أمانة الكلمة
عند المُبدع المُسلم
بقلم الدكتور / صالح بن علي أبو عرَّاد
عضو هيئة التدريس بكلية المعلمين في أبها
E.mail;abo_arrad@hotmail.com
1428هـ
إهداء :
= إلى الذين يؤمنون بالله تعالى رباً ،وبالإسلام ديناً ، وبمُحمدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبياً ورسولاً .
= إلى من يؤمنون برسالة الإنسان المُسلم المُبدع في كل مجالٍ من مجالات الحياة ، وكل فنٍ من فنون الإبداع ، وكل ميدانٍ من ميادين العلم والمعرفة .
= إلى من يحكمون على مُجريات الأمور بعقولهم الواعية ، ويُحاربون الهوى في نفوسهم الضعيفة .
= إلى من قالوا خيراً فغنموا ، أو سكتوا عن شرٍ فسلموا .
= إلى من يؤمنون ويُصدِّقون بقوله تعالى : { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } .
أقول : الحمد لله القائل : { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ( سورة قّ : الآية 18 ) . والصلاة والسلام على نبينا ومعلمنا وقائدنا وقدوتنا محمدٍ بن عبد لله الذي صحّ عنه أنه قال : " وهل يكُبُّ الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلاَّ حصائدُ ألسنتهم " ( رواه الترمذي ، الحديث رقم 2616 ، ص 590 ) . أما بعد ؛
فأٌقدِّم - مستعيناً بالله وحده - هذه الكلمات الموجزات حول أمانة الكلمة عند المُبدع المسلم قائلاً :
من العجيب أن نكون محاسبين عندما نسكت ، ولكن الأعجب من ذلك أن نكون محاسبين عندما نتكلم ؛ وما ذلك إلا لأن " الكلمة بما أودع الله فيها من الأسرار والتأثير ، وبما هيأ الله لها من القبول في نفوس البشر ، ذاتُ فعلٍ عظيمٍ وخطير ، قد يبلغ حد السحر ، فتسحر أعين الناس ، وتموه الواقع ، ولاسيما حين تتجلى في معارض التأثير والخصومة ؛ إذ تصور الحق باطلاً والباطل حقاً ، أو تُجعَلُ مطيةً يبلُغُ بها الدعيُّ ، حين يعجز عن ركوبها العيي " ( 1 : 11 ) .(1/1)
من هنا فإن تعاليم وهدي ديننا الإسلامي الحنيف ، وتعاليم وتوجيهات تربيته الإسلامية توجب علينا أن نُحاسب أنفسنا قبل أن نُحاسب ، وأن نُراقب الله تعالى في كل قولٍ أو عملٍ أو نية ، وأن يكون هدينا في ذلك قوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } ( سورة الأنعام : 162 ) .
ولهذا فقد حث ديننا الإسلامي الحنيف ، ودعت تربيته الإسلامية السامية إلى أن يلتزم الإنسان المُسلم في قوله - على وجه الخصوص - بالهدي الرشيد والقول السديد الذي قال فيه تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً } ( سورة الأحزاب : الآية رقم 70 ) . وأن يحذر من سيء القول وفاحش الكلام تحقيقاً لقوله تعالى : { لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ } ( سورة النساء : من الآية 148 ) .
وما ذلك إلا لعظيم شأن الكلمة التي يقول فيها أحد الكُتّاب : " ستظل الكلمة شمساً تضيء أو ناراً تُحرق .. وهي مصدر هوايةٍ أو غواية ، وأداة هدمٍ أو بناء ، وينبوع سعادةٍ أو شقاء ، ونذير حربٍ أو بشير سلام ، وريح إيمانٍ أو وسوسة شيطان ، ودعوة فضيلةٍ أو إغراءٌ برذيلة " ( 6 : 72 ) .
