كشف اللثام وبلوغ المرام
في
قوله تعالى
[ وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ]
محاولة للتوفيق بين بعض المظنون أنَّه من الدين
وبعض ما ثبت يقيناً في العلم التطبيقي
الدكتور
محمد محروس المدرس الأعظمي
يقول تعالى:
(..وَالرَّاسِخُونَ في العِلمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بهِ كُلٌّ مِّن عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذّكَّرُ إلاّ أوْلُواْ الأَلباَب)
(آل عمران / 7 )
قال النبي صلى الله عليه وسلم ...
( مَنْ يُرِدْ اللهُ بِهِ خيراً يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ ، وإنّمَا العلمُ بالتعلُّمِ ).
( رواه البخاري في كتاب العلم عن معاوية رضي الله عنه)
الإهداء
إلى مشايخي الكرام ، والعلماء الأعلام ، الذين تشرفت بالتلّقي والأخذ عنهم، في : العراق ، ومصر ، والحجاز ، والهند، والشام .
وإلى ... مؤسس المجد العلمي لأجدادنا آل العلقبند العلاَّمة الشيخ مصطفى العلقبند الاعظمي الطائي
مفتي الحنفية ببغداد المحمية
و لأولاده ، وأحفاده ، من العلماء الأمجاد الأعلام،
الذين تنوّر بهم الزمان في بغداد دار السلام .
إليهم جميعا ... أُهدي كتابي هذا.
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدِّمة
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، واهتدى بهداه .
وبعد ...
... الإسلام خاتمة الأديان ، ودين آخر الزمان ، ونبيُّه آخر الرسل الكرام ، عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام . جوُبه ـ أول ما صدع به الرسول - صلى الله عليه وسلم - ـ من كفار قريش ، وقرعوا حجةً بحجةً ، ولأن حججهم لا تقوى على مجابهة الحق ، لجئوا إلى أسلوب الإيذاء ، والمحاصرة ، والتشريد .. وذلك كلَّه بعد التكذيب ، والمعاندة ، والتهديد ، والوعيد ، والتنديد .(1/1)
ثم انتقل الإسلام – بانتقال نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - – إلى المدينة المنورة ، ومن أهم سكنتها اليهود ، أصحاب التوراة ، وأتباع موسى - عليه السلام - ، وأهل الديانة السماوية القديمة التي تعامل معها الإسلام – ومع النصرانية – بخصوصية ملحوظة . لكن هذه اليهودية ما فتأت مذ بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإلى أن وطئت قدماه الشريفتان ثرى [ قُباء ] ، ومن ثم ثرى [ يثرب ] ، يُثيرون شُبهاً ، ويُحدثون إساءةً يُلقونها إليه عليه السلام مباشرة ، أو يلقِّنونها كفار قريش – حتى قبل هجرته عليه السلام - ، فكان هذا ثاني صراع فكري بعد صراع الإسلام مع كفار قريش .
ثم أدال المسلمون دولة الفرس ، وفتح الله [ المدائن ] بجيش عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، فلم تغفر المجوسية ذلك له ، وهو الذي حقق نبوءة محمد - صلى الله عليه وسلم - حين ألبس سُراقة بن مالك - رضي الله عنه - أساور كسرى ، وتاجه ، وأمسكه عصاه ، وأجلسه على بساطه ، تصديقاً لوعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - له عند الهجرة ، في قصَّةٍ معلومة . وكان سراقة - رضي الله عنه - في أخريات عمره وقد كفَّ بصرُهُ !!.
لقد خلق هذا تحالفاً جديداً بين اليهودية والمجوسية ، نرى آثاره حتى يومنا هذا ، بدأ بأفكار [ ابن السوداء ] عبد الله بن سبأ اليهودي المتظاهر بالإسلام ، ثم مرَّ بالفرق الكثيرة المغالية ، وبخروج الفرس المتكرِّر – بأسماء شتى – على الدولتين الأموية والعباسية ، واستمرت شرور هذا التحالف الجديد ، بما أشاعه وأذاعه .. البرامكة ، ثم القرامطة، ثم تكامل في العهد البويهي ، وأخذ أشكال مدارس فقهيّة ، وفرق فكرية منظمة ، وما زالت هذه الفرق وما خلَّفت ، وما باض وما فرَّخ في كنفها وأعشاشها ، يفعل فعله في جسم الأمة وكيانها الفكري ، واعتقادها السليم القويم .(1/2)
لقد كانت المسيحية بمنأى عن كل هذا ، إلى أن ظهرت [الصليبية] بشكلٍ دموي دون أن يمتدَّ صراعها إلى الفكر والعقيدة ، فهم أضعف من أن يخوضوا في هذا ، لِمَا تحمله عقائدهم الهشَّة من ثغرات تجعلهم يبغون [ الستر ] والبعد ، دون المجابهة والمنازلة .
ثم جاء الاستعمار الغربي بعد النهضة الأوربية ، فاختلط الطمع بالعنعنات القديمة ، فما حلَّ جيش أوربي في موضع إلاَّ وكان المبشرون إمَّا : قد سبقوه ، أو لازموه ، أو لحقوه .
وحين ضعفت الدولة العثمانية ، وزالت الإمبراطورية المغوليَّة في الهند ، أخذ الأوربيون النصارى يفرضون حمايتهم على الأقليَّات النصرانية في بلاد الإسلام ، ويشترطون في المعاهدات التي يبرمونها مع الدول المسلمة شروطاً تصبُّ لصالحهم ، وأخرى لحماية الإرساليات التبشيرية!!، وهم الذين يدعون إلى وجوب إبعاد الدين عن معترك الحياة .
لقد [ عَمَدَت ] الإرساليات التبشيريَّة ، والبعثات المصاحبة للجيوش، إلى دراسة الإسلام ، لا حباً به ، بل طمعاً في ثغرة يجعلونها شبهة يُلقونها في قلوب أبناء المسلمين ، فنشأ [ الاستشراق ] ، وأُسِّست له معاهد ، ورُصدت له أموال ، وجُرَّ بعض علماء المسلمين إلى خدمة [ مأربه ] حين رُصدت الجوائز لنوع معين من التأليفات ، ونُهبت الكتب ، ونقلت إلى :
الفاتيكان ، والاسكوريال ، وليدن ، ولندن ، وأكسفورد ، وواشنطن ... إلخ. فانكبُوُا على دراستها ، وبدؤوا بالنشر بكتبٍ مستقلة ، أو في مجلات متخصصة ، وكان همهم منصباً على إثارة الشبهات والشكوك، وتصيُّد بعض المسائل ، وساعد على كل هذا تقبُّل المسلمين لأقوالهم ، بسبب:
أ . إعجابهم بتقدُّمهم الحضاري المادي .
ب . بسبب البعوث التي درست في بلادهم، فاستتبع ذلك تأثرهم بهم .
فكان ذلك كله أرضاً خصبة لإلقاء بذور شكوكهم .
لقد تعاون في العصور المتأخرة اليهود والنصارى على تشويه الإسلام ...
أما اليهود :
1. فلموقفهم القديم من الإسلام منذ أول لحظة .(1/3)
2. ولانتقامهم بسبب تهجيرهم من بلاد العرب .
وما كان موقفهم نابعاً إلاَّ من موقف ديني ، ألا وهو أملهم بأن يكون نبي أخر الزمان من ولد [ اسحاق - عليه السلام - ] ، لا من ولد [ إسماعيل - عليه السلام - ].
********
أما النصارى :
1. فلِما رأوْه من انتشار الإسلام ، واتساع رقعة بلدانه .
2. وبسبب ما زرعه [ بابوات ] روما في العصور الوسطى .
فنشأ الحقد الصليبي ، والذي ازداد تأجُّجاً مع شعورهم بالقوة المادية ، ومع انحدار المسلمين إلى أسفل دركات الضعف المادي .
هذا واحد ممن ردَّد كل ما يعتلج في صدورهم ، ألا وهو [ أمين الريحاني ] ، والذي حاز منزلة كبرى لدى الخاص والعام ، وسيرته معروفة ، نراه يُكاتب أحد علماء المسلمين الشيعة في العراق ، وهو المرحوم محمد الحسين آل كاشف الغطاء ، ويصرِّح بكل الشُبه التي تُلاك على الألسن وما تزال ، وقد جمعها [ محمد الحسين ] مع ردوده بكتابه [ المراجعات الريحانية ](1)، وهي الجزء الأول من كتابه : [ المطالعات والمراجعات والنقود والردود ] .
********
لقد تحالف أعداء الأمس : اليهود والنصارى في أحايين كثيرة ، واتفق المشربان في الإنتقام من المسلمين . فاليهود بشيطنتهم المعهودة قبلوا التحالف مع عدوهم القديم ، والنصارى استغلوا اليهود من منطلق ديني يؤمن به هؤلاء النصارى ، ألا وهو إيمانهم بـ [ العهد القديم ] باعتباره جزءً من : [ الكتاب المقدس ] .
فالنصارى يتفقون مع اليهود في جانب من الدين ، واليهود لا يتَّفقون معهم في شئ إلاَّ باتخاذهم وسيلةً للتنكيل بالعدو المشترك ، وهم المسلمون!
__________
(1) مطبعة العرفان ـ صيدا / 1340 هـ .
والمراجعات بدأت سنة : 1331 هـ ، الموافق سنة 1913م ، عندما كان الشيخ آل كاشف الغطاء يحلُّ في صيدا حاضرة جبل عامل ، في جنوب لبنان .(1/4)
يذكرنا هذا باتفاق الجمهور من المسلمين مع الفرق المغالية و[الرافضة ] للخط المستقيم ، في أمور استغلها هؤلاء لصالحهم ، مع أنَّهم لا يتفقون في أيَّة نقطة مع الجمهور .
هذا الاستعراض السريع للصراع الفكري بين الإسلام ومناوئيه ، والذي اتخذ جانب الصراع الدموي في أوقات متفرقة من عمر الإسلام ، يفسِّر لنا كثيراً مما يثار في وجه هذه الشريعة السمحة السخية . فلم يستطيعوا تغيير وجهها بالقوة – حتى في فترات ضعفها وقوتهم – ، فكان لجوء كلُّ أولئك إلى أسلوب : الدس والافتراء ، والتأويل السقيم ، وإشاعة المفاهيم المخطوءة .
إنَّ هؤلاء وإن لم يطمعوا بدخول المسلمين إلى أديانهم ، إلاَّ أنَّهم طامعون بانتزاعهم من دينهم ، فهو لهم كسب ... وأي كسب ! .
ولهذا أتتنا دعوات متعدِّدة تترى ، مصدرها أوربا ، ينادى بها النصارى ويبرمجها اليهود ، ويرددها جُهَّال المسلمين ، الذين انتُزعوا من دينهم إلى: الفراغ ، والعبثية ، والاهتمام بالمأثور الشعبي ، وقراءة الروايات واعتبروها مصدر المعلومات التأريخيَّة ، وأساس صقل القدرة الأدبيَّة!! ، و ... و ... إلخ . فمُرَّر عليهم وعلى أبنائهم الكثير مما قاله أعداؤهم ، فأصبحت مشاكل الأمة متعددة الجوانب :
أ.الضعف المادي .
ب.والتداعي الفكري .
ج.والفراغ العقدي .
فلا نستغرب إذا ما وجدنا [ داعيةً ] إسلامياً يتكلم : هل أنَّ : [ الصيحة الفلانية ] في المقام العراقي .. تعدُّ مقاماً نغميَّاً !! ، أم هي مجرد صيحة في هذا المقام ، أو ذاك ؟ ! .
إي والله .. كلُّها [ صيحات ] في [ صيحات ] ، أخذ يسعى إليها أبناء المسلمين !! ، فهذا يريد الشهرة ، والآخر يعمل في نطاق القبيلة ، وثالث ... ، ورابع ، ... وهلُمّ جرا.(1/5)
إنَّ هذه الشُبَه التي أثارها الغربيون من يهود ونصارى في عصرنا الحديث ، لم يتصدَ لها المتصدون بإسهاب ، أو عمق ، أو استدلال ، أو استيعاب . فإنْ أنت وجدت رداً هنا أو هناك ، فهناك الكثير ممَّا يحتاج إلى الرد ، أو البيان ، لتحصين عقول أبناء الأمة من الانسياق وراء :
نعيق ، ونهيق ، ونعيب .. هذا ، وذاك ، وأولئك !! .
بل إنَّك تجد الإهتمام منصبَّاً على :
إلقاء النوادر المضحكة ليلاً ونهاراً ، وتتبع عورات المسلمين دون غيرهم،
والتعليقات اللاذعة بحق العاملين دون غيرهم ، مع التبريرات المتهافتة لهذه الأفعال ، وهم الذين قال فيهم القرآن الكريم :
{ .. قد خَسِروُا أنْفَسَهُم وضَلَّ عَنْهُم ما كانُوا يفتروُن } الأعراف /53 .
ويقول القرآن العظيم :
{ أوُلئك الذين خَسِروا أنْفَسَهُم وضلَّ عَنْهُم ما كانُوا يَفْتَرون } هود /21 .
ويقول القرآن الحكيم :
{ قل هل ننَبِئُكُم بالأخسرين أعمالاً * الذين ضلَّ سَعْيُهُم في الحياة الدنيا وهم يَحْسَبون أنَّهم يُحسنون صنعاً * أوُلئك الذين كفروا بآيات ربِّهم ولقائِه فحَبِطَت أعمالُهُم فلا نُقيمُ لهم يومَ القيامة وزناً } .
الكهف /103-105.
********
فإذا كانت الشُبَه التي أثارها اليهود في سالف أمرهم ، والفرس في شدَّة تصدِّيهم ، قد هيأ الله لها أعلام الأمة في ردودٍ ملأت بطون الكتب ، وسوَّدت وجوههم ، وبيَّضَت صحائف الإسلام ... فما أحوجَ شُبه اليوم إلى : الرد ، والبيان ، والتوضيح .
إنَّ الإسلام لا يحتاج إلى عاطفة شاعر ، أو ادعاءات يدَّعيها البعض ويُنكرها واقعهم ، بل هم بحاجة إلى : العلم ، وقرع الحجة بالحجة، ليحيى من حيَّ عن بيَّنةٍ ، ويهلك من يهلك عن بيِّنة .
لقد كثر ترنمنا بالشعر ، و كثرت دعاوانا بكمال الإسلام وصلاحه، والدعوى تحتاج إلى بيِّنةٍ ، والعاطفة هوى لا يحدُّها ولا يكبح جماحها إلاَّ العقل ، وإلاَّ فيُخشى على أصحابها .(1/6)
إنَّ النماذج الواقعية التي يعرفها القريبون من واقع [ متقاعدي ] الدعوة ومدَّعيها الذين مازالوا في [ الخدمة ] ! من : أساتذة ... ودكاترة ... وأدباء ... وشعراء ... ومحامين ... وأطباء ... إلخ ، ممن يتكلمون بعاطفة متأجِّجة غير مُدْعمةٍ بالدليل ، ويرددون كلاماً لا يُقنع الصغار ، ويمجُّه أهل الحجى ، ويُسيئون إلى الإسلام ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا!!.
********
في مؤتمر ما ، تكلَّم أحد هؤلاء ، فقال : الإسلام قد عالج مشكلة الفقر ، والمشكلة الاجتماعية برمتها ! ، إذ اقتلع جذور الفقر والحاجة ، وذلك لأن المسلم يُطعم أخاه المسلم [ لحماً ] في أكل أضحى !! ، وكذلك بمناسبة النذور وما أشبه ذلك !.
رددت على هذا : إن العَالَم يتعامل اليوم بحصة الفرد الواحد من اللحوم يومياً ، وأنت تريد أن تُظهر تفوق الإسلام عليهم ، بحصَّةٍ احتمالية على مدى الدهور في : [ النَذْر ] .
أو : احتمالية سنويَّة في : [ الأُضحية ] ، وهذه الحصة تقدم :
للعائلة لا للفرد !! . ومن ثلث [ الأضحية ] ، لأن ثلثها للغني ، والآخر لصاحبها ، والثالث للفقير ! .
بهذا الفهم تُريد هذه العقول أن تقول : إن نظامنا نظامٌ إسلامي ، متكاملٌ متوازنٌ ، يصلح بديلاً للرأسمالية والشيوعية !! .
إنَّ البديل – يا سادة – يجب أن يكون أصلح من المُبْدَل عنه ، وإن لم يضحكوا منكم علناً وجهراً لأقوالكم تلك ، ضحكوا ملء أشداقهم مع شياطينهم ، ثم جعلوا ذلك نموذجا لأسانيد تشكيكاتهم !! .
إنَّ هذه [ الصيحات ] ، والحصص [ النَذْريَّة ] ، ستجعل الأعداء يُقيِّمون تفكير أبناء المسلمين ، ومن ثمَّ يعلمون جيدا : [ كيف ] ، و[ متى ] يخاطبونهم .
********(1/7)
إنَّنا إذن يجب أنْ نُغلَّب تيار : العقل ، والواقعية ، والدراسة ، والتمحيص ، و الإجابة عمَّا يُعترض به ويُثار ، وأن نتخذ للأمر عدَّةً ، وحينئذٍ سيكون لهم في معاملتنا شأنٌ آخر ، أقلَّه أن تكون محاربتهم الفكريَّة لنا بما يُناسب تقييمهم ، فإنَّ الإنسان ليشعر بالخيبة إذ يستخفَّ هؤلاء بنا حتَّى فيما يُلقُونه مِنْ شُبُهات !!.
فما يثار – أيُّها الأخوة – يناسب عقول [ أصحاب الصيحات ] ، وأصحاب معالجة الفقر [ بالنذور ] ، وهذا ـ والحمد لله ـ يجعل شُبَهَهُم لا تقوى أمام الفكر السليم ، والفهم الصحيح للنصوص ، وحكمة التشريع ، وعلل الأحكام ، مع الاستفادة الفائدة القصوى ، من العلوم الإسلامية المباركة الموروثة ، كعلم : آداب البحث والمناظرة ، والمنطق بصيغته الإسلاميَّة ، وأصول الفقه ، وعلم الكلام ، وغيرها .
