كتب متوفرة في السوق
المدخل إلى القرآن الكريم.
مصابيح العصر والتراث.
قراءة إسلامية لتاريخنا.
اليقظة الإسلامية في مواجهة التغريب.
الضربات التي وجهت للأمة الإسلامية.
اليقظة الإسلامية في مواجهة الاستعمار.
كسر طوق الحصار.
الشبهات والأخطاء الشائعة.
الصحافة والأقلام المسمومة.
10- عالمية الإسلام.
11- سلسلة الأصالة ( 50 جزء حلقة ).
12- سلسلة موسوعة العلوم الإسلامية وصدر منها عدة أجزاء.(1/1)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة
26
نظرية التطور
بين الدين والعلم والعقل
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا – بيروت
###143### نظرية التطور
بين الدين والعلم والعقل
نشأت فكرة التطور في مجال العلوم البيولوجية أساسًا ولكنها سرعان ما نقلت إلى مجال الفلسفة وأريد بها السيطرة في مجال الفكر والثقافة، وقد جاء ذلك نتيجة للخطوات التي اتخذها خلفاء (دارون) من أمثال هربرت سبنسر الذي حاول أن يطبق التطور على الأمور الإنسانية والأخلاق والتاريخ وقد جاءت قوى ذات أهداف معينة فركزت على فكرة التطور وأعلتها إعلاءًا خطيرًا دفعها إلى التأثير في مجال العقائد الثابتة مع أفرادها بالسلطان على كل القيم والمقدرات الأخلاقية والاجتماعية. وكان ذلك جريًا مع الاتجاه المادي الخالص الذي حاول أن يتنكر لكل ما سوى الحس والمادة من قيم، ومعنى هذا أن نظرية قد وضعت بحيث يمكن استخدامها في معارضة الأديان والعقائد والشرائع، ومن الحق أن فكرة ###144### التطور (المادي والمعنوي) لا يمكن أن تسير في غير نطاق واضح وإطار محدود وفلك معلوم، وأن هناك استحالة علمية في أن تجري حركة التطور عشوائيًا في غير نظام أو قانون يحكمها ومن هنا يبدو الفارق العميق بين رأي العلم وبين أهواء القوى التي تتخذ من النظريات العلمية والفلسفية أسلحة لتحقيق أغراض بعيدة المدى. والمفهوم العلمي الصحيح هو أن هناك قيمًا ثابتة وعناصر تجري عليها سنة الحركة والتغير والتطور وأن هناك تناسقًا يجري بين أسس الثبات وعناصر التطور وأن هذا التناسق يجري في دائرة الثبات. وهذا المفهوم العلمي نفسه يطابق مفهوم الإسلام في نظرية التطور والثبات فالإسلام يؤمن بثبات الأصول العامة والقيم العليا مع تطور الجزئيات والتفاصيل والفروع.(2/1)
أولا: وبالرغم من استثراء فلسفة التطور الاجتماعي التي دعا إليها سبنسر فإن العلم كانت له وجهة نظر مختلفة تمامًا حيث يقول: الدكتور كريسي موريسون: إن حقائق الأشياء ثابتة لا تتغير وإنما التطور هو في الصور والهيئات لا في الحقائق لأن الحقائق ثابتة لا تتغير وأن القول بأن لا شيء ثابت على الإطلاق نظرية زائفة. فنزعة الطعام ثابتة والذي يتغير هو صور الطعام ونزعة اتخاذ المسكن ثابتة والذي يتغير هو صور السكن. ###145### ونزعة اللباس ثابتة والذي يتغير هو صور اللباس وكذلك فإن نزعة القتال والصراع فطرة بشرية وصور القتال هي التي تتغير. ويتفق هذا مع وجهة نظر الإسلام الذي أعطى مبادئ عامة وترك الحركة والتغيير إلى الفروع والتفاصيل إيمانًا بأن هناك قيمًا أساسية لا سبيل إلى تطورها والخروج عنها وهي بمثابة العمق للبناء. وقد كشفت الدراسات الأصلية أن التطور لا يمكن أن يكون قانونًا أخلاقيًا وليس كل طور أفضل من الطور الذي سبقه كما يقول سبنسر بل إن التطور قانون اجتماعي واقعي ولا يقتضي بتفضيل الطور الأخير على الأطوار السابقة، ذلك أن فكرة التطور الاجتماعي أخذت من فكرة التطور الحيوي (البيولوجي) والتطور في الحياة يكون تحسنًا وارتقاءًا وقد يكون انقراضًا، كذلك كشفت الأبحاث خطأ الرأي القائل بأن التطور والتقدم هو الاستجابة لنزعات النفس في السلوك بالحركة في أي اتجاه دون رعاية لاستقامة الحركة وبدون حاجة إلى إرادة وإيمان، وهذا يؤدي إلى العودة إلى العصور الأولى بما فيها من تحلل. كذلك خطأ الرأي القائل بأن التقدم هو إهدار الأحكام السابقة وتقديرات الأشياء التي قررها وحكم بها الإنسان في عصر مضى، فقد انتقل الفكر البشري من الطفولة إلى الرشد الإنساني.(2/2)
###146### ثانيًا: يستمد الفكر الإسلامي مفهومه للتطور والثبات من قانون التوازن الذي يحكم الموجودات جميعًا، وليس هناك سبيل إلى إلغاء أحدهما ولا سبيل إلى القول بالتطور المطلق وإنكار قاعدة الثبات ولابد من الربط بين الثبات والتطور وقيام التوازن بينهما وأنه من المستحيل عقلا ومن المناقضة لقوانين الوجود والحياة وأن يتوقف أحدهما أو أن ينفصل ولا أن يستعلي أحدهما ويسيطر، فالثبات والاستقرار هو الجمود والتطور المستمر هو الفناء، وهناك ترابط منظم بين الجمود والحركة وبين القديم والجديد وبين الميت والحي، فالحياة ناجمة من موت والجديد منبثق من قديم والفكر بعامة يتطور ولكنه يظل ثابت الأصول والمقومات، والفكر الإسلامي ثابت الجوهر متغير الصورة، وفي الفقه يجري التطور بالنسبة للأحكام الفرعية دون الأصول وفي الشريعة أصول قائمة لا تخضع لقوانين التطور كالصلاة والزكاة وإلخ.. وحدود ثابتة إزاء الربا والزنى والقتل فهذه من القوى الثابتة التي لا تتأثر بالتطور والتغيير ولا يمكن القضاء عليها وكذلك في نظام الكون نجد القوى الثابتة ونجد القوى التي تتحول وتتحرك أما الأصول الثابتة فهي ليست خاضعة للتطور، هذا هو مفهوم الإسلام ومفهوم العلم متطابق معه، أما المفهوم ###147### المطروح في أسواق الفكر الغربي والذي وصل صداه إلى الفكر الإسلامي فهو مفهوم فلسفي خطير لم يقم على أساس علمي وقد أخذ منطلقه من نظرية دارون في التطور البيولوجي ثم نقل إلى ميدان الاجتماع والفكر، ولا شك أنه بهذه النقلة إنما يستهدف غاية خطيرة هي واحدة من أهداف الفلسفة المادية الوثنية التي تحاول أن تسيطر على الفكر البشري كله وتفرغه من مفاهيم الإيمان والأديان والرسالات السماوية وتدفع به بعيدًا إلى نهاية خطرة نجدها واضحة وضوحًا لا مرية فيه في بروتوكولات صهيون أو نصوص التلمود أو متصلا بالمحاورات التي جرت منذ عصر التنوير في سبيل إخراج الفكر الغربي المسيحي(2/3)
الأصل من كل القيم ودفعه إلى مجال الماديات المغرقة، وتشكل هذه المحاولة فلسفة واضحة متكاملة تهدف إلى تدمير قوى الأديان والأخلاق والإيمان بالله ودفع الإنسانية كلها إلى الدمار بتحطيم قيمها ومعنوياتها وتفريغها من كل القوى التي تحملها على التماسك في وجه الغاية الصهيونية البعيدة المدى وهي السيطرة على العالم ولقد كانت نظرية التطور هي المنطلق الخطير للقول بأن كل شيء يتحول ويتغير ولا يبقى على حاله وأنه يبدأ في أول الأمر ضعيفًا ثم ينمو، ثم جرت محاولات تطبيق ذلك على الأديان والأخلاق ومنها ###148### انطلقت النظرية التي تقول بأن الأخلاق تتطور مع العصور وأن الأديان تتطور مع البيئات والقول بهذا مخالف كل مخالفة للحقائق العلمية الصحيحة ومعارض لنواميس الكون والحياة ولقد كان النرويج لمذهب التطور على هذا النحو خروجًا به عن المجال العلمي الصارم إلى المجال الفلسفي الذي لا يخضع لأي سند علمي أو عقلي، ومن مذهب التطور انطلقت كل المذاهب والدعوات والفلسفات المادية. فقد اعتبره المتشبثون به قاعدة لعلوم جديدة هي مقارنات الأديان وتفسير التاريخ والنفس والأخلاق والاقتصاد والاجتماع. ومن هنا أخذت هذه العلوم تخضع للمناهج التي تخضع لها العلوم المادية بينما تناقض هذا مع أبسط قواعد المنطق والعقل ولقد كان القول بالتطور المطلق سبيلا إلى نزع القداسة عن الأديان والقوانين والقيم والأخلاق والسخرية منها والدعوة إلى التحلل والإباحية وإنكار مقومات المجتمعات والعقائد على النحو الذي كشفت عنه نظريات فرويد و "درو كايم" وغيرهما. ولقد هوجمت نظرية التطور المطلق في المحيط الاجتماعي والفكري هجومًا علميًا ودحضت بمنطق عقلي واضح ولكن أصوات دعاتها المسرفين في استغلال ظلت أعلى الأصوات لأنها لم تكن أصواتًا طبيعية وإنما هي أصوات تدفعها قوى بالغة القدرة في ###149### مجال النشر والإعلان ولقد جرى كثير من الكتاب وراء بريق نظرية التطور وربما(2/4)
بحسن نية دون أن تتبين لهم أبعاد الخطر من القول بالتطور على إطلاقه بعيدًا عن مفهوم الإسلام الجامع دائمًا بين التطور والثبات وهو(2/5)
سلسلة على طريق الأصالة
17
تقويم ما قدمه الرواد
وقراءة جديدة لكتابات الشوامخ
ظهرت في السنوات الأخيرة الكثير من المذكرات والذكريات واليوميات التي قدمها كتاب الأجيال التي تلت جيل الرواد الذي كان له الصدارة في العصور التي تلت الحرب العالمية الأولى وامتدت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي سيطر كتابها على الحياة الأدبية في البلاد العربية وكان للسياسة والصحافة الحزبية أثرها البعيد في إبرازهم وإكسابهم الشهرة المدوية في حين أنهم لم يكونوا إلا بمثابة قناطر تنقل فكر الغرب إلى محيط الثقافة الإسلامي وكانوا في أبرز مظاهرهم تحت عيونهم الأصداف، فظنوا أنها الجوهر. وآية ذلك أنهم انفصلوا عن تيار الفكر الإسلامي والأدب العربي، وربطوا أنفسهم بمطالع الزحف الغربي على بلاد المسلمين فجعلوا منطلقهم من الحملة الفرنسية وسموا جولتهم بالأسماء الإقليمية والقومية، فحالوا أن يكتبوا أدبًا مصريًا أو سوريًا أو عراقيًا، وكان قائدهم هذا أستاذ الجيل (لطفي السيد) الذي أنكر رابطتي العروبة والإسلام، وكانت الرؤى التي يتحركون في إطارها هي تلك التي رسمتها الصحف التي يصدرها المارون في مصر (الأهرام – المقطم – الهلال) ويجدون في شبلي شميل بدعوته إلى مذهب دارون، وجرجي زيدان بدعوته إلى تزييف التاريخ الإسلامي، وصروف ومكاريوس في دعوتهما إلى الماسونية وتقبل النفوذ البريطاني منطلقًا، بدأ واضحًا في كتابات طه حسين والعقاد وهيكل وسلامة موسى ومحمود عزمي وعلي عبد الرازق.(3/1)
وأعطت المعركة الحزبية للفكر طابع الخصومة والجدل والهجاء المقذع وظهر هذا الجيل على الخصومة السياسية دون أن يهاجم الإنجليز أو الاستعمار بل قبل مفاهيمه في الفكر والاجتماع فكان هذا الولاء الفكري لمذاهب الغرب في الأدب والتاريخ حتى قيل أن طه حسين كان من أتباع المذهب الاجتماعي الفرنسي (دوركايم) وأن العقاد كان من أتباع المذهب النفسي (فرويد وغيره) بل قيل في الأخير أن العقاد وكان هيجلنا أي أنه تلميذ لمدرسة هيجل وهو ما وصفه به أقرب تلاميذه إليه (عبد الفتاح الديدي).
ولقد كشفت الذكريات والمذكرات في الأخير أن هناك رابطة كانت تجمع هذا الجيل هي رابطة الانتحار فقد عرف أن طه حسين وهيكل والعقاد فكروا في الانتحار وأن بعضهم كتب عنه، كما أن بعضهم اتهم باستعمال المخدرات وأن هذا الكلام جرى طرحه في مساجلات الأدباء السياسية.
ولعل أخطر ما في هذا كله أنهم في نفس الوقت الذي كانوا يهاجمون النفوذ الأجنبي البريطاني بقوة، كانوا يؤمنون بالفكر الغربي والحضارة الغربية والمنهج الديمقراطي ولم يكن النفوذ الأجنبي يطمع في أكثر من ذلك.
وكان هذا هو منطلق مدرسة سعد زغلول التي سيطرت فكريًا وسياسيًا بعد الحرب العالمية الأولى وبعد أن انتزعت القيادة الفكرية من مصطفى كامل ومحمد فريد وعبد العزيز جاويش وأحلت مفاهيم السياسة الحزبية بديلا عن الوطنية وكلمة الاستقلال بديلا عن كلمة الجلاء.
وكان أبرز كتَّاب مصر المجددين (الذين أثاروا قضايا التغريب) في صف حزب الأحرار الدستوريين (ذوي الولاء الواضح للاستعمار) لطفي السيد وطه حسين وهيكل والمازني وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي وفي أحضانهم ظهر أخطر كتابين في مهاجمة الإسلام: "الشعر الجاهلي" لطه حسين، و"الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبد الرازق.(3/2)
وكان الكتَّاب الرواد يقبلون مذاهب الغرب في النقد والأدب والشعر وقد حمل العقاد والمازني لواء الدعوة إلى المدرسة الإنجليزية في النقد (هازلت وغيره) بينما حمل طه حسين لواء المدرسة الفرنسية (تين وبرونتير وغيره).
ولم يكن لدى كتاب الجيل الرائد الخبرة العميقة؛ فانخدعوا في مواقف كثيرة، خدعهم (ماكس نوردو) اليهودي خليفة هرتزل فكرموه، دون أن يعوا دوره في الصهيونية وخدعهم عباس البهاء وحفلوا به ودعوا إلى نحلته دون أن يتنبهوا إلى أخطاره وسمومه.
بل لقد كرموا في الجامعة الفيلسوف رينان وهو أكبر من حمل على الإسلام وهاجمه أشد الهجوم.
وعندما حدث الصراع بين أبناء المدرسة الحديثة لم يكن لحساب الفكر الإسلامي وإنما كان صراعًا بين (لايينيون وسكسونيون) العقاد وطه حسين – وفي مجال التعليم كان الصراع بين طه حسين وإسماعيل القباني ولاء للمدرسة الفرنسية وولاه لمدرسة ديوي وفي القصة ترجمت الكتابات الفرنسية المكشوفة، وبرز أدب الكشف والإباحة كما برزت الأسطورة.
وقد كان هؤلاء الكتَّاب في مستهل حياتهم الأدبية (في الغرب) قد تابعوا المستشرقين فهاجمه منصور فهمي النبي وزوجاته، وهاجم طه حسين ابن خلدون، وهاجم زكي مبارك الغزالي وقال محمود عزمي: "إن الاقتصاد شيء والإسلام شيء آخر" فالإسلام في نظره دين لاهوتي.
ولما تعالت صيحة اليقظة الإسلامية تقدم هذا الصف من المجددين فادعوا أنهم هم مجددوا الإسلام.
كتب هيكل حياة محمد، وكتب طه حسين الفتنة الكبرى، وكتب العقاد العبقريات، وكان منطلقهم مختلفًا عن مفاهيم الوحي والنبوة، فاعتمدوا مناهج الغرب في دراسة الأبطال والرجال، ووضعوا (البطولة) في مقدمة (النبوة) وجعلوا (العبقرية) بديلا عن الرسالة ولم يكن مفهوم الإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع واضحًا في كتاباتهم، فقد كانوا ما يزالون يرون الإسلام دينًا لاهوئيًا كما يرى مفكروا الغرب المسيحية.(3/3)
وقال طه حسين أنه وضع كتابه (على هامش السيرة) تقليدًا لكتاب غربي جمع الأساطير القديمة.
وفي نفس الوقت الذي برزت فيه هذه الأسماء وسيطرت حجبت كتاب الأصالة: فريد وجدي ومصطفى صادق الرافعي ورشيد رضا وشكيب أرسلان ومحب الدين الخطيب.
وأظهر التغريب رجاله وحجب الآخرين، ولم يكن مفهومه للتجديد هو المفهوم الأصيل، وقال الأستاذ حسن البنا: إن ما بيننا وبين المجددين هو مفهوم الوحي والنبوة من ناحية ومفهوم الإسلام بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع.
وخرست الألسنة فقد كان كتابنا المتصدرون غير ملتزمين بالإسلام في حياتهم أصلا.
ورد الأستاذ حسن البنا على مفهوم العقاد في الألوهية دون أن يشير إليه صراحة، ولعل أبرز ما يشكل التصور الإسلامي الأصيل للفكر هو ذلك الوضوح الذي تكشف بين المنهج القرآن والمنهج الفلسفي، على النحو الذي أبرزه كتاب الدعوة الإسلامية حين كشفوا عنه.
إن مفهوم القرآن كالماء لا يحتاج إليه المريض والسليم وأن منهج الفلسفة (أو علم الكلام) هو كالدواء الذي يحتاج إليه المريض (على حد عبارة الإمام الغزالي) فقد بدأت اليقظة الإسلامية من خلال جمال الدين ومحمد عبده على نحو شبيه بمفهوم الاعتزال وعلم الكلام وهو الخيط الذي التقطه فريد وجدي وإقبال والعقاد والذي جاء المفهوم القرآني ليعلن أن مرحلة جديدة من مراحل الأصالة قد دخلت على الدعوة الإسلامية وكان حامل لوائه هو حسن البنا.
وكان الشيخ مصطفى صبري في كتابه (موقف العلم والعالم من رب العالمين) قد واجه هذا التيار الذي ظهر واضحًا في الكتابات الإسلامية التي كتبها فريد وجدي والعقاد وهيكل – وهي كتابات اعتمدت المنهج الفلسفي بحسين نية ومن هنا أصابها كثير من التغيرات.(3/4)
وكانت الدعوة الإسلامية قد دعت إلى التماس منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العمل، وأسلوبه في الدعوة وكتب سيد قطب عن هذا الاتجاه من بعد في كتابه (التصور الإسلامي) وناقش اتجاه محمد عبده في التفسير، كما ناقش اتجاه العقاد دون أن يشير إليه صراحة.
وهذا لا يمنع من القول بأن جمال الدين الأفغاني، هاجم اتجاه أحمد خان في كتابه (الرد على الدهريين) وأشار إلى أن اتجاه أحمد خان كان له أثره في ظهور القادبانية وخاصة الفكرة الخاصة بإلغاء الجهاد.
وإذا كان الشيخ مصطفى صبري قد كشف أخطاء كتاب السيرة العصريين في شأن معجزات النبي (فريد وجدي وهيكل) فإن الشيخ مصطفى عبد الرازق وتلاميذه (علي سامي النشار) قد كشفوا عن أصالة الإسلام ورد الفلسفة الإسلامية إلى المعلم الأول: الإمام الشافعي وكتابه (الرسالة) الذي وضع فيه منهج علم أصول الفقه.
وكذلك فقد كشف محب الدين الخطيب عن خطط التبشير بترجمة كتاب للغارة على العالم الإسلامي وتابعه بعد سنوات الدكتور عمر فروخ والخالدي خبايا التبشير والاستعمار في كتابهما المعروف.
كذلك كشف مالك بن نبي مخططات التغريب وأساليبه وتابعه محمود محمد شاكر في كشف سموم لويس عوض، والدكتور محمد محمد حسين الذي كشف عن كتابات ول ديورانت وغيره من اليهود.
وتكشفت في هذه المرحلة كتابات كثيرين ممن وضعوا في صفوف الرواد، تكشف رفاعة الطهطاوي الذي رفع الماركسيون من قدره لأنه دعا إلى الإقليمية المصرية والذي كان تابعًا من أتباع النفوذ الغربي كشف ذلك محمود محمد شاكر حين قال عنه في كتابه (رسالة في الطريق إلى ثقافتنا):(3/5)
"أي صيد سمين تلقفه المستر جومار بخبرته وحنكته وتجربته وبصره النافذ، فتى ناشئ في قلب الأزهر، رآه مفتونًا بالأرض التي وطئتها قدمه، لم ير مثلها من قبل، رآه مقبلا بأقصى عزيمته على تعلم الفرنسية، معجبًا بها وبأهلها كل الإعجاب فأخذه (جومار) من قريب فكان له صيدًا إلى حين، ولم يكد حتى أخذ المسيو جومار بناصيته، وأسلمه لطائفة من المستشرقين يصاحبونه ويوجهونه وعلى رأسهم أحد دهاقين الاستشراق الكبار ودهائه وهو البارون سلفستر دي ساسي فاستغلوه أبراع استغلال، وصبوا في أذنه وطرحوا في قرارة قلبه معاني وأفكارًا قد بيتوها ودرسوها وعرفوا عواقبها وثمراتها وأعرض عنه وسارع ينجو بحياته الجديدة من خطاطيفه التي تلاحقه، إلخ".(3/6)
هذه حقائق كان يجب على حركة اليقظة الإسلامية أن تكشفها فقد اعتصم التغربيون بما يسمى (الرواد وأساتذة الجيل والعميد) وكلها مصطلحات كاذبة مضطربة في سبيل تثبت قواعد التغريب للتي أرساها هؤلاء والتي أصبحت في المرحلة التالية عقبة أمام مفاهيم الأصالة الإسلامية فكان لابد من كشف حقيقة هؤلاء الشوامخ وإعادتهم إلى حجمهم. إن هناك أسماء كثيرة لمعت في ظلال صلوه التغريب وطغيان السياسة وأصبحت تستخدم كمحاولة لبديل للأصالة كذلك فقد كان لابد من كشف الأسماء التي لمعت في التاريخ القريب سواء من تاريخ العصور السابقة أو غيرها وفي مقدمة هذا كله، تلك الجولة الخطيرة التي أطلق عليها ترجمة الفكر اليوناني وأبطاله (الفارابي وابن سينا وغيرهما) ومترجميها الذين أدخلوا عليها زيوفًا وأخضعوها لمفهومهم المسيحي أمثال (حنين بن إسحاق وجماعته) وكان لابد من كشف موقف (المأمون) هذا الموقف الخطير الذي آزر فيه الفكر الدخيل على مفهوم السنة حين حمل لواء السياسة والحكم في سبيل الدعوة إلى فتنة (خلق القرآن) وساق علماء المسلمين وفي مقدمتهم الإمام أحمد بن حنبل للامتحان الشديد، هذا كله يجب كشفه وتصحيح الموقف منه، كذلك في القريب يجب تصحيح موقف الكواكبي ومحمد علي اللاهوري (خليفة القادياني) بالإضافة إلى رفاعة الطهطاوي.
ولنعرف أن هذا ليس هدمًا لم يسمونهم الشوامخ ولكنه تصحيح للموقف فإن هناك عشرات من أعلام الإسلام الأصلاء في العصر الحديث يقفون في الظل منذ أكثر من خمسين عامًا لأن الصحف التي يتصدرها المغربون تحول دون تكريمهم أو وضعهم في مكانهم الصحيح. إننا لا نهاجم هؤلاء أصحاب الأسماء اللامعة ولكن نقول لهم مكانكم فإن هناك من الأصلاء من يقفون في الظل وهم الأحق بمكان الصدارة.(3/7)
لقد كان هؤلاء جميعًا بلا استثناء أولياء للنفوذ الأجنبي والاستشراق ولولا ذلك فأمكن لهم من إعلاء مكان الصدارة في مجال الصحافة والثقافة. ولقد كان طه حسين ومن مضوا معه على هذا الطريق أولياء للثقافة اليونانية التي هي علم الأصنام وكانوا يدعون في افتنات غريب بأن المسلمين قبلوا هذه الثقافة ولو دروا لعرفوا أنهم رفضوها ودحضوا سمومها منذ اليوم الأول، وقد وقف هذا الموثق كثيرون في مقدمتهم الشافعي وابن حنبل والغزالي وابن تَيْمِيَّة وابن جزم وغيرهم.
ولقد لقي هؤلاء الأعلام من الاستشراق نكرًا وتجاهلا ومحاولة لإلباسهم كثيرًا من الشبهات لتقليل قدرهم في نظر أمتهم.
لقد كان عملهم واضحًا: إنكار فضل الصحابة واتهامهم في الفتنة الكبرى وتجاهل قادة الفكر الإسلامي فليس غير الأوربيون واليونان قادة الفكر كما كتبه طه حسين وكان مقررًا على المدارس.
وعلى طريق طه حسين سار زكي نجيب محمود ولويس عوض وعبد الرحمن الشرقاوي وحسين فوزي وسلامة موسى والأجيال الجديدة من المغربين الذين يمزجون بين العلمانية والماركسية.
... ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(3/8)
48 – الفن
###187### يقوم المفهوم الإسلامي للفن على استحالة التناقض مع الفطرة فإذا كانت الفنون من روح الفطرة وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة: دين الإسلام في شيء فإذا خالفت الفنون الدين في أصوله ودعت صراحة أو ضمنًَا إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لمحاربتها وعاقت الإنسان أن يعمل بالفضائل التي جاء الدين لإيجابها على الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح، إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق وأخطأت الفطرة التي فطر الله عليها الناس والخلق (محمد أحمد الغمراوي).
###188### ومفهوم الفن في الإسلام يقوم على أساس أنه عنصر من عناصر الفكر يتكامل مع الأدب والاجتماع والأخلاق والدين والحضارة، وهو في - ابن الأثير ، العز : أسد الغابة له طابعه الأصيل الواضح المباين لمفهوم الفن في الثقافات والحضارات الأخرى، وقوامه الأخلاق وطابعه التوحيد، يتسامى بالغرائز ويرتفع بالنفس الإنسانية إلى الكمال دون أن يبعد عن الواقع – والفن في نظر الإسلام أداة تجميل الحياة ووسيلة الإسعاد الروحي والنفسي بتحرير الإنسان من عالم الأهواء والغرائز وإطلاقه في نظرة حرة إلى الكون والوجود يعرف فيها قدرة الله وعظمته ويزداد بها إيمانًا.(4/1)
وقد كان الفن اليوناني بطابعه المادي الوثني يجعل الأولوية للتماثيل المجسمة، إعجابًا بالأجساد وعبادة لصور الجمال ومظاهر القوة ولكن الفن الإسلامي مستمدًا من مقوماته الأساسية يجعل البيان والشعر والأدب في مقدمة قائمة الفنون، الكلمة البليغة والفكرة الموحية، وذلك انتقالاً من عالم المادة إلى عالم الفكر، فالتأمل أوسع العوالم، والتفكر في لق الله أعظم معطيات العقل والروح: [نون والقلم وما يسطرون] وبذلك أصبح رائد الفن: البيان الذي يتمثل في أسمى صورة بالقرآن الكريم وبذلك دفع الإسلام الفكر ###189### البشري إلى الأمام انتقالاً من مفهوم الماديات في الفن إلى مفهوم المعنويات، وسلك المعنويات والماديات في إطار جامع متكامل، وبذلك فقد حرر البشرية من مفهوم المادية الخالصة التي تقدس الجسد والشهوات والغرائز والوثنيات وتقيم لها المهرجانات والطقوس. ودفع البشرية إلى الانتقال من تجسيد البطولة في صورة مادية إلى تكريم عمل الإنسان نفسه.
وأبرز سمات الفن في الفكر الغربي لا تجد في مجال الفكر الإسلامي مجالاً لها.
أولاً: المسلم لا يعبد الجسد الجميل عبادة وثنية بحيث تقدم له القرابين وكل ما يتصل بذلك من أساطير الحب والجمال عند الإغريق وهي حافلة بالمباذل لا تجد في أفق المجتمع الإسلامي قبولاً.
ثانيًا: الإسلام لا يقر الصراع بين الآلهة والإنسان أو بين القدر والإنسان، على النحو الذي يقوم عليه الفن الغربي، ولا يؤمن المسلم بأن الإنسان يثبت ذاته بمصارعة القدر والآلهة ولا بأن البطل الصالح يتحطم على يد القدر والآلهة وكل هذه المعاني المأسوية مستمدة من فكرة "الخطيئة" الأصلية.
ثالثًا: المسلم لا يؤمن بتعدد الآلهة ولا تجسيد الإله في ###190### صورة وثن حسي ملموس كالتماثيل العديدة في العقائد الغربية. في ذلك الخلط العجيب بين المسيحية والهلينية.
رابعًا: المسلم لا يؤمن بعبادة الطبيعة أو المحسوسات.(4/2)
ومن هنا فإن مفهوم الفن في الإسلام محرر من كثير من هذه القيم التي يقوم عليها الفن الغربي والتي تتعارض أساسًا مع الإيمان بالله الواحد.
2- كذلك فإن الإسلام لا يقر تجسيد في صورة مادية، ليس فقط حفاظًا على مفهوم التوحيد من حظر الاتصال بالتماثيل والأصنام التي كانت تمثل عبادات ما قبل الإسلام. ولكنه ارتفاع بالنفس الإنسانية من أن تتمثل في مفهوم مادي، بينما جاء الإسلام محررًا للبشرية من التجزئة بين الماديات والمعنويات.
والفنان المسلم له طابعه المبدع متحررًا من الخضوع للمذاهب الوثنية التي تقول بتقليد الطبيعة أو التفوق عليها ولذلك فهو قد طرق آفاقًا أخرى غير هذه الآفاق، في التعبير عن المعاني فأوجد أنواعًا من الخطوط والدوائر والزخارف والوحدات المتشابكة والمتداخلة.
قد أبدع الفن الإسلامي في مجال رسوم الحيوان ###191### والطير، وتصوير الأحياء، وغزا الفنان المسلم جميع فروع الفن الإسلامي من مخطوطات وأخشاب وعمارة وزجاج ومعادن وعاج وزخرف ومنسوجات كما زينوا كتب العلم والأدب والدين والتاريخ بصور تفسر بعض ما تتضمنه من بحوث وأحداث وقد خلق الفنان المسلم من الحروف العربية ذات الأشكال المتباينة والأوضاع المختلفة طرازًا زخرفيًا يتمثل فيه الجمال والقوة، وأقام فن "الرقش" أو الأرابسك على وحدات متناسقة على نحو غاية في البهجة والرونق الجميل.(4/3)
وهكذا حقق الفن الإسلامي مذهبًا جديدًا مستمدًا من حقائق الإسلام، فكان فنًا منطلقًا وتجريديًا معبرًا وليس جامدًا، وأن المرقشة يحيى الفن الإسلامي حيث لا مبدأ لها ولا منتهي، إنما تمثل مفهومًا من مفاهيم التوحيد لأنها تسعى وراء الله الذي هو الأول والآخر ومنه تنتهي الأسباب وإليه تنتهي المسببات والرقش حين يمتد بال نهاية إنما يسعى وراء الصورة المثلى وهذه اللانهائية إنما تحمل دلالات هامة للروح الإسلامية التي آمنت بالله غير المنظور وغير المحدود وإليه اتجهت قلوب المؤمنين لترتفع إلى مستوى هذا المثل الأعلى عن طريق العمل الصالح أو طريق الاجتهاد والإبداع (بتصرف عن بشر فارس ومحمد عبد العزيز مرزوق).
###192### وينطلق الفن الإسلامي من مفهوم الفكر الإسلامي الذي يرتكز إلى حد بعيد على القاعدة والعقل ويبتعد عن "الهوى والأسطورة والارتجال"، ولقد كان قبول الفن الإسلامي لنظام التوحيد مصدر المحافظة على الوحدة والمتانة والشخصية وبقيت بذلك الروح الإسلامية هي المنبع الأساسي للمصادر الجمالية والدلالات العميقة للمشاعر المبدعة.
3- وقد شهد جوستاف لوبون وبرجسون وهاملتون جيب على أن الفن الإسلامي يحمل شخصية مستقلة متماسكة جديرة بالإعجاب، وأن الحد الذي وقف عنده الفن الإسلامي في إبراز عملية الخلق هو حد "الإسلام" الذي جاء على مبدأ التوحيد ولذلك فهو يرفض كل شريك لله في قدرته الخالقة.
وقد أشار الباحثون إلى أن الخط في الفن الإسلامي كالكلمة في الشعر يسير وفق تأثير داخلي في الرسام، فكما أن الشاعر يستعمل الكلمة حسب وزن الشعر وقافيته، كذلك الرسام المسلم يكيف الشكل وفق صيغة موزونة موفقة وبخطوط لينة منسابة بانتظام تشكل تناظرًا مضطردًا بحركة ###193### دائمة لا تقف عند حد، واللون في الفن الإسلامي مرتبط بروح الأمة وبمناخ الحياة التي تعيشها.
(2)
يتميز الذوق الإسلامي بعدة ملامح لها أثرها في الفن الإسلامي:(4/4)
المسلمون لم يخلقوا من الحجارة ما خلقته الأمم الأخرى من فراعنة ورومان من تماثيل وهياكل وأوابد الحضارة الإسلامية لم تسجل بالصخور بل بالأعمال الحية. كتب رجل إلى عمر بن عبد العزيز: يستأذنه في أن يبني لمدينته سورًا. فقال عمر: حصن مدينتك بالعدل. وتمثل الهياكل الرومانية والأهرام، في ظل مفهوم العبودية المرير الذي تحطمت فيه مناكب البشر تحت أثقال الصخور. ولذلك فإن العرب أخذا من هذا المفهوم لم يتعلقوا بالآثار الضخمة وإنما تعلقوا بالأطلال التي تحمل ريح الأحباب، وفن العمارة الإسلامي لم يتعلق بالضخامة مثلما تميز بالجمال والرقة، والذوق العربي لم يتعلق بالتصوير كفن من الفنون الجميلة، لأن الروح العربية (العميق الاستمداد من الحنيفية الإبراهيمية إلى الإسلام في عصر محمد) لا تميل إليه كفن يمسح الأشكال الحية الجميلة بحيويتها ويحيلها إلى صور جامدة. وأن الفن الذي تعلق به العرب هو "الشعر" لأنه أرضى نزعتهم في الحيوية والاستثارة والموسيقى امتداد للشعر، وحضارة المسلمين والعرب حضارة أعمال خالدة لا آثار خالدة، وفنونهم فنون عواطف جياشة لا فنون أخيلة جامدة (عبد السلام العجيلي بتصرف).
2- والفن الإسلامي لا يهدر كرامة الفرد ولا يهدر حق الجماعة، ومن النقوش الكثيرة في الإسلام إذا ما نظرت إلى الجزء الصغير وجدت له ذاتيته ووجوده وحدوده ولكن في نفس الوقت يمكن أن يكون جزءًا في كل كبير، وذلك أن الإسلام كما يخدم الجماعة يخدم الفرد، ويوجد هذا التناسق في مجتمعنا الحي بين الفردية والجماعية، كما يوجد في الفن بين الجزء الصغير والجزء الكبير احترام الإسلام للفرد واحترام الإسلام للجماعة في القرآن (عبد العزيز كامل).
(3)
يرفض الإسلام: النقل المباشر عن الطبيعة وهو ما يطلق عليه في الفن الغربي "المحاكاة".
"فقد قرر الإسلام وأكد التحريم القاطع للنقل المباشر عن الطبيعة، ذلك النقل الفج الذي يعيد نسخ المخلوقات ###194###
###195###(4/5)
###196###
###197###
###198###
###199###
###200###
###201###
###202###
###203###(4/6)
عقيدة الكاتب المسلم
الأستاذ أنور الجندي
تتمثل عقيدة الكاتب المسلم الفكرية في إيمان صادق عميق يتكامل الإسلام وقصور المفهوم الوطني والقومي والأدبي، ويتكامل المواجهة، ليست الماركسية وحدها ولكن الفكر الوافد جملة.
وتقرر هذه النظرة خطر المفهوم الجرئي والانشطاري الذي تنطلق منه النظريات الوافدة وكل منها يتوقف عند بعد من الأبعاد لا يتعداه بينما يستقطب المفهوم الإسلامي جميع الأبعاد: من حيث الزمن واختلافه ومن حيث البيئة وتنوعها ومن حيث جمع العناصر كلها في منظومة واحدة متكاملة.
كذلك فإن مهمة الكاتب المسلم: هي جزء من مهمة الدعاة إلى الله عليهم أن يحرروا الشخصية الإسلامية من التبعية بكل صورها وألوانها والتوصل إلى تأسيس وتأصيل مدارس واتجاهات إسلامية تسعى وتستوعب العلوم الحديثة وتفرغها في إطار إسلامي، وتعمل على تأصيل الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.
ومن عقيدة الكاتب المسلم الإيمان بأن حركات التحرر من الاستعمار في العصر الحديث لم تنجح إلا عندما ارتكزت على الإسلام، وقد انتصر المسلمون في كل معارك الغزو بالمفهوم الإسلامي لا بالمعنى القومي وكل قضاياهم التي عالجوها بالمفهوم الوطني أو القومي لم تحقق نجاحاً.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: الإيمان بأن لإنهيار الأمم أسباباً كثيرة من أخطرها قطع الصلة بالماضي (التاريخ)؛ أو قطع الصلة بما وراء الطبيعة (الغيب)، أو قطع الصلة بالمجتمع، فإذا انقطعت الصلة بواحدة من هذه جاء الخوف والقلق والتمزق. وإن علاقات الإنسان بربه وبنفسه وبالكون وبالناس هي مصدر قوته وأصالته.(5/1)
ومن عقيدة الكاتب المسلم: الإيمان بأن الحياة ليست منفعة أو مادة ولكنها جماع المعنويات والماديات وإن الإنسان تحركه إرادة حرة ولكنها حرية غير مطلقة لأنها تتحرك داخل إرادة الله. وإن الكون قوانين ثابتة وسنن طبيعية ولكنها تخضع للمعجزة الإلهية وإن الله تبارك وتعالى قادر على نقض هذه القوانين متى شاء وإيقافها متى أراد. وأن في الفكر عقلانية ولكنها ليست كل شيء فهناك الوجدان، وإن هناك مادية ولكنها ليست كل شيء فهناك الروح، وإن حرية الإنسان مقيدة بالضوابط الأخلاقية والمسئولية الفردية التي أقامها الدين، وهناك ضوابط وحدود، والاقتصاد عامل مؤثر في مجرى التاريخ ولكن ليس الأكبر أو النهائي أو الوحيد.
ومن عقيدة الكاتب المسلم أن الفكر الغربي قد سيطرت عليه الفلسفة الماديوة فأصبح لا يعني بالروح أو المعنويات وأصبح انشطارياً غير متكامل، وأن حضارة الغرب تمر الآن بمرحلة الأزمة فقد عجزت عن أن تعطي سكينة النفس وأن الفكر التلمودي أصبح الآن مصاغاً في مناهج وفلسفات منها الوجودية والفرويدية والماركسية ومدرسة العلوم الاجتماعية وأن فردريك ودوركايم وسارتر وماركس يمثلون سيطرة التلمودية على الفكر البشري.
ومن عقيدة الكاتب المسلم التفرقة بين الشريعة الإسلامية وتاريخ الإسلام فهذه هي رسالة السماء وتلك هي تجربة الإنسان في محاولة إقامة المجتكع الرباني على الأرض، والتفرقة أيضاً بين التقاليد والأخلاق فالتقاليد من صنع المجتمع والأخلاق جزء من الحقيدة المنزلة. والتفرقة بين الأصيل والوافد، بين الفكر الرباني والفكر البشري الواقع في الوثنية والمادية والإباحية.
ومن عقيدة الكاتب المسلم أن يواجه ثلاثة تحديات خطيرة في المجتمع الإسلامي:
الأول: التحدي المنبعث من واقع المسلمين: الجمود والجبرية وكتب البدع والخرافات.
الثاني: التحدي المنبعث من الغزو الفكري والتغريب والشعوبية.(5/2)
الثالث: التحدي المنبعث من الهزيمة النفسية إزاء إباحيات الحضارة.
وأن يؤمن بأن هدف التغريب (في خدمة النفوذ الأجنبي والشيوعية والصهيونية) هو هزيمة العقل الإسلامي بإذاعة الإلحاد وتعويض المجتمع والأسرة بنشر الإباحية وخلق مركب نقس في أعماقنا يشعرنا بالهزيمة إزاء حضارته المادية وأن يستقصي أنفسنا كاملة لها تراثها وتاريخها وعقيدتها التي تتميز على كل العقائد والقيم بأنها وبائية المصدر وأنها سبيل الرشاد والهدي إلى الحق.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: رفض التطور على حساب الأصالة ورفض التقدم على حساب التفريط في الجذور والقيم الإسلامية، كما رفض تضحية القيم العليا في سبيل التقدم المادي وأن الإسلام لم يخضع مفاهيمه للحضارات وأهواء الأمم ذلك أنه ليس في المناهج والدعوات والإيديولوجيات المطروحة من شيء إلا وعند المسلمين في ميراثهم وتراثهم نظيره وخير منه وهو في الغرب مقطوع الصلة بالله ولكنه في الإسلام متصل الحلقات، هو في الغرب انشطاري ولكنه في الإسلام جامع متكامل.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن المحاولات التي ترمي إلى استقطاب المسلمين واحتوائهم في إطار الحضارة الغربية التي تمر بأسوأ مراحلها والتي يصرخ أهلها طلباً للتحرر منها هي محاولات باطلة غاشة زائفة، فقد كان موقف الإسلام على مدى تاريخه وحياته واضحاً أنه لا يحتوي ولا ينصهر ولا يبرر الواقع الفاسد ولا يؤول ثوابت نصوصه لخدمة الحضارة الزائفة.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن إنطلاق المسلمين على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتم دون الارتكاز على قاعدة أساسية تكون هي المصدر والمنطلق. منها نقطة البداية وإليها نقطة النهاية.
هذه القاعدة ليست سوى المنهج الأصيل الذي قدمه الإسلام لبناء المجتمع وعلى هذه القاعدة تقوم الثقافة ويقوم النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتربوي.(5/3)
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن من طبيعة الإسلام الحسم والثبات وأنه لا يفسح مجالاً لأنصاف الحلول ولا اتفاق مع أعداء الإسلام على حساب المبدأ ولا قبول للتبعية ولا استسلام للاحتواء في إطار الأممية العالمية وإنما يطالب الإسلام المسلمين بتغيير وسائلهم وتحسين أساليب معيشتهم من وقت لآخر داخل الإطار العام لمبادئه الأساسية ولمواجهة الظروف دائمة التغيير في العالم المتطور إيماناً بأن هزائم المجتمعات الإسلامية هي نتيجة انحرافها عن الإسلام.
ومن عقيدة الكاتب المسلم: أن كلاً من التجربتين الغربية والشيوعية مرفوضتان في أفق المجتمع الإسلامي وأن التجربتين كانتا لمجتمعين مختلفين عن مجتمع الإسلام وإن الماركسية ما هي إلا جزء من نظام غربي وأنها رد فعل لواقع الرأسمالية الغربية التي عجزت عن إقامة مجتمع سليم وإن كلا الرأسمالية والماركسية من مصدر واحد قوامه سيطرة الربا على الاقتصاد العالمي.
وأن الفكر الغربي محاضر الآن بثلاث نظريات: هي النظرية المادية والدوافع الاقتصادية والدوافع الجنسية وأهواء الوجودية وكلها تحتقر الإنسان احتقاراً شديداً، وهناك الجبرية التي تريد أن تخلي الإنسان من المسئولية الفردية وتلقي هذه المسئولية على المجتمعات.
وتلقي هذه النظريات على المجتمعات الغربية طوابع المتع الحسية والنهم والقسوة والحقد والبغض والاهتمام بالكم وتضحية النوع والكيف وأن ذلك كله يقوم في نظام مفهوم مادي خالص.(5/4)
على المفكر المسلم أن يكون على إحساس واع بالنوافذ والأبواب الخارجية وما يهب على المسلمين منها من رياح وتيارات وأن لا يغلق الباب عليه ويظن أنه أصبح في مأمن وأن لا يمنعه قضاء قضاه أو رأي ارتآه في يومه ثم هدي إلى الحق فيه أن يعود إلى الحق وأن يواجه الأمور والقضايا في أسلوب الإسلام الجامع، واقعياً في دراسة المشكلات والقضايا متكامل النظرة في علاجها يجمع بين المثالية والتجريبية، بين خطرة الفكر ونفثة الروح بين العقلانية والوجدانية ويجب أن يعي بأن هناك أفكاراً دخلت على المسلمين من شأنها أن تحطم الشخصية أو تدمر الأسرة هي أفكار عبادة الحياة واللذة والضور المعلقة فوق السرر.
وليعلم أن أعلى درجات الرقى والثراء والغنى هي أعلى درجات التمزق والانتحار والغربة وأن المجتمع المتحضر الآن في ذروته يعكف على الموبقات والمخدرات أو الانتحار ويواجه أزمة النهاية ليفسح مكانة لتجربة أخرى.
وعلى المفكر المسلم أن يؤمن بأنه لم يخلق ليندفع مع التيار ويساير الركب البشري حيث سار بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والحضارة ويفرض عليهم مفهوم لا إله إلا الله وأن يوقن بأن النظرة الإسلامية هسي النظرة الجامعة التي لا تقف عند الجانب المادي أو الدنيوي في أي تجربة من تجارب الحياة فهي تجمع العصر والعلم والتحضر والأخلاقيات بمقياس لذلك كله وميزان وأن يعلم بأن الجسم الإسلامي ما زال يرفض العضو الغريب وأن الكيان الإسلامي ما زال يرفض الجسم الغريب.(5/5)
وعلى المفكر المسلم أن يؤمن بأن من أخطر المحاولات التي تجرى هي ضرب الإسلام بالإسلام أو ضربه من الداخل أي ضرب الإسلام الأصيل ببعض الفرق الضالة والطوائف الدخيلة مثل القاديانية والبهائية وكلها تتلقى التوجيه والمعونة من المستعمرين والمبشرين واليهود هذه الفرق التي تشرع لإتباعها من الدين ما لم يأذن به الله مستغلة اسم الإسلام لهدم الإسلام ولقد خدعت هذه الفرق بعض كتاب الإسلام وظنوا أنها من علامات اليقظة والنهضة.
وبعد: فإن هناك قدراً ضخماً من المعلومات والأفكار والأخبار تطرح يومياً في أفق المجتمع الإسلامي عن طريق الصحافة والإذاعة والكتب المترجمة أو دور الإعلام المختلفة، هي وجهات نظر متراكمة لمجتمعات أخرى فيها مادة نافعة قليلة وفيها زيف كثير فكيف يكون موقفنا منها نحن. الكتاب المسلمون والصحفيون المسلمون.. وهي تمثل وجهات نظر تختلف الأغلبية وتتعارض في الأكثر مه مفاهيمنا الأساسية وقيمنا الثابتة، ذلك لأن كل ما يطرح من خبر أو فكر إنما يشتمل على جزئين متداخلين.
حقيقة ما هي عبارة عن خبر ووجهة نظر أو تعليق أو تحليل لهذه الحقيقة تمثل رؤية الذين بثوا هذا الخبر. ونحن نعرف أن هناك غرابيل دقيقة جداً لا تنفذ منها الأخبار حين تبث في العالم الثالث إلا وهي مطعمة بوجهة نظر الصهيونية أو النفوذ الأجنبي أو الشيوعية فكيف يكوون موقفنا نحن المسلمين من هذا الإعصار الضخم المدمر الدائم المستمر يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة.
لقد علمنا الإسلام أن نقف من المعرفة المعروضة علينا موقف اليقظة والحذر: وأن نتعرف عليها في ضوء قيمنا وعقيدتنا وأن نفررق بين العلوم وبين الثقافات، وبين المعارف النافعة والمعارف الضارة من لهو الحديث ليضل الناس بغير علم.(5/6)
ونعرف أن هذه المحاولة في طرح معلومات بوجهات نظر تختلف عن وجهة نظرنا إنما تهدف إلى احتوائنا والسيطرة علينا وإدخالنا في دائرة الأممية. ومن أجل هذا فإن علينا أن نفرق تفرقة واعية ودقيقة وعميقة بين وجهة نظر الإسلام في كل الأمور وبين وجهة نظر الفكر الغربي بشقه على أساس أصيل ثابت: هو أنا نقوم على أمانة الفكر الرباني القائم على التوحيد الخالص والرحمة والعدل والإخاء الإنساني وأن ذلك الإعصار الجائح الذي يتحرك نحونا هو من الفكر البشري القائم على المادية والعلمانية والوثنية.(5/7)
كتب مرتجعة من دار الاعتصام بتاريخ 22 / 8 / 2002 م – جدول نهائي
مسلسل
اسم الكتاب
العدد
ملاحظات
1
مدخل إلى القرآن
175
عدد الكراتين = 9
إجمالي عدد الكتب = 1155 كتاب
2
مدخل إلى القرآن
150
3
مدخل إلى القرآن
140
4
مدخل إلى القرآن
145
5
مدخل إلى القرآن
30
6
مدخل إلى القرآن
145
7
مدخل إلى القرآن
75
8
مدخل إلى القرآن
150
9
مدخل إلى القرآن
145
10
قراءة إسلامية لتاريخنا الحديث
175
عدد الكراتين = 5
إجمالي عدد الكتب = 992
11
قراءة إسلامية لتاريخنا الحديث
210
12
قراءة إسلامية لتاريخنا الحديث
207
13
قراءة إسلامية لتاريخنا الحديث
200
14
قراءة إسلامية لتاريخنا الحديث
200
15
مصابيح العصر والتراث
30
عدد الكراتين = 5
إجمالي عدد الكتب = 425
16
مصابيح العصر والتراث
35
17
مصابيح العصر والتراث
120
18
مصابيح العصر والتراث
120
19
مصابيح العصر والتراث
120
الكتب المرتجعة هي:
مدخل إلى القرآن: إجمالي عدد الكراتين 9 وإجمالي عدد الكتب 1155.
قراءة إسلامية لتاريخنا الحديث: إجمالي عدد الكراتين 5 وإجمالي عدد الكتب 992.
مصابيح العصر والتراث: إجمالي عدد الكراتين 5 وإجمالي عدد الكتب 425.(6/1)
سلسلة على طريق الأصالة
43
ماذا حققت حركة اليقظة في القرن الرابع عشر الهجري
حققت حركة اليقظة الإسلامية في القرن الرابع عشر عددًا من الانتصارات التي غيرت مجرى المجتمع الإسلامي تغييرًا جذريًا وأعدته لاستقبال خطوات أكثر إيجابية على طريق الله تبارك وتعالى في خلال القرن الخامس عشر، هذه الخطوات والانتصارات يجب أن تكون موضع نظر ودراسة وتقدير الفاحصين لتطور هذه الأمة نحو الأصالة ونحو تحقيق رشدها الفكري وتحررها من أغلال التبعية والتقليد والاحتواء والإذابة الذي عمد النفوذ الأجنبي علي تحقيقها في محاولة لصهرها في أتون الأممية العالمية حتى يضيع طابعها الخاص وذاتيتها الربانية القائمة بالتوحيد الخالص منذ أربعة عشر قرنًا لتكون مؤهلة لجعل البشرية على الحق وإضاءة طريق الله تبارك وتعالى أمامها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولنذكر أن النفوذ الأجنبي الذي فرض على المسلمين في القرن الثالث عشر الهجري والذي امتد إلى اليوم في صور مختلفة منها الاستعمار والحماية والوصاية والتبعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية في مراحل مختلفة من القرنين الثالث عشر والرابع عشر هو نوع فريد من التحدي الذي يختلف اختلافًا واضحًا وعميقًا عما سبقه من مؤامرات الاحتواء والسيطرة التي عرفت أبان حملات التتار والحروب الصليبية، ومؤامرات الشعوبيين والزنادقة فإن أخطر ما حدث في هذه الحملات الاستعمارية الأخيرة هو أن النفوذ الأجنبي قد أجلى المسلمين عن منهجهم السياسي والاجتماعي والتربوي بأن فرض عليهم نظمًا وافدة، حملهم عليها حملا وكان مدخله إلى ذلك هو تغيير هوية التربية والتعليم وفرض أنظمة تعليمية مدخولة كونت أجيالا رفعها النفوذ الأجنبي وحماها وسلم إليها مقاليد الأمور وضمن حين أنهى وجوده السياسي والعسكري أنها ستمضي على الطريق.(7/1)
ولكن الأمر لم يمضى كما ظن النفوذ الأجنبي ورجاله من دعاة التغريب والغزو الثقافي فإن حركة اليقظة الإسلامية سرعان ما اشتد عودها وأصبحت قادرة على كشف الزيف والرد على الاتهامات ودحض الشبهات بما أعاد اعتبارها في نظر الأجيال الجديدة التي حاول التغريب خداعها والتغرير بها لتنظر إلى أمتها وعقيدتها ولغتها ودينها وشريعتها نظرة الاستشراق والتغريب التي روج لها سنوات عديدة عن طريق المدرسة والصحيفة والثقافة الوافدة.
ومن أهم الحقائق التي تعد انتصارًا في هذا المجال:
أولا: تصحيح المفاهيم فيما يتعلق بالقيم والشخصيات الإسلامية فقد توالت الحملات على (ابن خلدون) و(ابن تَيْمِيَّة) و (الغزالي) بينما أزجيت عبارات التكريم والتقدير لابن سينا والفارابي والحلاج والسهرودي واستمر ذلك زمنًا طويلا، بل أن الاستشراق قد تمكن من خداع بعض المبعوثين إلى الغرب ليقدموا رسائل وأطروحات تقدم هذه الشخصيات الكريمة على أنها لا تمتلك قدرًا كبيرًا من العلم أو الفعل على النحو الذي فعله الدكتور طه حسين في رسالة عن (فلسفة ابن خلدون الاجتماعية) التي قدمها واتهمه بالقصور والاضطراب متابعة لرأي دعاة المدرسة الاجتماعية الفرنسية التي كان يقودها اليهودي دوركايم والذي عاش طه حسين في حضانة فكره وتابعه في رأيه عن ابن خلدون، ويجيء اليوم من الشعوبيين من يدعو إلى إعادة بعث هذا البحث المسموم ظنًا منه أنه بحث علمي صحيح ولقد استطاع الباحثون المسلمون أن يدحضوا وجهة نظر التغريب والاستشراق والشعوبية إزاء هذا العالم الكبير الذي حظى في السنوات الأخيرة بتقدير المنصفين من الباحثين الغربيين على أساس أنه قدم ثلاثة علوم وهي: تحليل التاريخ، وعلم الاجتماع، وعلم الاقتصاد.(7/2)
وكذلك فقد كشفت الأبحاث عن فساد وجهة الفارابي وابن سينا من الناحية الفلسفية (مع تقدير دورهم في الطب والعلوم) أما في الفلسفة فقد تبين أنهما كانا تابعين لمدرسة المشائين اليونانية وأنهما خضعا لمفاهيم الفلسفة اليونانية التي يقودها أرسطو وأفلاطون عن فكرهما لا يمنع مفهوم الإسلام الحقيقي وإن مفهوم الفلسفة اليونانية الذي قدماه قد رفضه الفكر الإسلامي الذي يقوم على مفهوم التوحيد الخالص.
كذلك فقد تكشف مفهوم (الحلاج) و (السهرودي) في الفكر الذي قدمه بأنه لم يكن من الفكر الإسلامي الأصيل ولكنه كان مفهومًا زائفًا استوحياه من الأفلاطونية التي كانت تمثل فكرًا مسيحيًا ويهوديًا ممتزجًا قبل الإسلام.
وكذلك انكشفت أهداف الاستشراق والتغريب وحوصر الاستشراق بعد أن انكشفت سمومه.
(2)
ثانيًا: عظمة الشريعة الإسلامية: والكشف عن مقاصدها الحقيقية، وقد جاء هذا بعد أن سيطر النفوذ الأجنبي على العالم الإسلامي بالقانون الوضعي وحجب تطبيق الشريعة الإسلامية والاقتصاد الإسلامي لأول مرة بعد قرون من قيام هذا المنهج في عالم الإسلام، وكانت تلك الدعوى العريضة التي حاول بها كرومر ولافيجري وغيرهما من قراصنة الاستعمار تشويه هذه الشريعة بالادعاء بأنها شريعة صحراوية متأخرة عفا عليها الزمن، فإن بعضًا من الأبرار من المسلمين المثقفين الذين قصدوا إلى الغرب وحملوا معهم رسائل عن الشريعة الإسلامية إلى جامعاتها فأثاروا مشاعر علماء القانون الغربيين الذين اعترفوا بفضل هذه الشريعة وعجبوا لعجز المسلمين عن تطبيقها. قد توالت هذه الاعترافات عن طريق مؤتمرات للقانون العالمي التي عقدت سنوات 1946، 1952م وبعدها اعترفت فيها جماعات رجال القانون العالمي بأن الشريعة الإسلامية هي شريعة مستقلة ذات كيان خاص تختلف عن القوانين الرومانية وأن لها جوانب غاية في القوة تستطيع أن تسعد البشرية وجاءت شهادة الفيلسوف الايرلندي (برناردشو) غاية في الإنصاف.(7/3)
وكشف مسيو لامبير - من كبار رجال القانون الفرنسي – عن عظمة الشريعة الإسلامية، وكيف أن الفرنسيين أخذوها من مذهب مالك، وإن اختلف الرأي عما إذا كان ذلك عن طريق الحملة الفرنسية التي جاءت إلى مصر أم عن طريق الجزائر وتونس وفي نفس الوقت بدأت ظاهرة الكشف عن عظمة القرآن بأنه من عند الله وقد أيقن بهذه الدعوة كثيرون في الغرب في مقدمتهم (موريس بوكاي).
ثالثًا: استطاع الشيخ مصطفى عبد الرازق أن يعلن رأيًا جديدًا في الفلسفة، بعد أن استطرد المستشرقون الغربيون الذين قدموا هذا العلم لطلابهم في الجامعة بالقول بأن الفلسفة الإسلامية الحقيقية تبدأ من الفقه وعلم الكلام، وأن منهم الإمام الشافعي في علم أصول الفقه يعد بمثابة المنطلق الحقيقي لهذا، أما مدرسة الكندي والفارابي وابن سينا فهي لا تمثل الفكر الإسلامي الصحيح، وبذلك أعيد اعتبار الإمام الغزالي الذي حملت عليه الفلسفة الحديثة ودعاتها لأنه أوقف تيار الفلسفة في الإسلام حين أخرج كتابه "تهافت الفلاسفة"، وكشف عن زيفهم في ادعائهم بأن الله تبارك وتعالى لا يعلم الجزئيان أو أن المادة قديمة على النحو الذي ضللت به دراسات الفلسفة عددًا من المثقفين المسلمين، وقد انكشف زيف كتابات كثيرة كرسائل إخوان الصفا والأغاني وأبي نواس. وتبين فساد المنهج الكلامي المعتزلي والفلسفي وعلت الدعوة إلى التماس منهج القرآن.(7/4)
رابعًا: ما كشفه الدكتور محمد أحمد الغمراوي من أن ما قدمه طه حسين بدعوى إنه مذهب ديكارت باطل وزائف، وأن طه حسين لم يقدم مذهب ديكارت على حقيقته، وقد سارع الأستاذ محمود الحضيري يترجم كتاب مقالة في المنهج لديكارت ونشرتها المكتبة السلفية لتؤكد فساد ادعاء طه حسين، الذي كان يظن أن أحدًا لن يكشف خبيثته، ولقد كشفت الأبحاث في الأخير أن مذهب ديكارت مأخوذ من الإمام الغزالي ومن رسالة (المنقذ من الضلال) بل إن المرحوم الأستاذ عثمان الكعاك المؤرخ التونسي قد شاهد بنفسه في مكتبة السربون تراث ديكارت وقرأ تعليقه على رسالة المنقذ من الضلال بالفرنسية، وهو المعنى الذي توصل إليه المرحوم محمد فريد وجدي في الرد على كتاب الشعر الجاهلي عندما قال لطه حسين أن هذا المذهب: مذهب الشك حتى تصل إلى اليقين الذي يدعيه هو لديكارت هو مذهب إسلامي وأن الإمام الغزالي أول من طبقه.
خامسًا: ظل التراث الإسلامي مغمورًا، ومحجوبًا عن المسلمين، الذي دخلوا الجامعات التي قدمت لهم العلوم التجريبية والسياسية والاجتماعية على أنها علوم غربية خالصة فقد بدأت الحلقة الأولى بفرانسيس باكون على أنه منشئ العلم التجريبي حتى جاء الإنصاف من علماء غربيين أمثال درابر، وكارليل، وجوستاف لوبون. الذين أعلنوا أن (باكون) هو تلميذ المسلمين وأن مثقفي الغرب هاجروا إلى الأندلس واستمعوا إلى علماء المسلمين وأن المنهج التجريبي هو من صناعة المسلمين (جابر بن حيان وابن الهيثم والبيروني وغيرهم) ثم جاءت الدكتورة سجريد هونكه فكشفت هذه الصفحة الرائعة في كتابها (شمس الله تشرق على الغرب).
وقد تبين دور المسلمين العظيم فيما قدموه من بدايات وإضافات لعلوم كثيرة ليست العلوم التجريبية والطبية والفلكية وحدها ولكن في علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية مما يعد في نظر المثقفين (الطابق الأول) للحضارة المعاصرة.(7/5)
سادسًا: تكشف في السنوات الأخيرة مدى عظمة المخطوطات الإسلامية المجموعة عن المسلمين في مكتبات لندن وفرنسا وإيطاليا وهي تقد بحوالي مليون مخطوط، حتى لقد قيل أن تاريخ النهضة الإسلامية لا يمكن أن يكتب على وجه حقيقي إلا بعد تصوير ومراجعة هذه المخطوطات التي تتصل بكل علم وفن اشترك فيه المسلمون، والمعروف أن هذا التراث المخطوط قد سرق من مساجد المسلمين ونقل إلى الغرب تحت تأثير ورعاية القناصل الأجانب وأن الغرب قد أفاد من هذا التراث فائدة ضخمة ظهرت في عديد من نظرياته الاقتصادية والقانونية بل أنه قد حجب عن المسلمين والعرب فإن عددًا من الباحثين ذهب إلى الغرب ليسأل عن مخطوطة معينة فمنع من النظر فيها.
سابعًا: ظهرت في السنوات الأخيرة دعوة إلى الأصالة في بناء العلوم على أساس إسلامي، فظهرت دراسات عن الاقتصاد الإسلامي وعلم النفس الإسلامي وعلم الاجتماع الإسلامي بعد أن اتضح فساد العلوم الغربية وعدم تجاوبها مع الفطرة الإسلامية وحاجة المسلمين إلى تقديم منهجهم القرآني الأصيل.
كما ظهرت في السنوات الأخيرة الدعوة إلى تقنين الشريعة الإسلامية وخطت خطوات واسعة فقد قامت جماعات من الفقهاء وعلماء القانون بإعداد القوانين الخاصة بالتجارة والحدود، والردة، وكان عمداء كليات الحقوق في الجامعات العربية قد نادوا بالتخلص من هذه القوانين المتباينة في البلاد العربية والرجوع إلى الشريعة الإسلامية باعتبارها إحدى خصائص ومقومات الأمة وأهم تراثها الثقافي.
كذلك فقد رد اعتبار الشخصيات المخلصة التي ضللها النفوذ الاستعماري كالسلطان عبد الحميد وتوضحت حقائق كثيرة في تاريخ الإسلام في العصر الحديث بعد أن ظهرت بروتوكولات صهيونية وعدد من الوثائق وعرف الناس خداع وتضليل من أسمو أعلام الفكر وقادة النهضة من أمثال قاسم أمين ولطفي السيد وعلى عبد الرازق وطه حسين وجرجي زيدان وسلامة موسى.(7/6)
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(7/7)
تصحيح المفاهيم الإسلامية
الأستاذ أنور الجندي
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لتتبعن سنن من قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو عروة حجر ضب لدخلتموه".
ويقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: "إنما ستنقض عرى الإسلام عروة إذا نشأ في الإسلام من لم يعرف الجاهلية".
إن أخطر الأخطار التي تواجه المسلمين اليوم: خطر التغريب.
والتغريب هو حمل المسلمين والعرب على قبول ذهنية الاستسلام والاحتواء والتحرك من داخل دائرة الفكر الوافد (وليس من داخل عقلية الغرب نفسه) ودائرة الفكر الوافد تختلف في إنها تحشد الشيء وضده، وتسوق المذاهب المتعارضة كلها في خضم جارف (وجودية وماركسية وليبرالية وهيبية ولا معقولية) حتى تسقط النفس الإسلامية ويسقط العقل الإسلامي صريع الخلاف والاضطراب ويتشكل بالسلبية المطلقة والعدمية.
والهدف من حملة التغريب هو إخراج المسلمين من دائرة فكرهم بما يخلق شعوراً بالنقص في نفوسهم وذلك بالتأثير في النفس والمزاج والروح الإسلامي لإخراجها جميعاً من مفاهيمها ومواريثها وفرض أعراف جديدة عليها مخالفة لها في الأصل مباينة لها في الجذور.
وفي مواجهة هذا علينا أن نعرف بأن هناك عالمين منفصلين: قد يؤثر أحدهما في الآخر ولكنهما لا يمتزجان أبداً ولا يخضع أحدهما للآخر، ولا يستوعب أحدهما الآخر ولا يحتويه، هما عالم الإسلام المتميز بطوابعه ومفاهيمه وقيمه وعالم الغرب.
والفكر الإسلامي له من جذوره العميقة وأصوله العريقة ما يجعله قادراً دوماً على التماس التجدد دون أن يفقد الأصالة.
والخطر كله يتمثل في بعض المفكرين من العرب الذين يفكرون من داخل دائرة الفكر الغربي ويتحركون خارج إطار الفكر الإسلامي ومن هنا تأتي أخطاؤهم ويأتي عجز نظرتهم عن أن ترى الأفق الواسع الممتد.(8/1)
إن هناك منهجاً: لا هو غربي ولا هو إسلامي، وإنما هو منهج زائف صنعته اليهودية التلمودية الصهيونية وكشف عنه بروتوكولات صهيون قد أعد خصيصاً لإدخال العرب والمسلمين فيه، فإذا دخلوا أحكم عليهم كالسجن فلا يصلون إلى شيء لا إلى معطيات الفكر الغربي ولا إلى أصولهم الأصيلة وإنما يذوبون هكذا في غير ما أفق ويدورون في غير ما سماء.
إن مناهج العلوم والنفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد التي يقدمها لنا الغرب تنقصها إضافات، الأولى: طابع التكامل والجمع بين العقل والقلب والمادة والروح والدنيا والآخرة.
والثانية: الدور الطليعي الذي قام به المسلمون في بناء هذه المناهج يوم أن كانت موجهة إلى الحق وإلى الحق وحده وقبل أن يلتهمها الإلحاد ثم تستقطبها الصهيونية العالمية.
إن هناك محاولات جادة لتقديم ثلاثة مناهج للفكر الإسلامي تحتاج إلى يقظة ومواجهة:
ما يسمى علم مقارنات الأديان الذي يقوم بأحكام مسبقة إلى تفضيل الأسبق والأول وهذا يستهدف الانتقاص من الدين الجامع الخاتم وهو الإسلام.
ما يسمى علم الأنتروبولوجيا: وهو خاص بدراسة الشعوب البدائية وهدفه استخراج مفاهيم وقيم تعارض الكتب السماوية وإلعاء شأن الأساطير والسحر والتنجيم القديم وإعلاء شأن العنصرية والدماء.
ما يسمى العلوم الاجتماعية بالإضافة إلى نظرية فرويد وتستهدف إلغاء طابع الفطرة الأصيل في الأسرة ورد دوافع الإنسان إلى الجنس وإلى الطعام.
وتسيطر الصهيونية اليوم على هذه العلوم والدراسات بغية تحقيق أهدافها التي أوردتها بروتوكولات صهيون.
وتستهدف محاولات التغريب اليوم أهدافاً متعددة:
أولاً: محاولات إسقاط أسس وقيم وفرائض أساسية كالجهاد مثلا.
ثانياً: محاولات تحريف التاريخ والنصوص الإسلامية كإسقاط رحلة سيدنا إبراهيم عليه السلام إلى الجزيرة العربية.
ثالثاً: محاولة إضافة أشياء ليست أصيلة كالإسرائيليات.(8/2)
رابعاً: محاولة الفصل بين الأدب والفكر، واللغة والدين، والدين والمجتمع.
خامساً: محاولة تمويه القيم بإعلاء القانون الوضعي على الشريعة.
سادساً: إثارة النعرات الإقليمية والعنصرية بالدعوة إلى القوميات والتجزئة.
سابعاً: محاولة التمويه بخلط الأخلاق الإسلامية المصدر بالعادات والتقاليد التي هي من صنع المجتمع.
ثامناً: محاولة تألية العقل أو تقديس العلم أو الدعوة إلى عبادة البطولة.
إن الهدف هو الحيلولة دون استئناف المسلمين حياتهم الاجتماعية على أساس الإسلام وذلك عن طريق تركيز التاريخ والتراث الإسلامي في سبيل تأكيد التبعية وفقدان الذاتية.
وقد آن للعرب والمسلمين أن يتحرروا من هذا المخطط الرهيب بالفهم والعمل.
إن الطريقة المثلى للتحرر من الزيف والخطأ من التفسيرات المدخولة: ومن التحريفات والأساطير واخطاء التهاويل هو شيء واحد: هو التماس المصدر الأصيل: وهو القرآن.
هذا المصدر الثابت الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فهو السور المتين والحائط الصامد الذي يعتصم به المسلمون في كل أزمة وكل جولة ومن كل غزو فكري أو تحد سياسي أو استهداف اجتماعي.
ومنهج الإسلام في القرآن هو أعلى نموذج للمنهج العلمي الأصيل، فهو يدعو إلى إنكار الظن وتحقيق الغرض ونفي الأسطورة والخرافة وإبعاد الوهم والهوى والمطالبة بالبرهان والدليل.
إن قواعد الفكر الإسلامي الأساسية قد بدأت ونمت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مستمدة من القرآن وأن هذه القواعد لم تتغير من بعد ولم تجر إضافة شيء إليها فظلت قيمها الأساسية كما جاء وحي السماء (القرآن) وسنن النبي في تفسيرها وتطبيقها وإنما جرت حركة العمل من داخل الإطار الذي رسمه القرآن، ولقد كان اتصال المسلمين بالفلسفات اليونانية والفارسية والهندية تجربة قاسية انتهت بانتصار الإسلام وهزيمة محاولات سيطرة الفكر الوافد أو الغزو الفكري كما نسميه بلغة العصر.(8/3)
وبقيت الحقائق الأساسية قائمة:
إن الإسلام ليس ديناً كسائر الأديان ولكنه حركة اجتماعية واسعة تشمل الاعتقاد والمجتمع والدولة ومختلف نظم الاقتصاد والسياسة والأخلاق وأن ميزة الإسلام: إن نظرته كلية شاملة وأنه لم يجرئ الحياة بل نظر إليها نظرة جامعة متكاملة كما نظر إلى الإنسان نفسه كوحدة نفسية وجسمية لا تنفصل.
ثانياً: القرآن كتاب الله ومصدر المنهج الإسلامي، يرسم صورة شاملة للقيم الأساسية وأصول مناهج المعرفة والعلوم وسنن الحياة والكون والحضارات والمجتمعات حيث يربط البشرية والكون جميعاً بخالقها وبعثها وجزائها.
ثالثاً: الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم (كان ولا يزال وسيظل) النموذج الأسمى والمثل الكامل والقائم أمام كل المجاهدين والمصلحين والنوابغ قدوة حسنة وأسوة صادقة، من نقطة حب الرسول إلى المتابعة له على طريق الحق.
وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم آثار تستهدف تحرير البحث العلمي من كل الزيوف.
"ثلاث من كن فيه فقد استكمل الإيمان:
من إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل.
ومن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق.
ومن إذا قدر لم يتناول ما ليس له".
إن الطريقة المثلى للتحرر من الزيف والخطأ ومن التفسيرات المدخولة: من التحريفات والأساطير وأخطاء التأويل هي شيء واحد، هي: التماس المصدر الأصيل موثقاً ثابتاً لا يأتيه الباطل من بين يدىه ولا من خلفه فهو بحق: السور المتين والحائط العالي الذي يعتصم به المسلمون في كل أزمة وكل جولة غزو فكري أو سياسي أو اجتماعي وقد رسم الإسلام في القرآن قاعدة المنهج العلمي فهو يدعو إلى إنكار الظن وتحقيق الغرض ونفي الأسطورة والخرافة وإبعاد الوهم والهوى والمطالبة بالبرهان والدليل.(8/4)
وبهذا المنهج الأصيل نقول أنه قد آن للعرب والمسلمين أن يتحرروا من التبعية للنظريات الغربية أو المفاهيم الوافدة وعليهم أن يفكروا بلغتهم وأن يتحركوا من داخل فكرهم وأن يتجاوزوا سارتر وفرويد وماركس ودور كايم.
وعلى المسلمين أن ينتقلوا من الإسلام إلى الإيمان ولابد أن ينكسر قيد التبعية ويتحطم قيد التقليد ويتحرر الفكر الإسلامي من الدائرة المغلقة التي فرضها عليه نفوذ المنهج الغربي الوافد ولابد أن يرتبط مفهوم "التقدم" بمفهوم الأصالة ويتحرك من داخله، التقدم بمفهومه الجامع: تقدماً مادياً ومعنوياً استمداداً من المنبع الأصيل، وإن من أخطر الأخطار أن يدخل العرب والمسلمون في مواجهة مع عدوهم بمفاهيم وافدة وقيم مضللة واعتقادات وثنية ولابد أن تفتح اللغة العربية أبوابها لاستقبال العلو والتكنولوجيا بمختلف فروعها وأنواعها وهذا شرط أساسي لقيام نهضة حقيقية، فلابد أن تنصهر هذه العلوم في بوتقة اللغة التي هي فكر الأمة ووعاء ذوقها وثقافتها، ولن تستطيع أمة أن تخطو في مجال العلوم خطوة واحدة إلا إذا كانت مفاهيم العلوم داخل إطار لغتها.(8/5)
ولقد دعا الإسلام معتنقيه إلى معارضة التقليد الأجنبي، وحذر من التشبه بالآخرين وحرص على أن تظل شخصية المسلم وفكره وحضارته ومجتمعه متميزة، وأعلن لذلك حرباً لا هوادة فيها على التقليد وعلى التبعية وحكم على من تشبه بقوم بأنه قد انفصل عن أهله وأصبح من أهل القوم الآخرين. ودعا إلى إعلان التمييز بين الأمم من حيث العادات والأخلاق. وكشف الإسلام عن مدى أثر التقليد في فقدان الشخصية وأثر التبعية في عبودية الفكر والعقل. وقد أكد المؤرخون بأن التقليد في مراحل الضعف إنما يكون في جوانب الهدم والانحلال ويتركز دائماً على الانهماك في اللذات فضلاً عن أن القوى الكبرى لا تعطي للضعفاء أسرار علومها، وإنما تلهيهم بفتات الأهواء وبريق الرغبات التي من شأنها أن تحطم المقومات وتدمر النفس البشرية وتجعلها غير قادرة دائماً على معارضة هذه القوى الكبرى.
لذلك فإن الطريق الوحيد للأمم التي تحوطها الأخطار أن تظل دائماً على تعبئة ومرابطة ومن هنا فإن الذين قالوا لنا: أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم لم يكونوا صادقين في النصح والتوجيه.
وحين عمل الإسلام على تحرير أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه، دعا إلى الحذر من الحرب النفسية التي يشنها أعداء الإسلام والتي تهدف إلى تغيير المعالم الأصيلة لعقيدتنا وفكرنا وثقافتنا ومزاجنا النفسي.(8/6)
ومن مفاهيم التبعية "إيجاد البديل في مواجهة الأصيل" والأمم العريقة التي تكامل فكرها لا تكون عادة في حاجة إلى مفاهيم وافدة، فإذا نظرت فيها فمن أجل أن تعرف أسلوبها وأهدافها، مع تقدير الفارق البعيد بين منهج جزئي انشطاري ومنهج متكامل جامع، بين منهج رباني يستقطب النفس الإنسانية من جميع أبعادها ومنهج بشري عاجز عن الاستمرار والدوام، ولقد رأينا كيف أن النظريات التي قدمها الغرب سرعان ما تصدعت وبان فسادها بمرور الزمن واحتاجت إلى إجراء تعديلات بعد تعديلات وهي في أغلبها تعديلات جوهرية، ذلك أن تحول الزمن واختلاف البيئات يفسد النظريات ويصيبها بالعطب والاضطراب ويكشف عن الفارق البعيد بينها وبين المناهج الربانية الثابتة ثبوت الفطرة وقد رأينا ذلك في الماركسية والفرويدية والوجودية.
ومن أخطر الأخطار أن تتخذ أمة الأسلوب الوافد أسلوباً أساسياً لها مع اختلاف المفاهيم والمضامين التي شكلت هذا المنهج في أساسه.
ولقد احتاجت بعض المجتمعات إلى وضع مناهج للحياة (أيديولوجيات) لأنها لم تجد مناهج في عقائدها، أما المسلمون بأنهم ليسوا في حاجة إلى بناء مناهج بشرية وعندهم منهج محكم من صنع العلي الخبير، الخبير بالنفس الإنسانية "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" ولقد كان من أثر انطلاقة الإنسان ليضع لنفسه منهجاً أن فسر الحياة تفسيراً مادياً، وفسر علاقات الإنسان تفسيراً حيوانياً وأباح الربا وأطلق الغريزة وفلسف ذلك كله وأرضى به النفوس الصغيرة حين خالف به فطرة البشرية وحكم الله.
إن أخطر المحاولات التي تحتاج إلى الانتباه الوافر: هي محاولة وضع الإنسان في موضع تبرير القيم الغربية باسم سماحة الإسلام وانفتاحه وقابليته للجديد ومسايرته لظروف الأمم والحضارات، ولاريب أن للإسلام قواعد كلية لا سبيل إلى النزول عنها وخاصة في مسائل الربا والحدودة(8/7)
القاديانية "خروج على النبوة المحمدية"
الأستاذ أنور الجندي
عرض المستشرق بولس براون في كتابه (طوالع الإسلام) إلى حركات التجديد والإصلاح التي ظهرت منذ القرن الماضي في أنحاء العالم الإسلامي من الهند إلى إيران إلى مصر، وقد اعتبر اليهائية والقاديانية حركتين إصلاحيتين في الإسلام وقد تابعه في هذا بعض المفكرين المسلمين.
ولا ريب أن هذا المستشرق ومن تابعه كانوا مخطئين في هذا التصور، وإن كنا لا نخلي "الاستشراق" من تبعة العمل لدفع هذه الحركات الهدامة إلى الأمام وحتضانها، وإعداد مخططتها المسومة لخداع الشعوب الإسلامية، وإشاعة روح "التزييف" في فكرها وإثارة الشبهات حول منهجها الأصيل. ومن يتابع هاتين الدعويين المبطلتين يعرف أنهمنا استهدفتا ضرب حركة اليقظة الإسلامية التي كانت قد قطعت مرحلة كبيرة في طريق التماس المنابع الأصيلة لجوهر الإسلام بمفهوم التوحيد الخالص، وإن الحركتين قد نشأتا في أعظم قيمه الأساسية وهي "فريضة الجهاد" وقد كشفت الأبحاث التاريخية عن علاقة أكيدة بين هاتين الدعوتين وبين الاستعمار والصهيونية والهندوكية.
وأنهما حاولتا بث الفتنة وزعزعة العقائد، وإثارة الشبهات والشكوك وإضعاف شوكة المسلمين وتثبيط عزائمهم في المكافحة ضد النفوذ الأجنبي والكيد للإسلام، وتضليل المسلمين عن حقائق عقيدتهم، وتفريق وحدتهم، ولم يعد هناك ريب في أن هذه الطوائف الدخيلة، تلقى المعونة والتوجيه من المستعمرين والمبشرين واليهود، وهم يعدونها لما أسموه "حرب الإسلام من الداخل".(9/1)
وقد شنت الصحف الغربية في الفترة الأخيرة (أواخر عام 1978 م) حملات جديدة مكثفة لإحياء دعوة القاديانية وذلك بنشرها لإعلانات تقول: "بأن السيد المسيح عليه السلام لم يصلب حتى الموت كما يقول المسيحيون، أو يرفع إلى السماء دون أن يصلبه اليهود كما يقول المسلمون، ويمضي إعلان القاديانيين فيقول: إن السيد المسيح قد عوفي من جراحة بعد ذلك وغادر (جودية) وهو الاسم الذي يطلقه اليهود على الضفة الغربية من فلسطين ليبحث عن قبائل بني إسرائيل الضالة، حتى وصل إلى الهند وهناك عاش طويلاً جداً ثم دفن في كشمير.
ولا ريب أن هذه محاولة جديدة لإعادة توجيه الأذهان إلى هذه الطائفة، بعد أن أصيبت في السنوات الأخيرة بالهزيمة الساحقة، عندما أعلنت حكومة باكستان أنها طائفة غير إسلامية وقد أشارت هذه الأخبار أن هناك مؤتمراً دعى إليه مئات من المضلين يستهدف بالذات إلى اجتذاب المسيحيين إلى صفوف هذه الطائفة المارقة التي بدأت تعاني من التدهور.
القاديانية:
ظهرت القاديانية بعد أن عجزت السلطات البريطانية عن إخضاع المسلمين في الهند، عن طريق الحرب والسلطان العسكري والسجن والتشريد والنفي والقتل. فقد عمد الاستعمار البريطاني إلى محاولة إخضاع المسلمين بالتغريب والغزو الثقافي، وحاولت أن تقيم طائفة من المسلمين، تدين لها بالولاء وتضرب وحدة المسلمين وجماعتهم وتمزقهم إلى فرق، فأعدت غلام أحمد القادياني لحمل لواء هذه الدعوة التي بدأت بإدعاء الخروج عن مفاهيم التوحيد الخالص وانتهت بإدعاء النبوة، وقد مكنت لهم بريطانيا في الهند في إمارة خاصة تسمى "الربوة" داخل باكستان، وقدمت منهم من تسنهم عليا المناصب السياسية، ومن ثم تولى كبارهم مناصب الدولة والجيش، وأصبحوا عاملاً خطيراً في مواجهة أهل السنة والجماعة، وضرب مفهوم التوحيدالخالص.(9/2)
وقد كان أبرز ما دعا إليه القادياني: مهاجمة فريضة الجهاد، والدفاع عن النفوذ الأجنبي باعتباره الطاعة لأولي الأمر، وقد رحبت الهندوسية بالقاديانية، ودافعت عنها، وكان من أخطر دعاوى القاديانية رأيهم الزائف حين جاءوا بتفسير مبتدع لختم النبوة خالفوا به تفسير المسلمين المتفق عليه بينهم، من أنه صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين فلا نبي بعده، ففسروا خاتم النبيين، بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء أي "طابعهم"، فكل نبي يظهر بعجه تكون نبوته مطبوعاً عليها بخاتم تصديقه صلى الله عليه وسلم، ويكفرون من يخالفهم ويكفرون جميع المسلمين الذين لا يؤمنوا بكلام القادياني.
وقد إدعى القادياني أنه أوحى إليه بما يربو على عشرة آلاف آية، وأنه مبعوث بالرسالة بعد محمد صلوات الله عليه وسلم وأن ما ينزل عليه وحي كالقرآن والتوراة والإنجيل، وأن روح المسيح حلت فيه، وأن الحج فريضة على المسلمين إلى قاديان، وأنها بلدة مقدسة كمكة والمدينة، وأنها المكنى عنها في القرآن بالمسجد الأقصى.
(عن كتاب براهين أحمدية ورسالة التبليغ).
وكان غلام أحمد القادياني قد بدأ دعواه 1888 م حيث أسس مدرسة في قاديان لتعليم أبناء شعبه وأصدر مجلة لنشر مذهبه سماها مجلة: "الأديان" وقد مرت دعوته بعدة مراحل، كانت آخرها إدعاءه النبوة وأنه المسيح المنتظر.(9/3)
وقد قاوم رجال حركة اليقظة الإسلامية هذه الدعوى منذ اليوم الأول، وكشف العالمان البارزان: المودودي والندوي فساد هذه النخلة، وزيف فكرتها المسمومة وكشفا عن حقيقة موقف الإسلام حيث يعتقد المسلمون أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم المسلمين، وأنه لا نبي بعده إلى يوم القيامة، وأن القادياني قد فارق الإجماع وخالفه، حين فسر "خاتم النبيين" بأنه طابعهم وبأن كل نبوة لا يكون مطبوعاً عليها بخاتمه وتصديقه صلى الله عليه وسلم تكون غير صحيحة، وكشف علماء الإسلام أن هناك مخالفة تامة يبن المسلمين وبين هذه النخلة في كل شيء: في الله وفي الرسول وفي القرآن وفي الصوم وفي الحج والزكاة وهو خلاف جوهري في كل شيء، وقد كانت دعوى القادياني الخطرة، التي جعل من إدعاء النبوة مقدمة لها، هي إبطال شريعة الجهاد، والدعوة التي تقبل النفوذ البريطاني المسيطر على البلاد وإعلان الولاء له، وبذلك تكشف هدف هذه النخلة المبطلة وهو خدمة الحكومة البريطانية، وكل من يراجع كتابات غلام أحمد في مؤلفاته، يجد أسلوباً ساذجاً في الأداء وضالاً في المضمون، مثل قوله "إنني صادق كموسى وعيسى وداود ومحمد، وقد أنزل الله لتصديقي آيات سماوية تربو على عشرة آلاف سماوية تربو على عشرة آلاف، وقد شهد لي القرآن وشهد لي الرسول وأن من يخالفني فهو نصراني يهودي مشرك من أصحاب النار".
فمثال هذا الكلام لا يقنع أقل الناس ثقافة، ولا يستطيعأن يرقى لأن يكون فكراً عالمياً يمتلك النفوس ويهز الأرواح بل أنه يكشف عن زيف صاحبه وفساد هدفه، بل إن غلام أحمد القادياني قد شهد على نفسه في كتباباته بأنه تابع وخادم وعميل للحكومة البريطانية، حيث يقول في ختام كتابة (شهادة القرآن):(9/4)
"قضيت معظم عمري في تأييد الحكومة الإنجليزية ومؤازرتها، وألفت في منع الجهاد ووجوب طاعة أولي الأمر من الكتب والنشرات ما لو جمع بعضه إلى بعض لملأ خمسين خزانة، لقد ظللت منذ خحداثة سني وقد ناهزت اليوم الستين، أجاهد بلساني وقلمي لأصرف قلوب المسلمين إلى الإخلاص للحكومة الإنجليزية،ولما فيه من خيرها والعطف عليها وأنادي بإلغاء فكرة الجهاد التي يدين بها معظم جهالهم، والتي تمعنهم من الإخلاص لهذه الحكومة".
وقد كشفت العلامة المودودي في كتابه ما هي القاديانية فساد دعوى القادياني حين قال: "لقد أمدت حركة الميرزا غلام أحمد الحكومة الإنجليزية بخير جواسيسها لخدمة مصالحها الاستعمارية، وقد كانوا أصدقاء أوفياء وكانوا موضع ثقة الحكومة الإنجليزية وقد خدموها في الهند وخارج الهند، وبذلوا نفوسهم ودماءهم في سبيلها بسخاء".
وعن الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه "القادياني والقاديانية" يقول غلام أحمد في آخر كتابه شهادة القرآن: "إن عقيدتي التي أكررها أن الإسلام جزئين: الجزء الأول إطاعة الله، والثاني إطاعة الحكومة التي بسطت الأمن وآوتنا في ظلها من الظالمين، وهي الحكومة البريطانية" وقد أمدت هذه الفئة الحكومة البريطانية بخير جواسيس لمصالحها وأصدقاء أوفياء ومتطوعين متحمسين موضع ثقة الحكومة.
الأحمدية: خدعة مضللة:
توفى غلام أحمد 1908 م ثم انقسمت الجماعة الضالة إلى فرقتين، انتخب أتباعه: حكم نور الدين، ثم أنشأ محمد علي اللاهوري جماعة منفصلة في لاهور بعد أن اتخذت جماعة قاديان ابن القادياني: محمود بشير الدين رئيساً لها.
وقد حاولت هذه الجماعة اللاهورية أن تدعي أنها ليست على ضلال القاديانية وحاولت أن تنكر دعوى نبوة غلام أحمد، أو إدعاؤه النبوةى، ونشروا كتبه الأولى وحجبوا كتبه الأخيرة، وهي محاولة خادعة لتحسين الظن به توطئة لأتباعه.(9/5)
ويقرر باحث معاصر للأحداث هو (عبد الحميد السيد) أن دعاة القاديانيين اجتمعوا على محاولة استنقاذ الدعوى، وكان اختيار محمد علي اللاهوري لأنه مقرب من رجال الاستعمار البريطاني في الهند، وأريد له إصلاح الأمر بعد أن كره المسلمون ما أدعاه غلام أحمد وأنكروه، وذلك في محاولة جديدة لجمع القلوب حول باطلهم، فأدعى اللاهوري: أن غلام أحمد لم يكن غير مصلح من المصلحين وأنه لم يدع النبوة، وأعادوا طبع كتبه في الدور الأول.
يقول أبو الحسنات محمد محي الدين الهندي: لما رأى القاديانيون التشدد في الفضاء على فتنهم، بعد أن حاصرهم المسلمون في بلدتهم الصغيرة قاديان، وقاوموهم مقاومة شديدة، يجأزا إلة ظل الحكومة البريطانية، وتعهدوا بالدعاية لها والدفاع عنها، فانتهزت بريطانيا الفرصة لتفريق كلمة المسلمين عن طريق تشجيعهم، فمهدت الطرق للتبشير بالقاديانية على أساليب المبشرين، وركزوا على الدعوة لإلغاء الجهاد الإسلامي، والإدعاء بأن الإسلام لم يعد دين جهاد، بل صار الآن دين السلام، وسعوا إلى إيجاد السلام بين الإسلام والمستعمرين، وفي هذه المرحلة اتسع نطاق الدعوة تحت اسم الأحمدية، ووصل إلى بلاد كثيرة كالأفغان وغيرها في آسيا، ووصل إلى قلب أفريقيا وقد لمس الدكتور حسن عيسى عبد الظاهر نشاطها الخطير في نيجيريا وألف كتاباً في دحضها.(9/6)
يقول السيد أبو الحسنات: أنهم خداعاً للعامة قد اتخذوا سبيل التقنية، وعمل محمد علي اللاهوري الذي يلقبه المسلمون في الهند (عبد الله بن أبي سلول) الثاني، تشبيهاً برئيس المنافقين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان من أبرز أنصار دعوة القادياني الصريحة حتى مماته وكان من أبرزهم في الخطابة وأبرعهم في الكتابة، فهو الذي ترجم القرآن إلى اللغة الإنجليزية وفسره وحرفه وغير معانيه في مواضع شتى، وفق تفسير متبوعه (غلام أحمد) وزعم أن نحلة القاديانية هي الحقة، فكل من قال لا إله إلا الله فهو مكلف شرعاً بإتباع القادياني وقد حوى تفسيره كثيراً من الشبهات والسموم، منها تفسيره لسورة الفاتحة، حين قال: إن الذين أنعم عليهم هم القاديانية والمغضوب عليهم هم المسلمون، وقال أن مريم تزوجت وزوجها يوسف النجار، وأن قول "لم يمسسني بشر" محمول على العرف الخاص، وأنكر أن سيدنا إبراهيم ألقي في النار، وأدعى في تفسيره بأنه اغترفه من فيض القادياني، وقال أنه هو المسيح وكذلك أنكر معجزة شق القمر، ولا ريب أن مراجعة ترجمة القرآن التي قدمها محمدعلي اللاهوري، تكشف عن سموم كثيرة معارضة لمفهوم أهل السنة والجماعة وأنها حاولت تقديم فلسفة القاديانية كاملة، وللاهوريين قولان: قول للمسلمين أنه مصلح، وقول لإخوانهم أنه نبي وفي السنوات الأخيرة عمدوا إلى إصدار ترجمة محرفة لمعاني القرآن، ظهرت هذه الترجمة في هولندا محشوة بكثير من التبديل والتغيير والتحريف والتشويه لمعاني كتاب الله، مع استغلال تفسير القرآن في خدمة أغراضها ونواياها وتنفيذ مؤامراتها الحاقدة إلى الإسلام لمحاولة تشكيك المسلمين في عقائدهم السمحة وتستهدف أساساً:
قطع صلة هذه الأمة بماضيها وعن خير أيامها وأفضل رجالها.
فتح الباب أمام الأدعياء ومدعي النبوة.
خروج علىى النبوة المحمدية وعلى صاحبها عليه أفضل الصلاة والسلام.
إيئاس المسلمين من مستقبلهم.(9/7)
وقد أشار إقبال إلى خطر القاديانية حين قال: "إن القاديانية مؤامرة مدروسة ترمي إلى تأسيس طائفة جديدة تدعمها نبوة جديدة منافسة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم".
ولقد امتد خطر القاديانية بلونها اللاهوري، وخدع كثيراً من الناس واتسع نطاقها واستفحل خطرها، وخاصة في باكستان نفسها، ففزعت الأحزاب والهيئات تطالب الحكومة بجعلها أقلية غير إسلامية، وكان قد صدر عام 1935 قرار محكمة مدنية بهاول ناجار، برئاسة القاضي محمد أكبر خان باعتبار أن القاديانيين غير مسلمين، وبطلان التزوج بينهم وبين المسلمين، ثم جاء قرار (7 سبتمبر 1974 م) من البرلمان الباكستاني حاسماً قاضياً باعتبار جميع الفئات القاديانية أقليات غير إسلامية، وقد جاء قرار البرلمان الباكستاني بعد دراسة للمسألة القاديانية استمرت أكثر من ثلاثين يوماً واقتضت تعديل دستور جمهورية باكستان الإسلامية على النحو التالي:
أولاً: اعتبار أتباع القاديانية أقلية غير إسلامية، واعتبار أتباع الميرزا غلام أحمد سواء أكانوا من فئة القاديانية أو من فئة اللاهورية أقلية غير مسلمة بموجب الدستور.
ثانياً: أي رجل لا يؤمن بالنبوة المطلقة لمحمد صلى الله عليه وسلم وعلى أنه آخر الرسل أو أي شخص يدعي النبوة في أي معنى أو شكل للنبوة وبأي تفسير لكلمة النبوة ليس بمسلم، وأن من يؤمن بإدعاء أي مدعٍ للنبوة أو يعتبره مجدداً دينياً يكون غير مسلم بموجب الدستور والقانون.(9/8)
الانقطاع الحضاري
الأستاذ أنور الجندي
تجرى محاولة خطيرة ترمي إلى ردة العالم الإسلامي إلى كيان وهمي قديم، وإعطائه صفة الاستمرار التاريخي تحت اسم: حضارة السبعة آلاف سنة الفرعونية والفينيقية والفارسية والهندية وتجرى محاولة لإحياء هذه الحضارات القديمة.
والحق أن هذه الدعوة تتجاوز حقيقة تاريخية أكدها المؤرخون المنصفون، وهي أن الإسلام بظهوره وانتشاره قد قطع العلاقة بين الأمة الإسلامية وبين هذا التاريخ الوثني القديم، وكل ما يتصل به من لغات وأديان وحضارات. ولقد قرر الباحثون الثقات بأن الإسلام كان عامل التصحيح الحضاري مع هذه الحضارات القديمة، وبين الأمة التي دخلت بعد ذلك في الإسلام.
استمرار الحنيفية:
والواقع أن الاستمرارية الموهومة التي يحاولون جمع خيوطها ليست هي استمرارية الفرعونية أو الفينيقية أو غيرها وإنما هي استمرارية (الحنيفية الإبراهيمية) التي بدأت بها الدعوة إلى التوحيد، والتي كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ختاماً لها، وانقطاعية عما سواها، هذه الانقطاعية الواضحة في تاريخ البلاد العربية كلها منذ جاء الإسلام، وبعد ألف سنة من اليونانية والرومانية الوثنية.
لقد كان الإسلام هو الخط الفالص الحاسم في تاريخ الإنسانية، فقد قطع الامتداد الفكري والاجتماعي والثقافي بين ما قبل الإسلام وما بعده، قطعه عن العرب أولاً ثم في كل مكان ذهب إليه، وقد ذهب الإسلام إلى كل مكان وأثر في جميع النحل والأقطار. قطع امتداد الوثنية في العالمن كله من ناحية العقائد والملل، وقطع امتداد العبودية في العالم كله في الحضارات والأمم. فقضى على استرقاق العبيد في حضارات البراهمة والفرس والفراعنة والرومان. وقضى على قيصر وكسرى جميعاً.
ماذا تعني العودة:
وبعد، فماذا تعني العودة إلى ما قبل الإسلام: هل هي ممكنة؟؟ وما هو مفهومها؟؟(10/1)
إن الباحثين الذين حملوا لواء الدعوة إلى الفرعونية أو الفينيقية أو غيرهما، لم يجدوا أي خيوط يمكن أن تشكل تراثاً أو لغة أو ثقافة أو "فكروا" كما يقولون.
بل تبين لهم أن كل الحضارات البابلية والآشورية وغيرها هي حضارات عربية حنيفية الأصل، وقد كشفت بين الفراعنة والعرب، أو الفينيقيين والعرب. وذلك في سبيل تمزيق المسلمين إلى أمم وعناصر، وكشفت الأبحاث الجادة عن زيف هذه الإدعاءات، وتعينن أن المصريين الأولين وفدوا من بلاد العرب وعبروا البحر الأحمى، ونزلوا عند حدود الحبشة ثم تدرجوا إلى أن هبطوا وادي النيل، وأسسوا دولتهم. وقد أحصى المرحوم الأثري الكبير أحمد كمال باشا ما يزيد على خمسة آلاف كلمة متصلة الجذور بين العربية والفرعونية.
وما يقال عن الفراعنة يقال عن الآشوريين والبابليين والفينيقيين، فهم جميعاً موجات خرجت من الجزيرة العربية وإنماعت في هذه المنطقة الممتدة من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا، وإن هذه الموجات توالت في خلال فترات طويلة من القرون المتوالية قبل الإسلام، وكانت ممهدة للموجة الإسلامية الضخمة التي حملت لواء الإسلام والتي وجدت – عندما تمددت – جذوراً لها في هذه المنطقة.
الإسلام حول مجرى التاريخ:(10/2)
أما الانقطاع التاريخي بين ما قبل الإسلام وبين عصر الإسلام فإن أمره واضح ويعترف به حتى من هو أشد المؤرخين الأوربيين تعصباً فإن (هنري بيرين) مؤلف كتاب (محمد – صلى الله عليه وسلم - وشارلمان) يقرر: "أن الإسلام هو القوة الهائلة التي حولت مجرى التاريخ الأوربي، وأن العصر الوسيط والنهضة الحديثة، ثمرتان من ثمار الإسلام، وإن ما يقال من أن سقوط الامبراطورية الرومانية هو العامل المؤدي إلى هذا التحول في التاريخ هو قول خاطئ فإن هذه الشعوب كانت من هوان الشأن، وضيق الحياة، إلى درجة تجعلها تنظر إلى الرومان نظرة العبيد إلى السادة، فما كان يخطر لها – بل ما كانت ترغب أبداً – في أن تناوئ روما وتقضي عليها".
أما المسلمون فكانوا يعتقدون أنهم أرقى وأسمى من الرومان في جميع أساليب الحياة، ولاسيما من الناحية الدينية التي كانت مبعث قوتهم ومصدر تربيتهم، فلم يحجموا عن منازلة الرومان ليقضوا على سطوتهم وسيادتهم وقد ظلت الدولة الرومانية قائمة، وظلت حضارتها باقية، وكل ما حدث أن انتقل مركزها الرئيسي من روما إلى بيزنطة "القسطنطينية" وأصاب حياتها العقلية والمادية شيء من الركود والفساد.
ولكن لم تكد تهب (رياح الإسلام) وتسير ركائبه إلى أراضي اليونان، حتى تلاشى ما كان لهم من المعالم والآثار، وقامت دول جديدة وظهرت حضارة جديدة، حاصرت أوربا من الشرق والجنوب والغرب "بعد فتح الأندلس". فاضطرت ملوكها إلى أن يوجهوا أنظارهم إلى الجزء الشمالي من أوربا حيث قامت المعارك التي كتبت تاريخ أوربا في العصر الوسيط. وإبان العصر الحديث.
أما الجزء الجنوبي من أوربا فلم تقع فيه – في تلك العهود – معارك إلا معركة (بواتيه) التي انتصر فيها شارل مارتل على جيش الأندلس بالخيانة والغدر لا بالقوة والبأس.(10/3)
فلولا ظهور الإسلام لظلت الامبراطورية الرومانية قائمة، وأن انتقل مركزها من الغرب إلى الشرق، ولظل البحر الأبيض المتوسط بحراً رومانياً – بل قد سمى فترة بحر الروم – ولما قامت الثورات القومية التي خلقت أوربا الحديثة ولا الثورات الفكرية التي تمخضت عنها الحضارة الراهنة.
وهكذا نجد أن الإسلام قد غير العالم كله.