وإذا كانت الكلمة المنطوقة أو المكتوبة تمثل أهم أدوات الإبداع ، فإن مهمة المبدعُ أياً كان نمط إبداعه أو مجاله أو ميدانه ، أن يجعل من محاولاته الإبداعية وبيانه اللفظي أو الكتابي سحراً حلالاً يدعو إلى الفضيلة ، ويُحذِّر من الرذيلة ، ولاسيما أن " كل أداءٍ [ أو عملٍ أدبيٍ ] تقبله الأذواق السليمة ، ولا ينعكس أثره السيئ على الأخلاق ، ولا يُثير الغرائز الحيوانية ؛ يُعدُ من الأدب المقبول ، وإن لم يكن في خدمة الدين المُباشرة والمُنقطعة " ( 2 : 17 ) .(1/2)
... وما ذلك إلا لأن أمانة الكلمة تفرض على المبدع المسلم أن يكون إبداعه نظيفاً طاهراً زكياً ، لأنه ينطلق من نفسٍ سويةٍ زكيةٍ ، ويُعبِِّر عن مشاعر حيةٍ فياضةٍ زاخرةٍ بكل معاني الحب الصادق ، ويلتقي مع عناصر الفطرة السليمة السوية التي قال فيها الحق تبارك وتعالى : { فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا } ( سورة الروم : من الآية 30 ) .
من هنا فإن على المبدع في أي فنٍ أدبيٍ أن يحمل هم تبليغ الآخرين بالحق ، مع الاحتفاظ بكل مقومات إبداعه الإيجابية الكفيلة بتقويم السلوك الخاطئ ، ومُعالجة الأخطاء المُشاهدة ؛ فإن لم يكن ذلك ممكناً فلا أقل من أن يحذر الإساءة إلى المُتلقي الذي أرعاه سمعه ، وبخاصةٍ أننا مُحاسبون عن كل ما نقوله أو نتلفظ به . وفي هذا الشأن يقول الدكتور / سعد أبو الرضا : " إن الأدب بلاغٌ مثل الرسالة يصدع بها الرسول ، فيجب أداء البلاغ بطريقةٍ لا تتجاوز عقيدةً ولا تُغفلُ سلوكاً إسلامياً " [ نقلاً عن 3 : 33 ] .
وإذا كانت الكلمة كما يقول أحد الباحثين " أمانةٌ قبل أن تكون بياناً ، ولذلك كانت جهاداً كما كانت جمالاً " ( 1 : 11 ) ؛ فقد علّمنا معلم الناس الخير من خلال الكلمة أن نحرص من منطلق الإيمان على المنطق السديد والقول الرشيد ؛ فإن لم يكن ذلك كذلك ، فلا أقل من الصمت مصداقاً لما صحَّ عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " .. ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت " ( رواه البخاري ، الحديث رقم 6163 ، ص 1069 ) .(1/3)
وهنا يبرز أثر التربية الإسلامية في هذا الشأن حيث إن النبي الكريم - عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم - حثنا في هديه التربوي العظيم على تجنب السيئ من القول ، فإن لم يكن ذلك مُمكناً ؛ فلا أقل من الستر وتجنب المُجاهرة بالمعاصي ؛ وهو ما يؤكده الحديث الصحيح عن سالم بن عبد الله قال : سمعتُ أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول : سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول :
" كل أُمتي معافىً إلا المُجاهرين " ( رواه البخاري ، الحديث رقم 6069 ، ص 1059 ) .
