحر، فسيطر على الجن، وأنه سحرهم وأعانوه على الملْك، وبنوا له ما بنوا، فبدلاً من أن يتلوا التوراة ويطبقوها سلكوا بدعواهم الخبيثة طريق السحر، وجاؤوا بقصص مؤدَّاها أن سليمان مَلَك العالم بالسحر، فردَّ تعالى عليهم:{.. وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ..}:هذا لم يعمله سليمان عليه السلام، بل استمدَّ المعونة من الله وحده،سيدنا سليمان ما نسب الفعل لغير الله، وما أعرض، لأنه لم ينقطع عن الله، لم ينسب الفعل للشياطين، الشياطين لا فعل لها: {.. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (76) سورة النساء: المريض أنَّى له أن يقاتل، فالشيطان لا حول له ولا قوة، الفعل كله بيد الله.
وإنَّ كافة هذه القصص التي نسبوها لسليمان عليه السلام من أنه مَلَكَ ما مَلَكَ بالسحر: كلها كذب ولا أصل لها،وإنما وردت عندهم بكتب التلمود، خلاف ما ورد بكتاب الله تعالى التوراة. {.. وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ..} (102) سورة البقرة: التخييل، فكيف قولهم دجلاً: ( تعلَّموا السحر )؟!. فالسحر نتيجته الكفر، ولا يتعامل بالسحر إلا من مشى بالكفر.
إذن: الشياطين بحسب الآية الكريمة يعلِّمون الناس السحر، فأنّى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرنا أن نمشي بأوامر الشياطين لنتعلم السحر ولا نعمل به كما أوردوا بالحديث المدسوس؟!. حاشاه، فما هذا السخف والفحش في القول؟!...(1/99)
? ثم إن سيدنا سليمان عليه السلام لما دعا ربَّه: {.. وَهَبْ لِي مُلْكًا لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ} (35) سورة ص:سيدنا سليمان طلب من الله أن يهبه الملك لا من الجن والشياطين بحسب الآية الكريمة، فاستجاب الله تعالى له، فسخَّر له ما سخَّر من الجن، فالله هو الذي سخَّر له الجن، وليس هو عليه السلام الذي سخَّر الجن بالسحر كما جدَّفوا بهتاناً.
كما سخَّر تعالى له الطير والريح .. ليقوم بالدعوة إلى الله بعد أن أتعب عليه السلام الخيل عند تدريبها حبّاً بعمل الخير ... فكيف انبغى هذا المُلك لأحد من بعده عليه السلام من السحرة على زعمهم؟!. وهو عليه السلام الذي طلب من الله تعالى ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده!..
? ولما سخَّر الله تعالى لسيدنا سليمان عليه السلام ما سخَّر، كان تسخيره حقيقةً لا سحراً، أي: كانوا يظهرون بنفوسهم مع أجسامهم ويعملون بأمر من الله.
قال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ} (36) سورة ص: تحمله وجيشه.
{وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ} (37) سورة ص: يبنون له القواعد والمنصَّات البحرية، ويغوصون في البحر والأرض، ويعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب، وقدور راسيات.. {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} (38) سورة ص: كان عليه السلام يحبسهم في المكان الذي يريده.
أ- فإن كان حقاً ما تدَّعيه السحرة أيّاً كانوا وبأي صفةٍ يلبسونها، فليكْفوا أنفسهم مدَّ أيديهم للناس ليعطوهم أجر ما صنعوا، وليذبحوا الذبائح لهم,لقد ذكر تعالى بأنه من يزغ عن أمر سيدنا سليمان من الجن فالله تعالى يذقه عذاب السعير ..
{.. وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} (12) سورة سبأ.(1/100)
ب- فلِمَ ترهق الشياطين أصحابها من الخبثاء؟!. فلا ينامون الليل بالتخيُّلات؟!. وتعاود الإرهاق كل ليلة، وهذا أمر واقع وقد ذكره تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (6) سورة الجن.
براءة الملائكة من السحر: ... - و زعموا أن السحر أنزله الله على الملكين،فردَّ عليهم:
{.. وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ..} (102) سورة البقرة:قالوا بتلمودهم لا بالتوراة أن هاروت وماروت ملكيْن نزلا ليعلِّما الناس السحر،وبالطبع هذا لا أصل له وليس بصحيح، فما أنزل على الملكين كما زعموا، وإنما دسُّوه دسّاً ليقبل الناس السحر.
وزعموا أن الملكين كانا يأخذان العهد على من يعلِّمانه، فردَّ تعالى عليهم مستنكراً ذلك:{.. وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ..}!. فهل هذا منطق؟!. هذا ليس بصحيح.{.. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا..}: من شياطين الإنس والجن.
{.. مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ..}:الفعال الحقيقي هو الله، وهذا الإضرار لا يتم إلاّ بإذن الله، فلا يصيب السحر إلا المستحق، إذا كان العبد مستقيماً فلا سلطان لأحد عليه،ومن كان مع الله تعالى فلا يؤذيه شيطان ولا يخيِّل له. {.. وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ..}: يتعلمون ذلك لكسب الدنيا.{.. وَلَقَدْ عَلِمُواْ..}: في كتابهم:{.. لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ..}: ليس له شيء في الآخرة من الخير المحضر له والمخلوق من أجله.
والسحرة عرفوا أن السحر نهايته هلاك على صاحبه،لكنها شهواتهم البهيمية المهلكة، فهم مقهورون. {.. وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ }: ما سيحل بهم غداً.(1/101)
لو آمنوا لما فعلوا ما فعلوا، فهم مغلوبون لأنهم لم يؤمنوا بلا إ?له إلاَّ الله، لو آمنوا لما غلبتهم شهواتهم الدنيئة ولما غُلبوا على أمرهم.
قال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} (73) سورة ص: وخضعوا للأمر الإ?لهي، فلم يستثنِ تعالى واحداً منهم ولا ملكيْن كما زعموا كذباً، بل بيَّن لنا تعالى بقوله:{ كُلُّهُمْ} و:{ أَجْمَعُونَ}: طائعون،خاضعون له تعالى. فكلُّهم ملَّكوا نفوسهم لله، فسمُّوا ملائكة،وهم: {.. لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (6) سورة التحريم، فهم يفعلون ما يؤمرون من قِبَلِ الله تعالى، فهل يأمر تعالى بالسحر، وهو الذي لا يرضى لعباده الكفر؟!. إنه يدعو إلى دار السلام: {وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ..} (25) سورة يونس .لا للتفرقة بين الزوجين والخصام كما تأمر السحرة: {.. أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} (80) سورة آل عمران؟!...
أينسبون لله الأمر بالفحشاء والله لا يأمر بالفحشاء؟!. ... 3ـ وأما ما ذُكر على لسان المصطفى صلى الله عليه وسلم دسّاً أنه قال :( تعلَّموا السحر ولا تعملوا به ).
فهو كذب لا أصل له.
? فقد قرَّر القرآن الكريم أن تعلُّم السحر من الشياطين، وهو كفر، بقوله تعالى: {.. وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ..} (102) سورة البقرة. فهل يخالف صلى الله عليه وسلم كلام الله؟!.
أَوَ يدعو أصحابه ليكون مُعلِّمهم الشيطان؟!. حاشا لله.
? والشيطان لا يأمر إلاَّ بالسوء والفحشاء: {.. وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ،إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (168-169) سورة البقرة.(1/102)
? ويكفينا لكي ننفي هذا القول الذي نُسب زوراً لنبيِّنا صلى الله عليه وسلم، أن تعلّم السحر يحتاج من الإنسان أن يرتكب الموبقات والمعاصي، وأن يحتقر النعمة، وأن يسفح الماء سفحاً بدل استعماله(1)، ويسري بنفسه في الظلمة ليلتقي بالشياطين من الجن بالتخيُّلات، ليتعامل معهم. فهل يأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أحداً بالسوء والفحشاء؟!. وحاشاه.
? والقول بأن الرسول أمرنا بتعلم السحر فذلك يعني أن الله هو الآمر بهذا الأمر،لأن الرسول مبلِّغ كلام الله: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى،إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} (3-4) سورة النجم.
وإذا أمر الله رسوله أمراً فيجب أن يطاع ذلك الأمر، فمن يطع الرسول فقد أطاع الله: {.. أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} (80) سورة آل عمران، فهل يجب علينا نحن اقتراف الفواحش والرذائل لكي نتعلم السحر ؟!.القرآن يدحض هذا التجرؤ على حضرة الله ورسوله بقوله الكريم:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ .. } (90) سورة النحل، {.. وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ..} (7) سورة الزمر.
? وما هو هذا العلم ؟!. ألم يقل تعالى: {.. وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ..} (102) سورة البقرة: أفليس هذا العلم الذي يهلك صاحبه ويورده النار في الآخرة؟. فهل يدعوهم صلى الله عليه وسلم لهذا؟!.
وحاشاه أن يبيح ويأمر بتعلم السحر، حتى ولو أردف المغرض الدّاس كلمة:
(
__________
(1) حيث تصل به درجة الاحتقار للنعمة والعداوة لله أن يضرب الماء بالأرض سفحاً بدون استفادة وبقوة طاعة للشيطان.
(2) سورة النجم: الآية (3 ـ 4). ... ... ... ... (3) سورة آل عمران: الآية(80).(1/103)
ولا تعملوا به) لتنطلي على عقول الساذجين. فالآيات الكريمة تبيِّن بطلان هذا الزعم، وهو صلى الله عليه وسلم براء مما قالوا.
وهذا العلم يؤخذ من شيطانيْ الإنس والجن، وحاشا أن يحثنا عليه صلى الله عليه وسلم.
{.. وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ ..} (102) سورة البقرة:شياطين الإنس والجن. {.. حَتَّى..}: إلاَّ أن:{.. يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ..}:الشياطين يقولون باتباعك لنا فائدة عظيمة فلا تتركنا. فكانوا يحاولون أن يوقعوا البسطاء من الناس ومن يغررون به ممن يظنهم من أهل الله أو من المجذوبين بحب الله، فيحاولون إيقاعهم بالارتكابات والمحرمات، فإن لم يستجيبوا لهم، قالوا لهم :{.. إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ..}: أي: إننا نفتنك لنجرِّبك، هل أنت ثابت على الحق، أم تغيِّر؟!. ونحن لا نريدك أن تكفر: {.. فَلاَ تَكْفُرْ..}:.
هذا إذا لم يقع الفريسة بارتكاب الفاحشة، فيعدِّدون عليه أساليبهم المكّارة الخبيثة حتى يقع بإحداها. عندها :{.. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا ..}: أي: من شياطين الإنس والجن:{.. مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ..}: وذلك بإيقاعهم بالفاحشة، والتنفير بين الزوجين، وتحطيم الأسرة، وشقاء الأطفال، بنات وبنين :{.. وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ..}: فالفعال الحقيقي هو الله، إذا كان العبد مستقيماً فلا سلطان للسحر عليه أبداً، إذ لا يصيب السحر إلا الجاني المستحق. أما من كان مع الله فلا يؤذيه شيطان ولا يخيِّل له أبداً كما بينَّا: {.. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (76) سورة النساء، وسنأتي على تبيان هذا بالفقرات القادمة.
فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ... وقد حارب صلى الله عليه وسلم السحر والسحرة بأحاديث كثيرة , وحذّر الناس منهم بكافة أشكالهم،
نذكر النذر اليسير من الأحاديث الشريفة قوله صلى الله عليه وسلم:(1/104)
* ـ « من أتى كاهناً أو عرّافاً(1)فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمَّد »(2).
* - « مَنِ اقْتَبَسَ عِلْماً مِنَ النّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السّحْرِ»(3).
* - « يا علي لا تجالس أصحاب النجوم »(4).
* - «العيافة والطيرة والطرق من الجبت »(5).
والمقصود بالعيافة: زجر الطير والتفاؤل بأصواتها وأسمائها. والطيرة: التشاؤم الذي يصدُّ صاحبه عن العمل.
والطرق: الضرب بالحصا أو الخط بالرمل، وهي من الكهنة .. وكلها من الجبت، ويقول ابن عباس رضي الله عنه: (والجبت هو ما أُتي به عن طريق الشيطان). وهذه الأحاديث الشريفة شاملة لكل أنواع الشعوذة والسحر: من قراءة الفنجان،والتبصير، وتحضير الأرواح،والرقى،والتعاويذ،والتنجيم،والكهنة.
والنهي عنها وعن إتيان من يقوم بها إلى درجة الاجتناب، وهو أشد أنواع النهي، أي: الابتعاد بالكلية عن كل ما يؤدي إلى ذلك العمل المجتنَب، إن كان بشكل مباشر أو غير مباشر.
إذن: شيوع مثل تلك الأقوال يدعم انتشار السحر، ويقوِّض أركان الأمة، ويجعل من الدين " زوراً وبهتاناً " أفيوناً للشعوب. والغاية هي الكسب المادي الذي يسعى وراءه الساحر، فيبتز الناس البسطاء، إذ يظهر لهم على أنه المتنبئ بالغيب ليكشف لهم خفايا الأمور وغيبياتها ( بالمندل،والفنجان،والتنجيم ... )، ويحل لهم المشاكل كالتفريق والتأليف بين الأزواج.
ويظهر الساحر باسم الطبيب الروحاني، والعالم المغناطيسي، يحاول أن يشفي أمراض الناس بالإيهام والتعاويذ، والتأثير النفسي بالقراءات الشيطانية، ويبتز منهم الأموال بعد أن يسيطر عليهم بدجله.
__________
(3)
(1) والعرَّاف: الذي يدّعي العلم بالغيب. كضارب المندل، وقارئ الفنجان، والمنجم ذو الأبراج.. وهلم جرّاً..
(2) مسند الإمام أحمد الجزء الثاني. ... ... ... (3) سنن ابن ماجه رقم/3726/. ...
(4) كنز العمال رقم/29441/. ... ... ... ... ... (5) سنن أبي داود رقم/1473/.(1/105)
حادثة من الواقع: ... وهنا نذكر مثالاً واحداً يعبِّر عن فئات اجتماعية كاملة، ليست متمركزة ببلد دون بلد فحسب بل بكل البلدان.
(( كان لأحد البسطاء ابن يشتكي من صداع مزمن يدفعه إلى فقدان الوعي المتكرر، وبعد زيارةٍ واحدة فقط لمؤسسة صحية حديثة، وبسبب عدم شفاء الابن سريعاً، وبناءً على نصائح من فلان وعلاّن، وزيد وعمرو ... دأب هذا الرجل على زيارة مدَّعي امتلاك مفاتيح العلم بالأمور الخفية والشعوذة، وهؤلاء كثيرون لا سيما في بواطن الريف الساذج.
وتباينت الأدوار التمويهية .. فمن الإصابة بعين الحسد، إلى الأدوات السحرية المدفونة تحت باب البيت، إلى الروع الخاطف بعد وقت الغروب بلحظات، إلى الواجب عليه من الذبائح للساحر... من الخرفان... إلى أن أصبح صاحبنا وأمسى فقيراً مدقعاً، وكما يقولون:( على الحديدة )... وبقي الابن مريضاً، لأنه كان يشتكي علمياً وبكل بساطة من صداع نصفي مزمن )).
هذا ولو أن هذا الرجل استعمل الحجامة بقوانينها الصحيحة لابنه لشفي مباشرة(1).
مسكين هذا الرجل وأمثاله، إذ التجأ لعدوه الشيطان الإنسي من حيث لا يدري، وسلَّمه قياده، فما هداه إلاَّ لطريق هلاكه.
التجأ لقوم نفوسهم شريرة، وطبائعهم نارية، يفزعون إلى الجن الشياطين في أمورهم، يستفتونهم في الحوادث، فيلقون إليهم الكلمات، ويستمعون لما يمْلُون عليهم، وما يُملي العدو إلاَّ إشقاءً وتدميراً.
فاستمعَ هذا المسكين لما أملت الشياطين على الساحر أو الكاهن.
{لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا} (29) سورة الفرقان.
__________
(1) لطفاً انظر كتاب الدواء العجيب "الحجامة" وشفائها للشقيقة وغيرها للعلاَّمة محمَّد أمين شيخو.(1/106)
ويحذرنا تعالى من الشيطان، فيقول لنا: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ..} (6) سورة فاطر, يأمركم بالسوء والفحشاء ويعدكم الفقر ... وهذا ما آل إليه كل ملتجئ لساحر أو كاهن.
إذ يشغله بالسيطرة والهيلمة والهيمنة النفسية، فيترك عمله الذي هو مصدر رزقه، وينشغل بالرؤى والأحوال، وتنشلّ قواه النفسية والبدنية، وكثيراً ما تنتهي حياة هذا الإنسان الضحية إلى الضياع، أو الموت، أو مشفى الأمراض العقلية .
هذا هو الشيطان، وهذه نهاية وقمة علومه السحرية، نهاية أكثرهم في مشفى المجاذيب "المارستان"(1)،وما كان له من سلطان إلاَّ أن دعا الخبثاء أمثاله فاستجابوا لدعوته: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } (100) سورة النحل. أما المؤمن الصادق فالشيطان أخسأ من أن يتسلَّط عليه، وهاكم قصة واقعية تبين لنا مثال المؤمن الصادق :
-
المؤمن الصادق
كان السيد محمد أمين شيخو وأخوه الجنرال سليم بك الذي قدم من استنبول زائراً أخاه في دمشق قد دعيا لحضور حفل رسمي .. حيث جلس السيد محمد أمين وأخوه الجنرال سليم بجانب بعضهما، وبينهما الطفل الصغير ابن السيد محمد أمين شيخو،وهو الذي شاهد هذه الواقعة التي لا ينساها أبداً عندما كان صغيراً " في العاشرة من العمر".
وكان هناك عدد من كبار المسؤولين والضباط والأغنياء في تلك الدعوة،وطبعاً كالعادة بذاك الزمان، وخصوصاً في مثل هذه الدعوة التي يحضرها الأثرياء، أن يأتي ساحر كبير معروف على مستوى الشرق الأوسط ليس سوري الأصل. لعل الكبار الآن يذكرونه إن ذُكِّروا به، فقد ذاع صيته وانتشر بالشام لكثرة أفانينه وألاعيبه الخيالية(2).
وبالفعل ما هي إلاَّ مدة زمنية قصيرة حتى حضر هذا الساحر،رآه جميع المدعوين، فخاطبه بعضهم:ماذا ستقدم لنا اليوم أيها العالم المغناطيسي ؟.
__________
(2) لقب ذاك الساحر "الحاوي أو الجاوي" .(1/107)
فقال:كل واحد منكم يخرج ليرة ذهبية ويضعها بكفه، ويطْبق بيده عليها بكل ما أوتي من قوة وعزم، يتمسك بها وضمن قبضته، وأنا سأقرأ على يده لأفتحها بدون أن ألمسها،فإن فتحتها أخذت الليرة الذهبية لي،فهل أنتم موافقون؟.
رد معظمهم:موافقون. فهم يريدون أن يضيعوا وقتهم ويقضوه باللهو واللعب، ورؤية الغرائب والعجائب التي لا يعرفون سرها، بل لمجرد التسلية وضياع وقت الفراغ.
هنالك مدَّ أحدُ كبار الأغنياء يده إلى جيبه، فأخرج ليرةً ذهبية ووضعها بيده، وأطْبَقَ عليها ممسكاً بها بقوَّةٍ داخلَ قبضته، اقترب الساحرُ منه ووقف أمام يده، وبدأ بحركاته وتَمْتَمَاته، وما هي إلاَّ لحظات... حتى شاهد الجميعُ... كيف بدأت يد المتحدِّي تنفتح وبذاتها...
فبدأ يشدُّ بيده بكل ما أُوتيَ من قوَّةٍ محاولاً إبقاءها مطبقة، ممانعاً فتحها، ولكن لا فائدة، فما تزال يده تُفْتَح بطريقة سحرية غامضة، وكأن هنالك عدداً من الأشخاص قد أمسكوها، وبدؤوا يفتحونها.
لكن الغنيَّ أخذ يقاومُ، ويشدُّ محاولاً ممانعة فتْحها، وللأسف فما تزال تُفْتَح وببطء..
ذُهل الحضور لِمَا رأَوْا، وكان أكثرهُم ذهولاً ذلك الضحيَّة الذي يحاول ممانعاً فتحَ يدِه... ولكن لا فائدة... فقد فُتحت يده قسراً وجبراً عنه، فاستسلم للأمر الواقع... عندها مدَّ الساحرُ المحتال يدَه وتناول ليرة الذهب (ولعابه يسيل) ليضعها بجيبه... إذاً لقد كسبَ الجولَة الأولى... وسيكسبُ اليوم الكثيرَ الكثيرَ... وبسحره الخبيث ولعبته الماكرة. إنها سرقة برخصة... وبأسلوب جديد "سرقة... علنية" متَّفقٌ عليها.
انتهى المتحدي الأول... وجاء الآن دورُ الثاني... إنه أغنى رجلٍ بالشام في ذلك العصر، فهو يملك عدداً من المصانع في دُولٍ أجنبيةعدّة ... مثل تركيا... إيطاليا... فرنسا... سويسرا.(1/108)
أخرج ليرةً ذهبية ووضعها براحةِ كفِّه، وأطبق عليها قبضتهُ بقوَّةٍ كبيرة معتزّاً بضخامةِ جسمه وقوَّة عضَلاته، شدَّ يده بكلِّ ما أوتيَ من قوَّة حتى ظهرت عروقُ يدِه بارزة، وانتفخت عضلاتُه ظاهرةً، اقترب الساحرُ... من يدِ ذلك الرجلِ، وبدأ بحركاتٍ وتلاوة تمتماتٍ غامضة... وما هي إلا لحظاتٍ حتى بدأت اليدُ المُطْبَقَة تُفْتح شيئاً فشيئاً... وكأنما هنالك قوَّةٌ خفية عن الأنظار، لكنَّها موجودةٌ تفتح هذه اليد مُتغلِّبةً على قوَّةِ شدِّ صاحبها الكبيرة... فقد بدأ يشدُّ معتصراً قواهُ، عساه يُقاوم القوَّة الخفيَّةَ التي ما تزال تُجبر يده على الانفتاح.
وللأسف فقد احتقن وجهُه... ومن المؤكد أنها ارتفعت درجةُ حرارته من شدَّة ما شدَّ... بقبضته.
وبدأ التعب يتسلَّل إليه... ولا فائدة فما نجح، بل فشل وفُتحت يدُه كاملةً منبسطة، وبدت ليرة الذهب ظاهرةً...
هنالك مدَّ اللصُّ المتحدي يدَه فتناولها ليضعها بجيبه مبتسماً ابتسامةً مِلْؤها المكر بعيون مظلمةٍ كسواد الليل البهيم، نظرات حادَّة... إنها ثاني ليرة ذهبية يكسبها.
السيد محمد أمين كان يَرْقب الوضع تماماً، مدركاً بإيمانه العميق بالله سرَّ عمل ذلك الساحر... عالماً أنه لا سلطان له إلا على مستحقٍّ بعيدٍ عن الله، فلو كان الإنسانُ ملتجئاً بحقٍّ لله وعائذاً به لفرَّت القرائن الشيطانية، ولما كان له سلطان على نفسه فيشلُّها، وتفْقد السيطرة على أعضاء الجسم، فيتمكن أخو الشيطان من أخذ الليرة من اليد التي فقدت سيطرة نفسها عليها.
هنالك وقبل أن يمدَّ الثالثُ يده إلى جيبهِ ليقع بيد هذا اللصِّ الماكر، كما وقع من قبله اثنان وبالتالي... سيتابع جولتَه على الجميع طبقاً لاتفاقه الماكر معهم عليهم واحداً تلْوَ الآخر.
فهذا ما تمَّ الاتفاق عليه... لكن السيد محمد أمين أبى أن يُكمل هذا الخبيثُ دورته على الجميع، ويسلبهم ليراتِ الذهب بما لا يرضى به الضمير الحرّ.(1/109)
بل توجَّه إلى الساحر قائلاً: هلمَّ إليَّ فأنا أقبل تحديك، تعالَ أتحداك...
هنالك وأمام كل الحضور ترك الشخصَ الذي آل إليه الدورُ، ومشى باتِّجاه السيد محمد أمين يتبخترُ... مفتخراً... وكلُّه ثقة بأن النصر حليفهُ، مدركاً تماماً أن المؤمنين الحقيقيين بهذا الزمان مفقودون.
وإذا ما خلا الجبانُ بأرضٍ طلب الطعن وحده والنزالَ
هنالك وقف أمام السيد محمد أمين الذي قال له: سأقبل بمواجهتك وأقبل تحدِّيك، ولكن لي شرط واحد: إذا فتحتَ يدي وأخذتَ الليرة سأعطيك من بعدها عَشر ليرات ذهبية أخرى بالإضافة لتلك، وإن لم تستطع فطلبي منك أن تتوب عن هذه الأعمال، فهذا السحر لا يزيدك إلاَّ هلاكاً،فهل أنت موافق؟.
ردَّ الساحر موافقاً وبكل ثقة، فالطمع والشرَهُ بإحدى عشرة ليرة ذهبية أعمى قلبَه...
"رزقة موفقة" بهذا اليوم، ولربما يحتاج أشهراً ليجمعها بدجَلِه.
أما الجنرال سليم أخو السيد محمد أمين فقد فُوجِئَ بما سمع من أخيه... ولمشاهدته ما رأى بأم عينه ما حدث مع الاثنين السابقين... إذاً لا بد وأن يخسر أخوه إحدى عشرة ليرة ذهبية بدل الليرة الذهبية الواحدة!...
فلماذا يتورَّطُ بهذه اللعبة؟!. مالَه ومالَها؟!. حاولَ أن يثنيه عن ذلك، إذ دفعه بيده خِفْيةً معبِّراً عن نصيحته: أنْ مالَكَ ومالَهُ لتخسرَ الآن إحدى عشرة ليرة ذهبية؟!.
أما الغلام ابنُ السيد محمد أمين "صلاحُ الدين" الذي كان بين عمه وأبيه، فقد أحسَّ بحركات عمِّه المنبِّهة لوالده محاولاً أن يثنيه عن إقدامه على هذا التحدِّي.
ولكنَّ السيد محمد أمين لم يُعِرْ لطلب أخيهِ أدنى اهتمام ، بل أخرج ليرةً ذهبية... (قديماً "بذاك الزمان" الليرة الذهبية تُعتبر عملة متداولة، ومعظم الناس يحملونها). والملأ الموجود أغنياء.(1/110)
هنالك هدأ الأخ الجنرال سليم رغماً عنه، والتزم الصمتَ والسكون مراقباً أخيه الذي وضع الليرة وأطبقها بشكل طبيعي... اقترب الساحرُ... لقبالتِه، وبدأ الهجومَ بحركاته وتمْتماته... والغريب أن الوضع بقي كما هو، فَيدُ السيد محمد أمين ما تزال مطبقةً بشكل طبيعي وبقوَّة، والساحرُ... ما يزال يتمتمُ ويُشير بيديه بحركاتٍ مختلفة... طال الوقتُ بالساحر ولم يتغير شيءٌ بالوضع، فما يزال كما هو... وما زال يحاول ويحاول... ويتمتم ويتحرَّكُ ويحرِّكُ يديه بإشارات وحركات ولكن دون جدوى...
لم يفقد الأملَ قُرابةَ الثلث ساعة، حيث بدأ التعب والإنهاك يأخذ منه كل مأْخذٍ، (فما شاهده الغلام صلاح الدين، والذي لا يزال يذكره حتى الآن بأنَّ عرقَ الساحرِ المُقْرِف ذي الرائحة النتنة... قد سال من كل أنحاء وجهه، فبلَّل ذقنَه... وسالَ إلى الأرض قطراتٍ... قطرات).
حاول بكلِّ علمه ومهارته... فلم يستطع أن ينجز عمله في هذه المرَّة، حتى أنَّه بدأ ينظر من النافذةِ... إلى البابِ... إلى النافذةِ ينظر نظراتِ المستغيث!. المَدَدَ!. بمن يستغيث؟!. وممَّن يطلب المعونة؟. تمتم باضطرابٍ بكلمات مُبْهمةٍ... غريبة، واضطربت حركاتُه، وبدا كأن الخوف قد ملأ قلبَه واستحوذ عليه.
أما السيد محمد أمين وبكل ارتياح واطمئنان... فقد بقي جالساً بمكانه مُطْبقاً يده، مشرقاً وجهُه، والبشاشة والبشْر يغمران بشرته الطاهرة.
هنالك لم يعد الساحرُ ليحْتمل الوضع، فانفجر صارخاً قائلاً للسيد محمد أمين بصوت هادر متقطع كأنه بحالة نزاع مع الموت:أنت "يا بك" حامل اسم!..
فردَّ عليه السيد محمد أمين بقوَّةٍ وبصوت أعلى وأقوى من صوتِ الساحر هزَّه، وهزَّ الموجودين جميعاً، وكأنه الرعد القاصف:أنا حامل اسم " الله "...
جلجلت كلمته بالمكان، وتردَّد صداها الرهيب... فخيَّم الصمت على جميع الحضور ممزوجاً بالدهشة والذهول... امتزج بسريان نعيم غريب مطرب وعجيب بالقلوب.(1/111)
لقد فشل الساحرُ أيَّ فشلٍ!!.
إنه فشلٌ نهائي،فلقد بلَّلَه عرقُه، وأُثيرت أعصابُه، وغلت مراجلُ نيران قلبه، وبدون فائدة جناها إلاَّ الإرهاق التام... لقد خسر الجولة.
عندما سمع تلك الكلمات التي طرقت مسامعه كالرعد القاصف، والتي اكتسحت شرورَه وباطلَه، صمت ولم يفُه بكلمة بعدها أبداً، بل ترك المجلس وسار مذلولاً حقيراً، يجرُّ أذيالَ خيبته وخسارتِه الكبرى، وهو يترنح في مشيته يكاد أن يقع،ورأسه مطرق خزياً باتِّجاه الأرض.
فلقد استقرَّت في نفسه فكرة وأدرك أمراً...!!.
إن هذا الإنسان غريب السِرِّ، إنه حقاً مؤمن:ذلك مبلغه من العلم.
* ... * ... *
مرةً ثانية كان اللقاءُ بمنطقةٍ تابعة لدمشق:إنها الربوة في منتزه رائع، هو منتزه أبو شفيق بالربوة... تمَّ ذلك أيضاً بدعوةٍ حضرها المسؤولون والأغنياء، وكان من جملة المدعوين إنسانُنا الفاضل السيد محمد أمين شيخو.
قَدِم الساحرُ للشعوذة والدجل كعادته، فتفاجأ بوجود عالمنا الرحيم... فاندحر باطله وشرُّه أمام الحق، وبات ذليلاً مهموماً... إذ لن يستطيع اليوم أن ينفِّذ أحابيله وسحره.
فجاء راجياً ذليلاً قائلاً: "يا بك" كرامة لله حبيبك... اتركني أعمل... اتركني أترزَّق...
يا " بك" انظر إلى كل الحضور فرداً فرداً، فهل في أحدهم ذرَّةُ خير... كلّهم بعيدون عن الله وقرينهم الشيطان... فاتركني وشأني معهم لكسب رزقي...
لكن السيد محمد أمين لم يُعِرْهُ اهتمامَه، ولم يعبأْ بكلامه... فالساحر يريد منه أن يترك المجلس كي يستطيع أن يسيطر بسحره على الناس.
نظر السيد محمد أمين إلى الحضور، فأحسَّ أن الجميع يرغبون بالساحر، إنهم يريدون أن يتفكَّهوا ويضحكوا، ويستمتعوا بتلك الألاعيب السحرية، عندها قال بنفسه: إذا كان الكلُّ يريدون الساحر "سأدعهم وشأنهم"، وتركهم مغادراً.
ولا إكراه بالدين.
* ... * ... *(1/112)
وهكذا كان، فكلما رأى الساحر السيد محمد أمين في مجلس أيقن بفشله وولَّى هارباً، أو غدا ذليلاً متوسلاً طالباً.
تمَّ بعون الله الجزء الثاني
ويليه الجزء الثالث
تعلم السحر!!.
-
( تعلُّم السحر )
السم بالدسم: ... ـ وأما ما قيل بأن تعلم السحر من العلم، والعلم لذاته شريف، لعموم قوله تعالى:
{.. هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ..} (9) سورة الزمر. فذلك هو السم بالدسم، وخلط العلم القبيح جداً الضار المؤذي مع الجيد المجدي.
ولقوله صلى الله عليه وسلم :« اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع...»(1).
وقوله صلى الله عليه وسلم :« إن من العلم لجهلاً »(2).
فبعد أن عرفنا وعرَّفنا السحر بأنه المهنة السوداء الضارة والخفية عن الأعين، لأن التعامل بها يتم مع عالم الجن ( الشياطين منهم )، نقول:
1ًـ لقد رأينا في البحث السابق بأن قمة هذا العلم وذروته التفريق بين الزوجين لإشاعة الفاحشة، ولترك الأبناء من دون رقابة عليهم،حيث أنَّ أمهم المطلَّقة
لا تستطيع أن تفي بالغرض بشكل كامل لتربية أولادها، إن لم تنشغل كلياً بزوجها الجديد. والأب المطلِّق سينشغل بزوجته الجديدة، ويهمل رقابته على أبنائه، فيغدون عرضة للشقاء، وينهلون من الشارع آدابهم السوقية وأخلاقهم، وبماذا سيرفدهم الشارع؟. نعم يرفدهم بكل انحطاط ورذيلة .
وهذه غاية المنى عند الشيطان، بأن ينشأ جيل عاطل ضائع مجرم شقي، يرفل بالفواحش والرذائل والشقاء، فأولاد اليوم رجال المستقبل .
2ًـ الله تعالى بيَّن لنا أحوال متعلمي هذا الفن الأسود، وما سيؤول إليه مصيرهم بقوله : {.. وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ..} (102) سورة البقرة: لا يخلق له شيئاً في الآخرة، خسر الجنات والحياة الأبدية بعرَض فانٍ منقضٍ.
__________
(1) ... ...
(2) كنز العمال ج3 رقم/8007/.(1/113)
والسحرة عرفوا أن السحر نهايته هلاك على صاحبه " عرفوا وحرفوا وغلبتهم أهواؤهم المنحطّة ": {.. وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} (102) سورة البقرة : ما سيحل بهم غداً، ولو آمنوا لما فعلوا ما فعلوا، فهم مغلوبون لأنهم لم يؤمنوا بلا إ?له إلا الله، لو آمنوا لما غُلبوا على أمرهم {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ اللَّه خَيْرٌ لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } (103) سورة البقرة: لو آمنوا بالله لما خذلوا، ولأعطاهم الله تعالى مطالبهم كلها من طريق عالٍ شريف، وهم لا يُبخسون. فالدنيا مؤقتة، والآخرة
لا نهاية لها، وهذا العلم نتيجته خسارة أبدية وهلاك على صاحبه.
3ً ـ كان التبرير بسبب هذا الحديث المدسوس: تعلموا السحر الشيطاني وأمثاله( وهي أحاديث دسَّها المشعوذون والسحرة ) بحجة العلم وإثبات صحة الدين عن طريق خوارق العادات. والقرآن الكريم نفى نفياً قطعياً وجود معجزات، بقوله تعالى:
{وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ...} (59) سورة الإسراء
،لأنه بعد المعجزة كما أشرنا إن لم يحصل الإيمان فلا بدَّ من الهلاك، وطلاّب المعجزات المغلوبون بهوى نفوسهم العمياء مهما رأوا ورأوا لا يتوبون، لا يفكرون بآيات الله وآلائه، فهم ملتهون بالرذيلة، فكيف يؤمنون ؟..
الرسل صلوات الله عليهم الذين جاؤوا لأقوامهم بمعجزات دالة على أنهم رسل الله تعالى لم تؤمن أقوامهم، بل زادهم تكذيبهم هلاكاً بنسبهم السحر لرسلهم عليهم الصلاة والسلام، قالوا لسيدنا موسى:
{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} (49) سورة الزخرف فقد أخطأ من ظن أن مثل هذه الأفعال برهان وإثبات على صحة الدين الإسلامي، وواجب تعلُّمها.(1/114)
هل رسول الله صلى الله عليه وسلم (وحاشاه) كان يضرب بالشيش أو يمشي على النار أو يقرض الزجاج بأسنانه، أو يخرج الموتى الذين وضعهم في المجامر تخييلاً؟!.
4ًـ هذا نتاج العلم: أنك تجدهم خريجي ( المارستان) ومشافي الأمراض النفسية، أو في أماكن تجمع القمامة والقذارات.
فهل ثمَّة امرؤ فيه ذرَّة عقل أو تفكير يرغب أن يفقد ملكاته وكرامته فيجلس في تلك الأماكن ليستقي ما يُملي عليه الشيطان من علوم الأذى؟!..
بالطبع: لا، رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، وحاشاه أن يفعل، وكذلك الصحابة الكرام والتابعون بإحسان، وأئمة المسلمين وعامتهم،ما تعلَّموا هذا ولا علَّموه، وكيف يتعلمون من السحرة أعداء الله؟!. والسحرة عبدة الشياطين!.
ومثل هذه الأفعال والخوارق يقوم بها الكثير من علماء النفس المغناطيسيين من غير المسلمين،حتى من الصابئة،وعبدة النيران والبقر والملحدين ... فهل هي لهم كرامات؟!.
5ً ـ وأخيراً:
الإسلام دين منطق وقوانين سامية، نهضت بالعالمين إلى مستوى الإنسانية، وغدا الإنسان أخا الإنسان،يحزن لحزنه، ويفرح لفرحه، ويهتم لهمومه:
{.. وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ...} (9) سورة الحشر
قوانين لا خروج فيها عن النظام الكوني البديع الصارم بالدقة، والذي بالنظر فيه يتولد الإيمان، والتأمُّل بالصنع بصدق يوصل إلى الصانع جلَّت عظمته، ثم الثقة بالله والإستسلام إليه بعد الإيمان الذاتي به من ثنايا صنعه بالآلاء الكونية إثر اليقين بالموت،حتمية الفراق لهذه الدنيا الذي لا بدَّ منه،هذا سبيل الأنبياء والمرسلين إلى السلوك القويم والسمو والعلو.
المؤهلات الدراسية لتعلم السحر ... يحسن بالمتعلم أن تكون له خلفية دينية، حتى إذا ما تخرّج ساحراً يقال عنه صاحب
دين مجذوب أو صاحب كرامة، وتثقُ الناس به وتسلّمه زمامها، ويفري فريه.(1/115)
ليس للشيطان حاجة بزان يفرِّق الزوجة عن زوجها، ولا للوطي ينشئ جيلاً منحلاً أخلاقياً، ولا لشارب خمرٍ يصبح كالحمار للشيطان، يسوقه كيفما شاء، حتى أنه يقع بالمحارم وهو لا يعي.
المطلوب:
صاحب دين تقليدي بسيط، يسري بنفسه بالظلام ويتخيل الحرام، يطلق بصره للفتن وسمْعهُ للمثيرات، يصلي وقلبه بين الغواني والشاشات، يهدر النعمة
ولا يحفظها، مبذراً، يستبد بالضعفاء دونه (إخوانه، طلابه، عماله)، ميالاً للأذى لجميع الحيوانات وخصِّيصاً للقطط، معارضةً منه لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« أكرموا الهرَّ والهرَّة »(1).
عروض تعلم السحر وشروط الانتساب
ومبادئ وعقائد تُبَّاع السحرة المخلصين لإبليس اللعين:
1ً- يلزم للإنتساب حذف الفكر وجعل الإنسان كالبهيمة تماماً. بل البهيمة أوعى.
2ً- لا يمكن قبول إيمانه ما لم يُقل عنه أنه مجنون، فيتظاهر بالجنون حتى يقال عنه ذلك، ليفعل الأفعال الشائنة وينجو من عقاب القانون.
ويقتضي ذلك أن يركض حافياً، أو يزعق في الطرقات بألفاظٍ نابية، فيشتم الناس أو يضايقهم بحركات يقوم بها بجسمه بشكلٍ فاضح، وقد يشتم الحضرة الإلهية والرسول والدين كي يقال عنه أنه مجنون، فلا يؤاخذ كي يبلغ الولاية، وأحياناً يطلق البعض منهم صرخات قوية عالية في الطرقات أو كلمات خدَّاعة كقوله:
( صلي على النبي تربح... ) ويكررها مراراً.
3ً- المعلم هو قرينه الشيطان أولاً، والشيخ الساحر الذي يرتاد إليه ويتوجه بنفسه نحوه يمدّ الشيطان بالتدمير ولا يقصِّر.
__________
(1) رواه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي قتادة بلفظ:« السنور من أهل البيت، وإنه من الطوافين والطوافات عليكم ».(1/116)
4ً- أماكن الدراسة: أولاً خلوة في المقابر والأماكن المهجورة،والصوم عن الماء لمدة طويلة يرافقها الجوع الشديد حتى تستطيع أن تشفّ النفس وتتخلى عن جسمها لتندمج بتلك النفوس الشريرة لإشغال طالب السحر بالفاحشة الباطنية، حيث تتعطل آلية الدماغ نهائياً وينعدم التفكير، وبعدها لن يأبه بالناس وما يقولون، فيترك العمل المجدي وهم يطمعونه بالكنوز الخيالية والملك الوهمي بالأماني (يقول له مثلاً: لا تعمل فالله هو الرزاق..).
5ً- يهتمون ببيت الخلاء (الأدب) ومجاري الأقذار وبقايا براز الناس، لأنه هناك تظهر عليهم الشياطين، ويفخرون بأن علمهم من بيوت الخلاء.
6ً- يشغلون طلابهم بالرذائل الخفية عن مراقبة أبنائهم وأماناتهم ليهلكوا، يغررونهم بالأحلام ليهملوا أبناءهم الذين غدوا من سكان الشارع ينهلون منه الرذيلة، ولا وزر عليه، فهو القطب الأعظم وسيظهر نجمه ساطعاً في المستقبل.
7ً- زوجاتهم تقع في الزنا، ولكن الساحر الزاني عزيز على الشياطين، فيدعهما وشأنهما لتزداد الولاية، حيث لم يعد أحد يصدق الفريسة المقاومة لأنه مجنون، وليس للتابع الذي شغلته الشهوات قوة تدفع ذلك.
8ً- تجارة الفريسة.. أمواله.. لم يعد يملك فلساً منها، وتلك هي قمة الولاية، وقد ابتلي الصابرون السالكون بمثل هذا من قبله (قوت ولا تموت)، من القمامة يأكل الخبز بعد غسله.
9ً- سينهار جسمه وتخور قواه، ويغدو خيالاً لا يستطيع كلاماً يُستوعبْ. الأزقة والزوايا وأماكن تجمّع النفايات سوف تشهد نضاله ومداومته على ارتيادها.
10ً- لن يَدع وسخاً ولا نفايةً ولا ورقة ولا نايلون ولا جريدة ( لئلا يكون فيها اسم الله يراه بعينه) إلا ويحمله ويضعه بشقوق الجدران قرباناً طوال مدته الدراسية. لن يفهم عليه أحد ماذا يفعل، ولن يَفهم هو ماذا يفعل!. سوى الطاعة المطلقة العمياء بل العبادة.
11ً- سوف يعطف عليه بنو جنسه حتى أقرب الناس إليه، ابنه المحبوب(1/117)
أو زوجته، وسيلقون به في سجن المجانين أو المشافي العقلية. وسوف ينسونه حتى يَأخذ الشهادة، وهو يحمل القرابين لمعلميه مما يملك.
رائحته المنتنة لن ينساها من دخلت منخريه مرة واحدة!. وسيدخل بوابة المجد بذلك.
12ً- ويكتشف في هذه المرحلة أنه لن يستطيع العودة للوضع الطبيعي، فيقهره هوى نفسه، ولا آخرة له أبداً لأنه لا إيمان لديه بأن هناك آخرة، بل الدنيا هي الآخرة وكل شيء.
13ً- وتزداد الإرهاقات والضغوطات الشيطانية عليه حتى ترضخ نفسه لهم وتستسلم، فيحب ما يحبون من السوء والأذى والقسوة، ويكره ما يكرهون من الفضيلة وصفات الكمال. عندها يصبح من العظماء، ويبلغ المراتب العالية عندهم، ويطلقون عليه الرتب المعروفة في الجيوش، فيحصل على رتبة نقيب أو عميد ركن أو لواء، مع أنه يتسوَّل ويرتدي الملابس الرثة القديمة.
14ً- إن انقطع العلم عنه أو المدد بهذا الصدد فسيَجد المدد من دورات المياه ليَستمد منهم العون!. ( فنفوسهم تقبع بالسفالات والمخارج السفلية لنوال الفاحشة الباطنية الخفيّة).
ملاحظة: ميِّتو القلوب عديمو الضمير محبو الأذى والقسوة الظانون بالله ظن السوء يحتاجون مثل تلك الدورات الإذلالية الترضيخية ليخضعوا لحكم الشياطين، إذ سرعان ما ينقادون وراء هواهم المهلك غير عابئين بشيء سوى لذتهم الجهنمية من حيث لا يراهم الناس.
هذا ولدى أوساط السحرة وأتباعهم مدرسة منظمة كما ذكرنا، ولها(دواوين) يحضرونها على حسب مراتبهم، فإن كان المرء للشيطان عبداً (سواء أكان الشيطان من الإنس أو من الجنة) فينبغي أن يداوم على حضور هذه الدواوين.
حفظنا الله وإياكم من عبادة الشيطان عدو البشر المبين، ومن مجالسة أعداء الدين لئلا يلحقنا ضررهم، بل أن نبقى دوماً بصحبة الصادقين مع الله وكتابه القويم. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} (119) سورة التوبة.(1/118)
وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: « إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كحامل المسك ونافخ الكير. فحامل المسك، إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير، إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحاً خبيثة»(1).
وإليكم هاتين القصتين الواقعيتين اللتين تثبتان دجل هؤلاء السحرة والمشعوذين، الذين يدَّعون بأنهم قادرون على شفاء الناس من الأمراض، وأن هذه الأفعال السحرية التي يقومون بها هي لهم كرامات، وإثبات لصحة دين الإسلام، مع أن الدين الإسلامي منها براء...
* ... * ... *
الإسكافي حافي والحايك عريان(2)
التمع بذهنه خاطر جريء.
فأنا الصيدلاني المشهور في قريتي، وكل أفرادها يكنُّون لي الاحترام والوقار.
ولكن ماذا أجنيه من ذلك؟. فالواردات من الصيدلية تكاد لا تفي حاجات البيت، وليس لديَّ صنعة غيرها.
فلا بد أن أصنع دواء يحتاجه الأكثرية، أروِّج له دعاية تدرُّ لي أرباحاً، فماذا أصنع؟!.
وجلس الليل بأكمله يفكر ويفكر.. ماذا يفعل؟.. وأي دواء سيصنع؟.
وفي الصباح الباكر انطلق مسرعاً إلى الصيدلية، وجلب معه موادَّ كيماوية إلى البيت، ودخل مخبره الخاص مغتبطاً مسروراً.
وجلس يعمل قرابة ساعة وهو يدمدم بأغاني يهواها.. سمع صوته ابنه الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره فدخل عليه وقال: مالي أراك يا أبي مغتبطاً فرحاً على غير عادتك كل صباح؟!.
نعم يا بني فإنني مسرور جداً، فقد اخترعت دواءً سيدرُّ علي أرباحاً طائلة، وسنعيش في بحبوبة العيش، وسأشتري لك كل طلباتك وما تشتهيه.
وما هو هذا الدواء يا أبي؟.
إنك لا تعرفه يا بني، فهو مركبات كيماوية معقدة، وسأكتب عليه أنه صناعة أجنبية، مستورد، نعم مستورد..
__________
(1) صحيح مسلم ج4 رقم/2628/.
(2) مَثَلٌ يُضرَب لصاحب مهنة وهو بحاجة لمن يصنعها له، كساقي القوم وهو عطشان والطبيب المريض والطاهي الجائع.(1/119)
أبي لماذا ينفع؟. حتى أحكي لرفاقي عنه في المدرسة وينتشر خبره.
يا بني إنه للصلع.. نعم يقوي بصلة الشعر، ويزيد في نمو الشعر، ولا صلع بعد اليوم. ابتسم الفتى قائلاً: وماذا أقول لرفاقي إن قالوا لي أن أباك أصلع ولا شعر في رأسه؟!.. لم يتوقع المخترع تلك الإجابة التي أطفأت بصيص شعلة الأمل.. إذ استحى على نفسه، ونكس رأسه أمام ابنه الصغير ولم يُحر أية إجابة.
* ... * ... *
معلِّم السحر: ... وهكذا فقد قام مدير عام معهد الفتوح الفلكي لمصر والأقطار الشرقية(عبد الفتاح السيد عبده الطوخي)
بنشر كتب السحر وتعلمه(1)،
__________
(1) ككتاب سحر الكهان في حضور الجان، كتاب الكباريت في إخراج العفاريت، كتاب سحر بارنوخ السر الأكبر للحكيم برنوخ الساحر السوداني،كتاب المندل،الخاتم السليماني، مرشد الإنسان إلى رؤية الجان، تجاربي وبرهاني في الفلك والروحاني، كل ما كان بين الإنس والجان وعجائب الزمان، شفاء العليل وتسهيل العسير بأسرار مزامير داود، تسخير الجان لمنفعة الإنسان، منبع أصول الرمل المسمى الدرة البهية، القواعد الفلكية في عمل النتائج السنوية، الولاية الإلهية والعلوم اللدنية، النور الرباني في العلم الروحاني، قدرة الخلاق في علم الأوفاق، النفس أمراضها وعلاجها، الفتوح الرباني، علم الكف، العفاريت والجن، شرح الدمياطية وفوائدها الروحانية، السر المكشوف في طب الحروف، سر الأسرار في علم الأخيار، السحر العظيم، السحر العجيب في جلب الحبيب، السحر الأحمر، الزايرجة الهندسية في كشف الأسرار الخفية، زايرجة الطوخي الفلكي، دليل الحيران في طالع الإنسان، الدراسة في علم الفراسة، حديث الطوخي مع الجان، تسخير الشيطان في وصال العاشقين، بلوغ الأمل في علم الرمل، الأصول والوصول في علم الرمل والزيارج، أحكام الحكيم في علم التنجيم.
... ...(1/120)
وقد اشتملت هذه الكتب كما يزعم على التحكم بما تشاء وكيف تشاء، من استطبابات وشفاءات وعقد عقود وحل رباطها، وغيرها ممَّا يطلبه مأفون الرأي وساقط العقل وسفلة الناس. والمهم: أن السيد الطوخي ابتدأ كتبه بصورة له تكشف دجل علومه.
وفيها يظهر أن الحَوَل أصاب عينيه، وردفه نقص في الدرجات للرؤية كبير فغدا كأعشى، فلو كان علمه ينفع ويفيد لأفاد نفسه(1)!. ولجلب السحرة لأنفسهم مالاً يقيهم ذلَّ السؤال لكفافهم وهم على ادعائهم كاشفو الكنوز!!.
عبد الفتاح السيد عبده الطوخي
-
مناظرة طريفة
حام طائف من شبَّان الطريقة الشيشية حول امرئ بسيط طاهر، فطار قلبه جزعاً، وتخبط هلَعاً لما رآه: رماح طويلة.. سيوف وسكاكين، وحركاتٍ مروِّعة يقوم بها البعض من صعود وهبوط، وأصوات مبهمة، وأفواه مزبدة، وحركات معربِدة.
ودار في خلده : أهكذا هو دين الإسلام؟!. أهكذا بقمة الأحوال والإمدادات الربّانية ينقلب المتَّزن الواعي مخبولاً متخبطاً؟!. هل كان الصحب الكرام أو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقومون بهذا؟!.
توجه إلى الشيخ أمين كفتارو ( رحمه الله) لأنه يعرف عنه الدين والصلاح، فسأله ما دار بخلده، إذ يخشى أن يصيبه شيء من الباز عبد القادر الجيلاني بسبب
ما استهجنه واستنكره.
فطلب الشيخ أمين كفتارو من قريبه هذا أن يجمعه بشيخ الطريقة بالبلدة الذي يرشده، ولما كان الاجتماع:
خلع الشيخ أمين كفتارو المعطف الخارجي، وجعله تحته ليجلس عليه مظهراً الحرص والخوف عليه، وكأن به كنزاً يخشى سرقته.
استنكر الحضور فعلته، وابتسموا بهزء وسخرية. وقال له الشخص الذي أحضره والذي ظن به المسّ والإصابة منهم : لماذا فعلت هذا وأنت معروف باتزانك وتصرفاتك المنطقية؟!..
__________
(1) لطفاً انظر الصفحة/246/ من كتابنا بشهادة التائب سكرتير الجمعية الروحية للعلاج الروحي الذي أنفق نصف عمره في هذه الجمعية ولازمه أكثر من مرض طيلة تلك المدة وبعدها.(1/121)
فأجابه بصوت مسموع: أن هؤلاء أصحاب الطريقة قد سرقوا للرسول صلى الله عليه وسلم حذاءه، ولا عجب أن يقوموا بعمل كهذا مع غرمائهم.
قهقه شيخ الطريقة، وغشي عليه من شدة الضحك، وتبعه مريدوه، ولمَّا تمالك أعصابه، واستطاع أن يمسك زمام أنفاسه، خرج صوته المتقطع مدوِّياً مخاطباً الشيخ أمين كفتارو: ولكن أيها الجاهل، الطريقة الشيشية لم تكن في زمن الرسول..
ولا حتى في زمن أصحابه.
فخرج صوت الشيخ أمين ليصعق الجميع: من فمك أُدينك، فمن أين أنتم أتيتم بها؟!.
إن لم تكن بزمن الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم ومن تابعهم بإحسان، الذين نقلوا لنا الرسالة عنه صلى الله عليه وسلم، فمن أين أُقحمت هذه الطريقة الشيشية بالإسلام؟!.
صُعق شيخ الطريقة وفغر فاه، وأُسقط في يده ولم يُحر أية إجابة .
وذُهل الجمع.. إذ لم يكونوا يتوقعون أن شيخ الطريقة سيشهد شهادةً ضدَّ نفسه، تحكم على مبدئهم بالابتداع الكاذب، وبضربة قاضية لأول لحظة من اللقاء، وذلك دون مناظرة بين الصحيح من الفاسد، وتعيين الحق من الباطل، ولم يعد يخفى على الأفهام الذكية في مدارج الدلائل العقلية لمحات الحق ونفَث الباطل.
* ... * ... *
نبذة عن السحر بين القديم والحديث
أولاً: أساليب السحرة وغاياتهم:
يقترن الضعف والتدنِّي الأخلاقي الديني بظهور السحر والشعوذات.
فهؤلاء بنو إسرائيل قادتهم مرحلة الضعف إلى مرحلة الانهيار المريع في مثل هذه الدوامة الخطيرة.
كما كان السحر سائداً عند فرعون وقومه كعِلْمٍ له مكانته ونفوذه في قلوب الناس، إلى قمة التقدير والتبجيل لصاحبه العالِم به، وهلكوا جميعهم.(1/122)
وقد ذكر تعالى لنا كيف أعرض اليهود عن التوراة واتبعوا التلمود، وما يمليه عليهم الجبت والطاغوت أي: " السحرة الشياطين "، قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ ..}: ألقوا التوراة. علماؤهم ألقوا كلام الله: {.. وَرَاء ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (101) سورة البقرة: عنه شيئاً. والسبب في ذلك أن شهواتهم غالبة عليهم لعدم إيمانهم بلا إ?له إلا الله، لو أن الإنسان آمن وصار له علم لردَّ شهوته وغالب هواه.
ففي المجتمعات الإفريقية كانت تعتبر الشعوذة أحد أعمدة المجموعات، أو القبائل الرئيسية، والعيادة الصحية لمداواة الأفراد وعِلاجهم.
