بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين.
وبعد:
فإن من فضل الله تعالى على هذه الأمة المحمدية التي جعلها الله خير أمة أُخْرِجَت للناس أن بارك في أعمالها وبارك في لياليها وأيامها فجعل لها مواسم وأيامًا فاضلة تتقرب فيها إلى الله عز وجل، وتتعرض فيها لنفحاته سبحانه، فيها ترفع الدرجات وتحط الخطيئات والسيئات، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، فما يكاد يخرج موسم خير إلا ويعقبه موسم آخر وهكذا تتوالى على الأمة المواسم الفاضلة والأوقات المباركة.
ويظن البعض أن مواسم الخير مواسم حولية، وهي: شهر رمضان المبارك، وعشر ذي الحجة الفاضلة، فتجد أنه يجتهد في هذين الموسمين، فإذا انقضيا ترك الاجتهاد في الأعمال الصالحة ظانًّا أن مواسم الخير قد ولَّت وانتهت، ولكن لو تدبَّر وتأمَّل في الشريعة المحمدية والأحاديث النبوية لوجد أن الخير لا ينقضي، ولحمله ذلك على الاجتهاد.
ولعليِّ أن أُوَفَّق في هذه الأسطر القليلة لأوضِّح شيئًا من هذه المواسم الفاضلة؛ لتكون حافزًا لنا في النشاط في أعمال الخير والقربات، فيما يزيد حسناتنا ويرفع درجاتنا ويثقل موازيننا ويكون سببًا لمحبة الله لنا؛ فنكون من أوليائه جل وعلا برحمته سبحانه، كما جاء في الحديث القدسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «قال الله تعالى: مَن عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ مما افترضته عليه، وما يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه» [البخاري].
مواسم الخير والفضل:(1/1)
1- المواسم الحولية التي تمر كل عام وهي: شهر رمضان المبارك، وأشهر الحج، وعشر ذي الحجة وما فيها من الفضل والخير، وهذه المواسم لن أتكلم عن فضلها؛ لأنها معلومة لدى الكثير، ونسمعها في وقتها من الخطباء والوعاظ وفي المحاضرات والندوات.
2- موسم أسبوعي وهو: يوم الجمعة، وهو يوم فاضل وعظيم من أيام الله الشريفة الفاضلة، قال - صلى الله عليه وسلم - : «خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلِق آدم، وفيه أُدْخِل الجنة، وفيه أُخْرِج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» [رواه مسلم].
قال ابن القيم رحمه الله: «وكان من هديه - صلى الله عليه وسلم - تعظيم هذا اليوم وتشريفه وتخصيصه بعبادات يختص بها عن غيره، وقد اختلف العلماء هل هو أفضل أم يوم عرفة؟ على قولين» [زاد المعاد 1/363]. فانظر إلى عظمة هذا اليوم وفضله، فقد يفوق يوم عرفة فضلاً، وقال - صلى الله عليه وسلم - : «الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفِّرات ما بينهن ما اجتُنِبَت الكبائر» [مسلم]. ولاحظ أخي قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ما اجتُنِبَت الكبائر» فإن بعض الناس يفعل كبائر الذنوب ويزعم أن الصلاة والجمعة ورمضان ستكفِّر ذلك، ولكن آخر الحديث يخصص الصغائر فقط، أما الكبائر فلابد لها من التوبة النصوح.
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «مَن غسل يوم الجمعة واغتسل وبكَّر وابتكر ودنا من الإمام فأنصت؛ كان له بكل خطوة يخطوها صيام سنة وقيامها، وذلك على الله يسير» [رواه أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن خزيمة].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه. وقال: بيده يقللها» [متفق عليه]. فما أعظم هذا اليوم وأكثر فضله، ولكن كثيرًا من الناس عنه غافلون.(1/2)
3- موسم يومي يمر علينا كل ليلة وهو: الثلث الأخير من الليل، وهو وقت عظيم فاضل، يقول فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - : «ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الأخير يقول: مَن يدعوني فأستجيب له، مَن يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» [متفق عليه].