صفحة جديدة:
لقد فتح الإسلام – حين جاء – صفحة للبشرية، من حيث "عالمية" الرسالة وخلودها، ودعا الأمم القائمة إلى الدخول في دين الله: لأنه هو الدين الحق، بعد أن زيف رؤساء الأديان مفهوم التوحيد، ولقد أعلن الإسلام وحدة الدين، ووحدة البشرية، والتوحيد الخاص، فحطم الوثنية والأصنام، وعبادة غير الله، وقدم للبشرية منهج الإخاء الإنساني، فقضى على العبودية الفرعونية والقيصرية، ودعا المسلمين إلى النظر في الكون فأنشأ (المنهج العلمي التجريبي) الذي هو قاعدة الحضارة العالمية اليوم، ولقد استطاع الإسلام لأنه الفطرة والحق، وضياء النفس البشرية الأصيل، أن يزحف في خلال قرن ولا يزيد، حتى سيطر على ثلاث قارات آسيا وأفريقيا وأوربا: من الصين إلى حدود نهر اللوار على اللغات والأديان، ونقل العالم كله إلى نور التوحيد، ونفذ بأشعته إلى قلب أوربا، فحررها من الوثنية والرهبانية والمادية، وأدخلها إلى عصر النهضة. وبذلك كان الإسلام هو العامل الأكبر. الذي أدخل العالم كله إلى العصر الحديث.
وعبر الإسلام الشاطئ الشرقي والجنوبي للبحر المتوسط فأدخله في السلم كافة، وقامت فيه كلمة التوحيد وامتدت نحو آسيا فأخرجت القبائل التركية فيما وراء النهر من الوثنية. وواصلت زحفها إلى الصين، وفي الغرب اقتحم الإسلام الأندلس، ووصل إلى نهر اللوار ثم لم يلبث أن اقتحم من البلقان حتى وصل إلى أسوار فينا. بل تعداها إلى جبال الصرب والكروات.
ودخل الناس في دين الله أفواجاً:(10/4)
من هذا كله نجد أن الغسلام كان عامل انقطاع حضاري عميق المدى. بين حضارات الفراعنة والرومان والفرس والهنود. فبعد ألف سنة عاشتها هذه المنطقة بين يدي اليونان والرومان. انداح فيها الإسلام، ولم تلبث بعد عقود قليلة من الزمان، أن تحولت إلى رسالة التوحيد فنسيت لغاتها وأديانها ونحلها القديمة وأقبلت على الإسلام إقبالاً تاماً، ومع أن الإسلام حين سيطر على هذه المناطق لم يفرض عليها دينه، وإنما أقام حكمه العادل، وأفسح أهل الكتاب الحرية الكاملة في حياتهم الدينية، وحمى معابدهم وفتح لهم آفاق العمل في مختلف المجالات في سماحة ورحمة، غير أن الطوائف العربية الداخلة في هذه البلاد سرعان ما انصهرت في البيئات التي عاشت فيها، ولم تستعمل عليها استعلاء سلطان أو استعمار، وإنما تآخت معها وأصهرت إليها، ومن ثم فقد دخل الناس في دين الله أفواجاً، عندما تبينوا أن ذلك الحكم السمح العادل الذي حررهم من مظالم الرومان، هو من عند الله، لذلك فقد دخلوا في الإسلام الذي كانت جذوره موجودة في أعماقهم وضمائرهم. منذ رسالة الحنيفية الإبراهيمية. التي جددها محمد صلى الله عليه وسلم، واتصل بها بعد أن انحرفت.. في مرحلة ما بينهما (ثم اوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفاً) النحل: 23.
ومن هنا فإن الانقطاع ليس إلا عن المرحلة القصيرة التي تعثر فيها طريق الحنيفية العنصرية، وكان هذا أمراً طبيعياً في التاريخ فمصر العربية قد انقطعت عن مصر الإبراهيمية، وكذلك فإن سوريا العربية قد انفصلت عن سوريا الفينيقية، والعراق العربي قد انفصل عن العراق الآشوري والبابلي، وبالإسلام عادت سيرتها الأولى إلى الربط بين الحنيفية الإبراهيمية والحنيفية المحمدية.
الجري ضد تيار التاريخ:(10/5)
وحين جرت المحاولات في العصر الحديث لإعادة البلاد العربية إلى تاريخها قبل الإسلام بإحياء الفرعونية والفينيقية والآشورية، فشلت هذه المحاولات فشلاً ذريعاً، لأنها كانت تجرى ضد تيار التاريخ.
ويصور هذا المعنى العلامة علال الفاسي حين يقول "إن العمليات التاريخية التي سبقت بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن إلا تمهيداً لإبلاغ الإنسان رشده عن طريق إكمال الدين، بوجود محمد خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم بدعاً من الرسل، فقد سبقته نبوات ورسالات، كما سبقته دعوات ربانية تشمل كل بقاع العالم، ولكنها لم توفق إلى البقاء، وأصابها الانحراف الذي يستوجب أن تجدد وتصلح ثم انفتحت آفاق التقدم الإنساني ففكان لابد أن يبعث الله الرسول الخاتم. وكانت مهمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يضع الناس في جو الرشد المبني على العققل والروح، على القاب والجسم، ومن هنا فإن كل ما سبق من عمليات التاريخكان يهدف لغاية واحدة هي وجود الرسول نفسه صلى الله عليه وسلم، وبذلك يصبح الماضي وكأنه ما قبل التاريخ، أما التاريخ الصحيح فيبدأ بالمجتمع الإسلامي، والبشرية كلها مخاطبة لتسير وفق ما ترشد إلى ناموس الكون وما بني عليه هذا المجتمع.
هذه هي قصة الاستمرارية والانقطاع في تاريخ العربية الإسلامية، انقطاعية ألف سنة عن اليونان والرومان والوثنية، والحقيقة أن الاستمرارية هي استمرارية دين إبراهيم أبي الأنبياء. وانقطاعية كل ما سواه من محاولات عنرصةي وقبلية وعرقية وقومية. حاولت أن تخرج بالرسالة الخالدة عن هدفها الأصيل وغايتها الكبرى.
ولذلك فليست هناك استمرارية فرعونية، أو بابلية، أو آشورية، أو فينيقية وإنما هناك استمرارية التوحيد الخالص وميراث إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وكلها على طريق الله الحق.
وذابت الأعراق:(10/6)
لقد ذابت كل القوى التي حاولت أن تسيطر على المنطقة الحنيفية الإبراهيمية، لقد ذهبت العنصرية وبقيت العقيدة الخالصة، وانصهرت القبلية والعرقية كلها في دعوة الله الخالصة. وأن الوحدة التي التقى عليها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها. هي وحدة العقيدة والفكر والتوحيد الخالص ولغة القرآن. ولقد انهزمت كل عوامل العنصرية. والعرقية أمام قوة العقيدة والفكر، التي غلبت على فكرة الدم والنسب. وغلبت لغة القرآن على كل اللغات القديمة. حتى اضطر النصارى إلى ترجمة أناجيلهم إلى اللغة العربية بعد أن ماتت القبطية والسريانية والآرامية التي كان المسيح عليه السلام يتحدث بها إلى معاصريه.
إن الارتباط بين الحنيفية الإبراهيمية والرسالة المحمدية هو التصحيح السليم للاستمرارية. بل هو التفسير الأصيل للترابط الأكيد الجامع بين عصور هذه المنطقة وأجزائها الجغرافية والتاريخية، وهو ما تعمد المحاولات التغريبية واليهودية إلى التأثير فيه، وذلك حين تشكك المصادر اليهودية: في مجيء إبراهيم إلى مكة وبنائه البيت الحرام مع إسماعيل وذلك بسوء نية. وهم يهدفون إلى نفي الرابطة الجامعة بين إبراهيم وإسماعيل، وبين محمد عليهم الصلاة والسلام ورسالة الإسلام الجامعة الخاتمة. التي هي رسالة الإسلام الممتدة منذ آدم عليه الصلاة والسلام ونوح.
لقد عمد الاستشراق إلى تزييف العلاقة بين الحنيفية الإبراهيمية وبين الغسلام، وإثارة الشكوك حول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، على النحو الذي قال به الدكتور طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي حين أنكر وجود إبراهيم وإسماعيل، بالرغم من ثبوت وجودهما في التوراة والقرآن وإن كانت الأحداث لم تلبث إن كشفت زيف ما دعا إليه طه حسين حرياً وراء الصهيونية في دعواها بعد ظهور الحفريات التي كشفت عن كثير من آثار إبراهيم وإسماعيل وأبناء إسماعيل في شمال شبه الجزيرة العربية وحول الكعبة.(10/7)
ومن الأسباب التي تدعو إلى إنكار الحنيفية الإبراهيمية، أنها يدخلها الكردي والرشكسي والبربر والمسيحيون، وهم يهدفون إلى إعلاء العنصريات للقضاء على هذه الوحدة التي هي "عربية اللسان" ولقد أكد هذا المعنى رسول الله صلى الله عليه في قوله:
"ليست العربية بأجدهم من أب ولا أم وإنما هي اللسان فمن تكلم العربية فهو عربي إلا أن الالعربية اللسان إلا أن العربية اللسان" رواه الحافظ ابن عساكر بسنده من مالك.
دعوة البغضاء:
إن الدعوة المسمومة إلى إعادة بعث الإقليميات والعنصريات القديمة، إنما تهدف إلى إذكاء البغضاء والأحقاد بإثارة الفرقة، بينما تقوم استمرارية الحنيفية السمحاء على وحدة الفكر والعقيدة، وهي الوحدة الحقيقية وليست دعوى اللغة والتاريخ والأرض التي يحمل أواءها العلمانيون الشعوبيون.
... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أنور الجندي(10/8)
سلسلة على طريق الأصالة
16
رياح السموم
التي هبت على الفكر الإسلامي
إعادة طرح الفكر الباطني والإباحي القديم في أفق الإسلام مجددًا
محاذير كثيرة وأطروحات عديدة ألقيت في الفكر الإسلامي من أجل تزييفه وتدميره وإفساد وجهته والقضاء على طابعه المتميز، ووجهته الخالصة للتوحيد، فقد كان تراث الفكر الوثني والمادي والإباحي (فكر طفولة البشرية) التي حملت لوائه الفرق الضالة وتخصصت فيه جماعات اليهود والمجوس والباطنية، يحاول دائمًا أن يقتحم الفكر الإسلامي – كما اقتحم الفكر اليهودي والمسيحي من قبل – من أجل إخراجه من ذاتيته الخاصة تحت اسم الفكر العالمي أو الإنساني أو البشري ومن خلال الدعوة إلى الاقتباس أو التبادل الثقافي أو التقارب والالتقاء.
كان أخطر هذه الاقتحامات الخطيرة التي أحدثت آثارًا بعيدة المدى في مجريات الفكر الإسلامي (الدعوة السبأية) التي قادها عبد الله بن سبأ والتي كان لها أبعد النتائج أثرًا في تاريخ الإسلام.
وهم الذين أدخلوا مفاهيم الفكر اليهودي إلى الإسلام ذلك أن عبد الله بن سبأ هو الذي ادعى الربوبية في الإمام علي؛ فقد زعم إنه هو الله (تعالى الله عن ذلك) وقال له علي رضي الله عنه: "ويلك قد سخر منك الشيطان فارجع عن هذا ثكلتك أمك" ونفاه إلى المدائن.
وعبد الله بن سبأ هو الذي قاد الفتنة بين الصحابة وحالك مؤامرة مقتل عثمان ووقوع الخلاف بين الصحابة بعدها، وكان عبد الله بن سبأ يهوديًا رافضيًا اعتنق السبأية وحمل لواء الرافضية مدخلا إلى الفكر الوثني الذي ترجم في عصر المأمون وأخطره فكر المعتزلة والتصوف الفلسفي.
وقد ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد رواية نسبها إلى الشعبي في حديث له مع مالك بن معاوية جاء فيها:(11/1)
"أحذرك الأهواء المضلة وشرها الرافضة فإنها يهود هذه الأمة يبغضون الإسلام ولم يدخلوا فيه رغبة ولا رهبة من الله ولكن مقتًا لأهل الإسلام وبغيًا عليهم وقد حرقهم علي بن أبي طالب بالنار ونفاهم إلى البلدان، ومنهم عبد الله بن سبأ نفاه إلى ساباط، وقيل إن عبد الله بن سبأ زار الحجاز والبصرة والكوفة والشام ومصر واتصل في هذه الأقطار عن طريق المراسلة حتى يتمكن من تأجيج نار فتنة لم تخمد حتى اليوم".
وكانت ترجمة الفلسفة اليونانية أخطر مراحل التداخل لاحتواء الإسلام وفكره، وحمل لوائها المأمون وجند لها حنين بن إسحاق (وكان يدين بالنصرانية على المذهب النسطوري وكان المطلوب ترجمة كتب العلوم فترجم حنينًا وأصحابه كتب الفلسفة وأدخلوا إليها مفاهيمهم، وكان أول الشر في الاعتزال الذي نقل من الفكر الفلسفي اليهودي والنصراني حيث نقلت فكره خلق القرآن من هذا الفكر الوثني وحمل لوائها الغلاة ومال إليهم المأمون وفرض الفكرة على الناس وامتحن بها المسلمون خلال عهود المأمون والمعتصم والواثق ولم يصمد أمام المحنة إلا إمام المسلمين أحمد بن حنبل الذي قال: (القرآن كلام الله غير مخلوق).
وطلب المأمون كتب اليونان فأرسل له إمبراطور الروم منها ما يفوق الوصف. وقال أحد رجال الدين المسيحي: الرأي أن نعجل بإنفاذ هذه الكتب إلى الخليفة فإن هذه العلوم ما دخلت دولة شرعية إلا أفسدتها وأوقعت الفتنة بين علمائها.
ولكن هذه المحنة ما لبثت أن كشفها الله تبارك وتعالى فأفل نجم المعتزلة في عهد المتوكل، واستجاشت السنة وأهلها وارتفع شأن ابن حنبل فوق كل مقال.
وكان للفلسفة اليونانية آثارها الخطيرة في محاولة تزييف أصالة مفهوم الإسلام وقد واجهها المسلمون منذ اليوم الأول بكل قوة وكشفوا زيفها ومخالفتها لمفهوم الإسلام وكيف أن (أرجانون) اليونان قائم على (علم الأصنام) وعبودية البشر للإمبراطور المدعي بالألوهية.(11/2)
وكانت كتابات الإمام الشافعي وأحمد بن حنبل والغزالي وابن تَيْمِيَّة قد صححت المفاهيم وأعادت مفهوم الإسلام الأصيل.
وفي مجال (الشعر) دخلت وسائل الغزو لتخرج الشعر العربي من أصالته وإسلاميته ومفهومه المرتبط بالبطولة والسماحة والكرامة والوفاء، وذلك حين نقلت إليه سموم الآداب الفارسية والهندية القديمة المرتبطة بالإباحة والخمر والإسراف في الإقبال على المتع والمغريات والدخول في مجالات إباحية خطيرة على النحو الذي عرف في شعر أبو نواس وبشار والضحاك وغيرهم من شعراء الغلمة والغزل المذكر.
وظهر من الشعراء من تأثروا بالفلسفة اليونانية ومفاهيمها ومن تأثر بالرواقيين بالذات أمثال المعري في امتناعه عن أكل اللحم وتمنيه أن لو لم يوجد الإنسان لأنه شرير فاسدًا، فضلا عن كراهيته للدنيا وحبه للعدم بدلا من الحياة وكراهيته لبناء الأسرة والزواج حتى استحسن وأد البنات كعادة الجاهلية فضلا عن إعلانه المجابه بفئة الرهبان وكراهيته تعليم المرأة وإعجابه بحرق الهنود موتاهم، وقد رأى أن لا يأكل الحيوان ولا ما خرج منه كمذهب أهل الهند، وبذلك خرج خروجًا واضحًا عن مفهوم الإسلام.
ولم يكن ذلك بأقل من فعل أبو نواس في الناحية الأخرى في العبث والمجون حيث وقف حياته على التغزل بالغلمان غزلا فاحشًا يعد وصمة عار في جبينه ولم يهتم بالنساء اهتمامه بالغلمان، ولقد أحب الخمر حبًا عظيمًا وأخلص لها، وظل هو وجماعته من المجان والزنادقة يتسكعون في حانات بغداد والكرخ.
هذا هو المعري الذي أحبه طه حسين، وهذا أبو نواس الذي أعجب به عميد الأدب وفضله على المتنبي، الشاعر الذي عاش في أنفاس الحانة ولم يقف يومًا موقفًا مشرفًا في حرب أو جهاد، الرجل المخمور دائمًا الذي يعيش في نشوة وطرب حيث الدنان والكؤوس المترعة بالسلاف، يهاجم الدين تطرفًا وتندرًا يثير الضحك عند سامعيه، وكأنه يضيق بالدين لأنه يهاجم محبوبته الخمر ويحرمها.(11/3)
ثم جاءت عاصفة الفكر الباطني في مجال وحدة الوجود والحلول والتناسخ، حمل لوائها قوم مجوسي الأصل، ومن اليهود، وجاء الراوندوية والزنج والقرامطة المجسمة والقدرية.
ونقلت إلى أفق الفكر الإسلامي مذاهب الشعوذة الهندية والباطنية الفارسية القديمة، وتركز هذا الفكر في مصدر وضعوه في مقام الإمام لهم هو (رسائل إخوان الصفا).
وفتح أعداء الإسلام باب الأساطير بعد أن جاء الإسلام ليحرر البشرية من ظلالها، ويقدم للإنسانية منهجًا كاملا لما وراء الغيب لا يحتاج معه الإنسان إلى مزيد من البيان الصادق، وقد كانت الأساطير تصور بمنطق العقل البدائي ظواهر الكون والطبيعة والعادات الاجتماعية فجاء الإسلام ليقدم الحقائق.
ولكن الغزاة استطاعوا أن ينقلوا إلى أفق الفكر الإسلامي أساطير الأمم الوثنية الضائع، فرعونية وفارسية وهندية بما يسمى (المثولوجيا) وما يتصل بها من آلهة الإغريق، ترجمها قوم من قومنا بتحريض من المستشرقين والمبشرين في محاولة لإدخال مفاهيم ضالة مسمومة، اختلطت بالشعر والمسرحيات وبالأدب، كما جددوا الأساطير العربية القديمة التي حرر علماء المسلمين منها السيرة النبوية فأعاد أمثال طه حسين طرحها من جديد مع انتحال أساطير أخرى، في كتابه (على هامش السيرة) وقد صور الدكتور محمد حسين هيكل هذا الاتجاه بأنه اتجاه خطير من حيث حرص المسلمين طوال العصور على تنقية سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأساطير وإبعادها عن الروايات الخيالية والوهمية التي حاولت الإسرائيليات إلصاقها بها.
وقد جرت المحاولات الضخمة في العصر الحديث من أجل إدخال الخرافة والأساطير إلى الأدب العربي والفكر الإسلامي، في الوقت الذي رفض المسلمون في القرن الثالث ترجمة أساطير الأمم وقالوا إنها أهواء الشعوب وإنهم لا حاجة لهم بها إذ لكل أمة فنونها وللمسلمين فنهم وهو الشعر.(11/4)
ولكن العصر الحديث جاء في إطار النفوذ الأجنبي ففرض على المسلمين ترجمات الإلياذة الإغريقية والشاهنامة الفارسية والروايات الهندية والأساطير المصرية.
هذه الأساطير التي تمثل ركام الفكر البشري القائم على أهواء النفوس والمشبع بالإباحية والمادية وفساد الذوق وتصورات الطفولة البشرية وكلها مما جاء الإسلام للقضاء عليها وهدمها.
وهي في مجموعتها تختلف عن مفهوم الإسلام الجامع، ومفهوم الدين الحق سواء بإشاعة روح الفساد الخلقي أو تغليب الوجدان المترف أو المادية المسرفة أو تمجيد القوة أو عبادة الأجساد وكلها تصور الآلهة وهي في صراع مع الإنسان وتجمع إلى قدرة الآلهة حماقات البشر وتجعل قانونها شهوانيًا وتخبط كيفما قادتها اليدوات والنزوات وتتميز أساطير الإغريق بعبادة الطبيعة والأجساد العادية.
(2)
لقد كانت المؤامرة في العصر الحديث ترمي إلى إفساد أصالة وسماحة الفكر الإسلامي المستمد من القرآن الكريم والسنة المطهرة ولذلك عمل رجال الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي والشعوبية جميعًا على إعادة طرح الفكر الباطني والوثني والشعوبي القديم في أفق الفكر الإسلامي مجددًا تحت اسم إعادة كتابة التراث، أو إعادة كتابة التاريخ فأعيد إحياء الدعوة السبأية وما يتصل بها من فكر الرافضة والفكر المعتزلي والتصوف الفلسفي، وإحياء ترجمات الفلسفة المادية وإعادة ترجمة كتب الأساطير اليونانية القديمة والدعوة إلى أبي نواس وبشار وابن الراوندي، والمعري والسهروردي والحلاج وابن المقفع على نحو جيد بإغراء الشباب المثقف لما تحويه كاتبات هؤلاء من سموم وإغراءات خادعة للشباب ومذاهب ترمي إلى رفع التكليف وتحسين الإباحة والمجون والغواية.
وجرت المحاولات لفرض اتباع الفكر اليوناني القديم الذي هو علم الأصنام وما يتصل به على العلوم الإسلامية.(11/5)
وكان أبرز من ركز الاهتمام عليهم: ابن سينا والفارابي في مجال الفلسفة، والسهروردي وابن سبعين والحلاج في مجال التصوف الفلسفي، وابن مسكويه في مجال الأخلاق، ويوحنا الدمشقي ونصير الدين الطوسي، وكل هؤلاء من أعداء مفهوم الإسلام الأصيل المخالفين له. وقد تأثروا بمفهوم اليونان في الأخلاق كما تأثروا بأفلاطون في جمهوريته وبأرسطو وخاضوا وراء مفهوم العقول العشرة ونظريات الفيض وغيرها، وكلها نظريات باطلة وزائفة يحاولون اليوم إعادة إحيائها من جديد.
بينما يوجه إلى الأئمة الأعلام الذين حرروا الفكر الإسلامي من التبعية أمثال الغزالي وابن تَيْمِيَّة وابن حنبل والشافعي إعراضًا شديدًا ومؤامرة للصمت الطويل.
قم كانت الدعوة إلى إحياء التراث الشعبي القديم (الفلكلور) محاولة أخرى لرد المسلمين إلى الفكر البشري القديم فقد اتخذت وسيلة لإذاعة العاميات وجمع الأزجال والمواويل والأمثلة العامية على نحو أراد به دعاة التعريب والغزو الثقافي أن يثبتوا أن العامية ليست لهجة ولكنها لغة واتخذوا من ذلك سلاحًا لمعارضة الفصحى وإضعافها وتغليب العاميات عليها.
وقد بدأت حركة الفلكلور على أيدي المبشرين ودعاة التغريب الذين حملوا لواء الدعوة إلى العامية واللغة المحكية في محاولة لإقصاء الفصحى: لغة القرآن، عن مكان الصدارة وتعزيز العامية في كل قطر وبلد مستهدفين تفكيك وحدة الأمة وإبعادها عن مستوى بلاغة القرآن الكريم وآدابه.(11/6)
كما عمدت دعوة الفلكلور إلى استحياء الماضي القديم الوثني البائد من وراء عصر الإسلام، فهي قد ارتبطت بالفرعونية في مصر، والفينيقية في لبنان، وكانت تحاول بذلك إحياء قيم قديمة ماتت وانتهت وتقاليد ومظاهر وأعياد عرفها العرب إبان وثنيتهم ثم تحرروا منها مع ظهور الإسلام ولم يعودوا مرة أخرى إليها بعد أن جاءهم الإسلام بالتوحيد الخالص فقضى على هذه الوثنيات القديمة البائدة التي تتعارض اليوم مع الثقافة الإسلامية والقيم القرآنية جميعًا.
ولقد جرى الفلكلور في مجاري ثلاث كلها بعيدة عن جوهر ذاتية الأمة ومزاجها النفسي، إما بإحياء الوثنيات الفرعونية أو العادات الجاهلية العربية أو الوثنية الإغريقية، وهذه الثلاث لا تتصل مطلقًا بحقيقة الأمة الإسلامية التي تحررت منذ خمسة عشر قرنًا من هذه الطقوس والوثنيات.
ولقد كان واضحًا أن هذه الخطة جزء من المؤامرة المدبرة لتزييف أصالة المفهوم الإسلامي فإن الفلكلور في حقيقته يقوم على إحياء أوهام الشعوب وأهوائها وعلى أدنى قدر من العواطف والمشاعر التي تتعلق بها النفوس المحدودة الأفق في مرحلة ضعفها وسذاجتها حيث لم تكن وصلت إلى ثقافة الدين الحق الذي يوجهها أساسًا إلى التحرر من الوثنيات والماديات، وفرق كبير بين الفلكلور من ناحية وبين التاريخ والتراث، فقد ركز على إحياء الإقليميات والوثنيات والتقاليد والعادات التي انحرفت عن مفهوم العقائد الصحيحة مما صنعه الإنسان في حالات الضعف البشري في مراحل الالتقاء الاجتماعي العام وهي في مجموعها خارجة عن أصول الدين الحق الذي هدينا إليه، ولذلك فإن إحياء هذا النوع من التراث هو إحياء لدعوة التفرقة والجهل والتمزق.(11/7)
وبالنسبة للأغاني والمواويل فإنها في مجموعها خواطر ساذجة لا تمثل من النفس الإنسانية إلا أدنى مراتبها وهي في مجموعها تقوم على الأهواء حيث تنسى قبول المسلم لأمر الله في حالات الموت أو المصيبة وفي حالات الفرح أيضًا بديلا عن هذه الترهات والصرخات التي يرددها الفلكلور.
ولقد كانت الإسرائيليات المتجددة من أخطر التحديات التي واجهت الإسلام والفكر الإسلامي، فإنما هي تمثل إضافات خطيرة ونظريات باطلة مستمدة من نصوص قديمة، وثنية ومجوسية من خارج مفهوم الإسلام وذاتيته المختلفة عن الأديان والفلسفات، تسربت مع الزمن وقصد إلى إضافتها خصوم الإسلام وأعدائه رغبة في عزله عن جوهره الأصيل، وقد شكلت مع الزمن قشرة صلبة أو حاجزًا خطيرًا عازلا عن مفهوم الإسلام في بساطته ووضوحه ويسره وإيجازه وأضافت تفاصيل كثيرة باطلة وتوسعات عديدة تتعارض أساسًا مع مفهوم الإسلام القائم على التوحيد والإيمان بالغيب والبعث والجزاء في مواجهة مختلف القضايا.
وقد أضيف إلى الإسرائيليات مع تطور الفكر الإسلامي إضافات أخرى تسربت مع الفلسفات اليونانية والهندية والفارسية وغيرها مما كون حصيلة ضخمة استعملها الشعوبيون وأعداء الإسلام والعرب في القديم سلاحًا لتحويل الأنظار عن مفهوم الإسلام الأصيل وجوهره وإخراجه عن مضامينه، وقد واجه المفكرون المسلمون هذه الدخائل الإسرائيلية الباطنية المجوسية وغيرها وفندوها وكشفوا عنها، وفي مقدمة من تولى ذلك الجاحظ في (البيان والتبيين) والقاضي ابن العربي في (العواصم من القواصم) وابن الجوزي في (تلبيس إبليس) كما واجه هذه القضايا ابن حزم والغزالي وابن خلدون وعرضوا لآراء الباطنية والمجوسية والمزدكية والمانوية وغيرهم، ولا سيما تلك العقائد والأساطير التي دسها اليهود والنصارى في مفاهيم الإسلام.(11/8)
وفي مقدمة هذه الإسرائيليات تلك الإضافات الزائفة للنصوص الثابتة أو التفسيرات للآيات القرآنية والتوسع في أوصاف الملائكة والجنة والنار والحشر ويوم القيامة وتصويرها تصويرًا حيًا.
وقد انداحت هذه الإسرائيليات في كتب التفسير وغيرها خلال فترة الضعف وفي مؤلفات لم يكتبها علماء محققون حيث جمعت أحاديث منحولة وأكاذيب ومفتريات مدسوسة، وفي مقدمة هذه المؤلفات (بدائع الزهور والعرائس في القصص والأخبار).
وكان لدائرة المعارف الإسلامية (التي كتبها عتاة المستشرقين ومتعصبيهم) أثر بالغ في ترويج هذه الإسرائيليات مما جمعه السدي والكسائي والتغلبي والخازن وغيرهم فالتصقت بالتفسير، وقد عارض المفكرون المسلمون هذا الاتجاه وشجبوه وفي مقدمتهم العلامة ابن خلدون، غير أن دائرة المعارف الإسلامية وكتابها جميعًا من خصوم الإسلام نقلت هذه الآراء وبوبتها وعدتها مصادر صحيحة، وجاء حولدزيهن اليهودي فدافع عن كعب الأحبار وزملائه.(11/9)
وقد ركزت دائرة المعارف الإسلامية على كتب المحاضرات التي لم تكن في حقيقتها كتبًا علمية وإنما جمعت ما قاله الرواة وأحلاس المجالس من قصص وتناقلوه من أوهام، وفي فترة من فترات التاريخ الإسلامي استشرت كتب المحاضرات التي جمعت ما تجمع من أساطير الأمم السابقة ورواياتها وخرافاتها وسفرها وحكمها، وقد بدا ذلك على أنه تراث يكشف للمسلمين علامات فكرهم الأصيل، غير أنه خلال مراحل الضعف التي مرت بتاريخ المسلمين ومع ضغط قوي الغزو الأجنبية من مجوسية وباطنية ودعاة الفلسفة اليونانية فقد جمعت هذه الأساطير وشكلت تيارًا زائفًا من الدخائل وإضافات التقليد والابتداع تلقفه المستشرقون وتاجروا به وحاولوا أن يقدموه على أنه من مصادر الفكر الإسلامي مما دعا رواد اليقظة الإسلامية والباحثين المنصفين إلى الإشارة لهذه الآثار والتحذير من اعتمادها مصادر علمية وكشفوا عن أخطائها وسموها على النحو الذي أوضحناه بالإشارة إلى ألف ليلة والأغاني وكليلة ودمنة ورسائل إخوان الصفا وغيرها مما اعتمد عليه الدكتور طه حسين وأتباعه في كتابة أبحاثهم ومما يجب الحذر الشديد منه.
ومن ذلك كتابي المضنون به علي غير أهل والمنسوب إلى الإمام الغزالي كذبًا وبهتانًا وكتاب الإمامة والسياسة المنسوب إلى ابن قتيبة وهو كتاب لقيط مجهول النسب حيث تجد أسلوب القول فيه يخالف أسلوب ابن قتيبة في كتاب المعارف وفي سائر كتبه وفيه روايات لابن قتيبة ومروية عن أبي ليلة، وهو لم يقابله، حيث ولد بعده بمائة وعشرين سنة.(11/10)
كذلك فإن محاولات التغريب تعمل على إحياء ملتقطات من هنا وهناك في سبيل الادعاء بأن الأدب المكشوف كان قائمًا في مجال الأدب العربي بعد الإسلام، وهي محاولة خادعة تحاول التقاط بعض المواقف من هنا وهناك، من خلال المرحلة التي غلب فيها الأثر الفارسي القديم والتي غلب فيها السجع والمحسنات اللفظية، وقد جاء ذلك بعد غلبة طابع الترجمة الذي كانت له آثاره البعيدة المدى على مرحلة محدودة من مراحل الفكر الإسلامي والأدب العربي.
فإذا قيل أن الأدب العربي قد عرف الأدب المكشوف حينًا من الدهر، قلنا إن ذلك لم يكن بدافع الفطرة بل كان غزوًا شعوبيًا على النحو الذي نواجهه اليوم، وأن هذا اللون إنما دخل على أيدي المتصلين بالثقافات والديانات والفلسفات القديمة السابقة للإسلام وفي مقدمتها وثنية اليونان ومجوسية الفرس وغنوصية الهند.
وإن ذلك كله جرى في نطاق المؤامرة الخطيرة التي قامت بها قوى الباطنية والمجوسية والقرامطة في محاولة لتدمير مفهوم الإسلام أساسًا وتغليب مفاهيم الكشف والإباحة ووحدة الوجود والحلول والتناسخ وغيرها، ومن خلال طائفة المجان الإباحيين بشار وأبي نواس وغيرهم.
ومن هنا دخل على الأدب العربي في مرحلة من مراحله نماذج من المجون والفحش واستشرى في الهجاء والخمريات والشعر الخليع غير أن الصحوة الإسلامية التي واجهت الفكر اليوناني استطاعت أن تحرر الأدب والشعر وأن يعيده إلى مجال الأصالة.
وكذلك تجدد الأمر في العصر الحديث في محاولة لفرض مجموعة محتقرة من المجان في عصرها ليصور القرن الثاني الهجري كله بأنه عصر مجون وفساد وفيه أئمة الفكر والفقه والدين والعلم.
ونرى اليوم معالم أسلمة الأدب العربي والعلوم الإنسانية والثقافة والمعرفة والمصطلحات تنطلق إلى مداها في سبيل تحرير الفكر الإسلامي من التبعية.
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(11/11)
التربية الإسلامية هي الإطار الحقيقي للتعلم
إن قضية التربية في العصر الحديث هي واحدة من أكبر القضايا، وإنها بالنسبة للمسلمين من أكبر التحديات التي تواجه مجتمعهم اليوم بأشد الأخطار بل لعله ليس من المبالغة أو التزيد أن يقال أن أغلب التحديات التي تواجه المجتمع المسلم اليوم هو تلك التبعية لمناهج التربية الغربية، وانحسار منهج التربية الإسلامي إلى عدد قليل من الأقطار. وقد كشف أسلوب النقل أو الاقتباس من البرامج الغربية عن نتائج خطيرة أخرت سير حركة اليقظة الإسلامية وحالت دون قدرة المسلمين على امتلاك إرادتهم، وإقامة مجتمعهم الرباني سنوات طويلة، حتى جاءت النتائج الخطيرة كاشفة عن هذا السر الخفي، عندما وقعت أحداث النكبة والنكسة والسيطرة المثلثة: الاستعمار والصهيونية والماركسية على أجزاء من العالم الإسلامي كرأس جسر لتغريب هذه الأمة وحجبها عن منهجها القرآني الأصيل، والحيلولة بينها وبين اقتعادها مكانها الصحيح الذي تؤهله له مقداراتها وحجمها ومكانها الاستراتيجي، وتفوقها البشري – وامتلاكها للثروة فضلاً عن تاريخها الحافل، وتراثها الضخم، ودورها الواضح في بناء الحضارة البشرية حين قدمت (المنهج العلمي التجريبي) الذي يقوم عليه التقدم المعاصر كله.(12/1)
ولقد ظنت الأجيال السابقة التي واجهت الاستعمار أن التماسها أساليب الغرب في التربية والتعليم ربما حقق لها القدرة على الوصول إلى ما وصل إليه نم ثقافة وعلم وقوة وتمكين. ولكن ذلك لم يكن إلا وهماً وخطأ سرعان ما كشفت الوقائع عن فساده، ذلك أن أمة من الأمم لن تستطيع أن تبني نفسها أو تجدد كيانها إلا إذا استمدت ذك من جذورها وأصولها ومصادرها الأولى ومنابعها الحقة التي شكلتها أول الأمر، ومنذ جاء الإسلام وبنى هذه الأمة فكرياً وروحياً واجتماعياً وأخلاقياً. فإن هذه الأمة لن تستطيع أن تجد في أي منهج آخر سبيلها إلى اليقظة والنهضة إذا كرثتها الأحداث. بل إن عدوها الذي انتهز فرصة غفلتها تسيطر عليها لا يمكن بحال أن يقدم لها ما يمكنها نم التحرر نم قبضته.
ولذلك فقد عمد أول ما عمد إلى هدم ثلاث دعائم من كيانها تلك هي: حجب الشريعة الإسلامية في نظام الحدود، وتغيير نظام الاقتصاد بغرض الربا ثم كانت خطته الماكرة في تغيير مناهج التربية والتعليم، وإخراج القرآن والإسلام من هذا البناء الثقافي وتفريغه من روح الإيمان بالله ومنهج التكامل والترابط بين القيم وأخلاقية أسلوب الحياة.
وحشوه بروح المادية والتمرد على الله والثورة على القيم الروحية والخلقية وعبادة الجسد والمادة.
كان هذا هو الخطر الخطير والتحدي الشديد الذي بدأ به النفوذ الغربي تعامله مع المسلمين حين أقام مدارسه ومعاهده وإرسالياته. ثم فرض هذه المناهج على التعليم القومي الذي كان يشرف على إعداده بواسطة رجاله أمثال دانلوب في مصر وضريبة في سوريا والمغرب والعراق من أجل ما أسماه كرومر تلك الأجيال المؤمنة بالغرب المستسلمة له، أولئك المتفرنجين الذين أعدهم ليمتلكوا إرادة النفوذ في مختلف دوائر السياسة والثقافة والتربية والتعليم.(12/2)
ولقد كانت لتلك الإرساليات (على اختلاف مذاهبها) دورها الخطير في تنشئة أجيال متعددة في العالم الإسلامي تابعت منهج الغرب، وحجبت منهج الإسلام حتى جاءت النتائج بعد أكثر من سبعين عاماً لتدق الأبواب كاشفة عن أثر ذلك الخطر في ذلك التمكن الذي أتيح للصهيونية وللماركسية وللنفوذ الاستعماري على حواشي هذا الوطن وفي قبله الحي: فلسطين والقدس.
يقول هاملتون جب المستشرق الإنجليزي في تصوير أثر منهج التربية الغربية في العالم الإسلامي:
لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدرسة العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم أثراً يجعلهم في مظهرهم العام – (لا دينيين) إلى حد بعيد. ولا ريب أن ذلك خاصة هو اللب المثمر في كل كما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار.
هذه هي ثمرة خطة الاستعمار عن طريق التبشير بالمدرسة والاستشراق بالفكرة المسمومة، هذه الخطة التي ركزت تركيزاً شديداً على التعليم: ذلك أن التعليم كان هو المنطلق الحقيقي نخطة الغزو الثقافي وما زال، وسيظل إلى وقت طويل ما لم يتدارك المسئولون المسلمون، هذا الخطر ويعملوا على إيقاف السيطرة الأجنبية الواضحة الأثر على التعليم في مختلف مجالاته ومختلف بيئاته، ذلك أن القول اليوم بتوحيد مناهج التعليم العربية – على ما بها من تبعية وأخطار ومزالق وسموم ما تزال مسيطرة على جوانب كثيرة نم أساليب الدراسات والتعليم – وهو أخطر كثيراً من الأثر الذي كان يتخذ في كل قطر من الأقطار التي يستعمرها أسلوباً معيناً نم التعليم يستهدف به.
أولاً: عزل هذا القطر عن أمته العربية، ثم عزله عن العالم الإسلامي كله.(12/3)
ثانياً: الحيلولة بينه وبين الارتباط بالجذور التاريخية والأدبية واللغوية بإدعاء أن العصر الحديث بدأ بحملة نابليون، وأن هذا العصر منفصل تماماً عما قبله مما أطلق عليه زيفا (عصر الانحطاط) محاولة في إيجاد شعور نفسي بالكراهية والانسلاخ من الماضي كله.
ثالثاً: بعد عزل القطر (إقليمياً) عن أمته العربية الصغرى، وأمته الإسلامية الكبرى، وعن أصول فكره الإسلامي القرآني الممتد وراء أربعة عشر قرناً تقوم إلى إحياء التاريخ الإقليمي الفرعوني والفينيقي والآشوري والبابلي وغيره، ثم الارتباط بالغرب وحضارة العرب وعظمة الغرب وبطولاته وأمجاده، هذا الغرب صاحب الحضارة التي لا تقهر وممدن الشعوب المتأخرة إلى آخر هذه الزيوف والأضاليل.
رابعاً: إعلاء العامية على اللغة الفصحى والاهتمام باللهجة الإقليمية وما يتصل بها من حكايات وفلكلور وأزجال وموال وغيره إغراقاً في العمق الإقليمي وحيلولة دون الامتداد الطبيعي للأمة.
خامساً: إعلاء اللغة الأجنبية الإنجليزية أو الفرنسية على اللغة العربية والدعوة إلى تعلمها بحجة أنها لغة الحضارة، ثم السيطرة عن طريقها فكرياً على المثقفين الذين يوجهونه بعد ذلك إلى الاعتماد على فلسفات ومفاهيم الغرب.
هذه كانت خطة التعليم العامة مع تغييرات يسيرة، اختلف بها المنهج من قطر إلى قطر، ولكن الهدف في الجملة واحد. هو إزدراء الوطن والأمة، والفكر العربي الإسلامي كله، والالتفات نحو الغرب صاحب الحضارة المستعمرة وبطولاته وأمجاده.
وقد امتدت هذه الخطة بعد انتهاء الاحتلال.
وكانت قد أنتجت ثمارها في تلك التشكيلات الفكرية المختلفة التي فرقت الأمة شيعاً والتي ارتبطت بولاءات مختلفة مع هذا المعسكر إذ ذاك. ومع هذه الثقافة أو تلك.(12/4)
وقد ركزت المناهج في المرحلة الاستقلالية على الوطنية والإقليمية، وامتدادها السابق على الإسلام وبقى جوهر الخطة التعليمية كما هو وظلت هذه المناهج توحي بشبهات وأخطاء واضحة: من هذه الأخطاء:
القول بأن الإسلام دين عبادة لا صلة له بالمجتمع ولا بالدولة.
القول بأن مخططات الاستعمار والتبشير الأولى في أفريقيا هي كشوف علمية.
التاريخ الإسلامي لا يزيد عن أن يكون خلافات بين الحكام: وصراعاً على الملك، بين الأمويين والعباسيين والعلويين.
تغليب مفاهيم الفلسفة الغربية المادية بما فيها من شكوك ومادية ومفاهيم متعارضة مع الفكر الإسلامي بما يؤجج في النفس الشبهات والتمزق وبوادر الإلحاد.
نسبة كل مناهج العلوم إلى الغرب وإنكار دور المسلمين الواضح فيها بما يصور للطالب المسلم أن المسلمين عاله على الأمم وأنه لم يكن لهم دور في بناء هذه العلوم.
سيطرة نظريات المدرسة الاجتماعية والتحليل النفسي والوجودية على علوم النفس والأخلاق والتربية؟، وكلاه تقوم على الفكر المادي.
دراسة العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية دور بيان وجهة نظر الإسلام فيها. هذه بعض مناقض ومحاذير المناهج التعليمية القائمة في المدارس – والجامعات في مختلف بلاد العالم الإسلامي والتي لم تتغير مطلقاً.
فإذا جاءت اليوم الدعوة إلى (توحيد مناهج التعليم) فإنها ستجعل مثل هذه المحاذير أخطاراً عامة تشمل البلاد العربية كلها. مونها الأقطار التي لم تتصل من قبل بمناهج الإرساليات التبشيرية أو تسيطر عليها مناهج التعليم الغربية الدنلوبية وغيرها.(12/5)
ومن هنا فإننا نواجه فعلاً ما يمكن أن يسمى (أزمة التربية والتعليم) وهي جديرة بالبحث والعمل الجاد في سبيل تحرير مناهج التعليم من أخطار المفاهيم التي بثها الاستعمار وأراد بها السيطرة على العرب والمسلمين بإكراههم على انتقاض – تراثهم وتاريخهم ودينهم وقيمهم. والإعجاب والتقدير والإعلاء المغرض للتاريخ الغربي وحضارة الغرب وفكرة. واعتبار المناهج التي تدرس في كليات العلوم والطب وغيرها وكأنها من نتاج الفكر الغربي وحده، مع أن أصولها الأولى هي من نتاج الحضارة الإسلامية مع الإضافات التي قدمها العصر الحديث.
كذلك فإن النظريات الخاصة بعلوم النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد إنما تدرس على أنها (علوم) وهي في الحقيقة (نظريات) قامت على أساس فروض فرضها الباحثون والفلاسفة في بيئات معينة، واستجابات لتحديات معينة وفي عصر معين.
ومن هنا فليست لها (أولاً) صفة الحقيقة العلمية التي لا تنقض (ثانياً) ليس لها صفة العالمية. ذلك لأن لكل أمة قيمتها وعقائدها ومفاهيمها في مجال العلوم – الإنسانية والعلوم الاجتماعية.
وإذا نظرنا إلى ما قاله (هاملتون جب) ق\رنا تماماً مدى الخطر الذي أحاط بالمسلمين خلال القرن الماضي. فقد سيطرت قوى الاستعمار ومن ورائها قوى الاستشراق والتغريب، والغزو الثقافي وأداتها معاهد التبشير وجامعات الإرساليات بمختلف صورها: أوروبية وأمريكية وكاثوليكية وبروتستانتية، ومن ورائه الفكر التلمدي والاستشراق اليهودي الذي يستهدف غايات أخرى تختلف عن الغايات التي يطمع فيها الاستعمار، والتي تقوم أساساً على مصدر واحد هو حرمان هذه الأمة الإسلامية من تطبيق شريعتها الإسلامية كمنهج حياة، والحيلولة دون استمداد ثقافتها وتربيتها وتعليمها من مناهج القرآن الكريم.(12/6)
ويمكن القول اليوم: إن التعليم بهذه الصورة مصدر كبير للغزو الفكري وسبب بارز من أسباب تخلف المسلمين. وقد انتقلنا في السنوات الأخيرة إلى الاعتراف بهذه الحقيقة وخفت رياح التهافت على التعليم الغربي. وبقى أن ندخل في المرحلة الحاسمة وهي النظر إلى هذه المناهج نظرية علمية وواقعية تضع علوم الغرب ونظرياته موضع الفحص والدراسة. وتكشف مع الفروق العميقة بين وجهة نظره وبين وجهة نظر الفكر الإسلامي. وكيف نجد أن معطيات الإسلام أكثر إيجابية وسلامة وقوة، ليس للمسلمين وحدهم، ولكن للبشرية كلها. هذا على حد تعبير العلامة السيد أبو الحسن الندوي في مهرجانه القريب الذي دعا فيه إلى إقامة التعليم في إطار التربية الإسلامية. والعمل على تغيير نظام التعليم تغييراً جوهرياً يلائم طبيعة الأمة الإسلامية انطلاقاً من مبدأ واضح صريح. هو أن عملية التربية في أي أمة وبلاد ليست بضاعة تصدر أو تستورد كالمواد الخام. وإنما هي لباس – يفصل على إقامة الشعوب وملامحها القومية وتقاليدها الموروثة، وآدابها المفضلة وأهدافها التي تعيش لها وتموت في سبيلها. وأن التربية ليست إلا وسيلة راقية مهذبة لدعم العقيدة التي يؤمن بها شعب أو بلد وتغذيتها بالاقتناع الفكري القائم على الثقة والاعتزاز، وتسليمها بالدلائل العلمية إذا احتيج إليها، وسيلة كريمة لتخليد هذه العقيدة ونقلها سليمة إلى الأجيال القادمة. أ هـ – وإذا كنا نرى أن نتائج نظام التربية الغربية الوافد قد ظهر واضحاً في تكوين هذه الأجيال – الممزقة المضطربة القلقة نفسياً المأزومة فكرياً في بلادنا فإننا نجد أن الغرب نفسه قد أخذ يعلن فساد هذا النظام الذي حمل لواءه الفيلسوف (ديوي) – والذي وجد بالتآمر والتمويه أثراً عميقاً في البيئات الإسلامية والعربية، فقد نشرت مجلة – تايم نيو مجازين في 31/3/1948 م بحثاً ضافياً أشارت فيه إلى فشل نظرية (ديوي) القائلة بأن الله والفضيلة كلها غايات قابلة للنقاش(12/7)
والجدل. ومن ثم فلا جدوى من مناقشتها وفي مكانها يجب أن تحل غاية أخرى هي: (الانسجام مع الحياة) وقال الكاتب أن الطلبة قد انقطعت صلاتهم بتقاليدهم. وأن هناك حاجة كبرى إلى التفكير في الأهداف السليمة للتربية وأنه لابد أن يكون هدف التربية الأول هو تزويد الفرد بثقافة صحيحه تقنعه بأن هناك تاريخاً وأهدافاً وراء هذه التربية.
ولا ريب أن الفصل بين التربية والعقيدة والأخلاق إذا صلح كمنهج في الغرب فإنه لا يصلح في العالم الإسلامي والأمة العربية لأنه يتعارض مع (تكامل) منهجها في الحياة، ونظامها الرباني الجامع.
ومعنى عزل الدين أو الأخلاق عن التربية هو بناء شخصية هشة طرية لا تمتلك القدرة على حمل أمانة المجتمع ومسئولية الأمة. ولا تكون قادرة على مقاومة العدوان أو مواجهة وسائل الإغراء، أو مؤامرات القضاء على كيان العالم الإسلامي.
وعندما نستقضي مناهج التربية في العالم كله فلن تجد منهجاً واحداً منها يخطي بما يخطي به برنامج التربية الإسلامية من التكامل الجامع ومن الاستعلاء على أهواء البشرية، ويتمثل هذا التكامل في خصائص خمسة:
أولا:الجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل.
ثانياً: الجمع بين الروح والجسم والعقل.
ثالثاً: الجمع بين التربية للفرد والتربية للمجتمع.
رابعاً: الجمع بين الغايات الوطنية والغايات الإنسانية.
خامساً: الجمع بين التربية دينية وخلقية وعقلية.(12/8)
ويقوم هذا المنهج على التوازن والموائمة فلا لطفى فيه ناحية من النواحي على ناحية أخرى. ويكون به الفرد فردياً واجتماعياً، لا تطغى فرديته على جماعيته يقوى استقلاله الذاتي وتفتحه الروحي والعقلي معاً. وينتقل من الأنانية إلى الغيرية، إنه إعداد الفرد لذاته ولمجاوزة ذاته في نفس الوقت. وبذلك ينتقل الإنسان من أهوائه إلى الحق، ومكن الحيوانية إلى الإنسانية، ومن البشرية إلى الربانية، فيكون قابلاً للارتفاع فوق المطامع والشهوات متجهاً إلى الارتفاع (ولو شئنا لرفعناه بها).
إن التربية الإسلامية تحقق للإنسان مفهوم الحرية الصحيح: التحرر من الأهواء والغرائز والنزوات. وذلك عكس ما ترمي إليه الغربية التي تقصر الإنسان على الاستجابة للأهواء.
والتربية الإسلامية تهدف إلى بناء الشخصية بالقرآن والتاريخ والقدوة الطيبة وبناء الشخصية بناءً أخلاقياً دينياً عقلياً. هو أساس بناء المجتمع ومصدر القوة في مواجهة كل تحديات الغزو الخارجي.
وأبلغ مظاهر التربية الإسلامية: التزكية: "تزكية النفس" والتزكية تعني تنمية الروح الأخلاقية ونزعات الخير وفق القاعدة القرآنية.
(ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها – قد أفلح من زكاها) وأبلغ ما تصل إليه التزكية: تربية الواعز النفسي القائم في أعماقها كالديدبان اليقظ يدعوها إلى الخير، ويردها عن الشر، ويشكل الإرادة الحية القادرة على الامتناع عن الشر والاندفاع إلى الخير وفق قاعدة الرسول الرائعة:
(طوبى لعبد جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر).
وليس أصدق من حاجة الأمة الإسلامية إلى بناء مناهج التعليم في إطار التربية الإسلامية. ذلك أن التعليم هو تزويد الفرد بمجموعة من المعارف والخبرات والمهارات، وما لم تكن هذه العلوم حية ومتحركة في إطار تربوي أخلاقي ديني عقلي سليم فإنها تفقد وجهتها، ولا تكون عاملاً من عوامل البناء والتقدم في الطريق الصحيح.(12/9)
لقد أعدت التربية الإسلامية المسلم بأمرين جهلتهما التربية الحديثة وعجزت عنهما نتيجة لمصادرها المادية، وهي قوام الحياة الحقة على هذه الأرض وأساس بناء الإنسان الرباني وهما:
أولاً: الإرادة والمسئولية الفردية حتى يعرف الإنسان أنه قادر على أن يختار بين الخير والشر، والحق والباطل، وأن يمضي مع موكب الحياة ويضع لبنات جديدة في ذلك الصرح الحضاري الإنساني وبدون هذه الإرادة والمسئولية الفردية لا يكون الجزاء الدنيوي والآخرون بعد البعث والنشور، هذه المسئولية قائمة على غاية (هي الجزاء: ثواباً وعقاباً) وبدون هذا لا يستقيم عمل الإنسان ولا يعتصم في دائرة التقوى من شر الأهواء والمطامع.
ثانياً: الالتزام الأخلاقي: الذي يحيط بالإنسان وعمله إحاطة السوار بالمعصم فيدفعه دائماً إلى الطريق الصحيح والشريف ويحميه نم أخطار المعصية والخطيئة والفساد والانحلال والإباحية، ويجعله إنساناً قوياً قادراً على مواجهة كل خطر، والوقوف في وجه كل عاصفة.
ومن خلال هذين السلاحين الماضيين رسمت التربية الإسلامية طريقها الحق في بناء الإنسان لنفسه رجلاً معتصماً بالله عن الخطأ والفساد وعاملاً لأسرته وجماعته دون أن تجرفه الأنانية الطاغية. فهو بذلك يكون قادراً على حماية عقيدته ووطنه وأمته من ما تتعرض له من تحديات وأخطار سواء كانت في مجال الأرض أم مجال الفكر، أما حين تخلو التربية الحديثة الوافدة في العالم الإسلامي من قيم العقيدة والأخلاق فإنها لن تكون إلا تبعية شائنة لأهواء الحياة وأخطاء المجتمعات. وذلك هو ما قصدت إليه القوى المتربصة بالإنسانية الشر الراغبة في تدمير المجتمعات قبل السيطرة عليها.(12/10)
وبعد فإن الخطر الحقيقي الذي واجهته الأمة الإسلامية إنما بدأ من التعليم وإن اليقظة الحقيقية إنما تبدأ منه، لقد حجبت القوة الاستعمارية منهج الأمة في التربية وأقامت نظاماً ازدواجياً خطيراً مزق الأمة ودمر فكرها، وأنشأ تلك التحديات الخطيرة، فالأسلوب أسلوب التربية الإسلامية أساساً في السنوات الأولى، ثم يتفرع منها التعليم المدني زراعياً أو تجارياً أو صناعياً أو ثقافياً عاماً، وهذا هو ما يسمى بالتعليم الأصيل. ثم ينبثق منه التعليم المتخصص، وإن يقوم منهج التعليم كله في إطار التربية الإسلامية الجامعة المتكاملة.
وبعد فإن تلك المحاولات التي ترمي إلى "ترقيع" التعليم المدني الوافد القائم الآن بإدخال ما يسمى مادة الدين، إنما هو عمل ناقص، ومحاولة باطلة لإطالة أمد المنهج الوضعي الاستعماري، إن الإسلام هو الإسلام ليس مادة الدين التي تدرس منها بعض آيات وأحاديث وصلوات. إن الإسلام هوة مادة كل المناهج والعلوم والدراسات: اللغة العربية وعلم النفس والأخلاق والاجتماع والسياسة والاقتصاد والقانون وهو روح كل الدراسات في المدرسة الأولية والوسطى والإعدادية والثانوية والجامعة جميعاً.
ذلك أن الإسلام ليس ديناً بمفهوم الدين الغربي، ولكنه منهج حياة ونظام – مجتمع والدين جزء منه. ولن تستطيع هذه الأمة أن تحقق وجودها وتمتلك إرادتها ما لم يتحرر من النفوذ الغربي من مناهج التربية والتعليم التي صنعت أجيال الهزيمة والنكسة والانهيار والتدمير، ولابد مع التماس منابع الإسلام في الاقتصاد الإسلامي والشريعة الإسلامية أن يكون هناك تربية إسلامية أصيلة.
نحن نعرف أن التربية والتعليم والثقافة هي وجود ثلاثة لحقيقة واحدة.(12/11)
وإن ازدواجية التعليم وازدواجية الثقافة هي أخطر الرياح الصفراء العاتية التي تهب الآن في وجه الإسلام الحق. المدرسة والبيت والصحيفة والكتاب والجامعة كل هؤلاء مدعوون لبناء منهج تربي جديد قوامه تكامل التربية الإسلامية روحاً وعقلاً وجسماً، وقومية وإنسانية، وفردية وجماعية، وخلقية وعقلية، وربط بين الماضي والحاضر والمستقبل.
إن هذا هو المصدر الوحيد للحصانة من خطر التيارات الوافدة والدعوات – الهدامة، هذه الأخطار التي تتمثل في الفكر الاستعماري والماركسي والصهيوني هذا الخطر ليست هناك أمة معرضة له بقدر ما تتعرض الأمة الإسلامية. لأنها هي وحدها التي تمتلك ثقافة وفكراً مستقلاً ومتميزاً له ذاتيته الخاصة وطابعه المفرد من وحي السماء يستمد مفهومه من التوحيد والحق والعدل والرحمة جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ليخرج البشرية من الظلمات إلى النور، وما زال المسلمون مسئولين عن تبليغ هذا المنهج وحمايته وتطبيقه على مجتمعاتهم.(12/12)
حركة الترجمة
الأستاذ أنور الجندي
يواجه الفكر الإسلامي في مطلع القرن الخامس عشر الهجري عديداً من التحديات التي انطلقت منذ بدأت حركة الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي يهدف "تغريب" الإسلام وبلاده وفكره وذلك عن طريق طرح معطيات الفكر الغربي بواسطة الترجمة على نحو بالغ الخطورة اختلط فيه النافع بالضار وغلبت مترجمات الفلسفة اليونانية والقصة المكشوفة ونظريات العلوم الاجتماعية والنفس والأخلاق الغربية ومترجمات النظريات الاقتصادية سواء الرأسمالية أم الماركسية، بل وطرحت من خلال هذه المترجمات نظريات مادية في ترجمة الحياة وتفسير التاريخ ونقد الأدب وكلها تتعارض تعارضاً تاماً مع مفاهيم البلاد وقيم الفكر الإسلامي، هذه الظاهرة الخطيرة: ظاهرة المترجمات إلى اللغة العربية من الفكر اليوناني الوثني القديم والفكر الغربي الليبرالي والماركسي تحتاج إلى نظرة فاحصة في مطلع القرن الخامس عشر بهدف تحديد موقف الفكر الإسلامي منها من حيث الوجهة التي يجب أن يتجه إليها في القرن الخامس عشر وهي وجهة التحرر من الوافد والدخيل ومن التبعية والاحتواء، واحتلال ناصية الأصالة وإعلاء الذاتية الخاصة وتمكين الوجود الأصيل المستمد من منابع الإسلام، والنظر إلى الفكر الوافد على أنه نتاج غريبلقوم لهم مفاهيمهم وقيمهم، ولا بأس من لالنظر فيه والاستئناس به للتعرف على أساليبه ووجهته، دون أن يكون مسيطراً أو موجهاً لفكرنا الإسلامي ودون أن يكون فكرنا الإسلامي – ذي الميراث الرباني والتراث العريق – خاضعاً أو منصهراً في بوتقة الأممية العالمية.(13/1)
ولقد قامت الترجمة في العصر الإسلامي الأول بإرادة المسلمين الحرة وفي سبيل الحصول على تراث الأمم العالمي باعتبار أن الإسلام هو وارث الحضارات القديمة جميعاً، ونظراً لأن الإسلام قد دعا إلى العلم وإلى النظر في الكون فحق على أهله أن يتعرفوا على ما سبقهم من تجارب في هذا المجال بغية تقييمها والنظر فيها وتصحيح أخطائها والتماس السليم الصادق منها مما لا يتعارض مع مفهوم التوحيد الخالص للبناء عليه على النحو الذي تحقق بإقامة المنهج العلمي التجريبي الإسلامي ومنهج المعرفة الإسلامي ذي الجناحين (روحاً ومادة وديناً وعلماً ودننيا وآخرة).
ومن ثم فقد أنفق المسلمون جهدهم في الحصول على أوليات العلوم الطبية والطبيعية والفلكية التي كانت ميراثاً عاماً (من بابل وفارس ومصر والهند والصين) والتي كانت قد تجمعت في بيئة اليونان والرومان ثم جاءت المسيحية فرفضتها كلية، ومن ثم كان فهم المسلمين للترجمة في العصر الأول دقيقاً وسليماً، فقد كانوا يفرقون تفريقاً واسعاً بين "العلوم" و "الثقافة" وكانوا يؤمنون بأن لكل أمة ثقافتها الخاصة بها المستمدة من عقيدتها ومفهومها للحياة وميراثها الفكري، ولما كان التوحيد هو قمة معطيات الإسلام فقد حددوا موقفهم إزاء الشعر والأدب والفلسفة وأدخلوها في دائرة ثقافة الأمم الخاصة بهم، وأخذوا في ترجمة العلوم والمعارف العامة باعتبارها ملك لجميع الأمم، ولذلك فقد سارت نهضة الترجمة في العصر العباسي على هذا الأساس لولا أن عوامل معينة تجخلت في ترجمة الفلسفات اليونانية والفارسية وخاصة ما يتصل بعلم الأصنام اليوناني المستمد من الوثنية اليونانية وكذلك ما يتصل بالغنوصية الشرقية، وكانت قد مزجت فلسفة اليونان والفلسفة الشرقية في المدرسة الأفلوطينية.(13/2)
غير أنه ما أن ترجمت فلسلفات أرسطو وأفلاطون وغيرهما حتى واجهها الفكر الإسلامي في معارضة قوية واعتبر القائمين بها أتباعاً لمدرسة اليونان حتى أطلق عليهم اسم (المشائين المسلمين) وكشف عن فساد مفاهيمها ومعارضتها للتوحيد الخالص ومن ثم نشأت مدرسة الأصالة التي بدأها الإمام الغزالي ووسد قوانينها الإمام ابن تيميه الذي كشف عما أماه "منطق القرآن" في مواجهة منطق اليونان وكان الإمام الشافعي قد بدأ هذا الاتجاه حين فرق بين أرجانون اللغة اليونانية وأرجانون اللغة العربية: لغة القرآن وخاصة فيما يتعلق بأن الفلسفة اليونانية تقوم على الوثنية والعبوية بينما يقوم مفهوم الإسلام على التوحيد والإخاء البشري.
ولكن الترجمة فيما عدا هذا الجانب الفلسفي ظلت محكومة بهدف واضح وبإإرادة قديرة. قوامها مفهوم الإسلام نفسه، وكل ما وجده علماء الإسلام ومفكروه معارضاً للإسلام نقضوه وما وجدوه مخالفاً عارضوه، وكشفوا زيفه وأعلوا شأن مفهوم الإسلام الجامع القائم على التوحيد الخالص والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي.(13/3)
أما في العصر الحديث فإن الإرادة الإسلامية الحرة كانت مقيدة ومغلولة حين نشأت حركة الترجمة واستعت في ظل النفوذ الاستعماري المسيطر على البلاد العربية فكانت حركة الترجمة جزءاً من مخطط التغريب والغزو الثقافي بالرغم من أنها بدأت في عصر محمد علي بداية صحيحة راشدة، غير أنها سرعان ما فقدت أصالتها وتغلبت جماعات من المترجمين المارون اللبنانيين (شأنهم في هذا شأن جماعة السريان في العصر الأول) الذين عكفوا على ترجمة القصص الفرنسي الجنسي المكشوف ونقل القصص الفرنسي الجنسي المكشوف ونقل القصص التافه السخيف، وكانت الترجمة وسيلة كسب للعيش وليس عملاً فنياً فضلاً عن جهل لقواعد اللغة وعدم التقيد بالأصل المترجم وتشويه القصة، في لغة ركيكة مبتذلة عدداً بلغ ستمائة قصة، ثم ظهرت مؤامرة التمصير التي قادها عثمان جلال فكان يترجم القصص الفرنسية إلى العامية المصرية.
وظهرت مدرسة الترجمة من الأدب الإغريقي بقيادة لطفي السيد وطه حسين حيث ترجمت بعض آثار أرسطو والياذة هوميروس (سليمان البستاني) ومائدة أفلاطون للطفي جمعه وكثيرون.
ثم ظهرت أبعد القصص الأدبية إباحية وكشفاً حين ترجمت آثار مولير وراسين وكوررني.(13/4)
ودخلت إلى الأدب العربي مفاهيم مختلفة تمام الاختلاف عن مفاهيم المسلمين في المرأة والرجل وفي العلاقات الاجتماعية على نحو يمتهن كرامة العرض والخلق وكذلك ترجم طه حسين وغيره أسوأ أشعار الأدب الفرنسي والقصص المسرحي أمثال بودلير وتوماس هاردي، وبورجيه، وموباسان، وبول فاليري ولم يسلم من هذا الاتجاه إلا عدداً قليل جداً من أمثال فتحي زغلول وعادل زعيتر ومحمد بدران بل لقد وقع المترجمون في ذلك الفخ الذي نصبه النفوذ الأجنبي بنسبه أشعار فارسية قديمة في الخمر إلى العالم الفلكي عمر الخيام من أمثال الزهاوي والصافي النجفي وأحمد رامي وعبد الحق فاضل وأحمد حامد الصراف ووديع البستاني إلى العربية مشيدين بها وهي لم تثبت في الأصل وتبين فساد مصدرها وأنها كانت محاولة خطيرة لبث روح التحلل والفساد والتمزق النفسي في الشباب المسلم.
ويمكن القول أنه كان وراء خطة الترجمة على هذا النحو قوى كبرى تهجف إلى غاية واضحة قوامها "تغيير أعراف هذه الأمة وتدمير مقوماتها" وقد كان لهذا القصص المكشوف أثره الواضح في تدمير أعراض كثير من البيوت.
واستمرت هذه الموجة من الترجمة الموجهة ولا تزال حتى اليوم تعمل في عدة ميادين وترمي إلى غايات بعيدة منها الغض أساساً من شأن الإسلام وقيمه ومفاهيمه وشريعته ولغته وتاريخه وطرح هذا الركام المسموم في مختلف الميادين وخاصة ما طرح في ميادين العلوم (نظرية دارون) والنفس (نظرية فرويد) والعلوم الاجتماعية (نظرية دوركايم) والأخلاق (نظرية سارتر) وفي العلوم الاقتصادية (نظرية الرأسمالية ونظرية الماركسية).
وكلها تهدف إلى فرض مفاهيم ونظريات وافدة معارضة لمفهوم الإسلام الأصيل الرجامع الواضح في مختلف مجالات النفس والأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع.(13/5)
وإذا أحصينا هذه الأجناس والفنون المختلفة وجدنا أن أقلها ما ترجم في ميدان العلوم والتكنولوجيا التي هي المادة الوحيدة التي نحن في حاجة إلى نقلها من الفكر الغربي، وبالرغم من ذلك فلا تزال القيود تقيد خطوة الفكر الإسلامي فيها فلال يزال مفروضاً على الكليات العلمية (الهندسة والطب والعلوم والزراعة) أن تخضع للمصطلحات الغربية ونتعامل معها مع أن أساس النهضة الحقة أن تنقل العلوم التجريبية إلى أحضان اللغة العربية أساساً حتى يمكن أن يقوم الانبعاث على أساس مفهوم الإسلام نفسه للعلم وليس على أساس مفهوم الغرب الذي يتمثل الآن في الاستعلاء العنصري والتهديد الذري، والصراع بين المعسكرين، والحيلولة دون تمكن المسلمين والعرب من الحصول على التكنولوجيا سواء العامة أم العسكرية والحربية – وغاية ما يقال في هذا الصدد أن معركة الترجمة لم تبدأ من منهج صحيح مدروس ينظم مدى ما نحتاجه وما لسنا في حاجة إليه، وإنما أخذ التغريب والغزو الثقافي المبادرة ومضى يقدم لنا على مدى قرن كامل نتاجاً سيئاً غاية السوء، قوامه ترجمة القصة المكشوفة الأجنبية والتراث اليوناني الوثني، والمفاهيم الماديوة والإباحية في مجالات النفس والاجتماع والأخلاق والتربية ومن الأسف أن هذا الآثار قد قدمت لنا على أنها "علوم أصيلة" وليست "فروضاً قابلة للخطأ والصواب" أو وجهات نظر تمثل أممها وأصحابها ولم تسبق هذه الدراسات أن تلحق بما يكشف أمام القارئ العربي والمسلم مكانها من فكر أمتها و موقفنا كفكر له منهج متكامل جامع منها، وبذلك زيفت هذه الترجمات كثيراً من العقول وأفسدت كثيراً من النفوس وخلقت أجيالاً مضطربة لأنها استطاعت أن تقرأ الفكر الغربي القائم على عقائد ومفاهيم وقيم وأيديولوجيات، على أنه "علم غير قابل للنقض" بينما لم يكن ذلك إلا مجموعة من الفرضيات القابلة للخطأ والصواب والتي تختلف بل ربما تتعارض مع فكرنا الإسلامي العربي، وكان القائمون على هذه(13/6)
الأعمال في الأغلب من خصوم هذه الأمة وفكرها ومن الراغبين إلى: اتخاذ سلاح الترجمة سبيلاً إلى هدم هذه المقومات.
وفي نفس الوقت الذي حجبت حركة الترجمة ما يحتاج إليه المسلمون في هذا قالعصر من مجالات العلوم التجريبية والطبيعية والرياضية وغيرها، فقد طرح في أفق الترجمات ركاماً مضطرباً عاصفاً يرمي إلى هدم ذلك الحائط النفسي المرتفع القائم في النفس المسلمة بالحق والتقوى والكرامة والفضيلة والعفاف هذا الركام يصور الإباحيات الجنسية على أنها شرعة المجتمع المباحة كما يصور الجريمة على أنها ظاهرة طبيعية ويصل تأثير هذه المترجمات المسمومة إلى جميع مؤثرات العقائد والأخلاق والاجتماع، من حيث وجود تباين واضح وخلاف عميق بيثن مفاهيم الغرب ومفاهيم الإسلام حيث تقوم الحياة هناك على أساس عبادة الجسد وتقديس الجمال والنظر إلى العلاقات الجنسية نظرة حرة بعيدة عن القداسة والعفاف والإيمان بالعرض وكرامة المرأة حيث تختلط الصور في هذه الترجمات المطروحة فتحدث آثارها الخطيرة في النفس العربية الإسلامية حتى تصل إلى صميم العقيدة نفسها.
كذلك كان من أسوأ آثار الترجمة ذلك الخلط الشائن بين المذاهب المتعارضة والنظريات المتضادة وهي نظريات ومذاهب لم تظهر في وقت واحد هنالك وإنما ظهرت على أزمنة متفاوتة ولكنها حين نقلت إلى فكرنا الإسلامي أريد طرحها جملة ليكون لاضطرابها وتباينها واختلافها أبعد الأثر في تدمير هذا الفكر والإدالة من أصالته.(13/7)
ومن العجيب أن ننقل ونترجم آثار الفكر الغربي اليوم وهو يمر بمرحلة الأزمة والانهيار والهزيمة. وقد أحيط به واحتوته مقرررات التمودية وبورتوكولات صهيون وآوى أهله إلى ذلك الإحساس الرهيب بالغربة والقلق والتمرد والغثيان فنقل مسرح اللا معقول واللا أدب واللا أخلاق. ومثل هذه الفنون المضطربة التي لسنا في حاجة إليها والتي لا تستطيع أن تعطينا شيئاً يعيننا على بناء أنفسنا في فكرنا أو أمتنا وخاصة ما كتبه سارتر وكامي ومالرو من أحاسيس بالرعب والفزع والاضطراب نتيجة ذلك الانفصال الشائن عن العقيدة والأخلاق والمسئولية الفردية وهي في مجموعها تضاد الفطرة التي لا تستطيع النفس الإنسانية أن تتجاهلها أو تحتويها.
كذلك فإن هذه الترجمة تصور الفرد الغربي وهو يحتقر الأخلاق ويسخر من الرحمة والصدف والعفة والشرف ويحتقر الوطنبة ويضحك من التزام الأخلاق للمجتمع ويستخف بفكرة الأسرة والعائلة.
وتجد مثل هذه الترجمات تحمل ذلك المثل الرديء بأن لا يحترم الإنسان أحداً ولا يحترم أي مثل أو دين أو مبدأ ويعتبر ذلك تقييداً لحريته وما يتصل بهذا من إنكار له تبارك وتعالى وتهجم بالعبارات الرديئة عليه (جل جلاله) على النحو الذي عرف عن نيتشه وسارتر وبيراندلو، فضلاً عن إحياء الأساطير واتخاذها أساساً لنظريات علم النفس والأخلاق والاجتماع أو مصاجر لمفاهيم الأنثروبولوجيا وغيرها من المفاهيم.
هذه السموم جميعها تترجم إلى لغتنا العربية وتدخل إلى دائرة أدبنا وفكرنا دون أن يقول مترجموها ما هو وجه الحق فيها وما هو الزيف. وما موقفنا منها كأمة لها عقيدتها وفكرها ومفاهيمها وقيمها. وهم بذلك يطرحون أفق مجتمعنا الإسلامي موجة زائفة من اليأس والتشاؤم والملل وازدراء الحياة مما لا يتفق مع طبيعتنا المتفائلة المؤمنة بالله تبارك وتعالى التي لا تخاف شيئاً ولا أحداً غير الله والتي تعتصم دائماً برضوان الله ورحمته.(13/8)
ولعل هذه السموم التي تطرحها عملية الترجمة من أخطر ما يواجه حركة اليقظة الإسلامية اليوم وتضع أمامها صخوراً وجنادل تحول بينها وبين إكمال المسيرة إلى الحق وتحجب كثيراً من حقائق الإسلام وتفسد العقول والقلوب في أعماق شبابنا وأجيالنا الجديدة. ويتساءل كثير من الباحثين أمثال الدكتورة نازك الملائكة وغيرها عن الغاية التي سينتهي إليها شبابنا نتيجة تبنينا لهذا الفكر العربي المريض الزاحف.
ونحن نقول أننا أشد ما نكون حاجة إلى أن ننبه ونحذر من نتائج الأخطار والتي تطرحها عملية "الترجمة غير الموجهة" إسلامياً وأن نقف منها موقف التحفظ والتحذير والكشف عن أخطائها لتهدي أبنائنا إلى الحق، ونقول لهم في صراحة أن هذه المفاهيم دخيلة وافدة، وأنها ليست مفاهيم المجتمع الإسلامي العربي ولن تكون، نتيجة للخلاف العميق في الأسس والمصادر والمقومات والقيم والعقائد بين فكرنا وبين هذا الفكر ما بين أمتنا وبين الغرب.
ولقد حق علينا اليوم ونحن على أبواب القرن الخامس عشر أن يواجه الفكر الإسلامي هذه السموم والآثار التي طرحها الفكر المترجم الوافد، وقد بلغنا مرحلة الرشد والأصالة والقدرة على التحرر من التبعية والاحتواء والإذابة في بوتقة الفكر الأممي – علينا أن نعاود هذا الفكر بالنظر والتحليل وكشف الجوانب التي تتعارض مع الإسلام وخاصة ما كتب عن الرسول والإسلام والقرآن واللغة العربية وتاريخ الإسلام مما يحمل بذور الشكوك والتخرضات الضالة المضلة وهناك مجالات عديدة تحتاج إلى النظر والمراجعة:
ما ترجم في مجال الفكر الإغريقي الهليني.
ما ترجم في مجال العلوم الاجتماعية والنفس.
ما ترجم في مجال الأدب والنقد الأدبي والقصة.
ما ترجم من التاريخ وتفسير التاريخ.
ما ترجم في مجال الاقتصاد والسياسة.
ما ترجم في مجال التراجم وحياة العظماء.(13/9)
جيل العمالقة والقمم الشوامخ في ضوء الإسلام
أنور الجندي
دار الاعتصام
###3###
بسم الله الرحمن الرحيم
مدخل إلى البحث
إن من طبيعة الفكر الإسلامي أن يعقد مقارنة بين جيل وجيل لتقييم ما طرحه الجيل السابق ووزنه بميزان الأصالة والتقدير الحقيقي الحر البعيد عن الأهواء المتحرر من الولاء والخضوع لما خضع له الجيل السابق، وقد تتابعت في تاريخ الفكر الإسلامي عملية (إعادة النظر) وإعادة تقييم المراحل هذه، حتى غدت مسألة طبيعية بل وضرورية لمواكبة سير الإنسانية على الطريق الصحيح إلى الغاية الأصيلة وتصفية الفكر الإسلامي في كل مرحلة من الدخائل.
ومنذ ظهرت طلائع حركة اليقظة الإسلامية بمفاهيم المنهج القرآني الأصيلة بدأت عملية إعادة النظر في كل ما كتب في مرحلة النفوذ الأجنبي والاحتواء والسيطرة الأجنبية والتبعية للفكر الغربي المسيطر من خلال معاهد الإرساليات والابتعاث إلى البلاد الأجنبية وما حمله هؤلاء العائدون من مذاهب ونظريات وما حاولوا من خلاله إخضاع الفكر الإسلامي وتاريخ الإسلام والتراث إليه من نظريات تقوم على أساس الفلسفة المادية والانشطارية التي عرف بها الفكر الغربي وتلك قضية كبرى معروفة تحت اسم: حركة التغريب والغزو الثقافي.
واليوم ترتفع صيحة في معسكر التغريب والغزو الثقافي تعارض هذه المراجعة وتصد هذا التقييم الذي يقوم به رواد حركة اليقظة بمفاهيم الإسلام للفكر المعاصر الذي خضع فترة للنفوذ الأجنبي وجرت محاولة احتوائه وتدميره وتغريبه.
وهذه الصيحة اليوم تحمل رمزًا لامعًا خطيرًا هو التساؤل عن الخطأ الذي يجري في مواجهة جيل العمالقة والقمم الشوامخ، هؤلاء الذين قدموا للأمة ذلك الفيض الدافق من البطاقات والآراء والنظريات التي تقوم عليها الآن الدراسات العربية والأدب والشعر والفن وفي مختلف مجالات الفكر.(14/1)
###4### والحقيقة أن ما قدمته هذه المدرسة التي يسمونها تارة باسم الرواد وتارة باسم جيل العمالقة والقمم الشوامخ، ليس إلا عصارات من الفكر الغربي انتزعت من هنا أو هناك، وخلاصات ومترجمات لمضامين ذلك الفكر الذي سيطر على الغرب تحت اسم الفلسفة المادية ومدرسة العلوم الاجتماعية والتحليل النفسي، وهو خلاصة ما كتب دارون ودوركايم وفرويد وسارتر وماركس وانجلز ومترجمات للقصص الجنسي والإباحي من الأدب الفرنسي وكان الصراع في أول الأمر قائمًا بين اللاتينيون والسكسون هؤلاء مع المدرسة الإنجليزية (العقاد والمازني وشكري) وأولئك مع المدرسة الفرنسية (خليل مطران وطه حسين وهيكل).
ثم جاء الصراع الثاني بين المدرسة الليبرالية (لطفي السيد – طه حسين، وحسين فوزي وزكي نجيب محمود) ومن المدرسة الكلاسيكية (سلامة موسى وحسين فوزي ومندور) ثم جاءت المدرسة الإنسانية الماسونية (الهومنيزم) وعلى رأسها لويس عوض.(14/2)
وكل ما قدم في هذه المرحلة منذ بدأت هذه المدرسة على يد أستاذ الجيل (لطفي السيد) وحتى اليوم هو فتات موائد الغرب بشقيه، ولم يكن هؤلاء الأدباء والكتاب من أصحاب الأسماء اللامعة إلا قناطر بين الساحلين، ولم يكن ما نقل خلال هذه الفترة سواء على لسان من قدموه على أنه فكرهم الخالص أو ما ترجموه، لم يكن فكرًا حرًا خالصًا أريد به خدمة هذه الأمة، ولم يكن مقصودًا به ترسيخ الوجود الفكري الثقافي لأمة تملك مفهومًا أساسيًا جامعًا للفكر والحياة والمجتمع، وإنما كان فكرًا متحيزًا مقصود به تسميم قنوات الفكر الإسلامي وإفسادها وتحويل وجهة هذه الأمة وتغيير ملامحها والقضاء على ذاتيتها وأعرافها الإسلامية والعربية الأصيلة، كان هذا واضحًا في كل ما نقل وما ترجم حتى فيما وصى به من إحياء التراث الإسلامي العربي، كان هدف ذلك كله الدعوة إلى إخراج هذه الأمة من مقوماتها الأصيلة وصهرها في بوتقة الفكر الغربي المادي اللحد الوثني ربيب الفكر الإغريقي القائم على علم الأصنام ودفع هذه الأمة بعيدًا عن طريقها الأصيل بوصفها صاحبة المنهج التجريبي الذي صنع الحضارة المعاصرة، وصاحبة منهج المعرفة ذي الجناحين (الروح والمادة) والقائم على منهج الثوابت والمتغيرات إلى منهج انشطاري مادي خالص، وحق في هذا ما قال البعض بأنهم أخذوا المنهج العلمي ###5### التجريبي مع المسلمين وأوردوا المسلمين إلى منهج أرسطو الذي رفضه المسلمون قديمًا وهاجمته الحضارة المعاصرة في عصر النهضة.(14/3)
إذن فالحملة المثارة تحت عنوان خطير: (هدم الشوامخ من أجل من) هي محاولة جديدة لمحاولة تثبيت دعائم هذه المؤامرة القديمة التي تكشف مخططها، ومغالطة واضحة تقوم على التعميم يهدم الشوامخ فمن هؤلاء الشوامخ الذي جرى هدمهم، وهل من أجل أمثال طه حسين ولويس عوض وحسين فوزي وتوفيق الحكيم وزكي نجيب محمود يطلق اسم الشوامخ بينما حقيقة الأمر أن الشوامخ هم غير هؤلاء، إنهم أولئك المجاهدون الصادقون الذين لا يذكرهم أحد ولا يتحدث عنهم أحد، الذين وضعوا في الظن وأقيمت حولهم مؤامرة الصمت، لأنهم قدموا لأمتهم معطيات وافرة ودلوا أمتهم على طريق الأصالة والنهضة الحقيقية.
والحقيقة التي يتجاهلها أتباع التغريب والغزو الثقافي أن الشوامخ والعمالقة الحقيقيون ليسوا هؤلاء، وإنما أولئك الذين نسيهم الناس وتجاهلتهم الصحافة وحجبهم الإعلام، وإذا أيد أمر واحد منهم بتأليف كتاب عنه وقفت أمثال الدكتورة سهير القلماوي لتقول: من هذا، من هو (عبد العزيز جاويش) ذلك لأن جاويش ليس من مدرسة لطفي السيد وكان خصمًا لخصوم الإسلام والعربية ومدافعًا عن اللغة العربية أمام المستشرقين الذين حاولوا اغتيالها في مؤتمر الجزائر سنة 1905.
وكثيرون هم الشوامخ الحقيقيون، ولكن طه حسين وهؤلاء ليسوا إلا أقزام من التغريبيين غلمان المستشرقين الذين أعطاهم النفوذ الأجنبي هذه الشهرة والمكانة وظل يدافع عنهم حتى اليوم، حماية لوجودهم من خلالهم وإلا فقل لي بربك من غير طه حسين يقام له حفل سنوي يدعى إليه المستشرقون من كل مكان في أوروبا، ولماذا لا يقام هذا التقدير لمصطفى صادق الرافعي أو رشيد رضا أو شكيب أرسلان.
الحقيقة أن هذه الحملة تحت اسم هدم الشوامخ هي حملة باطلة وإلا فمن الذي هدم جمال الدين الأفغاني والمتنبي وابن خلدون في العصر الحديث، أليسوا هم أولئك الشوامخ في تقدير التغريبيين.
###6### 2- تقييم المحصول الذي قدمه جيل الرواد بميزان الإسلام(14/4)
إننا إذا أعدنا النظر في تقسيم هذا المحصول الذي قدمه جيل الرواد وجدنا فيه الشيء القليل النافع الإيجابي ووجدنا أغلبه مما قذفتنا به رياح السموم، هذه الأطروحات التي كتبها الأعلام الذين تصدروا الحياة الأدبية: ما وزنها في مجال البحث العلمي: لقد تبين أن رسالة الدكتور طه للدكتوراه في السربون عن ابن خلدون هي ترديد لأفكار اليهودي الحاقد على الإسلام وأعلامه (دوركايم) وأنها تنتقص هذا الرجل انتقاصًا شديدًا، ونجد أطروحة منصور فهمي عن (المرأة في التقاليد الإسلامية) وهي ترديد صارخ لأكاذيب المستشرقين واتهامهم للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه استثنى نفسه من قانون الزواج وهي أفكار دهاقنة اليهود، وإذا نظرنا في رسالة زكي مبارك عن (الأخلاق عند الغزالي) نجدها ترديدًا لأكاذيب المستشرقين عن الغزالي واتهامه بأنه متأثر بالمسيحية، فإذا راجعنا كتاب (مع المتنبي) لطه حسين وجدناه مأخوذًا من أحقاد المستشرقين وفي مقدمتهم (بلاشير).
فإذا راجعنا كتاب علي عبد الرازق عن (الإسلام وأصول الحكم) وجدناه مأخوذًا بكامله من رسالة لمرجليوث، وإذا نظرنا في كتاب (الشعر الجاهلي) وجدناه مرددًا لنظرية قدمها مرجليوث أيضًا عن انتحال الشعر يرمي بها القرآن نفسه، أما آراء سلامة موسى فقد كانت منقولة نقلا مباشرًا من كتابات: داروين وفرويد وماركس ودوركايم.
أما العقاد فقد تأثر تأثرًا واضحًا بنظريات مقارنات الأديان في كتابه عن (الله) وتأثر بنظريات الوراثة في كتاباته عن الصحابة.(14/5)
كان الهدف هو إخضاع الفكر الإسلامي في مختلف جوانبه للنظرية المادية الغربية، بدأ ذلك جرجي زيدان في كتاباته عن الأدب العربي والتمدن الإسلامي والروايات الإسلامية، ومضى على الطريق كل من جاء بعد ذلك، فكتاب ###7### (حياة محمد) على ما به من دفاع عن الإسلام خرج من عباءة المستشرقين وكتاب التغريب وتبنى نظريات الكاثوليكي الفرنسي (دوركايم) وأنكر ما سوى القرآن من معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ورفض مفهوم الإسراء بالروح والجسم وتبنى عديدًا من مفاهيم الفكر المسيحي الغربي.
أما الذين قدموا مفاهيم الإسلام الأصيلة فقد أبقاهم النفوذ الغربي المسيطر على الحياة الثقافية في مصر والبلاد العربية – إبقاءهم في الظل فقد سبقت ولحقت كتابات هيكل عن الرسول صلى الله عليه وسلم كتابات كثيرة: (محمد أحمد جاد المولى، محمد مصطفى نجيب).
ومن بعد جاء محمد الغزالي, محمد سعيد البوطي, أبو الحسن الندوي, وكثيرون ولكن هناك تركيز في دائرة الضوء على كتاب معين أو كتب بعينها وفي مختلف الميادين الفكرية والثقافية تجد التعتيم نحو الأسماء الكريمة الأصيلة وهناك مؤامرة الصمت قائمة إزاءها وإزاء كتاباتها:(14/6)
أي الفريقين أحق بأن يوصف بالشموخ والريادة وجيل العمالقة: هؤلاء أتباع التغريب وغلمان المستشرقين والذين حملوا لواء تزييف الفكر في كل مجال من مجالاته حيث سيطر لطفي السيد على الدعوى العامية أو قاسم أمين لإخراج المرأة من بيئتها أم سعد زغلول لدعوة تعليم اللغة الإنجليزية أم طه حسين للدعوة للأدب الفرنسي أم سلامة موسى للدعوة على دارون وفرويد وماركس، أم حسين فوزي للدعوة إلى الموسيقى الصاخبة أم لويس عوض للدعوة إلى الفرعونية أم ساطع الحصري للدعوة على القومية الغربية أم على عبد الرازق للدعوة إلى العلمانية... هؤلاء أحق بأن يوصفوا بأنهم الشوامخ وتقوم الأقلام لحمايتهم من كشف زيفهم ومن تعرية خبثهم ومن وضعهم في مكانهم الصحيح فلا تخدع بهم الأمة، أم هؤلاء الأبرار:
جمال الدين، محمد عبده، مصطفى صادق الرافعي، رشيد رضا، شكيب أرسلان، محب الدين الخطيب، أحمد زكي باشا، طاهر الجزائري، أحمد تيمور، المويلحي، الكواكبي، علال الفاسي، عبد العزيز جاويش، البكري، المنفلوطي، الزيات، ###8### الثعالبي، عبد الرحمن عزام، عبد الوهاب عزام، عبد الحميد بن إدريس، حسن البنا، حسن حسني عبد الوهاب، فريد وجدي، الغلابيني، طنطاوي جوهري، عبد الوهاب خلاف وآخرون.
هؤلاء في الحقيقة هم الذين صنعوا نهضة مصر والشرق والإسلام وخاصة في مجال النضال الوطني والتحرر من النفوذ الأجنبي هؤلاء هم الذين وضعوا قواعد البناء الفكري الإسلامي الحديث.
ولقد ادعى لطفي السيد وسعد زغلول وطه حسين أنهم أولياء جمال الدين أو محمد عبده، ولكن طريقتهم وأسلوبهم كذب هذه الدعوة وكشف زيفها، بل أن طه حسين نفسه أعلن خروجه على محمد عبده، وأحمد زكي باشا، والشيخ الخضري، أساتذته وهاجمهم.(14/7)
إن الحقيقة التي لا يختلف فيها الآن بعد أن ظهرت عشرات الدراسات مصححة للوقائع، في ضوء مفهوم اليقظة الإسلامية، أن هذه الأسماء اللامعة التي ما تزال تتردد، إنما يراد بها أن تحجب تلك الأضواء الساطعة، وهي في الحقيقة لم تصنع تلك النهضة، وإنما صنعها أولئك الأبرار ووضعوا لها القواعد، هذه الأسماء المجهلة في ميزان الشهرة المعاصرة الكاذبة التي يوقد نارها التغريب والاستشراق، أولئك المخلصون الصادقون فإن أحدًا لم يذكرهم اليوم، أما هؤلاء الذين خدعوا الناس بأن حملوا لواء قيادة الفكر فإنهم لا يمكن وصفهم بالريادة ولا بالبطولة ولا بالقيادة لأن عوامل ذلك كله تنقصهم وأبرز عوامل قبول الأمة لهم وإيمانها بصدقهم وثقتها فيهم، أنهم لم يكسبوا شهرتهم نتيجة خصوبة فكرهم أو صدق إيمانهم وإنما لأنهم عملوا في مجال السياسة والحزبية والصحافة يومًا بعد يوم، في ذلك الركام المضطرب العاصف من الصراع الحزبي والجدل السياسي والهجاء المرير فأعطاهم هذا كله: ذلك البريق وتلك الشهرة، واستطاعوا أن يركبوا كل موجة فلما جاءت موجة الإسلام ركبوها ظنًا منهم أن يسيطروا عليها ودفعًا من سادتهم لكي يحولوا وجهتها.
هذا ما أعطاهم الشهرة (وهي ليست مقياسًا حقيقيًا للبطولة) أما جهدهم الحقيقي في مجال بناء النهضة فهو قليل بل هم المعوقين لها الذين شقوا جبهتها الموحدة، ###9### وأمثال هؤلاء اللامعين لم تكن كتاباتهم في الأدب والفكر تساوي واحدًا من مائة من كتاباتهم السياسية والحزبية المنسية بأدنى ألوان الجدل والهجاء، ولم تكن تساوي واحدًا من ألف من كتابات ذوي الأصالة والثقافة والنتاج الجيد وأصحاب الأقلام الموجهة لخدمة كلمة الله الداعية لأن تكون كلمة الله هي العليا.
ولكن السياسة والحزبية والنفوذ التغريبي هو الذي أعطاهم لمعان الاسم حتى جاء اليوم الذي يسمون فيه بالقمم الشوامخ.(14/8)
إن أسماء كثيرة هي التي أعطت النهضة الإسلامية دفعتها القوية من علماء ومن كتاب يمثلون الأصالة الحقة وليس أولئك المغربون هم الذين قاموا بهذا الدور، ونحن لا ننكر عنهم أنهم شاركوا فيه بجهد ضئيل (ولكن ما قدموه وصف يومًا بأنه أشبه بالخروب: خشب كثير وسكر قليل) وكانت لهم أخطاء وانحرافات وقليل منهم من صدق الله النية في العودة إلى الحق، ذلك أنهم كانوا غربيين بحكم الثقافة الأولى التي كونتهم ولذلك كان دخولهم إلى فهم الإسلام ليس نقيًا النقاء الكامل بل كانت تختلط به تشوهات الفكر المادي وتراكمات المفاهيم الإغريقية والرومانية والمسيحية المسيطرة عن نتاج الفكر الغربي كله. ولأنهم بدأوا كتاباتهم الإسلامية بمناهج الغرب – كانوا كالمستشرقين – أعجز عن فهم مناهج الإسلام فتخبطوا وأخطأوا، ونقلوا عن كتب التبشير وكتب الاستشراق وعجزوا عن الأصالة الحقة.(14/9)
يقول الدكتور محمد محمد حسين: إن طه حسين والعقاد لا ينتميان أصلا إلى المدرسة الإسلامية من الناحية الفكرية، ولكنهما ينتميان منذ نشأتهما الأولى إلى (المدرسة الليبرالية) المتحررة التي تعتبر (لطفي السيد) أستاذها الأول في جيلها، والمدرسة الليبرالية تحكم العقل المجرد والمتحرر من كل المواريث الفكرية والسلوكية، في كل شيء، ولا نبالي أن تلتقي مع الدين في كل وجهات النظر أو بعضها أو تتعارض معه وتخالفه، ولكن طه حسين كان أكثر عنفًا وأكثر جرأة في معارضة الدين، وفي المجاهرة بما يثير الناس ليلفت إلى نفسه الأنظار، لقد هاجم طه حسين أباه فما كان يتلوه من أوراد في أعقاب الصلاة وفي الليل (في كتاب الأيام) غير أن طه حسين والعقاد قد اكتسحتهما الوجهة الإسلامية العارمة فتتابعت كتبهما بعد ###10### أصبح ذلك هو البدع الشائع الذي يغمر الأسواق، ولم يعد التشدق بالكفر ونظرياته المستوردة سمة من سمات المفكرين، تستهوي الإغراء من الثبات كما كان في العشرينات. ويرجع هذا الانقلاب الفكري إلى عدة عوامل عدلت بالناس وبكثير من المفكرين عن طريق احتذاء الحضارة الغربية والفكر الغربي وردتهم إلى طريق الإسلام منها، موجة التنصر وهجرة اليهود إلى فلسطين وسقوط الخلافة على يد الكماليين، وظهور جمعيات إسلامية عظيمة.
إن هناك قاعدة أساسية ينبغي أن توضع في الحسبان حين يوزن الأدباء والمفكرون من وجهة النظر الإسلامية، وهي أن الإسلام نظرية في السلوك بمثل ما أنه نظرية في المعرفة ولذلك كان من المهم أن لا يقبل فكر إسلامي أو أدب إسلامي من مفكر أو أدب لا يمار الإسلام ولا يلتزم به ومعروف أن طه حسين والعقاد لم يكونا ممارسين الإسلام في أصوله الأصيلة.
هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن كتاب مصر هؤلاء: الشوامخ الرواد، لم يحاربوا الاستعمار ولا الاستبداد،(14/10)
الخلافة الإسلامية
الأستاذ أنور الجندي
عندما أسقطت الخلافة الإسلامية عام 1924 م، كان مخططاً خطيراً قوامه النفوذ الأجنبي والصهيونية والشيوعية الذي كان قد بدأ في إعداد هذا العمل سراً منذ أكثر من مائة عام، من خلال جماعة الدونمة. (اليهود الذين هاجروا من الأندلس عام 1492 م وأقاموا في سالونيك ودخلوا في الإسلام تقية) التي عملت بالاشتراك مع جماعة الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة والمحافل الماسونية، على تنفيذ هذا المخطط تحت شعار "القضاء على دولة الرجل المريض"، خاصة بعد أن حمل (السلطان عبد الحميد) لواء الدعوة إلى "الجامعة الإسلامية" بمعنى أن ينضوي تحت لواء الخلافة الإسلامية جميع المسلمين في العالم – وليس فقط العرب والترك.
ومن هنا كانت خطواته إلى القضاء على الفرقة التي عمقها الاستعمار بين الترك والفرس، وكانت الدعوة إلى الجامعة الإسلامية في ظل الخلافة العثمانية الإسلامية، أمر بالغ الخطورة، جوبه في الغرب من القوى الثلاث بمؤامرات ضخمة، امتدت قرناً كاملاً: على النحو الذي صوره بها وزير إيطالي منصف: تحت عنوان "مائة مؤامرة على الدولة العثمانية).
ومن هنا يتبين أن (الخلافة الإسلامية) لم تسقط بجرة قلم عام 1924 م عندما ألغاها مصطفى كمال أتاتورك، وإنما يمكن أن يقال أن هذه كانت آخر خطوة في مؤامرة ضخمة واسعة النطاق امتدت سنوات طويلة وشاركت فيها قوى كثيرة ذات مصلحة في تمزيق العالم الإسلامي، مثل إنجلترا وفرنسا، ومنها ما كان يهدف إلى الوصول إلى فلسطين وقلب القدس كالصهيونية العالمية، وليس أدل على ذلك من مساعدة الشيوعية الروسية في تلك المعونة الضخمة التي قدمتها لحكام تركيا بعد إسقاط الخلافة.(15/1)
ولنعلم أن المحاولات التي جرت عام 1908 م لإسقاط السلطان عبد الحميد كانت هي المقدمات الحقيقية لإلغاء الخلافة، فقد كانت فكرة عبد الحميد كما ذكرنا أن يمتد نفوذ الخلافة فيشمل عالم الإسلام كله ولا يتوقف عند حدود الدولة العثمانية، وقد أخذ عبد الحميد بهذه الفكرة كخطة حاسمة لمواجهة محاولات الغرب.
قوة تواجه زحف الطامعين:
ومنذ أن تولى عبد الحميد، ورأى انتفاض البلقان على الدولة، ركز على دولة إسلامية جامعة تحمل لواء الوحدة الإسلامية، وتضم مختلف المسلمين، الذين هم خارج الزحف الغربي الطامع إلى تمزيق أديم عالم الإسلام والسيطرة عليه. ولما نجحت الخطة وكادت تؤتي أكلها، والتقى شيعة إيران مع سنة تركيا لأول مرة، بعد أن حفر الاستعمار بينهما خندقاً عميقاً منذ ثلاثة قرون أو تزيد، عجل الاستعمار والصهيونية بالقضاء على عبد الحميد خاصة، لموقفه الحاسم في الحيلولة دون وصول اليهود إلى فلسطين.
والمعروف أنه لما ظهرت حركة الاتحاد والترقي داعية لتغريب تركيا. احتضنتها المحافل المساونية، وحولتها من خطة إصلاح عثمانية داخل الدولة الإسلامية الكبرى إلى خطة تغريبية عنصرية، تحمل لواء (الطورانية) وتدعو إلى تتريك العرب ودفعهم إلى التماس مفهوم الماسونية في الثورة الفرنسية والاستجابة له.
وبذلك كانوا جمعاً غريبي الفكر، وكانت مفاهيم القوميات والإقليميات والطورانية والعنصرية، قد سيطرت على فكرهم واستهدفت الانفصال عن المفهوم الإسلامي والكيان الإسلامي. وقد ظلت الفكرة في حضانة الدونمة والماسونية منذ بدأت، حتى استطاعت أن تصرع الوحدة الإسلامية الجامعة بانتزاع عبد الحميد من مكان القيادة – باعتباره صاحب مبدأ الوحدة الإسلامية.(15/2)
ثم جاء الاتحاديون فأقاموا عهداً أسود في تركيا منذ 1908 م حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، ثم لبسوا ثوباً جديداً أسموه (الكمالية) وهو امتداد لهم أشد خطراً وأعمق أثراً، جاء بعد أن كسبوا من نصر باسم الإسلام، ثثم استداروا عليه استدارة كاملة بعد أن كان هو الورقة التي حققوا بها النصر.
وجه كالح صريح:
وقد وردت في المواثيق التي كشف أمرها أخيراً موافقتهم على خلع الإسلام واللغة العربية والمحاكم الشرغية وملابس الإسلام وشريعته ثمناً لتخليصهم من الاحتلال البريطاني واليوناني، وكان إعلان ترميا دولة علمانية كفيلاً بأن يحقق لها رضاء الغرب وتسليمه وتحريره.
فقد انفصلت تركيا عن الأمة الإسلامية واندمجت كلياً في الغرب العلماني، وسرعان ما حققت الأمل الذي طالما طاف بأحلام العرب – روسية وإنجليزية وفرنسية ويهودية – وهو أن يقضي مسلم بيده على خلافة الإسلام.
ولكن أتاتورك لم يكن مسلماً في حقيقته وإنما كان من الدونمة – التي تخفت تحت صورة الإسلام لتحقيق كل ما استطاعت أن تحققه في تركيا، وكان همه الأكبر "إسقاط الخلافة" وفي سنوات قليلة من 1918-1924 م تحولت دولة غربية علمانية تحكم بقانون نابليون، وتزيح بكلتا يديها ذلك التراث العظيم – تراث الإسلام – وتقاوم ودعاته ومؤسساته.
وهكذا سقطت الخلافة بمؤامرة مشتركة بين اليهود الدونمة والاتحاديين الكماليين، والقوى الاستعمارية الغربية وروسيا.
استبداد دموي:(15/3)
وما أسقطت الخلافة بأسلوب الإقناع والتغيير النفسي والفكري، ولكن بأسلوب من العنف والقتل والاستبداد والظلم، الذي قامت به (ثلة) أعدت لها وخططت لذلك في مرحلتين طويلتين منذ 1909 م إلى 1918 م باسم الاتحاديين، ومن بعدها إلى عام 1924 م باسم الكماليين، وهما – في الحقيقة – شيء واحد استطاع في أول الأمر أن يفتح الباب للصهيونية العالمية إلى فلسطين، بعد أن استعصى ذلك عليها طويلاً أيام السلطان عبد الحميد، وأسلمت طرابلس الغرب للإيطاليين، ودفعت الدولة العثمانية إلى أن تكون وقوداً في الحرب العظمى دون داع، حتى تنفصل عنها الشام والعراق وحتى تسلم فلسطين لليهود.