والمعنى أن الدين الإسلامي وتربيته الإسلامية تُحمِّل المبدع المسلم شاعراً كان أو قاصاً أو كاتباً أو باحثاً أو مٌترجماً أو ناقداً أو دارساً أو غير ذلك " مسئولية الكلمة التي يكتبها أو ينطقها ، لما لها من أثرٍ في نفوس وتوجهات المُتلقين " ( 5 : 75 ) ؛ فلا كفر ولا فسوق ولا كذب ولا اختلاق ، ولا تبذُل ولا انحلال ، ولا إسفاف ولا مجون ، ولا فضائح ولا شذوذ ، ولا انشغال بما لا فائدة منه ولا نفع فيه ؛ لأن أمانة الكلمة تفرض على المبدع المسلم أن " يُنزِّه قلمه ولسانه عن أن يخرج على الناس بعمل أدبيٍ ليس من ورائه غايةٌ جادةٌ أو هدفٌ مُثمر ؛ لأنه يحرص على ألاّ يضيع جهده وجُهد قارئيه عبثاً دون فائدة . لذلك فهو لا يكتب إلا بعد أن يسأل نفسه عدة أسئلة :
لماذا أكتب ؟ وماذا أكتب ؟ وكيف أكتب ؟ ولمن أكتب ؟ " ( 5 : 77 ) .
وفي هذا المعنى يقول الشاعر العربي المُسلم الذي - لا شك أنه - استشعر أمانة ومسؤولية الكلمة :
وما من كاتبٍ إلا سيفنى
ويُبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيءٍ
يسُرك في القيامة أن تراه(1/4)
إن أمانة الكلمة عند المُبدع المسلم تفرض عليه أن يعتز أولاً بهويته المُسلمة المُتميزة في نظرتها للكون وللإنسان وللحياة ، وأن يحذر ثانياً - كل الحذر - من الانجراف المقصود أو غير المقصود مع تلك التيارات والمذاهب الفكرية الوافدة من الشرق أو الغرب ، البعيدة كل البعد عن مقومات الإبداع الأصيل الجميل الجليل الذي يسمو بالإنسان فكراً وروحاً وسلوكاً .
وكم هو مؤسفٌ ومؤلمٌ أن يتخلى بعض المبدعين المسلمين عن هويتهم الإسلامية ، ومبادئهم الكريمة ، وأخلاقهم الفاضلة انسياقاً وراء هوى النفوس الأمّارة بالسوء ، أو انجرافاً مع بريق التيارات المُنحرفة ، أو انبهاراً ساذجاً بما يُسمى ( النظريات الفنية ، أو المذاهب الإبداعية ، أو المدارس المعاصرة ) التي انخدع بها البعض من أبناء الإسلام في عصرنا ؛ فكانت النتيجة المؤلمة مُتمثلةً في " صدور بعض أدبائنا عن نظرات غريبةٍ ، بعيدةٍ عن الأخلاق والعفة في علاقة الرجل بالمرأة ، وتبنيهم نظرات الكشف والعُري ، وتضخيم جانب الجنس على حساب العواطف الأُخرى ، مُتابعين بعض فلاسفة أوروبا وشعراء الجنس فيها ، مخالفين في ذلك قيمنا وأعرافنا وطبيعة أُمتنا " ( 4 : 66 ) .(1/5)
إن أمانة الكلمة عند المبدع المسلم تعني الفهم الحقيقي لطبيعة تلك الكلمة ؛ فالكلمة الطيبة تختلف - بلا شك - في طبيعتها عن الكلمة الخبيثة ؛ وإذا كان الله - جل في عُلاه - قد حسم ذلك الأمر في كتابه العزيز بقوله تعالى في بيان طبيعة الكلمة الطيبة : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ } ( سورة إبراهيم : الآية 24 ) ، وقوله تعالى في بيان طبيعة الكلمة الخبيثة : { وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ } ( سورة إبراهيم : الآية 26 ) ؛ فإنه - جل جلاله - يُبيِّن الغاية من ذلك بقوله سبحانه : { وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ( سورة إبراهيم : من الآية 25 ) .