وعندما انتشر السحر في المجتمعات الإسلامية حديثاً منذ العصور الوسطى، خاض دعاة الإسلام في حرب حقيقية ضده , ينبِّهون ويحذِّرون منه، حسبما بيَّن ونبَّه وحذَّر الله تعالى في القرآن الكريم بقصة سيدنا آدم عليه السلام من عداوة الشيطان، وكما أورد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:
« حدُّ الساحر ضربه بالسيف »(1).
وقال الشافعي :( إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل في سحره ما يبلغ الكفر ).
( ولا يتجرأ على السحر إلا كافر ). وما ورد عن الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: ( عمل السحر حرام، وهو من الكبائر بالإجماع، وأما تعلُّمه وتعليمه فحَرام ).
كذلك فإن المجتمعات الأوربية هي الأخرى انغمست حضارتها القديمة في عراك بين الكنيسة والسحر والشعوذة، فكانت تحرق الساحرات والمشعوذين، وتُدمِّر القرى التي يُعرف عنها عموم تعليم أو ممارسة السحر.
__________
(1) رواه الترمذي والدارقطني . ...(1/123)
وعموماً للسحر الذي يسمونه بالسحر الأبيض ( حيث يعتمد الساحر على الجن الكافر في سحر أعين الناس، والتخييل لهم بأمور تبدو خوارق ) دور كبير في إعجاب فئة كبيرة من الناس، وهذا النوع من السحر قديم، فسيدنا موسى عليه السلام: { ????? } : للسحرة إثر تحدي فرعون: {.. فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} (116) سورة الأعراف، ويستطيع الساحر أن يسحر أعين الناس " الغافلين عن ذكر الله "، وقد اشتهرت به الهند وغيرها، حتى وصلت إلى هذا الضعف والفقر والتردِّي رغم كثرة عددها، بل أصبحت لقمة سائغة بأيدي الدول القوية الضئيلة العدد.
وفي رحلة ابن بطوطة ذكر الكثير من المواقف التي شاهدها، وكلها تعتمد على السحر وخرافاته.
وامتد هذا الأمر ليشهد هذا العصر أفراداً وفرقاً من السحرة، يَعْرضون على الناس أعمالهم السحرية الموهومة " أبواب سيما ".
فبالرغم من ازدهار الطب الحديث، وبالرغم من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في مجال التداوي والعلاج، كالحجامة الشريفة ذات النتائج العظيمة إن طبقت بقوانينها وسننها القويمة(1). نجد هناك من يدفع الكثير من أجل تعويذة وجلسة إيحاء , كما يتجه آخرون ليدفعوا الأكثر، فيستدينوا لتحضير كتابات وخطوط سحرية ...
إن مجتمعات العالم لا تخلو من هذه الاتجاهات غنيها وفقيرها، ولكن ضمن حدود معيّنة، حتى أصبح يتماشى مع هذا التصديق وهذه الوجهة للسحر والشعوذة نموٌّ في التسويق لهما، عن طريق عالم الاتصالات الحديث وفضاء الأنترنت.
فهناك صفحات تجارية لكل الأغراض والاحتياجات، فمن الحب والتوفيق بين شخصين وبالعكس، إلى العلاج،إلى التسخير والتفوق والترقي ... ويتم دفع ثمن هذه التعويذات والوصفات الفضائية بالبطاقة الائتمانية.
__________
(1) لطفاً انظر كتاب " الدواء العجيب"(الحجامة) الذي شفى من مرض القلب القاتل والشلل والسرطان والشقيقة والعقم والناعور.(1/124)
أما الأدوية والكتابات واللفافات السحرية فإنها تصل بالبريد السريع، مع طرق الاستخدام وتعليمات التنفيذ الحرفية، وكلها طرق ابتزازية للأموال والأنفس المعرضة والغافلة عن ذكر الله.
وقد أشارت دراسة ميدانية حديثة قام بها الدكتور ( محمد عبد العظيم بمركز البحوث الجنائية في القاهرة) إلى أن: " /30/ ألف شخص في مصر يدَّعون علم الغيب وقراءة الفنجان والكف، كما يؤمن 70% من المصريين بقدرة هؤلاء الأشخاص الخارقة في معرفة ما يخبئه لهم القدر من أحداث، فضلاً عن قدرات أخرى منها علاج المرضى بالأرواح ".
وبعض علماء الاجتماع بمصر قالوا :" بأن أفلام السينما المصرية والسينما الهندية روّجتا للسحرة الدجالين في عشرات الأفلام ".
ناهيك عن الكتب القصصية القديمة مثل قصة (سيف بن ذي يزن)، وقصة (حمزة البهلوان)، وقصص من ألف ليلة وليلة، وكلها قصص وهمية خرافية تجعل للسحرة الدجالين فعلاً، وتروِّج للسحر.
وتشير نتائج الدراسة إلى أن ما يقرب من نصف نساء العرب يؤمنَّ بالسحر والخرافات، وأن هناك حوالي نصف مليون دجَّال يمارسون أنشطتهم سراً وعلانية في الدول العربية، فيما ينفق العرب أكثر من (9) مليارات دولار سنوياً على المشعوذين.
والخطير في الأمر أن هذه الكارثة لم تعد قاصرة على بلد بعينه دون آخر، بل أنها تشمل تقريباً كافة البلدان العربية.
ورغم كل هذا الواقع المرير الذي تعاني منه البشرية جمعاء، عندما خالفت نهج الله وشرعه القويم، فليست البلاد العربية أكثر حظاً من الدول الأوربية المتطورة في هذا المضمار، فالسحر عندهم يتفشى بمختلف أنواعه، وانتشاره في فئات كبيرة من أبناء أوطانهم، ولكن تأثير السحر أقل فعالية لطغيان المادة على عقولهم، فهم بين شرَّين: طغيان المادة على عقولهم، وفعالية السحر والسحرة بشكلٍ أقل وأضعف.(1/125)
إذن: السحر وأعوانه ودعاته لا ينتشرون إلا عندما تنهار القيم الأخلاقية الدينية عند الناس،وتصبح وجهتهم للمعاصي والموبقات، هنالك تروج سوق الشيطان، وتسهل السيطرة على الفريسة، ليس على الأفراد فحسب، بل على مجتمعات كاملة تهوي تحت وطأة تأثيره وسحره لها بأي نوع من أنواع هذا السحر، كقوم فرعون ذي الأوتاد بالماضي،وهو مشكلة من مشكلات العصر الحاضر.
وفي عصر التقدم المادي تزداد ظاهرة السحر والشعوذة انتشاراً، لضعف الجانب الروحي الديني السامي، وتجري طقوسه في أكثر شعوب العالم تقدُّماً، وأقيمت له الجمعيات , والمعاهد،والاتحادات، ونظمت له المؤتمرات والندوات،لاسيما حفلات تحضير الأرواح الخداعة، وهي تحضير قرائن الأموات نفسيّاً بالطبع لا ماديّاً، للادعاء الكاذب بأن أرواح الأموات ذاتها حضرت،ولكن المادة تبقى لديهم ذات تأثير أقوى .
إذن: هناك أسباب كثيرة غذَّت هذا الانتشار الواسع للسحر وفاعليه ومرتاديه،وعلى رأسها " هجر شرع الله واتباع الهوى المهلك "، حيث يتوافق هوى الساحر ومطالبه مع هوى الشيطان المدمِّر , فيتفقان في طريق الضلال والدمار الأبدي على من يرتادهم ويثق بهم: {وَإِخْوَانُهُمْ..}: إخوان الشياطين :{.. يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ..} (202) سورة الأعراف: لا يقصِّر بدلالته على الأذى ما استطاع .
* ... * ... *
هل خلق الله أحداً شيطاناً؟!.
نشوء السحر والشيطان الأول وكشف سُبُله:(1/126)
الحقيقة:الخلق في الأصل كانوا كلهم متماثلين، وكل من يَسِرْ بموجب القوانين الإ?لهية يسمُ،إذ:خلق تعالى الخلق ليتنعَّموا بشهوده ، وليستغرقوا في رؤية ذاك الجمال الإ?لهي الذي لا يتناهى، وذلك عن طريق رؤيتهم لأنفسهم، وما أغدق الله عليهم من إنعاماته وعطاءاته، فالعدالة الإ?لهية اقتضت أن لا يكون فرق ولا تفاوت بين النفوس جميعها، فتمتعت كلها برؤية هذا الكنز العظيم من الجمال الإ?لهي والكمال اللامتناهي، وذلك في بدء الخلق أو ما يسمّونه بعالم الأزل.
ولكن: وقوف هذه النفوس على رؤية واحدة ومنزلة واحدة تجعلها تملُّ ذلك المقام على الدوام الطويل، فلا بدَّ من تغيير الحال الواحد بأحوال، ينتقل الإنسان فيها من حال لحالٍ مغاير أحلى وأجمل وأبهى، فلا يتسرب للنفوس الملل، بل تتسرب البهجة والفرح والسرور والشوق المتزايد والطرب.
والله الواسع العظيم جلَّت عظمته وشأنه الباهي الرفيع لا نهاية تعالى له، فلمَ تتوقف المخلوقات عند حال واحد من الشهود الأعظمي وهناك مشاهدات بل جنَّات عُلا لا حدَّ ولا نهاية لها عند ربِّ العالمين؟!..(1/127)
بهذا تكون الحياة بل الجنات بالغبطة الأبدية المتسامية تهفو إليها كل القلوب، ومن محبة الله تعالى بنا أراد لنا هذه الحياة العالية الجليلة الجميلة المتعالية المتتالية الهنيئة، فوضع تعالى ترتيباً للنفوس لتصل لهذه الجنات بمحض إرادتها ومشيئتها، فتكون المالكة لها، وبذا يتم رضاها وهناها، فجعل تعالى قانوناً للنفس، وهو:أن تُقْبل على ربها، وترقى بما تَرَى من عملها الذاتي، وتكسب ثقة برضاء الله عنها، فترقى في جناته من جنة لأعلى، فلا ملل ولا سأَم، بل شوق وحب وهيام في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر. وهذا هو سبب الخروج إلى هذه الدنيا، لقد عرض الله تعالى على الأنفس جميعها الخروج إلى دارٍ يكون لها فيها عمل ترقى به، إذ الثقة التي تتولد فيها إثر الأعمال الصالحة هي أساس القرب من ربها، وسرُّ سعادتها،وهي التي جعلت من الدنيا دار عمل وممر وطريق للآخرة، حيث الجنات والنَهَر في مقعد صدق عند مليك مقتدر كما ذكرنا.
هنالك دبَّ الله تعالى الشهوات في هذه الأنفس، إذ بدونها لا ينطلق المخلوق للعمل، ولا يندفع إليه ولا يسعى، ولظلَّ خامداً ساكناً،لا يجد ذوقاً ولا لذَّة
ولا يعرف للنعيم طعماً، وهذه الشهوة تعطي الأعمال الطيِّبة قيماً متناسبة معها، من التضحية والصبر والجهاد. وإن اختيار النفس للعمل من ذاتها، يجعل لهذه الأعمال قيماً عالية في نظَرها، فتستند عليها النفس في إقبالها على خالقها بقدر ما قدَّمت من أعمال حسنة، وضحَّت من تضحيات جليلة في سبيل القرب من جناب ربها العظيم.
الأمانة وحَمْلها: ... لذا أراد رب العالمين أن يعرض الأمانة على جميع المخلوقات، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} (72) سورة الأحزاب .
إذن هذه إرادة الله تعالى من هذا العرض للأمانة:(1/128)
بأن يجعل للمخلوقات جميعها إرادتها التي هي ملكه تعالى أمانة بين يديها،وأن يجعلها حرة في اختيارها السير إلى أعمالها المتولدة عن شهواتها، وقد بيَّن تعالى للأنفس يوم عرض عليها الأمانة عرضاً لا إكراه فيه ولا إجبار، وليس فيه أدنى خروج عن العدالة الإ?لهية، فرأت ما في الاختيار وما في العمل العالي من جنات،
وما في الإعراض عن الخالق والأعمال السيِّئة من نار وحسرات، فعرفته وعقلته.
وأشفقت من حمل الأمانة وتقهقرت جميع المخلوقات:{.. فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا ..} ، إلا فئة غامرت وتصدَّت لحملها:{.. وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ..}: وهذه الفئة تشمل الإنس والجن، وهما المكلفان بحمل الأمانة، وكلمة:{.. إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا..}: أي: أكان الإنسان ظالماً لنفسه بعهده هذا وهو الذي سيغدو خير البرية؟!. وهل كان جاهلاً ما وراء الأمانة من الخيرات وما وراء التضحيات والأعمال من نجاح لأعلى المستويات ..؟!. بالطبع لا ..
بهذه النظرة السريعة لعالم الأزل والخلق الأول(1)(عالم النفوس المجردة)، قبل مجيئنا إلى هذه الدنيا وخلق المادة، رأينا العدالة الإ?لهية متجلية بأبهى حلل الكمال بين المخلوقات جميعها، وأنه تعالى لم يميِّز أناساً على آخرين، ولا أنبياء على كافرين ... بل كلٌ اختار وأخذ اختياره .. فما جعل الله أحداً كافراً؛ ولا أحداً مؤمناً، وما خلق شيطاناً في العالم الأول، إنما أصبح التفاوت واختلاف المراتب بحسب الوجهة إلى الله تعالى , وديمومة الصلة به وعدم الانقطاع عنه، أوبحسب الإعراض والإلتفات إلى غيره تعالى، والانغماس بالشهوات وعدم الإقبال عليه جلَّ وعلا. وهناك آيات كثيرة تدل على أن كلمة:
{..
__________
(1) للتفصيل لطفاً انظر كتاب (عصمة الأنبياء) للعلاَّمة الجليل "بحث عالم الأزل والعدالة الإ?لهية".(1/129)
وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ..}::أنها تشمل الإنس والجن، منها قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ،مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} (56-57) سورة الذاريات؛ فهما المكلفان بالعبادة،وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلَا جَانٌّ} (39) سورة الرحمن, وبالسؤال عن الذنب هما مشتركان، وقوله تعالى:
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ..} (130) سورة الأنعام: وهما المعاتبان في هذه الآية أيضاً.
إذن: لم يخلق الله شيطاناً أبداً, وإنما خلق الإنس والجن؛ فحملا التكليف بمحض إرادتهما دون إكراه أو محاباة، وعليهما يقع نتاج أعمالهما من خير أو شر .
* ... * ... *
من هو الشيطان الأول؟!. وكيف أصبح شيطاناً إذن ؟!.
لما أمر تعالى الملائكة بالسجود لآدم عليه السلام: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ ..}:لما عرفوا خالقهم وربهم أطاعوا الله وسجدوا:{.. إَلاَّ إِبْلِيسَ..}: وقد كان من الجن، جمعه الله تعالى مع الملائكة، وأحضره حفلَ السجود هذا ليرفع شأنه ويرقيه، ولكنه أبى ولم يسجد، بل أبلس عليه الأمر،من هنا اشتُقت تسميته بإبليس، إذ لم يعرف ربَّه، فعارض وعاكس واستكبر، و:{.. قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}(61) سورة الإسراء: هذا ليس مثلي: {.. أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (12) سورة الأعراف.(1/130)
فإبليس بعد أن دخل فردوس سيدنا آدم العظيم عليه السلام ، وذاق ما ذاق من التجليات الإ?لهية المتواردة على سيدنا آدم،وشاهد الملأ الأعلى من الملائكة،وهم قد انغمروا كما انغمر إبليس في جنة آدم عليه السلام، فسجدوا كلهم أجمعون، مع ذلك دخل الحسد قلب إبليس من مقام آدم عليه السلام، واستكبر عليه لعجبه بنفسه، فلم يسجد وأعرض،ونأى بجانبه، وابتعد عنه وعن الله، فشطن عن الحق، وجفَّت سواقي نفسه من الحياة المتواردة عليه من الحي القيوم، جفَّت حتى التهبت وشاطت، وغدا شيطاناً مريداً،إذن (الشيطان): مشتقة من شطن فشاط والتهب بنيران البعد عن الله ورسولِهِ آدم عليه السلام،وكلمة(مريداً) أي: أصبح يردُّ الحق، ويبغي الباطل.
وقال أيضاً: {.. أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ ..}:حيث نسب الظلم لله، بأن كرَّم آدم عليه، ولم يعلم أن آدم نال ذاك المقام بصدقه مع ربه وإخلاصه وحبِّه وطاعته، وقال:{.. لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً}(62) سورة الإسراء، رأى لنفسه فعلاً، وناصب بني آدم العداوة منذُ ذلك الحين غيرةً عمياء وحسداً، قال: {.. لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} (118) سورة النساء: يقول إن كل من تبعني فقد أصبح من نصيبي. {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ ..}: أي: يسيِّر أتباعه بالأماني وأحلام اليقظة غروراً.{.. وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ..}: يقطعون آذان الأنعام حتى لا تفزع كما يزعمون، ويسببون لها الألم الفظيع بذلك، وهم يسمعون كلام الشيطان:{.. وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّهِ..}: يخْصون الضأن ، الخصي يسمن، لكن لا قوة له، ليس فيه غذاء:{.. وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا..} (119) سورة النساء: غايته الأذى لكل الخلق من الإنس أياً كان.(1/131)
كشف سبل الشيطان: ... وقد حذَّرنا تعالى منه، وكشف لنا أساليبه في الآية الكريمة:
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ،ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} (16-17) سورة الأعراف. ولبيان ما في هذه الآيات من تحذيرات لنا من عدونا الشيطان وأتباعه، نأتي على شرح وتفصيل كل منها على حِدةْ:
1ًـ {..لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} :أي: طريق الحق، فلا أمكِّن أحداً من السير عليه، بل أغويهم وأغريهم بالسفالات، فترى أتباعه من السحرة بالجوامع وأماكن العبادة منتشرين، وفي المقابر(1)، يحفظون القرآن والأحاديث، بعضهم يلبس العمائم والجبب، وبعض النساء الساحرات يرتدين الخمار والستار وهو اللباس الإسلامي، ويتظاهرن بالورع والعبادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقيام الليل، ليشككوا بالإسلام وينفِّروا الناس منه، ولا يتركون فرصة أذى إلا ويلجونها ... اتخذوا الإفساد شعاراً لهم، وغايةً لسعيهم، وجعلوا السحر ديْدنَهم، والمكر والخداع سبيلاً في حياتهم، يمكرون بعباد الله، ويخدعون العوام خداعاً منكراً بأساليب ومراوغات لأهل الدين باسم الدين،وغيرهم حسب وجهاتهم وميولهم. حتى إذا انطلى مكرهم ونجح خداعهم، أفسدوا ما أمكنهم الفساد لمن يتبعهم،جرياً وراء المنافع والمكاسب الفانية، وأداءً للدور الحقيقي الذي أخذوه على أنفسهم مع سيدهم الشيطان.
منهم من يتمم الصورة في اللباس والمنظر وحسن الهيئة، وأكثرهم بثياب مزرية وروائح عفنة، ليظنهم البسطاء أنهم مجاذيب بحب الله، وأنهم طلَّقوا الدنيا، يظهرون التودد والعطف واللين والإصلاح،ويبيِّتون الغدر والقسوة والخيانة.
__________
(1) حيث يكون صفاء النفوس كبيراً ).(1/132)
ويطوون صدورهم على العداوة والحقد والبغي والإثم والفواحش, من غير وازع ولا رادع ،و: « المؤمن كيِّس فَطِنٌ حَذِر »(1)،ذو عقل وفطنة وصحوة مدركة.
يتبع قوله صلى الله عليه وسلم :« احترسوا من الناس بسوء الظن »(2): بأهل البدع فلا ينطلي عليه مكرهم، فيعلم أن الولي هو المتابع لأمر الله، الولي عند حدود الله،
لا بكراماتٍ مزيَّفة، وتخييلات ومخالفات لأمر الله، فلا يقع في حبائل مكرهم وشَرَكِ خداعهم.
أما غير المؤمن فيغدو ألعوبة بيدهم،وهدفاً لخداعهم،ودَسِماً لمآربهم،وأداة لفتنهم وشرورهم إذا اتَّبعهم،وما قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلا تحذير للعامة من المسلمين ضعاف الإيمان من هؤلاء المَردة، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: « إني لا أتخوف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً؛ أما المؤمن فيحجره إيمانه، وأما المشرك فيقمعه كفره،ولكن أتخوف عليكم منافقاً عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويعمل ما تنكرون »(3).
وتلك حادثة واقعية نعرضها عليكم تبيِّن لنا أنَّ الولي هو المتابع لأوامر الله وعند حدوده، فلا يتعدَّاها مهما كانت المغريات:
* ... * ... *
لا أجعل رقبتي جسراً للنار
انهالت الرجاءات، وتوالت الإلحاحات: إنها امرأة عجوز مسنَّة، خلف برقع وجهها الأسود القاتم، وأنت الطاهر الشهم المعروف بالتقى والصلاح الشيخ عيسى أبي شمس الدين الكردي" رحمه الله"، ولا أحد يظن بك إلا خيراً.. وإنها امرأة غنية، وأهلها مفرطون بالغنى، قد تغدق عليك من مالها ما يكفي أولاد أولادك.
كان المتكلم ابنه الأكبر، وقد تميّز غيظاً من أبيه حين أحضروا له عجوزاً ليكبِّسها لتخلص من مرضها، ومنحوه ليرتين ذهبيتين لقاء ذلك فأبى تكبيسها، وأجابهم بصلابته المعروفة ووقفاته المشهورة :
__________
(1) الجامع الصغيرج6رقم الحديث/9158/. ... ... ...
(2) أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أنس.
(2) رواه الطبراني في الأوسط والصغير.(1/133)
إنها حدود الله لا أتعداها، مهما يكن لا لعب ولا مراوغة بالدين، فلا يجوز أن يجتمع رجل غير محرم مع امرأة إطلاقاً، فكيف يلمسها؟!.
عندها قالوا: يا سيدنا الشيخ لا تلمسها بيدك بل كبِّسها بعصاك عن بُعد، فرفض أيضاً. يئسوا منه وانقطع رجاؤهم، وعادوا أدراجهم دون نتيجة ودون تكبيس.
شاهد ابنه ما حدث فكاد يتميز من الغيظ، وتوجّه إلى أبيه الوقور قائلاً:
أبتِ ألا ترى ما نحن فيه من فاقة ومن حاجة(1)الليرتين الذهبيتين؟!. وهذه امرأة غنية.. ماذا عليك لو أنك كبَّستها بعصا؟!. فإنك لا تلامس جسمها، ومن وراء حجابها الأسود الكثيف لا تراها!!!.
فحدّق الأب بابنه بعينيه الطاهرتين وقال:
غداً الناس لا يقولون إنني كبَّستها من وراء حجاب كثيف وبعصا، ولم أرها وهي امرأة عجوز، إنما يقولون:
الشيخ عيسى كبَّس امرأة، وبذلك يستغلُّ الذين لا يعلمون قصتي ويتَّخذونها ذريعةً للدخول على النساء المغفلات وتكبيسهن دون ستر ولا حجاب، ومن ثم تقع الفواحش باسمي، وتهتك الحرمات، فيتجاوزون حدود الله.
فأنا لا أجعل رقبتي جسراً للنار لأجل عَرَضٍ زائل ومال
والله لا ينساني فهو خير الرازقين.
* ... * ... *
وإليكم هذه الواقعة التي تبين دجل وخداع من يدَّعي بأنه صاحب كرامات خيالية، وسذاجة وخفة عقل ممن يصدقهم وينطلي عليه مكرهم:
* * *
القطب الأعظم وحوض الولاية
انقطع مريد عن مجلس العلم أياماً متتالية.
ارتاب الشيخ أمين كفتارو في أمر انقطاعه، وراودته الحيرة فيما يشغله، وقد نذر نفسه لمجالس العلم!. فقرر الشيخ أن يتفقده في منزله.
ولما دلف الشيخ بيته، وسأله عن تغيبه عن مجلس الذكر والعلم فغر المريد فاه، ووقف مدهوشاً وقال للشيخ: ألم تُخبر؟!!.
قال الشيخ: بأي شيء؟!.
قال المريد: لولا أنك شيخي لما أخبرتك.. إنه يأتيني كل ليلة القطب الأعظم، فينزل بضيافتي وأنا أقوم بشرف خدمته.
__________
(1) والإنسان بين عسر ويسر فكان الشيخ عيسى الكردي يمر بظرف عارض مادي عصيب.(1/134)
قال له الشيخ: القطب الأعظم!. ما اسمه؟. وما وصفه؟. ولم اختارك؟. وكيف عرفته؟.
قال المريد بحماس: إنه القطب الأعظم نفسه، حوض الولاية القطب الغوث، هو أخبرني أن الله اختارني لأقوم بخدمته، وشرَّفني بضيافته والإنفاق عليه.
قال الشيخ: وكيف عرفت أنه القطب الأعظم؟!..
قال المريد: إني ما أن أضع له طعام العشاء من كل يوم، وأعطيه ما منحني الله من المال برّاً وتبركاً، وأتركه يخلو بنفسه لحظة حتى يطير على جناح الأنس فوق بساط الحق إلى المدينة المنورة، فيبيت كل ليلة عند الحبيب الأعظم صلى الله عليه وسلم.
لجأ الشيخ لمحاكمة بينه وبين نفسه، وفكَّر بالأمر مليّاً، وأدرك بنظرته أنَّ الله يختار أولياءه من خلقه ليحببوا به العباد، ويدلُّوهم على أبواب طاعته، وينالوا القرب والنعيم من الله، وما اتخذ الله وليّاً جاهلاً، ولو اتخذه لعلَّمه، وإنما علَّمه ليعلِّم الخلق ما فيه خيرهم وسعادتهم، وأيّ حكمة لله عز وجل في اختصاص طائفة من العباد لتبيت عند الناس، وتضيِّق عليهم في أرزاقهم ومآكلهم ومشاربهم، وتقطعهم عن مجالس العلم والخير؟!.
قال في نفسه:أغلب الظن أن هذا مدَّعٍ خبيث يستغل سذاجة الناس، ويعيش على موائدهم وفي مساكنهم، ويستتر بما يحلو له من الأسماء والأوصاف.
نظر الشيخ إلى ذلك المريد المغفَّل وقال له:أهو أخبرك أنه يذهب فيبيت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
قال: نعم.
قال: هل رأيته؟.
قال: لا، ولكنني إذا تركته في الغرفة ورجعت إليه بعد خلوته لم أجد جسمه فيها، غير أن جسمه الشريف يحضر في الصباح.
قال الشيخ: هل في غرفتك هذه باب آخر؟.
قال: لا.
قال: هل فيها شباك؟.
قال: لا.
قال: هل فيها يوك(1)؟.
قال: نعم.
قال الشيخ أمين كفتارو"رحمه الله": فتفقَّد اليوك هذه الليلة، فإنه سيبيت فيه.
__________
(1) اليوك: فتحة في الجدار توضع فيه الفرش.(1/135)
وفي تلك الليلة حضر القطب المزعوم، وتناول عشاءه المعتاد، ووضع في جيبه ضيافته المقدَّرة، تركه المريد في خلوته ثم دخل عليه في الليل، وهو لم يجزم بعد:
أيكون القطب في هذه الساعة على بساط الحق محمولاً بجناح الأنس، أم يكون نائماً في اليوك؟!. وما هي إلا لحظة حتى تبدَّلَ الشكُّ باليقين، ونفض المريد فراشاً من اليوك، فإذا ( حضرة القطب الأعظم) ملتف داخل واحد منها يغطُّ في نومٍ عميق.
إن القوانين الكونية صارمة في الدقة، ما كان الله تعالى أن يبدِّل سننها ويخرقها عبثاً، وما كان له أن يكلِّف حبيبه صلى الله عليه وسلم عناء الهجرة، ثم يسخِّر الريح لتحمل هذا الخامل البليد في رحلة فارغة بعد عشاء دسم!.
* ... * ... *
وملخَّص القول:
قوله تعالى: {.. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (27) سورة الأعراف: حيث لا بُدَّ من ذلك، لأن نفوسهم قد امتلأت خبثاً,والشيطان أصبح لهم دواءً،فيزيِّن لهم ويخرج لهم مافي نفوسهم من شهوة خبيثة , وبعدها يداويهم الله بالشدائد والبلاء، لعلهم يرجعون عن طريق الغي، فيسلكون سبل الحق.
وقد تظهر الشياطين الخفيّة بصورة أشباح مشايخ بلباس أبيض يقومون بالوضوء من بحرة الدار ليلاً. وهذا الظهور دلالة على وقوع مخالفات أو معصية باسم الدين، في المكان أو البيت الذي هم فيه يظهرون، وهذا ما مكَّن الشيطان الخبيث من هذا الظهور كطيف مرئي شبح غير مادي، أي: غير ملموس كنور (نيون) كهربائي خفيف أبيض، يرمز إلى بدء الفاحشة بالمنزل الذي ظهر فيه، إذ بدأ نشاط القرائن الشيطانية السحرية بمخالفات ومعاصي مكّنت الشيطان من الولوج بهيئة دينية خدّاعة، فإن تراجع الضحية المخدوع ورفض الفاحشة خسأ القرين، وإلاَّ وقع الفحش بالبيت، ولزمت المداواة الشديدة والعذاب الأليم للتوبة والإنابة فالاستقامة على الحق المبين.
فحذارِ من سوء البذار،من اتباع مَن يُشهد الله على ما في قلبه، وهو ألدُّ الخصام.(1/136)
2ً - {ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ ..} (17) سورة الأعراف: وهو في عمله، حيث بانشغاله تصيبه الغفلة، فيدلف إليه الشيطان هارعاً يلقي بوساوسه بنفسه، من سوء الظن بالله ورسله،ومن إثارة للشهوات المنحطة لإيقاعه بالفاحشة وما سيعود عليه بالسوء، ولكن : {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (201) سورة الأعراف: فكل من فكَّر فاستقام , صلَّى فكمل فصاحب من أهل الكمال،الذي دخل مع الصادقين على الله فنال التقوى،إذا غفل عن الله،إن جاءته الوسوسة بارتكاب المعصية أو المخالفة يلتجئ إلى الله بقلبه،فيرى أن هذه الوسوسة من الشيطان،فيبتعد عنها مُبصراً حقائقها.
التقوى:وهي الاستنارة للمؤمن بنور الله بالسراج المنير صلى الله عليه وسلم، والاستنارة غايتها أن تتذكر فتبصر ما في هذه الوسوسة من الشر،فتتباعد ولا تتبعها. ولهذا، طريق الإيمان الحق واجب اتباعه للنجاة من وسوسة الشيطان والنصر .
فالإيمان ليس قولاً باللسان، أو ادعاءً فارغاً أجوف، بل إنما يحصل للإنسان بناءً على أسس من طلبٍ للحق والحقيقة، وبحثٍ ذاتي عن وجود الله، فيبحث متأملاً في صنع الإ?له وآلائه الكونية، كبحث سيدنا إبراهيم عليه السلام(1)،فيوصله الصنع للصانع العظيم،ويشهد بقلبه الآيات الموصلة للإ?له بعد شهوده بعينيه، يشهد نوره ووجوده تعالى، فيهيم حباً به لما يسدي عليه وعلى العالَمين من نعمه،هذا يعرف الطريق لربه، هذا يلتجئ فعلاً لله،والموت ولقاء الله نصب عينيه.
3ًـ {.. وَمِنْ خَلْفِهِمْ ..} (17) سورة الأعراف: أزيِّن له أن يعمل في المستقبل.
__________
(1) لطفاً انظر الصفحة / 334 / من كتابنا هذا، بحث طريق الشفاء الوحيد.(1/137)
أي: أن الشيطان يسيِّره بالأماني والأحلام الذهبية الغرَّارة ليجمع للمستقبل، فيحذِّره من الصدقة والإنفاق خشية الفقر،ويريد أن يبقى الإنسان بخيلاً، لا يعمل الخير الذي خُلق له، قال تعالى : {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء ..} (268) سورة البقرة ،ولا يجتمع البخل والإيمان في قلب عبدٍ مؤمن أبداً .
الشيطان يأمر بالحرص الشديد على المال، ومنها إلى المنفعة الذاتية بدون تمييز بين حلال وحرام، فيصبح شحيحاً ذليل النفس , يتطلع إلى ما في أيدي الناس، ويبخل بما عنده.
يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، ويتمنى زوال النعم عن غيره له،فيحرم ذوي الحقوق حقوقهم، ويضيِّق على نفسه وأهله، ويقع البغض والكره والمشاكل بالأهل،يغلي بالحقد صدراً كلما رأى رجلاً قد تفضَّل الله عليه، ومن هنا تقع المنافسات للدنيا والفتن والخصومات،وتنشأ الشرور والعداوات،وتنقطع حبال المودَّة والإخاء،ويغدو ذلك الشحيح وحشاً بصورة إنسان.
4ً- {.. وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ..} (17) سورة الأعراف طريق الحق، في صلاته، وفي عمل الخير،طريق العمل العالي، ليدخله بالعُجب،أي: إذا عمل خيراً زين له عمله حتى يعجب بنفسه، ومن دخل بالعجب رأى نفسه فوق الناس،ويتدرج به العجب حتى يستحوذ الشيطان عليه بداء العظَمة ليصدَّه عن سبيل الله .
5ً - {.. وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ..} (17) سورة الأعراف: عن طريق الأذى وطريق الرذيلة.
1- عن طريق الأذى: إن صدرتْ من السالك بطريق الحق هفوة يقنِّطه من رحمة الله الرحيم التوَّاب.
2- عن طريق الرذيلة: إذا ارتكب عملاً غير صالح هوَّله في عين فاعله حتى يبعده عن الله، وييئسه من رحمة الله لكيلا يتوب مع أن باب التوبة مفتوح حتى للكافر،قال تعالى : {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ ..} (38) سورة الأنفال:(1/138)
فالكافر إن تاب ورجع يغفر له، فكيف يصدِّق هذا الإنسان المسلم عدوه الشيطان(1)؟!.
وقد بيَّن لنا تعالى كيف يسلك الشيطان مع أتباعه، بقوله تعالى له بعد أن أطلقه لاختياره: {قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُورًا} (63) سورة الإسراء: كاملاً.
كل من تبعك وعمل عملك فأبلس عليه الأمر، وظن بالله الظنون السيئة، هو المتبع لإبليس, إذ سار بطريقه وعمل عمله.
كيف تكون هذه الوسوسة؟. ... {وَاسْتَفْزِزْ ..}: وسوس. {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ..} (64) سورة الإسراء: حرِّض بقدر ما تستطيع.
{.. بِصَوْتِكَ ..}: يناديهم. {.. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ..}:تخيلات لا حقائق ليخبلهم، ويخيِّل، ولكنه لا يخيِّل لكل إنسان , بل عندما يشم من الإنسان إعراضاً وخبثاً، يدنو منه ويخيِّل له، لأن الشيطان أعمى ولكن يشمُّ شمّاً.
{.. وَرَجِلِكَ ..}: بما يستطيع من قوة وعزم، وبرجال له من الإنس الذين يسخِّرهم لمآربه من السحرة .
{..
__________
(1) ولكن المرء الذي يفعل الحرام عامداً متعمداً وهو يقول: سأفعل كذا ثم أتوب، فهذا لا توبة له. لكن المغلوب على أمره والذي يقع عن جهل وخطأ هذا تُقبل توبته.(1/139)
وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ ..}: البعيد عن الله الذي لا يسمِّي بالله، فلا يفكِّر بالنعم التي يتناولها بطعامه، وكيف خلقها الله تعالى له، وشغَّل الكون والفصول والرياح والتراب والشمس والقمر حتى خُلقت ونمت ونضجت واستوت، ثم يسَّرها له بلا مقابل، إن سمّى مفكراً بفضل الله عليه عندها يحبُّ ربه، فيميل إليه تعالى، وينال سروراً وتغذية قلبية من وجهته لله، فيطيب بالطعام نفساً وجسماً. هذا معنى التسمية، أي: التفكير بنعم الله، بالطعام، لينشأ الحب فالسعادة، وإن لم يُسمِّ فدوماً الشيطان معه يأكل وينكح. {.. وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا} (64) سورة الإسراء: يسيِّرهم بالأماني والتغرير والأوهام، وليس هناك حقيقة، فجميع السحرة بالعالم يطلبون الأجر لقاء ما يصنعون، ولا يكفون أنفسهم ذل العَوَز والسؤال،فهم ذليلو النفوس، وفي الدجل سائرون، ولو تظاهروا بعكس ذلك، ليخدعوا البسطاء حتى يملكوا نفوسهم، ويستحوذ عليهم الشيطان بواسطة السحرة المكَّارين .
سبق وبيَّنا كيف ينشأ السحر، وكيف يتدنى الإنسان ليصبح ساحراً أو مؤيداً مسحوباً لعالمهم،وهذه عامة منذ بدء الخليقة وظهور الإعراض عن الله وارتكاب المعاصي من بني البشر،فالحقيقة أن الإنسان أمام أحد أمرين:
- إما أن يكون مع الله.
- وإما أن يكون مع الشيطان (حمانا الله وإياكم من هذا المرض النفسي ).
فمتى غفل الإنسان عن ذكر الله هَرَعَ الشيطان إليه موسوساً، ليقوده إلى طرقات متهاوية شيئاً فشيئاً كما سبق وبيَّنا ،أما المؤمن فإنه ينتبه لما ألقاه الشيطان في نفسه من وساوس، ويتذكر سبب اقتراب الشيطان منه، ألا وهو نسيانه لذكر الله وصلاته على رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندها يتذكر،ومتى ذكر الله وصلى على رسوله وصارت نفسه مغمورة بالنور الإ?لهي هرب الشيطان وابتعد عنه.(1/140)
البعيد عن الله والخائض في معاصي الله هو المُعَرَّض لهذه الأحوال المُدمِّرة، وهو المرشَّح ليسير مع الشيطان في هذا المضمار القذر، ويغدو آلةً بيده، يحرِّكه بسلطان الشهوات المحرَّمة الدنية كيف يشاء.
قال تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ،تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (221-222) سورة الشعراء.
فالسحرة دائماً أعداء للحق،أعداء للإنسانية،أعداء للبشر إلاَّ من كان على شاكلتهم، وما أتى القرآن على ذكر خلاف ذلك،قال تعالى: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} (38) سورة الشعراء {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُم مُّجْتَمِعُونَ،لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ،فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} (38-41) سورة الشعراء ،وهذه الآيات تدل على أن السحرة قبل أن ينكسروا أمام سيدنا موسى عليه السلام، ويتوبوا عن طريقهم الذي صرَّحوا بخطئه، كانوا أعداء للحق والدين، وعلى جهة مناقضة لسيدنا موسى رسول الله عليه السلام بالسحر والتعامل معه،بيد أنهم رأوا منه عليه السلام معجزة إ?لهية حقيقية، فآمنوا بعدها وقالوا:
{إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} (73) سورة طه: فانقلبوا صاغرين ساجدين، ولكن فرعون وملأه لعمى قلوبهم ظنوها من صنائع السحرة، ورأوها كما كانوا يرون من سحرة زمانهم من تخييلات وأبواب سحرٍ خدَّاعة لا تنفع، قال تعالى:
{..(1/141)
وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (69) سورة طه: على كلٍّ، دائماً يقترن الضعف والتردي الأخلاقي الديني بظهور السحر والشعوذات، فهؤلاء بنو إسرائيل قادتهم مرحلة الضعف وهجر شرع الله " التوراة " إلى مرحلة الهويان المريع في مثل هذه الدوامة النفسية الخطيرة،كما كان السحر سائداً عند فرعون وأُمَمِه من قبل بانحطاطهم كما سبق وألمحنا.
* ... * ... *
هل يقع سحر أولئك على كل إنسان من أذى أو تفريق أو دوَّامات من الاضطرابات النفسية؟!..
بل كيف يرى ما يريدون له أن يرى من خيالات وأوهام؟!. أم أنَّ هناك من لا يستطيعون أن يسحروه، ولا إيقاع أدنى أذى به ولا التخييل له!. أم أنَّ هناك مَن يرى الأمور على حقيقتها!.
إذن مهما كان الإنسان في معاناة ومصائب، ومهما كان في آلام نفسية: فحذار من أن يلجأ إلى مشايخ السحرة(1)
__________
(1) فتاة تعرضت في العشرينات من العمر، أصيبت بمس، فقصدت بعض المشعوذين، فقالوا لها: بأنها مصابة بمس من الجان وأن الشيطان يجري في دمها، وعلاجها يتطلب حقنة في الوريد بماء مقروء عليه ببعض الآيات القرآنية، علماً أن اختلاط الماء في الشرايين مع الدم خطر جداً، ولولا تداركها من قبل البعض لما في هذه العملية من خطورة على حياتها لأصيبت بما لا تحمد نتائجه.
ـ حادثة ثانية: فتى في مقتبل العمر أصيب بحالة صرع ذات منشأ شيطاني لا دماغي جسمي، قصد بعض الجهلاء أو السحرة، فعالجوه بإسماعه القرآن عن طريق آلة التسجيل، ولم يكتفوا بذلك بل تعدى الأمر بهم إلى جلده بالسوط بعد تقييده، وذلك لاعتقادهم أن هذا الشيطان لا يخرج منه إلاَّ بالضرب والتعذيب، وكلما ازداد الشاب ألماً وصراخاً زادوه ضرباً لاعتقادهم أن الشيطان الذي استحكم فيه هو الذي يصرخ ويتألم وسوف يخرج منه، وهكذا لم يتوقفوا عن ضربه حتى فارق الحياة(فسيقوا للسجن).الغريب وكأن الشيطان مخلوق مادي يتألم بضرب الجسم!!.(1/142)
بكل صنوفهم، ولو حسُنت أسماؤهم (عالم مغناطيسي، وشيخ مسلم كذاب..)،وحسُن مظهرهم الذي يلبسونه على الناس.
المؤمن الحق يشعر بالأسى والحزن عليهم، فإن ماتوا قبل أن يتوبوا، فيا خسارة نفس في تجارتها، قال تعالى: {.. وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ ..} (102) سورة البقرة. فلا نتمنى لهم إلاَّ الهداية بعد التوبة الصحيحة، والرجوع عن هذا الطريق المرعب المدمر.(1/143)
وسؤال طارئ: هل يُستَتْوب الساحر؟. نعم يمكن أن يتوب إن صدق وخاف النتائج، وفكَّر في الموت وصاحب الأتقياء فأعرض عن طريق الشقاء، كما تاب سحرة سيدنا موسى عليه السلام فغدوا أتقياء، وإن أصرّوا في دولة إسلامية وكفروا فقتلهم خيرٌ لهم من بقائهم وهم متمادون بالشرور. فباب التوبة دوماً مفتوح لا يُغلق (فالذي ما مات عيبه ما فات). فإيّاك يا أخي أن تشرك بالله وتعتقد أن لهم فعلاً، وأنهم ينفعوك أو يضروك، أَصْلِحْ سيرتك، وسِرْ باستقامة يرفع الله عنك كل شدَّة ومرض. غيِّر ما بنفسك، وتقرَّب لله تعالى بفعل الخير والإحسان، واجعله وليَّك يحفظك، قال تعالى:{سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} (10) سورة الرعد: في الخفاء يعمل، مخبئ نفسه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ..} (11) سورة الرعد. تحفظه، ملائكة محيطون به، لولا ذلك لاختطفته الشياطين. {.. يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ ..} (11) سورة الرعد: يحفظون أعماله بأمر من الله: عملك كله مكتوب عليك. {.. إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..} (11) سورة الرعد:تب إلى الله يرفع عنك البلاء، والنعمة لا تزول عنك إلاَّ إذا غيَّرت، إن غيرت تغيَّر عليك: ليس عليك كتابة أزلية أنك من أهل النار والشقاء، بحسب حالك يعطيك في كل لحظة، كل ساعة، كل يوم.
{.. وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ ..}: لا يرده أحد، إذا استحق الإنسان البلاء، فلا يرده عنه أحد. {.. وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} (11) سورة الرعد : يتولى شؤونهم، قدِّم شيئاً من مالك، من جاهك، من علمك.. في سبيله جل وعلا لمستحق...(1/144)
تب إليه معاهداً، عندها يقبل تعالى توبتك، ويبدِّل ذُلَّك عزّاً، وفقرك غنى، ومرضك جسمياً كان أم نفسياً صحة وحياة قلبية طيبة: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (104) سورة التوبة ، {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} (25) سورة الشورى
فالخير والشر اللذان يصيبان الإنسان موقوف أمرهما عليه ذاته:
أتظن أن إنساناً على وجه البسيطة يستطيع أن ينفعك بشيء أو يضرك بشيء إلا من بعد إذن الله؟. فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهو سبحانه الإ?له، إ?له الناس: مُسيِّرهم.
يتبين لنا أن الأمور كلها بيد الله تعالى، وأن الناس ليس لهم تصرف إلا بإذنه، وأن الخير والشر متوقف أمرهما على هذا الإنسان، فإن صلحت نفسه وفعل
ما يستحق عليه النفع والخير، سخَّر الله تعالى له الناس فعاملوه بالخير، وإن فسدت نفسه وفعل ما يستحق عليه الضرر والأذى، ساق الله تعالى له أناساً فعاملوه بما يستحق، وما لأحد منهم قدرة على تغيير أو تبديل فيما كتبه الله لهذا الإنسان، بناء على ما كسبته يده وما جناه:
{وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى، إلا أن يتوب عن شذوذه ويؤوب لربه، فيتبدل غمه وهمّه سروراً وهناء، ويعود بعد البعد عن الله إلى مقام القرب، وينعم بصلته بربه، فيغدو من السعداء.
فالأمور كلُّها بالحق والاستحقاق، وهي بيد الله.. وإلى ذلك أشار القرآن الكريم في مواضع عدة، من ذلك قوله تعالى : {.. وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ ..} (107) سورة يونس.(1/145)
فالتجئ إليه تعالى، واستقم على أمره الذي هو الخير المطلق لك، عندها تُشفى، ويعود عليك ذلك بالصحة والمال والعز والجاه وسعادة الدارين.
* ... * ... *
قضايا هامَّة جداً
يجب أن تأخذ حيِّزاً من الإيضاح، وذلك لخطورة الأمر وخطورة التصديق بها، ألا وهي:
1)- هل وقع تأثير السحر على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
2)- {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200) سورة الأعراف.
3)- الاستعاذة بالله وبمعية رسوله صلى الله عليه وسلم: محرقة الشيطان وبها هزيمته، وبها جنّة الإنسان المؤمن المستأنس بربه.
4)- كيف استطاع إبليس أن يوسوس لسيدنا آدم عليه السلام؟!...
5)- كيف مسَّ الشيطان سيدنا أيوب عليه السلام؟!...
* ... * ... *
هل وقع تأثير السحر على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!.
نقول:
ورد في كتب التفسير وكتب الحديث، أن سبب نزول المعوذتين قصة (لبيْد بن الأعصم) الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشط ومشاطة، وجف قشر الطلع، طلعةٍ ذكر ووتر معقود فيه إحدى عشرة عقدة مغروز بالإبر، فأنزلت عليه صلى الله عليه وسلم المعوذتان، فجعل كلما قرأ آية انحلت عقدة، ووجد في نفسه خفة صلى الله عليه وسلم، حتى انحلت العقدة الأخيرة، فقام كأنما نشط من عقال، وأنه خلال مرضه هذا لا يدري، على حدِّ زعمهم، هل كان الشيطان يدخل على نسائه الطاهرات أم لا يدخل، هذا الزعم عن (سحره) صلى الله عليه وسلم ورد في البخاري، وفي تفسير الجلالين برواية (لبيد اليهودي)، وغيره من التفاسير المدسوس عليها. فما صحَّة هذه الرواية؟!.
هذه الرواية الشيطانية الخبيثة الإفك تقول أن الشيطان كان يدخل على نسائه الطاهرات المطهَّرات، بل بلغت بهم صفاقة الوجه في رواياتهم أنه صلى الله عليه وسلم بقي تحت تأثير السحر وشياطينه/18/ شهراً، فهل انقطع الوحي بهذه المدة ؟!..(1/146)
أما قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} (25) سورة التكوير، أفكان الوحي شيطانياً؟!. وهو طعن بالقرآن العظيم بأنه من وحي الشياطين، وذلك قول مشركي مكة الحاسدين الحاقدين: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} (47) سورة الإسراء.
وقد تبعهم العميان المقطوعين عن الله، ولكن الشياطين تتنزل على أمثالهم، قال تعالى:
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ،تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (221-222) سورة الشعراء، وما الأفّاك الأثيم إلا امرؤ متحوِّل عن طريق الحق، مصرٌّ على حب الدنيا الدنيّة وشهواتها المنحطة، فهل يليق هذا بحق رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!!. فيصمونه بهذه الصفة الشيطانية، وهو أكمل الخلق، الذي شهد الله سبحانه وتعالى بكماله، وهو هادي العالمين إلى الصراط المستقيم!.
قال تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى،مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى،وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى،إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى،عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} (1-5) سورة النجم ، فهو صلى الله عليه وسلم ما ضلَّ(1/147)
وما غوى، وما نطق عن الهوى، إذ هو وحي يوحى من حضرة الله،لا يسبق ربه بالقول، وبأمره دوماً يعمل، وعلمه مباشرة من حضرة الله الذي بيده مقاليد السموات والأرض ومسيّرها بكمال الكمال، ثم هل تسكت قريش واليهود إن رأت نقيصة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!. أفلا يقولون أن القرآن من وحي الشيطان إن كانت هذه الرواية المدسوسة صحيحة؟!. عكس قول الله تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ،وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} (210-211) سورة الشعراء. فهل في عقول الداسين على رسول الله صلى الله عليه وسلم عماء؟!. وهل في أفكار المضلِّين غباء؟!. حتى أدخلوا هذه الدسوس من أن للشياطين على رسول الله صلى الله عليه وسلم سلطان حتى يمرضه. مع أنه حقاً لا تستطيع الشياطين أبداً حضور مجالسه صلى الله عليه وسلم:{إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (212) سورة الشعراء،فهل بعد بيان الله بيان؟!.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ،إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } (99-100) سورة النحل ، فما دام الشيطان أخسأ من أن يكون له سلطان على مؤمن، فهل من المنطق أنَّ له سلطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!. حاشا وكلاَّ.
فسلطان الشيطان على من يتولونه من الخبثاء وعلى المشركين، لا على رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الموحدين.(1/148)
وأن الشيطان ذاته لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين معه، ارتعدت فرائصه وفرَّ هارباً، قال تعالى: {.. فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (48) سورة الأنفال ، لما رأى التأييد الإ?لهي للمؤمنين، فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم خليفة الله في أرضه وسفيره لخلقه؟!.
صلى الله عليه وسلم: وكلمة(وسلم)أي: سلَّمه تعالى بديمومة إقباله عليه من كل شيطان مَريد، ومن شرِّ كل مخلوق، بتحصُّنه برب الفلق وبرب الناس، وهو عليه السلام، والسلام تعني: الأمان من كل ذي شر..
بل العكس صحيح، رسول الله صلى الله عليه وسلم قاهرهم دوماً، قال تعالى: {.. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء ..} (6) سورة الحشر.
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ..} (36) سورة الزمر
{.. وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ..} (67) سورة المائدة
وكفى بالله شاهداً على كذبهم فيما رووه.
وقوله صلى الله عليه وسلم:«..نُصرت بالرعب مسيرة شهر.. »(1). والشيطان الأول إبليس عندما حاول الوسوسة لسيدنا آدم العظيم ليثبت أن آدم عليه السلام قد عصى ربه باء بالفشل والخسران، حيث لا يحيق المكر السيء إلا بأهله، فسيدنا آدم عليه السلام قد أصبحت له بدل الجنة الواحدة التي كان بها جنات، وإبليسْ بالشقاء يعيش، والنار مثوىً له.
__________
(1) سنن النسائي ج1.
(2) سورة الحجر: الآية(39حتى42). ...(1/149)
فعندما رأى إبليس هذه النتيجة: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ،قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ،إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (39-42) سورة الحجر ، فها هو إبليس يرى خسارته باقترابه من عباد الله المخلَصين: أي الأنبياء، فيتجنبهم بذاته:{إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}، ويقول الله تعالى أنه لا سلطان له حتى على المؤمنين:{ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ}، الغاوين: وهم الذين لا يعملون تفكيرهم في السعي الحقيقي لمعرفة ربهم، والدنيا أغوتهم، فظنوا أن بها شيئاً، وعند الموت تنكشف الحقيقة بأنه لا شيء فيها، بل كان كله من الله عطاءً وفضلاً وإحساناً، فيعيشون في الحسرات والندامة، ثم مثواهم النار لتسلِّيهم عمَّا بهم من آلام جهنَّمية.
أفلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد المخلَصين؟!. وهو الذي اصطفاه تعالى لتبليغ رسالته، والله السميع العليم، فهو سميع لقوله صلى الله عليه وسلم، عليم بحاله وبنيَّته، فكلامه وحاله صلى الله عليه وسلم عال، لذلك اصطفاه الله تعالى لطهارته وعلوِّ نيَّته، ليرشد الخلق إلى الله، أفيقال عنه هذا القول الشنيع؟!. ويقبله عميان القلوب!!.
أوَ لم يقل تعالى: {مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا} (147) سورة النساء:ما يفعل الله بعذابكم؟. لماذا يعذبكم؟!.(1/150)
خلقنا ليسعدنا دنيا وآخرة، لكن حيث النفس فيها ما فيها من علل، يسوق لنا هذه الشدائد لنرجع عن غيِّنا، فنتوب ونصلي لتطهر نفوسنا مما بها، وبما أن نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم أنقى نفس بمداومتها على ذكر الله وعدم انقطاعها أبداً، فحاشا أن يمكِّن مخلوقاً من الإنس أو الجن أن يمسَّه أو يلمسه صلى الله عليه وسلم بلمسة أذى، لالتجائه الكلي إلى الله، فكفاه:
{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ ..} (36) سورة الزمر، فمن كان الله معه، فمن ضده؟!.
{..وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ..} (67) سورة المائدة:الله يعصمه، فلا أحد يستطيع الوصول إليه بأذى، وقوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا،إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} (26-27) سورة الجن:ملائكة يحفظونه من السوء، أو أي أذى من أيِّ مخلوق كان، لا من الإنس ولا من الجان.
في هذه الآية الكريمة: {.. قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ} (195) سورة الأعراف: اعتماد من الرسول صلى الله عليه وسلم على الله تعالى بأنه هو الفعَّال وحده، وأنه صلى الله عليه وسلم طاهر لا يمكن لأحدٍ أن يتسلط عليه، فلا خلل ولا خطأ وقع منه حتى يتسلط عليه أحد، فلا حول ولا قوة إلا بالله وحده.
اسمع إلى ما دسَّه الشيطان ... واستسلمت من جهلها العميان
قالوا يهودٌ أفلحوا في سحره ... قد جاؤوا إفكاً ظاهراً بهتان
قد أدرك الشيطان شيئاً قاله ... في المخلَصين ماله سلطان
ولَّى فِراراً من صحاب المصطفى المصطفى ... لا يقترب إن لم يجد إنتان
معوِّذات حصون قد حمانا بها ... لم يرتكب نور الهدى عصيان
فناسبُ السحر حسودٌ حاقدٌ ... لا شك فيه ملحدٌ خسران(1/151)
فمن فيه ذرة عقل لا يصدق أبداً تلك الرواية المدسوسة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الطبيب الإنساني الأول، طبيب القلوب قبل أن يكون طبيب الأجسام، فمن اعتصم به كفي من مكر الشياطين والسحرة، وحيثما حلَّ هذا المؤمن المعتصم بالله وبرسوله حلَّت بهم الخسارة وعدم الفلاح.
ومن تكن برسول الله نصرته ...
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... إن تلقه الأسد في آجامها تجم
صلى الله عليه وسلم بنوره العظيم والتجائه وعياذه بالله الكبير صار شمساً عظمى من شموس الحقائق، لا تماثلها شموس الكون قاطبةً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا،وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} (45-46) سورة الأحزاب.