وحاولت الصحف الموالية للتغريب تصوير المسألة بصورة كاذبة مضللة وأن تجعل الاتجاه عنواناً على التقدم، حتى خشي شيخ الإسلام – الذي أخرجوه وأقام في منصر آنذاك – من هذا التحول المحاط بهالة كاذبة من التكريم حين قال سماحة الشيخ مصطفى صبري: إنني أخاف أن تسعد بلاد تركيا وترقى بهذه الإدارة الحديثة اللادينية رفيهاً دنيوياً – وإن كان ذلك في غاية البعد والاستحالة – فيفتتن بها المسلمون الذين قلما سلموا من أن يعجبوا بها وهي توغل في سبيل الإفلاس والإندراس.
وإنما نقول للشيخ من وراء القبر: إطمئن فإن تركيا لم تسعد وأن التجربة لم تحقق أي نجاح، ولم تتقدم تركيا عن الدول الأخرى بل لعلها ما زالت تقاسي من جرائرها وأن جيلاً جديداً نشأ على الإسلام ويجاهد في سبيله.
حملة ظالمة:(15/4)
إن أكبر ما غذيت به حملة إسقاط الخلافة كانت تلك التصورات الباطلة التي نسب إلى السلطان عبد الحميد الظلم والاستبداد، بينما كان كل ما يحاول عبد الحميد قمعه والحيلولة دونه هو سقوط الدولة العثمانية في براثن القوى الصهيونية والاستعمارية، التي كانت تريد التهامها وتقسيمها، وتسليم فلسطين لليهود ومن أجل ذلك استحق الخلع واستحقت الخلافة الإزالة، بأيدي من تسموا بأسماء المسلمين، وفي مقدمتهم مصطفى كمال الذي كان يدعي أنه مسلم، ويدعو المسلمين إلى الدعاء له بالنصر، حتى إذا ما وجد فرصته ضرب ضربته وسط دهشة العالم الإسلامي كله وعجبه.
وفي الحقيقة أن الخلافة لم تكن مصدر إنحطاط تركيا ولا العالم الإسلامي، ولم يكن أسلوب تعديلها هو إزالتها أو فصل السلطة عن الخلافة كما فعلوا أولاً ليخدعوا الناس يومئذ، إن كان ذلك مقدمة للقضاء النهائي عليها.
وقد كانت هناك مشروعات كثيرة للإصلاح لو خلصت النيات وحسن الاتجاه إلى الإبقاء على وحدة العالم الإسلامي وقيام خلافته.
وإذا كانت هناك قياسات لما وصف بع عبد الحميد من تسلط واستبداد فأين منه ما قام به الاتحاديون والكماليون.. الذين باعوا آخرتهم بدنياهم..؟؟. وهو ما لم يفعله الخلفاء قط، وبينما وقف الأعزل عبد الحميد أمام قوى الصهيونية العالمية، وهي تغريه بالملايين وهي تعرف مؤامراتها وتقودها، وقد وقف صامداً لا يلين.
تمزيق الوحدة الإسلامية:
ولقد كان من وراء إسقاط الخلافة الإسلامية أهداف كثيرة، كان أكبرها هذا الشمل الذي جمعته الوحدة الإسلامية بين مسلمي العالم، وتفريق هذا الجمع الذي ربطته الدولة العثمانية ليسهل توزيعه واحتواؤه، وتقديم فلسطين والقدس لقمة سائغة للصهيونية التي كانت وراء الربا العالمي منذ عصور بعيدة، عاملة على تقريب المسافات إلى تحقيق الغاية، من وراء الاستعمار الغربي.(15/5)
ومن أهدافنا محاولة حجب حقيقة الإسلام الجامعة بين الدين والدولة والقائمة على أساس أن الإسلام "دين ونظام مجتمع" وإثارة الشبهة حوله بتصويره ديناً لاهوتياً – على النحو الذي صوره به الكماليون في تركيا وعلي عبد الرازق وجماعة اللادينيين في البلاد العربية.
خيبة الأمل في تمزيق المسلمين:
وإذا كان الهدف الأول قد تحقق لأنه داخل في نطاق مرحلة الضعف التي أرخت قبضة المسلمين عن حقوقهم ووممتلكاتهم وسلطاتهم، فإن الهدف الثاني لم يتحقق بعد. لأن المسلمين سرعان ما تنادوا إلى الوحدة في محاولة لإحتواء الخطر، وذلك بالرغم مما طرحه التغريبيون من مفهوم غير أصيل عن أن الإسلام دين عبادي، وأن الخلافة والحكم لم تكن من أسس الإسلام.
بل إن عدداً كبيراً من المستشرقين الغربيين اعترف بأن الإسلام ليس ديناً فحسب بل هو نظام سياسي واجتماعي أيضاً.
يقول فيتزجرالد في كتابه قانون المحمديين (1): على الرغم من أنه قد ظهر في العهد الاخير، بعض أفراد من المسلمين ممن يصفون أنفسهم أنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح الفكر الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان ولا يمكن فصل أحدهما عن الآخر.
وشهد بذلك (تلينو) الذي قال أن محمداً – صلى الله عليه وسلم – أسس في وقت ما ديناً ودولة، وكانت حدودهما متطابقة طوال حياته.
وذلك ما عبر عنه (شاخت) حين قال: على أن الإسلام يعني أكثر من دين، أنه يمثل أبداً نظريات قانونية سياسية وجملة القول أنه نظام كامل يشمل الدين والدولة معاً.
وهو ما أشار إليه (جب) حين قال: لقد صار واضحاً أن الإسلام، لم يكن مجرد عقائد دينية فردية، وإنما استوجب إقامة مجتمع مستقل. له أسلوبه المعين في الحكم، وله قوانينه ونظمه الخاصة به.(15/6)
هذا من ناحية (الفكرة) أما من ناحية التطبيق فإن (الفرد كانتول سميث) في كتابه عن "الإسلام في العصر الحديث" كتب تحت عنوان "الإسلام والدنيوية التركية" ما يفهم منه أن سقوط الخلافة وإلغاء نظام الإسلام في تركيا، ليس إلا عملاً قامت به جماعة حاكمة، ولكنه لا يمثل شعور الأمة، ولا يطابق سلوكها.
يقول: إن القول بأن الأتراك بإيثارهم الدنيوية قد تدخلوا عن الإسلام لا يحظى بتأييد من الباحثين في الشرق أو الغرب وإنما هو مجرد إحساس شائع بين الأوروبيين والمسلمين في الأقطار الأخرى والمسألة في حقيقتها لا تعدو الهيئة الحاكمة.
كما يردد الببغاء:
ولذلك فإنه من المؤسف أن يجري بعض الكتاب العرب والمسلمين وراء مفاهيم كلماتهم ويلوكون عباراتهم ويعادون منطق الأشياء الحقيقي، فيخرجون بذلك عن دينهم وأصالتهم دون أن يقدروا النتائج التي تجيء من بعد، والتي هي أكبر من تقديرهم وإدراكهم، فنجد مثلاً الدكتور الخربوطلي الذي يقول في كتابه عن "الخلافة الغسلامية" هذه العبارة المريرة: "فأفلت شمس الخلافة الإسلامية إلى الأبد" وكيف يمكن لباحث أو مؤرخ أن يتنبأ بأن الخلافة قد أفلت شمسها إلى الأبد، وهل يملك من الأدلة على ذلك دليلاً واحداً أو نصف دليل وهو قول لم يقله أكثر الغربيين تعصباًَ ضد الإسلام.
واليوم يرى هؤلاء أنهم كانوا من قصر النظر، بحيث جهلوا أن الحديث عن الخلافة الإسلامية لم يتوقف يوماً واحداً منذ ذلك اليوم، جرى في مناهج الدعوات والحركات والجماعات الإسلامية في العالم الإسلامي كله، كغاية كبرى لابد من ملاحقتها، وجرت حركات التجمع لتذكر دوماً بهذا الحق، الذي لا تطويه الأيام ولا تخفيه الأحداث، مهما تغلف الحديث عنه بالضباب.
وما زلنا نسمع صيحات الدعوة إلى إعادة الخلافة عالية وقوية من مسئولين ومفكرين متعددين ولا يزال المؤتمر الإسلامي الذي يضم أكثر من أربعين دولة إسلامية يضع هذه الحقيقة أمامه.
الوحدة الوجدانية ثم وحدة الفكر:(15/7)
نعم إن المسلمين بعد إسقاط الخلافة عن طريق المؤامرة لم يستكينوا إلى الهزيمة التي فرضت عليهم، ودبرت من وراء إرادتهم الحرة، ولكنهم فكروا وقدروا، وعملوا لمواجهة هذا الفراغ، فأقاموا روابط كثيرة ومؤتمرات متعددة، وإذا كانت القوى الاستعمارية قد حالت دون تحقيق الوحدة السياسية فإنهم حققوا وحدة اجتماعية ووجدانية لا تزال تنمو قوية وقادرة على أن تحقق في مطالع القرن الخامس عشر (وحدة الفكر التي هي الأساس المكين بعودة الخلافة الإسلامي ولقد كانت الأزمات دائماً قادرة على تجميع المسلمين ووحدتهم إزاء الأحداث والأخطاء.
ولم يكن عمل عبد الحميد في سبيل هذا التجمع إلا قمة الإيمان بالخطر وبالمسئولية إزاء هذا الخطر، وإذا كانت حركته إلى الوحدة الجامعة قد أجهضت فليس لأنها فشلت، بل لأنها نجحت نجاحاً مذهلاً مما دفع القوى الاستعمارية والصهيونية إلى القضاء عليها بإسقاطه قبل أن يتمكن من وضع القواعد التي يمكن أن تسير عليها موضع التنفيذ، ثم جرى العمل على الإجهاز على القاعدة نفسها. وإذا كان العرب بعد سقوط الوحدة الإسلامية قد تجمعوا حول وحدتهم، فإنهم لم يكونوا في ذلك عاملين على إعلاء شأن العناصر والدماء، ولكنهم كانوا يرون في الوحدة العربية حلقة وخطوة إلى عودة الوحدة الإسلامية الكبرى، ولم يكونوا يفهمون من العروبة ما فهمه الغرب من القومية، ذلك لأن العروبة إنما نشأت في أحضان الإسلام سمحة مؤمنة بالإخاء الإسلامي الأكبر، بعيدة عن العنصرية والتعصب والصراع، وقائمة على وحدة قرآنية بالشريعة والإيمان، ولكن القوى الخصيمة هي التي أفسدت مفهوم العروبة وقطعته عن صلته بالوحدة الإسلامية.
عزل العروبة بين الإسلام:(15/8)
لقد ضربت القوى الغاضبة هذا الاتجاه وعزلته عن جذوره، كما ضربت من قبل الخيوط التي تجمعت في يد السلطان عبد الحميد، وهكذا فإن إسقاط الخلافة لم يكن وفق سنة طبيعية أو قانون اجتماعي صحيح، ولكنها كانت عملية إجهاض زيفت لها مبررات خادعة استطاعت أن تضلل البعض ولذلك فإن الخلافة الشرعية ستظل في فقه المسلمين وشريعة الإسلام وقلوب المؤمنين وعلى أقلام كتاب الإسلام عاموداً أساسياً. فهي جزء لا يتجزأ من الإسلام، ولعلها سقطت لتسقط معها خلافة عجزت عن تطبيق الإسلام تطبيقاً حقيقياً، ليعود من بعد على مفهومها الأصيل وهو ما تتطلع إليه قلوب المسلمين وتهفوا وتعده من آمال القرن الخامس عشر.
حقيقة مؤكدة:
والحقيقة التي يؤكدها الباحثون المنصفون: أن المسلمين لم يناموا على الضيم منذ أسقطت الخلافة الإسلامية وهم لا يستنيمون أو يفرطون أو يغيب عليهم مدى خطرها وجلال شأنها والآثار التي ترتبت على حجبها.
ومنذ ذلك الوقت وإلى اليوم فإن الخلافة الإسلامية مبثوثة في كل أعمال التضامن الإسلامي والرابطة الإسلامية والأخوة الإسلامية الجامعة.
وقد أحس المسلمون اليوم بأن محاولات التجمع الوطني والقومي لم تنجح لأنها ليست هي الوجهة الحقة الصادرة من أعماق الفطرة، وإن المنهج الصحيح هو اجتماع كلمة المسلمين وقيام ذلك الرباط القوي بينهم مرة أخرى، بعد أن تراخى في السنوات الماضية تحت تأثير الدعوات الإقليمية والقومية، غير أن هذه السنوات قد شهدت عشراتا المؤتمرات والأبحاث والمشروعات والدعوات التي تفتح الطريق إلة وحدة المسلمين وتحقيق الغاية الكبرى.
ومن هذا العرض التاريخي فإننا نصل إلى حقيقتين:
الأولى: أن الخلافة هي بؤرة الجامعة الإسلامية وأن الجامعة الإسلامية يمكن أن تقوم أولاً ثم تنبثق منها الخلافة، وأن حركات التحرر والوحدة والتقارب التي تجرى اليوم في عالم الإسلام يمكن أن تحقق ترابطاً ثقافياً واجتماعياً قبل أن يصبح سياسياً وعسكرياً.(15/9)
الثانية: أن المسلمين بعد إلغاء الخلافة لم يتفرقوا أيدي سبأ، وأن الهدف الذي كان يطنع فيه النفوذ الاستعماري قد فشل تماماً. وأن العالم الإسلامي قد تلاقى على مستويات كبيرة ومتعددة: اجتماعية وثقافية واقتصادية وأن الفكر الإسلامي ما زال هو المصدر الأول للثقافات العربية والفارسية والتركية والهندية الإسلامية.
وإذا كانت الخلافة قد سقطت بعمل سياسي استعماري دفين أخفى أمره طويلاً وبدقة، وراء غلالات، فإن المسلمين قد بدت أمامهم الحقائق سافرة اليوم، وتنبهوا لما براد بهم فسارعوا إلى اتخاذ وسائل أخرى، تمهد للوحدة فاندغمت رابطتهم في مؤتمر الحج السنوي، وفي الاتجاه إلى الجامعات الإسلامية العلمية، التي لاشك ستوجد الفكر والثقافة والتعليم، وزاد من قوة هذه الروابط تحرر دولتين كبيرتين بعد الحرب العالمية الثانية هما الباكستان وإندونيسيا وعشرات الدول ذات الأغلبية المسلمة في جنوب شرق آسيا وأفريقيا، وبدأت لقاءات واسعة بين العناصر المختلفة من العرب والبربر والسنة والشيعة والأكراد، وتوثقت الصلات وزادت عمقاً وخفت حدة الخصومات والخلافات، التي أججها الاستعمار والنفوذ الغربي حرصاً على استبقاء التمزق والخلاف، كما كشفت الوقائع حقائق كثيرة كانت مطمورة عن الصهيونية والماركسية وعلاقتهما وفشلت دعوات الإقليمية والقومية جمعاً كما فشلت النظم السياسية الواحدة سواء الليبرالية منها لم أم الاشتراكية ولم يعد أمام المسلمين في مطالع القرن الخامس عشر بد من أن يقيموا مجتمعهم على أساس الشريعة الإسلامية، ونظامهم السياسي على أساسا الوحدة الإسلامية، وسوف تنقشع السحب التي تحجب الضوء ويجد المسلمون أنفسهم مضطرين إلى الالتقاء إزاء الخطر الزاحف وهذا هو المنطلق الحقيقي لعودة الخلافة الإسلامية خلال هذا القرن الجديد.(15/10)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة
13
الجنس
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا – بيروت
###53### الجنس
علت صيحة "الجنس" في السنوات الأخيرة، وحاولت أن تأخذ حجمًا أكبر من حجمها الطبيعي في مجال الثقافة، والصحافة والسينما والمسرح، ولم يكن ذلك ناتجًا عن وجود مشكلة أساسية بقدر ما كان نقلا عن أجواء أخرى، وبيئات مغايرة، وظروف غير طبيعية.
ذلك أن الجنس في نطاق الفكر الإسلامي والمجتمعات الإسلامية، لا يشكل ظاهرة خاصة منفصلة عن الحياة الاجتماعية، وليست له أزمة معينة فرضتها عوامل قديمة، تغيرت من النقيض إلى النقيض.
ذلك لأن الإسلام بطبيعته يلتمس فطرة الإنسان ويعترف برغائبه، ويفتح له الطريق إلى تحقيق الصلة بين الرجل والمرأة على أحسن أسلوب وأسمى طريق.
###54### ومن ثم فلا تقوم في المجتمع الإسلامي حالة من حالات التحدي التي تدعو إلى الصراع النفسي بالمنع، أو الكبت أو احتقار الصلة الطبيعية القائمة بين الرجل والمرأة على النحو الذي شهدته بيئات الغرب، والتي كانت مصدر الدعوة الصارخة إلى إطلاق الجنس، وتحرير وسائله وأسبابه.
ذلك أن الأزمة التي عرفتها أوروبا والتي جاءت من تفسيرات قدمت للدين على أنه دعوة إلى مطالبة البشر بأن يزهدوا في رغائد الجسد، وأن يكبتوا النوازع الفطرية إعلاءً للروح وسموًا بها، وبذلك علت الدعوة إلى إنكار الصلة الطبيعية مع المرأة، ووصفت المرأة بأنها شيطان مريد، واعتزل الناس الحياة على الجبال والأكنان في اقتناع بأن هذا، هو الطريق الصحيح إلى مرضاة الله.
ولقد كان لهذا المفهوم أثره البعيد المدى على النفس الإنسانية، والحياة الاجتماعية جميعًا، فقد عاشت النفس الإنسانية حياة مريرة، تمزقها المحاولة التي تعمل على العزلة عن الحياة بقهر النوازع الفطرية بحجة أن هذه النوازع دنس يجب أن يتطهر منه الأتقياء.(16/1)
وبذلك أوشكت الحياة أن تتعطل، فقد انصرف الناس إلى الأديرة، وهجروا السعي في الأرض؛ ولم يكن ذلك إلا ###55### فهمًا باطلا لدعوة الدين في إعلاء القيم الروحية والنفسية دون الحرمان من الاستجابة للرغبات والنوازع الفطرية.
ومن هذا الانحراف الشديد الذي استمر مسيطرًا على الحياة الاجتماعية في الغرب قرونًا طويلة، تولدت الدعوة إلى الانطلاق والتحرر وإعلاء الجنس انطلاقًا من القاعدة التي تقول: إن كل فعل، له رد فعل مساوٍ له في القيمة، مختلف عنه في النتيجة.
وهكذا انتقلت أوروبا من النقيض إلى النقيض؛ وجاء فرويد فدعا إلى إعلاء الجنس وإطلاق الجنس، وحمل راية التهديد والوعيد بالمرض والعصاب لكل من يعترض على دعوته، وبذلك انفتح الباب واسعًا أمام الفكر الغربي والمجتمع الغربي إلى معارضة النظرة القديمة وحربها دون هوادة على أسلوب حاد عنيف، لا يلتمس الاعتدال أو التوسط أو النظرة الموضوعية، ولكنه يجري في اندفاع خطير، فيدمر كل شيء.
ولقد كانت نتيجة هذا التحول خطيرة وبالغة الأثر، وقد ظهرت آثارها سريعًا، فقد هدمت القيم الروحية والنفسية والأخلاقية؛ وفكت القيود والضوابط، ودفعت الناس دفعًا إلى الفاحشة والتحلل والإباحية على نحو، كان له آثاره الخطيرة ###56### في هذه الأزمة التي يمر بها الإنسان الغربي والمجتمع الغربي نتيجة التمزق والشك والصراع والاندفاع الجنوني نحو إرضاء الغرائز دون تقدير لأي نتائج تتعلق بكيان الإنسان نفسه أو بالمجتمع الذي يعيش فيه.
2- أما الإسلام، فقد نظر إلى الجنس نظرة الفطرة، وحرره من معتقدات الرهبنة والرياضيات القاسية، كما حماه من أخطار التحلل والتدمير، وأعلن أن الرغبات من طبيعة الإنسان التي لا سبيل إلى الوقوف في وجهها؛ وإن كنا من المقدور ضبطها وتعديل مسارها وتخفيف أخطارها وتذليلها لتؤدي الغاية منها دون إسراف أو فساد أو تجميد، ومن هنا وضع لها ضوابط من الحلال والاعتدال والعفة.(16/2)
كذلك فإن الإسلام كشف عن مهمة الجنس ودوره؛ وكيف أنه جزء من مهمة كبرى للإنسان، وليس الغاية الكبرى في حياته، وأنه وسيلة إلى بناء الأسرة وإنشاء الجماعة، وتوالي حركة المجتمع ونموه ليحقق إرادة الله الكبرى في تعمير الأرض، وليس الجنس هو غاية الحياة كما تقول الفلسفات الغربية، وليس هو أكبر أهدافها.
ومن هنا فقد عجزت قضية الجنس التي هي نبت غربي خالص أن تجد مجالا في محيط الإسلام لأنها لم توجد أصلا، ###57### نظرًا لسماحة الإسلام واعترافه بالرغبات، وإباحة الاستجابة لها في إطار العقد الشرعي، وإن السر في انطلاق هذه الظاهرة بشدة وعنف، هو انتقال الغرب من القسر الشديد إلى الإطلاق الشديد، أما الإسلام، فقد أعلن منذ يومه الأول وجود الرغبات في كيان الإنسان من مال وطعام وجنس، ولكنه وضعها في إطارها الصحيح، ولم يجعل الطعام قضية أولية، ولكنه نظر إلى الحياة نظرة متكاملة في عناصرها؛ متوائمة في رغباتها وحدودها متوازنة تهب النفس الإنسانية السكينة والطمأنينة وشفاء القلوب وقضاء الحاجات بعيدًا عن السرف والزهادة والكبت وبعيدًا عن التحلل والانطلاق.
ومفهوم الإسلام في الغرائز والرغبات يقوم على تحقيقها في حال القدرة، وفي حدود قواعد الزواج، ويقوم على التسامي والإعلاء في حال عدم القدرة دون أن يفقد ذلك الإعلاء هذه الرغبات حقها المعترف به في حالة الاستطاعة.
كذلك أقام الإسلام إلى جانب ذلك نظام الطهارة الجسدية والنفسية، وأباح المصادر الشريفة للمال والطعام والجنس، كما أباح ظروف الاضطرار، وعفا عنها.(16/3)
والإسلام لا يفتح الباب أما الكبت، بل يزيله قبل أن ###58### يحدث، ولا يترك فرصة مهيأة لحدوثه؛ فهو يعترف بالرغبات، ويقرر إقامة الحدود التي تحفظ النفس البشرية من الانهيار في نفس الوقت، هذه الحدود تنظم مدى القيام بالنشاط الحيوي، وتحدد له ميادين معينة، يكون فيها مأمون العاقبة دون أن تحرم الإنسان من الإحساس به والرغبة فيه؛ ودون أن تحول بينه وبين حقه في أنه مباح له، مسموح به؛ وليس في مزاولته أي نوع من الحجر، حلالا ليس حرامًا؛ بل وهناك ترغيب فيه ودعوة إليه حتى لا يوضع في غير مكانه، كل ذلك شريطة أن يتم في إطاره الشرعي ومع ضوابطه.
ومن هنا فإن النفس الإنسانية عند المسلم، هي دائمًا مستريحة راضية مطمئنة إلى أن الطريق إلى الغابة مفتوحة وشرعية ومأجور عليها صاحبها، أما أمر الوسائل، فهو شأن من يسرع بسرعة القادرين أو يتأخر حتى الله له:
«وليستعفف الذين لا يجدون نكاحًا حتى يغنيهم الله من فضله» [النور: 33].
ومعنى هذا أن الإسلام يحول دون الكبت لأنه يعترف بالواقع البشري، ويضع الضوابط في حالة التنفيذ.
3- إن من أعظم معطيات الإسلام هو أنه ضبط الرغبة، ولم يحقق لها الإباحة الكاملة. ذلك لأنه لا يريد أن ###59### يظن الإنسان أن هذه الرغبة هي غايته الكبرى، أو أن يدمر كيانه الخاص من جراء الإسراف في مزاولتها، فجاءت تلك القيود ضرورة ملحة لازمة لحفظ كيان الفرد ذاته، وحماية المجتمع نفسه، ودفع الإنسان إلى الأمام إلى الغايات الكبرى التي هو مؤهل لها في تعمير الأرض وتحقيق إرادة الله في تنفيذ النظام الرباني بالعدل والإخاء والبر والرحمة، وتلك هي رسالته الكبرى، وليست الرغبة الحسية العاجلة.
ولقد حفظ التاريخ عشرات المواقف التي انهارت فيها الأمم نتيجة التحلل والانهيار الخلقي.
وفي السنوات الأخيرة خلال الحرب العالمية انهارت أمم تحت أول ضربة من خصومها، وأعلن قادتها أن مصدر ذلك هو التحلل الخلقي.(16/4)
فالإسلام يعمل على حفظ أمته من هذا الخطر.
كذلك فإن القول بأن إطلاق الحرية في الرغبات يزيد المتعة أو يعطي النفس حال الاكتفاء؛ هذا القول مردود بالتجربة والدراسة، فإن اللذات لا تنتهي ولا تشبع منها النفس، ولا يحس صاحبها أبدًا بالاكتفاء، فينصرف عنها، سواء أكان ذلك في مجال الطعام أو مجال الجنس.
وإنما تنشأ من الإسراف طبيعة نهمة مسرفة من شأنها أن ###60### تهدم الجسد الإنساني، ومن أجل هذا دعا الإسلام إلى التوسط والاعتدال: «كلوا واشربوا ولا تسرفوا» [الأعراف: 31] ودعا إلى حماية البدن (إن لبدنك عليك حقًا).
فالنظرية التي تقول: بأن إطلاق الحرية يؤدي إلى أن يفرغ الإنسان من ضغط الغرائز على أعصابه، يمكن أن تحقق بالمنهج المعتدل الذي شرعه الإسلام في أمر الجنس والطعام وغيره، وذلك بالتوسط وعلى فترات منظمة؛ أما إطلاق اللذات إطلاقًا كاملا، فإنه لا يؤدي إلى الغاية المرجوة؛ بل إنه يزيد الشهوات اشتعالا "إن الطعام يقوي شهوة النهم" فالإسلام لا يقبل هذا النهج؛ ولا يسمح بالانطلاق الذي لا تحده ضوابط أو حدود، ذلك لعجز الجسد نفسه عن احتمال الجهد الدائم، مهما تقوي بالطعام أو بغيره.
ومن شأن كل شهوة يباح لها التفريغ الدائم الذي يؤدي بدوره على الظمأ الدائم: أن تفسد العقل، وتذهب الصواب، وتجعله عرضة للهبوط والانحلال، ومن هنا كانت الضوابط والحدود عاملا هامًا في ضبط كيان الفرد ومصلحة الجماعة.
والقيد المفروض على الشهوة الجنسية، هو قيد لصالح المجتمع حماية له من اختلاط الأنساب وتفكك الأسرة ###61### واضطراب عواطف الناس، وهو في نفس الوقت حماية للفرد ذاته من الاضطراب النفسي.
ومن شأن هذا التنظيم أن يقيم العلاقة الطيبة بين الفرد والمجتمع.(16/5)
ولما كانت شهوة الجنس ليست غاية في ذاتها، وإنما هي عامل بقاء النسل واستمراره، فقد وضعت في حجمها الطبيعي حتى لا تفسد الرسالة الأساسية للإنسان، ولا الهدف الصحيح له، وحتى يظل الكيان الإنساني محتفظًا بقدرته وقوته فترة طويلة سليمًا قادرًا على النسل لحفظ النوع في الأرض.
4- وليست نظرية فرويد في الجنس وإطلاقه مما يقبله علماء النفس والطب على علاته، بل هو قول مردود في نظر أصحاب التجارب.
ومن ذلك ما يقول الدكتور لويس بنس الطبيب النفسي: إن الدافع الجنسي لدى الفرد دافع غريزي فطري، ولهذا فهو شأن كل الدوافع الفطرية، يحاول أن يعبر عن نفسه، ويطالب بالإشباع، وفي المحاولة الدائمة لاستمرار البقاء تدفع الحياة الأفراد إلى أن يتناسلوا، ولن يتم التناسل إلا عن طريق الاتصال الجنسي بين الذكور والإناث.
إن الدوافع الغريزية الجنسية دوافع غريزية، تحاول أن ###62### تعبر عن نفسها، ولكن هذا لا يعني أبدًا أن عدم الإشباع أو على الأصح وضع هذا الإشباع في المقام الأول من حياتنا يؤدي إلى دمار البشرية.
والواقع أن هناك ثمة رجالا ونساءً، أفلحوا في تجنب الجنس والحياة بدونه نهائيًا، وهناك آلاف النساء لم يتزوجن لأنهن لم يقعن في الحب، أو لأن فرصة الزواج لم تتح لهن، والقول نفسه يسري على رجال كثيرين، لم يتزوجوا أيضًا. ومعنى ذلك أن التعبير عن الجنس ليس ضرورة مطلقة، وليس هناك ثمة ضرر جسمي أو عقلي ينتج عن الامتناع عن الجنس.
ويقول: وقد سألتني إحدى السيدان: هل الجنس ضروري لكي يتم للإنسان اتزانه العقلي؟ قلت: - وأنا أعني كل حرف مما أقول -: بالطبع لا، إن كل ما سمعته من أن السعادة ليست ممكنة فقط بالزواج، فهناك رجال ونساء عاشوا سعداء دون أن يمارسوا الجنس.(16/6)
ودعوني أكرر مرة أخرى أن الجنس في أصله مسألة عقلية قبل كل شيء، وبالرغم من أن الدافع الجنسي غريزي فينا، وغالبًا ما يطلب الإشباع إلا أنه في معظمه ينشأ في عقولنا قبل كل شيء، والتفكير هو الذي يدفع الجسم إلى الفعل.
ورغم أن أغلب أجزاء المثير الجنسي تتكون بتأثير العالم ###63### الخارجي إلا أن العقل يلعب في ذلك دورًا كبيرًا يفوق في أغلب الأحيان الدور الذي يلعبه المثير الأجنبي؛ وبعبارة أخرى: إن ما تتخيله عقولنا عن الجنس يكون أشهر إثارة من الجنس في واقعه الموضوعي الخارجي.
من ثم نستطيع أن نقول: إن الكتب الجنسية وأفلام السينما والنكات الخارجية، وما إلى ذلك هي المسؤول الأول عن إثارة الحيوان الكامن في أعماقنا، وليس الجنس في حد ذاته. إن التخيل، وهو من نتاج الذهن يلعب الدور الرئيسي بالنسبة لدوافع الإنسان الجنسية؛ وما أكثر الصور المجموعة غير الواقعة التي يقدمها لنا، وعلاج الجنس هو الزواج أو الكظم الذي لن يضر شيئًا.
ولا ريب أن هذه وجهة نظر أخرى، تختلف مع مفهوم الإسلام في بعض النقاط، ولكنها تعارض ما ذهب إليه فرويد.
ويصور ليوبولدفايس "محمد أسد" مفهوم الإسلام بالنسبة إلى الجسد والجنس بالنسبة إلى مفاهيم الأديان والمذاهب والنظريات الغربية فيقول:
"يعتبر الإسلام من دون الأديان السامية جميعًا روح الإنسان ناحية واحدة من شخصيته، وليست ظاهرة مستقلة، ###64### وبالتالي فإن نمو الإنسان الروحي في نظر الإسلام مرتبط ارتباطًا لا ينفصم بجميع نواحي طبيعته الأخرى، إن الدوافع الجسمانية جزء متمم لطبيعته، فهي ليست نتيجة أي خطيئة أولى، ذلك المفهوم الغريب عن تعاليم الإسلام، بل هي قوى إيجابية، وهبها الله للإنسان، فيجب أن يتقبلها ويفيد منها بحكمه على أنها كذلك.
ومن هنا فإن مشكلة الإنسان ليست في: كيف يكبت مطالب جسمه؟ بل كيف يوفق بينهما وبين مطالب روحه بطريقة تجعل الحياة مترعة وصالحة؟".(16/7)
5- هل علاقة الرجل بالمرأة هي علاقة جنس؟
هذا ما تحاول النظرية النفسية والاجتماعية الغربية أن تصوره، لتجهل هذه العلاقة قاصرة على الغريزة، وبذلك تنهدم كل الروابط الروحية والنفسية والاجتماعية بين الرجل والمرأة التي هي دعامة قيام الأسرة. ولا ريب أن هذه المحاولة إنما ترمي إلى هدم الكيان الاجتماعي كله بالعمل على تغيير التركيب الفكري للجنس البشري، وبإضعاف العوامل الأساسية لقيام الأسرة؛ وهي محاولة لم تتوقف على مدى التاريخ من جانب القوى الهدامة، ولكنها لم تحقق شيئًا، وكان مصيرها دائمًا الهزيمة والانحدار لأنها ضد طبيعة الأشياء ومعارضة للفطرة.
###65### إن نظرة الإسلام(16/8)
(6)
موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية
هل للفكر الإسلامي خصائص ذاتية متميزة تفرق بين دين الفكر البشري وتحول بينه وبين الانصهار في العالمية والأممية ؟
إن كثيراً مما يكتبه الباحثون في شئون الفكر والفلسفة والعلوم يحاول أن يصل إلى مسلمة تقول بأن الفكر الإسلامي هو أحد أطراف الفكر العالمي الذي تشكل في إطار الفكر اليوناني القديم والذي يسبح الآن في إطار الفكر الغربي العالمي وهذه المسلمة مرفوضة، وإن كان دعاة التغريب يرددونها ويكررونها حتى يثبتوها في الأذهان وهي في الحقيقة ليست صحيحة مطلقاً، بل وليس لها أي وجه من وجوه احتمال الصحة. وهي في غايتها محاولة للتآمر على الفكر الإسلامي وإخراجه من إطاره الخاص وطابعه المميز. ولقد يذهب البعض في التعليل الزائف والتحليل الباطل إلى القول بأن الفكر الإسلامي تأثر أو تشكل في ضوء أو في إطار الفكر اليوناني القديم (أو الفكر البشري كله هندياً وفارسياً وفرعونياً وبابلياً)، وهو الآن في نهضته الحديثة لا ضير أن يستمد من ثمرات الفكر الغربي الذي هو وليد الفكر اليوناني القديم.
وهذا القول مرفوض قطعاً، وقد كشف زيفه -عندما استعلن لأول مرة على لسان الدكتور طه حسين وقلمه- عشرات من الكتاب والباحثين.
والواقع أن "الفكر الإسلامي" هو وليد القرآن الكريم والسنة المطهرة، وأن هذا المنهج الرباني قد جاء للإسلام في صورته النهائية والكاملة والباقية بقاء البشر معلناً كلمة الله التي ألقاها إلى أنبيائه ورسله منذ بدأت رحلة النبوة والوحي بين السماء والأرض إلى أن توقفت بخاتم الرسل والرسالات والكتب.
ومن هنا فإن الإسلام جاء بالحقائق التي أرسل الله بها رسله وأنبياءه إلى الأمم، هذه الحقائق التي حرفت وغيرت وبدلت وتأولها المفسرون على النحو الذي نقلها من إطار الفكر الرباني الخالص المجرد المبرأ من كل شئ إلى الفكر البشري القائم على الهوى والمطمع والغايات الخاصة والمنحرف عن الأصل الحقيقي.(17/1)
جاء الإسلام لتقرير الحقائق الربانية الأصيلة في مواجهة الفكر المختلط، الذي كان ربانياً في أصله ثم شابته زيوف وإضافات وحذوف، ومن هنا فإن الفكر الإسلامي مستمداً من الإسلام نفسه يجب أن تكون له خصائص ذاتية مميزة تفرق بينه وبين دين الفكر البشري، وحتى تظل البشرية سائرة في ضوء الهدي؛ لأنه لا بد أن يظل قادراً على رد كل زيف أو تحريف، وإن يكن ممتنعاً عن الانصهار في الفكر البشري أو محتوى منه أو داخلاً فيه.
وذلك لأنه هو في جوهره وأصوله القرآنية الأصيلة هو الشاهد والمهيمن على اضطراب الفكر البشري وزيف التغيرات والإضافات التي أصابته على مدى الأزمان والعصور.
ومن هنا فإننا نجد الفكر الإسلامي يعارض الجمود والتعصب والتقليد ويعارض كل ما يصادم قوانين الكون ونواميس الوجود ويرى أن كل شئ يبدأ من نقطة ثابتة وينتهي إليها "الحركة في إطار الثبات" وأن كل شئ يبدأ صغيراً ثم ينمو حتى يكتمل ثم يعود مرة أخرى في دورة جديدة، وهناك ارتباط جذري بين الفكر الإسلامي واللغة العربية؛ ذلك لأن كل لغة لها منهجها القائم على معانيها ومضامينها، ولقد هاجم المسلمون المنهج الأرسطي؛ لأنه مستند إلى خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية وكذلك الأمر بالنسبة للمنهج الغربي.
(2) والفكر الإسلامي لا يعمل إلا ضمن النطاق الذي رسمه القرآن وحدده، ويحكم على كل ما يواجه المسلمين في ضوء القرآن نفسه ولا يحكمون منه منهجاً آخر، وهو في نفس الوقت متفتح على الثقافات العالمية يأخذ منها ويترك، وهو لا يأخذ إلا ما ينفعه ويتفق مع طوابعه وما يزيده قوة، وكل ما يأخذه يصهره صهراً تاماً في بوتقته، ولقد حرر الإسلام أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه ودعا إلى اليقظة إزاء محاولة تغيير المعالم الأصلية لعقيدتهم وفكرهم وثقافتهم ومزاجهم النفسي.
ويعتبر المسلمون أن كل ما يقدمه الفكر العالمي هو مادة خام يأخذون منها ويدعون دون أن يكون مفروضاً عليهم.(17/2)
ويؤمن الفكر الإسلامي بأن كل نظرية أو مذهب قام في مجتمع ما، فإنما أقامها أهلها على مقياس مجتمعهم وفي ظل تحدياته الواقعية والتاريخية معاً، فهي استجابة لظروف البيئة، ولذلك فهي سرعان ما تبدو مع مرور الزمن عاجزة عن تحقيق الهدف فيضاف إليها ويحذف منها، ولذلك فإن نقلها إلى بيئات أخرى عسير لأنها تعجز عن الحياة والنماء.
ولقد كان الفكر الإسلامي دائماً متفتحاً لثمرات الفكر البشري ولكنه كان قادراً حتى في أشد مراحل الضعف والتخلف على المحافظة على ذاتيته والحيلولة دون انصهاره في الفكر الأممي.
وقد رفض الفكر الإسلامي الفلسفة اليونانية واستعلاء الاعتزال وجبرية التصوف.
(3) والفكر الإسلامي لا يقر مفهوم "الانشطار" أو التجزئة؛ ذلك لأن الإسلام يقوم أساساً على التكامل وعلى التقاء العناصر المخلفة في كل موحد، وهو في هذا يختلف عن الفكر الغربي، كذلك لا يقر دعوة التولستوية والغاندية المتجزئة التي لا تقر مفهوم الجهاد. والإسلام يقوم على السلام والتسامح في نفس الوقت الذي يقوم فيه على المقاومة والقوة.
وللفكر الإسلامي أبعاد هامة:
(1) التكامل بمعنى وضع الجزء في مكانه من النظرية الكلية الجامعة في نظرة شاملة واعية بالحياة.
(2) العمق الزمني الذي يربط الإنسان بالتاريخ والواقع وقضايا الحياة.
(3) اتساع مكاني يربطه بالأحداث العالمية.
(4) العمق العقدي الذي يربط الإنسان برسالة السماء منذ بدئها إلى ختامها، ومنها ارتباط الأرض بالسماء، وارتباط الدنيا بالآخرة، وامتدادها إلى ما بعد الموت، بعثاً ونشوراً.
(5) تعليل الظواهر بعللها الطبيعية التي ترجع في نهايتها إلى إرادة الله.
(6) الالتزام الأخلاقي الذي هو عماد العلاقات بين القوى المختلفة، وأساسه التقوى.
ما هو العلم :(17/3)
(4) إن الخلاف بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي ليس مع العلم التجريبي ولكن مع الفلسفة، هذه الفلسفة التي أخذت إطارات العلم وحاولت أن تستعين بها على إذاعة مفاهيم المادة، وعلى الباحث المسلم أن يتنبه بأن هناك فاصلاً واضحاً وعميقاً بين العلم التجريبي وبين الفلسفة، ومن شأن هذا الفارق أن تتقبل العلم التجريبي؛ لأنه من المعرفة الإنسانية العامة، ويتحرر من تقبل الفلسفة؛ لأنها من المعطيات الذاتية الخاصة بالأمم والعقائد. والثقافات تختلف من أمة إلى أمة ومن عصر إلى عصر.
فالعلم لا ينكر وجود الله ولا ينكر الغيب، ولكنه يقصر جهده على عالم المحسوس والملموس من حيث هو تجربة مادية خالصة، ولكنه لا يدعي أنه يقدم نظرة كاملة للحياة. وقد تكشف للعلماء التجريبيين الآن بعد انفلاق الذرة أن هناك باتا قد فتح لعالم غيبي مجهول ضخم يعجز العلم بأدواته العاجزة عن اقتحامه، ولكنهم يعلمون الآن بوجوده ويقرون به.
وقد أعلن العلم أنه يعجز عن حل المشاكل، وقال العلماء أن الذهن البشري وحده لا يستطيع فهم حقائق الحياة. وقد تبين بعد طول الجهد المبذول أن العلم لا يكشف المجهول من الأسباب، ولكنه يدرس الظواهر وأنه يقوم في أول أمره على فروض، فإذا ثبتت بالتجربة أصبحت صحيحة وإذا فشلت لم تكن شيئاً.
وأهم ما تجاوزه العلم في المراحل الأخيرة اقترباً من مفهوم الدين هو تحطيم نظرية الجوهر الفرد، فإن فهم الذرة وانفلاقها قد ألغى تلك الفوارق التي تفصل بين المادة والطاقة ومن ثم أصبح معلوماً أن المادة تصبح طاقة والطاقة تصبح مادة.
والعلماء يقررون (حسب ما يقوله العلامة سبانيه في كتابه فلسفة الدين) أن ما عرفه العلماء من العلم هو جزء محدود وهو ليس إلا عدماً بالنسبة لما يجهلونه. وأن نظريات العلم نظريات وقتية مستعدة للتحوير والتغيير متى آن أوان ذلك.(17/4)
يقول كاميل فلامريون: "لقد عجز العلماء عن حل مسألة استمرار الوجود ودوامه؛ فهم مُقِرون بضرورة وجود الخالق وبتأثيره الدائم المستمر، وذلك ليمكنهم تفسير تعاقب الكائنات وإدراك سر أصول الأشياء". ويقول: "إن الروح موجودة وجود كائن مستقل عن الجسم وهي متمتعة بخصائص لم تزل للآن مجهولة لدى العلم ويمكن للروح أن تؤثر أو تتأثر من بعد".
ويقول إميل بوترو، في كتابه العلم والدين: "عجز العلم عن حل كل المشاكل، والعلم مهما تقدم فهو محدود، لا يوجد غير الدين الذي يسد الفراغ".
وبذلك كله تغيرت المفاهيم المحدودة الأولى التي اختطها الفلاسفة وبنوا عليها نظريات وأيدلوجيات: ومن النظريات الزائفة قولهم أن المادة هي أساس كل شئ، ثم قولهم أن المادة عمياء صماء، وكيف يمكن أن يكون البديع الدقيق على تنوع كائناته وتباين موجوداته مادة، أو صدفة، إن المادة منقادة بواسطة قوانين ونواميس إلى التشكل وفق نسب مقدرة، ومن هنا فقد تبين زيف القول بأن المادة ذات كيان مستقل، والمادة في مفهوم العلم الحق اليوم ليست قديمة ولا باقية، وقد خلقها الله تبارك وتعالى وتبقى إلى أجل مسمى عنده، وليس شئ في هذا العالم من الصدفة أو الضرورة. أو أنه اعتباطي بغير غاية.
وفي ضوء هذا لا نقبل التمويه بأن العلم التجريبي المتصل بالمادة يصلح لدراسة الإنسانيات، ولابد أن يكون هناك منهج آخر لدراسة النفس والأخلاق والإنسان والمجتمع، غير منهج العلوم المادية والتجريبية.(17/5)
ولقد شقيت البشرية في العصر الحديث؛ لأنها توسعت في العلوم المادية وقصرت في العلوم الإنسانية، وبذلك خلقت فجوة ضخمة وأزمة عميقة. وأصبح ذلك من أكبر الأخطار التي تواجه العالم المعاصر والإنسان الحديث، ذلك العجز عن التوازن بين مطالب الروح والفكر والنفس، المطالب المعنوية، وبين مطالب الجسد والمادة، وقد نتج عن ذلك ما تواجهه البشرية الآن من أزمة القلق والتمزق والضياع، وقد عبر عنه برجسون حين قال: "إن جسم البشرية قد تضخم تضخماً خارقاً للمادة، بينما ضعف روح البشرية وتضاءل".
ما هي الفلسفة :
ولقد حاولت الفلسفة أن تسد هذا الفراغ بتصورات مختلفة عن الكون والغيب والوجود والإنسان: لماذا جاء وإلى أين يذهب، ولكنها عجزت تماماً. عجزت لأنها حاولت أن تستعمل أسلوب العلم التجريبي فافترضت أن الإنسان مادة وحاكمته على هذا الأساس.
وفشلت لأنها ظنت أن العقل البشري قادر على إدراك حقائق الأشياء خارج نطاق وظيفته الخاصة ونطاقه المحدود.(17/6)
ولقد كان لطغيان المفهوم المادي أثره البعيد في الفلسفة التي حاولت أن تلغي كل ما وراء الطبيعة ولا تعترف به. غير أن العلم اليوم أصبح يعترف بأن هناك عالماً آخر، وأن أمام العلماء من الدلائل ما يؤكد ذلك، فكيف تنكر الفلسفة هذا العالم؛ إنها اعتمدت على العقل والحواس وهما قاصران، والعلم نفسه يعترف بأن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك شيئاً إلا عن طريق الحواس، ولذلك فإن كل ما يقع وراء الحس والعقل لا يمكن للعلم أن يبحث فيه أو أن يعرف عنه شيئاً. ولقد تبين أن هناك مسائل عديدة لا يستطيع العلم أن يجد لها حلاً ولا يصل إلى فهمها، واعتماد الفلسفة والعقل والحس لا يؤدي إلى شئ، إذن فهناك علم آخر مكمل لهذه العلوم: هو ذلك العلم الذي أرسل الله به الرسل وجاء به الوحي، وقرره كل كتاب سماوي. وإذا عجز العلم، وطاشت الفلسفة، فإن في أيدينا نحن المسلمين ما يسد الفراغ، ولقد أعطانا الدين الحق صورة كاملة لهذه الجوانب التي يعجز العقل والعلم عن الكشف عنها؛ حتى لا تكون في متاهة البحث الشاق تغير أدوات، والذي لا يصل إلى شئ، ولقد جاءت رسالات الأنبياء لتمنح الإنسان ذلك الأفق الواسع الرحب من الفهم، ليعرف أبعاد وجوده وكيانه وحياته ومصدره وماله، ويعرف ما بعد الموت، وما بعد الطبيعة جميعاً حتى تكون رؤيته للأشياء وتقديره سليماً وحتى تكون إرادته الخاصة ومسئولياته الفردية قائمة على أساس من الفهم والعدل.
إن وراء العقل الروح ووراء البصر البصيرة. والعقل هاد يستمد ضياءه من الروح وكلاهما العقل والبصر لا يدرك ما فوق مرتبته ولكنه يستطيع أن يعلم، فإن لو رأيت حجراً يرتفع في الهواء لعلمت أن رامياً رمى به، فعلمك أن رامياً رمى به ليس من قبل البصر، بل هو من قبل العقل؛ لأن العقل هو الذي يميز ويعلم أن الحجر لا يذهب علواً من تلقاء نفسه، أرأيت كيف أن البصر وقف عند حده فلم يتجاوزه فكذلك يقف العقل عند حده من معرفة الخالق تبارك وتعالى فلا يعدوه.(17/7)
وعدم العلم بوجود الشيء لا يعني عدم وجوده، وعدم القدرة على الإحاطة بوجود الشئ لا يعني عدم وجوده، إذا كان الجهاز المستعمل (وهو العقل) في ذلك أقل وأصغر من الموجود نفسه.
وهنا نعرف محدودية العقل ومحدودية مهمة العلم وعجز الفلسفة عن طريق العقل عن الوصول إلى كُنه الأشياء وحقائق الوجود، والله تبارك وتعالى لا تدركه الأبصار؛ ولكنها تعرفه في خلقه ونظام كونه (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).
العلم والفلسفة:
إن المعرفة التجريبية هي التي أخذت مفهوم العلم ولكن الفلسفة ليست إلا افتراضات خارج دائرة التجريب تحاول أن تصطنع الأسلوب العلمي في النظر والاستدلال. ولا تخلو من الأهواء والمطامع. وهي حين تحاول أن تنقل التجريب إلى عالم النفس والإنسانيات والأخلاق تتعثر وتخطئ. فإن مفاهيم الاجتماع والنفس والتربية والأخلاق لا تخضع للتجريب؛ لاختلاف النفوس والطبائع والبيئات والعصور، ولكن العلوم المادية تخضع لذلك. وكل ما يقال عنه في هذا المجال أنه علم فهو فلسفة. والفلسفة المعاصرة حسية مادية واقعية لا تعترف مطلقاً بغير ما يقع تحت التجربة من محسوس وملموس. ولذلك فهي تنكر العوالم الغيبية التي أصبح العلم يعترف بها. وهي تنكر الوحي والألوهية والنبوة والبعث والجزاء والأديان والكتب المنزلة. وهي لذلك قاصرة عن فهم أبعاد الحياة والوجود التي يعرفها المؤمن بالله، ومن أجل ذلك فقد اختفت في صياغة حياة ناجحة أو نافعة؛ لأنها عجزت عن العطاء الأخلاقي الذي يشكل الوازع النفسي. وقد جاء هذا النقص نتيجة الغلو في النظرة المحسوسة والتجارب الآلية والرياضية –كما يقول الدكتور محمد البهي- لأن هذا الغلو ركز القيمة كل القيمة فيما يدركه الحس وينشأ عن التجارب المادية، ولذا ألغى اعتبار المثل والقيم الرفيعة في حياة الإنسان كما ألغى رسالة الدين في توجيه الناس نحو الله.(17/8)
ولقد حاول العلم الإدعاء وتحاول الفلسفة الإدعاء باسم العلم اليوم، إنها ستقضي على الدين ولكن كل الدلائل تؤكد زيف هذا الإدعاء، إن العلم سوف يعجز عن القضاء على الدين، بل إنه سوف يؤكد وجود الدين، وإذا كان الدين الحق لا يفسر ظواهر الكون كالعلم فإنه يضع الإطار الأخلاقي للحياة ويرسم منهج العلاقة بين الله والإنسان. والإسلام هو الذي أقام للعم منهجه التجريبي ووضع له آدابه وقيمه من حيث حرية البحث وكرامة العلماء وسمو الغاية وبعدها عن التدمير والشر.
وخطأ الفلسفة في نظرتها إلى الدين يرجع إلى أنها تظن أنها تصلح بديلاً له في تفسير أمور الطبيعة والحياة. كما أنها تتجاوز حدود الحق حين ترى أن الدين الحق عائق عن التطور.
ولقد توزعت الفلسفة بين اتجاه مادي واتجاه عقلي واتجاه روحي، في محاولة استخدام العقل في فهم الكون والطبيعة وعجز العقل، ولم يحقق هذا التمزق شيئاً؛ فإن الاتجاه المادي يرى أن العالم لم يزل موجوداً بنفسه وبلا صانع. والاتجاه العقلي يرى أن مشاكل ما وراء الطبيعة والأخلاق والدنيا والآخرة إنما يحلها العقل بأقيسته= وبراهينه، والاتجاه الروحي يعتمد على الحدس أو الإلهام وحده، بينما الاتجاه الإسلام إنما يقوم على مفهوم جامع شامل متكامل فيه العقل والقلب، والمادة والروح، وهو يتمثل الإنسان نفسه الجامع بينهما، فيكون أصدق نظرة وأعمق فهماً.(17/9)
ولقد أكد الباحثون في الفلسفة أنفسهم: أن أي فلسفة مثالية أو مادية، روحية أو عقلية لم تصل إلى ما وصل إليه الإسلام من تحرير عقل الإنسان وتحطيم أغلاله الموروثة؛ فهو يخاطب العقل والقلب معاً، وقد أكد وحدانية الله وكرامة الإنسان: والقرآن يدعو إلى أسهل العقائد وأقلها غموضاً وأبعدها عن التقليد بالمراسم والطقوس وأكثرها تحرراً من الوثنية الكهنوتية؛ فقد أبطل القرآن سلطان الأحبار والرهبان والوسطاء بين العبد والرب، ولم يفرض على الإنسان قرباناً يسعى به إلى المحراب بشفاعة من ولي ولا ترجمان بين الله وعباده يملك التحليل والتحريم والغفران ويقضي بالحرمان أو النجاة. والخطاب أيما يتجه في القرآن إلى عقل الإنسان حراً طليقاً من سلطان الهياكل والمحاريب وسلطان كهنتها وسدنتها، وكل هذا من شأنه أن ينمي في الفرد الإحساس بالمسئولية ويفتح بضميره منفذاً واسعاً إلى الألوهية يربطه بها ربطاً مباشراً محكماً يرفع كل حجر على وجدانه. ولقد علم القرآن أتباعه أن يواجهوا الحياة بواقعية ورباطة جأش لا مثيل لهما في الأديان الأخرى وحثهم على الإقبال عليها والزهد بها في آن واحد، مع توازن مدهش، لا تفريط فيه ولا إفراط، شعاره الدين والدنيا.
"ليس بين الكتب التي توصف بالقداسة وتنسب إلى السماء كتاب كالقرآن: يدعو أتباعه على الدوام أن يكونوا أعزة أقوياء ولم يصلح في هذه الدعوة كتاب آخر كما أفلح القرآن" -دكتور محمد عبد الرحمن مرحبا.
وهكذا نرى أن النظر الفلسفي الخالص لا يمكن أن يكون أساساً للفكر الإسلامي؛ ذلك أنه لا يمكن الوصول إلى الحقائق الأولية إلا عن طريق الوحي، والفلسفة ليست قرينة الوحي، ولا مناظرة له؛ فهي لا تزيد عن أن تكون استخداماً للعقل.
الوثنية:(17/10)
والظاهرة الواضحة الآن أن جميع الفلسفات المعاصرة تقوض دعائم الاعتقاد بوجود إله واحد بغض النظر عن البديل المقترح، فمنها مَن تقترح ألوهية المادة ومنها ألوهية الإنسان، ومنها ما يجعل الغريزة محور تفسير الوجود، وهدف الفلسفات الآن تدمير عقيدة التوحيد؛ لأنها العقيدة التي تحول دون سيطرة نفوذ المادية على مصير البشرية.
ويرى كثير من الباحثين أن تسلط النزعة المادية على الحضارة والفكر قد خلق وثنية جديدة أخطر من الوثنية التي جاء الإسلام للقضاء عليها. والوثنية هي عبادة المجسد. وهي اليوم عبادة المال وعبادة القوة وعبادة السلطان، وعبادة العلم وعبادة الحضارة وعبادة العبقرية وعبادة الكلمة وعبادة اللذة والترف والرفاهية. إن معنى الوثنية أن يخلق الإنسان إلهاً يعبده ويتخلى عن عبادة الله الحق، إن التلمودية اليهودية قد سيطرت على الفكر الغربي فنقلته من عبادة الله إلى عبادة العجل الذهبي "المال" وسيطرت لبناء إمبراطورية الربا.
إن العلم الذي هو معبود الغرب اليوم لم يستطع أن يقدم للبشرية حلاً لأزماتها ومشاكلها فيما سوى المتاع المادي، أما النفس الإنسانية فإنها تواجه أزمة خطيرة حانقة هي أزمة الضياع والتمزق والانهيار. العالم ليس مادة فقط وليس علماً وعقلاً فقط ولكنه إلى ذلك روح ووجدان وقلب وعاطفة.
لقد تبين أن الإنسان عاجز عن أن يقدم لنفسه الحلول الملائمة لمشاكل النفس ومشاكل الحياة الاجتماعية؛ وإنما يحتاج دائماً أن تقدم له هذه الحلول من جهة أعلى من عقله وقدرته وأسمى من أهوائه ومطامعه. ولن يكون ذلك إلا عن طريق الدين الحق.(17/11)
يقول هارولد لاسكي: "عالم اليوم يعاني الشعور بخيبة الأمل، إن جيلنا فقد قيمه، لقد حل "الشك" السافر محل "اليقين" واليأس محل الأمل، ويبدو أن الاتجاهات الحديثة في الفن والأدب والموسيقا لا تعترف بالتراث الذي أبدع روائع الماضي، وأن الحرب قد سددت ضربتها القاضية للمعتقدات الدينية التي كانت مقياساً دائماً للسلوك، لقد انتصرت روح الإنكار على روح اليقين. إن منهج الغرب في الحياة قد وضع في بوتقة الانصهار. في مقدور هذا العلم أن يتيح الرفاهية المادية ولكنه يبدو عاجزاً عن اكتشاف مبادئ الرضا الروحي. ومنذ قرن مضى كان في مقدور الدين أن يتيح للكثيرين الأمل في تعويض ما نالهم من الحياة وذلك في الحياة الأخرى، أما الآن فقد أطفأ العلم أنوار السماء ولا طريق للخلاص إلا في ظل الحاضر العاجل".
ويقول خليل حاوي: "إن فجيعة القلوب هي في أن العقل محدود المعرفة عاجز عن إدراك حقائق الإيمان والدين. فمن المستحيل إدراك المطلق عن طريق العلم (أي التجربة) أو العقل لتعالي المطلق عن التجربة والواقع. والإنسان ليس كائناً يعقل فحسب؛ بل هوا كائن له قلب وإدراك، ومن حق الإرادة الإيمان بأشياء لا يثبتها العقل ولا ينفيها، فمن حقها أن تؤمن بمعتقدات الوحي والدين وخلود النفس وجود الله تبارك وتعالى؛ لأن العقل لا يستطيع أن ينفيها، وهكذا نرى أهل الفكر البشري في حيرة شديدة رحمنا الله منها بمفهومنا المتكامل الجامع بين الروح والمادة، دون أن يسقط في محظور المادية ودون أن يسقط في أزمة وحدة الوجود.
ونجد الفلسفة الغربية اليوم قد وصلت إلى مرحلة شاقة: ذلك أنها تجعل مهمتها قاصرة على جبرية النظرة؛ فهي تصور الواقع وتعايشه وتعلن الشبهات والشكوك، ثم تقف دون أن تضع الإجابات وبذلك تخلق الحيرة الشديدة في وجدان أتباعها. أما الإسلام فهو يختلف تماماً؛ إنه يدعو إلى تحرير المواقف وتصويبها في ضوء هدف أساسي تعرض عليه المواقف المختلفة ضمن إطار واضح محدد.(17/12)
أما الغربي فإنه ينطلق من واقع غير مقيد بأي إطار أو ضوابط أخلاقية أو دينية، إنه يتحرك في إطار أوضاع الحياة وتحديات المجتمع، مؤمناً بالنسبية في الأخلاق والتطور المطلق في الحركة، والجبرية التي تسوقه دون إرادة، فهو لا يصل إلى غاية ولا يجد الاستجابة لكوينه النفسي والمعنوي والروحي الذي يصرخ في داخله تحت قسوة ضربات المادة والجنس والتحلل وحرية الإباحية.
وبذلك نجدنا تماماً أمام حقيقة لا ريب فيها يعبر عنها العلامة المودودي حين قال: "إن النظريات التي وضعها الإنسان عن نفسه وعن الحياة الدنيا وعن نظام الكون وعن ذات الإله مدفوعاً بدراسته الشخصية وتقديراته الخيالية وخضوعه لسلطان الأهواء ثم المواقف التي اتخذها على أساس تلك النظريات، فإنها في حقيقتها باطلة ومهلكة للإنسان نفسه من ناحية المصير، وإنما الحق هو الذي علمه الله للإنسان حين جعله خليفة في الأرض، وبموجب هذا الحق ليس من منهج من المناهج إلا المنهج الذي هو: المنهج الصحيح".
نعم: لقد فشل الفكر الغربي الحديث في استيعاب الحقيقية الإنسان وعجز عن تعيين أبعادها وحبس نفسه في إطار ضيق خانق هو إطار المادة، وبذلك عجز عن وضع الحلول المناسبة لأزماته وفشل في تفهم معضلاته الاجتماعية والأخلاقية التي باتت تعصف بمجتمعه اليوم وتهزه من الأساس.(17/13)
وحين انتقل هذا الإعصار إلى أفق الفكر الإسلامي وجد من بعض العقول الساذجة بريقاً ومن بعض النفوس البسيطة تقبلاً، ثم تكشف زيفه سريعاً في محيط أمة مؤمنة بالله، وإيمانها عميق وراسخ في أعماق أربعة عشر قرناً، فلم يجد قبولاً أن يقال أن الطبيعة تدبر نفسها وأنها لست في حاجة إلى فاعل أو خالق، وما كان لهذا البريق أن يستمر ولا لهذا الصوت أن يعلو؛ لأنه يناقض مناقضة صريحة كل خلة في الإنسان، عقله وقلبه وفطرته ويناقض العلم ويناقض هذا الميراث الضخم من التوحيد الذي قضى على الغنوصية والهلينية قديماً وقضى معها على الوثنية وبيوت النار وكل ما سوى عبادة الواحد القهار، وما كان التاريخ يعود القهقري بهذه الأمة التي حملت رسالة التوحيد والتي هي خير أمة أخرجت للناس. ولذلك سرعان ما انقضت على هذا التيار قوى التصحيح والتحرر من الزيف والعودة إلى المنابع واستلهام الحق، كاشفاً بتلك الأصالة التي تؤمن بالله وبإرادة الإنسان ومسئوليته والتزامه الأخلاقي وخلود روحه وتوقه إلى ربه خالقه ومبدعه. ومهما علت دعوات المادية أو الماركسية، أو الوضعية المنطقية، أو الوجودية فإنها لن تجد سوقاً ولن تجد إلا أولئك الذين عجزوا عن فهم حقيقة دينهم، فالقرآن يقرر أن الدين فطرة في الإنسان فطر الله الناس عليها وأن أساسه الاعتقاد بخالق الكون وأنه واحد لا شريك له وما هدانا إليه القرآن لا يعارض العقل أو الفطرة.
{ فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم }.
أنور الجندي(17/14)
سلسلة على طريق الأصالة
24
محمد صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
###5### بسم الله الرحمن الرحيم
الرسول الخاتم
(المثل الأعلى والأسوة الحسنة)
ما تزال سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وستظل على مدى الأجيال والقرون، وحتى يرث الله تبارك وتعالى الأرض ومن عليها نبراسًا للمسلمين وضوءًا كاشفًا في حياتهم وأعمالهم ووجهتهم، فقد كانت تطبيقًا كريمًا لمنهج الله الذي جاء به القرآن الكريم ونورًا هاديًا لكل أمة تريد أن تصل إلى الحياة الكريمة على هذه الأرض أداءًا لحق الله وإقامة لمجتمعه في الأرض ومن حيث أخذت تنظر في وقائع حياة الرسول الكريم فأنت لا ريب تجد العبرة والقدوة والأسوة التي تضيء لك الطريق.
ذلك أن حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ليست حديث تفاخر أو تندر أو تسلية وتبسط ولكن حياة الرسول هي منهج لحياة المسلمين على مدى الأزمان وهي ضرورة حتمية في أيام الأزمات وفي مراحل الضعف والتخلف وهي عامل أساسي في سبيل عودتهم إلى الله وإقامة المجتمع الرباني على الأرض من جديد فقد كانت حياة الرسول هي ###6### التطبيق العملي لمنهج القرآن والشريعة الإسلامية وستظل نبراسًا للأمة الإسلامية في جميع مراحلها في مختلف أزماتها وحين يشتد عليها الحصار والاحتواء من القوى الغازية ومخرجًا لها من كل مؤامرات خصومها.
كانت هذه الحياة خصبة حافلة بالعطاء، ووصلت إلينا كاملة بأدق دقائقها، كأنما نرى الرسول صلى الله عليه وسلم ونسمعه في مختلف وقائع حياته قائمًا ونائمًا ومتحدثًا وعابدًا ومحاربًا وقاضيًا.(18/1)
فقد كان هذا كله إذ جمع الله تبارك وتعالى له ولمن تبعه بين الدعوة والدولة، وبين الرسالة والقيادة، وبين التبليغ والحكم، وهو ما لم يتحقق لنبي من قبل، وقد أعطى ما لم يعط رسول سبقه، وجاء الأنبياء برسالتهم إلى قومهم وبعثه صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة وختمت به رسالات السماء فلا نبي بعده، وأعطى الأنبياء معجزات حسية لعصرهم وبيئتهم أما هو فقد أعطى القرآن معجزة المعجزات الباقية الخالدة إلى يوم القيامة، يقول صلى الله عليه وسلم:
"ما من الأنبياء نبي إلا أعطي ما مثله آمن البشر، إذ كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله لي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا".
وأعطى الأنبياء كتب السماء ووكل إليهم حفظها فاختلف فيها أما كتاب محمد صلى الله عليه وسلم فقد حفظه الله تبارك وتعالى (إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) بل لقد زاده الله شرفًا حين قال (وإن علينا بيانه).
###7### وما من نبي أو رسول إلا ناداه الله تبارك وتعالى باسمه، أما نبيكم فقد كرمه الحق تبارك وتعالى فقال: (يا أيها النبي، يا أيها الرسول) وقد جعله حبيبًا ومقربًا حتى أقسم بحياته (لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون) وما حلف الله تبارك وتعالى بحياة أحد قط غيره وزاده حبًا حين جعله أشد قربًا (فاصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا).
وعندما عاتبه قدم العفو على العتاب (عفا الله عنك لم أذنت لهم).
وقد كرم الله تبارك وتعالى أمة هذا النبي فوضع عنهم الإصر الذي كان على الأمم قبلهم، وأحل لهم كثيرًا مما شدد على من قبلهم ولم يجعل عليهم في الدين من حرج ورفع عنهم المؤاخذة بالخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه وحديث النفس "وأن من همّ بسيئة منهم لم تكتب عليه سيئة بل تكتب حسنة إن ترك فعلها، ومن همَّ بحسنة فإن عملها كتب عشرًا".
قال تعالى: (ما جعل عليكم في الدين من حرج). وقال: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقال تعالى: (ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).(18/2)
وقد كرم الله تبارك وتعالى رسالة محمد صلى الله عليه وسلم فلم يأخذها بسنن الأمم السابقة بل أعطاها عشرات الرحمات فلم يرسل لها الآيات حتى لا يهلكها حين كذبت وما أعطى الله تبارك وتعالى أمة ###8### محمد أن جعل فيهم طائفة لا تزال ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله.
وبعد فإذا ذهبنا نستجلي شمائله الكريمة وجدنا عجبًا:
لما انكسفت الشمس يوم وفاة ابنه إبراهيم وقال الناس إنها انكسفت لموته خرج يجر ردائه ويعلن أن الشمس والقمر آيتين من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا حياته.
وعندما سمع الناس الصوت المدوي في غلس الصباح الباكر وخرجوا منزعجين رأوه صلى الله عليه وسلم عائدًا من مكان الصوت على فرس عرى وسيفه في رقبته وهو يقول لهم: لن تراعوا، لن تراعوا، وعندما وجد رجل يرتعد بين يديه قال له صلى الله عليه وسلم:
هون عليك، إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة وعندما دخل مكة ظافرًا منتصرًا قال للناس: ما تظنون إني فاعل بكم، قالوا: أخٍ كريم وابن أخٍ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وكان صلى الله عليه وسلم إذا أقبل جلس حيث ينتهي به المجلس وكان يمد طرف ردائه لحليمة السعدية لتجلس عليه ويلقي وسادته لضيفه ويجلس هو على الأرض، وكان إذا لقيه أحمد من أصحابه قام معه فلم ينصرف حتى يكون هو الذي ينصرف وإذا ما لقيه أحد فتناول يده ناوله إياها فلم ينزع يده حتى يكون الآخر هو الذي ينزعها وكان يتجمل لإخوانه ويقول: إن الله يحب ###9### من أحكم إذا خرج لإخوانه أن يتجمل لهم، وقالوا: كنا نعرف خروج النبي برائحة الطيب، وقال أنس بن مالك: صحبت رسول الله عشر سنين وشممت العطر كله فلم أشمم نكهة أطيب من ريح رسول الله وما رأيت أحدًا أسرع في مشيته من النبي، كأن الأرض تطوى له وإنا لنجهد وهو غير مكترث.(18/3)
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: اللهم صيبًا نافعًا وإذا خاف ضرره قال: اللهم حوالينا ولا علينا. وإذا سمع الرعد والصواعق قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك وتهلكنا بعذابك، وكان إذا رأى الهلال قال: الله أكبر، اللهم أهله علينا باليمن والإيمان والسلامة والسلام، ربي وربك الله، هلال خير ورشد.
ويقول للمسافر: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم أعمالك، وإذا سرى بالليل مسافرًا قال: اللهم أطو لنا الأرض وهون علينا السفر.
وكان يعود المريض ويتبع الجنائز ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار ويقف للمرأة العجوز في الطريق ساعة تحدثه وإذا جاء وقت الصلاة قال: أرحنا بها يا بلال.
وكان يوجه أصحابه: يقول صلى الله عليه وسلم: لا يكن أحدك إمعة، يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم ###10### إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم" ويقول: من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف، يسلم الراكب على الماشي، والماشي على القاعد، والصغير على الكبير، والقليل على الكثير.
ومن ذلك قوله: إذا كنتم ثلاثة فلا تتناجى اثنان دون الآخر، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصيم ويقول لا يقيم الرجل الرجل من مجلسه ويجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا ولا يقضين أحدهم بين اثنين وهو غضبان، رحم الله رجلا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى.
هذا رسول الله سماحة نفس وكرم خلق ونبل محتد فإذا جاء الأمر الجليل كان على قدرة من المسئولية حزمًا وحسمًا.
إن الذين من قبلكم كان إذا سرق الشريف فيهم تركوه وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد.
لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها.
###11### كل عمل الجاهلية أضعه تحت تحدثي وأول ربا أضعه هو ربا عمي العباس بن عبد المطلب.(18/4)
وإنه لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته.
ويقول صلى الله عليه وسلم: إن الزمن قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض واليوم نقول: لقد استدار الزمن كهيئة يوم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وان الإسلام الآن في مرحلة اليقظة التي تضعه على طريق الفجر بعد ليل طويل وأن خير ما يحتفل به في مولده هو التماس منهجه وتطبيق تعاليمه وإقامة المجتمع الرباني الذي دعا إليه والذي جعلنا مسئولين عنه وتبليغ رسالته إلى العالمين وأن يجمع المسلمون بين العقيدة والشريعة والأخلاق في وحدة واحدة، هذه دعوة نوجهها إلى إخوتنا أنصار السنة ورجال التصوف حتى يستكمل المسلم عقيدته: دعوة إلى توحيد الله وشريعة مطبقة في منهج الحياة وتزكية نفس بالأخلاق والعبادة فالمسلم سنيًا ومتصوفًا، سلفيًا وعابدًا، فارس النهار وراهب الليل.
أن ما يتميز به الإسلام عن عقائد البشر هو أن يجعل وجهته خالصة لله تبارك وتعالى وأن يكون كما عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن هذا الأمر لا يحسنه إلا من أخذه من جميع أطرافه".
###12### وقد قدم الإسلام بحياة النبي صلى الله عليه وسلم مفهومًا جديدًا لتطور الإنسانية يختلف عن مفهوم الغرب الذي يرى العظمة في أهل الغنى وأبناء القصور والدرجات وهو مفهوم الجاهلية أيضًا (لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) فقد جاء النبي يتيمًا أميًا فقيرًا ليجعل الله تبارك وتعالى من النبوة والوحي مقياسًا مختلفًا عن مقاييس البشر ومناهج الناس (ألم يجعلك يتيمًا فآوى، ووجدك ضالا فهدى، ووجدك عائلا فأغنى) كما أنه جعل العقيدة قادرة على أن يخرج الإنسان عن أخطاء الوراثة والبيئة مخالفًا مناهج العلوم الاجتماعية المادية.
ومن هنا فإننا يجب أن ننتهز هذه المناسبات لنحشد العبرة الحقيقية لها:(18/5)
أولا: أن نملأ قلوب شبابنا بالثقة الكاملة والإيمان الراسخ بأن دعوة الإسلام هي أمل البشرية اليوم بعد أن عجزت الأيدلوجيات كلها وتراجعت وهو وحده الذي يحمل لهذا العصر علاج أدوائه.
ثانيًا: إن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو دعوة الله الأولى والأخيرة منذ بعث أنبيائه.
ثالثًا: إن الإسلام هو الذي حرر الإنسانية عن عبودته الحضارات الفرعونية واليونانية والرومانية والفارسية والهندية وحرر العقل الإنساني من الوثنيات وألغى مفاهيم أرسطو وأفلاطون ###13### حول سيادة السادة وعبودية العبيد وألغى مفهومها الذي ظل مسيطرًا مئات السنين وفتح الباب أمام حرية الإنسان من السخرة والرق من ناحية كما حرر عقله وقلبه من عبادة الأصنام والأوثان فالبشرية اليوم مدينة لمحمد صلى الله عليه وسلم بهذا التحول الخطير.
رابعًا: إن الإسلام هو الذي قدم للإنسانية المنهج العلمي التجريبي ومنهج المعرفة ذي الجباحين ووضع البشرية على طريق المدنية والعلم والتكنولوجيا وأن الإسلام قدم ذلك من توجيه القرآن وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم ودينه وكتابه هو الذي صنع الحضارة الإنسانية حين أنشأ المسلمون المنهج التجريبي ومنهج المعرفة الجامع بين الروح والمادة ومن منطلق الآية القرآنية: (قل انظروا ماذا في السموات والأرض). وقوله تعالى: (قل هاتوا برهانكم).
خامسًا: أن الإسلام ينظر إلى كل قضية من القضايا المعاصرة عن طريق أساسي، هو أن لكل قيمة من القيم جانبان متكاملان: روحي ومادي، ولا يمكن فهم أي نظرية أو فكر أو مذهب دون وضعه تحت هذا المجهر، ومن قصور الفكر والحضارة الغربيين التماسهم طريقًا واحدًا هو الطريق المادي.(18/6)
###14### يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول دينك نبوة ورحمة تكون فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون ملكًا عاضًا فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون ملكًا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها الله جل جلاله ثم تكون (خلافة على منهاج النبوة) تعمل في الناس بسنة النبي ويلقى الإسلام بحرانه(1) على الأرض ويرضى ساكن السماء وساكن الأرض ولا تنزع السماء من قطر إلا صبته مدرارًا ولا تنزع الأرض من نباتها وبركاتها شيئًا إلا أخرجته".
فنحن الآن على طريق الله إلى هذه الغاية وهذه علاماتها: يقظة وصحوة ونهضة، يدخل الإسلام إلى كل حجر ومدر في قارات الأرض الخمسة وتعلو كلمة الله ويسلم المفكرون الغربيون الراغبون إلى معرفة الحق وتنجلي الآيات وتنكشف عن القرآن معجزاته في الخلق وفي الآفاق، ومن وراء الكواكب والمجرات يد الله تبارك وتعالى الخالق الصانع القادر فاعتبروا يا أولي الأبصار وتحية عطرة للنبي الأمي صلى الله عليه وسلم الذي هدانا إلى طريق الله وشرفنا بأن جعلنا من خير أمة ###15### أخرجت للناس فاستمسكوا به وبكتابه ودعوته إلى التوحيد الخالص وإسلام الوجه لله واصبروا ورابطوا واثبتوا وأبشروا:
(يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون) صدق الله العظيم.
هذا وبالله التوفيق
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي
__________
(1) في القاموس حران وحرين أي أقام في مكانه لا يبرح.(18/7)
(7)
تحديات في وجه المجتمع الإسلامي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد؛ فمنذ كانت البشرية والفكر الرباني في صراع مع الفكر البشري وعلى مدى التاريخ ولما جاء القرآن نسف هذا الفكر كله وصيره ركاماً وكشف زيفه وضلاله وفساده ودعا البشرية من جديد إلى التوحيد بوصفه المنطلق الوحيد إلى إقامة المجتمع الرباني الأمثل. فهزم الإسلام العبودية البشرية في حضارات اليونان والفرس والهند والفراعنة وأقام حرية الإنسان متطلعاً إلى الإخاء البشري وجعل عبوديته لربه وحده دون الخلق جميعاً .. ثم هزم العبودية الوثنية لغير الله وحرر العقل البشري وأطلقه ليجد طريقه إلى معرفة سنن الله في الكون، ومن هذه النقطة أنشأ المسلمون المنهج التجريبي الذي هو قاعدة الحضارة المعاصرة.
غير أن محاولات الهدم لم تتوقف وتجددت مرة أخرى وأخذت تصوغ من ذلك الركام القديم مذاهب جديدة عرفت في العصور السابقة بأسماء كثيرة منها الغنوصية والتناسخ والدهرية وإخوان الصفا والسبئية والحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وظهرت فرق متعددة تحمل لواء هذه الدعوات.
ولقد واجه علماء المسلمين الأبرار هذه المذاهب الهدامة بقوة وحطمت أعمال الشافعي وابن حنبل والأشعري والغزالي ثم ابن تيمية وابن القيم هذه الأعمال الزائفة التي كان لهما زخرف ولمعان يخطف الأبصار الساذجة.
حتى جاء عصرنا فتجددت هذه الدعوات مرة أخرى عن طريق القوى الثلاث التي تواجه عالم الإسلام اليوم: الاستعمار والصهيونية والماركسية والتي تحمل لواءها دعوات: التبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي. ومنذ جاء الاستعمار وهو يعمل على هدم ثلاث قيم أساسية:
التعليم – الشريعة – اللغة.(19/1)
وهي التحديات الحقيقية التي تواجه مجتمعنا اليوم وما زالت قائمة بالرغم من التحرر السياسي والعسكري الذي قضى على النفوذ الاستعماري. ذلك أن الاستعمار كان يعد قبل خروجه محاولة لبقائه واستمراره تمثل في هذا السلطان الفكري والاجتماعي الذي مازال يحول بيننا وبين امتلاك إرادتنا الحقة. ومن هنا فإننا مطالبون أن نواجه هذا المخطط بقوة ليس على مستوى المفكرين المسلمين فحسب؛ بل على مستوى كافة المسلمين.
ومنطلق هذه المواجهة هي أن نعرف خلفيات ما يُعرض لنا مما هو مكتوب ومذاع ومنشور. سواء أكان صحيفة أو كتاباً، أو مسرحية أو فلماً سينمائياً. ذلك هو العمل الحقيقي الذي يمكننا من معرفة الأصالة من الزيف، والحق من الباطل، والخير من الشر.
ولذلك فقد أردت أن أطلق اسم "قبل أن تقرأ" عليك أن تكون واعياً لمِا تقرأ: مَن الذي يقدمه لك، ما مدى سلامته، ما مدى صلته بأمتنا وديننا وعقيدتنا، إننا يجب ألا نضع ثقتنا إلا في الفكر الأصيل. إن هناك اليوم قوى كثيرة تطرح فكرها وتنفث سمومها، وشبابنا في حاجة إلى ضوء كاشف يهديه، إنه ينظر فيرى هذه الكتب مكدسة في كل مكان، مترجمة أو مؤلفة، كُتابها مسلمون أو عرب أو أجانب فيقرؤها دون أن يلتفت إلى الغاية أو الخلفية ويظن أن كل ما يقرأ صحيح أو حق، فيأخذ به، وهذا هو مصدر الخطر.
لذلك أردت أن ألقي بعض الأضواء الكاشفة حتى لا تنخدع بالأسماء اللامعة أو الكتب الأنيقة أو العبارات الخلابة، لقد دخل إلى فكرنا زيف كثير، وفُرضت مسلمات كثيرة، في حاجة إلى أن نعيد النظر فيها.
نحن نعرف الرجال بالحق ولا نعرف الحق بالرجال، وهذا الحكم قانون يضئ لنا الطريق.
إن علينا أن نعرف أن أمتنا تقع في مكان الصدارة من العالم كله، ولذلك فهي مطمع الغزاة من قديم، ونحن نعيش الآن الغزوة الصهيونية بعد غزوة الاستعمار الفرنسي الإنجليزي الإيطالي الهولندي.
ومن قبل جاءت موجة الحروب الصليبية وحروب الفرنجة.(19/2)
كل هذا يقنعنا بصدق الوصية التي دعانا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "ستفتح عليكم بعدي مصر فاتخذوا منها جنداً كثيفاً؛ فإنهم خير أجناد الأرض، وهم في رباط إلى يوم القيامة".
وهكذا نرى من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة" وأن المواجهة لن تتوقف بين أهل الإسلام وبين خصومه أبداً، وان علينا أن نكون مرابطين إلى يوم القيامة ندافع عن أرضنا وقيمنا وعقيدتنا.
ولقد خدعنا الاستعمار حين دعانا إلى مناهجه وهجر مناهجنا حين حجب الشريعة الإسلامية والتربية الإسلامية واللغة العربية، ودعانا إلى مفاهيمه وخدعنا رجاله ورجال مِنا أمثال طه حسين وغيره، حين قالوا لنا أن أسلوب الغرب هو الأسلوب القادر على إعطاء صفة التقدم.
وكذبوا؛ فإن الغرب لم يكن ليسيطر على بلادنا ويدعو إلى تغريب فكرنا ثم يسمح لنا بأن نصل إلى وسائل التقدم وامتلاك الإرادة.
لقد خدعنا بأسلوب الغرب في الحكم والتربية والاجتماع وجرينا وراء التجربة الغربية حتى نهايتها التي كانت سقوط فلسطين في يد الصهيونية، ثم جرينا وراء التجربة الماركسية حتى كانت نهايتها سقوط القدس في يد الصهيونية وتعرية المجتمع العربي تعرية كاملة، حتى تعرف أن الهزيمة والنكبة والنكسة التي توالت منذ 1948 حتى 1967 إنما كان مصدرها التماس أسلوب الغرب وحجب أسلوب الإسلام.
وعندما حطمنا هذا القيد والتمسنا أسلوب الإسلام لمن تمضِ إلا سنوات قليلة حتى كان نصر رمضان المؤزر الباذخ الذي هو علامة على الطريق الجديد الذي يجب أن يسلكه المسلمون والعرب: طريق الأصالة، طريق الجهاد والقوة، طريقة الشريعة الإسلامية والتربية الإسلامية، طريق (الله أكبر)، ذلك السلام الكوني الذي تدرسه الآن الأكاديميات العسكرية؛ لترى أنه كان أشد خطراً من القنبلة الذرية والهيدروجينية معاً.(19/3)
لقد اعتدل الطريق بنا وكان حقاً علينا أن نحطم قيود التغريب والغزو الثقافي التي تتكاتف الآن؛ محاولة أن تردنا مرة أخرى إلى الاحتواء والسيطرة.
يجب أن نقف موقف الحذر من كل ما تقليه إلينا هذه المصادر الغربية الوافدة، ولقد واجه المسلمون مثل هذه التجربة وانتصروا فيها وعلينا نحن أيضاً أن ننتصر. نحن المسلمين، لا يمكن أن تؤكل ولا أن تحتوينا المذاهب، إن مذهبنا هو مذهب القرآن الجامع الذي لا يحرف، ليس هو مذهب الفلسفة ولا العقلانية الخالصة، ولا الجبرية الصوفية ولا الحدس الوجداني، كل ذلك ركام باطل جددته الباطنية والمجوسية والشعوبية، وأعادت صياغته من جديد لتضرب به مفهوم التوحيد الخالص.
إن أخطر ما يتحدى المثقف المسلم هو النظرة الجزئية، أو الرؤية المحدودة، التي تقف عند حادث من الأحداث، أو خبر من الأخبار، أو موقف من المواقف، فتنظر إليه وتحاول أن تحلله أو تحكم عليه دون أن تبحث عن خلفياته أو أبعاده أو أرضيته، ومن هنا تكون تلك النظرة ناقصة، أو جزئية أو غائمة، وليس كذلك يفعل الناصحون الذين رباهم القرآن وعلمهم الإسلام، وإنما تكون النظرة فاحصة ويكون الحكم سليماً إذا ما استوفى شرائط التقدير والبحث عما يتصل بالحدث أو الخبر أو الموقف مِما سبق في الزمن، ومِما جرى وأوشك أن يغيب وراء الأفق؛ ذلك لأن الأمور لا تجري منفصلة عن سوابقها ولواحقها، خاصة فيما يتعلق بتحديات الغزو الفكري والتغريب.
أضواء كاشفة لأبعاد الغزو الفكري ومخططات التغريب(19/4)
وهذه أضواء كاشفة وخيوط عامة لنا جميعاً، ولكننا ننظر إليها مع الأسف مفرقة وموزعة، ولا نستحضرها عند النظر أو البحث في حادث ما أو خبر ما أو موقف ما، ولذلك يفقد الأمر خطره، ولقد عرف خصومنا فينا هذه النظرة الجزئية فباعدوا بين الأحداث اعتماداً على أننا لن نربطها بعضها ببعض أو ننظر إليها نظرة كلية، هذه الجزئيات المبعثرة للنظر السريع هي في حقيقتها عناصر كاملة لخطة عامة وخطيرة، فلننظر.
ثلاث قوى
(أولاً): هناك ثلاث قوى لها أثرها البعيد في أزمة المسلمين:
"التعليم – الثقافة – الصحافة".
وما تزال مؤسسات التبشير والاستشراق تعمل من خلالها.
وهناك خطة واضحة للغزو الفكري وخطة للتغريب وخطة للشعوبية.
وهناك أساليب متعددة لإثارة الشبهات حول الإسلام: (القرآن – الرسول – تاريخ الإسلام).
وهناك دعوة إلى إخراج المسلمين من "ذاتيتهم" باسم "المعاصرة". ودعوة إلى إخراج المسلمين من "قيمهم" باسم "التحرر". فيجب ألا تخدعنا الأسماء البراقة فنسلم بكل ما تقول؛ لأن في ما تقوله زيفاً كثيراً وحقاً قليلاً. ويجب ألا نخاف عبارات الرجعية والجمود والتخلف؛ فنها كلمات فقدت معناها وهي تطلق دائماً على أهل الأصالة والحق.
علينا ألا تخدعنا الأسماء البراقة؛ لأنها ليست أصيلة، ولا نصد عن الأسماء الزائفة؛ لأن الدعوى المُدعاة لها ليست صحيحة.
نحن طلاب (أصالة) تكون منا بمثابة (الإطار الثابت) والحجاب الحاجز نتحرك من داخله إلى المعاصرة والتقدم والتحرر.
إن قيمنا القرآنية الإسلامية الربانية هي الأعمدة الثابتة التي يقوم عليها البناء، ثبات في الأسس وحركة من فوقه أو من حوله. ثبات (القطب) وحركة كحركة الأرض حول محورها.
إن كل المؤامرات قد أثبتت حقيقة واحدة: أن الإسلام هو الهدف الذي تعمل القوى الخفية لضربه: (الصهيونية والليبرالية والماركسية).(19/5)
الهدف: هو أن يظل الإسلام بعيداً عن دائرة العمل والتنفيذ وألا يمتلك المسلمون إرادتهم القادرة على الانتقال من الدائرة الضيقة التي حبسهم فيها الغزو الثقافي والتغريب إلى الدائرة المرنة التي أنشأها لهم الإسلام.
إن هدفنا اليوم هو تحطيم هذه الدائرة الضيقة والتماس دائرتنا ومنهاجنا ومصادرنا ومنابعنا الثرة الخالدة.
والأمل هو أن يعرف المسلمون أنه ليس ثمة طريق آخر.
لقد جربوا: مختلف الأساليب والسبل والمناهج التي راوحت بينهم وبين الفكر الغربي والفكر الماركسي: ودخلوا البوتقة وفشلت التجربة وتأكد لهم بعد سبعين عاماً وهم تائهون بين الشرق والغرب، حائرون بين الأيدلوجيات الوافدة – أنه لا سبيل لهم غير منهجهم الأصيل. لقد عجزت هذه المذاهب والمناهج جميعاً أن تعطيهم التقدم أو التحرر أو امتلاك الإرادة وأعطتهم بدلاً من ذلك: الهزيمة والنكسة والنكبة، وعرضتهم للفناء، ومن ثم تبينوا أنه ليس غير الإسلام "سبيل ونصير ونور".
حقائق
(ثانياً) إن بين أيدينا حقائق طازجة يجب أن تكون موضع نظركن وتقديركم وأنتم بسبيل دراساتكم:
أولى هذه الحقائق ما أعلن منذ وقت قصير من "إلغاء" الاستشراق. فقد اجتمع المستشرقون في مؤتمرهم السنوي بعد أكثر من سبعين عاماً ليعلنوا انهم قد ألغوا الاستشراق وإن الاجتماعات القادمة ستكون تحت اسم "مؤتمر العلوم الإنسانية".
ومعنى هذا في نظر أصحاب اليقظة: أن الاستشراق يغير جلده، كما سبق أن غير التبشير جلده، الهدف واحد والأساليب تتغير مع الأزمة والظروف، وإذا كانت سمعة الاستشراق قد ساءت فإن على أهله أن يغيروا أسلوبهم وإن لم يغيروا هدفهم.
ونحن نذكر الآن: كيف يتحرك "الاستشراق اليهودي" بعد أن تقدم للسيطرة خلفاً أو شريكاً للاستشراق الغربي المسيحي، وتعرف المخططات التي يقوم بها في سبيل "احتواء" الفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي.
ومن ذلك ما نجده من بروز أسماء لامعة خطيرة في مجالاته المتعددة:(19/6)
"جولد زيهر" في الشريعة الإسلامية.
"مرجليوث" في التاريخ الإسلامي.
"برنارد لويس" في مفاهيم الأمم والقوميات؛ مستهدفاً إيجاد صراع بين العروبة والإسلام.
وفي العام الماضي أنعمت (إسرائيل) على "برنار لويس" بلقب الدكتوراه؛ تحية له عن محاولاته لهدم المفاهيم العربية الإسلامية.
وعلينا أن نذكر في هذا المجال أن معظم كراسي الأدب العربي والدراسات الإسلامية في أغلب جامعا تالغرب يسيطر عليها مستشرقون يهود.
ويتصل بهذا محاولات السيطرة على دوائر المعارف العالمية، وخاصة دائرة المعارف الإسلامية، والسموم التي حملتها مادة "عرب" ومادة "إبراهيم" ومادة "إسماعيل"؛ في محاولة لتزييف الروابط الأساسية بين سيدنا إبراهيم وسيدنا إسماعيل وبين سيدنا إسحق، وفصل إسماعيل عن ميراث إبراهيم لجعله كله في نسل إسحاق.
وتلك مؤامرة ضخمة في حاجة إلى عناية شديدة.
كذلك فإن الأمر يتصل بمؤامرات تحريف التاريخ الإسلامي، وفي مقدمتها (مؤتمر بلتيمور) الذي عقد عام 1948 والذي حضره لفيف منقادة الصهيونية، وفي مقدمتهم بن جوريون؛ لوضع خطة تستهدف تنظيم ومضاعفة عمليات تزييف تاريخ العرب وإخراج دراسات جديدة تحمل الشبهات التي تتصل بمؤامرة القرامطة والزنج والباطنية، وإعادة طرح أفكارها وتاريخها في أفق الفكر الإسلامي بوصفها حركات تهدف إلى العدالة الاجتماعية. وقد ظهرت مؤلفات كثيرة بعد ذلك المؤتمر تحاول أن تطبق ما استهدفته هذه التوصيات.
ويتصل بهذا مؤتمر البهائيين العالمي الذي عقد في القدس المحتلة عام 1968 وما كشف عنه من صلة جذرية بين تاريخ البهائية وبين الحركة الصهيونية. كل هذا يجب أن نكون على وعي به ونحن نقرأ وندرس ونتابع.
دلالات خطيرة
(ثالثاً) يجب أن يكون أمامنا ونحن نطالع تاريخ المسلمين والإسلام في العصر الحديث عدة حقائق من شأنها أن تشكل قاعدة أساسية للبحث:(19/7)
هذه الحقائق لا توردها كتب التاريخ التي بين أيدينا إلا لماماً، وربما أوردت ما يخالفها من شبهات ظلت تتردد حتى أصبحت في منزلة المسلمات.
أولى هذه الحقائق ما طرحه (غلادستون) رئيس وزراء بريطانيا على مجلس العموم البريطاني عام 1883 حين حمل المصحف وقال: "مادام هذا الكتاب باقياً في الأرض فلا أمل لنا في إخضاع المسلمين، بل ونحن على خطر في أوطاننا".
وعلينا أن نفهم معنى هذا ومداه.
يُضاف إلى هذا قول اللورد اللنبي حين دخل القدس عام 1917 حين قال:
"اليوم انتهت الحروب الصليبية".
فإذا ذكرنا أن الحروب الصليبية كانت قد انتهت قبل ثمانمائة عام، عرفنا ماذا كان يريد أن يقول اللورد اللنبي متابعة مع خطة لويس التاسع بعد هزيمته في "المنصورة" حين دعا في وثيقة رسمية معروفة إلى بدء حرب الكلمة على المسلمين بعد فشل حرب السلام، وأن ما أشار إليه اللورد اللنبي إنما يعني نجاح هذه الخطة، فهذا قول خطير له أبعاده ومداه ولم يدرس بعد الدراسة الكافية.
فإذا ذكرنا كيف أن وزير خارجية بريطانيا (بترمان) تقدم عام 1907 بوثيقته المعروفة التي كانت خلاصة خبرة المفكرين والسياسيين من أجل دعم وحماية الاستعمار الغربي والتي تقول:
"لكي يظل الاستعمار قادراً في السيطرة على المسلمين والحيلولة دون توحدهم ونهوضهم، لابد من إقامة حاجز بشري معادِ للمسلمين في مكان ما بين أفريقيا وآسيا، على أن يكون هذا الحاجز من جنس غريب عنهم. ومن شأن هذا الحاجز أن يحول دون وحدة المسلمين".
وقد كان الجواب حاضراً؛ فقد تقدم اليهود وقالوا: "نحن الحاجز الغريب".
كل هذه الخطوط مجتمعة ترسم صورة وتخلق تحدياً وتكشف عن خلفيات لا توردها كثيراً كتب التاريخ التي بين أيدنا أو التي تُدرس في مدارسنا، ولكن هذه التحديات ذات دلالات خطيرة، ويجب أن تكون واضحة أمامنا ونحن نقرأ وندرس ونستوعب، وهي تعطينا فكرة واضحة وهي:(19/8)
أن هناك تعصباً وحقداً وخصومة ورغبة في ألا يستعيد المسلمون حقهم ولا يستكملون إرادتهم.
مناهج تخريبية
(رابعاً) يجب أن تكون أمامنا نظرة واضحة لعلاقة الفكر الإسلامي مع الفكر الغربي:
الفكر الغربي يعمل في محاولة دائبة منذ بدأ الاستعمار من أجل "احتواء" الفكر الإسلامي والحيلولة دون سيطرته على المجتمع الإسلامي، ويبدو ذلك في عدة مواقع:
1- التعليم: وهو خاضع للمناهج الغربية وهو الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون.
2- الجهاد: جربت المحاولات لتأويله وإقصائه عن حياة المسلمين.
3- الشريعة الإسلامية: سواء في مجال القانون أو الاقتصاد، وقفت الحوائل دون تحقيقها.
4- اللغة العربية: جرت المحاولات المتصلة للهجوم عليها وانتقاصها؛ محاربةً للقرآن الكريم.
ثم جاءت الموجة التالية وتتمثل في الغزو الثقافي والتغريب:
1- محاولة السيطرة على البلاد الإسلامية بالنظم الديمقراطية والقومية والماركسية.
2- محاولة سيطرة مفاهيم النفس والاجتماع والأخلاق على أسلوب العيش الإسلامي.
وقد جاء هذا مرحلة تالية لسيطرة الصهيونية العالمية على الفكر الغربي سيطرة كاملة. فقد برز زعماء اليهود كمفكرين مسيطرين على جميع مجالات الفكر الغربي؛ حيث حولوا المفاهيم التلمودية اليهودية إلى نظريات حديثة لها طابع علمي زائف ولكنه براق.
وسيطر اليهود الأربعة: هرتزل وماركس وفرويد ودوركايم، وجاء بعدهم سارتر وهو يهودي الأم.
الأهداف:
1- تحويل الفكر البشري ناحية الطعام والمادة.
2- تدمير النفس الإنسانية عن طريق الجنس.
3- إعلاء العنصرية والقوميات والدماء.
4- تأكيد الانشطارية بين الروح والمادة مع إعلاء المادة.
وبرزت الفرويدية والماركسية ومدرسة العلوم الاجتماعية (دور كايم وليفي بريل) ومدارس مقارنات الأديان وعلم اللغة وعلم الأنتثروبولوجيا، وكلها علوم تستهدف إعلاء الفكر التلمودي الوثني المادي الإباحي وبعث تراث التلمود والغنوصية والفكر البابلي القديم.(19/9)
أما بالنسبة للمسلمين فقد وقعوا تحت تأثير الاحتواء فترة ثم بدأوا يستفيقون، ونحن نرجو أن يكون "عصر التبعية" قد انتهى، وبدأ "عصر الترشيد"، ويمكن القول بأننا الآن في مرحلة الفهم والعلم والوعي بالخطر الذي يراد بنا ويجب علينا الانتقال بقوة وفوراً: إلى مرحلة الإرادة والتغيير.
كذلك يجب أن تكون نظرتنا إلى الغرب واقعية.
العالم الغربي الآن يمر بمرحلة "الأزمة" وبدور "النهاية"؛ فقد عجزت الحضارة عن أن تعطيه سكينة النفس أو طمأنينة القلب بعد أن فصل بين الروح والمادة، ومن ثم كانت أبرز مظاهر حياته الآن:
التمزق والضياع والعبث:
فهل المسلمون في حاجة إلى فتات الموائد وحثالات الأطباق !
البروتوكلات
(خامساً) إن الأخطار التي تواجهنا الآن هي بمثابة مؤسسات ظاهرة ومنظمات خفية، فلا نغفلن أبداً عن ذلك.
أمامنا: الماركسية والاستعمار والصهيونية مؤسسات ظاهرة، ولكن هناك منظمات خفية، هي الماسونية والروتاري والليونز.
وهناك أخطار فكر فرويد وساتر ودور كايم، تبدو واضحة الأثر في نفسيات الشباب وفي مفاهيمهم. وفي مفاهيم المرأة وقضاياها، وكلاهما تتمثل في أخطر قضيتين:
1- إيجاد الصراع بين الآباء والأبناء وتغذية روح الكراهية بينهما.
2- إثارة الشبهات حول قوامة الرجل على المرأة وخلق روح الكراهية بينهما.
وهما قضيتان بالغتا الخطورة، فيجب أن تدرسا بدقة وأن تعرف أبعادهما وخلفيات الخطر القائم وراءهما، وهو يتمثل في (بروتوكلات صهيون) وما كشفت عنه من هدف الاستيلاء على العالم وتدميره أخلاقياً قبل السيطرة عليه.
وبعد: فهذه خلفيات وأبعاد أرجو أن تكون في تقدير مثقفينا وهم يناقشون ويدرسون، وهي تحديات حقيقية؛ فإنها إذا ما استحضرت سوف تعطيهم فهماً أعمق وقدرة أوسع على الإحاطة بالأزمة وعلى إيجاد الحلو الناجعة.(19/10)
لقد تبين تماماً أن التجربة التي قام بها المسلمون والعرب للنظم الغربية، سواء الليبرالية أو الماركسية، قد فشلت تماماً في تحقيق المطمح الأسمى لأمة القرآن، وبذلك أصبح الطريق أمامهم مفتوحاً نحو خط واحد لم يجربوه وهو خطهم الأصيل وهو ملاذهم الوحيد الذي لن يجدوا دونه محيصاً الذي صاحبهم أربعة عشر قرناً وحماهم وأكد وجودهم ودافع عنهم، وسيظل يحميهم من عاديات الزمن وأحداث الأيام ما استمسكوا به.
نقاط هامة
(سادساً) في التاريخ الإسلامي الحديث "نقاط" ما تزال في حاجة إلى توضيح وبيان:
وأبرزها العلاقة بين المسلمين والعرب، وبين الدولة العلمانية والعرب، وبين العروبة والإسلام في مواجهة دعوات القومية والعنصرية والإقليمية وغيرها.
أما السلطان عبد الحميد فقد رد إليه اعتباره الآن بعد أكثر من ستين عاماً كان فيها في نظر المؤرخين مستبداً وسلطاناً أحمر، مع أنه كان من أشرف الشهداء الذين ضحوا بأنفسهم وملكهم في سبيل دفع جائحة الصهيونية العالمية عن السيطرة على فلسطين. ومذكرات هرتزل تثبت ذلك وتكشف عن مدى الدور الذي ظل خافياً عن العرب والمسلمين سنوات طويلة وإن كانت القضية ما زالت في حاجة إلى نصوص أوفى ووثائق أخرى لتحرير تاريخ السلطان تماماً من كل ما علق به.
أما الخلاف بين العرب والدولة العثمانية: فهو في الحقيقة خلاف مع الاتحاديين الذين حكموا من عام 1909 إلى عام 1918، وورثوا مصطفى كمال نظامهم التلمودي الماسوني الصهيوني، هؤلاء هم رجال "الاتحاد والترقي" الذين تشكلوا في أحضان المحافل الماسونية والذين عملوا لخدمة الصهيونية العالمية، فأسقطوا عبد الحميد ومهدوا لإلغاء الخلافة وسلموا طرابلس الغرب لإيطاليا، وفتحوا الطريق أمام اليهود إلى فلسطين وكانوا حاضرين في ضمير اللورد اللنبي عندما قال بعدد سيطرة الإنجليز على القدس: "الآن انتهت الحروب الصليبية".(19/11)
ثم جاءت المؤرخة اليهودية فقالت: "إن وصول الإنجليز إلى القدس عام 1917 كان يعني أنها صبحت في قبضة اليهود، وقد تم ذلك فعلاً عام 1967 ...".
فالخلاف إنما كان مع الاتحاديين وليس مع الدولة العثمانية نفسها.