********
ومن فضل الله جل وعلا عليَّ ، الذي يلزمني قوله - عز وجل - :
{ وأمَّا بنعمة ربِّك فحِّدث }
أن أتطرق إليه ، هو أنني : قد وفقني الله للإشتغال بردِّ هذه الشُبه من وقت بعيد ، فقد نشرت في مجلة الرسالة الإسلامية التي يصدرها ديوان الأوقاف في العراق ـ وزارة الأوقاف لاحقاً ـ ، بعددها الخامس من سنتها الأولى 1968م / رمضان 1388هـ ، مقالاً بعنوان :
[ جلاء العقل لشبه الطاعنين في الدين ]
ونشرت فيها بنفس العنوان مقالاً عن:
[ حكمة تقبيل الحجر الأسود ]
في العدد الخامس / السنة الرابعة /1972 .
ونشرت في مجلّة الوعي الإسلامي / العدد 35 / السنة الثالثة / ذي القعدة 1387 الموافق 1968 ، مقالاً بعنوان :
[ الضمان لتطبيق الأحكام في الشريعة الإسلامية ]
ونشرت في : مجلة الفيصل / العدد 51 / تموز 1981 مقالاً بعنوان :
[ الطريقة المثلى لدراسة الفقه الإسلامي ]
وكلُّ هذا ممَّا يسير بخطٍ متوازٍ مع هذا الموضوع .(1/8)
ولقد منَّ الله عليَّ في السنة 1975م ، فكنت رئيساً لبعثة الحج العراقية العليا في موسم حج سنة 1396 هـ ، وشاركت بمؤتمر وزارة الأوقاف السعودية في [ منى ] ، وقد عرضت عليهم فكرة ردِّ الشبه – وخاصة فيما يتعلق بالحج – بالردود العقلية الصرفة لا بالنصوص ، لكي يتبين للمعاند الحقُّ بالحجج العقلية ، وعقلانية تلك الأفعال . واستعرضت لهم نماذج مما يمكن أن يقال ، فسُرَّ المؤتمرون ، وهم علماء من أنحاء العالم الإسلامي.
وقد تيسر لي بفضل الله - عز وجل - في ذلك العام نفسه ، المشاركة في الندوة الفكريَّة السنويّة لرابطة العالم الإسلامي ، فاقترحت عليهم أن يكون منتداهم في السنة المقبلة حول :
[ الشخصية الإسلامية وموقعها اليوم بين النظم والعقائد ]
فأُقرِّ هذا وكُلِّفت بالكتابة فيه ، فأعددت بحثا لم يشأ الله أن يُلقي بمكة المكرمة ، لأنه حَالَ بيني وبين المشاركة حوائل استجدت قبل الحج التالي، فقدِّر الله أن أشارك فيه في مؤتمر :
[ نحو بناء نظرية تربوية إسلامية ]
الذي عُقِد في عمان شهر تموز من سنة 1990 م ، بدعوة من معهد الفكر الإسلامي في واشنطن ، وجمعية الدراسات والبحوث الإسلامية في عمان، ومشاركة جامعتي : مؤتة ، واليرموك الأردنيتين .
كما نشرت بعض ما تقدَّم في عددي مجلة الرسالة الإسلامية / 108 و 109 / السنة العاشرة / المصادف سنة 1977م ـ الموافق لسنة 1397هـ .
ولهذا فقد عزمت ـ متكلاَ على الله بسم الله الرحمن الرحيم ـ إصدار هذه السلسة المباركة في هذا الموضوع الحيوي المهم ، الذي نجد انعكاساته في أفكارِ كثيرٍ من الشباب ، وفي اعتراضات بعض الكهول والشيوخ . فكان منهجي في هذا هو الأسلوب العقلي ، إلاَّ ما كان الأمر متعلقاً بمبحثٍ خاص بذات النصوص ، ولعل أول السلسلة سيكون من النوع الذي استثنيناه ، وما قدَّمناه إلاَّ لضرورة الحاجة ، وكثرة وقوع السؤال عنه ، مما جعلني أُؤثره بالتقديم ، ولعل الخير فيما وقع ..
{(1/9)
والله يعلم وانتم لا تعلمون } .
وإنَّ [ الحاجة تُنَزَّل منزلة الضرورة عامَّةً كانت أم خاصَّة ] .
وقد أسمِّي بعض حلقات هذه السلسلة بتسمية ، كما هو واقع في أوَّلها ـ وهي هذه ـ ، وما ذاك إلاَّ تشبهاً بأولى السبق من أهل العلم في أُمتنا..
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم
إن التشبه بالكرام فلاح
وأخيراً.. فإنَّني بذلت وسعي ما استطعت ، فما كان صواباً فهو من الله ، وما كان بخلافه فهي منِّي ، وما أبرئ نفسي ، وكلُّ ابن آدم خطَّاء ، وهذا دلالة نقصِهِ ، ونقصُهُ دلالة بشريته ، و [ ليست العصمة إلا لنبي ] . فمن وجد خللاً فليُصلحه ، ولينصحني ولا يفضحني ، فقد قال العلماء السابقون [ الكريم يُصلح واللئيم يفضح ] ، وما اضطرني لهذا إلاَّ أمران :
أولهما : تيقُّني باستحالة تجرد كلِّ ما أقول عن الخطأ .
وثانيهما : ما رأيته عند بعض اللئام حين يدورون في المقاهي مشنِّعين على رؤوس الأشهاد بأفاضل الناس وكرامهم من العلماء ، و:
[ لله في خلقه شؤون ] و [ الإناء ينضح بما فيه ] .
وفي الختام.. أسأله تعالى أن يجعل كلَّ ما نعمل خالصاً لوجهه ، دائماً في نفعه ، شفيعاً لمن ابتغاه شفاعةً له في رمسه ، ونسأله نوال الشفاعة العظمى من حبيبه [ - صلى الله عليه وسلم - ] مع سعادة أُنسه .
وهذا أوان الشروع في المقصود // .. //
والحمد لله رب العالمين .
الدكتور
محمد محروس المدرِّس
الأعظمي
غرَّة شعبان 1412 للهجرة المشرَّفة
الأعظميَّة ـ محلّه 314 / زقاق 88 / دار 41 .
هاتف ـ 4225253 و 4228669
توطئة
... نشهد في مثل أزماننا إقبالاً مُسِّراً على الإسلام من جمهرة شبابه ، مع تعلِّق مُفرح منهم بالعبادات ، ونجد منهم محاولاتٍ لفهم هذه الشريعة الغراء ، و سلوك المهيع الصواب ، ولكن بطريقتهم الخاصة ! .(1/10)
نعم... بطريقتهم التي تتلخص بالتفرد بالمراجعة ، والإعتماد على النفس في المطالعة ، ظانِّين أن السبيل لهم في بغيتهم ميسور، والطريق إلى ما يرومون مُعتمد موفور.. وفي ظنِّي أن ظنَّهم هذا لا يُقبل ، فقد يوصل إلى نتائج لا تُحتمل .
إنَّ الاستغناء عن : [ الشيوخ ] و [ الأساتيذ ] مهلكة للمرء ، فمَثَلُ هذا الإنسان كالسائر في اللجج المتلاطمة وفي جوفها اللؤلؤ والمرجان ، وعلى ظهرها تسير الجاريات في البحر كالأعلام ، قاصدة دار الأمان ، وأنَّى لها الوصول ، وبلوغ المأمول ، وأن يتيَّسر له على ما في البحر الحصول ، إذا لم يُحسن التعامل مع البِحار، ولم يعرف كيف يتمُّ تفادى المهالك والأخطار ؟! .
إنَّ معرفته لا تتمُّ إلاَّ بالتلقِّي ، والاستفادة من علم أهل السبر والتجربة والتقصِّي ، وإلاَّ أضاع المرء من عمره جُلَّه ، وما أدرك مما يريد أن يعلم إلا أقلَّة ، وسيتكرر هذا مع كل واحد ، وتمضي السنون فما تجد من [ واجد ] ، بل الكلُّ يبدأ من نقطة الصفر ، حتى إذا ما وصل إلى نقطة من سبقه ، تراه وقد انقضت رحلة العمر! .
فماذا يحصل لهؤلاء الأحبَّة ؟
تتأجج عندهم العواطف ، ولا يستطيع أن يصفها واصف ، حتى إذا صُدِم أحدهُم بمعاند أو مكابر ، أو متنطعٍ ، أو مبتدع ، أو كافر ... إذا هم أمامه يتراجعون ، فلا يستطيعون حماية دينهم ولا لتهمةٍ عنه يدفعون !! .
إنَّ مراجعة [ المشايخ ] والاستفادة من علمهم يوفِّر أوقاتاً ، ويُجمِّع حججاً تُزيل حُجُباً : فما عندك لا يغنيك عما في يد غيرك ، وما ملكه غيرك ، قد لا ينفعه وينفعك ، فتستكمل الحلقات ، وتُدفع الشبهات ، وتقوى حُجج أهل الإيمان . وإلاَّ كانت العاقبة وخيمة ، فالمعتَّد بذات علمه ، والذي أوكل أمره إلى خاصَّة نفسه ، هو حاملٌ لخصلةٍ ذميمةٍ إذ باعَدَ نفسه عن قول ربِّه :
{ فاسألوا أهل الذكر إنْ كنتم لا تعلمون }(1/11)
فليس الخاسر غيره ، ومِن بعده ذلك الإسلام الذي تحمَّس له مِنْ غير علمٍ ، فيرتدَّ على وجهه خائباً وهو حسير ، خسر الدنيا والآخرة ، لأنَّه ما تسلَّح بسلاح العلم ، وما عرف منافذ وشُبه الخصم ، وما تعلَّم سدَّها ولا ردَّها ، بحجته وفهمه وعقله ، دون محض حُبِّه ، وأجيج عاطفته .
إنَّ كثيراً ممن لم يسلك هذا المسلك ، تلف وهلك ، وتزعزت عنده القناعة ، وتلك هي المهلكة ، وأحسن أحوالهم أنَّهم بقوا محايدين !! ، والعياذ بالله - عز وجل - من السيء والأسوأ من الأحوال .
********
أمَّا حين يتكلم عالمٌ مِنْ علماء المسلمين ، فإنَّنا نجد الأمر على خلاف ما ذكرنا تماماً .
هذا الإمام أبو الثناء محمود شهاب الدين الآلوسي رحمه الله [ت سنة 1270 هـ ] ، يتكلم في تفسيره المسمَّى :
[ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني ]
عن قوله تعالى :{ والشمس والقمر بحسبان }
فإنَّه يقول :
[ وفلاسفة العصر كانوا يزعُمُون أنَّ الشمس لا تجري أصلاً ، وأنَّ القمر يجري على الأرض ، والأرض تجري على الشمس ، وقد سمعنا عنهم أنَّهم عَدَلوا منذ أعوامٍ عن ذلك ، فزعموا أنَّ للشمس حركةً على كوكبٍ آخر ، وهذا يدُلُّ على أنَّهم لم يكن لهم برهانٌ على دعواهم الأولى ، كما كان مَنْ ينتصر لهم . والظاهر أنَّ حالهم اليوم بل وغدا ، وحالهم بالأمس واحدٌ .. ونحن مع الظواهر حتَّى يقوم الدليل القطعي على خلافها ، وحينئذٍ نميل إلى التأويل ، وبابُه واسعٌ ... ] .
تفسير الآلوسي ـ 27 / 100 .
فإنَّك تجد في هذا الكلام دقَّةً متناهيةً في التوفيق بين النصوص والعلم التطبيقي ، والحقُّ أنّه منهجٌ عظيمٌ نظيمٌ ، ومنهجٌ علميٌّ نفعه عميم ، وأُسلوبٌ إسلاميٌّ ، لو تعامل به الإسلاميون الشباب ـ ولا أظُنُّهم يُحسنونه ـ لفلحوا ، فإن لم يُحسنوه فليستعينوا بمن له القدرة ..
{ وفوق كلِّ ذي علمٍ عليم }(1/12)
فمن الجناية على الإسلام مِنْ أبنائه في هذا الجيل ، أنَّهم يتركوه مُتَّهماً مُهَاجَمَاً ، وهم لا يُحسنون الدفاع عنه !! .
********
ويقول الإمام الآ لوسي [ رح ] في كتابه :
[ شهيِّ النغم في ترجمة شيخ الإسلام عارف الحكم ](1)ما نصه :
[ ... ولو سَلَم وَجَبَ تأويله إذا قلنا بمصادقة ذلك لدليلٍ قطعيٍّ ، وفاءً بقاعدة: ( يُؤَوَل الدليل النقلي الصحيح للدليل العقلي الصريح )
ولذا أوَّل من أوَّل الآيات والأحاديث المتشابهة ، وذكر غير واحد من علماء الحديث ، أنَّ من جملة ما يُستدل به على الوضع : كون الحديث مصادماً لبداهة ،ٍ أو حسٍ ... ] . إ . هـ .. منه.
بهذه المنهجيَّة الدقيقة يتعامل العلماء ، لا بسيء القول بتعميمات الجهل والتجهيل ، أو عاطفة المحبِّ الذي لا يملك إلاَّ حبَّه !! .
فحريٌّ أن نتأسى برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي حاجج ، ونافح ودافع بالبراهين ، لا بمجرد إخافة الغير عند المخالفة .
وأن نتأسى بأصحاب العلم في الأمَّة ، الذين لم يأتوا ببدعٍ من القول ، بل كان لهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - منتهى التأسي ، لا مجرد الإدعاء ، فأوصلوا هذا الدين سليماً معافى ، وهم يسيرون بين لجج العناد ، والإفتراء ، والتزوير ، والجرأة على الدين ، بافتراءاتٍ لولا الله - عز وجل - ، ولولا جهودهم ، لكان الأمر على خلاف ما نرى .
فلو كان لنا مثلهم اليوم ، لهانت مشكلتنا ، ولكن ابتلينا : بمتشدقٍ ، ومتشاعرٍ ، ومتمنٍ ..إلخ .
********
__________
(1) المطبوع في بيروت سنة 1983 باسم : [ عارف حكمة / حياته وآثاره ] . راجع ـ ص165 .(1/13)
لذلك عزمت بعد الاتِّكال على الربِّ المعبود ، سائلاً إيَّاه إيصالي إلى الغرض المنشود ، على تتبع هذه الشُبه التي نسمعها من الشبيبة الحبيبة، والتي جعلتها شُبَه الكفار تخبط خبط عشواء بأفكارها ، فتخبطت في استقائها ، وبُعدٍت عن الشِرعةِ الصافية التي لا مزلق فيها ، حتى إذا خالطوا من حسنت عقيدتهم ، وسلمَت طريقتهم من الأبناء ، وغلبت عاطفتهم منطق العقول ، جعلتهم – مع الأسف الشديد – في حيرة وذهول ، فبدلاً من أن يكون للمتمسكين تأثيرهم ، نرى الحالة معكوسة منكوسة ، فلا يصمد هؤلاء في مقابل أولئك ، بسبب هذه الشبهات التي تُثار ، والتي لم يراجع الشباب في دحضها [ الشيوخ ] ، فيحدث ما يحدث في اعتقادهم من تصدع وشروخ !! .
إنَّ أكثر ما نرى هذا في المستويات الجامعية ، التي يكون الطالب فيها في أوج القوة الذهنية ، ومنتهى الفورة البدنيَّة ، فإنَّ عَدِم من يقبل منه تساؤلاته ، ولقي واحداُ من نسمِّيهم بـ [ المنغلقين ] ، أو ساقه القدر إلى واحد من [ العاطفيين ] غير العقلانيين ، كانت النتائج وخيمة ، وحصيلة ذلك ذميمة ، أعاذنا الله منها بتوفيقه ، إذ لا بد من سبيل ثالث بعيد عن الانغلاق ، ناءٍ عن العاطفة ، ليكون مهيعاً رشيداً ، نستنقذ به مِن أبنائنا هؤلاء وأولئك ، لنأتي بهم برفقٍ وعقلانية إلى طريقٍ آمنٍ سالك .
إنني لو أردت تعداد ما يُثار ، ما حسبت نفسي مستطيعاً الاستقصاء بهذه العُجالة ، بل سأعالج ـ بعونه ـ ما استطعت من تلك الشُبه حتى آتي فيها على الذُبالة ، وكلُّ ما أحتاجه في كلِّ حين ، هو عون الله وتسديده في تدوين ما بان لي وظهر ، فهو جل وعلا ربُّ القُوى والقُدَر.
- الله -
المبحث الأول
المغيَّبات التي شاعت على ألسنة الناس
والأدلة عليها(1/14)
وأشرع فيما أُثير مؤخراً عن توصل العلماء في الغرب إلى معرفة نوع الجنين في بطن أمه ، بتحليل دمه في أشهر معينة من عمره ، ويُعرف بذلك نوْعُه ، لأن دم الذكر يحمل عدداً من كريَّات الدم البيض في حجم معين من الدم ، هو غيره في الأنثى في ذات الحجم من الدم .
[ لا بل قد استجدَّت أمورٌ هي أبعد مِن ذلك بكثير ، إذ استطاعوا التدخل مُسْبَقاً ، في تحديد نوع المولود عند التقاء [ الحيمن ] بالبويضة ، فيُساعدون [ الحيمن ] الذكري مثلاً على الوصول إلى البويضة ، ليلقحها دون الأخرى !! ] ـ هذا مُضاف في سنة 1420 هـ ، ولم يكن مسموعاً عند إعداد البحث الأصلي ـ .
وقد سألني عددٌ من الشباب : عن مدى توافق هذا كلِّه مع قوله تعالى :
{ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت أن الله عليم خبير } .(1)
وبادئ ذي بِدءٍ لا أريد أن أنكر وجود هذه القدرة العلمية اليوم ، بل سأتعامل معها على افتراض تحقق الوقوع ، لا بل هو واقع بتواتر النقل ، بل قد سئلت من أطبَّاء عراقيين متخصصين ، ممن يوثق بهم ،عن مثل هذا ، ومدى شرعيَّته ، وهو مما يتم في العراق اليوم .
إذاً لا بد من إجابةٍ ، ولا بد مِنْ أن : [ نتأهب للشرِّ قبل وقوعه ](2).