بل الليل كله فاضل، يقول - صلى الله عليه وسلم - : «إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله تعالى خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه وذلك كل ليلة» [مسلم].
لو فرضنا أن هذا الفضل يأتي في ليلة واحدة من السنة ألا نهتم لها ونسمع من يبين لنا فضلها ونستعد بالقيام في تلك الليلة ونكثر من الدعاء والاستغفار؟! فلما كان هذا الخير كل ليلة زهد فيه الكثير وربما عليه من الذنوب أو من الهموم والأمراض ما يحتاج أن يدعو الله أن يشفيه ويعافيه ويتوب عليه، ومع ذلك يذهب للأطباء ويبحث عن العلاج في كل مكان وما قام ليلة واحدة في الثلث الأخير فيدعو ربه وهو القائل سبحانه: «من يدعوني
فأستجيب له».
4- ومن مواسم الخير والفضل: ما يطالعنا صبيحة كل يوم ذلكم وقت الفجر الذي قال الله فيه: { وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا } [الإسراء: 78].
والمقصود صلاة الفجر حيث يحضرها ملائكة الليل وملائكة النهار كما قال - صلى الله عليه وسلم - : «يتعاقبون فيكم ملائكة الليل وملائكة النهار، ويجتمعون في صلاة الصبح وفي صلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم الله وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون» [متفق عليه].
فهؤلاء الذين صلوا الصبح والعصر في جماعة تشهد لهم الملائكة عند ربهم جل وعلا، فما حال من يأتي عليه هذان الوقتان وهو نائم في فراشه، فمن يشهد له عند الله عز وجل؟!(1/3)
ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - : «مَن صلىَّ البردين دخل الجنة» [متفق عليه]. والبردان: الفجر والعصر. فوقت صلاة الفجر وكذلك صلاة الفجر فيهما من الأجر ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، قال - صلى الله عليه وسلم - : «لو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبوًا» [متفق عليه]. فيا ترى ما مقدار فضل صلاة الصبح؟ وإذا تذكرت هذا الحديث علمت مقدار فضل صلاة الفجر، يقول - صلى الله عليه وسلم - : «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها» [مسلم]. فإذا كانت ركعتا الفجر -وهي سُنَّة الفجر- خيرًا من الدنيا وما فيها، فما بالك بأجر صلاة الفجر؟! هذا ما يمكن أن نتخيله، فكيف يُؤْثِر النوم مَن يسمع بهذا الحديث على هذا الفضل العظيم الذي لا يمكن أن يجده إلا في صلاة الفجر؟!
ومن فضل هذا الموسم العظيم: ما ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله - صلى الله عليه وسلم - : «مَن صلَّى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة» [الترمذي]. وقال عنه الألباني في صحيح الجامع الصغير: صحيح.
كم من مسلم في مشارق الأرض ومغاربها يتمنى أجر الحج والعمرة، ولكنه لا يستطيع إلى ذلك سبيلاً، ها هو فضل الحج والعمرة يأتيك في بلدك وفي مسجدك، فهلا من مشمِّر لذلك؟!
5- ومن مواسم الخير: موسم يأتينا في اليوم خمس مرات، وهو أوقات الصلوات الخمس، حيث إجابة الدعاء، وصلاة الملائكة، ورفعة الدرجات، وحط الخطيئات، والرباط في سبيل الله، وغير ذلك من الفضل العظيم، قال - صلى الله عليه وسلم - : «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة» [أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن]. وقال - صلى الله عليه وسلم - : «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي صلى فيه ما لم يحدث، تقول: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه» [البخاري].(1/4)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخُطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط، فذلاكم الرباط» [مسلم].