فمن رأى طرفاً من عالي حقيقته، يدرك سفاهة ما قيل عنه وباطله، فكيف لشيطان أن يقترب منه صلى الله عليه وسلم ؟!.
والجنُّ تهتفُ والأنوار ساطعةٌ ... والحق يظهرُ من معنىً ومن كلمِ
عَمُوا وصمُّوا فإعلان البشائر لم ... تُسمع وبارقةُ الإنذار لم تُشَمِ
من بعد ما أخبر الأقوامَ كاهنهم ... بأن دينَهُمُ المعوج لم يَقُمِ
حتى غدا عن طريق الوحي منهزمٌ ... من الشياطين يَقْفُو إثرَ منهزمِ
وكيف يدركُ في الدنيا حقيقتهُ ... قومٌ نيامٌ تَسلَّوا عنه بالحُلُمِ
بل وبحالة السحر يدخل الشيطان بنفس الإنسان، ويسيطر على مشاعره وأحاسيسه وأفكاره وحتى أفعاله، فكيف لشيطان ضعيف، قبسٌ من نور الله يحرقه، أن يلج في مهبط التجليات الإ?لهية؟!.
المؤمن يدرك حقيقة هذا الكلام، ولا يصدِّق تلك الرواية أبداً، لأنه يقيس الأمور على ذاته، فيجد أنه بمجرد صلاته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكره لله ينطرد عنه كل وسواس خناس، ويفشل ويندحر مِنْ حَوْلِه كل من حاك له وكاد من السحرة، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (201) سورة الأعراف.(1/152)
المحراب ... الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يحمي ويدافع عن المؤمنين، وهذا ما قصده تعالى بالمحراب، وهو:
الحرب ضدَّ الشياطين، وردهم عن الذين من حوله من أتباعه الذين يستمعون الحق. ففي بداية أمرهم يأتي الشيطان، يحاول أن يوقعهم بالحرام ويقنطهم، يحاول أن يرمي الشكوك في قلوبهم، حتى يبتعدوا عن الرسول، وهنالك يتصدى له صلى الله عليه وسلم، ويدفعه عنهم بروحانيته النورانية الجليلة الجميلة، وهذه أمور لا تُرى بعين الرأس، بل أمور قلبية ترى بعين البصيرة.
قال تعالى: {فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} (39) سورة آل عمران. وهكذا كان سيدنا زكريا في محرابه يحارب الشياطين، ويدفعهم عن أتباعه.
كما قال جلَّ وعلا: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} (11) سورة مريم. وقال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (21) سورة ص. وأيضاً سيدنا داود كان في المحراب، يحارب الشياطين المعتدين منهم ويحرقهم، أو يصدُّهم عن أتباعه المسلمين.(1/153)
فكلمة المحراب أي: الحرب ضدَّ الشياطين وردهم عن الأتباع، كما تطلق لفظة المحراب على المكان الذي يختلي فيه الرسول ليقبل به على الله بالصلاة، وكل محراب للمؤمنين أنشئ للصلاة لدحر شرور الشياطين، قال تعالى: {.. وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ..} (103) سورة التوبة، فبهذه الصلاة عليهم يغمرهم بنورانيته العظيمة، فيردُّ كيد كل شيطان مَريد عنهم، كما أن صلاته صلى الله عليه وسلم سكن لهم عن ميلهم إلى الشهوات الدنيئة، بما يغمرهم بصلاته عليهم بتجليات ربه القدسية، ما ينسيهم كل ميل إلا الميول الفاضلة العلوية لمبدع الكمال، وينبوع الجمال والجلال جلّ شأنه، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المنقذ، فأنى للشيطان أن يقترب منه؟!. حاشا وكلا.
* ... * ... *
فَمِنْ وراء تلك الرواية المدسوسة ( سحر النبي) والرواية الأخرى(تعلموا السحر ولا تعملوا به) سرت الأرواح الشريرة في أغلب بيوت المسلمين لتصديقهم بها، وكأنَّ لسان حالهم يقول: إذا كان النبي قد سُحِرَ فكيف لا نُسحر ونحن الأضعف؟!!.(1/154)
وغاب عنهم أن عملهم الرديء ونواياهم السيئة وسوء الظن بالله تعالى ورسوله الكريم جرَّ لهم الشيطان، ليزيدهم سوءاً وانحطاطاً وبُعداً عن طريق التوبة والفضيلة، والأوْلى بالمحدِّثين والمفسرين المسلمين في هذا العصر أن ينقِّحوا الكتب التي يُدرِّسونها ويتلونها على الناس، وأن يعرضوا ما يقرؤونه من الروايات على القرآن الكريم، فإن وافق فهو قول حق، وإن خالف كما في روايتي: سحر النبي صلى الله عليه وسلم وتعلَّموا السحر، أن يرموا بها عرض الحائط، وأن يحذِّروا المسلمين من تلك الروايات وأمثالها، ولعمر الحق تلك وظيفة العَالِم الحقيقي: أن يبين للناس كلام ربهم القرآن الكريم، وأن يعلمهم الحكمة من آياته والعبرة من قصصه، ويُدرِّسهم قوانينه وأنظمته، وأن التمسك به يُنجي، وتركه إلى غيره من كتب الدسوس يهلك. والآن قد يسَّر الله لنا رؤية الحق من الباطل والدسِّ من الصحيح بما تمَّ نشره من كتب العلاَّمة محمَّد أمين شيخو (قدِّس سره)، التي تبين لنا سُبل هداية الناس للصحيح، وتكفينا مشقة الرجوع إلى بطون الكتب لكشف الحقيقة.
-
ذلك حال الرسل والنبيين
إذن كيف ألقى الشيطان في أمنية الرسول صلى الله عليه وسلم؟!. ... لقد وصف لنا تعالى حال الرسل والنبيين عليهم الصلاة والسلام، أنه إذا أقبل الإنسان على الله اشتق الرحمة منه تعالى:
وهذا حال النبيين لإقبالهم الدائم على الله، فمن رحمة النبي بالخلق يتمنى هدايتهم، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى ..} (52) سورة الحج: هداية الخلق، لا يرسل الله الرسول إلا إذا تمنَّى الهداية، لما في نفسه من الحنان والرحمة والرأفة بالخلق بسبب إقباله،ولولا هذا الطلب العالي والأهلية لما كانت هذه الرسالة لسيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم، وقد وصف الله تعالى رسوله بقوله:
{..(1/155)
حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة. فمتى أقبل الإنسان بقلبه على ربه اشتق الرحمة من الله، فرحمتُه بالخلق هذه تجعله يتمنى هدايتهم. فكل رسول ونبي تمنى هداية الخلق لما اكتسب بقلبه من حنان ورحمة على الخلق. فأمنيته صلى الله عليه وسلم قلوب الناس لهدايتهم وسعادتهم، كالأم الرحيمة لا تبغي من أبنائها إلا السلامة والسعادة ، و حين يبدأ رسول الله بهداية الناس، يأتي الشيطان فيلقي الوساوس :{.. أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ..}: في قلب الشخص الذي تمنى الرسول هدايتهُ. فالأمنية التي تمنَّاها رسول الله من هداية الخلق يأتي الشيطان فيلقي بوساوسه في قلوبهم: {.. فَيَنسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ..}: فالله تعالى يُري الرسول نسخة إلقاءات الشيطان ليرُدَّ عليها للمريد الصادق الذي يريه تعالى الحق بإقباله عليه جلَّ وعلا، فيشاهد حقيقة ما يلقي الشيطان: {.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ..}:الرسول يبين بالمنطق فتزول الريَب، ويحلُّ محلَّها الحق والكمال والتأويل الحق في نفسه،و:{.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ..}:: النداء الحق في قلب الصادق الطالب للحق: {.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ ..}:بالخلق: {.. حَكِيمٌ}: يعطي كلاًّ ما يناسبه: لعلمه بصدق هذا الشخص ينسخ ما يلقي الشيطان.
{(1/156)
لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ..}:ليخرج ما في نفوسهم من خبث، ثم يؤمنوا بعد التوبة الصادقة إثر العلاج. {.. وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ..}: الذين لا تلين قلوبهم لذكر الله. {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (54) سورة الحج: فالإنسان إذا فكَّر ببدايته ونهايته، وحاز العلم بلا إله إلا الله، يرى كلام الرسول حقاً من الله، ويعرف أن مجيء الشيطان خير ورحمة، فهو يوقظ المؤمن، ويُخرج الخبث من نفس البعيد المعرض، إن لم يفكِّر الإنسان فحالته صعبة جداً. دوماً ملك يناديك: انظر لأصلك.. كنت نطفة تشكلت من الثمرة.
المؤمن يخبت قلبه، يهدأ ويطمئن، فيستسلم لله ويرى كل فعله تعالى خير ، ولا بدَّ أن يهديه لطريق الحق، إذن:
إن نيَّة الشيطان خبيثةٌ، لكن الله تعالى يُحوِّل ذلك بالخير، فيجعل ما يلقي الشيطان علاجاً للعلل النفسية الخبيثة: إذ يكونُ هذا الإلقاء سبباً لخروجِ ما في نفس هذا المعرِضِ المريض القلبِ، والبعيد عن الله القاسي القلبِ من خبثٍ فيقترفُ ما يقترفُ من آثامٍ ثمَّ المداواة، أي بعد خروجِ الخبثِ من نفوسِهِمْ يكونُ العلاجُ المرُّ والدواءُ. فعملُ الشيطان كالمسهِّل يُخرجُ الخبثَ منَ النفسِ المريضةِ.
إذنْ: فالنسخُ هوَ التصويرُ والتثبيتُ، وهنا ليثْبُت المؤمن وينهض للحقِّ بالحقِّ، ولِتفرغَ ساحة نفسِ المعرضِ الخبيثِ من خُبثِها، وبعدهُ يمكنُ العلاج.
* ... * ... *
((نزغ الشيطان))
أمَّا قوله تعالى:
{(1/157)
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200) سورة الأعراف:يراد بها المؤمن، إذ هي خطاب للمؤمن لا لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء المؤمنون كانوا يتمنون هداية قومهم عبدة الأصنام، ويجالسونهم لينصحوهم ويعلموهم الإيمان، وحيث لا جدوى لهم طالما هم مشركون لا يعرفون أنَّ الكل بيده تعالى، لذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم صحبه المؤمنين الناصحين ما بيَّنه تعالى بالآيات الكريمة: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} (199) سورة الأعراف: لا تتأثر منهم، فمن لا يؤمن هذا الإيمان دعه من فكرك، أعرض عنه بنفسك، لا تلوِّث نفسك به، انصحهم ولا تعلِّق قلبك بهم: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ..}:أيها المؤمن الطالب هداية الناس من هؤلاء الجاهلين بواسطة الشيطان:{.. فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ ..}: التجئ إلى الله:{.. إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}: سميع لقولك،عليم بحالك أيها المؤمن، قد يتكلمون معك، فارجع إلى الله من قولهم، وإن تجاسر أحد عليك فالله يرده عنك، التجئ إليه، هذا شأن المتقين في كل صقع وزمان، ويكون النزغ أيضاً: إمَّا بميل القلب المؤمن الصافي إلى أهل الوساوس والبعد، وهنالك تنطبع في مرآة النفس المؤمنة أحوال من تعلقت به، ومالت إليه، وما يسعه في مثل هذا الحال إلا أن يقطع صلته عن ذلك البعيد عن الله، ويشكر الله أن حفظه ونجَّاه، ويعوذ به من أحوال أهل البعد والجفاء، وإما أن تكون الوساوس ناشئة عن ميلٍ لشيء من الشهوات الدنيوية الدنية، فإنَّ القلب إذا استحسن شيئاً ومال إليه حلَّ فيه هذا الشيء، وصرفه عن الله: {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ..(1/158)
} (4) سورة الأحزاب،دنيا وآخرة، أي: رذيلة وجنّة لا تجتمعان بقلب،عندها يهرع إليه الشيطان، ويزين له هذه الشهوة طامعاً أن يوقع الإنسان فيها، ويبعده عن صلته بالله وإقباله عليه، غير أن المؤمن حينما يدنو منه الشيطان موسوساً يشعر بوساوسه ونزغه،ويشعر بالضيق القلبي والانقباض، وسرعان ما يتذكر وصية الله تعالى له، إذ يقول سبحانه في كتابه الكريم: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200) سورة الأعراف، وهنالك يلتجئ إلى الله تعالى مقبلاً عليه، فيتراجع الشيطان مندحراً خانساً، وتطهر النفس بإقبالها على ربها مما علق بها، وتسمو لدرجة أعلى مما كانت عليه سابقاً، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (201) سورة الأعراف، فالتقوى غايتها أن تتذكر فتبصر ما في هذه الوسوسة من الشر، فتتباعد ولا تتبعها.
فكذلك جاء التوجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين في سورة فصلت: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ،وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ،وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (34-36) سورة فصلت.
{ وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ..}: يا مؤمن، {.. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}:هنا قول الرسول الكريم للمؤمنين بدروسه العليَّة.(1/159)
إذن: فمن يدل على الله تعالى بأنه هو السميع العليم؟. إنه الرسول صلى الله عليه وسلم، يرشد المؤمنين أثناء دعوتهم الناس إلى الحق وإرشادهم إلى الصراط المستقيم للاستعاذة بالله من الشيطان ونزغه، فكيف تكون هذه الاستعاذة؟. وما هي؟.
-
الاستعاذة بالله بمعيَّة رسوله صلى الله عليه وسلم
محرقة الشيطان، وبها هزيمته، وبها جنّة الإنسان المؤمن المستأنس بربه
ماذا تفعل الاستعاذة بالله ؟. ... أمرنا الله تعالى أن نستعيذ به من الشيطان الرجيم عندما نريد أن نقرأ القرآن، لقوله تعالى:
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} (98) سورة النحل.
فما معنى الاستعاذة؟. وما معنى قولنا بالله؟!..
ومن هو الشيطان؟. وما معنى الرجيم؟!..
الاستعاذة : مصدر لفعل عاذ يعوذ، وأعوذ بمعنى: ألتجئ وأحتمي معتزاً مستجيراً بصاحب العزة والقوة، فيفرُّ الشيطان فزعاً مقهوراً مذلولاً خشية الاحتراق بالنور الإ?لهي المتوارد على قلب المؤمن الملتجئ لله المستعيذ به، ولا يكون الالتجاء والاحتماء إلا بقويٍّ عزيز الجانب، على وجه المثال نقول:
لو أن طفلاً كان يسير في الطريق، فلحق به عدو من إنسان أو حيوان يريد إيقاع السوء والأذى به، وفيما هو على أشد ما يكون من الخوف والذعر ألفى أباه قادماً نحوه:(1/160)
أفَتراه والحالة هذه يلتجئ ويحتمي وإن شئت فقل: أيعوذ بغير أبيه؟.. إنه يعوذ به لأنه يعلم حبَّه وإخلاصه وقوته، فهو يدفع عدوه عنه ويقضي عليه، وكذلك الإنسان المؤمن ما عليه إلا أن يعوذ بربه، ويقبل عليه بنفسه بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم المستنير استنارةً لا انفصام لها، هنالك يُحفظ ويوقى ويندفع عنه الشر والأذى، ويشتق به صلى الله عليه وسلم نوراً من الله (ونور ونار لا يجتمعان)، فيفر الشيطان عنه هارباً، وإلى النجاة بنفسه طالباً، قبل أن يحترق بنور أقوى من الشهاب الثاقب، نور الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويصاب برعب ويخنس فيه، ويبعد بعد المشرقين.
أما إذا كان الشيطان انتحارياً اقتحامياً مستميتاً على الشرِّ والأذى لمن اشتهى أذيَّته، فنور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم المستنير به هذا المؤمن لا يلبث أن يحرقه حرْقاً، فيفارق الحياة إلى غير رجعة. قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} (2) سورة الكوثر: يا محمد صلى الله عليه وسلم.
وإلى جانب ذلك كُلِّه يسمو ذلك المؤمن ويرقى بالاستعاذة.
ويكون له في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، وفي صحبه الكرام، حينما ارتعدت فرائص الشيطان وفرَّ هارباً منهم في موقعة حنين، ونكص على عقبيه وقال:
{.. إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (48) سورة الأنفال .
والشيطان : هو ذلك البعيد عن الحق، المحترق الهالك حينما يقوم بمحاولة التعدي على المؤمنين: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (99) سورة النحل. وببعده عن طريق الحق أصابه الاحتراق والهلاك.
والرجيم: هو المرمي دوماً بالعذاب، لأنه مطرود من القرب من الله.(1/161)
والرجيم أيضاً: هو الذي ينصب عليه البلاء والشقاء بصورة متمادية، وما أصابه البلاء والشقاء إلا ببعده عن الله لإجرامه وتعدِّيه وإعراضه. والبعد والإعراض عن الله سبب كل بلاء، ومصدر كل شقاء.
ومجمل قولنا:( أعوذ بالله من الشيطان الرجيم )، أي: أحتمي وأعتز بالمطاع الذي خضع لأمره كل شيء. أعوذ بالله من الشيطان الذي ببعده عن الحق صار معذباً دوماً ومحروماً من كل خير.
فإذا التجأت بنفسك إلى الله عند قراءة القرآن بعد أن آمنت بالله إيماناً منبعثاً من نفسك، وأحببت بما فيك من كمال رسول الله، ودخلت بمعيته صلى الله عليه وسلم في حضرة المطاع الذي ذلَّت وخضعت لأمره سائر المخلوقات، فهنالك تصبح في حصنٍ حصين، وحرزٍ منيع لا يدخله شيطان، وإن حاول احترق ومات، وتنقطع عنك وأنت في هذا الحصن وساوس الشيطان، ويزول الوقر من الأذنين، وينكشف الغطاء عن العينين، عندها تسمع الكلام من المتكلم جلَّ جلالُه،وأنت بمعيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم القلبية، وترى وتشهد ما في أوامره تعالى من المنافع والخيرات.
عندها يصبُّ عليك تعالى الصحة والمال، والعزة والجاه: {.. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ..} (8) سورة المنافقون، عندها لن يجعل تعالى للشيطان عليك سلطاناً: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (99) سورة النحل.
وهكذا وحتى لا يقع الإنسان تحت تأثير ساحر بشتى مجالات ممارسة السحر: من تخييل(كما يسمونه السحر الأبيض)، أو تفريق وإيقاع خلافات، أو ربط، أو عين وحسد، أو... أو إن أحسَّ أنه صار فريسة تحت براثن ساحر، فما عليه إلاَّ أن يذكر الله حقَّ الذكر، ويحاسب نفسه محاسبةً شديدة، فيرى ما عليه من تفريط ومخالفات لشرع الله، يرى هل أكل حق أناس بالباطل، أو اعتدى على آخرين بغير الحق،(1/162)
أو ظلم آخرين، أو امتدت يده لحرام، أو عينه،أو .. وغيرها من مخالفات لشرع الله وتفريط بحدوده، عندها يصلح هذا التفريط، ويغيِّر ما بنفسه من نوايا الاستمرار على التفريط {.. إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..} (11) سورة الرعد، ويتوب لربه، ويعود مستعيذاً بجنابه العالي، ويذكر الله، عندها يبدِّل الله ما يعانيه، ويفر الشيطان هارباً عنه، ويفشل مكر السحر ومكيدته. لأنه باستعاذته بالله تتوجه نفسه إليه تعالى، ويسري النور الإ?لهي فيها، فيحميها من الشرور والنوايا السوداء التي تحاك ضده، وهذا يتضح لنا أكثر إذا ما رجعنا إلى السورة الكريمة وهي: سورة الفلق.
نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعياذه برب الفلق إنما حُفظ ووُقي من شر النفاثات في العقد، فلا سبيل لساحر عليه، ولا يجرؤ شيطان أن يدنو منه فيخيل إليه، وكيف يستطيع ساحر أن يتعرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأذى وهو صلى الله عليه وسلم عاكف دوماً بنفسه الشريفة في حضرةِ الله؟!. لذا فهو معصوم عن الصغائر والكبائر، ولا سلطان لشيطان أو أي كائن عليه.
أم كيف يجرؤ شيطان أن يدنو منه صلى الله عليه وسلم ؟!. ولو دَنَا لاحترق لفوره.
هذا ما تريد أن تعرفنا به هذه الاستعاذة وترشدنا إليه، لنعلم أن المؤمن الذي يعوذ بالله مقتدياً برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يستطيع ساحر أن يتعرض له بسوء، ولا يجرؤ شيطان أن يقربه.
أما البعيد عن الله، المرتكب للمعاصي والتعدِّيات، فهو عرضة لكل شر وأذى إذ لا سلاح بيده،ولا ملجأ له يعوذ به.
(صفات الزاهد الحقيقي)(1/163)
نسمع كثيراً و كثيراً عن الأمراض النفسية وشيوعها الكبير، حيث أنها ازدادت بشكل كبير ،فلا نلبث أن نسير بأحد الشوارع إلا ونجد فيها أحداً من هؤلاء المرضى، يلبسون ألبسة ممزقة متسخة مقرفة ، أرخوا اللحى فوصلت إلى بطونهم ، فاحت منهم روائح قاتلة كادت تُسقط من يستنشقها مغمياً عليه، وإن أحدهم ليكلم نفسه تارة،
أو يصارع الهواء، يجلس في بؤرة القمامة، وفي المناطق المنزوية المليئة بالأقذار، يمثِّل أنه من أهل الله مع أنه: {.. وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ..} (8) سورة المنافقون، وأنه من الزاهدين في الدنيا، وما هو من الله في شيء، ولا من دينه العالي الرفيع ، بل إنه اتبع الشيطان عدوه، واتخذه خليلاً فأرداه، وظهر له ورآه، ولذا ما كان كلامه في الشوارع بأصوات مرتفعة إلا كلاماً مع من تبعهم من شياطين الجن الذين ظهروا له، وعاشت نفسه في عوالمهم القذرة الدنيئة، فأصبح شيطاناً إنسياً مطيةً لشياطين الجن، يحقق لهم أغراضهم وأهدافهم الخبيثة من أذى وسحر وما سواه من الشرور ، لقد اختار هذا الإنسان مصيره في الذل والحقارة بدنياه قبل آخرته باتباع عدوّه الشيطان، قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (6) سورة الجن . وقد ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها حين قالت نساء مسلمات:إن هناك رجلاً زاهداً متصوفاً يرتدي الصوف على جسمه، ويمشي حافياً، ويركض في الطرقات، فقالت: إن هذا ليس بزاهد (متصوف)، ولكنه كذَّاب يشوِّه الدين الإسلامي، فهو بذلك يجعل الدين مذموماً في عيون الناس، وقالت: كان عمر أزهد الناس، وكان إذا مشى أسرع (أي مشية عزَّة وقوة كالأسد)، وإذا ضرب أوجع( في إحقاق الحقِّ وإزهاق الباطل)، وإذا أطعم أشبع ( وهذا يدل على علو نفسه وكرمه).(1/164)
فلقد نفت عن هذا الشخص أي زهد أو تقى، وبذلك أكَّدت أن الدين براء من تصرفاته التافهة هذه، وأنه كذَّاب عدوٌ لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم .
وهناك صنف آخر من الإنس يكره هؤلاء الشياطين(شياطين الإنس والجن) ويخشاهم، ويحسب لهم كل حساب، فيهجس بهم، فتملأ الوساوس صدره منهم، ويتمنى الخلاص ولكن لا سبيل له لذلك، ولا يعلم بأنهم تسلَّطوا عليه بما كسبت يداه، وباتوا يجعلون حياته مريرة، فيلجأ للأطباء النفسيين،ولكن يا للحسرة، فالمصيبة تزداد خطورة وهولاً ولا فائدة، فهؤلاء الأطباء يعزون حالته لأمور جسمية مادية لا تمت للسبب الحقيقي بصلة، فيعطونه أدوية مهدئة ومنومة، يدمن عليها ولا ينام بدونها، فتزداد المشكلة سوءاً، وفي نهاية المطاف يستسلم هذا المهووس للمصير القذر الذي يهوي به للذل والحقارة دنيا وآخرة، فيصبح من أعوان الشيطان، يمتطيه لأغراضه الدنيئة من شرور ورذائل وآثام بالسحر، ربما يخفي حقيقته هذه متظاهراً بالجنون، يستعطف الناس إليه هاوياً بقلوبهم إلى التدني والانحطاط، وهذا تماماً عمل الشيطان ، فهذا المسكين لا دواء له إلا أن يعود لربه تائباً عن أعماله الخاطئة، فهو الدواء الوحيد الشافي الناجع، وليس في غيره دواء، إذ يلتجئ لله عائذاً به طالباً الخلاص من هذا الحال المخيف المرعب، معاهداً على عدم العودة لما كان فيه سادراً من رذيلة أو انحطاط، أو أعمال تماثلت مع أعمال الشيطان، فباستعاذته بربه يعرف ذنبه، فيتوب توبة نصوحة لربه، ويستقيم تماماً على أمره تعالى، عندها يحفظه من كل شر وأذى بما يغدق عليه تعالى من نعيم قلبي وسعادة تغنيه عن لذائذ الرذالات التي تاب عنها.(1/165)
والنفس البشرية بفطرتها لا تستسلم ملتجئةً عائذةً إلا لعظيمٍ، ولا تطمئنُّ إلا لقويٍّ عزيز الجانب، وكيف تستسلم النفس لله تعالى ولم ترَ طرفاً من عظمته وقوته وعزَّته؟. فهذه الرؤية لا تتم إلا بالإيمان الحقيقي المنبعث عن التفكير الذاتي في الآيات الكونية: من شمس وقمر ونجوم .. ليلٍ ونهار .. نباتات وفصول مختلفة .. فعندها ترى النفس أن كل ما في الكون قائمٌ بتربيةٍ من الله وإمدادٍ منه تعالى وتسيير ، فما من كبيرة ولا صغيرة إلا وبيده تعالى آخذٌ بناصيتها،وتخشى الموت ولقاء الله تعالى على هذا الحال،عندها تعوذ النفس به سبحانه وتلتجئ إليه،وتصلِّي حقّاً صلاة قلبية مع الصلاة الصورية، فينجو الإنسان ويوقى من كل الشرور والآلام والآثام، فلا تستطيع يدٌ الوصول إليه بشرٍّ، طالما هو في حصن العظيم تعالى ملتجئاً إليه، مستقيماً على أمره تعالى لا يعصيه، وبذا يشفى مما كان يعانيه، ويعود للخير الذي خلق من أجله، للجنان، للأعمال الخيِّرة الصالحة والإحسان،والآن في متناولنا قصة تبين لنا نتاج ذكر الله لمؤمن حقيقي واستعاذته به تعالى:
...
* * *
( البيت المسكون )
أراد السيد محمد أمين شراء منزل، وعن طريق أحد معارفه عثر على منزل جيد مناسب ، تنطبق مواصفاته مع المواصفات المطلوبة ، ولكنّه فوجئ عندما عرف الثمن المطلوب، إذ لم يكن يتوقع أن مثل هذا المنزل الجيد ذو المواصفات الرائعة بهذا السعر المتدني الذي سمعه،غريب!. إنها دار عربية دمشقية بأرض ديار واسعة، تتوسطها بحرة يتدفق فيها الماء، يتخلل الهواء كافة أجزاء البيت، و الشمس تطل عليه معظم النهار، وذو غرف واسعة.. ومع كل هذا بسعرٍ متدنّ!! فهو أقل من نصف الثمن الحقيقي له ، غريب أمر هذا البيت! فلابد أن فيه عيوباً غير ظاهرة للعيان، لذلك سأل السيد الفاضل:ما عيب هذا البيت حتى تريد بيعه بهذا السعر المنخفض؟! ها..؟. أخبرني!!.. لن أشتريه مالم تعلمني بعيبه .(1/166)
قال صاحب البيت : إننا إذا أعلمناك نفرت ورفضت شراءه .
تابع السيد الفاضل حديثه : إن شاء الله أشتريه ، فما عيبه .. أخبرني ؟.
أجاب صاحبه: إن هذا البيت مسكون ( أي: يستوطنه عصبة من النفوس الشريرة من الجن الشياطين، يُظهرون إزعاجات لسكانه الإنس فيجعلون حياتهم مريرة، و يكونون تحت قيادة زعماء من الأبالسة، فلا يلبث سكانه أن يهجروا البيت فراراً ) .
و لكن إنساننا النقي الطاهر بإيمانه العالي بالله يعلم أن الأمور كلها بيد الله،تجري ضمن استحقاق،ولذا كان لا يخشى أحداً ولا يأبه إلا لله، وذلك لسيره العالي المستقيم، ولعدم تقصيره قيد أنملة في جانب الله، بل دائماً رضاء الله طلبه،وله سعيه وقصده، فوافق على شراء البيت رغم العلة الخطيرة التي فيه قائلاً:إن كان الأمر هكذا فلا يهم، وهاكم الثمن.
وما هي إلا أيام قليلة حتى نقل الأمتعة و الأثاث كاملاً، وسكن البيت الجديد مع زوجته.
كان يوم نقل الأمتعة يوماً شاقاً متعباً حافلاً بالتنظيف والترتيب، فما أن حلَّ المساء حتى تهادت أم فتحي( زوجته) بخطوات متعبة إلى غرفة النوم في المنزل الجديد،ومباشرة استسلمت للنوم العميق،أما السيد محمد أمين ( أبو فتحي ) فما أن قاربت الساعة العاشرة مساءً حتى وكعادته استسلم للرقاد، لقد نام في غرفته الصغيرة الخاصة به، فلقد وضع لنفسه قانوناً صارماً ( كان ينام العاشرة مساءً ليستيقظ الثانية بعد منتصف الليل، ليقوم قيام الليل تهجداً وتقرباً لله تعالى ).
توالت الساعات وها هو عقرب الساعة يشير للثانية ليلاً، بتلك الأثناء وبنفس النظام والموعد استيقظ ذلك السيد الفاضل، ولكن يا للغرابة!...
ففي مثل هذا الوقت المتأخر من الليل وعلى غير العادة لم يكن السكون والصمت سائداً مخيماً!!. فلقد سمع صوت ضجيج موقد النار ( ببور الكاز ) الذي كان هناك من يوقده ويجهزه ... فهل يعقل هذا ؟!(1/167)
حدَّث نفسه مندهشاً:يا إ?لهي وهل يعقل هذا؟! ما شاء الله.. ما شاء الله!. أم فتحي استيقظت قبلي لقيام الليل، وبعد صلاتها بدأت تغسل الغسيل، أي نشاط تتمتع به بعد كل هذا التعب من نقل وترتيب للأمتعة والأثاث وتنظيف للمنزل الجديد!!. وهاهي تستيقظ قبل أذان الفجر بساعات وكلها همَّة ونشاط لتغسل الملابس!. هنيئاً لها،فهي سبقتني لعمل الخير والواجب.
نهض من فراشه ثم فتح باب الغرفة الصغيرة العلوية، ونزل إلى أرض الديار ليتوضأ فيصلي ركعتي قيام الليل كما اعتاد ، وبالفعل فإنَّ ما توقعه كان صحيحاً، فلقد شاهد في المطبخ من نافذة تطلُّ عليه كومة من الغسيل المركوم،(وببور الكاز)على باب المطبخ بأشد اشتعاله وفوقه وعاء كبير من الماء، إذن أم فتحي حتماً في المطبخ .
توضأ وانطلق إلى أرض الديار، وعند وصوله شاهد ثلاثة أولاد صغار يقبضون بأيدي بعضهم البعض و يقفزون ، استغرب أمرهم أشدَّ الاستغراب، أمر غريب!. أوَ بمثل هذه الساعة المتأخرة من الليل يقفزون و يلعبون ضاحكين مرحين؟!. لقد ظنهم أولاد الجيران، ولكن بمثل هذا الوقت المتأخر من الليل، ثم كيف دخلوا الدار ؟!!.. والباب الخارجي مغلق بالرتاج، ويستحيل الدخول!. حقاً الأمر جدّ غريب وعجيب!!.
سألهم: من أنتم ؟. وقف الثلاثة متماسكي الأيدي وهم يقفزون على الأرض بمرحٍ ونشاط، وقال أكبرهم: أنا كبيْرون .
ثم قال الأوسط : وأنا أصغر .
ثم قال الثالث : أنا صغيرون .
وما أن أنهى الثالث كلمته ( وأنا صغيرون ) حتى نطق إنساننا متعجباً مستغرباً بكلمة:( الله )!. صادرة عن قلب شهودي لربه، وإذ بالثلاثة قد تحولوا إلى أعمدة من الدخان، وبنفس اللحظة هذه اختفى كل شيء قد كان، فلا موقد الكاز و لا الغسيل ولا أم فتحي ولا ضجَّة ولا ضجيج، بل سكون مطبق وكأنه لم يكن هناك شيء .(1/168)
شعر السيد الفاضل بالخوف على زوجه (أم فتحي)، فصعد لغرفة النوم حافياً مسرعاً، وإذ بأم فتحي غارقة بالنوم منذ أن وضعت رأسها مساءً على وسادتها إلى الآن، ولا علم لها بكل ما حدث، ولربما أنها لم تتقلب أو تتحرك بعد عن طرفها الذي اضطجعت عليه من شدة التعب والنصب الذي حلَّ بها بالأمس، ولما استيقظت قبيل شروق الشمس بقليل سألها ببساطة لكيلا يزعجها فتخاف: هل استيقظت الليلة يا أم فتحي ؟
أجابت:والله منذ أن وضعت رأسي على الوسادة لم أشعر إلا عند شروق الشمس للصلاة .
(مضت سنوات ست لم يبح أبو فتحي لزوجته بما وقع لئلا تتوسوس) .
بعد تلك الليلة لم يحدث بالبيت أي شيء،ولم يعد البيت المسكون مسكوناً إلا بالسعادة السارية بالنعيم عليه من روحانية هذا المؤمن الكريم.
و هكذا فبعياذ الإنسان العياذ الصحيح، والالتجاء لله حق الالتجاء، بخضوعه
واستسلامه لأوامره تعالى وبالاستقامة الحقيقية، تندفع عنه كل الشرور و الآثام، فيتحصَّن بسور إيمانه الحقيقي، وبذا يحفظه الله تعالى بما حفظ حدود الله و حِمَاه، فمن استقام صلَّى، وولجت الأحوال والأذواق والبوارق و المشاهدات القدسية نفسه إلى الله عروجاً، فتشفى مما بها من علل وأمراض، فتغدو نقية طاهرة لا سلطان لأحدٍ عليها، وهذا شأن كل من آمن بالله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ،إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } (99-100) سورة النحل.
و في ذلك عبرة لو كُتبت على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر .
* * *
ليس للشيطان سلطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم
إنما سلطانه على الكفرة الذين قِبَلَهُ بالمجلس
لعل امرءاً يقول:
كيف لي ألا ينسيني الشيطان ذكر الله، وها هو تعالى يوصي رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم بألا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين إن أنساه الشيطان؟!.(1/169)
يقول تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (68) سورة الأنعام.
كان صلى الله عليه وسلم إذا رآهم يخطئون في الحديث عن الآيات، من حنانه والتفاته نحوهم يضيع عن الحجة، ينطبع حالهم به. من شوقه وحبه لهدايتهم ينطبع حالهم فيه، ولذلك أمره تعالى ألا يقعد معهم، كان يذكِّرهم ويترك المجلس:{.. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ..}: ارفعهم من نفسك لا تتعلق بهم، التفت لشيء ثان.
{.. وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ ..}:إن لم تفعل هذا ينسيك، إن أصغيت إليهم ينطبع حالهم في مرآة نفسك الصافية،وبذلك ينسّونك الذكر فلا تستطيع نصحهم أو أن تبين لهم، فكلمة الشيطان الواردة بهذه الآية هو شيطان إنسي، وهؤلاء الظالمون هم شياطين الإنس لا الجن، لذلك على الإنسان منَّا أن لا يميل بقلبه ولا يصغي بأذنه لجماعة معرضين، إذ أن حالهم ينطبع في النفس الصافية.
قل كلمة الحق وسر :{.. فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، بعد أن ذكرتهم.
{..(1/170)
مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}: لأنفسهم. من حنانه والتفاته نحوهم يضيع عن الحجة، ينطبع حالهم به، إذ كان يتألم ويتأثر عليهم فيضيق صدره، ولا يكاد يستطيع أن يتكلم بهدايتهم، وهذا أمر طبيعي فرسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وهو يتأثر ويحزن، بل إن هذا حال كافة الأنبياء صلوات الله عليهم، فهذا سيدنا موسى عليه السلام كان يعيش في قصر فرعون، ولكن كان في عالمه النفسي السامي لا يعبأ بهم، وهم في عالمهم، ولم يكلَّف بهم بعد من قِبَل الله تعالى، تماماً كما كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قبل البعثة دائماً هاجراً مجالس قريش اللاَّهية الساهية الغارقة في سفاح الجاهلية، منفرداً عن القوم رغم غناه المادي مع زوجه الغنية أمّنا خديجة رضي الله عنها، فكان يعيش وحيداً بعالمه النفسي السامي، لا يعبأ بالجاهلية وأهلها، متأملاً متفكراً بآلاء الله بالقمم الجبلية لمكة المكرمة كغار حراء، ولكنه عندما كُلِّف بهدايتهم توجه بنفسه الشريفة إليهم طلباً لهدايتهم، ونفسه طاهرة نقية لم تتلوث من أدناس الدنيا، أما هم فقلوبهم مترعة بأوخام الدنيا وأقذارها، وروائحهم القلبية المنتنة يتأذى منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يريد إخراجهم من الظلمات إلى النور وهم معرضون، فإذا ما توجه إليهم وهم يخطئون ضاق صدره فلا يتمكن من أن يبلغهم رسالات ربه، كذلك كان الحال النفسي الطبيعي لسيدنا موسى من الضيق لدى مواجهة فرعون وآل فرعون، لذا طلب سيدنا موسى عليه السلام من قبْل من ربه أخاه هارون، ليؤازره في مواجهة القوم الذين يغمرهم بنفسه الشريفة بالتجلي الإ?لهي المتوارد عليه بغية هدايتهم، وهم بنفوسهم يرفضون الحق، فيتضايق صدره الشريف من شياطين الإنس الذين شطنوا عن الحق، فامتلأت نفوسهم بالشر كالذين ورد ذكرهم بالآية، فيركِّز سيدنا موسى عليه السلام وجهته القلبية لأخيه هارون، إذ يرتاح بصحبته القلبية النقية التقية، ويتمكن من مواجهة فرعون وآله بقوة(1/171)
وفاعلية، قال تعالى عن طلب سيدنا موسى عليه السلام: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي،وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي،وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي،يَفْقَهُوا قَوْلِي} (25-28) سورة طه.
وقوله تعالى عن لسان سيدنا موسى عليه السلام : {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ،وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ} (12-13) سورة الشعراء: لأنه طاهر النفس، والقوم روائحهم القلبية نتنة بسبب أعمالهم الوسخة، ولشطنهم عن الله ينبوع الخير، فعند توجهه إليهم يضيق صدره: {وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي،هَارُونَ أَخِي،اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي،وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي،كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا،وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} (29-34) سورة طه. طلب هذه النفس النقية لتركن النفسان الطاهرتان إلى بعضهما، ويتمكنا من إقامة الحجج ونصرة الحق.
وهذه الأمور يؤيدها علم النفس ولا ينكرها عالم، فكيف لا يتضايق سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ..} (12) سورة هود: كان يتمنَّى ألا يبلِّغهم بعض الآيات لأنهم جهلة حفاة.
{.. وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ ..} (12) سورة هود:تتضايق: يضيق صدرك الشريف من معارضتهم لاستهجانهم وعدم تقديرهم لك، إذ لا طلب لهم إلاَّ دنياهم الدنيّة، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} (97) سورة الحجر:عندما يتكلمون بهذا الكلام كان صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيق، ويتمنى لهم الخير وهم يكذبونه، فكان صلى الله عليه وسلم يتأثر عليهم من شدة رحمته وحنانه بهم، وقال تعالى:
{طه،مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (2) سورة طه: كي تكون محروماً من الراحة في الحياة، وذلك بأن تبقى معذباً على الخلق لعدم اهتدائهم.(1/172)
وفي هذا المعنى من تحمُّل الضيق النفسي والحزن القلبي على الخلق قال صلى الله عليه وسلم:
« أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل»(1).
ففي هذه الآيات صفات مدح من رب العالمين له صلى الله عليه وسلم، لأنه يحاول إنقاذ عباده وإسعادهم وإخراجهم من الظلمات إلى النور، وفي هذا رضى الله عزَّ وجل.
ولعلَّ سائلاً يقول: كيف استطاع إبليس الوسوسة لسيدنا آدم عليه السلام وذلك ما لا يُنْكَرْ نصه في القرآن الكريم؟!.
قبل البدء بكشف القضية على حقيقتها يجب إيضاح معطياتها ومنها:
* ... * ... *
حال سيدنا آدم عليه السلام في الجنَّة
نفس الإنسان في الجنَّة هي المحيطة بالجسم، وإن شئت فقل في الجنة تلبس النفس الجسم وتُحيط به من كل جهاته، فهي ثوبه، ونورها محيط به، كما يُحيط لهب الشمعة بالفتيل، فإذا كان الفتيل هو الجسم، فاللهب والشعلة هي النفس.
ومن هنا يتبيّن لنا أنَّ حال الإنسان في الجنَّة مختلف كل الاختلاف عن الحالة في هذه الحياة الدنيا التي نحياها الآن، وإذا كانت نفس الإنسان في هذه الحياة الدنيوية تتذوق الأشياء بواسطة الفم وعن طريق اللسان، وتشاهد من وراء حجاب، ولا ترى إلاَّ خيال الأشياء وصورها بواسطة العين، وتسمع الأصوات بواسطة الأذن، فلا تدرك إلاَّ صدى الصوت، ففي الجنَّة حالها عكس ذلك كله.
فهي لا تتذوق بواسطة اللسان ذلك العضو الصغير، ولا تشاهد بواسطة العين، كما لا تسمع بواسطة الأذن.
وبما أنَّها تلبس الجسم يومئذٍ وتُحيط به، فهي تتذوق بكليَّتها وكلها أذواق، وتشاهد بكليّتها وكلها عيون، وكلها سمع، وكلها شعور، تذوق وتسمع وتنطق وترى بكليّتها بصورة مباشرة دون وساطة عضو من الأعضاء، ويكون ذوقها والحالة هذه عظيماً، وشهودها واسعاً، ونعيمها تاماً.
__________
(1) الطبراني في الكبير.(1/173)
وإذا كان الإنسان في حاله الدنيوي يشبع ولا يعود يجد لذة الطعام بعد تناوله كمية محدودة منه، فالإنسان في الجنَّة لا يشبع، ولا يملّ من شيء، كما لا يجوع ولا يعطش، وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى،وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} (118-119) سورة طه.
ذلك لأن أشعة النفس بذاتها تسري في الجنَّة إلى الأشياء وتُخالطها، كما تسري أشعة الشمس إلى أعماق الماء فتروي رياً متواصلاً، وتسبب سحباً ممطرة فصلية، كما تمتد إلى الفاكهة والأطعمة، والنفس كلها يومئذٍ ألسنة، فتذوق ذوقاً متتالياً، وتنعم نعيماً متزايداً، دون أن تشعر بثقل أو ملل أو شبع، فنعيمها دوماً في ازدياد لا يُنغصها منغص.
وإلى ذلك تُشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا ..} (35) سورة الرعد..
كانت تلك هي حال سيدنا آدم عليه السلام في الجنَّة، وكذلك كان أكله مع زوجه،كانت نفساهما محيطة بجسميهما، يأكلان من الجنَّة رغداً، ورغَداً: أي تذوُّقاً نفسيّاً مترعاً بالنعيم.
وهما إلى جانب ذلك في شهود دائمي لجمال الخالق وكماله، يغمرهما نعيم متواصل بهذا القُرب من الله، وذلك أقصى المنى، والخلاصة:
إذن: ... كان سيدنا آدم عليه السلام وزوجه يتذوقان في الجنَّة ذوقاً، دون أن يبذلا جهداً في زراعة أو حصاد(1/174)
أو أي عمل من الأعمال التي يتطلبها تحضير الأطعمة، فقوله تعالى يصف ذلك الحال: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى،وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} (118-119) سورة طه. فقد كان الحكم للنفس، وكانت لها الإحاطة والسيطرة على الجسم، وما كان الجسم إلا مركزاً لهذه النفس، أما بعد تناول الثمرة(1)ودخول مادتها إلى الجوف، فسيتغير بها الحال، إذ ستكون الإحاطة والسيطرة للجسم، وستصبح النفس ضمن هذا الجسم كما نحن عليه الآن في حالنا الدنيوي، ولا ريب أن هذا الحال مختلف كل الاختلاف عن الحال الأول، وستكون الحياة متوقفة على تغذية الجسم وتقويته وتزويده بالمادة اللازمة، وسيضعف هذا الجسم وسيجوع ويعطش، وبالتالي ستتألم النفس ساعة احتياج الجسم لهذه المادة المغذية.
ولا شك أن هذا يتطلب من الإنسان جهداً دائباً، وعملاً متواصلاً.
وفضلاً عن أن تذوّق النفس وتنعمها بالأشياء سيكون من وراء حجاب وبالواسطة، فلا تستطيع أن تتذوق الأشياء إلا عن طريق اللسان، وكذلك حالها في الرؤية والسمع والشم بواسطة العين والأذن والأنف، وإلى جانب ذلك كله لا تعود النفس تتنعم بالأشياء بمقدار واسع لا حدَّ له، فإن الجسم يكتفي بكمية معينة من الطعام والشراب، فإذا تناول أكثر من حاجته تضايق، وبالتالي تألمت النفس من هذه الزيادة، وعلى هذا فالذوق في هذا الحال محدود، والإنسان تأميناً لحاجات الجسم مرغم على العمل،لا يستطيع أن يقعد عنه، وفي ذلك ما فيه من التعب وبذل المجهود، وذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى:
{.. فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} (35) سورة البقرة،وما تشير إليه الآية الكريمة في قوله تعالى:
{.. فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (117) سورة طه، بالتعب والشغل الجسمي.
__________
(1) لطفاً انظر كتاب( عصمة الأنبياء) للعلاَّمة الكبير محمد أمين شيخو قصة سيدنا آدم عليه السلام.(1/175)
وقد قدمنا هذه المقدمة عن سيدنا آدم ومفهوم الجنَّة لنستطيع أن ندرك:
... أسباب خروج سيدنا آدم عليه السلام من الجنَّة ...
عرف سيدنا آدم ما يتبع الأكل من الشجرة من متاعب الحياة، وما يتطلبه العيش بعد الأكل منها من جهد وعناء، وعرف أن الله تعالى إنما نهاه عن الأكل منها وقاية له من تلك المتاعب، غير أن حبه العظيم لخالقه أنساه وصية الله تعالى، وتلك هي المرتبة التي أهَّلت هذا الرسول الكريم لأن يكون خليفة الله في أرضه، وأن تسجد له الملائكة الكرام. قال تعالى: {.. إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً .. } (30) سورة البقرة.
وهذه الآية تبين إرادة رب العالمين من إيجاد آدم عليه السلام في الأرض، فهبوط سيدنا آدم بالأساس لا بدَّ منه، وإنما كان بهذه الطريقة ليتم معرفة عداوة إبليس له ولذريته من بعده، وليعرفنا تعالى أن الحب لله والصدق والإخلاص يجب أن يجري ضمن قانون ونظام، لأن أي شخص كائناً من كان، لو كان بموضع آدم عليه السلام لا بل أيَّ رسول لا بدَّ وأن يأكل من الشجرة، إذ هو بالحال النفسي، والذاكرة بالفكر وبالدماغ، وقبل ولوج النفس الجسم تنسى الوصية مباشرة كما بالنوم.
توقف (عطالة) الفكر ... إن الفكر يتعطَّل في الآخرة، لأن استعماله كان للدنيا فقط،فالنفس كانت تستخدمه لأغراضها الدنيوية،
وما قول الكفرة:
{هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ} (29) سورة الحاقة، إلا تعبير عن حال النفس دون ذلك السلطان "الفكر". وهذا الفكر يظل خاملاً إن لم تسخِّره النفس في حل مشاكلها، أما إذا توجَّهت نحوه وسلَّطت أشعتها عليه فإنه سرعان ما يفكك لها الأمور التي تريد بحثها، ليُريها ما هي بحاجة إليه.(1/176)
وفي الآخرة تبقى عملية التذكُّر للأعمال التي قام بها الإنسان في الحياة الدنيا عن طريق الملائكة، يذكِّرونه بين الحين والحين بأمر من الله إليهم، أما هو فلا يتذكَّر من أعماله شيئاً، وحينما يُذكِّرونه بعمل من أعماله الصالحة يُقبل على الله بهذا العمل، ويرقى إلى درجة سرور وجمال أعلى، أي: إلى جنَّة أعلى، وهكذا.
قال تعالى:{.. وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ} (23) سورة الرعد: من كلِّ أعماله السابقة الطيبة.
فالأعمال هي التي ترفعه في الدنيا والآخرة إن كانت صالحة، وهي التي تدنِّيه إن كانت متدنية.
وهذه الجنَّة التي ارتقى إليها تنعكس على ما دونها من الخيرات من مأكل ومشرب وغير ذلك، حينما يتذوقها مباشرة وبدون حجاب، فَيُسَرّ بها أيضاً.
وهذا ما كان عليه حال أبينا آدم عليه السلام عندما كان في الجنَّة، فلما تلقَّى الوصية، أي: الأمر من ربِّ العالمين بألاَّ يقرب هذه الشجرة، كان في حالة لا تسمح له أن يتذكَّر، ولمَّا أكل من مادتها تراجعت نفسه إلى جسمه،أي: تبعت مادة الشجرة بعد ما كانت خارجهُ لتتذوَّق ثمرتها، واستقرَّت فيه،وأصبحت تتصل بالكون عن طريق الحواس الخمس، وبدأ الجسم يعمل لتنفيذ رغباتها، وتصريف ما أكله، فعمل جهاز الهضم لإخراج فضلات ما أكل، والجهاز العصبي للتسيير والأمر، والمخ لتحليل مشاكلها.. الخ.
وعندئذ تذكَّر سيدنا آدم عليه السلام وصية ربّه التي كان قد نسيها عندما أكل من الشجرة. قال تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (115) سورة طه: على المعصية. {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (122) سورة طه.(1/177)
وبعد أن اشتغلت عنده آلية الفكر تذكَّر سيدنا آدم عليه السلام وصية ربّه عندها خاطبه تعالى بكلمات بيَّن له فيها أنه لم يخالف أوامره بملْكه،لأنه كان في حالة من النسيان، وخروجه إنما كان بإرادته تعالى وتدبير منه، وأن نسيانه للأمر الإ?لهي لم يكن بملْكه ولا باختياره فلا مؤاخذة عليه، إذ كان بحالٍ نفسي مجرَّد،وكانت السيطرة الكليَّة للنفس، وكان الجسد داخلها معطَّلاً، وأجهزته بما فيها الذاكرة معطَّلة، فلا مفرَّ ولا مخلص من النسيان وهو الأمر الطبيعي.
وذلك ما أشارت إليه الآية:{فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (37) سورة البقرة:تذلل آدم عليه السلام، فألقى الله تعالى بنفسه: أن يا آدم نيتك عالية وشريفة نحن لا نؤاخذك على ذلك.
إذ أن هذا هو طريق المجيء إلى الدنيا، وفي الدنيا عمل المعروف والإحسان،إذ فيها تعمل العديد من الأعمال الصالحة، وغداً تدور أمام ناظريك في الآخرة، وأنت بها ترقى من حال لحال، ومن جنَّة لجنَّة أعلى.
إن سلكت طريق الحق صرت مؤمناً، وإن دخلت المدرسة فاجتهدت ترقى، ومن دون مدرسة تبقى بمنزلةٍ دنيا.
ما ذكره تعالى عن قصة آدم عليه السلام من الأمر والنسيان:كلها من أجلك، كي تسعد، لكي تفهم ولئلاّ تنغش بالشيطان، فتفكر وتعمل الإحسان،فترقى وتنال العطاءات.
الله تعالى عليم بآدم وزوجه عليهما السلام، عليم بأن آدم لا فكر له آنئذٍ، ويعلم أنه سينسى، لكنه تعالى جعل هذه الواسطة بالأمر والنسيان بغية تذكيرنا بعداوة إبليس فنحذر منه. وكذلك لنعلم أن كل من يقع عن غير قصد له سهولة بالرجعة، أما المتعمِّد فلا رجعة له حتى يتوب.
خذوا من هذه القصة عبرة: ... المؤمن لا سبيل للشيطان عليه، الله تعالى وليُّ الذين آمنوا، إنما يدنو الشيطان ممن ليس عنده إيمان.(1/178)
إذن اسع في الوصول إلى الإيمان. من لا يؤمن هالك، ليس الإيمان بالقول، إنما الإيمان عقل وشهود أنه تعالى سميع عليم، وأن كل حركة بيده، فإن أردت الوصول فانظر في الكون، فكِّر، تؤمن بلا إ?له إلاَّ الله، تكن لك من القصة عبرة وذكرى.
فقد وسوس الشيطان لآدم عليه السلام، أي: خاطبه خطاباً عن بعد: {.. قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} (120) سورة طه.
والمراد بشجرة الخلد أي: الشجرة التي إن أكلت منها خلدت في الجنة، أي: في ذاك النعيم النفسي العالي الرفيع الذي تجده بالقرب من خالقك يا آدم.
والمراد بكلمة: {..وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} :أي: ملكت ذلك الحال النفسي الذي أنت فيه، فلم تنقطع عن هذا الشهود للكمال الإ?لهي، وظللت دائم الأنس به.
ولعلك تقول:
كيف وسوس الشيطان لآدم عليه السلام والأنبياء معصومون؟!.
أقول: إذا كان أحدنا اليوم يجتمع بكافر ويتحدث إليه، فليس معنى ذلك أنه سيطر على نفسه أو تسلَّط عليها، وكذلك الأمر بالنسبة لسيدنا آدم عليه السلام، كانت نفسه محيطة بجسمه، وكانت مقابلة الشيطان له مقابلة نفس لنفس عن بعد ومسافة، وليس في ذلك أدنى سيطرة أو تسلُّط نفس.
تشير الآية الكريمة في قوله تعالى:{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} (21) سورة الأعراف.(1/179)
وحيث أن آدم عليه السلام عرف عظمة خالقه وجلاله، فما كان يظن أن أحداً يجرؤ على أن يحلف بالله كذباً، لذلك أقسم له الشيطان ولزوجه بالله،والعظيم كسيدنا آدم عليه السلام يقدِّر العظيم جلَّ شأنه، صدَّقه لأنه لم يكن يظن أن أحداً يقسم بالله العظيم كذباً، فنسيَ وصية الله له بعدم الأكل من الشجرة، عندها وحبّاً بالله وطلباً للخلود بالنظر لوجهه تعالى الكريم، وهو تعالى ينبوع الجمال وخالق العظمة والجلال، وحيث أنه كان في حالة لا تسمح له أن يتذكر النهي بسبب عطالة الفكر، أكل من الشجرة، وأكلت معه زوجه، حرصاً على البقاء في ذلك الحال النفسي الجميل من الإقبال على الخالق، واستدامة لهذا الشهود للكمال الإ?لهي، وأنساه حب خالقه وصيَّته.