والمقصود بالشر هو : الواقعة الدنيويَّة ، التي يُراد لها إجابةً دينيَّة، وشرُّها من جهة حاجتها للجواب ، وما في ذلك من خطورةٍ على المتصدِّي للإجابة ، خشية الخطأ والخلل ، والتقوُّل على الشارع الحكيم .
وهذا مسلك جدير بالاعتبار اتخذه بعض فقهاء الأمَّة ، وهو الإمام الأعظم أبو حنيفة - رضي الله عنه - ، في تأييد مسالكهم البحثيَّة ، مستدلين بقول القرآن الكريم : { يا أيها الذين آمنوا خذوا حِذْرَكُم ... }(3).
__________
(1) سورة لقمان / الآية 34.
(2) هذا مما ينسب للأمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
(3) سورة النساء / الآية 71.(1/15)
وكذا ما ورد في قوله تعالى :{ ... وليأخذوا حِذْرَهم ... }(1).
وأخذ [ الحِذْر ] هو : الاستعداد للأمر قبل وقوعه ، بل وتَوَقُعِّه. ولعل ما يؤيد هذا قوله تعالى : { وأَعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ..}.(2)
والإعداد يكون بتوقع الحدوث ، قبل حقيقة الوقوع .
لقد أنكر القرآن الكريم على من لم يأخذ للأمر أُهبته ، معتبراً ذلك دلالة عدم الصدق في العزم ، في قوله تعالى :
{ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدَّةً ولكن كَرِهَ الله انْبِعاثَهُم فثبَّطهُم وقيل اقْعُدوا مع القاعدين }.(3)
فالاستعداد للبلوى ، وهي الحادثة التي يُبتلى الإنسان ويختبر بها في الدنيا ، هو واجبٌ شرعي ، وما قيل بغير هذا فهو لا يقوى أمام ما تقدم(4).
ونعود إلى ما ورد في آخر سورة لقمان ، وهو قوله تعالى :
{ إنَّ الله عنده علم الساعة ويُنزِّلُ الغيث ويعلم ما في
الأرحام ، وما تجري نفسٌ ماذا تكسب غداً وما تدري نفسٌ بأيِّ أرضٍ تموت إنَّ الله عليمٌ خبير } لقمان / 34 .
فإنَّ ما قيل في تفسيرها ـ وهو كثير ـ يوقع الناظر فيها ، في مأزق ديني كبير حين توصل الباحثون إلى معرفة نوع الجنين ، ولكن هذا المأزق بعون الله زائل ، فسنجد :أخباراً ، وآثارأ ، ونذكرهما في فرعين :
الفرع الأول
الأخبار الواردة في الباب
فالروايات عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد يُفهم من ظاهرها : حصر العلم بهذه الخمسة التي وردت في الآية بالله - عز وجل - ، نورد منها الآتي :
أ. ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من حديث طويل :
{
__________
(1) سورة النساء / الآية 102.
(2) سورة الأنفال / الآية 60.
(3) التوبة / الآية 46.
(4) لا يؤيد البعض الخوض في المسائل قبل وقوعها.(1/16)
أنَّه - صلى الله عليه وسلم - سئل متى الساعة ؟ فقال للسائل : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، وسأخبرك عن أشراطها : إذا ولدت الأمة ربَّتَها ، وإذا تطاول رعاة الإبل البُهم في البنيان ، في خمس لا يعلمُهُنَّ إلاَّ الله تعالى ثم تلا النبي - صلى الله عليه وسلم - : { إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ... }.(1)
ب . وأخرج الشيخان وغيرهما عن ابن عمر - رضي الله عنه - :
{ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : مفتاح ـ وفي رواية مفاتح – الغيب ، خمس لا يعلمها إلا الله تعالى : لا يعلم أحد ما يكون في غد ، ولا يعلم أحد ما يكون في الأرحام ، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غدا ، وما تدري نفس بأي أرض تموت ، وما يدري أحد متى يجيء المطر } .(2)
ج . ما رواه الطيالسي :{ أنَّ جبريل - عليه السلام - قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
أخبرني عن الساعة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى : إنَّ الله عنده علم الساعة ، وينزِّل الغيث ، ويعلم ما في الأرحام ، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً ، وما تدري نفس بأي أرض تموت . قال : صدقت } .(3)
د . ما أخرجه أحمد والطبراني عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
{ أوتيت مفاتيح كلَّ شئٍ إلا الخمس : إن الله عنده علم الساعة ... الآية } .(4)
__________
(1) روح المعاني – 21 / 111 .
(2) روح المعاني – 21 / 111. وقد لخص كل ما أورده المفسر الآلوسي [ رح ] مع إضافات طفيفة ولده العلامة السيد نعمان خير الدين الآلوسي في كتابه :[ غالية المواعظ ] 1 / 91 ، فان شئت فراجعه . ويضيف إلى ذلك : تكفير من يدعي أن الجن يعلمون الغيب ، أو يخبرون عن المسروقات وغيرها.
(3) 10) القرطبي في الجامع الأحكام القرآن – 14 / 82.
(4) 11) الآلوسي في روح المعاني – 21 / 111.(1/17)
هـ. وأخرج سعيد بن منصور ، وأحمد ، والبخاري في الأدب عن رِبعي بن خراش قال : حدثني رجل من بني عامر أنه قال : يا رسول الله هل بقي من العلم شئ لا تعلمه ؟
فقال - صلى الله عليه وسلم - : { لقد علمني الله تعالى خيراً ، وإن من العلم ما لا يعلمه إلا الله تعالى.. الخمس : إن الله عنده علم الساعة ... الآية } .(1)
و. أخرج أحمد ، والبزار ، وابن مردويه ، والروياني ، والضياء ، بسند صحيح عن بُريدة قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
{ خمس لا يعلمهنَّ إلاَّ الله : إن الله عنده علم الساعة ... الآية }.(2)
ز. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في قوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الله إلا هو }(3)، { إنَّها هي } .(4)
أي الخمسة المذكورة في سورة لقمان .
ومعنى " مفاتح " ، جمع مَفْتَح ، هي : عبارة عن كل ما يحل غلقاً محسوساً كالقفل على البيت ، أو معقولا كالنظر . وهي في الآية الكريمة [استعارة عن التوصل إلى الغيوب ، كما يتوصل في الشاهد بالمفتاح إلى الغيب عن الإنسان ].(5)
- - - -
الفرع الثاني
الآثار الواردة عن الصحابة الكرام - رضي الله عنه -
وردت عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم آثار مؤيدة لانحصار العلم بهذه الخمسة بالله تعالى :
أ.ما أخرجه أحمد ، وأبو يعلى ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال :
[ أوتي نبيكم - صلى الله عليه وسلم - فاتح كل شئ غير الخمس : إن الله عنده علم الساعة ... الآية ] .(6)
ب.ما أخرجه ابن مردويه عن علي - رضي الله عنه - قال :
[
__________
(1) 12) الآلوسي في الموضع السابق.
(2) 13) الآلوسي في الموضع السابق.
(3) 14) سورة الأنعام / الآية 59.
(4) 15) القرطبي في الجامع – 14
(5) 16) القرطبي – 7 / 1-2.
(6) 17) الآلوسي – 21 / 111-112.(1/18)
لم يُغمْ على نبيِّكم - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ الخمس من سرائر الغيب ، هذه الآية في آخر لُقمان : إنّ الله عنده علم الساعة ... إلى آخر السورة ]. (18)
ج.ما أخرجه ابن أبي حاتم عن قتادة - رضي الله عنه - قال :
[ في الآية خمس من الغيب استأثر الله تعالى بهن ، فلم يُطلِع عليهنَّ ملكاً مقربا ، و لا نبياً مرسلاً.. إن الله تعالى عنده علم الساعة ، ولا يدري أحد متى تقوم الساعة ، في أي سنة ولا في أي شهر ، أ ليلا أم نهاراً ، وينزل الغيث فلم يعلم أحدٌ متى ينزل الغيث أ ليلاً أم نهاراً ، ويعلم ما في الأرحام فلا يعلم أحد ما في الأرحام أ ذكراً أم أنثى ، أحمر أو أسود ، ولا تدري نفس ماذا تكسب غداً أ خيرا أم شراً ، وما تدري بأي أرض تموت ، ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض أ في البحر أم في بر، في سهل أم في جبل ].
قال الآلوسي : [ والذي ينبغي أن يُعلم أنَّ كل غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل ، وليس المغيبات محصورة بهذه الخمس ، وأنها خُصَّت بالذكر لوقوع السؤال عنها ، أو لأنها كثيرا ما تشتاق النفوس إلى العلم به ].(1)
ومما عرف في الأصول إن تقليد الصحابي واجب فيما لا يُدرك بالقياس والعقل ، بل قال البعض تقليده واجب يُترك به القياس .
ومهما يكن من أمرٍ فهم متفقون على تقليد الصحابي فيما لا يعقل بالقياس.(2)ولذلك قالوا : [ وما روي عنهم - الصحابة - من الآثار غير المعقول المعنى فالظاهر أنهم قالوا سماعا ] .(3)وعلى هذا ما أُثر عن الصحابة في هذه المسألة من أمور العقيدة التي تتعلق بالغيب ، وهذه لا يقال فيها : بالرأي ، ولا بالقياس ، ولا بالظن ، وطريقها القطع ، فالظاهر أنهم قالوه سماعاً .
الفرع الثالث
ما ورد عن بعض علماء الأمَّة
في هذه المسألة
__________
(1) 19) الآلوسي – 21 / 111-112.
(2) 20) البخاري على البزدوي – 3 / 217 – 218.
(3) 21) الإختيار – 1 / 17.(1/19)
وما ورد عن بعض علماء الأمة في تفسير آية سورة لقمان ، وهو يؤيد ما ذكرنا من أخبار وآثار، منها :
أ.ما نقله القرطبي ، قال :
[ قال علماؤنا : أضاف سبحانه علم الغيب إلى نفسه في غير آية من كتابة إلا من أصطفى من عباده ] .(1)
ب. ما قاله القرطبي نفسه ، بقوله :
[ فمن قال : أنه ينزل الغيث غداً وجزم فهو كافر ، أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا ، وكذلك من قال : إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر ... ، وأما من أدعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر ، أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المنفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضا ، وأما من أخبر عن كسوف الشمس والقمر فقد قال علماؤنا – القول للقرطبي ـ : يؤدب ولا يسجن ، أما عدم تكفيره فلأن جماعة قالوا : إنه أمر يدرك بالحساب وتقدير المنازل حسبما أخبر الله تعالى عنه بقوله :
{ والقمر قدرناه منازل }(2).
وأما أدبهم فلأنهم يدخلون الشك على العامة ، إذ لا يدركون الفرق يبن هذا وغيره ، فيشوشون عقائدهم ويتركون قواعدهم في اليقين ، فأُدِّبوا حتى يسرُّوا ذلك إذا عرفوه ولا يعلنوا به ] .(3)
على أن مسألة العلم بوقت الكسوف قبل الظهور مما أقحمه القرطبي [ رح ] في المغيَّبات الخمس التي هي موضوع البحث . والحقيقة هي خارج ذلك النطاق ، ويؤيده ما أخرجه حميد بن زنجويه عن بعض الصحابة - رضي الله عنه - : [ أنَّه ذكر العلم بوقت الكسوف قبل الظهور، فأُنكر عليه فقال ـ أي الصحابي ـ :
[ إنما الغيب خمس.. وتلا هذه الآية ، وماعدا ذلك غيب يعلمه قوم يجهله قوم ] .(4)
- - -
المبحث الثاني
تحقيق المقام
__________
(1)
(22) القرطبي – 7 / 2.
(2) 23) سورة يس / الآية 39.
(3) 24) القرطبي – 7 / 2-3.
(4) 25) الآلوسي –12 / 111.(1/20)
إنَّ هذا الموضوع من الأهمية بمكان ، إذ يترتب عليه تزعزع إيمان أقوام ، أو ثبات إيمانهم . فالشباب اليوم – والحمد لله – ممن يُكثر قراءة القرآن الكريم ، وهم فضلاً عن ذلك يسمعون آخر ما توصل إليه العلم التطبيقي والتجريبي ، وهذا العلم يقيني باتفاق المسلمين كما هو مصرَّح به في مظَانِّه ، ولا نريد أن نُكثر من القول فيما هو مسلَّم الثبوت . فلا بد لهم من مُخْرِج ، وتوفيق دقيق بين الأمرين ، بما يوافق الكتاب العزيز ونظمه ، وبديع تركيبه وفهمه ، وكذا فهم ما ورد في السنة ، وأقوال علماء الأمة .
فأقول وبالله التوفيق :
إن هذه المغيبات الخمس المذكورة في سورة لقمان ، تختلف درجة غيبيتها ، ومدى استئثار الله بحقيقتها ، وذلك بتفصيل نبيِّنه ـ إن شاء الله ـ بفروعٍ ثلاث ، وكالآتي :
} - - - {
الفرع الأول
علم الساعة
وهذا لا جدال بأن الله قد خص نفسه بعلمها من حيث التفصيل ، من معرفة اليوم والساعة ، و أفي الليل هي أم في النهار ... . الخ .
أما العلم بها من حيث الجملة ، فهذا معروف للنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين، فمنذ زمن بعثة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فإن موعد الساعة أضحى قريبا ، لقوله - صلى الله عليه وسلم - :
{ بُعثت أنا والساعة كهاتين }
وساوى بين السبابة والوسطى - صلى الله عليه وسلم - .
وقال الأمام أبو الثناء الآلوسي في تفسيره : [ وقوله - صلى الله عليه وسلم - ... يدل على أكثر من العلم الإجمالي بوقتها ، ويُرشد إلى العلم الإجمالي بها ذكر أشراطها كما لا يخفى ... ] .(1)
ويؤيد هذا أسلوب التعبير عن علم الآخرة في الآية، حيث قال - صلى الله عليه وسلم - :
{ إن الله عنده علم الساعة ... } ، فعلمها أضافه إلى نفسه - جل جلاله - مما يدل على مزيد الاختصاص .
__________
(1) 26) الآلوسي- 21 / 112 – 113 واستشهد بحديث القاضي أبي محمد الحسن الرامهرمزي في أمثال الحديث ص24 فراجعه إن شئت.(1/21)
نعم لا يمنع اختصاصه تعالى بعلمها أنْ يُطلع من يشاء من خلقه عليها ، ولمَّا لم يثبت من طريق أنَّه أطْلَع عليها من خلقه أحداً على وجه التفصيل لا الإجمال ، كانت الصياغة القرآنية في قوله تعالى :
{ إنَّ الله عنده ..}
أي : عنده لا عند غيره ، ولا تُشعر عبارة النص بأنَّ غيره [ عنده ] من علمها شيء ، فصار اختصاص علمه بها من غير مشاركة ..
ويؤيده ما في الآلوسي [ رح ] :(1)
[ فقيل .. إنَّ الله ... ولم يقل : إن الساعة عند الله مع أنه أخصر ، لأن : اسم الله أحقُّ بالتقديم ، ولأن تقديمه وبناء الخبر عليه يفيد الحصر ـ كما قرر الطيبي ـ ، مع ما فيه من مزيد تكرار الإسناد(2). وتقديم الظرف(3)يفيد الاختصاص أيضا ، بل لفظ [ عند ] كذلك لأنها تفيد حفظه بحيث لا يُوصل إليه ، فيفيد الكلام من أوجهٍ إختصاص علم وقت القيامة بالله عز وجل ] .
إذن لا منازعة في اختصاصه - عز وجل - بها ، ومعرفة الإرهاصات لا ينهض معارضاً لما تقرِّر ، فمعرفة أشرطها غير معرفتها ، وفي تعبير القرآن الكريم في كثير من الآيات صيغٌ تُشعر بقرب وقوعها ، وتحقُّقه هو من هذا القبيل ، ولعلك لو راجعت التفاسير المعبِّرة المعتبرة عند كلامها عن قوله تعالى :
{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه } ، و{ أزفت الآزفة }
فستجد كلاماً شافياً في هذا .(4)
- - -
- - -
الفرع الثاني
العلم بنزول الغيث
وفيه مطالب
المطلب الأول
المعنى اللغوي
فالغيث هو : المطر ، أو الخاص بالخير منه .
__________
(1) 27) الآلوسي –12 / 109.
(2) 28) وهما لفظ الجلالة، والهاء-أي الضمير-، فالعلم أسند اليه تعالى صريحا ومضمرا لزيادة التأكيد.
(3) 29) والظرف هو ( عند ) قدمه المسند-وهو العلم-زيادة في اختصاص العلم بالله جل جلاله، ولو تغير النظم القرآني - كما افترض الآلوسي (رح) - لم يحصل المقصود .
(4) 30) راجع الرامهرمزي - 24 فما بعدها .(1/22)
يُقال : غاث الله البلاد غيثا ، وغياثاً : إنزل بها الغيث(1).
وقيل : الحجامة في الرأس هي ... المغيثة ، كان المعنى هي النافعة تنفع من كل داء إلا السام .(2)
******
المطلب الثاني
استعمال القرآن الكريم
هذا المعنى اللغوي يؤيده القرآن الكريم ـ والقرآن الكريم يفسِّر بعضه
بعضا ، ففي قصة سيِّدنا يوسف - عليه السلام - ، وذلك في تأويل رؤيا الملك ،
قال سيدنا يوسف :
{ قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلاَّ قليلاً مما تأكلون ، ثم يأتي من بعد ذلك عام يُغاث فيه الناس وفيه يعصرون } .(3)
فالغيث بالمعنى المتقدم ، وما ورد عنه في القرآن الكريم ، هو :
قوله تعالى :
{ إنَّ الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ... ) لقمان /34 .
وقوله تعالى:
{هو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته } الشورى/28.
وقوله تعالى :
{ كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفراً } الحديد /20.
وما ورد في سورة يوسف ذكرناه آنفا ، وكلُّ هذا يدل عل استعمال
[ الغيث ] في النافع والمُنْبِت من الماء النازل من السماء الذي [ يغيث ].
********
أما ما ورد في قوله تعالى :
{ وإن يستغيثوا يُغاثوا بماءٍ كالمُهل يشوي الوُجُوه..} الكهف /29 .