ومن هنا يجري الحديث عن القوميات وعن تمزق "وحدة العالم الإسلامي" إلى كيانات بادئة بالطورانية في تركيا ومقابلها القومية العربية ..
وما اتصل بعد ذلك بمفاهيم الغرب وبسيطرة النظرية الغربية في القوميات على النحو الذي عرف في كثير من الدراسات، وقد فشلت هذه المفاهيم تماماً في ضوء الوحدة الإسلامية التي تبين أنها الطريق الصحيح والأوحد وذلك بعد التجربة المريرة وبعد هزيمة 1967.
هذه مجموعة من الحقائق لا أعتقد باحثاً أو مثقفاً يستطيع أن يستغني عنها في مواجهة قراءاته ودراساته سواء في تاريخ الإسلام أو التاريخ الحديث. وفي مواجهة الاستعمار والمذاهب السياسية والنظريات العربية بشطريها، ولهذه الأضواء الكاشفة والنقاط السريعة تفصيل واسع وأبعاد هامة يجب أن تتابع، ومن هذه الخيوط المجمعة الآن في كلمة واحدة نستطيع أن نستكشف الآفاق البعيدة ونعرف الخلفيات الظاهرة والخفية ونتابع الأحداث والأخبار في وضوح وفهم.
وهذا ما أعددته وأردت أن أقوله لشبابنا المثقف حين دُعيت لإلقاء كلمة في جامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة.
أنور الجندي(19/12)
الفكر البشري القديم
الأستاذ أنور الجندي
المؤامرة الخطيرة التي تواجه الفكر الإسلامي في العصر الحديث، هي محاولة قوى التغريب (الاستشراق والتبشير) إعادة طرح الفكر البشري القديم الوثني والإباحي مرة أخرى، لتزييف هذا الفكر الرباني وتمييعه واحتوائه.ولقد كان الفكر الإسلامي دائماً متفتحاً لثمرات الفكر الإنساني، ولكنه كان قادراً حتى في أشد مراحل الضعف والتخلف على المحافظة على ذاتيته، والحيلولة دون انصهاره في الفكر الأممي، ذلك لأن مقوماته الأصلية وقيامه أساساً على التوحيد، حال دائماً دون هذا الانصهار وهذا الاحتواء الذي فرضه الغزو الخارجي عليه.
بين جولتين:
وقد كان الفكر الإسلامي في الجولة الأولى (إبان ترجمة علوم اليونان والفرس والهنود) في نهاية القرن الأول وبدلية القرن الثاني وحتى الثالث، قادراً على أن يتوقف دون ترجمة الفسلفة والقانون والشعر أول الأمر، ثم لما ترجمت الفلسفات واجهها علماء المسلمين في قوة، وكشفوا أن منهجها لا يتفق مع منهج التوحيد.
أما في الجولة الثانية (هذا العصر) فقد استطاع النفوذ الأجنبي أن يفرض ترجمات كل ركام الفكر البشري ووثنياته وإباحياته، نمن أساطير وشعر وفلسفات مادية، دون أن يكون هناك حائل لذلك، وأن تمكن أعلام حركة اليقظة الإسلامية من كشف زيف هذا الركام البشري.
ولقد كان هدف دعاة الغزو الفكري من هذه الخطة إعادة الفكر إلى الإيمان بالجبر، وعودة الإنسان إلى الوثنية، والدعوة الملحة إلى الانطلاق من القيم والتحرر من الأخلاق إلى حيوانية الطعام والجنس.
أخطر ما طرح في أفق الإسلام:
ولعل أخطر ما طرح في الفكر البشري في أفق الإسلام في العصر الحديث:
النظريات المادية الماركسية.
الأخطار الفلسفية والوجودية.
الكشوف الأنثروبويولوجية التي دعت إلى استغلال الأسطورة في تفسير الحياة الإنسانية.
المذاهب الفلسفية التي ردت الإنسان إلى الحيوانية.
نظرية دارون.(20/1)
مقارنات الأديان التي تقوم على أكذوبة أن البشرية كانت وثنية ثم اعتنقت التوحيد مع ظهور اليهودية.
ولقد دعا الإسلام معتنقيه إلى اليقظة تجاه الفكر الوافد وحرر أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه، ودعا إلى الحرص إزاء محاولة إدعاء الإسلام تغيير المعالم الأصلية للعقيدة الإسلامية وللفكر والثقافة ومحاولة تزييف مزاج المسلمين النفسي.
وكان أعداء الإسلام يعلمون أن الطريق الوحيد إلى القضاء على "وحدة الفكر الإسلامي" هو ضرب الأمة من خلال قوائم فكرها بإثارة الشبهات وإدخال مفاهيم وتفسيرات غربية تختلف عن التفسيرات الأصلية.
وميزة الفكر الإسلامي:
كذلك كان من أكبر ميزات الفكر الإسلامي، هي قدرته الواضحة على التماس المنابع حين يفتقد النص القرآني أو التوجيه النبوي، فهو حين يتفتح على الثقافات العالية يأخذ منها بحذر ولا يأخذ كل شيء، ويرد الباقي من السيل المتدفق الذي يقدم إليه، فهو لا يأخذ إلا ما يتفق مع الأساليب والوسائل لا الأصول، وما يتفق مع طابعه وما يزيده قوة وكل ما يأخذه يصهره في بوتقته صهراً تاماً ويحيله إلى طابعه.
ولقد كان الفكر الإسلامي ولا يزال – وسيظل – قادراً على أن يعمل داخل الإطار الذي رسمه القرآن وحدده وأن يحكم المسلمون على كل ما يواجههم في ضوء القرآن والسنة لا يتعداهما إلى مصدر آخر.
وفي هذا بالمجال فرق الفكر الإسلاتمي بين المعرفة والثقافة، فالمعرفة عامة والثقافة خاصة، ولكل أمة ثقافتها المستمدة من عقيدتها وشريعتها وأخلاقها كذلك فرق بين العارض والأساسي، وبين لالمعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية، ودعا إلى وحدة الفكر في قطاعاته المختلفة فلا سبيل لفهم قطاع من الفكر الإسلامي وحده منفصلاً عن قطاعاته الأخرى.(20/2)
كما فرق بين مقاييس العلوم التجريبية، ومقاييس الدراسات الإنسانية التي لا يمكن أن تخضع لأساليب العلوم التجريبية والمادية، لأنها تتصل بالنفوس والأخلاق، كما رفض الفكر الإسلامي مبدأ التقليد الأعمى ومبدأ التبعية وأقر مبدأ الأصالة والتماس المنابع.
تكامل أبعاد الفكر الإسلامي:
وقد قام الفكر الإسلامي في تكامله على أبعاد ثلاثة:
أولاً: عمق زمني: يربط الإنسان بالتاريخ والزمن والواقع وقضايا الحياة.
ثانياً: اتساع مكاني: يربطه بالأحداث العالمية في العالم المحيط به "وهذا هو الشطر الذي يعتبره الفكر الغربي الحديث أساساً وحيداً للفكر" أما الإسلام فإنه يعترف بعلاقة البيئة ولكنه لا يراها العلاقة الوحيدة.
ثالثاً: تكامل موضعي بمعنى وضع الجزء في مكانه من النظرة الكلية الجامعة.
وقد عارض الفكر الإسلامي: "الجمود" الذي يزري بقيمة العقل ويحط من كرامة الإنسان.
وعارض التعصب: الذي يمنع الإنسان من تقليب وجهات النظر المختلفة.
كما عارض التقليد: الذي يجعل الإنسان تابعاً للقديم أو الوافد دون فحص أو تمحيص.
ثم إن الفكر الإسلامي يعارض كل ما يصادم قوانين الكون ونواميس الوجود والحياة ويرى أن كل شيء يبدأ من نقطة ثابتة وينتهي إليها (حركة في إطار الثبات) وأن كل شيء يبدأ صغيراً ثم ينمو حتى يكتمل ثم يعود مرة أخرى (كالطفل والقمر).
وقد رفض الفكر الإسلامي المنطق اليوناني الذي يقوم على القياس والاستدلال النظري وأقام منطقاً جديداً مستمداً من خصائصه وهو المنهج الحسي التجريبي، وأعلن أن القياس المنطقي ليس كافياً وحده في إقامة النظريات خاصة التي تعارضت مع واقع التاريخ، وان الاستشهاد بوقائع غامضة من التاريخ – كما فعلت نظرية ماركس المادية – هو أيضاً زيف.
بين الفكر واللغة:(20/3)
وأسوأ انواع القياس: القياس الفاسد لا تؤيده حقيقة علمية وكشف الفكر الإسلامي عمق الارتباط بين الفكر واللغة وأن "منهج البحث" لأي فكر هو ما يطلق عيله لأنينا اسمن "الأورجانون" يستند أساساً إلى خصائص اللغة ولذلك فإن منهج المعرفة الإسلامي لا يمكن أن يستند إلى خصائص لغة غير اللغة العربية، ذلك لأن لكل لغة منهجها القائم على معانيها ومضامينها، وقد هاجم المسلمون المنهج الأسرسطي، وكشفوا عن أنه قائم على خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية، ولذلك فهم لا يقبلون به.
كذلك الأمر بالنسبة إلى المنهج الغربي الوافد ذلك أن الفكر الإسلامي لا يستطيع أن ينطلق إلا من خلال منهج البحث الخاص به المستمد من اللغة العربية أولاً.
كما أعلن عن أن كل نظرية أو مذهب قامت أو قام في مجتمع ما. إنما أقامها أهلها على مقياس مجتمعهم. وفي ظل تحدياته الواقعية والتاريخية معاً. فهي ليست سوى استجابة ظرف وبيئة. وكذلك فهي سرعان ما تتحول مع مرور الزمن إلى أداة عاجزة عن تحقيق الهدف فيضاف إليها ويحذف منها. ولذلك فإن نقلها في حد ذاته إلى بيئات أخرى لا يحقق نتيجة ما، لأنها كالبذر الغريب، لا ينبت في غير تربته، ولقد كان المفكرون المسلمون على يقظة تامة إزاء هذا الملحظ الدقيق.
الديمقراطية والماركسية في أفق الإسلام:
ولقد كان لطرح المذهبين: الديمقارطي والماركسي في أفق الفكر الإسلامي، أبعد الأثر في الاضطرابات التي أصابت المجتمع الإسلامي خلال القرن الماضي؟، فقد اقتسم المذهبان مؤامرة الهدم.
فاحتضنت الماركسية هدم الدين والعقائد والتشكيك في القيم الإنسانية والنفسية والمعنوية.
واحتضنت الديمقراطية هدم الأخلاق ونشر الإباحية والتحلل وتوجيه السلوك توجيهاً يعلي شأن الغريزة وانطلاق العاطفة والشهوات والأهواء.(20/4)
وقد تبين أن جميع أنظمة الغرب، لليهودية العالمية أصبع في وضعها أو في احتوائها أو تعديلها وتفسيرها وتشرها. وقد خضعت إما لمصلحة أصحاب رءوس الأموال، وإما لمصلحة طائفة أخرى من أهل النفوذ والسلطان. والنظام اليهودي، قائم على تبادل المنفعة، والقانون عندهم هو الذي يتمشى مع القانون ولا تعاقب عليه المحاكم. أما النظام الإسلامي فهو قائم على مبدأ "الإيثار المتقابل".
وقد تبين للفكر الإسلامي أن المذهبية الفردي والماركسي يتقاربان في عديد من وجهات النظر، بل إنهما يقومان فعلاً على مفهوم التفسير المادي للتاريخ الذي أوشك أن يكون أساساً للرأسمالية والماركسية معاً وإن كان الغرب لا يعتمدها وحدها في تفسير الوقائع ويضيف إليها التحليل النفسي الفرويدي (أي ماركس وفرويد معاً).
وقد ظهرت نزعات العنصرية تحت اسم القوميات، كمقدمة لظهور العنصرية اليهودية، وكانت اليهودية العالمية تحمل لواء الرأسمالية والاشتراكية معاً، وهي التي خلقت الصراعات والمعارك بين الأمم تحت هذا اللواء أو ذاك، وهي التي حملت النظرية المادية في الغرب والنظرية الإشراقية في الشرق، ومن وراء الهيبز والبوذيين في نفس الوقت، ودعوات العلمانية والبيوصوفية جميعاً.
وهي التي قامت من وراء الروحية الحديثة التي تدعو إلى ظهور إله جديد اسمه "سلفريرش" ومن وراء العقلانية التي تنكر كل ما وراء الحس، وهي التي دعت إلى أن الجنس عملية بيولوجية لا علاقة لها بالأخلاق، وأن الدين شخصي لا علاقة له بواقع الحياة، في محاولة لهدم الأسرة والأخلاق، وأن القول بأنه لا علاقة بين اللباس والأخلاق، أو أن المجرم مريض، وليس مذنباً، أو السخرية بعفاف المرأة والبكارة في محاولة لدفع البشرية كلها إلى الوثنية والإباحية.(20/5)
وهكذا يطغي الفكر البشري في هذا العصر مكتسحاً مفاهيم الخلق والدين والرحمة والكرامة الإنسانية ولم تعد هناك قوة قادرة على مواجهته وصد موجته غير الإسلام: دين الله الحق الباقي، على حمل رسالة التوحيد الخالص إلى العالمين.
إثارة الشبهات حول الإسلام:
ولقد حاولت قوى التغريب والغزو الفكري إثارة الشبهات حول الفكر الإسلامي وانتقاصه بدعاوي عدة: منها... أولاً: وصف الفكر الإسلامي بالذرية (أي بالتجزئة والانفصال).
وهذا خطأ محض، لأن الإسلام إنما يقوم أساساً على التكامل وعلى التقاء العناصر المختلفة في كل موحد وهو في هذا يختلف عن الفكر الغربي القائم على الانشطارية أساساً وعلى الفصل بين الدين والدولة، بين الدين والآخرة، والذي يعلي من شأن المادية.
وقد استمد شبهة الذرية من إنتاج مرحلة الضعف والتخلف، حين علت نزعة جبرية الصوفية ومن قبلها علت نزعة عقلانية الاعتزال، وكلاهما لا يمثل السلام، وبحكم الإسلام بأحدهما وإنما يحاكم لمفهومه الأصيل في عصر قوته وهو المفهوم الجامع الذي يقوم عل أساس ترابط القيم والعناصر، وربما ارتبطت صفة الذرية بالعقل حين يعجز عن النظرة الكلية، التي تلتمس الأبعاد الكاملة ولكنها في الواقع تتعارض مع مفهوم الفكر الإسلامي المستمد من جوهر الإسلام والقائم على التكامل والسطية.
ثانياً: القول بأن الفكر الإسلامي فكر تجريدي..
وهذا خطأ محض، وأمامنا ثمرات الفقه والتشريع والعلوم كلها تكذب هذه النظرية فإن الأصول كلها ترينا واقعية الفكر الإسلامي، وكيف أنه يتناول كل حادث يقع في حينه، ثم يتناوله بالبحث ويضع له الحلول، بل إن الفكر الإسلامي أكثر إيغالاً في الواقعية من الفكر الغربي حيث يتناول الفقه مفردات الحياة اليومية ولا يقتصر على مسائل العبادات كما هو في بعض الأديان.(20/6)
ثالثاً: وصفه بالضعف وأنه مثل التولستوية أو الغاندية ذات طابع الاستسلام، ولا ريب أن الإسلام بعيد عن طابع هذه الدعوة التي تقوم على القضاء على مفهوم الجهاد الإسلامي وإنما يقوم الإسلام على القوة والرحمة معاً، كل في موضعه، ودعاة هذا المذهب يحاولون تصور الإسلام معهم، أو هم يريدونه هكذا، وهم بذلك ينكرون جانباً هاماً من جوانبه فالإسلام يقوم على السلام والتسامح في نفس الوقت الذي يقوم فيه على المقاومة والقوة إذا انتهكت أرضه أو قيمه.
رابعاً: خطأ القول بديمقراطية الإسلام أو اشتراكية الإسلام، فالإسلام ليس منهجاً خاضعاً للأيديولوجيات البشرية وليس مبرراً لأوضاع المجتمعات العالمية المنحرفة الفاسدة، وقد تلتقي بعض الخيوط هنا وهناك مع العدل الاجتماعي الإسلامي او الشورى الإسلامية، ولكن يبقى للإسلام منهجه الكامل الجامع الرباني المصدر، الإنساني الوجهة، الذي يستطيع أن يعايش الأمم والحضارات والعصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، دون أن يعتوره نقص أو يحتاج إلى إضافة.
الحسم والفصل:
وبعد. فيجب أن يكون موقفنا من الفكر الغربي أو و(الفكر البشري بعامة) حاسماً فاصلاً، وقد آن الأوان أن تبدأ ؤرحلة المواجهة الفاصلة حتى يعرف كل دارس للفكر الغريب مدى صلته بالفكر الإسلامي أو بعده عنه ومدى سلامته أو عجزه، ومدى صلاحيته أو فساده، ونعجب أن نقرأ في بعض المجلات العربية الإسلامية دفاعاً عن الفكر البشري الوثني المادي.
ولقد بدأ مشرق القرن الخامس عشر "عصر المواجهة" أو عصر الرشد الفكري، وأمامنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين".
ولا ريب أن الغرب يخاف نهضة العالم الإسلامي من خلال الإسلام، ذلك أن الإسلام ليس مجرد نظام من العقائد والعبادات ولكنه منهج حياة ونظام مجتمع ومدنية كاملة.(20/7)
ولما كان الفكر الإسلامي الأصيل (فكر أهل السنة والجماعة) لم يستسلم طوال أربعة عشر قرناً أمام الفكر الوافد الغريب فإنه لن يستسلم في هذا العصر وقد أعلن وجهة نظره واضحة في مختلف القضايا، وكشف زيف الدعوات الهدامة والأيدلوجيات الوافدة، وقد ظل دوماً وجيلاً بعد جيل يواجه هذه النظريات ويدلي برأيه فيها، لا يتوقف عن المعارضة ولا يتقبل كل شيء كما هو بل يرفض قبول كل ما لا يتفق مع أسسه وأصوله مع سماحته المعهودة في القبول والرفض.
عزة المسلم بالله واعتزازه بإسلامه:
يقول ستوك هروجينه: لا أعتقد أن الإسلام يسقط أمام النصرانية لأن المسلم محتاط الاحتياط لمقاومة النفوذ الأجنبي فهو يرى أن النصرانية شيء مضى ويرى تدينه بها خطوة إلى الوراء.
ويقول ولفرد كانتول سميث: ما من دين استطاع أن يوحي إلى المتدين به شعوراً بالعزة كالشعور الذي يخامر المسلم. إن الغربي لا يفهم الإسلام حق الفهم إلا إذا أدرك أنه "أسلوب حياة" تصطبغ به معيشة المسلم ظاهراً وباطناً وليس مجرد أفكار وعقائد يناقشها بتفكيره.
ويقول بارتلمي سان هيلر: أن الإسلام قد أحدث رقياً عظيماً جداً، فقد أطلق العقل الإنساني من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد، وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى الأولى واضطر العالم أن يرجع إلى نفسه وأن يبحث عن مستوى الاعتقاد بحياة وراء هذه الحياة وأن تحريم الإسلام للصور في المساجد قد خلص الفكر الإسلامي من وثنية القرون الأولى.. والعودة إلى خالقه".
وهكذا شهد علماء الغررب بأصالة الإسلام وفساد الفكر البشري ولكن القوى التي تستهدف السيطرة على العالنم بعد تدميره أخلاقياً هي التي تعمل على طرح الفسلفات والوثنيات والمذاهب الهدامة والماديةة في أفق الفكر الإسلامي باعتبار الإسلامك هو العقبة الوحيدة والصخرة الكبرى أمام تلك المؤامرة الخطيرة. وهذا كله إجمال له تفصيل.(20/8)
سلسلة على طريق الأصالة
23
تجاوزات العلوم الاجتماعية والإنسانية
لمفهوم الفطرة والعلم
###3### بسم الله الرحمن الرحيم
تجاوزات العلوم الاجتماعية والإنسانية
لمفهوم الفطرة والعلم
إن نظرية العلوم الاجتماعية التي تتضمنها المناهج الدراسية الحديثة نظرية مغلوطة وناقصة وقائمة على المفهوم المادي الذي لا يؤمن بالأديان المنزلة ولا بالقيم الأخلاقية المرتبطة بالدين وفي ظل هذا المفهوم فإن علم الاجتماع لا يزيد عن أن يكون علمًا وظيفيًا تقريرًا يدرس شئون الحياة الاجتماعية دراسة تحليلية للوصول إلى القوانين الاجتماعية التي تخضع لها الظواهر.
وهي تقوم في مجموعها على مفهوم زائف وباطل هو أن البيئة هي التي تخلق تراثها وهي التي يرجع إليها الفضل في تنشئة الفرد وتوجيهه والإشراف على سلوكه.
ومعنى هذا إنكار الدور الذي يقوم به الدين في تكوين الأفراد وتجاهل وجود الدين كلية أو اعتباره قد خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها على حد تعبير دوركايم والواقع أن علم الاجتماع في ###4### مهمته الحقيقية هو دراسة مشاكل المجتمع ووضع الحلول لها – وهذا هو ما تنكرت له مدرسة العلوم الاجتماعية كما تنكرت له نظريات علم النفس أيضًا.
ولما كانت هذه المناهج في حقيقتها محاولة لإحلال مفاهيم قائمة على الفلسفة المادية فإنها قد عمدت إلى مقاومة كل ما عمدت إليه الأديان المنزلة على إقراره وإقامة دعائمه.
وقد عمد دوركايم (بوضعه أبرز منظري علم الاجتماع) إلى إقامة منهج التشكيك في القيم والمثل والعقائد والأخلاق من منطلق مفهوم قوامه أن كل الظاهر نسبية متغيرة متبدلة، لا تثبت على حال ولا تستقر على وضع لأنها في كل يوم يتبدل الحال بحال (وهذه قاعدة مضطردة في كل مجالات دراسات الاجتماع والنفس والأخلاق وتاريخ الأديان) وهم يستخدمون هذا المنهج لإفساد المجتمعات وتحللها أخلاقيًا ودينيًا بهدف أن يكون المجتمع مشاكل مليئًا بالفتن.(21/1)
ولكي يكون هذا الهدف واضحًا فإننا نعلم أن هذه الجماعة (دوركايم وليفي بريل وفرويد وماركس) يعملون في خدمة هدف واضح كشفت عنه الماسونية والبروتوكولات وهو هدم المجتمع الإنساني وتحطم مقوماته الخلقية والاجتماعية وذلك كمقدمة ###5### لاحتوائه والسيطرة عليه في خدمة هدف إقامة إمبراطورية الربا العالمية.
ولا ريب أن كل هذه المقررات التي يعملون على تثبيتها عي مجموعة من الأهواء البشرية التي تتعارض تمامًا مع فطرة الله التي فطر الناس عليها ومع مقررات العلم.
أولا: وفي مقدمة ذلك نظرية النسبية التي تحاول أن تسيطر بدعوى أن كل الظاهر نسبية متغيرة متبدلة لا تثبت على حال ولا تستقر على وضع لأنها في كل يوم تتبدل.
والسؤال هو: هل إذا كانت الأخلاق نسبية فهل سيأتي الزمن الذي نعتقد فيه أن الصدق رذيلة أو الشهامة شر أو أن الشجاعة سوء أو أن العفة جريمة.
وفي مجال العقائد هل سيأتي اليوم الذي لا نقول فيه بوحدانية الله أو لا نقول بإرادته وعلمه.
ثانيًا: دعوة دوركايم إلى الجبرية الكاملة للفرد في إطار المجتمع وقوله أن العامل الفعال الذي يؤثر في المجتمع هو البيئة الاجتماعية هذه الدعوة مضللة كاذبة، لأنها إلغاء كامل لدور الفرد الذي يقرر الإسلام له وجوده ومسئوليته والتزامه الإسلامي والذي بناء عليه يكون الجزاء والثواب والعقاب.
###6### والإسلام يقرر أن المسئولية فردية، ومن هنا فإن الدعوة إلى ما يسمى مسئولية المجتمع هي محاولة خادعة لإعطاء الإنسان الحرية المطلقة في اقتراف الإباحيات والآثام دون الخوف من العقاب.
والإسلام يرفض ما يراه دوركايم من أن الفرد لا قيمة له ولا معنى للتشبث بالحرية الفردية وأن القيم كلها للمجتمع الذي يخلق الأديان والعقائد والقيم الروحية.(21/2)
فهذه النظرية مرفوضة تمامًا لأنها لا تقوم على أساس علمي صحيح وأن إنكار مسئولية الفرد ودوره في سبيل الكسب والسعي لا يعتد بها وأن تحميل الظاهرة الاجتماعية كل النتائج كل هذا من شأنه أن يتعارض تمامًا مع مفهوم الدين الحق.
ثالثًا: يتبع هذا مجموعة من الأخطاء:
1) تفسير الإنسان وفق مذهب المادة وعالم الحيوان (في مواجهة تكريم الإسلام للإنسان).
2) فكرة التطور المطلق التي يرفضها الإسلام الذي يقوم مفهومه على إطار من الثوابت وفي داخله حركة المتغيرات.
3) تجهل الإرادة البشرية والمسئولية الفردية والجزاء الأخروي التي هي قاعدة أساسية في نظرية المعرفة الإسلامية.
###7### 4) محاولة تصور المجتمع بصورة الصراع الدائم، وإقامة التناقضات أساسًا بينما يقوم مفهوم الإجماع الإسلامي على التقاء العناصر والأجزاء في كل متكامل دون صراع بينها أو جبرية.
5) التنكر للتكامل بين المادة والروح بينما يقوم المنهج الرباني على هذا الترابط مع الإيمان بأن الدين فطرة والأسرة فطرة حيث يتجاهل دوركايم الدين والأسرة ولا يراهما من الفطرة ويرى أن الجرعة هي القطرة.
6) محاولة جعل العقل بمثابة الإله المعبود بينما يعطي الإسلام العقل وضعه الطبيعي من حيث هو مصدر المسئولية الفردية، مع الإيمان بحاجة العقل إلى ضوء يهديه يستمده من (الوحي).
7) الدعوة إلى الممارسة الحرة التي لا تخضع لمبدأ ولقانون وهي التي ذاعت في الغرب تحت عناوين الجنس والانطلاق وهي محاولة تؤدي إلى الاعتداء على حق الغير مما أدى إلى تدهور الأخلاق تدهورًا فظيعًا.
هذا ما يرفضه الإسلام تمامًا لضوابطه وحدوده التي قررها لإقرار العلاقات بين الرجل والمرأة والآباء والأبناء.(21/3)
###8### هذه المفاهيم التي أوردتها الفلسفة المادية وأقامت عليها العلوم الاجتماعية والتي تقدم لشبابنا وأبنائنا في مناهج دراسية وثقافية وكتب ومؤلفات بوصفها علومًا، هي في الحقيقية ليست إلا نظريات قدمها عقل بشري، وهي في نفس الوقت فروض قابلة للخطأ والصواب وهي ثالثًا بمثابة ردود أفعال في بيئات وعصور مختلفة، ترتبط معها بأوضاعها، ومن ثم فهي لا تصلح لأن تكون علومًا عالمية ولا أن تكون قوانين علمية صحيحة صالحة للتطبيق على مستوى الأمم الأخرى والشعوب خاصة الأمة الإسلامية التي سابقتها وأرضيتها ونظامها وعقيدتها التي شكلت وجودها منذ أربعة عشر قرنًا.
ومن هنا فقد تقرر منذ وقت طويل أنه لا يمكن أن يؤخذ من الغرب ما يسمى بالعلوم (اجتماعية وأخلاقية ونفسية وتربوية على أنها التطبيق الوحيد، وإنما تؤخذ على أنها وجهات نظر وتجارب عامة وأن ما تأخذه منها هو التنظيمات لا النظم وما تأخذه هو بمثابة مواد خام تشكلها في دائرة مفهومنا الإسلامي للعلم.
ومن هنا فنحن مطالبون بإعادة النظر في موقف الإسلام من هذه العلوم الغربية وهذه الفلسفات جملة وأن لا تقبل مصادرها المادية أو الوثنية المستمدة من الفلسفات اليونانية أو العلمانية المنكرة لمفهوم الغيب أو ما وراء المادة.
وقد دعا الأبرار من رجال اليقظة الإسلامية إلى ذلك منذ وقت بعيد.(21/4)
###9### وقال محمد إقبال: يجب أن نكون مؤمنين بأنفسنا كافرين بالإفرنج فالكفر بقداسة الغرب وإنكار كونه معيار الصدق والصلاح هو الخطوة الأولى والخطوة الوحيدة التي توصلنا إلى تجديد العلوم والآداب. فبعد تجديد الإيمان بصدق فكرنا الإسلامي وصلاحية شريعتنا الإسلامية الغراء، والكفر بالكفر الغربي العلماني والفكر الشيوعي الإلحادي نتمكن من إحياء المناهل الإسلامية التي تبدو وكأنها جفت وذبلت بعد سيطرة الغرب الحضارية والفكرية والعلمية، فبعد أن أحيينا هذه المناهل تصبح علومنا الإسلامية وآدابنا ذات حيوية ومغالية وتنطلق من حيث وقفت وجفت. إن واجبنا نحن المسلمون هو أن نراقب تطور الفكر البشري بكل يقظة وانتباه ونحتفظ بوجهة نظر حرة انتقادية تجاه هذا التطور.
ويجب أن لا يقف الأمر عند العلوم الإنسانية والاجتماعية بل يمتد إلى العلوم الطبيعية والتطبيقية من الكيمياء وعلم الحيوان وعلم النبات والفلكيات وعلم طبقات الأرض والهندسة والطب وما إليها من العلوم التجريبية فإن البعض يظن أن هذه العلوم لا صلة لها بالدين ولا بالعقيدة ولكن إلقاء أي نظرة إلى المقررات الدراسية والجامعية تكشف عن طابع العلمانية واضحًا في ثناياها فهي لا تعترف بالله تبارك وتعالى صراحة خالق هذا الكون ودوره في تحريك هذا الكون وحفظه، وعطائه للإنسان في مجال الكشف والمعرفة بحيث أصبح قادرًا على استغلال هذه المقدرات وتحريكها.
###10### هذه النزعة العلمانية التي خلقها نظام التعليم الحديث لها خطرها العميق في تشكيل عقليات ووجدان الشباب المسلم وعجزه عن فهم أبعاد قدرة الله تبارك وتعالى وعالم الغيب وفهم مهمة الإنسان في هذا الكون من خلال المسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي ومن هنا يتحتم تطهير المفاهيم الإسلامية من المحتوى غير الإسلامي في هذه العلوم.(21/5)
وإذا حاولنا أن نتعرف إلى رسالة الإنسان من خلال الفلسفة المادية نجدها تخضع الإنسان إما إلى الجبرية التي يسمونها مسئولية المجتمع أو المادية التاريخية.
أما القرآن فإنه يقف إلى جانب الإنسان في مواجهة العالم – على حد تعبير الدكتور عماد الدين خليل، ذلك أن القرآن يتيح له منذ البدء مركزًا ممتازًا للدور البشري على الأرض، فهو من جهة خليفة الله على الأرض والذي قدر له أن يصنع أحداثًا تاريخية بإرادته واختياره، سلبًا وإيجابًا (إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا)، (ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها، قد أفلح من زكاها، وقد خاب من دساها).
كما أن كتلة السماوات والأرض قد سخرت لأداء مهمته هذه، ومن ###11### ثم تجيء إرادته الحرة في صياغة الأحداث عن العقل والإرادة، مع تأثره لطبيعة الحال بنواميس الحياة وعلاقاتها المادية ولكن الكلمة الأخيرة في الصياغة تجيء دائمًا على يد الإنسان.
كما يكرم القرآن الإنسان تكريمًا واضحًا (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا).
وهكذا يتضح كيف يضع الإسلام الإنسان في المكان الكريم بينما تصنعه الفلسفات المادية في موضع الحيوانية والجبرية والاحتقار.
إن مفهومنا الإسلامي الأساسي يختلف تمامًا عن مفهوم العلوم الاجتماعية فنحن نؤمن بأن الله تبارك وتعالى خلق الكائنات لتعرفه ونسبح بحمده والغاية التي اختارها الله لها هي عمارة الأرض فهي في جملة: 1) معرفة الله والإذعان له وعمارة الأرض. 2) ومعرفة عالم الغيب والإيمان به. 3) ومعرفة عالم الشهادة بمعرفة فطرة النفس البشرية وقدراتها ومعرفة الأرض وطبيعتها ووسائل استعمارها.(21/6)
وإن مصدر المعرفة الأولى والأكبر هو العلم الإلهي الذي وصلنا عن طريق أنبياء الله تعالى وكتبه، فقد بعث الله تبارك وتعالى الرسل ###12### بالمعارف التي تثري حياة الإنسان وتضيء له الطريق وترده عن المفاسد والمهالك، ومن خلال هذه المعرفة قدم المسلمون المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الإسلامية والذي انتقل بعد ذلك إلى أوروبا حتى اعترف بيكون بأن المعرفة هي التي قدمها العرب لعلومهم فكان المنهج التجريبي هو مصدر الحضارة الغربية، ويجيء دور الغرب في الإضافة أما الأساس فقد وضعه الإسلام: 1) إيمان بمفهوم التوحيد الخالص. 2) أخلاقية العلم والحضارة.
وهذا كله يختلف عن نظرية المعرفة الغربية التي ترى أن الإنسان قادرًا بدون أي مساعدة خارجية إلى إدراك حقائق الأمور، فالمعرفة الإسلامية تقرر أن المصدر الأعلى لها هو الوحي وأن العقل البشري ليس أداة الإدراك أو المعرفة الوحيد دائمًا، هناك أدوات أخرى منها الحواس.
كذلك فقد وضع الإسلام قاعدة التفاعل بين الفرد والمجتمع وقرر أن مسئولية المسلم فردية نحو نفسه وجماعية نحو مجتمعه، وأن الأصل الإباحة ما لم يرد نص أو تحريم وأن كل عمل المسلم حلال إذا قصد به وجه الله تعالى وأن الروح الإسلامية تعتمد على التكامل والواقعية والاعتدال والانسجام كما قدم القرآن للمسلمين القدوة الحسنة والتطبيق العملي في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته وسيرته وأعماله وتقريره وأن المجتمع الإسلامي مجتمع أخلاقي متحرك متطور ###13### به طاقات عقائدية هائلة تدفعه نحو الأفضل فيرفض الركود والجمود وأن حركة الفرد المسلم والمجتمع المسلم في ظل التمسك بالإسلام كفيلة بأن تدفع الواقع نحو الرقي والتقدم بصورة صاعدة وممتدة.(21/7)
ومفهوم التقدم في الإسلام مختلف عن مفهوم الغرب الذي يقوم على وجهة مادية صرفة أم في الإسلام فهو ترابط جامع بين المادي والمعنوي، بحيث لا يضحي بالمنوي من أجل المادي؛ ذلك أن بين الإسلام والتقدم رابطة كلية.
ومن هنا فإن العلوم الاجتماعية والإنسانية الغربية هي من أخطر العلوم على العقيدة الإسلامية، إذ يقوم أكثرها على افتراضات، ومسلمات وهي ترمي في الأساس إلى أهداف واضحة أهمها التشكيك في الأديان وإلغاء الأخلاق واعتبارها مجرد ظواهر نفسية واجتماعية وقد أشار (جون ستوارت مل) إلى البضاعة الفاسدة التي باعتها أوروبا للمسلمين فقال إنه يأخذ على النظريات الأوروبية في الإنسان ضيق أفقها الذي أفضى بها إلى فهم جزء من الحقيقة على أنها الحقيقة كلها.
فقد كانت مصيبة فيما أثبتت، مخطئة فيما أنكرت، يريد بذلك أنها حين اعترفت بالجانب المادي أو الاقتصادي أو الاجتماعي في حياة ###14### الإنسان كنت على حق، ولكن إنكار الجوانب الأخرى لحساب جانب واحد كان خطأ. إن جانبًا واحدًا من جوانب الحياة الإنسانية ينتزع من سياقه الصحيح ويبالغ في أمره مبالغة تتجاوز كل الحدود المعقولة فهم يتصورون الجزء خطأ على أنه الكل. وهكذا ترى أن الخلل الأساسي في الموقف الأوروبي خلل ثقافي بل في قلب الثقافة وجوهرها ألا وهو النظرة إلى الإنسان.
ولعل أخطر ما كشف عنه في السنوات الأخيرة وكان بعيد الأثر في تقييم ما يسمى بعلم الاجتماع ما قاله كثير من العلماء من أن هذا العلم يستخدم في كلا المعسكرين في خدمة هدفه وأنه مرتبط بأدوات السياسة والقوة العسكرية وأنه يرمي إلى مقاومة الحركات التحريرية في العالم الثالث (عالم الإسلام) وأنه يستخدم لدعم النظام الرأسمالي في الغرب وفي السوفيت يعمل على كشف مآسي وتناقضات المجتمع الرأسمالي. وأنه بذلك يمكن أن يكون علمًا إنسانيًا ويمكن أن يكون ضد الإنسان ويمكن أن يسهم في حل المشكلات أو يكرس التخلف ويخدم الأقلية.(21/8)
وأكد الباحثون المحايدون، أن علم الاجتماع الغربي لم يكن علمًا قائمًا بعمله على النحو الذي يفرضه العلم ولكنه كان يعمل دائمًا ###15### في خدمة النظام وما يتصل به من تثبيت سلطانه ونفوذه في عالم المستعمرات أو البلاد الخاضعة له اقتصاديًا ومعنى هذا أن علم الاجتماع هو في داخل المجتمعات سواء الغربية أو الاشتراكية هو علم تبرير الواقع، التزامًا بتوجيهات القوة الحاكمية وأيدلوجيتها العامة.
وبالرغم من وضوح ذلك وتكشفه فما يزال كثير من كتابنا ومفكرينا مخدوعون إزاء ما يظنونه من أصالة المنهج العلمي الغربي وقدرته وعطائه، وهي مسلمة خاطئة لم يقم الدليل على صحتها، بيد إن الأحداث والمتغيرات العلمية ما تزال تكشف عن فسادها وعن عجز ما يسمى المنهج العلمي الغربي عن العطاء ومما يحوطه من ثغرات في مجالات كثيرة خاصة في مجال العلوم الإنسانية التي اعتمدت على التجريب فتجاهله الفارق البعيد بين العلوم المتصلة بالمادة وما يتصل بالنفس الإنسانية ومن ثم ظهورها تهاوت مختلف النظريات التي ظهرت في العقود الأخيرة في مجال الاجتماعية والنفس والتربية والأخلاق.
###16### أعتقد أننا في حاجة إلى إعادة النظر في أمور كثيرة لم تعد قادرة على العطاء.
أولا: ضرورة الفصل بين العلوم التجريبية والعلوم الإنسانية.
ثانيًا: ضرورة اتحاد منهج مختلف عن المنهج المادي في دراسة الإنسان.
ثالثًا: إعادة النظر في مذهب التفسير المادي للتاريخ ونظرية دارون ومفهوم فرويد للجنس ومفاهيم دوركايم ونسبية الأخلاق.
رابعًا: تصحيح دوائر المعارف العالمية وخاصة في مواد:
الله – الإنسان – الرسول صلى الله عليه وسلم – القرآن – الإسلام – الغيب – النبوة.
خامسًا: وضع مقدمات للعلوم عامة تقدر دور المسلمين.
سادسًا: ضرورة تقديم جميع الكتب المترجمة من الفكر الغربي إلى اللغة العربية بمقدمات تكشف وجهتها وغايتها وأهدافها.(21/9)
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(21/10)
التبشير الغربي
الأستاذ أنور الجندي
الإرساليات وسيلة لهدم مفهوم العقيدة والتشكيك في الإسلام وسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إن ظاهرة الإرساليات التبشيرية في العالم الإسلامي هي أخطر الظواهر الاجتماعية التي يجب أن تدرس في توسع للتعرف على الدور الخطير الذي قامت وتقوم في محاربة الإسلام وتزييف مفاهيمه واحتوءا معتنقيه، وتمهيد السبيل لتثبيت دعائم النفوذ الأجنبي على مدى قرن كامل من الزمان وخاصة بعد أن توسعت واقتحمت مجال الثقافة والصحافة بعد المدرسة والجامعة.
مصانع تخرج العلماء:
فقد كانت هذه الإرساليات هي المصانع التي خرجت الأجيال من العملاء والتابعين للنفوذ الأجنبي وأولياء الثقافات الفرنسية والإنجليزية والماركسية والتلمودية.
ولقد عرف الدكتور زويمر هدف هذا العمل الخطير بأنه: ليس إدخال المسلمين في المسيحية وإنما هو إخراجهم من الإسلام حين قال: "ليس غرض التبشير المسيحي إخراج المسلمين من دينهم ولقد برهن التاريخ وأزمة بعد أزمة على أن المسلم لا يمكن أن يكون مسيحياً مطلقاً ولكن الغاية هي إخراج المسلمين من الإسلام فقط ليكون ملحداً أو مضطرباً في دينه وعندها لا يكون مسلماً أي لا تكون له عقيدة يدين بها.
وهذه أسمى مراتب الانتقام من الإسلام وأعظم الغايات الاستعمارية "أجل قضينا على برامج التعليم في الأقطار الإسلامية منذ خمسين عاماً، فأخرجنا منها القرآن وتاريخ الإسلام ومن ثم أخرجنا الشباب والفتاة الإسلامية من الوسائط التي تخلق فيهم العقيدة الوطنية والإخلاص والرجولة والدفاع عن الحق.
وثيقة خطيرة:(22/1)
هذه هي أخطر وثائق التبشير التي يؤرخ بها للتعليم في البلاد العربية والإسلامية. ذلك لأن الإرساليات جاءت فوضعت البرامج التي تدمر الإنسان المسلم ثم جاءت المدارس الوطنية – في ظل النفوذ الاستعماري في مصر والمغرب والشام والهند وإندونيسيا – فاعتنقت هذه المناهج وطبقتها ولا تزال في جانب كبير منها مطبقة إلى اليوم. وقد ركزت الإرساليات على عدة أمور هامة:
أولاً:
أن تحتضن الفتاة المسلمة، فكانت أولى الإرساليات هي مدارس البنات لتعليم المرأة المسلمة في ظل مفاهيم مسيحية وعلمانية.
وقالت المبشرة المعروفة (أنا مليمنان) ليس ثمة طريق إلى حصن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة..
وقال المبشرون: لقد برهن التعليم على أنه أثمن الوسائل التي استطاع المبشرون أن يلجأوا إليها، في سعيهم لإخراج المسلمين من الإسلام.
ثانيا:
أن يكون التعليم وسيلة لعقد الولاء مع الأمة صاحبة المدرسة أو الجامعة، ولقد تردد طويلاً، أن الجامعات الأمريكية كانت وسيلة لتمهيد الطريق أمام المصالح الأمريكية وكانت منطلق العمل لتأكيد الصهيونية في العالم الإسلامي ودعمها، كما كانت الجامعات الفرنسية وسيلة لتثبيت النفوذ الفرنسي وكذلك الجامعات الإنجليزية.
ثالثاً:
أن يكون التعليم في الإرساليات وسيلة لهدم مفهوم العقيدة، وذلك بالدعوة إلى وحدة كل الأديان والعقائد والنحل والمذاهب، وحرية الجمع والمساواة بين الأديان المنزلة، وبين الأديان الوثنية وفتح الطريق أمام نقد "الدين" والسخرية به، وتصويره على أنه فكر قد مضى عهده، وأن العصر عصر العلم وأن الدين معارض للعلم.
رابعاً:(22/2)
تقوية العنصريات والدعوة إلى الإقليميات والعصبيات والقوميات كالبربرية والتركية والفارسية والعربية، وإحياء الحضارات القديمة كالفينيقية والآشورية والبابلية والفرعونية، وإحياء الفلكلور القديم والآثار القديمة، لخلق ثقافات وتاريخ سابق للإسلام، مع أن الإسلام أقام قاعدة الانقطاع الحضاري بين حاضره وما سبقه من عصور طابعها الحضارية الوثنية.
خامساً:
الدعوة إلى العاميات واللغة المحلية والقضاء على اللغة العربية الفصحى، والحيلولة بين النشء وبين تعلم لغته التي هي المفتاح للإسلام والقرآن، وإحياء العاميات والتركيز على تعليم اللغة الأجنبية، التي هي المدخل إلى مفاهيم الفكر الوافد، والإدعاء بأن اللغة العربية لم تعد صالحة لاستيعاب كل الأغراض، مع تفريغ اللغة الفصحى من الروح الإسلامي عن طريق كتابات الصحف والمسرحيات والإذاعة والأغاني التي تقدم مضامين وافدة غربية منقولة مكتوبة باللغة العربية.
وإقامة ثقافة خفيفة مستمدة من التفاهات مقام الثقافة الأصيلة ذات البيان العربي الرصين.
سادساً:
الاعتماد على الترجمات من اللغات الأجنبية، وخاصة ترجمة قصص الجنس والإباحية، وقصص الإغريق الوثنية وكتابات سارتر وكافكا ونيتشة وغيرها، مما يثير في نفوس الشباب شبهات الشكوك والإلحاد.
سابعاً:
طرح الأيدلوجيات المختلفة والنظريات الفلسفية المتعددة في علم النفس والاجتماع والأخلاق، وكلها ترمي إلى تحطيم مفاهيم الدين الحق، وخلق روح حرية الشباب والجنس، والإفساد الأخلاقي بالأندية والسمر والرحلات المختلطة، واستغلال الفكر الماركسي في هدم المجتمع الإسلامي، وتقديم الشبهات المسيحية واليهودية في قالب من النظريات ذات الصبغة العلمية البراقة الكاذبة.
ثامناً:
محاولة التشكيك في تاريخ إسلام وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بالإدعاء بأن القرآن مستمد من التوراة والإنجيل.(22/3)
واستغلال الآيات التي مجد القرآن فيها السيد المسيح عليه السلام والسيدة مريم. للتبشير بالمسيحية ومحاولة إقناع المسلمين بفكرة التجسد. أو الإدعاء بأن الفكر الإسلامي مستمد من الفسلفة اليونانية.
تاسعاً؟:
تقديم مفاهيم فاسدة، عن الموسيقى والمسرح والفن والحضارة والتقدم والمعاصرة، تختلف مع مفهوم الإأسلام الأصيل.
عاشراً:
إغراء الشباب المسلم بالبعثات الخارجية، وهي التي تستهدف تغيير شخصية الشباب بعد صهره في معاهد خاصة، ووضع الفتيات الأجنبيات في طريقه لعقد صلة اجتماعية تستمر مدى الحياة، وتكون عاملاً من عوامل خدمة أهداف التغريب، وحصار رجال البعثات بعد عودتهم، ليكونوا خادمين للثقافات الأجنبية، وهناك نماذج واضحة أمثال طه حسين ومحمود عزمي وغيرهما.
الدخول في التيه:
إن خطة الإرساليات التبشيرية لم تتوقف عند المدرسة والجامعة، ولكنها امتدت إلى الثقافة والصحافة.
وهي ليست خطة ضيقة مرتبطة بتغيير الدين فحسب، ولكنها خطة واسعة ترمي إلى تحويل العقل والنفس الإسلامي جميعاً، وإخراج المسلم من مفهوم الإسلام الصحيح، ومن قيم الإسلام الحقة بوصفه منهج حياة ونظام مجتمع وإدخاله في هاليز الفكر البشري الرطبة المظلمة، وصهره في أتون الوثنية والمادية والعلمانية والأممية وفتح الطريق أمام فكره وعقله وقلبه ليتقبل كل فكر وافد، ويتلقى كل ما تطرحه أعاصير الليبرالية والماركسية والتلمودية والوجودية وغيرها من السموم.
المهم هو إخراجه من الإسلام دون إدخاله في أي دين آخر وإبقائه مهموماً يدور في الدائرة المظلمة المفرغة: دائرة التيه التي لا تجعل منه قوة صالحة لأي اتجاه، أو كما صوروا هذا في دقة "إن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله".
وبذلك فلا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك يتحقق الهدف، ما هو الهدف؟ هو على حد تعبيرهم، أن يكونوا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية".(22/4)
وبمفهومنا نحن، خلق ذلك الجيل ذي الولاء الخاص العامل على تدمير مقومات المجتمع الإسلامي من حيث تمكينه لقيادة الثقافة والاستيلاء على ألوية التوجيه.
التبشير بغير جلده:
وقد تطور أسلوب التبشير، وخرج من مرحلة إلى مرحلة، واستطاع تغيير جلده ليوائم تطورات المجتمعات الإسلامية، وهم يركزون اليوم على أهدافهم القديمة بواسائل جديدة، فقد انتهى عهد المبشرين والدعاة الذي يقتحمون المستشفيات ويوزعون الأدوية والملابس وجاء ددور الخدمات الفنية والخدمات الاقتصادية والاجتماعية، في أنظمة مثل "التربية الأساسية" والتغلغل في أنحاء الريف ومخاطبة الناس والتعرف على نوازعهم.
وهي أساليب الجواسيس والمبشرين بصورة أخرى، قوامها السيطرة على توجيه المجتمع والجاسوسية السياسية للحصول على معلومات دقيقة من مصادر موثوق بها، وقد اتخذت أساليب جديدة قوامها الجداول الإحصائية لكل شيء في البلاد، مع التركيز على التعليم بالذات، وتجنيد رجال التربية في العالم العربي في مؤسساتهم وإغرائهم بالمرتبات الضخمة.
كما يدعون بين آن وآخر إلى مؤتمرات موسعة، والهدف هو تطبيق أفكار تربوية بحقل الفكر الإسلامي العربي تابعة للفكر الغربي المسيطر، وتطبيق مبادئ علم النفس وتجاربه على أبنائنا وتلاميذنا بهدف احتقار أوضاعنا ومقدراتنا والخروج من تقاليدنا إلى التقاليد الوافدة.
ولاريب في أن تحقيق هذه الأهداف يباعد بين المسلمين وبين العودة إلى مناهج التربية الإسلامية الصحيحة التي تمكنهم من امتلاك إرادتهم، ولا يزال النفوذ الأجنبي يركز على الثنائية الموجودة في نظام التعليم في العالم الإسلامي، فيصبح النظام الإسلامي خاضعاً وتابعاً للنظام الغربي.(22/5)
بينما الوجهة الصحيحة هي أن يكون التعليم الأولى كله إسلامي الأساس. وأن تقوم مناهج إسلامية ثقافية تحتضن كل أنواع الدراسات الاجتماعية والعلمية والاقتصادية والأدبية واللغوية، وأن تكون اللغة العربية هي أساس العلوم والتكنولوجيا ودراسات الطب والعلم التجريبي.
حيرة الشباب:
يقول الدكتور عمر فروخ: إن التحدي الذي يواجه المسلمين منذ قرن كامل من الزمن على الأقل: "هو عندما قرر الاستعمار أن يستخدم التبشير عن طريق الغزو الفكري بديلاً عن الفتح العسكري واتخذ لذلك طريق المدرسة والكتاب والجريدة، ثم طريق الراديو والتلفزيون في السنوات الأخيرة، وعن طريق الأزياء أيضاً، وكانت طريق الأزياء من بين الطرق الناجحة في سلب الشخصية الإسلامية من المسلمين، ثم كانت أنجع الوسائل إطلاق الأحزاب ذات الهوية الفكرية المعادية للإسلام، والهدف هو زعزعة اطمئنان المسلم بماضيه ومثله العليا. وأول ما يتجه إليه خصوم الإسلام هو أن يختاروا من الشبان من كان في أزمة نفسية أو اجتماعية، وهم يدعون الشباب المختطف إلى التحرر من جميع القيود وأن يقرر أموره بنفسه، من غير أن يشاركه في ذلك أبوه ولا أستاذه ولا النظم الحاضرة، ويقف الشباب المسلم حائراً قلقاً، يظن أن الحضارة غير الإسلامية تتحداه، وهو في الواقع لو عرف شيئاً كافياً من أمور دينه وأشياء من تاريخ الحضارة الغربية، لما وقف موقف الحائر في هذا التحدي، بل لما كان الخصوم قادرين على تحديه وكان هو القادر على تحديهم.
الاحتواء والولاء:(22/6)
والواقع أن كل محاولات التبشير تركز على الشباب وعلى الأجيال الجديدة بهدف احتوائها، لتكون ذات ولاء للفكر الغربي وإنها في سبيل ذلك تستخدم الشيوعية والعلمانية وأكاذيب مذهب فرويد وضلالات فلسفة سارتر، وغيرها من الدعوات لتدمير القيم الأخلاقية في نفس الشباب، وجعله لقمة سائغة للقوى التي تعمل على احتواء العالم الإسلامي، وتحول بينه وبين القدرة على امتلاك إرادته بفهم دينه وعقيدته، والتشكل على النحو الصحيح، وهو أن يكون قادراً على مواجهة التحدي والإعداد للرباط في سبيل الله والجهاد بحمل السلاح للدفاع عن العقيدة والأرض معاً.
وقد سجل رجال التبشير هدفهم هذا وما وصلوا إليه حين قالوا: لقد جنينا أعظم الثمرات المرجوة منذ حطم التبشير النشء الإسلامي تحطيماً. وهو سبب فساد الخلق والوطنية وموت الرجولة في نفسو الشباب.
إخضاع العالم الإسلامي:
وقد كتب أحد المبشرين في مجلة (لاريفو مسلمان) التي تصدر في باريس مقالاً كشف فيه بكل وضوح عن هدف الإرساليات التبشيرية، التي تحولت اليوم إلى جامعات ومعاهد لها صفة علمية خالصة، تحت عنوان "إخضاع العالم الإسلامي" قال: إن الهدف ليس مجرد نشر النصرانية بل إخضاع العالم الإسلامي. فقد أثبت التاريخ أن المجابهة بين المسيحية والإسلام لم تنته بمجرد انتهاء ما يسمى بالحروب الصليبية، تلك الحروب التي مثلت الصراع الجسدي على أعلى المستويات والتي استمرت في خمس حملات خلال مائتي عام، وقال إن بين الإرساليات والاستعمار تعاون وثيق. فإذا أضفنا إلى هذا ما كتبه الأب جيرونر في خطاب ألقاه في أحد المؤتمرات التبشيرية حيث قال: إن الإسلام هو مشكلة اليوم التي لا يجب تأجيلها، وأنه يتحتم علينا أن نرصد كل إمكانياتنا لحلها مما يدعو إلى التستر في هذا الهدف الوصول إليه بأساليب غير مباشرة.
الإسلام دين يتحرك زاحف يمتد بنفسه دون قوة تساعده وهذا هو وجه الخطر فيه:
الإسلام الخطير:(22/7)
ويردد كثيرون ما هو أشد صراحة من هذا المعنى حين يقولون: أن الإسلام هو الدين الوحيد الخطر عليهم فهم لا يخشون البوذية ولا الهندوكية ولا اليهودية، إذ أنها جميعاً ديانات قومية لا تريد الامتداد خارج أقوامها وأهلها، وهي في نفس الوقت أقل من النصرانية رقياً، أما الإسلام فهو كما يسمونه – دين متحرك زاحف – وهو يمتد بنفسه وبلا أية قوة تساعده وهذا هو وجه الخطر فيه.
ويقول الأستاذ سيد قكب معلناً: أننا لا ندرك ضخامة الجهود التبشيرية التي تبذلها أوربا وأمريكا لنشر النصرانية في أرجاء العالم وفي مجاهله ومعموره على السواء، ولا ندرك أن للكنيسة الكاثوليكية، وحدها نحو ثمانية آلاف بعثة تبشيرية تنتشر في أنحاء الأرض، وتذهب إلى مجاهل الكونغو والتبت (وإذا كان هذا الكلام عن عام 1950 م) فإن الأمر اليوم قد تضاعف. مع تملك هذه البعثات التبشيرية من وسائل الدعم المالي والآلي لتمكين جهودها.
ولاريب أن الجهود المبذولة من الكنائس البروتستانتية والكاثوليكية والموجهة إلى أفريقيا وإلى جنوب شرق آسيا بالذات في هذه المرحلة تؤازرها قوى مختلفة، وترصد لها ميزانيات ضخمة ببناء المستشفيات والكنائس الضخمة، وتربي أجيالاً تنسلخ عن أسرها ودينها، هذه العناصر هي وحدها التي يتاح لها فرصة تسلم أرقى المناصب. ودعامتها العقيدة المسيحية واللغة الإنجليزية والإيمان بالحضارة الغربية وتمكن النفوذ الأجنبي من السيطرة على مقدرات الإوطان ومقاومة الإسلام الذي ينتشر تلقائياً.
وقد تواترت أخبار كثيرة عن الخطط التي تقوم بها الإرساليات في إندونيسيا وماليزيا. والتي ترمي إلى تصفية الإسلام في نصف قرن، وكذلك ما يجري في أفريقيا مداً بالحركة التبشيرية في جنوب السودان والحزام الأفريقي.
المظهر والمخبر:(22/8)
فإذا ذهبنا نبحث وجدنا أن المناهج كلها وإن كلنت مسيحية المظهر فهي تلمودية المخبر، وإن التبشير المسيحي كله خاضع اليوم لنفوذ الصهيونية العالمية، وأنه يعمل لتحقيق غاياتها البعيدة، والتبشير بمفاهيم شعب الله المختار ومفاهيم أخرى تتناقض تماماً مع مفاهيم الإنجيل المنزل من عند الله، بل إن ما تطرحه الإرساليات الآن إنما يستمد مصدره من الفكر الماسوني التلمودي، الذي يقدم في نظريات ماركس وفرويد ودروكايم وفريزر، هذه المفاهيم التي فرضت اليوم على جميع الجامعات والمعاهد في العالم الإسلامي، على أنها علوم يقينية وليست نظريات وفروض قابلة للخطأ والصواب.
وإذا كانت الإرساليات التبشيرية هي منطلق العمل في المدرسة والصحيفة فإن من ورائها قوى الاستشراق الضخمة التي تمدها بالمادة الواسعة للتشكيك وإثارة الشبهات، ويقوم التغريبيون خلفءا طه حسين وساطع الحصري ولطفي السيد وسعد زغلول وسلامة موسى في العلم الإسلامي كله للتبشير بهذه المفاهيم، تحت اسم الدعوة إلى المعاصرة والتقدمية.
ولقد تنبهت قوى اليقظة الإسلامي إلى هذه المخططات والأهداف، فهي تواجهها في قوة وتكشف زيفها ولم يبق إلا أن تسيطر عليها في القريب.(22/9)
الفنون والمسرح
الأستاذ أنور الجندي
طرحت المستحدثات الوافدة في أفق فكرنا الإسلامي مفاهيم جديدة حاولت أن تكسبها طابعاً مغايراً للأصالة وللقيم والأعراف الإسلامية، وأخطر هذه المفاهيم ما يتصل بالفن والقصة والمسرح والموسيقى والغناء.
وقد اجتاحت بلاد الإسلام في السنوات المائة الأخيرة هذه الظواهر تحت اسم التسلية وتزجية الفراغ والترويح عن النفس، وبمفهوم إدخال السرور أو تخفيف متاعب الحياة أو ذهاب الغموم، دون أن تثبت في أعماق النفس الإسلامية قاعدة تهدف إلى تحويل الأعراف وتغيير القيم أو خلق طوابع جديدة من الإباحية والتحلل.
غير أن الزمن لم يلبث أن كشف عن أن تلك المسليات الساذجة إنما كانت تحمل في طياتها خطراً داهماً وتستبطن فلسفات خطيرة وتستهدف تحطيم مقومات أخلاقية وتستبطن فلسفات خطيرة وتستهدف تحطيم مقومات أخلاقية عريقة في العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة والشباب والفتيات والأسرة والمجتمع. وإنها تقوم على دعاوي مدمرة تسخر من كل الأصول الأصلية لفكرنا وعقائدنا. هذه التي قامت عليها مجتمعاتنا منذ أربعة عشر قرناً. وهي تستمد مفاهيمنا الأساسية من الفكر اليوناني الوثني القديم، بطابعه المادي القائم على التجسيم وعبادة الصور والإعجاب بالأجساد وتقديس مظاهر الجمال الحسي والقوة، والتي تدعو إلى إيقاد العواطف وإشعال الغرائز أو الإنطلاق وراء الذات، وهي في هذا كله تخالف مفهوم الإسلام الأصيل القائم على الإعجاب بالفكرة والجمع بين الروح والمادة، وتبريد العواطف وحماية الطبيعة الإنسانية من الصراع أو الانحلال.
هدف القصة:
ومنت هنا فقد تكشف بعد من خلال كلمات الأغنية ومن خلال حوار المسرحية ومن خلال أهداف القصة أن الغرض إنما يرمي إلى القضاء على الطبيعة الإسلامية للنفس البشرية وتحويلها إلى نفس أخرى وثنية إباحية لا هدف لها إلا المطامع والأهواء والاستجابة للغرائز.(23/1)
وقد استشرى هذا الخطر فأصبحت تلك المفاهيم التي تضعها المسرحيات أو حوار القصة أو كلمات الأغنية وكأنها مسلمات تجري على الألسنة. وتحاكم بها الأمور والعلاقات سواء بالنسبة للأسرة أو بين الرجل والمرأة زأخذت تحل شيئاً فشيئاً مكان القيم الأساسية التي رسمتها العقيدة والأخلاق وقد واجه الفكر الإسلامي هذه الظاهرة الخطيرة كاشفاً عن وجهة نظر الإسلام: هذا المفهوم الذي يقوم على "استحالة التناقض مع الفطرة" فإذا كانت الفنون من روح الفطرة وجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة: دين الإسلام في شيء، فإذا خالفت الفنون الدين في أصوله – كما يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي – ودعت صراحة أو ضمناً إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لمحاربتها، وعاقت الإنسان عن أن يفعل بالفضائل التي جاء الدين لإيجابها على الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح، إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا، فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق وأخطأت الفطرة التي فطر الله عليها الناس والخلق.
ومفهوم الفن في الإسلام مباين لمفهومه في الثقافات والحضارات الأخرى: قوامه الأخلاق وطابعه التوحيد، يتسامى بالغرائز بالنفس الإنسانية إلى الكمال دون أن يبعد عن الواقع.
الفن في الإسلام:
والفن في نظر الإسلام: أداة لبيان جمال الصنعة الإلهية ووسيلة الإسعاج الروحي والنفسي بتحرير الإنسان من عالم الأهواء والغرائز وإطلاقه في نظرة حرة إلى الكون والوجود يعرف فيها قدرة الله تبارك وتعالى وعظمته ويزداد بها إيماناً.(23/2)
وقد كان الفن الإغريقي المادي الوثني جعل الأولوية للتماثيل المجسمة إعجاباً بالأجساد وعبادة لصور الجمال البدني ومظاهر القوة، ولكن الفن الإسلامي – مستمداً مقوماته الأساسية من القرآن والسنة – يجعل البيان والشعر والأدب في مقدمة قائمة الفنون، الكلمة البليغة، والفكرة الموجية، وفي ذلك انتقال من عالم المادة إلى عالم الفكر، والتأمل لأوسع العوالم، والتفكر في خلق الله أعظم معطيات العقل والروح: {ن والقلم وما يسطرون}.
وبذلك أصبح رائد الفن: البيان الذي يتمثل في أسمى صوره في القرآن الكريم وبذلك فقد دفع الإسلام الفكر البشري انتقالاً من مفهوم الماديات في الفن مفهوم المعنويات والماديات في إطار جامع متكامل وبذلك فقد حرر البشرية من مفهوم المادية الخالصة التي تقدس الجسد والشهوات والغرائز والوثنيات وتقيم لها المهرجانات والطقوس ودفع الإسلام البشرية إلى الانتقال من تجسيد البطولة في صورتها المادية إلى تكريم عمل الإنسان نفسه.
لا صراع بين الإله والإنسان:(23/3)
ومن هنا فإن أبرز سمات الفن الغربي لا تجد في مجال الفكر الإسلامي مجالاً لها، فالمسلم لا يعبد الجسد عبادة وثنية بحيث تقدم له القرابين، وكل ما يتصل بذلك من أساطير الحب والجمال عند الإغريق، وهي حافلة بالمباذل لا تجد في أفق المجتمع الإسلامي قبولاً، كذلك فالإسلام لا يقر الصراع بين الإله والإنسان أو بين القدر والإنسان على النحو الذي يقوم عليه الفن الغربي، ولا يؤمن المسلم بأن الإنسان يثبت ذاتع بمصارعة القدر والإله ولا بأن البطل الصالح يتحطم على يد القدر والآلهة، وكل هذه المعاني الماساوية لا مصدر لها في الغسلام ولا في الفكر الإسلامي، لأنها مستمدة من فكرة الخطيئة النصرانية، وكذلك فإن المسلم لا يؤمن بتعدد الآلهة ولا تجسيد الإله في صورة وثن حسي ملموس كالتماثيل العديدة في العقائد العربية في ذلك الخليط العجيب بين النصرانية والهلينية، كما ان المسلم لا يؤمن بعبادة مادة الطبيعة أو المحسوسات.
ومن هنا فإن مفهوم الفن في الإسلام محرر من كل هذه القيم التي يقوم عليها الفن العربي والتي تتعارض أساساً مع الإيمان بالله الواحد، ومن ناحية أخرى فإن الإسلام لا يقر تجسيد البطولة في صورة مادية، ليس فقط حفاظاً على مفهوم التوحيد من خطر الاتصال بالتماثيل والأصنام التي كانت تعتبر عبادات ما قبل الإسلام، ولكنه ارتفاع بالنفس الإنسانية من أن تتمثل في مفهوم مادي بينما جاء الإسلام محرراً للبشرية من التجزئة بين الماديات والمعنويات.
الأمم لا تهزم:(23/4)
هذه هي وجهة نظر الإسلام في الفن بصفة عامة ونحن نعرف أن الأمم لا تهزم إلا من انحراف فنونها وآدابها وخروجها على الضوابط والقيم، ولقد دمرت الفنون المحرمة حضارات اليونان والرومان والفرس والفراعنة، وستدمر الحضارة الغربية القائمة، فتلك سنة تبارك وتعالى التي لا تتخلف لكن المجتمعات التي تخرج عن الضوابط والحدود التي رسمها لها الدين الحق، وإن الفنون الغربية اليوم تسير في نفس الطريق الذي سار فيه الفن الروماني والوثني هادماً لكل القيم متحللاً من كل الضوابط قائماً على الإباحية والشذوذ والتشاؤم.
وقد ورثت الحضارة الغربية مفهوم الوثنية ومفهوم النصرانية المؤلهة للإنسان وورثت معها قيمها وأبرز هذه القيم نبذ "الأخلاقية" ومن ثم طغت فكرة الفن للفن على المفاهيم الأخلاقية السائدة، واشتدت الحرب عندما شرع حماة الفضائل في إدانة "الفن" على أنه لعب وحس شهواتي يحول بين الإنسان وبين الاستقامة، وفي مفهوم الإسلام أن الفن والأدب يقوم على الالتزام الأخلاقي ويتحرك في دائرة كاملة جامعة ولذلك لم يقم أي صراع في الفكر الإسلامي بين الفن والأخلاق أو بين وحدة الفن والأخلاق، أو انفصالهما لأن مفهوم الفكر الإسلامي قائم أساساً على التكامل الجامع، فلا الفن يستقل عن الأخلاق، ولا علاقة الفن بالأخلاق، علاقة خضوع أو قسر أو إيقاف له عن انطلاقته. وليس في تحرك الفن الإسلامي في دائرة الأخلاق ما يحول بيسنه وبين تحقيق هدفه من إبراز حقيقة الشر والخير، بل هو في التحرر من إبراز الصورة في قالب الإغراء بها والحض عليها المجتمع ولا يحاول أن يبرز الوذيلة أو يهدم نظم الدين والعدالة والتوحيد.
والفن الإسلامي متحرر من المادية الخالصة، جامع بين الروح والفكر، بعيد عن مفهوم الوثنية الإباحية.(23/5)
ولما كانت الفنون المعاصرة تقوم في أساسها على القصة فإن هذا يقتضينا الكشف عن أن هذا الفن عربي خالص مستحدث، يختلف اختلافاً كبيراً عما عرف في الأدب العربي من فنون، وقد بدأت القصة في الأفق العربي والإسلامي مترجمة من الآداب الغربية تتغير فيها أسماء الأفراد والأماكن ويبقى مضمونها في الحوار والأحداث ولذلك فقد حملت مفاهيم غريبة عن النفس الإسلامية واستجابات مباينة لروح المفاهيم الإسلامية العربية، وخاصة في المسائل الكبرى كالخيانة الزوجية واضطراب الأسرة والموقف من اليتامى والفقراء وعلاقة الجنس بالمال، وعديد من هذه المسائل التي يقف منها المفهوم الإسلامي موقفاً مغايراً تماماً لتصرفات المجتمع الغربي القائم على الأنانية والحقد والإباحية.
القصة فن دخيل:(23/6)
ولقد سارت القصة المكتوبة بالعربية في هذا الاتجاه فأكدت أنها فن دخيل لا يتفق والقيم العربية الإسلامية، وأن النفس العربية قد عبرت عن نفسها بأساليب أخرى ليست القصة واحدة منها، ولقد نقلت من آداب الأمم الغربية أسوأ آثارها ولم يرع المترجمون حالة البلاد ولا روح الثقافة، ولا الذوق الأدبي وكان لنقل هذه القصص أبعد الآثار في إفساد الأذواق والأخلاق لأجيال متعددة فقد طرح ركام مظلم فاسد من الحكايات الخرافية والإباحية والقصص البوليسية وكلها حديث عن بيوت الفساد وتجار الخمور، ذلك أن الكتاب المارون قد أغرقوا الأدب العربي بسيل من القصص يطفح بالإباحة والفساد أمثال نجيب الحداد وإلياس فياض وفرح أنطون وطانيوس عبده وإلياس أبو شبكة وخليل ببيدس وأمين الحداد، وقد ألقت هذه القصص إلى صغار المتعلمين وفتيات الأسر من وراء الجدران قدراً كبيراً من الرؤى الجنسية المسرفة وقدراً من اللذات الخيالية التي تتمثل في صور الترف وملامح القصور والرياش والعطور والخمور مما كان له أثره البعيد في خلق ظاهرة جديدة في المجتمع الإسلامي في ظاهرة وباء الحلم الكاذب الذي يشقي ويبعد عن الواقع وكان لهذه الأكاذيب أثرها السيء في نفوس الشباب الغريز والفتيات مما أفسد نظرتهم إلى الحياة وحال بينهم وبين رؤية الواقع وانتقلت هذه الرؤى من سطور المطبوعات إلى مشاهد مرئية على الشاشات في كل بيت.
ولاشك الآن أن هدف القصة في الآداب الغربية هو إعطاء الشعوب جرعة من الخيال للتعويض عن الواقع، وأن القصة الخرافية الوثنية هي اللذة الكاذبة التي تعطي الوهم بدلاً من إعطاء الحقيقة. أما المسلم فإنه لا يحتاج إليها لأنه يعيش في جو من الوضوح والصراحة بين أوامر الدين ونواهية.(23/7)
لقد عرف الأدب الإسلامي العربي "الصدق" القصصي فيما رؤى القرآن من قصص، وما وجه إليه الفكر من التحرك داخل الإطار الواقع لا يغرق في إدخال الشر والإباحة. ولذلك فقد كان الإسلام حريصاً على أن يعيش المسلم في واقعه وأن لا يتخذ وسائل الخداع الكاذبة المخدرة سبيلاً إلى إخراجه إلى عالم الأوهام.
نحن نقص عليك نبأهم بالحق:
ولقد قدم القرآن الكريم للمسلم القصة الصادقة بعيداً عن الأسطورة والخيال الوثني والوهم. كذلك فقد حرص علماء المسلمين على تحرير سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم من الأساطير والخرافات. التي من شأنها أن تحجب الحقيقة عن الناس. وما زال مفهوم القصة الإسلامي في اللغة العربية وهو الإخبار بالواقع المجرد، وتتبع الآثار الحقيقية، ولا يفهم منه تأليف الحكايات أو تلفيق الوقائع أو اصطناع الأخبار المكذوبة التي تصدر عن الكبت والظلم، وإذا كانت كلمة "القصة" في اللغة العربية تعني الواقع الملموس فإن معناها في اللغات الغربية مستمد من مدلول الخرافة التي عرفها العرب قبل الإسلام بقولهم أسطورة وأساطير، وقد أطلقت في القرآن الكريم على الخرافات التي ينكرها الإسلام في مقابل ما أمنوا به من أحسن القصص {لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثاً يفترى} يوسف: 111، ولقد كشف كثير من الباحثين عن التعارض الواضح بين "الفطرة" التي هي سمة الأدب الإسلامي العربي وبين "القصة" التي عرفها الأدب الغربي وجرى تقليدها في الأدب العربي الحديث.
ومن هنا فإن النقد الأدبي الإسلامي المصر يرفض أمثال قصص شهرزاد وألف ليلة وليلة وغيرها من الأساطير لأنها لا تمثل مفهوم الإسلام الصحيح، وغاية ما يقال في هذا أن الإسلام عزل المجتمع الإسلامي عن الإباحيات والخياليات المغرقة والخرافات وطبع الفكر الإسلامي والمجتمع بطابع التوحيد والفطرة والواقعية بعيداً عن المغالاة أو الإسراف.(23/8)
أما المسرح فإنه دخيل وافد وليس فناً أصيلاً لا في الأدب العربي ولا في المجتمع الغربي ولا في المجتمع الغربي الإسلامي. وقد صدق زكي طليمات حين قال: "أنه بالرغم من انقضاء قرن وربع قرن ما برح يبدو لرجل الشارع وكأنه بضاعة مستوردة من الخارج أو هو زي من أزياء التعبير لا عهد به. وبكنه يتعطاه من باب التظاهر بالإقبال على كل جديد، ولعل أبرز دوافع الاستجابة هي عامل التسلية وفضول المعرفة والتجربة، إلا أنها دوافع يجمع بينها مظهر واحد تلحظه العين وهو "قزقزة" ثمار الفول السوداني واللب.
وعندنا أنه ليس رجل الشارع فقط بل هي الطبيعة الأعمق التي ترى في المسرح شيئاً معارضاً لفطرتها المستعلنة في البيان العربي بغير حاجة إلى هذه الأساليب المعقدة ويقول أن أعمق العوامل لمعارضتها للفطرة الإنسانية وللطبية الإسلامية أنها صورة وهمية ليست من واقع الحياة وأنها تستعمل النصوص التاريخية بغير أمانة ويرى أصحاب هذا الشأن يأسهم من نجاح هذه المحاولة، ذلك أن القالب الشكلي للمسرحية "أجنبي" من كل نواحيه إذ أنه نقل نقلاً (فوتغرافياً) سريعاً من غير تمعن في المسرحية الغربية التي استوردناها مع كثير من النحل الغربية في أواسط القرن الماضي، وبالرغم من المحاولة التي جرت خلال أكثر من مائة سنة على استنبات المسرح في التربة العربية فقد بقيت المسرحية على قالبها: غريبة المذاق عن رجل الشارع.(23/9)
ويقول زكي طليمات: أن من أبرز الأسباب التي تصرف الذعنية الإسلامية عن الأخذ بأسباب التعبير عن طريق المسرحية للدعاية والتفسير: هو أن العقيجة الإسلامية على وضوح أركانها وجلاء تعاليمها ومنطق أحكامها عقيدة لا يشوبها لبس ولا غموض يتطلبان تحايلاً في التفسير، فالواحدانية لا تقبل التأويل ولا تحتمل الشرك ولبس هناك أرباب ولا أنصاف أرباب كما هي الحال في الوثنية، كذلك لا توجد عقدة يتعذر فهمها إذ لا يوجد أب ولا ابن ولا روح قدس، كما هو الحال في العقيدة النصرانية، وشعائر الإسلام على بساطته غنية عن تقشف ظاهر فليس في حاجة إلى عازف يعزف على آلة موسيقية إذ منشد ينشد نداءات كهنوتية أو راقص يدور على نفسه، مثل هذه العقيدة القوية في معنوياتها البسيطة في شعائرها القائمة على مناهضة كل مظهر من مظاهر تعدد الأرباب وما يتصل به من فنون السحر لإحياء طقوسه ومناسكه، لا يمكن أن يتخصص عن فن تمثيلي.
فإذا أضفنا إلى ذلك أن العرب بطبيعة عقلهم ينظرون إلى الكليات عرفنا إلى أي مدى نجد التباين الضخم بين الأدب العربي والآداب الأجنبية في مجال القصة والمسرح، ومن ناحية أخرى فإن الصراع الماساوي أو الدرامي الذي هو عقدة المسرحية أو القصة لا يجد بينه طبيعية في إيمان المسلمين العرب ومعتقداتهم، ذلك أن البطل الماساوي هو في صراع دائم مع الآلهة والقدر، أما المسلم بحكم وحدانيته فإنه لا يستطيع أن يتصور صراعاً مع القدر والآلهة على نحو ما كان تصوره اليونان الذين يؤمنون بقوى متعددة ويؤمنون الحرب مع القدر وإن كانت آخرتها الهزيمة المؤسية فإنها حرب تدل على تجبر الإنسان.(23/10)
إن الصراع مع الآلهة لا يستقيم أصلاً مع التوحيد، أما الإنسان المسلم فهو في سلام مع الله الواحد الأحد. ولاريب أن رؤيا العربي المسلم واضحة غير مغيبة ولا يشوبها سحاب من الغمام وليست بين بين، وليست في صراع مع الطبيعة وكل هذه الرؤى تنعمس في الأدب الإسلامي العربي وهي مضادة لرؤية الغربي.
ويقول الأستاذ علي أحمد باكثير: إذا لم يوجد المسرح عند العرب في جاهليتهم فأحرى ألا يوجد لديهم بعد الإسلام الذي قضى على تلك الوثنية وأعاد إليهم دين التوحيد كأصفى ما يكون، وتقديس الأشخاص من مظاهر الوثنية، والإسلام ينهى عن ذلك نهياً تاماً مما أدى إلى عدم ظهور "الدراما" لألأن نشأة الدراما في عهودها الوثنية كانت قائمة على تقديس من كانوا ملوكاً أو أبطالاً ثم ألهوهم بعد وفاتهم.
ونقول: إن من أقوى عوامل التعارض بين مفهوم الفن في الإسلام وبين المسرح هو روح الإباحية الواضحة في الآداب اليونانية – حيث نشأ المسرح – والتي ورثها الأدب الغربي وهي مظاهر يصفها أنيس فريحة بأنها "تبلغ حد الفسق والعربدة ذات الطقوس، تحت شعار البغاء المقدس والذي يتضمن بيع النساء أجسادهن في أيام معدودات وشرائح وذبائح لعشتروت". هذه الصورة المقززة التي حاربتها الأديان وألغاها الإسلام إلغاء تاماً هي ثمرة الفنون المسرحية الغربية، هي تراث الأسطورة الذي تحاول أن تجدده المسرحية الغربية وهو بعيد كل البعد عن القيم التي قدمها الإسلام وحرر بها الإنسان من عبودية الوثن وعبودية الإباحية ورفعه إلى مستوى الكرامة، قد رفض العرب عندما ترجموا اليونانيات هذه الألوان من المسرحيات والملاحم. ولكن القوى الأجنبية استطاعت في العصر الحديث أن تزج بهذه السموم في الآداب العربية لتخلق ظاهرة القلق والتحلل التي ظهرت نتائجها في المجتمعات الإسلامية في العصر الحديث.(23/11)
وبالجملة، فقد كانت هذه الفنون المختلفة ومنها القصة والمسرح دخيلة على الأدب العربي والفكر الإسلامي لأنها نتاج مجتمعات أخرى وقائمة على ظروف وأوضاع لم يتعرض لها المجتمع الإسلامي القائم على روح التوحيد الخالص والذي يعتبر الأخلاق جزءاً لا يتجزأ من العقيدة الدينية.(23/12)
(4)
الإسلام في وجه التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية
عندما يرد على الخاطر أو اللسان كلمة التيارات الوافدة في هذا العصر تكون الإجابة السريعة أنها هي "الماركسية": الصيحة الأخيرة في العالم الإسلامي التي تشغل الباحثين وتحاول أن تزيف الفكر الإسلامي بما ألقت إليه في السنوات العشرين الأخيرة من نظريات ومفاهيم لم تقدم له على نحو يسمح بالنظر أو بالمراجعة أو تحت لواء البحث والاقتناع؛ وإنما قُدِمت تحت تأثير قوة قاضية فرضت هذا الفكر فرضاً ودقت أجراسه يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة، عن طريق كل الوسائل السمعية والبصرية، في نفس الوقت الذي عزل غيره تماماً وخاصة الفكر الإسلامي العربي الأساسي، ولذلك فإن التجربة كانت قاسية تماماً. ولقد أمكن أن يلتقي الفكر الليبرالي القديم والفكر الماركسي وأن يتصارعا في مساجلات متعددة، ولكن: لم يكن م حق الفكر الإسلامي (في ذلك الوقت) وهو صاحب الأرض أن يتدخل أو يعلن عن وجوده فكأنه مات تماماً.
ولكن هل هو مات حقاً ! محال، إنه على مدى تاريخه الطويل يواجه مثل هذه الأزمات ويخرج منها مشعاً مضيئاً كالذهب عندما يدخل النار.
لقد مكر الفكر الإسلامي منذ جاءت قوى الاحتلال الغربي بنصف التجربة وكان عليه أن يستكملها. فما دام العالم الإسلامي قد فرض عليه ذلك الأنموذج الغربي في السياسة والاقتصاد والقانون: الذي جاء في ركب الاستعمار، هذا النموذج الذي لم يستطع خلال أكثر من سبعين عاماً أن يحقق تقبلاً أو استجابة للنفس العربية الإسلامية وأثبت فشله الذريع في التطبيق، كان لابد وقد تدافع المتجمع الإسلامي إلى الغزو الماركسي أن يتعرف إلى ذلك النموذج ويطبقه ليرى هل يكون أكثر صلاحية، وقد كانت الاستجابة أكثر فشلاً وعجزاً؛ ذلك أن الماركسية ليست نظاماً مستقلاً ولكنها: رد فعل للنظام الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي الغربي وجزء منه.(24/1)
ونحن نجد أنفسنا اليوم وبعد عشرين عاماً من التجربة الماركسية وبعد تسعين عاماً من التجربة الليبرالية: وقد حصلنا على نتيجة "الصفر المركب". وأحس العقل العربي الإسلامي أنه كان يعايش تجربتين فاشلتين بعيدتين كل البعد عن مشاعره وروحه وذاتيته.
بل إنه عرف من بعد أن سر (النكبة والهزيمة والنكسة) مِما حاق به في السنوات التي بدأت منذ 1948 وامتدت إلى 1967 إنما كان نتيجة هذا الاستسلام للتبعية لمنهج وافد عاجز عن تحقيق أي تقدم أو أمن لمجتمعه الأصيل الذي نشأ فيه، فكيف يكون مستطيعاً أن يحقق ذلك لمجتمع غريب عنه.
تلك هي الصورة التي تواجهنا اليوم بعد أن تحررنا من صورة الهزيمة ودخلنا في أفق معرفة النفس، والتماس الأصالة، وتأكيد الذاتية، وبلوغ الرشد والإحساس القوي بأن هذا وحده هو المنطلق الصحيح لمستقبل يتطلع إلى التحرر من كل تبعية وغزو واستعمار وسيطرة القوى الخارجية.
ولقد كشفت الأحداث فيما كشفت عن هدف واضح صريح: مَن وراء كل مخططات الغزو، ومَن وراء التيارات الوافدة جميعاً هو: "القضاء على الهوية" على الذاتية، على الشخصية، على ذلك كالطابع الأصيل الذي كونته عوامل العقيدة والثقافة والأرض والطبيعة جميعاً. القضاء عليه بالاحتواء والإذابة والعمل على صهره في البوتقة العالمية، التي تواجهه من جهاته الثلاث: استعمارية وصهيونية وماركسية، وتواجهه بالمادية والإلحاد والإباحية والقضاء على القيم والتاريخ واللغة والدين.
الهدف هو صهر هذه الأمة: المتفردة بذاتية التوحيد الخاص منذ أن براها الحق تبارك وتعالى لتكون علماً على فكرة الحق، متميزة بالفكر الرباني السمح في مواجهة زحف الفكر البشري المضطرب العاصف الحامل لكل الأخطار.(24/2)
ولقد استطاع الفكر البشري بنفوذه السياسي والعسكري والاقتصادي حين سيطر على عالم الإسلام وانحسر عنه ثمة، أن يترك فيه قواعده ومؤسساته وقواه، وتلك الأجيال التي تتابع تجربتاه معاهد الإرساليات من أبتاعه ودعاته الذين يحملون لواء التغريب والغزو الثقافي والشعوبية، أولئك الكارهون لهذه الأمة ولعقيدتها ولغتها والحاقدون على مكانها في الأرض، وعلى ما في يدها من ضوء (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره).(24/3)
ولكن التجربة التي بين أيدينا الآن قد أثبتت فشل الاتجاهين الليبرالي والماركسي، وفشل التقليد والاقتباس والتبعية التي وقع فيها عالم الإسلام حين حجب عن نفسه قيمه وتراثه ومفاهيمه، واتخذ أسلوباً وافداً في مجال القانون والتربية والاقتصاد والسياسية، ولم يتبين له فشل هذا الأسلوب إلا بعد أن ظهرت نتائج قاسية من الهزيمة والنكبة والنكسة؛ حيث تبين أن المسلمين قد عاشوا في خدعة بالغة شديدة حين تابعوا بغير تقدير وروية ذلك المنهج الوافد وغابت عنهم حيطة الأصالة والذاتية، حتى كادوا يفقدوهما، ولم يكن أسلوبهم هو أسلوب البناء على الأساس الصحيح، مع الانتفاع بخيرات الآخرين وتجاربهم، ولكن كانت تبعيتهم قد حالت دون تبين أي وجه للمنابع الأصيلة الأولى التي هي مصدر وجودهم وكيانهم، ومن هنا فقد قاسوا الأمور بمقاييس وافدة حجبت عنهم الرؤية الحقيقية وجوهر الأشياء والطريق الأصيل، فلم يلبث الجيل كله أن وقع في الأزمة الخانقة، والحيرة المظلمة، وقع في "مدلهمة عمياء" هي بمثابة نقطة تحول شديدة، وموقف حاسم، لا سبيل إلى تجاوزه إلا بإعادة النظر في كل تلك المسلمات والأساليب والمناهج التي لم تكن صالحة أساساً لليقظة أو للنهضة، والتي حاولت أن تقضي على النبت الحقيقي الذي كان قد حمل لواء اليقظة منذ أكثر من قرن ونصف قرن من الزمان، حين أنشأ التغريب "دائرته المغلقة" وشكل فيها أولئك الذين أسماهم قادة الفكر والثقافة والتربية والتعليم في سنوات الهزيمة والنكسة والذين جاءت على أيديهم تلك النتائج المفزعة الخطيرة.
ومن ثم فإن الماركسية ليست وحدها التحدي الأوحد وإن كانت هي أبرز التحديات التي تواجه عالم المسلمين اليوم: ذلك لأن الأفكار التي طرحتها خلال السنوات العشرين الأخيرة ما تزال تحتاج إلى تنفيذ وتمحيص وكشف عن سمومها وتعريف بزيفها ورفع لها من عقول الناس وقلوبهم.(24/4)
غير أن الوقوف عندها والاقتصار عليها يفوت على المسلمين خطراً ويفسح للقوى التغريبية المجال في ميادين أخرى كثيرة. والمعروف أن الليبرالية والماركسية مؤسسات واضحة ظاهرة يسهل التعرف عليها ومواجهتها ولكن جهداً كبيراً يجب أن ينفق لمواجهة المؤسسات الخفية المتسترة تحت أسماء العلوم والثقافة: وأخطرها الفرويدية والوجودية ومدرسة العلوم الاجتماعية.
وهي مدارس تسيطر عن طريق الجامعة، والثقافة والصحافة، وتدخل في مجال الدراسات العلمية كأنها رافد من روافد الفكر الإنساني بينما هي في حقيقتها أشد خطراً من الماركسية والليبرالية على السواء.
لقد تبين لعالم الإسلام أن التجربة السياسية أو الاقتصادية الغربية أو الماركسية كلتاهما قد لقيت الفشل الذريع، ولم تقبلهما النفس العربية الإسلامية، وقد وجدت فيهما تضاداً بينها وبين قيمها ومفاهيمها وذاتيتها. وقد أثبتت تجربة التطبيق السياسي الاقتصادي فشل المذهبية وعجزهما عن العطاء في المجتمع الإسلامي، ولكن هناك مذاهب ما تزال تتحرك في داخل المجتمع والنفس والأخلاق والتربية تكاد تكون كالمسلمات اليوم من شأنها أن تفسد بناء شخصية الإنسان المسلم على النحو الذي يجعله أهلاً للطابع الإسلامي الصحيح.
إن لنا في المجال العام: أمرين مازالا مضيعين: هما التربية الإسلامية والشريعة الإسلامية، وهما يفسحان المجال لشر كثير يأتي من ناحية المدرسة والمصرف والأسرة، ولابد من إجراء تغيير كبير بشأن تحقيق هذين الأمرين.(24/5)
ولكن هناك في المجتمع الإسلامي خطر يتزايد اليوم ويستفحل: ذلك هو بث السموم عن طريق القصة والأغنية والمسرحية والسينما وكل ما مِن شأنه أن يشكل موصلاً للبث الدائمة اليومي السريع، الذي يحمل معه تلك الأفكار المسمومة التي تتعارض مع مفاهيم الإسلام، والتي تظل تروى الناس في حوار القصص والمسرحيات حتى يظن الكثيرون أنها هي المفهوم الصحيح لعلاقات الرجل والمرأة، والآباء والأبناء، وما يتصل بالحب والزواج، وطريقة الحوار بين الناس في المجتمع، في التعامل العام والخاص، وقد وجد أصحاب التيارات الوافدة أن لقصة أصلح طريق لتوصيل مذاهب الملحدة والإباحية وأفكارهم المسمومة إلى قلوب الناس وعقولهم وهم في مرحلة الاستسلام والراحة وقبل النوم، وعلى نحو يكون فيه صاحب الأفكار هو الذي يقدم مفاهيمه دون أن يناقشه أحد في أمر صحتها أو فسادها، سلامتها أو اضطرابها: وأغلب من يستمع لذلك شباب المسلمين الغر البسيط الساذج، الذي لم تدعمه ثقافة إسلامية أصيلة يفهم بها الصحيح من الخطأ والحل من الحرام والحق من الباطل، ومن هنا فإن جهاز البث الممتد من أجهزة السمع والرؤية الدائمة والمسرح والسينما إنما تقدم للمجتمع الإسلامي أخطاراً عديدة، تدلف إلى القلوب غير مستأذنة وتتردد يوماً بعد يوم، وساعة بعد ساعة، فتسيطر وتتمكن، ولا تجد من ثقافة الإسلام الحقيقية ما يصححها وما يردها، وهي تقدم دائماً في أسلوب الحوار والقصص، وباللغة العامية، وبأشد عبارات العامية انخفاضاً، وكأنما انتقيت لها بأسوأ ما يتحاور به أقل الناس ثقافة وأكثرهم حماقة وجهلاً، من أهل الأحياء الموصومة بالعنف والحدة.(24/6)
تجري هذه الألفاظ على ألسنة الممثلين في المسرحية أو القصة أو الفيلم على نحو يزري بكل خلق وكرامة وأدب، فتحس كأنما الحياة بين الناس صراع عنيف ومغالبة بالكلمة المريرة، وقدرة على استعمال أسوأ المصطلحات والألفاظ، وتجد هذا كله قد أصبح يجري في مجال الحياة العامة فعلاً بين الناس بعد ذلك، في زحامهم بالناقلات، أو في شرائهم وبيعهم، أو في كل ما يلتقي فيه رجل برجل أو رجل بامرأة.
وإذا كانت الجريدة أو الكتاب تحمل الناس وجهات نظر قد تكون فاسدة أو منحرفة، فإن (القصة – المسرحية) أشد خطراً من الكتاب والصحيفة؛ ذلك أن الكتاب يقرؤه قلة والصحيفة يقرأ كل إنسان منها شيئاً من شئونه، أما القصة والمسرحية فهي تحت أبصار الناس وأسماعهم في كل ساعات اليوم، وخاصة ساعات الراحة والاستجمام والاسترخاء وهي أخطر لحظات الاستهواء.
وهكذا نرى أن التغريب خدمة للاستعمار والصهيونية والشيوعية يعمل على تفويض المجتمع والأسرة، والفرد ذاته وذلك بوضعه في مجموعة من الأفكار المسمومة عن علاقاته بالمجتمع والمرأة وخلق "أسلوب" عدواني من الصراع بين الفرد والفرد، والفرد والجماعة للقضاء على روح الإيمان والأخلاق التي يدعو إليها الدين الحق.(24/7)
وبحيث تخرج هذه المفاهيم الرجل والمرأة من "الحدود" والضوابط والقيم التي رسمها الحق تبارك وتعالى للبشرية من أجل إقامة المجتمع الرباني؛ فهي تهدف أول ما تهدف إلى طرح فكرة الانطلاق الإباحية الواسعة، التي لا تقف عند حد والتي تسيطر فيها الشهوات المادية من مال وشهرة واستعلاء وثراء دون أن يحسب حساب القيم الأخلاقية أو الضوابط الاجتماعية التي تحول دون الاعتداء على حقوق الآخرين، فالمرأة في هذه المفاهيم المطروحة ترى نفسها وقد احتقرت زوجها واستعلت عليه؛ لأنها تعمل وتكسب مثله، وبذلك فليس له عليها رأي أو قوامة، والولد يرى أباه بغيضاً إلى نفسه لأنه يرده إلى طريق الخير ويوجهه في هذه المرحلة الدقيقة التي لا يستطيع فيها أن يتصرف دون خطأ، والرجل يرى نفسه منطلقاً ليكسب من أي سبيل، ولينفق في كل لذة وغواية، دون تقدير أو حساب لمسئولية الزوجية أو الأسرة أو الأبوة، وهكذا تتمثل هذه المفاهيم في صورة حوار وقصص يطرح أمام الأجيال ما يخرجها من دينها وقيمها.
هذه أخطر التحديات
ولا ريب أن هذا الجانب الاجتماعي هو أخطر التحديات التي تفرضها التيارات الوافدة والمؤثرات الأجنبية التي عاشت تعمل في ميدانين اثنين: هما تدمير الأسرة والمجتمع الإسلامي وتدمير النفس الإنسان والعقل الإنسان، هنا بالإلحاد وهناك بالإباحية، وعن طريق أدوات الحضارة الحديثة أمكن إفساد المجتمعات بدفعها إلى طريق الشهوات والأهواء وإعلاء الغرائز والخروج عن دائرة المحرمات والضوابط، ولقد كان للإسلام موقف واضح صريح أمام الجوانب السلبية من الحضارة وهي رفضها وإنكار الاستسلام أو القبول لأسلوب العيش الغربي في مسائل الأسرة والمرأة والخمر والتحلل الخلقي.(24/8)
وأمامنا نتائج التجربة واضحة: فإن المجتمع الغربي حين اندفع خروجاً بالفردية إلى إسقاط حق المجتمع والأسرة والجماعة أو حين اندفع خروجاً بالجماعية إلى إسقاط حق الفرد والذاتية، حيث فعل ذلك في شطره الغربي أو ذلك في شطره الشرقي، فإنما جانب الأصالة والفطرة التي عملت رسالة دين الله الحق المنزل على إعلانها وإقرارها في المجتمعات والحضارات. وبذلك عمت هنالك أزمة العصر وأزمة الإنسان المعاصر الممزق نفسياً والمنحرف وذي الإحساس العميق بالغربة والقلق والغثيان.
ذلك لأن الطبيعة الإنسانية طبيعة جامعة بين مطامع المادة وأشواق الروح، فإذا أعطيت جانباً واحداً على النحو الذي تعطيه الحضارة الغربية اليوم فإنها تحجب الجانب الآخر وتعزل قطاعاً حياً في الإنسان لا يمكن أن يحيا بدونه.
وقديماً عرف الغرب الرهبانية وأعلى شأن الروحية وانعزل عن الحياة وأنكر الأسرة والمرأة والغرائز: غرائز الطعام وغرائز الدنس حتى فسدت الحياة فساداً شديداً، ثم هو في جولته الجديدة هذه ينحرف انحرافاً شديداً نحو المادة وإعلاء غريزة الطعام في الماركسية وغريزة الجنس في الفرويدية مع إسقاط الروحية والجوانب المعنوية إسقاطاً كاملاً.
ومن شأن المسلمين أن يوجهوا هذا الموقف مواجهة واضحة فيقيموا أسلوب عيشهم الاجتماعي الجامع بين الروح والمادة والعقل والقلب، وأن يقفوا من نزوة الجوانب المتصلة بالشهوات والغرائز والخمور والمخدرات موقفاً واضحاً في سبيل حماية كيانهم الفردي والإنساني ووجودهم الإسلامي في إطار تطبيق شريعتهم الإسلامية.
وليذكروا أنهم إنما يقفون في موقف الهدف المصوبة إليه النيران من جميع الجهات وأنهم في رباط دائم إلى يوم القيامة، وأن الأمم تزحف دوماً إلى أرضهم وتغزو وجودهم وكيانهم حتى تسيطر على مقدراتهم وتمتلك إرادتهم، وهم يواجهون هذا الخطر وهذا التحدي منذ ظهرت دعوة الإسلام ولا يزالون.(24/9)
وما يمرون به الآن من صراع مع القوى الصهيونية والماركسية والاستعمارية ليس إلا مرحلة من هذه المراحل تتطلب منهم أن يكونوا على أهبة دائمة ويقظة دائمة وأن يكونوا قادرين على بناء الأجيال على هذه المفاهيم وفطمها عن الشهوات وقبول حياة التضحية والخشونة حتى يكونوا قادرين على الوقوف في وجه الخطر.
وأبرز ما هو مطلوب اليوم هو الاعتصام بأسلوب العيش الإسلامي البعيد عن الترف والتحلل. فالمسلمون يعيشون في مرحلة الخطر، وفي موقف المرابطة الدائمة في وجه الخطر المحدق بهم من كل ناحية.
أما أسلوب العيش الغربي القائم على التحلل والإباحة والترف فإنه سوف يقضي على وجودهم حين تجتاحهم قوى الغزو، فلن يقدروا على الوقوف في وجهها أو حماية بيضتهم.
ولما كانوا أصحاب رسالة ودعوة وعليهم أن يطبقوا شرعتها عليهم، فهم مطالبون بأن يعيشوا حياة الدعاة، حياة الصمود والصبر والخشونة والتجلد، ومن ثم فإن أسلوب القصة والمسرحية ليس أسلوباً أصيلاً وليس منطلقاً صحيحاً لبناء الوجود الإسلامي في المجتمع العربي المعاصر.
وهنا وقفة متريثة حول الأصالة والتبعية:
إن الأخطار والتحديات التي يواجهها الإسلام والعالم الإسلامي كله إنما تنبعث من مصدر واحد هو: مطامع النفوذ الأجنبي في استبقاء السيطرة واستمرار الاستيلاء والحيلولة دون تحرر الإرادة الوطنية والقومية لتحقيق السيادة وبناء الأيديولوجية الأصيلة والمنهج الراسخ المستمد من القيم الأساسية والمنابع الأصيلة والمصادر الذاتي.
إن قضية البقاء الأجنبي في عالم الإسلام تتصل أوثق اتصال بالعمل على إذابة هذه الشعوب في البوتقة الغربية وإخراجها من أصولها وقيمها ومن تراثها وفكرها، ولغاتها وتاريخها وإسلامها إلى التبعية الكاملة.
وعن هذا الطريق يمكن القضاء على -منهج الفكر الإسلامي- القائم على التوحيد والمستمد من القرآن الكريم.(24/10)
ومن هنا يكون أخطر التحديات التي تواجه الإسلام والمسلمين اليوم والتي هي مصدر كل التحديات والأخطار إنما هو -الأصالة والتبعية- وفهمنا لها وموقفنا منها.
وإذا كانت تحديا الغزو الخارجي، وفي مقدمتها الغزو الثقافي قد تعددت في عشرات من القضايا والموضوعات والمفاهيم فإنها جميعاً يمكن أن ترد إلى قضية واحدة كبرى هي اليوم مجال التحدي الصحيح هي قضية الأصالة والتبعية.
فإذا تقرر رأينا فيها بوضوح وصدق أمكن على ضوء ذلك مواجهة كل التحديات والانتصار في كل المواقف والميادين.
وقد ركز النفوذ الاستعماري على هذه القضية بعد نكسة 1967 تركيزاً شديداً واعتبرها في مقدمة أهدافه، فحق علينا أن نلتفت إليها ونجعلها في مقدمة التحديات التي تواجه الإسلام والفكر الإسلامي والثقافة العربية -في هذا العقد الأخير من القرن الرابع عشر وأن الانتصار فيها هو مطلع النور للقرن الخامس عشر قرن انتصار الأصالة وهزيمة التبعية.
إن أخطر ما يواجه المسلمين والعرب أن المفكرين منهم يفكرون من داخل دائرة الفكر الغربي -وهذا هو سر أخطائهم، ومرجعه إلى ذلك التيار الضخم من التغريب الذي سيطر خلال السنوات الخمسية الماضية، فأول أهداف الأصالة هي التحرر من دائرة الفكر الغربي، ونقل التفكير كله إلى دائرة الفكر الإسلامي نفسه بمفاهيمه وقيمه الذاتية، ومزاجه النفسي والاجتماعي، إن لنا نظرية أصيلة كاملة في الاجتماع والنفس والتربية والاقتصاد فلنعرض عليها مواقفنا ولنعرض عليها مختلف ما يرد إلينا من نظرية الفكر الوافد، ولنظر إلى نظريات الفكر الغربي -بشقيه- على أنها نظرات تخص الآخرين استمدوها من بيئاتهم وظروفهم وتحدياتهم وعلينا أن نقف دائماً في ضوء فكرنا.
إن أي نظرية أو مذهب أو قضية يجب أن تعرض على أصول فكرنا العربي الإسلامي، ذلك أن فكرنا الجديد والمتجدد إنما يستمد نموه من جذوره، وهو في نفس الوقت مفتوح على الفكر العالمي والبشري.(24/11)
إن أبرز حاجاتنا في هذه المرحلة هي تحرير العقلية العربية من استبعاد الثقافات الغربية والوثنية.