وإلى ذلك تشير الآية الكريمة:{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} (115) سورة طه: أي:نسي وصيتنا نسياناً، ولم نجد له عزماً على المخالفة، كما تشير الآية الكريمة: {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ ..} (22) سورة الأعراف: إلى كذب الشيطان وتغريره وتحذير الإنسان منه. {فَدَلاَّهُمَا ..}:أي أدناهما من الثمرة، وجعلهما يتناولان مادتها، ويضعانها في فمهما.(1/180)
و:{.. بِغُرُورٍ ..}: الغرور هو أن يتوهم الشخص بأنه يكسب بفعله خيراً عظيماً أكثر مما هو في يده مع أن الحقيقة خلاف ذلك، وكذلك الشيطان إنما دلاَّهما أي: أدناهما من الثمرة بغرور، أي: بإيهامه إياهما بأن الأكل منها يكون سبباً في بقائهما في ذلك الحال من الإقبال العالي على الله بصورة دائمية، مع أن الحقيقة تخالف ذلك، إذ أن غايته أن يوقعهما في الخجل والحياء من الله بمخالفة وصيته، وبذلك يصل إلى مطلوبه من إبعادهما عن الله، ومن هنا يتبين لنا عداوة الشيطان للإنسان، كما يتبين حب سيدنا آدم عليه السلام لربه، وحرصه على دوام الإقبال عليه(1).
فسيدنا آدم عليه السلام كان وبفطرته العالية لا يعرف أصناف الشر بعد، ويظن أن الخلق كلهم طيبون،ولو أُعلم لنسي لأنه كان بحال نفسي بلا ذاكرة، فالذاكرة في عطالة، ولأنه وعلى عالي براءته ما صار له بهم معرفة عملية بعد، وليس في نفسه إلا الطيب والكمال، لذلك ما توقع أن يكون هناك عداوة بين خلق الله، ولم يعرف أن هناك كذباً لأنه عليه السلام كان على الفطرة، فطرة الكمال التي فطر تعالى الناس عليها، ليس بقاموسه الكذب أبداً، وخصوصاً عندما أقسم له إبليس (كذباً)، ولكن من بعد هذه الحادثة علم أن هناك عداوة وبعداً عن الله ومكراً وخيانة، وعلم بعداوة الشيطان له.
فلو كان يعلم إبليس ومكرهُ من قبل لتوجه إليه بنور الله، ولحرقه لخبثه وإعراضه، ولكن الفكر ما كان قد اشتغل لديه ليتذكر.
ولقد أدرك الشيطان بعد ذلك أنه لا يستطيع الاقتراب من الأنبياء أبداً بعد انكشافه وانكشاف نواياه الشريرة، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (83) سورة ص.
ملخص القول:
__________
(1) لطفاً انظر كتاب (تأويل الأمين) للعلاَّمة الجليل محمَّد أمين شيخو الصفحة/267/، بحث"مفهوم الجنة وأسباب خروج سيدنا آدم عليه السلام منها".(1/181)
وردت الآية الكريمة صريحة بما تقدم ذكره، قال تعالى فيها: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ..} (120) سورة طه، ولم تقل وسوس في صدره أو في نفسه، كما في الآية: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} (5) سورة الناس، أي: المنقطعين عن الله تعالى، ومن الواضح أن حرف(إلى) يدل على الانفصال، وأن حرف(في) يدل على الظرفية والاشتمال، وهكذا فلا تعدُّ الوسوسة الملقاة عن بعد دخولاً من الشيطان على سيدنا آدم عليه السلام أو دنواً منه، ولا يمكن أن تعتبر هذه القصة دليلاً على إمكان دخول الشيطان على الأنبياء من أية جهة.
ولعلك تقول:
كيف مسَّ الشيطان سيدنا أيوب عليه السلام؟!.
في التفاسير عند هذه الآية: {.. وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (41) سورة ص .
أقوال شيطانية مدسوسة، لا تليق بالسادة الأنبياء، لا بل بأبسط المسلمين، فهم يترفعون عن وصمهم بما وصموا به أحدَ خيرة الله من خلقه وصفوته من عباده، للطعن بأنبياء الله الكرام والعدالة الإ?لهية، وجَعْل سُلطة للشيطان حتى على الله تعالى. والعياذ بالله من قولهم الموتور طعناً بالإسلام بافتراءات الإذلال والتحقير التي لا أصل لها، منها قولهم الخبيث:
أن نبي الله ورسوله سيدنا أيوب عليه السلام قد سيطر الشيطان على أهله وماله وبدنه، وألقاه قومه في مزبلة تختلف الدواب في جسمه الشريف، وأنه أصيب بالأمراض المُعْدِية. كل ذلك كان بزعمهم قد تمّ باتفاق الله مع الشيطان ضدّ رسوله الكريم، فأذله إذلالاً لم يُذلَّه أحداً من العالمين دون سبب حق، ودون جرم اقترفه، وحاشاه.
فالشيطان أخسأ من أن يكون له سلطان على مؤمن، فهل يعقل أن يستطيع الاقتراب من نبي ورسول؟!. والله عز وجل يقول في محكم آياته: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (99) سورة النحل.(1/182)
وهذا إبليس أدرك هذه الناحية قائلاً:
{قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ،قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ،إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} (39-42) سورة الحجر.
والعكس صحيح: {.. وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاء ..} (6) سورة الحشر. والحقيقة أن ملخص قصة سيدنا أيوب عليه السلام هي:
مما ضربه الله تعالى لنا في القرآن الكريم مثلاً في الثبات والصبر على الدعوة إلى الله، والرحمة بقومه.
هذا الرسول الكريم نادى قومه ودعاهم إلى الله تعالى، فما وجد منهم في بادئ الأمر إلا عناداً وصدوداً عن الحق، ولم يلق لجهوده ثمرةً، وهنالك تألم عليهم ألماً كبيراً، ووجد في نفسه ضيقاً وغماً عظيماً، وحزناً عليهم وحسرة.
وما مثل هذا الرسول الكريم في تألمه على قومه وحزنه عليهم إلا كمثل أب شاهد ابنه قد أصيب بمرض عضال يفتك في جسمه، وقد أعيته الحيلة في انتشاله من براثن هذا المرض وتخليصه، ترى كم يتألم هذا الأب وكم يضيق صدره ويحزن كلما وقع بصره على ابنه؟. وهكذا كان حال هذا الرسول الكريم مع قومه، وقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك في قوله تعالى:
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (83) سورة الأنبياء. ويكون ما نفهمه من هذه الآية الكريمة: أي: واذكر عبدنا أيوب في رحمته بقومه وتألمه عليهم، إزاء ما لقيه منهم من الصدود والمعارضة الشديدة.
نكرِّر :
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ ..} أي: لقد دفعني ما ألقاه من الضيق والغم، وحملني ما أجده في نفسي من الحزن والحسرة على قومي، أن أدعوك طالباً منك أن تكشف عني هذا الضر، أي: هذا الضيق بأن تهدي قومي هؤلاء:
{..(1/183)
وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} (83) سورة الأنبياء. فارحمني يا رب بهدايتهم، إذ في ذلك خلاص نفسي وشفاؤها مما بها من العذاب النفسي والتألم عليهم.
وقد استجاب الله تعالى دعاء رسوله بعد أن صبر عليهم كثيراً، ولم يلجّ، ولم يقنط من هدايتهم، ولم يشْكُ همَّه وغمه إلا إلى الله، فأرشده الله إلى طريق خلاصهم، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة في قوله تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} (84) سورة الأنبياء.
إذن: كشف الله ما به من ضرّ، ففرَّج عنه ذلك الضيق الذي ألمَّ به: فآمن قومه وآمن آخرون من غيرهم بقدرهم، رحمة بهذا الرسول الكريم وبقومه.
{.. وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}:أي: تذكرة لمن كان طائعاً لله، قائماً بهداية العباد إلى الخالق، ليعلموا أنه مهما حصل لهم من المعارضة والضيق فلا بد أن يفرِّج الله عنهم، ويجعل الخير على أيديهم، والعاقبة للمتقين.
هذه القصة التي جاءت موجزة في الآيتين السابقتين، أوردها الله تعالى مفصَّلة في آيات أخرى، وبيَّن لنا الطريق التي أمر تعالى هذا الرسول بسلوكها ليتوصل إلى هداية قومه، فقال تعالى: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (41) سورة ص.
ولفهم المراد من كلمة: {..مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ..} نقول:
( المس) الوارد في القرآن الكريم لا يأتي إلا بالشكل المعنوي، أي: النفسي لا الجسمي كما زعموا لهذا النبي الكريم أنه جسميٌّ كذباً بحقه.
قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ..} (275) سورة البقرة:أي نفسياً.(1/184)
فالشيطان هل يظهر مادياً أم معنوياً؟. بالطبع هو لا يأتي إلا بالحال النفسي.
قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ،لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} (77-79) سورة الواقعة. فالقرآن بمعانيه السامية وفقهه يمسُّه المطهرون فقط. فالمعاني معنوية، تطبع في القلوب لا تلمس بالأيدي، ومصحف القرآن يحمله الكافر والمعرض، الطاهر وغير الطاهر، وذلك هو اللمس لا المس.
وفي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} (201) سورة الأعراف
والطيف لا يلمس بداهةً، ومنها الممسوس أي المجنون. فالمس معنوي نفسي، وكما ذكرنا أن الضرّ الذي مسّ سيدنا أيوب عليه السلام من غمٍّ وهمٍّ نفسيٌّ، وليس جسمياً كما زعموا.
فالشيطان لا يمكن أن يؤثر بالمادة ولا تأثير له بها، فمهما وضعت من طعام وتركته ولو اجتمعت شياطين الأرض لا يستطيعون أن يأكلوا لقمة واحدة منه، فالشيطان لا يأتي إلا بنفسه المجرَّدة عن جسمه، ولكن ليس على رسول الله أيوب عليه السلام، قال تعالى :
{.. وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا } (51) سورة الكهف: فلا يمكن أن يتخذ الله إبليس ويتعاون معه ضد نبيِّه ورسوله أيوب عليه السلام كما زعموا دسّاً، ولا جدال فيما ورد فيه نص صريح القرآن. وقد بين لنا تعالى كيفية مسّ الضر لسيدنا أيوب عليه السلام لا لمسه في قوله: {.. وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (41) سورة ص.(1/185)
ويكون ما نفهمه من هذه الآية الكريمة أي: واذكر عبدنا أيوب في رحمته بقومه وتألمه عليهم إزاء ما لقيه منهم من الصدود والمعارضة الشديدة، والمراد بكلمة:{ مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ} أي: أصابني منه بسبب ما يوسوس به في نفوس قومي. { بِنُصْبٍ}: أي عناء وتعب، فلا ألبث أن أقيم لهم البراهين والحجج وأقنعهم، فما أن يخرجوا من عندي حتى يوافيهم الشيطان بوساوسه، ويثير الشبهات حول ما كنت بينته لهم، ولو أطاعوني وآمنوا لما أفسدهم الشيطان، أما كلمة:{ وَعَذَابٍ}: فإنما تعني ذلك التألم النفسي الذي كان يجده هذا الرسول الكريم على أولئك الضالين رحمة بهم وحناناً عليهم. فالنصب والعذاب كانا بسبب ما يوسوس به الشيطان في نفوس قومه: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ،مَلِكِ النَّاسِ،إِلَهِ النَّاسِ،مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ،الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ،مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} (1-6) سورة الناس.
كذلك أصاب سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم ما أصاب سيدنا أيوب عليه السلام من آلام وشقاء على قومه قريش بادئ ذي بدءٍ من عنادهم وإصرارهم وتعنُّتهم، حتى أشقى نفسه الشريفة عليهم حزناً وعذاباً نفسياً، فخاطبه تعالى بقوله الكريم: {طه،مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} (1-2) سورة طه.
وبآية: {.. فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ ..} (8) سورة فاطر.
و كما ورد في الحديث الشريف:« أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل »(1).
أي: البلاء النفسي لعظيم رحمتهم وحنانهم على الخلْق.(1/186)
ولما دعا هذا الرسول الكريم سيدنا أيوب عليه السلام ربّه، استجاب الله تعالى له وعلَّمه، وأمره بالهجرة من بلده إلى بلد آخر، فقال تعالى: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} (42) سورة ص، أي: اخرج من بلدك الذي أنت فيه، والذي لاقيت ما لاقيت فيه من الضيق المعنوي بسبب المعارضات، إلى بلد آخر قريب فيه مغتسل بارد وشراب.
فما أن سمع سيدنا أيوب عليه السلام بالمكان الذي أمره الله تعالى بالذهاب إليه حتى انطلق سراعاً عليه السلام، وقد جعل الله تعالى من هجرة هذا الرسول سبباً لهداية قومه، ومثلهم معهم، وإلى ذلك أشار تعالى في قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ .. } (43) سورة ص. ونفس هذه الحالة، والقصة مشابهة تماماً لما جرى مع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي صبر على قومه حتى جاءه الإذن بالهجرة {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ..} (5) سورة الأنفال، فهاجر إلى المدينة ومعه صحبه من المهاجرين إلى قوم آمنوا معه ونصروه، ورجع بهم إلى قومه فنصره الله تعالى عليهم وهداهم. وكذلك سيدنا أيوب عليه السلام رجع على قومه، وعندها بالقوة استعظموه وقدَّروه، وآمنوا معه، وصار بعهده نهضة إسلامية كبرى، فكان هذا التاريخ مشابهاً ومماثلاً لعصر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
* ... * ... *
العالم الأرضي تحت رحمة إبليس!.
فائدة:
هل تعلم أنَّ هناك دابة تعادل حجم القمر تقريباً؟!.
ولعلك تسأل متعجباً أين هي؟. ولم خلقت؟!.
وسيكون عجبك أكبر عندما تجدها في طيات كتب المفسرين، وتقول: أهذه حقّاً من إعجازات التنزيل على رسول الله بكتاب الله؟!.
أقول وكما ذكروا عند قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (1) سورة القلم. أنها خُلقت لأجل بلهموثا ذلك الحوت الذي على ظهره الأرضون، وذلك هو: نون الذي تحت الأرض السابعة.(1/187)
يوم خلق الله القلم فجرى به ما هو كائن، ثم خلق النون فبسط الأرض على ظهره، فمادت الأرض فأُثبتت بالجبال، وإن الجبال لتفخر على الأرض.
والدابة الكوكبية وما أدراك ما الدابة.. خُلقت بسبب إبليس يوم تغلغل إلى ذلك الحوت، فوسوس في قلبه وقال: أتدري ما على ظهرك يا بلهموثا من الدواب والشجر والأرضين وغيرها لو ألقيتهم عن ظهرك أجمع، فهمَّ بلهموثا أن يفعل ذلك فبعث الله إليه دابة فدخلت منخره ووصلت إلى دماغه، فضجَّ الحوت إلى الله عزوجل منها، فأذن الله لها فخرجت، فوالله إنه لينظر إليها وتنظر إليه، إن همَّ بشيء من ذلك عادت كما كانت!.
كُشِفت الحقيقة لا حوت ولا بلهموثا ولا البرغوثا
مثل هذه السخافات ألَّبت على الإسلام الطاعنين، وأضحكت منه الملحدين، وزهدت من الدخول فيه المرتادين، وزادت من شكوك المرتابين، فعوداً إلى كتاب الله العظيم الناطق بالصدق واليقين.
هذا ولم يقف تحريض إبليس لله عزَّ وجل كما زعمت السحرة على رسله كما في قصة بلاء سيدنا أيوب عليه السلام وحسب، بل زعموا أن الله سبحانه لم يُتمَّ خلقه ولم يكتمل حكمه، بروايات تكذبها العين الناظرة، وقد أدرجها العلماء في طيات كتبهم، وعجباً دون حياء ولا خجل من كذبها الواقعي العلمي على الله سبحانه، وقد أدرك إبليس بزعمهم ذلك النقص، وجعل يلج فيه ويُحدث عظائماً تكاد تذهب بخلق الله، لولا أن تدارك الله تعالى ذلك النقص بفضل ذكاء إبليس ومداخله.
تعالى الله علواً كبيراً عن تلك السخافات التي لم يتكلم بها إلاَّ من به مسّ أو خِلّة لشيطان مريد.
{.. وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ..} (41) سورة الرعد، {.. مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ ..} (3) سورة الملك
* ... * ... *
ونعود الآن إلى متابعة كشف أساليب السحر:
هذا ولقد بيَّنا سابقاً ثبوت الصفة السحرية على من يأتي بخوارق العادات(1/188)
" كضرب الشيش، وأكل الزجاج، وإدِّعاء المشي على الماء، وإحياء الموتى .. " لانتشار هذا الداء المقوِّض للإنسانية بين صفوف المسلمين، وأيضاً هناك أبواب أخرى منها:
أولاً:
التنجيم
الذي انتشر طيفه القاتم فوق ربوع البلاد الإسلامية عامة ودول العالم ككل، فقد تابع القدماء حركة الشمس عبر الأبراج ليعلموا أيام السنة وتحديد الفصول وقدومها, وينظموا وفقها أعمالهم الزراعية، وللاهتداء في البر والبحر وغير ذلك.
غير أن هذه الأبراج الشمسية أخذها فئة من الناس" المنجِّمون " كي يبنوا عليها ضروباً من الخزعبلات والتكهنات،وليسطِّروا وفقها تنبؤاتهم،فراحوا ينظِّمون على أساسها تنظيماً خرافياً بما تمليه عليهم شياطينهم مسيرة الحياة اليومية لبعض الناس، الذين ما يزالون حتى يومنا هذا يؤمنون بما تحتوي عليه بروجهم الوهمية هذه.
والحقيقة :أنه لا علاقة مطلقاً بين حياة الناس والأبراج النجمية، لوجود الأدلة العلمية:
1ً- إن أقرب نجم في برج الأسد " قلب الأسد " يبعد عنا/ 78/ سنة ضوئية .
- وأقرب نجم في برج العقرب " قلب العقرب " يبعد/ 230/ سنة ضوئية .
- وفي برج الثور أقرب نجم يبعد عنا /64/ سنة ضوئية .
وغير ذلك من المسافات المذهلة، فما هو تأثير تلك الأبراج على نفوسنا؟!.
إذا كانت تلك الأبراج بنجومها تبعد عنَّا ملايين المليارات من الكيلو مترات، ولا يصلنا من إشعاعها ما نحسُّ به، بل لا يؤثِّر مطلقاً على حياتنا وسلوكنا !.
مع العلم أن أسطع نجوم الأبراج " الدبران "، لا تزيد نسبة لمعانه عن 1/ 1000 مليون من لمعان الشمس.
2ً- إن حركة الكواكب في منطقة البروج تختلف باختلاف المنطقة التي تنظر منها.
فالمكّوك الفضائي ورجال الفضاء الذين يتحركون بين الكواكب يرون صوراً مختلفة عن تلك التي يراها الإنسان من على سطح الأرض.(1/189)
فاقتران كوكبين هو تقارب خداع نظر،إذ تبقى المسافات شاسعة جداً ما بين أي كوكب من كواكب منظومتنا الشمسية وأي نجم آخر من نجوم السماء.
3ً- اقتران كوكبين بينهما مسافات شاسعة كاقتران جبلين تمرُّ بينهما بسهل شاسع واسع فاصل بين الجبلين، فهما أبداً لا يقترنان، فما هي العلاقة ما بين الكواكب والأبراج؟!. وما مدى تأثير ذلك مباشرة علينا ؟. لا تأثير إطلاقاً!..
4ً- علماء الفلك جازوا الفضاء بآلاتهم، بالصواريخ والمكُّوكات والأقمار الاصطناعية، ليستدلوا على الحقائق العلمية للكواكب ومواقعها وأفلاكها.
وراحوا يصنعون المناظير الفلكية العملاقة، التي تجاوزت أقطار عدسات بعضها عشرة أمتار .. وكل هذا لم يَفِهِمْ بالمعلومات الكافية، فكيف يتسنَّى للإنسان الذي
( يدَّعي الفلك)، ويحمل بيده كرة زجاجية لا تتجاوز السنتمترات، مراقبة النجوم والكواكب وتغيُّر مواقعها؟!. وقد يكون ذلك في غرف مغلقة!.
مجرد خزعبلات وخرافات سحرية.
5ً- إن التكوين الخلْقي للكواكب لا يختلف عن المادة الأرضية من حجارة وصخور ورمال وغيرها،غير أنها خالية من الحياة، إذ لا ماء فيها ولا هواء عكس
ما هو عليه الحال في الأرض، فهل تؤثر على حياتك أو على نفسك الصحراء الكبرى أو سلسلة جبال" حِملايا"(1)؟!.
إذن فالمنجمون: الذين يشتغلون " بالتنجيم " على قدر كبير من الجهل بعلم الفلك، وليست بينهم وبينه صلة أبداً.
__________
(1) حملايا: وهي أعلى القمم الجبلية بالعالم، واسمها الصحيح كما يلفظها السكان هناك(حملايا) أي معناها اللغوي: بحمى الآية، ونقلها إلينا الأجانب بلفظ (هملايا) لأنهم لا يستطيعون لفظ حرف (الحاء) ولكننا نستطيع.(1/190)
وما اعتقده المنجمون: من أن حياة الإنسان يحددها موضع الشمس والقمر والكواكب في البروج ساعة ميلاده، فقسَّموا الكواكب"ذوات الطوالع النحس،والطوالع السعيدة " تخبُّطاً،وهذه المعتقدات من سحر الكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السيَّارة,ويعتقدون أنها مدبِّرة للعالم، وأنها تأتي بالخير والشر،فعجباً ممن يستبدل الكفر بالإيمان، ويعود صابئاً تُغرر به السحرة من حيث لا يدري!!.
وما جاء في السنة النبوية:
« خلق هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدى بها..»(1). فمن تأوَّل فيها مثل تلك السفاسف أخطأ وتكلَّف ما لا علم له به.
« من اقتبس علماً من النجوم اقتبس شعبة من السحر.. »(2).
« من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد»(3).
والعرَّاف والكاهن والمنجِّم كلهم يدَّعون معرفة الأمور المستقبلية، فمن صدَّقهم كفر بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس في قوم ينظرون في النجوم:( ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق ).
ولعلك تسأل: قد يصدق المنجمون، وفي الحديث الشريف:« كذب المنجمون ولو صدقوا ». فكيف يتم علمهم بالمغيبات؟.
تبين لنا أن المنجمين سحرة، يستعينون بشياطين الجن من قرائن البشر وقرائن خصمائهم من البشر، وعندما ينوي الخصوم على الكيد والتخطيط لغرمائهم الذين إن كان عليهم استحقاق ومعاصي مما يُنجِح الخصماء في كيدهم، وهذا ما يتحدث به المنجمون للبشر عن المكائد التي ينويها خصومهم، فالقرين بتلك الحالة يعمل على نقل الخبر للسحرة المنجمين، فينقل لهم أسرار نوايا وخطط الخصوم الذين اتَّخذوه قريناً، فما يقع ليس بتنجيم المنجمين، بل باستحقاق ومعاصي الضحية إن وقع.
__________
(1) صحيح البخاري ج2. ... ... ... ... (2) سنن أبي داود رقم/3900/.
(2) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه.(1/191)
أما المؤمنون فلا يقع عليهم ضرر نوايا وخطط الخصوم، فإن كان الضحية مستقيماً طاهراً لا ينجح الكائدون، والتنجيم لا يقع، فيكون أماني شيطانية فاشلة.
* ... * ... *
ثانياً:
دعوة تحضير الأرواح أو الروحية الحديثة
تعريفها:هي دعوة استحضار أرواح الموتى، وذلك حسب دعواهم بأساليب علمية.
هدفها:التشكيك في الأديان السماوية، وتبشر بدين جديد يتوافق معها.
ظهورها:خلال القرن التاسع عشر ظهرت جماعات متعددة في الولايات المتحدة الأمريكية، مارست هذا النوع من السحر "تحضير الأرواح حسب دعواهم" بوسائل مختلفة ابتغاء الكشف عن المغيبات،ومن ورائها كفرة اليهود، ثم انتشرت في العالميْن العربي والإسلامي،ولا تزال جلسات تحضير الأرواح تعقد في البيوت والمنتديات حتى يومنا هذا، حيث يتلقى الحاضرون(فيما يُزعم) رسائل يدونها الوسيط على الورق تدويناً آلياً.
ويقولون أنهم أحياناً يسمعون أصوات الأرواح خلال هذه الجلسات، وبخاصة عند عقدها في وسط الظلام الداكن.
التأسيس وأبرز الشخصيات ... لم يعرف لها مؤسس في أوروبا وأمريكا،ولكن كفرة اليهود المنتشرين كأقليات لهم الباع الحقيقي في
تأسيسها، وكما ذكر بالقرآن الكريم وذلك حين تركوا كلام الله بالتوراة: {وَاتَّبَعُواْ مَا تَتْلُواْ الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ..} (102) سورة البقرة،ولكن الدعوة إليها قد نشطت في بداية القرن العشرين الميلادي من قبل عدة شخصيات، منها:
- جان آرثر فندلاي، وكتابه المشهور:(على حافة العالم الأثيري).
- أدن فردريك باورز، وكتابه المشهور:(ظواهر حجرة تحضير الأرواح).
- آرثر كونان دويل في كتابه:(حافة المجهول).
- اليهودي الملحد المعروف:دافيد وجيد.
كما ظهرت لها في تلك البلاد عدة مؤسسات، مثل:
- (المعهد الدولي للبحث الروحي) بأمريكا .
- (جمعية السيدة "وود سميث " التي تدعي بتحضير الأرواح"مارلبورن الروحية") بإنجلترا.(1/192)
أما في العالم الإسلامي فقد تحمس لها عدة أشخاص، وساروا بها، ودعوا إليها،منهم:
- الأستاذ أحمد فهمي أبو الخير أمين عام الجمعية المصرية للبحوث الروحية، وقد أصدر مجلة "عالم الروح"، وهي الناطقة باسم هذه الدعوة الهدامة،وقد بدأ نشاطه منذ سنة/1937/م، وقام بترجمة كتابي فندلاي وباورز سابقي الذكر.
- الأستاذ وهيب دوس المحامي/1958/م، وهو رئيس الجمعية المذكورة.
- د. علي عبد الجليل راضي رئيس "جمعية الأهرام الروحية"، له كتاب بعنوان:(مشاهداتي في جمعية لندن الروحية).
- حسن عبد الوهاب سكرتير الجمعية.
- الشاعر اللبناني "حليم دموس "، وكان معروفاً بتقديسه لـ(داهش)، حيث يجله ويجعله بمقام النبوة، وله مقالات في (مجلة عالم الروح) بعنوان:الرسالة الدهشية.
أما الآن فلهذه الدعوة نفوذ قوي، وخاصة في أمريكا وأوروبا، إذ لا تكاد تخلو مدينة من فرعٍ لهذه الدعوة الهدَّامة، وهناك كثير من الصحف والمجلات التي تتكلم باسمها.
وفي أمريكا يوجد المركز العالمي للبحوث الروحية،وكذلك في العالم العربي والإسلامي فإنَّ سرعة انتشارها تدعو إلى العجب وخاصة في مصر، حيث توجد لها عدة جمعيات، وهناك عدة مجلات وصحف أخرى تروِّج لها مثل مجلة " عالم الروح" الخاصة بها.
وقيل عن اهتمامهم بإحياء الدعوة الفرعونية لهدم الأديان، وغيرها من الدعوات الجاهلية،كما ذكر أن الذين روَّجوا لأصل هذه الفكرة هم أناس فقدوا عزيزاً عليهم، فيعزُّون أنفسهم بالأوهام،وأن أشهر من روَّج لهذه البدعة " أوليفر لودج "الذي فقد ابنه في الحرب العالمية الأولى،ومثله مؤسس الجمعية الروحية في مصر"أحمد فهمي أبو الخير" الذي مات ابنه عام/1937/،وكان قد رُزِقه بعد طول انتظار.
فحوى هذه الدعوة وعقيدة مؤسسيها وأتباعها ... 1ً- يقولون بأنهم يحضِّرون الأرواح ويستدعون الموتى لاستفتائهم في مشكلات الغيب ومعضلاته، والاستعانة بهم في علاج(1/193)
مرضى الأبدان والنفوس،والإرشاد على المجرمين، والكشف عن الغيب والتنبؤ بالمستقبل،ويزعمون أن الروح يمكن إدراكها، وأنها تتجسد وتُلمس، كما يدَّعون بأن بعض الأرواح تظن أن أصحابها لا يزالون أحياء، وهل يتحرك جسم دون روح؟!. فكيف يظل صاحب الروح حياً وهي مفارقة له؟!. فما بعد خروج الروح إلا الموت، ولا رجعة إلى يوم القيامة.
2ً- الأرواح عندهم بمثابة الخدم، تستجيب لأي إشارة منهم: حيث بزعمهم أن هذه الأرواح التي يستحضرونها مرسلة من عند الله إلى البشر، كما أرسل المرسلون من قبل، وأن تعاليمهم أرقى من تعاليم الرسل،كما يزعمون أن هذه الأرواح التي يستحضرونها تعينهم في كشف الجرائم، وكشف أماكن الآثار القديمة بحثاً عن الذهب،ويدَّعون أنهم يعالجون الأمراض النفسية بهذه الأرواح .
إذن: فهي فرع من فروع السحر.
3ً- ويقولون أنهم يستطيعون التقاط صور لهذه الأرواح في الأشعة تحت الحمراء!!. ولكن الغريب أن الأشعة تحت الحمراء تعاين المادة، وتتحرى عن نوعية المادة وتكشفها،فكيف لها أن تعاين أرواحاً وتصورها؟!. فهل الروح مادة؟!.
وهل باستطاعة أحدث الكاميرات والمناظير ذات الأشعة تحت الحمراء أن تلتقط صورة لروح إنسان عند وفاته، وما يحدث عليها بعد الموت؟. بالطبع لا.
وهكذا يحاولون إضفاء الجانب العلمي على عملهم، مع العلم أنه بعيد كل البعد عنه، إذ لا تتوفر في عملهم الشروط الواضحة، ولا يمكن إعادته مع كل شخص بخلاف التجارب العلمية.
وهو في الواقع لا يخرج عن كونه شعوذة وخداعاً، وتأثيراً مغناطيسياً (هيلمات نفسية مقترنة مع الشيطان ) للاستحواذ على شعور الحاضرين،واتصالاً بالجن الشيطاني.
4ً- يقومون بهذا التحضير في حجرات خاصة شبه مظلمة، وفي ضوء أحمر خافت، وكل ما يدعونه من التجسد للأرواح ومخاطبتها لا يراه الحاضرون، وإنما ينقله إليهم الوسيط وهو أهم شخص في العملية.(1/194)
5ً- الوسيط عندهم يرى غير المنظور، ويسمع غير المسموع، ويتلقى الكتابة التلقائية، وله قدرة على التواصل عن بعد(التلباثي)، حقاً إنها هيلمة على عقول البسطاء.
6ً- يثبتون للأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام رسالاتهم إلا هذه الوساطة فقط، فهي ميزة بهؤلاء السحرة وخاصة بهم، ويعتقدون أن معجزات الأنبياء هي ظواهر روحية، كالتي تجري في غرفة تحضير الأرواح، ويقولون أنَّ بإمكانهم إعادة معجزات الأنبياء لزعزعة عقائد المؤمنين.
7ً- ينظمون حضور جلسة التحضير من حيث الكم والنوع، وإذا وجد نساء يكون الجلوس:رجل،امرأة .. وما اجتمعا حتى كان الشيطان ثالثهما.
8ً- كما يعزفون الموسيقى أحياناً، ليستطيعوا السيطرة على الحاضرين واللعب بأعصابهم،ويزعمون أن لكل جلسة روحاً حارساً يحرسها.
9ً- يعرضون أفكارهم لكل شخص وفق ما يناسبه، ولذلك نجدهم أحياناً يدعمون تلك الدعاوي بنصوص من الكتب السماوية، مع تكلُّف واضح في تحميل هذه النصوص ما لا تحتمله من المعاني.
10ً- يرفضون الوحي، ويقولون إنه ليس في الأديان ما يصح الركون إليه، ويسخرون من المتدينين.
11ً- يقولون بأن إ?لههم أظهر من إ?له الرسل، وأقل صفات بشرية، وأكثر صفات إ?لهية، أي: فإ?لههم أعلى وأقوى.
12ً- يلوحون بشعارات برَّاقة كالإنسانية،والإخاء،والحرية،والمساواة،للتمويه على عامة الناس وبسطائهم.
13ً- كل عملهم مُنصبٌّ على زعزعة العقائد الدينية والمعايير الخلقية،وكلامهم صريح في أن الروحية دين جديد يدعو إلى العالمية، ونبذ كل الأديان،وطقوسه وفرائضه تنحصر في تدريب الناس على تركيز القوة الروحية،وأنها جاءت بطريقة جديدة للحياة، وفكرة جديدة عن الله.
14ً- يدَّعون أن الأرواح التي تخاطبهم تعيش في هناء وسعادة، رغم أنها كافرة، ليهدموا بذلك عقيدة البعث والجزاء، ويقولون أن باب التوبة مفتوح بعد الموت كذلك، وأن الجنة والنار حالة عقلية يجسمها الفكر، ويصنعها الخيال.(1/195)
15ً- عندهم نصوص كثيرة تمجِّد الشيوعيين،والوثنيين،والفراعنة،والهنود الحمر،ويقولون إنهم أقوى الأرواح.
16ً- يبررون الجرائم بأن أصحابها مجبورون عليها، وبالتالي لا يعاقبون.
17ً- يسعون لضمان سيطرة اليهودية على العالم، لتقوم دولتهم على أنقاض الخراب الشامل، يدعمهم في ذلك من يبغي مبدأ (فرِّق تسد) .
أعلنت المجلة العلمية الأمريكية (Scientific American Magazine) عن جائزة مالية ضخمة لمن يقيم الحجة على صدق الظواهر الروحية، ولكنها لا تزال تنتظر من يفوز بها،وكذلك الحال بالنسبة للجائزة التي وضعها الساحر الأمريكي (دنجر) لنفس الغرض .. وهذا من أكبر الأدلة على بطلانها.
وإليك أخي القارئ هذه القصة التي تبيِّن سخف عقل من يصدِّق بتلك الدعوة:
* ... * ... *
لمَ لا تحضِّر روح صديقك؟!.
...
لقد سمعت أن هناك محضِّرين للأرواح، فلِمَ لا أحضِّر روح زميل لي؟.
فما عليَّ سوى أن أدفع بضعَ دراهم كي أدري ما يدور في خلده، وأنبئه به فتزداد علاقتي به، ويزداد تقديره لي.
اليوم وهذه الليلة سأذهب لأحضر الجلسة، حتماً سأكون كاسباً لقلبه، لن أخسر أبداً سوى بضع دراهم فقط.
وفي الليل دلفتُ إلى غرفة تحضير الأرواح، وكان أناس قبلي ينتظرون أرواحاً طلبوها.
لقد كان الجو هادئاً يشوبه الرعب والهول.. والنساء موزعة بين الرجال تباعاً: رجل خلف إمرأة.. وهكذا، جو شهواني مقيت. جلست في المقاعد حسب التنظيم.. ودلف المحضِّر وأطفأ الأنوار إلا ضوءاً خافتاً أحمر.
بدأ بتمتماته المبهمة، وعيناه الجاحظتان الساحرتان تخلع القلوب لهول منظرهما المرعب. كدت أن أفقد الوعي، وأجهش بصوت مرعد، ولكن شعرت أن أنفاسي كُتمت، وفرائصي ارتعدت، وبدأت وكأن مغناطيساً يشدُّني إلى وجه المحضِّر لروح زميلي حيث جاء دوري، وفي هذا الجو من السكون المرعب خرج صوت زميلي قائلاً: أنا روح فلان من العالم الآخر.
ويالهول ما سمعت.. فقد فقدت صوابي أنَّ زميلي أصبح في العالم الآخر وأنا(1/196)
لا أدري!.. فقد تركته مساءً وهو بخير، لا بدَّ وأن حادثاً ما أصابه، سيارة، أو شيء مثل ذلك. وخرجت راكضاً لاهثاً دون أن ألوي على شيء إلى بيت زميلي، طرقت الباب طرقات المنزعج.. لماذا لم يخبروني بما جرى لزميلي؟!. ويالهول ما رأيت، لقد فتح لي الباب زميلي نفسه الذي بُهت من منظري وأنا مشدوه، وطريقتي اللاذوقية بطرْقي الباب، وفي وقت متأخر من الليل.. وخرج صوته ذاته: هل أصابك مسٌّ من الجنون يا صاح؟!.
قلت: بلى.. وانكفأت مدحوراً لتصديقي أمثال أولئك الدجَّالين.
* ... * ... *
تحضير الأرواح
جرت حادثة في مصر سنة /1939/ تكلمت عنها جميع الصحف، ويعرفها للآن كثيرٌ من الناس، ففي أوائل العام/1939/ قبل قيام الحرب العالمية الثانية اختفى المرحوم الأستاذ البدري: ناظر مدرسة حلوان الثانوية، ولم يعلم له أحد أثراً. فقام أحد علماء الأرواح في مصر ونشر في الجرائد أنه استحضر روح أحد رؤساء قبائل الهنود الحمر بأمريكا واسمه الصقر الأبيض، وأخبره أن الأستاذ البدري على قيد الحياة في طنطا.
واتضح بعد ذلك بعدة أيام قليلة أنهم عثروا على جثة الأستاذ البدري مشوهة في إحدى حفر صحاري حلوان.
* ... * ... *
العقيدة السخيفة
الكاتبة المسرحية (باتريشا جودري) المهتمة بالعلوم الروحية تقول: أن روح برناردشو الكاتب المسرحي المعروف تحضر لتكتب المسرحيات من العالم الآخر. وكان فيكتور هوغو عملاق الأدب الفرنسي وسيطاً روحياً، وأن بعض الهيئات الروحية تتلقى من (دانتي) وتشارلز ديكنز رسائل روحية.
وعلَّق على ذلك علماء مصريون:
- رأي الدكتور مصطفى محمود: لا أعتقد في صحة هذا الخبر، خبر تحضير الأرواح. ولا أعتقد أن ما يحضَّر في الجلسات هي الأرواح، إنما الذي يحضَّر هو الجن، أو القرين.
إنه الجن الملازم للإنسان طوال حياته، وبعد موته "بحكم الله" الجن معمِّر، فهو يعيش أكثر من ألف سنة، وهو بحكم ملازمته للإنسان يستطيع أن يقلِّد صوته ويحكي أسراره.(1/197)
ويوافقه بالرأي الدكتور السيد جميلي.
- كما يضيف الرخاوي: نحن لسنا ناقصين تسليماً لمزيد من التبعية لعالَم مجهول،وأزمة الإبداع عندنا نتيجة لأزمة التفكير وأزمة الجدّية وفرط الحفظ وعجز التسميع، لا يحلُّها أن تستدعي أرواح المبدعين القدامى ليقوموا عنا بكل العمل!..
- كما أنكر الشيخ محمود شلتوت هذه البدعة لأنه لم تقم عليها حجة.
وأخيراً:
بهذه العقيدة السخيفة الوثنية القديمة يقول بعض شيوخ الطُرُق أنهم يقابلون أرواح من سبقوهم إلى العالم الآخر، ويعايدونهم ( كالخضر) عليه السلام والجيلاني والرفاعي رحمهم الله، وأنهم يحضرون حضراتهم، ويأخذون منهم المواثيق والعهود والأسرار والعلوم اللدنيّة، وكفاهم بذلك مكراً ودجَلاً وزوراً.
* ... * ... *
الحقيقة إن هذه الدعوة بابٌ من أبواب السحر، فالله تعالى أورد الكثير من الآيات الكريمة التي تنفي نفياً قطعياً أي اتصال بين عالم الأحياء وعالم الأموات، من المكالمة وغيرها , فيقول تعالى في وصفِ حال الإنسان ساعة الموت: {حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ،لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} (99-100) سورة المؤمنون ،وكلمة:{كَلاَّ}الواردة في الآية تفيد بما ليس فيه أدنى شك رفض الطلب، لأنهم: {.. وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (28) سورة الأنعام.
ويصف تعالى حالهم من جهة ثانية، بعد أن سعوا لدنياهم فنالوها بأتمها من بناء وسيارة وهاتف ومزرعة وكهرباء وزينة وزخرف، ولم يلتفتوا إلى حق المسكين والفقير، ثم ذهب بهم الموت، وأنهم بعد الموت لا يرجعون: {.. ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ،صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (17-18) سورة البقرة.(1/198)
إذن: فهم بعد الموت لا يبصرون،ولا يسمعون،ولا يتكلمون، وإلى الدنيا حتماً لا يرجعون ... هذا كلام الله تعالى، فمن أين أتى هؤلاء المُحضِّرون للأرواح بالأموات؟!.
وهناك من الآيات الكثيرة التي تدل على ذلك أيضاً: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ} (31) سورة يس، {مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} (49-50) سورة يس .
إذن: كل نفس بعد الموت وإلى يوم القيامة ستبقى بلا رجعة،ولا مكالمة مع الأحياء، وادعاء إرجاع الأرواح من قِبَل السحرة المحضِّرين لا أصل له.
حكم القضاءُ بأن الموتى لا ترجعُ، وإلا لرجع الأنبياء والملوك . قال تعالى {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} (34) سورة الأنبياء.
تحضير الأرواح هو تحضير قرين الميت، وهو الذي يتكلم بلسان الميت، فيظن البسطاء أن الميت يتكلم. الشيء المهم الذي يجب أن نذكره في هذا المجال أولاً، وقبل كشف من هو الذي يكلمهم أو يكلمونه بتحضير الأرواح،أننا قد وضحنا من قبل أن الإنسان مكوَّن من نفس وروح وجسد،وشرحنا وأوضحنا ماهية كل منها حسب كتابه تعالى(1)،ولكن لنتبين بعد الموت مصير كل من هذه المكونات:
1- الجسد: مصيره للتراب.
2- الروح: يتوفاها ملك الموت: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} (11) سورة السجدة.
__________
(1) لطفاً انظر كتاب (مصادر مياه الينابيع في العالم وبحث كشوفات سر الختان) للعلاَّمة الكبير محمد أمين شيخو وانظر الصفحة/52/ من كتابنا هذا بحث:(ماهيَّة الإنسان وخلقه، و الجن وماهيَّته).(1/199)
فهي بمجرد انتهاء الحياة وخلوص الأجل يسحبها ملك الموت بإذنه تعالى من الجسم، ويتوقف الإمداد الإ?لهي بهذه الروح،لأن الحياة الدنيوية قد انتهت.
فالروح: هي الإمداد الإ?لهي من أجل أن يبقى الإنسان حياً بهذه الدنيا، كالقوة الكهربائية التي تمدُّ الآلة فتبعث فيها القدرة على العمل والإنتاج،المهم أن الروح
لا تملك المشاعر والإحساس والإدراك،إنما هي الإمداد بحياة الجسم وقوته،فكيف يدَّعون أنهم يحضِّرون روح الميت لتنطق وتتكلم و..،فالروح ليست هي الناطقة، وليست هي الذات الشاعرة المعبرة عن مشاعرها، وإنما هي النفس،إنما الروح هي إمداد إ?لهي بالحياة لهذا الجسد، وبانتهاء الحياة ينسحب هذا الإمداد عن الجسد، الذي يوارى بالتراب بعد انتهاء أجله.
3- النفس: وهي وكما بيّنا،الذات الشاعرة المدركة التي تحس، وتتنعم، وتتألم، وتعبّر عما يجول فيها من الخواطر والأفكار.
فبعد الموت،حيث سحبت الروح بواسطة ملك الموت، وخمد الجسد، وانقطعت حياته،يتوفى الله النفس، فتخرج من الحياة الدنيا إلى حال البر زخ، وبهذا الانتقال تذوق النفس الموت ذوقاً: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ..} (35) سورة الأنبياء.فالنفس لا تموت بمعنى العدم، إذ الموت هو الذي يفصل النفس عن جسدها الذي كانت تقوم بواسطته بعملها، فالموت إذن: انقطاع العمل وتوقفه، لأن كلمة: "مَوت" معناها انقطع، ولكنه لا يعني انعدام النفس ، عدم لا يكون، وهي تخلد إمَّا بالنعيم، أو بسقر في عالم البرزخ،فهي المكلفة، وهي المخاطبة دوماً في القرآن وليست الروح: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ،ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً،فَادْخُلِي فِي عِبَادِي،وَادْخُلِي جَنَّتِي} (27-30) سورة الفجر،النفس هي جوهر الإنسان وحقيقته،أما الجسد والروح فهما واسطة لها في هذه الحياة الدنيا لتنفيذ رغائبها، علوية كانت أم سفلية.(1/200)
الأنفس يتوفاها الله، أما الروح فيتوفاها ملك الموت،وهذا فارق واضح بين النفس والروح،"الله يتوفى الأنفس في نومها"،أي: يقبض تلك الذات الشاعرة،فيفقد الإنسان حواسه،(مشاعره عن جسمه) طالما هو في نومه،أما جسمه فحيٌّ، تنصبُّ عليه الروح فتبعث فيه الحياة، فيخفق القلب، ويصعد الصدر ..،حتى إذا شاء له الله أن يستيقظ بعث له نفسه ثانية{وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ..} (60) سورة الأنعام. وكذلك يتوفاها عند الموت وفاة نهائية، لا تعود بعدها لجسدها إلى يوم القيامة، ومعنى القيامة، أي: يوم قيام الأجساد ثانية:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (42) سورة الزمر.
وهكذا فالنفس بيد الرحمن، بالليل يقلبها حسب المناسب من الأحوال، وكذلك بعد الموت هي بيده تعالى،إما أسيرة القبر بعالم البرزخ، وهي مشغولة بآلامها وعظيم خسارتها،أو أنها بروضة من رياض الجنان، تتنعم بحالها العالي من إقبالها عليه تعالى وحبها له، وذلك تبعاً لما قدمت من الأعمال الصالحة: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ،إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ،فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ } (38-40) سورة المدثر.
وقد تلتقي أنفس الأحياء مع الأموات في المنام،أو قد تكون قرائن (منامات شيطانية)، وهذه بيده تعالى حسب المناسب والخير(1).
إذن تلك دعوة"دعوة الروحية الحديثة" باطلة ولا أساس لها.
__________
(1) وللمنامات الشيطانية والرؤى الصادقة بحث آخر، للمزيد: لطفاً انظر كتاب (عصمة الأنبياء) للعلاَّمة الكبير محمد أمين شيخو قدِّس سره عند قصة سيدنا يوسف عليه السلام وتأويله لرؤيا صاحبيه في السجن.(1/201)
وذُكِرَ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر، أوتي بأربعة وعشرين قتيلاً من صناديد قريش، فقذفوا في طوي من أطواء بدر،ثم قام على شفة الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: « يا فلان يا فلان هل وجدتم ما وعدكم الله حقاً، فإني وجدت ما وعدني الله حقاً، قال عمر: يا رسول الله أتكلم قوماً قد جيفوا؟!. قال: ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا »(1).
ذلك رسول الله يسمعهم بالله:فطالما أنهم لا يستطيعون أن يجيبوا،فكيف يستطيع محضرو الأرواح أن يأخذوا الأجوبة والعلوم من الأموات؟!.. ولكن:كيف يغشُّون ويلعبون بأعصاب الناس، فيدَّعون أنهم يحضِّرون أمامهم أرواح موتاهم،فيسمعون خطاباتهم، أو يرون أشباحهم؟!.
فهذه الدعوة لا شك باطلة، لا يؤيدها النقل ولا العقل.
غاياتهم كسب المال،أو تضليل الخلق فإفساد القلوب وصرفها عن الدين.
وما يدَّعيه هؤلاء من تحضير الأرواح، إنما هي القرناء من الشياطين أعداء البشر التي يعوذون بها.
وككل أنواع السحر، يحضِّرون قرائن موتاهم ليخيِّلوا للحاضرين، وينتحلوا أسماء الموتى المطلوبين،ويؤثِّروا على أعصاب المسحورين، ليخيلوا لهم بحضور روح الميت بزعمهم.. كما قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ،وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ} (112-113) سورة الأنعام. فلو كان هذا الإنسان طاهراً عائذاً بربه لما رأى شيئاً من التخيلات، ولا حدث عليه تأثير نفسي عصبي، فالبعد عن هذه المجالس، وعدم تصديق أي تخييل فيها هو الصواب، وبه النجاة من براثن الشيطان.
__________
(1) مسند الإمام أحمد.(1/202)
شهادات تائبين: ... ولنستمع إلى ما قاله سكرتير جمعية الأهرام الروحية السيد "حسن عبد الوهاب"، الذي أعلن
توبته واستقال من الجمعية، وقام بتوزيع منشور يعبر فيه عن رأيه الذي جناه من تجربته في هذا المجال، ويعلنه للناس عامة،وقد نشرته صحيفة الجمهورية في/23/من رمضان سنة/1379/ هـ،ومنه بعض هذه المقتطفات:
" لقد أزال الله عن قلبي في شهر رمضان غشاوة الضلال،وثبت لي أخيراً ثبوتاً قاطعاً لا شك فيه، أن الشخصيات التي تحضَّر وتزعُم أنها أرواح من سبقونا من الأهل والأحباب،ليست إلا شياطين وقرناء من الجن، يُلبسون على الناس ما يلبسون،والآن وأنا أودِّع هذه الحقبة الشقية من عمري،أجدد إسلامي،وأستعيد إيماني،وأودّع زملاء أعزاء،لا أحمل لهم في قلبي إلاَّ كل عطف وإشفاق ورثاء،ملحّاً على الله في الدعاء أن ينير بصيرتهم،وينقذهم من أوحال هذه العقيدة الفاسدة..".
وتختلف أساليب تحضير هذه النفوس الشريرة من الشياطين بنوعيتها، ولكنها تصبُّ في مجرى واحد من التأثير على الإنسان واللعب في أعصابه، وإيهامه والتخييل له (صوتاً): {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ ..} (64) سورة الإسراء، فقد يعتمدون على التنويم المغناطيسي، حيث يتقارب العملان ويتشابهان كثيراً.
إذن:فدعوة الروحية الحديثة أسلوب آخر من أساليب السحر حديث العهد، بدعوة الإعلام رجماً بالغيب، أو العلاج الروحي.
وفي هذا المجال يتكلم" سكرتير الجمعية الروحية" المستقيل في مصر،يقول:
(أما عن العلاج الروحي الذي تعلن عنه جمعية الأهرام الروحية بين حين وآخر، فهي عملية إيحاء وهمي،وأنا شخصياً أنفقت نصف عمري في هذه العملية،وكنت مريضاً طيلة هذه المدة بأكثر من مرض، لازمني إلى اليوم،وكان من الأوْلى وأنا مؤسس الجمعية، وصاحب أكبر مكتبة روحية،أن أعالج نفسي،أقولها بكل أسف:لم يحدث شيء من هذا)...(1/203)
يقول الدكتور "محمد محمد حسين ": ولقد مارس هذه البدعة ،فبدأ بطريقة الفنجان والمنضدة،فلم يجد فيها ما يبعث على الاقتناع،وانتهى إلى مرحلة الوسيط، وحاول مشاهدة ما يدَّعونه من تجسيد الروح، أو الصوت المباشر، ويرونه دليل دعواهم،فلم ينجح هو ولا غيره،لأنه لا وجود لذلك في حقيقة الأمر،إلا من خيالات وأوهام لا تمت للحقيقة بشيء، وهي ترمي إلى هدم الأديان والسلب والدجل.
ولمّا لم يقتنع بتلك الأفكار الفاسدة وكشَف حقيقتها انسحب منها، وعزم على توضيح الحقيقة للناس. يقول:إن هؤلاء المنحرفين لا يزالون بالناس حتى يستلوا من صدورهم الإيمان، وما استقر في نفوسهم من عقيدة، ويسلموهم إلى خليط مضطرب من الظنون والأوهام , وإنهم إذا فشلوا في تحضير الأرواح قالوا:الوسيط غير ناجح، أو مجهد، أو إن شهود الجلسة غير متوافقين، أو أن بينهم من حضر إلى الاجتماع شاكّاً أو متحدياً .
ومن بين مزاعمهم الباطلة: أنهم زعموا أن جبريل عليه السلام يحضر جلساتهم ويباركها،قبَّحهم الله!.
* ... * ... *
ثالثاً:
ومن ادعاءات السحرة الإخبار بالمغيبات
المندل: ويُعرف هذا النوع من العمل السحري عند أهل التخصص في هذا المجال.(1/204)
فيخبر ضارب المندل عن أمور غيبية " كما يزعم "، وبالحقيقة بما يمليه عليه أولياؤه من الشياطين، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا .. } (112) سورة الأنعام ليغرُّوا بعضهم بعضاً، وهذا الشيء لازم ليخرج ما فيهم من خبث، إذ يصبحون أعداء للحق، وهذه العداوة علاج. ويدَّعون أنهم يعلمون الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، قال تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} (65) سورة النمل: فمن ادَّعى خلاف صريح القرآن الكريم من علم للغيب فهو مفترٍ على الله، إلا أن يكون رسولاً أو أخذ عن الرسل، حيث قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا،إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ..} (26-27) سورة الجن.
فهل ضاربو المندل هم رسل الله؟!. خرافات. أم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب بالمندل؟!. بل إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولها حقيقةً:
{قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (188) سورة الأعراف، وإليك بعض ما يتلوه السحرة الكهَّان:
معلم المندل وما يتلوه من سحر الكهَّان وبرنوخ الساحر السوداني والعفاريت قاطبةً
( عبد الفتاح السيد عبده الطوخي)
مروّج كتب السحر الباطلة
مقدِّمة: ماكرة للتغرير.
عبد الفتاح السيد عبده الطوخي ... باب مندل القسم الجامع(1/205)
الذي يسمى بضرب المندل ولبس الكف يخبرك عن جميع ما تريد وها هو ذا. تقول:أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: أقسمت عليك يا أبا القاسم المذهب وأبو مره الحارث وأبو محرز الأحمر والملك برقان والملك شمهورش والملك أبي النور الأبيض والملك ميمون أبى نوخ،
اعلموا أن الحول والقوة والكبرياء والعظمة لله رب
حقٌّ أريد به باطل: ... العالمين رب النور والبهاء، ثم الله باسط الأرض، ورافع السماء، ثم الله القاهر لكل ما خلق، المدبر
لكل ما أراد وسبق دهر الدهور، وخالق الظلمات والنور، العلي الأعلى خالق الأرض والسماء الذي أذل كل جبار وأقهره، وأقمعت كما تشاء، لا إله إلا هو العزيز الحكيم الرب العظيم الأول القديم منور النور، مدبر الأمور، قاصم الجبابرة، لابس المهابة، الذي خلق الأشياء بقدرته، وأحكم على كل شيء على ما تشاء في أزليته، وخلق السموات بلا عمد، واستمسكت بقدرته وقوته وجلاله، ودحى الأرض ومدها بإرادته، ويسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته.
انكشف الخداع: ... أقسمت عليكم يا شيوش أشيوش أهدوش 2 طاووش هرش مرش أبيوت سطيت ليشاش 3
برشول شهروان يايوه برمت نيل كيفرات كمكناه قمولشين صعصعا علا فتعالى نوره، وتدكدكت الجبال لنور اسمه، فاسمعوا وأطيعوا، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.
إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون . ...
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ، تم وكمل والله أعلم بالصواب وإليه المرجع.
* * *
باب في دعوة الملك يوناس الحكيم
...