فهذا تهكم بالكفار الذين تركوا نعمة الله في الدنيا التي تحييهم الحياة الأخرويَّة ، فضلاً عن الحقيقية ، فهم يُجازون بجنس العمل ، فحين احتاجوا إلى [ ماء ] لهم فيه من لفح جهنم وحرِّها تخفيفٌ وتلطيفٌ ، فإنَّهم [ يُغاثوا ] بجنس ما أوقعوا به أنفسهم من العنت والضرر في الدنيا ، بتنكب أحكام الله ، فها هنا يُعطون ويَحصدون من جنس ما قدموا
[
__________
(1) 31) لسان العرب ـ مادة [ غَوَثَ ] ، والمعجم الوسيط-2/ 667.
(2) 32) مجمع البحرين ومطلع النيرين - كتاب الثاء باب ما أوله الميم .
(3) 33) يوسف / 47-49.(1/23)
فغوثهم ] هلاكهم ، كما جعلوا من [ غوثهم ] في الدنيا ـ وهي الأحكام ـ إلى ما يُهلكهم ، وقد تحقق الآن الهلاك !! ، فيا لله للبلاغة واللفتات في هذا النظم البديع ، البعيد في موالفة المعاني !! .
ومما يؤيد أنَّ الكلام في الآية هو عن الغيث النافع ، لا عموم المطر ، ما ورد في أسباب نزول الآية ، فقد أخرج ابن المنذر عن عكرمة، أنَّ رجلاً يقال له : الوارث بن عمرو جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال :
[ يا محمد متى قيام الساعة ؟.
وقد أجدبت بلادنا فمتى تخص ؟.
وقد تركت امرأتي حبلى فما تلد ؟.
وقد علمت ما كسبت اليوم فماذا اكسب غدا ؟
وقد علمت بأي ارض ولدت فبأي أرض أموت ؟ ] .
فنزلت هذه الآية.
وقد أخرج نحوه محييِّ السنة البغوي ، والواحدي ، والثعلبي(1). فسؤال الأعرابي عمَّا يُخصب ، والذي يُخصب هو الغيث الناعم لا المطرالشديد الذي تتشاءم منه العرب ، لأنَّه مهلكة للضرع ، ولا ينفع الزرع ، ويُخرِّب كل شيء .
فغوثهم بمطر نافع ، يُنبت الزرع ، ويحفظ الضرع ، إذ ليس كلُّ مطر غيثاً ، بل :
ج. قد أطَّرد استعمال القرآن الكريم [ للمطر ] في الضار منه ، وللغيث في النافع إلاَّ ما كان على سبيل التهكم بالكافرين .
يقول تعالى :
{ وأمطرنا عليهم مطراً فانظر كيف كان عاقبة المجرمين }الأعراف/84.
ويقول تعالى :
{ وأمطرنا عليهم حجارة من سجِّيل } هود/ 82 ، والحجر /74.
ويقول تعالى :
{ فأمطرنا عليهم حجارةً من السماء } الأنفال /32.
وقال تعالى :
{ ولقد أتوا على القرية التي أُمطرت مطر السوء } . الفرقان /40.
وقال تعالى :
{ ولا جناح عليكم إذا كان بكم أذىً من مطر } . النساء /102.
وقال تعالى :
{ فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتم قالوا هذا عارضٌ مُمْطِرُنا..}
إلأحقاف / 24.
هذا كل ما ورد في القرآن الكريم للفظة [ المطر ] ومشتقاتها ، وكلُّ استعمالاتها كان في الضَّار دون النافع .
__________
(1) 34) الآلوسي – 12/109، روح البيان للبروسوي- 7/103.(1/24)
المطلب الثالث
ظنيَّة المعرفة بنزول الغيث والمطر
الذي نخلص إليه إذن ، أنَّ المرء لا يستطيع أن يعرف بنزول الغيث ولا المطر، بل معرفته بنزولهما هو [ ظن ] لا غير بالنظر في: [الأمارات ].
والأمارة : هي غير الدليل ، فالأولى طريقٌ إلى الظن ، والثاني طريق إلى القطع والجزم اليقين ، فلا قطع إذن وإن رأينا السماء ملبدة بالغيوم ، والهواء الذي يهب رطباً ، فكل ذلك [ أمارات ] لا [ أدلة ] ، والواقع يؤيد هذا ، فقد يحصل كل ذلك ولا تجود السماء ، وقد تتلملم الغيوم بسرعة من غير مقدمات ، فتسيل الوديان أنهارا ، وينزل المطر مدراراً .
*****
المطلب الرابع
غيبيَّة المعرفة بنزول الغيث
إنَّ معرفة نزول الغيث يقيناً غير ممكن ، وإنْ عرفنا قبل نزول المطر بظنٍ راجحٍ قبيل نزوله ، فمما لا يُعرف أنَّ ما سينزل سيكون نافعا [غيثاًً] ، أو غير ذلك [ مطراً ] .
وهذا الفهم يؤيده ما ورد عن الإمام الآلوسي [ رح ] حين قال :
[ .. . وينزل الغيث : أي في إبَّانه من غير تقديم ولا تأخير ، في بلد لا يتجاوزه به ، وبمقدار تقتضيه الحكمة ، ... والمقصود [ تقييدات ] التنزيل الراجعة إلى العلم ، لا محض القدرة على التنزيل أو لا إذ لا شبهة فيه ، فيرجع الإختصاص إلى العلم : بزمانه ، ومكانه ، ومقداره ... ] .(1)
وقال البروسوي في روح البيان :[ ... وسمي المطر غيثا لأنه غياث الخلق، به رزقهم ، وعليه بقاؤهم فالغيث مخصص بالمطر النافع ، أي وينزِّله في زمانه الذي قدره من غير تقديم وتأخير ، إلى محله الذي عيَّنه في علمه من غير خطأ وتبديل ، فهو متفرد بعلم : زمانه ، ومكانه ، وعدد قطراته ... ].(2)
******
__________
(1) 35) الآلوسي – الموضع السابق.
(2) 36) روح البيان – 7 / 103.(1/25)
فمعرفة أنَّ النازل غيثاً بيقين غير ممكن ، وإن عُلم أنَّ النازل من السماء [ الغيم ] موعده قريب ، من غير قدرة على تحديد الموعد الدقيق، ويؤيده ما في أسباب النزول ، فالمطر لذي يُخصب ويَنفع ، فيسمَّى غيثاً، غير معلوم للناس أبداً على وجه اليقين والتفصيل .
********
المطلب الخامس
تأييد النظم القرآني لما تقدَّم
إنَّ النظم القرآني يؤيد ما ذهبنا إليه من إمكان المعرفة العامة لموعد نزول النازل من السماء أو توقعه ، دون الجزم به . ففي الاختصاص – وقد تم بيانه – الوارد بقوله تعالى :
{ إن الله عنده علم الساعة ... }
مع التأكيد بأحد أساليب التأكيد [ إنَّ ] ، هو [ تأكيدٌ ] لما قلناه .
********
وحين انتقل الكلام إلى الغيث ، نجد النظم القرآني ، قد تغيَّر ...
يقول تعالى : { .. وينزِّل الغيث .. }
فالنظم لا يدلُّ على حصر العلم بالله - عز وجل - ، وإن العلم اليقيني فقط محصورٌ به - عز وجل - .
وإذا كان الأمر يتعلق بقدرته على التنزيل دون سواه ، فلا شك في هذا ، [ إذ لا شبهة فيه ... ] ، كما قال الآلوسي .
على أنَّ الأمر إذا تعلق بالقدرة ، فلا دلالة في النظم على نفي القدرة عن غيره ولو بصورة محدَّدةٍ في البقعة والزمن ، وهذا يُفسر لنا أنَّ المطر الصناعي اليوم – وهو قدرة إنزال الغيث بصورة محددة – لا يتعارض مع النص الكريم ، فإنَّ لفظة [ يُنزِّل ] ، هي على شاكلة [ ويعلم ] ـ وسنتكلم عنها عند الكلام عن معرفة ما في الأرحام ـ ، فهي بصيغة المضارع التي تعني الحال والاستقبال ، فهو ينزِّل الآن ومستقبلا الغيث ، وهو قادر عليه ولا تتغير قدرته ، وهذا الأسلوب لا يعني حصر القدرة ، بل بيانٌ لعظمة القدرة مع عدم نفيِّها عن الغير، فبمقارنة قدرة غير الله - جل جلاله - المحدودة ، والكثيرة الكلفة ، فإنها لا تكون شيئا تُجاه قدرته .(1/26)
فلا تعارض فيما يقوم به البعض اليوم في ضوء التقدم العلمي ، وبين النصوص إذن ، فلو قال قائل : فلان يصنع الإلكترونيات ، فلا يعني هذا نفي صناعتها عن غيره، بل ذلك بيان لما وصل إليه من معرفة، أو هي إخبار مجرد ، والمقام يحدد كون الأمرين مطلوبين ، أم أحدهما.
********
ويؤيد هذا الفهم ما أشار إليه الإمام الآلوسي [ رح ] بقوله :
[ ولم يراع هذا الأسلوب .. بأن يقال : يعلم الغيث مثلاً ، إشارة بإسناد التنزيل إلى الاسم الجليل صريحاً إلى عِظم شأنه ، لِما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق ، وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث ] .(1)
فالقرآن الكريم يريد أن يقول للأعرابي :
[ يا أيها السائل إنك تسأل عن الساعة أيَّان مُرساها ، وأنَّ من الأشياء ما هو أهم منها لا تعلمه ، فإنَّك لا تعلم معاشك ومعادك ، وإنَّك لا تعلم ماذا تكسب غداً ، مع أنه فعلك وزمانك ، ولا تعلم أين تموت ، مع أنَّه شُغلك ومكانك ، فكيف تعلم قيام الساعة متى تكون والله تعالى ما علمك كسب غدك ؟ ، ولا علمك أين تموت مع أن لك في ذلك فوائد شتى ؟ ، وإنما لم يعلمك لكي تكون في كل وقت بسبب الرزق راجعا إلى الله تعالى ، متوكلاً عليه سبحانه ، ولكيلا تأمن من الموت إذا كنت من غير الأرض التي أعلمك سبحانه أنك تموت فيها ، فإذا لم يُعلِّمك ما تحتاج إليه كيف يُعلِّمك ما لا حاجة لك إليه ، وهو وقت القيامة ، وإنَّما الحاجة إلى العلم بأنها تكون ، وقد أعلمك جل وعلا بذلك على ألسنة أنبيائه ] .(2)
__________
(1) 37) الآلوسي – 20 / 109.
(2) 38) المرجع السابق-20 /111.(1/27)
فالإختلاف في النظم هنا لا لنفي المعرفة والعلم مطلقا ، وإلاَّ لوافق ما ورد بحق ما في الأرحام ، والذي ورد بحق الكسب ، وما ورد بحق مكان الموت ، وكذا لوافق النظم ما قبله ، وهو ما ورد بحق الآخرة ، وكل هذا متفاوت . فالنظم لا يمنع العلم أو الظن الراجع بما في الأرحام ـ على تفصيل نسبيِّنه ـ ، أو ما ينزل من المطر عموماً ، بل المنع في تمييز ما هو غيث من غيره ، وكذا المنع في معرفة التفصيل في نزوله في موقع معين لا يتعداه ، أو ساعة محدَّدة ، أو نزول قدر معلوم لا يتجاوزه ولا ينقص عنه . فهذا لا يُعلم ، والمعرفة الإجمالية قد تُعلم بأمارتها وعلاماتها.
الفرع الثالث
حكمة التغييِّب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -
وأنَّه لا يقدح في نبوَّته
أماَّ ما ورد في السنَّة النبويَّة الشريفة من الأخبار ، وما ورد عن الصحابة الكرام من آثار، فلا تُحمل على عدم العلم مطلقا بما ورد في الآية ـ وهي هذه الخمسة ـ ، بل يُحمل عدم العلم بها على وفق النظم القرآني ، فعلم الساعة لا يعلمه إلاَّ الله ، ولذلك ورد في إجابة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام - في روايات متعددة قوله :
{ ما المسؤول عنها بأعلم من السائل } .
أما إجاباته عن البقية فكان بتلاوته - صلى الله عليه وسلم - للآية ، فيفهم أنها غير معلومة له - صلى الله عليه وسلم - ، وفي عدم إعلامه بها - صلى الله عليه وسلم - من الله ، لا مباشرة ، ولا بتعريفه بإماراتها ، حِكم كثيرة سنوردها لاحقاً .
********
أنَّ التغييب لبعض الأمور في الشرع مقصودٌ ، وهو لا يقدح في هذا الدين ، ولا يعني بُعده المطلق عن متناول الناس ، فهذه [ ليلة القدر ] لم يرد فيها تحديد دقيق ، بل وُضعت لها أمارات ، ليجدَّ الناس في طلبها ...
وصدق من قال :
ليس الخفاء بعارِ على امريءٍ ذي جلال
فليلة القدر تخفى وهي خير الليالي(1/28)
ولتغييب الأحكام حكمٌ ، يحتاج بعضها ـ كتغييب بدء الشهور ـ إلى إفراد البحث بها ، ولعلَّ الله عزَّ وجلَّ يهيء لنا ذلك .
وفي خصوص حكم هذه المغيَّبات التي نحن بصددها ، نستطيع أن نورد الآتي ، في مطالب متتالية :
********
المطلب الأول
في
الحكمة الأولىً
تعليمهم أن كثرة السؤال مضيعة لكلِّ شيء ، وخاصَّة في تفصيلات هي خارجة عن نطاق اهتمام الأديان ـ وسنأتي لهذا قريبا ـ ، ففي الأخبار: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال(1).
وحين سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الحج : أفي كل عام ؟ قال :
{ ... ذروني ما تركتم فإنَّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا به ما استطعتم ، وإذا نهيتم عن شيء فاجتنبوه ... } .(2)
وفي التنزيل الحكيم :
{ يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تُبْدَ لكم تسؤْكم وإن تسألوا عنها حين يُنزَّل القرآن تبدَ لكم ، عفا الله عنها والله غفور حليم ، قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين } .(3)
********
المطلب الثاني
في
الحكمة الثانيةً
تعليمهم أنَّ بعثته - صلى الله عليه وسلم - لم تكن للإخبار من المغيَّبات حسب ، فالإخبار عنها غير مقصود لذاته ، بل لنفع يُرتجى ، فالإخبار عن الماضي، قد يكون :
__________
(1) 39) مفتاح كنوز السنة – 288 .
(2) 40) سنن النسائي بشرح السيوطي ـ 3 / 110-111، وراجع : مسند ابن حنبل، والدارمي ، والترمذي ... والألفاظ متقاربة ( المعجم المفهرس ـ 4 / 438 ) .
(3) 41) المائدة / 101-102.(1/29)
إقامةً للحجةِ ، وإثباتاً للنبوة ، وخاصة أمام اليهود الذين كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الأمم السالفة ، كان إخبار القرآن عن هذا السؤال إسكاتاً لهم ، لأن العرب لم تكن تعرف هذا.(1)
فإنه مسوق لأمور ـ لا لمجرد الإخبار ـ منها :
إقامة الحجة على الكافرين ، وبشارة للمؤمنين ، كل ذلك يصب لتعضيد
النبوة ، وإثبات المعجزة في هذا .(2)
__________
(1) 42) كما في آل عمران / 44 : { ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك ما كنت لديهم إذ يًلقون أقلامهم أيُّهم يكفلُ مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون }. وكما ورد في سورة هود / 24-123 ، وفيها قوله تعالى:{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت و لا قومك من قبل هذا فأصبر إن العاقبة للمتقين } هود / 49.
وبعد ذكر القرآن الكريم قصة نوح وما لقيه من قومه، ورد فيها :{ ذلك من أنباء القرى نقصُّه عليك منها قائمٌ وحصيدٌ*وما ظلمناهم ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير تتبيب، وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد*إنَّ في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يومٌ مجموع له الناس وذلك يوم مشهود} هود / 100-103. بعد أن ذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم. وفي قوله تعالى :
{ وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين } هود / 120.
(2) 43) من ذلك قوله تعالى :{ آلم، غلبت الروم، في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم ) الروم /1-5 ، ومن ذلك قوله تعالى : { أم يقولون نحن جميع منتصر، سيهزم الجمع ويولون الدبر }
القمر / 44-45.(1/30)
وقد يخبر القرآن عن المستقبل الدنيوي على وجه العموم ، لا في حادثة بعينها ، بل لمن يتمتع بصفة معينة ، كوراثة الأرض لمن يثبت على المحجة البيضاء ، ويسير على المهيع الأرشد.(1)
********
أو يكون إخباراً عن الحياة الأخرى وما فيها من نعيم مقيم ، أو جحيم أليم ، للمطيعين والعصاة ، وكل ذلك ليمتثل الممتثلون في الدنيا ، خوفاً وطمعاً في الآخرة ، ورغباً فيها ورهباً منها ، فتُوظَّف فكرة الحياة الأخرى وما فيها لسعادة الإنسان في الحياة الدنيا ،(2)وقل نفس الشيء عن بيان عاقبة الصبر(3)، وعاقبة الدنيا(4).
********
فما لم يكن للإخبار به من المغيبات منفعة تُستفاد دوما ، سواء أكانت المنفعة دينية أم دنيوية ، فإن ذلك يكون لا جدوى منه ، ولا طائل تحته إلا ما كان على سبيل الإعجاز ، فإذا لم يكن المقام مقام إلزام بإقامة الحجَّة ، فما نفع أخبار عن وقوع مطر لمرةٍ ، أو حتى لعدة مرات ؟!.
********
أما الإخبار عن الساعة ، فعدم الإخبار هو عين الحكمة من وجودها ليكون المرء مترقباً لها ، خائفاً من حلولها ، مستعداً لوقوعها . ولو عُلِمت لتوانى الإنسان ، وتراخى ، بالعزم والحزم ، والهمِّ بالقربات والطاعات إلى قُريب حلولها !!.
********
__________
(1) 44) كقوله تعالى :{ ونريد أن نمنَّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ) القصص / 5.
(2) 45) كقوله تعالى :{ تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } القصص / 84 .
(3) 46) كقوله تعالى : {.. إنَّه من يتقِِ ويصبِر فإن الله لا يُضيع أجر المحسنين } يوسف / 90.