إن من حقنا أن نراجع مفاهيم الغرب على القيم الأساسية التي نؤمن بها والتي قامت عليها حضارتنا منذ خمسة عشر قرناً متصلة ليس فيها انفصال، ما أشد حاجتنا إلى اليقظة من خطر الاحتواء والإذابة. هذا الخطر الذي نجا منه الجيل الماضي ويجب أن ينجو منه جيلنا أشد بصيرة ويقظة وحرصاً، إن هناك محاولة للانقضاض علينا لإذابتنا في البوتقة الكبرى .. بوتقة الشعوبية العالمية؛ لنفقد ذاتيتنا ومزاجنا الخاص ونصبح تابعين أولياء لثقافات لا تصدر عن مصادرنا.
إن أمتنا لها منهج فكر وفلسفة حياة فعليها أن تعرف ذاتها وأن تؤكد شخصيتها.
والإسلام بالنسبة لنا ليس ديناً فحسب؛ ولكنه أيضاً منهج فكر ونظام مجتمع، فلنواجه الفكر الغربي ومذاهبه مواجهة صريحة في كل قضاياه.
وقد يقال أن هناك التقاء بين الفكر الفرنسي والفكر الألماني والفكر الأمريكي، ولكن من الخطأ أن يدعى الفكر الإسلامي إلى هذا اللقاء، ذلك أن من الواضح أن هذه الثقافات ذات أصول واحدة، أما الفكر الإسلامي فهو نسيج مختلف له طابعه الذاتي، ومن هنا فليس من العسير أن يلتقي الفكر الغربي إلا في أصول عامة تتعلق ببعض الجوانب الإنسانية.
لقد استطاع الفكر الإسلامي في القرن الرابع والخامس أن يحطم قيد الاحتواء الإغريقي وأن يخلص منه، وأن ينتصر عليه، حيث عجزت ثقافات كثيرة عن أن تحتفظ بوجودها في وجه هذا الإعصار الخطير (إعصار الهلينية).
على المثقفين العرب أن يفكروا بلغتهم، وأن يتحركوا من داخلهم، وأن يتجاوزوا سارتر وفرويد وماركس جميعاً.(24/12)
أن أبرز أعمال المفكرين العرب والمسلمين في هذا العصر ومنطلق كفاحهم وغايته، هو -تحرير الفكر الإسلامي من هيمنة الثقافة الغربية والعقلية الوثنية اليونانية والباطنية القديمة، وهي نفس المهمة التي واجهت المسلمين من قبل وانتصر لها ابن حزم والغزالي وابن تيمية والأشعري وابن الجوزي والقاضي ابن العربي.
وذلك هو واجب أعلامنا ومثقفينا، وذلك تساؤلهم:
هل من حق الأمم أن تقبل كل ما يعرض عليها، وما هو مصير القيم الأساسية، هل هؤلاء المفكرون مبررون أم مصلحون، هل هم هداة أم نقادون في تيار كبير يريد أن يحتوي الفكر الإسلامي القائم على التوحيد المستمد من القرآن والذي يختلف عن الفكر البشري كله.
وإذا كان العالم اليوم تغزوه قوة شريرة هي -الصهيونية الماسونية العالمية- تريد تدميره فهل نقبل كل ما يقدم لنا. إن على مثقفينا مسئولية ضخمة هي –اليقظة- في مواجهة ما يقرأ، فلا يقبل كل ما يعرض عليه، وليجعل له مقياساً صادقاً لا يخيب ونافذاً لا يفل وصالحاً لا تفسده عوادي التحول من الأزمان أو التغير في البيئات، ذلك هو –القرآن- هذا النص الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والذي قاوم كل محاولة لتحريفه، وعلى شبابنا أن يذكر أن كل ما يقال لا يؤخذ قضية مسلماً بها، وأن كل قول بعده يؤخذ منه ويرد عليه.
فالقرآن وحده هو الحق وليس بعده غير قول الرسول الصحيح فهو المعصوم بإذن ربه، وما بعد ذلك يعرض على القرآن ويقبل في ضوئه أو يرد.
كان منطلق اليقظة العربية الإسلامية يستمد مفهومه في فترة ما من معادلة تقول بالربط بين القديم والجديد، والماضي والحاضر، والشرق والغرب.
وكان هذا المنطلق، يمثل خطوة متعددة في طريق اليقظة بالنسبة للمفهوم السائد إذ ذاك والقائل بالقديم وحده أو الجديد كله.(24/13)
ولكن نظرية التعادل والتجمع بين القديم والجديد لم تلبث أن عجزت عن أن تحقق شيئاً وكانت نقطة الضعف فيها هي غياب القاعدة الأساسية التي يقوم عليها البناء. هذا فضلاً عن أن مرحلة النقل والاقتباس والترجمة والاستعارة قد مضى بها الزمن، وانتقل الفكر العربي الإسلامي في ظل التحديات التي واجهته بعد النكبة 1948 والنكسة 1967 إلى آفاق جديدة قوامها –بلوغ الرشد الفكري.
ومن هنا فقد كانت الدعوة إلى -البناء على الأساس- هي المنطلق الحقيقي لمواجهة الوافد وفرزه ومراجعته ونقده، هذه القاعدة التي يجب إقرارها أساساً. ثم استئناف حركة الربط بين القديم والجديد والماضي والحاضر والشرق والغرب في ضوئها.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي على مر العصور متفتحاً على مختلف الثقافات والأمم؛ فقد كان ملازماً ذلك على طول هذا التاريخ قيام قاعدة أساسية ثابتة صامدة راسخة، هي التي تحمي الفكر والأمة من الذوبان والتحلل والتميع والانهيار.
ولما كانت صيحة الغزو الثقافي قد واجهت الفكر الإسلامي منذ اليوم الأول حين حاول عبد الله بن سبأ إخراجه من قيمه ومفاهيمه الأساسية، وتابعه على الطريق عبد الله بن المقفع ومن جاءوا بعده من الباطنية والشعوبية، وفي مقدمتهم –إخوان الصفا- فقد كان إقراره هذه القاعدة، قاعدة الأساس هي صمام الأمن في انطلاق الفكر الإسلامي وتطلعه إلى التطور والحركة.
ولقد عملت دعوة التغريب منذ اليوم الأول لتطويق ما عجزت عنه الحركة القديمة، واصطنعت نفس شبهاتها وإن كانت تحمل من الأساليب والأدوات ما هو أشد نفاذاً وأقوى وأعنف في سبيل زلزلة قوائم هذا الفكر وقواعده، رغبة في تذويبه في أتون الفكر الغربي، أو احتوائه على الأقل ودفعه إلى طريقة التبعية والعبودية للفكر الغربي.(24/14)
ومن هنا فإن –الأصالة- لم تعد في الحق عاملاً موازياً لعامل –الجديد- ليقوم الصراع بينها، ولكنها: هي قاعدة الأساس في البناء، ثم يقوم الاختلاف فيما فوقها حول التجديد أو المحافظة وحول الترجمة أو البعث، وحول مختلف القضايا التي تُثار من أجل تحرير الفكر العربي الإسلامي وتطويره ودفعه إلى الأمام، وإعطاء طبيعة الحركة لمواجهة المعاصرة والحدثية والتجدد.
ومن الحق أن الفكر الإسلامي له قوانينه الطبيعية التي تنظم له أمر تطوره وأمر حركته وأنها من قوانين أصيلة صحيحة مستمدة من جوهره، وقد كانت دائماً حاضرة أم تتخلف، وكانت قادرة دوماً على أن تمده بالتجديد والقدرة على الحركة والمواءمة مع الصور والحضارات والبيئات، دون أن يكون في حاجة إلى وصاية من فكر آخر، أو ثقافات أخرى لها أساليبها وقوانينها في التطور والحركة.
ولما كان الفكر العربي الإسلامي عميق الجذور، وبعيد الأعماق في التاريخ، وقد أمضى اليوم خمسة عشر قرناً حياً متألقاً متفاعلاً، مع الأزمنة والبيئات وقادراً على المواءمة والاستجابة فإنه ليس في حاجة لأن تصطنع له مناهج أو أساليب تستحدث من الثقافات الأخرى على النحو الذي يحاوله جاك بيرك أو مَن تابعوه دون إلقاء نظرة أوسع على الفكر الإسلامي في رحابته وأصالته وسعة آفاقه وعمق تراثه وبراعة مضامينه. وقاعدة الأساس في الفكر الإسلامي بسيطة سمحة غير معقدة وهي لا تخرج عن كلمة واحدة هي التوحيد، فلكل ما يصدم التوحيد يتعارض مع الفكر الإسلامي ويخالف مصادره الأساسية وهي الإسلام والقرآن وأن مراجعة يسيرة للتحديات والشبهات والأخطار التي تحشد لمواجهته وتحديه لا تخرج عن تراث وثني يوناني معارض كل المعارضة لطابع التوحيد، فأساس البناء هو التوحيد وهو مفرق الحق والباطل والحكم فيما يقبل ويرد.(24/15)
فالتوحيد هو طابع الذاتية العربية الإسلامية وقوام المزاج النفسي والاجتماعي، فالأصالة هي التوحيد، والوثنية هي التبعية .. وكل المفاهيم والفلسفات والمناهج والنظريات التي ردها الفكر العربي الإسلامي في جولة الغزو الثقافي الأولى والقائمة اليوم، هي مفاهيم الوثنية المتمثلة في بعض مفاهيم التفسير المادي للتاريخ، والوجودية والتفسيرات النفسية والاجتماعية والتربوية التي تقوم على أساس إنكار الدين وشجب الأخلاق وإنكار المسئولية الفردية والبعث والجزاء.
فالفكر الإسلامي يقيم دعائمه التي تصدر عنها ثقافاته ومفاهيمه وقيمه على أساس الترابط بين العمل والمسئولية، وبين الروح والمادة، والعقل والقلب، والدنيا والآخرة. فإذا انفصل هذا الترابطـ، سقط هذا الفكر في الوثنية وواجه ذلك الخطر الخطير الذي يدمر الفكر العربي والنفس العربية والحضارة العربية ويوقعها في أشد أزماتها خطراً.
والفكر الإسلامي يقيم قاعدته على أساس التوحيد والنبوة والإيمان بالغيب والبعث والجزاء ولا يناقض نفسه في هذه الترابط الأكبر بين علمي الغيب والشهادة، وبين الدنيا والآخرة، وبين المسئولية الفردية والحساب الأخروي.
وتلك عقدة العقد في -الأصالة ومقومها الأساسي- فإذا تقررت على هذا النحو وهي مفرزة فعلاً لا سبيل إلى تجاوزها أمكن إقامة التوازن بين الجديد والقديم والماضي والحاضر والشرق والغرب.
أنور الجندي(24/16)
سلسلة على طريق الأصالة
25
لن نقبل بمفهوم الغرب
للفن والحضارة
###3### بسم الله الرحمن الرحيم
لن نقبل بمفهوم الغرب للفن والحضارة
[قال لينين: إن المسارح بديل الكنائس، وقد تحول هذا المعنى عند المستعمرين فحاولوا أن يجعلوا المسرح بديلا للمسجد].
لقد أصبح من الضروري – اليوم – أن نواجه هذه القضية مواجهة صريحة صادقة، فنحن من خلال مفهوم الإسلام لا يمكن أن نقبل مفهوم الغرب للفن والحضارة والجنس والمرأة والكشف وعلاقات الأسر وتبادل الزوجات وصديق العائلة وما إلى ذلك من مفاهيم أقام الغرب عليها مفهومه للفن والحضارة.
فللمسلمين مفهوم واضح للعفة والعرض يستمدونه من مقررات العقيدة التي تجعل الأخلاق جزءًا منها وتقيمها على أساس الثوابت وتقرر بها مجتمعًا يقوم أساسًا على حماية وجوده الذاتي ويحفظ علاقاته العامة.
ونحن نعلم أن هناك محاولات دائبة ومؤامرت واسعة لفتح ###4### الأبواب بالإغراء والخداع أمام أبنائنا وبناتنا للانخراط في سلك هذه المؤامرة الواسعة التي تتركز الآن حول الجماعة التي تحمل لواء المسرح والرقص والغناء، والتي تعمل على إغراء الأجيال الجديدة على اقتحام أبواب الفساد والإباحة عن طريق الإعلانات المغرية والرحلات التي تعبر البحر إلى الشاطئ الآخر بهدف أن تسقط هذه العناصر الغضة من الفتيات والفتية بالإغراء ووسائل الشهرة في أيدي رجال الفن والمسرح بالعرى والجرأة وبذاءة القول والاهتزاز حتى يكونوا نجومًا جددًا، وكم تكشفت من قصص هؤلاء من مفارقات وتجاوزات وتفريط في كثير من القيم في سبيل النجاح والقبول.(25/1)
ونحن نعرف أن من وراء هذه المؤامرة كلها قوى عاتية تعمل على هدم مقومات الخلق والدين والعرض في الأمم وكسب أكبر قدر من الشباب المفرغ الطلعة الطامح إلى مظاهر الحرية وبريق المادة وإغراء الشهرة من مجموعة الشباب الذي فشل في مجال الدرس والعلم والكد الصحيح للحصول على الدرجة العلمية، فإذا بهؤلاء يسبقون الأصلاء وتلمع أسمائهم ويحصلون على الشهرة والغنى والظهور، فتنهدم بذلك المقاييس الصحيحة وترجح كفة أهل الهوى والأهواء حتى انقلبت الموازين فأصبح هذا المسرب أكثر عطاء ماديًا من ميادين العلم والجد.
ولقد كانت هناك كلمات تقال خداعًا وتضليلا وكذبًا وبهتانًا، ###5### وما تزال تتردد حتى صدقها الناس، تلك هي كلمات الفن وقداسة الفن وكرامة الفن، وما كانت هذه الألاعيب في الحقيقة فنًا بمفهوم العلم الصحيح ولكن كل هذا الذي يجري لا يزيد عن أن (عملية إضحاك وخيانة تافهة، تستخدم فيها كل وسائل العبث والانحلال مع العبارات الرديئة والحركات المخزية، في سبيل إضحاك الناس على نحو ليست له ضوابط أو قيم أو أوضاع محددة، وهي بذلك تتعارض مع أصول (فن الترويح) الحقيقي الذي يقوم أساسًا على السماحة والبراءة والنقاء والذي يدخل السرور بحق على القلوب دون أن يفسد أي قيمة من قيم المجتمع، أو يهدم أي ركن من أركان الأخلاق.(25/2)
والذي نعرفه أن هذه الوسائل من الإضحاك قد بلغت حدًا بالغ الإسفاف والسفه والإفساد من حيث عرض إيماءات لا يقبل الرجل الشريف أن يسمعها أو يراها أهله أو بناته ويخشى منها على الخلق الصحيح، وأن الكلمات التي تتردد والحوار الذي يقدم في هذه المسلسلات قد وصل إلى أدنى ما يمكن أن يتداوله الصعاليك والسفلة في بعض الحواري، فإذا أضفنا إلى هذا ما عرف وكشف من سير هؤلاء الذين يقدمون هذا العبث وما يجري في حياتهم الخاصة وهو أمر معروف ومكشوف وجدنا إننا نضع أبنائنا وبناتنا في جو رديء تمامًا ونجد أن وضع هؤلاء الراقصين والمغنين والممثلين – كما تجادل الصحافة – في مكان النماذج العليا والمثل الرفيعة جناية كبرى، وأخطر من ذلك أن تبدد كلماتهم وإجاباتهم بمثابة الحكمة البالغة والمثل الذي ###6### يتردد مما يضعف أمام بعض الشباب المفرغ من مفاهيم القيم الإسلامية وقليلي التجربة والعابثين والفاشلين، فإذا عرفنا هذا كله عرفنا إلى أي حد بلغ مدى الخطر الذي يتهدد الأجيال الجديدة في هذه الأمة التي حذرها دينها من الوقوع في الشباك كالفراش المتهافت على النار.
وأقل ما توحي به الصورة أن هذا العبث في العلاقات بين الرجل والمرأة وهذا الأسلوب النازل في الحوار هو من الأمور المشروعة التي يمكن أن ترددها كل الألسنة، فضلا عن أن عملية الترويح والإضحاك الذي تقوم بها هذه القوى هي عملية إضحاك كاذبة وخادعة ومفتعلة، لأنه أشبه بمخدر يستغرق فيه المرء ساعة أو بعض ساعة ثم لا يلبث أن يعود إلى واقعه.
أما مفهوم الترويح الإسلامي وليس الترفيه – فإنه يستمد مقوماته من عملية قبول ورضى بالواقع واستشراف الفرح في المستقبل وأن الغمرات تأتي ثم ينجلين وأن الفرح بعد الشدة، وتلك مفاهيم تدخل السرور والتفاؤل الحقيقي على النفوس.(25/3)
والعجيب أن هذه الدائرة المظلمة تحاول أن تحاصر المجتمع كله فلا يقتصر على المسرح أو التلفاز، وإنما يمتد إلى الصحافة والقصة والترجمة ويقدم في هذا المجال ما يسمى بالروايات العالمية الحافلة بالسموم والمرتبطة بالجنس والجريمة، في وقت واحد على نحو تحس ###7### معه أن هناك مؤامرة مبيتة حيث توصف الأعضاء التناسلية في جرأة بالغة – ويستعلن في مكر ما يدور في غرف النوم مما يسمى بأدب الفراش، وليس هذا بغريب على الأمم الأوروبية التي قد تجده في حواشي بعض الكتب المقدسة ولكنه غريب علينا نحن المسلمين وتتقزز له نفوسنا، وقد سجل القرآن الكريم ظهور الفساد في الأرض (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) وكيف أن هناك قادة لهذا التيار يدعون الناس إليه وهم موجودون في كل عصر (ويريد الذين يبتغون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيمًا).
إن هناك مفارقة واضحة بين طابع الأمم الغربية التي ورثت هذا التراث المشحون بالإثم والفاحشة والكشف وقصص الجنس والجرعة والاندفاع نحو اللذات والشهوات، ليس فقط في أساطير الإغريق المقترعة بل بما حفلت به الكتب المقدسة في سفري إستير وحزقيال بما حوت من الحديث عن اللواط والإباحة في الأرض والفن وزنا المحرم على حد تعبير المبشر الإسلامي ديدات حين كشف ذلك في محاورته المشهورة.
إننا نحن المسلمون لا نقر مفهوم الحضارة الغربية في الفن الإباحي الفاجر الماحق الذي تختلط فيه الرقص بالغناء بالخمر بالاختلاط الفاحش غير المهذب، وحين نقول هذا بكل صراحة نختلف مع الغرب ومفاهيمه وقيمه التي يريدون أن يفرضونها علينا، فالحضارة ###8### لدينا لها مفهوم سمح كريم راق عفيف بعيد عن كل البعد عن الفسق والفاحشة، قائم على الخلق والكرامة وحماية العرض.(25/4)
إن مفهوم الترويح يجب أن يرتفع فوق الفسق والفجور والدعارة التي تفرضها هذه المؤسسات القائمة على استباحة الحرمات والمقدسات ولابد أن يكون واضحًا أمامنا أن الإسلام قد وضع حدودًا وضوابط وحجب صنائع، وحرم على المسلم العمل بها أو قبولها في مجتمعه، ووصف الذين يعملون فيها بأنهم يقبلون الدنية عن دينهم وأن بعضهم يمكن أن يوصف بأنه (ديوث) ويجب أن نبدأ ذلك من المدرسة فلا يفرض الرقص والغناء والتعري على طالبات المدارس وهن غير راغبات ولا توجه المسابقات الغربية لما يسمى الوجود الجديد لخطب الفتيات البرئيات من الأسر الآمنة الغافلة لتسليمها للعتاة والظلمة الذي يفرضون على كل من يعمل أن تسلم جسدها ونفسها كاملة لسيدها وقديسها المدرب والمخرج.
ولقد كشفت الأحداث ثغرة في جدار هذا المعقل المشيد، ومهما تكن عند امرئ من خلفية وإن خالها تخفى على الناس تعلم، وهذا سر انزعاجهم وثرثرتهم حول ما يسمونه الفن والحضارة، إنهم يريدون حماية هذا المورد بكل ما يملكون لأنهم يعلمون أنه المنطلق الوحيد لتحقيق آمالهم في هدم مقومات هذه الأمة وتدمير قيمها، إن هذا المجال الذي يسمى بالفن هو المرفأ الأول والأخير لتحقيق ###9### غايات الماسونية وبروتوكولات صهيون وعمليات التغريب والغزو الثقافي والسيطرة على العقل المسلم والوجدان المسلم واحتوائها وتفريقها من الدين والإيمان واليقين والخلق وملئهما بالشكوك والإباحة والرجس والفسق، هذا هو سر فزعهم الشديد وحملتهم الضارية، وتكاتفهم في الدفاع عما سموه زورًا وبطلانًا (قدسية الفن) وهي قدسية الإباحة والفساد في الحقيقة.
وهناك في مجال الصحافة من يحمي هذا التيار ويدافع عنه إيمانًا بأن هذه الأمة لن تغرب إلا من هذا الطريق، ولكن كل الدلائل تثبت أن هذا الصرح على وشك أن ينهار لأنه قام على باطل:
(أفمن أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم).
###10###
تقبل الإسلام لكل معطيات الحياة(25/5)
هي قاعدة أساسية: نعم ولكن شروط وضوابط
القاعدة الإسلامية الأصيلة هو تقبل الإسلام لكل معطيات الحياة التي تحقق وجود الإنسان لا يرفض منها شيئًا ولكنه يصوغها في مفهوم مستقل متحرر عن طابعها عمد الأمم الأخرى والفلسفات المختلفة، فليس في الإسلام بسماحته وسعة آفاقه رفض لمعطيات الحياة ولكنه من الناحية الأخرى يضع ضوابط وحدودًا لخطوات التعامل وأساليب التنازل.
ومن هنا فليس الإسلام في حاجة كبيرة إلى محاولات من كتبوا ليقنعوا الناس بأن الإسلام يقر مفهوم الترويح عن طريق الفنون ووسائل إدخال البهجة على النفوس فذلك أمر مسلم به تسليمًا كاملا وحقيقيًا في شريعة الإسلام ولكن وجه الاختلاف هو في الأسلوب الذي تعدم به هذه الفنون ووسائل أدائها، وكيف يمكن أن تكون مؤازرة للفطرة لا مضادة لها، وأن تكون متقبلة من وجهة نظر الدين أساسًا.
إن هذه الصورة التي تقدم بها الفنون في عصرنا وفي مجتمعنا لا يمكن أن تتطابق مع الصورة التي يضرب بها المثل عن عهد رسول الله ###11### أو عهد الصحابة الأكرمين، وهي ليست تطورًا طبيعيًا لفنون الإسلام التي كانت في مراحل تطورها حريصة على ألا تخرج عن جوهر الإسلام ولا تصادم حدوده وضوابطه.(25/6)
ويرجع ذلك إلى أن النفوذ الأجنبي فرض أسلوبه وطابعه ونظامه كله وخاصة في مجال الفنون وما يتعلق بالعواطف والوجدانات من منطلق غربي عصري واضح هو منطلق الكشف عن الشهوات والإباحة والحرية المطلقة في الانطلاق نحو الأهواء وإعطاء الغرائز حريتها في الحركة دون أي حدود، وقد نتج هذا من منطلق الفلسفة المادية والجنسية التي ألغت مفهوم الضوابط الأخلاقية والحدود المتصلة بالقيم وأطلقت الوحش في الإنسان، حين ادعت نسبية الأخلاق وربطتها باختلاف المجتمعات والعصور، في حين أن الأخلاق قيم ثوابت متصلة بالعقيدة والدين لا تخضع لقانون المتغيرات ومن منطلق مفهوم فرويد للجنس ودارون للحيوان ودوركايم للاجتماع، تشكل هذا الفن الغربي الذي غزا بلادنا غزوًا شديدًا وسيطر على فنوننا الأصيلة السمحة فكان منها ذلك (التخت) الضخم الذي تشكل من مائة عازف بعشرات الآلات الموسيقية وتلك الأغاني الراقصة المتمايلة، وما تثير من الشهوات، فكيف يمكن أن يكون هذا أمرًا يدافع عنه أو يصور أنه مما سمح به الإسلام من الفنون.
إننا نعرف من قراءاتنا في تاريخ الفنون في الغرب وتاريخ الموسيقى ###12### بالذات أنه فن كنسي بدأ أول أمره مع نواقيس كنائس الغرب، وكان من معطيات إغراء الناس على العبادة وما كان من شتراوس أو فاجنر أو بتهوفن إلا كنائسي الموسيقى أساسًا، ثم تحولوا قليلا مع الاحتفاظ بذلك الطابع الصاخب الذي يهز النفوس.(25/7)
ولقد نجد أن هناك خلافًا أساسيًا وجذريًا بين الذات الإسلامية والذات الغربية في مواجهة هذه الفنون، فالمسلمون يتناولون هذه الأمور في بساطة ويسر ويشكلونها في وجدان المؤمن وفي الحفاظ على العقيدة وفي حدود ما قرره الإسلام من حماية لوجود المسلم وعقله من الإغراق في كل ما يثير الشهوات، بينما تتشكل كل الفنون في الغرب حتى الفنون المتصلة بالعبادة في جو الصخب والأضواء الصارخة والشموع المرتفعة والبخور والعطور والمبالغة الشديدة التي يراد بها كسب عواطف الناس ومشاعرهم.
وهذا خلاف جذري في مفاهيم المسلم ووجدانه فهو يعاف الاستسلام لهذه الأجواء ويصد عنها بفطرته البسيطة السليمة الحريصة عن مخافة الله تبارك وتعالى فلا شك أن إقرار المسلم لهذه الظاهرة الخطيرة المصاحبة لحفلات الموسيقى من صخب ومن إسراف ومن آثاره كل هذا لا يتفق مع مفهوم الإسلام للفن أو للموسيقى.
ولعل أخطر ما يتصل بهذا مما يراد أن يفرض على المجتمع المسلم ###13### في هذا العصر ظاهرة الرقص التي تجري وسائل كثيرة ومحاولات متعددة لفرضه على الفتاة المسلمة سواء في المدرسة أو في البيت أو من خلال التلفزيون والإذاعة، وتلك عملية خطيرة مرسومة يراد بها إزالة أسباب الثبات والإيمان من النفوس وزعزعته فإذا أضفنا إليها محاولات تدريب الفتيات على الرياضة نصف عاريات في حلقات الرياضة المدرسية والمقررة عرفنا إلى أي مدى ستصل بالفتاة المسلمة هذه المحاولة من أخطار.(25/8)
إن الذين يريد أن يفرضوا على الأمة الإسلامية قيمًا ومقدرات وأخلاق غير قيمها مسرفون في التفاؤل بأنهم قادرون على تغريب الأمة ونقلها إلى أوضاع تتفق مع رغبات الذين يخططون لاحتواء المسلمين وصهرهم في بوتقة الحضارة المعاصرة، وهي حضارة قامت على غير قاعدتي الربانية والأخلاق واستعلت بعلمها مغرورة تظن أنها قادرة على التصرف من غير توجيه الدين، ولذلك فقد أطلقت كلمة (وصاية) على أحكام الدين وحدوده وضوابطه التي وضعها الحق تبارك وتعالى لحماية المجتمعات من الانهيار والفساد، ونحن نؤمن بأن البشرية محتاجة أشد الحاجة إلى أن تسلم وجهها لله تبارك وتعالى ولا تستعلي عن رقابته.
إن الحضارة المعاصرة قد قصرت في هذا المجال وأطلقت لنفسها عنان الشهوات واللذات والمطامع تحت عنوان كاذب مضلل هو ###14### (الحرية الفردية) ولا ريب أن الحرية أمر معترف به ولكنها ككل قيمة من قيم المجتمعات والحضارة لها ضوابطها ووسائل حماية الفرد من اغتيال الآخرين لحريته.(25/9)
ومن هنا فنحن نقف أمام دعاوي الانطلاق التي تتحصن بعبارة رديئة مموجة هي مقولة (الوصاية) التي يرددها أولئك الذين يتجاوزون الحدود التي وصفها الله تبارك وتعالى سواء فيما ينشر من قصص عالمية مسرفة في الفاحشة، أو من كتب تفرض على الطلاب أو من أفلام ومسرحيات وأغان على النحو الذي يشتكي منه الأدباء ويرون فيه خطرًا على أبنائهم وبناتهم من مسلسلات مسرفة في الإباحة فإذا كتب أو تكلم ناصح أمين يدعو إلى تصحيح الأوضاع كانت الإجابة في صلف وغباء (لا تقبل وصاية من أحد) والحقيقة أنها ليست وصاية ولكنها مشاركة وتوجيه وإشارة إلى حق الله علينا جميعًا في حماية مجتمعنا وأبنائنا وبناتنا من غائلة هذا الغزو الشديد الخطر الذي يتهددنا من قبل ما يسمى دولة الفن غناء ورقصًا وموسيقى ومسرحيات نحن نعرف المخططات التي تقودها والغايات التي تسوقها والأهداف التي ترمي وراءها إلى تفريغ هذه الأجيال الجديدة واحتوائها بحيث تهدم كل مقومات العزيمة والإيمان والثبات والاخشبشان والقدرة على إعداد النفس المسلمة لتكون قادرة على حماية وجودها فلا تنهار أمام الأخطار المحاصرة للأمة الإسلامية اليوم والتي يتطلب منها شيئًا آخر غير ما نرى ونسمع، إننا في حاجة ###15### إلى إعداد هذا الشباب المسلم ليكون ردءًا لهذه الأمة من كل مؤامرات الغزو، فهذه الأمة تريد أن تعيش على طريق الله تبارك وتعالى وأن تتخلق بأخلاق الإيمان والتقوى، وأن الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليست وصاية من أحد ولكنها نصيحة الإخاء المفروضة على كل منا إزاء الآخر وإزاء المجتمع حتى لا يأخذنا الله تبارك وتعالى بعذاب من عنده، عذاب الذين قصروا في النصح لأمتهم وإخوانهم.(25/10)
إن هناك فارقًا واسعًا وبونًا شاسعًا بين مفهوم الترويح الإسلامي وبين هذا الصخب الهادر غير المنضبط، فالإسلام يدعو إلى ضبط الغرائز لا إطلاقها وتبريد الشهوات لا تسخينها، والتوسط في أمور الترويح والمتاع لا الإسراف وحماية الوجود الإنساني والكيان البشري من التصدع والانهيار وأن يظل المسلم دائمًا واعيًا صاحيًا لا يشغل عن حقيقة نفسه ولا عن عباداته وواجباته، ونحن نقبل كل أدوات الحضارة وصناعاتها، ولكن لسنا مكلفين بأن نقبل مضامين الغرب في أي شيء، سواء في الفن أو القيم، ولا يستطيع أحد أن يفرض علينا المضامين أو الكلمات أو الألحان التي يستعملها الغرب والتي لا تتفق مع مزاجنا وطابعنا، نعم نحن لسنا ضد الفن ولكنا ضد الفحش، والفن طاقة توظف للخير وقد توظف للشر وحب الوظيفة والهدف يكون التحليل والتحريم، ولذلك يجب التفرقة بين القيم في كل مجتمع عن الآخر، ولسنا مطالبين بأن ننقل الأوضاع نقلا ###16### ولكن لأننا أمة لها تاريخها وقيمها ودينها فإن لها مفهومًا للموسيقى، ولنا أيضًا رأي في كيفية تقديم هذا الفن، فالإسلام حرم الأصوات المخنثة والألحان المائعة والكلمات المبتذلة، وحرم ذلك الجو المشحون بالسموم والمخدرات الذي يغشى دائمًا تلك الأحفال الشهيرة وعندما نقول ذلك فلسنا ندعو إلى وصاية أو هي محاكم التفتيش أو أن هذا منطلق للكآبة أو الظلامة أو غيرها، بل نحن ندعو إلى انطلاق النفس إلى البشر والسماحة من منطلق داخلي عميق الأثر في إقامة الترويح.(25/11)
إن جو الفن في مصر في حاجة إلى عمل كبير لتحريره من ظروف خطيرة بدأت في السنوات الأخيرة تكشف عن نفسها وتتصل بتجارة الجنس والمخدرات والسموم البيضاء وما كشف عنها هو القليل وما خفي كان أعظم، وما يمكن أن تكون هذه الأوكار مصدرًا للخير أو أسوة حسنة أو نموذجًا يقدم لأبنائنا وبناتنا، كل ذلك في حاجة إلى إعادة نظر حتى يمكن إعادة المجتمع حقيقة لاستقبال إلى عصر جديد من الإيمان بالله واليقين لقيمه وأخلاقياته الرفيعة حتى يكشف الله عنا الغمة ويزيل سحب الظلام التي تحيط بنا، وعلينا أن نعلن عودتنا إلى ربنا إليك نعود إلى منهجك الأصيل فليس لها من دون الله كاشفة.
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(25/12)
(8)
نظريات وافدة كَشَفَ الفكر الإسلامي زَيفها
في حوالي القرن الأخير (1870 تقريباً إلى) اليوم ألقى الفكر الإسلامي والثقافة العربية نظريات ومذاهب وافدة كثيرة، في مختلف مجالات اللغة والدين والاجتماع والحضارة التربية والتراث.
وهي نظريات فرضت في الأغلب فرضاً تحت ضغط ظروف الغزو الاستعماري والاحتلال البريطاني والفرنسي للعالم الإسلامي. وقد ألقيت هذه النظريات من خلال الإرساليات ومعاهدها وفروعها، وكان مجال الصحافة والتعليم والثقافة أبرز ميادينها.
وقد غلف الدعاة إلى هذه النظريات دعوتهم بحماسة الرغبة في النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر، والخروج من الجمود، وكسر قيود التقليد ومقاومة الرجعية والتماس مناهج الغرب الناهض في خطوه، لمساواته ومحاذاته.
وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة واضحة، هي أن أمتنا وأوطاننا ليست من العرب ولا متصلة بأفريقيا وآسيا ولا تربطها بالصحراء العربية رابطة، ولكنها متصلة باليونان قديماً، وبالغرب حديثاً.
وقد امتدت هذه النظريات إلى العقل فقالت أن العقل المصري والسوري والمغربي هو عقل أوروبي، وأن الفكر الإسلامي هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات خارجة عن أدنى حدود العلم والمنطق والتدقيق. وكلها تهدف إلى عزل كل وطن عربي عن العرب كأمة وعرق من ناحية وعن الإسلام كفكر وثقافة من ناحية أخرى.
وقد صدرت مؤلفات تحمل مثل هذه الآراء أريد بها إحداث ضجة كبرى، كعامل هام في سبيل ترديد هذه النظريات الوافدة وإعادة غرسها في العقول والنفوس. وقد جرت المساجلات ساخنة ومثيرة، حول هذه الأفكار ثم انتقلت هذه القضايا من أعمدة الصحف إلى منابر الجماعات إلى مجال البرلمان، وكان نفوذ الاستعمار وقواه تعمل في مجال البرامج التعليمية والمناهج الجامعية والصحف الكبرى والأسماء اللامعة من أجل إقرار هذه الآراء.(26/1)
غير أن هذه النظريات لم تلبث طويلاً حتى تحطمت، وما عتمت هذه التيارات أن قضي عليها، وفشلت في تحقيق الهدف منها، ذلك أن ذاتية الفكر العربي الإسلامي المستمدة من قيمه ومقوماته الأصيلة عميقة الجذور قد رفضت هذه المحاولات التغريبية لإخراج هذه الأمة من جلدها وإذابتها في الفكر الأممي الشعوبي، غير أن الأمر لم يتوقف بالتغريب عند حد الهزيمة فإنه سرعان ما جدد هذه الدعوات وألبسها صورة جديدة وقدمها مرة أخرى وما تزال رحى المعركة دائرة بين الزيف والصحيح، وبين الأصالة والتبعية.
في مقدمة هذه النظريات تكريم أدب الإغريق وإعلاء أدب اليونان على الأدب العربي، ودعم شأن الإقليميات الضيقة: كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها من الدعوات، والنهي على العرب ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم، وإثارة الخلاف ومحاولة تمزيق الرابطة العضوية بين العروبة والإسلام، ومعارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها، ومقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العامية، هذا إلى المحاولات الضخمة المبذولة من أجل دحر الحقيقة الواضحة الكبرى وهي أن الإسلام دين ونظام اجتماعي معاً، هذا فضلاً عن محاولة توجيه النقد إلى القرآن ووصفه بأنه كتاب أوربي أو كتاب وضعه النبي محمد وكذلك إلى إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار عطائها للحضارة العربية، والدعوة إلى ما يسمى عالمية الثقافة، وهو تذويب قيم الثقافة العربية في أتون الفكر الغربي مع الفروق الواضحة بينهما. ومحاولة توسيد قيم وافدة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي، وذلك إلى مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.(26/2)
كما عهدت حركة التغريب إلى إذاعة نظريات فرويد تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي، ومن أبرز هذه المخططات العمل على انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله، فضلاً عن طرح مفاهيم غربية في البطولة نفسها تستمد طابعها من مفهوم المسيحية الغربية القائم على ما يسمونه الخلاص، وكذلك إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد من خلال مفاهيم الفلسفة المادية، هذا بالإضافة إلى محاولة إعلاء اتجاه التعبير المادي في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً، ووجد النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة وأثيرت مساجلات ومعارك أدبية متعددة.
غير أن هذه النظريات لم تلبث في ضوء الحقيقية أن سقطت وتحطمت.
حاولت هذه الكتابات أن تنقل وجهات النظر التغريبية إلى مجال الفكر العربي الإسلامي في مختلف مفاهيمه واعتمدت على وجهات نظر المبشرين والمستشرقين وهي وجهات نظر خطيرة مغرضة مصاغة بعناية وحذر يراد بها إغراء القارئ العربي -وخاصة ذلك الذي لم يعرف كثيراً عن الفكر الإسلامي- حتى يتقبلها بسرعة، وقد استخدم لها باحثون ألقيت إليهم أضواء واسعة من الشهرة والمكانة.
وقد اتصلت هذه الكتابات بالتاريخ والأدب والاجتماع واللغة العربية، وحاولت أن يتجرد من كل صلة لهذه العلوم بالإسلام في محاولة للتعمية والتضليل.
ولما كان الفكر الإسلامي يمثل وحدة كاملة، وكانت هذه العلوم أجزاء منه يتكامل بعضها مع البعض الآخر، دون أن ينفصل أحدها أو يشكل وحدة مستقلة، فقد رأى دعاة التغريب في مكر بالغ، أن يبتعدوا عن (الإسلام) كدين بصورة واضحة، وأن يجعلوا ضرباتهم موجهة إلى هذه الجوانب حتى يكونوا في مأمن من حملات العلماء، وحتى يتحقق لهم بهدم هذه النواحي إصابة الإسلام في قلبه وأعماقه.(26/3)
فهذا كتاب يريد أن يصل صاحبه في بحث له طابع علمي براق إلى أن الخلاقة ليست أصلاً من أصول الإسلام وأن نظام الحكم كان حراً طليقاً، إلى هنا والمسألة في نظر الباحث غير المتعمق -يسيرة وربما مقبولة، ولكن هناك هدف المحق وراء ذلك، ذلك هو الإدعاء بأن الإسلام كان ديناً روحياً خالصاً وأن شئون السياسة والمجتمع والحكم لم تكن منه جزءاً لا يتجزأ، وبذلك أحدث الكتاب ثلمة خطيرة في أدق مقومات الإسلام الأساسية التي تفرق بينه وبين الأديان القائمة على العقائد وحدها دون الشريعة، وعلى اللاهوت وحده دون نظام المجتمع، ولكي نعرف مدى خطر هذا الرأي أن تلقفه المستشرقون ومضوا يصرخون بأن في الإسلام مذهبين وليس مذهب واحد أحدهما يقول بأن الإسلام دين وليس له دولة، وحيث أن مستشرقاً لم يجرؤ على هذا الإدعاء قبل أن يصدر مثل هذا الكتاب، وهذا الكتاب ما يزال في الأيدي، وهناك أكثر من بحث للرد عليه ودحض مزاعمه، ولقد كان علينا أن نعلم ما هي خفايا هذا البحث والغرض منه هنالك نجد أنه عمل سياسي أصلاً، أريد به معارضة اتجاه لإحياء الخلافة ومن ثم فقد انتصرت الدعوة في مجال الخصوم الحزبية والسياسية ولكنها تركت آثاراً مريرة في مجال الفكر الإسلامي، فقد أدخل مفهوماً ليس إسلامي الأصل، من مفاهيم الفكر الأوربي المسيحي القائل بالفصل بين الدين والدولة وهو ما لم يعرفه تاريخ الإسلام، ومن عجب أن كتاباً في الفقه الإسلامي لا تجد فيه مرجعاً واحداً من كتب الفقه؛ وإنما يعتمد على مثل الأغاني والعقد الفريد !!(26/4)
وهناك كتاب شهير أراد صاحبه أن يدعو الباحثين والأدباء إلى أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل البحت في الأدب، وكان ذلك جرياً وراء تغريب الأدب العربي بإخراجه من وضعه الصحيح في الفكر الإسلامي كجزء منه لا ينفصل، ولا يمكن دراسته إلا في موضعه الصحيح؛ فلقد كان للإسلام في الأدب العربي أثر ضخم بعيد المدى، ومن هنا فإنه من العسير أشد العسر أن ينفصل الأدب عن الفكر الإسلامي ولأن أن= يدرس حراً من هذا الارتباط الاجتماعي والأخلاقي، وهو ارتباط عضوي أصيل.
ولقد جنى الأدب العربي من هذا المذهب الوافد في النقد الأدبي آثاراً مريرة عظيمة، فقد فتح الباب أمام إنكار نصوص الكتب المنزلة وفي مقدمتها القرآن، كما فتح الباب أمام محاولة نقد آيات القرآن وانه جزا الأدباء على التركيز على أبي نواس وبشار والضحاك على أنهم نماذج الأدب العربي، بينما أبعدت آثار الغزالي وابن تيمية وابن حزن، فضلاً أنه فتح الباب أمام الإباحيات والأدب المكشوف وإعلانه، والجرأة على قيم الإسلام، فضلاً عن خطأ إعطاء الأدب هذه الحرية في الحكم على أمور لا تدخل تحت نفوذه، وفي التوسع لفرض سلطانه على قضايا المجتمع والدين والتربية والأخلاق، وهذا ما لم يكن من مفهوم الفكر العربي الإسلامي المتكامل الشامل.(26/5)
ولقد كان ذلك اتجاهاً خطيراً في خطة التغريب يهدف إلى تحقيق نتائج مضللة تنكشف، فنحن نرى كيف أصبح مثل كتاب (الأغاني) مرجعاً من مراجع البحث العلمي والتاريخي تؤخذ منه النصوص ليُستدل بها في قضايا الدين والاجتماع والتاريخ، بينما لم يكن هذا الكتاب في الواقع إلا مجموعة من الأصوات الغنائية وقد وضعه مؤلفه للملوك والخلفاء لإزجاء فراغهم بقصص ذوي الأهواء وأهل الفن وأنه في ذلك لا يدخل في باب المراجع الموثوق بها ولا المصادر العلمية، وهو إلى ذلك لا يستطيع أن يمثل صورة حقيقية للحياة السياسية والاجتماعية في مجتمع زاخر بالقوى الفكرية من الفقهاء والعلماء والفلاسفة والصوفية والمؤرخون، وقد تأكد أكثر من مصدر أن أبا الفرج الأصفهاني ليس مؤرخاً ولا يصلح كتابه لأن يكون مادة تاريخ؛ وإنما هو جماع لقصص فيه الصحيح والزائف جمعه من الأسواق، وقد شهد عليه كثيرون بالانحراف: فقال اليوسفي المؤرخ: "إن أبا الفرج أكذب الناس؛ لأنه كان يدخل سوق الوراقين وهي مملوءة بالكذب فيشتري منها شيئاً كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منه"، بل إن المؤرخين قد وصفوه بأنه رجل عار عن الثقة به.
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت بعيد إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار العلماء إلى مَن أسموهم "أهل الغفلة والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدباء وأسفار الأخبار"، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي: "هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد"، يقول القاضي ابن العربي في كتابه العواصم من القواصم: "لتحذروا من أهل الأدب؛ فإنهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصرين فلا تبالوا بما رووا".(26/6)
من خلال الاعتماد على مثل كتاب الأغاني (وكتب المحاضرات جميعها مردودة كمصادر علمية وتاريخية) وصل بعض الباحثين إلى القول بأن القرن الثاني من الهجرة كان عصر شك ومجون، وأن هذا الحكم قد صدر اعتماداً على دراسة بعض الشعراء المجان، فاستطاع هذا الكاتب في جرأة عجيبة أن يقول بأن هؤلاء الشعراء يمثلون عصرهم ويخولون له الحق في إصدار حكم على العصر كله، بينما يوجد في ذلك العصر عشرات من الأدباء والعلماء والمفكرين والباحثين، ولا يمكن أن تتم صورة عصر إلا بدراسة النماذج المختلفة فيه.
وبعد فإن على شبابنا المثقف وكتابنا وأدبائنا أن يقفوا موقفاً علمياً كلما صدفهم مرجعاً أو مصدراً من المصادر الشهيرة، وأن يسألوا أنفسهم سؤالاً صريحاً:
ألم تصدر في مناقشة هذه الآراء ردود أو معارضات.
ثم عليهم بعد ذلك أن يبحثوا عن هذه الكتب ويقرأوها.
فإذا كان من مصادر الكاتب أو الباحث كتب مثل: الشعر الجاهلي أو الإسلام وأصول الحكم أو فلسفة ابن خلدون الاجتماعية أو تحرير المرأة أو نظرية التطور أو حديث الأربعاء أو هامش السيرة أو مع المتنبي، أو مستقبل الثقافة أو الأخلاق عند الغزالي أو النثر الفني، أو غيرها من مؤلفات، فإن ضرورة التحقيق العلمي تقضي على القارئ أن يراجع كل ما كتب عن هذه الأبحاث من ردود ومعارضات؛ ذلك أن هذه الأبحاث لم تكتب إلا في ضوء تحديات خطيرة، هي تحديات الغزو الفكري والتغريب، وأن كُتابها يجب أن يعرضوا على قانون "الجرح والتعديل".(26/7)
في عام 1971 كتبت إلى مجلة دعوة الحق الزاهرة البحث الأول في هذا الموضوع، ثم شغلت عنه وكان الهدف هو لفت نظر الباحث المسلم إلى أن هناك نظريات وافدة طرحت في أفق الفكر الإسلامي وقد تناولها الباحثون بالنقد والرد والتفنيد في وقتها، غير أن ذلك لم يجمع في حينه في كتاب، ومن ثم ظلت هذه الكتب التي تحمل النظريات متداولة كأنما هي حقائق ثابتة وأعيد طبعها مرات ومرات، ولقد لاحظت ذلك وتأثرت به حين رأيت الكثيرين من شبابنا المسلمين القادمين من كل مكان في العالم الإسلامي يبحثون عن سلامة موسى وطه حسين وعلي عبد الرازق ومحمود عزمي، فيجدون مقالاتهم المليئة بالشكوك مجموعة في كتب أنيقة ثم لا يجدون ما وُجه إليها من ردود وما فُند من اتهامات؛ لأنها لا تزال مدفونة في بطون الصحف والدوريات، ولقد دعاني هذا أن أجمع في مجلدين كبيرين أغلب هذه المعارك تحت عنوان (المعارك الأدبية) وتحت عنوان (المساجلات والمعارك الأدبية)، وذلك في محاولة لكي أضع تحت عين القارئ وجهة النظر الأخرى التي كانت غائبة عنه والتي تكشف أن لكل رأي رداً وأن مثل هذه المحاولات في فرض نظريات وافدة قد استشرى في فترة الثلاثينيات وما بعدها، واتسع نطاقه حتى شمل مختلف ميادين الفكر، ولكن الحق أن قضية ما من هذه القضايا لم تمر دون تمحيص؛ =ككتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي ووجه بالرد من كثيرين وصدرت كتب عديدة في تفنيده منها (تحت راية القرآن) لمصطفى صادق الرافعي، كما صدر كتاب محمد فريد وجدي وكتاب محمد لطفي جمعة وكتاب للشيخ الخضر حسين وكتاب (النقد التحليلي) للدكتور محمد أحمد الغمراوي، هذا بالإضافة إلى عشرات الموضوعات والبحوث التي حفلت بها الصحف وجمعت بعد أطرافها في كتابيّ المذكورَين عن المعارك الأدبية. كذلك صدرت في السنوات الأخيرة أطروحة الدكتور ناصر الدين الأسد عن حقيقة الموقف في الشعر الجاهلي وانتحاله.(26/8)
وبالنسبة إلى كتاب علي عبد الرازق عن الإسلام وأصول الحكم صدرت في حين صدوره رسائل مطبوعة للشيخ الخضر حسين ومحمد الطاهر عاشور والشيخ رشيد رضا، وصدر في العام الماضي كتاب ضخم مفصل عن هذه القضية للدكتور ضياء الدين الريس.
أما بالنسبة لما أثاره سلامة موسى عن اللغة العربية فقد نوقش وجمع، وكذلك ما اتصل بآراء ساطع الحصري ومحمود عزمي.
ولقد عورضت نظريات لطفي السيد عن الإقليمية المصرية وآرائه عن التعليم، ووجدت نظرية ثقافة البحر التي أثارها طه حسين ومحمود عزمي تفنيداً وتصحيحاً، وكذلك عارض الباحثون نظرية أمين الخولي عن إقليمية الأدب، ورد الدكتور محمد أحمد الغمراوي على محاولات نقد النص القرآن التي قام بها زكي مبارك، وكذلك رد كثيرون على محمد أحمد خلف الله ورسالة القصص الفني في القرآن.
أما النظرية المادية التي عرضها شبلي شميل وسلامة موسى من بعد فإنها لم تمضِ بدون نقد ومراجعة وكذلك نظريات الدين في التربية.(26/9)
وكانت أكثر الشبهات التي طرحت في أفق الفكر الإسلامي تستهدف السيرة النبوية والقرآن واللغة العربية والحضارة الإسلامية والتاريخ الإسلامي، وفي معظم هذه النظريات فقد غلفها بريق كاذب وحاول صياغتها ووضعها في إطار علمي وصاحبتها دعوة طنانة إلى النهضة والتجديد والاستجابة لروح العصر والخروج من الجمود وكسر قيد التقليد ومقاومة الرجعية، وفي أعماقها دعوة صريحة إلى التبعية والانصهار في الفكر الغربي؛ إيماناً بأن هذا هو الطريق الوحيد لمساواته ومحاذاته، وقد حملت هذه الدعوات أساساً فكرة أن أمتنا ليست من العرب وأن الإسلام قد مر عليها كما تمر كل الدعوات وأن العقل المصري أو السوري أو المغربي هو عقل أوربي وأن الفكر الإسلامي أصلاً هو فكر يوناني، وما إلى ذلك من مجازفات تستهدف عزل المسلمين عن فكرهم الأصيل وعن كيانهم الخاص وذاتهم التي تتماثل. وقد صدرت مؤلفات أحدثت ضجة كبرى، لم تكن هذه الضجة بالقبول ولكنها كانت بالرفض، وجرت مساجلات ساخنة ومثيرة انتقلت من أعمدة الصحف إلى أندية الجمعيات إلى منابر الجامعات، ولكن هذه النظريات لم تجد قدرتها على الحياة؛ لأنها دخيلة وزائف ونبت لا يقوى على الحياة في أرض لم تمتصه وطقس لم يستسيغه، ولذلك ما لبثت أن تحطمت، وإن عمد الدعاة إليها إلى تجيدها مرة بعد مرة وإثارتها في صورة وأخرى، ومن هذه النظريات:
(1) إعلاء أدب الإغريق على الأدب العربي ومحاولة فرض الذوق الهليني على العرب.
(2) إعلاء شأن الإقليميات الضيقة كالمصرية والفينيقية والبربرية وغيرها.
(3) النعي على العرب والمسلمين ومحاولة انتقاص وجودهم وكيانهم.
(4) معارضة الشريعة الإسلامية وإثارة الشبهات حول أصالتها.
(5) مقاومة اللغة العربية الفصحى والدعوة إلى العاميات.
(6) التنكر للحقيقة الواضحة وهي أن الإسلام دين ونظام مجتمع في آن.
(7) محاولة توجيه النقد إلى أسلوب القرآن ووصفه بأنه كتاب أدبي.(26/10)
(8) محاولة إسقاط الحضارة الإسلامية وإنكار إعطائها للحضارة الغربية.
(9) الدعوة إلى ما يسمى "عالمية الثقافة" ومحالة تذويب قيم الثقافة الإسلامية في أتون الفكر الغربي مع تجاهل الفوارق الواضحة بينهما.
(10) محاولة إثارة الشبهات حول العلاقات الجذرية بين الإسلام والعروبة.
(11) محاولة توسيد قيم مقتبسة في مجال التربية والتعليم تتعارض مع ذاتية الأمة ومزاجها النفسي.
(12) مهاجمة التراث العربي الإسلامي وإثارة الشكوك حوله وانتقاصه.
(13) إذاعة نظريات فرويد في النفس وسارتر في الوجودية ودور كايم الاجتماع، وكلها تتعارض مع قيم الفكر الإسلامي.
(14) انتقاص أعلام الإسلام وأبطاله.
(15) إذاعة الأدب المكشوف والإباحية الفكرية مع الدعوة إلى الإلحاد.
(16) محاولة إعلاء اتجاه المادية في مجالات التاريخ والاقتصاد والاجتماع.
وقد راجت هذه الأفكار رواجاً شديداً وكثير ترديدا حتى كادت أن تصبح من المسلمات، ووجدت النفوذ الاستعماري عن طريق أدواته العديدة، وفي مقدمتها المدرسة والصحيفة مجالاً كبيراً لإذاعة هذه الأفكار ودعمها.
وصدرت في ذلك كتب عديدة، منها: مؤلفات جورجي زيدان (التمدن الإسلامي)، ومؤلفات طه حسين (حديث الأربعاء – في الأدب الجاهلي – مستقبل الثقافة – مع المتنبي – هامش السيرة)، ومؤلفات سلامة موسى (اليوم والغد – البلاغة العصرية)، وعلي عبد الرازق (الإسلام وأصول الحكم)، ولطفي السيد (ترجمات أرسطو)، بالإضافة إلى بعض كتابات توفيق الحكيم ومحمود عزمي، وزكي مبارك وإبراهيم مدكور وأمين الخولي وحسين فوزي ولويس عوض وزكي نجيب محمود.
غير أن هذه النظريات لم تلبث أن انكشف فسادها وزيفها وعرف المثقفون الأهداف القائمة وراء إذاعتها وترديدها.(26/11)
ولقد أحدث الشيخ علي عبد الرازق "ثلمة" في الإسلام سيظل يحمل وزرها أمداً طويلاً؛ فلأول مرة يجرؤ عالم أزهري مسلم إلى القول بأن الإسلام دين روحي وأنه لا صلة له بنظام الحكم، مهما كان سياق الدعوة أو ظروفها السياسية التي أراد أن يخدم بها حزب الأحرار الدستوريين أو الإنجليز أو المعارضين للملك فؤاد، فإنه في سبيل غاية هينة قد استخدم نصوصاً أراد بها أن يحجب حقيقة أساسية هي أن الإسلام نظام مجتمع ومنهج حياة متكامل، ومنذ ذلك اليوم يكتب المستشرقون فيقولون: إن في الإسلام نظريتين: إحداهما تقول بأن الإسلام دين ودولة، والأخرى تقول أن الإسلام دين روحي وصاحب هذه النظرية هو علي عبد الرازق ومَن سار على طريقه من بعده ومن خريجي الأزهر أيضاً مع الأسف.
هذه الثلمة تكذبها كل الوقائع التاريخية وكل النصوص والأسانيد. ومن يقرأ بحث علي عبد الرازق الذي حاول دعاة التغريب في السنوات الأخيرة إعادة طبعه ونشره بعد أن مات وانطوى أكثر من أربعين عاماً-يجدون أنه لم يعتمد على كتاب من كتب الأصول؛ وإنما كان اعتماده على مراجع أدبية كالعقد الفريد وغيره. وقد كان جُل اعتماد علي عبد الرازق على بعض الكتب التي صدرت في تركيا لتبرير إلغاء الخلافة وهي مؤلفات كتبها اليهود الدونمة الذين كانوا يطمعون في تحطيم هذا البناء منذ وقت طويل؛ حتى يستطيعوا أن ينفذوا إلى فلسطين بعد أن وقف السلطان عبد الحميد في وجههم سداً منيعاً، وكل ما جاء به علي عبد الرازق نقلاً من هؤلاء إنما هو مستمد من نظريات الفكر المسيحي حول البابوية والفصل بين الدين والدولة وهو النهج الذي وصلت إليه أوربا بعد الصراع الطويل بين الكنيسة والشعب، وكان جُل اعتماده في نصوصه المنقولة على شطائر تؤيد وجهة نظره استعان بها وترك الأجزاء الباقية مغالطة منه وتبريراً لوجهة نظره، بالإضافة إلى اعتماده على كتب المحاضرات والأدب وهي ليست مراجع للبحث الفقهي الجاد.(26/12)
والحق أن الباحثين المسلمين قد التفتوا منذ وقت طويل إلى خطر المصادر الأدبية كمراجع للبحوث العلمية والتاريخية، وقد أشار كثيرون إلى "أهل العقل والهوى الذين اعتمدوا في تاريخهم على كتب الأدب وأسفار الأخبار"، فأهل الأدب كما يقول القاضي أبو بكر ابن العربي في كتابه "العواصم من القواصم": "هم الذين غلبت عليهم صناعة الأدب فمالوا إلى كل غريب من الأخبار دون أن يتحروا الصدق ويهتموا بالرواية والإسناد، وهم أهل جهالة بحرمات الدين أو على بدعة مصريين".
أما كتاب في الشعر الجاهلي والأدب الجاهلي من بعده، فإن القضية الكبرى والأساسية التي حاول مؤلفه أن يفرضها هي أن على الباحثين أن يحجبوا دينهم وقوميتهم وهم بسبيل إلى البحث العلمي، نقول (حتى إذا كان دينهم هو الإسلام) الذي هو مصدر كل مناهج البحث وأساس علوم المعرفة والذي هدى البشرية إلى نقد الرواة وإلى الجرح والتعديل وإلى التأكد من سلامة المصادر.(26/13)
ولكن المؤلف لم يكن ليؤمن بذلك أساساً؛ لأنه حاول إنكار نصوص من القرآن عن إبراهيم وإسماعيل وقال: "مهما تحدثنا التوراة ويحدثنا القرآن عن إبراهيم وإسماعيل فإن الحقيقة التاريخية تقول إنهما من الشخصيات التي لم توجد أساساً"، ولقد كان الهدف الرئيسي في الشعر الجاهلي أساساً هو انتقاص هذه الأسس في الإسلام وانتقاص رسوله الكريم الذي قال عنه: (لأمرٍ ما كان لابد أن يكون محمد من قريش)، ومَن يراجع الكتب التي تصدت لهذا الكتاب والأبحاث والمعارك التي دارت حوله يجد تحدياً واضحاً صريحاً للحقائق الإسلامية والسنة الصحيحة ولكل ما يتصل بتاريخ رسول الله وأصحابه، فإذ ربطنا هذا بكتاب هامش السيرة وجدنا جانباً آخر أراد طه حسين أن يطعن فيه؛ ذلك هو إعادة الأساطير مرة أخرى إلى هذه السيرة بعد أن نقاها المسلمون منها وحرروها، ونحن لسنا الذين نقول ذلك ونأخذه عليه؛ ولكن ذلك ما يقوله رفيق شبابه الدكتور محمد حسين هيكل صاحب كتاب حياة محمد. ونجد الجانب الثالث من العمل الخطير متمثلاً في كتاب (الفتنة الكبرى)، وهنا نجد طه حسين يحاكم صحابة رسول الله على أنهم بعض السياسيين في العصر الحديث ورجال الأحزاب وأصحاب المطامع والمؤامرات ومحاولة إزاحة ذلك الجو الرفيع الذي يجب أن ينظر فيه إلى هؤلاء الصحابة الكرام، وتلك هي أهداف طه حسين كما أشار إليها هو نفسه في أكثر من موضع "إسقاط التقديس لكل قديم".(26/14)
وإذا كان هذا من الأطروحات الغربية التي عرفها الفكر الأوربي بعد الثورة الفرنسية وتحت ضغط خلافات عميقة بين رجال العلم ورجال الدين وتحت تأثير جمود الفكرة الدينية وفسادها في الغرب، فما شأننا به نحن في عالم الإسلام حيث نجد الفكر الإسلامي بسماحته وسعته وقدرته الوافرة على العطاء في كل المجالات، وحيث لا يصطدم الدين بالعلم، وحيث لا تتعارض الثوابت والمتغيرات، وحيث أن القديم ليس فكراً بشرياً يكتنفه الفساد والاضطراب؛ ولكن القديم هو ذلك الهدي الرباني الكريم (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه).
تلك كانت غاية طه حسين واضحة في كتاباته الإسلامية كلها من الأدب الجاهلي إلى هامش السيرة إلى الفتنة الكبرى: (إسقاط التقديس لكل قديم)، دون تحديد لهذا القديم هل هو الأصل الرباني الموحى به أم العمل الفكري الذي قام عليه، فضلاً عن إحيائه لتراث الزنادقة والشعوبية وإعادته طبع إخوان الصفا ومقدمة ابن المقفع لكتاب كليلة ودمنة، والدعوة الملحة التي ظل يدعوها طوال حياته بفضل الهلينية والفكر الإغريقي على الفكر الإسلامي وهي دعوة زائفة مبطلة كذبتها مدرسة كاملة قادها الشيخ مصطفى عبد الرازق وتابعها كثير من الأعلام في مقدمتهم الدكتور علي سامي النشار ومحمود قاسم.(26/15)
ولو كان طه حسين ناقداً سليم القلب لفرق بين الميراث الإسلامي السماوي والسنة الصحيحة وصادق ما كتب أهل السنة والجماعة وبين التراث الإسلامي المتصل بالشعوبية والزندقة والباطنية، ولكنه كما يبدو واضحاً من كل كتاباته إنما كان يغمغم في هذه الدعوى وهو يقصد: الوحي والنبوة والقرآن، وإن كان لا يقدر على أن يكشف عن ذلك خوفاً وفرقاً مما كاد يصيبه عندما أصدر كتاب في الشعر الجاهلي، لقد فتح الباب لكل شبهة وحملت مؤلفاته أوشال الشعوبية القديمة وزيف آراء المستشرقين في كل الجوانب التي يمكن أن يصل إليها الباحث لم غادر منها واحداً مستعملاً أسلوب (الشك الفلسفي)؛ لبث الشبهات والتساؤلات دون أن يدل أحداً على ضوء من رأي صحيح، ولكنها المحاولة المستمرة للتشكيك؛(26/16)
فهو الداعي إلى الفرعونية والأدب المكشوف وأن عصر الإسلام الأول عصر شك ومجون، وهو الذي سخر بابن خلدون علامة فكرنا، ووصف المتنبي شاعرنا الأكبر بأنه لقيط ليس له أب، وهو الذي قال لطلبته في كلية الآداب أن القرآن كتاب أدب يوضع موضع النقد ويقال أن هذه الآية كذا وكذا، وهو داعية (عالمية الثقافة) لينصهر الفكر الإسلامي في بوتقة الأممية، وداعي نقل مناهج التعليم والتربية الغربية، وهو الذي اتخذ من كتاب الأغاني مصدراً لدراسة المجتمع الإسلامي وهو كتاب غير مؤهل لهذه الدراسة. وهو الذي فتح الأبواب لهؤلاء جميعاً الذين جرأوا على مواريث الإسلام، ومِن الحق أن يقال أن الباحثين المسلمين لم يؤمنوا لحظة بمذهب تقديس السلف سواء في التاريخ أو غيره؛ ولكنهم كانوا يؤمنون ولا يزالون بحماية هذا الميراث العظيم الذي أعطاهم الإسلام وتكريم هؤلاء الصفوة من الصحابة الأعلام الذين شادوا هذا المجد، وتجاوزهم البحث في هذا الخلاف الذي دخلته زيوف كثيرة وأكاذيب كثيرة، وكانت وجهتهم دائماً إلى القرآن وحده وإلى التماس الأسوة من الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو المعصوم والمؤيد بالوحي، وقد فضلوا دائماً بين (منهج الإسلام) وبين (تاريخ الإسلام)، ولكنهم لم يكونوا ليجرؤا على تناول تراثهم على هذا النحو من الاحتقار والسخرية والمهانة التي حاول طه حسين أن يتناوله بها.
أنور الجندي(26/17)
سلسلة على طريق الأصالة: في مواجهة ركام الفكر المطروح على الساحة اليوم – 11
قراءات الشباب المسلم في مواجهة ركام الفكر المطروح على الساحة اليوم:
[ما هي المحاذير التي يجب ألا يقع فيها الشباب المسلم عند قراءة كتاب وكيف يقرأ المسلم الكتاب وماذا يقرأ المسلمون حتى يحصنوا أنفسهم ضد موجات الغزو الفكري؟].
هذه أسئلة تتردد كثيرًا ويطلب من الباحثين المسلمين الإجابة عليها والواقع أن الإسلام لا يحرم قراءة أي نوع من الكتب بشرط أن يكون لدى القارئ خلفية من الفهم والثقافة والقدرة على معرفة الغث من السمين، ولقد حدد الإسلام الوجهة في أن يتابع المثقف المسلم العلوم النافعة أساسًا ولا يشغل نفسه بالكتب التي تعني بالذات والشهوات والإباحيات وما يروي أحاديث البغاة والزنادقة الذين يصورون الشهوات سواء أكان ذلك في صورة قصة أو في ديوان شعر أم في كتابة عامة، فهذه الكتب التي تنتشر كثيرًا هذه الأيام لمؤلفين مجهولين أو التي تعيد إحياء فكر الباطنية والزنادقة: أمثال أبي نواس وبشار وغيرهم من الكتب التي تصنف تحت عنوان الأدب أو التي تحاول أن تقدم صورًا عاصفة من أحاديث الرواة التي كان يقدمها القصاص في بعض المجالات العابثة أو الندوات الصاخبة، فهذه كلها كتب لا تفيد ولا تعطي النفس المسلمة ما تتطلع إليه من إيمان ويقين وتقوى، وقد نبذت هذه الكتب طوال فترات تماسك المجتمعات الإسلامية، وعندما كانت الأمة الإسلامية مشغولة بالمهام الكبرى في بناء حضارتها وعلومها.(27/1)
فلما ضعفت الأمة وركنت إلى الرخاوة والضعف استطاع الزنادقة والشعوبيون ودعاة الإباحة استنساخ هذه الكتب وإذاعتها من جديد ونحن نقف في هذه الكتب موقف الحذر فلا نتخذها مراجع في أبحاثنا العلمية ولا نصدق ما جاء بها ولا نؤمن بما أورده كتاب التغريب من أن هؤلاء الزنادقة كان لهم وزن في مجتمعهم أو تأثير، والمراجع الحقيقية تؤكد أنهم كانوا فئة مرذولة مقصاة عن المجتمع الزاخر بالعلماء والباحثين الخلص في عصرهم وأن كل ما حاول طه حسين وجماعته من أن يجعل لهؤلاء ولآثارهم وجود حقيقي إنما كان من باب الهدم، ولذلك فنحن لا نثق بما جاء في كتاب (الأغاني) ولا نثق في مؤلفه (الأصفهاني) ولنرجع إلى ترجمته فنجد إنه كان رجلاً شعوبيًا معاديًا للإسلام مواليًا لأعداء الإسلام وخصومه، وإنه جمع هذه الأشعار والروايات ليرضي طبقة من المترفين الفاسدين، وأن ما رواه في كتابه مضطرب لا يثق به أحد، وأنه ما قصد علمًا ولا بحثًا جادًا ولكنه أراد غواية وإفسادًا كان من بين خطط الشعر وبين الذين هم دعاة التغريب في ذلك العهد، وكذلك نقف هذا الموقف من كتاب (ألف ليلة) هذا الكتاب اللقيط الذي ليس له مؤلف معين والذي جمعت رواياته من مجتمع فارس الوثني قبل الإسلام وأضيفت إليه بعض قصص عراقية ومصرية، كذلك كل ما أورد من شعر منسوب إلى عمر الخيام لم يصح فيه شيء إلا القليل فلم يكن الخيام في الحقيقة شاعرًا وإنما كان عالمًا فلكيًا ولكن بعض القوى التغريبية أرادت أن تتخذ منه تكأة لإذاعة شعر فارسي في الخمر لم يعرف له مؤلف على النحو الذي قام به (فتزجرالد) وترجمة عصبة من الشعراء العرب الذين خدعوا أو جرى التأثير عليهم ثم كشفت الحقيقة من بعد.(27/2)
أما ما يتردد دائمًا على ألسنة بعض المغرضين من الإشارة إلى الشعر الغربي الذي عرف في مرحلة من مراحل المجتمعات الإسلامية سواء من شعر الخمر أو الجنس أو الغلمة فإن هذا وافد معروف وفد على الأدب العربي تحت تأثير الظروف التي واجهها المجتمع الإسلامي بعد ترجمة آثار اليونان والفرس والهنود من كتابات إباحية وجنسية تأثر لها بعض الشعراء والكتاب وهي مرحلة مضطربة معروفة – استطاع الفكر الإسلامي والأدب العربي أن يخرج منها ويعود إلى أصالته. ومن هنا فليست هذه النصوص مما تؤخذ على الأدب العربي وهذه المرحلة قد حفلت أيضًا بالفكر الفلسفي والفكر الصوفي الفلسفي الذي أثار نظريات وحدة الوجود والحلول والتناسخ وما يتصل بها من نظريات العقول العشرة والفيض والنرفانا وغيرها وهذه كلها نظريات واجهها الفكر الإسلامي وكشف عن زيفها وكتب عنها أئمة أعلام: كالشافعي وأحمد بن حنبل والغزالي، وكان قمة من وصل إلى الغاية في هذا الإمام ابن تَيْمِيَّة.
ومن هنا فإن الشباب المسلم يجب أن يكون على وعي بهذه المرحلة من تاريخ الفكر الإسلامي التي تأثرت بترجمات الفكر اليوناني والفارسي والهندي، وما أثاره من قضايا وما جرت من محاولات الفلاسفة للربط بين الإسلام وهذا الفكر وما بلغوا من فشل في هذا المجال، وما دحض به مفكروا الإسلام أخطاء الفكر اليوناني وفساد وجهته.
ولما كان الإسلام ومنهجه كله (في مختلف جوانبه عقيدة وشريعة وأخلاقًا) قد اكتمل قبل أن يختار الرسول صلى الله عليه وسلم الرفيق الأعلى (اليوم أكملت لكم دينكم) فإن كل هذه المطروحات التي حاولت أن تجد مكانًا لها في الفكر الإسلامي بعد ترجمة الفلسفات قد بانت غربتها واختلافها بل وتعارضها مع مفهوم الإسلام الذي جاء بمنهج مختلف عن منهج الحضارات العبودية التي سبقته وخاصة حضارات اليونان والرومان والفرس والفراعنة والهنود، هذه الحضارات التي قامت على أمرين رفضهما الإسلام وأنكرهما إنكارًا تامًا:(27/3)
أولاً: الوثنية وعبادة الإنسان للصنم.
ثانيًا: الرق وعبودية الإنسان للإنسان وإعلان الفلسفات جميعها (وخاصة فلسفة أرسطو وأفلاطون) بأن الرق حجر أساسي في بناء الحضارات، وقد رفض الإسلام ذلك كله وهدمه وحطم وجوده.
هذه هي الخلفية الأساسية للشباب المسلم المثقف في النظر إلى الفكر البشري الذي جاء الإسلام ليكشف زيفه ويقيم منهج النبوة الصحيح للإنسانية كلها على نحو مخالف تمامًا قوامه التوحيد الخالص وإسلام الوجه لله تبارك وتعالى وإقامة العدل والإخاء البشري والرحمة "وليظهره على الدين كله"، فلك يلبث أن قامت الأمة الإسلامية من حدود الصين إلى نهر اللوار في أقل من ثمانين عامًا، وقد قدمت الأمة الإسلامية للغرب المنهج العلمي التجريبي الذي أنشأ الحضارة المعاصرة وقد قبلت أوروبا منهج العلم ولم تقبل منهج الفكر والعقيدة، فأقامت حضارة ينقصها البندين الأساسيين للحضارة الإسلامية، وهما البعد الرباني والبعد الأخلاقي ومن ثم أخذت تواجه الارتطامات والصدمات والعواصف والأزمات حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من اضطرابات ولسوف يصيبها ما أصاب الحضارة الوثنية التي سبقتها ولابد أن تواجه الانهيار.
ولقد قدمت الحضارة الغربية للعالم منهجين: أحدهما رأسمالي والآخر اشتراكي، وقد تبين بعد مرور الوقت الكافي بعجز كلا المنهجين عن أن يقدما للبشرية أشواق الروح أو طمأنينة النفس وتعالي الصيحات اليم تطالب بمنهج جديد وتلفت علماء الغرب الذين استطاعوا أن يتحرروا من أسر التقليد والتبعية فنادوا بالعودة إلى الإسلام بوصفه المنقذ الوحيد للبشرية من أزمتها الخانقة.(27/4)
في ضوء هذا المفهوم يجب أن يقرأ الشباب المثقف بوعي وحرص ما يقدم عليه فلا يخدعه أحد من الأسماء اللامعة أو الصحف الواسعة الانتشار ولا المؤلفات البراقة، والعبرة بالمضمون والرائد لا يكذب أهله فإذا كذبها كان حقًا على الأمة أن تكشف زيفه وأن تنحيه، ولقد كانت هناك أسماء لامعة خدعت الناس طويلاً لأنها دعت أمتها إلى التبعية وإلى الاستسلام أمام الغرب الذي لم يكن في يوم من الأيام إلا خصمًا يطمع في احتواء عقليات المسلمين ويرغب في تزييف منهج الإسلام.
على هذا النحو الذي رسمه كرومر ودنلوب وزويمر، والذي وكل المستشرقون أتباعهم من أصحاب الأسماء العربية أن يكملوا المهمة، إيمانًا بأنهم أقدر على كسب ثقة أهليهم، ولقد تكشفت هذه السموم وارتدت هذه الأسهم إلى صدور أصحابها ولم يعد في الإمكان إعادة الثقة إلى كل من خان هذه الأمة أو خدعها أو دعاها إلى التنكر لدينها أو عقيدتها أو لغتها أو قرآنها. هذا هو المنطلق الأول لفهم الوجهة في قراءة ذلك الركام الهائل المطروح أمام المثقف المسلم (أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
في مواجهة ركام الفكر المطروح على الساحة اليوم: نظريات مضللة نكشف زيفها:
يجب أن يكون موقفنا نحن المسلمين واضحًا من كل ما يقدم على الساحة حتى نستصفي مفهومنا الصحيح للثقافة والعلوم والمجتمع وقضايا السياسة والاقتصاد والتربية وغيرها فقد حدث خلط كثير خلال هذه السنوات التي مرت وخاصة سنوات الاحتلال الأجنبي وما ترك من رواسب لا تزال قائمة في مجالات الفكر والثقافة والتعليم والصحافة في محاولة لصبغ فكرنا بلون غربي أو مغرب.(27/5)
كان النفوذ الأجنبي ظاهرًا في عصر الاحتلال وكانت المرحلة واضحة التبعية للاتجاه الغربي الليبرالي والرأسمالي، وكانت كل المؤسسات خاضعة لتلك الوجهة، وكانت هناك وطنية تعمل على التحرر من النفوذ الأجنبي، ولكن كان هناك من يخدمون هذا النفوذ. ومن هنا فإن تاريخ الحركة الوطنية أيام الاحتلال يجب أن يدرس بعناية وأن ينظر فيه إلى ما مقام به كرومر من بناء نماذج كانت تؤمن بالالتقاء مع النفوذ الأجنبي في منتصف الطريق وتقبل منه القليل، وقد اعتمد الاستعمار على التعليم في تكوين هذه القيادات وكانت التجربة السياسية القائمة على النظام الغربي زائفة، وكانت التبعية للنظام الغربي وسيطرته الاقتصادية حتى بعد انتهاء الاحتلال العسكري واضحة وقائمة.
ثم جاءت بعد ذلك مرحلة التجربة الماركسية وكانت تمثل تبعية من نوع آخر، عانى خلال مرحلته المفهوم الإسلامي الأصيل أشد المعاناة، فقد حجب وراء تصور قاصر، يجعل الإسلام دينًا لاهوتيا قاصرًا على العبادة والمساجد بعيدًا عن مفهوم الإسلام الحقيق: مفهوم المنهج الرباني القائم على خضوع الحياة الاجتماعية والسياسية له بوصفه نظام مجتمع ومنهج حياة، وكان لهذا المفهوم أثره الواضح في مجالات الثقافة والتعليم والصحافة وخضعت المناهج التعليمية والجامعية إلى النظم الليبرالية والماركسية، وقامت الحياة الثقافية على هذا المنهج أو ذاك دون أن يتاح للمنهج الإسلامي الذي هو الأصل أن يستعان أو يدافع عن مفهومه ووجوده إلا من خلال صحف متواضعة وكتب قليلة، وكتابات تقوم على الدفاع والرد على الشبهات المثارة ولا تملك أن تقدم منهجها الأصيل بصورة حقيقية.(27/6)
وهكذا كان الفكر الحديث الذي يقدم من خلال مناهج العلوم الاجتماعية والنفس والفلسفة والاقتصاد والأدب والتاريخ مشوبًا بالتصور الغربي، لا يضع للدور الإسلامي في تاريخ العلوم أو الفكر كبير اهتمام، بل إن العلوم التي كان للإسلام دوره الرائد في صياغتها تدرس الآن دون إشارة إليه وتبدأ من حيث أخذها الغرب وتجاهل دور المسلمين فيها، فإذا اتصلت هذه العلوم والمناهج بتاريخ المسلمين أنفسهم أو بتراثهم قدمت على نحو متعسف مضلل، فهي تتناول تاريخ الإسلام بأسلوب علماني وتحكم عليه من خلال منهج التفسير المادي للتاريخ وتقلل من عظمته وتفرغه من شحنته الروحية وتجعله باردًا كالثلج، وتلك محاولة مقصودة من أجل إطفاء نوره وإذهاب طابعه القادر على بناء النفس المسلمة من جديد.
إن هناك أسماء كثيرة لمعت بفضل النفوذ الأجنبي ووضعت في موضع القيادة الفكرية يجب أن يعاد النظر فيها على ضوء الحقائق التاريخية التي ظهرت ووفق مفهوم الأوضاع التي كانت تحجب الأضاليل فسعد زغلول ولطفي السيد وعبد العزيز فهمي وجرجي زيدان وطه حسين وسلامه موسى وتوفيق الحكيم، كل هؤلاء يجب أن يعاد النظر إليهم في ضوء الحقائق التي عرفت، وخاصة ما يتصل بها الماسونية وبروتوكولات صهيون، وأن هناك أسماء أخرى ظلت تحت تأثير الموجة الطارئة يجب أن يعاد النظر إليها أمثال المتنبي والغزالي وعمر الخيام والسلطان عبد الحميد.(27/7)
ولابد من وقفة حاسمة عند دور المماليك والدولة العثمانية في تاريخ مصر والبلاد العربية، فما تزال القوى التابعة للنفوذ الأجنبي تحاول أن تثير الاتهامات والشبهات مرضاة للغرب الذي يعلن عن كراهيته للمماليك الذين قضوا على نفوذه وأزالوا وجوده في الحروب الصليبية وإخراجه مهزومًا من بلاد المسلمين بعد قرنين من الزمان وكذلك كراهيتهم للسلطان محمد الفاتح الذي انتزع القسطنطينية والدور الذي قامت به الدولة العثمانية في وجود مصر وشمال إفريقيا وخاصة الجزائر وتونس من النفوذ الغربي الزاحف.
ولابد من الاهتمام بالدعوات المضللة التي استطاع النفوذ الأجنبي إبرازها والتركيز عليها خاصة قضية تحرير المرأة، والانفجار السكاني والفلكلور، وأن يكون هناك موقف قائم على الأصالة من الترجمة بصفة عامة ومن ترجمة الروايات العالمية التي لا تمثل مشاعرنا ولا قيمنا والتي تركز على الإباحيات والكشف على النحو الذي نشر في مصر أخيرًا ووجد في كلية الآداب، فهذا عيب كبير أن تكون مصر قائدة الأصالة العربية الإسلامية هي التي تصدر هذه النماذج العارية المكشوفة والإباحية.
إننا نطالب في مقدمة كل كتاب يترجم إلى اللغة العربية بيانًا عن ضرورة هذا العمل وميزاته ووجه المقارنة بينه وبين ما يوجد في لغتنا وثقافتنا وأن يكون واضحًا أنه عمل مرتبط بعصر وبيئة وأنه ليس على الإطلاق قواعد فكرية أو قوانين علمية، فنحن لا نقبل فكر الآخرين إلا إذا كان بمثابة (مواد خام) نشكلها في إطار فكرنا كما نشاء.
لقد قدمت لنا في العقود الماضية نظريات كثيرة في القومية (ساطع الحصري) وفي العلمانية (طه حسين) وفي الأدب المكشوف (توفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس وغيرهما) وفي الماركسية (محمد مندور) وفي الجنس (فرويد وسلامه موسى) وفي مذهب العالمية الماسونية (لويس عوض) وإحياء التراث وتزييفه (طه حسين، عبد الرحمن الشرقاوي).(27/8)
وكل هذه الكتابات يجب أن تقرأ بحذر وأن يكون معروفًا هدف كتابها ومصادر ثقافتهم والغاية التي يتوخونها من طرح هذه الكتابات.
ولقد قدم بعض الكتابات (الأغاني، وألف ليلة، ورسائل إخوان الصفا، وكليلة ودمنا) على أنها مراجع يمكن اعتمادها في كتابات الأطروحات العلمية.
وقد كشف الباحثون عن فساد هذه الكتب وعجزها عن أن تكون مصادر صحيحة وقدمت في خلال العقود الماضية مذاهب ونحل مضللة كالبهائية والقاديانية وعنيت الصحب بالعباس البهاء وبعض مؤسسي الصهيونية الذين قدموا كمفكرين عالميين.
لقد كشفت دوائر العلوم في الغرب فساد كثير من النظريات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي ومناهج الدراسة والتعليم على علوم حقيقية. بينما لم تكن في الحقيقة إلا نظريات وفروض عقلية قابلة للخطأ والصواب.
ولقد تكشفت في الغرب مفاهيم جديدة حول نظرية دارون ونظرية فرويد ونظرية سارتر ونظرية دوركايم. كما تبين أكذوبة ما يسمى بالحضارة العالمية. وتعالت الأصوات باضطراب مفاهيم العلوم الاجتماعية والإنسانية.
وتبين أن هناك محاولة ملحة في إثارة النعرات الإقليمية والقومية والعنصرية وإحياء التاريخ القديم السابق للإسلام.
وهناك هجوم كاسح على اللغة العربية بقصد اختراقها لأنها الفصحى لغة القرآن. وهناك محاولات مستميتة لإحياء العاميات سواء في المسرح أو المسلسلات أو الصحافة أو القصة فضلاً عن إنكار فضل المسلمين على الحضارة والتجريب ومحاولة حجب الشريعة الإسلامية وإعلان القانون الوضعي.
كما تبين فساد مفاهيم الاقتصاد السياسي الربوي وعلم النفس الفرويدي ومفاهيم ماركس ودوركايم وسارتر وفساد فكرة وحدة الأديان أو وحدة الثقافة كما كشف الباحثون عن تناقض الكتب القديمة واستحالة اندماج الإسلام في الإيدلوجيتين الليبرالية والشيوعية.(27/9)
وتميز الإسلام بالنسبة للأديان السماوية والوضعية جميعًا بذاتيته الخاصة وكتابه الخالد النص الثابت الموثق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
أخطر القضايا التي تواجه الشباب المسلم اليوم التبعية للفكر الوافد.
التبعية للفكر الوافد:
ما يزال الشباب المسلم في هذا العصر في حاجة إلى معرفة أبعاد القضية الكبرى التي تمتلك عليهم اليوم فكرهم وينقسمون إزائها تحت تأثير الخدعة التي جرت على أقلام أتباع الاستشراق والتغريب وهي اصطناع أسلوب الغرب في مواجهة التفوق عليه والتحرر من نفوذه. وهي خدعة ضخمة كشفت الأحداث خلال أكثر من قرن كامل عن فسادها فقد استهدف النفوذ الأجنبي بها احتواء المسلمين في دائرة مغلقة هي دائرة فكره والتبعية له، والانحباس بها دون امتلاك إرادة فكرهم المشرق والمنطلق الذي يحمل لواء النظرة الجامعة وبكامل عناصر المادة والروح والذي يحمل شارة العزة والكرامة والعبودية لله تبارك وتعالى وحده من دون الأمم أو الحضارات أو الإيدلوجيات والمذاهب الوافدة.
بل إنه لمن العجب أن نجد مسئولاً يحمل مسئولية النيابة عن العرب في منظمة دولية كبرى يقول هذا القول ويردد الفكرة الباطلة المسمومة حين يقول: "إنه من الصعب إن لم يكن من المستحيل استيراد الحضارة الحديثة دون استيراد قيمها معها فنحن فيما يرى هذا التغريبي لا يستطيع استيراد المنتجات التكنولوجية للعالم الحديث دون تبني نفس القيم التي كانت خلف الحضارة التكنولوجية فالحضارة كل متكامل لا يتجزأ".(27/10)
ونقول لو أن رجلاً مثل فرنسيس بيكون، أو جلبرت سلفستر الثاني قال لقومه في مطالع عصر النهضة الأوروبية هذا القول لجعلوه أضحوكة الدهر ولكن من قومنا من يقول هذا ويردده دون أن يشعر بأنه يخدع أمته خداعًا شديدًا، ذلك أن مفهوم الحضارة المادية بمعنى المادية ليست إلا تجارب علمية في مجال الطبيعة والكيمياء والعلوم التجريبية لا تفرض في حاملها أو القائم بها أن يكون مؤمنًا بمفاهيم الخطيئة والمادية والعلمانية أو يكون مؤمنًا بأن يجعل هذا التقدم العلمي كله في سبيل تدمير البشرية بالقنبلة الهيدروجينية أو نشر أساليب الإباحة والفساد والانحراف تحت اسم الفن أو المسرح وإفساد المجتمعات وهدم الأسرة ودفع الشباب إلى الانحراف تحت اسم الوجودية أو الهيبة، إن هناك فاصلاً عميقًا بين التجربة العلمية التي يطمع المسلمون في الحصول عليها وبين أسلوب العيش الغربي الذي يطبق هذه المعطيات الحديثة، ولقد كانت معطيات المنهج العلمي التجريبي الذي بدأه المسلمون تنطلق من خلال مفاهيم الرحمة والعدل والإخاء الإنساني فاستطاع الغربيون أن ينقلوا المقايسات المادية إلى إطار فكرهم دون أن يأخذوا نفس القيم الإسلامية التي كانت تقوم عليها وقد كان ذلك سببًا هامًا من أسباب انحراف الحضارة وفسادها وظهور أزمة الإنسان الغربي المعاصر.
لقد ردد هذه المفاهيم كثير من دعاة التغريب وكانوا في ذلك مخادعين مضلين، ولم يعد مثل هذا القول يخدع أحدًا فقد تكشف الأهداف الخطيرة القائمة وراء دعوة المسلمين إلى أسلوب العيش الغربي بفساده وانحرافه وخمره وإباحياته وإن كان المسلمون قد جروا من الشوط ثمة فإنهم يعرفون الآن أن هذه التبعية هي التي اجتاحت وجودهم وأدخلتهم في الأزمة الخطيرة التي يعانونها وهم يواجهون أهواء البشرية كلها ممثلة في النفوذ الأجنبي والصهيونية والماركسية جميعًا.(27/11)
لقد كان المفكر والشاعر المسلم محمد إقبال في الثلاثينات من هذا القرن قد حذر قومه من هذه الأخطار حين قال:
على المسلم المعاصر أن يحذر الوقوع في الخطر الذي يمكن فيما ينطوي عليه الفكر الأوروبي الجديد من إلحاد وخصوصًا أن أساليب الخداع فيه كثيرة فقد انخدع به كثيرون من المسلمين كما انخدع بالفعل به بعض الدعاة في الهند فعلينا أن نعيد النظر في تفكيرنا الإسلامي من جانب نمحض هذا الفكر الجديد بروح مستقلة يقظة من جانب آخر. إن أخف الأضرار التي أعقبت فلسفة الغرب المادية هي ذلك الشلل الذي اعترى نشاطه والذي أدركه هكسلي وأعلن سخطه عليه.
وللاشتراكية الحديثة الملحدة، ولها كل هؤلاء الدعاة المتحمسين المضللين، لقد استمدت أساسها الفلسفي من المتطرفين من أصحاب مذهب هيجل، فقد أعلنت العصيان على ذات المصدر الذي كان يمكن أن يمدها بالقوة والهدف فهي إذ ليست بقادرة على أن تشفي علل الإنسانية.
وعلى المسلم أن يقدر وأن يعيد بناء حياته الاجتماعية في ضوء الميادين القاطعة في الإسلام كمبدأ التوحيد وختم الرسالة وأن يستنبط من أهداف الإسلام التي لم تنكشف إلا الآن تكشفًا جزئيًا تلك الديمقراطية التي هي الحكاية الأخيرة للإسلام ومقصده.
إن المسلم القوي الذي أنشأته الصحراء وأحكمته رياحها الهوجاء أضعفته رياح العجم فصار منها كالناي تحولاً ونواحًا وإن الذي كان تكبيره يذيب الأحجار انقلب وجلاً من صفر الأطيار والذي هز عزمه شم الجبال غل يديه ورجليه بأوهام الاتكال والذي كان ضربه في رقاب الأعداء صار يضرب صدره في اللاواء والذي نقشت قدمه على الأرض ثورة كسرت رجلاه عكوفًا في الخلوه والذي كان يمضي على الدهر حكمه وتقف الملوك على بابه رضى من السعي والقناعة وذلة الاستخدام والخشوع.(27/12)
ويقول إقبال: إن أوروبا اليوم هي أكبر عائق في سبيل الرقي لأخلاق الإنسان. أما المسلم فإن له هذه الآراء النهائية القائمة على أساس من "تنزيل" يتحدث إلى الناس من أعماق الحياة والوجود وما تعني به هذه الآراء من أمور خاصة في الظاهر يترك أثره في أعماق النفوس الأساسي الروحي للحياة عند المسلم بإيمان يستطيع المسلم أن يسترخص الحياة في سبيله.
وقد تعددت كتابات الكاشفين عن فساد التبعية وعن فساد الصنم المعبود الذي هوى. يقول أحدهم: إن المجتمع البشري اليوم قد سئم ويئس من منبع أوروبا الذي فقد زمنه، ولم يستطع خلال هذه النهضة الهائلة الطويلة أن يضيف إلى رصيد الإنسان إلا الحديد والنار والبارود والدخان والقنابل المدمرة والغازات السامة والآلات المبيدة. إن الفراغ الذي حدث في قيادة الإنسانية اليوم فراغ رهيب ولكنه فراغ لا يستطيع أحدًا أن يملأه إلا العالم الإسلامي ونقول: بل دعوة التوحيد الخالص التي حملها الإسلام وما زال محجوبًا من المسلمين.
ويقول باحث آخر: إن أولئك الرجال الذين اعتنقوا الأفكار الغربية (قومية وليبرالية واشتراكية) ظنًا منهم أنها تحرر القدس أو توحد الأمة أو تعيد للمسلمين والعرب كيانهم، هم مخدوعون وعليهم أن يعودوا إلى مفهوم الإسلام بعد أن أصبحت تلك الشعارات والأفكار هباءً منثورًا وألفاظ بلا مضمون ولا تؤدي إلى سراب خادع وهم بالتأكيد ما لجأوا إلى ذلك إلا هربًا من الإسلام وخطره على النفوذ الأجنبي والشيوعية والصهيونية التي ينتمي إليها زعماء تلك التيارات والاتجاهات ومؤسسوها أ. هـ.
وهكذا نجد أن الطريق قد وضح وأن الرؤيا أصبحت قادرة على استيعاب الأبعاد والغايات الخطيرة التي تستكن وراء التغريب وإخراج المسلمين من ذاتيتهم وهويتهم وقيمهم الأساسية.
... ... ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ أنور الجندي(27/13)
قضايا الشباب المسلم
تدور في نفوس شبابنا وفي أذهانهم وعلى ألسنتهم كلمات حائرة وتساؤلات مستقيمة، عن كثير مما يقرأن في كتابات مترجمة تملأ الأسواق والمكتبات جاءت من بلادها وتعرضت لقضايا أممها، ولكنها في نطاق الرواية أنما تمثل فكراً عالمياً يستوحي النفس الإنسانية ويستعرض مشاعرها فإلى أي حد يستطيع هذا الفكر أن يطابق النفس العربية المسلمة، قبولاً أو رفضاً، وكيف يجد هذا الشباب السبيل وعقائدها ومشاعرها عما يراه في مجتمعه ويعيشه في حياته. إن هذه الكلمات أحياناً تدير الرؤوس وتلهب العواطف، وتدفع إلى غايات وأهواء وتصور الحياة بصورة قلقة وهي تلقى مع الشباب المسلم العربي في مطالع العمر، وفي سن المراهقة ووسط أجواء حافلة بالصورة العارية والقصة المكشوفة، والفيلم الماجن، والمسرحية الصارخة، ومن خلال مجتمع مختلط فيه الملابس الكاشفة والصدور العارية، والكلمات الجريئة والزحام الشديد، والاختلاط الغريب وكل ما يقر أ أو يسمع يعين على الغواية ويدفع إلى التقليد ويجرئ على التجربة ومن وراء ذلك نتائج قاسية خطيرة.(28/1)
إن هذا الشباب الريفي المليء بالحياء والخلق، قد جاء إلى المدينة ووقع على (كامي وسارتر وفرويد) ومن ورائهم عشرات الكتب والقصص ووجد من يروج لهذا كله ويعرضه فير فصول وكتابات وفي مسرحيات وشعر وقصص، وهو يريد أن يعرف: هل هذا كله يمثل أنفسنا، أليست النفس الإنسانية واحدة؟ هل نحن في حل من أن ننطلق وراء الغرب في دعوته إلى الانطلاق حيث لا توجد حدود توقف ولا أبواب تحول؟ ثم هو لا يلبث أن يجد الكاتب من صميم بلده ودينه، صورة طبق الأصل بل ربما أشد عنفاً من هذا الكاتب الغربي، فهذا الذي يفترض أن المجتمع كله قد دخل دائرة الرغبة واللذة، وأن هذه الظاهرة التي لا تعدو واحدا في المائة في مجتمعاتنا قد أصبحت تستوعب المجتمع كله، وأن الناس لا يلتقون إلا ليتحدثوا في هذا الأمر، بل أنهم ليسخرون من أولئك الذين ما زالوا مقيدين بقيود الدين والأخلاق!.
هذه هي القضية التي تتطلب إيضاحاً، وتسأل عن حل، وتتطلع إلى معرفة وجه الحقيقة. ومن الحق أنها قضية، بل هي معضلة من معضلات عصرنا وأزمة من أزمات المجتمع الإسلامي في العصر الحديث.
ولكن لكي نستطيع أن ننظر في الأمر علينا أن نعرف أبعاد القضية وخلفياتها وتاريخها، في العلاقة بين مجتمعنا الإسلامي العربي وبين مجتمع الغرب، وبين الظروف التي حكمت بأن يسيطر الغرب عن طريق الاستعمار على هذه الأرض فيعمل على فرض مفاهيمه وأفكاره ونظرياته في الاجتماع والأخلاق والنفس والتربية إيماناً منه بأن هذه الأمة لا تقاد إلا من حيث تجرد أولاً من عقائدها ومفاهيمها وان تحتوي في دائرة فكر الغرب نفسه حتى يسلس قيادها وتكون تابعة راضية بتبعيتها.(28/2)
ومن هنا كانت تلك الدعوة إلى وحدة الفكر البشري ووحدة الحضارة ووحدة النفس الإنسانية، ومن ذا الذي يستطيع أن ينكر هذا كله، لقد كان ذلك صحيحاً ولكن بني البشر لم يقبلوا هذه الوحدة حين أنشأوا فكراً بشرياً مختلفاً عن الفكر الرباني الذي هدتهم إليه الأديان ورسالات السماء. ومن هنا وقع الخلاف فقد ذهبت النفس الإنسانية وراء أهوائها وعمدت إلى الضوابط التي أقامتها الأديان بالحدود والأخلاق حماية للكيان الإنساني نفسه منى الانهيار، فحطمتها باسم التحرر من القيود. ثم حين ذهبت وراء مطامعها إلى التماس متع الحياة على النحو المسرف المندفع دون تقدير لحق الناس جميعاً في هذه المعطيات. ثم حادت عن فهم رسالة الإنسان في الحياة ومسئوليته والأمانة التي وكلت إليه، فأرادت أن ترى الحياة متعة خالصة تجرى وراءها، وأن الخطأ والفساد "جبرية" للمجتمع لا حساب للفرد عنها، وأنه ليس وراء هذه الحياة حياة وأن الموت بالمرصاد من وراء الحروب والذرة، فليندفع الناس إلى الحياة يقتحمون متعها قبل أن تزول.
ومن أجل أن تحقق النفس الإنسانية أهواءها فقد كان عليها أن تبرر ذلك بالعقل والفلسفة، فتقطع علاقتها الكاملة بالمسئولية فتنكر ما وراء الواقع المحسوس، وتعلن كما فعل "نيتشة" "موت الإله وترى الدين (أفيون الشعوب) وتحتقر الأخلاق وتراها ضعفاً وذلة، وهكذا جاءت الفلسفة المادية لتحرر الإنسان من تبعته ومسئوليته وأمانته، ولتطلقه وراء لذاته وأهوائه ومطامعه: ومن هنا كانت فلسفة (الماركسية) وفلسفة الجنس (الفرويدية) وبينهما تعيش النفس الإنسانية، ومن هذه المفاهيم يصدر كامي وسارتر وعشرات من كتاب القصة والمسرحية والشعر.(28/3)
هذه النفس الإنسانية ليست هي النفس المسلمة التي ما تزال تؤمن بالله وتؤمن بمسئولية الإنسان في الحياة وجزائه الأخروي، وأمانته، وتؤمن بالضوابط والحدود والأخلاق التي تصنع الإطار الذي يتحرك فيه، ولهذا ما يكتب هؤلاء، إنما تحس بالدهشة، والدهشة مزيج نم الخوف والشوق، أما الشوق فيصدر عن هذه النفس الشابة في سن المراهقة المتطلعة إلى اللذات والرغائب، أما الخوف فيصدر عن ذلك الإحساس الداخلي بالإيمان بالله والجزاء والحساب. وهي بين ذلك تتدافع وتتارجع ولكنها لا تسقط إلا إذا فقدت عنصر الإيمان الذي كونته الأسرة وصنعه الأب والأم.
ولقد تتراوح النفس المسلمة بين الخطأ والصواب، والضلال والهدى، وكنها إذا ما عرفت الحقيقة التي هي كامنة في الأعماق، عادت إلى طبيعتها وأصالتها وفطرتها.
هذا هو سر القلق الذي يملأ مشاعر شبابنا حين يقرأ عبارات لكامي أو سارتر أو فرويد تخالف فطرته الإسلامية الأصيلة، غير أنه نتيجة عجزه عن معرفة "خلفيات" هؤلاء الكتاب يطن أنهم يكتبون بحسن نية، والواقع غير ذلك.
فهم أولاً يصدرون عن مجتمع مختلف عن مجتمعنا. ومن خلال رد فعل لتحديات لم نمر بها، ذلك أن الفكر الديني الغربي الذي فرضته تفسيرات المسيحية، وهو ليس مفهوم الدين الحق المنزل، وإنما من عمل القائمين عليها قد أوجد "سوء فهم" للعلاقة بين الإنسان والحياة، والإنسان والمرأة.
ومن هنا ظهرت بادرات الرهبانية التي أنكرت التعامل مع المجتمعات كلية والتي افترضت في المرأة جنساً غريباً نجساً يحسن تجنبه والانصراف عنه.(28/4)
هذه القضية: كان لها أبعد الأثر في تدمير المجتمع الغربي وسقوط الحضارة، حتى جاء الإسلام وبلغت أشعته أوربا وأعادت مفهوم الإرادة الإنسانية والعمل، وكان للعلوم الإسلامية أثرها في النهضة الغربية الحديثة، ومن ثم بدأ التحول أيضاً في مفهوم المرأة التي كرمها الإسلام وأعاد لها اعتبارها أن المجتمع الغربي في اندفاعاته الخطيرة قد تجاوز حدود الاعتدال وانتقل من الثورة على المرأة إلى "ثورة الجنس" كما يطلقون عليها الآن، وجاءت آراء الفلاسفة الماديين دافعة إلى الانطلاق والتحرر من كل القيود وجاءت نظرية فرويد الذي رد كل تصرفات الإنسان إلى الجنس وهدد البشرية كلها بخطر الأمراض العصبية إذا ترددت في الانطلاق.
وهكذا نرى أن المجتمع الغربي له خليفته فيما نراه اليوم من كتابات وفلسفات وقصص، التي هي تطبيق للقاعدة المعروفة: رد فعل مساو في القوة، مختلف في الغاية، فقد عاشت أوربا قروناً تحت مفهوم كراهية المرأة ونجاستها وعادت اليوم إلى مفهوم الانطلاق في العلاقة بها إلى أبعد الحدود وإخراجها من كل الأوضاع السليمة للأسرة، وإغرائها بالتعري والإباحة، ودفعها إلى المواخير وشواطئ البحار وساحات الرقص واللعب، تلك قضية الغرب وحده، وما كان لنا فيها من مشاركة، ولم تكن هذه القضية واردة في مجتمعنا الذي كرم المرأة وأعلى شأنها وأقام الأسرة وحماها بالشرف والعرض والكرامة والذي لم يقع في مشكلة الكبت أو التحلل.