إذا أردت أن يكون لك خديم القضاء الحاجة، وتسأله عما تريد بأفصح لسان، ويظهر لمن يستخدمه بالبيان، وطوله ثلاثة أشبار، أي ذراع، وملبوسه مثل عساكر الأفرنج، وتسمع كلامه كأنه من وراء الحائط، جميل في الحسن كأنه سن سبع سنين، وصحبته في غاية الصداقة، وهو لبيب حاذق، لا يفتر عن صاحبه بعد المعاهدة منه، ولا يفترق عنه قط ما دام على الشرط الذي يشترط عليه.(1/206)
فإذا أردت حضوره خذ طشتاً من النحاس مبيض، واملأه ماء صافي، ثم قصّ صفة شخص من ورق أحمر، وتكتب على رأسه:
هذا هو السحر: ... مهرقوش 2، وعلى صدره طقطقوش2، وعلى يده اليمين طاوش 2، وعلى يده
اليسار قارش 2، وعلى بطنه هارش 2، وعلى فخذه اليمين عيجلوش 2، وعلى فخذه الأيسر كرووش 2، ثم تأخذ السبيه من عيدان الرمان الحامض، وعلق الشخص المذكور من رجله منكساً، وعِّزم عليه بالعزيمة والبخور عمال، وهو من محلب وجاوي ولبان ذكر وسندروس وعود قاقلي. فعند تمام العدد 21 مرة من القراءة إلا وقد طلع الملك يوناس الحكيم من قلب الطشت على وجه الماء(1)بالصفة المتقدمة، فيخاطبه ويخاطب بكل ما تسأله عنه، وبعدها تصرفه بالإصراف الآتي ذكره، وهذه العزيمة تقول:( أقسمت وعزمت عليكم يا معاشر الأرواح الروحانية بعز عز الله وبنور وجه الله، وبما جرى به القلم من عند الله إلى خير ما خلق الله محمد بن عبد الله إلا ما أجبتم دعوتي، وأسرعتم وظهرتم لي بحق أسماء الله العظام وآياته الكرام، وبحق الأنوار المضيئة والأسماء البهيَّة والشعاعات العرشية والكلمات الربانية والتسابيح اليونانية والعزايم العبرانية والأقسام الملكوتية، وبالأسماء المكتوبة على قلب الشمس، وبالأسماء المكتوبة على قلب القمر، وبحق من قال للسموات والأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين.
__________
(1) عجباً لقاضي الحاجات الملك الحكيم ذو الطول/3/ أشبار الذي يسكن طشت ماء ماذا سيعطي أتباعه غير الوهم؟!.(1/207)
عجِّلوا يا معاشر الأرواح الروحانية بالظهور 2 بأهياش 2 يا هوش 2 رهاطيل 2 شعيائيل 2 صهيائيل 2 عسقيائيل 2 صمصيائيل 2 عزقيائيل 2 طوطيائيل 2 حنقيائيل 2 سمسمائيل 2 طسمائيل 2 أجيبوا أعواني وأفعلوا ما تؤمرون به بحق شبغاب 2 شيغاب 2 هلهيوه 2 أ ه 2 مرهه 2 مريها 2 مراه 2 سراه 2 مصنهيا 2 أسرعوا بحق شليطاه أمرموش شقشفيق شقاشوق، وبحق مشطنة أم موسى بطميس مهيالموش شقشاقش، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أجيبوا دعوتي وأقضوا حاجتي بحق هذه الأسماء دمليخ 2 دميليخ 2 دملاخ 2 براخ 2، قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون.
أجيبوا وتوكلوا بإحضار الملك يوناس الحكيم بحق هذه الأسماء هيهان 2 هيموت 2 أشاث 2 هو الكبير المتعال أجب يا رقيائيل ويا جبرائيل ويا سمسمائيل ويا ميكائيل ويا صرفيائيل ويا عنيائيل ويا كسفيائيل(1).
* ... * ... *
وحاشا لرسول الله من هذه الترّهات لعالم الشياطين والإدعاءات الغرَّارة الكاذبة، وهاك قصة جرت أحداثها مع العلاَّمة (محمد أمين شيخو) " قدس سره "، تبيِّن لنا زيف المندل.
((قصة المندل الذي يكشف اللصوص ))
كان العلاَّمة الكبير السيد محمد أمين ممدَّداً على فراشه يئن أنّاتٍ خافتة... وبين الحين والآخر يشهق شهيقاً عميقاً...
ثم يسكن تنفسه لفترة من الزمن... لقد كست وجهه ولوَّنته حمرةٌ قانئة شديدة , وسالت من جبينه قطرات من العرق بلَّلت وسادته، إنه مصاب بالحمى لدرجةٍ وصلت به إلى مرحلة لم يعد يعي ما حوله،كان غائباً عن وجوده...
__________
(1) تلك الطلاسم الشيطانية وزخرف القول ليتوهم المرء ويتمكن منه ذلك الوهم والشرك بالله بقاضي الحاجات (يانوس) و: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } سورة النحل:الآية (100).(1/208)
كانت الغرفة التي رقد فيها متوسطة المساحة، استقرَّ في جانبها الأيمن سريره، أمَّا من الجانب الآخر فاستقرت خزانة متوسطة الحجم... وفي أحد زوايا الغرفة استندت سجادةٌ من النوع العجمي "التبريزي" فخمةٌ ثمينةٌ للغاية، إنها ما تزال بلفَّتِها، فلقد اشتراها السيد محمد أمين شيخو منذ أيامٍ قليلةٍ مضت، قبل أن يسقط طريح الفراش بهذه الحمى الشديدة التي أصابته.
كان قد مضى يومان.. ثلاثة.. عندما صحى السيد الفاضل لما حوله بعد أن انخفضت درجة حرارته، وعادت حمرة وجهه طبيعية... وبدأ يتناول الطعام اليسير إلى حدٍّ ما، لقد بَرُؤَ من الحمى، ولكن ما تزال آثار هذه الوعكة الصحية بادية عليه...مضى يومٌ آخر ومستوى التحسن كان قد ارتفع، وأمكن للسيد محمد أمين أن يجلس ويمشي، بل أخذ يمارس حياته الاعتيادية.
بعد أيامٍ قليلة وبينما هو جالس على سريره يتناول طعام الفطور الخفيف... لفت انتباهه عدم وجود السجادة الجديدة في زاوية الغرفة التي كانت هناك قبل مرضه، ولكن أين هي يا ترى؟. تُراها زوجته الطاهرة أنزلتها وفرشتها بأرض إحدى الغرف، وإلاَّ فأين ذهبت؟.
بعد أن انتهى من إفطاره نهض واقفاً، ثم حمل مائدته الصغيرة ونزل إلى المطبخ... كانت زوجته ماتزال تُعنى بنظافة المطبخ.. ناولها المائدة الصغيرة ثم سألها قائلاً:
"أم فتحي" أين وضعت السجادة الجديدة ؟.
ردَّت بدهشة: أَوَ ليست في زاوية غرفتك ؟!.
قال باستغراب: لا... إنها غير موجودة في الغرفة.
قالت: آخر ما أعلمه عنها أنها عندك في الغرفة.
قال: هذا صحيح إني أتذكر أنها كانت في الغرفة وذلك قبل مرضي، ولكني الآن لم أجدها، تُرى أين هي ؟!.
وأخذ هو وزوجته يفتشان عن السجادة في كل أنحاء المنزل... ولكن دون جدوى.
إذاً فالسجادة قد سُرِقت.. ولكن كيف ؟!.
ومن هذا الذي ذهبت به جرأته ليَسرِقَ سجادة مدير القلعة والسجن من وسط غرفته؟!.(1/209)
لبس ضابطنا السيد محمد أمين بزَّته وهو مشغول البال، ثم خرج مسرعاً إلى مقر عمله في قلعة دمشق.. وهناك عاد إلى جداول كان قد نظمها بأسماء المجرمين وأصحاب الأسبقيات , وأحضر كل من شكَّ به وحقق مع الجميع، ولكن لم تُسفِر التحقيقات عن أيِّ نتيجة توخاها، كان ضابطنا السيد محمد أمين يزداد انشغالاً واهتماماً بهذه القضية... فهو لم تعد لِتَهُمّهُ السجادة بحد ذاتها , إنما أصبح موضع اهتمامه أن كيف استطاع اللص دخول منزله وسرقة السجادة دون أن يشعر به أحد؟!. لقد أتعبته هذه القضية، ولكن دون وصولٍ لنتيجة تُرجى...
* ... * ... *
وذات يومٍ ذكر له أحدهم أنه باستطاعته أن يكشف اللصَّ باستخدام " المندل "... ردَّ ضابطنا السيد محمد أمين وكيف ذلك ؟!. (ولم يكن بعدُ قد فتح الله عليه بهذه الدلالة العليَّة والفيوضات القرآنية الكريمة).
قال الرجل: يا سيادة الضابط ما عليك إلاَّ أن تذهب لصاحب " المندل "، وهو عن طريق تسخير المندل لهذا الأمر يكشف السارق، وحتى كيف استطاع أن ينفذ السرقة.
فبدا الاهتمام جليّاً على محيّاه الطاهر، وطلب ضابطنا السيد محمد أمين من هذا الشخص أن يدله على صاحب المندل، وذهبا سوياً إليه , وهنالك دخل السيد محمد أمين وقصّ لصاحب المندل القصة... وأخبره صاحب المندل بألاَّ يهتم فمشكلته محلولة , ثمّ نادى ولداً يلعب في أرض الدار فحضر إليه... قال له "صاحب المندل": هيا اجلس على المندل .
جلس الولد مكبّاً وجهه على وعاءٍ مملوءٍ بالماء، ينظر إلى الماء، ثم عمد صاحب المندل إلى قطعةٍ من القماش فغطى بها جسمه ورأسه الصغير والوعاء، وجلس بجانبه يتمتم بكلمات غير مفهومة مبهمة:هَري... بَري... اظهري... جاي... ماي... أقسمت عليكم يا شيوش أشيوش أهدوش طاووش هرش...
كان قد مضى من الوقت دقائق عندما انقطع الرجل عن تمتمته، ثُمَّ سأل الولد:
ماذا ترى الآن ؟.(1/210)
أجاب: إني أرى سوق الحميدية(1).. وبدأ الولد يقصُّ واصفاً رؤياه... وها قد اجتزت من جانب مدخل سوق الحميدية إلى سوق آخر مغطَّى بسقف مثل سوق الحميدية (اسمه سوق الطويل ثم سوق الصوف)، وإني أرى الآن.. ها قد وصلت إلى زقاق يؤدي إلى مقام...
وهاهو المقام " واسمه مقام السيدة جابية".
ثم هذا زقاق يبدأ من السوق( سوق الصوف) ممتدّاً... وعلى يمين الداخل عدد من المنازل ذات أبواب خشبية، أحد هذه الأبواب (السادس) هو باب خوخة(2).
وتابع الولد واصفاً رؤياه على صفحة الماء، إن هذا الباب يُغْلَقُ على دارٍ عربية واسعة الفناء , بأرض هذه الدار بئر معطَّلة قديمة يقع إلى شمال الباب , يليه بالجهة المقابلة دَرَجٌ قديم يصعد إلى غرفة كبيرة علوية، وضمن هذه الغرفة صندوق خشبي كبير مرصَّعٌ ومزيَّن بأصدافٍ بيضاء..
وها هي... ها هي سجادةٌ ملفوفةٌ جديدة , تبرق بمظهرها بريقاً يدل على جدَّتِها.
قال صاحب المندل: وماذا ترى بعدُ ياولد... هل ترى شيئاً آخر ؟.
قال الولد: لا.. الآن لا أرى إلاَّ السجادة التي في وسط الصندوق... الآن لا أرى شيئاً.
لما استقرت رؤيا الولد على السجادة... رفع صاحب المندل الغطاء عن رأس الولد...
عندها قال ضابطنا السيد محمد أمين بسرورٍ ودهشة: إذاً هي سجادتي المسروقة ضمن هذا الصندوق...قال صاحب المندل: نعم... نعم... إنها هي.
هناك نهض السيد محمد أمين متفائلاً بما سمع، وهَمَسَ لصاحب المندل: هيا... هاتِ الولد والمندل وامشِ معي لنذهب إلى الموقع المحدَّد.
__________
(1) سوق الحميدية: سوق تجاري بمدينة دمشق وهو السوق التجاري الرئيسي بالمدينة.
(2) باب خوخة: كلمة خوخة تطلق قديماً على الباب الكبير المعدّ للحيوانات الكبيرة كالجمال والأبقار والذي يتوسطه بابٌ صغيرٌ لدخول الأشخاص .(1/211)
نهض الجميع واتجهوا.. مشوا بنفس المخطط السابق لرؤيا الولد بالمندل من منطقة لأخرى، من زقاق لآخر حتى وصلوا الزقاق المقصود.. وهناك بدت الأبواب، وكان الباب (السادس) هو باب خوخة...
إذاً فكل ما رآه الولد صحيح، وهذا المندل لا يكذب، أَرسَلَ في طلب مختار الحي، وأمره أن يفتش المنزل وحصراً الصندوق في داخل الغرفة العلوية.
بتلك الأثناء كان مختار الحي له الكبير من الصلاحيات الحبِّية مع أهل الحي، وعموماً معظم أهالي الحي يحبونه، فهو كالأب الرحيم بأبناء الحي كافة.
حضر المختار عند الضابط الكبير السيد محمد أمين، واتجهوا جميعاً إلى المنزل.. وهناك أمام باب المنزل وقف الجَمْعُ المؤلَّفُ من الضابط واثنين من عناصر الأمن والمختار وصاحب المندل والولد... طرق المختار باب الدار "باب خوخة"، وكان يقف إلى يمين الباب مجاوراً ضابطنا السيد محمد أمين.
ردَّت امرأة من خلف الباب بعد أن فتحته قليلاً، وهي واقفةٌ خلفه وإلى اليمين قليلاً كي لا يراها أحد "زمن ستر": من الطارق؟.
فأجابها: أنا المختار "أبو فلان"... ياابنتي نريد أن ندخل فخذوا لنا طريقاً.
بتلك الأثناء وقع نظر ضابطنا من خلال شقِّ الباب الخلفي على البئر الواقعة إلى شمال الباب، ولما رأى البئر تأكد أنه نفس المنزل الذي رآه الولد في المندل , بادر السيد محمد أمين "خوفاً من أن تُغلِق المرأة الباب ولا تفتحه إن علمت بقدوم ضابط وعنصريْ أمن لتفتيش المنزل" إلى وضع قدمه بين أسفل الباب المفتوح قليلاً وعتبته، بينما تابع المختار حديثه مع المرأة، فاستترت المرأة في إحدى الغرف مع باقي نساء البيت، هناك انتظر المختار لحظات ثم دخل هو ومن معه...
كان الضابط السيد محمد أمين يزداد لهفةً ليرى بقية التفاصيل التي رآها الولد في المندل، فما أن دلف الباب حتى أسرع باتجاه البئر، ونظر إلى الأمام فرأى الدرج الخشبي القديم... إنه دَرَجٌ بنفس الموقع الموصوف، قديمٌ بنفس الصفات التي وصفها المندل.(1/212)
تتبعه المختار وبقية الجمع مسرعين، لا يدرون ما دافع هذه السرعة إلاَّ مماشاة مع مايريده ضابطنا السيد محمد أمين، أما ضابطنا فكان يزداد يقيناً بصدق المندل وكشفه العظيم كلما رأى على الواقع تفاصيل ما وصفه المندل... دخلوا الغرفة فوجدوا فيها صندوق الصدف مغلقاً.
ذهب المختار إلى المكان الذي فيه نساء البيت، ثم نادى من وراء الباب: نريد أن نفتح صندوق الصدف، فهل من مانع أو أشياء يجب أن لا نراها؟.
قالت المرأة: لا.. لا فالصندوق على حسابكم، فما فيه إلاَّ بعض الألبسة الشتوية، ثم شقَّت باب غرفَتِهِنَّ قليلاً ورمت من داخله بمفتاحٍ كبير قائلة: هاك مفتاحه.
مشى المختار خطواتٍ قليلة إلى الأمام، ثم انحنى إلى الأرض فالتقط المفتاح، وعاد إلى الغرفة ليفتح الصندوق، ولما رفع غطاءه صُعق صاحب المندل.
للأسف فقد أسفر الصندوق على بعض الألبسة وليس هناك ثمة سجادة، فلقد خابت رؤيا الولد في المندل!.. لم يكن السيد محمد أمين يتوقَّع ما رآه الآن بعد ما توافقت كلُّ صفات الوقائع السابقة مع ما شاهده الولد تماماً... فكيف حدث هذا الآن والسجادة غير موجودة؟!.
هناك التفت إلى صاحب المندل قائلاً: هيا... هيا بسرعة استخدم مندلك واعرف لي أين السجادة...
أسرع صاحب المندل ونفذ الأمر، فكبَّ الولد على المندل، وبدأ بقراءاته السحرية، ثم سأل الولد:والآن ماذا ترى؟.
قال الولد: إنني أرى سوق الحميدية...
أردف صاحب المندل: وماذا بعدُ، تابع الولد واصفاً رؤياه: إنني أرى متجراً كبيراً ضخماً مليئاً بشتى أنواع السجاد الجديد... لقد ملأ السجاد كافة أنحاء المحل صفّاً صفّاً بجانب بعضه البعض على طول الجدران.
قال صاحب المندل: وهل ترى شيئاً غيره ؟.
ردَّ: لا... إنه متجر السجاد وهناك بالأعلى طابق علوي مملوء سجَّاداً.(1/213)
لما سمع ذلك الضابط محمد أمين أبحر على متن أفكاره يستقصي بعض النتائج، ثم استقرت به أفكاره على نتيجةٍ قائلاً للمختار: وهل صاحب هذا المنزل تاجر سجاد؟.
قال المختار: والله ياسيدي لست أذكر... ولكن انتظر قليلاً.
نزل المختار مسرعاً إلى النسوة، ونادى من أمام الباب المغلق: وماذا يعمل رب هذا المنزل؟.. أَهُوَ تاجر سجاد؟.
قالت إحداهن: نعم... إنه كذلك ومتجره بسوق الحميدية.
عاد المختار يحمل تصديق ظنِّ الضابط محمد أمين... لقد أدرك ضابطنا حقيقة الأمر بتفاصيله...أدرك تماماً سرَّ تاجر السجاد هذا، إنه يبيع السجاد ويرسل من يتتبَّع المشتري ليعرف منزله تماماً، وفي نفس الليلة أو متى سنحت الفرصة يقوم رجال التاجر اللصوص بسرقتها وإعادتها للمحل.
نظر المختار إلى السيد الضابط الذي غرق بأفكاره، ولَونُ الجديَّة يصبغ شكله وأقواله، ثم قال: وماذا ستعمل الآن يا سيدي؟.
التفت الضابط ببطء إلى المختار بعد أن قَطَعَ سلسلة أفكاره وقال بصوتٍ ممدود: الآن... الآن...
ثم انطلق مسرعاً آمراً عنصريه وبقية الجمع: هيا هيا اتبعوني بسرعة... نزل الدرج مستعجلاً ومن خلفه العنصرين يركضان ثم المختار.. ثم صاحب المندل يحمل مندله بعد أن فرَّغ الوعاء من الماء، وبعد أن أخذ اسم التاجر.
مشى السيد محمد أمين من زقاق إلى آخر حتى دخل سوق الحميدية، فقصد أكبر متجر للسجاد بعد سؤاله عن صاحبه،والذي تذكَّر أنه منه اشترى السجادة، ولما وصل كان المتجر تماماً كما وصفه الولد، إذاً إنه متجر صاحب المنزل.
وها هو صاحب المنزل والمتجر يجلس على كرسيِّه خلف طاولة كبيرة.. يحتسي فنجاناً من الشاي الأخضر، ولما رأى الضابط محمد أمين ومن ورائه الآخَرِين نهض مسرعاً، واتجه إلى السيد محمد أمين، فبادره ضابطنا قائلاً بانزعاج:
أهكذا تعمل؟. أهذا يجوز؟. تبيع سجادك للمشتري، ثم تبعث من يسرقه من منزله!.(1/214)
أهذه التجارة الحلال؟!. أيُّ تجارة هذه التجارة أيها الرجل؟. لماذا سرقت سجادتي بعد أن بعتني إياها ؟.
تلعثم التاجر واعترته صفرةٌ كصفرة الموت، ثم قال باضطرابٍ وصعوبة: أنا.. لا..
لا يا سيدي فأنا لم أسرق شيئاً.. أنا لا أسرق.
ردّ ضابطنا بقوةٍ: بل سرقت... سرقتها... سجادتي، وهذا المندل يشهد، هل تكذِّب المندل؟!. لم يكن بوسع التاجر إلاَّ أن يُقسم بالله نافياً عنه هذا الفعل الشنيع...
ولكنّ السيد محمد أمين كان متأكداً بأنّ هذا التاجر لصٌّ كبير،لأنّ المندل أكّد ذلك، فهل رؤية الولد وكشفه السرقة عبث؟. هل يكذِّب ما رآه الولد الصغير البريء بأمِّ عينه؟!.
إنّ هذا التاجر حتماً هو السارق، وإلاَّ أنَّى للولد أن يراه ويكشفه هو لا سواه؟.
صرخ ضابطنا بعنصريْه: هيا ألقياه أرضاً، ثم مدَّ يده على سوطه فحمله متأهباً ليضرب كبير التجار، ويؤدبه على أعماله اللصوصية اللاأخلاقية هذه .
خلال لحظات كان التاجر الكبير ملقى على الأرض مرفوع الرجلين.
بتلك الأثناء وقبل أن يمتد السوط ليصل إلى قدميْه دخل فوجٌ من التجار، كانوا قد سمعوا بقدوم رجال الأمن، وسمعوا أصواتاً وضجيجاً، فقدموا مسرعين ليروا ما هناك , ولمَّا رأوا كبيرهم ملقى على الأرض اعترتهم دهشة بالغة، ونطقوا بفمٍ واحد: ما الأمر... ما الأمر يا سيدنا ؟!.
هناك نزلت يد السيد الضابط بعد أن ارتفعت حاملةً السوط، عادت دون أن يضرب التاجر، والتفت إليهم مبيِّناً ذاك اللص قائلاً: إنه سارق، لقد باعني سجادة، وما هي إلاَّ أيامٌ قليلة حتى عاد وسرقها من بيتي.. ياللوقاحة!.
قال التجار: والآن ياسيدي ماتريد؟. ألا تريد سجادة عوضاً عنها... خذ أية سجادة تريد وأخل سبيل التاجر.. عندها تركه العنصران، فنهض التاجر ينفض الغبار عن ملابسه.
لم يكن يتوقَّع مثل هذا المصير أبداً، فلقد استطاع المندل كشفه وأحاط الضابطَ خبراً.(1/215)
أعطاه التاجر سجادة مثل سجادته المفقودة ولربما هي، فأمر العنصرين بحملها.. حملها العنصران ثم خرج من المتجر ومن ورائه صاحب المندل.
كان ضابطنا السيد محمد أمين يتمنَّى أن يُحصِّل حقوق كل الناس من هذا التاجر السارق، ويكتب ضبطاً في هذه الواقعة، ولكن الحكومة لا تقبل بالمندل كشاهد عيان، ولذا فما بيده حيلة إلاَّ أن يحصِّل حقَّه، وها قد حصَّله، ولم تعد نفس التاجر تتجرأ على أن تسوِّل له دخول منزل السيد محمد أمين.
خارج المتجر ارتسم بالغ السرور على وجه ضابطنا...
كان مسروراً بما حقَّق المندل من نتائج مستحيلة التحقيق بدونه، حتى أنه طلب من صاحبه أن يُعلِّمه كيف يستخدمه في كشف المجرمين واللصوص، وكان ردُّ صاحب المندل: لك ما تريد يا سيدي، وتابعا السير جنباً إلى جنب، خلال ذلك كان صاحب المندل يعلِّم السيد محمد أمين أصول استخدام المندل. ثم أعطاه المندل وقال: هو لك وأنا آتي بغيره. ودَّعه السيد محمد أمين وافترقا بعد أن منحه أجراً وافراً. ثم تابع ضابطنا مسيره إلى منزله ومن خلفه عنصران يحملان السجادة...
* ... * ... *
مَرَّت الأيام والشهور ثم السنة والسنتان، وذات يوم طلب أحد السجناء المجرمين مقابلة مدير سجن القلعة السيد محمد أمين، فأخبره قائلاً بصوته الأجش:
سيدي... سيدي... أريد أن أخبرك بقصةٍ جرت منذ سنتين... إنَّ فلاناً المجرم... سرق سجادة من منزلك منذ سنتين... نزل على بيتك وسرقها...
دُهِش السيد محمد أمين مما يسمع، وقال باهتمام بالغ: أَوَ أَنت متأكد مما تقول؟!.
قال: والله يا سيدي لا أقول إلا الحق، وعلامة ذلك أنَّك كنت مريضاً غائباً عن وعيك من شدَّة الحمى.
ذاك المجرم الكبير كان صديقاً لهذا المجرم المخبر بالقصة، وأسرَّ له سرَّه , ولما نشأ بينهما خلافٌ حادٌّ جاء الأخير يخبر عنه لمدير السجن السيد محمد أمين.(1/216)
لقد أدهش ذلك الخبر السيد محمد أمين، وفاجأه مفاجأة كبيرة، فهل كان المندل كاذباً؟!. ولكن كيف ذلك؟!. كيف رأى الولد كل ما رآه؟. وتطابق كل هذا مع الواقع، والآن تخرج النتيجة خاطئة... هل يعقل؟!. لكن هذا ما حدث.
أحضر السيد محمد أمين المجرم المتهم بالسرقة وحقَّق معه: أنت منذ سنتين سرقت سجادة من بيتي.
ردَّ المجرم بذهول: "فكيف استطاع معرفته بعد طول هذه المدة؟ .. " لا يا سيدي هذا لم يحدث.
قال الضابط السيد محمد أمين: اعترف... فأنت السارق... وعندي شهود على ذلك،وعندما لم يعترف أمر ضابطنا السيد محمد أمين بإلقائه أرضاً، ثم انصبَّ عليه بخمسين جلدة من سوطه مهدِّداً إيّاه بأن هذا نصيبه اليومي فطوراً وغداءً وعشاءً، وأنه سيسجنه في سجن السجن "السيلول" تحت الأرض حتى يعترف بالحقيقة، عندها صرخ متوسِّلاً بأنه سيعترف بالحقيقة.
عفَّ عنه الضابط وتركه العناصر، فنهض وجلس مكسور الشوكة، ثم تكلَّم بهدوء: صحيح ذلك يا سيدي، فمنذ سنتين مضتا سرقت سجادة من بيتك.
سأله السيد محمد أمين: وكيف تمَّ ذلك؟.
تابع قائلاً: بينما كنت في منزلي داهمتني دورية مؤلفة من عدد من العناصر "الدرك"، وبسرعة قفزت على السطح، ثم ركضت من سطح لآخر هرباً من دوريتك يا سيدي، هكذا حتى وصلت لسطح قربه شجرة ليمون امتدت مرتفعة حتى طالته، فَنَزَلْتُ على هذه الشجرة أكتوي بآلام أشواكها إلى أن صرت قبالة نافذة مفتوحة، نظرت منها للداخل فرأيت شخصاً نائماً، ولذا قفزت من الشجرة إلى النافذة، وتسللت بهدوء منها لداخل الغرفة ومايزال النائم نائماً , فبادرت بالمشي على رؤوس أصابعي... وإذ به أنت يا سيدي، فخفق قلبي في بداية الأمر خوفاً، لكنني تمالكت نفسي لما رأيت وجهك بلونٍ أحمر قانئاً... لقد كنت تعاني من حمَّى غيَّبتك عن وجودك... إذاً الدورية التي كانت تلاحقني كانت بدونك.(1/217)
نظرت إلى وسادتك فلمحت تحت طرفها قبضةً لمسدسٍ، وبسرعة مددت يدي إليه وانتشلته، ثمّ لقّمته وسددته على رأسك وأطلقت فلم يطلق!.
حاولت ثانيةً وثالثةً الإطلاق ولكن دون جدوى ( لقد تعطلت حركة سير الإطلاق فيه)... نظرت في الغرفة فرأيت سجادة جديدة ملفوفة، فحملتها وخرجت، وما أن وصلت الشارع حتى صرخت سجاد.. سجاد.. "إنني بائع سجاد"، ولما ابتعدت عن منزلك وبلغت الحقول أخرجت المسدس وأطلقت، ومن أول محاولة خرج المقذوف، لقد تم الإطلاق !!.
لقد أطلق المسدس مباشرة، غريب ذلك يا سيدي، لم أدرِ لِمَ لَمْ يطلق عندما حاولت الإطلاق عليك ؟!. وفي الخارج ومن أول محاولة أطلق!.
(كان منزل السيد محمد أمين عربي البناء بدورين: علوي وأرضي، في منطقة المهاجرين الجبلية, وبما أنها جبلية مائلة كان الدور العلوي ينفتح مباشرة على الشارع بباب الدار الرئيسي, أما الطابق الأرضي فهو أدنى من الشارع، ولذا يؤدي إليه درج نازل من بعد الباب الرئيسي، فاللص نزل على غرفة الضابط محمد أمين العلوية، ولما خَرجَ، خَرج مباشرة من الغرفة إلى باب الدار، دون أن يشعر بتسلُّله أحدٌ في المنزل).
الآن... الآن لقد تذكَّر السيد محمد أمين سرّاً، وهو اختفاء المسدس، لكنه لم يكن يتوقَّع أنه اختفى بنفس الوقت الذي اختفت فيه السجادة، بل وبما أن مستودع الأسلحة والذخيرة تحت مسؤوليته فهو يختار ما يريد لنفسه من قطع السلاح، ولذا لمَّا فقد المسدس ظنَّ أنه أخذه للتبديل ونسيه في القلعة، نسي أن يأخذ البديل لا أكثر، ولكن الآن ظهر له أين فُقد مسدسه.
قال السيد محمد أمين: وأين السجادة الآن؟.
ردَّ المجرم: عند أختي في قرية "دوما".
هناك أخذه ضابطنا وانطلقوا إلى أخته، ووجدوا السجادة ملفوفة لم تُفردْ بعد... لم تتجرَّأ على فرشها خوفاً من أن يغضب عليها ذات يومٍ فيطلب السجادة، وعندما يجدها ممدودة متسخة يضرب أخته، ولذا لم تفرشها، بل تركتها لحين الطلب.(1/218)
حمل العناصر السجادة، وعادوا بها لمنزل السيد محمد أمين، وأحيل المجرم لمحاكمة ثانية وهو في سجن القلعة بعد أن سلَّم المسدس لصاحبه أيضاً، ريثما يتم الحكم عليه. لقد (كَذَبَ المندل وصاحبه)... فمن صدَّق منجِّماً فقد كذَّب الأنبياء.
عاد ضابطنا الكبير السيد محمد أمين مباشرة باهتمامٍ عظيم، فدعا بعض كبار تجار "سوق الحميدية" إلى طعام الغداء، ومن جملتهم تاجر السجاد الكبير، وأكَّد على بقية التجار المدعوين بإحضار تاجر السجاد الكبير إلى حفلة الغداء.
حان وقت الغداء، فحضر التجار ومعهم كبير تجار السجاد... رحَّب بهم أشد الترحاب وأجلسهم... ثم ومن مبدأ العدالة القائمة عليه نفسه الشريفة جلس على الأرض ورفع قدميه على الكرسي ولف رجليه بالفلقة، ورمى بالسوط لتاجر السجاد وقال:هيا قم واضربني، فأنت رجل بريء... وأنا اتهمتك ظلماً... فلقد ظهرت براءتك، وظهر كذب المندل وصاحبه المنجِّم.
ذُهل الحاضرون مما يرونه، فالضابط الكبير محمد أمين قائد قلعة دمشق وسجنها يستلقي أرضاً ويرفع قدميه ليضربه التاجر!. ذُهل التاجر ورفض ضربه، فأجابه: إن لم تضربني فسأضربك أنا، هيا وكما أقول لك اضربني.
هناك تدخَّل التجَّار وقالوا: ولكن يا سيدنا نحن نذكر تماماً أنك ألقيته أرضاً هكذا مثل وضعك الآن ولكنك لم تضربه... وهاقد استلقيت أنت أرضاً، فَلِمَ يضربك ؟!.
قال تاجر السجَّاد: هذا صحيح ياسيدي فأنت لم تضربني، وأنا لن أضربك.
هنالك نهض السيد محمد أمين، واعتذر مجدَّداً من تاجر السجاد، وأعلن براءته أمام جميع الحضور... أكل الجميع طعام الغداء بهناء وسرور، وخرجوا بعد أن أعطاه ثمن السجادة التي أخذها من المحل منذ سنتين، محفوفين بالبشر والإكرام، وانطلقوا جميعاً فرحين مسرورين راضين بما فيهم تاجر السجاد الكبير.(1/219)
لقد أدرك السيد محمد أمين من بعد ذلك الحادث أن كل ما يَعتمد على الشعوذة والسحر إن هو إلاَّ محض خيال وخداع بصر كاذب , وأنه دجل لا أساس له من الحقيقة والصحة , بل هو من وحي الشيطان الرجيم عدو الإنسان , ومستحيل أن يصدر من أولئك المشعوذين وإخوانهم الشياطين إلاَّ الضرر والشرور، إلاَّ التفرقة والبغضاء، يلقونها بين الناس باتهام الأبرياء، دجَلاً وظلماً وعدواناً.
* * *
طاقية الإخفاء الرهيبة
حدَّثنا ناشر كتب العلاَّمة الكبير بفكاهة عجيبة جرت له، انتهت بالشفاء من خطر السحر الأسود، قال:
حين بلغت الثامنة من عمري كانت لدي رغبة ملحَّة بالقراءة والمطالعة... حتى أنني قرأت كتب والدي (موسوعة الحديث الشريف)، حيث كان محدِّث دمشق الأكبر، وزادت بي الرغبة بعد أن قرأت القرآن الكريم أربع عشرة مرة بذلك العام نفسه، وتطلَّعت لقراءة أي كتاب.
حدثت معي تلك الحادثة المثيرة للضحك، حيث وجدت كتاباً سحرياً فيه كشف السر عن كيفية صناعة طاقية الإخفاء، التي ما أن يضعها المرء على رأسه حتى يختفي عن الأعين ويرى ولا يُرى... وتلك لا ريب رغبة كل متشوق للمغامرة يتوق للمواقف المثيرة المضحكة.
قررت صناعتها والتحضير لها كما وردت التعليمات بحذافيرها والمستلزمات بمثاقيلها في كتاب سحر.
لقد دار بخلدي كم هو جميل أن أدخل بين رفاقي وهم يلعبون مختفياً عن أنظارهم، أضربهم ممازحاً بلسعات خفيفة على رقبتهم من الخلف... وسوف يظن كل واحد منهم أن من يليه ضربه، وسوف تكون معركة من الاتهامات والإنكارات وأنا أنظر إليهم من حيث لا يروني، وعندها أنزع الطاقية الرهيبة لأظهر بينهم، وأُظهر لهم حقيقة تلك الضربات واللعبة التي قمت بها... بل وإنني سوف أصنع عجائب مع إخوتي في البيت، وستكون الأيام ملأى بالحوادث المثيرة...
وبرغبتي لتلك المواقف والأعاجيب اشتريت كل مستلزمات صناعة وتحضير تلك الطاقية بحذافيرها ومثاقيلها.(1/220)
كانت ثقيلة التكاليف، واستنفدت كافة نقود جيبي، فاشتريت جلد غزال من سوق الجلديات بعد باب الجابية، والبخُّور من سوق البزورية، وما إلى ذلك من حاجيات للتصنيع والتحضير لصنع طاقية الإخفاء.
كان لزاماً عليَّ وكما في التعليمات أن يكون التحضير لشمهورش ملك الجان الأحمر في رابعة النهار والشمس محرقة في كبد السماء، بعيداً عن الأعين، فاخترت سطح بيتنا مكاناً للخلوة هذه، ومع تشغيل المجمر لحرق المستلزمات المطلوبة وتبخيرها ازداد الجو لهيباً على لهيب، ومكثت مدة طويلة للقيام بالقراءة المفروضة، وتكرارها مرات ومرات كما هو مطلوب.
قربت تلك اللحظة الرهيبة التي سأضع فيها تلك الطاقية، وفي الموعد المحدد حسب التعليمات وبعد القيام بالواجبات وضعتها على رأسي، ودخان البخور المتصاعد من الموقد النقَّال قد عبق فوق السطح، وكانت لحظة رائعة ونشوة غامرة أن أرى كل شيء ولا أحد يراني، حيث تملكني ذلك الوهم كما ظننت... ولكن...
ما أن نزلت الدرج والطاقية على رأسي ورأيت والدتي حتى استغربت من منظري قائلة: لماذا تضع تلك الطاقية على رأسك يا بني!..
علمت عندها الحقيقة أنَّه لا وجود لطاقية تخفي الإنسان، وأن هذه التعويذات السحرية دجل، وأنها مجرَّد خرافات وشعوذات لا حقيقة وراءها، وأنه حقاً لا توجد طاقية تخفي إنساناً أبداً، بل إن في ذلك خروج عن النظام الكوني والواقع.. ولم يسبق أن تمكن أحد من صنع هذه الطاقية الموهومة، فلا أساس لها. فلو كانت حقاً لتعلمها اللصوص والمجرمون لارتكاب جرائمهم من حيث لا يُكشفون، بل لعلَّمتها الدوَل للفرق الجاسوسية من بنيها.. ولأصبح ارتكاب الجرائم والجنايات شائعاً دون وازع ولا قانون يضبطها ضدَّ مجهول مخفي عن الأعين...
حقّاً: من صدَّق كاهناً فقد كذَّب سبعين نبياً.
* ... * ... *
وهاك تجربة ثانية خاض غمارها ضابطنا الحبيب السيد محمد أمين...(1/221)
وكما أن السحرة يحتالون على الناس بالتخيلات النفسية والعصبية، وكذلك هناك نصَّابون ومحتالون يحتال بعضهم بالمادة المحسوسة الملموسة، لأنهم لم يصلوا بعدُ إلى مرتبة السحرة بالانحطاط، كالواقعة البسيطة التالية التي جرت مع علامتنا:
* ... * ... * ...
(( ابن جدّ ))
وخوارقه
ذات يوم وأثناء خدمة السيد محمد أمين في الأمن حين كان برتبة ضابط... وبينما كان مارّاً بأحد الشوارع يلبس بزَّته العسكرية الأنيقة , يظهر بصورةٍ لائقة , يتهادى بخطواته الواثقة على سحُبٍ من الهيبة واللطف والوقار، لم يُر مثلها بالكمال.. فجأةً لفت انتباهه حشد من الناس، كانوا قد التفوا مجتمعين.. تُرى على ماذا اجتمعوا؟. وما حسبهم؟. عندها اتجه إليهم.. ولما صار على مقربةٍ منهم توقف إلى جانب شخص ثم قال له:
أنت أيها الرجل أخبرني ما هناك... ما بال هؤلاء البشر قد اجتمعوا والتفوا ؟.
حول ماذا التفوا ؟.
ردَّ الرجل وما تزال آثار الدهشة بادية عليه: سيدي..سيدي.. هناك رجل يعمل العجائب.. أتصدق يا سيدي أنه يحمل الأفاعي والعقارب بين يديه ولا تلدغه!..
وها هو يحمل عقرباً كبيراً في راحة كفه!!.
تركه السيد محمد أمين قائلاً: لا بأس..لا بأس.. اندفع في ازدحام الناس يشقُّ طريقه إلى المنتصف، ولما رآه الناس عرفوه بأنه الضابط الشريف الشجاع السيد محمد أمين... عندها فسحوا له ممرّاً ضيِّقاً ليمرَّ إلى حيث يشاء، تابع طريقه إلى أن وصل منتصف الجمع فرآه، رأى رجلاً يقف في المنتصف، وقد التفّ حوله الناس مذهولين مدهوشين بما يشاهدونه من غير المألوف والمعهود، نظر إليه السيد محمد أمين، فرأى براحة كفه عقرباً كبيراً.
تقدَّم منه ووقف إلى جانبه ثم نظر في يده... وهو يعلم تماماً أنه لا يمكن لإنسان أن يحمل عقرباً دون أن يلدغه، إلاَّ أن يكون هناك سرٌّ في العقرب ذاته لا الشخص، ثم قال مخاطباً الرجل "المدَّعي أنه يعمل العجائب":أنت أيها الرجل كيف تحمل هذا العقرب دون أن يلدغك ؟.(1/222)
قال الرجل بثقة وافتخار: سيدي أنا ابن جدّ، أنا رفاعي... إنني منسوب للرفاعي، الله يقدِّس سره "الشيخ أحمد الرفاعي ".
قال السيد محمد أمين: ضع العقرب بيدي، ومدَّ السيد محمد أمين يده باسطاً راحة كفه، فوجىء الرجل واتسعت حدقتاه قائلاً: لا... لا ياسيدي فإنه سيلدغك!.
قال السيد محمد أمين: وأنا ابن جدّ أيضاً أيها الرجل(1)، ضع العقرب بكفي .
هناك مدَّ الرجل يده مرغماً إلى جوار كف السيد محمد أمين، ووضع العقرب بيده..
نظر السيد محمد أمين إلى العقرب الذي استقرَّ في راحة كفه، وياللعجب لم يلدغه بالرغم من محاولاته العديدة للدغه، ولكنه لم يؤثر بكفه أبداً، ثم زال العجب عندما تبيّن السبب أنه بدون الإبرة السامة، فلقد نزع هذا الرجل إبرة العقرب في "نهاية ذيله" بأداةٍ، وبقي العقرب بدون سلاح ولا سمٍّ زعاف، ولو حاول أن يلدغ غريمه فلا يمكن له ذلك. فانكشف خداع الرجل ومكره، وأطرق برأسه خجلاً،
لا سيَّما حين سخر منه الجمع بعد انكشاف دجله.
عندها أدرك ضابطنا الشجاع المحبوب كما أدرك الجمع أن السر بالعقرب، وكل
ما سمعه وسمعوه عن ابن الجدّ وخوارقه محض دجل وتفاهات، أقوال لا أصل لها، فالله لا ينظر للأنساب، وحتى لو كان الشيخ الرفاعي بذاته رحمه الله فهو لا يعمل هذا العمل، وهو بريءٌ من كل ما نُسِب إليه من أمور لا يقبل بها المنطق والتفكير السليم، ولو كانت المسألة بالنسب لنجَّى سيدنا نوح عليه السلام ابنه من الطوفان.
ولأنقذ سيدنا إبراهيم عليه السلام أباه عابد الأصنام.
ولتشفَّع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بعمِّه أبو لهب، ولما حذَّر ابنته فاطمة والعباس عمه من مخالفة أوامر الله، فالعاصي لا شفاعة تنفعه إلا رجوعه لطاعة الله، عندها تفيده شفاعة الشافعين.
* ... * ... *
__________
(1) والحقيقة الماثلة لدينا: أن العلاَّمة حقّاً وصدقاً من سلالة جدِّه سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلم، ولكن المرء بعمله قبل نسبه.(1/223)
وإليك القصة الواقعية أيضاً التي حدثت في منتصف القرن العشرين:
مندوب ملك الجان
عام /1952/ كنت رئيساً للإدارة الجنائية في حلب(1)، وفي حينها وردتني برقيَّة مطوَّلة من رئيس شعبة التحري في بيروت، تقصُّ علينا القصة التالية:
عبدو حلوم، رجل في الأربعين من عمره، دخل مدينة طرابلس في لبنان متسماً بزي علماء الدين، متظاهراً بالتقى والورع والإيمان العميق بالله، مستطلعاً شؤون الغيب، متصلاً بالملائكة حيناً وبالجن حيناً آخر، وقد ذاع صيته في أواسط معينة بطرابلس، حتى انطلى أمره على رجل من كبار أغنيائها، فدعاه إلى داره، وأكرم وِفَادته، وفتح له صدره بشكل أخوي.
وما أن استقر المكان بالشيخ عبدو حلوم، حتى زعم أن في دار مضيفه كنز ثمين يقدر بمئات الملايين من الليرات، وأن هذا الكنز يحرسه سلطان الجان( السلطان الأحمر)، الذي اتصل به في إحدى الليالي، وأخبره أنه على استعداد ليقدم الكنز لصاحب الدار إكراماً لحسن صنيعه مع الضيف الذي ما عرف في حياته إلا الصوم والصلاة، والعبادة الخالصة لوجه الله.
لقد صدَّق الرواية صاحب الدار (أبو الفضل)، وضاعف ترحيبه وإكرامه بضيفه التقي النقي ( عبدو حلوم)، وأخذ يصغي لطلباته.
لقد طلب البخور فأحضره له..
لقد طلب كافة لوازم عدَّة الشغل لاستحضار الأرواح وتحضير الجن للحصول على الكنز، فلبى صاحب الدار طلبه.
ودخل عبدو حلوم في دوامة من الرياضات الروحية، وصاحب الدار يرقبه إلى أن حان الميعاد... حان ميعاد ظهور الكنز ... فطلب الشيخ من أصحاب الدار أن يتجرَّدوا من أدران المادة، ويبتعدوا عن ما له صلة بها، وأن يضعوها جملة في مكان عالٍ مرتفع عن الأرض حتى لا ينزعج (شمهورش) سلطان الجان الأحمر، ويتعرض بالأذى لأصحاب الدار.
__________
(1) كتاب (رجل مباحث في ربع قرن) بهاء الدين الخوجه (أبو عبدو).(1/224)
صدَّق المساكين حديث ( الشيخ عبدو حلوم)، وجمعوا ما يملكونه من أموال تقدر بأربعين ألف ليرة لبنانية،وهذا مبلغ ضخم جداً بذاك الوقت، مع ( الحلي والمجوهرات) ووضعوها في علبة من خشب في زاوية من نافذة الغرفة التي يتربص بها ( الشيخ الجليل)، وغادروا الدار، حتى يتمكن الشيخ من استقبال صديقه ( ملك الجن) وحاشيته دون أن يراهم أحد.
وفي منتصف الليل ، خلع الشيخ عبدو حلوم ( عمامته)، وحلق ذقنه، وحمل علبة الدراهم والمجوهرات، وغادر الدار إلى مكان مجهول يمكن أن يكون قرية (دانا حلب) من القرى التابعة لمحافظة حلب .
عاد أصحاب الدار إلى دارهم فلم يجدوا الشيخ، ولم يجدوا علبة الدراهم، بل وجدوا ( العمامة وشعر الذقن)، فأدركوا الفخ الذي وقعوا به، وأعلموا دوائر الأمن بموجب شكوى رسمية.
وعلى اعتبار أن ( الخبر بتمامه) أو بتعبير أدق، أبت النفس الخبيثة إلا أن تسيء إلى من أحسن إليها، فقد طرق ساعي البريد باب العائلة التي ذهبت ضحية الاحتيال المروِّع، وسلمها علبة حلوى صنع ( المستت بحلب)(1)، جاءت بالبريد المضمون.
إلا أن رب العائلة حمل علبة الحلوى فوجد وزنها غير طبيعي، فأخبر دوائر الأمن حيث جرى فحصها بشكل فني، فإذا بها تحوي أصابع ديناميت مع ساعة توقيت جاهزة للانفجار ساعة فتح العلبة، وكأن المحتال الخبيث لم يكتف بسرقة الأموال والمجوهرات، بل رغب في قتل العائلة بكاملها كيلا يجد فيها من يحاسبه على جريمته.
هذه هي المعلومات التي وردتني من رئيس التحري في لبنان، ومعها صورة المحتال عبدو حلوم .
لقد قمت بواجبي الوظيفي على الوجه الأكمل، فعمَّمت الصورة على كافة قوى الأمن والمخافر أملاً في اعتقال المحتال الخطير، وتسليمه إلى القضاء اللبناني لمحاسبته وإصدار الحكم الذي يفرضه القانون.
__________
(1) المستت: بائع حلوى شهير بحلب.(1/225)
ويمر شهر ونيف على هذه الحادثة، وتقضي الظروف والمناسبات أن أسافر بمهمة رسمية إلى دير الزور، وعند عودتي تعطلت سيارتي في ( ناحية أبي هريرة) فنزلت لإصلاحها، وفيما أنا منهمك ، لمحت شخصاً يتصدر دكاناً أمامي ، تنطبق عليه أوصاف المحتال الذي يطلبه القضاء اللبناني فتقدمت إليه، وسألته عن اسمه، فأعطاني اسماً مستعاراً ، فقلت له: ألست عبدو حلوم؟. قال نعم ( بلهجة جافة)، ثم أردف يقول (بنبرة تحدي وعداوة): ماذا تريد مني ومن أنت؟.
قلت له : أنا رئيس المباحث الجنائية بحلب، وأنت مطلوب لنا ، فأنكر وحاول الهرب، إلا أني قبضت عليه، واقتدته إلى حلب، وبعد التحقيق معه وتسجيل الضبط اللازم أحيل إلى القضاء اللبناني عن طريق النيابة العامة بحلب، وفي بيروت جرت محاكمته، وحكم عليه وغابت أخباره عني.
* * *
مضى على الحادث قرابة سبع سنوات، وقد أصبحت أنا مديراً للإدارة الجنائية بدمشق،وفي يوم من الأيام، دخل عليَّ رجل طاعن في السن من أهالي قطنا(1)، وقد اعترته حالة عصبية تركته منهار الأعصاب، وقصَّ عليَّ القصة التالية:
منذ أسبوع بِعتُ سيارة باص أملكها بمبلغ 25 ألف ليرة سورية، واحتفظت بالمبلغ للقيام بعملية تجارية، وهذا المبلغ هو جناية نضال العمر بأكمله أنا وأولادي، وقد تعلَّق بنا شيخ محتال، ومثَّل علينا مسرحيَّة لم نشهدها من قبل ، وتمكَّن من سرقة أموالنا والهرب بها.
قلت له : أفصح أيها الرجل واذكر قصتك بشكل مفصَّل، حتى أعرف من اعتدى عليك، وأتمكن من رد ظلامتك.
قال : لا تعجل عليَّ يا ولدي أنا منكوب، أنا مستجير بالله وبرجال الأمن.
قلت: نحن هنا في خدمتك وخدمة كل مواطن، لن ننام قبل أن نردَّ إليك حقك، قل.. تكلم..
__________
(1) قطنا: قرية سورية تقع في ريف مدينة دمشق.(1/226)
قال: منذ أسبوع تقريباً وصل إلى قطنا شيخ تبدو عليه سيماء التقى والورع والصلاح، اجتمعت به دون ميعاد في المسجد، سمعت حديثه الندي الطلي، فأحببته، سألته عن حاله فوجدته فقير الحال، لا هدف له في الدنيا سوى عبادة الله لوجه الله، لا يبغي جزاءً ولا شكوراً، فأحببت التقرب إلى الله عزوجل عن طريقه، لأن الفقراء والمساكين هم السبيل إلى السماء، فدعوته إلى داري، وفتحت له صدري، وأكرمت وِفَادته، وكنت أقول له:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا ... نحن الضيوف وأنت ربُّ المنزل
وبعد ثلاثة أيام من كرم الضيافة، وحسن الوِفَادة ، أحبَّ الشيخ ( التقي الورع) أن يردَّ لنا الجميل بأحسن منه، وأن يفتح لنا الكنوز المغلقة في وجوهنا، ليجعل منا ملوك المال، لأننا نستحق منه كل مكرمة، فقال لنا:
( إن الله كشف الغطاء عن بصري وبصيرتي،فهيأ لي الأسباب للوصول إلى الجن والشياطين، ومكَّنني بقدرته من السيطرة عليها، ومعرفة أسرار كنوز الأرض عن طريقها ، ولما كنت زاهداً في الحياة، عزوفاً عن المال، مُحبّاً للفقر لأنه تاج الأنبياء، فقد تخلَّيت عن عروض الجن، وأهملت كل الإخباريات التي نقلوها لي عن مكان وجود الكنوز الأرضية، أما الآن وقد جاءني الوحي الإ?لهي يدفعني لخدمتكم، فأحببت أن أقول لكم أن بداركم كنزاً ثميناً،عبارة عن (ثلاث جرار من الذهب التبر) موضوعة تحت تصرف ( شمهورش) سلطان الجن الأحمر، وقد أبدى استعداده للتخلِّي عنها وتقديمها إليكم.
صدَّقتُ هذه الرواية، لأن وجه راويها ليس وجه محتال، ولأني أؤمن أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ولا يعقل أن يلجأ لأساليب الاحتيال والمراوغة إنسان يؤمن بالله، ويقوم بشعائر الدين على أكمل وجه.
فقلت له:وكيف يمكن الوصول إلى هذا الكنز الثمين...؟!.
قال: هذا أسلوب عملي... وهذا عطاء ربي إلي، إنه من الأسرار، ولا يمكنني إباحتها خوفاً من غضب ربي، وسخط أصدقائي سلاطين الجن.(1/227)
إن نشر أسرار الجن على الناس تُحدث اهتزازاً في طبيعة المنطقة، وقد تسبب أضراراً لسكانها ولكم بالذَّات... لذلك أنا حريص،وأنا كل همِّي أن أردَّ جميلكم بشكل يرضي ( زملائي) .
قلت له: نحن تحت تصرفك ( يا شيخنا)، منك الأمر والنهي ومنا التنفيذ.
قال: أريد بخوراً ببضع ليرات، وموقد نار، وأريد إخلاء الدار.
قلت له: سمعاً وطاعة، ونفذنا أوامره بحذافيرها.
أمضى شيخنا يومين وهو معتكف في الدار يحرق البخور، ويناجي سلاطين الجن، ويتحدث إلى الشياطين، ويرصدهم... وفي اليوم الثالث دعانا لمشاهدة الكنز، فماذا رأينا؟.
لقد دخلنا إلى الدار ليلاً، وفيما نحن نتكلم معه سمعنا بجانب جسمه دوياً يشبه هدير الشلالات، وشاهدناه يتكلم بلغة لم نفهم منها إلا كلمات ( شمهورش دمنهورش، هنترريش، بربيش) فتملكنا الرعب، ويشهد الله أنني شعرت أن طاسات ماء بارد تنسكب على جسمي، وهكذا شهدنا الفصل الأول من المسرحية..
أما الفصل الثاني فكان أن طلب منَّا الابتعاد إلى نهاية صحن الدار وقال لنا: هناك بيضتان، إذا وجدتم أنها تتحرك تمشي، فمعنى ذلك أن الجان قد ظهروا، وأنهم يدلونا على مكان وجود الكنز.
لقد نفذنا أمر ( شيخنا) ووقفنا في نهاية صحن الدار، فوجدنا بيضتين تتدحرجان وتقتربان من الشيخ، فتملكنا المزيد من الرعب، وهربنا إلى خارج الدار، لأننا لا نطيق الوقوف مع الجن.
لكن الشيخ استدعانا وقال : لا تخافوا، فإن لي حرمة على زملائي الجن، ولن يمسُّوكم بأذى، فدخلنا ليبدأ الفصل الثالث من المسرحية.
أما الفصل الثالث فكان أن أدخلنا إلى الغرفة التي يجلس هو فيها، فإذا بنا نشاهد بريقاً غريباً يلمع في كل أرجائها، فذهلنا، واعترتنا الدهشة وهنا قال لنا:
لا تخافوا إن الجن قد أحضروا الكنوز وهاهي أمامكم في الخوابي .(1/228)
تطلَّعنا مليّاً فإذا بثلاث( جرار كبار) مليئة بالذهب الأصفر الوهاج، فازداد إيماننا ويقيننا، ورحنا نتصور السعادة ونغيب بين طيَّات الأحلام، وفيما نحن غارقون في صمتنا وذهولنا.. صرخ شيخنا بأعلى صوته، وبدأ يرغي ويزبد..
فقلنا له: مالك يا سيدنا؟.
قال: هل لديكم أموال؟!... هل لديكم ذهب؟!.
قلنا له : نعم .
قال: ضعوها هنا ، لأن وجودها معكم اليوم يسبب اختفاء الكنز، وقد يدفع سلطان الجن لحرقكم، لأنه أعطاكم أثمن كنوز الأرض، ولا يريد أن يراكم تتمسكون بالتوافه.
أسرعنا فوراً وأحضرنا مبلغ الخَمس وعشرين ألف ليرة سورية، ووضعناها في النافذة داخل الغرفة، وغادرنا الدار بناء على أمر الشيخ، بداعي أنه لا يمكن لمس الكنز قبل أن يمضي عليه أربع وعشرون ساعة.
مضت المدة المحددة، ودخلنا الدار، ودخلنا الغرفة، فماذا وجدنا؟!..
- لم نجد الشيخ، بل وجدنا عمامته!!...