(4) 47) كقوله تعالى : { ... اتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم } البقرة / 282.(1/31)
وكذا قل عن الموت ، فعدم المعرفة بمكانه ، هو عدم معرفة بزمانه ضرورةً ، لأن ما عُرِف مكانُه ، يُتوقع زمانه وأوانه ساعة الحلول في ذلك المكان ، أو الموضع ، ويأمن منه عند البعد عن ذلك الموضع .
********
أما عن الاكتساب فسوف تتعطل الحياة لو علم كسب كل إمريء في غد، فمن علم أنه لا يرزق فيما يطمع به غدا ما خرج لعمله ، ومن كان ينتظر منه عملا من الناس لا يجده ، ولأجل هذا سيخيِّم الإرباك على تعامل الناس ، وسيصعب تعيين زمان ارتزاق فلان وموافقته لزمن ارتزاق الأخر ذي المصلحة معه ، وهذا التوافق سيقل قلةً ملحوظة ، وبالتالي سيكون انتظام مرفق ، وسير عمل ، هو نوع خيال ، أو ضرب من المحال .
إذن فتغييب الرزق عن علم عموم الناس هو عين الحكمة ، ليطمع كل منهم أن يكون غده أحسن من يومه ، فتتواصل الحياة وتُثمر.
********
إنَّ تغييب كثير من الأمور تتحقق الحكمة بتغييبها، كأوائل الشهور القمرية ، وليلة القدر ، والأحكام غير القطعية ـ ولعلنا نوفَّق في الكتابة في مثل هذا إن شاء الله - جل جلاله - .
المطلب الثالث
في
الحكمة الثالثة
تعليمهم أنَّ إخباره عما غاب ، مما غبر ، أو مما هو منتظر ، توقيف من الله - عز وجل - ، وما لا يُعلِّمه الله - جل جلاله - أحداً من عباده على وجه اليقين ، فلا يُصدَّق مدَّعيه ، فالذي يدعيه العرَّافون والمنجِّمون لا يُوازى بمعرفة الرسل عليهم السلام اليقينية ، فإنَّ [ الأنبياء يعلمون كثيراً من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم ، والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستقي بالأنواء ، وقد يَعرِف بطول التجارب أشياء ، من ذكورة الحمل، أو أنوثته ، إلى غير ذلك ،..,.وقد تتخلف التجربة ، وتنكسر العادة ، ويبقى العلم لله وحده ].(1)
__________
(1) 48) القرطبي-14/83(1/32)
فالعلم المقصود هو القطع واليقين ، لا الظن ، فالظن قد لا يتحقق، والأمارات لا تُعطي [ بتاتاً ] ، والكلام في القطع الثابت المصيب الدقيق ، فهذا ما لم يُعْطه أحدٌ إلاَّ في حدود ما منَّ به الله على بعض رسله .
فـ [ العلم : اليقين الذي لا يدخله الاحتمال ، هذا هو الأصل فيه لغة ، وشرعا ، وعرفا ].(1)
فبعض ما لم يكن يعرفه الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقيناً ـ وهو الذي نفى الرسول - صلى الله عليه وسلم - العلم به – قد يعرفه الآخرون ظناً، ولكن شتان بين : العلم والظن ، فلا تنافيَ إذن .
__________
(1) 49) مجمع البحرين – مادة [ علم ] ، وقد يأتي العلم بمعنى : الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء أكان يقيناً أم ظناً، منه قوله تعالى:{ ... فإن علمتموهن مؤمنات ... } قالوا : أراد الظن المتاخم للعلم لا العلم حقيقة، فإنه غير ممكن . وقد يأتي بمعنى : المعرفة، كما جاءت المعرفة بمعنى العلم لاشتراكهما في كونهما مسبوقين بجهل، لكن إذا كان العلم بمعنى : [ اليقين ] تعدى إلى مفعولين ، وإذا كان بمعنى :
[ المعرفة ] تعدى إلى مفعول واحد. على أنه في ذلك كلام غير هذا ، فالله تعالى لا يسمى [ عارفا ] ، ويسمى [ عالما ] ، فليس الأول من أسمائه الحسنى، لأن المعرفة ما سبق بالجهل، دون العلم الذي لا يعني ذلك بحقه، وإطلاق [ العلم ] على المخلوقين يقصد به: [ المعرفة ] ، لأنهم لم يكونوا عالمين قبل علمهم، وقد يطلق العلم ويراد به: [ التميز ] . وقد يطلق ويراد به معنى : [ شَعَر ] ، تقول علمت بقدومه. " راجع : مجمع البحرين – المرجع السابق ".(1/33)
وقد نهى - صلى الله عليه وسلم - عن مجالسة العرَّافين والمنجِّمين(1)، لأن ما يخبرون به ليسس علماً ، فمما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - مما رواه عوف عن ابن سيرين عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قوله - صلى الله عليه وسلم - في أخبار الكهان والعرافين وتصديقهم :
{ من أتى عرافا أو كاهنا فصدَّق بما يقول ، فقد كفر بما أُنزل على محمد } .(2)
وذلك لأنهم لا ينسبون ما يحدث إلى الله تعالى ، بل يدَّعون علم المستقبل ، فكل ذلك يناقض ما عُلم يقيناً في هذه الشريعة الغراء .
ومما رواه البخاري ومسلم : قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حديث قدسي :
{ يقول الله تعالى أصبح من عبادي مؤمن ، وكافر ، فمن قال : مُطرنا بفضل الله ، فذلك مؤمن بي ، كافر بالكوكب. ومن قال مُطرنا بنوء كذا ، فذلك كافرٌ بي ، مؤمن بالكوكب }.(3)
ومعاني هذه الأحاديث تؤيدها آيات القرآن العظيم : بقوله تعالى :
{ ولا تقفُ ما ليس لك به علم }.(4)
وبقوله تعالى : {.. إن بعض الظن إثم }.(5)
__________
(1) 50) أخرجه ابن حنبل في مسنده ، راجع: المعجم المفهرس 6 / 362 .
(2) 51) الكبائر للذهبي – 141، ولقد أخرجه أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وأبو داود، والبيهقي، والد ارمي، والترمذي، وابن ماجه، وابن الجارود، وقوَّاه الذهبي، وصححه العراقي. راجع : هامش محقق الكبائر ص 141 أعلاه والإحالات للمراجع أعلاه فيه .
(3) 52) الكبائر – 142، وانظر تخريجه في هامشه .
(4) 53) الإسراء / 36.
(5) 54) الحجرات / 12 .(1/34)
وبقوله جلَّ وعلا :{عالم الغيب فلا يُظهر على غيبه أحداً ، إلاَّ من ارتضى من رسول }.(1)
وربَّ قائل يقول : قد يُخبر المنجمون ، والناظرون في الكواكب والأنواء وغيرهم ببعض ما يَصدُق ، فكيف يكون إخبارهم صدقا ؟!.
نقول : إنَّ الصدق قد يحصل لهم اتفاقاً ، أو عادة ، أو بالنظر في الأمارات .
والإتِّفاق : هو الصدفة ، وهي إن صدقت مرة ، فقد تكذب مرات ، وإن تلازمت مع نتيجتها مرة ، تخلفت النتيجة مرات ، فلا يعد حينئذ ذلك دليلا على الصدق ، ما لم يكن التلازم مطلقا لا تخلف فيه .
والعادة : هي ما عُرف من تكرُّر حدوث شيء بسبب ظاهرة كونية ، كتغيُّر الفصول أو غيرها ، أو ما عُرف من خُلُق إنسان أو ظرفه . وكل ذلك لا يُعطي يقيناً ، ولا علماً بل ظناً ، وقد يكون الظن راجحا في بعض الأحيان ، ويؤخذ به في أحوال في أمور الفقه لا العقيدة ، وهو لا يصل إلى مرتبة القطع أو العلم بحال .
__________
(1) 55) الجن / 26 – 27 ومما يؤيد أن ما لم يطلع الله - جل جلاله - رسوله - صلى الله عليه وسلم - على مغيَّب فإنه يستوي مع الناس فيه، ما رواه البيهقي في دلائل النبوة عن عائشة رضي الله عنها قالت :[ ... كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رأى غيما أو ريحا عرف في وجهه، فقلت : يا رسول الله الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك عرف في وجهك الكراهية، قال : { يا عائشة، وما يأمنني أن يكون فيه عذاب؟ وقد عذب قوم بالريح، وقد أتى قوما العذاب، وتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : { فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا.. } ... } ـ ( الدلائل – 1/232 ).(1/35)
أما النظر في الأمارات : فإن محصلتها ونتيجتها ظنية ، لأن [ الأمارة ] غير [ الدليل ] أو [ الحُجَّة ] على رأي من يُفرق بينهما ، فالأولى تعطي [ ظنا ] ، والثانية تعطي [ علماً ] ، والأول ممكن الحصول ، والثاني دونه خرط القتاد ، فما يُظنُّ عند رؤية الرياح الجنوبية في العراق ورطوبة الجو ، من قرب نزول المطر من السماء ، هو ظنٌ فإنَّه لا يعلم يقينا : ساعة نزوله ، وموضعه ، وكميته ، وهل هو غيث أم مطر ... الخ ؟ . وكثيراً ما تُفاجأ البلدان الغربية رغم تقدُّمها العلمي بأمطار مُغرِقة ، وسيول جارفة ، ورياح عاتية ، لأنهم لا يعلمون ما ستحدثه يقينا قبل قدومها ، ولذلك تحدث عندهم الخسائر الجمَّة في مثل هذه الأحوال.
إنَّ بعض ما لم يعلمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قد يعلمه الملايين من بني البشر ظناً راجحاً ، أو يقينا ، كظنِّهم الراجح بنزول المطر ، أو ظنِّهم الراجح بما في الأرحام ، وكل هذا لا يُعدُّ انتفاصاً من قدْره - صلى الله عليه وسلم - .
قالت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها :
[ .. من حدَّثك أنَّ محمداً رأى ربَّه فقد كذب .. ، ومن حدثك أنَّه
يعلم ما في غدٍ فقد كذب .. ] .(1)
فبشريته - صلى الله عليه وسلم - صفةٌ ثبتت له قبل ثبوت صفة النبوة ، واقعاً وبإخبار القرآن الكريم .. يقول تعالى :{ قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليَّ ... } .(2)
ولأجل هذه الصفة الثابته له عليه السلام يقيناً ، وهي ملازمة له قبل وبعد البعثة ، فقد يعلم غيره ما لا يعلمه عليه السلام فقد :
أخرج مسلم في صحيحه من حديث موسى بن طلحة عن أبيه قال:
{ مررت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوم على رؤوس النخل ..
فقال : ما يصنع هؤلاء؟ .
فقالوا : يلقحونه ، يجعلون الذكر في الأنثى فتلقح .
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ما أظن يغني ذلك شيئاً .
__________
(1) 56) أخرجه البخاري / 6832 ، وابن حنبل / 23094 .
(2) 57) الكهف / 110.(1/36)
قال : فأُخبروا بذلك فتركوه .
فأُخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال : إن كان ينفعهم ذلك غيره فليضعوه ، فإنِّي إنَّما ظننت ظناً فلا تؤاخذني بالظن ، ولكن إذا حدثتكم عن الله شيئاً ، فخذوا به فإني لن أكذب على الله عز وجل }.(1)
وفي رواية أخرى لمسلم عن رافع ابن خديج..قال :
{ قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة وهم يأبرون النخل، يقولون : يلقحون النخل.
فقال : ماذا تصنعون ؟
قالوا : كنَّا نصنعه ؟
قال : لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً ، فتركوه .
فنفضت أو فنقصت .
قال : فذكروا ذلك له .
فقال : إنما أنا بشر، إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به ، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنَّما أنا بشر }.(2)
وفي رواية ثالثة عن عائشة - رضي الله عنه - ، وعن أنس - رضي الله عنه - :
{ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بقوم يلقحون ...
فقال : لو لم تفعلوا هذا لصلح .
قال : فخرج شيئاّ ، فمرَّ بهم فقال - صلى الله عليه وسلم - : ما لنخلكم ؟
قالوا : قلت كذا وكذا .
قال : أنتم أعلم بأمور دنياكم } .(3)
********
ولأجل هذا فقد وضع الأمام النووي [ رح ]عنواناً بوَّب به لهذه الأحاديث في شرحه ، هو :
[ باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره - صلى الله عليه وسلم - من معايش الدنيا على سبيل الرأي ] ، وأيَّا ما كان المنقول عن رسول - صلى الله عليه وسلم - في هذه الحادثة، هل هو من لفظه [ خبراً ] ، أم ليس من لفظه ، فقد خلص العلماء – كما نقل النووي – إلى أن :
[ قوله - صلى الله عليه وسلم - من رأي ـ من أمر الدنيا ومعايشها ـ لا على التشريع .
__________
(1) 58) صحيح مسلم بشرح النووي – 51 / 212.
(2) 59) مسلم – المرجع السابق – 5 / 212-213.
(3) 60) مسلم – المرجع السابق – 5 / 213.(1/37)
فأما ما قاله باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - ورآه شرعاً ، يجب العمل به، وليس أَبارُ النخل من هذا النوع بل من النوع المذكور قبله ] .(1)و[ .. قال العلماء : ولو لم يكن هذا القول خبراً، وإنما كان ظناً ، كما بيَّنه في هذه الروايات ، قالوا : ورأيه - صلى الله عليه وسلم - في أمور المعايش وظنُّه كغيره ، فلا يمتنع وقوع مثل هذا ، ولا نقص في ذلك ... ].(2)فالشرائع لم تأتِ أصلاً لبيان الحقائق : الزراعية ، والصناعية ، والفيزياوية ، والفلكية ، والكونية ... إلخ .
وما ذكرته منها عَرَضاً ، لا يعدو بعض منافع ، وحِكَم ذكر المغيبات .
المطلب الرابع
في
الحكمة الرابعة
تعليمهم أنَّه صلى الله عليه وسلَّم ، لا يأنف أن يقول : لا أعرف ، ولا أعلم ، فيما لم يُعْطه الله تعالى معرفته .
فهو تعليمٌ لنا ، ودلالةَ صدق النبوة ،(3)ولعل سبب نزول سورة الكهف يبين لنا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، كيف أنَّه لم يُجب المشركين حين سألوه عما لا يعلم ، فاستمهل إلى الغد ولم يستثنِ – أي : لم يقل إن شاء الله – ، فجاءه الجواب بعد خمس عشرة ليلة مع العتاب .(4)
__________
(1) 61) شرح النووي على صحيح مسلم – 14 / 82.
(2) 62) القرطبي – 14 / 82.
(3) 63) وكثير من أخلاقه - عليه السلام - التي تدل على : بشريته ، وتواضعه ، وتعليمه لنا بما كان يفعل - عليه السلام - قد تناقله الصحابة عنه ، ودوَّنه الأئمة في مجامعهم . راجع مثلا : دلائل النبوة للبيهقي –1 / 328و 329 و 330 ومواقع أخرى غيرها .
(4) 64) الدلائل – 2/ 270، وأسباب النزول للواحدي – 168.(1/38)
إن العرَّافين والكُهَّان لا يمتنعون من إجابة ما ، ولا يقولون لا نعرف فرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس كاهنا ولا عرَّافاً ، فإذا حُجِب عنه معرفة شيء ما قال به ، وما أُثر عنه من الأحاديث الشريفة هو نقلٌ لواقعٍ قائمٍ ، فلا هو - صلى الله عليه وسلم - يعرف في ذلك الزمن نزول الغيث ولا غيره .(1)
ولا يعلم ما في الأرحام ، وما ذكروا من [ أمارات ] هي موصلةٌ للظن لا غير، والكلام في اليقين ، وقد تنكسر العادة ، وقد يتفق لهم الإصابة ، وعلى هذا يُحمل ما يَصدُق من أنبائهم وأخبارهم .
[ رُوي أن يهوديا كان يحسب حساب النجوم : فقال لابن عباس - رضي الله عنه - :
إن شئت نبأْتُك نجم ابنك ، وأنَّه يموت بعد عشرة أيام ، وأنت لا تموت حتى تعمى ، وأنه لا يحول عليَّ الحول حتى أموت .
فقال : أين موتك يا يهودي ؟.
قال : لا أدري .
فقال ابن عباس : صدق الله : { .. وما تدري نفس بأي أرض تموت..}، فرجع إلى بيته فوجد ابنه محموماً ، ومات بعد عشرة أيام ، ومات اليهودي قبل الحول ، ومات ابن عباس أعمى ].(2)
- -
- -
المطلب الخامس
في
الحكمة الخامسةً
تعليمهم أن عدم معرفة النبي - صلى الله عليه وسلم - بما لم يعلمه الله - عز وجل - ، غير قادح في نبوته ، فليس نبوته قائمة لأجل الإخبار بالمغيبات ، وإن كان بعض ما يؤيد صدقها هو الإخبار ببعض المغيبات ، فهو
- صلى الله عليه وسلم - نبي ينبئ عمَّا أنبأه الله - عز وجل - به ـ وقد مر بنا شرح هذا ـ . ثم هو نبيٌّ وقد يعلم بتعليم الله - عز وجل - فلا تعلق فيه للديانات ، وتبليغ الرسالات ، تصديقاً لنبوَّته ، وتثبيتاً لصحابته . وهو نبيٌّ لا يُخبر إلاَّ بيقين ، لا كأخبار العرَّافين ، مرَّة تُصيب .. ومرةً تخيب .
أمَّا بقية الإجابات عما ورد في الآثار والأخبار ، فنرجؤه إلى موضوعه من المبحث التالي .
- - - - -
المبحث الثالث
العلم بما في الأرحام
__________
(1) 65) راجع الهامش 51.
(2) 66) القرطبي – 14 / 82.(1/39)
ففي قوله تعالى :
{ ويعلم ما في الأرحام ... }
وتعارضه مع الواقع ، حين عُلم ما في الأرحام في عصرنا الحاضر ، شبهة تعارض ، بل الأبعد من هذا قد حصل ، وهو تحديد نوع الجنين مسبقاً ، فالعلم سابق لاختلاط النطفة في الرحم ، والقدرة متحققة بحسب الواقع ، وهو أبعد مدىً من المعرفة بعد العلوق أو نفخ الروح ، ولهذا فمهمتنا هي دفع مثل هذا التعارض المتوَّهم ، وفي ذلك أمورنبحثها في عدَّة فروع :
-
الفرع الأول
تحديد المعاني اللغويَّة
المطلب الأول
في تحديد معنى [ العلم ]
إنَّ معنى كلمة [ يعلم ] الواردة في النص هو أنَّها :
فعل مضارع يفيد الحال والاستقبال ، فالمضارعة تفيد التجديد،
والعلم : يفيد اليقين .