غير أن للقضية بعداً آخر، هو دوافع التلمودية الصهيونية، هذه الدوافع التي أعلت من شأن الجنس والمادة وجعلت لذلك كله قوانين وفلسفات ومناهج عقلانية، حتى تبرر وجوده والاستمرار فيه، ومن هنا نرى أن فلاسفة الجنس كلهم من اليهود والدعاة إلى تحطيم نظام الأسرة، وتحطيم الدين، وتدمير الأخلاق، وإفصاد المجتمعات:(28/5)
دوركايم وسارتر وليفي بريل وماركوز بالإضافة إلى فرويد وماركس، هذه الخلفية جدير بأن تكون في نظر شبابنا وهم يسألون عن هذا الركام المتدفق على اللغة العربية والذي يدير الرؤوس لأنه مكتوب على ورق لامع وغلاف أنيق، وثمن رخيص، ولأنه يتصل بالنفوس الشابة قبل أن تكتمل قدرتها على الفحص، وتجربتها التي تعرف بها الزيف والصواب، فضلاً عن القصور الشديد الذي يواجهه مجتمعنا عن وضع كتب طيبة طيلة في أسلوب عصري عن معضلات النفس والحياة في أيدي شبابنا تطرح أمامهم وجهة نظر الإسلام التي تلتقي دائماً مع العصر والبيئة، ولا تجمد أو تتخلف.
ومن الحق أن يقال أن هؤلاء الشباب الذين تلمع أسماؤهم اليوم في ميدان القصة أو الشعر والذين يجرون وراء هذه المدرسة أنما بدأوا حياتهم في فراغ وتساؤل، فلما لم يجدوا أمامهم في فكرهم الإسلامي ما يجيب على أسئلتهم، وجدوا كتابات نيتشة وماركس وفرويد يسيرة بفضل أمثال سلامة موسى وفيلكس فارس وغيرهم فتقبلتها نفوسهم لأنها كانت تحس بالفراغ بينما قصرت بيئاتهم وبيوتهم عن أن تمد لهم يد المعونة بالإيمان والعلم الصحيح.
وإذا كان لنا أن نقول شيئاً لأبنائنا الذين يتساءلون عن هذه الفلسفات المطروحة تحت اسم "النفس الإنسانية" فإنما نقول لهم لهم أن كل ما يبرق أمام أنظارهم ليس ذهباً، وأن الأسماء اللامعة لا تخدعهم، وأن أحداً لم يستطع حتى الآن أن يقول للنفس الإنسانية الحق ويكشف لها عن جوهرها، وهداها، وطريقها وأمانتها إلا هذا الكتاب المنزل بالحق: "القرآن".
إن على شبابنا أن يعلم كل ما يعطيه الرغبات المطلقة، والكلمات البراقة، والأهواء الشائقة، ومطامح الغرائز والشهوات، إنما يضله ويسمم فكره، ذلك أن حقيقة العطاء أنما هي إيمان بمسئولية الإنسان في الحياة، في سبيل إقامة المنهج الرباني الذي يحقق الأمن النفسي والسعادة الحقة.(28/6)
أما هذا العطاء البشري الذي يقدمه فرويد وسارتر فإنه لا يحقق السعادة ولا الأمن النفسي ولكنه يحقق القلق والتمزق والضياع والغثيان، ذلك لأنه يفصل الإنسان عن نفسه، ويمزق وجوده، ويقضي على تكامله، ويعلي من شأن جانب فيه على حساب جانب آخر، وذلك هو خطر المادية وأهوائها: وهو الطابع الصريح الواضح الآن للأدب الوجودي عامة، هذا الإحساس بالخوف المتمثل في أن الإنسان وحده في هذه الدنيا، وذلك الخوف من الموت، وتلك المشاعر القلقة المضطربة، إنما مصدرها الحقيقي هو انفصال الشخصية، وإنكار الإيمان بالله، ذلك أن الإنسان في تكوين ذاته نفس وجسد وعقل وقلب ومادة وروح، فإذا جاءت الفلسفات المادية لتقول أن الإنسان نفس وعقل ومادة فقد شطرت الإنسان وأعلت منه جانباً وتجاهلت الجانب الآخر، هذا الجانب لا يموت ولكنه يظل يرسل أحاسيسه ويملأ صاحبه غماً وقلقاً واضطراباً، لأنه جانب موجود وله حق الحياة وتلك هي أزمة الحضارة والإنسان المعاصر. أما المسلم فإن موقفه من ذلك يختلف تماماً، فالمسلم يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى خلقه من طين ثم نفخ فيه من روحه فهو متكامل التشكل: مادة وروحاً، لا سبيل إلى إعلاء جانب منه على الآخر، بل هو في الحقيقة حين يؤمن ينتقل من المادة إلى الروح فيكون قادراً على البذل والعطاء، وتلك هي قدرته على التسامي من الفردية إلى الغيرية، ولكنه في مفهوم الإسلام أيضاً له حق الحياة والمتاع بها دون انفصال عنها أو عزلة عن المجتمع، فهو متكامل جامع، وهو في فهمه للحياة وتحركه فيها أنما يجمع دائماً بين الزمني والروحي والمطلق والنسبي، واللانهائي والمحدود، يجمع بين معطيات الدنيا وخلود الآخرة.
تلك مقدمات يسيرة بين يدي تساؤلات الشباب في مواجهة الفكر البشري من فلسفات ومفاهيم.(28/7)
يرسم الإسلام الطريق إلى تكوين الأجيال على نحو غاية في الأصالة وغاية في التقدم في نفس الوقت، فهو لا يدعو إلى تربية مغلقة جافة أو إلى تقليد الآباء، وهو في نفس الوقت لا يطلق الأجيال دون أن تأخذ قدراً من الحصانة والحماية وفهم الوجهة والغاية.
ومن هنا فإن التربية الإسلامية تختلف في منهجها عن التربية التي تقدمها المناهج والمذاهب العالمية على السواء في أنها تجمع بين الدائرة الثابتة والدائرة المتحركة. وذلك حتى لا تنفصل الشخصية الإنسانية عن جذورها التي شكلتها الأديان والعقائد والقيم والبيئة، ثم تكون لها القدرة من خلال هذا الإطار الثابت المرن على تقبل روح العصر من نمو وحركة وتطور وتقدم وعصرية، شريطة أن يكون روح العصر قادراً على التشكيل والانصهار داخل إطار روح الأمة الأصيل.
وتلك قاعدة أساسية من قواعد الفكر الإسلامي تقوم على التكامل والنظرة الجامعة، وعلى ترابط العناصر وتفاعلها بحيث لا يطغى عنصر منها على الآخر ولا يستعلي وبحيث تحقق في مجموعها الاستجابة لتركيب الإنسان نفسه الجامع بين المادة والروح والعقل والقلب.
وعنصر الثبات دائماً يتصل بالإنسان وبخالقه وبالكون وبالتاريخ وبأول الأشياء وبالقرآن وبالفطرة وبالدين، أما عنصر الحركة المتغير فهو يجعله دائماً قادراً على الحياة في للبيئة والعصر مع ظروف التحول والتغير والتطور.
وفي التربية تقوم القاعدة الإسلامية على ركيزتين متوازيتين:
الأولى: إعطاء الأبناء قدرة على الحركة إلى المستقبل.
الثانية: إعطاء الأبناء قوة على الثبات داخل قيم الدين والأخلاق.
وبغير هذا الترابط الجامع يسقط أعظم عامل من عوامل السلامة والقوة في بناء الأمم، وهو عامل "الأمن النفسي" الذي اختفى تماماً من الأمم التي اتخذت من المناهج البشرية الجزئية والإنشطارية منهجاً للحياة وللتربية.(28/8)
وذلك لأن هذه الأمم قد قبلت مبدأ التغير الدائم، التحول المستمر، ففقدت قاعدتها الأصيلة، ومحورها الذي تدور في فلكه، وبذلك ذهبت بعيداً في "تيه" من العسير استعادتها منه.
ولا ريب أن النظرة الإسلامية الجامعة (وهي نظرة ربانية) هي أقرب ما تكون إلى سلامة القصد، وأكثر ما تكون قوة على حماية البناء الاجتماعي كله من أن يتبدد أو ينهار أو تتدافعه الرياح الهوج.
والمسلمون يؤمنون بالتقاء الأجيال وتكامل الأجيال ولا يؤمنون بصراع الأجيال. وهم يفرقون بين فريضة تقديم التجربة الكاملة من أهل جيل سابق إلى جيل جديد، وبين ما يوصف بأنه "وصاية" على الأجيال الجديدة.
ذلك أن من حق الأجيال الجديدة على الأجيال السابقة: أمرين:
أمانة التجربة والالتزام بإضاءة الطريق أمام النشئ النامي حتى يستطيع أن يمتلك إرادته، لفت نظره إلى ما في الطريق من عقبات، أما الجيل الجديد فمن قه أن يقبل التجربة القديمة أو ينقدها، ولكنه لابد أن يبني على نفس الأساس وإن كان من شأنه أن يجدد أو يغير في الفروع والجزئيات. أما جوهر البناء فهو ملتزم به لأنه ليس ميراثاً عن الآباء فحسب، ولكنه لأنه إلى ذلك قائم على دعامة منهج أصيل متميز، رباني غير وضعي ولا بشري، ويجب أن لا يدفعنا أي دافع إلى التضحية بهذا الأساس إزاء وهم أو بريق خادع من شأنه أن يخرجنا عن الإطار والضوابط والحدود التي رسمها لنا الإسلام.
ويقضي تكوين الأجيال أن تتوازى فيه عوامل ثلاثة:
قدر من الإيمان، وقدر من الثقافة، وقدر من التجربة.
1- فالإيمان هو العامل الأول الذي يضيء القلب ويكشف عن المهمة الحقيقية للإنسان في الأرض، لماذا جاء؟ وما هي أمانته؟ ورسالته وغايته ومسؤوليته. هذا القدر من الإيمان لا يعطيه إلا الدين الحق، والقرآن هو العامل الأول في بناء العقيدة وكشف الوجهة وتزكية النفس والقلب.(28/9)
2– ثم يجئ العامل الثاني وهو الثقافة الأصلية التي تكشف للعقل عن دوره ومهمته في ضوء التوحيد والإيمان والوحي، وتبسط أمامه الآفاق الواضحة لدور المسلم في الحياة، وللتحديات التي تواجهه في هذا العصر وفي كل عصر حتى يعرف مدى المسؤولية الملقاة عليه، ومدى الخطر المحدق بأمته وأرضه وعقيدته.
3- ثم يجئ العامل الثالث وهو التجربة التي تتكون مع ارتفاع السن والعمل، والاتصال بالمجتمع والناس. ومن شأنها أن تزيد الإيمان والثقافة عمقا وأن تمنحها الرصيد الذي يؤكد الحقائق ويزيدها ثباتا في النفس والعقل.
فإذا خرج الجيل الجديد إلى الحياة دون أن نزوده بالإيمان فإننا نكون قد فتحنا الطريق أمام الفكر البشري ليغزو هذه النفس الناشئة وليملأ هذا الفراغ الذي عجزت عن ملئه الأسرة والأبوة والقدوة.
ومن هنا يبدأ الانحراف ويبدأ الخطر، ثم تكون الثقافة الزائفة الملقاة على الأرصفة هي الزاد حيث لم نهيئ له الزاد الأصيل.
وفي القصة والرواية والفلسفات شبهات وأخطار وصور براقة تنفذ بسرعة إلى القلب الغض والخيال الساذج، وتجد قبولا لأنها ترضي الغريزة والهوى والنفس الأمارة، ومن ثم تحجب الطريق الصحيح.
ثم لا تكون التجربة بعد ذلك إلا في مجالات الأهواء واللذات والرغائب الصغيرة وهكذا تتعرض الأجيال الجديدة للخطر الذي يجعلها تتنكب طريق الخير فلا تعطي لأمتها ما تتطلع إليه من قوة دافعة بل تكون عاملا من عوامل الهزيمة والانحراف.(28/10)
ومن شأن التربية الإسلامية أن تنقل الأجيال من الأنانية إلى الغيرية، ومن التطلعات الفردية إلى خدمة الجماعة فالأمة والرسالة، فلا يكون الإنسان دائراً في إطار ذاته وأهوائه ورغبائه، ولكنه يكون في خدمة هدف ورسالة وغاية تستوعب كل وقته وفكره وحياته، ولا يتحقق هذا إلا إذا فهم الأبناء مسئوليتهم إزاء ربهم وأمتهم وجيلهم. فليست الحياة متعة تساق، ولا لذة تبتغى، ولا تطلعاً إلى شهرة أو مال أو مجد شخصي، وإنما هي "رسالة" ومسئولية والتزام وأمانة، الخدمة فيها موجهة باسم الحق تبارك وتعالى لإقامة المجتمع الكريم الذي يحقق منهج الله في الأرض.
إن أخطر ما يواجه الأجيال في مطالع الحياة: خطر يتصل بالعقيدة وخطر يتصل بالغريزة، وفي الفلسفات المنثورة تبرير للانحرافيين، وفي التربية الأصلية في مجال الأسرة منذ أول الخطو الحماية والحياطة وإقامة الجدار المكين الذي يحفظ العقل والنفس جميعاً من مهاوى التدمير التي تواجه الأجيال. فإذا أمكن هذا التكوين السليم حفظ النفس والعقل جميعاً من أن يستعلي شيء على العقيدة، فلا ترى النفس في تلك الصورة البراقة الزاهية ما يخلب لبها أو يخدعها، ذلك أن أول عوامل الوهن أن يحس المسلم بقصوره وقصور مجتمعه وأمته عن الأمم الأخرى، فيخدع بالظن بأن هذا التخلف مرتبط بهذه العقيدة وما هو كذلك، ذلك أن الحقيقة هي أن التراخي عن العقيدة هو الذي أحدث التخلف وليس العكس.
ولذلك فإن أول البناء في تكوين الأجيال هو الإيمان بذاتية خاصة لها قيمها ووجودها وكيانها وتاريخها، مختلفة عن غيرها، وأن هذا التخلف القائم هو مرحلة من المراحل، جاءت بعد مراحل من القوة والتمكن، شأن دورة الحياة والتاريخ بكل الأمم والشعوب، وأنها حالة مؤقتة، وأن الالتزام بالأصل والجوهر الرباني، من شأنه أن ينهي هذه المرحلة ويرد المسلمين مرة أخرى إلى مكانهم في تاريخ البشرية وأن ما يطيل أمد التخلف هو التماس مناهج الآخرين.(28/11)
إن منهج الإسلام جماع للروح والمادة، والعقل والروح، والدنيا والآخرة، وهو وسيلتهم إلى النجاح وسبيلهم إلى التمكن، وليس لهم من دونه طريق أو سبيل، تلك هي أمانة الأجيال الحقة التي يجب أن يقدمها لهم هذا الجيل ليكونوا من بعد قادرين على الدفاع عنها والحفاظ عليها والقيام بها.
إن السؤال الذي هو بمثابة أكبر معضلات العصر هو موقف شبابنا إزاء هذا الفيض المتدفق من النظريات والمعلومات والأفكار عن طريق الصحافة والإذاعة والكتب العربية المترجمة والقصص وما يدرس في مدرجات الجامعات وما تتناوله الكتب الرخيصة المنثورة على الأرصفة وعلى أسوار الحدائق وكيف يواجه شبابنا ذلك الركام الهائل المعروض عليهم عرضاً حراً مطلقاً كأنما هو من المسلمات أو الحقائق الثابتة.
إذا أردنا أن نعرف ما هي الأدوات التي يمتلكها هذا الشباب للحكم على ما يقدم له لم نجد أكثر من قدرة يسيرة على القراءة ونفوس غضة متطلعة إلى كل طريق وجميل وملون وأنيق، وخاصة إذا صحبته أسماء لامعة مثال فرويد أو سارتر وبودلير وكافكا. كيف يستطيع أن يكتشف الحقيقة ويعرف الأصيل من الزائف وقدته العقلية يسيرة، ومحصوله العلمي قليل، وذخيرته الفكرية والروحية والدينية بسيطة، وعنصر الحرص من الخطر معدوم تماماً.
إن شبابنا يقبل ببساطة على هذا الركام، وهو مستسلم له تماماً خالي الذهن من تلك المعركة الضخمة الدائرة نم وراء هذه المطبوعات، والتي ترمي إلى إغراقه واحتوائه والقضاء على كيانه واستلاب قدراته التي وهبتها له أمته من أجل الدفاع عن القيم والمقدسات المعرضة للخطر.
لذلك فإن القراءة الآن أصبحت فناً خطيراً وأمانة الكاتب موضوعة الآن في الميزان ومسئولية القارئ يجب أن تكون واضحة إزاء ما يكتب وما يقدم.
إن خطر الأجنبي المترجم ليس أقل أثراً من الغربي المكتوب بالعربية والمقدم للشباب على أنه نتاج عربي.(28/12)
وهذا الغربي المكتوب باللغة العربي وبأقلام عربية، ما مدى أصالته، وما مدى سلامته وما مدى إيمان أصحابه بأمتهم وبأمانتهم لها. لقد أصبح هناك صنفان من الكتابات أحدهما ولاؤه للفكر الغربي بمفهومه ديمقراطياً ووجودياً وإحياء الوثنية الإباحية الهلينية وهذا الفكر يحاول أن يتعرض للإسلام ولتاريخ الإسلام ولشريعة الإسلام بإثارة الشبهات وبالدعوة إلى استغلالها لتبرير الواقع وتبرير الحضارة التي تمر بمرحلة الأزمة الصاعقة. والتي تقدم أسوأ معطياتها اليوم وأقسى صور حياتها في صورة الوجودية والهيبية الناقمة المنحرفة الرافضة لكل قيم المجتمعات وضوابطها.
ومن الكتابات ما نجد وراءها الفكر الماركسي المادي بمفهومه المنحرف الداعي إلى صراع الطبقات المحرضة على الهدم والتدمير والدماء والقائم على الجماعية التي تحتقر الفرد ولا ترى إلا أنه ترس في آلة، والتي تنكر الأسرة والزواج وتنظر إلى الأخلاق والدين والصلة بالله وبالسماء نظرتها الرافضة المحبوسة في حدود المحسوس والمادي وهي تحاول أن تفرض فلسفتها هذه على المجتمع الإسلامي وتعمل على تفسير التاريخ تفسيراً مادياً، محدوداً، قاصراً لا يعترف بالروح ولا بالمعنويات.
ومن عجب ألا يتوقف هذا التيار الصاعق عند دعوته ولكت يقتحم الفكر الإسلامي ليفرض منهجه المادي عليه، ومن هذه المحاولات الخطرة:
أولاً: إقامة جسور وقناطر بين الفكرة الإسلامية والنظريات العربية، ماركسية ووجودية وديمقراطية، بدعوى أن الإسلام فيه ديمقراطية وعدالة اجتماعية واعتراف بالفردية.
ثانياً: محاول تفسير التاريخ الإسلامي تفسيراً مادياً لتحرك التاريخ الإسلامي أو اتخاذ التفسير المادي المنكر للغيب والنبوة وما وراء المادة أساساً للتفسير.(28/13)
ثالثاً: محاولة لوضع الشريعة الإسلامية في مجال تبرير الواقع المعاصر في الأمم والحضارات المعاصرة وذلك بالقول بأن الشريعة الإسلامية مرنة وقابلة للحضارات وتغيرات العصور والأزمان، وأنها تقوم على أساس قواعد عامة ترتضي القوانين الوضعية مع تعديلات يسيرة.
ولا ريب أن هذه كلها مؤامرات زائفة، ومحاولات مغلوطة، تفسر الشريعة الإسلامية والمفهوم الإسلامي على الانصهار في بوتقة الحضارة القائمة بكل فسادها وانحلالها وتبريرها من ناحية والقبول بها من ناحية ذاتية الإسلام المفردة ذات الطابع المفرد وأهم من ذلك كله القضاء على الطابع الخاص المتميز الذي يختلف اختلافاً واضحاً عن الواقع الإسلامي المعاش والمستمد من الحضارة الغربية التي شكلتها مفاهيم الوثنية اليونانية والقوانين الرومانية وتفسيرات المسيحية الغربية بما فيها الخطيئة الأصلية والفصل بين الدين والدولة، والقول بالتطور المطلق ونسبية الأخلاق.
###الشباب وكيف يواجه ركام الفكر الوافد
إن الماركسيين يحاولون خداع المسلمين بأن الماركسية والإسلام يلتقيان في العدل الاجتماعي وأن الغربيين الليبراليين يحاولون خداع المسلمين بأن الديمقراطية والإسلام يلتقيان في الشورى التي تسمى في الديمقراطية التمثيل النيابي وكلا الأمرين فيه تمويه وزيف كثير فلا العدل الاجتماعي في الإسلام مشابه للماركسية ولا الشورى مشابهة للتمثيل النيابي.
ونحن نعرف أن الاستعمار والصهيونية والماركسية يتعاونون على هدف واحد وإن اختلفوا في مطامع السيطرة، هذا الهدف هو تدمير المعنوية والأصالة والذاتية في الأمة الإسلامية حتى تخضع وتدخل دائرة الاحتواء وتنصهر في الأتون اللعين، أنون الأممية. ومن ثم تفقد ذلك الشيء الذي يميزها ويجعلها أمة لها قدرتها الخاصة على إقامة كلمة الله، وعلى العمل لإقامة المجتمع الرباني.(28/14)
جاء الاستعمار وهدفه إحلال مخطط جديد وفكر جديد مختلف في الغاية والوجهة، هو إدخال المسلمين في الدائرة الغربية المغلقة، وإخراجهم من الدائرة الربانية الموسعة الجامعة، مستهدفاً حصرهم واحتواءهم، ولقد جرب الغرب أسلوبه في الديمقراطية الغربية وأحس العالم الإسلامي أنها جسم غريب، ثم جاءت الموجة الأخرى المتابعة لها وهي الماركسية ورفضها الجسم الإسلامي والعقل الإسلامي، وأثبت الروح الإسلامي أنه غير قابل للاحتواء والانصهار في أي النظامين، غير أن التجربة المظلمة: تجربة تطبيق النظام الغربي في المجتمع والتعليم والسياسة والاقتصاد والقانون كانت مصدراً للهزائم المتوالية التي وقعت فيها المنطقة العربية، نكبة ونكسة وهزيمة، واحتلال فلسطين والقدس، كانت أفكار القومية والإقليمية والتجزئة مصدر التمزق والهزيمة، لقد كانت الهزيمة نتيجة هجر المنهج الإسلامي، منهج الأصالة والذاتية، والانصهار في مناهج الغرب التي لم تكن صالحة لأهلها أو محققة لهم قيام المجتمع الأمثل، أن الذي هزم هو التخطيط العسكري والسياسي الوافد، أما الإسلام فإنه لم يكن موجوداً أو مطبقاً حتى تنسب الهزيمة إليه، بل كان قد أبعد تماماً وحوصر.
إن التجربة التي بدأت بالاحتلال الغربي وانتهت بهزيمة 1967 م يجب أن تضع تحت لأعيننا رصيداً ضخماً من الوعي واليقظة والحذر، تجاه فكرة تقليد الغرب بشقيه، أنماط الغرب، الترف، الاستهلاك، الانحلال، التمزق، الغربة، الغثيان، كلها هي ميراث هذا الفكر الغربي الوافد الذي يقدم لنا عن طريقين: عن طريق مترجمات غثة رديئة، لا نختار إلا الإباحيات والسموم والانحراف وتدع كل ما هو إيجابي وصالح ونافع، لم تقدم هذا على أنه مسلمات وحقائق، بينما هو لم يبلغ درجة النظرية، وليس درجة العلم إنما هو ركام شديد السوء تقدمه أقلام مليئة بالحقد والكراهية والتعصب، مدفوعة إلى تدمير المجتمعات وهزيمة القيم وإثارة الشبهات والشهوات والإباحيات.(28/15)
لقد علمنا الإسلام أن نقف من المعارف المعروضة علينا موقف التعرف الصحيح على قيمها الحقيقية، وعلى مصادرها، وعما إذا كانت نافعة أم ضارة، إيجابية أم سلبية، وأن علينا أن نرفض الزيف والتفاهات أن ننبه عليها.
وأنة نعرف أن لنا من العلوم موقفاً ومن الثقافات الأممية موقفاً، ومن هذا الركام الزائف المنشور في كتيبات تباع على الأسوار موقفاً آخر، وعلينا أن نعرف الفرق بين العلوم والفلسفات، فالفلسفات نظريات فردية قوامها فروض تصح وتخطئ، وهي مرتبطة عادة ببيئتها وعصورها، وليست صالحة لعصور أو بيئات أخرى لأن جانبها الذاتي بالإضافة إلى صدورها عن تحديات مجتمعها وعصرها وأمور مجتمعها كل هذا يجعلها أقل صلاحية لأن تكون إنسانية أو عامة.
والعلوم التجريبية شيء غير الفلسفات وغير الثقافات، ومن حق الشباب علينا أن نقدم لهم مترجمات عن الفكر الغربي ولكنها يجب أن تكون مسبوقة باستعراض لها، فإذا قدمنا لهم ماركس أو سارتر، أو هيجل، أو فرويد، فعلينا أن نقدم ذلك في إطار عصره وفكره، وأن نقدم أيضاً وجهة نظر فكرنا في هذا العمل أو ذاك. ذلك أن للفكر الإسلامي منهجه ومنطلقه وطابعه الخاص به، وهو مختلف عن مناهج ومنطلقات وخواص وطوابع الفكر العربي: الذي مر بمراحل مختلفة، وتركز في صور عديدة، منها الاقتصاد والنفس، والاجتماع والقانون، وكلها تختلف عن مفهوم الإسلام.
فلنكن على حذر مما يقدم إلينا من هذه المترجمات.
أما ما تكتبه الأقلام العربية من مصدر ولاء للفكر الغربي أو الفكر الماركسي، فإن علينا أن نعرف موقف الإسلام من كل ما يقدم، وإلا تختلط علينا المفاهيم فتجرفنا إلى ما يخرجنا من طوابعنا وذاتيتنا، حتى لا نسقط في فخ الفكر العالمي، الأممي الذي يستهدف صهرنا وإذابتنا في بوتقته حتى تضيع تلك الصفة الخاصة التي يتميز بها المسلمون: وتلك هي أخطر التحديات التي تواجه "الأصالة".(28/16)
في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي في الشباب
إن من أكبر المهام التي يفرضها علينا "التحدي الذي تواجهه الأمة الإسلامية": تحدي الصهيونية والاستعمار والماركسية: ممثلاً في التغريب والغزو الثقافي والشعوبية: هو بناء ذاتية المثقف المسلم العربي.
إن أي ثقافة أو قراءة أو إطلاع دون هوية ومعرفة للهدف ودون إيمان برسالة الإيمان والحب لهذه الأمة والذود عنها وافتداء عقائدها ووجودها، لا قيمة لها، بل إنها سوف تكون مصدراً من مصادر الشقاء لأنها سوف تدفع صاحبها ليجري مع كل ريح، وسوف يعجز عن تحديد موقفه من أهواء المذاهب وتيارات النظريات وزخارف التعابير المنمقة الكاذبة نحن مطالبون أولاً بأن نعرف ركائز فكرنا وعقيدتنا، فإذا عرفناها آمنا بها واعتنقناها وملأنا بها كياننا الروحي والنفسي والعقلي، واستطعنا في ضوئها أن نواجه كل ما يقدم إلينا من هذا الشتات الكثير المختلط، إن الخطر الذي اجتاح بعض من غلبوا على أمرهم فانحازوا إلى هذا الفكر أو ذاك إنما كان مصدره "منطقة الفراغ" التي دفعت الرياح الهوج لتملأها ولو أنهم كانوا قد عملوا على ملأها بالحق والخير والإيمان والنور المستمد من العقيدة الصافية والفكر الأصيل لما استطاعت الأهواء أن تجتاحهم، لقد برقت يف عيونهم كلمات خادعة لفرويد ونيتشه وماركس وسارتر، ولو تعمقوها لوجدوها سماً زعافاً. إن المثقف المسلم الأصيل، المؤمن بأمته وعقيدته لا تخدعه الأسماء اللامعة ولا المطبوعات الفاخرة ولا الكلمات البراقة وإنما يعرف الرجال بالحق فمن عرف الحق عرف أهله ومن ثم فإن هذه الركائز قد تكون قادرة على إلقاء الضوء الكاشف أمام النفوس المستشرفة للضوء والعقول المتطلعة إلى النور.(29/1)
إن أمتنا ليست في حاجة إلى أن تعتنق مذهباً ما من هذه المذاهب المطروحة أمام الفكر، أو نظام مجلوب من خارج دائرة ثقافتها. وهل يجوز لأمة لها هذا التاريخ العريق والدور الأصيل في بناء حضارة الإنسانية أن تحتوي، أو تصهر في أتون فكر الأمم، أو أن تستبعد لنظريات الفكر البشري وعندها الفكر الرباني الخالص الأصيل المستمد من وحي السماء. إن أبرز طوابع أمتنا هي الأصالة والاحتفاظ بالكيان الخالص والذاتية التي لا تنصهر ولا تذوب في فكر الأمم، ولأمتنا المنهج الأصيل الذي يحقق لها إذا أخذت به أسعد ما تتطلع إليه الأمم من نظم الاجتماع والفكر استمداداً من التوحيد الخالص والالتقاء بالفطرة والتجاوب مع الطابع الإنساني، إن نظرة فكرنا الإسلامي العربي نظرة رحبة عميقة واسعة الآفاق والأبعاد جامعة بين الروح والمادة والعقل والقلب، والدنيا والآخرة في إطار الالتزام الأخلاقي والمسئولية الفردية والإيمان بالبعث والجزاء. هذا الفهم الجامع الكامل الرحب من شأنه أن يثرى آفاق حياتنا في مواجهة التحدي الاستعماري الخطير الذي يلتمس الآن أصول فكرنا لتزييفه واحتوائه من خلال مؤسسات ظاهرة هي التبشر والاستشراق ومن خلال قوى خفية تتمثل في بروتوكولات صهيون وما تدبره في خفاء عن طريق الفكر والصحافة والثقافة وبواسطة مذاهب فلسفية تدور حول النفس والأخلاق والاجتماع ومقارنات الأديان وذلك في سبيل تحقيق هدفها الخطير المعلن وهو السيطرة على العالم بعد القضاء على كل قيمه ومثله وأخلاقياته.(29/2)
ومن هنا فإن هذا التحدي يجب أن يكون قائماً في نفس كل منا وعقله، لا يغيب عنا لحظة ولا تجدنا ننظر في أمر من هذا الخطر الذي ترمي إليه كل القوى الطامعة في بلادنا والتي ترى أن خير وسيلة لاحتوائنا هو استقطاب فكرنا، حيث أننا أمة لا يمكن أن تخضع إلا إذا أزيلت رواسيها: القرآن والإسلام واللغة العربية. لقد تنبهنا لهذا الخطر منذ وقت طويل وبقى أن نحول هذا الفهم إلى إرادة حية تصد هذا الكيد وتحمي هذا الميراث وتحمل تلك التبعة وتزود عن هذه الأمانة بكل مرتخص وغال، ذلك أن أي إنسان منا ما هو إلا ابن هذه الأمة وهذا الفكر وهي بنوة عريقة ونسب كريم فقد حمل آبائنا أشرف رسالة وأعظم دعوة وكانوا من المجاهدين في سبيل هذا الحق، قادة للهدى والنور والخير في كل أرض وعصر ومن حقهم علينا أن نسير على طريقهم في النضال وأن نحمي هذه الأمانة ونذود عنها وأن نظل قادرين على حمل اللواء، وأن نقدم الإسلام إلى الأمم الحائرة التي تعيش اليوم في قلق وتمزق نتيجة غلبة النزعة المادية عليها.
ومن أجل تحقيق هذا كله أردت أن أضع بين أيديكم هذه المجموعة من الحقائق الفكرية والثقافية كأساس لبناء نظرة صحيحة إلى الحياة.
(أولاً): إن التدين جزء من الطبيعة البشرية ولا يستطيع الإنسان أن يعيش بغير دين وقد عجزت الأيديولوجيات والمذاهب الحديثة أن تقدم له بديلاً عن الدين يرضي روحه ويسعد حياته.
لقد حررت الأديان الإنسان من عبودية المجتمع وعبودية الفرد ليتجه إلى الله وحده ولكن هذه الأيديولوجيات أعادت الإنسان إلى سجن المجتمع – لقد تضاءل الإنسان ليصبح مجرد نملة اجتماعية في مجتمع النمل.
لقد علمت الأديان أنه ليس حشرة اجتماعية ولكنه إنسان ذو كرامة. فاستطاعت أن تمنح معتنقيها هداية لا تستطيع أن تجاريها فيها الأيديولوجيات التي فصلت الإنسان من عبادة قوى الطبيعة إلى عبادة قوى المال والمادة.(29/3)
(ثانياً): إن الإنسان ليست له أزمة ولا قضية حادة في ظل مفهوم الإسلام ذلك أن الإسلام نظر إلى الإنسان نم خلال طبيعته الجامعة بين الروح والجسم والعقل القلب. نظر إليه بوصفه كياناً متكاملاً وبذلك أقر رغباته المادية كلها وأباحها له دون أن يقيدها إلا بضوابط معينة قصد بها حماية الإنسان نفسه من الانهيار والتدمير وحتى يكون قادراً على أداء رسالته في الحياة ومواجهة مختلف التحديات دون أن يضعف أو ينهار.
(ثالثاً): ألغى الإسلام الفكرة الوثنية القديمة (التي تتجدد عن طريق الأيديولوجيات) القائلة بأن هناك صراعاً بين الجسم والروح، وأعلن أن الجسم والروح متكاملان وبذلك عارض مفهوم الرهبانية ومفهوم الإباحية معاً ودعا إلى التوازن وإلى إعلاء الرغبات حتى تتحقق القدرة على تنفيذها على النحو الطبيعي السليم.
لقد وضع الإسلام ضوابط من ثلاث عناصر:
الاعتدال – الحلال – العفة.
ولذلك فقد عجزت أزمة الجنس أن تمد لها مجالاً في محيط الإسلام لأنها لم توجد أصلاً. وفي الغرب (وفي الفكر الغربي الوافد الذي نراه في المسرحيات والسينما ونقرأه في الكتب والروايات) نجد مجتمعاً آخر، يختلف اختلافاً أساسياً عن مجتمعنا. لقد كانت أوروبا تعيش في ظلال القسر الشديد ثم انطلقت إلى الإطلاق الشديد وبذلك كانت مضطربة في الأولى لأنها خالفت الفطرة، ممزقة في الأخرى لأنها جاوزت الطبيعة.(29/4)
أما الإسلام فقد قبل مبدأ الفطرة القائم على التوازن. أعلن وجود الرغبات من مال وطعام وجنس ولكنه وضعها في إطارها الصحيح ولم يجعل الطعام قضية تفوق القضايا أو تسيطر عليها ولم يجعل الجنس قضية القضايا كما نرى فيما ينقل إلينا ولكنه جعل الحياة متكاملة في عناصرها متوائمة في رغباتها وحدودها بعيدة عن الزهادة والسرف والرهبانية والتحلل والإطلاق والكبت وجعل للحياة أفاقاً أوسع من المادة وأعلى من الرغبات جعل هناك الأشواق الروحية والنفسية والعقلية إلى الثقافة والعلم والعبادة. فالإسلام لا يرفض الرغبات الحسية ولكنه يضعها في إطار واضح. فيجعل تحقيقها عن الطريق الطبيعي بالزواج في حالة القدرة أو التسامي والإعلاء بها بعد في حالة عدم الاقتدار. وذلك: دون أن تفقد هذه الرغبات حقها المعترف به في حالة الاستطاعة.
رابعاً: كذب الإسلام ودحض الافتراض القائل بأن الدين يصرف الإنسان عن النضال والعمل وأعلن أن الدين يدفع إلى القوة والتقدم والكشف والعمران جميعاً إيماناً بدعوة الله للإنسان إلى العمل واستخلافه في الأرض.
ولا ريب أن دعوة الإسلام إلى امتلاك الإرادة الخاصة ورفض القيود ومقاومة الغزو كانت مصدر كل النضالات الوطنية التي انطلقت في العالم الإسلامي منذ جاءت موجة الاحتلال الأجنبي إلى الآن.
خامساً: أعلن الإسلام عن قيام الإرادة الحرة لكل مسلم وكل إنسان.
فكل إنسان مريد وقادر على العمل والتعبير، وقد هدي إلى الطريقين: طريق الخير وطريق الشر وعليه أن يختار أحدهما وفطرته تهديه ودين الله المبلغ له عن طريق الرسل والكتب ترشده.
هذه الإرادة لها تبعتها: هي المسئولية والحساب والجزاء الأخروي. فلا إرادة بلا مسئولية ولا مسئولية بلا جزاء.(29/5)
أما الذين يقولون بالجبرية والصدفة وبأن الحياة مطلقة وأن من حق الإنسان أن يأخذ منها ما يشاء قبل أن يدركه الموت فذلك ليس مفهومنا، وهو في ذاته مفهوم باطل بحكم العقل والقياس وأن ترتيب البث والجزاء بعد الموت ليس أمراً مستحيلاً ولا متناقضاً مع العقل والفطرة، ذلك لأن للإنسان رسالة في الحياة، هو مطالب بأن يقوم بها على الوجه الصحيح، في سبيل إقامة مجتمع يرضى عنه الله تبارك وتعالى، فله في ذلك أجر الإحسان وجزاء الخطأ فإقرار البعث مطابق للفطرة ولا يشكل تناقضاً عقلياً بل إن إنكار البعث هو الذي يشكل التناقض، ويصور هذه الحياة، على أنها مسرحية هزيلة أو لعبة أو لهواً وهي ليست كذلك بالقطع، الإنسان له رسالة وهو محاسب عليها (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون).
سادساً: قرر الإسلام أن هناك قاسم مشترك أعظم على مختلف القيم والتصرفات: والأخلاق مقررات جاء بها الدين من عبد الله وهي ثابتة ثبات الفطرة الإنسانية نفسها، لا تتغير بتغير الزمان والمكان.
(فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله).
وقاعدة الأخلاق الأساسية في الإسلام هي أن الحق واحد والخير واحد وانهما لا يختلفان ولا يتعددان وكذلك الشر والباطل.
والأخلاق هي تمييز بين الحق والباطل والخير والشر، وسيظل الخير هو الخير والشر هو الشر على اختلاف الأزمنة والبيئات ولن يتحول يوماً إلى ضده.
ولقد دعانا الإسلام إلى أخلاقية الحياة وأقام الالتزام الأخلاقي في كل الأعمال والتصرفات وجعله جزءاً من الدين فالدين في الإسلام جامع بين العقيدة والشريعة والأخلاق وهي لا تنفصل ولا تتجزأ.(29/6)
أقول هذا لنكون في يقظة إزاء المذاهب التي تقول بأن الأخلاق نسبية، لا، ليست الأخلاق ولكنها التقاليد. أن الأخلاق من عند الله والتقاليد من صنع المجتمع نفسه. فالتقاليد متغيرة نعم، أما الأخلاق فلا ولقد يظن دعاة الفكر المادي أن الأخلاق كالدين نبعت من الأرض ولم تنزل من السماء ولذلك فهم يرونها متغيرة أما نحن: المسلمون فنفرق بين الأخلاق والتقاليد ونرى أن الأخلاق ثابتة كثبات القيم الأساسية وأن التقاليد متغيرة ويجب أن تتغير مع اختلاف العصور والهيئات.
والقاعدة أن هناك ثوابت وهناك متغيرات: والتطور والتغير والتحول إنما يشمل المتغيرات أما الثوابت فشأنها شأن الأفلاك والمدارات التي تتحرك فيها الكواكب فهي ثابتة. ذلك في الإسلام أفلاك ثابتة وقيم لا يمكن أن تتغير ولكن ما في داخلها يتغير ويتحرك.
وتلك ميزة الإسلام:
سابعاً: هناك منهجان مختلفان: منهج للعلوم ومنهج للإنسانيات: منهج العلوم يستمد قوته من المادة ويتحرك في فلكها ولكنه لا يصلح للتطبيق على الإنسان: ولا يستطيع مقايسة الأخلاق والنفس والمجتمع. إن المفاهيم التي ترتبط بالإنسان في مشاعره وعواطفه يصعب إخضاعها لقوانين الظواهر الطبيعية. ذلك لأنها تتعرض لظروف مختلفة تتعلق بأعماق النفس ولا تخضع للتجربة.
ثامناً: لا تصدقوا الفكر الذي تقدمه الروايات والأفلام السينمائية والمسرحيات ولا تعتبروه مسلمات. ذلك لأنه لا يصدر عن حقائق وإنما عن أهواء وخيال.
الواقع هو المجتمع الذي نعيش فيه بما قامت عليه أعمدته من مقومات رسمها الدين الذي هدى البشرية إلى الحق، ثم جاءت العلوم مفسرة له: أما ذاك عالم الخيال والوهم:(29/7)
إن الإسلام قد قدم لنا كل المفاهيم والقيم والتفسيرات لمختلف قضايا المجتمع والإنسان والأخلاق والنفس على نحو كريم، فيه السماحة واليسر، وفيه قبول الاضطرار والمغفرة عند الإساءة. والتوبة من الذنب، إطارات واسعة فسيحة وقيم أساسية: ثم بعد ذلك قدرة على الحركة دون تزمت أو ضيق فإذا جاءت اليوم الرواية الخيالية والمسرحية وأفلام السينما لتقدم لنا مفاهيم أخرى مخالفة للفطرة أو مضادة للحق فما أحرانا أن نعرف وجه الحق وأين هو ولا نتحول تحت تأثير البريق الخاطف أو الضوء الساطع، أو التقاء هذه المفاهيم مع أهواءنا ورغباتنا، لا نتحول إلى اعتناق مفاهيم ليست من الأصالة في شيء ولنعرف تماماً أن الرواية والمسرحية والقصة السينمائية ليست إلا ملهاة وتسلية أريد بها إزجاء الفراغ وإدخال شيء من الترويح على الناس ولكنها لا تكون أبداً نظماً ولا عقائد ولا قوانين مقررة نحاول أن نطبقها في المجتمع فننقل أحكام عالم الخيال إلى عالم الواقع والعكس هو الصحيح.
فهي لن تزيد عن أن تكون مخدراً يريد به أصحابه نقل الناس ساعات من واقعهم إلى عالم غريب خيالي ثم إذا هم عادوا وجدوا الواقع قائماً بقوته واستمراره لا مفر من التسليم له والاعتراف به والتجاوب معه.
ولنكن قادرين على الفهم الواسع العميق للفارق البعيد بين حقائق الأمور كما جاءت بها رسالات السماء وبين نظريات الفكر البشري التي وضعها الإنسان وفق هواه وفي سبيل تحقيق رغبائه متجاوزاً ما يراد له من الخير إلى ما يريد هو من الشر، لنفرق دائماً بين الواقع القائم في عالم الحياة والوجود، ومكاننا منه ومسئوليتنا إزاءه وبين هذا العالم الوهمي الخرافي الذي صنعه الإنسان ليدخل على بعض النفوس تسلية أو ملهاة ولا نخلط أبداً بين العالمين: عالم الواقع وعالم الوهم والخيال.(29/8)
نحن نعي أننا ملتزمون أمام الله بمسئولية الفرد إزاء المجتمع، الفرد الذي يملك إرادة التصرف والذي يتحرك في الحياة بين قوى الخير والشر فيختار ما يشاء ويتحمل مسئوليته: مسئولية الجزاء والعقاب والثواب في عالم آخر بعد أن نموت ونبعث. فإذا جاء عالم الوهم والخيال من خلال الرواية أو القصة أو المسرحية ليشكك في ذلك ويقدم لنا صوراً زاهية براقة من معطيات الجنس أو الطعام أو الترف فذلك كله خداع وتضليل، ولذلك نحن نرفضه ونبتسم ونسخر منه، لأننا نعلم أنه يريد أن يخرجنا من أرض الواقع التي يجب أن عيشها دائماً، ويخرجنا من أصالة مفاهيمنا حين يريد أن يصور لنا الحياة وكأنها متعة طيبة من خلال أصواء وترف وذهب وحرير، كل هذا هو عالم الوهم الذي يخذل من يصدقه، لأنه لا يلبث بعد أن ينتهي من قراءته أو مشاهدته أن يجد نفسه في عالم الواقع القائم المستمر، بل ويجد الحسرة تملأ النفس على حد تعبير القصص القديمة: نظر نظرة أعقبتها ألف حسرة.
فماذا يجد بعد: ما هو رد الفعل: إنه ذلك الإحساس بالتمزق والحرمان إذا ما اندمج في الخيال وظن أنه الواقع.
لنقبل إذن عالمنا الواقع الحي على حقيقته ولا نسرف في خداع أنفسنا بالخيال والوهم لبضع لحظات مع أغنية لا تصور إلا أكاذيب الشعراء أو مسرحية أو فيلماً لا يصور إلا أوهام الذين يريدون تدمير النفس الإنسانية، لنحاول أن نعيش واقعنا فإذا لم يكن ما نريد فلنرد ما يكون، فإن علينا أن نعمل ونتقدم ونضيف ونجدد ونكافح حتى نحقق الحياة الطيبة التي نرجوها.
تاسعاً: في مجال النظرة إلى الأمور يجب أن نفرق بين أمرين هامين:
هناك أمور مشتركة بين الأمم هي العلوم فالعلم عالمي عام.
وهناك أمور خاصة مطبوعة في كل أمة بطابعها: هي الأخلاق والأدب والفن. لكل أمة مزاجها وذوقها وتقاليدها وعقيدتها.
ويمكن أن تلتقي الأمم في العلوم وفي المعارف العامة أما ما سوى ذلك فيؤخذ بحذر شديد.(29/9)
وقد حرص الإسلام على أن يحفظ شخصية أهله ولذلك دعاهم إلى معارضة التقليد وإنكار التبعية وكفل لهم منهجه الرصين المحكم القادر على ملاقاة كل بيئة وعصر – وكفل لهم كل ما يحتاجونه في مجال الاجتماع والسياسة والاقتصاد والتربية.
ولم يمنع الإسلام الانفتاح والالتقاء بالثقافات المختلفة ولكن على قاعدة أساسية واضحة: هو أن لا تحجب الشخصية الأصلية ولا الملامح العامة ولا تهدم قيمة من القيم الأساسية.
وقد دعا الإسلام إلى إعلان التمييز بين المسلمين وغيرهم في العادات والأخلاق وأسلوب العيش والحياة. وأعلن أن التقليد فقدان للشخصية وأن التبعية عبودية للفكر والعقل.
عاشراً: الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه نظام مجتمع والدين جزء منه.
والإسلام منهج حياة وليس نظرية، وهو منهج متكامل لا يقبل التجزئة ولا يقر النظرة الانشطارية التي ترى رؤية أهل التخصص الحديث فليس علم النفس وحدة أو علم الاجتماع أو السياسة أو الاقتصاد هو وحدة كل شيء، ولكن هذه العلوم والمفاهيم قاصرة بذاتها ولا تصلح إلا حين تتكامل في إطارها لخدمة الإنسان نفسه فلا تقوم نظرية في واحدة منها على نقيض حقيقة في الأخرى، هذا التكامل هو الذي يحول دن التمزق حين يعلي قوم العقل أو يعلي قوم الوجدان. أما نحن فنوازن بين العقل والوجدان والروح والمادة والدنيا والآخرة فلا نفقد الطمأنينة النفسية والسكينة الروحية والثقة العقلية.
كذلك فإن منهج المعرفة الإسلامي يقوم على الترابط بين القيم ويتخذ من الوحي هادياً للعقل ومن الفطرة سبيلاً إلى العلم، هذا المنهج الذي يقوم على التحرر من الهوى والتعصب. ويتجاوز الرغبة الخاصة إلى الغاية الكبرى.(29/10)
حادي عشر: قرر الإسلام أن الإيمان بالله قوة دافعة تعطي الأمل وتحول دون اليأس وتبعث الثقة المتجددة في النفس الإنسانية، وتحرص على المعاودة في حالة الإخفاق وليس الإيمان مضاداً للمعرفة ولكنه ضوءها الكاشف فالإسلام لا يقف بالإنسان عند مفهوم المعرفة القائم على الحس والتجربة بل يضيف إليه علماً آخر جاء به الوحي وسجله القرآن وفيه تفصيل عالم الغيب وعالم الآخرة وقد جعل الإسلام الإيمان بالغيب شرطاً أساسياً من شروط المعرفة.
ثاني عشر: إن من أخطر ما يطرح في أفق مجتمعنا: القول بأن كل إنسان حر، ومعنى الحرية هنا أنه يرفض التجربة التي قدمتها له الأجيال السابقة وذلك عين الضعف والقصور والعجز، فالشخصية القوية الرحبة تكون قادرة على مناقشة وجهة النظر الأخرى، ولو كانت خاطئة، والنظر في تجارب الذين مضوا على الطريق، إما أن يحجب الإنسان نفسه عن ذلك فإنه سوف يتقوقع في أضيق الحدود وسوف يعجز عن اقتحام الحياة وتحقيق النجاح.
علينا أن نواجه خبرات الناس وتجاربهم ومعنا ضوئنا الكاشف ومقاييسنا الأصلية. بل علينا أن نطالب الأجيال التي سبقتنا بتجربتها، وعلينا أن نكون منصفين فنأخذ خير ما فيها، ثم نحاول أن لا نقع فيما وقعوا فيه من أخطاء. تلم هي ضرورة الالتقاء بين الأجيال، وحتمية الحلقات المتتابعة ببين الأمم، ليس بين الأجيال صراع كما يقولون، بل بينها لقاء وتكامل.(29/11)
لقد استشرى هذا الخطر: خطر رفض تجربة الأجيال السابقة، والنظر إليها في شيء كثير من الانتقاض أو الزهد فيها وذلك من شأنه أن يفوت خيراً كبيراً، ولقد تعالت صيحات تقول: إن على الأبناء أن يشقوا طريقهم دون توجيه من أحد وأن عليهم أن يستعلوا على تجربة الأجيال التي سبقتهم وكيف يستعلي من لا يملك شيئاً. كيف يستعلي من يجهل. وكيف يرى نم ينظر في الظلام، إننا دائماً في حاجة إلى أمرين وكل الأمم الناهضة تتشبث بهما: منهج أصيل هو ضوء كاشف نعرض عليه كل شيء ولا نقبل إلا ما يقره. وتجربة للذين سبقوا على الطريق وبنوا قبلا حتى نعرف موضع اللبنة التي سيقدر لنا أن نضعها، إن هؤلاء الذين يعلنون تلك الصيحة ليسوا لنا بناصحين ولا أمناء، إنهم يريدون تحطيم الرابطة الأصلية بين الأجيال وإيجاد الصراع بينها، ونحن جميعاً نعرف بروتوكولات صهيون وما نصت عليه في هذا الشأن: إنها تريد تدمير هذه الأمة الصامدة في وجه الغزو الفكري والاستعمار والصهيونية. إنهم يطمعون في إخراج أجيال مدمرة ممزقة نفسياً متحللة من كل القيم والضوابط فهم يدفعون الأجيال إلى التمرد على القيم الأساسية للمجتمعات، وعلى الآباء وعلى المربين وعلى الأساتذة (صحيح أن بعض الآباء والمربين والأساتذة ليسوا مستوى المثل الأعلى) ولكن: ليس الطريق هو إزاحتهم ورفضهم وإنما الطريق هو الوصول إلى التجارب وفحصها: والأخذ بالنافع وأمن عثار الضار منها، إن الشباب وهو يحمل أمانة الغد لابد أن يبني على الأساس وأن يتحرر من أخطاء السابقين وأن يستمد التجربة والمثل الأعلى والأسوة من المنهاج وهو القرآن والنموذج الكامل وهو محمد صلى الله عليه وسلم قدوة الأجيال والعالم.
ثالث عشر: إن الإسلام يدعونا إلى المجاهدة والمذاهب النفسية الحديثة تدعونا إلى الانطلاق فأيهما الخير من أجل بناء الشخصية الإسلامية القادرة على مواجهة أخطار المجتمع وصناعة الحياة والدفاع عن القيم والمقدسات.(29/12)
إن المجاهدة بمعنى معارضة الأهواء والمطامع والكظم بمعنى تأجيل الرغبة ليس هو الكبت الذي صور فرويد أخطاره وبالغ في التخويف منها. تلك المخاطر الوهمية التي أذاعها فرويد عن الكبت تختلف تماماً، ذلك أن الكبت إنما يستمد معناه ومدلوله من إنكار الرغبات أساساً وتحريمها عقيدة وعدم الاعتراف بها واحتقارها: كاحتقار الجنس أو المال أو الطعام بينما الإسلام يقرها جميعاً وينكر تحريمها: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة): إن الإسلام لا يحتقر الرغبات وإنما يعترف بها (نفسية وحسية) اعترافاً كاملاً دون إنكار لها وإن كان يدعو إلى الاعتدال في استعمالها أو تأجيل ممارستها حتى تتحقق القدرة التي تضعها في إطارها المشروع والصحيح. فتأخير ممارستها ليس كبتاً وإنما هو إعلاء.
إن خطر الكبت الذي تفترض الفرويدية أنه يؤدي إلى العصاب لا يتحقق إلا نتيجة الإنكار والرفض والاحتقار للرغبات، أما الاعتراف بها مع التأجيل فذلك مما لا يتعارض مع الطبيعة البشرية وهو ما ترضاه وتحتمله، ولقد هللت طويلاً دعوات التربية الحديثة بأن توجيه الأطفال وعقابهم يؤدي إلى كذا وكذا من الأمراض ثم أثبتت التجارب التي أجريت على الطبيعة وبالإحصاء الدقيق أن ذلك محض وهم، وإن النفس الإنسانية قابلة للتوجيه والتحذير والعقوبة دون أن يحدث ذلك عندها شياً البتة مما يسمى بمركبات النقص أو غيره.
ونحن نؤمن أن صانع النفس البشرية (جلا وعلا) أقدر على فهمها وآمن عليها من الأخطار وهو الحامي لها من أولئك الفلاسفة الماديين، وأن ما رسمه لها من أساليب تحذير وضوابط ومناهج ترغيب وترهيب إنما هو دوائها الحق وأنه متقبل منها وليس بشاق عليها ولا خطر فيه وليس له ضرر ما على النحو الذي تهول به الفلسفات المادية والوثنية.(29/13)
وإن كنا نريد أن نعرف الخلفيات فلنذكر أن الهدف هو تفكيك عروة الشباب منذ الطفولة وبناء أجيال متحللة مدمرة ورفع يد الآباء عن التوجيه وخلق جو من الكراهية في محيط الأسرة حتى يفقد الشباب تلك الثمرة الخصبة "تجربة الجيل" وثمرة العبرة من كفاح الآباء وذلك في طريق هدف بروتوكولات صهيون الصريح: الذي يقول: "يجب تدمير المجتمعات الإنسانية قبل السيطرة عليها".
رابع عشر: أعطى الإسلام البشرية: التفسير الجامع (الرباني المصدر الإنساني الهدف) لا ريب أنه صدق التفاسير، لقد أهمل التفسير المادي جوانب المعنويات والقوى الذاتية والدين والأخلاق وهي جميعها بعيدة الأثر في مقدرات التاريخ وحركة المجتمعات وسيظل الدين بمفهومه الإسلامي الواسع الجامع عنصراً هاماً من عناصر تشكيل الذاتية الفردية والاجتماعية.
وأن القائلين بأن الدين ليس مصدراً من مصادر التوجيه أو ليس عاملاً من عوامل بناء الحضارات وحركة التاريخ إنما يتجاهلون شطراً هاماً من طبائع النفوس وخصائص الأشياء.
خامس عشر: ما يزال الإسلام والإسلام وحده هو المنهج القادر على إعطاء النفس العربية والإسلامية، بل النفس الإنسانية ريها وسكينتها، وقوتها وحيويتها. إن الخطأ هو اعتناق عقائد المجتمعات التي تشكلت على نحو خاص، والخطأ هو أن تأخذ الأمور من نهاياتها فهذه الحضارات قد شاخت وبان عوارها وفسدت ولم تعد تنفع أهلها، وحاول أصابها تعديل مناهجها مرة بعد مرة، ومع ذلك فلم تحقق لهم ما يطمعون فيه، إن ما يطمعون فيه لا يوجد لأنهم يقيسون بمقياس واحد: مقياس جزئي، هو مقياس العقل والعلم والمادة بينما يقيس الإسلام بمقياس متكامل:عقل وقلب وعلم ووحي وروح ومادة.
إن حضارة الإسلام لا تقوم على العلم وحده ولكن على العلم في إطار العقيدة.(29/14)
سادس عشر: إن تخلف المسلمين في العصر الحديث قضية مستقلة، عن منهج الإسلام ذاته، فمنهج الإسلام حين طبق أمام تلك الحضارة الباذخة وحين غفل عنه المسلمون وتجاوزونه وقعوا في هوة التخلف فالعيب ليس عيب المنهج، لأن المنهج رباني وقد سجلت تجربته بصماتها على التاريخ. إن القيم الإسلامية في تقدميتها ونصاعتها ليست مسئولة عن التخلف، وإنما جاء التخلف نتيجة تجاوزها وإهمالها، يقول ولفرد كانتول سميث: "إنه دين استطاع أن يوحي إلى المتديئين به شعوراً بالعزة كالشعور الذي يخامر المسلم من غير تكلف ولا اصطناع".
ولقد يرى البعض أن تخلف المسلمين ليس له إلا سبب واحد: هو سقوط العزيمة، سقوط الإرادة: الغفلة عن الأخطار المحدقة من كل جانب (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم): (ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم).
إن ظواهر التخلف ظهرت في اليوم الذي بدأ فيه المسلمون يميلون إلى الحلول السهلة، ويسترخون، ويتجاهلون الخطر المحدق. ويبتعدون عن حياة اليقظة التامة والمرابطة الدائمة في الثغور، والانحراف عن مبادئ القرآن. هذه أمة الرباط إلى يوم القيامة كما حدث الصادق المصدوق، لقد فقد المسلمون التحدي فسقطت العزيمة: غفلوا عن المجاهدة، فقدوا روح الصلاة والإيمان واكتفوا بالمظاهر، عن ذلك دارت الدائرة عليهم، يقول أرنولد تويئبي: إن الغرب وضع الحبل في رقبة العالم الإسلامي منذ القرن الخامس عشر وكان يتهيب أن يشده، ثم بدا له المسلمين في نوم عميق فشد حلبه وسيطر عليهم.(29/15)
سابع عشر: إن دخائل كثيرة دخلت على المسلمين وأفسدت حياتهم وأعلت من شأن المتعة والترف وأبعدتهم عن الاخشيشان والقدرة على الصمود، وفرغت حياتهم من فريضة الجهاد وتخلفوا عن مفهومهم الأصيل: احرص على الموت توهب لك الطريق، وغفلوا عن بذل النفس رخيصة في سبيل الحق، وتقهقروا إلى الحرص والخوف والجبن والذلة بما أعجزهم عن مواجهة الموت في ميادين المقاومة. وقبلوا بالحياة ذليلة، ولو علموا أنهم سيموتون في نفس اللحظة التي ينتهي فيها الأجل لما حرصوا ولا جزعوا. واليوم حين تعود فريضة الجهاد إلى حياتهم يبدأون عصراً جديداً.
ثامن عشر: أقر الإسلام حرية الفكر والعقيدة: "لا إكراه في الدين" ودعا إلى المطالبة بالبرهان والدليل ونهى عن تحكيم الهوى وفتح باب الاجتهاد ودعا إلى عدم الانخداع بالأوهام والاغترار بالظنون وأنكر القول بغير دليل وقرر عدم كتمان العلم وأطلق حرية البحث ودعا إلى التحرر من التبعية والتقليد وأقر مبدأ الأصالة.
وفرق بين العقائد والمعارف. وجعل العقائد خاصة وجعل المعارف عامة وفرق بين الأساس والعارض وفرق بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية (من لغو القول وإزجاء الفراغ) ودعا إلى الأخذ من كل علم بأحسنه كما دعا إلى التحري عن الحق وأفهم أهله بأن من كرامة العلم الربط بين العقيدة والعمل بها ورفض مبدأ العلم لذاته وقرر أن العلم يعترف بالحق إذا تبين وأن يغير العالم رأيه إذا جاء الدليل وإنما يطلب العلم من أجل العمل بع وأقام الإسلام الفطرة ودعا إلى نقاءها وشدد بالنهي عن إفسادها بالتعاليم الضارة. ودعا إلى التحري عن الحق وطالب أهله بأن من كرامة العلم أن نعترف بالحق إذا تبين وأن نرجع إلى الحق إذا جاء الدليل ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس ثم هديت فيه لرشدك أنه تعود إلى الحق فإن الحق قديم وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل.(29/16)
الاستشراق
الأستاذ أنور الجندي
لقد تبين من الدراسات الواعية المتعددة مدى خطر الاستشراق على الفكر الإسلامي، ولم تبق إلا دعوى "الدور الذي قاموا به في تحقيق التراث الإسلامي" ومنها تبويب بعض كتب السنة وغيرها. ولا ريب أن الاستشراق يعمل على إيجاد حصيلة واسعة من مفاهيم الإسلام بدأها بترجمة القرآن والحديث النبوي وبعض الكتب المعروفة، والهدف هو إحكام الرد على ما في هذه من قضايا معارضة للمسيحية من ناحية أو معارضة للنفوذ الأجنيب من ناحية أخرى والحقيقة أن هذه الأعمال لم تكن خاصة لوجه العلم وهل بالرغم من ضآلتها بالنسبة لعمل الاستشراق الواسع في ابتعاث كتب التراث المتصلة بالفلسفة والتصوف الفلسفي والفرق المتصارعة والباطنية وغيرها فإنها عمل مشكور لهم ولكنه لا يشكل ظاهرة يمكن أن تحول دون الغرض الحقيقي للاستشراق بما يخدع به دعاة التغريب ذوي النيات الجسنة منقومنا.
وهذه مجموعة من الحقائق:
أولاً: المستشرقون يدرسون قضايا الإسلام (لغته وتاريخه وشريعته وتراثه) بروح غير علمية، تقوم إما على سوء الفهم أو سوء النية، وهم لا يتصورون أي شيء إلا في حدود مفاهيمهم المسيحية اليونانية وعقليتهم الغربية التي تعودت على ربط الظواهر الإنسانية بالجنس واللغة القومية والبيئة في حدود المفهوم المادي القائم على المحسوس ومن هنا كان الإنسان عندهم ظاهرة قومية نشأت عن ظروف اقتاصدية ومن شأن هذا التصور أن يجعل كا أحكامهم على تاريخ الإسلام وشريعته وقيمه خائطة ومنحرفة لأن الإسلام يقوم على تصور جامع بين الروح والمادة والعقل والقلب.
ثانياً: قدم المستشرقون كتابات أعطوها صفة العلم في مختلف المسائل الإسلامية تدرس في بعض الجامعات على أنها صورة صحيحة لما جاء في الشريعة الإسلامية من أحكام وقواعد، جاء بعضها محرفاً وبعضها لا يقيد حكمة الشارع ثم بولغ في تحريف مدلولاتها ومعانيها على نحو يتعذر معه فهم أحكام الإسلام على وجهها الصحيح.(30/1)
ثالثاً: أخضع المستشرقون تاريخ الإسلام لمفهوم المسيحية وتفسيراتها ثم أخضعوها لتفسيرات المادية الغربية ثم التفسيرات الماركسية.
رابعاً: دخل المستشرقون إلى مجامع اللغة وحولوا أهدافهم إلى مناهج براقة سواء في أحياء العامات أو الدعوة إلى تعديل النحو أو اللغة الوسطى أو الكتابة العربية المعاصرة وكلها محاولات ترمي إلى إيجاد فجوة بين لغة القرآن ولغة الكتابة.
ومن قبل ذلك تسللوا للبحث عن العاميات ولبسوا ملابس التجار والدبلوماسيين وصاروا يعملون بشتى الوسائل لجمع الأمثال العامية والمواويل بهدف مسموم هو القول بأن العامية لغة لها تراث.
وقد أولوا اهتماماً شديداً لدراسة اللهجات في البلاد العربية وعقدوا مؤتمراً خاصاً لذلك في مدينة ميونخ بألمانيا 1957 م وكتب المستشرقون في ذلك كتباً منها: كتاب في لغة الغجر في البلاد العربية ودراسات في اللهجات الأمهرية. السحرية والقطرية وغيرها من اللهجات المستعملة في جنوب الجزيرة العربية وعلى أطرافها.
والهدف في التركيز على اللهجات العامية واضح فهم الذين قدموا تلك الفلسفة الضالةة التي تقول إن العامية أقدر على تصوير المشاعر، مع أن هذه المشاعر التي تصورها العامية هي المشاعر الساذجة ومشاعر طفولة البشرية أين منها ذلك الشعر الرصين والبيان العربي الذي يحمل صور المجتمع الإسلامي والنفس الإسلامية في مراحل الرشد الفكري والهدف هو إضعاف لغة القرآن وتمييعها بالتحريض على استعمال اللهجات وتحطيم قواعد اللغة باسم التيسير.(30/2)
خامساً: أثار الاستشراق دعوات مسمومة للتشكيك في الإسلام والطعن في مبادئه وتشويه الحضارة الإسلامية. ومن ذلك دعوتهم إلى رفع لواء الإنسلاخ من الماضي والتراث وإحياء النزعات القديمة كالفرعونية والفينيقية والآشورية وأمثالها والغض من شأن الشعوب الملونة في العالم الإسلامي ووصفهم بأنهم أقل قدرة من الجنس الأبيض (الأوربي) في مجال السياسة والمدنية والعلم والفن. والعمل على فصل الدين عن الدولة وإبطال فريضة الجهاد وإثارة الشبهات حول القرآن بطرح سموم على أيدي مسلمين وتوحي ببشرية القرآن للتشكيك في أنه من الله تبارك وتعالى والقول بتأثر الثقافة الإسلامية بالعقلية الإغريقية والفارسية، وهم في سبيل ذلك يعملون على انتزاع نصوص معينة من سياق المصادر لتأييد وجهة نظرهم ويعملون على إثارة التناقضات بين النصوص والمصادر.
سادساً: المبالغة في تمجيد الحضارات الشرقية القديمة السابقة للإسلام والإدعاء بأن الإسلام أخذ منها والبحث عن الأثر الغربي والأوربي في الفكر الإسلامي والمبالغة في تحديده وإكباره وجعله شيئاً أساسياً بالرغم من أنه أقل من ذلك ومحاولة إرجاع العلوم العربية إلى أصول يونانية.
سابعاً: دراسة الحركات المضادة للإسلام والتوسع فيها كالفتن الأهلية والخلافات المذهبية ومظاهر التفسخ والانقسام والإدعاء بأنها أبرز ظواهر تاريخ الإسلام مع أن تاريخ الإسلام حافل بالإيجابيات ومراحل القوة والتمكن وأن هذه الصور قليلة جداً وموجودة في تاريخ جميع الأمم والحضارات.
ثامناً: يدرس الاستشراق خصائص الفكر الإسلامي بروح خصومه وبفكرة مسبقة قائمة على أحكام قوامها سوء نية وعجز عن الإنصاف، ويعجز الاستشراق عن أن يتخلص من عواطفه الخاصة وهو يدرس مجتمعاً مختلفاً ومنهجاً متبايناً مع فكره ومنهجه.(30/3)
تاسعاً: توسعة شقة الخلافات المذهبية بين المسلمين، بينما أن هذه الخلافات لم تصل إلى ما وصلت إليه بين فرق الأديان الأخرى وخاصة المسيحية لا في طبيعتها ولا في مداها فلا يوجد خلاف بين المسلمين على المبادئ الأساسية للإسلام مثل وحدانية الله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم والاعتقاد في أن القرآن الكريم هو كلام الله والإيمان باليوم الآخر. وإنما وجد الخلاف في الأمور التفصيلية فيما يعد أمراً طبيعياً في مجتمع إنساني يضم أناساً من مختلف هذه الخلافات اختلافات مذهبية لأنها ليست إلا خلافات فقهية محصورة في إطار ديني وقانوني عريض.
عاشراً: حاول الاستشراق الغض من عظمة الدعوة الإسلامية بإثارة شبهات متعددة منها محاولة الإدعاء بوجود صلة بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني (وقد كشفت البحوث عكس دعوى الاستشراق فإن القانون الروماني الحديث مأخوذ من مذهب مالك نقله نابليون معه إلى أوربا) كذلك التشكيك في عالمية الرسالة الإسلامية بالقول بأن الآيات جاءت بعد استقرار الرسالة، والحقيقة أن آيات عالمية الرسالة كلها مكية، كذلك أثار الاستشراق الشكوك حول الكتب التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الملوك وزعموا أنها وضعت في صورتها الأولى بعد قرن من حياة النبي صلى الله عليه وسلم وقد كذبتهم البحوث العلمية الحديثة التي أثبتت صحة هذه الرسائل.
حادي عشر: يذهب المستشرقون إلى أبعد حدود المغالطة حين يواجهون تاريخ الإسلام بأهوائهم فهم معجبون ببني أمية لأن أحدهم (أبا سفيان) كان عدو الرسول (ما كتبه هنري لامانس عن معاوية ويزيد).
أما عهد العباسيين فالدولة الإسلامية خرجت من يد العرب.
أما المغرب فيسمونها بلاد البربر وهذه التسمية دسيسة تافهة لأن أهل المغرب عرب وبربر ولكنهم مسلمون أولاً.(30/4)
وهم لا يتحدثون عن الملوك الذين وطدوا الدولة بل عن الخارجين (بني رستم الخارجين أيام عبد الرحمن الداخل وبني مدرار أصحاب سلجمار) ويقولون عن المأمون أن دولته فارسية ونهضة العلوم في عصره نهضة غير عربية، ولا يتحدثون عن الرشيد إلا عن نكبة البرامكة وينقلون رسالة مذوبة عن أبي يوسف إلى ابن المقفع في معماملة أهل الذمة لكي يؤكدوا ما يدعيه المستشرقون من سوء حالتهم في ظل الإسلام ويهتمون بمدرسة حران الفلسفية ويقفون طويلاً عند المعتزلة وينقلون عنهم رأي المسعودي دون غيره ويتحدثون عن المعتصم والأتراك، ويتخيرون فقرأت من رسالة الجاحظ في فضلهم لا يوردون فقرة واحدة عن فضل العرب. أما القرامطة فهم عندهم طلاب عدل وإصلاح ويروون قصة مصرع الخليفة المتوكل برواية الطبري وتفاصيل فتنة الزنج في جنوب العراق بواية النويري وقصة القرامطة برواية الطبري ويأتي بخطاب أحمد القرمطي إلى الخليفة المقتدر وهو خطاب يصورهم في صورة طلاب عدالة وإصلاح وعندما يتحدثون عن الدول المنشقة التي انتهت بالقضاء على وحدة الدولة العباسية: الصفاريين والسلمانيين والطاهريين والبوهيين ويطلبون الوقوف عندهم لأنهم دول فارسية، في كتابة تاريخ المغرب حاولوا الوقيعة بين البربر والعرب وفي المشرق حاولوا الإيقاع بين العرب والفرس. ويعجبون بالفاطميين لأن مذهبهم لم يلق قبولاً من جماعة المسلمين وعندما يتحدثون عن الصليبيين يفخرون بأنهم قتلوا عندما دخلوا القدس 65 (ألفاً) من المسلمين.
ثاني عشر: وضعوا أساس الشبهات ثم نسبوها إلى كتاب عرب ومسلمين فالشعر الجاهلي والأدب الجاهلي أساسهما بحث عن انتحال الشعر لمرجليوث، وكتاب الإسلام وأصول الحكم لعلي عبد الرازق أساسه كتاب عن الخلافة الإسلامية لمرجليوث. ومع المتنبي لطه حسين أساسه بحث لبلاشير، و...(30/5)
ثالث عشر: غلبة التفسير المسيحي على التحليل والعرض، فدرمنجم يقول أن تعاليم أهل الكتاب هي التي لفتت نظر سيدنا محمد إلى الكمال الروحي والمثل الأعلى وجعلته يتحنث في الغار وهذا كذب صراح، كما يحاولون تصور أن القرآن جاء من الكتب السابقة وأن الهجرة كانت إلى الحبشة لأنها مسيحية، والحقيقة أن الدافع الحقيقي ليس لأن النجاشي مسيحي بل لأنه كان عادلاً قال النبي: لأن فيها ملكاً لا يظلم عنده أحد وهي أرض صدق) ولذلك فليس للعاطفة الدينية أثر في تصرفاته وحاول درمنجم أن يستدل بأن الله رضي للناس الإسلام ديناً مع بقاء سائر الأديان التي سبقت وحدة مندمجة.
وهذا غير صحيح، لأن الإسلام جاء خاتماً للرسالات وداعياً أهل الكتاب للدخول فيه لأن دين الله الحق وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن متصلاً بأهل الكتاب.
ويدعي مرجليوث أن النبي محمداً كان يعرف القراءة والكتابة ويتخذ من آية (اقرأ) مع أن اقرأ لا تعني قراءة المكتوب وإنما تعني قراءة ما يوحي إليه.
ومن أخطائهم إدعاؤهم بأن العرب كانوا قبل الإسلام على استعداد للملك والنهضة وأن دور النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن أكثر من قيادة جماعة مهيأة، وذلك باطل صراح فإن العرب في مكة أمضوا ثلاثة عشر عاماً في محاربة الدعوة الإسلامية والإصرار على عبادة الأصنام حتى هاجر النبي إلى مجتمع آخر هو الذي تقبل دعوته. ولقد كانت دراستهم لأحوال العرب قبل الإسلام هو الذي شكل للعرب وجودهم الحقيقي، وأن دعوة الإسلام غلى التوحيد كانت شيئاً جديداً بالنسبة للوثنية العربية.
وهذه محاولة مضللة في الاهتمام بالغساسنة والمناذرة وإعلاء الجاهلية واعتبار الإسلام اقتباساً منها.
ومن ذلك إنكار الوحي للوصول إلى القول بأن القرآن من عمل محمد صلى الله عليه وسلم.(30/6)
وكل محاولات الاستشراق في القول بأن الأفكار الأساسية للإسلام مستقاة من الكتاب المقدس، أو أن طابع الإنجيل موجود في القرآن أو ان هناك أصلاً يهودياً للإسلام (بروكلمان – فون كريمر – مونتجمري وات) أو بروكلمان فكل هذا باطل.
ذلك لأن مصدر الأديان السماوية واحد ولذلك فلابد أن تكون هناك علاقة مشتركة لأن الدين كله من عند الله وهو التوحيد ولكن رؤساء الأديان حرفوه، أما الإسلام فقد حفظه الله تبارك وتعالى.
وقد عجز المستشرقون مع الأسف – كما يقول محمد أسد (ليوبولد فابس) عن استيعاب خصائص التصور الإسلامي ومقوماته الأساسية ومن ثم فإنهم لا يستطيعون أن ينفذوا إلى أعماق الحياة الإسلامية ويستحيل على المستشرق أن يفهم الوحي، أو الهجرة، أو ينفذ إلى أعماقها لأنه بعيد بحكم تكوينه النفسي وتفكيره عن هذا النظام.
ولهذا اعتبر (توينبي) الهجرة مبدأ التدهور في تاريخ الرسالة المحمدية ويزعم مونتجمري وات حين يتحدث عن المعاهدة التي عقدها بين المسلمين واليهود بعد الهجرة أن كلمتي إسلام ومسلم لم تكن مستعملة في الفترة المبكرة من العهد المدني ويرجع هذا إلى أنه تجاوز في الترجمة وحرف.
ومن الشبهات التي يثيرها المستشرق فون كريم الإدعاء بأن الإمامين الأوزاعي والشافعي وقد ولدا في سوريا كانا على علم بكثير من قواعد القانون الروماني البيزنطي وقد ثبت أن هذا القول مجرد أسطورة فمن الثابت أن مدرسة بيروت لم تكت موجودة عند الفتح الإسلامي للشام وأن الشافعي والأوزاعي لم يعرفا القانون البيزنطي.(30/7)
رابع عشر: أن القول بأن مصادر النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن هي التوراة والإنجيل من المسائل التي يكاد الاستشراق يجمع عليها ويرددها من كانوا من مستشرقي اليهود أو النصارى والواقع أن هذا الاتهام باطل بدليل واحد أن مفهوم القرآن للتوحيد يختلف عن مفهوم التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار أو الأناجيل الموجودة في أيدي الناس الآن فقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم وحمل القرآن لواء الدعوة إلى التوحيد المطلق، كما يقول الدكتور عبد الجليل شلبي: إله العالم كله واحد. إله مجرد من المادة وعن التركيب. كان الإله عند اليهود (يهوه) وهو الههم وحدهم وقد ظلوا على ذلك ردحاً من الزمن حتى جاء النبي (إليجا) أول من جهر بأنه إله العالم كله وظهر بشيء غريب أيضاً على اليهود هو أن حكم الله يجري على الملوك كما يجري على أبناء الشعب ولهذا لم تكن الديانة اليهودية موحدة بالمعنى الحقيقي وإنما كانت ديانة توحيد بالنسبة لجيرانها فقد كان لدى الآخرين آلهة متعددة للزرع والمطر والخصوبة والنجوم كل له إله خاص، وإذن فالتوحيد الإسلامي نوع فريد في كل ما أعلن من صفات الله خالق الكون سبحانه.
المسألة الثانية: أن القرآن لم يذكر قط قصص الإسرائيليين بل ذكر قصص داود وصالح والخضر وشعيب وسبأ، أما الكتاب المقدس فقد اقتصر على ذكر شعيب المختار وتاريخه وهو لم يتم بوضعه الحالي إلا بعد القرن الثاني الميلادي.
ولأنهم ينكرون الوحي السماوي فإنهم يبحثون عن مصدر معلومات الثرآن ولا يزالون مختلفين. قال مونتجمري وآت: أن محمداً نال معلومات ممتزجة من اليهودية والمسيحية معاً، وبذل جهداً واسعاً في سبيل الاستدلال على ذلك، كذلك فعل (درمنجم) ولكن الوقائع في المقارنة بين القرآن من ناحية وبين التوراة والإنجيل تكذبهم في هذا الإدعاء العريض.(30/8)
خامس عشر: في محاولة لتأييد النفوذ الأجنبي الذي فرض القانون الوضعي كانت حملة الاستشراق على الشريعة الإسلامية، جولدزيهر وشاحت وغيرهم الذين كانوا ينشرون دعياتهم الرامية إلى القول بأن الفقه الإسلامي جامد ولم يتطور وسيبقى جامداً إلى الأبد وأنه لا يحتوي على قواعد عامة وإنما يتناول النوازل الخاصة.
وذهب بعضهم إلى القول بأنه لا يوجد فكر سياسي إسلامي، وإنما الذي عرفه المسلمون هو الفكر الفارسي واليوناني وقد كذبت الحقائق الناصعة دعاوي الاستشراق وكتب كثيرين كاشفين عن عظمة الشريعة الإسلامية وقدرتها على الاستجابة للعصور والبيئات وكيف أن للمسلمين فكرهم السياسي الخاص ومن أبرز هذه الدراسات كتابات الدكتور ضياء الدين الريس.
كذلك فإن مؤتمرات دولية من رجال القانون عقدت خلال القرن الرابع عشر الهجري شهدت بأصالة واستقلال وعظمة الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، وأكدت أنها شريعة قائمة بنفسها ليست مأخوذة من غيرها وأنها خلافاً لما قال خصومها حية وقابلة لمسايرة الحياة الاجتماعية في إطار القواعد الثابتة وأن مبادئها لها قيمة حقوقية تشريعية لا مراء فيها.
سادس عشر: كذبت الحقائق دعاوي الاستشراق في أن التصوف الإسلامي أخذ من الافلاطونية الحديثة أو مذاهب المسيحية أو أن البلاغة العربية أخذت من كتاب الخطابة لأرسطو أو أن الفقه الإسلامي أخذ من مدونة جوستنيات.
كذلك كذبت الوقائع دعاوي الاستشراق وأتباعهم عن إسقاط الرواية الإسلامية لشعر عصر البعثة النبوية وما كان منه طعناً على الإسلام وهجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإن الإسلام لم يصادر هذا الأدب والدليل ما رواه ابن إسحاق في السيرة النبوية من قصائد المشركين واليهود وهي لا تقل في الإحصاء عن قصائد الشعراء مع النبي وخاصة في موقعتي بدر وأحد.(30/9)
سابع عشر: ليس أدل على سوء نية الاستشراق في البحث من إصرار لويس ماسنيون على متباعة آثار الحلاج خلال أربعين سنة حتى نشر ذلك المجلد الضخم في 1400 صفحة ثم أخذ يتتبع متروكاته فطبع ما ورد عنه في الفقرات النثرية ثم نشر ديوانه الشعري وقد جمعها قطعاً من نحو مائة مؤلف بين مخطوط ومطبوع.
وقد ركز اهتمامه على المقاطع التي يوضح بها الحلاج اتحاده بالله بل معادلته له به (جل شأن الله عن ذلك وعلاً) كذلك ما حرص الاستشراق وأتباعه من إبراز الشخصيات المعادية للسنة وللإسلام مثل أبحاثهم عن مسيلمة الكذاب، وعن عيلان الدمشقي والإشادة بهما أو كذاب اليمن الأسود العنسي ووصف كل منهم بالبطولة مع أنهم جميعاً خارجون عن مفهوم الإسلام الصادق.
ثامن عشر: لقد تجمع في تحرير دائرة المعارف الإسلامية أخبث وأخطر رجال الاستشراق من يهود وغيرهم ممن يكنون الكراهية للإسلام ولذلك فقد حرصوا على صنع مواد الدائرة بمفاهيم كنسية ويهودية وتأخذ دائرة المعارف الإسلامية القصة اليهودية للعهد القديم في خلق آدم عليه السلام فيحيلها مصدراً لقصة آدم في دائرة معارف إسلامية.
كذلك فهم يأخذون وجهة نظر اليهود في إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويزيفون مفهوم فلسطين وعروبتها ويحاول الاستشراق اليهودي إعطاء فكرة للعالم أن فلسطين كانت يهودية قبل الإسلام.
ويعمل رونسون في ركتابه عن الرأسمالية والإسلام تشويه التاريخ الإسلامي ورفع العنصر اليهودي على حساب العرب.(30/10)
تاسع عشر: حرص الاستشراق على تصوير المجتمع الإسلامي في مختلف العصور وخاصة في العصر الأول على أنه مجتمع متفكك تقتل الأنانية رجاله، وهم في كل محاولاتهم المسمومة للانتقاص من الإسلام ولغته وتاريخه وتراثه يخضعون النصوص للفكرة التي يفرضونها مع تحريف حين لا يجدون مجالاً للتحريف وتجمهم في المصادر التي ينقلون منها فهم ينقلون من كتب الأدب ما يحكمون به في تاريخ الحديث ومن كتب التاريخ ما يحكمون به في تاريخه الفقه ويصححون ما نقله الدميري في كتاب الحيوان (وهو ليس ذا قيمة علمية صحيحة) ويكذبون ما يرويه مالك في الموطأ كل ذلك انسياقاً مع الهوى وانحرافاً عن الحق.
وهم يستخدمون كتب التراث استخداماً خبيثاً فيبرزون كل ما يفرق ويخفون كل ما يجمع ويغلب عليهم سوء الظن وسوء الفهم والهوى.
العشرون: يحاول كل من الاستشراق المسيحي خطة والاستشراق الشيوعي خطة مختلفة والاستشراق الصهيوني خطة ثالثة، كل منها يهدف إلى تحقيق غرض خاص ولكنها جميعاً تطبق على الإسلام بالعداوة والخصومة والحقد الدفين.(30/11)
(5)
أخطاء الفلسفة المادية
إن أخطر ما يحاول دعاة التغريب والماديون وأصحاب الفلسفات أن يقولوا أنهم إنما يصدرون فيما يقولون به من نظريات وأيدلوجيات ومذاهب على أساس عملي لا يقبل النقض، ونحن نعلم أن هناك فارقاً بعيداً جداً بين العلم وبين الفلسفة وبين معطيات العلم التجريبي القائمة على البحث والتجربة على النحو الذي يتم داخل المعامل وبين الفرضيات التي لم تؤكدها التجربة بعد. أو التي قال بها العلم في محلة ما ثم جاءت تجارب أخرى غيرت هذه المسلمات وتخطتها، ذلك أن الخطأ والخلط إنما يجئ نتيجة تبني الفلسفات لبعض مؤثرات العلم أو نظرياته ونقلها من مجال العلم التجريبي أو من مجال الدراسات البيولوجية ودراسات الطبيعة إلى مجال المفاهيم الإنسانية وقضايا النفس والاجتماع والأخلاق. بينما لا تصلح أساليب العلم التجريبي في التطبيق على شئون الإنسانيات من نفس واجتماع وأخلاق، هذه التي يجب أن تدرس وفق منهج آخر غير مناهج العلوم المادية.
إذا اتضح هذا المعنى أمكن النظر في سهولة ويسر إلى ذلك الحشد المتعدد من المصطلحات والمفاهيم التي تختلط بين العلم وبين الفلسفة، أما في مجال العلم فهي تدرس دراسة خالصة، وأما في مجال الفلسفة فإنها تخضع لكثير من الأهواء والدوافع.
وقد ظهرت نظريات متعددة في مجال العلم البيولوجي ثم لم تلبث أن نقلت إلى مجال العلوم الاجتماعية كحقائق مسلمة، ومن ذلك مفهوم التطور ومفهوم تنازع البقاء، وقد تبين من بعد أن تقبل هذه الفرضيات ليس سليماً على إطلاقه وأن تطبيقه في المجال الاجتماعي ليس صحيحاً دائماً.(31/1)
ومن العجب أن النظرية المادية قامت من بعدها النظرية الماركسية على فرضية كشفت أبحاث العلم من بعد خطأها، قامت النظرية المادية وكذلك الماركسية على أساس القول بأن الحياة كلها من عقلية ونفسية وسلوكية صادرة من مادة عضوية، وهذه الفرضية لا تعد الآن من الحقائق العلمية، ومعنى هذا أن أساس الفلسفة المادية والنظرية الماركسية قد انهار من الأساس. كذلك فإن القول بالتطور المطلق الذي جعله هربرت سبنسر مفهوماً اجتماعياً قد سقط نتيجة لمفهوم آخر أصلح منه هو مفهوم الثوابت والمتغيرات، كذلك فإن فكرة الجوهر الفرد التي قامت عليها الفلسفات سقطات بنظرية النسبية وظهور مفهوم الطاقة التي تتحول إلى مادة والمادة التي تتحول إلى طاقة، كذلك فإن نظرية النسبية نقلت إلى المجال الاجتماعي القول بنسبية الأخلاق وارتباط القيم الأخلاقية بالمجتمعات والعصور، وهذه النظرية وجدت معارضة شديدة؛ لأنها تخالف الفطرة طبائع الأشياء. كذلك فإن نظرية الجبرية التي حاولت بعض المذاهب تطبيقها على التاريخ والحضارات والمجتمع قد تبين فسادها؛ لأنها تلغي التزام الأفراد ومسئولياتهم وتلغي إرادتهم بينما التاريخ كله من عمل الأفراد.
وكذلك تبين خطأ القول بتنازع البقاء وتبين أن تعاون الكائنات أطهر وأقوى وأكبر أثراً من تنازعها. وأن نظرية تنازع البقاء إنما ظهرت نتيجة ملاحظة محدودة لمجتمع محدود.
ويرجع هذا كله إلى منطلق الفكر الغربي أو الفلسفة الغربية الذي يقصر النظرة على المادة وحدها، بينما ينطلق الفكر الإسلامي إلى أفاق أرحب وإلى نظرة لها أبعاد أكثر وضوحاً وقوة.
فالفكر الإسلامي يؤمن بأن الثبات والتغير من القوانين الطبيعية في حياة البشرية والإنسان وفي الكون نفسه. وأن هناك أفلاكاً ثابتة وكواكب متحركة. وأن لكل شئ إطاراً لا يتغير وإنما تتغير الحركة في داخله.(31/2)
فالإنسان في صورة خلقه وفي حياته يتحرك داخل إطار واضح محدود منذ الولادة إلى الوفاة، وقد تتغير الأساليب والملابس والوسائل ولكن تبقى القواعد الأساسية ثابتة، النوم واليقظة، والسكن والحركة، والطعام والشراب، هناك قيم ثابتة ولكن أساليب العمل بها تتغير وتتطور من عصر إلى عصر ومن بيئة إلى بيئة حسب الظروف والحاجات.
والإنسان يتغير دائماً من حيث الحركة ولكن له إطاره الثابت من حيث أصول الحياة والفكر وأصول البقاء.
وكذلك فإن الإنسان يتحرك في الحياة في إطار من القيم والتعاليم والضوابط والحدود. ويخضع لقوانين الأخلاق والتعامل بما يتكامل معه مع مسيرة المجتمع كله، أخذاً وعطاءً، وحيث تنتهي حريته عندما تبدأ حرية الآخرين.
ومن هنا فإن مفهوم الإسلام يقوم على أساس ثبات القيم الأخلاقية والآداب الإنسانية التي هي من أصول ثبات الطبيعة البشرية، وفيما عدا ذلك فإن هناك تغيراً وتبديلاً وتطوراً دونما انقطاع، هذه القيم الثابتة من الدين والأخلاق والحدود والضوابط هي التي تقي المجتمع الإنساني من الفناء والهلاك، وهي القانون الثابت الذي لا يتغير مع تغير العناصر المختلفة في المجتمع.
وهكذا نجد ثوابت الكون في الطبيعة وثوابت الأخلاق في الإنسان ومتغيرات الكون ومتغيرات الإنسان، وكأنما نظام السلوك الإنساني مطابق لواقع النظام الكوني.
وثبات السنن الإلهية في الكون والإنسان هو إطار حركة المتغيرات، ولقد كان الفكر الغربي في مرحلته اليونانية يؤمن بالثبات المطلق، ثم جاء هيجل فنقله إلى التطور المطلق. وكلاهما صدر عن نقص في النظرة وعجز عن استقصاء الأبعاد المختلفة التي جاء الدين الحق ليكشف عنها للإنسان وليدله عليها وليجعل فكره أكثر رقياً وأعمق فهماً.
ومن هنا فإن الفكر الغربي هو فكر انشطاري يمر اليوم بمرحلة التطور المطلق الذي لا يتوقف عند حد والذي يجري في غير إطار من الثوابت ومن ثم يتعرض لكثير من المعاطب والأخطار.(31/3)
أما الفكر الإسلامي فهو فكر متكامل جامع، يربط بين القيم في توازن رقيق وتناسق معجز، فالحياة يقابلها الموت والفقر يقابله الغنى والجبن يقابله الشجاعة والروح تقابلها المادة، والكون كله ثنائيات متلاقية ليس فيه واحداً لا شاء له ولا تعدد إلا الله تبارك وتعالى، ومن شأن هذا الفهم أن يعالج أزمة الفكر الغربي التي تقوم على الصراع والتناقضات، ذلك أن المفهوم الكامل من شأنه أن يقضي على المتناقضات ويذيب الصراعات.
فليس وجود الأضداد دليل على خصومتها وتعارضها؛ ولكنه سبيل إلى تكاملها والتقائها فالضد يولد من الضد، يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي. ذلك أنو النور يكشف الظلام والحق ينسف الباطل.
أما الفكر الغربي الذي أثر فكرة التطور المطلق وحجب فكرة الأطر الثابتة فقد عجز عن فهم هذا الالتقاء وعده صراعاً، وتناقضات.
أما الإسلام فقد وفق بين المتناقضات في إطار التكامل وعلى قاعدة التوازن وليس في هذا ما يوصف بأنه ازدواجية؛ بل هو التكامل الذي يوفق بين الأضداد والمتناقضات ويسلكها في طريق الحركة الطبيعية.
ولقد يعجز الفكر الغربي عن فهم التكامل والالتقاء بينهما هو طبيعة طيعة للفكر الإسلامي الذي يقوم على التكامل بين الزمني والروحي والمطلق والنسبي واللانهائي والمحدود.(31/4)
ومن هنا يمكن القول بلغة الفلاسفة أن الإسلام يجمع بين المنطق الشكلي والمنطق الجدلي، بين منطق أرسطو القائل بثبات الموجودات ومنطق هيجل القائل بتغير الموجودات الدائم. وبذل يقيم قانون "الثوابت والمتغيرات"، فالإسلام يجمع بين الأصول العقائدية الثابتة وبين الاجتهاد في الفروع والتفاصيل والتطبيقات (وهو ما نسميه التطور)، ويقول بتغير الأحكام النوعية مع تغير الأزمنة والأمكنة وهو ما يسميه الفقهاء اختلاف زمان ومكان لا اختلاف حجة وبرهان ذلك أن الإسلام منهج إلهي من حيث الأصول، ووضعي بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية ووضع بشري من حيث التطبيق والتفاصيل، أصول إلهية على أساس التوفيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فهو لا يسحق الفرد لصالح الجماعة ولا يسحق الجماعة لصالح الفرد، فإذا استحال التوفيق اختار الإسلام المصالح الجماعية، وهذا هو التوازن الدقيق بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة. ومعنى هذا أنه لا انفصال بين ما هو مادي وما هو روحي في الإسلام، ومنهج الإسلام أصول إلهية وتفسيرات بشرية، وعن طريق هذا المفهوم لا يجد المسلم ذلك القلق الفلسفي الواسع الذي يشغل الباحثين حول: التناقض والصراع والجبرية وتنازع البقاء.
(2)
فساد نظرية الجبرية
إلى أي حد يمكن أن يصل بالحضارة الغربية وبالفكر الغربي ذلك التصور الذي يجتاح العصر كله ويحاول أن يلقي بظله على الفكر الإسلامي ويجد من المثقفين العرب من يتبناه ويردده: هذا الفهم الخطير للجبرية والحتمية الذي يستمد منطلقه من الفلسفة المادية والذي يذهب بعيداً ليكون عاملاً خطيراً في تصرفات الإنسان، وسلوكه، وما هي صلة ذلك كله بنظرية الخطيئة الأولى في الفكر الغربي المسيحي، وعلاقته بالوجودية وبالأدب وبالأخلاق.(31/5)
لنستعرض هذا النص الذي يمثل وجهة نظر عامة الآن بين كتاب الغرب لنرى معه إلى (أي=) حد نستطيع أن نفهم الموقف: النص للكاتب الغربي الأمريكي (ماكسين جرين) يرى الإنسان الحديث أنه وليد قوى اجتماعية واقتصادية وبيولوجية تحدد دوره في الأرض دون أن يشعر هو نفسه على الإطلاق. إن فقدان الإنسان لكرامته واعتزازه بنفسه يرجع إلى التقدم العلمي الضخم في القرن التاسع عشر إلى أمثال دارون وهكسلي وماركس الذين أظهروا الإنسان فريسة لقوى ضخمة مظلمة لا سلطان له عليها، وهكذا وجد التفكير الجبري، وظهر هذا التفكير في الأدب في أعمال أصحاب المذهب الطبيعي في كل بلد هؤلاء الذين حلوا محل الأبطال الشاعرين بذواتهم مخلوقات سلبية مطاوعة أنتجتها قوى الوراثة والبيئة لا صلة لهم بها، بل لا وعي لهم بها، وقد اختفت بطولة الإنسان بفضل المذهب الطبيعي". هذا النص يتحدث عن "جبرية القوانين الطبيعية" وخضوع الإنسان لها: هذه تريد أن تفرض وجودها على الفكر الغربي كله: ليس الفكر الماركسي وحده ولكن الفكر الليبرالي أيضاً، فقد تغيرت الجذور القديمة التي كانت تستمد من الفلسفات المثالية وغيرها رؤية تتمثل فيها إرادة الإنسان، وساد الفكر الغربي اليوم قتام كامل ترتبط فيه كل المذاهب بهذه الجبرية والحتمية. سواء في دراسات علماء النفس، وعلماء الاقتصاد، أو علماء الاجتماع، أو علماء التاريخ أو في مذاهب الأدب والفن والشعر والمسرح والقصة .. إلخ.
هذا التحول الخطير أساسه المذهب المادي الذي يعد الآن بمثابة القاعدة الأساسية للاتجاهين المختلفين في الفكر الغربي: ليبرالي وماركسي، فردي واجتماعي، أدبي وعلمي. وهذا هو أبرز وجوه الخلاف اليوم بين الفكر الإسلامي وبين هذا الفكر جملة.(31/6)
فإذا ذهبنا نستقصي المصدر الأول لفكرة الحتمية أو الجبرية وجدناها في تلك القوانين التي اكتشفها الإنسان للكون عن طريق العلم الحديث، دون معرفة مصدر هذه القوانين، والاعتقاد بأنها قوانين طبيعية حيث تدير الطبيعة نفسها فهي لا تتخلف. وفي هذا الاعتقاد خطأ أكبر وخطأ أصغر؛ أما الخطأ الأكبر فإنه من المستحيل أن تدير الطبيعة نفسها بمثل هذه الدقة؛ لأنها لم تخلق نفسها ولابد لها من خالق أساساً، ثم هو نفسه تبارك وتعالى الذي يديرها لحظة بعد أخرى. ومن هنا فإن هذه القوانين مخلوقة لله تعالى وهو القادر على إبطالها. غياب هذا الفهم عند الفكر المادي جعل النظرية قائمة على شق واحد منها هو حتمية هذه القوانين وإغفال الجانب الهام منها وهو صانعها ومديرها والقادر على إبطالها.
ومن هنا يصور العلماء الحتمية بأنها: هي خضوع الأشياء لمبدأ التغير للقوانين الضرورية وهذا يعني أن الأحداث تترابط فيما بينها وفق قوانين موضوعية ومن هنا فإن الحتمية هي إنكارها المصادفة والاحتمال وحرية الإرادة وأخطر ما في الحتمية هي إنكارها حرية الإرادة، ذلك أن الحتمية لا تتفق مع إرادة التغيير، ومن هنا فهي تعطل هذا الجانب الهام الذي هو مصدر أصيل في إنشاء التاريخ وتلغي دور الإنسان في التغيير.
وهي في هذا تخالف الإنسان من جانبين: من جانب عجزها عن فهم قدرة الله المطلقة وقدرته على خرق القوانين وتغيير الواقع وقصورها عن فهم إرادة الإنسان التي منحها الله إياه، داخل الإرادة العليا للكون كله.
والفارق يسير جداً فهو في نظر المسلم أن العوامل الظاهرة للحدث أو للقانون ليست هي وحدها العوامل الحقيقية، وأن هناك عوامل أخرى تخفى وهي من إرادة الله ومشيئته التي هي أكبر من الأسباب نفسها، والقادرة على تعطيل الأسباب أو إمضاء الأسباب من غير أن تحقق النتائج المترتبة عليها.(31/7)
ونحن نطلق خطأ على هذا الجانب المجهول من قدرة الله والذي لا يخضع للقوانين الظاهرة: المصادفات والاحتمالات والظواهر غير المنظورة تقريباً للأمور. والواقع أن الحتمية تقوم على نظرية مادية خالصة.
أما الإنسان فله دوره وإرادته الذاتية التي تحقق له التصرف الذي به يكن مسئولاً عن عمله، في دائرة صغيرة ولكنها بعيدة الأثر في أحداث التغيير.
"إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
والفرد يستطيع أن يمارس إرادته في تغيير الواقع والمجتمع بقدر استفادته من قوانين الحركة.
والإنسان له إرادة فاعلة وهي جزء من إرادة الله يتميز بها عن الحيوان وهي يتحرك في دائرة خاصة ويكون مسئولاً في حدودها، ولكنها لا تمثل إلا شطراً يسيراً من إرادة الله الكبرى التي تخلق التأثيرات العامة للمجتمعات والأكوان أما الحتمية فهي لا تتفق مع إرادة التغيير؛ لأن الحتمية تفترض أنه لا إرادة من جانب الإنسان، وهي بذلك تعد الإنسان متفرجاً إزاء حركة التاريخ يرى ما يحدث له وللمجتمع دون أن يشارك فيه وهذا والقول مخالف للواقع ولطبائع الأشياء.
ومن هنا فإن القول الذي يردده جبريو التاريخ كماركسي والذي يقول أن التاريخ محكوم المسار في مستقبله فهو غير صحيح وكل النبوءات التي قدمها ماركس في هذا الصدد قد تبين كذبها ولم تتحقق -جميعاً- وما وقع في المستقبل بعد تنبؤات ماركس كان مخالفاً تماماً لما قرره بناء على حتمية التاريخ أو جبريته في حدود النظرية التي قدمها، ذلك لأن ماركس ليس إلا بشراً يعجز عن الإحاطة ونظريته ليست إلا شطيرة ترتبط بعنصر واحد من عناصر التأثير وهي الاقتصاد وتقوم في مرحلة زمنية محدودة وبيئة لها طابع خاص، ومن هنا فقد عجز وعجزت عن تفسير المستقبل فضلاً عن إخفاق ماركس في تحليل التاريخ القديم.(31/8)
ولا ريب أن النموذج البشري الذي تقوم عليه فكرة الجبرية هو نموذج إنسان سلبي خامل كسول، مستسلم للواقع، متنازل عن حقه الطبيعي في الاختيار مؤثراً للأمان والجبن وعدم المجازفة، وبذلك يفترض في هذا الإنسان أنه تطبيق للحتمية المادية الخادعة الكاذبة.
والمسلم لا يقر هذا المفهوم، السلبي، ويؤمن بالإرادة، وبالقدرة على الاختيار والحركة لتغيير الواقع، ويجعل من إرادته البشرية قوة قادرة على حكم الغرائز وقيادتها والسيطرة عليها.
وهذا هو السر في دعوة الإسلام الملحة لبناء الإرادة.
كذلك الأمم فإنها حين تخضع للجبرية تموت؛ لأنها تستسلم وتُداس بالأقدام، أقدام الغزاة والغاصبين، والإرادة والاختيار هما عاملا التغير في الفرد وفي الجماعات والأمم، وبقوانين هذه الإرادة تقوم الأمم وتتجدد، ولا ريب أن التقدم مرتبط بتنمية إرادة التغيير، فإذا فقدت الأمة هذه الإرادة، استسلمت للجبرية التي هي الانحطاط.