- لم نجد أموالنا التي هي عبارة عن خمسة وعشرين ألف ليرة سورية، بل وجدنا ثلاث جرار ملأى بالأحجار، وعلى فوهتها( غوازي نحاسية مطلية بلون أصفر)، يستعملها نساء البدو في الزينة.
لقد صفعنا الواقع الأليم، فلم نجد من ملاذٍ نلجأ إليه إلاَّ ( أبو عبدو)، فهو بنظرنا حلاَّل المشاكل.
ضحكت في سري كثيراً، ولكني أشفقت على الضحايا البريئة، ضحايا الاحتيال والشعوذة.. وبدأت أستفسر عن أشكال ( المحتال) .
وفيما أنا أسمع الوصف من أصحاب العلاقة، تصور في مخيلتي المحتال( عبدو حلوم)، بطل حادثة طرابلس، التي مضى عليها قرابة ثماني سنوات، فنهضت على الفور، وأحضرت صور المحتالين وبدأت أعرضها على ( المشتكي)، وما أن رأى صورة ( عبدو حلوم) حتى صاح بأعلى صوته: هو ... هو ... بعينه.. الله يخرب بيته!..
لقد حمدت الله الذي أتاح لي معرفة المحتال، ثم أخذت أفكر في المكان الذي سأعثر به عليه.
قلت في نفسي:(1/229)
- هذا من (دانا حلب)من قرى حلب، ولا بدَّ إلا أن يكون قد سافر إلى هناك، فلأُرسل دورية تلحق به على عجل قبل أن يتصرَّف بالمال. وهكذا فعلت، وتوجهت الدورية إلى حلب، وما أن وصلت إلى ساحة باب الفرج حتى التقت فوراً وبدون عناء ( بالمحتال عبدو حلوم)، وقبضت عليه، حيث وجدت بحوزته / 10/ آلاف ليرة سورية، كما وجدت أنه اشترى داراً بحلب بمبلغ /10/ آلاف ليرة سورية، وتصرَّفَ بمبلغ/ 5/ آلاف ليرة سورية.
اتصلت بي الدورية من حلب وأعلمتني بواقع الحال، فطلبت منها استرداد كافة الأموال، وإحضارها لدمشق مع المحتال ، وهكذا تم، واستردت الأموال وأعيدت لصاحبها، ونظم الضبط اللازم بحق المحتال وقدِّم إلى القضاء.
* * *
وقبل أن أودع المحتال في السجن، دعوته لتمثيل جريمته، فمثَّلها على الشكل المبيَّن في الصور: وقد سألته أثناء تمثيله الجريمة عدة أسئلة أجاب عليها بما يلي:
1- سألته عن الصوت الذي كان ينبعث من حوله أثناء مرحلة الدجل الأولى، فقال: ( إنه جهاز يعمل على البطارية وله مكبِّر صوت وضعته في جيبي، وشغلته لحظة دخول صاحب الدار، فتوهم أن الشياطين هي التي تحدث هذا الهدير والضجيج).
2- سألته عن قصة تدحرج البيضتين فقال:
( لقد ثقبت البيضتين بإبرة ومصصت ما في داخلها، وربطهما بخيط نايلون
لا يرى في الليل، ووضعت الخيط في فمي، وبدأت أسحبه فتتدحرج البيضتان، وقد خيّل لأصحاب الدار أن الجن تدحرجها).
3- سألته عن سر البريق الذي كان في الغرفة فقال:
(اشتريت كمية من الفوسفور، ونثرتها على الجدران، فظهرت في الظلمة وكأنها نور يبرق).
4- سألته عن ( الجرار) وما فيها من (غوازي نحاسية) فقال:
( لقد ذهبت ليلاً واشتريت الجرار) من دمشق وملأتها أحجاراً، وكان بحوزتي الغوازي النحاسية مطلية خصيصاً لهذه الغاية، فرتَّبتها خلال اليومين اللذين كنت بهما في خلوة.. وهذا ما حصل ).
* * *(1/230)
وبالمناسبة قبل أن أنهي هذه القصة، كان بودي أن أسرد الكثير من أمثالها لولا اعتبارات خلُقية قد تجرح فئات بريئة، ولكني أقول، إنني وجدت في حياتي العملية عدداً غير قليل من محترفي الدجل والشعوذة، وقد كشفت أمرهم وقدمتهم إلى القضاء متلبسين بجرائمهم، وقد حكم عليهم بالعقوبات المفترَض أنها العقوبات العادلة التي يستحقونها.
* ... * ... *
الصورة رقم (1)
صاحب الدار الذي أوقع به المحتال عبدو حلوم يروي قصته
الصورة رقم (2)
عبدو حلوم وقد قبض عليه رجال الأمن يستعد لتمثيل مجمل جريمته
الصورة رقم (3)
عبدو حلوم يمتص المواد التي داخل البيضة تمهيداً لإدخال الخيط بها
الصورة رقم (4)
خيط نايلون يضعه عبدو حلوم داخل البيضة ليسحبها به
الصورة رقم(5)
المحتال عبدو حلوم يصرخ لزملائه جنود سلطان الجن
الصورة رقم(6)
بعد أن استحضر عبدو حلوم أرواح الجان بدأ يوزع الأوامر عليهم
الصورة رقم(7)
الوجوه الكرتونية التي وضعها عبدو حلوم في الظلام ليوهم الناس أنها وجوه الجن
الصورة رقم(8)
الذهب المزيف الذي وضعه عبدو حلوم في (الجرار) ليوهم أصحاب الدار بأنه أخرج الكنز
الصورة رقم (9)
الجرار التي ملأها عبدو حلوم بالغوازي وقال لاصحاب الدار هذا هو الكنز
الصورة رقم(10)
عبدو حلوم يقول لرجال الصحافة (أبو عبدو طالعلي باليانصيب)
الصورة رقم (11)
رابعاً:
التبصير
وهو ما يكون من خلال قراءة الكف أو الوَدَعْ(1),أو قراءة الفنجان من خلال بقايا خطوط القهوة المتيبسة على جوانب الفنجان وقعره,فيخبر القارئ لهذه الأمور عن أحوال صاحبها وأوصافه، وعمَّا يحدث له، ويتنبأ المبصِّر كذباً بالمستقبل لهذا المغبون.
__________
(1) الوَدَع: جمع وَدَعَات صغار تُخرج من البحر.(1/231)
فلو اختلفت كثافة القهوة بين الثقيلة والخفيفة لاختلفت حياة الإنسان,ولتغيَّر مسيرها إن طرأ طارئ على خطوط كفه وانحناءاتها كحرف مثلاً أو غيره، إن كانت هذه الخطوط كما يزعم البصَّارون تُعلم عن حياة الإنسان وأحداثها، فإما التشاؤم من المستقبل الوهمي، وإما التفاؤل.
والحقيقة: كل ذلك نفاه الشرع وأبطله، ونهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
« إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت »(1): أي من السحرة والكهنة. وإن الغيب لا يعلمه إلاَّ الله.
وما ذكره تعالى لنا عن الجن الذين سخَّرهم لسيدنا سليمان عليه السلام في الأعمال الشاقة المضنية، بأنهم ظلّوا قائمين على أعمالهم عشرات السنين إثر انتقاله عليه السلام إلى رحاب الله، حيث وُضِعَ جسده الشريف بأمره على كرسي طيلة تلك السنين، وبدا كما لو أنه في حال الحياة، إذ لما أكلت "الأَرَضَةُ "(2)عصاه خرَّ جسده الشريف على الأرض، هنالك تبيَّنت الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب أمداً،أي: انكشفت الجن أنهم لا يعلمون الغيب، فلو علموه ما لبثوا عشرات السنوات في العذاب المضني من الأعمال الشاقة،يخافون سيدنا سليمان عليه السلام ويخشون هيبته، " يخافون ظنّاً منهم أنه لا يزال على قيد الحياة متربعاً على عرشه "، وهم لا يعلمون بانتقاله عليه السلام، وهو أمام مرأى أعينهم عن بُعدٍ، فأين تنبؤهم بالمغيبات إذن؟!..
__________
(1) مسند الإمام أحمدج5.
(2) الأرَضَة: جمع أرَض، وهي دويبة من فصيلة الأرَضيَّات تقرض الأخشاب. وتعيش في البلاد الحارة مجتمعةً في مستعمرات.(1/232)
قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ ..}: أي: ظهرت وانكشفت.{ ..أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}(14) سورة سبأ, إذن لا حقيقة لإخبار الغيب مطلقاً، وإنما هو دجل ووَهمٌ، تلقيه الشياطين القرناء إلى سدنتهم الكهنة، ليغرِّروا الناس البسطاء بطول الأمل بدنياهم الدنية،وليس يخفى على ذي عقل ما يفعل طول الأمل بصاحبه، إذ ينسيه الآخرة،وتسيطر عليه الأهواء فينقاد لها,وتستبد به الشهوات فيتبعها,فيحب الدنيا وبهرجها، ويغتر بمتاعها، فيهمل جانب الدين، ويؤثر الباطل على الباقي الأبدي من حيث لا يدري، ويعصي الله ورسوله، حيث سلَّم قياده لمن لا يرحمه، لألد الأعداء، فسار بما أملاه عليه عدوه من ظنون وأوهام مهلكة.
أو أن يملوا عليه ببواعث اليأس والقنوط والفشل وممَّا يحبط همته عن القيام بالعمل المنتج المجدي، فيقع فريسة سهلة الاقتناص بين أيديهم إثر ظنونه السيئة بربه، ويدأب على الإلتجاء إليهم حتى هلاكه.
وتلك غاية الشيطان وأمنيته ببني آدم، ولو تعددت السبل ولكن الهلاك واحد بالبعد عن الله إثر الشرك به جلَّ وعلا.
ومن أصدق من الله حديثاً بقوله جلَّ وعلا:
{.. وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا ..} (34) سورة لقمان، فأنى لهؤلاء أن يعلموا أيامهم المستقبلية... بل وأيام غيرهم من الناس، وقوله تعالى واضح وظاهر.
وهاك قصة واقعية تدلنا بأن قراءة المعوذتين (سورة الفلق) و(سورة الناس)
و(سورة الإخلاص) الصادرة من قلب مؤمن حقّاً بالله ورسوله تبطل علوم السحرة الغيبية لفرار قرنائهم الشياطين:
* * *
الساحر والإبرة(1/233)
على رُبا دمشق منطقة أتحفتها يد القدرة الإ?لهية بجمال الطبيعة الخلاب، وسحرها الأخاذ، ما يأخذ بمجامع القلوب، ويملأ العيون إجلالاً، وذلك بما تمتعت به من طقس لطيف جذاب، تحفُّ ببيوتها الخمائل والأشجار، تتدلى بثمارها اليانعة وأزهارها الفاتنة المنعشة، صنع الإ?له الذي أحسن كل شيء، كانت تهبُّ نسمات لطيفة فتداعب الأغصان، وتهتز لها الأوراق طرباً وهياماً منتعشة بنشوة برودتها.
الليل يلفُّ الأرض بظلمته، والسكون اللطيف خيَّم على الأرجاء.. هنالك.. وفي وسط مزرعة تربَّع بيت عربي، يشعُّ من نوافذه نور خافت خلاَّب، مع أنه نور سراج بسيط، كان هذا النور يحمل معه نوعاً من الطمأنينة والراحة والصفاء النفسي العجيب.
وفي إحدى غرف هذا البيت ساد هدوء غريب من نوعه، يمازجه نوع من النقاء والبهاء يلفُّ الحاضرين، تتردد ألحان صوتٍ عذب شجيّ شفاف، فتزيِّن هذا الهدوء، وتضفي على الجو هالة من الصفاء والنقاء، جلس عدد من الزوار قدموا ليروا مرشدهم السامي، حيث تقرُّ عيونهم، وليسمعوا من عالي دلالته ما تشنَّفت له آذانهم، وتغذت بروحانيته قلوبهم، إنهم مريدو المرشد الكبير السيد محمد أمين شيخو.
كان أحدهم قد اصطحب عدداً من الضيوف بعد أن ألحُّوا ورغبوا برؤية ذلك السيد الفاضل، الذي شاع ذكر نبيل صفاته وعالي أقواله في كل مكان، وبنهاية الحديث، كان أحد أولئك الضيوف متأثراً بحادثٍ تكرر حدوثه على مرآه عدة مرات.. فأضاف:(1/234)
يا سيدي هنالك غاوي، والناس يتحدَّثون عنه أنه من أهل الله، وله نوع من الكرامات الغيبية.. يا سيدي إنه يطلب من أحد الموجودين أن يأخذ ما شاء من الغرفة حتى ولو تدنَّى بحجمه للإبرة، فليذهب به وليخفه عن الأنظار بمكان ما، يختاره هو بذاته، ولا يُعلم بمكانه أحداً أبداً، ثم ليعد، فينطلق الغاوي، وما هي إلا دقائق معدودة حتى يعود وبيده الشيء الذي قد أخفاه الشخص، فهو يستطيع أن يكشف المكان بسهولة، ويُخرِج الحاجة التي تم إخفاؤها، ولو أُخفيت تحت التراب!!!.
فما أغرب سرَّ هذا الغاوي يا سيدي؟!. لقد شاع صيته، وتناقل الناس أخباره حول هذه الكرامات التي ينفذها، ما رأيكم بعمله هذا؟. وما قدره ذاته؟. أليس من يفعل ذلك هو من أهل الله؟!.
ابتسم المرشد الكبير ابتسامة لطيفة، ثم قال: لا يا بني فهو من أهل الشياطين، وما عمله هذا إلا بواسطة من قارن منهم، بل هو مطية لهم في تنفيذ مآربهم ومكرهم الخبيث، لينطلي على البسطاء من الناس..
ردَّ السائل بذهول: ما أعظم مكره وماأعمق خبثه!. فهو يدَّعي أن فعله لا يمكن لأي إنسان أن يعمله إن لم يكن من أهل الله وله كرامة عنده!.
قال السيد الفاضل: بني.. إن كان ذلك حقاً فالرسول صلى الله عليه وسلم أولى أن يكون له الباع الأكبر في مثل هذه الأفعال.. وكذا الصحابة الكرام..(1/235)
ولكن هل سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام بمثل تلك الأعمال؟!.. وهل ورد ذكر للصحابة في ذلك المجال؟. يا بني.. إن الإسلام دين منطق سليم وعقل قويم، دين مبني على حقائق سامية، بعيد كل البعد عن تلك العجائب السخيفة، فما قام الصحابة الكرام بإكمال مسيرة الإسلام بأن فتحوا البلاد، وجعلوا قلوب العباد تهوى هذا الدين، إلا بالمعاملة الحسنة الرشيدة وبالمنطق العالي والحكمة البالغة، لقد مسَّكوا الناس بكتاب الله حقاً، فجعلوهم يستنشقون الدين كعبير المسك الأزفر، لمَّا وضَّحوا لهم به عدالة الله وحكمته وحلمه ورحمته وعظمته.. حتى جعلوا قلوب الخلق تخرُّ ساجدة لجلاله تعالى، وعالي أسمائه الحسنى.. أما عن المعجزات، فقد انتهت من بعد ظهور السيد المسيح عليه السلام، لأنها لم تُجْدِ؛ فإذا لم يُعمل الإنسان فكره في التحقق من وجود الله تعالى وعظمته ولطفه.. بل وسائر أسمائه، من خلال التفكر بآياته الكونية من شمس وقمر ونجوم.. فلا فائدة، وكل تأثُّر بمعجزة مهما امتد ينتهي مفعوله، وتعود نفوس الناس للشهوات البهيمية والبغي والطغيان، فهؤلاء قوم سيدنا صالح عليه السلام، هل أفادوا من معجزة الناقة؟. بل عقروها وكسبوا غضب الله.. وغيرهم كثير..
قال تعالى: {وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا ..} (59) سورة الإسراء.
ولو أنكم أتيتم به لأريتكم مكره وكذبه وتفاهته.
لذا تمَّ تحديد موعد لاجتماع الغاوي بالمرشد الكبير السيد محمد أمين شيخو، بحضور السائل وصحبه ممن رأوا من الغاوي مثلما رأى من غرائب وعجائب.
وفي اليوم المحدَّد تمَّ الاجتماع المذكور، بحضور عدد من مريدي السيد محمد أمين شيخو، وبعد استقبال المرشد الكبير لضيوفه، دخل الغاوي وهو ينظر للسيد محمد أمين نظرات المتفحِّص المستكشف الخائف، ثم لا يلبث أن ينكس نظره للأرض ثانية.(1/236)
بعد أن استقرَّ بهم المجلس بادرهم السيد محمد أمين قائلاً: على ماذا اتفقتم؟.
قال السائل: سيدي ها قد جاء الغاوي معنا.. لنرى من عجائبه الغريبة.
قال السيد محمد أمين: فليعمل ما يريد.
كانت نظرات الغاوي ما تزال غريبة، ونوع من الخوف يكسو وجهه، وكأنه يخشى شيئاً ما.. غريب أمره!.. كيف تبدلت سحنته من الكبر والاستعلاء إلى الذل والاسترخاء!.
فإنه وبعد صمت امتد لزمن ليس بالقليل.. وقد اربدَّ وجهه واكفهر، وعيناه ما زالتا تحاولان أن تنظرا نظرات عدائية خاطفة باتجاه المرشد الكبير ، فلا تفلحان.
أما السيد محمد أمين فكان على العكس تماماً، فوجهه مشرق منير، ذو نظرات نفاذة كأشعة الشمس تُبدد الظلام، تكسوه آيات الجلالة والمهابة والجمال.. وكأنه مكلَّلٌ سابحٌ بنور ربه، في حالة من الهيام والاستغراق بحضرة الله..
ترتسم بوجهه بسمة مبعثها الثقة برب الناس..
قطع الغاوي صمته بقوله: اليوم لن أجري عملي لأن أمراً ما شغلني، وإنني مشتت الفكر، فلا أستطيع العمل إلاَّ إذا قامت به أنثى.
استغرب الحضور طلبه هذا، فهم قد رأوا منه تلك الأفعال بدون أي شرط.. وممن كان.. أما الآن فلم يجرؤ على ذلك مع المرشد الكبير!!. نهض السيد الوقور محمد أمين ودلف غرفة زوجته وقال: أم فتحي أريد منك أن تأخذي إبرة وتذهبي إلى آخر البستان في مزرعتنا إلى شجرة التوت، وتضعي الإبرة تحتها، غطيها بالتراب ولا تنسي بأن تضعي علامة" حجر صوان" تدل على وجود الإبرة لأعثر عليها فيما بعد.
قالت زوجه: سمعاً وطاعة، سأذهب من فوري وأنفذ ما طلبت.
تابع السيد محمد أمين قائلاً: ولكن ثابري على قراءة المعوذات وسورة الإخلاص والفاتحة ذهاباً وإياباً.(1/237)
أجابت: سأفعل ذلك.. ثم نهضت وأخذت من غرفتها إبرة وانطلقت، بينما عاد السيد محمد أمين ووقف ينتظر ذهابها وعودتها حيث وصلت لآخر المزرعة، واختارت الشجرة، فدفنت الإبرة تحتها، ثم وضعت حجر صوان متوسط الحجم بالقرب من مكان الدفن، وعادت وهي لا تزال مواصلة ترتيل سور القرآن حسب الوصية، وحين عودتها وجدت زوجها بانتظارها.
قالت: لقد نفَّذتُ ما طلبتَ. وأعلمتْه بالموضع الذي فيه قد خبَّأت الإبرة، والعلامة التي يجد تحتها الإبرة، أجابها السيد الفاضل: نِعْمَ التصرف، جُزيت خيراً.
ثم عاد إلى غرفة ضيوفه وقال: هيا أيها الغاوي فقد تمَّ تنفيذ ما طلبت، نهض الغاوي ثم خرج ومشى بين الأشجار ثم توقف.. لا يدري أين يذهب.. استغرب الحضور ذلك منه.. وهذا الشيء لم يعهدوه فيه من قبل، ثم عاد وهو يقول: إنها لم تخبّئ شيئاً.
ردَّ السيد محمد أمين: هيا معي لأريكم أين دفنت الإبرة. مشوا جميعاً وراء السيد محمد أمين حتى وصل المكان المحدد، فانحنى إلى الأرض، ورفع حجر صوان أبيض، ثم وبلطف نبش التراب بأصبعه، فبانت الإبرة واضحة لأعين الجميع، حملها والتفت إلى الغاوي قائلاً: ما رأيك؟.
ردَّ الغاوي: إذن دعها تعيد الكرَّة ثانية، ورجائي منك أن تبقى معنا في الغرفة حتى تعود.
ابتسم السيد الفاضل وقال: لك ما طلبت، هيا بنا إلى الغرفة . فدخلوها جميعاً بعد أن طلب من زوجته إعادة الكرَّة مرة أخرى ولكن بمكان آخر اتَّفق وإياها عليه، وفعلاً تمَّ ذلك، وكان الفشل حليف الغاوي ثانية، ثم أعادوها ثالثةً تبعاً لطلبه، لم تكن الثالثة بأفضل من سابقتيها، وتبيَّن الغاوي أن لو يعلم الغيب لكشف الخبيئة ولما خاب.(1/238)
عندها أعلن استسلامه فذلّ، وفقد هيبته بين الجميع، وخصوصاً عند السائل الذي كان شديد الإعجاب به، حتى ظنه أنه من أهل الله، وإذ به تماماً كما أخبر السيد المرشد الأمين محمد أمين، أنه ساحر، ولا يفلح الساحر بحضور إنسان مؤمن معتز بربه ملتجئ إليه يذكره حقاً، كالسيد الفاضل محمد أمين، فلن تستطيع قرناؤه من الشياطين الحضور، لأنه نور ونار لا يجتمعان، إذا حضرت الملائكة فرَّت الشياطين: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ..} (43) سورة الأحزاب، وأن الساحر لا سلطان له على الذين آمنوا وكانوا يتقون.
* * *
خامساً:
النفث بالعقد
وهذه مهنة السحرة وحرفتهم إجمالاً. هذا وقد وردت الاستعاذة بالله بسورة الفلق: {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} (4) سورة الفلق،فنقول:
النفاثات مأخوذة من النفث،وهو الرمي والإلقاء.
يقال نفث فلان البصاق من فيه،أي:رماه. ونفثت الحيَّةُ السم، أي:ألقته في جسم الملدوغ. فالأفعى والحالة هذه نافثة،وإذا أردت المبالغة وتكرر صدور الفعل منها فهي نفَّاثة،وجمعها نفَّاثات،والنفَّاثات إذاً:الملقيات.
والمراد من النفّاثات في هذه الآية الكريمة:أنفس السحرة الذين اتخذوا السحر مهنة وحرفة. وفيها يأخذ الساحر شيئاً من شعر المسحور أو خيوطاً من ثيابه، فيعقد فيها عقداً ينفث عليها بفيه: أي يخرج الريق من فمه مقروناً بشيء من الهواء، ويرمي به على العقدة التي عقدها.
تلك هي حرفتهم، وليس لهم من عمل إلا إلقاء التفرقة، وبث الخصومات بين الناس، والتفريق بين المرء وزوجه، والزوجة وحماتها أمُّ زوجها، والأخ وأخيه، وبين الشريك وشريكه,والابن وأبيه.
ولفهم المراد من النفاثات في العقد نقول:(1/239)
الحقيقة: أن الساحر امرؤ كافر بعيد عن الله، اتخذ الشيطان له قريناً ووسيطاً في عمله، فهو عندما ينفث على العقدة يتَّجه بنفسه نحو المسحور، فيتبع الشيطان مسير هذا الشعاع ويقتفيه ممتطياً إياه حتى يصل إلى نفس المسحور، بواسطة شعاع نفس الساحر المتَّجه إلى المسحور، لأنَّ الشيطان أعمى يشمُّ الخبث شمّاً، وهكذا يستدل الشيطان على المسحور ويصل إليه إن كان مستحقاً لهذا العلاج لأعمالٍ سيئة صدرت منه، فيخيِّل له من الخيالات، ويلقي في صدره من الوساوس، ما يجعله مثلاً ينفر من زوجه التي أراد الساحر أن يفرِّق بينه وبينها.
فتجد الشيطان مثلاً يلقي في نفس المسحور عن طريق الأثر المنفوث فيه أنَّ زوجه
لا تحبه لمَّا تأخرت في تحضير طعامه، وإذا رآها تتحدث مع والدتها سرّاً في أمر وابتسمت، خيَّل له كذباً وألقى في نفسه أنهما تتحدثان عنه، وأنَّ ابتسامتهما سخرية منه، إلى غير ذلك من تخيُّلات لا أصل لها، وليست متطابقة مع الحقيقة، والتي تدعو للفرقة بين الطرفين.
وما يزال الشيطان متسلِّطاً على المسحور حتى تقع الخصومة والشحناء بين الزوجين، ويقع الفراق، وبذلك يكون الساحر قد وصل إلى بغيته متَّخذاً الشيطان وسيطاً له في عمله وأذاه، قال تعالى مبيناً ذلك: {.. فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ..} (102) سورة البقرة. وهكذا فالساحر والشيطان شريكان في هذه الأذية، الساحر يسوق الشيطان ويوجهه نحو المسحور، والشيطان يوسوس ويلقي بالخواطر، ويخيِّل التخيلات الباطلة حتى يصلا إلى بغيتهما.
فنفث الساحر يكون على صورتين:
1- فإما أن يكون مرادهُ من نفثه إيجابياً،أي: التقريب والجمع بين شخص وشخص،ويكون همُّه منصرفاً إلى عقد العقدةوإنشاء الرابطة.(1/240)
2- وإما أن يكون مرادهُ من نفثه سلبياً،وذلك بالتفريق وإلقاء العداوة والبغضاء بين فردٍ وفرد،وتكون بغيته في هذه الحالة هادفةً إلى حلِّ العقدة وإفساد العلاقة القائمة.
ولا بدَّ أن ننوِّه للفعل الذي يقوم به السحرة من نوع الربط، وهو يشبه في مصيره التفريق بين الزوجين، ولنفهم هذا الأسلوب والطريقة اللاإنسانية ونتائجها في المجتمع،لنتابع هذه القصة المؤثِّرة التي حدثت في الريف المصري:
* ... * ... *
الزوجة البكر لعقدين من الزمن
شغلت هذه القصة مصر بأسرها، وذلك في منتصف الثمانينات، وتناقلتها الصحف فأضحت موضوعاً صحفياً تتناولها صحافة مصر بأسرها.
إنها حادثة الزوجة التي ظلّت بكراً تسعة عشر عاماً!!.
حدثت القصة في أعماق الريف المصري في إحدى قرى الدلتا،وذلك عندما تزوج أحد عمال النسيج من ابنة عمِّه، ولكن للأسف فلقد فشل بممارسة حقوقه الزوجية منذ الليلة الأولى، واستمر هذا الفشل الغريب طوال تسعة عشر عاماً،فما أن يقترب المسكين من زوجته حتى يتصبب عرقه بغزارة ويغمى عليه،وهذا ما يسمى ( بسحر الربط).
عاشت معه بإخلاص، ولما كانت الزوجة هي ابنة عمِّه صبرت وتحملت معه هذه المعاناة وقسوتها،وهكذا طيلة تسعة عشر عاماً،وبأحد الأيام تبين لهذا المسكين سبب معاناته،وذلك عندما أخبره أحد زملائه في المعمل الذي يعمل فيه بأنه يعلم بمعاناته!!. ولكن كيف؟!. شيء أثار عجب الزوج المسكين، فألحّ عليه بأن يخبره كيف عرف سرَّه،فأخبره بأنه:
(ذات يوم وقبل أن تتزوج من زوجتك هذه كنت قد تقدمت لها وخطبتها، فرفضتني وفضَّلتك عليَّ، فاشتعلت نيران الغيظ والحقد والحسد في قلبي، ولذا لم أحتمل هذا الأمر، ودفعني لأن أقوم بربطك على يد شيخ ممن يمارسون السحر الأسود) .
ولما سمع الزوج المسكين ذلك استحلفه أن يفك السحر بأي ثمن،فاستجاب لطلبه.. وأخبره بمكان دفن السحر.(1/241)
وبالفعل نبش بجوار أحد السواقي المهجورة مستخرجاً سكيناً(قرن الغزال) مقفولة، وقام بفتحها وفك الربط،فأخذها ذلك الزوج وانطلق إلى زوجته.
ونجح في أن يمارس معها حقوقه الزوجية بعد تسعة عشر عاماً،ولكن ماذا بعد ذلك؟. ماذا بعد أن برُؤ من السحر وتلك اللاإنسانية الممارسة بحقه؟. لقد ذهب إلى صديقه وأسكن السّكينة نفسها في قلبه بطعنة واحدة، فقتل في الحال.
وعندما أحيل إلى النيابة اكتشف الطب الشرعي أن زوجة القاتل بالفعل لم تنفضَّ بكارتها إلاَّ منذ أيام قليلة،فقررت المحكمة على أثرها تخفيف الحكم إلى السجن مدة خمس سنوات، مراعاةً لظروف ما حدث له.
ولكن القاتل أعمى القلب لم يحاسب نفسه عمَّا جنته يداه من شرور ليتوب عن مقارفتها، وكانت هي الأسباب التي مكَّنت الساحر من التأثير على جسمه الآثم.
وقد أشارت الدراسة إلى أن (90% ) من المصريين حسب ما أورده الباحثون يؤمنون أشد الإيمان وحتى الآن بخرافة" الربط الجنسي" بين الأزواج،الذي لا يقع إلا على المستحقين بأعمالهم الدنيئة التي يرتكبونها، حينها يصدِّق إبليس ظنّه عليهم ويقع الربط الجنسي. وهذا الإيمان بالربط الجنسي لا فرق فيه بين أهل الريف وأهل المدينة، وأنه عليهم استخدام (الأحجبة)، وبالفعل يستعملها (80% ) من المصريين في أغراض كثيرة منها: الحماية من المرض ، وإبطال تأثير العفاريت، واستمالة قلب المحب، والنجاح في العمل.. فكما ورد بالحديث الشريف:
« لا يدخل الجنة مدمن خمر، ولا مصدّق بسحر، ولا قاطع رحم »(1)،
ولا يخشى المصريون من شيء قدر خشيتهم من القطة السوداء حسبما أقر (50% ) منهم، والذين لسخفهم ينظرون إليها رمزاً للتشاؤم تعنُّتاً واستكباراً عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
« أكرموا الهرَّ والهرَّة »(2).
__________
(1) أخرجه ابن حبان والحاكم.
(2) رواه الإمام أحمد بسند حسن عن أبي قتادة بلفظ:« السنور من أهل البيت، وإنه من الطوافين والطوافات عليكم ».(1/242)
وكذلك يؤمنون بأن الحجاب يقي من (عين الحسود)، وأيضاً وضْع قليل من الملح في كيس يعلَّق في رقبة الأطفال، وكذلك ناب الذئب، أو ناب الضبع، أو رأس الهدهد(1).
ولفهم المراد من الرقى والتعاويذ نقول:
* ... * ... *
سادساً:
الرُّقى والتعاويذ
قديماً كان بعض الناس ورجال الدين على الطيب والبساطة، فكان بعضهم وعلى سذاجته يلجأ لهذه الكتابات المكتوبة على ورقة فيها آيات قرآنية، وفيها من الدعوات التي تتضمن طلب الشفاء، وهي بالحقيقة لا تغني وليس لها من فائدة ترجى، لأنه لا يغيِّر الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،فالمسألة تحتاج لتوبة ولذكر حقيقي لله واستعاذة بجنابه العالي الكريم فاستقامة.
ولكن فيما بعد استغل السحرة هذه الطريقة، فكتبوا هم أيضاً الحجب والرقى والتعاويذ الكاذبة، والتي إن اطَّلعت عليها لرأيت نصوصاً وكلمات مكتوبة،وكعادة أهل الشر تجدها كلمات قرآنية مكتوبة بالعكس، مثلاً رأساً على عقب،
أو مقصوص منها ومحذوف كلمات أو آيات، أو مضاف لها رموز وكلمات مبهمة، ثم ينصحون زائرهم بحملها دائماً،أو شرب الماء المقروء عليه من نصِّها،أو المنقوعة فيه،أو.. إلخ،بحيث يبقى هذا المسكين المصاب بما عليه من استحقاق والذي لجأ إليهم يتوجَّه بنفسه للسحرة ويتذكرهم، كما أنهم يعطونه عقاقير (وهي عبارة عن بول مخلوط بماء أو فيه دماء فاسدة..)، وكل ما من شأنه إلحاق الأذى بالضحية وتعطيل آلية التفكير عنده، حتى يغدو مخبولاً. وهنا يحدث الأذى الحقيقي لهذا المسكين المصرّ على الخطأ، إذ لم يغير ما في نفسه، وجعل لله شركاءً التجأ إليهم وهم ألد الخصام، وقد سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النشرة " أي رقية وعلاج لمن يظن أن به مسٌّ من الجن " فقال صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا يدخلون الجنَّة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدِّق بالسحر.. »(2).
__________
(1) شبكة المعلومات العربية ( محيط).
(2) مسند الإمام أحمد ج4.(1/243)
وفي حديث ثان بلغ التحذير منه صلى الله عليه وسلم أن قال:
« ليس منَّا من تطيَّر ولا من تُطيِّر له، أو تكهَّن أو تُكهِّن له، أو سَحَر أو سُحِر له، ومن أتى كاهناً وصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد »(1).
ويقول الشيخ السعدي رحمه الله مبيِّناً وجه إدخال السحر في الشرك والكفر:
(السحر يدخل في الشرك من جهتين:من جهة ما فيه من استخدام الشياطين ومن التعلق بهم،وربما تقرَّب إليهم بما يحبون،ليقوموا بخدمته ومطلوبه (وما أمره إلا الفحشاء والمنكر)،ومن جهة ما فيه من دعوى علم الغيب،ودعوى مشاركة الله في علمه،وسلوك الطرق المفضية إلى ذلك من شعب الشرك والكفر ).
وقد جاء في الحديث الشريف:« حدُّ الساحر ضربه بالسيف »(2).
والحقيقة أن المرض,والفقر,والشدائد,هي وسائل تقطع النفس عن الدنيا وتصرفها عن شهواتها، وتجعلها في شغل شاغل عنها،فلعل هذا الإنسان حينما ينقطع عن الدنيا بسبب هذه الشدائد التي حلَّت به ينيب إلى ربه، ويتعرَّف إليه تعالى،وهنالك تتفتح أمامه سبل الإيمان بعد أن رفعت الشدائد من طريق النفس
ما كان يعترضها من حواجز الشهوات، فإذا ما توصلت النفس إلى الإيمان، وأريد به الإيمان بلا إ?له إلا الله، وتحققت به، فما أقرب وصولها إلى الطهارة، وما أيسر وأهون الوصول إلى الكمال، فلا حاجة والحالة هذه لشدائد ومصائب وبليات، ولا فعالية لساحر عليه، بل تنال هذه النفس المؤمنة بالله سعادة تتلوها سعادات، وتلك لأيْم الحق الحياة الإيمانية بأرقى مراميها، لقوله تعالى:
{
__________
(1) فيض القدير في شرح الجامع الصغير ج5،رقم الحديث/7680/.
(2) أخرجه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي (المستدرك4/360،نواقض الإيمان/ 512).
... ...(1/244)
مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ..} (147) سورة النساء,فالشدائد والمصائب وسائل للإنابة إلى الله والرجوع للطريق القويم: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (21) سورة السجدة,فإذا رجعوا وتابوا، وإلى ربهم أنابوا، فلِمَ هذه العلاجات " العذاب الأدنى "؟!. فهذا الذي ارتاد أهل التعويذة والرقية ملتجئاً إليهم ليرفعوا عنه ما ابتلي به، إنما ألقى بنفسه على شفا جُرفٍ هارٍ، ونسي الآية الكريمة:{.. إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ..} (11) سورة الرعد: لقد نسي هذا الإنسان ما قدَّمت يداه، وما كان سبب ابتلائه {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ} (30) سورة الشورى صدق الله العظيم.
فطالما أن المؤمن لم يُلبس إيمانه بعمل منحط، فهو في أمان من الذل والإهانة والخسران.
أما إن وقع في قلبه ميل إلى الدنيا داواه الله، عندها عليه بالصبر والبحث عمَّا كان سبباً في ابتلائه، ليتراجع عنه تائباً إلى الله. وهذا التائب هو المهتدي للسعادة وللجنَّات، كما ذكر تعالى {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } (156) سورة البقرة: يستسلم لله ويصبر، ويعلم أن ذلك رحمة به، لا يلتجئ لأحد إلاَّ إلى الله.
{وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }:رجعت بالتوبة عن عملي وخطئي يا رب. يتوب إلى الله متاباً. {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ..} (157) سورة البقرة:بهذا الصبر الذي صبروه، واعترافهم برحمة الله، توجهوا بقلوبهم إليه تعالى وطَهُرَتْ نفوسهم، فينزل التجلي الإ?لهي عليهم. {.. وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} (157) سورة البقرة: للحق، حيث يحصل لهم نور من الله، وهؤلاء يدخلون الجنة.(1/245)
هؤلاء الذين التجؤوا إلى الله ولم يشركوا معه أحداً ( لا كاهناً ولا عرَّافاً، ولا بصَّاراً، ولا ساحراً ).
وأما نتاج من التجأ إلى هؤلاء فزيادة الهموم والمشاكل والإرهاقات، مصداقاً لما قاله الجن الذين آمنوا:
{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (6) سورة الجن.
- وقد يشترك عدة سحرة على ضحية واحدة، وتكون الشراكة صورتها خلاف حاد، مثلاً:
يعبُر الشيطان بامرأةٍ، وتزداد عليها الإرهاقات والضغوطات الشيطانية، فيلتجئ أهل تلك المرأة إلى من يخلصها، وغالباً ما يلجؤون لساحرٍ آخر، وبالاتفاق يترك الشيطان تلك الضحية ليسلمها إلى الساحر الأقوى الذي يفتك بها، ويدلف بها مداخل الشياطين بكل يسر وسهولة، حيث سلمت قيادها له، فتوكلت عليه
وما غيرت ما بنفسها وأشركت بالله،فتسقط عندها في المجاري السفلية سقوطاً حراً.
- وكثير من النساء السحرة أو الباطنيات ما تدَّعي المرض، وتقوم بالتمثيلية الكاملة، فتوهم أهلها جميعهم بمرضها، وتبقى على ذلك في حالة من التأوه والتمثيل لا ينفعها دواء حتى يلتجئ أهلها إلى شيخ ساحر، وسرعان ما تبرأ من مرضها وتنتهي من تمثيليتها، لتسلِّم زمام أهلها إلى ذلك الساحر برابطة التقدير والمحبة والولاء والعرفان بالجميل، ويحل البلاء الطام بهم حيث الهويان الذريع.
عودٌ على بدء: ... ولعلك تسأل:
هل يستطيع الساحر والشيطان أن يجعلا أي شخص هدفاً لأذاهما يتلاعبان به كما يريدان؟.
وفي الجواب عن هذا نقول: ...
لاشك أن الشيطان لا حول له ولا قوة، وأن كيد الشيطان كان ضعيفاً إلا على مستحقه، فيلتجئ هذا المسكين إلى الساحر، فيدعو من كان ضرُّه أقرب من نفعه!!. ألا ذلك هو الضلال البعيد. فلو لم يرتكب المسحور جرماً ومعصية بالغة لما تمكَّن الساحر من سحره والتأثير عليه.
{(1/246)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} (129) سورة الأنعام: فبالأصل المظلوم كان ظالماً. فإن تاب وأقلع عن ارتكاب المعاصي والمنكرات والتعدّيات على الأموال أو الأعراض، وعمل ما استطاع من الخيرات، شفي من سلطان السحرة، ولم يعد لشياطينهم تأثير عليه إطلاقاً. وإلى ذلك أشارت الآية الكريمة : {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ،إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } (99-100) سورة النحل.
وكذلك قوله تعالى:
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ، تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} (221-222) سورة الشعراء: حباب للدنيا مرتكب للموبقات. وإن لم يتب شدد الشياطين عليه وعذبوه ليخضع لهم، وبذلك يذوق طعم صحبتهم النيرانية في الدنيا قبل الآخرة، فإن لم يرجع عن غيِّه ويتوب وينجو فإنه يستسلم للشياطين، فيكفُّون عن تعذيبه لأنه غدا عبداً ذليلاً لهم,عندها يكفر ويسير بسيرهم، أي: يسير بالموبقات والمعاصي,ثم يصبح شيطاناً مريداً من شياطين الإنس,وقد يصبح من السحرة الكهنة بعد أن كان يشكو المرار منهم،وهذا كان بإمكانه النجاة من براثنهم لو تاب وأناب وآمن بالله وابتعد عنهم، ولحظيَ باللذائذ العلوية والنعيم المقيم.
ومن الجدير بالذكر وما نراه من خلال الآيات السابقة أن الشياطين تتسلط على الذين يتولَّوْنها، والذين هم بها مشركون.
وأنَّ كل ما قيل عن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من أنه سحر(1)،
__________
(1) لطفاً الإطلاع على كتاب (حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم تظهر في القرن العشرين) لفضيلة العلاَّمة محمد أمين شيخو
" قدِّس سره " بحث(هل حقاً النبي مسحور؟!) .(1/247)
وبقي تحت تأثير السحر وشياطينه أشهراً،إن هي إلاَّ من دسوس كفرة اليهود الأذلاء، لأن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم طردهم من الجزيرة العربية لخياناتهم،ولأن القرآن نسف أكاذيبهم، ولأن رسول الله دوماً مستعيذ بالله, ويترفع عن صفات المستحقين لتسلط الشياطين، وتعالى عن ذلك علواً كبيراً صلى الله عليه وسلم.
فسلطان الشيطان على من يتولاه من الخبثاء، وعلى المشركين لا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رسول رب العالمين.
ملحوظة:
وهناك أناس أطلقوا العنان لشهواتهم من المترفين الملحدين، فهؤلاء لا يقترب الشيطان ولا الساحر منهم، ولا يحاول أن يؤثِّر عليهم، خشية أن يصدِّقوا أن هناك عوالم أخرى غير مرئية وكانت عنهم خفيَّة، فيخافون أن يكون هناك آخرة وإ?له وحساب ومسؤولية ... فربما يؤمنون، لذا فإن الشيطان لا يقترب من أمثال هؤلاء، لأنهم بطبيعتهم سائرون بسيره بالضلال, فهو يبتعد عن إثارتهم أو التأثير على أعصابهم، ليبقوا في الضلال سادرين.
* ... * ... *
سابعاً:
الحسد والإصابة بالعين
وهي أن يرى الإنسان المعرض نعمةً على غيره فيستحسنها ويتمنى نوالها وزوالها عن صاحبها، فتصبح نفسه مركباً ومحملاً للشيطان، إذ يتخذ الشيطان من شعاع نفس ذلك الحاسد مركباً، فيسري محمولاً في هذا الشعاع، فما أن يصل الشيطان إلى المحسود ويصطك به حتى يصيبه بأذى، فيهمزه همزة يقع بسببها صريعاً أو ميتاً،
أو مريضاً يشكو ألماً ووجعاً في عضو من أعضائه، وقد أشار تعالى في القرآن الكريم بقوله: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (97) سورة المؤمنون، على أن المحسود لو كان بذلك الحين مقبلاً على الله تعالى عائذاً به سبحانه، وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم مرتبطاً، لما استطاع الشيطان إيذاءه، ولما تمكن من الإضرار به.(1/248)
فما عليك إذا أردت أن تحفظ وتوقى إلاَّ أن تعوذ به سبحانه دوماً، وما عليك إذا كنت ناسياً ورأيت من حاسد استهواء، وخشيت من نظراته أذىً وشراً، إلاَّ أن تتذكر الله وتعوذ به فوراً.
هذا وكما يحفظك الله تعالى إذا عذت به من شر الحاسد، فكذلك يحفظ سبحانه كل من كانت نفسه مرتبطة بك، أو من كانت نفسك مرتبطة به ومتجهة إليه، فأهلك وأولادك حتى الزرع والدواب التابعة لك، وكذلك جميع من تربطهم بك رابطة المحبة، يُحفظون بوجهتك إلى الله تعالى وعياذك به من الإصابة بالعين الحاسدة، ذلك لأن محبة نفس لنفس معناه: سريان أشعة نفس المحب إلى من يحبه والتقاء أشعة النفسين، وبما أن نفسك تحيط أهلك وجميع من تحبهم بهالة من أشعتها، فهي دوماً على اتصال بهم دون انقطاع، وحيث أن نفسك محصَّنة بنور الله تعالى، لذلك لا يستطيع الشيطان دنوّاً منهم أيضاً، ولا إيذاء أي منهم.
وقد قيل له صلى الله عليه وسلم: أن امرءاً أصاب آخر بالعين، أي: نظر إليه نظرة استحسان مقرونة بالغفلة عن الله، فأصاب المحسود منها ما أصابه من أذى، فغضب صلى الله عليه وسلم، ولامَ الناظر على إيذائه أخيه وقال له:« هلاَّ باركت »!...
يريد بذلك صلى الله عليه وسلم من الإنسان، إذا رأى نعمة على غيره واستحسنها أن يذكر اسم الله تعالى في الحال، ويصلي على النبي الكريم، وما ذاك إلا لتندفع الغفلة عن الناظر، فلا تعود نفسه مركباً ومحملاً للشيطان، ولا يبقى للشيطان على المحسود من سبيل.
فإن أنت عذت بالله ملتجئاً إليه خلصت من عدوك، وانسدَّت في وجهه جميع الطرق التي يقدم منها إليك.
* ... * ... *
عودٌ على بدء:
تعريف الحاسد والكيفية التي يقع بها الحسد على المحسود
قال تعالى في سورة الفلق: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ،مِن شَرِّ مَا خَلَقَ،وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ،وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ،وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} (1-5) سورة الفلق
{(1/249)
وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}:والحاسد:هو امرؤ معرض عن الله، يرى النعمة على غيره فيستهويها ويستحبها، ويتمنى زوالها عنه ومجيئها إليه.
وهذا النوع من الأذى يحدث عن طريق أي إنسان غافل عن ذكر الله،ولما كان السحرة أغفل الناس عن ذكر الله، فكثيراً ما يحدث هذا الأمر عن طريقهم،وخصوصاً عندما يقصدون ذلك، ويرمون لأذى فلان من الناس، فيتخذون هذا الأسلوب وسيلة لنيل مبتغاهم الشرير.{إِذَا حَسَدَ}:أي: إذا قام بالحسد،فإذا صدر منه هذا الاستهواء والاستحباب لتلك النعمة التي على غيره وهو في حال الغفلة عن الله كان ذلك سبباً في وقوع الأذى على المحسود،وذلك الأذى هو ما يسمِّيه الناس بالإصابة بالعين.
أما تفصيل الحسد، وبيان الكيفية التي يقع بها الأذى والإصابة بالعين من الحاسد على المحسود، فنوضحها بما يلي:
ما كلُّ الناس بمالك جميع ما يحب ويريد، من صحة أو مال أو ولد،إذ كثيراً
ما نجد أناساً قد حرموا نعمة من النعم لحكمة أرادها الله تعالى، فيها خيرهم ومنع الشرِّ عنهم،فكان الحرمان بحقهم خيراً ورحمة،وهذا الحرمان على أنواع:
فمن الناس من حُرم الذرية والأولاد،فهو العمر كله لهفان على أن يكون له ولو ولد واحد،ذكراً كان أو أنثى.
ومنهم من رزق ذكوراً، فهو يرجو ويتمنى أن تكون له أنثى.
ومنهم من حُرم الذكور، ولم يوهب إلا إناثاً .
هنالك من أعطي رزقاً واسعاً ومالاً وافراً، ولم يؤت صحة.
وآخر أوتي صحة وقوة، وليس له مال ومتاع كما تحب نفسه وتهوى.
وهكذا فالله تعالى حكيم عليم، يعطي ويمنع، وما منعه إلاَّ علاج ودواء،وهو في الحقيقة عين العطاء،ولو انكشف عن القلب الغطاء ورأى الإنسان الحقيقة، لما اختار إلاَّ ما اختاره الله تعالى له،بل يشكر الله تعالى سبحانه على فضله بهذا المنع الذي منعه إياه،ولرأى الرحمة الإ?لهية تحوطه وتحوط سائر الناس، لا بل جميع المخلوقات.
{(1/250)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء ..} (26) سورة آل عمران: أنت المعزُّ يا رب.{.. وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ ..}:بيدك الخير لمن أعززته ولمن أذللته، ولمن أعطيته ولمن حرمته من الملْك.
{..إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}:تعطي كل امرئٍ بمقدار ما يناسبه وما فيه الخير له ضمن الحكمة.
أما وقد مهدنا لك بهذه الكلمة،فلننتقل إلى بيان الكيفية التي تقع بها عين الحاسد بأذاها على المحسود،ولنوضِّح لك الطريقة التي يجب تطبيقها لتظلَّ دوماً في حفظ من ذلك الأذى،ونقدِّم المثال الآتي فنقول:(1/251)
هب أن إنساناً عليلاً لازمه المرض حيناً،فانحل جسمه وأضناه،ومازال به حتى حلَّ قواه وأعياه،فأضحى لا يقوى على السير، ولا يستطيع مغادرة السرير،وفيما هو على هذا الحال من السقم والعناء والجهد والبلاء،إذا به يرى آخر يموج جسمه بالصحَّة والعافية،ويفيض وجهه نشاطاً وحيوية،فيستهوي هذا المريض ما يراه على صاحبه من نعمةٍ،ويستحب تلك الصحة،ويستغرق بنظرته تلك استغراقاً كليّاً،يسري معه شعاع من نفسه إلى المحسود،وللنفس سيّالاتها،ولها أشعتها وسريانها،يقع هذا الشعاع الصادر عن نفس الحاسد على المحسود،فيصطك به ويمسه، (وقد حدث اللمس على أساس المس الذي انتقل من التأثير على النفس إلى الجسم فأوقع المرض الجسماني)، وينفذ فيه،وفيما الحاسد في هذا الحال من الاستغراق المقرون بالغفلة عن الله،وفيما أشعة نفسه متصلة بالمحسود نافذة فيه، ينتهز الشيطان الفرصة، لأن الشيطان أعمى إنما يشمُّ الخبث شمّاً، ولولا شعاع نفس المعرض عن الله لما استطاع الشيطان النفوذ إلى المحسود،ويتخذ من شعاع نفس الحاسد مركباً ومحملاً، فيسري محمولاً في هذا الشعاع كما تسري القوة الكهربائية محمولة في السلك المعدني،وإذ بها قد حملها السلك وقد هزت من لامسه السلك هزّاً، أو جعلته يُصعق ميتاً،ولولا السلك لما استطاعت السيالة الكهربائية إليه وصولاً، ولا مسَّته بأذى. وإن هذا المثال الذي قدمناه ينطبق على الشيطان في سريانه هذا تمام الانطباق، فما أن يصل الشيطان إلى المحسود ويصطك به حتى يصيبه بالأذى، فيهمزه همزة يقع بسببها صريعاً ميتاً أو مريضاً يشكو ألماً ووجعاً في عضو من أعضائه، وإلى ذلك أشار تعالى بقوله: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} (97) سورة المؤمنون.(1/252)
وكما أمر تعالى بالآية الكريمة السابقة بالاستعاذة، ذلك لأن الإقبال على الله تعالى والعياذ به وبرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم يجعل الإنسان مُحاطاً من جميع جهاته بهالة من النور الإ?لهي،وبذا يصبح في حرزٍ منيع، ويكون النور الإ?لهي سوراً خفياً يحول بينه وبين الشيطان،فإذا أراد اختراقه هلك واحترق.
ولنا بالعلاَّمة الجليل محمَّد أمين شيخو (قدِّس سره) أسوة حسنة، وهذه واقعة تبين لنا كيف ينقصم ظهر الشياطين وأوليائهم بالاستعاذة بالله:
* ... * ... *
خيبة ساحر
كان عدد من الأشخاص جالسين ملتفين حول بعضهم في غرفة كبيرة، يستمعون حديثاً لطيفاً مريحاً.. فترى على وجوههم شلالات من السرور والنعيم تنصبُّ عليهم، فتغمرهم حتى تنسيهم الدنيا وما فيها من هموم ومتاعب..
وذاك الرجل عريض المنكبين، أبيض الوجه ناصعه، تحمرُّ وجنتاه حمرة دموية فتزيده جمالاً فوق جمال ملامحه، وتبرق عيناه الخضراوان الفاتنتان روعةً وحياةً، وقد جلس في صدر الغرفة تغمره مهابة ربّانية كبرى...
إنه يختال بالقوة المكللة بآيات الرحمة، وقد شفَّ مجلسه وصفا وازدان بحديثه الراقي، يتلو شروح آيات الذكر الحكيم، فيغمر بها قلوب مريديه، ويطير بها لعليين.
وفي آخر الدرس، وبعد الصلاة يتقاطر الحاضرون، يسلمون على مرشدهم بأدبٍ جمٍّ مستأذنين بالانصراف، حتى إذا ما بقي عدد قليل منهم، تكلم أحدهم ويوافقه آخر على ما يقول. كان الاثنان ما يزالان حديثا العهد في التحاقهم بحلقة ذلك المرشد الكبير.
قال: سيدي، ذلك الرجل لا ندري كنهه، وإنا لنظنه من أهل الله، وذا كرامة... على الرغم من أنه ليس عربياً.
أمعن النظر فيهما وقال: من هو؟.. ما قصدك؟.(1/253)
قال: سيدي، لقد تناقل بعض الناس أخبار أجنبي قد قدم إلى الشام، واستقر في منطقة المرجة في الساحة العامة فيها، فأقام محلاً له، وبات يستقبل الناس والسائلين، فما من حاجة تسأله عنها إلا ويأتيك بالجواب لها، والغريب يا سيدي أنه يطلب من زائره أيّاً كان أن يضمر بنفسه حاجته دون أن يتكلم، أو يدلي بها لأحد... ثم يغيب ضمن غرفة له دقائق معدودات، يخرج إثرها على زائره، ويفتح ورقة بيضاء لا كتابة مسبقة عليها موضوعة أمامه، مسطَّرٌ فيها كتابة كاملة تشرح ما قد ضمره الزائر في نفسه من حاجة، مرفقة مع الجواب... كل ذلك يا سيدي مقابل ليرة ذهبية.
قال المرشد الكبير محمد أمين شيخو: ماذا؟. ماذا تقول يا بني ؟. إن هو إلا شيطان إنسي يتعامل مع شياطين الجن ليس إلاَّ.
أجاب المتحدث يسانده في حديثه صاحبه: ولكن يا سيدي.. إن عمله عجيب غريب!.. أتدري يا سيدي أنه قد دخل أحدهم إليه، وقد ضمر أنه يريد أن يحفر بئراً في أرضه، لقد ضمر ذلك في نفسه دون أن يُعلم أحداً، وعندما سحب ذلك الأجنبي الورقة ظهر فيها الجواب مكتوباً باللغة العربية بخط جميل: احفر وعمِّق.. ستنجح.
قال آخر: نعم يا سيدي، فلقد رأينا ذلك بأم أعيننا..( وللأسى فقد حفر وعمَّق بعدها، وتكلَّف باهظ الثمن، فوصلت الحفارة إلى أرض صخرية، ولم تنبع قطرة ماء!..).
تابع قائلاً: وآخر دخل إليه وقد ضمر بنفسه أنه سيسافر لبلد أجنبي لتجارة هناك، فهل سيوفق؟. هكذا هو نوى، ولما سحب الورقة وجد فيها جواباً واضحاً: أن سافر وستنجح.
وآخرون كُثر يا سيدي.. حتى أنه لو دخل إنسان ليس بعربي، فإنه سيجد الورقة مكتوبة بلغته.. وإنها لإحدى العجائب، فوالله يا سيدي إن سر هذا الشخص غريب!.
ضحك السيد محمد أمين وقال: ألم أقل لكم يا بني أن عمله كله عن طريق الشياطين، إنه شيطان إنسي، وعمله هذا ينجزه بمساعدة أمثاله الخفيين عن أعيننا من قرائن شياطين الجن.. ألم تسمعوا قوله تعالى:
{(1/254)
وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (6) سورة الجن!.