فيكون المعنى : إنَّ الله يعلم يقيناً وقطعاً ما في الأرحام ، الآن ومستقبلاً ، وإلى قيام الساعة .
ولما كانت القاعدة الأصولية تقول :
[ مقابلة الجمع بالجمع ينقسم على الآحاد ]
فيكون معنى النص : إنَّ الله يعلم [ ما ] في كلِّ رحِمٍ 0
على اعتبار أنَّ [ ما ] في النص للجمع ، قوبلت مع جمعٍ آخر ، هو:
[ الأرحام ] .
لأن [ ما ] أسم موصول ، يستعمل : للجمع ، وللمفرد ، وللمثنى ، وللمذكر، وللمؤنث ، وللعاقل ، ولغير العاقل .
أمَّأ معنى الفعل [ يعلم ] : فينصرف لليقين .
فيكون المعنى : إنَّ علم الله - عز وجل - علمٌ يقينيٌ متجدِّدٌ . فيعلم منه سبب عدول النظم القرآني الكريم عن المشاكلة بين المتعاطفات ، إلى غيره في موضوع علم ما في الأرحام وعلم الغيث ، فبدأ النص بقوله :
{ إنَّ الله عنده علم الساعة .. ثم قال .. وينزل الغيث
ويعلم ما في الأرحام } .
فهذا هو العدول الذي قصدناه.
فيكون ذلك إخبار من الله - عز وجل - عن علمه اليقيني المتجدد منه - عز وجل - ، لأمرين من مسائلَ خمس ، تكلم النص عنها ، واختلفت أحكامها، فلا يفهم من النص حصر العلم ، ولا حصر الإنزال به - عز وجل - ، لأن الإخبار عن أمر بنسبته لشيء معين لا يعني سلبه عن الباقي .(1/40)
والقاعدة الأصوليَّة تقول :[ تخصيص الشيء بالذكر لا ينفي ما عداه ] .
فليس سلب القدرة عن الغير ، ممَّا يُفهم من أساليب العربية ، ولا كلام الناس ، ولا أساليب البلغاء .
وإذا لم يكن هذا المقصود ، لم يكن للعدول فائدة .
ويؤيد هذا الفهم ، ما أورده الإمام أبو الثناء الآلوسي [ رح ] في تفسيره، ناقلا إيَّاه عن غيره :[ ... وقال الإمام في وجه نظم الجُمل : الحق أنه تعالى لمَّا قال :
{ يا أيها الناس اتَّقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزي والد عن ولده
ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئا إن وعد الله حق ... } .
فقوله .. {.. واخشوا يوما .. } ، وذكر سبحانه أنه كائن ، لقوله - عز وجل - :
{.. إنَّ وعد الله حق .. }
فكأنَّ قائلاً يقول : فمتى هذا اليوم ؟
فأجيب : بأن هذا العلم ممَّا لم يحصل لغيره تعالى ، وكذلك قوله سبحانه وتعالى : { إن الله عنده علم الساعة ..}
ثم ذكر - عز وجل - الدليلين اللذين ذكرا مرارا على البعث ..
أحدهما : إحياء الأرض بعد موتها المشار إليه بقوله تعالى :
{ ويُنزِّل الغيث } .
والثاني : الخلق ابتداءً ، المشار إليه بقوله - عز وجل - :
{..ويعلم ما في الأرحام }
فكأنه قال - عز وجل - : يا أيها السائل إنك لا تعلم وقتها ، ولكنها كائنةٌ ، والله تعالى قادرٌ عليها.. كما هو سبحانه قادرٌ على إحياء الأرض ، وعلى الخلق في الأرحام . ثم بَعَّدَ جل شأنه ، له أن يعلم ذلك بقوله - عز وجل - :
{ وما تدري نفسٌ ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأيِّ أرض تموت
إنَّ الله عليمٌ خبير } .
فكأنه قال تعالى : يا أيها السائل إنَّك تسأل عن الساعة أيَّان مُرساها ، وإنَّ من الأشياء ما هو أهم منها لا تعلمه ، فإنَّك لا تعلم معاشك ومعادك ، وما تعلم ماذا تكسب غدا، مع أنه فعلك وزمانك ، ولا تعلم أين تموت مع أنه شغلك ومكانك .(1/41)
فكيف تعلم قيام الساعة متى تكون ؟ ، والله تعالى ما علَّمك كسب غدك ، ولا علَّمك أين تموت ، مع أن لك في ذلك فوائد شتى ، وإنما لم يعلِّمك لكي تكون في كل وقت بسبب الرزق راجعا إلى الله تعالى ، متوكلاً عليه سبحانه ، ولكي لا تأمن الموت إذا كنت في غبر الأرض التي أعلمك سبحانه أنك تموت فيها ، فإذا لم يعلِّمك ما تحتاج إليه ، كيف يُعلِّمك ما لا حاجة لك إليه ، وهو وقت القيامة ، وإنِّما الحاجة إلى العلم بأنها تكون ، وقد أعلمك - عز وجل - بذلك على ألسنة أنبيائه ـ عليهم الصلاة والسلام ـ..] .(1)
فإذن لم يكن سياق الآية وسباقها مسوقان لحصر العلم بما في الأرحام بالله تعالى ، بل له معنى آخر سيظهر لنا بعدئذ . ويقول الإمام الآلوسي : [ ... وهذا العطف لا يكاد يتسنى في : [ ويعلم ] ، إذ يكون التقدير : وعنده علم ما في الأرحام ، وليس ذاك بمرادٍ أصلاً ].(2)
وكان كلامه ذاك ، بعد كلامه عن العطف في الآية الكريمة موضوع كلامنا ، حيث كان قد قال : [ ... وقد روعي في هذا الأسلوب الإدماج المذكور ، ولذا لم يقل : ويعلم ماذا تكسب كلُّ نفسٍ ، ويعلم أن كل نفس بأي أرض تموت .
وجَوَّز أن يكون أصل : { وينزِّل الغيث } ، هو : { وأن ينزِّل الغيث} ، فحذف [ أن ] وارتفع الفعل ... وكذا قوله سبحانه وتعالى :
{.. ويعلم ما في الأرحام }
والعطف على [علم الساعة ] ، فكأنه قيل : إن الله عنده علم الساعة ، وتنزيل الغيث ، وعلم ما في الأرحام ، ودلالة ذلك على اختصاص علم تنزيل الغيث به سبحانه ظاهر ، بظهور أنَّ المراد [ بعنده ] ، تنزيل الغيث عنده علم تنزيله .
وإذا عُطف [ ينزِّل ] على [ الساعة ] ، كان الاختصاص أظهر ، لا انسحاب علم المضاف إلى الساعة إلى الإنزال حينئذ ، فكأنه قيل : إن الله عنده علم الساعة ، وعلم تنزيل الغيث ] .(3)
__________
(1) 67) الآلوسي – 21 / 110-111.
(2) 68) الآلوسي – 21 / 110.
(3) 69) الآلوسي – المرجع السابق.(1/42)
فإذا كان : [ العلم ] اليقيني بنزول [ الغيث]) دون عموم المطر ، هو.. [ عند ] الله كعلم الساعة ، فالاختصاص محدَّد الجوانب ، فإن هذا الاختصاص ، لا يتسنى في الذي في الأرحام ، فتدبر!.
*****
المطلب الثاني
النصوص القرآنيَّة المؤيِّدة للفهم السابق
تأييداً لِما تقرَّر من أن العدول في النظم القرآني ، كان لفائدةٍ ، ونكته يقتضيها المقام ، وهي نفي الحصر لإنزال الغيث بالله تعالى ، بل هو لحصر العلم به ، ونفي حصر علم ما في الأرحام به - عز وجل - ، بل الكلام مسوق لحصر الخلق ، وصفات المخلوق في الأرحام ـ كما سيأتي ـ، فإننا نورد هنا بعض استعمالات [ علم ] ، ومشتقاتها في القرآن الكريم ، فهذه الاستعمالات لا تنبئ بنفي العلم عن غير العالم .. وإليكها :
أولاً
صيغة التفضيل [ أعلم ]
ورد استعمالها في القرآن الكريم : تسعا أربعين مرة .
وأسم التفضيل هو : أسم مشتق على : [ أفعل ] ، يدل غالباً على أن شيئين اشتركا في معنى ، وزاد أحدهما على الآخر في هذا المعنى .
وقوله : [ غالباً ] ، ليُخرج به مثل .. أكرمت القوم أصغرهم وأكبرهم . ففي : [ أصغرهم ] ، و [ أكبرهم ] ، لا يراد بها معنى التفضيل، بل الاستغراق(1).
إنَّ [ سبعاً وأربعين ] استعمالاً لإسم التفضيل في القرآن الكريم من الفعل [ علم ] ، تدل على اشتراك العلم وزيادته ممن فُضِّل يه ، وغالبا هو الله - عز وجل - في تلك النصوص . وإن وردت في بعضهما على مطلق العلم .(2)
وإن استعمالين أثنين فقط ، وردا بما يدل على انحصار العلم بالله - عز وجل - دون اشتراك غيره معه ، لأن السياق يأبى الإشتراك ، وذلك في قوله تعالى :
{ الله أعلم حيث يجعل رسالته } .(3)
فلا يعني أن هناك من يعلم أين يجعل الله رسالته .
__________
(1) 70) راجع موسوعة النحو والصرف والأعراب - 60.
(2) 71) من ذلك قوله تعالى : { ... ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء ... } . الأعراف / 188.
(3) 72) الأنعام / 124.(1/43)
وكذا في قوله تعالى :
{ وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر..}.(1)
********
ثانياً
لفظة [ عليم ]
لم ينحصر الاستعمال القرآني لكلمة : [ عليم ] فيما أنفرد به الله - عز وجل - بعلمه ، بل السياق يحدد ما كانت طبيعته كذلك . وقد استعملت في مواضع كثيرة لتدل على علمه جل وعلا بما علمه الناس أيضا منها :
قوله تعالى : {.. إنَّ الله عليمٌ بذات الصدور } .(2)
وقوله تعالى : { فلا تذهب نفسك حسرات عليهم إن الله عليم بما يصنعون } .(3)
وقوله تعالى : {.. تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنَّك أنت علام الغيوب } .(4)
وقوله تعالى :{ ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب }.(5)
********
ثالثاً
كلمة [ يعلم ]
أمَّا كلمة : [ يعلم ] ، وهي التي وردت في النص الذي نحن بصدده من سورة لقمان ، فقد استعملت بنفس الأسلوب في استعمال [عليم]، فلم تدل على الانفراد بالعلم قط . فمن ذلك وهو كثير ..
قوله تعالى : { لا جَرَم أنَّ الله يَعلم ما يُسرون وما يُعلنون.. }.(6)
وقوله تعالى :{ يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور } .(7)
فما أسروا وأعلنوا علموه ، وما خانت به أعينهم ، وما أخفت صدورهم علموه هم ، ونسب الله - جل جلاله - ذلك العلم إليه أيضا - عز وجل - ، فلا تدل لفظة [ يعلم ] لذاتها على انحصار العلم بمن أثبت العلم له دون غيره ، بل قد يشاركه فيه آخرون .
ومن أجل ما تقدم ، ولأن هذه الكلمات لا تعني ما ذكرنا، فإن الله حين أراد انحصار العلم به دون غيره بشيء ، فقد إضافة إلى نفسه - عز وجل - ، ومعلوم من الدين بالضرورة أنَّ ما يعلمُه الله لا يعلمه البشر من غير تعليم ، وما يعلمه البشر يعلمه الله - جل جلاله - بعلمه القديم .
__________
(1) 73) النحل / 101.
(2) 74) لقمان /23.
(3) 75) فاطر / 8.
(4) 76) المائدة / 116.
(5) 77) التوبة / 78.
(6) 78) النحل / 23.
(7) 79) غافر / 19.(1/44)
فقوله تعالى :{... قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}.(1)
وقوله تعالى :{ إن الله عنده علم الساعة ... } .(2)
وقوله تعالى :{ إليه يُردُّ علم الساعة .. } .(3)
وقوله تعالى : {.. وعنده علم الساعة واليه ترجعون } .(4)
وقوله تعالى :{ يسألونك عن الساعة أيَّان مُرساها قل إنَّما علمُها عند ربِّي لا يُجلِّيها لوقتها إلاَّ هوُ ثقُلَت في السموات والأرض لا تأتيكم إلاَّ بَغْتةً يسألونك كأنَّك حفيٌّ عنها قل إنِّما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .(5)
وقوله تعالى : { قال فما بالُ القرون الأوُلى * قال علْمُها عند ربِّي في كتاب لا يظِلُّ ربِّي لا يَنسى } .(6)
وقوله تعالى :{ يسألُك الناس عن السَّاعة قل إنَّما عِلْمُها عند الله ... }.(7)
فهذه كلُّها تدل على تفرد علمه جل وعلا بها .
********
المطلب الثالث
معاني الأخبار والآثار
المؤيِّدة لغيبية ما ذكر
أمَّا معاني الأخبار والآثار التي وردت عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ، وعن الصحابة - رضي الله عنه - ، فنتتبعها حسب تسلسل ذكرنا لها في بدء هذا البحث :
الخبر الأول
ما أخرجه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - من سؤال جبريل عن الساعة ، واستشهاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - بما ورد في آخر سورة لقمان . فهذا لا دلالة فيه على نفي العلم عن غيره ، في غير: الساعة ، والكسب ، ومكان الموت ، فالجواب منه - صلى الله عليه وسلم - كان على السؤال دون غيره ، وهو علم الساعة ، ودعم إجابته بدليل من القرآن. وممَّا عُلم في الأصول ، أن السؤال الخاص إذا أجيب عنه بجواب خاص كان الحكم خاصاً ، ولسنا في التفصيل لمسائل سؤاله - صلى الله عليه وسلم - وإجاباته ، وما يُعد منها عاماً ، وما لا يُعد .
__________
(1) 80) الأسراء / 85 .
(2) 81) لقمان / 34 .
(3) 82) فصلت / 47 .
(4) 83) الزخرف / 85 .
(5) 84) الأعراف / 187.
(6) 85) طه / 51، 52.
(7) 86) الأحزاب / 63.(1/45)
الخبر الثاني
ما أخرجه الشيخان من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - ، فهذا لا دلالة فيه على حصر العلم بموضوع البحث بالله - عز وجل - دون غيره ، لأن الحصر بأسلوب النفي والاستثناء لعلمه تعالى ، كان عمَّا :
1. يكون في غد .
2. وما يكون في الأرحام .
3. وما تكسب غدا .
4. و بأي أرض تموت كلُّ نفسٍ .
5.وما يدري أحد متى يجيء المطر.
فما يُكون في غد ، والمكان الذي يموت فيه الإنسان ، وماذا يكسب، محصور بالله - جل جلاله - حصراً ، وهو أمرٌ لا ريب فيه .
وكذلك حصَرَ به - عز وجل - ما [ يكون ] في الأرحام ، و [ متى ] يجئ المطر. فإذا ... [ كان ] ما في الأرحام ، فلا تعارض في معرفة المخلوقين له بعد [ كونه ] . أما إذ أنَّه لم [ يكن ] ، فلا يعلم أحدٌ ماذا سيكون ، بتفصيل ذلك الذي سيكون ، دون الإجمال ـ وسنبيِّنه فيما بعد ـ .
وأما موعد نزول [ المطر ] دون [ الغيث ] ، فلا يعلمه أحدٌ إلاَّ الله - عز وجل - ، فإذن ... [ قد ] يعلم الإنسان [ قرب ] نزول ماء من السماء ، ولكن لا يعلم [ متى ] على وجه الدقة ، ولا يعلم أهو غيث ؟ أم قطر ؟ أم مطر؟
********
الخبر الثالث
والخبر الثالث الذي أخرجه الطيالسي ، لا يتعدى الكلام فيه ما تكلمنا به عن الخبر الأول والثاني ، جمعاً بين الأدلة .
فموضوع الساعة واضح.
والكسب والموت لا خلاف فيهما.
والمطر وما في الأرحام ، يحمل العلم والتنزيل على معنييها في الخبر الثاني المتقدم ، لأن هذا الخبر لم يزد عن نقل عبارات القرآن الكريم نفسهما ، والتي يُراد لنا فهمها ، فلا يُعقل أن يُفهم الشيء بذاته ، فلابد من مزيد علم يُستخلص به المعنى . وهذا العلم الزائد ورد في حديث عمر - رضي الله عنه - ، وقد تقدم بيانه .
********
الخبر الرابع
أما حديث ابن عمر - رضي الله عنه - الذي أخرجه الطبراني ، وأحمد ، فلا مزيد كلامٍ عمَّا تكلمناه عن حديثه الذي تقدم في [ ثالثا ] أعلاه ، فتأمله.
********
الخبر الخامس(1/46)
وكذلك القول في بقية الأخبار، إذ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كرَّر ما ورد في الآية مما لا يعلمه ، وبالتالي يتوقف فهم ما حُجب عنه علمه ، على فهم الآية الكريمة في آخر سورة لقمان ، وفهمها تحدَّد آنفاً بما ورد من حديث ابن عمر - رضي الله عنه - .
********
المطلب الرابع
في
مناقشة ما روي عن الصحابة رضوان الله عليهم
أما الآثار المروية عن الصحابة - رضي الله عنه - ، فهي من [ الموقوف ] ، وإن كان بعض علماء المصطلح يجعل موقوف الصحابة [ مرفوعاً ] ، فيما لا يدرك بالرأي .(1)
وأيَّا ما كان الأمر ، فإنَّ أثر أبن مسعود ، أو أثر علي رضي الله عنهما ، يفسرهما ما ورد في أثر قتادة - رضي الله عنه - ، قال قتادة :
[ في الآية خمس من الغيب استأثر الله تعالى بهنَّ ، فلم يُطلع عليهنَّ ملكاً مقرباً ، ولا نبياً مرسلاً : إن الله عنده علم الساعة ، فلا يدري أحد متى تقوم الساعة في أي سنة ولا في أي شهر ، أ ليلا أم نهاراً.