ولا ريب أن تفشي هذا المفهوم في الفكر الغربي في هذه المرحلة من انهيار الحضارة هو علامة على مرحلة سقوطها الذي تنبأ به كثير من الباحثين، والذي هو سمة كل الحضارات والأمم التي تستسلم للجبرية الممثلة في الترف والانحلال والفساد والإباحية.(31/9)
وكما يرفض الإسلام الجبرية التي تجعل الإنسان متفرجاً على التاريخ، كذلك فإن العلم يرفض الجبرية ولا يراها حقيقة أساسية. وكل ما يقال عن أن الجبرية أو الحتمية هي علم فهو من قبيل الخداع: فالعلم لا علاقة له بهذه الأبحاث التي هي من شأن الفلسفة وإنما هم أطلقوا عليها كلمة فلسفة العلم لأنهم حاولوا أن يستمدوا مفهوم المادية من بعض نظريات العلم التي كانت في القرن التاسع عشر تقول بانبثاق هذا الكون بدون صانع، وقد سقطت هذه النظرية التي قامت على أساسها مذاهب سياسية واجتماعية كثيرة كالماركسية والوجودية والبرجماتية مثلاً. ولقد تقدم العلم الآن تقدماً عجيباً وألغى كثيراً من النظريات العلمية التي لم تكن في واقع الأمر إلا "فرضاً" لتغطية الجوانب الناقصة في عملية البحث، غير أن التجربة المستمرة كشفت عن أشياء جديدة جعلت كل ما كان يقال من قبل فاسداً وخاصة فيما يتعلق بالطاقة والمادة؛ فقد أثبت العلم أن الطاقة تتحول إلى مادة وأن المادة تتحول إلى طاقة وبذلك انهدم أساس الفكر المادي وتحطم كثير من القواعد التي تقوم عليها الفلسفات المادية.
ولكن دعاة هذه المذاهب إنما يهدفون إلى هدم المجتمع البشري بإحلال روح الفساد فيه وإسقاط الإرادة ووضع مسئولية الخطأ والانحراف على المجتمعات، وإعلاء شأن المفهوم الجمعي للقضاء على الفردية التي هي مناط المسئولية والخبراء في الدين الحق، وذلك من شأنه أن يدفع إلى مزيد من غلبة الشهوات وتبرير الفساد وسقوط المجتمعات وهو ما تهدف إليه اليهودية التلمودية فيما أشارت إليه في بروتوكلات صهيون.(31/10)
وعندما نراجع أصول الجبرية في الفكر الإسلامي تجد أن مصدرها يهودي، فهو مما قال به الذين حملوا سموم الفكر البشري القديم، والفرنسيون يقولون بأن الإنسان ليس إرادة ولا اختياراً ولا تأثيراً ولا جزءاً كسبياً، ولذا لا يرونه جديراً بالمدح ولا بالذم، أما اليهود الفروشيم فقد بالغوا بالاختيار ورأوا الإنسان قادراً على مطلق عمل دون أمر الله ونهيه. وكلا الأمرين الجبر المطلق والاختيار المطلق لا يقرهما الإسلام، وفي الفلسفات الهندية والصينية والفارسية جبرية واضحة؛ إذن أن البرهمية والبوذية والمزكية تبرره، كذلك الفلسفة اليونانية فإن حرب طروادة قد حملت سواد الناس على التسليم المطلق بالجبر، وكذلك فلسفات التقمص والتناسخ كلها مفضية إلى الجبرية.
وكذلك تحمل فكرة وحدة الوجود معنى الجبر؛ فهي تلغي الإرادة والمسئولية الفردية، وصدق في هذا قول القائل: إن الاختيار المطلق يكلف الإنسان فوق الطاقة والجبر المطلق محو للتكليف وهدم للشريعة وإبطال لحكم العقل وإنكار للواقع.
والإسلام لا جبر فيه، ولقد نادى القرآن بالتمييز: (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، وأخذ الرسول بيد طلاب الهداية لربهم، ودعا الإسلام إلى الإرادة: والصبر وعزائم الأمور، ودعا إلى تغيير الواقع الفاسد ودعا إلى الهجرة في الأرض حتى لا يظلم الإنسان نفسه بالبقاء في الواقع السلبي.
ولقد أقام الإسلام الاختيار ونادى به القرآن (فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه).
وقال ابن تيمية=: "إن للعبد قدرة ومشيئة وعمل فهو مختار مريد. والجبريون هم المعطلون للتكاليف الشرعية المسفهون للخطابات الإلهية". وقال النابلسي أنهم زنادقة هذه الأمة:
ولقد فتح الإسلام الباب واسعاً أمام الذين ينحرفون إلى الجبر مع قدرتهم على الحرية والاختيار، وفتح لهم باب العودة إلى الإرادة الصحيحة.(31/11)
ورسل الله ودعاة الحق في كل جيل وعصر لم يأمروا بالانحراف، ودعوا إلى الإرادة والاختيار التي تنشأ عنها المسئولية والجزاء، ولكن المنحرفين من أصحاب الفكر البشري هم الذين زينوا القياس الحلول والإشراق والتجسد وغيرها من المفاهيم الباطلة المبطلة التي تدعو إلى الجبرية، ثم جاء الفكر الفلسفي المادي المعاصر فاحتوى كل هذه العناصر وأعاد صياغتها من جديد.
ومن عجب أن العلم بالتجارب العديدة لم يعد تعبر نظرية الحتمية: التي كان يقوم عليها كيانه، فأصبح حين تتوافر الشروط والأسباب يحكم بوقوع النتائج؛ وذلك لأنه وجد عشرات من الأشياء لا تخضع لهذا القانون، ومن ثم فإن العلماء لأن يقررون أن الحتمية في العلم غير ضرورية وأن القانون الذي يحكم العلم هو قانون الاحتمالات، وبذلك انفسح لهم المجال للإيمان بقوة عليا تسير العالم خارج نفسه.
ولكن رجال الفلسفة المادية، وهم اليهود التلموديون أصحاب بروتوكلات صهيون، إنما يريدون أن يتجاهلوا حقائق الفطرة وآراء العلم وطبيعة الدين الحق؛ ليفرضوا على البشرية نظرية زائفة يراد بها تدمير المجتمعات: تلك هي الجبرية والحتمية.
ولقد صدق القائل: أن الإنسان لا تجوز عليه الحتمية؛ لأن الناس ليسوا كرات بليارد تتحرك بحتمية قوانين فيزيائية؛ ولكنها مجموعة إرادات حرة تدخل في علاقات متعددة يستحيل فيها التنبؤ القائم على قوانين مادية، كذلك فإن القوانين الإحصائية هي قوانين إجمالية وكلها ترجيحات ولا يرتفع أحدها إلى مرتبة الحتمية على الإطلاق.
(3)
فساد نظرية (تنازع البقاء)(31/12)
ومن الفرضيات التي قدمها العلم تحت التجربة نظرية (تنازع البقاء)، وقد تعالى القول بهذه النظرية وامتد حتى خُيل للناس أن هناك قانوناً يطلق عليه تنازع البقاء، وفي أفق الفكر الإسلامية والثقافة العربية ردد الباحثون هذا المصطلح سنوات وسنوات، ثم تبين من بعد أنه لا توجد حقيقة علمية تسمى تنازع البقاء، وأن كل ما يقال عن التنازع أو الصراع ليس من طبيعة العلاقات بين الأحياء.
لقد جاءت فرضية التنازع نتيجة لتقدير مادي بأن إنتاج الطعام في العالم محدود، بينما التوالد يتضاعف ويزداد، ومن هنا فلابد أن يتنازع الأفراد لأجل البقاء أو من أجل الحصول على الطعام، ولكن نظرية إنتاج الطعام المحدود التي قال بها "مالتوس"ثبت بطلانها من بعد؛ فقد اكتشفت أفاق عديدة للموارد والرزق ونما العالم وتضاعف عشرات المرات دون أن يفقد القوت، وهذا عيب النظريات التي تكون دائماً محدودة بقدر معين من العلم في عصرها، وبالتحدي الخاص ببيئتها وبالتأثير بنظرية جزئية أخرى، نجد هذا تماماً عند دارون ونجده عند ماركس ونجده عند فرويد.
وقد حاول أنصار دارون تبرير موقفه ودافعوا عنه، فقالوا أنه استمد نظرية تنازع البقاء في الطبيعة من إقامته في لنكشير وغيرها من الأقاليم الصناعية، وكانت نظرية دارون في مجموعها -وهي نظرية بيولوجية- مما استخدمه الفكر السياسي الاستعماري خاصة فيما يتعلق بتنازع البقاء وبقاء الأصلح، فقد طبقوها على الشعوب المستعمرة والقوى الاستعمارية المسيطرة عليها وجعلوا منها مبرراً لسيطرة المستعمرين.(31/13)
فشلت نظرية داروين في تنازع البقاء وبقاء الأصلح وتبين للباحثين والعلماء أن هناك "تعاوناً" بين الأنواع أكبر من التنازع، وهناك تلاقياً أقوى من الصراع، وفي هذا يقول أحد الباحثين: أن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية في لانكشير ومن كفاح الإمبراطورية البريطانية لخطف الأسواق وإذلال الأمم هذه العواطف حملته على أن يكبر من شأن التنازع: تنازع البقاء وحال هذا بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
وكما سقطت نظرية التطور كما أرادها الفلاسفة الاجتماعيون، وسقطت نظرية مالتوس في الوراثة، كذلك سقطت نظرية "تنازع البقاء"، والفكر الإسلامي واضح في هذا تمام الوضوح؛ فهو يقر مفهوم التلاقي والتعاون والتكامل بين قوى الطبيعة المختلفة، ويرى أن هذا الالتقاء هو دافعها إلى الحركة والقوة والنماء".
ويرى الفكر الإسلامي ضرورة التعاون في المجتمع الإنساني بجميع أفراده، القوي والضعيف، والغني والفقير، والمريض والصحيح، ويُحّمل الإسلام الأقوياء والأغنياء والأصحاء مسئولية باقي أفراد المجتمع بنظام كامل من أنظمة الإعاشة والإنفاق والبذل.
ويرفض الإسلام تماماً فكرة القضاء على الضعفاء أو الفقراء أو المرضى ويراها عاملاً من عوامل الخروج عن الإيمان (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه)، وإذا كانت نظرية تنازع الإبقاء قد بدأت في مجال العلم الطبيعي فإن علماء الاجتماع أرادوا أن يجعلوها قانوناً عاماً للبشرية ولكنهم فشلوا في ذلك وتبين من التجارب المتعددة قيام التعاون بديلاً عن التنازع.
ومن هنا كان زيف كل التفسيرات التي حاول بعض الماديين إلقاءها شأن المواقع التاريخية واندثار الحضارات وانقراض الأمم.(31/14)
ومن الحق أن الصراع لم يكن هو مصدر انهيار الحضارات أو انقراض الأمم؛ وإنما كان الفساد والانحراف والاستعلاء والترف والتحلل والخروج عن نظام الكون وقوانينه الطبيعية التي تفرض العمل والإرادة وبذل الجهد والاستمساك بالخشونة في الحياة والحفاظ على الضوابط والحدود.
ومما ينقض نظرية تنازع البقاء أن الحيوانات الواطئة الضعيفة تعيش وتنمو. وفق قانون التكيف مع البيئة الذي هو أصدق من قانون تنازع البقاء، ذلك أن كل كائن يستطيع أن يحتاط ويتكيف مع الظروف إذا كانت هذه من الطبيعة كالبرد والحر أو من مقاومة الأعداء.
ويصدق قانون التكيف مع البيئة بينما تفشل نظرية "تنازع البقاء"، ويؤكد الباحثون أن فساد نظرية تنازع البقاء ترجع أساساً إلى أنها تعارض الطبيعة والفطرة وتكشف عن تحدِ واضح لانطلاقة الحياة في صورتها السليمة. فهي تؤدي إلى حرمان الضعفاء من حق الحياة وتشجيع الأقوياء على التسلط والسيطرة، وتبيح الحرب وتعتبرها ضرورة في يد القوي لإهلاك الضعيف.
ولما كان من طبيعة القوي أن يسيطر على الأضعف، فقد دعا الإسلام إلى أن يتمسك أهله بالقوة في مواجهة كل مَن يحاول الاعتداء عليهم، وكذلك دعا الأفراد إلى الهجرة من الأرض التي يقع فيها الإذلال لهم؛ حتى لا يكون المسلمون موضع سيطرة من غيرهم أو تسلط مِن عدوهم.
والحق دائماً يثبت والباطل دائماً يرتفع ثم ينهزم؛ لأنه لا يستطيع أن يواجه ثبات الحق وسلامته وقدرته على الانتصار والبقاء. وعلى أهل الحق أن يلتمسوا نصر الله بالاستعداد لمعارضة الباطل ومقاومته.(31/15)
ويقر الإسلام نظام "التعاون" بديلاً لمفهوم "التنازع"، ومن هنا فإن الأنظمة التي تقوم على الصراع لابد أن تسقط؛ لأنها تمثل اتجاهاً مضاداً للحق والخير، الذي هو الناموس الطبيعي للحياة. ومن شأن "الفطرة" التي فطر الله عليها الكون والناس أن تمكن للحق من هزيمة الباطل والادالة نه=، ومن شأن أهل الحق أن يكونوا في يقظة حتى لا يستشري الباطل ويكسب الحولية عليهم، فإذا فقدوا مقومات عقيدتهم، تغلب الباطل عليهم لا محالة، فكان حقاً عليهم أن يعودوا إلى التماس مقومات عقيدتهم ويتجمعوا لها، ومهما كانوا قلة فإن تمسكهم بالحق مع معونة الله يحتم تحقيق النصر لهم، وهذا هو مفهوم دفع الله الناس بعضهم ببعض، وهو معنى يختلف عن النظرية الغربية "تنازع البقاء".
ويجمع الباحثون على أن "الصراع" فكرة استعمارية نشأت في ظل الفكر الغربي الاستعماري الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي اعتمد على القوة كوسيلة للسيطرة على الضعيف على النحو الذي سارت عليه عمليات الاستعمار والاحتلال والحروب الاستعمارية، تبريراً للاستيلاء على موارد الغير وممتلكاته بالقوة والعنف. ولقد رحب الماديون بفكرة دارون؛ لأن عقيدتهم تقوم على العنف وصراع الطبقات.
أما القرآن فقد ذكر أن "الصلاح" هو سبب بقاء الأمم والحضارات في الدنيا، وهو عدة الضعفاء المتقين في التغلب على الأقوياء المنحرفين.
ولا ريب أن من أخطر ما تروج له الفلسفات الغربية كلمة "الطبيعة"، حيث ينسب إليها العطاء والمنع والكشوف والقوانين، ولا ريب أن هذا معارض تماماً لمفهوم الدين الحق؛ فإن الخالق هو الله وليس الطبيعة، والطبيعة مخلوقة لله، مذللة له سبحانه. أما كلمة "الطبيعة" في مفهوم العلم فهي عبارة (عن=) قوانين سقوط الأجسام ودورانها ومغناطسيتها، وهي قوانين تعبر عن قدرة الله في خلق الكون والإنسان، وليس في الإسلام صراع بين الله والطبيعة؛ فالكل يسلم ويسجد طوعاً وكرهاً.(31/16)
وكل ما كشفه العلم الحديث ليس إلا قشوراً صغيرة من علم الله الأكبر، وما استطاع العلم أن يصل إلى تفسير ظواهر الأشياء. ومن أخطر مقاتل العلم الحديث أنه فضل بين المادي والروحي في العلم وأنكر الروحي: يقول الكسي كاريل: "إن الغلطة المسئولة عما نعانيه أنها جاءت مِن فكرة لجاليلو؛ فقد فصل جاليلو بين الصفات الأولية للأشياء وهي الأبعاد والأوزان التي يمكن قياسها بسهولة عن صفاتها الثانوية وهي الشكل واللون والرائحة التي لا يمكن قياسها فقد فصل الكم عن النوع (الكيف)، ولقد جلب الكم المعبر عنه باللغة الحسابية والعلم، بينما أهمل الكيف. لقد كان تجريد الأشياء عن صفاتها الأولية أمراً مشروعاً ولكن التغاضي عن الصفات الثانوية لم يكن كذلك؛ فالأشياء غير القابلة للقياس في الإنسان أكثر أهمية من تلك التي يمكن قياسها، فوجود التفكير هام جداً مثل التعادل الطبيعي الكيميائي لمصل الدم، ولما اتخذت التركيبات العضوية والألباب الفسيولوجية = حقيقة أكبر كثيراً من التفكير والسرور والحزن والجهل، دفعت هذه الغلطة الحضارة إلى سلوك طريق أدى إلى فوز العلم والانحلال الإنساني، ولابد أن يعيد الإنسان صياغة نفسه وأن الخطأ الذي بدأ به كان أنه أعل شأن الكم على الكيف، هذا الخلل المروع في بناء الحضارة، الإنسان الذي حقق تسخير المادة وإطلاق الطاقة لا يزال أقرب إلى الغابة في العقل والتدبير وذلك أن الدين هو الحماية: هو الحائط العريض الحاجز عن الخطر هو إنسان الإنسان الذي ينقله من الغابة".
من هذا المنطلق وقع المحظور، وتوالت الأخطاء، واندحر الإنسان الذي تمزق في الغرب.
أنور الجندي(31/17)
ابتعاث الأسطورة مؤامرة جديدة تواجه الفكر الإسلامي
الأستاذ أنور الجندي
هناك حصيلة ضخمة من الأساطير والخرافات تتمثل في قصص وملاحم. وتتخذ من المعتقدات الوثنية موضوعاً لها، وهي تفسر أحداث الحياة وظواهر الطبيعة على ضوء هذه المعتقدات وتنسبها إلى تدخل الآلهة وأنصاف الآلهة في شئون البشر ولقد كان لليونان أساطيرهم وكان للعرب في الجاهلية أساطيرهم والغالب أن الإغريق والعرب في الجاهلية اشتقوا معتقداتهم الأسطورية من الفرعونية الوثنية القديمة.
هذا التراث من الأساطير والخرافات، المتصل بطوالع النجوم وأفلاك البروج، وأسرار الأرقام ومجموع التعاويذ الخاصة بطرد الأرواح الشريرة، كان بمثابة تجارة للكهنة القدامى في الحضارات المصرية والآشورية والبابلية القديمة ولقد كان اليهود هم حملة لواء هذه الأساطير والخرافات بالإضافة إلى فن السحر الذي يخصصوا فيه.
هذه الحصيلة يجرى تجديدها في العصر الحديث على نحو من الاهتمام الواسع، والتركيز الشديد على أفق الفكر الإسلامي بعد أن جاء الإسلام فحطم هذا التراث كله، وقضى عليه وذلك حين قدم صحاح الأخبار والصور والعقائد فيما يتعلق بمختلف شئون الغيب، وأجاب عن كل الأسئلة التي جاءت بها هذه الأساطير والخرافات بمثابة محاولات بشرية ضالة مضلة إزاء هذه الأمور.
عالم الغيب:(32/1)
لقد أعطى الإسلام منهجاً كاملاً للميتا فيزيقا أو ما يسمونه عالم الغيب، فكشف عن حقائق عالم الجن والملائكة ورسالات الأنبياء والوحي، وخلق السموات والأرض والرياح والبحار والكواكب والأقمار، وأوضح علاقة الإنسان بها، ودعا الإنسان إلى أن يعبد خالق هذه الكواكب، وأن لا يسجد للشمس ولا للقمر. وأن يعرف أنه تبارك وتعالى هو رب (الشعري) اليمانية التي كان يعبدها العرب في الجاهلية. كذلك فقد دعا الإنسان إلى عبادة الله الواحد الخالق، وحرره من عبادة الأصنام والأوثان والصور، وعلمه أن هذه كلها لا تملك له نفعاً ولا ضراً، كما كشف الله تبارك وتعالى سنن الخلق وتصريف الرياح، وإنشاء السحب وسوقها إلى حيث يأمرها بأن تمطر فيصيب بهذا الغيث من يشاء ويصرفه عمن يشاء.
لكل دار دواء إلا الموت:
وبذلك قضى على الأساطير العديدة التي كانت تتحدث عن الشياطين التي تسوق الرياح، كذلك دعا إلى التداوي من الأمراض، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن الله تبارك وتعالى خلق لكل داء إلا السام (أي الموت).
وبذلك قضى على ما كان يقوم به كهنة بابل من بعض الطقوس لشفاء المرضى أو طرد الأرواح الشريرة أو ما كانوا يصفونه لالتهاب العين من انتزاع أحشاء ضفدع صفراء.
كذلك دعا الإسلام إلى دحض ما يسمى طوالع النجوم وأفلاك البروج وتأثيرها على خطوط البشر وأسرار الأرقام، فإن هذه كلها لا تملك لنفسها شيئاً ولا تستطيع أن تقدم للإنسان أي دليل على غيب، فالغيب كله لله تبارك وتعالى.
المنهج التجريبي:
وكانت دعوة الإسلام إلى البشرية أن تنظر إلى خلق السموات والأرض، وإلى كيف بدأ الله الخلق، والتأمل في هذا الكون الذي هدى المسلمين إلى بناء المنهج العلمي التجريبي الذي نشأت عليه الحضارة الحديثة. والذي إدعاه القس روجر بيكون وفرانسيس بيكون ومن ذهب مذهبهم.(32/2)
وبذلك تحرر العقل البشري من الأساطير والوثنيات والخرافات القديمة، وانسحق هذا الركام كله تحت أقدام الحقائق، وتحت أضواء نور العلم الحقيقي.
غير أننا نرى الآن أن هناك محاولة مستميتة لإحياء هذا الركان، وإعادة إذاعة هذه الخرافات التي سادت في العصور القديمة من جديد بعد أن حطمها الإسلام، وأقام مفهوماً أصيلاً لكل ما يتصل بعالم الغيب ولما يتصل بخلق الكون والسموات والأرض.
عودة إلى الأساطير:
هذا الركام الوثني والبشري تجرى إعادة صياغته في أساليب براقة وكتب فاخرة، وتحمله إلى الناس صحف ومجلات راقية الطباعة، ويحمل لواء الدعوة إليه كتاب لهم شهرة ذائعة، حيث يجد إعجاباً وإقبالاً وافتناناً من الشباب المسلم، الذي لم تتشكل له خلفية أساسية من مفهوم الإسلام، تحميه من تقبل هذه السموم. ولا ريب أن بعض البلاد الإسلامية قد خضعت لهذه الأفكار الزائفة، عندما ضعف مفهومها الإسلامي في مرحلة التخلف، ولكنهم وقد عادوا اليوم ينفضون عنهم غبارها، عليهم أن يتحرروا منها، وأن الصورة التي سجلها مثل أدوار لين في كتابه (المصريون المحدثون) لا تمثل إلا مرحلة الضعف التي سيطرت فيها مفاهيم باطلة، حيث تسربت الخرافات والأساطير مرة أخرى إلى المجتمعات تحت أسماء التمائم والتطير، وتقمص الأرواح، قد كتب لين ذلك في نفس الوقت الذي كان الإمام محمد بن عبد الوهاب يجاهد في الجزيرة العربية ونجد لتطهير الإسلام من هذه الخرافات.
بين الفك والتنجيم:(32/3)
ومن عجب أن تذيع بعض المجلات كتباً مسمومة تحت اسم "علم الأساطير" لتخدع المسلمين عن حقائق دينهم، للبشر، وفي هذا ارتداد إلى مجاهل التنجيم وشعوذة المنجمين، مما يتناقض مع مفهوم الإسلام الأصيل، ومع منهج البحث العلمي الصحيح، ولاريب أن وراء هذه الأهواء قوى تغريبية وتلمودية خطيرة تحاول أن تفرض هذه المفاهيم المسمومة الزائفة، بحيث تقول أن هناك صلة بين وجود الكواكب في أبراج معينة وبين الأحداث، أي أن مواليد برج معين تتميز شخصياتهم بظواهر معينة تختلف عن مواليد الأبراج الأخرى.
ولقد حرى العلماء المسلمون علم الفلك الحديث من خرافات التنجيم القديمة وفرقوا بين التنجيم وبين دراسة الأفلاك ومواقع النجوم، ولكن دعاة التلمودية يحاولون إعادته مرة أخرى إلى الأساطير.
والحق أنه لا صلة مطلقاً بين الكواكب وبين ميول المواليد، أو شخصياتهم ولا توجد أي إشعاعات خاصة نابعة من هذا الكوكب أو ذاك تؤثر على الناس.
خلط العلوم بالأساطير:
بل إن بعض الباحثين في علوم النفس والأخلاق، يعتمدون على بعض الأساطير القديمة الزائفة، في إقرار أوضاع معينة على أنها حقائق – كما فعل فرويد في تحليل أسطورة أوديب – التي أقام عليها نظريته، وقد اختار الرموز الأصلية لنظرياته في العقل الباطن والغريزة الجنسية من واقع هذه الأساطير وكذلك فعل سارتر.
ولقد تبين أن معظم أساطير الأولين هي من صنع خيال السومريين والبابليين وأنها قد وضعت لتفسير الخليقة والتكوين وأحوال الآلهة التي هي في صراع مع الإنسان، وإيضاح حادثات الكون الكبرى وفكرة الجان والشياطين والروح والنفس. وقد انتشرت حتى بلغت الجزيرة العربية، ومنها ما رواه هيردوت اليوناني وتيودور الصقلي وما ورد في العهد القديم.(32/4)
وكلها كما قلنا محاولات لسد الفراغ النفسي لدى الإنسان إزاء الجوانب التي يخشاها ولا يعرف مصدرها، ولا ريب أن هذا كان بضاعة الوثنيين وما زال صناعة الكارهين لدين الله الحق، ذلك أن دين الله منذ أول البشرية قد قام لمعتنقيه الإجابات الكاملة لكل هذه التساؤلات وهدي نفوس البشر إلى الحق والهدى، وقد قاومت الأديان كلها الكهانة والعرافة (الكهانة تعني استطلاع المستقبل بينما تعني العرافة استرجاع الماضي) والقاسم المشترك بينهما هو استطلاع الغيب والتنبؤ.
ولا ريب أن لدين الله الحق موقف مضاد للكهانة وهو يعتبرها قد انتهت بعد النبوة "لا كهانة بعد النبوة" وقد أكد الإسلام أن الغيث ملك لله تبارك وتعالى وحده وأن من قصد عرافاً فصدقه لا تقبل صلاته أربعين يوماً.
الوسائل:
وجملة القول في هذا أن الأسطورة هي بديل الحقيقة، وعندما تختفي الحقيقة تنشأ القصة الخيالية والحقيقة هي الوحي.. ولقد جرت في السنوات الأخيرة محاولة واسعة لإعادة طرح الأساطير اليونانية والعربية القديمة، عن طريق الأدب: "الشعر والقصة" وأعيد عرض هذه الخرافات الوثنية بأساليب جديدة عن طرق فنون المسرح والشعر الملحمي، والنقد الأدبي، وحشدت أسماء كثيرة لإعادة كتابة تاريخ الأسطورة في الآداب العالمية، وكل هذا ولاشك يرمي إلى تحقيق هدف خطير هو شغل الأذهان بأهواء البشرية وضلالاتها في مرحلة طفولتها، ودفع ذوي الأغراض إلى الأسطورة التي تمثل طفولة الإنسان في مرحلة إنحرافه عن الدين الحق، إلى أن تصبح مصدراً من مصادر المعرفة، وتوجه نحوها دراسات نفسية واجتماعية بقصد إحياء الوثنية القديمة الممثلة في بروميثوس، وجلجامش، وأوزيريس، وعشتروت، وزينوس.(32/5)
هذه الأساطير التي تحاول أن تعارض الإله الواحد والدين الحق، وتقدم مفهوماً زائفاً عن العلاقة بين الله تبارك وتعالى وبين الإنسان بما تحمل من تعدد في الآلهة، بتقديم القرابين تارة، وما تصوره من صراع دائم بين الإنسان وبين الآلهة تارة أخرى، هذه الآلهة الظامئة إلى الشر والانتقام وما يكون دائماً من هزيمة الإنسان أمام الآلهة.
مفهوم الدين الحق:
وهذا في جملته غير صحيح في النظر العلمي الصحيح، وفي مفهوم الدين الحق، الذي يتمثل فيه الله تبارك وتعالى إلهاً واحداً رحيماً يقبل التوب ويغفر الذنب وهو بعباده غفور رحيم، وكيف أن العلاقة بين الإنسان وخالقه علاقة عبودية وإيمان وتسليم (إيمان بالبعث والجزاء وتسليم بالقضاء والقدر) وتقبل كامل لعطاء الله كله وأمره كله، فليس هناك ما يومئ من قريب أو بعيد إلى هذا الذي يصورونه زيف باسم الصراع بين الإنسان المسلم وجهه لربه وبين الخالق الرحيم، ولقد زيف الدين الحق مفاهيم الأساطير ورجال اللاهوت حين ردوا الأمراض إلى عوامل خفية، منها حقد الشيطان وغضب الله، وما يتصل بذلك من مفاهيم زائفة في السجن والجن والخوارق، حتى ردوا الأوبئة والزوابع والقحط وكسوف الشمس وخسوف القمر إلى الشياطين.
كذلك فقد فرق الدين الحق بين الألوهية والنبوة، وبين النبوة والإنسان على نحو يحول جون هذا الخلط الذي تقع فيه الأساطير بين آلهة وإنصاف الآلهة وبين الأبطال، وبذلك دحض فكرة أن يكون هناك آلهة لكل عالم من العوالم كآلهة الجبال والأمطار والرياح والحرب والخمر والجمال، او أن يكون هناك أنصاف آلهة من الأبطال القادة: وسجل هذا سيدنا يوسف على قومه من وقت بعيد حيث قال:
{أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار، ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان، إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} يوسف: 39، 40.(32/6)
وهكذا جاءت أديان السماء، لتنسخ هذا الزيف جيلاً بعد جيل، فعلى لسان كل نبي كانت الدعوة إلى تحرير البشرية من هذه الوثنية ومن عبادة الأوثان والأصنام والتماثيل.
خرافات الإلياذة والأوديسة:
والمعروف أن هذه الآلهة المدعاة لم تكن إلا بشراً، أعطى من القداسة قدراً أخرجه عن طبيعة البشر فوصف بمثل هذه الصفات الزائفة على النحو الذي نراه في ملاحم الإغريق وكملحمة الأوديسة والإلياذة، من أن الآلهة عند الإغريق حاقدون على البشر، وإنها قاسية على الكائنات الأخرى يغضبون فيحولونهم إلى حيوانات أو نباتات أو أحجار أو مياه وقد وصفها الشاعر "أوفيد" بأنها ينابيع النار والدمار والهوان لكل الآداب العالمية.
ويرجع وصف الآلهة بالقسوة إلى ما أوردته التوراة بأقلام الأحبار من وصف لله {جل وعلا عما يقولون علواً كبيراً} بالإله المنتقم القاسي.
المترجمون المسلموت أهملوا ترجمة الأساطير:
ترجمت إلى اللغة العربية في العصور الأخيرة إعداد من الملاحم والأساطير اليونانية والفارسية، وقد غفل القائمون على هذه الأعمال عن أن العرب في إبان نهضة الترجمة تنكبوا ترجمة الملاحم والقصة والشعر بقصد واضح، هو أنها تمثل "عواطف" و "مشاعر" أمم تختلف عن العرب في عقائدها وعاداتها وتقاليدها، ولكن ترجمة هذه الأساطير في العصور الأخيرة، جاء في مرحلة ضعف العرب والمسلمين عن مواجهة تيار الترجمة الخطير، الذي قادته قوى التغريب والغزو الثقافي، بهدف طرح سموم الوثنية في أفق الفكر الإسلامي.(32/7)
ذلك أن الملاحم إنما تقوم على تصور أحداث غير صحيحة في طبيعتها، وإنما هي موضوعة على طريقة التهويل والإثارة وتضخيم الأحداث، وتدافع الخيال في أمواج من الخوارق التي تتنافى مع طبيعة النفس العربية والإسلامية ومع واقع الحياة نفسها، وقد قصد بإنشاء هذه الملاحم والأساطير في بيئاتها تغيير وجهة الناس وتفكيرهم عن واقعهم المرير، إلى أجواء من الوهم والخيال، ومن هنا فقد أعرضت الطبيعة العربية الإسلامية القائمة على الفطرة والبساطة والواقع والصدق عن هذه الملاحم، هذه الطبيعة التي تستمد مقوماتها من خصائص مختلفة عن هذه الأحقاد والأهواء والمطامع والقتل والتدمير، فالنفس العربية الإسلامية تستمد خصائصها من الشهامة والكرامة والفروسية بكل مقومات المروءة وحماية الذماء والدفاع عن الجار وصفات الكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف.
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي * * * حتى يواري جارتي مأواها
هذه الخصائص العربية الإسلامية بعيدة عن المبالغة والعنف وصناعة الوقائع الأسطورية، مرتفعة عن الخوارق عازفة عن الأهواء المضلة، هذه الطبيعة في الحقيقة استمدها العرب والمسلمون من ميراث الأديان والنبوة بدءا الحنيفية الإبراهيمية السمحاء ومتصلة بالنبوة المحمدية الكريمة، ولذلك فقد رفضوا هذا اللون من الملاحم والأساطير وأعرضوا عنها، خاصة وقد قدم لهم القرآن الواقعة الصحيحة والتاريخ الصحيح لكل ما حاولت الأساطير تصويره بالخداع والباطل: من أمثال الطوفان وأهل الكهف وسليمان الحكيم وذي القرنين {نحن نصقص عليك نبأهن بالحق}، {ننح نقص عليك أحسن القصص}.
نزعات لا يقبلها الإسلام:(32/8)
وإذا كانت الأسطورة – كما تقول مصادر البحث الأدبي العالمية – تمثل الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية، فإن هذه النزعة وثنية طابعها، ولم يكن من الممكن أن ينقلها الإسلام أو يقرها، ذلك – وكما قال أحد كبار الباحثين الغربيين "جوستاف فون جرنبوم" – أن مفهوم الإنسان في الإسلام يمنع وقوع أي صراع درامي. ومن هنا فإن عزوف الأدب العربي والإسلامي عن التمثيل والقصص والملاحم يرجع إلى طبيعته الأصيلة القائمى على الواقعية والوضوح، أن هذه النزعة – نزعة الصراع بين الإنسان والقوى الإلهية نزعة وثنية في طابعها لا يعرفها الإسلام، ولا تتمثل في نتاجه الأدبي أو الفكري، فلماذا هذه المحاولات الضخمة، التي يقدم بها بعض الشعراء والقصاصون – التابعون للتغريب والغزو الثقافي – على طرح هذه الصور القاتمة في أفق الفكر الإسلامي والأدبي العربي الذي لا يتقلبها ويرفضها كما يرفض الجسم العنصر الغريب، فضلاً عن أن هذه الروايات والملاحم تغلب عليها روح الزندقة والإلحاد، وهي تتسم بفهم سيء لعلاقات الرجل والمرأة، فهي مكشوفة إباحية هي في مجموعها تصدر عن معين مسموم، وهي توصل أذى السم إلى قارئها فتفسد نفوساً ذكية وأرواحاً طاهرة.
وما الهدف؟
ولاشك أن الهدف من هذا هو نفس الهدف الذي ترمي إليه دعوة التغريب: من إفساد عقليات الشباب المسلم وعواطفه فضلاً عن خلق مفهوم منحرف عن مفهوم الأصالة والفطرة التي جاء بها الإسلام.(32/9)
وحين نراجع ذلك الركام الذي ترجم في السنوات الأخيرة من أمثال قصص توفيق الحكيم "بيجماليون"، "أهل الكهف"، "الملك سليمان" وما نشره على محمود طه من شعر في ديوانه "أرواح وأشباح" نجد هذا الالتقاء بين أساطير اليونان والمسيحية والفراعنة، وتراث بابل وآشور والإسرائيليات اليهودية، في محاولة لاحتواء الفكر الإسلامي والأدب العربي اللذين هما بطبيعتهما يتعارضان مع هذا التيار الخيالي المغرق في المبالغة الوثني الاتجاه، بما أعطى الإسلام هذا الفكر وهذا الأدب من طابع الوضوح والصراحة والطبيعة المشرقو "ليلها كنهارها" وحيث لا يعرف الإسلام في باب القصة إلا القصة إلا القصة الواقعية الصادقة البعيدة عن الزيف، المتحررة من التفاصيل الوهمية، الهادفة إلى تقديم العبرة الخالصة بعيداً عن التخيل والمبالغة والتأثير الخطابي.
ولاريب أن هذه المحاولة الجديدة التي اقمت بها قوى التغريب تستهدف ما عجزت عنه هذه القوى في الماضي حين رفض المسلمون ترجمة الملاحم والأساطير، ولذلك فإنه يجب التنبه لها ودحضها ومدفاعتها بكل قوة وكيف يمكن أن يقبل هذا أهل الإسلام، وقد جاء الإسلام لينهي طفولة البشرية وليعلن دخولها في مرحلة الرشد الفكري، هذا اللون من الأدب أو القصة، وقد أعلن الباحثون في العصر الحديث أن الأسطورة من مخلفات طرائق في السلوك والتفكير وعادات مندرسة، حافظت على تفسير ساذج للعالم الخارجي.
لا حاجة بنا إلى هذا اللون:(32/10)
ولا أعتقد أنه بعد أن تحدد هذا المؤقف العلمي وبعد أن أعطى المسلمون منهجاً كاملاً للميتافيزيقا (عام من وراء المادة) أن يكونوا في حاجة إلى إعادة هذا اللون من مخلفات الجاهلية الوثنية القديمة، التي فضل الإسلام بين البشرية وبينها بأضوائه السلطعة، وليس أدل على تخبط الغرب من أنه في الوقت الذي يعلن فيه أن ينطلق في أبحاثه من النهج العلمي، أن يقبل هذه الأساطير لتقييم عليها نظريات وفروض ويعيد العالم من جديد إلى عصر الأسطورة والغابة {الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات}. البقرة: 257.
ولعل من أخطر الدعوات التي يروج لها التلموديون هي محاولة إجراء المقارنات بين الأساطير وبين الأديان وقولهم أن الأديان القديمة ما هي إلا مجموعة من الأساطير التي لا تصلح إلا للتلهية وإمتاع الخيال، ومن وراء ذلك القول المسموم هدف مبيت ترمي به اليهودية إلى إثارة التشكيك في دين الله الحق الذي صاحب البشرية منذ نشأتها الأولى وهداها جيلاً بعد جيل إلى الحق.(32/11)
وبالجملة فإن القرآن الكريم، حين نزل وهو ما يزال وسيظل هدي للبشرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، قد ألغى تراث الأسطورة كله، وقدم بدلاً منه تقريراً صادقاً حقاً، في كل ما يتعلق بحوادث التاريخ ووقائعه القديمة التي وصفت بأنها أساطير، وزيفت في العرض في العهد القديم، وخاصة فيما يتعلق بنشأة الحياة والطوفان وغيره "سفر التكوين" وقد أعلن القرآن – صادقاً – أن ما يقدمه هو الحق الذي لا مرية فيه. كذلك فإن الأدب العربي لم يكن في حاجة إلى الأسطورة، لأنه قام على الحقيقة نفسها، ذلك أن الأسطورة لم تكن في عرف أصحابها إلا محاولة لملء فراغ الخيال بالنسبة لأمور غائبة، وقد قامت على معنى متوهم، بأن هناك فراغاً بين الإنسان وقوى الغيب وليس هذا صحيحاً وقد جاءت الأديان السماوية – ديناً بعد دين – لتنفيه وتكذبه – وقد أكد الإسلام حين طبقت تعاليمه أن ما بين الإنسان وربه هي رابطة العبودية بين المخلوق وخالقه، ورابطة التكامل بين الإنسان والكون، فهي رابطة العطاء المذلل للإنسان.
{هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه}. الملك: 15.
ولم يعرف المسلمون الأساطير في تاريخهم كله لأن الحقائق التي جاءتهم من رسالة السماء كانت كافية ومقنعة.(32/12)
ماذا يقرأ الشباب المسلم
يجب أن يستجيب الكاتب المسلم في هذه الآونة لهذه الدعوة الملحة الموجهة من الشباب تحت عنوان (ماذا نقرأ) حتى تكون في مأمن من ذلك الإعصار الخطير الذي يتمثل في عشرات من المؤلفات ذات مظهر براق وعناوين لامعة وتخفي في أطوائها السموم.
يجب أن لا تخدعنا الأسماء ذات الدوى ولا الأثواب البراقة ولا أرقام التوزيع أو براعة الإعلان وأن نكون قادرين على الحكم على الكتابات المطروحة من خلال قيمتها الحقيقية ومن خلال معرفتنا لمدى إيمان كتابها بأمتهم وفكرهم، ذلك أن هذه الدعوة: هي بمثابة خطوة أساسية وثابتة على الطريق الصحيح. ذلك أننا أنما أوتينا من قبل الكتب اللامعة والأسماء البراقة.
وأن أول علامات الصحة في حكمنا على الأمور أن نحاكم الفكر نفسه بإخلاص والإيمان وأن يكون الكتاب المقرون لدينا الأثيرون عندنا، نأخذ منهم ونتلقى عنهم، هو أولئك الذين عرفوا بنصاعة الصفحة وصدق الإيمان وسلامة الماضي ونقاء الوجهة والتحرر من التبعية والولاء لغير هذه الأمة وفكرها. وهناك عشرات من الأسماء ذات الأصالة يستطيع الكاتب أن يقرأ لها وهو على ثقة بأنه في الطريق الصحيح:
وهناك كتب ضرورية وأساسية:
1- الغارة على العالم الإسلامي:
تأليف شاتليه وترجمة محب الدين الخطيب.
2- محاضرات في النصرانية:
محمد أبو زهرة.
3- الإسلام على مفترق الطريق:
محمدان (ليوبولبر فابس).
4- بين الدين والعلم:
الدكتور محمد أحمد الغمراوي.
5- الخطر المحيط بالإسلام:
الجنرال جواد رفعت.
6- منهج التربية الإسلامية:
محمد قطب.
7- قادة الفتح الإسلامي:
محمود شعيب خطاب.
8- التبشير الاستعمار:
دكتور عمر فروخ.
9- في وكر الهدامين:
محمد محمد حسين.
10- مؤامرات ضد الأسرة المسلمة:
محمد عطية خميس.
11- ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين:
أبو الحسن الندوي.
12- أحجار على رقعة الشطرنج:
الأميرال ويام جاي كار.
13- الخطر اليهودي (بروتوكولات صهيون):(33/1)
ترجمة محمد خليفة التونسي.
14- جذور البلاء:
عبد الله التل.
وليكن دليلنا دائماً: أن نقرأ الكاتب قبل كتابه، فإذا طبقنا علم الجرح والتعديل استطعنا أن نعرف مدى إيمان الكاتب وصدق انتمائه إلى أمته وفكرها، وهذا هو ما نتقبل منه عطاءه أما غيره فلنكن منه على حذر فإذا قدم شيئاً نافعاً فلنقبله إيماناً بأن الحكمة ضالة المؤمن أن وجدها فهو أحق الناس بها ولنكن على إيمان كامل بأن الكاتب الصادق يستمد قوته من الحق ويستمد مظهره من تراث الأنبياء والأبرار ويكون في دعوته وهدفه وكتاباته مطابقاً للآية الكريمة: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً" – القصص آية 83 – فهو لا ينكر العلم ولا يكتمه، وهو في نفس الوقت لا يشتري بالحق ثمناً قليلاً.
ولا يكون أبداً أداة لتزييف الحق أو تضليل الناس أو إعلاء شأن الأهواء وخداع الناس بها تحت عناوين الفكر الحر أو الانطلاق أو غيرها.
###مسئولية القارئ
إن الكاتب الذي يطمع في أن يكتب ثقة الشباب المسلم المثقف يجب أن يكون قادراً على تحمل أمانة الكلمة مقدراً للأبعاد المختلفة لهذه الأمة وفكرها والتحديات التي تواجهها.
وأن يكون من كرامة الشخصية بحيث لا يغش ولا يموه ولا يزدري مقدرات هذا الفكر. وليعلم أنه سوف لا يمر وقت طويل حتى تكشف الحقائق أمره ودوره ونحلته ومن ثم يسقط سقوطاً لا سبيل معه إلى استعادة الثقة.
ذلك أن القارئ المثقف في هذا العصر على الرغم من وجوده على حافة الدائرة وليس في قلبها فإنه قد آمن بأن أمته تواجه اليوم تحديات خطيرة عن طريق الغزو الثقافي والتغريب وأن الثقة لم تعد في المستطاع الحصول عليها إلا لعدد قليل ممن برهن تاريخهم وكشفت وقائع حياتهم عن الصدق والإخلاص.(33/2)
إن في الساحة كتاباً كثيرين، وهناك من قد يستطيعون عن طريق البراعة والذكاء وإحسان العبارة وإخفاء الهوى أن يصلوا إلى بعض العقول والنفوس نتيجة لمرحلة القصور الذاتي الموجودة بين الشباب الذي لم يتعلم من أصول فكره الإسلامي العربي إلا شذرات قليلة، بينما اتخم بفنون مختلفة من فكر الغرب. إن الكتب البراقة والصحف اللامعة والأسماء الشهيرة قد كانت على مدى هذا العصر الحديث تخطت الأبصار ولكنها كانت عاجزة عن أن تمتلك القلوب والنفوس. أن عشرات من هذه الأسماء التي لمعت لم تلبث أن سقطت وانكشفت زيفها، وأن عشرات من هذه الكتب التي أحدثت ضجة لم تلبث أن انطوت وظهرت عشرات الكتب والأبحاث في كشف زيفها والرد عليها.
إن هناك نظريات كثيرة سادت بسلطان التغريب زمناً ثم سقطت. فعلى الكتاب الذين يتصدرون اليوم أن يعرفوا هذه الحقيقة. إنهم سوف لا يستطيعون الصمود فوق المسرح وتحت الأضواء إلا زمناً قليلاً ثم ينكشف زيفهم.
أما الكتاب الصادقون فإنهم مهما عجزوا عن تسنم المنابر الضخمة والصحف الكبرى، فإنهم معروفون بأعيانهم أن وجودهم في الظل هو علامة على قدرتهم على التمسك بالحق وصمودهم بعيداً عن مغريات الأضواء.
إن الكاتب الذي يصطفيه الشباب المسلم هو القادر على أن يقول الحق، وأن ينصح للأمة، وأن يدل على الطريق الصحيح.
وأن أخطر أخطاء الكتاب هو التعصب الخفي المستور وراء مظاهر المنهج العلمي، بينما تبدو الأحقاد واضحة ليست في حاجة إلى من يكشف عنها.
وأن أكبر أخطاء الكتاب العجز عن النظرة الكلية والكلمة المنصفة.
إن الكاتب القادر على الإنصاف من النفس هو القادر على أن يكسب ثقة القارئ، ليس من شأن الكاتب أن يجعل نظرته الذاتية قانوناً شاملاً. وليس من شأن الكاتب أن يتطرف إلى جانب أو يقف عند النظرة الجزئية.
ليكن الكاتب منتمياً إلى أمته وفكرها وعقائدها.
وليكن صادقاً في هداية قومه إلى الحق.(33/3)
ذلك أن الباطل مهما أسبغ عليه من صور العلمية أو بريق العبارة، فإنه سوف ينكشف ويتعرى، والشيء المصادم لطبائع الأشياء لا يدوم.
إن كل دعوى إلى نظرية لا تندمج في العقيدة الأساسية للأمة سوف يرفضها هذا الفكر مهما حشد لها من قوى وأقلام كما يرفض الجسم الحي أي جسم أجنبي غريب.
إن الكاتب الذي هو معقد المسئولية والأمانة: من إذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق.
وهو الذي يتعصب للحق وحده، وينكر ذاته وينكر التبعية عن أي صورة من صورها. ولا قيمة للكاتب الذي يفصل بين القيم فيعجز عن معرفة الصورة الكاملة، ويجهل أبعاد القضايا.
لا قيمة لكاتب بلا عقيدة كاملة، تستطيع أن تضع كل شيء موضعه، وتقف من كل الأمور موقفاً حاسماً.
إن الكاتب بلا عقيدة كالربان الذي فقد اتجاه الريح، وعلامات السماء، لقد استطاع الفكر الوافد أن يخلق طبقة تقول أنني مشتغل بالأدب فلا أعرف في العقائد أو المناهج، بينما كل ما يعرض عليها في الفكر الغربي من وجودية أو علمانية أو مادية أو لا معقول له ارتباط كامل بكل قيم الإنسان. والمجتمع مؤثر فيها، هادف إلى أحداث آثار بعيدة المدى بالقيم والعقائد.
على الكاتب الذي يحمل أمانة هذه الأمة أن يكون قادراً على التحرر من التبعية الفكرية وأن يكافح من أجل تحرير فكره وأمته منها وأن يعرف أن المعرفة الإنسانية عامة وأنة العلم عالمي وأن العقائد والثقافات خاصة بكل أمة.
وأن يؤمن بأن هذه الأمة لها رسالة مستمرة ما زالت تؤديها للبشرية.
وأنه ليس من عمل الكاتب المسلم تبرير الواقع بل عليه أن يضع المعالجات لإصلاحه وأن يدعو إلى تغييره إذا تطلب التغيير. وأن يرد كل تغيير وإصلاح إلى الإطار الأصيل الذي يتحرك فيه الفكر الإسلامي العربي.
وليؤمن الكاتب الذي يريد أن يكسب ثقة الشباب المثقف أن انبعاث الأمم إنما يستمد قوته من فكرها ومقوماتها وأن انبعاث المسلمين والعرب لن يكون من خارج مقومات فكرهم وعقائدهم.(33/4)
وأن الكاتب ليس بهلواناً جاء لإضحاك الناس وإرضاء غرائزهم وهدهدة أهوائهم، ولكنه جاء ليصحح الأخطاء ويكشف الزيف ويضيء الطريق إلى الحق.
وليؤمن الكاتب بأمته وفكرها والدور الذي قامت به في التاريخ والفكر البشري، ليؤمن بأن الفكر الإسلامي رفض المنطق الأرسطي وأقام منهجاً جديداً هو المنهج التجريبي وليؤمن بأن أصول مختلف العلوم التي تدرس الآن في الجامعات كالطب والآداب والاجتماع والتاريخ والقانون والفلك والتربية بدأت من نقطة الإسلام وحضارة القرآن.
وليؤمن بأن كل ما يقال عن النضال أو الصراع بين العلم والدين أنما يقصد به تاريخ الغرب وليؤمن بأن ضعف المسلمين أنما يرجع إلى إغفالهم تعاليم الإسلام وليس إلى منهج الإسلام نفسه وأن الإنسان ليس حيواناً كما تقول النظريات المادية ولا آثم بحكم ولادته ولا مجبور التناسخ، وإنما هو مستخلف في الأرض.
وأن أزمة القلق التي يعانيها الشباب اليوم قد صدرت عن الفصل بين الدين والمجتمعات وبين الأخلاق والتربية.
وأنه ما من علم أو فن يتحدث عنه الناس في أدب من الآداب إلا له ضريب في اللغة العربية.
وأن أهم ما في الفكر الإسلامي المطابقة بين الكلمة والسلوك.
وأن على الكاتب المسلم أن يفرق بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية من ناحية وأن يفرق بين المفاهيم الأصلية والمفاهيم الزائفة الوافدة.
وأنه لا خطأ في الإسلام وإنما الخطأ في طريقة إسلامنا وأن فترة ضعف الإسلام لا تمثل حقيقة جوهره، وإن من أكبر الأخطار التي تواجه الكاتب المسلم هي تلك النظرة الخاطئة التي تحاول أن تعطي الأدب مكاناً أكبر من حجمه الحقيقي في عالم الفكر، ومن ثم كان تجاوزه الخطير لمهمته ومفهومه.
وإن لا تناقض في الفكر الإسلامي بين العلم والأدب، ولا بين العقل والقلب، ولا بين الروح والمادة، بل هناك تكامل وترابط.(33/5)
وإن الإسلام لا يعلى الجنس أو الشهوة وإن كان يعترف بالرغبات البشرية ويفتح الطريق لها عن طريق طبيعي مع وضع الضوابط والحدود التي تحول دون التحلل والسقوط.
وإن على كتاب الإسلام أن يغربلوا ذلك الركام الضخم ويكشفوا عن الأصيل والزائف والأساسي والدخيل.
وعلى الكاتب المسلم أن يكون مقاوماً، داعياً إلى الله وليس مستسلماً أو موالياً للباطل وليس لفهم الفكر الإسلامي سبيل إلا النظرة الكلية الجامعة.
وليؤمن كاتب الإسلام أن الإسلام منذ انتشر لم يتغلب عليه متغلب، وإن تغلبت على أممه الشدائد ومنذ ظهر الإسلام وكل حدث في العالم مرتبط به وأن العمل على الالتقاء بين روح العصر وروح الأمة لا يكون على حساب القيم الأساسية بل في ضوئها وعلى هداها. وأن الإسلام قد رفض مبدأ التبعية ولم يستسلم في تاريخه الطويل لأي نظرية وافدة.
وأن التجديد في الأدب كالتجديد في العلم لا يمكن أن يقوم إلا على أساس تعاون الماضي والحاضر.
إن بريق الأسماء لا يغني شيئاً عن الحقائق.
إن محاولة رفع أسماء بعينها سوف تكشف زيف الأيام.
إن كل صيحة علت بغير الحق لم تلبث أن تحطمت.
إن الضجيج والبريق ليسا شيئاً إلا في الأمد القصير.
"أما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض". صدق الله العظيم.
###في سبيل بناء مشروع إطار للقراءة
هذه محاولة لاقتراح مشروع إطار للقراءة يقوم على أساس تحديد النظرة، بحيث لا تضطرب أمام الكثير المطروح في السوق، مع اتساع الآفاق لمعرفة ما وراء هذه الألوان والأنواع المختلفة المتضاربة.
وأساس النظرة وقمتها هو القرآن الكريم: هو المختبر الأصيل الذي يبقى دائماً موضع الثبات والصدارة والقدوة، وعلى ضوئه يختبر كل فكر وكل كتاب فما التقى معه ينظر فيه ويقبل، وما يتعارض معه لا بأس من النظر فيه مع الاحتفاظ والتحفظ.
والمسلمون أساساً ليسوا في حاجة إلى مذاهب من خارج فكرهم فقد كفاهم غنى، إذ قدم لهم ثلاثة مناهج أساسية هي:(33/6)
أولاً: "منهج الغيب": أو "ما وراء المادة" وقد كشف القرآن للمسلمين صورة كاملة لهذا الجانب المتصل بعالم الشهادة المرتبط به وبذلك كفاهم أمر البحث فيه، حيث أن العقل البشري في ذاته قاصر عن أن يدرك هذا العالم بنفسه أو يصل إليه بالبحث التجريبي أو المناهج المجردة.
ثانياً: منهج المعرفة: وقد أعطي القرآن المسلمين منهجاً كاملاً قائماً على العقل والقلب، وتجربة التاريخ وعبرة الكون القائم أمام أعين الناس وبذلك أعطاهم أوسع منهج للمعرفة وأكمله وأكثره إيجابية وسماحة.
ثالثاً: منهج العلم التجريبي: فقد دفع القرآن المسلمين إلى النظر في السماوات والأرض، والتماس التجربة، والبحث عن البرهان والدليل فاستطاعوا إنشاء المنهج العلمي التجريبي الذي هو مصدر النتاج العلمي الحديث كله (وليس في هذا مبالغة بل هي شهادة علماء العلم أنفسهم وفي مقدمتهم: بريفولت ودرابر وجوستاف لوبون ودكتورة هونكة).
ثم قدم الإسلام للمسلمين: منهج المجتمع ونظام الحياة وهي شريعة الإسلام الخالدة التي اعتمدت قيم ثلاث أساسية:
أولاً: المسئولية الفردية للإنسان وإرادته الحرة في عمله.
ثانياً: القانون الأخلاقي.
ثالثاً: الجزاء الأخروي.
وقد قامت هذه المناهج كلها على قاعدة أساسية هي "التوحيد".
ولقد التقى القرآن إلى المسلمين حصيلة ضخمة وافرة من معطيات الاجتماع والسياسة والأخلاق والاقتصاد والتربية والقانون، كان أبرز ما فيها: أنها ليست موقوفة على عصر ما أو بيئة ما، بل هي خالدة باقية مرتبطة بالإنسان نفسه من حيث هو كيان متكامل: (روح ومادة).
وهي بذلك لم تتشكل في هيئة قانون له مواد، بل قدمت على هيئة إطار واسه من قابل من داخله للتغيير والحركة والتطور بما يناسب العصور والبيئات، ولذلك جاءت أساساً على هيئة قيم كبرى فيها طابع الثبات وقادرة في أطرافها على الحركة.(33/7)
وهي في ضوابطها وحدودها عمدت إلى حماية الفرد نفسه من الانحراف إلى أحد القطبين:الجمود أو الانحلال، ولذلك فقد أبعدته عن الزهادة والترف معاً وإقامته في توسط يحفظ له كيانه العقلي والجسدي من العطب ويجعله قادراً دائماً على ممارسة دوره في الحياة وأداء رسالته.
ومن هنا فإن السؤال القائم في هذا الموقف هو هل المسلمون في حاجة إلى إيديولوجية أو مذاهب أو دعوات تطرح عليهم إذا كان منهجهم كاملاً، وقد طبق فعلاً فأحدث تقدماً عظيماً وسيطر على البشرية عطاء وعدلاً أكثر من ألف عام؟
والإجابة: أن لا. وهنا يجيء السؤال الآخر: إذن لماذا تخلف المسلمون؟ والإجابة هي أنهم تركوا المنهج الذي صيغت عليه حياتهم، وشكل وفقه مزاجهم النفسي والاجتماعي، وتخلفوا عنه ضعفاً وجموداً، أو انطلاقاً وانحرافاً. ومن هنا فإن أمة تشكلت على منهج مدى أربعة عشر عاماً من العسير أن يصلح لها منهج آخر وافد، خاصة إذا كانت هذه الأمة قد كانت على حذر دائم وعلى طبيعة أساسية ترفض الدخيل ولا تقبل لا ما يزيدها قوة وما ينصهر داخل كيانها ومفهومها في هذا الضوء يمكن أن يقرأ الشباب المسلم وينظر في هذا الحشد الهائل الضخم الذي تطرحه عليه المطابع هو يعرف مقدماً أن ليس كل من كتب له إنما يريد به الخير، أو يقول له الحق. وأن هناك ملابسات كثيرة وأساليب دقيقة وبريق خاطف وكلمات براقة يراد بها إخراج الأمة عن الأصالة وعن الذاتية.
إن هذه الأمة ما تزال تواجه التحدي وستظل تواجهه وقتاً طويلاً:
تحدى الاستعمار والصهيونية والقوى الغازية والمتربصة والطامعة. ولذلك فإن ما يطرح في سوق القراءة خاضع لهذه التيارات.
وإذا كان القارئ المسلم يستطيع أن يقرأ لكتاب يعرف صدقهم، فإنه في المرحلة التالية مطالب بأن يقرأ كل شيء يعرف الزيف من الصحيح وليكشف هذا الزيف، ويصحح الأخطاء، ويحرر المفاهيم على الضوء الكاشف الذي تعرض عليه كل شيء وهو (القرآن).(33/8)
ونحن نعرف أن حركات التبشير والاستشراق والغزو الثقافي مما نطلق عليه اسم "التغريب" قد غيرت جلدها فلم تعد تهاجم في صراحة ولا تنتقد في جرأة، وإنما اتخذت أسلوباً جديداً: هو أن تدخل إلى البحث في رقة وأن تتكلف من كلمات المدح والإنصاف صفحات حتى تكسب ثقة القارئ، ثم لا تلبث أن توجه إليه شكوكاً قليلة، وتعود مرة أخرى إلى الإنصاف والمجاملة، إلى أن تصل في النهاية إلى شيء يثير الصدر، ويفسد الحقيقة الأصلية، دون إزعاج أو إثارة عواطف.
فلننتبه إلى هذا الاتجاه الجديد ولنجعل رائدنا أساساً: أن تكون حقائق الإسلام الأساسية هي المصادر والدعامات التي لا تتخلف ولا نقبل أن نفرط فيها.
هناك محاولات الآن للقول بالتطوير: تطوير الإسلام أو تطوير الشريعة الإسلامية، والتطور لا يدخل إلا على الأشياء التي أنشأها الإنسان لأنها تعجز عن أن تستمر مع تغير الأزمان ولذلك فقد تعرضت عقائد ومذاهب وإيديولوجيات كثيرة للتطور إما بالنسبة للدين الحق، الذي صاغه خالق الإنسان وفق علمه الواسع بطبيعة الإنسان، وتحولات المجتمعات فإنه لا يخضع للتطور. وهناك أسسه القائمة الثابتة التي لا سبيل إلى الاجتهاد حولها، ولكن الإسلام مع ذلك يعتبر الاجتهاد قاعدة أصلية في المتغيرات وفي الفروع، أما محاولة البعض في تبرير الحضارة والمجتمعات الغربية القائمة فإن ذلك مما لا يقره الإسلام، كذلك محاولة استخدام الإسلام لإقرار مذهب معين من الديمقراطية أو الاشتراكية، فإنه مما يتعارض مع ذاتية الإسلام التي تتمثل في منهج متكامل له أبعاده واستقلاليته.
وما أكثر محاولات التشكيك والاحتواء! وما أكثر اختلاف المناهج وتفسيرات القيم! وكل منهج مرتبط بثقافته وعقائده وتحدياته التاريخية. ومن المستحيل أن ينقل مجال المعركة أو التحدي من أمة إلى أخرى أو من ثقافة إلى أخرى.(33/9)
والفكر الإسلامي لا يعرف العنصرية ولا يعرف التفرقة بين الدين والمجتمع، ولا يعرف عزلة الإنسان عن المجتمع باسم العبادة. وهو يربط الفرد بالمجتمع والمجتمع بالفرد، ويؤمن بالله، والتدين جزء من الطبيعة البشرية، وأن الإنسان جامع بين العقل والروح، وأنه ليس روحاً خالصة، ولا عقلاً خالصاً وأن له رغباته المادية وتطلعاته الروحية في إطار ضوابط قصد بها حماية الإنسان نفسه من الانهيار.
والحرية في مفهوم الإسلام هي التحرر من قيد الوثنية والجهل والخرافة والتقليد ومن أهم ما دعا إليه الإسلام المطابقة بين الكلمة والسلوك.
وينكر الإسلام عبادة الجسد وتقديس الشهوة، وتأليه الأبطال والعظماء، وقد فرق الإسلام بين المعارف الجوهرية والمعارف غير الجوهرية.
وأن أبرز مفاهيم الإسلام الذي انتصر بها هو أن قيمة وحدة متكاملة لا يصح تجزئتها أو تفتيتها، أو الأخذ بنوع منها دون الآخر أو إعلاء عنصر منها على مختلف العناصر فكل يؤثر في الآخر ويتأثر به، ولقد عمل الإسلام على تحرير أتباعه من التأثير الأجنبي بكل أنواعه ودعا إلى اليقظة إزاء الحرب النفسية والشبهات والمحاولات التي تهدف إلى تغيير المعالم الأصلية. وقد ربط الإسلام بين العقيدة والتطبيق، وقرن العلم بالعمل، ورفض مبدأ العلم لذاته، وقرر أن العلم إنما يطلب من أجل العمل به والاستفادة منع في تحسين الحياة الإنسانية وتقدمها.
ومن أبرز مفاهيم الإسلام: الوضوح الصادق حيث لا تأويل ولا كناية ولا غمغمة، وحيث لا يحمل اللفظ أكثر مما يطيق، أو يؤدي أكثر من معنى وحيث الحق والباطل باطل.
وقد ألغى الإسلام الفكرة التي تقول بأن هناك صراعاً بين الروح والجسم، وأعلن أن الروح والجسم متكاملان، ودعا إلى الاهتمام بهما معاً.(33/10)
وأن من أبرز مفاهيم الإسلام التي تميزه تميزاً واضحاً في مجال الفكر البشري كله أن الإسلام فصل بين الله والعالم، وفصل بين الألوهية والنبوة، وفصل بين الألوهية والبشرية، وألغى الوساطة بين الإنسان وربه، وأمكر سقوط التكاليف الشرعية عن أي إنسان مهما بلغ قدره من الإيمان. وبذلك أسقط الإسلام نظريات وحدة الوجود والحلول والاتحاد، وحرر الفكر من الأساطير.
وقد أسقط الإسلام نظريتين باطلتين: الأولى أن الناس كانوا وثنيين في الأصل ثم عرفوا التوحيد، وأن الدين ينشر بالظروف المادية والعوامل الاقتصادية.
والإسلام في حقيقته منهج وليس نظرية: منهج متكامل يستهدف تحقيق إقامة المجتمع الإنساني الرباني المصدر وما يزال ارتباط الإسلام بمنابعه الأصلية من القرآن والسنة. ونصه الموثق هو العامل الأول والأكبر الذي يحول دون سقوطه في هوة الانحراف، والذي يعطيه القدرة على استعادة تشكيل نفسه بعد الأزمات وفي مواجهة التحديات. وأن وضع الإسلام تحت ضوء أي منهج من المناهج المستمدة من الفكر المادي تعجز عن استيعاب حقيقته وأبعاده. وأن علم الأديان المقارن لا يستطيع أن يعالج الإسلام كبقية الأديان دون اعتبار أن هذا الدين هو دين الله، وأنه ليس من صنع البشر، وأنه فوق أهواء المذاهب والنظريات والفلسفات والمناهج البشرية، وهو يستمد أصالته من مصدره الرباني أولاً، ويتجاوب في نفس الوقت مع الفطرة والعقل والعلم، ولا يتعارض مع الطبيعة البشرية أو يضادها.
في ضوء هذا الإطار يستطيع الشباب المسلم أن يجد الضوء الكاشف لمعرفة الفكر الصحيح من الفكر الزائف، فيما يطرح الآن في السوق من كتابات وآراء ونظريات.
ويبقى أن يعرف شبابنا المسلم: ما هو الدور الذي أداه أجداده وتاريخه للبشرية في مجال الحضارة الإنسانية والتمدن البشري وموعدنا به في بحث فقادم.(33/11)
سلسلة على طريق الأصالة
40
الحضارة الغربية والمجتمع المسلم
استطاعت الحضارة الغربية السيطرة على العامل وفرض طابعها على الأمم على نحو لم يتحقق لأي حضارة سابقة، ولكن هل استطاعت الحضارة فعلا أن تكسب القبول لدى كل الأمم، أم إنها تواجه معارضة شديدة وخاصة في محيط العالم الإسلامي الذي يملك مفهومًا خاصًا مستقلا عن مفهوم الغرب والذي له من القدرة ما يمكنه من المقاومة دون الانصهار في الحضارة الأممية.
لقد استطاعت الحضارة المعاصرة أن تمتلك القدرة من خلال المنهج التجريبي الذي وضعه الإسلام، كما أنها استطاعت أن تمتلك الطاقة لسيطرتها على موارد العالم الثالث الذي سقط تحت نفوذها، ولكنها منذ اليوم الأول كانت عاجزة عن تقديم حضارة تحقق الأمن والعدل للبشرية، بل على العكس من ذلك عملت على تقسيم العالم إلى عالم بالغ الثراء وعالم بالغ الفقر، وحاولت أن تمتلك كل ثروات البشرية عن طريق النهب والسلب ثم عملت على محاصرة الدول الفقيرة وحرمانها من مقدراتها.
وهي بذلك وضعت نفسها موضع الحضارات التي انهارت من قبل: حضارة اليونان والرومان والفرس والفراعنة وكلها حضارات الغايات ولكن الإسلام يجعل القوة من أجل الحق.
ثانيًا: تهبط بالحقيقة إلى مستوى الفكرة المجردة فكل شيء لا يمكن التعبير عنه بلغة الرياضيات والحساب غير موجود أصلا في نظر الحضارة الغربية.
ثالثًا: إنها فردية في ذاتها فالفرد في تلك الحضارة يعبد نفسه ويتصرف لتحقيق ذاته حتى الجماعات أيضًا تتصرف لتحقيق ذاتها.(34/1)
وبسبب التحلل الخلقي فإن الملايين من أبناء الغرب ينتظرون الموت خلال سنوات (مرض الإيدز) لعنة السماء تؤكد جوهر الأصل للأديان السماوية، وإن اللواط لا يمكن أن يكون تقدمًا وإن الحرية الجنسية ليست تحضرًا، أو تمدينًا، وإن إدمان الخمور والمخدرات ليس رقيًا أو نهضة بشرية، والأغلبية الساحقة هم من المصابين بالشذوذ الجنسي + حقن تعاطي المخدرات + الاتصال الجنسي غير الشرعي بين الرجل والمرأة + نقل الدم الملوث.
وقد حققت الولايات المتحدة الرقم القياسي بمرض الأطفال الذين أخذوا العدوى من أمهم أثناء الحمل (7 آلاف قضوا نحبهم بسبب المرض + 2 مليون يحملون الفيروس).
وقد كشف عن حضارة الغرب علماء من الغرب:
أقول الغرب: سبنجلر.
الإنسان ذلك المجهول: الكيس كريل.
إنسانية الإنسان: رينيه روبو.
ثورة الأمل: اريك فروم.
أما في الفكر الإسلامي فهناك كتابات حسن البنا وعبد الحميد بن باديس وإقبال ومالك بن بنى والموردي الندوي وسيد قطب.
وفي تقديرهم إن حضارة أوربا نسيج من القوة والطغيان والإثرة وحب الذات والأنانية وقد قامت على أساس فلسفتها الاستعمارية والتفرقة العنصرية إنها حضارة اللذة والمتعة وعبادة المرأة والمال.
إن حضارة أوربا هي حضارة الربا والقمار والميكافيلية الشريرة والإباحية والعلمانية والمادية واستعباد المرأة باسم تحريرها حضارة لا مكان لها في قاموس المثل والعلم والشريعة، وهي مهما بلغت من قوة مادية فإنها انهارت روحيًا وخلقيًا وإنسانيًا إلى الدرك الأسفل، تحرم على الرجل أن يتزوج إلا بواحدة وتتيح له أن يعيش مع ألف عشيقة وبائعة لجسدها وليس ذلك إثم في نظرها وإنما الإثم ما شرعه الإسلام المرجل من حق الزواج بأربع (محمد خفاجي).
ويقول البروفسور سيمون جارجي (جامعة جنيف):(34/2)
"إن الغرب قد فقد المرتكزات الروحية والثقافية الدينية التي كان يرتكز عليها فلم يعد هناك شيء يركن إليه فالديانة النصرانية فقدت مقوماته والتوجه إلى الروحانيات انتهى واضمحل في النفوس فأصبح في الغرب نوع من الفراغ ونوع من الضياع الشامل تكتوي به الأجيال الشابة.
إني أعتقد أن حضارتنا الغربية هي الآن في حالة احتضار، وأننا نعيش نوعًا من موجة التحول التي لا تعلم ماذا سينتج عنها، نحن نشاهد حضارة تنازع، وتوشك أن تموت ولابد أن تنشأ عنها حضارة جديدة، نحن نعيش في نفق مظلم ولا نزال ننتظر النور الذي سيهدينا".
تلك هي حضارة الغرب ارتبطت بالاستعمار وقامت في أحضانه ثم حاولت أن تفوض نفسها على العوالم كلها ومنها عالم الإسلام في فترة ضعف وتخلف واجه فيها تحديًا خطيرًا قوامه التبعية بالنفوذ العسكري والسياسي.
والواقع أن الحضارة الغربية لم تستطع أن تحقق مجتمعًا صالحًا في الغرب وعندما تسربت إلى عالم الإسلام كانت أشبه بعاصفة تعمل على تحطيم كل قوى الثبات واليقين والإيمان بالله تبارك وتعالى.
وكان لابد لليقظة الإسلامية من موقف فكري على الأقل كمقدمة لموقف واقعي وكان هذا الموقف هو كشف زيف هذه الحضارة وإعلان عجزها عن العطاء، وبيان أنها لم تزد أن كانت واحدة من الحضارات الوثنية المادية التي سبقت في فارس والروم واليونان ومصر القديمة. وكان لابد من الحملة عليها على أنها لا تصلح بديلا عن الحضارة الإسلامية التي تعرضت للعطب بعد ألف سنة من العطاء المتصل.(34/3)
إن هناك أساسًا اختلاف الوجهة فالحضارة الغربية تستهدف السيطرة على العالم وإخضاعه لسلطانها مع اتجاه استهلاكي يستهدف المنافسة والربح ويقصر وجهته نحو الطبقة الثرية فلا يقدم الضرورات للناس جميعًا ومن هنا فإن هذه التكنولوجيا قد تطورت في مجالات محدودة تطورًا هائلا بينما تراجعت في مجالات أخرى تراجعًا شديدًا وكان هذا الاتجاه علامة على تصادمها مع الطبيعة والبيئة والحاجات الفطرية للإنسان (وهو النمط الغربي المفروض على شعوب العالم). وبهذا فهي ليست حضارة الإنسان كله ولكنها حضارة الأغنياء والرأسمالية.
ولما كان هذا التوجه متعارضًا مع طبيعة الأمم والشعوب بصفة عامة فقد وقع الغرب في مشاكل طاحنة كشفت عن إفلاسه وفشله في تحقيق أي قدر من الاستقرار للوطن.
ومن هنا كان ذلك الاضطراب الذي يقاسيه العالم الإسلامي نتيجة الخضوع لهذا الاتجاه، وفشل كل الأنماط التي استوردها في سبيل تنميته بما فيها تلك التي تشكل في نظرهم مفتاح التقدم.
نقطة الافتراق هي العلاقة مع الله تارك وتعالى وهي نفسها نقطة الالتقاء مع كل عوالم الفطرة والعلم والأمن وطمأنينة النفس وسلامة المجتمعات وحمايتها من الوقوع تحت طائلة قانون الانهيار والسقوط.
فالحقيقة الغائبة عن الحضارة الغربية تتركز في أن الإنسان لن يجد منطلقه الحقيقي إلا إذا آمن وأيقن بأن الله تبارك وتعالى هو المرجع والمصدر وهو منطلق كل حركة وأنه إليه ترجع الأمور.
أما في الغرب فإن هذه الحقيقة تبدو باهتة بل هم يقفون منها موقف الاستهانة، ويتكئون على الفكر المادي ويقيمون منه دينًا ويؤكدون في تحاليلهم أنهم يمتلكون الحقيقة في حين أنهم يعرفون إن كل كائن حي يحمل في داخله بذور فنائه. ومن هنا فإنه لا يمكن للكائن البشري الزائل أن ينتج حقائق أزلية.
تلك هي الصخرة الكبرى التي ترتطم بها هذه الحاضرة المادية الوثنية: غياب البعد الإلهي ثم البعد الأخلاقي.(34/4)
لقد صنع الإنسان أوثان هذا العصر: وهي العلم والتكنولوجيا والفلسفة والفن ثم عبدها، إن الغرب يعتمد في بناء الحضارة على التناقض والنفي وعلى التطور المطلق، وعلى النسبية وكلها قيم سلبية بينما يعتمد الإسلام في بناء حضارته على الإيجاب (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) فالله تبارك وتعالى هو الأزل والفرد المطلق والكمال وهي الصفات الإيجابية الحقة.
فالإسلام وحده هو الذي ينطلق من مبدأ الإيجاب والإثبات ويؤكد أن تلك المبادئ كلها مجتمعة في الله تبارك وتعالى.
ولأن الإسلام كامل فقد صهر كل الأديان المنزلة:
(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون) صدق الله العليم.
للإسلام موقف حاسم مع حضارة الغرب:
ومن هنا كان لابد للإسلام من موقف من حضارة الغرب:
موقف حاسم وواضح، يقوم على الفطرة وعلى تكامل جانبي الإنسان الروحي والمادي دون إعلاء لأحدهما أو حجب للآخر، وفي ظل هذا الانحراف الخطير الذي وصل إليه الغرب بعد أربعة قرون من التحول نحو المادية نجد الإسلام يشرق بوجهه من جديد ليقدم منهجه الأصيل الجامع في مواجهة كل الأزمات والأخطاء والانحرافات ومن أجل أن يعيد البشرية مرة أخرى إلى منهج الله.
وأبرز ما يطرحه هو محاولة فهم الحياة والكون وتدبيرها خارج نطاق التوجيه الرباني هو عملية صعبة، فاشلة، منهارة لأنها تتجاهل كثيرًا من الحقائق التي قدمها الحق تبارك وتعالى إلى البشرية عن طريق الدين الحق، وفي مقدمتها الإيمان بالغيب وذلك التفسير الكريم لمسألة ما وراء المادة (الميتافيزيقا) حتى يريح نفسه من الإغراق في تفسير الأساطير التي قدمتها الفلسفات القديمة، وحتى يوجه جهده إلى العمران والسعي في الأرض، وهي أمور يعجز العقل وحده عن الوصول إلى كنهها، وهنا تبدو حكمة الدين في حماية حركة الحياة والإنسان بالحدود والضوابط عن الانهيار والغربة والغشيان والتأزم الذي يقاسيه الغرب اليوم.(34/5)
فالإسلام اليوم وفي مواجهة عشرات من التجاوزات التي أحدثها انحراف الغرب عن الفطرة، قادر على تقديم الوجهة الصحيحة والأصيلة للبشرية فالإسلام اليوم هو ملاذ البشرية بعد أن أخفقت جميع الفلسفات المادية في جميع القطاعات الاجتماعية والسياسية في تهيئة الجو الصالح للحياة الإنسانية بما يؤكد أن الإسلام هو الملاذ الوحيد للبشرية في كل زمان ومكان وفي كل عصر – على حد تعبير جارودي – ولا أدل على ذلك من هذه المجتمعات المادية التي جربت كل أنواع التقدم العلمي والحضاري وعاشت قمة التجارب العلمية والعملية حيث لا تجد اليوم ما تحتاج إليه من أمن نفسي وشعور بالسلام، إن الإسلام أنقذ العالم من الانحطاط العام والفوضى وأن القرآن الكريم أهاد إلى ملايين البشر وفي بعدهم الإنساني روحًا جماعية جديدة.
وتجابه العالم اليوم قوتان عظيمتان ترميان إلى اقتسام العالم، وهما تعلنان عن عقيدتين هما في الظاهر مختلفتان لكنهما في الحقيقة تعتمدان الأنموذج الكياني نفسه والنمط المترف وتسيران في طريق مسدود وتؤديان إلى الإفلاس البشري.
وفي غياب الغاية الإلهية والإنسانية يمكن للإسلام أن يقدم إلى العالم ما يتطلبه وهو معنى الحياة، فالإسلام دين التوحيد ففي حين أن عالمنا: عالم المنافسة والنمو الكمي والعنف تبدو فيه الأحداث حصيلة القوى العمياء المتصارعة يعلمنا القرآن النظر إلى الكون والبشر على أنهما كل واحد ويعلمنا أن الله يرى في كل شيء وفي كل حدث آية من آياته رمزًا للحقيقة الأسمى، وهي حقيقة النظام الواحد للطبيعة والمجتمع ولأنفسنا فكل شيء في العالم خاضع لإرادة الله تبارك وتعالى، وفي نفس الوقت فقد كرم الله تبارك وتعالى الإنسان بأن جعله مسئولا لا مسئولية كاملة عن مصيره إذ في مقدوره أن يعصي شريعة الله وأن يستسلم لها.(34/6)
ويعني هذا كله: أن المستقبل للإسلام أما إفلاس الحضارة الغربية (حضارة الانتحار) التي تقود العالم إلى الهاوية: تلك التي تقوم على مفهوم التقدم السريع حتى ولو كان على حساب العلاقات الإنسانية (بين الإنسان وأخيه الإنسان والعلاقة بين الإنسان وربه).
إن مفهوم الغرب للعلم يقتصر على وضع القوانين للظواهر ولكن لا يسأل عن معناها وعن علاقتها بالخالق وهي حضارة تعاني من أزمة المعنى وتحتضر ليس بسبب غياب الوسائل ولكن بسبب غياب الغايات حتى أنه أصبحت كإنسان له جسم عملاق ورأس قزم، إن البعد الإسلامي هو إعطاء معنى للحياة وقد أتى الإسلام بمفهوم الأمة المتسامية (كنت خير أمة أخرجت للناس).
لقد قم الإسلام مفهومًا يجمع بين الدين والدنيا وهذا هو سر تفوق الإسلام.
إن الأمة الإسلامية لم تقم على وحدة الدم – كالمجتمعات القبلية – أو وحدة الأرض كالمجتمعات الزراعية أو وحدة السوق كالمدن الرومانية، وإنما قامت على وحدة العقيدة والمستقبل.
فالإسلام لا يفصل الدين عن الاقتصاد والسياسة فالملكية في الإسلام ليست محدودة كما في القانون الروماني وليست رأسمالية من حيث حق الاستعمال وإساءة الاستعمال؛ ذلك أن الله هو المالك الأوحد، وإدارة أموال الأرض إنما هي وظيفة اجتماعية واستعمال الملكية مقيد دائمًا بأهداف أسمى من الفرد ومصلحته الخاصة.
والإسلام ينفي ما يسمى بنظرية الحق الإلهي التي تجعل من الأمير وكيلا عن الله في الأرض، كما ينفي الإسلام الديمقراطية القائمة على التعويض والتنازل عن السلطة إلى منتخب أو حزب.(34/7)
من هنا ولهذا كله بات واضحًا أنه (أولا) لا يمكن أن تنصهر الأمة الإسلامية في الحضارة الغربية مهما اشتدت الضغوط السياسية أو الاقتصاد عليها ذلك لأنه لا يوجد أساسًا عناصر مشتركة تمكن من الانصهار ولكن هناك "ميزة" الإسلام الخالدة وهي القدرة على الانتفاع بكل تراث البشرية القديم والجديد والاستفادة منه باقتباس الصالح منه، واقتباس التنظيمات في الأساس دون النظم وإن كل ما يأخذه المسلمون من الحضارات وهو بمثابة "مواد خام" يشكلها المسلمون في دائرة فكرهم ومجتمعهم، مع الاعتراف الواضح الصريح بأن للمسلمين حضارتهم المستمدة من عقيدتهم وفكرهم ومنهجهم وتركيبهم الاجتماعي الخالص.
ومن هنا فإن مفهوم الإسلام للحضارة يرفض كل محاولات الاحتواء سواء التاريخي المتوهم أو الواقعي للحضارة ونهايتها أو أن الإسلام لم يكن إلا مرحلة، ذلك بأن حضارة الإسلام منذ بزغ نوره وهي حضارة متميزة قدمت للبشرية مفهومًا جديدًا مخالفًا لكل ما سبقها من حضارات وإن محاولة الغرب إنكار الدور الأصيل والرائد الذي قام به الإسلام في بناء الحضارة وتقديم المنهج العلمي التجريبي ورسم الإخاء البشري (كلكم لآدم وآدم من تراب) بعيدًا الاستعلاء الجنسي أو العصبة العرقية. هذه المحاولة لا قيمة لها لأن حقائق التاريخ تؤكدها في كل لحظة.
(2) كذلك فإن الإسلام يرفض تقسيم الغرب للعصور التاريخية المعاصرة لتاريخ الإسلام فالعصور الوسطى مثلا هي عصور الظلام في رأيهم ما دامت أوربا كانت فيها في الظلام متجاهلين أضواء الحضارة الإسلامية على العالم من حدود الصين إلى الأندلس خلال ألف عام كاملة، كذلك فالإسلام يرفض مقولة إن الفكر الغربي هو الفكر العالمي الذي كون العقل الحديث فإن الفكر المادي الوثني قد تصدع وانكشف فساد وجهه بعد أن سقط في متاهات، ووقع في تجاوزات مصدرها عدم الإقرار بمبدأ (ربانية الوجهة) والبعد الإلهي والبعد الأخلاقي للأمم والحضارات.(34/8)
كذلك فقد رفض الإسلام تقسيم الغرب لشعوب العالم إلى فئات وعروق ودماء بعضها نقية زرقاء وبعضها ملوثة سوداء، أو أجناس عليا وأجناس دنيا (وفي مقدمة ذلك مسألة الزنوج وقضية النازية والفاشية) فقد أثبت البحث العلمي فساد هذه للنظريات التي وضعها مستشرقون مغرضون يهدفون إلى تبرير الاستعمار والسيطرة الأجنبية.
كذلك فإنه ليس صحيحًا أن الفكر الإسلامي لم يكن إلا أداة نقل وترجمة للفكر الإغريقي، فالرياضيات الإغريقية كانت تقوم على مفهوم النهائي والرياضيات العربية تقوم على مفهوم غير النهائي. والمنطق الإغريقي كان نظريًا والعلم الإسلامي كان تجريبيًا إلى حد كبير، والهندسة المعمارية الإغريقية كانت مبنية على الخط المستقيم أما المسجد فكان خلافًا للمعبد الإغريقي مجموعة متناغمة من المنحنيات بأقواسه وقبابه.
وليس صحيحًا أن العلم الإسلامي كان مجرد تاريخ انتهى، قبل أن يبدأ تاريخ علم الغرب فالعلم الإسلامي لم ينته لأنه لا يفصل العلم عن الحكمة، كما أن نهضة الغرب لم تبدأ من إيطاليا بل بدأت من أسبانيا مع إشعاعات علوم العرب المسلمين وثقافتهم.
كذلك فقد أكدت الأبحاث العلمية الجادة إن الثقافة الغربية ليست عالمية كما تقدم نفسها إلى الناس، وإنما تظل مرتبطة بالمجتمع الذي ظهرت فيه ويظل الغرب يضع مبادئه لنفسه ويفرضها قسرًا على الشعوب الأخرى وقد أدرك بعض مثقفي الغرب أن الغرب محصور في إطار ضيق رغم ادعائه أنه متسع الأفق وأنه على النزعة. وكشف هذا عدد من المثقفين العرب الذين أتيح لهم تعمق الأمر، فانتهوا إلى أن الثقافة الغربية ما زالت وستظل أسيرة عوامل محلية مهما ادعت عكس ذلك وأنها تظل موجهة إلى تحقيق هدف الغرب في السيطرة على العالم وبالتالي يجب الانسياق إليها مثقفوا الغرب.(34/9)
كلك فقد سقطت خدعة طه حسين وحسين فوزي وفؤاد زكريا وزكي نجيب محمود بأن استعمال أدوات الحضارة ونواتج الحضارة هو دليل ومبرر لقبول فكر هذه الحضارة، وتلك محاولة ساذجة لا يقبلها أحد فهل فعل الغربيون ذلك حين أخذوا علوم الإسلامية التجريبية هل أخذوا منهج الإسلام في الفكر، إن كل الوثائق تؤكد أن وصية الكنيسة كانت مؤكدة لكل من ذهبوا إلى جامعات الأندلس (قرطبة أو بلنسية أو غيرها) أن لا يأخذوا فكر المسلمين.
فكيف يمكن أن يدعوننا هؤلاء إلى ذلك وهم يعلمون أن هناك فارقًا واسعًا وعميقًا بين استعمال أدوات الحضارة المادية وبين قبول فكرها، هذه أدوات حضارة ونواتج نحن نقبلها لنضع في مداخلها فكرنا ومفاهيمنا ومن المعروف أن استخدام نواتج الحضارة المادية لا تفرض فكرها لأن المادة التي ستقدم من خلال هذه الأجهزة يجب أن تكون إسلامية أساسًا.
وقد جاءت هذه المؤامرة بعد مؤامرة أخرى سقطت تمامًا هي محاولة الادعاء بأننا لا نستطيع أن نقاوم الغرب إلا بعد أن نمتلك علومه، ولقد كان لهذه المقولة أثرها الخطير في ذلك التراجع الخطير الذي وقع فيه المسلمون منذ نكبة 1948 وحتى سقوط القدس 1967 وقيام ما سمي بالهزيمة الكبرى التي وصفت بأنها (النكسة).
وقد انكشف مؤامرة الغرب بادعاء أمثال طه حسين وغيره بأن محاربة الغرب تكون بنفس سلاحه، والواقع أن الإقتداء بثقافة الغرب لم يكن إلا محاولة لاحتواء مثقفي المسلمين تحت لواء الاحتواء المسارع والإغراء الواقع من حضارة تمتلك نفوذًا سياسيًا وعلميًا يضع أتباعها على مقاليد الأمور.
وكان أن تكشف المسلمين بعد حادث النكسة الخطير أنه لا سبيل للمسلمين بعد أن جربوا كلا المذهبين الليبرالي والماركسي، وما أوصلهما ذلك إلى هذا الاحتواء، لم يعد إلا طريق المسلمين الأصيل ومنهجهم الصحيح القادر وحده على إنقاذهم ونصرهم وإعطائهم القوة لامتلاك إرادتهم وبناء مجتمعهم واستئناف بث حضارتهم الربانية.(34/10)
لقد تبين اليوم بكل دليل أن الحضارة الغربية تمر بأزمة عميقة، وأن حصيلة الكشوف العلمية الهائلة معناها إن الإنسان قد وجد العالم وفقد نفسه وأن مفهوم التقدم الغربي (المفهوم المادي المفرغ من تكامله الروحي) لا يمكن أن يكون معيارًا للتقدم والتأخر.
كما تبين أن الهزيمة النفسية التي حملت كثيرًا من مثقفينا على الدعوة إلى متابعة الغرب متابعة كاملة تبتغ من رؤيا خاطئة تتمثل في دوام السيادة الحضارية للغرب مع أن التاريخ شاهد على أن هذا الاستمرار مناقض لقانون من أهم قوانينه وهو قانون (مداولة الأيام بين الناس).
ومن هنا فنحن نقدم للبشرية منظومة الإسلام الباهرة:
هذا النسف من الحضارة الإسلامية الذي أعاد للبشرية التكامل بين الروح والمادة والتقدم من خلال الإيمان بالله تبارك وتعالى والمسئولية الفردية دون التصادم مع السنن والقوانين بل تقبل بالتوازن والتكامل، في إطار أقرار المسئولية الأخلاقية في المعاملات (الإيثار – العدل – الرحمة – الغيرية) وفي نطاق الموازنة بين الحاجات المادية والمطامح الروحية بما يحقق وظيفة الاستخلاف في الأرض.
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(34/11)
بسم الله الرحمن الرحيم
الرسالة الأخيرة لأنور الجندي من يوسف القرضاوي
أرسل إليه هذه الرسالة وهو في مرضه الأخير :
نص الرسالة :
أخي الكبير الأستاذ أنور الجندي حفظه الله ورعاه
أحمد إليك الله جل جلاله ، وأصلي وأسلم على رسوله الكريم ، وأحييك بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة طيبة فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته ، وأرجو الله تعالى أن تكون بخير في دينك ودنياك . ( أما بعد )
فأنتهز هذه الفرصة لأهنئكم بعيد الفطر المبارك سائلا الله سبحانه أن يهله عليكم وعلينا وعلى أمتنا الكبرى بالأمن والإيمان ، والسلامة والإسلام والتوفيق لما يحب ويرضى وأن يكشف الغمة عن هذه الأمة التي تكالب عليها الأعداء من كل جانب وتداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها من الصهيونية وحلفائها من الصليبيين والوثنيين والشيوعيين فلا نملك إلا أن ندعو الله ربنا أن يفتح لهذه الأمة فتحا مبينا ويهديها صراطا مستقيما وينصرها نصرا عزيزا .
أخي الكبير : لا أريد أن أزيدك هما على همك وأنت في فراشك ولكني أعتذر إليك لتقصيرنا معك وأنت رجل لك حق على الأمة كلها وعلى علمائها ودعاتها خاصة بما بذلت لها من فكرك وقلمك وجهدك طوال حياة حافلة بالعطاء الثري لتنوير العقول وإحياء القلوب وإيقاظ الهمم ، وكنت كالفرسان الأصلاء تغشى الوغى وتعف عند المغنم ، تعطي أبدا ولا تأخذ وتضحي ولا تستفيد بمعزل عن المكاسب المادية ، وبعيدا عن الأضواء بل حرصت على أن تبقى في الظل مترهبا في صومعتك عاكفا على مراجعك ، مخلصا في وجهتك ، مكبا على عملك ، لتخرج للأمة بين الحين والحين ما ينفع الناس ويمكث في الأرض .
وأحب أن أطمئنك يا أخي أن هذه الجهود التي قدمتها لن تضيع عند الله تعالى ، ولا عند أولي الألباب من هذه الأمة وذوي الفضل فيها ، كما قال الشاعر العربي :
وليس يعرف لي فضلي ولا أدبي
--------------- إلا امرؤ كان ذا فضل وذا أدب !(35/1)
وأود أن أبلغك تحيات الكثيرين هنا من حولي ممن يعرفون قدرك ويذكرون فضلك من إخوانك وأبنائك الأوفياء - وهم كثر والحمد لله - على قلة الوفاء في هذا الزمان .
لا أملك في ختام هذه الرسالة إلا أن أدعو الله تعالى أن يتم عليك نعمته وينزل في قلبك سكينته ، وينشر عليكم فضله ورحمته ، ويمتعكم بعافية الدين والدنيا .
وتحياتي الخاصة إلى ابنتكم العزيزة وإلى كل من تحب .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
20 رمضان 1422 هـ . أخوكم
يوسف القرضاوي
5 / 12 / 2001 م(35/2)
(9)
الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي
يواجه المسلمون اليوم مرحلة جديدة من مراحل الغزو الثقافي والتحدي:
والمعروف أن المسلمين مروا بمرحلتين هما: مرحلة الغزو العسكري (الاحتلال) ومرحلة المقاومة (الاستقلال)، ويمرون اليوم بمرحلة (التحرر).
أما المرحلة الأولى فهي المرحلة التي فُرضت عليهم فيها السيطرة الغربية بسطوة نفوذ الاحتلال، وفيها سيطر القانون الوضعي ومنهج التعليم الأجنبي ونظام الاقتصاد الغربي الربوي.
أما المرحلة الثانية فهي المرحلة التي جرت فيها محاولة الموائمة بين الفكر الغربي الوافد (وهو الفكر الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي الغربي) وبين الفكر الإسلامي.
أما المرحلة الثالثة التي نعيشها اليوم فهي مرحلة الترشيد والأصالة أو محاولة الوصول إلى التحرر الكامل من نفوذ الفكر الأجنبي وشبهاته وتحدياته، وابتعاث الفكر الإسلامي الأصيل باعتباره هو المصدر الحقيقي لنهضة العالم الإسلامي.
وبعد أن تبين بالتجربة الواقعية التاريخية: أن محاولة اقتباس الفكر الغربي (بشطريه) لم يحقق للمسلمين والعرب النتائج التي كانوا يرجونها من إقامة المجتمع القادر على مقاومة الغزو الأجنبي.
لقد انتهت مرحلة الغزو العسكري والسياسي وبدأت مرحلة الغزو الفكري والحضاري.
وانتقل العالم الإسلامي من الخضوع للاستعمار (البريطاني والفرنسي والهولندي) الغربي إلى مواجهة نوع آخر أشد تحدياً وخطراً هو: الغزو الصهيوني الذي اتخذ من فلسطين رأس جسر في قلب الأمة العربية في محاولة لإقامة كيان بديل ووارث للاستعمار. هذا هو التحدي السياسي والاجتماعي والحضاري، وقد حمل معه تحدياً فكرياً وثقافياً يتمثل في عشرات من المذاهب والنظريات والمفاهيم والدعوات التي تطرح أمام الفكر الإسلامي منهجاً مخالفاً بل معارضاً لمنهجه الأصيل.(36/1)
لقد كان المصلحون المسلمون في المرحلة الماضية يظنون أنه من الجائز الموائمة بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، وكان رفاعة الطهطاوي ومَن بعده إلى محمد عبده يظنون أن الفكر الغربي له مصادر إسلامية وأنه انتقل إلى أوربا فتشكل كرة أخرى وأن في استطاعة المسلمين استعادته وصياغته من جديد.
غير أن الفكر الغربي الذي كان يعتمد على بعض مصادر لها طابع الدين أو المثالية أو غيرها من المفاهيم، هذا الفكر قد اختفى وحل بديلاً عنه: فكر مادي خالص يستمد مصدره الأول من المناهج القائمة على الإيمان بالمحسوس وحده وإنكار ما سواه. وبذلك باعد الفكر الغربي بينه وبين الفكر الإسلامي القائم أساساً على وحدة المعرفة الجامعة بين العقل والقلب، والروح والمادة، والعلم والدين، والدنيا والآخرة.
ويرجع هذا التحول في الفكر الغربي إلى خضوعه للفكر الصهيوني التلمودي الذي سيطر عليه بعد الثورة الفرنسية ومن قبلها أيضاً، والذي مهد عن طريق الماسونية إلى قيام أيدلوجية تلمودية استطاعت أن تحتوي الفكر الغربي بشقيه وتسيطر عليه.
ومن هنا فقد اتسعت الشقة التي كان يظن بعض مصلحينا أنها يمكن أن تقيم جسراً أو قنطرة بين الفكر الغربي وبين الفكر الإسلامي.
ولقد كشفت التجارب خلال أكثر من مائة عام أو تزيد أن كل معطيات الفكر الغربي لم تحقق للمسلمين شيئاً في مجال القوة أو البناء أو المقاومة وأنها حرمتهم من أهم موارد الحضارة ومصادرها وهي العلوم التكنيكية وأبقتهم خاضعين للغرب في مجال استيراد حاجياتهم وتصدير خاماتهم، دون أن يكونوا قادرين على استيعاب ثرواتهم ونفطهم ومقدرات حياتهم التي تذخر بها منطقة العلم الإسلامي من دون العلم كله.(36/2)
وفي ظل التحديات التي واجهت المسلمين باحتضان الاستعمار للغزو الصهيوني كمرحلة أشد خطراً من الاحتلال نفسه؛ إذا أنها تمثل عملية استئصال كامل لأصحاب الأرض، وفرض نفوذ اقتصادي وفكري واجتماعي من شأنه أن يؤثر بالغ الأثر في كيان العالم الإسلامي والأمة العربية نفسها، فقد كان لابد للمسلمين والعرب أن يواجهوا الخطر عن طريق التماس منابع فكرهم وثقافتهم وعقيدتهم؛ فهي وحدها الضوء الكاشف والنور المبين الذي يهديهم إلى منطلق المقاومة والمواجهة والنهضة الحقة.
وهكذا تتميز هذه المرحلة الحاضرة بأنها مرحلة الترشيد والأصالة والتماس منابع الفكر الإسلامي الذي يستطيع أن يدفع المسلمين والعرب إلى القدرة الكاملة لمواجهة الخطر والتغلب عليه، ولا ريب أن تاريخ المسلمين حافل بمثل هذا الموقف، وقد كان المسلمون دائماً أقدر على مواجهة جائحات سبقت كالتتار والصليبيين والفرنجة عن طريق التماس منهجهم الصحيح المستمد من القرآن الكريم، والشريعة الإسلامية، والوحدة الجامعة، ذلك المنهج الذي قدمه لهم الإسلام وأقام عليه حضارتهم الباذجة ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعهم الواسع خلال أربعة عشر قرناً، ولقد كان المسلمون بمنهجهم هذا مقتدرين على المواجهة والنصر، فإذا ما تخلفوا عنه كان عدوهم أقدر على هزيمتهم والإدالة منهم.
ولا ريب أن أخطر ما يواجه العرب والمسلمين في هذه المرحلة هو: الغزو الثقافي، وحملة التشكيك وأثاره روح القنوط واليأس في القلوب والعقول.(36/3)
ولن يتسرب اليأس والقنوط في نفوس المسلمين والعرب إلا من مصدر واحد: هو أنهم يصطنعون المنهج الذي فرض عليهم في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام: هذا المنهج الذي ركز عليه الغزو الثقافي والتغريب سنوات وسنوات؛ لكي يحله في النفوس وفي المجتمع مكان المنهج الأصيل الذي أقام عليه المسلمون حياتهم كلها، ولعل هذا هو أخطر سلاح تواجه به الأمم، أن يكون عدوها وخصمها قادراً على أن يخرجها من دائرة فكرها، لتحكم في أمورها منهجاً مغايراً لا يتصل بمزاجها النفسي ولا بذاتيتها ولا بتكوينها الاجتماعي الذي انبنى عليه كيانها منذ أربعة عشر قرناً.
ذلك أن الاستعمار والقوى الخارجية الطامعة في مصادر الثروة في عالم الإسلام، كانت تعرف أن هذه الأمة القرآنية لا يمكن أن تؤتى إلا عن طريق تزييف مفاهيمها وتشكيكها في قيمها وإحلال منهج غريب عنها في مقايسات الأمور وتقدير المواقف وإصدار الأحكام، ولقد كان الغرب والاستعمار يعلمان مدى قدرة هذه الأمة استمداداً من قيمها، على مواجهة أعدائها وعلى الصمود في وجه الغزاة، وقد شكل لها فكرها الإسلامي أسلوباً حاسماً في هذا المحال: هو أسلوب الجهاد القادر على رد العدو، والمرابطة الدائمة، والإعداد بالقوة، واليقظة الكاملة، وقد كانت منطقة العالم الإسلامي ولا تزال وستظل مطمعاً للأمم، ولذلك فقد جهزها الفكر الإسلامي بالقدرة الدائمة على الصمود والأهبة: (ود الذين كفروا لو تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة – وخذوا حذركم).(36/4)
ومن هناك كان الاستعمار والغزو الأجنبي يرى من أجل إدامة سيطرته على هذه المنطقة الاستراتيجية الخطيرة، وذات الكنوز والثروات الضخمة، أن يحول هذه الأمة عن هذه القيم القادرة على المواجهة؛ حتى يخلق منها أمة مستسلمة ترضى بالهوان وتخضع للغاصب، وترى أنها داخلة في نطاق ما يسمونه الثقافة العالمية أو الوحدة العالمية أو الأممية أو غيرها من دعوات تريد أن تصهر المسلمين والعرب في أتونها وتضعهم في مجال احتوائها.
ونقطة الخطر هنا هي استسلام المسلمين والعرب لمنهج غير منهجهم المستمد من فكرهم وتراثهم وعقائدهم، ومنم هنا فإن أزمة المسلمين والعرب اليوم هي أزمة منهج، وأن أخطر التحديات التي تواجههم وفي مقدمتها الاستعمار والصهيونية هي التماس منهجهم الأصيل.