وهنا يحضرني قولٌ جميلٌ ، ومُبدعٌ ، ومُنصفٌ في هذا المعنى لأحد الكُتّاب جاء فيه قوله :
" هذا الفهم لطبيعة الكلمة وقيمتها ، لا يعني الحجر على التعبير ، أو التضييق على أرباب البيان ، فالدين متينٌ لا يضيقُ بحاجات الإنسان الفطرية ، وميله الطبيعي إلى اللهو البريء .. والدين كما أن فيه ( العزائم ) فيه ( الرُخص ) . ومساحات التعبير مُشرعةٌ وواسعةٌ كما هو المُباح الفقهي بالنسبة للمُحرم الفقهي " ( 1 : 11 ) .(1/6)
وختامًا أقول : أما و قد علِمنا أن من الخطأ السكوت عندما ينبغي الكلام ، وأنه لا ينبغي أن نتكلم حينما يكون الصمت أنفع ، فإن النفوس المؤمنة بالله تعالى ، المتشبعة بهدي القرآن الكريم والسنة المطهرة ، والألسن الصادقة المُبدعة التي تخشى الله تعالى وتتقيه ، تحيا بين هذا وذاك حياةًً عمليةًً شاملةً ، وتتمثل أمانة الكلمة في كل شأنٍ من شؤون هذه الحياة ، وكل جزئيةٍ من جزئياتها ؛ ولاسيما في ( أزمنة الفتنة ) التي نحتاج فيها أن نُبدع في معرفة متى يكون الكلام ، ومتى يكون الإمساك عنه ، وأن ندير الدفة في شتى فنون الإبداع بمهارةٍ وحكمة .. فهل لنا أن نفعل ذلك ؟؟!!
إن أمانة الكلمة - أيها الأحباب - مسؤوليتنا جميعاً ، وهي تفرض علينا أن نستشعر بحق عِظم هذه الأمانة التي تستوجب أن يتواءم سلوك المثقف والمُبدع المُسلم وواقعه التربوي العملي ، مع الفكر والثقافة التي يدعو إليها ويؤمن بها في قوله وعمله وفكره .
وختاماً / أسأل الله العلي القدير أن يوفقني وإياكم لجميل القول ، وصالح العمل ، وأن يكتب لنا التوفيق والسدّاد ، والهداية والرشاد ، والحمد لله رب العباد .
- -
-
المراجع :
- القرآن الكريم .
- محمد بن إسماعيل البخاري . ( 1417هـ / 1997م ) . صحيح البخاري . الرياض : دار السلام .
- محمد بن عيسى بن سورة الترمذي . ( د . ت ) . سُنن الترمذي . تعليق العلامة المُحدِّث / محمد ناصر الدين الألباني . الرياض : مكتبة المعارف للنشر والتوزيع .
الهوامش :
1- أحمد آل مريع . ( 1425هـ ) . المُباح اللفظي .. المُباح الفقهي . المجلة الثقافية . العدد ( 59 ) . السنة ( 2 ) . صحيفة الجزيرة . الرياض : مؤسسة الجزيرة الصحفية . الإثنين.28 ربيع الأول 1425هـ .
2- حسن بن فهد الهويمل . ( 1426هـ ) . النص الهادف تربيةٌ وتهذيب . صحيفة الجزيرة . العدد ( 11954 ) . الثلاثاء 14 جمادى الأولى 1426هـ الموافق 21 يونيو 2005م .(1/7)
3- محمد أحمد حمدون . ( 1407هـ / 1986م ) . نحو نظريةٍ للأدب الإسلامي . ضمن إصدارات المنهل رقم ( 7 ) . جدة .
4- محمد عادل الهاشمي . ( 1407هـ / 1987م ) . في الأدب الإسلامي تجارب .. ومواقف . دمشق : دار القلم .
5- محمود شاكر سعيد . ( 1413هـ ) . في الأدب الإسلامي . الرياض : دار المعراج الدولية للنشر .
6- نجيب الكيلاني . ( 1407هـ / 1987م ) . آفاق الأدب الإسلامي . ط ( 2 ). بيروت : مؤسسة الرسالة .
- - -
- -
-(1/8)