وينزل الغيث ، فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث أ ليلاً أم نهاراً .
ويعلم ما في الأرحام ، فلا يعلم أحدٌ ما في الأرحام أ ذكراً أم أنثى ، أحمر أم أسود .
ولا تدري بأي أرض تموت ، ليس أحدٌ من الناس يدري أين مضجعه من الأرض ، أفي بحرٍ أم برٍ ، أم سهل أم في جبل ] .
فالذي يتعلق بالغيث أصبح معلوماً ، وهو العلم اليقيني بالمفيد منه، وكميته ، ووقته الدقيق .
__________
(1) 87) إرشاد الساري للقسطلاني – 1/ 9 قال القسطلاني : [ وإذا أتى شيء عن صحابي موقوفا عليه مما لا مجال للاجتهاد فيه ... فحكمه الرفع تحسينا للظن بالصحابة ، قاله الحاكم ] .(1/47)
أما فيما يتعلق بما في الأرحام فيتعلق بالجزم المُسبق ، بأن الذي سيكون في الرحم ذكراً ، أو أنثى ، أو غيره [ كالخنثى ] ، فهذا لا ينفي أن يُعلم بعد [ كونه] في الرحم ، فإذا عُلم فهو [ ظن ] ، وليس علماً يقيناً ، كما لا يُساعد العلم به ، على معرفته كونه أحمر ، أو أصفر ... الخ ، أو كونه شقياً ، أم سعيداً .
ولهذا فإن الآية مسوقة لنفي علمهم اليقيني ، وعلمهم إذا كان بطرق الظن فإنه لا يورث إلا ظناً ، فمن ذلك كان الإطباء يقولون : [ إذا كان الثدي الأيمن مسوَّد الحلمة فهو ذكر ، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى ، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى ، وادعاء ذلك عادةً ، لا واجباً في الخلقة ، لم يكفَّر ولم يُفسَّق ](1).
ولا يفوتنا أن نذكر هنا أن المعنى المقصود من هذه الأخبار ـ وهي أخبار آحاد ـ ، والآثار مثلها ، لا يمكن الجزم بها لصالح أيِّ من الفريقين ، لأنَّ هذه [ أدلة قد داخلها الاحتمال ، فلا يصح بها الاستدلال على الخصوم ] .(2)
ثم إذا كان [ لا كلام في صحة الحديث من حيث الصناعة ، لكن حكمه حكم أخبار الآحاد الصحيحة في المطالب العلميَّة ] .(3)وما نحن بصدده من المطالب العلميَّة أي التي يتوقف تقريرها على : [ اليقين ] و على ورود [ الدليل ] ، لا على [ الأمارة ] ولا [ الظن ] . لأن العلم هو: البتات ، والقطع ، واليقين .
********
__________
(1) 88) القرطبي – 7 / 2 .
(2) 89) المرقاة شرح المرآة .
(3) 90) محمد زاهد الكوثري ( رح ) في المقالات ، مقالته عن مصنفات الطحاوي نقلا عن تعليق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة في ص 215-216 على [ الموضوع في معرفة الحديث الموضوع لعلي القاري ]، ثم قال الشيخ أبو غدة معلقا على عبارة الكوثري : [ فأفاد بهذا الإنجاز البالغ أن الخبر على صحته لا ينهض في بابه وموضوعه ، لأنه من المطالب العلميَّة التي تتوقف على اليقينيات وما قربها ... ] .(1/48)
فإذا علمنا أن الطب الحديث توصل إلى إمكانية تحديد نوع الجنين بتدخل منه ، بحيث تلقح بويضة المرأة بحيمن ذكري أو أنثوي مسبقاً ، كان ما حُجب عن الناس من علم الله ، هو غير ما تقدم وهو ما سنبيِّنه .
*****
المطلب الخامس
في
معارضة بعض الآثار وأقوال علماء الأمَّة
لما ورد في التغييب المطلق
إنَّ الأخبار والآثار التي تقدم ذكرها ، وقد بانت معانيها ، ودرجتها في الاستدلال بمثل هذه المسالة التي هي من المغيبات المستقبلية التي لا يُقال فيها إلا باليقين ، وهي معارضةٌ بمثلها من : أخبار، وآثار، وأقوالٍ للعلماء ، كالآتي :
أ. أخرج البخاري عن أنس أبن مالك - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال :
{ إن الله تعالى وكلَّ بالرحِم ملكاً يقول : يا رب نطفة ، يا رب علقة ، يا رب مضغة ، فإذا أراد الله تعالى أن يقضي خلقه قال : أ ذكر أم أنثى ، شقي أم سعيد ، فما الرزق والأجل ؟ ، فيكتب في بطن أمه ، فحينئذ يُعلم بذلك الملك ، ومن شاء الله تعالى من خلقه عز وجل } .(1)
فإذن الذي حجب عن البشر، واستأثر الله بعلمه، هو معرفة نوع الجنين قبل تخليقه. أمَّا بعد تخليقه فإن الله يُطلع على ذلك من شاء من خلقه . وقد يكون إطْلاعهم ظنيَّاً ، وقد يكون يقينا .
وقد دلت الآية على أن علم اليقين مختص بالله - عز وجل - ، بقي الظن الراجح المجاور لليقين ، فلا بُعد في معرفته من الناس ، وقد دلَّ عليه الخير.
وكذا قد يعلم الإنسان بنوعه ، عند تدخله في تلقيح البويضة بحيمن معين : ذكري أو أنثوي ، ويبقى علمه بحقيقة البقاء ، أو استمرار الحياة إلى الولادة مجهولاً ، أو معرفته بالحيمن الذي يقوم بالتلقيح دون غيره مجهولة ـ في أغلب الأحيان ـ أيضا .
ب.أثر قتادة - رضي الله عنه - المتقدم ، الذي حمل به الغيب المحجوب عن بني الإنسان ، هو ما كان تفصيلاً لا إجمالاً ، وقد تقدم .
ج . ما ذهب اليه الشهاب القسطلاني :
{ ..
__________
(1) 91) الآلوسي – 21 / 112.(1/49)
إنه - عز وجل - اذا أمر بالغيث وسوقه الى ما شاء من الأماكن ، علمته الملائكة الموكَّلون به ، ومن شاء سبحانه من خلقه - عز وجل - ، وكذا إذا أراد تبارك وتعالى خلق شخصٍ في رحَم ، يُعلم سبحانه الملك الموكَّل بالرَحَم بما يريد - جل جلاله - ... } .(1).
وهذا شبيه القتل فـ {..الله يتوفَّى الأنفس.. } ، والقاتل وسيلة ، وكذا التدخل الطبي .
د. ما ذهب إليه البروسوي في تفسيره :
[ ... وكذا أخبر بعض الأولياء عن نزول المطر ، وإخبر عمَّا في الرحم من ذكر وأنثى فوقع كما أخبر ، لأنَّه من قبيل الإلهام الصحيح الذي لا يختلف. وكذا مرض أبو العزم الأصفهاني في شيراز فقال : إن متُّ في شيراز فلا تدفنوني إلاَّ في مقابر اليهود ، فإنى سألت الله أن أموت في طرطوس ، فبرئ ومضى إلى طرطوس ومات فيها . ويعني أنَّه أخبر أنَّه لا يموت في شيراز فكان ذلك . فإن قيل : إذا أمكن العلم بالغيب لخُلَّص عباده تعالى بتعليمه إيَّاهم ، فلِم لّمْ يُعلِّم الله نبيَّه الغيوب المذكورة في الآية ؟ . فالجواب : إن الله تبارك وتعالى إنما فعل ذلك إشعاراً بأنَّ المهم للعبد أن يشتغل بالطاعة ، ويستعد لسعادة الآخرة ، ولا يسأل عما لا يهمُّ ، ولا يشتغل بما لا يعنيه ، فافهم جيداً ، واعْمَل لتكون عاقبة أمرك خيراً ](2)إ.هـ قول البروسوي .
وهذا الكلام غير مسلَّم من كلِّ جوانبه ، ونتولى مناقشته في مسألتين :
المسألة الأولى / الإلـ ـــهام :
فهو : [ ما يُلقى في الرُوع بطريق الفيض ... ] .(3)
أو هو : [ إفاضة الخبر في القلب ] .(4)
أو هو : [ إلقاء الله تعالى شيئا في الروع ، أي : القلب ] .(5)
__________
(1) 92) نقلا عن الآلوسي – المرجع السابق .
(2) 93) روح البيان للبروسوي – 7 / 105 0
(3) 94) التعريفات للسيد الشريف – 28 .
(4) 95) دستور العلماء – 1 / 156 .
(5) 96) دستور العلماء – المرجع السابق(1/50)
فالفيض ما يُلقيه المُفيض ـ وهو الله ـ في قلب إنسان ، وهو يختلف عن الحدس والكسب ، لأنَّهما لا يكونان من جانب المستفيض ] .(1)
[ فما يقع بطريق الحق دون الباطل ، ويدعو صاحبه إلى عمل الخيرات دون الشهوات ، وإلاَّ ما في يكون إلهاماً ].(2)
ولهذا قال أبو زيد الدبوسي في حدِّه :
[ الالهام : ما حرَّك القلب بعلمٍ يدعوك إلى العمل به ، من غير استدلال بآيةٍ ، أو نظر في حجة ].(3)
والإلهام : في حق الأنبياء من أنواع الوحي ،(4)وفي حق الناس فهو: حجة في حق صاحبه.
وذهب الصوفية إلى انه : حجة في حق الأحكام نظير النظر و الاستدلال .
أما عند الفقهاء والأصوليين ، فهل يُعتبر ذلك دليل ؟.
الجواب : كلا ، فهو قد يختلط بالحدس والهوى ، وما يُلقيه الشيطان ، فشهادة القلب وحدها غير مأمونةِ العواقب .(5)
فإذا كان كلام البروسوي على مقتضى كلام أعمل التصوف فيما يخص الألهام ، فهو جاء على قواعدهم ، وهو مسلَّم لديهم ، ولكن ليس هذا عند الآخرين ، والآخرون بقولهم يثبُت الحُكم ، ولهم الناس في بيان الأحكام تبع ، وأقوالهم هي المعوَّل عليها ، ألا وهم : الفقهاء والأصوليون.
*******
المسألة الثانية / تحقيق ما أخبر به البعض عن الغيب :
هذا الإلهام الذي تكلم عنه لا يسمى : [ علماً ] ، لأن العلم يقيني ، والإلهام ليس يقينياً .
قد يقول قائل : وكيف اتفق لهم الوقوع كما أخبروا ؟!
نقول : [ اتَّفق ] لهم ذلك ، والإتفاق ليس مطَّرداً .
__________
(1) 97) دستور العلماء - المرجع السابق .
(2) 98) ميزان الأحوال – 2 / 952.
(3) 99) ميزان الأحوال – المرجع السابق.
(4) 100) ميزان الأصول – 2 / 623.
(5) 101) الميزان – 2 / 953 –955، التعريفات ـ المرجع السابق .(1/51)
أو : أنهم أُخبروا بما اتَّفق وُقُوعه فعلاً ، بناء على أمارات وعلامات فصدق الظن بالوقوع يقيناً ، وإن كان الوقوع [ اتفاقا [ بُنيَ على حدس ، وكلُّ ذلك لا يُعطي علماً أو يقيناً ، والكلام هو في العلم أو اليقين .
أما : إخبار أحدُهم بموته في بلد معين ، فلا يُعدُّ هذا من العلم بالغيب ، بل من قبيل حسن الظن بالله - عز وجل - ، واستجابته لدعواته ، ولذلك قال : إن مت فادفنوني في مقابر اليهود !!. على تقدير أنَّه غير مقبول من الله ، إذ رد الله دعوته بعد أن سأله الموت في [ طرطوس ] . فتنبه إلى كلِّ هذا تغنم بحسن الفهم ، حتى لا تتداخل الأمور عندك إن شاء الله - عز وجل - .
فيكون كلُّ هذا ليس من علم الغيب ، وليس من العلم اليقيني . غير أنَّ المستفاد منه ، أنه هذه الأمور مما يستطيع المرء أن يتوقعها ، أو يظن بها ظناً راجحاً متاخماً لليقين ، فهي ليست ممَّا لا يجوز الاقتراب منه بحال .
ولهذا لا نستبعد ما توصل إليه علماء الطب في العلم الحديث ، لأنَّه لا يتعارض مع النصوص ، لأن هذا من غير المحجوبات حجباً تاماً عن بني البشر ، بل الحجب هو لتفصيلاتها – على ما سنبيِّن إن شاء الله تعالى ـ .
بل لا تعارض بين النصوص وتدخلهم المستجد في تحديد نوع الجنين ذكراً أو أنثى ، بفرز [ الحيامن ] طبياً ، فعُلِم القيام به وبتفصيله ، والقائم به ، ونجاحه من عدمه هو مما يستأثر الله بعلمه ، والفاعل يفعل ذلك بأمره .
********(1/52)
هـ. ما ذهب إليه الملاَّ على القاري الهروي المكِيِّ الحنفي [ رح ] في شرحه على [ الشفا في أحوال المصطفى ] للقاضي عياض المالكي ، قال : [ الأولياء وإن كان قد ينكشف لهم بعض الأشياء ، لكنَّ علمهم لا يكون يقيناً ، وإلهامهم لا يُفيد إلاَّ أمراً ظنياً . ومثل هذا – عندي - بل دونه بمراحل [ علم النجومي ] ونحوه ، بواسطة أمارات عنده بنزول الغيث ، وذكورة الحمل أو أنوثته ، أو نحو ذلك . ولا أرى كفر من يدَّعي هذا العلم فإنَّه ظنٌ عن أمر عادي ].(1)
********
و. ما ذهب إليه السيد الإمام أبو الثناء الآلوسي [ رح ] في تفسيره روح المعاني : [...إنَّ المُراد بالعلم الذي استأثر سبحانه وتعالى به ، العلم الكامل بأحوال كلٍّ على التفصيل ، فما يَعلم به المَلَك ، ويطَّلع عليه بعض الخواص ، يجوز أن يكون دون ذلك العلم ، بل هو كذلك في الواقع بلا شبهة ... وعليه فقول العسقلاني : ـ من ادَّعى علم شيء منهما فقد كفر بالقران العظيم ـ ينبغي أن يُحمل العلم فيه على نحو العلم الذي استأثر الله تعالى به ، دون مطلق العلم الشامل للظن وما يُشبهه ... ].(2)
-
النتائج
وخلاصة ما تقدم ينحصر في النقاط الآتية :
1.علم الساعة من حيث : موعدها ، ووقتها ليلاً أو نهاراً ، أو صيفاً أو شتاءً ، وكذا بعد.. كم من السنين ، والأيام ... الخ ، وعلى وجه التفصيل، هو مما أُضيف علمُهُ إلى الله - عز وجل - ، لا يُطلع عليها بشراُ ، ولانبياً مرسلاً ، ولا ملكاً مقرَّباً .
وما عُلم من أحوالها ، هو غير موعدها اليقيني ، وما عُلم من أمرها فهو إجمالٌ ، لا تفصيل .
2. علم نزول الغيث أو المطر : لا يُعلم يقيناً أنَّ النازل غيثٌ أم مطر، ولا لحظةَ ، ولا موضع ، ولا كميَّة سقوطه .
__________
(1) 102) نقلا عن الآلوسي - 21 / 112.
(2) 104) ... الآلوسي ـ 21 / 112 .(1/53)
وقد يعلم ذلك على وجه الإجمال ، وذلك العلم من : [ الظن ] ، لا من [ القطع ] ، ودليله : [ الأمارة ] ، لا [ الحجة ] ، ولا [ البرهان ] .
وليس هذا بمستبعدٍ شرعاً ، بل إنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعله ، وأقرَّه ، وتعامل به.
قال طاش كوبري زادة في مفتاح السعادة ـ 1 / 331-332 ، ناقلاً عن غريب أبي عبد الله : { أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سأل عن سحابةٍ مرَّت ..
فقال - عليه السلام - : كيف ترون قواعدها وبواسقها ؟ ، أجون أم غير ذلك ؟ .
ثم سأل عن البرق : أ خَفْواً أم وميضاَ ، أم يشق شقاً ؟ .
فقالوا : بل يشُّق شقَّاً.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : جاءكم الحيا } .
والحيا هو : المطر .
أما تنزيل الغيث ، فإنَّ الله - عز وجل - يُنزِّله ، والبشر يُنزِّله بالوسائل الصناعية ، ولا ينبئ النص بسلب هذا عن البشر ، بل ينبئ بعكسه .
3.أما علم ما في الأرحام علماً يقيناً ، فلا يُنبئ النص بسلبه عن بني البشر، ويكون العلم به إجمالاً ، وبعد تخليقه .
أما قبل تخليقه : فقد وصل العلم الحديث إلى قدرة فرز [ الجين ] الذكري في المني عن الأنثوي ، واختيار ما يشاءون لتلقيح البويضة ، بتدخل طبي دقيق فنقول : إنَّ الغيب يبقى غيباً لا يعلمه إلاَّ الله - عز وجل - في :
أ . وقت القيام بذلك .
ب . القائم به .
ت . نجاح عمله .
ث . استمرار النجاح إلى حين الولادة .
ج . ما سيأتي تفصيله مما يعمُّ الحالتين ، قبل التخليق ، وبعده .(1/54)
ولا يقال حينئذ أن القائم بالخلق والإيجاد هو الطبيب ، بل هو قائم بالتلقيح ونسبة نجاحه في اختيار أحد النوعين هي نسبة عالية ، ويبقى الله جل وعلا هو الخالق لأصل المواد التي يتم منها تكوين الجنين، وهو النافث للروح في لحظة نفثها ، شبيه القاتل فليس هو الذي يزهق الروح ويسلبها صاحبها ، وإنما ذلك لله - عز وجل - وحده . ويُرشد الله الملك الموكَّل بقبض الروح في لحظة مباشرة السبب [ وهو القتل ] ، وهذا ممَّا عُرف في العقائد عند أهل السنة والجماعة .