ومن هذه الأوقات: وقت صلاة الظهر حين نزول الشمس، فهذا وقت فاضل تفتح فيه أبواب السماء، وذلك لرفعة الأعمال إلى الله عز وجل، وقبول الدعاء، ولذلك كان نبينا - صلى الله عليه وسلم - يحرص أن يصلي في هذا الوقت أربع ركعات، وقال في ذلك: «إنها ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح» [الترمذي، وقال: حديث حسن]. وقال - صلى الله عليه وسلم - : «مَن حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرَّمه الله على النار» [أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن صحيح]. وننبه أن هذه الأربع بسلامين، أي: يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين ويسلم لا يجمع الأربع بسلام واحد.
هذه أخي جملة من مواسم الخير والفضل التي تتوالى ولا تنقطع، أما فضل الأعمال الصالحة فلا حد لذلك، ولكني سأجمل بعض هذه الفضائل، ومنها:
1- الصلاة:
الصلاة أخي فضلها عظيم، وهي الصلة بين العبد وربه، قال جل وعلا: { وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ } [العلق: 19].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» [مسلم والنسائي].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «عليك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة وحط عنك بها خطية» [مسلم].
2- الصيام:
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : «كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به...» [متفق عليه].
وهذا الفضل يشمل الفرض والنفل.(1/5)
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «صوم ثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر كله» [متفق عليه]. وصيام ثلاثة أيام من كل شهر قد وصَّى بها النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا هريرة وغيره من الصحابة - رضي الله عنهم - . قال أبو هريرة - رضي الله عنه - : «أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام» [متفق عليه].
3- الأذكار:
قد تواترت الأحاديث بفضائل الأذكار، ومنها قوله - صلى الله عليه وسلم - : «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم. قالوا: بلى. قال: ذِكر الله تعالى» [الترمذي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» [متفق عليه].
وقال - صلى الله عليه وسلم - : «أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة؟ فسأله سائل من جلسائه: كيف يكسب ألف حسنة؟ قال: يسبِّح مائة تسبيحة؛ فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة» [مسلم]. تصور هذا الأجر العظيم، فلو حافظ المسلم على هذا يوميًّا ففي الشهر ثلاثون ألف حسنة، فكم في السنة وكم في عمره الذي سيعيشه؟!
ويقول - صلى الله عليه وسلم - : «لئن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس» [مسلم]. فعلى أي شيء تطلع الشمس أليست تطلع على القصور والبنوك والأسواق والمزارع...(1/6)
وهذه الكلمات أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها لعلمه - صلى الله عليه وسلم - بفضلها ولحاجة الإنسان إليها بعد مماته. وقال - صلى الله عليه وسلم - : «مَن قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، في يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة خطيئة، وكانت حرزًا له من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه» [متفق عليه].
وفضائل القرآن – وهو أعظم الذِّكر – لا تُعد ولا تحصى، فضل تعلمه وحفظه وقراءته وتدبره والعمل به وحلق الذكر، فذلك بحر من الأجور لا ساحل له.
خاتمة
أخي المسلم: ما ذُكِر إلا أمثلة وإلا فالأعمال الفاضلة كثيرة، فهناك: فضل الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطلب العلم، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والسعي على الأرملة والمسكين، وتفريج كربات المسلمين، والصدقات، وغير ذلك كثير وكثير لو استعرضنا بعضه لاحتجنا إلى مجلدات ولكن هذه إشارة والحر تكفيه الإشارة؛ لعلها تحفز للتشمير واستغلال العمر في فعل الطاعات والتقرب إلى الله بسائر أنواع القربات، وهذه هي الباقيات الصالحات التي قال الله فيها: { وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا } [الكهف: 46]. فهي خير ما يؤمله الإنسان
بعد مماته.
فسارع أخي إلى الأعمال الصالحة وتزود من حياتك لموتك وبعثك، قال - صلى الله عليه وسلم - : «خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله» [رواه الترمذي، صحيح الجامع الصغير رقم 3297].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
* * *(1/7)