فيا بني.. إن عمله عمل ساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى، ولا غرابة فيه فهو إنسان بعيد عن الله معرض بقلبه عنه.
لقد شطن عن خالقه، حتى غدا بنفسه شيطاناً قد امتطته شياطين الجن، وسخَّروه لأغراضهم الشريرة في إيذاء الخلق وتحويلهم عن الله، وهو لا يبغي من عمله هذا إلا شيئين اثنين، أحدهما المال، وثانيهما وهو الأهم، تحويل الناس عن محبتهم وتقديرهم لله، ليعظموه ويلتفتوا إليه مقدرين عمله هذا وهو بعيد عن الله، معذب النفس، وببعده هذا وبالتفاتهم إليه مقدرين فعله وغرائبه يسرِّي بهم الشياطين، ويتعرَّضون للأمراض النفسية فيبتعدون عن ربهم، ويظنون به تعالى الظنون أقصد ظن السوء، كظنه هو تماماً.
وبذا يخسرون، وتقع نفوسهم في الإعراض والظلمات، وهذا سعيه، سعي الشيطان الراسب ومبلغ هدفه، إذ دائماً يسعى الخاسر الفاشل ليوقع غيره كما هو رسب حسداً وحقداً. ولنا يا بني في قصة سيدنا آدم عليه السلام والشيطان إبليس عظة وعبرة، لكي لا نغتر بالشيطان، ولنعلم أنه عدو.. فذاك الذي عنه تتحدثون، إن هو إلاَّ ساحر ينقل ما يضمره الإنسان عن طريق القرناء، أي عن طريق الشياطين، فلو كان الإنسان ملتجئاً لربه، مستعيذاً به حق الاستعاذة، لما استطاع أن يفعل هذا الفعل الذي غركم به، وكدتم تظنونه من أهل الله.(1/255)
فيا بني، لا تغتروا بتلك الأعمال السحرية، وما علامة أهل الله إلا أنهم يلفتون انتباه وتفكير الإنسان وتقديره لخالقه المنعم المتفضل على المخلوقات كلها بالطعام والشراب والحياة، فيلتفتون إليه تعالى عن طريق تفكرهم في خلقهم، وفي آياته تعالى الكونية، من شمس وقمر ونجوم وسحب ومطر ونبات وشجر، وما يرفدهم به من نعمه.. وبذلك يقدروه تعالى ويقدروا فضله عليهم في تربيتهم، فيميلوا بالمحبة إليه تعالى، هذه علامتهم، لا ينسبون الفعل لأنفسهم أبداً، ولا يوجِّهون الناس إلا لله ورسوله، لا أن يعملوا مثل تلك الأعمال التي لا يقبل بها الفكر القويم ولا المنطق السليم، من غيبيات تفتن الناس عن التفكير الحق والمنطق السليم.
تابع السيد الكريم يعظ الاثنين حديثي العهد عنده بكلامه العالي الرشيد، وفي نهاية الحديث توجه نحو السائل وقال له: على كل حال يا بني غداً نذهب سوياً إليه فما رأيكم؟.
قالا وبشوق ولهفة: يا حبَّذا وبأمركم.
في اليوم التالي توجه السيد الكبير معهما إلى صاحب العجائب والغرائب.. وصلوا المكان حيث استقر ذلك الأجنبي.. إنه محل كبير في داخله غرفة صغيرة.. دخل السيد محمد أمين ومن ورائه مريداه، كان يجلس على كرسي بقرب رجل عربي.. لا شك أن الثاني مترجم قد استأجره لينجز أعماله بيسر وسهولة.. نهض المترجم وقال: أهلاً وسهلاً تفضلوا..
تطلع الأجنبي بالسيد الوقور نظرات قصيرة، ثم قطعها وكأنه لم ينسر.. ثم توجَّه للمترجم يطلب منه أن يسأل الزوَّار ما هو طلبهم؟.
ولمَّا عَلِمَ أنهم يريدون أن يضمروا أمراً كالعادة طلب من المترجم أن يبلغ السيد بأن يضمر شيئاً بنفسه.
كذلك فعل السيد الفاضل، وقال للمترجم: لقد نويت على شيءٍ في نفسي فأنا جاهز، ووضع ليرة ذهبية على الطاولة.(1/256)
أحضر الساحر ورقة بيضاء، عرضها على الحاضرين بأنها نظيفة خالية من الكتابة، ثم طواها من منتصفها ووضعها بكتاب على الطاولة بالقرب من الحضور، ودخل بسرعة لغرفته الصغيرة وأغلق الباب من خلفه، وكالمعتاد ما هي إلاَّ دقائق حتى خرج.. ولكن للغرابة أنه دخل نشيطاً وخرج على غير العادة مثقلاً تعباً!!.
سار باتجاه الورقة البيضاء المطوية بوجه كامد معفَّر، فتحها، فازداد لون وجهه كموداً وعناء، فالورقة وللغرابة أنها خرجت على غير العادة، إذ أنها بيضاء، خالية من أي حرف كان!!. نظر الاثنان المعجبان إلى الورقة فرأوها خالية من الكتابة، ارتسمت على وجوههم الدهشة والاستغراب، ثم تحولوا بنظرهم إلى كامد الوجه، وما يزال نوع من الدهشة يعلوهم، ينظرون إليه بغرابة.. نظروا إلى المرشد الكبير، فرأوا في وجهه ثقة عالية وأماناً واطمئناناً، يقف وقفة العز الطبيعية المعتادة فيه، أما المترجم فكان حائر النظر، ينظر إلى الأجنبي حيناً، ثم إلى السيد محمد أمين حيناً آخر.
صمت الأجنبي قليلاً وما يزال مستقر البصر على الصفحة البيضاء، يعض شفته السفلى ويمتصها، يبدو أنه قد علاه نوع من الاضطراب.. لحظات مضت، والصمت يخيم على المكان.. إلا من نظرات متبادلة كأنها ألغاز، فهي من لغة النفوس.
فجأة التفت الأجنبي إلى المترجم مخاطباً السيد محمد أمين: إنك لم تضمر بنفسك شيئاً.
ابتسم السيد محمد أمين شيخو، ثم قال: قل له بل ضمرت في نفسي.
هنالك أعاد الرجل الورقة كما كانت عليه، ثم انفتل وأسرع في دخول غرفته الصغيرة.. بينما التفت المرشد الكبير إلى الإثنين يحدثهم بحديثه الراقي العالي عن حضرة الله الذي يأخذ بمجامع القلوب.
مضى من الوقت ربع ساعة.. نظر المترجم إلى ساعته وقد كساه الاستغراب، فهو ما عهد من قبل من صاحب الأعاجيب مثل هذا التأخير مطلقاً.. هذه أول مرة يغيب في غرفته بمثل هذه المدة الطويلة من أجل كشف الأسرار.(1/257)
بعد مضي قرابة ثلث الساعة، خرج من الغرفة وقد تقاطر العرق من وجهه.. وحلَّ التعب بأنحاء جسمه، كان عَبوساً قمطريراً، وكأنه يندب حظ اليوم التعيس، اقترب بخطى مثقلة ثم وقف ناكس الرأس أمام ذلك السيد الوقور، وفتح الورقة!..
لقد كانت بيضاء لا كتابة عليها.. نظر الاثنان والمترجم إلى الورقة بدهشة وغرابة، وبدت في وجوههم علامات استفهام كثيرة، أما هو فقد بدا البؤس متفاقماً في ملامحه وازداد عبوساً، التفت إلى السيد الوقور الذي ما يزال متألق الوجه مزداناً بالبهاء والنقاء، وقال للمترجم مخاطباً السيد محمد أمين: إنك لم تضمر أَمْراً.. لا .. لا .. لم تنوِ شيئاً بنفسك.
قال السيد الفاضل للمترجم: قل له بل ضمرت.. ردَّ الأجنبي مخاطباً المترجم: إن كان قد فعل فليخبرك بما ينويه سراً بينك وبينه عن بُعْد، وقل له أنك ستبقى بالقرب منه ولن تدنوَ مني.
لما علم السيد الفاضل بطلب الأجنبي ابتسم وقال: له ما يريد، ثم التفت إلى المترجم ومشى خطوتين قصيرتين، فاقترب المترجم بأذنه من السيد محمد أمين الذي همس ما ينويه بنفسه قائلاً: أريده أن يخبرني عن محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
خلالها كان صاحب العجائب يقف عن بعد منهما، ولكنه يحدق بعينيه السوداوين بإمعان، ويراقب الوضع بدقة..
وبنهاية الإخبار أشار للمترجم عن بُعْد مستفهماً أن: هل أخبرك؟!. فأومَأ المترجم بالإيجاب، أي نعم لقد أخبرني.(1/258)
عندها عاد الساحر إلى غرفته فأغلق الباب، واستغرق مدة من الزمن ،ولكن هذه المرة كانت أطول من كل مرة.. لقد غاب قرابة نصف الساعة، ثم خرج وكأنه قد وقع في يد عدد من الرجال فأوسعوه ضرباً حتى خارت قواه وتلاشت عزيمته.. يترنَّح كأنه لا يقوى على حمل جسمه والعرق يبلِّله.. فتح الورقة فوجدها هي ذاتها لم يتغير فيها شيء، بيضاء خالية من الكتابة!!. صمت قليلاً مفكراً بأمر فشله اليوم.. وبدا وكأنه قد علم السبب، علم أنه ما يزال هنالك نواطير لم تنم عن الثعالب، لقد تفاجأ بالواقع وصدمه صدمةً قاسيةً، فخاب فأله، ظن البلاد خلت من الإيمان، وبإمكانه أن يشيع الخراب فيها، ولكن يا لبالغ أسفه، خاب أمله.
التفت السيد الفاضل وخاطب المترجم قائلاً: قل له .. أن شيطانه لا يستطيع أن يقترب من نبينا الطاهر الشريف محمد صلى الله عليه وسلم .. لأنه إن فعل احترق بنوره الإ?لهي.
بعد مدة قضاها الساحر صامتاً التفت إلى الحاضرين وقال عن طريق مترجمه: أن أوضاعه وأحواله النفسية بهذا اليوم ليست على ما يرام، ولكن غداً عودوا وستجدون طلبكم مجاباً. ابتسم المرشد الكبير وقال لصاحبيْه: لن تجدوه غداً.. لأنه سيهرب، ثم استعاد ليرته الذهبية ووضعها بجيبه.
وفي اليوم الثاني فرَّ الساحر من كل سوريا، راجعاً لبلاده يجر أذيال الخيبة والقنوط. كان يخطط أن يتابع جولته هذه في معظم محافظات القطر من حمص إلى حماة إلى حلب إلى.. ففشل.
* * *
ثامناً:
التنويم المغناطيسي
من أنواع السحر الرائجة .
رغم أن هذا النوع من السحر يمارس منذ قديم الزمان بعهد الفراعنة، كعلم ذي شأن في مصر القديمة واليونان وبابل،إلاَّ أنه قد أصبح له الآن ومع التقدم العلمي رواجٌ أكبر بكثير مما مضى، لأن السحرة خرجوا على الناس بزي العالِم المغناطيسي، وسمُّوا سحرهم الذي يمارسونه على سذج الناس بالتنويم المغناطيسي،وفي الحقيقة، ليس له أية علاقة لا بالنوم ولا بالمغناطيس.(1/259)
نعم دخل ممارسوه بثياب الأطباء على الناس بالمكانة المبجَّلة عندهم،فحاولوا من أجل غاياتهم المادية وغيرها شفاء الناس على حَدِّ زعمهم من أمراضهم النفسية، وهم يخرِّبون قلوبهم بل وأجسامهم حقّاً، ووصل الأمر إلى أن انساق وراء هذا النوع من السحر بعض الأطباء، وخصوصاً الأطباء النفسيين،فأول من عمل في هذا المجال من الأطباء:الطبيب السويسري" فرانز انطوان يسيمر" في القرن الثامن عشر.
وصار البعض يعتبره علماً ويجلّه. فمتى كان للشيطان نوايا حسنة؟!. ومتى حاول أن يفيد مخلوقاً في حياته ؟!. إذ لا يُسرُّ إلا بشقاء الآخرين وأمراضهم وآلامهم: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ،إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (39-40) سورة الحجر.(1/260)
يعتمد هذا النوع من السحر على محاولة التسلط والسيطرة النفسية على المسحور، وذلك من قِبَل الساحر، بما يقوم به من أفعال وأقوال، إذ يؤمر الشخص الذي سيخضع للسحر من قبل الساحر (بما يقوم به من أفعال وأقوال بمعونة قرينه الشيطان) بأن يبدأ في التركيز البصري على شيء محدد (نقطة معينة في سقف الغرفة مثلاً أو أي شيء ..)، وبجوٍّ من الصمت والسكون ينصت المسحور إلى صوت الساحر حتى يغمض جفنيه، وتسترخي كلُّ عضلات جسمه متتبعاً في ذلك كل التعليمات الصادرة إليه،وهكذا حتى يصبح صوت الساحر هو المسيطر الوحيد على شعور ووعي النائم بنوعٍ من الإيحاء والتسلط النفسي،ويتابع الساحر التمكُّن من نفس هذا الشخص، فيخفض صوته شيئاً فشيئاً حتى لا يكاد يسمع، لتسري نفس المسحور مع شعاع نفسه الخبيثة السارية مع الشياطين، ثم يكرر عبارات إيحائية تساعده في مهمته،تحوي على بعض الكلمات مثل:(نائم ،حالم،مسترخ)،وهنا وبهذه الحالة يستطيع الشيطان أن يدلف من خلال شريكه وخليله الساحر إلى نفس المسكين المسحور،ثم يباشر في إدخال صور وخيالات تتولى عملية تعميق التنويم، حتى تتم السيطرة المطلقة للشيطان على نفس المسحور.
وكمثال بسيط مصغر على هذه السيطرة النفسية التي خضعت لها نفس المسحور من قبل الساحر وخليله الشيطان:أن يوحي الساحر مع شيطانه للمسحور أن رِجله لا بد تؤلمه، ولن يستطيع أن يطأ الأرض بها.
ثم وعند إيقاظه من حالة الاسترخاء سينهض المسحور وقد سرى بنفسه هذا الإحساس، ولا يعود بإمكان أي شخص أن يقنعه بأنه ما من سوء برجله، وأنها سليمة،بل ستبقى هذه الفكرة مطبوعة بذهنه، ولا يستطيع أحد إقناعه بالحقيقة
ما لم يخضع لتنويم وجلسة من السحر لإزالة الفكرة من نفسه.
ويشترطون في الساحر (العالم المغناطيسي) أن تتَّصف شخصيته بالقوة، حتى يستطيع أن يهيلم ويهيمن ويسيطر على الضحايا.(1/261)
التجأ لعدوه، فماذا سيفعل به؟!.. ... ومما يثبت هذه السيطرة:أنه وخلال عملية التنويم يبقى المسحور مفتوح العينين، علماً أنه يستوعب كل ما يدور حوله، ولكنه لا يستطيع
الإجابة إلاَّ على الساحر بمعونة إخوانه الشياطين. ولكن كيف للناس المتبعين هذا السحر أن يرقبوا فيه نجاتهم من الأمور التي يعانون منها؟!. ألا يفكرون بما يحدث خلال ذلك من جرائم؟!.
ونسوق لكم نموذجاً مما قد يرتكب بهذا المجال من جرائم:
ـ شابة تأخر زواجها، فلجأت إلى مشعوذ بقصد الكشف عن حالتها، والتأكد من سبب تأخر زواجها، وما لبث هذا الأخير ولفساد خلقه أن سقى الفتاة منوماً كي يسهل عليه هتك عرضها، وقد فعل،وهكذا يفعلون وحتى بالفتيان: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء ..} (169) سورة البقرة،وما هذا إلاَّ غيض من فيضٍ مما يروّج ويحدث في هذا الميدان من فُحش وموبقات، تُرتكَب من قبل الساحر على المسحور خلال استسلامه الكلي له، ولشيطانه الذي لا يهمه إلاَّ إيقاع الأذى ببني الإنسان!. حقّاً لقد أغواه الشيطان فاستسلم لعدوه الساحر.
ويدَّعي مؤيِّدو هذه الطريقة أنها قادرة على تخليص الناس من التدخين والكحولية، والتثبيط الجنسي والخوف والشعور بالدونية(1)، ومن بعض الآلام النفسية والجسمية، وقد يتوقف الضحية عن عادة كالتدخين بسبب إشغال الشياطين الضحية بما هو أسوأ منه إذ يوصلونه للجنون.
وحجتهم أن هذا النوع من السحر يقوم على خلق صورة عن الذات تندمج تدريجياً مع الشخصية، بحيث يصبح للإنسان ما يريد أو ما يفكر فيه!!.
فمتى كان تغير الطباع للأحسن يأتي من ساحر وشيطان؟!. وكل إناء بما فيه ينضح،وفاقد الشيء لا يعطيه. وهل هناك أشرّ من نفس الشيطان؟!.
__________
(1) لأن شياطين الإنس بمعونة إخوانهم من شياطين الجن وبمنحه شهواته الخفية الجهنمية يفقدوه مواهبه وشخصيته وملكاته، فيغدو آلة بيدهم، وعبداً حقيراً ذليلاً لهم، فهو دونهم لدناءته.(1/262)
وهل تأتي معظم الأمراض النفسية إلا من اتباع طريق الشيطان ومهاويه وتأثيراته النفسية على الإنسان البعيد عن الله؟!. فلو كانت تجدي حسب ادِّعائهم، فلماذا عجز كل الطب والعلم في معالجة الإدمان؟!. وأين الأمثلة على تلك الشفاءات من الإدمان بأنواعه؟!.
ما هي إلاَّ ادعاءات باطلة وتمويهات لا تمت للواقع بصلة ، وغايتها الدمار الخلقي الإنساني،ولا يغير طباع الإنسان إلا الله بإقباله عليه تعالى،لأن الكمال من الله يكتسب، وبالصلة الحقيقية بالله وبالإقبال عليه تعالى تشفى نفس هذا الإنسان من أدرانها، بنور الله تتبدَّل صفاتها السيئة بصفات حسنة،حيث تخرج من ظلمتها (ظلمة البعد عن الله التي سببت لها الأمراض النفسية) إلى ميادين أنوار المحبة الإ?لهية،حيث السعادة والحياة القلبية وتجدد الأمل بفجر ميلاد إنساني جديد،قال تعالى: {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ ..} (257) سورة البقرة
كما قال تعالى :{صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً ..} (138) سورة البقرة
وهل يُرتجى الخير إلاَّ منه سبحانه وتعالى وهو وحده ينبوع الخيرات وخالقها؟!.
طريق الشفاء الوحيد ... قال تعالى: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ..} (15) سورة الحج:إن كان هذا ظنه أن لن يعطيه الله من فضله والهدى والخير، وضاقت عليه الأرض
بما رحبت:{ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء..}:أي: ليفعل الخير والمعروف. { ثُمَّ لِيَقْطَعْ}:نفسه عن الشر والأذى والمنكرات والأعمال المنحطة. {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ }:تدبيره وسيره الطيب ألا يُذهب ما يغيظه؟!. أنت اعمل بهذا وانظر النتائج، ألا يفرِّج الله عنك؟. سر بهذا الطريق وانظر، ألا تسعد؟.
أنت تقول: لماذا يسوق لي الشدائد؟. تصور: أب له ابنٌ مريض، ألا يداويه؟!.(1/263)
ربك صاحب رحمة وحنان عليك، وأنت إن مرضتْ نفسك ألا يداويك؟. أم يتركك!.
فالمرض والفقر، والشدائد والمصائب، إنما هي وسائل تقطع النفس عن الدنيا، وتصرفها عن شهواتها، وتجعلها في شغل شاغل عنها، فلعل هذا الإنسان حينما ينقطع عن الدنيا بسبب شدة من الشدائد التي حلَّت به، ينيب إلى ربه ويتعرف إليه، وهنالك تتفتَّح أمامه سبل الإيمان، من بعد أن رفعت الشدائد من طريق النفس ما كان يعترضها من حواجز الشهوات . فإذا صدقت النفس بطلب الحقيقة والحق، بعد أن مجَّت أساليب الغش والمكر والنفاق والخداع لأهل الدنيا، فأعرضتْ عن الدنيا وزينتها وزخرفها الغرَّار، وعن لذَّتها الكاذبة الغَرور، فطلبت كما ذكرنا: الحقَّ المجرَّد والحقيقة، فقد توصلت النفس إلى الإيمان.
وهكذا فباستقامة الإنسان تكتسب نفسه ثقة برضاء الله عليها، وتقبل عليه في صلاتها، فيطهِّرها من أدرانها ومن أمراضها النفسية وعُقدها التي تسبب لها الكآبة والأرق وغيرها،فالله تعالى يشفي الإنسان من أمراضه النفسية فالجسمية إن هو استقام على أمره تعالى، واتَّصل بجنابه العالي فصلّى حقيقة الصلاة(1).
وكل ما يُروى أن فلاناً قد شفي بالتنويم المغناطيسي أو خلص من مشاكل نفسية ليس له أصل، فالتحويل والتصعيد يتم بالله ومن الله وحده، وما عداه فهي فلسفات فرضية لا أساس لها من الواقع. وما المستعين بأولئك السحرة مهما تظاهروا ومهما تنوعت ألبستهم التي يلبسونها على الناس إلا بمستعين بشيطان مريد،أو كالمستجير من الرمضاء(2)بالنار.
وأخيراً:
__________
(1) لطفاً انظر كتاب (درر الأحكام في شرح أركان الإسلام، بحث الصلاة ) للعلاَّمة الكبير محمد أمين شيخو( قدِّس سره).
(2) الرمضاء: شدة الحر.(1/264)
ما السبيل للخلاص من براثن السحرة والشياطين ومن أمراضهم النفسية؟. إذا تذكر الإنسان ربه، ورجع إليه تائباً مقبلاً عليه، مستقيماً على أوامره، مقيماً حدوده، هنالك يخنس الشيطان، ويتراجع متباعداً مدحوراً عن الإنسان، خائفاً من أن يحترق بنور الله .
وإليك أخي القارئ قصة إمرأة خاضت تجربتها مع الشياطين وإرهاقاتهم، وخَلُصَتْ من براثنهم بالتوبة والاستقامة:
* ... * ... *
المرأة التائبة
أصابها الذعر، وحل بساحتها الهلع.. إلى من تأوي؟. إلى من تلتجئ؟.... زوجها معها في الغرفة لا يعرف مصابها، ينام ملء جفونه، وهي لا تستطيع نوماً ولا رقاداً، فما أن تستسلم للنوم حتى تأتيها الشياطين بالكوابيس والإرهاقات والغم والضيق، حتى باتت حياتها تعس وشقاء وخوف وآلام نفسية، لا تُذْكَر آلام الجسم بالمرض تجاهها.
وازدادت الإرهاقات، وزادت معها الآلام... زوجي ألا تشعر؟!. ألا ترى حالتي مما أشاهده؟!. إنهم يهجمون علي بالعصي ضرباً، ولا أستطيع أن أطبق جفناً من شدة تعذيب هؤلاء الشياطين.
هل لديك حل لمشكلتي؟. ولكن زوجها جبر خاطرها بكلمات مؤدبة، وقال بخلده: لعلها تهذي أو تتدلل لأهتم بها أكثر، هذا كيد النساء .. ولكن الأيام تتالت.. وغدت المرأة حقّاً في حالة مضنية ..
ومن بعض نساء حيِّها استدلت على بيت رجل مؤمن، والمؤمن يدعونه بهذا الزمان ولي لقلة المؤمنين الصادقين، بل الحقيقة (كل مؤمن ولي)، وتوجهت قاصدة بيته لتلجأ إلى الله بواسطته .. ولكنها فوجئت عندما استقبلتها زوجته خلافاً لعادة أدعياء الولاية من الكذابين، ممن يدَّعون أنهم أصحاب الكرامات الذين يهرعون إلى أمثال تلك الفريسة .
إذ طلبت رؤية الشيخ، فأجابتها زوجته:
(إنه لا يقابل ولا يجتمع مع النساء وذلك أمر الله، والمؤمن عند حدود الله) .
فأجابت المسكينة:(1/265)
ولكن ماذا أفعل بنفسي؟!. فقد أرهقتني الشياطين، ولا أستطيع نوماً من مضايقاتهم لي، وأرجو أن يكبِّسني .. وتنهدت بكآبةٍ وتأوهٍ مصحوب بزفرات تدل عن همومها وزيادة اضطرابها، فقد ظنت أن الباب أغلق بوجهها وضاقت بها السبل ...
وأثناء ذلك ذهبت زوجة المؤمن إلى زوجها تقص عليه حال تلك المسكينة. حقاً لقد كانت بحالة مأساوية سيئة:
عينان جاحظتان، ودائماً في تأهب للمفاجآت النفسية المزعجة، وقد أحاطت بهما هالة سوداء من الإرهاق، ووجه شاحب أصفر، وحالة الاضطرابات النفسية منعكسة عليه تماماً، وجسم غدا هزيلاً بوجه العموم. عادت زوجة الولي مغتبطة تقول: (إن الشياطين لا فعل لهم ولا حول، وإن القوة لله جميعاً):
{.. وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ..} (102) سورة البقرة،ولكن الله يسلطهم على من استحقوا ذلك العلاج، حيث تكون فيهم بذور خيرٍ ضيعوها بأوهام شهوانية ومعاصيَ ومخالفات، فخلطوا صالحاً من الأعمال بطالح، وهنالك يهرع إليهم الشيطان طامعاً بهم.. ليوقعهم بكبائر الإثم والفواحش، ليصبحوا مثله من شياطين الإنس، فالكون يقوم على سنن وقوانين لا تخطئ أبداً، نظام بديع ودقة متناهية.
وكذلك عدالته تعالى ورحمته تأبى أن تترك هذا الإنسان منحرفاً عن جادة الصواب، ورغم أنها تمهله فإنها لا تهمله، وترقب الفرصة المناسبة لإنزال العلاج بالمصائب والشدائد.
وأمثال هذه التسلطات الشيطانية التي تشعرين بها، وكل ذلك محبة منه تعالى بك، لعلك تتوبين وترجعين للحق:
{وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} (21) سورة السجدة . فإن رجعتِ إلى الحق فذلك المطلوب من العلاج، وعندها تشفينَ، ولا تشعرين بشيء من ذلك. فقالت المسكينة:
ولكن قولي لي ماذا أفعل حتى أرجع إلى الحق لكي أشفى، أرجوكِ. فأجابتها:
((1/266)
انظري ما ترين من المنكرات في بيتك وأزيليها، وكذلك كل ما من شأنه للرجال فتنة فاستريها).
خرجت المرأة المسكينة والفرحة تغمر قلبها بعد أن تمزَّق جدار اليأس والقنوط، وعاد إليها بعضٌ من حياتها وحيويتها، فأرخت المنديل "حجاب الوجه" بالكليَّة.
ونظرت إلى بيتها فوجدت به كشفاً لحرمته من خلال صحن الدار أمام شرفة جيرانها، فقامت بسد تلك الثغرة وأغلقتها، ومن ثم قذفت بكافة المحرّمات التي تثير الفتنة، وتحرك غرائز الرجال أو النساء سواء بصوت أو صورة أو كلاهما معاً.
لقد كانت حقّاً صادقة.
عندها أصبحت تنام ملْء جفونها مرتاحة البال نفساً وجسماً، فعادت إليها النضارة والصحة والهناء، مطمئنة بتوبتها قريرة العين وقد أرضت ربها، وأغلقت كافة مداخل الشياطين، عندها رأت في منامها:
أن الشياطين قد حمَّلوا متاعهم على حمار (حيث كان بيتها في الجادات العليا من حي المهاجرين في مدينة دمشق)، وقد قطعوا أملهم يائسين من هذه التائبة الصادقة، وقالوا لها: قولي لنا أنك تريدين السير بالحق، لا كنَّا تعذبنا ولا عذبناك معنا، وخرجوا من البيت إلى غير رجعة، وقد أخذوا أغراضهم على حمارهم. نهضت والفرحة تعصف بها، والسرور لا يفارقها، ونعيم غريب ملازمها.
بالطبع فقد أُغلقت كافة السبل التي تدلف منها الشياطين، فأنى لهم المكوث في بيت يقيم حدود الله؟!.
وعاشت المرأة بحياة هانئة سعيدة دون نغص أو كرب راضية مرضية.
* ... * ... *
الصرع والعوامل المؤدية إليه
ما هو الصَّرع؟.
النظرة الطبيَّة: ... الصَّرع: هو حالة عصبية تسبب من حين لآخر اختلالاً مؤقَّتاً في النشاط الكهربائي الطبيعي للمخ.(1/267)
والمعلوم أن النشاط الكهربائي الطبيعي للمخ ينشأ من مرور ملايين الشحنات الكهربائية البسيطة بين الخلايا العصبية في المخ وأثناء انتشارها إلى كامل أجزاء الجسم، وهذا النوع الطبيعي من النشاط الكهربائي قد يختل بسبب نشوء وانطلاق شحنات كهربائية شاذة متقطعة لها تأثير كهربائي أشد وأقوى من تأثير الشحنات ذات النوع الطبيعي.
ويكون لهذه الشحنات تأثير على وعي الإنسان وحركته وأحاسيسه لمدة قصيرة من الزمن، وهذه التغيرات الفيزيائية تسمى تشنجات صرعية، ولذلك يسمى الصرع أحياناً بالاضطراب التشنجي . وقد تحدث نوبات من النشاط الكهربائي غير الطبيعي في منطقة محددة من المخ، وتسمى النوبة حينئذ بالنوبة الصرعية الجزئية أو النوبة الصرعية النوعية.
وأحياناً يحدث اختلال كهربائي بجميع خلايا المخ، وهنا يحدث ما يسمى بالنوبة الصرعية العامة أو الكبرى.
ولا يرجع النشاط الطبيعي للمخ إلا بعد استقرار النشاط الكهربائي الطبيعي. ومن الممكن أن تكون العوامل التي تؤدي إلى مرض الصرع موجودة منذ الولادة، أو قد تحدث في سن متأخر بسبب حدوث إصابات أو حدوث تركيبات غير طبيعية في المخ، أو التعرض لبعض المواد السامة، أو لأسباب أخرى غير معروفة بالطب حالياً . وهناك العديد من الأمراض أو الإصابات الشديدة التي تؤثر على المخ لدرجة إحداث نوبة تشنجية واحدة . وعندما تستمر نوبات التشنج بدون وجود سبب عضوي ظاهر، أو عندما يكون تأثير المرض الذي أدى إلى التشنج لا يمكن إصلاحه، فهنا نطلق على المرض اسم الصرع.
ويؤثر الصرع على الناس في جميع الأعمار والأجناس والبلدان.
ويعتبر التشنج عرضاً من أعراض الصرع، أما الصرع فهو استعداد المخ لإنتاج شحنات مفاجئة من الطاقة الكهربائية التي تخل بعمل الوظائف الأخرى للمخ.(1/268)
وهو مرض أو إصابة دائمة تؤثر على الأجهزة والأماكن الحساسة بالمخ التي تنظم عمل ومرور الطاقة الكهربائية في مناطق المخ المختلفة، وينتج عن ذلك اختلال في النشاط الكهربائي، وحدوث نوبات متكررة من التشنج.
إن حدوث نوبة تشنج واحدة في شخص ما، لا تعني بالضرورة أن هذا الشخص يعاني من الصرع.
حيث أن ارتفاع درجة الحرارة، أو حدوث إصابة شديدة للرأس، أو نقص الأكسجين وعوامل عديدة أخرى من الممكن أن تؤدي إلى حدوث نوبة تشنج واحدة.
* ... * ... *
هل الصرع عضوي أم نفسي المنشأ؟..
إن نسبة 70% من مرضى الصرع لم يتم معرفة سبب المرض عندهم لدى الأطباء، أما النسبة الباقية فإن السبب يكون واحداً من العوامل التي تؤثر على عمل المخ... وعلى سبيل المثال: فإن إصابات الرأس أو نقص الأكسجين للمولود أثناء الولادة من الممكن أن تصيب جهاز التحكم في النشاط الكهربائي بالمخ، وهناك أسباب أخرى مثل أورام المخ، والأمراض الوراثية، والتسمم بالرصاص، والالتهابات السحائية والمخية.
ودائماً ينظر للصرع على أنه من أمراض الطفولة، ولكن من الممكن أن يحدث في أي سن من سني العمر، ويلاحظ أن حوالي 30% من الحالات الجديدة تحدث في سن الطفولة، خصوصاً في الطفولة المبكرة وفي سن المراهقة. وهناك فترة زمنية أخرى يكثر فيها حدوث الصرع وهي سن الخامسة والستين من العمر.
أما عن العوامل الوراثية: فمن النادر أن ينشأ مرض الصرع عن أسباب وراثية، وهناك بعض الحالات القليلة التي ترتبط فيها أنماط معينة من الموجات الكهربائية للمخ بنوع معين من نوبات الصرع والتي تعتبر وراثية.
وإذا كان أحد الوالدين مصاباً بهذا الصرع الوراثي، فإن إمكانية تعرض الطفل لمرض الصرع هو تقريباً 10%، ( نسبة الأطفال الذين يولدون لآباء وأمهات
لا يعانون من مرض الصرع ويصابون بهذا المرض هي من 1-2% ). أما إذا كان كلا الوالدين يعاني من الصرع الوراثي، فإن النسبة تزداد بالنسبة للأطفال، حيث تصبح إمكانية الإصابة هي25%.(1/269)
النتيجة: أن الصرع نوعان، نوع عضوي: ينشأ بسبب حدوث إصابات،
أو حدوث تركيبات غير طبيعية في المخ، أو التعرض لبعض المواد السامة... أورام المخ والالتهابات السحائية والمخية وغيرها...
ونوع نفسي المنشأ: وقد ذكرنا من قبل أن 70% من مرضى الصرع لم يتم طبيّاً معرفة سبب المرض لديهم.
وببساطة نقول أن هذه الأسباب غير المعروفة إنما هي أسباب نفسية تعود لاضطرابات نفسية وميولات وانحرافات شذوذية.. أو بالأحرى أمراض نفسية وعلل قلبية تجعل من النفس مطية، وتضعها تحت سيطرة عدوها اللدود الشيطان(1)، يدخل عليها من هذه المداخل الشاذة، يشم فيها رائحة الخبث بطلبها للرذيلة وسريانها إليها، إنه طريق مظلم بعيد عن النور والتجلي الإ?لهي، حيث يرتع الشيطان ويتربص لها، فما أن تسري هذا السريان حتى يهرع إليها ممتطياً شعاعها واصلاً لسويدائها، والشيطان بحد ذاته مظلم حاقد بعيد عن الله، ممتلئ بالشرور والظلمات،إنه محترق بنار المعاصي الأليمة، إنه نار متأججة بالمعصية والبعد عن الله، وليست المسألة مسألة كهرباء كظن الأطباء، فالكهرباء عندما تسري بالأسلاك تكون خفية عن الأعين، كذلك النفوس النارية عندما تسري في نفوس المرضى تكون خفية أيضاً، فاختلط الأمر على الأطباء وظنوا أن السبب هو الكهرباء.
__________
(1) قال تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} (53) سورة الإسراء. كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} (6) سورة فاطر.(1/270)
فالشيطان الذي دلف لنفس المصروع هو بالأصل مخلوق من النار، وهو الذي سبَّب له هذه الاختلاجات والآلام، فما أن يصل للنفس البشرية ويدخل عليها ليمسها بظلمته وناره حتى يفتك بها بحقده وعدوانه وشروره، وبذلك يشعر هذا الشخص بما حلّ به من ألم.
هذه الآلام الذريعة التي تحل بساحة النفس سببها دخول الشيطان بها، ومسها ببالغ السوء الذي يحمله في طيَّاته القذرة، حيث هنا تتلوى نفس هذا " مريض القلب" المصاب ألماً بالغاً، وكأنَّ كهرباءً قوية قد صدمتها، وبما أن النفس هي الذات الشاعرة والسارية في الأعصاب والمسيطرة على الدماغ بتوجهها بشعاعها له وسريانها فيه عندها تنعكس هذه الاضطرابات والآلام النفسية الشديدة على هذا الجسم الذي ما هو إلا مطيَّة النفس ومركبها، وتُتَرجَم وتسبب هذه الآلام والاضطرابات الناتجة عن نيران الشياطين العابرة بظهور هذه الشحنات الكهربائية الشاذة، التي تنبعث وتسري في بقية أجزاء الجسم لتحدث هذه الاختلاجات الشديدة، وهذه التشنجات العضلية القوية.
فالانحراف عن حدود الله والشذوذ النفسي هو السبب في هذا النوع من الصرع ذي المنشأ النفسي ليس إلا، حيث أن هذا المصاب (مريض القلب) فيه بذور خير، ولكنه يسرِّي نفسه مراراً في ظلمات شهوته: باطناً بالفواحش، أو ظاهراً بالوقوع بالمعاصي، مما يتيح للشيطان توليه والدخول عليه، حيث أنَّ الشيطان أعمى عن الحقائق، لكنه يشم رائحة الخبث في نفس الإنسان المعرض عن نور ربه، فيسري إليها ليتقنّصها، حيث يصبح هذا الإنسان تحت وطأة هذه الشدة المؤلمة المذلّة، وكل ذلك لعله يترك هذا الطريق المظلم، ويعود مرتجعاً عن إعطاء نفسه هواها، أو السماح لها بالسريان بأفكارها المظلمة المرعبة.
ولخطورة هذا السريان المرعب حذّر الشرع الشريف منه أيَّما تحذير، وأغلق كافة الدوافع والسبل إلى البداية المهلكة.(1/271)
ففرض على المرأة الحجاب، وحذرها أنها كلها فتنة حتى صوتها ونشاطها وعطرها... فأوجب عليها ستر محاسنها كلها، وكل ما يشوق القلب ويلوثه بجرثوم الشهوات، فيكون حديثها بجدية وحزم، لا يتطرق إليه وهن في اللهجة ولا نعومة في الصوت والعبارة، ولا تطرُّف في الموضوع الاضطراري، وأمرها بالبقاء في البيت للقيام بعملها الثمين المنتج، من تربية أولادها وإعداد جيل للمستقبل صحيح في الجسم والعقل.
وإن خرجت وجب عليها في العهد الإسلامي ألا تضرب برجلها فيهتز جسمها، وتظهر علائم فتوتها وصباها، مما يثير الشوق الغريزي لدى الرجال ويحرك داعي الشهوات. وقد حذّر رسول الله صلى الله عليه وسلم من تلك الفتنة، وأبان أن المرأة كلها عورة بقوله:« الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها »(1). و« الفتنة لا نرضى بها».
ولا تقف مسؤولية المرأة على عاتقها فقط، بل على ذويها وولي أمرها(زوجها، أبوها، أخوها، ابنها..)، فكلهم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، كما أن الله تعالى أمر المؤمنين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ..} (30) سورة النور:عن كل ما يسوق إلى الزنا (الصور، والسينما، والمجلات..)، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
« العين تزني وزناها النظر »(2)، وكذلك فرض على النساء أن يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن .
__________
(1) الجامع الصغير رقم/5975/. ... ... ... (2) سورة النور: الآية(30).
(3) أخرجه البخاري ومسلم.(1/272)
وباب التوبة مفتوح طالما لم تنتهي قضية المرء بالموت، فالإنابة والرجوع قبل الممات من لذائذ الشقاء والخسارة من عطاءات الله ورسوله والجنات. فإن تاب المصروع وأناب، وإلى ربه عاد تائباً وبالحق راغباً، عندها لا يسمح تعالى للشيطان بالاقتراب من نفس هذا الإنسان ومساسها بأذى أو شر، وذلك حين يتصل المصاب بربه، وتطهر نفسه من خبثها بالصلاة، وتتحول للصراط القويم، عندها ينقطع حظ الشيطان منها ولا يقربها، ويزول الصرع نهائياً.
وقد تحصل الإصابات بنوبات الصرع للأطفال، وما ذلك إلاَّ انعكاس لما في نفس أحد والديه أو كلَيْهما معاً، وما عليهما إلاَّ أن يبحثا ليغيرا ما بنفسيهما، ويتوبا إلى الله ليرفع البلاء عن فلذة كبدهما.
وقد ذكر تعالى هذا الأمر جلياً، ووضّح السبب النفسي للصرع الذي لم يتوصّل الطب لمعرفته، وعزاه لأسباب مجهولة كما أوردناه من قبل، لنتمعن في الآية الكريمة بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ..} (275) سورة البقرة, يصف الله تعالى حال الذين يأكلون الربا يوم القيامة ويصوّره لنا بحال المتخبط المتشنج بنوبة الصرع، ويبين تعالى سبب حالة هذا المريض بأن الشيطان يتخبطه من المس. إذ ولج الشيطان لنفس هذا المريض القلب، وأصبح يمسّ نفسه، ويلوِّعها، ويكويها بالآلام التي يحملها، عدوٌّ حاقدٌ غايةٌ في الشر وتمكَّن من عدوه فما الذي يلحقه ويعمله به؟!.
فللصرع إذن نوعان: نوع لأسباب مادية جسمية ذكرت آنفاً، ونوع لم يتعرف على أسبابه الطب فأحالها للمجهول من الأسباب، ولكنها حقيقة واضحة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، يثبتها نص القرآن الكريم الوارد ذكره.(1/273)
وقد وردت في الإنجيل قصص صريحة، فيها يُخرج السيد المسيح عليه السلام الشيطان مذؤوماً مدحوراً من مصابين بالصرع، وذلك بنورانيته النبوية القاصمة للشياطين.
... ... ... * ... * ... *
وإليك أخي القارئ هذه القصة الواقعية التي حدثت مع العلاَّمة الجليل محمَّد أمين شيخو، والتي يتضح لنا من خلالها أنَّ الاستقامة والإيمان تعصم صاحبها من اقتراب الشيطان وتسلُّطه، بل ويفر مهزوماً مقهوراً:
* ... * ... *
خسئ الشيطان لكنه قال حقّاً:
"ليس لي عليك سلطان"
رجع علاَّمتنا الكريم إلى منزله والبشر يقطر من محياه، وحب الإ?له زاده، ورضاه تعالى غايته ومرامه:(فالاستقامة عين الكرامة).
لا خلل ولا تقصير، فالأمور تجري بكل نظام وعلى ما يرام.
وما أن دلف باب بيته حتى سمع صوتاً غريباً، وما لم يكن بالحسبان، إذ لم يترك البيت إلا وكل شيء على أتم وجوهه، ولكنه الآن يفاجأ بأصوات تكاد أن تكون عويلاً، وصراخ نسوة كأن حادثاً مروعاً حدث.
ولكنه لم يفاجأ بشيء طيلة حياته الشريفة إلاَّ وكان الالتجاء إلى ربه تعالى هو المنقذ والمفرِّج من كل كرب عصيب.
توجَّه السيد محمد أمين بنفسه نحو مكان الحادثة من بيته بشكل عفوي متجهاً من البيت شطر المسجد الحرام، حيث الكعبة المشرَّفة بعالم القدس والطهر والأنوار من الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وحيث التجليات الإ?لهية ومهبطها، وكله ثقة به تعالى، فلا ملجأ ولا موئل سواه، مسلِّماً الأمر إليه تعالى.
وبلحظات عمَّ الهدوء مكان الضجيج، والسكينة مكان الخوف والفوضى، والرجاء محل الفزع، وزال كل كرب وضيق وعناء، كل هذا حدث بلمحة.
قدمت إليه زوجته من الجناح المخصص للنساء بعد أن شعرت بعودته لتقصَّ عليه الخبر، وسبب هذه الأصوات التي كانت تصدر، وما جرى بغيابه قائلة:(1/274)
قدمت بعض نساء الحي يصطحبن معهن امرأة مصابة بصرع، تتخبط على الأرض بشكل عشوائي مثير، كانت أطرافها تقوم بحركات غير طبيعية من انقباض وانبساط، وحركات غير إرادية في كل جسمها، وكان الزبد ينسال من فمها، والعينان جحظتا، وكادتا أن تخرجا من مقلتيها، كان صدرها يعلو ويهبط بشكل غير منتظم، وكأنها بحالة اختناق قد سُدَّت رئتاها، أو كأن شخصاً ما قد أحاط بكفيه على عنقها يودُّ خنقها، وصفرة الموت كست وجهها، وهي لا تملك سوى ضرب نفسها بأي شيء أمامها، تريد النجاة من الموت المؤكد.
إنه منظر مثير للرعب، ووضعها مؤلم للغاية، أيقن الجميع بأن نزاع الموت قد نزل بها، ولم تبق سوى لحظات حتى تفقد الحياة، لذا أخذن يصرخن، وأطلقن البكاء والعويل.
جاءت بها بعض النساء من قريباتها راجين الله أن يبرئها ببركتك، حيث أرشدهم الناس إليك لما عرفوه من صلاحك وتقاك، هذا بعد أن عرضوها على عدد من الأطباء، وظهر فشلهم وعجزهم لمعالجتها بشتى الأدوية والمسكِّنات والمهدِّئات العصبية، إذ لا دواء ناجع لديهم لمثل هذه الأمراض، فلم تجدِ جميع أدويتهم إلاَّ بشكل آني، وما إن قَدِمتَ إلى البيت حتى وكأن شيئاً لم يكن!!. فقد هدأت وسكنت وارتاحت.
فَهِمَ السيد محمد أمين الموضوع جيداً، إذاً: الأمر مسّ نفوس شريرة، إنه قرينها اللعين يريد أن يرديها، ويودي بها إلى الجحيم، والتجأت إلينا (ومن دخل بيتك ملتجأً حقَّ عليك أن تحميه).
الأمر بسيط جداً لأن كيد الشيطان كان ضعيفاً، وشباكه واهية بل تخيلية إلاَّ على المستحقين. سمع العلاَّمة الكبير محمد أمين شيخو قول الشيطان اللعين العابر بالمرأة:
( سأخرج منها وأدخل فيك ) .
أجابه جهراً وبصوت مرتفع:
( كاسر راسك) .
ثم بدأ يقرأ المعوذتين، ويذكر اسم الله والصمدية متجهاً بقلبه شطر المسجد الحرام، لم يمضِ من الزمن إلا لمحات حتى خرج هذا الشيطان المريد من المرأة ومن البيت كله مخذولاً مدحوراً.(1/275)
وعادت المرأة المصابة إلى وضعها الطبيعي ولحياتها المعتادة، وزال عنها كل عناء وأثر من آثار الإصابة، وعمَّ المكان جوٌّ من الغبطة والسرور، وغمر وجوه جميع الحضور لوناً فريداً بالشكر والامتنان حامدين شاكرين. وانصرفوا مودعين داعين الله تعالى أن يجزي العلاَّمة الكبير خير الجزاء.
وبعد:
بينما كان السيد محمد أمين شيخو مستلقياً على فراشه ليلتها يبتغي الراحة، ويتخذ إلى النوم سبيلاً، وبينما هو بين النائم والمستيقظ أحسَّ العلاَّمة الكبير بقدوم ظل أسود وسمعه يقول:
( ولا ثغرة!. ولا مدخل!. ولا نمشة عليك أدخل منها إليك!، ما بتنحلب
ولا بتنجلب "دينك" ).
وسبَّ دينه ثم فرَّ هارباً بنفسه لا يلوي على شيء قبل أن يستعيذ العلاَّمة بالله فيحترق بنوره تعالى.
أما قضية كيف أذن الله له بشتم وسب الدين، فالحقيقة أن الله أراد أن يريه عداوة الشيطان وكفره وخزيه وانكساره.
* ... * ... *
لِمَ يأذن الله تعالى بالسحر، وهو تعالى المسيطر والمهيمن على كافة الخلائق وبيده تصريفها؟!.
ففي قوله تعالى :{.. وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ..} (102) سورة البقرة.
وللإجابة أقول:
لا حول ولا قوة إلا بالله، فالشيطان لما في نفسه من خبث عظيم وشر مستطير، أطلقه الله لاختياره ,ولا إجبار ولا إكراه في الدين،ولكن لا يقع فعله واختياره إلا على أناس غافلين مستحقين بارتكابهم المعاصي ولا يؤمنون، ولو صدقوا وآمنوا لرفع عنهم بلاء السحرة تماماً.
{.. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (27) سورة الأعراف، ولكن الله تعالى لا يسمح للشيطان ووساوسه وتخييلاته أن تصل إلى مستحقيه عبثاً من غير فائدة تجدي من هذا الترتيب، إنما هي علاج ودواء لمن استحكمت به علَّته ومعصيته.
ولتوضيح هذا المعنى نذكر المثال التالي:(1/276)
هب أن رجلاً فسد الطعام في جوفه، وأدى به الأمر إلى تخمة شديدة تكاد تذهب بحياته، فهل من المعقول أن يتركه الطبيب يتلوى من الألم بسبب ما استقر في جوفه؟!. أم تراه يصف له مسهِّلاً قوياً يدفع هذه السموم عنه، ويخلِّصه من هذه التخمة!.
وهكذا فالشهوة الخبيثة التي استحكمت في النفس بإعراضها عن بارئها، إنما هي تخمة النفس , وهي مرض القلب , فمن رحمة الله تعالى بهذا الإنسان أنه يخرج له هذه الشهوة من قلبه، بارتكابه ما صمم عليه واستحكم في نفسه، وبذا تخلو ساحة النفس من هذه الشهوة، وبعدها البلاء.
وإخراجها يكون بتزيينٍ من الشيطان وأوليائه،يأمرون هذا الإنسان المعرض عن ربه بواسطة الوسوسة والإلقاء والنفث، وغيرها من أبواب دخول الشيطان على النفس الغافلة,حتى إذا فعل هذا الإنسان جناية واحدة يسوق له تعالى البلاء لعله يرجع، فبهذا البلاء والعذاب الأليم معالجة لتطهير النفس من جرثوم الشهوة، وسببٌ لعلها تعود عن أخطائها، وتتوب وتؤوب إلى ربها، وبذا يمكن شفاؤها.
{مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ..} (147) سورة النساء، فلو أن الإنسان رجع إلى خالقه، وآمن به من ذاته بذاته، فلا شك أن رجوعه يجعله يستنير بقبس من نور الله، فيرى حقائق الشهوات المهلكة التي انغمس فيها الناس وانصرفوا إليها,فينطلق باكياً عليهم,ويتفطر قلبه حزناً وأسى، ويتمنى
لو ينقذهم بعدها إن أمكنه .(1/277)
أما إذا ظل متلبساً بالمعصية والتعدي مصرّاً عليها، بعيداً عن التفكير والاستنارة بنور الله، فلا يمكن في حال من الأحوال أن يترك الشهوة الخبيثة، ويزهد فيما هو ماثل له، متغلب عليه,وهو مادام بهذا الحال فهو بعيد كل البعد عن فعل المعروف والإحسان،منحرف عن نيل السعادة الدنيوية والأبدية، التي ما أخرج الله تعالى الإنسان لهذه الدنيا إلا ليسعى إليها,وليبذل الجهود في سبيلها، ولذلك ومن رحمة الله تعالى بهذا الإنسان أن يخرج له هذه الشهوة الخبيثة المستقرة أولاً، ثم يُتبع ذلك الخروج بالعلاج والمداواة والتسلّطات من السحرة، فلعل هذا الإنسان عند ذلك يصحو من غفلته، ويسير في طريق سعادته، ويذوق طعم صحبة الشياطين الذي يسري بنفسه إليهم بارتكابه للمعاصي، فيذوق الويلات والكوابيس والغم والهم والضيق والضنك والصرع...
هؤلاء الذين لم يؤمنوا بالله إيماناً حقيقياً يطهِّر نفوسهم من حب الدنيا وزينتها، وينتزع ما علق بها من أدران، حيث ظلوا يؤثرون شهواتهم الدنية على ما أعدَّه الله لهم في الآخرة من فضل كبير وإنعام، هؤلاء يرحمهم الله بأن يبتليهم بالسحرة , ويجعل من عملهم سبباً لظهور حقائقهم، وخروج ما كمن في نفوسهم , فلعلهم بعد خروج شهواتهم الخبيثة منها يصبحون في حال يمكن أن تفيده المعالجة والمداواة.
الشدائد ... فالله تعالى يرسل للكافر المعرض الذي استقر الخبث في نفسه شخصاً خبيثاً مثله,وشخصاً معرضاً من جنسه، أو ما يمكننا أن نسمِّيه شيطاناً
وما بَعْدها
إنسياً يتلبّسه شيطان خفي جنِّي، فيُحبب إليه شهوة، ويزيِّن له سوء عمله، فيراه حسناً ويستهويه، ويباشره مفتوناً به،وعندئذٍ وبعد خروج الشهوة من النفس، تنصب الشدائد على هذا المريض القلب صبّاً،وينزل الله تعالى به من المصائب
ما يجعله في ضيق وغمّ وهمّ، فلا يجد ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه.(1/278)
وهنالك وبمثل هذا الحال من الشدائد أو الأمراض تجده يضلُّ عن الشهوات، وتخلص نفسه من كثير مما كان يجول فيها من دناءات آنيّاً، وتعاف الدنيا وما فيها، وهم والحالة هذه بين أحد أمرين:
أ - إما أن يسلكوا طريق الإيمان وقد انفتح أمامهم المجال وتمهَّدت السبل,ولم يبقَ في النفس من الشهوات بسبب هذه المصيبة ما يعوقها عن التفكير بآيات الله، والنظر في هذا الكون، والتعرف منه إلى خالقهم ومربيهم فيؤمنوا.
ب - وإما أن يتناسوا ما حلَّ بهم، ولا ينتهزون هذه الفرصة السانحة وذلك بعد أن صفت نفوسهم من الشهوات ومن التعلق بالدنيا الذي أحاط بنفوسهم,بل يعودون بعد رفع الشدَّة أو المرض إلى الانشغال بالدنيا والانصراف إليها,وهنالك تعود الشهوة الخبيثة التي لم يَمُت جرثومها، فتنبت من جديد في نفوسهم، ويرجعون إلى ما كانوا عليه من قبل.
وما تزال الرحمة الإ?لهية تسوق لهم من التسلطات والشدائد والمصائب ألواناً وأنواعاً : {.. وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ ..}: من ارتكاب واقتراف:{.. قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ}(31) سورة الرعد.
فإذا انتهز الإنسان الفرصة، ورجع بعد كشف البلاء عنه إلى الله، هاجراً الدنيا الدنية وأهلها، سالكاً طريق الإيمان، فهنالك يسري الإيمان إلى نفسه، وتكون هذه الشدائد خيراً كبيراً، وتحولاً حسناً عظيماً، وتكون أيامه ملأى بعمل الإحسان والخير والسرور والنعيم المقيم.
هل تطهر النفس بالشدائد؟. ... ولعلك تقول:
ألا يمكن تطهير أنفس هؤلاء من حب الدنيا إلا بتزيين الشيطان لهم ارتكاباتهم، ومن ثم الشدائد؟.
فنقول:(1/279)
ليس التسلط من السحرة والشياطين،وليست الشدائد التي يسوقها الله تعالى للإنسان هي التي تطهِّر النفس وتزكيها,إنما الإقبال على الله والوجهة الصادقة إليه هي وحدها تطهِّر النفس،فإذا أقبل الإنسان على ربه بوجهة صادقة إليه,وتخلل ذلك النور الإ?لهي سارياً في ذرَّات هذه النفس لاسيَّما بالصلاة، فهنالك تطهر وتزكو؛ولا يبقى جرثوم من جراثيم الشهوات الخبيثة، ولا أثر من آثار الذنوب،ولو أن هؤلاء الغافلين عن ذكر ربهم سلكوا طريق الإيمان ففكَّروا وعرفوا خالقهم، والتجؤوا إليه، لطهرت نفوسهم,ولما احتاجوا إلى هذا الضغط من التسلط,والغم,والهم,والقهر,والشدائد الخ...