وتبقى معرفة التفاصيل بحق هذا المخلوق من : شقاوته ، أو سعادته ، وصفاته الخلقية ، وأجله ، ورزقه ، والتفاصيل الأخرى ممَّا يكتبه الله له في رحم أُمِّه ، وأن شئت قلت في مرحلة من تكوينه ، سواء في الرحم أو غيره ، وكذلك لله - عز وجل - وحده ، وإلى هذه اللحظة ـ إلاَّ إذا أستجد أمر
ـ ، فحينئذٍ لكل حادث حديث ، والمنهج الذي اخترناه في بداية البحث من احتمال النصوص للتأويل ، يجعلنا لا نقف عاجزين ـ إن شاء الله تعالى ـ عن معالجة المستجدَّات .
أما معرفة ذكورة وأنوثة الجنين ، فهو اليوم ممكن بالوسائل الحديثة التي تعطي ظناً راجحاً متاخماً لليقين ، وذلك في نوع المولود بعد مدة تكوينه في الرحم ، بالتحليل ، أو غير ذلك من الوسائل كالشاشة المرئية [ السونار] .
بل قد يُحدَّد ابتداءً بتدخل طبيٍّ ، كما هو واقع الآن في حالات نادرة تستدعي ذلك ، فلا تعارض فيما وقع مع النصوص على وفق ما بيَّناه آنفاً.
4. [ ... ليست المغيَّبات محصورة بهذه الخمس ، وإنَّما خُصَّت بالذكر لوقوع السؤال عنها ، أو لأنها كثيراً ما تشتاق النفوس إلى العلم بها . وقال القسطلاني : ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - خمساً ، وإن كان الغيب لا يتناهى ، لأن العدد لا ينفي زائداً عليه ، ولأن هذا الخمس هي التي كانوا يدَّعون علمها ] .(1)
__________
(1) 104) الآلوسي – المرجع السابق .(1/55)
5.[ ... يجوز أن يُطلع الله تعالى بعض أصفيائه على إحدى هذه الخمس ، ويرزقه عزَّ وجلَّ العلم بذلك في الجُملة ، وعِلْمُها الخاص به جل وعلا ، ما كان على وجهه الإحاطة والشمول ، لأحوال كل منها وتفصيله على الوجه الأتَّم ] .(1)
6. [ ويُعلم مما ذكرنا وجه الجمع بين الأخبار الدَّالة على استئشار الله - عز وجل - بعلم ذلك ، وبين ما يدل على خلافه ، كبعض إخباراته - صلى الله عليه وسلم - بالمغيَّبات التي هي من هذا القبيل ، يعلم ذلك من راجع نحو: الشفا ، والمواهب اللدنيَّة ، مما ذُكر فيه معجزاته - صلى الله عليه وسلم - ، وإخباره - صلى الله عليه وسلم - بالمغيبات ] .(2)
7. أما علم الرزق ، فهذا لا يُعرف يقيناً أيضاً .
قد يقول قائل : إنَّ أصحاب المرتَّبات [ الرواتب المتكررة ] من أصحاب الأجور يعرفون ما يكسبون ، وذلك : لا يزيد ولا ينقص ، إلاَّ في النادر، والنادر لا يقام عليه حكم .
نقول : ليس الرزق بهذا الترزيق الإيجابي فقط ، [ فمنع ] وقوع : الأذى ، والمرض ، والضرر.. فكل كذلك نوع [ ترزيق ] بسلب ما يؤدي إلى الإنفاق غير المجدي إيجاباً ـ كأجرة الطبيب ، وثمن الدواء ـ ، فهل علمت كم دفع عنك الله بسم الله الرحمن الرحيم في هذا اليوم من أذى ؟ وما سيدفع عنك غدا ؟ وبهذا نصل إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذا لم يكن يعلم من هذه الخمس شيئاً ، لم يقدح ذلك في نبوَّته ، والحكمة من حجبها بيَّناه من قبل تفصيلاً .
كما لا يمنع معرفتها إجمالاً من غيره ، وهو ما يحدث الآن .
كما لا يُغرينا ما شاع بين الناس أنَّ هذه من المغيَّبات ، حيث سمعنا هذا منهم مراراً ، وعن طريق التسامع ، لا عن طريق التحقيق والتدقيق ، المعهودان في البحث الشرعي ، فالآن حَصْحص الحق.. والحمد لله رب العالمين ، إذ بان التفصيل دون الإجمال والتعميم السائد في كلام الكثير.
********
__________
(1) 105) الآلوسي – المرجع السابق .
(2) 106) الآلوسي – المرجع السابق .(1/56)
تم في 15 رجب 1412 هـ – 21 / 1 / 1992 .
وقُوبل ضحى الجمعة 7 ربيع الاول 1418 هـ – 11 / 7 / 1997 .
وتم تنضيده عصر الجمعة 14 جمادي الثاني 1420 – 24 / 9 / 1999.
المراجع
مرتَّبةٌ حسب أهميَّتها
1. القرآن الكريم .
2. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم / محمد فؤاد عبدالباقي ـ طبعة الشعب / القاهرة 1378 هـ .
3. روح المعاني في تفسير القران العظيم والسبع المثاني / لمفتي الحنفيَّة في بغداد المحميَّة ، الإمام العلامة أبي الثناء محمود شهاب الدين الآلوسي [ ت-1270 هـ ] ـ طبعت بالأوفست عن طبعة المنيرية بمصر، قام بتصويرها دار إحباء التراث العربي – بيروت .
4. الجامع لأحكام القران / للإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي ـ طبعة مصورة بالأوفست عن طبعة دار الكتب العربيَّة ، أصدرتها دار الفكرـ بيروت .
5. أسباب النزول / للإمام الواحدي .
6. تفسير روح البيان / للشيخ إسماعيل حقي البروسوي
[ ت 1137 هـ ] ـ طبعت بالأوفست ـ إصدار دار الفكر.
7. صحيح مسلم بشرح النووي / للإمام محي الدين يحيى بن شرف النووي ـ بتحقيق محمد فؤاد عبد الباقي / طبع مصر 1385 هـ .
8. مفتاح كنوز السنة / وضعه بالانجليزية د. أي فنسنك ، وعرَّبه محمد فؤاد عبد الباقي ـ دار القلم – بيروت الطبعة الثانية سنة 1985
9. المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف/ وضعه بالانجليزية فنسنك ، وعرَّبه محمد فؤاد عبد الباقي ـ ليدن 1955 م .
10. سنن النسائي شرح السيوطي وحاشية السندي / للحافظ جلال الدين السيوطي ـ دار الحديث – القاهرة [ 1407 هـ –1987 م ] .
11. الكبائر للحافظ أبى عبد الله محمد بن احمد بن عثمان الذهبي / تحقيق مشهور حسن محمود سلمان ـ مكتبة المنار– الأردن [ 1408 هـ – 1998 م ] .(1/57)
12. دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة / للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي / تحقيق الدكتور عبد المعطي قلعجي ـ دار الكتب العلمية – بيروت [ 1405 هـ – 1985 م ] .
13. إرشاد الساري بشرح صحيح البخاري / للحافظ شهاب الدين القسطلاني ـ طبعة مصورة بالأوفست عن طبعة الاميرية يمصر ـ أصدرت المصورة دار الكتاب العربي - لبنان [ 1988 م ] .
14. المصنوع في معرفة الحديث الموضوع / للعلامة علي القاري الهروي المكي الحنفي / بتحقيق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة ـ بيروت .
15. أمثال الحديث / للقاضي أبى محمد الحسن الرامهرمي / تحقيق الدكتور عبد العليِّ عبد الحميد الأعظمي ـ بومبي [ 1404 هـ – 1983 م ] .
16. دستور العلماء [ جامع العلوم في اصطلاحات الفنون ] / للقاضي عبد النبي بن عبد الرسول الأحمدنكري مصورة بالأوفست ـ عن طبعة دائرة المعارف النظامية بحيدرآياد – الدكن ، أصدرتها مؤسسة الاعلمي – بيروت .
17. التعريفات / للسيد الشريف الجرجاني الحنفي ـ مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده [1357 هـ – 1938 م ] .
18. ميزان الأصول في نتائج العقول / للشيخ علاء الدين أبى بكر محمد بن أحمد السمرقندي / تحقيق د. عبد الملك السعدي ـ إصدار وزارة الأوقاف العراقية [ 1407هـ ـ 1987 م ] .
19. المرقاة والمرآة ( مرآة الأصول على مرقاة الوصول ) / المرقاة للمنلا خسرو ، والمرآة لمحمد بن ولي بن رسول الأزميري ـ طبعة الحاج محرَّم البوسنوي ـ 1285هـ .
20. مجمع البحرين ومطلع النيِّرين / للشيخ طريح النجفي الشيعي ـ طبعة حجرية ـ 1274 هـ .
21. موسوعة النحو والصرف والإعراب / إعداد د. أميل بديع يعقوب ـ دار العلم للملايين 1988 م .
كتب وبحوث للمؤلف
1. مشايخ بلخ من الحنفية وما انفردوا به من المسائل الفقهية / طبعته وزارة الأوقاف العراقية .(1/58)
2. الشخصية الإسلامية وموقعها بين النظم والعقائد / الطبعة الأولى - دار البشير / عمان ، والطبعة الثانية – دار [ الراشدون ] -الموصل.
3. رفع أكف الضَّراعة لجمع كلمة أهل السنة والجرعة / طبع على الآله مع التصوير.
4. الزكاة ومصرف [ في سبيل الله ] والدعوة الإسلامية وتأسيس البنوك الإسلامية / مقدَّم إلى المجمع الفقهي الهندي ـ طبع على الآلة مع التصوير.
5. المرة والتكرار في نصوص الأوامر الشرعية / مستل من مجلة المجمع العلمي العراقي لسنة 1997.
6. نثار العقول في علم الأصول / مطبوع على الآله مع التصوير.
7. كشف اللثام وبلغ المرام في قوله تعالى : [ إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام ] ـ وهو هذا الكتاب ـ .
8. العقل والنفس والروح / مخطوط .
9. مكانة الحرب العربي في الإسلام / مخطوط .
10. البهره من الفرق الإسماعيلية / مخطوط.
11. الخوارق في الشريعة الإسلامية [ بحث في الباراسايكولوجيا الإسلامية ] / مخطوط .
12. الصحوة الإسلامية والدعوة الإسلامية / مخطوط .
13. بيع الحقوق والمنافع / مخطوط .
14. قراءة قانونية في سورة يوسف / مخطوط .
15. توازن التبعات في الشريعة الإسلامية / مخطوط .
16. الإيضاح والبيان الظهوري على التسهيل الضروري لمسائل القدودي / مطبوع من قبل دار الكتب في بغداد عام 1999 .
17. شرح وصية الإمام الأعظم لتلميذه القاضي أبي يوسف ، في [ آداب العالم والمتعلم ] / مخطوط .
18. التصوف في الإسلام / مخطوط .
19. بين الإسلام وأمثلة العوام في دار السلام / مخطوط .
20. المدخل لدراسة الشريعة الإسلامية / مخطوط .
21. مصطلحات رمضانية / مخطوط [ أحاديث في الراديو ، ومسلسل تلفزيوني ].
22. أسماء القران في القران / مخطوط [ أحاديث من الراديو ].
23. كليات القران الكريم / مخطوط .
24. المسؤوليات الإدارية في الأسرة المسلمة / مخطوط .(1/59)
25. التحصين ضد الجريمة في الشريعة الإسلامية / مخطوط. مقدم الي الندوة المشتركة بين وزارة الداخلية ومنتدى الإمام أبي حنيفة - رضي الله عنه - .
26. مبادءات ومتابعات / مجموعة مقالات صحفية .
27. نقد قانون الأحوال الشخصية العراقي / مخطوط .
28. العامي الفصح / مخطوط .
29. عظمة التشريع الإسلامي / مخطوط .
30. الشركات في الفقه الحنفي / مخطوط .
31. ظهور الفضل والمنَّة في بعض مسائل الأجنَّة / مخطوط
32. مقالات ومقدمات كتب ومحاضرات وتعقيبات في مواضع شتى .
الفهرست
??? المقدمة ... 4
??توطئة ... 18
? المبحث الأول المغيبات التي شاعت على ألسنة الناس والأدلة عليها ... 24
??الفرع الأول الأخبار الواردة في الباب ... 28
? الفرع الثاني الآثار الواردة عن الصحابة الكرام رضي الله عنهم ... 31
??الفرع الثالث ما ورد عن بعض علماء الأمة في هذه المسألة ... 33
? المبحث الثاني تحقيق المقام ... 35
??الفرع الأول علم الساعة ... 37
? الفرع الثاني العلم بنزول الغيث ... 40
×?المطلب الأول المعنى اللغوي ... 40
? المطلب الثاني استعمال القران الكريم ... 40
×?المطلب الثالث ظنية المعرفة بنزول الغيث والمطر ... 44
? المطلب الرابع غيبية المعرفة بنزول الغيث ... 44
×?المطلب الخامس تأييد النظم القرآني لما تقدم ... 46
? الفرع الثالث حكمة التغييب عن الرسول (ص) وانه لا يقدح في نبوته ... 49
??المبحث الثالث العلم بما في الأرحام ... 66
الفرع الأول تحديد المعاني اللغوية ... 68
??النتائج ... 90
? المراجع ... 95
??كتب وبحوث للمؤلف ... 98
المؤلف في سطور
هو محمد محروس آل علقبند الأعظمي الحنفي، المعروفة عائلته بآل المدرس لتدريسهم في الحضرتين الأعظمية و القادرية، و في المدرسة الوفائية .(1/60)
ولد في الأعظمية 1491م . درس على علماء بغداد الشيوخ الأجلاء : محمد القزلجي ، عبد القادر الخطيب ، نجم الدين الواعظ ، أمجد الزهاوي ، محمد فؤاد الألوسي ( و أختص به في المدرسة المرجانية ، الى حين وفاته فيها ساجداً بين العشاءين سنة 1963 م)،والدكتور عبد الكريم زيدان ، و اخيراً على العلامة عبد الكريم محمد المدرس - متع المسلمين بحياته -.
تلقى على علماء مصر الأجلاء الشيوخ الأفاضل : محمد أبو زهرة ، محمد سلام مدكور ، محمد الزفزاف ، أحمد هريدي -مفتي الجمهورية-، محمد أحمد فرج السنهوري ، زكريا البّري ، زكريا البرديسي،علي الخفيف واختص أخيراً بالشيخ عبد الغني عبد الخالق المشرف علىرسالته للدكتوراه.
حاز بكالوريوس الحقوق من بغداد سنة 2691 م . وحاز دبلوم الشريعة من حقوق القاهرة سنة 1967 ،و ماجستير الفقه المقارن من كلية الشريعة و القانون بالأزهر سنة 1968.والدكتوراه بذات الاختصاص، سنة 1970 .
عمل محامياً ،و مدير ناحية ،و مديراً للمدارس الدينية في الأوقاف ومشاوراً قانونياً لها،ومديراً للدراسات الإسلامية فيها،ورأس أول بعثة عراقية عليا الى الحج سنة 1975، ثم درّس في كليّات:الإمام الأعظم ،والقانون والشرطة والتراث الجامعة،وفي القسم العالي في ندوة العلماء في لكنهؤ/الهند. عضو دائم في المجمع الفقهي في الهند .رأس منتدى الإمام أبي حنيفة لسنوات عديدة . شارك في مؤتمرات علميّة وفقهيّة في:العراق،والهند،والحجاز،وبلاد الشام .
الكتاب في سطور
مما شاع عند الكثير أنَّ هناك مغيَّباتٍ استأثر الله - عز وجل - بعلمها ، ولا يعلمها غيره ، في حين استطاع العلم التطبيقي الحديث معرفة بعضها ، بل والتحكُّم بها قبل حدوثها، بتوجيهها باتِّجاهٍ محدَّدٍ معيَّن ، كالتحكم بنوع الجنين ..ذكورةً وأُنوثةً ، وذلك قبل اختلاط النطف في الأرحام ، وقام بخلطها صناعيَّاً بما يؤدي إلى أحد الاتجاهين !!.(1/61)
كما استطاع العلم التطبيقي الحديث إنزال المطر الاصطناعي .. فقام التعارض الظاهري بين قوله تعالى : [ إنَّ الله عنده علم الساعة ويُنزِّل الغيث ويعلم ما في الأرحام ..] ، وبين الواقع ... فإنكار النص كفرٌ ، وإنكار الواقع الثابت يقيناً مكابرةٌ ، فقامت الحاجة إلى التوفيق الذي يُحافظ على أساسيّات العقيدة ، مع عدم تجاوز الملموس [.. ونحن مع الظواهر حتى يقوم الدليل القطعي على خلافها ، وحينئذٍ نميل إلى التأويل وبابه واسعٌ..] . وهذه محاولة جدِّية للتوفيق بين بعض ما اعتبره الكثيرٌ أنَّه مِنَ المغيَّبات ، وبين كونه معلوماً ، بل ويجري الُتحكم فيه ، كتحديد نوع الجنين قبل اختلاط النُطف !! ، وذلك بالأدلة الشرعيَّة القائمة على دراسة النصوص الواردة وفق قواعد أصول الفقه الإسلامي ، ونسأل الله - عز وجل - أن يجعل هذا الكتاب سبباً لتثبيت العقيدة ، ونصرة الدين المتين ... آمين .
الصفحة ... سطر ... الخطأ ... الصواب
6 ... الامبراطورية المغولية ... الإمبراطورية المغولية الإسلامية
6 ... مأربه ... مآربه
91 ... وشبه ... وشُبه
22 ... فحري ... فحريٌّ
32 ... من ... ممن
72 ... وما تجري ... وما تدري
63 ... مخرج ... مُخْرِج
54 ... والتفصيل ... وللتفصيل المتقدم ذكره
86 ... ما في الارحام ... ما في كل الأرحام معا
68 ... لا يكونان من ... لا يكونان إلا من
68 ... فهل يعتبر ذلك دليل ؟ ... فهل يعتبر ذلك دليلا ؟
68 ... الهامش 89و99 ... ميزان الاحوال ... ميزان الأصول
78 ... اعمل ... أهل(1/62)