مما يضطرهم إلى الالتجاء إلى الله،ولو أنهم فعلوا ذلك، وصلُّوا طوعاً وعن طيب نفسٍ منهم، لطهرت نفوسهم بيسر ولطف، ولكان دواؤهم حلواً طيباً من خلال صلتهم بربهم والإقبال عليه،وقد بيَّن لنا تعالى شأن الصلاة الحقيقية وأثرها في النفس فقال: {.. إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ ..} (45) سورة العنكبوت . فهذه الصلة بين العبد وخالقه،هذه الصلة التي عبَّرت عنها كلمة:{ الصَّلَاةَ}: هي التي تكون سبباً في انمحاء جراثيم الشهوات من النفس وذهاب الأدران.
إذن فهذه التسلُّطات من السحرة، ثم الوقوع بالأعمال السيئة,ومن ثم الشدائد والمصائب، كلها ترتيبات يُحمد عليها تعالى، لعل الإنسان المعرض عنه تعالى يرجع عن غيِّه، ويحسِّن مسلكه فيتوب، ويستقيم على أمره تعالى،ويصبح أهلاً لأن يدخل الجنان والسعادة المهيأة له.
إذن: لا يأذن الله بالسحرعبثاً ... لا يمكِّن الله تعالى الساحر والشيطان من التعاون على إيذاء امرئٍ والتسلُّط عليه إلا بما بدر منه وسبق من أفعال دنيئة، استحق(1/280)
عليها أن يداوى بهذا الدواء المر، فلعله يتوب ويؤوب إلى رشده، ولولا ظلمه وإيقاعه الأذى بغيره لما مكَّن الله تعالى منه هذين الشريكين الخبيثين، والخلق كلهم عباده تعالى، والكون كله بيده، ولا حول ولا قوة لأحد إلاَّ به ومن بعد إذنه.
وقد أشارت الآية الكريمة في سورة البقرة إلى هذه الناحية، فقال تعالى:
{.. وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ..} (102) سورة البقرة، وباستعاذة المؤمن بربه والتجائه الدائم إليه يُحفظ من كل شر، ويُوقى من شر الشياطين وأوليائهم السحرة شياطين الإنس، وبذلك لا يكون للشيطان ولياً، ولا يشرك بربه أحداً، ويخلص من الشروط والأسباب التي تسوق الشيطان إليه، كما ذكر تعالى موجزاً :{إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } (100) سورة النحل .
فما أثبت قلب المؤمن العائذ بربه بواسطة رسوله صلى الله عليه وسلم !. وما أمضى سلاحه!. إنه لا يبالي بساحر،ولا يخشى من شيطان، ولا تفلُّ من عزمه مكيدة إنسان.
فالالتجاء إلى ربِّ العالمين يخلّصنا من شرِّ النفاثات في العقد، فآمن بالله شيئاً فشيئاً كما آمن أبونا إبراهيم عليه السلام، حتى تصل للإيمان برب الفلق(1).
فقد أمر الله رسوله الكريم أن يبيّن لنا في سورة الفلق،أنه صلى الله عليه وسلم عائذ بربه من أن تصيبه عين الحاسد بأذى، أو يصيبه أي مكروه من سحر وغيره، لنعوذ بالله سبحانه بمعيّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فنكون قد نلنا هذا الحفظ وهذه الوقاية، والفضل والمنَّة لله على
ما أرشد وبيَّن.
وإذن فما عليك إذا أردت أن تُحفظ وتُوقى، أو أن تبرأ من تأثير السحرة، إلاَّ أن تتوب حقّاً وتؤمن فتعوذ به سبحانه دوماً، وما عليك إذا كنت ناسياً، ورأيت من حاسد استهواءً، وخشيت من نظرته أذى وشراً، إلا أن تتذكر وتذكر الله وتعوذ به فوراً(2).
* ... * ... *(1/281)
الطريق الوحيد لتطهير النفس وشفائها من العلل والأمراض النفسية
بقي أن نستعرض تساؤلاً مهمّاً قد يدور في الأذهان؛ قد يسأل سائل ويقول: لقد كرَّرت وذكرت أن الصلة بالله هي طريق الشفاء من الأمراض والمعاناة النفسية، ومن تسلُّط السحرة وتأثيراتهم، وهي طريق الوقاية من هذه الأمراض، ولكن يبقى السؤال:
كيف يمكن للإنسان أن يصلي الصلاة على حقيقتها حتى يكون في عداد المؤمنين الذين ليس للشيطان عليهم سلطان؟. {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ،إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } (99-100) سورة النحل.
إذن: فالسرّ والنجاة والفوز بالإيمان،كما ورد بالآية الكريمة هذه، فكيف يتم الإيمان الحق الصحيح؟.
وفي الجواب عن ذلك أقول:
يخرج الإنسان أوَّل ما يخرج إلى هذا الكون من بطن أمِّه لا يعلم شيئاً، وقد جعل له الله تعالى السمع والبصر والفؤاد، فإذا ما كبر وبدأ يدرك ما حوله، جعل يتعرف إلى الأشياء فيتفحَّصها ويُقلِّبها ويسبر مدى مقاومتها، ومدى قوته في التغلُّب عليها،وجعل يصدمها بعضها ببعضٍ ليتعرَّف إلى أصواتها وتأثيراتها ببعضها، ثم ينمو إدراكه ويبدأ يميِّز، فيتطلع إلى السماء وما فيها من شمس وقمر ونجوم متلألئة، وينظر إلى الأرض وما عليها من بحار وأنهار وجبال وإنسان وحيوان، فيتساءل: لماذا تلمع النجوم؟. ومن أين تجيء الغيوم؟. وأين تذهب الشمس في المساء؟. وقد يصل به الأمر فيسأل عن الله تعالى، فيقول: أين الله؟ ... إلى غير ذلك من الأسئلة التي يريد أن يتعرف منها إلى هذا الكون وموجباته، لا بل إلى موجد هذا الكون ومبدع
ما فيه. تُرى من الذي يلقِّن هذه الأسئلة للطفل؟. أم من الذي يوجهها إليه؟.(1/282)
لا ريب أن هناك صوتاً خفياً ينبض في قرارة نفسه بين الحين والحين، إنه صوت الملَكْ، يرسله الله تعالى إلى هذا الصغير يناديه في سرِّه، لتحيل النفس بعدها هذه المشاكل الجديدة، وتطرح هذه الأسئلة على الفكر، ذلك الجهاز الذي أودعه الله تعالى في الإنسان، لتصل النفس بواسطته إلى معرفة الحقائق، وتتعرَّف إلى كل ما يحيط بها فتدركه وتعقله، وهنالك تطمئن بما وصلت إليه عن طريقه من علم وترتاح إليه.
وبمثل هذه الأسئلة التي يلقيها الملَك في نفس ذلك الطفل، تبدأ دواليب هذا الجهاز بالعمل، وتأخذ خلاياه بالنمو، وأجزاؤه بالتكامل يوماً إثر يوم، وعاماً بعد عام،
وما يزال كذلك آخذاً بالنمو حتى يصل هذا الطفل إلى سن الرشد، حيث النضج، وحيث القدرة التامة على الوصول إلى الحقيقة،ومعرفة الخالق المبدع والرب الممد.
فإذا نظر الإنسان، وقد بلغ هذه السن إلى تركيب جسمه البديع، وصورته البالغة في الكمال أعظم حدّ من الدقة والتنظيم، ودقَّق في كل عضو من أعضائه،
وما قامت عليه أجهزة جسمه من نظام، وفكَّر فيما بينها من ترابط، وما هي فيه من حركة دائمة وعمل وظيفي، وأنها تعمل كلها متضافرة متعاونة بنظام متَّسق لتوفر لهذا الجسم، وإن شئت فقل لهذا العالم الذي هو وحدة في ذاته، البقاء ودوام الوجود والنماء.
أقول: إذا نظر هذا الإنسان إلى جسمه هذه النظرات، وفكَّر هذا التفكير، ثم رجع إلى أصله، يوم كان نطفة من منيٍّ يُمنى، يوم أودع في رحم أمِّه فما كان شيئاً مذكوراً، ما كانت له هذه الشخصية،ولا هذه المكانة والمرتبة،ولا هذا الجسم المنظَّم، ولا ذلك الترتيب.
إذا نظر الإنسان هاتين النظرتين: نظرة إلى الحاضر العتيد، ونظرة إلى الماضي، وجمع بين هذين الحالين بالمقارنة والتساؤل والمحاكمة، فلا ريب أنَّ تفكيره يهديه، وسرعان ما يهديه إلى أن هنالك يداً قديرة كوَّنته إنساناً سويّاً، وخلقته هذا الخلق البديع، وأشرفت وما تزال مشرفة عليه.(1/283)
وما تزال هذه النفس تمعن في التفكير بهذه النقطة، وتجول في هذا المجال شوطاً بعد شوط، حتى تتحقق بهذه الحقيقة، ويغدو ذلك لديها أمراً بديهياً،لا يحتاج إلى مناقشة أو برهان أو دليل.
وهكذا فأصل الإنسان وخروجه إلى الدنيا قضية ذات شأن، تستدعي التأمل وتستثير التفكير.
وكذلك وكما أنَّ الخروج إلى الدنيا قضية ذات شأن، فالخروج منها قضية أبلغ شأناً، وأعمق في النفس أثراً.. فبينما نحن مع من نحب، وبينما هو يعمل ويكدّ، وفيما نحن نأمل في حياتنا معه آمالاً جساماً، ونعدُّ لمستقبلنا عدة، ونحلم أحلاماً ذهبية، إذ به كالمصباح تهبُّ عليه عاصفة من ريح فتطفئ شعلته، وتخمد حركته، وتدعه جثة هامدة، وجسداً خامداً..
فأين المصباح؟. وأين الضياء؟. وأين الحركة؟. والحديث والآمال،وأين البنات والبنين والأطفال؟.
لقد انطفأت الشعلة، وخمدت الحركة، وهدأت العاصفة، ومات هذا الإنسان.
هنا... وبمشاهدة النفس هذا المشهد من غيرها، تدور دواليب هذا الفكر دوراناً من نوع آخر، وهو وإن كان يغاير دورانها الأول، ويختلف عنه من حيث المجال والكيفية، غير أنه يتفق معه في النتيجة والغاية كلَّ الاتِّفاق، فتعلم هذه النفس أن تلك اليد التي أنشأتها وأبدعتها وأخرجتها إلى هذا الوجود، ووهبتها الحياة، لا بد لها في يوم من الأيام مهما طال بها الأمد، وامتد الزمان، من أن تستردَّ وديعتها، وتأخذ أمانتها، ومهما طمعت بالبقاء وحاولت البقاء، فلا بقاء، فالمدة مؤقتة، والعارية مستردَّة، وأن مع القوة ضعفاً، ومع الفرح حزناً، ومع الحياة موتاً محتماً، وإذا حلَّ الموت وأحاط، فلا فوت ولا مناص.
قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} (51) سورة سبأ.
{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ، وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ} (83-85) سورة الواقعة.(1/284)
وبمثل هذا الحال تخاف النفس وترهب، وتلتجئ إلى الفكر، تطلب إليه التعرُّف على تلك اليد التي أنشأتها وبرأتها، والتي ألقتها في هذا الوجود وأخرجتها، والتي إذا شاءت استردَّت وديعتها وتوفَّتها.
وهنا يتَّسع مجال التفكير، ويتجاوز الإنسان حدود ذاته، ويبدأ في التفكير فيما حوله من آيات هذا الكون، من شمس وقمر ونجوم وجبال وأنهار وبحار، وحيوان ونبات، وليل ونهار، وفصول أربعة، ورياح وسحب، ورعود وبروق وأمطار.
ينظر الإنسان في هذا الكون العظيم نظرات عميقة، فيرى أن كل ما في الكون يعمل ويسير،لكنه إنما يعمل وفق نظام وقانون.
وفق قانون شامل ونظام عام، والكون كله إنما هو وحدة، تسيطر عليه وتسيِّره قوة وإرادة واحدة، ضمن علم وحكمة وقدرة ورحمة.
ينظر الإنسان في هذا الكون هذه النظرة، ويرجع إلى نفسه فيجد أنه جزء صغير في هذا الكون، وأنه مشمول أيضاً بهذا النظام، فهذه الأرض العظيمة السابحة في هذا الخضم الواسع اللامتناهي، مرتبطة بالشمس والقمر والنجوم، وما هذه الأجرام كلها، وما هذه الموجودات جميعها إلا خاضعات لتلك الإرادة العليا والقوة اللامتناهية التي تشرف عليها جميعها، وتسيِّرها كلها.
وبالوصول إلى هذه النقطة، وبلوغ هذه المشاهدة وإن شئت فقل: بمشاهدة أن
لا إ?له إلا الله، والإيمان بالله، يتولَّد في النفس شعور بالعظمة، وتحصل لها الخشية من تلك الإرادة العليا المهيمنة على هذا الكون، والمسيِّرة له ضمن العلم والحكمة والقدرة والرحمة، فلا يستطيع هذا الإنسان من بعدُ أن يتعرّض بالسوء لأحد من بني الإنسان مهما تكن صفته، ومهما تكن درجة قرابته أو عداوته، ولا يجرؤ على إيذاء مخلوق من المخلوقات، لأن كل ما في الكون من مخلوقات، إنما هو نسيج هذه الذَّات العليَّة.(1/285)
فتجد هذا الإنسان أضحى مستقيماً بالمعاملة مع جميع الخلق، وتجرّه الاستقامة هذه إلى الثقة بأن الله راضٍ عنه، فيقبل عليه، فبهذا الإقبال والوجهة، تشتق النفس من الله تعالى كمالاً.
تلك هي الصلاة في حقيقتها، إنها الصلاة المبنية على هذا الإيمان الذاتي، وتلك هي الصلاة التي يجب أن تقيمها وتسعى إليها، وإنك لتجد النفس إذا صلَّت هذه الصلاة، وبلغت هذا الحال، لا تعود تميل إلى الدنيا وما فيها من الشهوات الدنيئة، وتعاف ما في الدنيا إلا فعل المعروف والإحسان.
الاستقامة هي الحصن المنيع من العُقد والأمراض النفسية والتسلطات الشيطانية ... الخير كل الخير من تهذيب الأخلاق وتشذيب الطباع وتقويم العادات يأتي من الله بالصلاة الحقيقية، والصلاة مع
الاستقامة هما الحصن المنيع من العقد والأمراض النفسية، ومن شرور السحرة والشياطين وذلك يتم بالإيمان بالله،وبالوجهة إليه، وحتى الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الطبيب الإنساني الأول إنما هو واسطة يوصل نفوس المؤمنين المتجهة من خلاله لله، وبذلك يخرجهم صلى الله عليه وسلم من الظلمات الدنيوية إلى نور الله، حيث الشفاء الحقيقي من كل ما يزعج، ومن كل وسواس خناس، قال تعالى:
{(1/286)
هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (9) سورة الحديد، إذ هو صلى الله عليه وسلم السراج المنير، ينير للنفس المؤمنة طريقها، ويريها من أنوار الله تعالى ومن أسمائه الحسنى ما يتناسب وحالها وثقتها وإقبالها،وهذا ما يحدث في الصلاة،فتسري النفس المؤمنة في صلاتها متجهة إلى البيت الحرام، حيث تجتمع بنفسه الشريفة صلى الله عليه وسلم، وتشتبك بها برباط المحبة والتقدير، لتعرج بمعيتها بالنور الإ?لهي، حيث ترى من الحقائق والكمالات، وتعشقه تعالى لرؤية طرف من كماله، وتغيب في نعيم إ?لهي علوي، وهذه هي الصلاة بحقيقتها،وهذا هو السريان النفسي والشهود القلبي (بالنور الإ?لهي) لا العيني،والغذاء القلبي الذي طلبه تعالى منَّا لأجلنا، لنخلص من كل العلل النفسية، ونزدان بالكمال الإ?لهي، ولا يبقى للسحرة ولا للشياطين أدنى تأثير على نفوسنا وأجسامنا، بل يغدون مقهورين مذلولين مهزومين أمامنا،إذ أمرنا تعالى أن نوجه قلوبنا في صلاتنا للبيت الحرام، قال تعالى:
{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (150) سورة البقرة،وهذا ما تضمنه أيضاً أمره تعالى، إذ أمرنا أن نصلي على المتصل بالله العظيم الموصل لنا صلى الله عليه وسلم لتصح صلاتنا، قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب.(1/287)
وبهذا الحال العالي يستقيم الإنسان على أمر ربه، ولا يخالفه أدنى مخالفة،فلقد أدرك تماماً أن حياة قلبه بصلته به تعالى،فكيف له أن يخالفه؟. أو أن يؤذي أي مخلوق من مخلوقاته؟. بل العكس فإنه يغدو مفتاحاً لكل خير ،« الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله»(1).
عندها يستعيذ الإنسان بخالقه، فلقد عرفه حق المعرفة بالرخاء قبل الشدة،ويرجع ليتذكر صلته به تعالى، ويصلي على رسوله كلما أحسَّ بطائف الشيطان يحاول أذاه.
وصح في الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن حوله من المؤمنين الصادقين:
« لو أن أحدكم إذا نزل منزلاً قال: أعوذ بكلمات الله التامة من شر ما خلق، لم يضره في ذلك المنزل شيء حتى يرتحل منه»(2).
وبهذا لا يصبح للشيطان سلطان على هذا الإنسان المؤمن طالما هو في حصن الاستقامة المنيع والصلة بالله، بل أينما حلَّ وبعياذه بالله كما علَّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرُّ الشيطان هارباً،وهذا الإنسان لا يقع عليه سحر، بل بحضوره يُبطل جلسات السحر وغيرها من حفلات تخييلية (كتحضير الأرواح،والتنويم المغناطيسي،وضرب الشيش .. ) إن اضطر للتواجد بمثل هذه الأمكنة،أما هو من ذاته فلا يقرب هذه الأمكنة أبداً. إذ هل يرغب امرؤ عاقل النظر إلى بحر آسن وَخمٍ أو مساسه؟!.
فالشيطان ضعيف الكيد : {.. إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (76) سورة النساء, والتبعة كلها ملقاة على عاتق الإنسان، فإذا هو غفل ونسي ذِكْرَ ربه دنا منه ذلك العدو الخبيث يوسوس كاللص المكَّار، وإذا هو ذكر الله، وعاد إلى الإقبال عليه تعالى، تراجع الشيطان متأخراً خانساً مدحوراً. قال تعالى :
{(1/288)
وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (200) سورة الأعراف, فبهذا الالتجاء إلى الله تعالى تقبل نفس المرء عليه تعالى، فيخنس الشيطان ( أخو الساحر وخليله )، وتطهر النفس بإقبالها على ربها مما علق بها، وتسمو لدرجة أعلى مما كانت عليها سابقاً، وعندئذ يندم الشيطان، ويتمنى لو أنه لم يدنُ منها مطلقاً. أما الحال الذي يريده لنا الله تعالى دوماً، فهو أن نكون في حال الإقبال الدائم عليه، والالتجاء المستمر به، لأن الخير والفضل والحياة والقيام والطعام والشراب منه تعالى، وبذا يظل الإنسان في حرزٍ منيع وحصن حصين.
وقد وصف الله تعالى أهل الإيمان الذين بلغوا هذا المقام الرفيع بقوله :
{رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} (37) سورة النور,وبهذا الحال الذي اصطبغت به نفوسهم اقتداءً وارتباطاً برسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم من الحفظ والوقاية ديمومتها، وبذا لا يستطيع ساحر ولا شيطان أن يقوما بما يقومان به مع العامة من الناس البعيدين عن الله، فلا يمكر بهم دجالٌ ولا ساحر، ولا يستطيعون، بل لا يعودون إلاَّ بالفشل والتباب: {.. وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (69) سورة طه، وكذلك جميع من تربطهم بهذا الإنسان المؤمن حقاً رابطة المحبة يُحفظون بوجهته إلى الله تعالى من الشيطان ومن السحرة، من الحُسَّاد والظلاَّم وأولاد الحرام.(1/289)
ذلك لأن محبة نفس لنفس معناه: سريان أشعة نفس المحب إلى من يحبه، والتقاء أشعة النفسين، وبما أن هذه النفس الطاهرة النقية تحيط بأهلها وجميع من تحبهم بهالة من أشعتها، فهي دوماً على اتصال بهم دون انقطاع، وحيث أنها محصَّنة بنور الله تعالى لذلك لا يستطيع الشيطان الدنو منهم، ولا إيذاءهم أيضاً ،فالشيطان أخسأ من أن يتسلط على مؤمن قلبه مترع بذكر الله، ونفسه سابحة غارقة بكمالاته سبحانه وتعالى بمعيَّة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
بإيجاز: ... ولعلك تسأل: كيف الطريق لهذا الإيمان والالتجاء الدائم؟. فأقول:
الإيمان طريق الاستقامة ... ليس الإيمان بالله اعترافاً قولياً، إنما هو شعور داخلي ولَّده في النفس بحث ذاتي، وتفكير
متواصل، فجعل صاحبه يسبح في جلال الله، ويخرُّ ساجداً لعظمته، كما آمن سيدنا إبراهيم عليه السلام.
فما أن هداه تفكيره من ثنايا صنع جسمه وسمعه وبصره إلى أن له خالقاً مربِّياً , وإلهاً مسيِّراً، حتى انطلق يبحث عن هذا المربي، ويتساءل من هو صاحب العناية البالغة والإمداد المتواصل؟.
فلما جنَّ عليه الليل : {.. رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي ..}!.
{.. فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}(76) سورة الأنعام: إذ ما يكون لهذه العناية الساهرة على تربيته أن تنقطع عنه أو تغيب، ولو أنها غابت عنه لحظة واحدة لانقطع عنه إمدادها، ولسرى إليه العدم والفناء.
أرأيت إلى ذبالة الشمعة إذا انقطع عنها إمداد الشمع، ما يكون مصيرها؟. لاشك أن شعلتها تنطفئ لساعتها، ولا يعود لنورها بقاء،إذن: ما عليه حتى يصل إلى معرفة خالقه ومربيه إلا أن يستأنف البحث من جديد ...(1/290)
واستمر سيدنا إبراهيم عليه السلام في بحثه : {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي ..} !.{.. فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}(77) سورة الأنعام:فما القمر الذي غاب عنه نوره بإ?لههِ ومربيه، فلو كان إ?لهاً لغاب الوجود مع غياب الرب الموجد.
ثم واصل بحثه، ومن كان صادقاً في الطلب لا يكلُّ ولا يفتر: {فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} (78) سورة الأنعام:بادعائكم أن هذه الأصنام آلهةٌ أو أن لها فعل.
لقد شاهد عليه السلام أن هذه الأجرام السماوية ليست عليه دائمة الإشراف، إنما تغيب مختفية وراء الآفاق. إنها مرتبطة مع غيرها بنظام كامل شامل , تدبِّر أمورَه وتشرف عليه يدٌ واحدة.
إنما ربه هو الذي يمدُّه ويمد (الشمس,والكواكب,والقمر ),والذي عمَّ إمداده السموات والأرض ... إن ربه هو خالق الكون كله ومربيه وإ?لهه، فما من حركة في الكون إلاَّ به,وهو وحده المتصرِّف، لا يشاركه في ذلك أحد سواه,وذلك ما تعبِّر عنه كلمة :( لا إله إلا الله). إنه الله تعالى الذي يذهب بالأجيال ويفنيها بعد أن يطعمها ويغذيها , ثم يأتي بأجيال جديدة يرزقها وينميها،وهو الرحيم بها، وما عداه زائل وباطل,وهو الباقي، الخالق، الرازق. فوصل سيدنا إبراهيم إلى شهود ربه وكمالاته العظمى، وهو قدوة كل مؤمن.(1/291)
فالإيمان سعي كسبي، إذا توصل الإنسان إلى هذا الإيمان فعرف خالقه وإ?لهه ومربيه صار على يقين ثابت على الحق، عديم الارتداد للباطل قطعاً، وأدرك أنه تعالى هو المسيِّر لشؤون الكون كله، فلا إ?له إلا الله، وما من متصرف سواه، هنالك تخشع نفسه لربها وتخشاه، وتدخل في حصن حصين من الاستقامة، فلا تستطيع أن تخرج عن أمره تعالى في شيء , وبهذا تقبل نفس هذا المؤمن على ربها واثقة من رضائه عنها، فتصلِّي وتحصل لها الصلة، وتشتق منه تعالى الكمال،وذلك هو الذي توصَّل إليه سيدنا إبراهيم عليه السلام، وما ضرَّه أن أباه وقومه كانوا يعبدون الأصنام،وذلك هو الذي بدأ به سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم طريقه، لا سيما بغار حراء،وما زال يتدرج فيه ويعرج في الكمال من حال إلى حال حتى بلغ سدرة المنتهى, ووصل المقام الذي لم يُدانِهِ فيه إنسان. {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ..} (90) سورة الأنعام. فإن كنت صادقاً فعليك بالتفكير بآيات الله كما فكَّر الرسل والأنبياء الكرام، وكما جاء بالحديث الشريف:
« فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة »(1). و:إن ضياء الإيمان التفكّر .
وكذلك قول سيدنا عيسى عليه السلام:
(طوبى لمن كان قيله تذكراً ، وصمته تفكّراً، ونظره عبرةً، يا ابن آدم الضعيف اتَّق الله حيثما كنت، وكن في الدنيا ضيفاً، وعلِّم عيناك البكاء، وجسدك الصبر، وقلبك الفكر).
وقد أورد سيدنا لقمان عليه السلام:
( إن طول الوحدة ألهم للفكرة، وطول الفكرة دليل على طرق باب الجنَّة).
وتلك هي الطريق الوحيدة للوصول إلى الكمال والأمن والأمان، ولا تجتمع الظلمة والنور، لذلك يفرُّ الشيطان من المكان المتواجد فيه النور الإ?لهي لئلا يحترق.
ومن أقوال التابعين رحمهم الله في التفكر:
- عمر بن عبد العزيز: الكلام بذكر الله حسن، والفكرة في نعم الله أفضل العبادة.
__________
(1) عن ابن عباس وأبي الدرداء.(1/292)
- وهب بن منبه: ما طالت فكرة امرئ قط إلا فهم، ولا فهِمَ إلا عَلِم، ولا عَلِمَ إلا عمل.
- مغيث الأسود: زوروا القبور كل يوم تفكِّركم، وشاهدوا الموقف بقلوبكم.
- سفيان بن عينيه: الفكر نور يدخل قلبك. إذا المرء كانت له فكرة ففي كل شيء له عبرة.
- بشر بن الحافي: لو تفكّر الناس بعظمة الله ما عصوه.
والحقيقة من نظر إلى الدنيا بغير العبرة والتفكر بذكر الله وما والاه انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة، ونزهة المؤمن الفكر، ولذَّته العبر، فرب لاهٍ وعمره قد تقضَّى وما شعر.
ورحم الله ابن يوسف العظيم حين قال:
إن امرءاً ذهب من عمره ساعة في غير ما خُلق له لحريٌّ أن تطول حسرته إلى يوم القيامة. وكذلك الصحب الكرام فكّروا ومن تبعهم بإحسان، فإنه لا سلطان للشيطان عليهم فنُصروا.
وفي وقعة حنين قال تعالى: {.. فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ ..}:الشيطان:{.. عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ ..} (48) سورة الأنفال.
فإذا أنت وصلت إلى هذا المقام عن طريق العقل والمشاهدة النفسية، لا عن طريق السماع والنقل، وصرت ترى أن الأمر كله بيد الله، وأن الناس جميعهم والخلائق كلها لا يستطيع أحد منها أن يجلب لك خيراً، أو يدفع عنك شراً، أو يمدَّ لك يده بسوء، أو يغيِّر من شأنك تغييراً، إلاَّ من بعد إذن الله بالاستحقاق عندها: تدخل في حصن الاستقامة، فلا تريد أن تخرج عن حدود الله , وليس لأحد من سلطان عليك لا من الجِنَّة ولا من الناس أجمعين.
لقد اصطبغت نفس هذا المؤمن الصادق السالك بطلب الحق والحقيقة المجرَّدة بصبغة من الله، ومن أحسن من الله صبغة.
عندها يقول هذا المؤمن:(1/293)
لا إ?له إلا الله، فيشهد معناها شهوداً نفسياً. فإذا قال بلسانه: أشهد، فما اللسان إلاَّ ترجمان ما شَهدتْهُ نفسه وعاينته من حنان وعطف... تلك اليد التي تسيِّر الكون كله، غامرةً إياه بفيض من التلطُّف والرأفة والرحمة والحنان والفضل والإحسان.
وكلما كرَّرها اللسان مرة، أذكى القول الشعلة في النفس، فأضاءت واتَّقدت، وأضافت النفس إلى شهودها شهوداً، والله أكبر، ولا نهاية ولا حدَّ لذلك الشهود العالي السامي الجميل والعلم به ولا انتهاء.
أمَّا رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أعظم رسول الله في الحقيقة!. وماأجلَّ مقامه عند هذا الإنسان!. إنه السيد الأعظم، الذي فاز بالقرب من الله بأعلى منزلةٍ وأسمى مقام.. المؤمنون جميعاً مؤتمُّون به وتحت لوائه، وهم أبداً في صلة دائمية معه، وهو الداخل بهم على الله، وهو الأول في هذا المجال، وهو الإمام. لذا أمرنا تعالى بالصلاة عليه صلى الله عليه وسلم:
{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (56) سورة الأحزاب. فيا سعادة النفس إذا هي صلَّت واتَّصلت بهذه النفس الطاهرة، فكانت بمعية الحضرة الإ?لهية والإقبال على الله.
تلك معانٍ يشعر بها هذا الإنسان المؤمن بذاته حال إقباله على الله، من شهادة أن لا إ?له إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن صومٍ، وصلاةٍ، وحجٍّ، وزكاةٍ، يشعر بها هذا الإنسان فتطير نفسه شعاعاً، وكثيراً ما تفنى عن ذاتها مستغرقة بهذا الشعور، ثم تعود وهي أسمى ما تكون علماً وتذوُّقاً قلبياً سامياً وشهوداً، وأكثر مما كانت عليه معرفة، وأعظم لله تعالى حمداً وشكراً.
وهي أبداً في سعادة وارتقاء وحياة طيبة،غفل عنها كثير من الناس، فظنوا الأوامر الإ?لهية أموراً تعبدية، وحسبوها تقديماً لواجب الخضوع، ونسوا حظاً مما ذكِّروا به،فضلّوا عن السعادة، وأضلُّوا كثيراً.(1/294)
فإذا شهدتَ أن لا إ?له إلا الله، وأتْبعتَ ذلك بصوم وصلاة وحج وزكاة، فعندئذٍ تكون أهلاً لأن تشهد أنَّ محمداً رسول الله، وتستطيع أن تدخل تلك الجامعة، وتتَّصل بذلك المعلم العظيم، الذي يعلِّمك الصلاة والصيام والزكاة والحج، وتتابع الدراسة فتكون من أهل التقوى وأهل المعرفة بالله:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ ..} (2) سورة الجمعة. الذين أمُّوا للحق يتلو عليهم رسول الله ما أُنزل عليه ويزكيهم، بإقبالهم عليه تسمو نفوسهم إلى الله وتحصل لهم التقوى، فيتعلمون ما في الكتاب والحكمة من الأوامر الإلهية، فيضعون الأمور في مواضعها، لأنهم أصبحوا أولي بصيرة، وإن كانوا من قبله لفي ضلال مبين لا يعلمون شيئاً، فطوبى لأولئك وحسن مآب:
{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} (17) سورة محمد.
نلخص ما سبق:
إذا بلغ الإنسان من الطفولة مرحلة التمييز، ودارت دواليب الفكر لديه، فتعرَّف على الخالق الذي خلقه وجعله على هذا التركيب، وأنهى الدراسة الأولى في التعرّف إلى الخالق، والإدراك عن طريق الفكر أن هذا الجسم المنظَّم لا بدَّ له من منظِّم، ووصل إلى سن البلوغ وقد عرف هذه الحقيقة وثبتت لديه، فهنالك وبتفكيره بالموت وشهوده وقائع عديدة منه ترهب نفسه خائفة،وتلتجئ إلى الفكر فتطلب منه أن يجدَّ في البحث عن المربي، إذ يرى نفسه مخلوقاً ضعيفاً، وأنه بحاجة إلى من يربّيه ويديم إمداده له ويشرف عليه.
إنه بحاجة إلى الطعام والشراب، بحاجة إلى الشمس والهواء، بحاجة إلى الثلوج والأمطار، بحاجة إلى الليل والنهار، بحاجة إلى من خلقهم ويمدُّهم ويحرِّكهم من أجلنا بالقيام والوجود، إذ لكل وجود موجد، ولكل حياة حيّ يمدُّ بالحياة والبقاء.(1/295)
فهو مفتقرٌ إلى ذلك كله، إذ بدون هذا لا يمكن بقاؤه، ولا تدوم حياته، فمن الذي يعنى به هذه العناية ويقدِّم له صنوف هذه الأشياء التي يتوقف عليها بقاؤه في الحياة؟. إنه لابدَّ له من ربٍ ممدٍ يمدّه بهذه الخيرات.
وهنا ينتقل إلى صف أعلى، فيعرف أن له ربّاً قديراً يمدُّه بما يمدُّهُ به، ويحفظ عليه الحياة، فيتَّجه بنفسه إليه تعالى ويحبه على ما تفضَّل به عليه.
ويوسِّع الإيمان بالمربي آفاق الفكر لديه، فيقول: إذا كان هذا المربي هو الذي ينزل الأمطار، ويسوق الرياح والسحاب، ويحرك الكرة الأرضية في الفضاء فيتولد الليل والنهار، وينبت الزرع والنبات، ويدير الكون كله ليتأمن لي ما أحتاج، فهو لاشك المسيِّر للكون، فالكون كله بجميع ما فيه خاضعٌ له تعالى ومفتقر إليه، وأنا معهم بيده وحياتي وبقائي به ومنه تعالى.
وهنا وبالوصول إلى هذه النقطة ينال هذا الإنسان شهادةً ثانية، وهي شهادة أن لا إ?له إلا الله، شهدها قلبه من بعد أن حاكم وناقش فكرهُ، وعقلتْ ذلك نفسُه، فإذا شهد هذه الشهادة، وإن شئت فقل: إذا رأت نفس الإنسان عظمة هذا الكون، وشاهدت جلال اليد التي تديره كلَّه في لحظة واحدة دون انقطاع، فلا يَعْزُبُ عنها شيء في الأرض ولا في السماء، أقول: إذا شاهدت النفس هذه المشاهدة، وإن شئت فقل إذا شهدت النفس أن لا إ?له إلا الله شهوداً معنويّاً، وشعرت في أعماقها ذلك الجلال الإ?لهي والعظمة، فهنالك تحصل لها الخشيةُ من الله، وتحمل هذه الخشيةُ الإنسانَ على الاستقامة، وتحول بينه وبين كل معصية، فلا يعود هذا الإنسان يجرؤ على اقتراف إثمٍ، أو الوقوع في خطيئة، إذ كيف اتَّجه، وحيثما سار، وأينما كان، يرى الله تعالى معه مشرفاً عليه، وناظراً إليه، ولذلك تراه يعامل الناس بمثل(1/296)
ما يحب أن يعاملوه به، فلا يستطيع أن يؤذي إنساناً، ولا أن يمدَّ يدَه بالسوء إلى أحد من المخلوقات، هذا الإنسانُ حقيقة يصل للصلاة الحقيقية، التي تتصل فيها نفسه ببارئها، لأنه أضحى واثقاً من رضاء الله عليه، وباستقامته يحفظ من كل أذى
(لا تؤذي فلا تؤذى). وهنالك تشعر داخلياً بشعور جميل، إنه شعورٌ بالقرب من تلك الذات العليَّة، إنه شعورٌ فريدٌ في نوعه، شعورٌ ما عهدته النفس من قبل، مع شهودٍ سامٍ وأذواق قلبية عليا.
فما الأغنياء بذهبهم وفضَّتهم وأموالهم، ولا المزارعون في بساتينهم ومزارعهم، ولا المترفون في قصورهم وحدائقهم، ولا الحكَّام في صولتهم ودولتهم، ولا الملوك والأمراء في صولجان ملكهم وإمارتهم، أقول: ليس هؤلاء جميعاً بأسعدَ حظّاً من النفس القريبة من ربها، ولو علم هؤلاء بما في هذه النفس من الشعور السامي الجميل لقاتلوا عليه، ولتنازلوا عن ملكهم وعمَّا بين أيديهم رغبةً فيه.
فسبحانك ربي ما أجمل القرب منك!. وما أحلاه!. وما أجمل الحياة لدى النفس في ساعات قربها من الله خالق كل جمال والمفيض بالخيرات جميعها!.
إنه النعيم، إنها السعادة، إنها الحياة الطيبة التي لا يمازجها نغص، إنها الجنَّة، ولعمري تلك هي الصلاة.
وذلك ما عنيناه بكلمة: (الصلاة) التي تولدها الاستقامة والصوم عن المحرمات.(1/297)
إن هذه الصلة الجميلة، وهذا الشعور السامي الذي نشعره في حال قربنا من الله، يجعلنا في الوقت ذاته نكتسب من الله تعالى كمالاً، ونصطبغ منه تعالى بصبغة الكمال، لأن النفس خلال قربها وحال وجهتها إلى خالقها، يسري النور إليها، فيطهِّرها مما بها من جرثوم، ويقضي على ما فيها من انحرافات، ويزكِّيها ممَّا علق بها من قبل من الميول المنحطة، والدنيء من الشهوات، فينقلب هذا الإنسان وهو أصفى ما يكون حالاً، وأطهر قلباً، وأزكى وأنقى نفساً، فإذا زكت نفس الإنسان هذه الزكاة بالله، وطهرت هذه الطهارة، فهنالك لا تعود تحب أن تفعل منكراً، ولا أن تقعَ في معصية أو خطيئة.
وإذا ما أراد الشيطان أو الساحر أن يمسها بأذى، أو يغريها بما في الشهوات الدنيوية الدنية من جمال وزينة، فإنها لا تلتفت إليه، ولا تميل، بل تردّه خائباً، وتقيم عليه الحجة، فلها من كمالها وطهارتها، ولها من زكاتها التي ولَّدتها صلتها بخالقها، ما يجعلها تأنف كل خطيئة، وتعاف كلَّ دنيَّة، هذا الإنسان إذا شهد أن
لا إ?له إلا الله حسبما بيَّناه من قبل، يستطيع أن يصوم الصيام الحقيقي الذي يرافقه صيام نفسه عن محارم الله كلها، وإذا صلَّى صار بصلاةٍ حقيقية مع خالقه تعالى، فإن دفع الزكاة صارت له ثقة عظمى زادته إقبالاً على الله في صلاته، فزكاة لنفسه وطهارة وكمال، فإذا حجَّ عندها تصبح نفس هذا الإنسان من سويَّة عالية تختلف عمَّا سواها من الأنفس البشرية من حيث تذوُّقها معاني الفضيلة، وأنفَتها من الرذيلة، وأنْس بالله، وسعادة بالإقبال عليه.
أما السحر فلا نرضى به
{.. وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} (69) سورة طه
والحمد لله في بدءٍ وفي ختم
* ... * ... *
الخاتمة
إني لا أملك لكم ضراً ولا رشداً، ولا أملك لنفسي من ذلك شيئاً إلا أن يشاء الله:
{(1/298)
قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ..} (188) سورة الأعراف، ذلك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم بآي الذكر الحكيم، وما بعث الله رسولاً ليدعو الناس لنفسه، بل قولهم: أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت وإن الشرك لظلم عظيم،ولا يسألهم أموالهم {.. لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ..} (90) سورة الأنعام، وعجباً من بعض المسلمين اليوم الذين اتخذوا شيوخ السحرة أولياء من دون الله وأرباباً، بل ويسمونهم أصحاب الكرامات!!.
والأعجب دعوة السذج والعوام من بسطاء المسلمين أنهم اتخذوهم أرباباً
وما أطاعوهم إلا ليقربوهم إلى الله زلفى، ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله:
{.. قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ..} (18) سورة يونس. هذا وإنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنّة.
نعم لقد انطلت عليهم أحابيل السحرة وشعوذاتهم وسرت، فما يكاد بيت يخلو من تابع لهم، من حيث شعر المرء أم لم يشعر (بهذه الأمراض النفسية).
في هذا السفر المبارك كَشَفَ قاهرُ سحرة الشياطين العلاَّمة الجليل محمَّد أمين شيخو (قدِّس سره) خفاياهم بما ورد عن كتاب الله العظيم ذكره:
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ ..} (50) سورة القصص، {.. إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} (3) سورة الزمر
والحمد لله ربِّ العالمين.
* ... * ... *
صدر لفضيلة العلاَّمة الإنساني الكبير
... محمَّد أمين شيخو ...
... (قدِّس سره) ...
1) تأويل جزء عمَّ.
2) زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم وأثر محبته في رقي النفس المؤمنة.
3) عصمة الأنبياء.
4) درر الأحكام في شرح أركان الإسلام( المدارس العليا للتقوى).(1/299)
5) مصادر مياه الينابيع في العالم وبحث كشوفات سر الختان( باللغة العربية).
6) تأويل القرآن العظيم( أنوار التنزيل وحقائق التأويل)- المجلَّد الأول.
7) تأويل القرآن العظيم( أنوار التنزيل وحقائق التأويل)- المجلَّد الثاني.
8) موسوعة عمَّ( آلاء الرحمن في تأويل القرآن)- المجلَّد الأول.
9) من سير الأبطال للأولاد والأطفال(الغلام الشجاع والجنيَّة) رقم(1).
10) من سير الأبطال للأولاد والأطفال(الكلب الذي أصبح حصاناً) رقم(2).
11) من سير الأبطال للأولاد والأطفال(الغلام الشجاع وردِّه العملي على خاله) رقم(3).
12) من سير الأبطال للأولاد والأطفال(حلبة الصراع) رقم(4).
13) من سير الأبطال للأولاد والأطفال (تأديب بائع الخضار) رقم(5).
14) من سير الأبطال للأولاد والأطفال (سلمت يداك يا شبل الحي) رقم(6).
15) من سير الأبطال للأولاد والأطفال(مغامرة الفارس الصغير) رقم(7).
16) تأويل الأمين للقرآن العظيم( المجلَّد الأول).
17) الترجمة الإنكليزية لكتاب مصادر مياه الينابيع في العالم وبحث كشوفات سر الختان.
18) صفحات من المجد الخالد( سيرة حياة العلامة الإنساني الكبير محمَّد أمين شيخو) المجلَّد الأول.
19) حقيقة الشفاعة: حوار بين (د. مصطفى محمود) و(د. يوسف القرضاوي).
20) حقيقة سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم تظهر في القرن العشرين.
21) الترجمة الفارسية لكتاب حقيقة سيدنا محمَّد صلى الله عليه وسلم تظهر في القرن العشرين.
22) الله أكبر (رفقاً بالحيوان): دراسة علمية طبية حول فائدة ذكر اسم الله على الذبيحة.
23) لِمَ الحجاب، ولِمَ الطلاق، ولِمَ أكثر من زوجة.. يا إسلام؟!.
24) الغرب حرَّر الإنسان من العبودية، والإسلام لِمَ لَمْ يُحرِّره؟!.
25) الكشف العلمي الجبَّار( الحقيقة الرهيبة للسموات السبع والأيام الستة).
26) صواعق معجزات أمّ الكتاب في القرن الحادي والعشرين.
27) الإيمان( أول المدارس العليا للتقوى).(1/300)
28) الصلاة( ثاني المدارس العليا للتقوى).
29) الزكاة( ثالث المدارس العليا للتقوى).
30) الصيام( رابع المدارس العليا للتقوى).
31) الحج( خامس المدارس العليا للتقوى).
32) حوار هادئ عن فضيلة العلامة الإنساني الكبير محمَّد أمين شيخو.
33) موسوعة عمَّ(8)- تأويل سورة الماعون.
34) موسوعة عمَّ(9)- تأويل سورة قريش.
35) موسوعة عمَّ(10)- تأويل سورة الفيل.
36) موسوعة عمَّ(11)- تأويل سورة الهمزة.
37) الدواء العجيب الذي شفى من مرض القلب القاتل والشلل والناعور والشقيقة والعقم والسرطان.
38) العلامة الإنساني الكبير محمَّد أمين شيخو يرد على معارضيه.
39) البحوث المجيدة.
40) الفتوحات المحمَّدية( الجزء الأول).
41) تأويل القرآن العظيم( أنوار التنزيل وحقائق التأويل)- المجلَّد الثالث.
42) كشف خفايا علوم السحرة.
قريباً سيصدر
1) الترجمة الإنكليزية لكتاب الله أكبر( رفقاً بالحيوان).
2) الترجمة الفارسية لكتاب الله أكبر( رفقاً بالحيوان).
3) هل السعادة حقاً حلم لا يتحقق؟!. ( باللغة الإنكليزية).
4) موسوعة عمَّ(12)- تأويل سورة العصر.
5) موسوعة عمَّ(13)- تأويل سورة التكاثر.
6) موسوعة عمَّ(14)- تأويل سورة القارعة.
7) موسوعة عمَّ(15)- تأويل سورة العاديات.
8) موسوعة عمَّ(16)- تأويل سورة الزلزلة.
9) موسوعة عمَّ(17)- تأويل سورة البيِّنة.
10) تأويل القرآن العظيم( أنوار التنزيل وحقائق التأويل)- المجلَّد الرابع.
11) تيمورلنك .
فهرس
- نظرات من إيحاءات العلامة الإنساني الكبير محمد أمين شيخو (قدِّس سره).................................... 5
متى يظهر السحرة؟................................................................................................. 6
لٍمَ علوم العلاَّمة وحدها كشفت علوم السحر؟. ............................................................... 7(1/301)
كل ساحر متسوِّل ................................................................................................. 8
الصابئة أقدر على العجائب الشيطانية من هؤلاء............................................................. 9
السحرة هم أشدُّ الناس بعداً عن الاستقامة.................................................................... 13
لا معجزة بعد القرآن الكريم بأدلَّة قرآنية....................................................................... 15
نظرة: هل تفيد المعجزات؟!....................................................................................... 18
هل بضرب الشيش هدى الصحابة رضي الله عنهم الأمم؟!................................................... 19
النتيجة العملية خيرٌ من الوهم.................................................................................. 20
- {.. إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}......................................................... 22
- أآلهة جديدة في سماء الإسلام؟!..................................................................................... 23
- بين الشرك والارتباط................................................................................................. 26
- هل يجوز الارتباط بالشيخ عبد القادر الجيلاني أو الشيخ أحمد الرفاعي أو غيرهم
من الأولياء السابقين (رحمهم الله)؟!.................................................................................... 31
- الرجل الذي هوى...................................................................................................... 34
- كرامات أم شيطانيات!!. بل افتراءات على الشيخ عبد القادر الجيلاني (رحمه الله)....................... 39(1/302)
- من أقوال السحرة التي نسبوها بهتاناً للشيخ عبد القادر الجيلاني (رحمه الله)
ادعاء الألوهية من كتاب الفيوضات الربانية(الشيطانية) مادح نفسه إبليس................................. 45
- الشيخ الساحر وقرينه................................................................................................. 47
- من حيث البداية....................................................................................................... 49
- ماهية الإنسان وخلقه، والجن وماهيَّته............................................................................. 52
- هيلمة نفسية........................................................................................................... 55
تفصيل الخطة الإجرامية بالحرب النفسية.................................................................... 56
- إعدام نفسي............................................................................................................. 58
- سريان النفس........................................................................................................... 59
سريان النفس المحمود.............................................................................................. 59
العقل................................................................................................................. 61
نحن المسلمين لا نعبد الكعبة..................................................................................... 63
سريان النفس المذموم وعالم الخيانة............................................................................ 65(1/303)
البداية المهلكة....................................................................................................... 66
شياطين الإنس أم شياطين الجن!................................................................................ 68
- ((هل هناك تسخير للجن المؤمن في أعمال الخير؟.)) وهل يظهر الجن المؤمن على إخوانه
المؤمنين والمؤمنات من الإنس؟!......................................................................................... 71
- كيف تحضر الشياطين على الناس، كملائكة أم كجنَّة شياطين؟!......................................... 73
الولي هو المتابع لحدود الله........................................................................................ 73
مفاجأة مذهلة....................................................................................................... 76
وحقائق............................................................................................................... 77
- كيف يؤثِّر صاحب الألعاب السحرية على مئات المشاهدين؟!.................................................. 79
قانون النفس التقدير ونتاجه..................................................................................... 82
- كيف خُيِّل إلى سيدنا موسى عليه السلام أن حبال السحرة وعصيهم (أنها تسعى)؟!..................... 86
كيف ولَّى سيدنا موسى عليه السلام مدبراً؟!................................................................. 88
بالإيمان ينعدم تأثيرهم النفسي إطلاقاً......................................................................... 91
- تبيان نوايا أهل الحضرات والنوبات والشيش وكيف أنهم يؤثرون على الناس بالأصوات الجميلة لسحبهم........ 94(1/304)
- انفخت طبل الإسلام...................................................................................... 100
- حادثة غريبة ولكنها واقعية أبطلت نوبة برزة.................................................................... 102
- الشيخ أحمد الحارون (وأهل الخطوة)............................................................................. 103
- ( قضايا للحوار)...................................................................................................... 108
- وزعموا لخالد بن الوليد كرامة ولكن!.......................................................................... 109
مادح نفسه إبليس................................................................................................. 112
- أيخلقون مالاً يسدُّ عوزهم؟!........................................................................................ 113
- عالِمُ السحر أخو الشيطان وخليله................................................................................ 117
براءة سيدنا سليمان عليه السلام من السحر................................................................. 117
براءة الملائكة من السحر.......................................................................................... 120
أينسبون لله الأمر بالفحشاء والله لا يأمر بالفحشاء؟!...................................................... 121
فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم............................................................................. 123
حادثة من الواقع.................................................................................................. 125(1/305)
- المؤمن الصادق........................................................................................................ 127
- ( تعلُّم السحر)........................................................................................................ 134
السم بالدسم....................................................................................................... 134
- المؤهلات الدراسية لتعلم السحر................................................................................... 137
عروض تعلُّم السحر وشروط الانتساب ومبادئ وعقائد تُبَّاع السحرة المخلصين لإبليس اللعين............. 138
- الإسكافي حافي والحايك عريان.................................................................................... 141
معلِّم السحر........................................................................................................ 142
- مناظرة طريفة........................................................................................................ 144
- نبذة عن السحر بين القديم والحديث............................................................................ 146
- هل خلق الله أحداً شيطاناً؟!........................................................................................ 151
الأمانة وحَمْلها.................................................................................................... 152
- من هوالشيطان الأول؟!. وكيف أصبح شيطاناً إذن؟!........................................................ 155
كشف سبل الشيطان ............................................................................................ 156(1/306)
- لا أجعل رقبتي جسراً للنار........................................................................................ 159
- القطب الأعظم وحوض الولاية.................................................................................... 161
وملخَّص القول................................................................................................... 164
كيف تكون هذه الوسوسة ؟..................................................................................... 167
- هل يقع سحر أولئك على كل إنسان من أذى أو تفريق أو دوَّامات من الاضطرابات النفسية؟!.................. 171
وسؤال طارئ........................................................................................................ 172
- قضايا هامَّة جداً...................................................................................................... 175
- هل وقع تأثير السحر على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!........................................................................ 176
المحراب.............................................................................................................. 182
- ذلك حال الرسل والنبيين.......................................................................................... 185
إذن كيف ألقى الشيطان في أمنية الرسول صلى الله عليه وسلم ؟!............................................................ 185
- (( نزغ الشيطان)).................................................................................................... 188
- الاستعاذة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم محرقة الشيطان، وبها هزيمته، وبها جنَّة الإنسان المؤمن المستأنس بربه....191(1/307)
ماذا تفعل الاستعاذة بالله؟....................................................................................... 191
- صفات الزاهد الحقيقي............................................................................................. 195
- البيت المسكون......................................................................................................... 198
- ليس للشيطان سلطان على رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سلطانه على الكفرة الذين قِبلَهُ بالمجلس................ 202
- حال سيدنا آدم عليه السلام في الجنَّة............................................................................. 206
- أسباب خروج سيدنا آدم عليه السلام من الجنَّة.................................................................. 209
توقف (عطالة) الفكر............................................................................................. 209
خذوا من هذه القصة عبرة....................................................................................... 212
- كيف وسوس الشيطان لسيدنا آدم عليه السلام والأنبياء معصومون؟!..................................... 213
- كيف مسَّ الشيطان سيدنا أيوب عليه السلام؟!................................................................ 216
- العالم الأرضي تحت رحمة إبليس!................................................................................ 223
- التنجيم................................................................................................................ 226
- دعوة تحضير الأرواح أو الروحية الحديثة......................................................................... 230(1/308)
التأسيس وأبرز الشخصيات...................................................................................... 230
فحوى هذه الدعوى وعقيدة مؤسسيها وأتباعها.............................................................. 232
- لِمَ لا تحضِّر روح صديقك!......................................................................................... 236
- تحضير الأرواح........................................................................................................ 238
- العقيدة السخيفة.................................................................................................... 239
الجذور الفكرية والعقائدية لدعوة تحضير الأرواح وخطورة انتشارها..................................... 240
خلاصة القول...................................................................................................... 241
شهادات تائبين..................................................................................................... 245
- ومن ادعاءات السحرة الإخبار بالمغيبات.......................................................................... 248
- معلِّم المندل وما يتلوه من سحر الكهَّان وبرنوخ الساحر السوداني والعفاريت قاطبةً...................... 249
حقٌّ أريد به باطل.................................................................................................. 249
انكشف الخداع..................................................................................................... 250
- باب في دعوة الملك يوناس الحكيم................................................................................. 251(1/309)
هذا هو السحر..................................................................................................... 251
- (( قصة المندل الذي يكشف اللصوص )).......................................................................... 254
- طاقية الإخفاء الرهيبة.............................................................................................. 268
- (( ابن جدّ)) وخوارقه................................................................................................ 271
- مندوب ملك الجان.................................................................................................. 274
- التبصير................................................................................................................ 295
- الساحر والإبرة........................................................................................................ 298
- النفث بالعقد......................................................................................................... 304
- الزوجة البكر لعقدين من الزمن................................................................................... 307
- الرُّقى والتعاويذ...................................................................................................... 310
عودٌ على بدء....................................................................................................... 314
- الحسد والإصابة بالعين............................................................................................. 317
- تعريف الحاسد والكيفية التي يقع بها الحسد على المحسود.................................................. 319(1/310)
- خيبة ساحر............................................................................................................ 323
- التنويم المغناطيسي.................................................................................................. 330
التجأ لعدوه، فماذا سيفعل به؟!................................................................................. 332
طريق الشفاء الوحيد............................................................................................. 334
- المرأة التائبة........................................................................................................... 336
- الصرع والعوامل المؤدية إليه........................................................................................ 340
- هل الصرع عضوي أم نفسي المنشأ؟............................................................................... 342
- خسئ الشيطان لكنه قال حقّاً: ((ليس لي عليك سلطان))................................................... 348
- لِمَ يأذن الله تعالى بالسحر، وهو تعالى المسيطر والمهيمن على كافة الخلائق وبيده تصريفها؟!........ 352
الشدائد وما بَعْدها................................................................................................ 354
هل تطهر النفس بالشدائد؟..................................................................................... 355
إذن: لا يأذن الله بالسحر عبثاً................................................................................... 356
- الطريق الوحيد لتطهير النفس وشفائها من العلل والأمراض النفسية..................................... 358(1/311)
الاستقامة هي الحصن المنيع من العُقد والأمراض النفسية والتسلطات الشيطانية................... 363
بإيجاز: الإيمان طريق الاستقامة............................................................................... 367
- الخاتمة................................................................................................................ 377
* ... * ... *(1/312)