ولا ريب أن للمسلمين منهج ذاتي أصيل قائم بذاته مختلف تمام الاختلاف عن مناهج الشرق والغرب، ذلك هو المنهج الإنساني الطابع الرباني المصدر، الذي يقوم على الفطرة أساساً ويلتقي مع العقل والعلم، وأبرز مفاهيمه التوحيد والإيمان بالغيب والمسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي، والإيمان بالجزاء واليوم الآخر، وهذا المفهوم في مجموعه كل متكامل، فالإسلام يقوم في رسالته على أساس الترابط بين القيم، ولما كانت رسالته موجهة إلى الإنسان الذي استُخلف في الأرض، ولما كان هذا الإنسان جسم ونفس وعقل وقلب ومادة وروح، فإن المنهج هو جامع كذلك لا تنفصل فيه القيم ولا تنفصل عنده العوالم، فهو أيضاً يجمع بين عالم الغيب وعالم الشهادة.
هذا المنهج هو "السر الحقيقي" وراء المعجزة الكبرى التي أقامت الدولة الإسلامية من الصين إلى فرنسا في أقل من سبعين عاماً؛ لأنه التقى بالفطرة والنفس الإنسانية والعقل الإنساني دون تعارض أو اضطراب.(36/5)
ومن هنا، وعلى قدر خطر هذا المنهج وأثره في بناء الأمة الإسلامية كانت الحملة عليه وكانت المحاولة الضارية لإثارة الشبهات حوله ومحاولة تدميره وتفتيته وإحلال مفهوم آخر بديل له في نفوس المسلمين وعقولهم عن طريق الفلسفات والمناهج والأيدلوجيات الوافدة.
ومن هنا فقد أقامت القوى الاستعمارية مخططاً للغزو الفكري والثقافي وضعاً بهدف السيطرة على النفس الإسلامية والعقل الإسلامي كمقدمة لإخضاع العالم كله اجتماعياً وحضارياً وكأسلوب لاحتواء الأمة وإدخالها في بوتقة النفوذ الأممي بحيث لا تكون من بعد قادرة على الانبعاث من قيمها ومقوماتها الأساسية.
ولقد بدأ هذا المخطط من وقت مبكر عن طريق التبشير والاستشراق ومدارس الإرساليات وبعض الصحف والمناهج التعليمية والثقافية التي فرضها الاستعمار على العالم الإسلامي.
تضاعف الخطر بعد أن برزت الصهيونية كعنصر جديد له محاولاته الخاصة في تزييف التاريخ وتوهين النفس العربية من أجل إحكام السيطرة ومن ثم تضاعف المخطط وتوسعت أهدافه وبدأت محاولاته تلبس أثواباً جديدة وتبرز في قوالب ذات طابع علمي براق وتخفي من وراءها السم الزعاف بعد أن استطاعت مخططات الغزو الصهيونية السيطرة على الفكر الغربي نفسه وانتزاعه من مجال الدين والأخلاق والحملة عليهما على أساس المذهب المادي الوثني.
ومن هنا فقد برزت دعوات وعلوم جديدة تحمل طابع المنهج العلمي وهب تخفي من وراءها سموم التلمود وأهدافه في تدمير مقومات الأمم وابتلاعها.
من أبرز هذه الدعوات والمخططات والمذاهب:
أولاً: الدعوة إلى هدم الأديان عن طريق علم الأديان المقارن والقول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك.
وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، والحقيقة أن البشرية بدأت موحدة وأن آدم أبو البشر كان نبياً وكان موحِداً.(36/6)
ثانياً: الدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية والفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب دوركابم وليفي بريل.
وتحاول هذه المذاهب أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.
ثالثاً: الدعوة إلى التماس مفهوم واحد للتاريخ: هو التفسير المادي الذي طرحة إنجلز وماركس، وهو مفهوم ناقص؛ لأنه يتجاهل عوامل كثيرة أخرى لها أثرها في توجيه التاريخ.
رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية –زائفة- للجنس الأبيض على العالم والبشرية.
خامساً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف به عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كقانون لكل لغات العالم فإنه يعجز في إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية؛ لأنها إلى جانب أنها لغة أمة فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين وأنها تتصل بسبعمائة مليون من المسلمين (بالإضافة إلى أهلها العرب)، وهدف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة القرآن وتمزق الأمة والفكر جميعاً.
سادساً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام، وإعادة عرض الوثنيات والفلسفات والخرافات والأوهام.
وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة؛ فقد استطاع الإسلام في خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوءه الباهر الذي لا تستطيع هذه الظلمات أن تقهره.(36/7)
سابعاً: الدعوة إلى ما يسمى الأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة إلى اجتثاث الفكر عن أصوله والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم وخلق ثقافة "لقيطة" لا جذور لها، بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.
من الحق أن يقال أن اليقظة المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.
ثامناً: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون، ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوربيون المعاصرون (وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً).
والحقيقة أن هناك حضارتان لكل منهما طابعه المميز هما: حضارة التوحيد وحضارة الوثنية.
وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي اتسمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق، فكانت تضرب واحدة بعد أخرى وتسقط؛ لأنها تعارض سنن الله في الكون.(36/8)
تاسعاً: محاولة إلقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية، موقوتة بعصرها وبيئتها، وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931، 1937، 1952 وكلها إشارات إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجري المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي، ولقد كان من أعظم المعطيات التي حققتها الأمة العربية أنها اتخذت من التشريع الإسلامي مصدراً أساسياً للقانون، ونصت على ذلك في دساتيرها وميثاق الوحدة.
عاشراً: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي على أغلب أجزاء العالم الإسلامي، وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية، ولقد قامت في الأمة العربية محاولات علمية تؤيدها الجهات الرسمية إلى بحث إقامة مصرف إسلامي علمي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد.
حادي عشر: كان من أخطر محاولات النفوذ الاستعماري إيجاد تضارب بين العروبة والإسلام ومحاولة إقامة مفهوم العروبة على أساس النظريات الوافدة والقوميات الأوربية، ولقد تنبه المفكرون العرب والمسلمون إلى هذا التحدي الخطير وكشفوا عن الرابطة العميقة بين العروبة والإسلام، وأشاروا إلى أن الإسلام هو الذي شكل مفهوم العروبة الحق، وأن العرب قبل الإسلام كانوا يؤمنون بالقبلية وأن الإسلام هو الذي شكلهم كأمة ودفعهم إلى الآفاق وكتب لهم أعظم صفحات تاريخهم.
والعروبة ليست عنصرية؛ وإنما هي قيمة ذاتية في مواجهة الخطر الصهيوني، ولكنها مفتوحة بالثقافة والفكر والعقيدة على العالم الإسلامي كله وملتقية معه.(36/9)
ثاني عشر: تحريف الحقائق بالمبالغة أو الانتقاص كالإدعاء بأن المسلمين لا يتجاوزون الآن 500 مليون، بينما تقرر الإحصائيات المتواضعة أنهم يزيدون على سبعمائة مليون، وقد يصلون إلى ألف مليون، وكما نجد في كتب التاريخ من محاولات لتصوير البلاد العربية بصورة مصغرة أو مهينة أو إثارة الشبهات حول مقدراتها وثرواتها، أو الإدعاء بأنها منقسمة إلى مذاهب ونِحَل تتعارض أو تختلف أو تحول دون قيام وحدة فكر عامة، بينما الحقيقة غير ذلك؛ وأن الخلافات المذهبية الإسلامية هي خلافات في الفروع، أما القيم الأساسية فإنها واحدة بين جميع المسلمين.
ومن هنا فإن علينا أن ننظر في الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي.
في مجال اللغة العربية:
كذلك جرت المحاولات حول اللغة العربية وإثارة الشبهات حول مكانها ودورها الحقيقي في مجال الفكر الإسلامي وكانت المحاولة تعمل على مقارنة اللغة العربية باللغة اللاتينية، وتقول:(36/10)
إنه ما دامت اللاتينية قد ماتت ودخلت المتحف فلماذا لا تموت اللغة العربية وتتفرع عنها لغات إقليمية. والحق أن وجه المقارنة غير صحيح وغير صادق؛ فقد انتهت اللغة اللاتينية وتحولت لهجاتها إلى لغات، وليس كذلك ما يحدث بالنسبة للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعلها ما كتبت منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم، بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأي لغة من اللغات الحية، التي تتغير كل ثلاثة قرون، فامرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بعد أكثر من 1500 سنة، بينما شكسبير لا يفهمه الإنجليز وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة في اللغة العربية تجعلها لا تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة. ومن تميز اللغة العربية أيضاً أنها ليست لغة أمة كما يحدث للغات جميعاً؛ ولكنها إلى ذلك لغة فكر وثقافة وعقيدة لسبعمائة مليون مسلم، العرب بينهم مائة مليون على الأكثر، ومن هنا تنكشف فوارق كثيرة بين اللغة العربية لغة القرآن وبين اللغات القديمة كاللاتينية واللغات العامة.
وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها، وقد وصفها أرنست رينان بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال، غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت منذ أول أمرها تامة مستحكمة.(36/11)
ولقد مضى الإسلام يشق طريقه ومضت معه اللغة العربية، وكان حقاً عليها أن تصل إلى كل مكان وصل إليه، ولكن الاستعمار استطاع منذ أكثر من قرنين أن يوقف نموها ويحول بينهما وبين الحركة، وخاصة في ماليزيا وإندونيسيا وشرق أفريقيا وغربها، وإعلاء شأن اللغات الأجنبية واللغات الإقليمية، ولكنها سوف تستطيع بعد أن تتحرر الأمم من نفوذه الثقافي أن تعاود توسعها فتصل إلى كل مكان فيه مسلم، ليس بوصفها لغة فكر وعبادة فحسب، ولكن على أنها لغة حديث وكتابة وتعامل بإذن الله.
ومن خلال هذا الفهم الصحيح لوضعية اللغة العربية بين اللغات يمكننا أن نواجه كل ما يقال عن تطوير اللغة أو تمصير اللغة أو إعلاء شأن العاميات والإدعاء بأنها لغة خاصة ملك لأصحابها ونفهم أنها كلها محاولات تستهدف:
أولاً: عزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.
ثانياً: عزل المسلمين عن العرب.
ثالثاً: عزل المسلمين والعرب عن مستوى البيان في القرآن الكريم.
ولا ريب أن اللغة العربية جديرة بأن تلتقي دائماً في مستوى بيان القرآن وأن يرتفع الناس إليها، ولا ريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الفكري، وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام، وهي حجب المسلمين عن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها؛ فاللغة أساساً هي فكر الأمة، والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.
في مجال النهضة:(36/12)
تُثار في مجال النهضة شبهات منها القول بأن الحضارة الغربية تؤخذ كلها (وقد بينا ذلك) ومنها القول بوحدة الثقافة، أو الثقافة العالمية، ذلك أن لكل أمة ثقافتها الخاصة التي تستمدها من مقومات وجودها وعقائدها، فالمعرفة عالمية والعلم عالمي والحضارة عالمية، ولكن الثقافة لا تكون عالمية بحال، وللعرب والمسلمين ثقافتهم المستمدة من القرآن واللغة العربية ولهم تلك الذاتية الخاصة المتميزة المستمدة من التوحيد، ولا ريب أننا في هذا الوقت بالذات إذا قبلنا بالثقافة العالمية فإن دورنا سيكون دور التابع الذليل الخاضع للكيان الضخم الذي تفرضه الثقافة العربية على العالم كله، وهو دور لا نقبله ولا نرضاه؛ لأنه سيقضي على مقوماتنا الخاصة والذاتية، ولقد تقبله أمم ليس لها تاريخ ولا حضارة، أما المسلمون الذين سيطروا بفكرهم وثقافتهم على العالم كله ألف سنة كاملة لا ينازعهم منازع، فإنه من الخزي لهم أن يستوعبوا أو يكونوا تابعين أو يوضعوا في مجال الاحتواء والانصهار.
لقد طرحت الصهيونية العالمية شعار الثقافة كهدف من أهدافها الرامية إلى تدمير ثقافات الأمم وتحطيمها من داخلها وفرض تلك التطورات الفلسفية التي دمرت الفكر الغربي واستوعبته، كالوجودية والفرويدية والماركسية والهيبية.
وهناك فيما يتصل بهذه الدعوة إلى تجزئة الفكر الإسلام ما يستهدف إثارة فكرة "السلام": ونبذ الحروب، والمقاومة السلبية وما إلى ذلك من أفكار نسبت إلى تولستوي وغاندي، وحاول بعض الدعاة ردها إلى الأديان.
والإسلام لا يعرف إلا منهجاً كاملاً فيه السلام وفيه الجهاد، وباب الجهاد والقتال من أكبر أبواب الشريعة الإسلامية وهو دعامة أساسية في إقامة السلام.(36/13)
ولقد حرص الاستعمار الغربي ولاسيما البريطاني في الهند أن يفرض مفاهيم تحملها جماعات مضللة تصور الإسلام بصورة السلام القائم على الجبن والاستسلام للغاصب وكذلك تمكن الاستعمار الفرنسي في الجزائر وغيرها أن ينحي من دراسات الإسلام باب الجهاد؛ وذلك إيماناً من المستعمرين بأن أخطر صفحة تواجههم في الإسلام هي صفحة الجهاد التي كانت وستظل القوة الحقيقية للمقاومة والدفاع عن النفس، وحتى في السلم تكون استعداداً وتأهباً وحماية للثغور وإثارة الرهبة في نفوس العدو: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم).
ولقد بلغ الأمر ببعض الكتاب العرب أن يتابعوا المستشرقين فيما يصورونه من تفرقة بين الإسلام في مكة والإسلام في المدينة وبين آيات القرآن المكي الداعية إلى الترقب والتأهب وبين آيات المدينة التي تحرض المسلمين على القتال. والواقع أنه لا فارق مطلقاً بين مرحلتين من دعوة واحدة يتكاملان، ذلك أن مناهج الدعوات لابد أن تمر بمرحلة بناء الرجال وإعدادهم، ثم تأتي بعد ذلك مرحلة إقامة الدولة على نفس المنهج الأصيل، والإسلام متكامل ولكن الفكر الغربي الذي يحاول أن يحاكمه لا يؤمن بالتكامل وتفترسه الانشطارية، بالإضافة إلى التعصب وتغليب الهوى على جميع الأبحاث والدراسات التي تتصل بالإسلام.
ومن عجب أن لا يدعو الإسلام إلى الحرب والقتال؛ وإنما يدعو إلى السلام (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة)، ولكنه يفرض الحرب في حالة الاضطرار القصوى، ثم لا يلبث أن يوقفها في حسم إذا قبل خصمه الصلح: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله).
وهناك شبهة أخرى تبطل بهذا المجال هي شبهة الانفصال عن الماضي.(36/14)
فلا يزال الغربيون يرددون القول ولا يملون مطالبين المسلمين بأن ينفصلوا عن ماضيهم كلية ويرون ذلك هو سبيل القوة، وهم في هذا مضلون: (وإن تطع أكثر مَن في الأرض يضلوك عن سبيل الله)، ولو كان هذا منهجاً صحيحاً مع كل الناس فلن يكون صحيحاً مع المسلمين الذين لهم منهجهم الرباني الماضي الذي هداهم دوماً وكانت هزيمتهم كلما انفصلوا عنه، والأوربيون الناصحون لم يفعلوا في نهضتهم ما ينصحوننا به، فنحن يطلب إلينا الانفصال عن الماضي والماضي متصل خلال أربعة عشر قرناً لم يتوقف اتصاله واستمراره، ونحن ندعى للانفصال عنه وأوربا تعود إلى الماضي وتتبعه من جديد بعد أن انفصلت عنه ألف سنة كاملة، تعود لتربط نفسها بالفكر اليوناني والحضارة الرومانية التي سقطت عام 450م وبدأت النهضة عام 1400 تقريباً.
والحق أنها دعوة ظالمة ولن تتحقق ولن يقبلها المسلمون والعرب ولن يستطيعوا ذلك لو قبلوا بها، ويقول هاملتون جب في نص له: "إنه ليس في وسع العرب أن يتحرروا من ماضيهم الحافل وسيظل الإسلام أهم صفحة في هذا السجل".
في مجال وحدة الفكر الإسلامي وتكامله:(36/15)
وكذلك جرت إثارة الشبهات حول وحدة الإسلام ووحدة الفكر الإسلامي. وفي هذا المجال ترددت الدعوى القائلة بأن الإسلام دين: بالمعنى اللاهوتي المعروف في الغرب، وهم في هذا ينقضون الإسلام في أكبر مقوماته؛ فالإسلام دين ونظام مجتمع ومنهج حياة، فإذا فصلت منه الجانب الاجتماعي وقصرته على جانب العقيدة أو العبادة وحده كان ذلك تحريفاً خطيراً لمضامينه وأسسه، ويمكن القول أن الغرب يعرف ذلك ولكنه ينكره من ناحيتين: من ناحية أنه يريد ان يجعل الإسلام خاضعاً لنظرية الفكر الغربي التي تفصل بين الدين والمجتمع وبين الأخلاق والمجتمع. وبين التطلع إلى أن يفقد الإسلام أقوى مقوماته فينهار ويصبح مركباً ذلولاً للحضارة الغربية والاستعمار. والواقع أن الغرب يخشى الإسلام في مفهومه الصحيح؛ لأنه يحول دون نفوذه وسيطرته ويدفع المسلمين إلى مقاومته وتحرير أرضهم منه.
وهذا هو لب التغريب فإذا وصل إلى إقناع المسلمين بأن الإسلام دين لاهوتي فحسب، انفتح الطريق أمام الغزو المادي في مجال الفكر وأمكن إخضاع المسلمين للأيدلوجيات والفلسفات والمذاهب الاجتماعية المختلفة، مما يؤدي إلى تدمير مختلف القيم الأخلاقية والنفسية والروحية التي بناها الإسلام في المسلمين، وبذلك يصبح الفكر الإسلامي صورة هزيلة من الفكر الغربي الذي يمر الآن بأقسى مراحل أزماته واضطرابه بعد أن سقط صريعاً في براثن التلمودية الصهيونية.(36/16)
وفي الفكر الإسلامي المستمد من الإسلام يقوم منهج تكامل قطاعات الفكر في نسق واحد، فالاجتماع والسياسة والأدب والتربية والاقتصاد هذه وحدات وأجزاء وعناصر من شئ واحد هو الإسلام، وإذا كان الفكر الغربي يجري على الفصل بين العناصر والوحدات والأجزاء فإن الفكر الإسلامي لا يقر هذا الفصل ويرى فيه تدميراً للشخصية الإنسانية وللمجتمع نفسه، يرى فيه قصوراً في النظرة بإعلاء عنصر على عنصر. وفي العصر الحديث يعلو عنصر المادة ويكاد يسيطر على العناصر الأخرى فيصل إلى درجة تشبه درجة القداسة، وكذلك فيما يتصل بالعقل والعلم، أما الإسلام فلا يرى المادة والروح إلا متكاملين، وما العقل والقلب إلا عينان في وجه واحد، والدنيا والآخرة إلا متصلين صلة جذرية، فالحياة كلها تدور حول رسالة وتتصل بإنسان له مسئوليته الفردية إزاء عمله وجزاءه على هذا العمل، وإنسان متصل بمجتمع متفاعل معه، وإنسان له قلب وعقل وروح وجسد لا انفصال بينها.
ومن هذه الوحدة القائمة بين العناصر في الفكر والحياة في الإسلام، والالتقاء بين الأجزاء لا نجد قضية للخلاف بين العلم والدين ولا بين الدين والضمير.
ذلك أن بعض المحاولات جرت لفصل بين الدين والضمير، والقول بأن العمل الأخلاقي يمكن أن يتخذ طريقه دون أن يكون صاحبه عاملاً بأوامر الدين، وتلك دعوة تتردد اليوم بين المسلمين: يقول أحدهم: أنا أفعل الخير ولكني لا أصلي.
والواقع أن الإسلام بحكم أنه منهج متكامل ونظام شامل لا يقر هذا، ولابد لأي عمل أخلاقي أن يتحرك في إطار العقيدة نفسها.(36/17)
ولابد أن ينبعث من الإيمان بالله أساساً وأن يكون في منزلة الصلاة تماماً، والشبهة هنا هي أن الغربيين حين أرادوا الخروج من الدين وضع فلاسفتهم مناهج أخلاقية حاولوا أن يقولوا أن الناس في حاجة إلى الأخلاق وأن الأخلاق تقوم على فكرة الواجب وأن الناس تستطيع أن تقدم المعونة والمساعدة والإحسان والبر دون أن يكون لذلك صلة بدين ما. ولكن هذا المفهوم لا يقره الإسلام ولا قيمة لأي عمل أخلاقي لا يرتبط بالتوحيد والإيمان الكامل بالإسلام كله. وقد حذر القرآن تحذيراً شديداً من الإيمان ببعض الكتاب، ولا ريب أن هذا المنهج الأخلاقي حين انفصل عن الدين في الغرب لم يلبث طويلاً حتى ضربته حركة الاحتواء التلمودية فظهر منهج المدرسة الاجتماعية الذي حطم مفهوم الأخلاق نهائياً.
أما الإسلام فإن الأخلاق فيه تقوم على أساس الثبات أولاً وتتصل بالعقيدة، فالأخلاق في مفهوم الإسلام تطبيقية وليست نظرية كما هي في الفلسفة اليونانية، وليست أخلاق سعادة؛ ولكنها أخلاق تقوى، لقد كانت الأخلاق اليونانية نظرية خالصة منفصلة عن واقع الحياة، وكانت الفلسفات الهندية والمجوسية منعزلة عن المجتمع، وكلاهما لا يعترف بواقع الحياة، أما مفهوم المجال محاولة لوصف الفكر الإسلامي بالفكر الديني وهو قول ينبع من الانشطارية الغربية، ذلك أن الإسلام لا يفضل الدين عن الأدب أو اللغة أو التشريع أو الاقتصاد أو الاجتماع، والدين هنا بمعنى توجيه العمل لله وأخلاقية العمل ومراقبة الله فيه وتحريره من الهوى والغرض.
وفي ضوء ما ذكرنا ليس هناك فكر ديني، أو لغة دينية على النحو الذي يفهمه الغربي الذي يفصل بين المفاهيم.(36/18)
وهكذا تختلف نظرة الفكر الإسلامي عن نظرة الفكر الغربي في أمور كثيرة: وفي مقدمتها البطولة وتقديرها والاحتفاء بها، فالإسلام لا ينظر إلى البطل أو العظيم بقدر ما ينظر إلى عمل البطل، ولذلك فهو حين يحتفي بالبطل يعيد الذكر والتقدير لعمله ويدعو إلى الانتفاع به، وهذا هو السر الحقيقي وراء انصراف الإسلام عن الصور والتماثيل كوسائل لتكريم الأبطال.
ذلك أن تلك الأسماء الكثيرة التي تتردد في الغرب على أنها آلهة وأنصاف آلهة، مما اورده اليونان والرومان وغيرهم، لم تكن في الأصل إلا أبطالاً أعجبت بهم أممهم وتعلقت بهم ثم شاءت بعد ذلك أن ترفعهم من مقامهم الإنساني إلى مقام الآلهة. ثم هي لم تلبث أن انصرفت عن مفهوم التقدير العملي لعمل البطل إلى عبادة البطل نفسه، وبذلك نشأت عبادة جديدة صرفت الناس عن عبادة الله الواحد الأحد، وقد أصبحت عبادة الأبطال وعبادة الجمال وتأليه البطل عبادات تتفق مع طبيعة النفس الغربية التي استمدت مفاهيمها في العصر الحديث من الوثنية اليونانية.
ومن هنا فقد حرص الإسلام على تحرير أهله من عبادة الفرد أو عبادة شئ ما، إلا الله سبحانه وتعالى، ومن هنا كان حرص القرآن على أن يصف أعظم شخصية في المسلمين وهو محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ إنما إلهكم إله واحد)، فالنبي بشر مؤيد بالوحي، يعيش ويأكل الطعام ويمشي في الأسواق ويموت أيضاً، أما الله سبحانه وتعالى فإنه الحي الذي لا يموت. ومن هنا حفظ الإسلام مفهوم البطولة عن الانحراف إلى عبادة الفرد وحفظ عبادة الله من الوثنية والشرك. لقد رفع الإسلام عن الفكر البشري القيود وحرر العقل البشري من الأصفاد. ولم يجعل للأحجار والتماثيل والأصنام مكاناً في إيمانه القائم على التوحيد الخالص.
أنور الجندي(36/19)
سلسلة على طريق الأصالة
32
تحول الدراسات الناتجة من الإقليمية إلى الإسلامية
كان من أبرز معالم التحول إلى الأصالة الذي أحدثته حركة اليقظة الإسلامية، العودة إلى فهم التاريخ فهمًا صحيحًا بوصفه تاريخ أمة لها عقيدة وقيم ونظام اجتماعي جامع وأن أي إقليم سواء كان عربيًا أم من الفرس أو الترك أو الهند أو غيرها لا يستطيع أن يستقيم بنفسه كأنه كيان خاص له وجوده المنفصل المستقل.
ذلك أن القاعدة الحقيقية هي أن هذه الأمم حين انضمت إلى الإسلام واعتنقته فإنما هي قد خرجت خروجًا كاملا من وجودها الوثني الذي كان قائمًا من قبل، فقد جاء الإسلام ليضع حدًا فاصلا بين وجود الأمم من قبله وبين وجودها به فالإسلام أساسًا يحب ما قبله وإن القاعدة التي تقول بأن الأديان كلها التي جاءت قبل الإسلام إنما مهدت للدين الخاتم فقد جاءت كلها أديانًا مرتبطة بعصرها وبيئتها فلما جاء الإسلام كان على كل المؤمنين بما قبله أن يؤمنوا به.
هذا ولقد وسع الإسلام مساحات اللقاء بين الأمم من منطلق العقيدة الواحدة والثقافة الجامعة لها جميعًا ولم يترك لخصائص الأقطار والأقاليم إلا مساحات قليلة من وجوه الاختلاف سواء فيما يتعلق بالجغرافيا أم بالتضاريس أو الطقس أو عوامل البيئة المختلفة وكلها عوامل لا تأثير لها في هوية المسلمين ولا تحول دون ترابطهم الوثيق الذي صنعه تاريخ متصل وثقافة موحدة ووجهة جامعة.
ولا ريب أن العودة إلى المبالغ التي توجهها حركة الصحوة اليوم عن شأنها أن ترتفع فوق الطائفية والإقليمية والعنصرية فقد كانت دعوة الإسلام الأساسية هي العودة إلى وحدة الأصل البشري والتواصل بين العناصر، والتعارف وقيام قاعدة الإخاء أساسًا.
ولم يعل شأن الصراع الطائفي أو الإقليمي إلا حين عمد النفوذ الأجنبي إلى صدع هذا الصف وتمزيق هذه الوحدة وإثارة مؤامرات الخلاف والنزاع وإحياء مفاهيم قديمة هدمها الإسلام وقضى عليها.(37/1)
كان الهدف هو هدم (وحدة الأمة الإسلامية) القائمة حول الخلافة الجامعة، وإقامة أنظمة إقليمية وقومية وعنصرية بديلا منها وذلك لهدف أساسي في الحيلولة دون البقاء أمة القرآن على وحدة جامعة.
ومن هنا عمد النفوذ الأجنبي إلى رفع شأن القوميات والإقليميات وحشد الأفلام والقوى للدفاع عنها وحمايتها، وكان هدف إقامة رأس جسر من عنصر غريب عن الأمة في قلبها مدعاة إلى تمزيق هذه الوحدة بكل وسائل المؤامرة والخلاف والدس والتفرقة وكان لابد من توجيه ضربة شديدة إلى تاريخ الإسلام بغرض تفسيرات مضللة عليه، ومحاولة إخضاعه للتفسير المادي للتاريخ وإطفاء بؤر العطاء الإلهي في السيرة النبوية وتاريخ الإسلام وتفريغه من جوهره الأصيل وذلك بكتابة السيرة والتاريخ بالطريقة العلمانية التي تخفف من هذا الوهج العظيم الذي يجب أن يملأ قلوب المؤمنين وإخلائه من يقين الإيمان تحت اسم العلم المادي الذي لا يعترف بالمعجزات والجوانب الغيبية والإعراض عن الجوانب ذات الصلة بالإيمان والعقيدة واليقين والتقوى وقوانين الإسلام في النصر، كل هذا من أجل انتقاض تاريخ الإسلام وإبراز جوانب الخلاف والخصومة والصراع التي هي من طبيعة الأمم جميعًا، إبرازها على أنها ظاهرة مسيطرة من خلال بضع أحداث في تاريخ أربعة عشر قرنًا وتجاهل عشرات المواقف الحاسمة والأحداث الخالدة التي ينبض بها تاريخ الإسلام.
وهكذا هدف النفوذ الأجنبي والاستشراق ودعاة التغريب أتباعهم من كتابة التاريخ وعرضه ونقده إلى تمزيق وحدة التاريخ الإسلامي وإعلاء التاريخ الإقليمي الوطني والقومي ومحاولة تصوير كل وطن بأنه متميز وكأنما له طابع خاص في محاولة لانتزاع بعض الأوضاع الخاصة وفصلها عن التاريخ العام في محاولة لإعلاء شأن جوانب معينة في قطر من الأقطار.(37/2)
ثم جاءت محاولات أخرى أشد خطورة وعنفًا في تمزيق وحدة التاريخ الإسلامي وفي إعلاء جوانب الضعف فيه ومحاولة إعطائها بريقًا خادعًا وذلك عندما اتفق في مؤتمر يلتيمور على إبراز شأن الحركات الهدامة وتصورها بصورة جديدة وتولى كبر ذلك طه حسين وتبعه كتَّابًا كثير وذلك في محاولة لتصوير حركات الزنج والقرامطة والباطنية على أنهما حركات حرية وعدل وقد كتبت على هذا النحو أطروحات عدية لم تخدع أحدًا.
ولقد حاول الماركسيون ترويج مفاهيم مضللة كالحتمية التاريخية والمادية التاريخية وعديد من المصطلحات المضللة التي وضعت لمواقف معينة في تاريخ الغرب في محاولة لتطبيقها على التاريخ الإسلامي.
كذلك فقد تعرض كثير من الشخصيات الإسلامية الشهيرة لصور قاسية من التشويه والتشهير، كما حدث لخالد بن الوليد وهارون الرشيد وغيرهما بل إن بعض الكتب التاريخية التي تدرس اليوم في أقطار عربية تحمل صورًا غير مقبولة لطارق بن زياد وغيره، مما تدرس في المناهج من كتابات الماركسيين.
ويرجع هذا إلى اعتماد بعض النصوص الأدبية في تقرير الحقائق التاريخية وفي مقدمة ذلك كتاب ألف ليلة وليلة وكتاب الأغاني وهما ليسا كتاب علم أو تاريخ ولكنهما من الكتب اللقيطة التي ليس لها مؤلف إلا إذا كان في مثل زندقة الأصفهاني.
وقد أضافوا لهارون الرشيد روايات ألف ليلة وأقاويل الأصفهاني وأخبار أبي نواس.
وهناك من شهر بالصحابة كمعاوية وعثمان وغيرهما ومن أساء سيرة زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن يراجع دائرة المعارف الإسلامية يجد تلك المحاولات الخطيرة لتزييف المواد التاريخية الإسلامية. لقد تم طبع تاريخنا في مؤتمرات المبشرين والمؤتمرات الخاضعة للاستعمار الشيوعي والصليبي ثم قدم إلينا عن أنه التاريخ المنهجي والموضوعي.(37/3)
ولقد كذبت وقائع التاريخ الإسلامي دعاوى كثيرة ادعاها الاستشراق وفي مقدمتها دعوى أن المسلمين لم يكونوا متسامحين مع المسيحيين، بل لقد وجد من الفريقين أنفسهم من كشف زيف هذه الدعوى، يقول الأب منسون في كتابه (رحلة دينية إلى الشرق):
"إنه من المحزن لأمم المسيحية أن يتعلموا التسامح من المسلمين. إن الحروب التي وقعت بين المسيحيين والمصلين في مختلف الأزمان أي أنها مع تمسكها بدينها لم تعرف إكراه غيرها على قبوله".
وقد اعترف بهذا التسامح السامي درابر الأمريكي في كتابه (الاختلاف بين الدين والعلم) يقول:
"كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي بهم خيرًا، كذلك الخليفة عمر، وكانت لهم عهود بحسن معاملتهم وفي عهد العباسيين وضع هارون الرشيد دور العلم تحت إشراف يوحنا بين ماسويه، وكان النساطرة المسيحيون يولون مناصب عالية في المملكة الإسلامية في مختلف أدوارها.
ويقول ولز في كتابه (تجربة في التاريخ العام):
"فهؤلاء النساطرة كانوا بعهد الفرس الساسنيين أحرار في ثقافتهم وجاء الإسلام فلم ينزع منهم هذه الحرية" اهـ.
لقد كانت قضية تشويه التاريخ الإسلامي من الأهداف الأساسية للنفوذ الغربي القائم على تآمر اليهودية والنصرانية المسيطرتان واللذين كانا في فزع شديد من توسع الإسلام ونمائه فكان عليهما أن يركزا الجهد الخطير في هذا المجال بالدس والمغالطات والتشويه.
أولا: بالطعن في تاريخ الأمة الإسلامية ومقدمات وجودها وتراثها العظيم.
ثانيًا: إحياء الفرق والطوائف القديمة الباطنية وإبراز الخلافات السياسية والمذهبية التي كانت معروفة في العصر الأول وقضى عليها علماء المسلمين.
تشير إلى هذا التسامح، ولما غزا العرب الشام أوصى الخليفة الصديق بالنصارى خيرًا، ولما دخل عمر القدس لم يسمح بإلحاق أي أذى بالمسيحيين وترك كنائسهم بأيديهم وأحسن معاملة بطريقهم وأبى أن يصلي داخل الكنيسة لئلا يأتي بعده المسلمون فيدعوها ويجعلوها مسجدًا لهم.(37/4)
وصدق برتسون حيث قال: "إن أتباع محمد هم الأمة الوحيدة التي جمعت بين التحمس في الدين والتسامح فيه، ويرد الباحثون المسلمون ذلك التشويه إلى الاستشراق الذي حاول إحياء الفكر الوثني والباطني القديم وإعادة تفجير الخلافات".
وقد أشار الدكتور عبد العزيز راشد إلى الدور الذي قام به الاستشراق في تفسير الأحداث تفسيرًا باطلا، وتركيز المستشرقين على الفرقة المنحرفة والادعاء بأنها هي المجتمع الإسلامي كما ركز المستشرقون على الخلافات التي حدثت بين المسلمين ووجهوا تلاميذهم إلى دراستها وإيهام الناس بأن هذا هو التاريخ الإسلامي.
وكان المستغربون والقوميون والعلمانيون هم الصف الثاني في هذه المؤامرة حيث حاولوا – كما فعل طه حسين وغيره – اعتبار بعض الكتب الأدبية مصادر للتاريخ الإسلامي ومن أمثال ذلك الأغاني وهو مليء بالأحداث التي نسبها إلى الخلفاء وخاصة العباسيين زورًا وبهتانًا.
كما ساهمت المناهج الدراسية والبرامج الإسلامية مساهمة خيرية في تسوية التاريخ الإسلامي.
ولقد تعددت محاولات المؤرخين الذين ينطلقون من مفهوم العلمانية للحديث عن من يصنع التاريخ، وهناك نظريتان:
نظرية اللبراليين العلمانيين ونظرية الماركسيين والأولى تضع العمل في مجال الأفراد، والأخرى تضعه في مجال المجتمع.
أما الإسلام فله نظرته المنطلقة من مفهومه الجامع والأصيل فالمسلمون مؤمنون – على حد تعبير عماد الدين خليل – بأن التاريخ تعبير عن المشيئة الإلهية وأن أي حركة تاريخية هي نتاج لقاء من الله تبارك وتعالى والإنسان والطبيعة بما في ذلك الزمن وإغفال أي عنصر منها فإنما هو جهل بالأسس الحقيقية لحركات التاريخ.
ومعنى هذا أن عوامل مختلفة تصنع التاريخ وأن الإرادة الإلهية هي منطلق حركة التاريخ أساسًا.(37/5)
ولقد قدمت الرؤية القرآنية للمسلمين منهجًا واضحًا صريحًا في كشف حركة التاريخ وارتباطها بالإيمان بالله فالأمم التي خرجت عن هذا الإيمان سقطت والأمم التي التمست منهج الله مكن الله تبارك وتعالى لها في الأرض.
ولقد جاء تاريخ المسلمين مقرًا لهذا القانون، فانتصارات المسلمين كلما تمت عندما تمسكوا بعقيدتهم وباعوا أنفسهم خالصة لله تبارك وتعالى وجاءت هزائم المسلمين عندما فرطوا وتخاذلوا واعتراهم الفتور وقد كشف ذلك عن حقيقتين:
الأولى: أن هناك قوى متآمرة قائمة لا تبرح وهي قادرة على ضرب الوجود الإسلامي عندما تتراخى قبضته عن تطبيق منهج الله تبارك وتعالى.
الثاني: أن في أعمق أعماق المنهج الإسلامي قوة قادرة على تصحيح مسيرة المسلمين عندما تنحرف وإعادتهم مرة أخرى إلى الطريق الصحيح.
ومن هنا كانت ضرورة فهم التاريخ الإسلامي وتحليله في جانبيه السلبي والإيجابي، ومحاكمة تاريخ الإسلام إلى منهج تاريخي إسلامي أصيل، ورفض التفسيرات المادية والعلمانية المضللة الوافدة التي لا تهدف أساسًا إلا إلى الغض من قدر عطاء إيجابيات التاريخ الإسلامي للأجيال الجديدة والحيلولة دون تأثيرها النفسي والاجتماعي للتقليل من دورها في بناء الثقة في النفوس وإعادة الإيمان بقدرة منهج الإسلام على العطاء مرة أخرى على النحو الذي وقع من قبل.
وإذا كان من أخطر عوامل التزييف ما وجهه الاستشراق من عناية للفرق الضالة وخاصة القرامطة والباطنية والزنج وغيرها فإن الحملة الخطيرة هي تلك التي وجهت ولا تزال توجه للدولة العثمانية في محاولة لتزييف تاريخ ناصع استمر أكثر من أربعمائة عام في حماية الكيان الإسلامي من الغزو الغربي، ذلك لأن هذه الخطة هي أبرز ما ركزت عليه قوى التغريب والاستشراق والتبشير لخدمة أهداف الغرب الذي كان يطمع في تدمير الجامعة الإسلامية والوحدة الإسلامية والخلافة الإسلامية (وبالتالي الدولة العثمانية).(37/6)
وما تزال في حاجة كبرى إلى دحض تلك الاتهامات التي توجه إلى هذه الدولة وهي موجهة أساسًا إلى الإسلام ويحمل لوائها أصحاب الأحزاب القومية والإقليمية وخصوم الإسلام دينًا ودولة، وهي في نظرنا علامة واضحة تفرق بين القائمين على منهج الإسلام والذين يدعون التماس طريقه كذبًا وبهتانًا.
وقد وضحت خطوط المؤامرة التي قام بها النفوذ الغربي لتمزيق وحدة المسلمين الجامعة التي قامت في ظل لواء الدولة العثمانية وذلك بإحياء مفهوم (الطولونية) وتأليف جماعات الدونمة وأصحاب المحافل الماسونية وأتباعهم من أبناء الحاخامات أمثال (مدحت باشا) وغيره من المتآمرين الذين عمدوا إلى إسقاط السلطان عبد الحميد أولا ثم إلى إلغاء الخلافة ثم إلى إلغاء كيان الدولة العثمانية في سبيل إقامة رأس جسر لعنصر ليس من أهل المنطقة في محاولة لاحتلال اليهود فلسطين وهي مؤامرة ضخمة قد أعدت على نحو خطير جدًا.
وفي سبيل هدم الدولة العثمانية والوحدة الإسلامية الجامعة جاءت تلك المحاولات التي استعلنت في الاهتمام بابن إياس وابن تغري بردي والمقريزي وغيرهم من المؤرخين المصريين في فترة المماليك والعصر التركي فقد حاول النفوذ الأجنبي إحياء هذا التراث ليجدد أمام المصريين والمسلمين عامة تلك المقولات التي كتبها هؤلاء المؤرخون الذين كانوا محصورين في عصرهم ولم تكن لهم النظرة الواسعة للدور الذي قام به المماليك في تحطيم القوى الصليبية والباطنية والدور الذي قام به الأتراك في حماية الوجود الإسلامي بإدخال مصر والشام في الوحدة الإسلامية الجامعة وكذلك إدخال الجزائر وتونس.
وتلك قضية يجب أن تدرس من أبعادها المختلفة، أما ابن إياس والمقريزي وابن تغري بردي فقد كانوا أشبه بكتَّاب يوميات صحفية للأحداث ولم تكن لديهم القدرة الحقيقية على تحليل الأحداث وربطها على المدى الواسع والعجز عن فهم الوحدة الإسلامية وأخطار ما كان يحيط بمصر والبلاد العربية من مؤامرات.(37/7)
ولقد أولى المستشرقون الاهتمام بتحقيق كتاب ابن إياس وبذلوا في ذلك مجهودًا ضخمًا قام به رجل له ولاء أكثر من أربعين عامًا وجندوا له كل القوى في البحث عن الأجزاء الناقصة هنا وهناك من أجل تحقيق هذا الهدف: هدف إثارة الأحقاد بين عنصري الأمة الإسلامية: المصريين والأتراك.
وقد جرت محاولات كثيرة لتفسير التاريخ الإسلامي في إطار مذاهب وافدة، ومفاهيم مغايرة، وقد جرت محاولات لذلك في إطار المطروحات الإقليمية، والقومية، والمادية. وقد كانت هذه المحاولات جميعًا لا تمثل تفسير التاريخ الإسلامي، والذي لا يخضع إلا لمنهج الإسلام نفسه.
وهناك من اتخذ من بعض المواقف المضادة لمسيرة الإسلام تصورًا بأنها حركات تحرر، ومن هذه حركات الزنج، والقرامطة، والبابكية فقد ألف عن ذلك من ادعى أن حركة بابك الخرمي هي انتفاضة الشعب الأذربيجاني ضد الخلافة العباسية بينما هي حركة هدم لما بناه الإسلام، وتفتيت للصرح الذي أقامه الفكر الإسلامي.
يقول المؤرخ العباسي صاحب "العيون والحدائق في أخبار الحقائق":
"لم يكن في الإسلام حادث (أضر) بالإسلام والمسلمين من ظهور بابك الخرمي، بتلك المقالة التي تفرع منها القرامطة والباطنية".
إن النظرة الحقيقية للتاريخ الإسلامي تستمد من رابطة العقيدة لا من رابطة العنصرية، إنما نشأ هذا الاتجاه العنصري عل كتابات الباحثين المسلمين الذين تأثروا بالنظرية الغربية المتأثرين بفكرة "حوينيو" في الاتجاه العنصري، فصوروا أحداثه في صورة نزاع حاد بين العرب والحاكمين والشعوب المحكومة، من فرس وترك وبربر كما يقول الدكتور فاروق عمر فوزي – كأن لم يكن في هذا الشرق العربي الإسلامي إلا تطاحن على السلطة والسيادة والامتيازات، وقد شوه هذا الاتجاه العنصري، الذي دسوه حقيقة دور العرب الحضاري.(37/8)
ومن أبرز ما قام به المستشرقون في هذا الصدد ما كتبه فلوتن وفلهوزين (1)، اللذان أظهرا تاريخ القرن الأول الهجري وكأنه صراع دموي بين الأسياد العرب وسكان البلاد المفتوحة، وقد تأثر بهذا التفسير الكثير من المؤرخين، ومنهم عرب، فطبقوه على مظاهر كثيرة في التاريخ العربي الإسلامي، ومن جملتها الحركة البابكية نفسها، التي صورت في صورة انتفاضة قومية إيرانية.
والواقع أن هذا التفسير جرد الحركة البابكية من سياقها التاريخي الشامل، وحصرها في جانب واحد، بالغ في إظهاره وأكد عليه متناسيًا الجوانب الأخرى.
وقد سار مؤرخون عرب آخرون على طريق المذهب المادي في التفسير التاريخي أمثال "بندلي جوري" في كتابه (الحركات الفكرية في الإسلام) حيث اعتبر البابكية الإباحية، والإسماعيلية الباطنية، والقرامطة الممارسة للقتل والنهب حركات إسلامية، هذه المنظمات الباطنية كما نشر الكاتب مختلطة بأفكار إسرائيلية، ومعتقدات وثنية، وفلسفات إغريقية، وعرض للقرامطة على أنهم أصحاب النزعة اليسارية المبكرة، هذه المزاعم التي استخدمها ماسيتون وكايتاتي وبرناردلويس وكراوس، والتي قدمها الماركسيون اليهود أمثال بندلي جوزي ولوكسلي وإيفانوف.
والواقع أن هذه إحدى المحاولات التي ترمي إلى تزييف تفسير التاريخ الإسلامي بمنهج غير منهجه، المنهج الذي يقوم على مفهوم الإسلام الجامع المتكامل روحًا ومادة، عقلا وقلبًا، دنيًا وآخره.
ولكن هذه المحاولات كلها لا تستطيع أن تثبت أمام الحقائق، ولا أتلبث أن تسقط وتنهار.
وفي دراسة تاريخ العثمانيين يجب ملاحظة بعض المحاذير التي قد تكون عاملا في "سوء الفهم" أو توجيه الاتهام بغير مبرر.(37/9)
أولا: كذب الاتهام بأن الدولة العثمانية احتلت العالم العربي فالواقع أن الأقطار العربية رغبت في الانطواء تحت لواء الخلافة الإسلامية العريض، حماية لها من تجدد الغزو الصليبي الذي كان يطمع في جولة جديدة بعد هزيمة الحروب الصليبية، وكذلك كان الأمر في موقف تونس والجزائر التي واجهت حملات عنيفة من القرصنة الأسبانية والبرتغالية التي كانت تهدف إلى القضاء على جماعات المسلمين الفارين بدينهم من الأندلس بعد سقوطها في أيدي الفرنجة.
وقد كتبت أبحاث عديدة في هذا الصدد، وتكشف حقائق كثيرة حول هذا المعنى من أبرزها ما دار في الملتقيات الإسلامية في الجزائر سنوات 1972م، 1983م، 1974م.
ثانيًا: التفرقة الواضحة بين عهد السلطان عبد الحميد الذي انتهى عام 1909، وبين عهد الاتحاديين الذي بدأ منذ ذلك التاريخ واستمر حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، وهو العهد الذي وقع فيه الخلاف بين العرب والترك وخاصة عرب الشام، وهو الذي قام فيه الاتحاديون بتعليق العرب على المشانق في بيروت ودمشق 1916 بعد أن تجلت وجهة الاتحاديين، وتكشف علاقتهم بالصهيونية، ودورهم الخطير في تسليم فلسطين لليهود، فضلا عن جرائمهم في تسليم طرابلس الغرب للإيطاليين، وإدخالهم الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى من غير غرض واضح، مما أدى إلى هزيمتها وتمزقها.
أما عهد السلطان عبد الحميد فقد كان عهد الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وعصر الحفاظ على فلسطين وقصة مواجهة السلطان عبد الحميد لهرتزل وزعماء الصهيونية واضحة ومعروفة، وقد كانت سببًا في التآمر عليه وعزله، فالحملة الموجهة في الحقيقة للدولة العثمانية إنما هي موجهة للاتحاديين الذين حكموا في هذه الفترة، فمزقوا وحدة المسلمين وأوقعوا الصراع بين الترك والعرب، وقد كان للشام دور واضح في هذه القصة، ومن هنا فإن معظم الكتابات التي لا تفرق بين العهدين هي من كتابات أهل الشام.(37/10)
ثالثًا: لا ريب أن موقف السلطان عبد الحميد من الصهيونية فضلا عن مواجهته البارعة للصراع مع الغرب، كانت من أشرف صفحات السلطان عبد الحميد الذي اختلفت وجهات النظر فيه، والذي وصفه خصومه بأنه كان مستبدًا وظالمًا وطاغية، ولا ريب أن الموقف كله يجب أن يدرس في إطار التحدي الخطير الذي عاشه السلطان منذ بروز حزب الاتحاد والترقي، واحتواء الصهيونية العالمية لمحافله، وخطته في تدمير الجامعة الإسلامية وتحقيق هدف الاستعمار والصهيونية العالمية في تمزيق دولة الخلافة، وتحقيق هدفها في السيطرة على أجزائها، وفي سيطرة اليهود على فلسطين.
رابعًا: خطة الصهيونية في إنشاء المحافل الماسونية في انبعاث جديدة بدأت بتعيين زعيم جديد، حيث زيادة ممارسة الشعائر الإسلامية في بعض المناطق، حيث تشهد المساجد إقبالا على العادات الإسلامية في نفس الوقت الذي فيه تقاوم الشعائر الآسيوية الكبرى الدعوة السوفييتية وتزاول الشعائر الإسلامية، ويتكهن بعض الباحثين بأنه في القرن الواحد والعشرين فإن المسلمين سيعقد لهم لواء القيادة في الاتحاد السوفييتي بمعنى أن الدولة المتحدة يمكن أن تصبح دولة المسلمين وخاصة وأن كثيرًا من الشخصيات بدأ يعقد لها لواء القيادة وبدأت تظهر في سماء موسكو.
وما يقال عن الاتحاد السوفييتي يقال أيضًا عن أوربا عامة وفرنسا وأسبانية خاصة، وهذا بالطبع يستدعي من المسلمين الفرنسيين والأسبانيين وغيرهم أن يتثقفوا بالثقافة الإسلامية وأن تتحد كلمتهم وأن يتجمعوا في قوة تستطيع أن تحافظ عليهم وعلى دينهم وعلى حقوقهم.
وفي الولايات المتحدة قام مجتمع إسلامي على أخلاق ومعاملات وتعاليم الإسلام ويرفع شعائر لا إله إلا الله محمد رسول الله، حيث بلغ عدد المسلمين 4 ملايين مسلم.
يقول دكتور نور الدين دوركي: ستصل في السنوات الخمس مئات.
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(37/11)
بناء مناهج التعليم والثقافة على قاعدة الأصالة
الأستاذ أنور الجندي
تدرس جامعاتنا ومدارسنا وكلياتنا في العالم العربي كله وفي العالم الإسلامي الأوسع، دراسات الطب والفلسفة والاقتصاد والعلوم السياسية والعلوم الفيزيائية والتاريخ وعلم النفس والاجتماع، دون أن تشير بحرف واحد إلى الخخلفية التاريخية الإسلامية المصدر، أو إلى المراحل التي قطعها الفكر الإسلامي في بناء هذه العلوم وتنميتها، فلا يعرف الشباب العربي والمسلم أن أجدادهم كان لهم دور خطير في بناء هذه المناهج والعلوم، ودون أن يعرفوا وجهة نظر الفكر الإسلامي والثقافة الغربية في مختلف هذه العلوم والدراسات.
وكل ما يدرس في الجامعات ليس في الحق إلا نظريات الفكر الغربي التي تشكلت منذ أوائل عصر النهضة الأدبي في مختلف تطوراتها بين المناهج الرأسمالية والمناهج الاشتراكية، ولا تمثل تلك الدراسات في الحق إلا تاريخاً لمراحل تطور هذه النظريات وهذه الفلسفات وجوانب نقصها والإضافات التي تجددت عليها، وأوجه الصراع بين العصور والفلاسفة وبين المذاهب المختلفة المتعارضة... وهذا كله إنما يمثل تاريخ أوربا والغرب ونظريات أوربا والغرب التي لم يشارك العالم الإسلامي ولا الأمة العربية فيها، والتي حين تقدم إلينا الآن لتكون مادة الدراسة في جامعاتنا إنما تكشف عن عزلة واختلاف واضح بين مجتمع ومجتمع، وفكر وفطر، وعصر وعصر، وتشكيل نفسي وذاتي ووجداني متباين جد التباين.
الفكر الإسلامي أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث:
وليس هناك اعتراض على أن ندرس النظريات والمذاهب والأنظمة العالمية في مجال الاقتصاد والسياسة والاجتماع والنفس والتربية، ولكن:
يجب أن تكون هناك ثلاث مقدمات واضحة في نفس الشباب العربي المثقف.
أولاً: أن هذه وجهات نظر وليست قوانين مسلمة.
ثانياً: إنها وجهات نظر الغرب عن تجارب نبعت من محيطه ومجتمعه.(38/1)
ثالثاً: إن لفكرنا العربي الإسلامي "وجهات نظر" في مختلف هذه القضايا قد تختلف عن وجهة نظر الفكر الغربي.
رابعاً: إن الفكر الإسلامي قد قدم لهذه المناهج جميعاً "أوليات" وإضافات بناءة حية.
فإذا استوى أمام المثقف العربي الفهم العميق واليقين الأكيد من أن فكر أمته قد ساهم في هذا الفكر الأوربي الذي فرض نفسه على كل ثقافات البلاد التي خضعت للثقافات الغربية فإن من شأن ذلك أن يمنحه شيئاً كبيراً من الثقة والإحساس على أنه قادر في مرحلة قريبة أن يدرس – إى جانب وجهة نظر الغرب في مختلف قضايا السياسة والاجتماع والاقتصاد والنفس والتربية – وجهة نظر فكرة العربي الإسلامي الذي يستمد مقوماته أساساً من رصيد الأمة العربية ومن القرآن الكريم ومن الإسلام، وإنه قد استوى للمسلمين والعرب منذ وقت بعيد منهج فكر ومنهج حياة يختلف إلى حد بعيد وفي مسائل أساسية وجذرية مع الفكر الغربي.
ولعل أبرز ما يقدم في هذا المجال هو القول بأن الحلول الجذرية لمعضلات العصر وأزمة الحضارة والمجتمع الحديث: هذه الحلول يقدمها (الفكر الإسلامي) على نحو جامع بين المثالية والواقعية، وقي مقدمة ذلك قضية القضايا وهي ما تختلف فيها الأيديولوجيات الماركسية والغربية.
قضية الفرد للمجتمع والمجتمع للفرد:
وأنه قد وضع منذ خمسة عشر عاماً قاعدة بناءة في هذا المجال حين ربط بين الفرد والمجتمع وجعل المجتمع في خدمة الفرد، والفرد في خدمة المجتمع.
وفي قضايا: التفرقة العنصرية، والعدل الاجتماعي والإخاء الإنساني والوحدة وتقارب القوميات وضع الفكر الإسلامي – مستمداً من القرآن – قواعد ونظماً ما تزال البشرية في أشد الحاجة إلى التعرف عليها.(38/2)
فإذا استعرضنا مثلاً: دراسات الطب والعلوم الفيزيائية فإن دور العرب والمسلمين بالغ الأثر، فالمسلمون هم الذين وضعوا أساس (أساس الالمنهج العلمي التجريبي) بعد أن تخلصوا من الفلسفة النظرية اليونانية، وإنهم صححوا نظريات الإغريق في الفلك والبحار ورفضوا السحر والخرافة وأقاموا بناءً علمياً في هذه المجالات وخاصة في مجال الطب، وفرقوا بين الفلسفة الرياضية والطبيعية، وأتاحوا لها فرصة النماء، بينما عارضوا (الفلسفة الإلهية) التي تتعارض مع مفاهيمهم في التوحيد والنبوة، وأنشأوا فلسفة مؤمنة تدور في فلك الإيمان بالله تبارك وتعالى بعيداً عن شطحات الإلحاد ومغريات الإباحة.
والفكر الإسلامي له قوانينه الخاصة ونظمه المتميزة في مجال العلوم السياسية والاقتصادية والتاريخ وعلم النفس بما ثدمه الماوردي والفارابي وابن خلدون والبيروني والغزالي وابن سينا: هذه الآراء والمفاهيم التي صهرها فلاسفة الغرب في علومهم ودراساتهم وصاغوها صياغة جديدة فعزلوها عن مصادرها الإسلامية المرتبطة بالتوحيد. (نقبل فكر ابن سيما والفارابي العلمي والطبي ونرفض فكرهما الفلسفي).
وفي مجال الثقة والتشريع والقانون كان للفكر الإسلامي القدح المعلي في نظريات ما تزال حتى الآن بكراً وما تزال مناراً يهتدى به.
وإذا قلنا أن الفكر الإسلامي قد أضاف إضافات أساسية إلى الفكر الحديث في مختلف مجالاته لم نكن مبالغين ولا نكون قد عدونا الحقيقة. نحن لا ننكر فضل العاملين الذين طوروا النظريات وأضافوا إليها ولكننا يجب أن لا ننسى فضل الرائدين الأول وهم المسلمون.(38/3)
ففي علم التربية والنفس: كانت كتابات ابن سينا والغزالي والماوردي تمثل الخطوط العامة الأساسية التي ما تزال هي القاعدة العامة للنظريات التربوية الحديثة والأصول التي قدمها ابن خلدون ما تزال أساس علوم العمران (أي الحضارة) والتاريخ والاقتصاد والسياسة، وعلى شبابنا أن يذكر دوماً أن رجال فكرة العربي الإسلامي هم الرواد في هذه المجالات وأن (الماوردي) أول من نادى بفكرة التأثير المتبادل بين الفرد والمجتمع، والموازنة بين حقوق الأفرد وحقوق الجماعة من غير تضحية أحدهما لحساب الآخر، كما تحدث عن الحافز الفردي وليذكروا أن (البيروني) قدم أهم نظرية اقتاصدية عن الإدخار واكتناز الأموال وإنفاقها، وعالج قضية كنز الأموال وعدم تركها للتداول. وبين الخطر الذي يترتب على ذلك. وقال أن الحركة من ضرورات الحياة فإذا وقفت الحركة حدثت أزمة اقتصادية هائلة.
وسبق (الغزالي): ديكارت وغيره بنحو ست قرون إلى القول بأن الشكوك هي الموصلة للحق، "فمن لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال".
وأن الغزالي سبق هربرت سبنسر أيضاً إلى تصوير الدولة أو المدينة بجسم الإنسان وقد شبه الغزالي الملك بالقلب، وأصحاب المهن الحرة بأعضاء الجسم والشرطة بعصب الإنسان والوزراء بحسن الإدراك والقضاة بالشعور.
وعرف العلماء المسلمون: بإخلاص العلم لله تبارك وتعالى. وتمحيص مادة البحث، وكراهية التعصب وبذل الجهد المحرر من المؤثرات في الأحكام والاحتياط أمام التاريخ القديم المأثور.
ويجب أن يكون في "مقدمة المناهج": إن العلماء العرب والمسلمين قد صححوا أخطاء علماء اليونان أمثال: بطليموس في نظريته القائلة بأن النسبة بين زاوية السقوط وزاوية الانكسار ثابتة وقال (ابن الهيثم): إن هذه النسبة لا تكون ثابتة بل تتغير وصدق العلم الحديث رأيه.(38/4)
وابن الهيثم هو الذي سبق بيكون في الطريقة الاستقرائية وسما عليه، وقد جمع ابن الهيثم بين الاستقراء والقياس وقدم الاستقراء على القياس. وحدد الشرط الأساسي في البحث العلمي وهو "طلب الحقيقة" دون أن يكون لرأي سابق أو نزعة من عاطفة أياً كانت دخل في الأملا، ويقول: ونجعل غرضنا في جميع ما نستقر به ونتصفحه استعمال العجل لا إتباع الهوى ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق إلا الميل مع الآراء.
ولنذكر أن (ابن القيم) أضاف في الشريعة والفقه نظريات عرفتها الدوائر القانونية في أوربا وقدرتها: من أمثال حرية النعاقد ومنع الحيل في الأحكام وإحياء أعمل الفضولي المحسن، والمحافظة على أموال الغرماء.
ولا يزال تاريخ العلم يذكر تلك الميزة الواضحة لمفهوم العلم في الفكر الإسلامي وهي اتحاد الدين والعلم وفي ذلك يقول هورتن: المستشرق الألماني في كتابه "استعداد الإسلام لقبول الثقافة الروحية":
"كان العرب في القرون الوسطى تقريباً إلى سنة 1500 م أساتذة أوربا، وإن ما نشأ من ظن الأوربيين من أن الإسلام لا يتمشى مع المدنية إنما جاء من عدم إلمامهم بحقيقة هذا الدين وعدم تعميقهم به، وفي الإسلام نجد اتحاد الدين والعلوم، وهو الدين الوحيد الذي يوحد بينهما ونجد فيه كيف أن الدين موضوع بدائرة العلم، ونرى وجهة الفيلسوف ووجهة الفقيه سائرين معاً ومتجاورتين كتفاً لكتف دونة نزاع".
ولنذكر أن فلاسفتنا وعلماءنا لم يتقبلوا الفكر اليوناني حين ترجم إليهم تقبلاً تلقائياً، ولكنهم نظروا إليه في تحفظ ونقد، وخالفوا أرسطو وأفلاطون وغيرهما من فلاسفة اليونان في كثير من النظريات والآراء فلم يتقيدوا بها بل أخذوا ما يتفق مع منهج التوحيد وصححوا ما لم يكن صحيحاً بالتجربة، وتركوا آثارهم وبصماتهم وطابعهم على مجاري الفكر الحديث.
لمناهج التعليم والثقافة مقدمات لابد منها:(38/5)
في مواجهة هذا التحدي الذي يقوده الغزو الثقافي الذي يحاول اليوم أن يسيطر على الأمة العربية والفكر الإسلامي نجدنا في حاجة إلى أ؟ن نتعرف على حقائق واضحة تختفي اليوم وراء المناهج التعليمية والثقافية التي تقوم بتدريسها الجامعات في العالم الإسلامي كله على نحو يحس معه الشباب بأن ما يقدم له في هذه الميادين وخاصة في ميادين الفلسفة والاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون، إن هذا الذي يقدم إنما هو منص ياغة الفكر الغربي وحده، فإذا توسع في ذلك شيئاً قليلاً فإنما هو مستمد من الفكر اليوناني والروماني السابق على الفكر الغربي، والمنفصل عنه بأكثر من ألف عام وحيث لا يذكر ولو على سبيل الاستعراض التاريخي أن الفكر الإسلامي كان له دوره وأثره الواضح والعميق في صياغة هذه المفاهيم والآراء والنظريات والمذاهب التي يزخر بها الفكر البشري اليوم سواء في نطاقه الديمقراطي أو الاشتراكي على السواء. لذلك فنحن في حاجة إلى أن نتعرف على هذه الحدود الواضحة والعلامات الصريحة لفكرنا العربي الإسلامي الذي يبدو أنها ضاعت أو أوشكت على الضياع في غمار التطورات والتحولات المستمرة التي تعتري الفكر والتي تتزايد على الدوام، بحيث تكاد تعزق تلك الجذور الأصيلة التي قدمها الفكر الإسلامي إلى الإنسانية وإلى الفكر البشري منذ بزوغ الإسلام والتي كانت باليقين بعيدة الأثر في تحوله ونموه، وتطوره وإخراجه من الحواجز الوثنية والطبقية الخطيرة، التي كان يعيش فيها ويتحرك من داخلها.(38/6)
إن من حق شبابنا العربي والإسلامي على مدى العالم الإسلامي وليس في الأمة العربية وحدها أن يعرف وهو يراجع نظريات الاجتماع والسياسة والتاريخ والاقتصاد والقانون أن فكرة العربي الإسلامي وأن أجداده العرب والمسلمين كان لهم أثر واضح في هذه النظريات. وإن من شأن هذا الفهم أن يزيد شبابنا قوة روحية وعقلية ونفسية تملأ مشاعره بالثقة وتدفع عنه تلك الشبهات الخطيرة والحرب النفسية المثارة عليه والتي تحاول ان تصوره وكأنه متسول لنظريات الغرب، هذه النظريات التي صاغتها العقول الغربية وحدها والتي فرض على العرب والمسلمين أن يأخذوها ليطبقوها في مجتمعاتهم، كأنما ليس لهم مفاهيم وقيم قدموها من قبل للفكر البشري فبنى عليها تلك الآراء والنظريات المستحدثة.(38/7)
ومن حق شبابنا في هذه الفترة الحاسمة الحرجة من تاريخ الأمة العربية أن تقدم للمناهج التعليمية والثقافية بمقدمات توضح هذا وتكشف عنه، وأن نقدم أسماء هؤلاء الأعلام وما قدموه من آراء استمدوها أساساً من القرآن الكريم (أبي) المفاهيم والقيم الإنسانية التي أهداها الفكر الإسسلامي للبشرية وكانت قد أهديت إليه عن طريق السماء في الأديان السابقة ولكنها صحفت وأصابها الاضطراب والتحريف وعندنا أن ذلك الفهم سيكون بعيد المدى عقلياً ونفسياً على مجرى الثقافة العربية وعلى التكوين الفكري والروحي لشبابنا، فإذا كنا اليوم قد فتحنا أبواب جامعاتنا لنظريات علمية مختلفة في الاجتماع والتاريخ والسياسة والاقتصاد والقانون، فإن لنا نظريتنا الإسلامية الكاملة التي قدمها الإسلام للبشرية جميعاً والتي اقتبستها أوربا في أوائل عصر النهضة ففتحت أمامها آفاق التحرر الفكري من قيود الكنيسة وقيود الوثنية وعبادة الفرد، وتبدو بواكير هذا الأثر واضحة في حركة لوثر وكلفن ودعوتهما إلى حرية الفكر وإلغاء الوساطة بين الله والإنسان وحق الإنسان في قراءة الكتاب المقدس وفهمه ومن ذلك تلك الثورات التي قامت لإزالة الصور من الكنائس وإزالة التماثيل.(38/8)
ولا يقف أمر الإسلام عند هذا الحد وحده بل يتجاوزه إلى إبداع المنهج العلمي التجريبي الذي قامت عليه الحضارة الحديثة كلها: هذا المنهج أبدعه المسلمون من منطلق القرآن الذي دعاهم إلى النظر في الكون، والذي كان مخالفاً مخالفة أساسية لمنهج اليونان الفلسفي والعلمي جميعاً: ذلك المنهج الذي وقف عند حدود افتراضات النظريات بينما اتجه المفهوم الإسلامي إلى التجربة أساساً، فصحح أخطاء فلاسفة اليونان وحول التنجيم اليوناني إلى علم الفلك بأصوله ومقاييسه واستطاع المسلمون أن يضيفوا إضافات واضحة في بناء الأصول الأولية وفي مقدمتها الأرقام ورقم الصفر بالذات وامتداد ذلك إلى العلوم الطبيعية والكيميائية في مختلف مجالات الطب والفلك والفيزياء.
وقد يقف كثير من الباحثين الغربيين عند هذا الجانب العلمي، معترفين بفضل المسلمين والعرب في هذا المجال، وهو أمر أصبح اليوم ذائعاً وشائعاً، بعد أن أغمضوا عنه الطرف طويلاً، ولكنهم لا يتعدوه إلى أثر الفكر الإسلامي في جالات الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والقانون مع أن يملك أوليات في هذه العلوم وإضافاته التي كانت بعيدة المدى وما تزال آثارها في الفكر العالمي واضحة وضوحاً لا سبيل إلى إنكاره.(38/9)
ولقد وقف الفكر الإسلامي موقفاً صريحاً واضحاً من الفلسفة الإلهية اليونانية فرفضها رفضاً صريحاً وأقر إيمانه الأساسي المستمد من "التوحيد" و "النبوة" وبذلك أنشأ فلسفته الذاتية المستقلة استقلالاً كاملاً عن مفاهيم الفلسفة اليونانية.. وإذا كانت هذه الفلسفة قد اغالت من قبل الديانتين اليهودية والمسيحية فأخضعتهما لها، وغلبت منطق أرسطو عليمها فإنها عجزت عن أن تفعل ذلك بالنسبة للإسلام، ومن الحق أن يقال: إن (الكندي والفارابي وابن سينا) قد قاموا بمحاولات في سبيل نقل منطق أرسطو إلى الفكر الإسلامي بكثير من التحوير لجعله قادراً على التشكل في إطار التوحيد والنبوة ولكنهم عجزوا لأن منطلق منطق أرسطو كان مرتبطاً أساساً بطبيعة الفكر اليوناني النظري، بينما كان الفكر الإسلامي بأصوله وأولوياته (تجريبياً) وإذا كان المفكرون المسلمون قد جروا شوطاً مع الفلسفة اليونانية ومنطق أرسطو فإنما فعلوا ذلك حين اتخذوها سلاحاً لمواجهة المتكلمين بها في مواجهة الأديان الأخرى، غير أن الفكر الإسلامي لم يلبث أن مر بهذه المرحلة سريعاً، وعاد إلى التماس جوهره، وذلك حين قرر منطلقه العلمي في المنهج العلمي التجريبي من ناحية وحين قرر الإمام الغزالي: إن أسلوب القرآن كالماء وأسلوب المتكلمين كالدواء والدواء يحتاج إليه المريض أما الماء فيحتاج إليه السليم والمريض، وأن أسلوب المتكلمين أسلوب ضرورة، ولكن أسلوب القرآن هو أسلوب الحياة الطبيعية الدائمة المستمرة. وحين نقرر مفهوم (المعرفة الإسلامي) وله جناحاه: العقلي والوجداني لا انفصال بينهما لا يستعلي أحدهما ولا ينفرد وحده. وحين كشف العلماء عن (منطق القرآن) الذي هو منطق المسلمين بديلاً لمنطق أرسطو واليونان فقد نجا الفكر الإسلامي من سيطرة الفلسفة اليونانية الوثنية واستطاع الإسلام أن يحتفظ بقيمه الأساسية ومفاهيمه الأصيلة.(38/10)
هذا كله قدمه الفكر الإسلامي للفكر البشري فحرره من قيوده ونقله نقلة واسعة من الاتجاه النظري إلى الاتجاه التجريبي ومن الوثنية إلى الربانية.
وشيء آخر قدمه الفكر الإسلامي وكان بعيد الأثر في الحضارة وإعلاء المفهوم الإنساني: ذلك هو دعوة "المساواة والإخاء بين البشر": الأسود والأبيض والعرب والعجم، وكان في ذلك قضاء على نظرية روما القائمة على الفصل بين السادة والعبيد، وفق قاعدة "روما سادة وما حولها عبيد" وعلى منطلق جمهورية أفلاطون الذي فرض للسادة التأمل والحكم وللعبيد العمل والعبودية والذل.
ومن مفهوم الإسلام نشأت كل مذاهب المساواة والعدل الاجتماعي والحرية.
والقرآن هو أول كتاب على وجه الأرض كشف عن النواميس الطبيعية والقوانين الثابتة، والتي تحكم المجتمعات والوجود كله، ومنه كان منطلق علوم الاجتماع.
ولم تكن النظرية التي قدمها ابن خلدون فبنى عليها العلماء قواعد الفلسفة الاجتماعية إلا مستمدة أساساً من القرآن. والقانون الفرنسي الذي كان مصدراً لقوانين كثير من بلاد العرب في العصر الحديث مستمد من فقه الإمام مالك وهو أحد مذاهب الشريعة الإسلامية، هذا إلى عشرات النظريات القانونية المستحدثة إنما استمدها الباحثون من فقهاء الإسلام.(38/11)
ويمكن القول بصفة عامة – أن الإسلام قدم للفكر البشري شحنة ضخمة من القيم الإنسانية العالمية التي كانت بعيدة الأثر في تطور الفكر الغربي وتحوله من جذوره الإغريقية الرومانية الوثنية تتمثل هذه الشحبة في الربط بين العقائد والمعاملات والأخلاق في إطار الإسلام، حيث لا انفصال بين الدين والحياة, أو بين الجسم والروح كما ربط الإسلام بين العلم والعمل، وحيث أطلق الإسلام العقل الإنساني من قيود التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى مستوى الاعتقد بحياة وراء هذه الحياة وخلص البشرية من الوثنية كما رفض الفكر الإسلامي تجسيد البطولة ورأى أن تقدير البطولة يكون بالرأي والفكر والاقتداء.
وليس في الإسلام خطيئة أصلية وإن كل إمرئ رهين بما يفعل كما كرم الإسلام كل الأديان وكل الأنبياء، وأقر عجز العقل وحده عن الوصول إلى الصواب وجعل بين الوجدان والعقل ترابطاً من الإيمان بالغيب أساساً لا تجاوز عنه كما رفض التقليد والتبعية سواء للماضي القديم أو للوافد من أي مكان.
ويمكن القول عن يقين أن الثورة الفرنسية في مفاهيمها ومبادئها أنما كانت تستمد جوهرها من الفكر الإسلامي، فقد قامت على أثر الدفعة الكبيرة التي أحدثها الإسلام في العقل الغربي وتؤكد ذلك العبارات التي جاءت على ألسنة رجال الثورة الفرنسية أنفسهم والذين كانوا قد طالعوا ثمرات الإسلام في الحكم والشورى والعدل والمساواة.
وقد كان رفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين التونسي هما أوائل العلماء المسلمين العرب الذين تنبهوا إلى أثر الفكر الإسلامي في الفكر الغربي الحديث في مختلف مجالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية وأشاروا إلى ذلك في أبحاثهم.(38/12)
كل هذه المقدمات بتفاصيلها يجب أن تكون في مقدمة دراسات العلوم، ولاشك أن ذلك يكون بعيد الأثر في النفس العربية، حافزاً لها على الثقة والإيمان والمقاومة فاليقين، لقد كان الفكر الإسلامي وكان العرب والمسلمون من أجدادنا هم صناع النظريات العقلية والعلمية التي دفعت الفكر الإسلامي هذه الدفعة الكبرى نحو النهضة والحضارة ونحن اليوم أحق الناس ونحن ندرس هذه العلوم المستحدثة والنظريات الغربية أن نعرف مصادرها وأولوياتها ودورنا في بنائها.
لابد من تحرير المناهج وتأصيلها:(38/13)
عملان هامان في مجال المناهج التعليمية والتربوية والثقافية: (أولاً): إضافة تلك الصفحات التي هي بمثابة الخلفيات والأصول والمقدمات التي سبقت الصورة القائمة في الدراسات فليس همناك علم من هذه العلوم التي ندرسها الآن في مدارسنا أو جامعاتنا إلا كان للمسلمين والعرب فيه دور وجهد وعمل هو بمثابة المقدمات التي مهدت للعلماء المعاصرين في وضع هذه العلوم في الصورة القائمة اليوم (ثانياً): تأصيل المناهج المطروحة في أفق التعليم والثقافة الإسلاميتين العربيتين وتحريرهما من الانحرافات والأخطاء وما يتصل بوجهات نظر الغرب إليها أو لما تأثر به نتيجة لمفاهيمه الدينية أو لغلبة الفكر الوثني والمادي عليه في هذه المناهج، فإن مناهج التاريخ والشريعة والاقتصاد والسياسة والتربية يجب أن تحرر من هذه الشبهات وهذه الأخطاء وهذه التبعية لتعود مرة أخرى إلى أصالتها واستمدادها من المبالغ الأصيلة التي قامت عليها في الأساس فإذا لم يقم المسلمون بهذين العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق العملين فستظل مناهجهم الدراسية والثقافية عاجزة عن أن تحقق لهم نهضة أو تقوم لهم عقلاً، أو تزكي لهم نفساً أو تدعم لهم مجتمعاً أو تبني هذه الأجيال لتكون قوة قادرة على مواجهة الأخطار والتحديات. وإذا لم نقم بإضافة هذه الصفحات الناقصة، وتعديل تلك الصفحات المنحرفة فإن المسلمين سيظلون يدورون في تلك الدائرة الصماء المظلمة المغلقة التي حبسهم فيها النفوذ الأجنبي ليظلوا عاجزين عن التحرر والقوة وامتلاك إرادتهم وبناء مجتمعهم على قواعد "الأصالة الإسلامية".(38/14)
(1)
الخنجر المسموم الذي طُعِن به المسلمون
ما هو الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون ؟!
ذلك هو السؤال الذي تلح الأحداث المتوالية في العالم الإسلامي على إلقائه وتطلب الإجابة عليه، وهو تساؤل مقدم اليوم على كل سؤال، لقد تحدث المصلحون عن مقاتل متعددة أصيب المسلمون بها في كيانهم وذكروها وأولوها اهتمامهم وبحثوا أمرها، ولكنهم لم يركزوا كثيراً على "الخنجر" الذي طعنوا به في هذه المقاتل، وأولى لهم أن ينتزعوه من جسمهم أولاً قبل أن يعالجوا مكانه النازف بالدم، ذلك لأنهم إذا لم ينتزعوه فسوف يظل ينزف وسوف لا يكون جدوى لشيء ما من إصلاح أو تصحيح أو تحرير أو علاج، إذ لابد أن يبدأ العمل من نقطة أولية:
هي نقطة الخنجر، ذلك الخنجر في تقديري وفيا وصل إليه اعتقادي واعتقاد الكثيرين من العاملين نفي دراسات التغريب والغزو الثقافي هو "التعليم" وما يتصل به من شأن التربية والثقافة، هذا هو الخنجر المغروس في الجسد الإسلامي، ومازال ينزف دماً، ولقد كان المستعمرون غاية في الدهاء عندما بدأوا معركتهم مع المسلمين والعرب من المدرسة وعن طريق برامج التعليم ومن خلال الإرساليات والسيطرة على أجهزة المعارف والتخلص من المناهج والمقررات والكتب التي كانت تدرس في مختلف أنحاء العالم الإسلامي والبلاد العربية الأزهر والزيتونة والقرويين ومعاهد الحديث ورجالها والعاملين بها وإحلال مناهج جديدة ومقررات جديدة وإذا كان يرمز إلى هذا بدنلوب في مصر فإن البلاد الإسلامية قد عرفت عشرات من أمثاله وأنداده.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعنا فإنما مرد ذلك كله إلى هذا الخنجر المدفون في أعماق الجسم الإسلامي.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن مجال التطبيق في مجتمعاتهم وحل محلها القانون الوضعي فإنما مرد ذلك إلى التعليم الذي خرج أجيالاً تحتقر الشريعة وتؤمن بعظمة قانون نابليون.(39/1)
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في لغتهم وبرزت دعوى العاميات في مختلف أنحاء الوطن العربي وغيرت الأبجديات في بعض الأقطار الإسلامية فإنما مرد ذلك إلى مناهج التعليم التي خدعت العرب والمسلمين بدعوى عظمة اللغات الأجنبية ودخول اللغة اللاتينية إلى المتحف فلماذا تبقى العربية العجوز. وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم الإسلامي للاقتصاد فإنما يرجع ذلك إلى أن المسلمين والعرب درسوا في مدارس الإرساليات وفي المدارس الوطنية الموجودة في العالم أن الربا هو القاسم المشترك الأعظم على كل الأنظمة والمشروعات.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم السياسي الإسلامي فإنما يرجع ذلك إلى تلك الصور الزاهية التي قدمت لهم في مدارسهم وجامعاتهم عن الديمقراطية والليبرالية والجماعية وغيرها من أنظمة الغرب فخدعهم.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في مفهومهم للعلم فإنما يرجع ذلك إلى تلك المقررات المدرسية والجامعية التي ترد العلوم الحديثة من كيمياء وفيزياء وفلك وطبيعة وتكنولوجيا إلى علماء الغرب وحدهم متجاهلة ذلك الدور الخطير الذي قام به المسلمون والعرب في بناء الطابق الأساسي من منشئة العلم وأنهم هم الذين قدموا المنهج العلمي التجريبي إلى البشرية كلها.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفاهيمهم الاجتماعية فإنما مراد ذلك إلى مناهج التعليم الذي يدرس المجتمعات الغربية ومنهج مدرسة العلوم الاجتماعية الذي يقوم على إنكار فطرية الأسرة وأصالة الدين وثبات الأخلاق ويدعو إلى التطور المطلق وإلى الجيرية الاجتماعية، كل ذلك بدراسة أبناء المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم على أنه حقائق مقررة، لا على أنه نظريات مؤقتة مرتبطة ببيئاتها وعصورها، قابلة للخطأ والصواب لأنها من نتاج عقليات بشرية تخطئ وتصيب.(39/2)
هذا هو الخطر الواضح من وراء الخنجر الذي طعن به المسلمون ومفهوم هذا الخطر أن النفس الإسلامية في العالم الإسلامي كله من حيث أنها قد انحسرت في بيوتها مفاهيم الثقافة الإسلامية القائمة على القرآن والسنة، وضعفت القدرة التي تبني الشباب، فإنها تسلم إلى المدرسة شباباً غضاً، يحس بالفراغ في مجال وجدانه وعاطفته وفكره، فلا يجد إلى مفاهيم الإسلام سبيلاً، ثم إذا به يلتقي بتلك المفاهيم التي تصور له فكر الغرب على صورة العقيدة، وتملأ نفسه بحب تاريخ الغير، وترفع في نظره شأن لغة الغريب وتقدم له العلم والاقتصاد والقانون والاجتماع من نتائج مجتمعات أخرى على أنه هو الفكر الإنساني والثقافة البشرية.
وأين الفكر الإسلامي في ذلك كله والمسلمون لهم منهج حياة كامل وله مفهوم جامع للحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية.
هذا كله مما لا يزال ضائعاً ولا يزال ناقصاً ولا يزال مهملاً.
ومن هنا فإن النفس المسلمة التي عجزت عن أن تملأ فراغها الروحي والفكري بمقدراتها وقيمتها لا تلبث أن تملأه بأي شئ، وبما يقدم إليها زاهياً براقاً في كتب ملونة مزخرفة، بينما هي تعجز عن أن تجد من فكرها ما يرد عنها الخطر أو يصحح لها الخطأ أو يزيح عن نفسها الشبهات.
تلك هي القضية الأولى أيها السادة في التحدي الخطير الذي يواجهه المسلمون اليوم في كل مكان، ومن هذه النقطة نصل إلى كل قضية وكل أزمة، وكل موقف ومن خلال الطريق الطويل استطاعت قوى الصهيونية والاستعمار والشيوعية أن تحقق ما وصلت إليه لأنها استطاعت أن تبث فكرها في النفس الإسلامية وأن تحتويها وأن تنقلها من دائرة الإسلام المرنة الجامعة المتكاملة الوسيطة إلى دائرة الغرب المغلقة القاتلة.(39/3)
ومن هذه النقطة نصل إلى كل ما تطمعون فيه من وحدة وتقدم وقيام أمة الإسلام في أرضها بدورها الرباني الإنساني العالمي الذي هو مفروض عليها والذي هو حق في أعناقنا جميعاً والذي يجب أن نلقى (الله) عليه صادقين وإلا فنحن آثمون مقصرون مأخوذون بجريرة الذنب.
لكي نفهم هذه القضية الكبرى أعمق فهم لابد أن نبحث عن أبعادها إلى أقصى مدى ولا نقع في الأخطاء التي فرضها علينا نفوذ الدائرة المغلقة بأن نقصر البحث على ما هو أمامنا من واقع لأن كل واقع أمامنا لابد أن يكون متصلاً بأبعاد أخرى غير منظورة في المكان أو التاريخ ونحن في الإسلام نؤمن بالتكامل والنظرة الجامعة ونرى كل العناصر مؤدية إلى بناء عمل واحد فلا نفرق بين التربية أو الأخلاق أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة أو الفن.
كذلك فنحن في واقعنا القائم يجب أن تكون نظرتنا ممتدة إلى يوم أن بعث الله رسوله بهذه الرسالة من ناحية وإلى اليوم الآخر الذي يقع فيه الجزاء حتماً وأن نعرف أن روابطنا بالأمم ليست حديثة وإنما هي قديمة جداً، وليست اقتصادية أ وسياسية أو دينية وإنما هي كل هذا.
ولنعرف الحقيقة الكبرى التي رسمها القرآن وهي أن عالم الإسلام تكون من قلب عالم أهل الكتاب وهو منذ وجد في صراع معه وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
هذا هو التحدي القائم الذي يجب أن يظاهر حياة المسلمين وحضارتهم ولا يغيب عنهم لحظة، ذلك أن الأمم لا تموت إلا إذا فقدت عنصر التحدي أو الطموح، ولقد كانت أزمة المسلمين في مرحلة ضعفهم وتخلفهم هي فقدان عنصر الطموح والاستنامة إلى ما وصلوا إليه، هنالك اندفع العدو الذي يرقبهم وينتظر منهم لحظة غفلة فأدال منهم.(39/4)
(ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة)، فليأخذ المسلمون بالحذر ليجعلوا التحدي نصب أعينهم، هذا التحدي الذي هو صورة مغايرة لهدف محدد يتكرر تحت أسماء مختلفة في التاريخ من حروب صليبية في المشرق إلى حروب الفرنجة في المغرب إلى حروب التتار إلى الاستعمار الحديث إلى الصهيونية العالمية إلى الدعوات الهدامة من شيوعية وإباحية والحادية ووثنية ومادية.
ونحن نعرف أن معركة حاسمة دارت بين الإسلام والغرب هي معركة الحروب الصليبية، وقد عاشها المسلمون بالمقاومة والجهاد مائتي عام وانتهوا منها بالنصر، ولكن هل كان هذا هو نهاية الشوط بالنسبة للغرب، وهل توقف طموحه للسيطرة على أرض الإسلام وبلاد الإسلام، أن شيئاً من ذلك كله لم يحدث، لقد استمرت المؤامرة واضطردت وتبلورت في مفهوم جديد.
كان ذلك المفهوم يتصور أن المسلمين قد غلبوا الغرب وهزموه لأنهم متقدمون حضارياً وعسكرياً فلابد من هزيمتهم حضارياً وعسكرياً، فانقض الغرب على ميراث المسلمين ونقل منهج العلم التجريبي وانطلق وسبق به المسلمين حتى كانت معارك الدولة العثمانية مع الغرب في أخرها تمنى دائماً بهزيمة المسلمين لأمر واحد هو أن الغرب استحدث أساليباً في الصناعة والحرب عجز عنها المسلمون.(39/5)
غير أن الغرب لم يقف عند هذا في صراعه ومؤامراته ولكنه وصل إلى مقطع الأمر كله وذلك عندما قرر أن تكون الحرب الموجهة إلى عالم الإسلام هي حرب فكر، ذلك أن المسلمين مهما تخلفوا في ميادين الصناعة والعلم فسوف تبقى لهم عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والتي تدفع بألوفهم إلى ساحات الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الحق، وعن الأرض، وعن العرض، إذن فالمعركة يجب أن تبدأ أولاً من هذه النقطة الخطيرة ولابد من تزييف هذه العقيدة وامتصاص ما فيها من قوة وجهاد وإيمان حتى يفقد المسلمون هذا السر الخطير الكامن في نفوسهم، وقد تصور الغرب أنهم عندئذٍ يصبحون قطيعاً من السائمة التي تنطوي وتقهر، ومن هنا بدأت المعركة أطلق عليها أسماء كثيرة:
(التبشير، الاستشراق، التغريب، الغزو الثقافي، الاحتواء).
الوثيقة الأولى:
لقد وضعت الخطة منذ وقت مبكر وإن لم تستكشف إلا بعد سنوات طويلة وكانت أولى علاماتها المستكشفة في وصية لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة بما يمكننا من القول بأن نهاية الحروب الصليبية كانت بداية المخطط الجديد للغزو الثقافي والفكري ودحر الإسلام كفكر بعد العجز عن دحر أمته.
وتعد وصية لويس التاسع أخطر وثيقة في هذا الاتجاه فهي التي فتحت الباب واسعاً أمام عملية التبشير والاستشراق.
وعلى أثرها مباشرة بدأت حركة أوربا المعروفة إلى ترجمة القرآن والتعرف على الإسلام، وبدأت نواة التبشير والاستشراق في المعاهد الأوربية: دراسة للغة العربية والإسلام والقرآن بمفهوم الرد عليه وإنقاصه وإثارة الشبهات حوله.(39/6)
وقد ظاهر هذه الحركة عملية "سرقة" التراث العربي الإسلامي من البلاد العربية والإسلامية بواسطة القناصل والتجار وأستميحكم العذر في أن أقول "سرقة" لأن عملية الاستيلاء على الفكر الإسلامي في الأندلس أيضاً كانت "سرقة" بالرغم من أن المسلمين كانوا يؤمنون بأن العلم للجميع حتى العلم التجريبي الذي هو الآن من أسرار الأمم الحديثة والتي عجز المسلمون والعرب خلال قرن ونصف قرن في الحصول عن أصوله ومعادلاته.
أما المسلمون فكانوا يعملونه في جامعات الأندلس وجزيرة صقلية في حرية تامة، غير أن الغرب في تناهي حقده لم يقف عند هذا الحد، بل إنه عزل الموقع الإسلامي كله وصادره بما في وأخرج من المسلمين إخراجاً، وكذلك فعل في الأندلس حيث أحرزت أوربا كل ثمرات النتاج الإسلامي العلمي والفكري بأرضه ومعامله ومعاهده وحوائطه، ولم تبق للمسلمين حتى مجرد القدرة على استئناف تجاربهم وهم في أرض أخرى هاجروا إليها.(39/7)
لقد عكف لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة خلال محبسه في دار ابن لقمان يفكر ويستعرض هذه الحملات الصليبية المتوالية على بيت المقدس ودمشق ومصر وكيف هزمت هزيمة منكرة وكيف هزمت حملته في قلب دلتا النيل، وسبق إلى الاعتقال، وكيف كان المصريون والعرب المسلمون يقاتلون ببسالة عجيبة في الدفاع عن بلادهم خلال سبع حملات متوالية ووصل إلى نتيجة حاسمة: هي أن المسلمين لا يهزمون ما دام فكرهم باقياً وما دامت عقيدتهم قائمة، ذلك لأنهم تدفعهم في قوة إلى الاستشهاد في سبيل حماية الزمار ومقاومة الغاصب وتطهير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض ديناً وعقيدة ولذلك فإن سبيل الغرب إلى الانتصار على المسلمين والسيطرة على أرضهم يجب أن تبدأ أولاً من حرب الكلمة ولابد من أن تقوم في الغرب قوى من الباحثين والدارسين يترجمون القرآن ويدرسون العربية ويعملون على القضاء على تلك المفاهيم القوية التي تتصل بالجهاد في سبيل الله، فإذا استطاع الغرب أن يفعل ذلك فقد استطاع أن يقضي على القوة الروحية والنفسية القائمة وراء تلك المقاومة الجبارة وعندئذٍ يمكن للغرب السيطرة على العالم الإسلامي ومن هذه النقطة بدأت حرب الكلمة بالتبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي والسيطرة على التعليم والتربية والثقافة والفكر والصحافة، وقد استطاعت هذه الخطة أن تحقق للغرب انتصاراته التي يمكن أن يطلق عليها الاستعمار الغربي الحديث، ولا ريب أن وثيقة لويس التاسع تنصح بهذا الاتجاه الخطير وتدعو إليه.
ولقد بلغ لويس درجة القداسة في نظر الغرب؛ لأنه حمل الصليب وحارب به في مصر، ثم كانت حملته التاسعة المشهورة على تونس.(39/8)
وإذا كانت الحملات الصليبية ثم توقفت منذ استعاد المسلمون عكا بقيادة الأشرف خليل عام 690 هجرية/ 1291 ميلادية، وعلى أثر ذلك قامت الدولة الإسلامية العثمانية الكبرى بعد تسع سنوات لا غير من سقوط الحروب الصليبية وهزيمة أوربا، هذه الدولة التي استمرت حتى عام 1337 هجرية الموازية لعام 1918 الميلادي أي أنها استمرت تحمل لواء الإسلام خمسة قرون ونصف القرن.
نقول إذا كانت الحملات الصليبية قد توقفت منذ عام 690 هجرية فإن أوربا لم تتوقف فقد استأنفت حركتها مرة أخرى بعد وقت قصير حين تدافعت بعد سقوط الأندلس على الطريق الأفريقي من ناحية الغرب دون توقف: الأسبان والبرتغال ومن ورائهم الإنجليز والفرنسيين والهولنديين.
أما في أفق البلاد العربية فإن عام 830 كان علامة الخطر حين بدأت فرنسا في غزو الجزائر وامتدت المعركة إلى تونس فمصر والسودان. منذ ذل كاليوم بدأت طلائع التبشير تعمل وأخذت حركة الاستشراق تزدهر وكانت بؤرة العمل هي ساحل البحر الأبيض الشرقي: في مواجهة الشام من الشرق وإستانبول من الشمال ومصر من الجنوب.
وانتقلت المطابع وبدأت المدارس وتصارعت قوى البروتستانتية الأمريكية والكاثوليكية الفرنسية على تقديم مناهجها.
ثم جاءت حكومات الاستعمار في كل البلاد العربية فأخذت مناهج مدارس الإرساليات ونفذتها تواً.
وفي عديد من مصادر تاريخ اللقاء بين الشرق والغرب نجد إشارة إلى وصية لويس التاسع الذي كان أول من أشار إلى تجنيد المبشرين الغربيين في معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام ووقف انتشاره ثم القضاء عليه معنوياً واعتبار هؤلاء المبشرين في تلك المعركة جنوداً للغرب.(39/9)
وإذا كانت الحروب الصليبية منذ بدأت 1299م وانتهت 1499 فإن انسحاب المسلمين من الأندلس انتهى 1493 وكان ذلك بعد انم استولى محمد الفاتح على القسطنطينية عام 1354 (857 هجرية) في ظل ذلك كله بدأ العمل تواً على إنشاء قاعدة للغرب في قلب الشرق العربي يتخذها نقطة ارتكاز له ومعقلاً لمعركته العقائدية الفكرية التي تستهدف حصار الإسلام والوثوب عليه.
وقد اختيرت هذه الأراضي على شاطئ البحر الأبيض الشرقي مسرحاً لهذا العمل منذ ذل كالوقت وتحرك العمل بين بيروت والقاهرة والقسطنطينية. وفي نفس الوقت الذي كان عمل مماثل يتحرك في تونس والجزائر ومراكش، وأعمال أخرى في المناطق الإسلامية في الهند وفي جاوة وأندونيسيا والفيليبين.
الوثيقة الثانية:
أما الوثيقة الثانية فهي تقرير من أحد معاهد الإرساليات بقلم الأستاذ نبيه أمين فارس يكشف فيه إبعاد الخطة كلها وهي في نظرنا وثيقة تطبيقية لمخطط لويس التاسع يقول: "بينما كان الشرق الأدنى مطمحاً لأفكاره بناء الإمبراطوريات كان أيضاً مطمح إنظار جماعة أخرى من الناس تنشد أن تنجز عن طريق "الكلمة" ما عجز أجدادها الصليبيون عن تحقيقه عن طريق السيف. وبعبارة أخرى تنشد احتلال مهد المسيحية وإخضاع العالم كله للمسيح. إن هذا الحلم المسيحي قديم-قدم المسيحية ذاتها وهو يستمد وحيه الدائم من الوصية العظمى كما سجلها أبو المبشرين، القديس بولس.(39/10)
ولعل سبب سيطرة هذه الوصية كرة أخرى على عقول المسيحيين يعود إلى اليقظة الدينية التي عمت إنكلترا في أواخر القرن الثامن عشر، واليقظة الدينية المقابلة لها في الولايات المتحدة التي تمثلت فيما سمى بروح إنكلترا الجديدة، وعلى ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر ظهور كثير من الجمعيات التبشيرية التي كرست نفسها لحمل الإنجيل إلى جميع البشر، ويمكن أن يضاف إلى هذين العاملين عامل آخر هو ازدياد المطامع السياسية والاقتصادية في ممتلكات رجل أوربا المريض (يقصد الدولة العثمانية الإسلامية) ومن المحتمل أن يكون لهذا العامل الأخير علاقة باختيار الشرق الأدنى ميداناً مفضلاً للنشاط التبشيري.
ومن أهم هذه الجمعيات التبشيرية التي ظهرت في هذه الفترة: الجمعية التبشيرية الكنسية التي أسست في لندن 1799 والمجلس الأمريكي لمندوبي البعثات التبشيرية. وقد أرسل المجلس الأمريكي بعد تسع سنين من تأسيسه أول مبشرة إلى الشرق الأدنى، ولما كانت المشكلة الأولى التي واجهت أولئك المبشرين هي اختيار مركز ملائم لهم. وقدم سوريا 1823 مبشراً آخرين وانتقلوا إلى بيروت وكان غرض البروتستانت أن يتمكنوا بالاشتراك مع كنائس الشرق الناهض من كسب الكفار إلى دين المسيح غير أنهم سرعان ما وجدوا أن الإسلام لم يكن قد فقد سيطرته على قلوب المؤمنين وصمم المبشرين منذ البداءة على استعمال الكلمة حيث فشل استعمال السيف، وفي سبيل هذه الغاية أسسوا المطبعة الأمريكية أولاً في مالطة 1822 ثم في بيروت 1834، وأخذوا يفتحون مدارس للبنين والبنات بصورة منتظمة حتى بلغ عدد هذه المدارس ثلاثاً وثلاثين في أقل من هذا العدد من السنين وعكفوا على إنجاز تلك المهمة العظيمة: مهمة إعداد ترجمة عربية صالحة مقروءة للتوراة.(39/11)
وعدوا فوق ذلك حمل لواء الحرية الدينية بصورة خاصة والمطلقة بصورة عامة(1).
الوثيقة الثالثة:
ومن الجزائر تقدم تقم هذه الوثيقة: من قلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي نشرها في الفتح عام 1931.
"إن هؤلاء الأوروبيين الفاتحين المبعدين للأحرار المحربين للديار مازالوا يحرمون عبيدهم من كلمة الجهاد ويعدون ذكراه فضلاً عن فعله من أعظم الذنوب وهو آية الهمجية والتعصب الديني الممقوت، وبلغ بعضهم الأمر أن حرموا على المسلمين تفسير آيات الجهاد في كتب الفقه وبعيني شاهدت صحيفة الأذن Permited التي حصل عليها شيخنا محمد بن حبيب الله الشنقيطي رحمه الله في مدينة المشربة قسم وهران من الجزائر وفيها أن الإذن بتدريس علوم الدين مقيد بأن المدرس لا يفسر أي آية أو حديث يدل على الجهاد وأن لا يدرس شيئاً من أبواب الجهاد في كتب الفقه ولما راجت دعاية هؤلاء في الشرق صار المسلمون ينفرون من لفظ الجهاد".
ويعد المبشرون أن أولى فرصتهم جاءت بعد سقوط السلطان عبد الحميد عام 1908 حيث أمكن منذ ذلك الوقت تفسيخ الدولة العثمانية وتوسع بعثات التبشير على النحو الذي حقق تنفيذ مناهج التعليم على النحو الذي رسمته مخططات الغزو حتى ليقول الدكتور زويمر زعيم المبشرين وكبيرهم في الشرق في مثل هذا التاريخ الذي نقلنا فيه وثيقة الجزائر تقريباً ما يأتي:
إن السياسة الاستعمارية لما قضت من نصف قرن –أي منذ عام 1882 تقريباً- على برامج التعليم في المدارس الابتدائية أخرجت منها القرآن ثم تاريخ الإسلام وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية. ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقاً فلا للدين كرامة ولا للوطن حرمة.
الوثيقة الرابعة:
__________
(1) مجلة الأبحاث أيلول-سبتمبر 1958، م 11، ص 383.(39/12)
وهذه الوثيقة يقدمها عميد المبشرين في البلاد العربية في الثلاثينات (وهي أخطر مراحل تاريخ العالم الإسلامي الحديث فهي مرحلة تكوين الأسس والقواعد والخطط التي خرجت من بعد نتائجها الخطيرة).
يقول صمويل زويمر في تقريره في مؤتمر المبشرين سنة 1924: "في كل حقل من حقول العمل يجب أن يكون العمل موجهاً نحو النشء الصغير من المسلمين وموزعاً فيما بينهم ليحيط بهم وليكونوا منه على صلة مباشرة، ويجب أن يقدم هذا على كل عمل سواه في الأقطار الإسلامية فإن تنور روح الإسلام في الناشئ الحديث يبتدئ باكرا من عمره فيجب والحالة هذه أن يؤتي بالنشء الصغير من المسلمين قبل أن يتكامل نمو عقليتهم وأخلاقهم وحينئذ يستعصي على المبشر ولم يزل التعليم التبشيري هو أفضل طريقة للوصول إلى المسلمين".
ويعود في المؤتمر التالي بعد عشر سنوات 1933 فيصور ما تحقق من نتائج وما يجب التأكيد عليه في المرحلة القادمة في مؤتمر المبشرين في القدس"
"إن مهمة التبشير الذي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية فإن ذلك هداية لهم وتكريماً. وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية.
هذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السابقة خير قيام.(39/13)
لقد قضينا في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية تلك التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية. ولذلك جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده له الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل ولا يعرف أهمية في دنياه إلا الشهوات فإذا تعلم فللشهوات وإذا جمع فللشهوات وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل المال يجود بكل شئ.
وفي نفس الطريق تقول المبشرة (أنامليجان):
"ليس ثمة طريق إلى حسن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة، إن المدرسة أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير الدين المسيحي، هذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوماً قادة أوطانهم.
الوثيقة الخامسة:
وهنا وثائق أخرى حية: تتمثل في أفراد وأحداث، أما في 1909 فقد ثار الطلاب المسلمون في إحدى مدارس الإرساليات الكبرى لإجبارهم على الصلاة المسيحية يومياً فأصدرت هذه الكلية بياناً قالت فيه:
"إن هذه الكلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي هم اشتروا الأرض وهم أقاموا الأبنية ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده فيعرض منافع الحقيقة المسيحية على كل تلميذ وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب أن يعرف سابقاً ماذا يطلب منه.
ثم جاء النص الآتي: "إن الكلية لا تؤسس للتعليم العلماني ولا لبث الأخلاق الحميدة ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة وأن تكون مركزاً للنور المسيحي".
الوثيقة السادسة:
قد كشف ذلك طالب عربي معروف هو عبد القادر الحسيني (ابن كاظم باشا الحسيني وبطل معركة القسطل فيما بعد) الذي وقف في حفل توزيع الدبلومات في إحدى العواصم العربية على المنصة وفي يده الشهادة التي أخذها ثم اتجه إلى الحاضرين وكانوا علية القوم وقال:(39/14)
"إن هذه الجامعة تظهر أمام الناس في مظهر المدرسة العلمية ولكنها في الحقيقة بؤرة إفساد للعقائد الدينية وهي تطعن في الدين الإسلامي ولذلك لا يصح للمسلمين أن يبقوا أولادهم بها".
كان ذلك يوم 27 مايو 1932.
فاهتزت الدنيا للحدث وأسرع المبشرون الأساتذة يمزقون الدبلوم من يد الطالب وينهرونه، ولم يلبث عبد القادر أن نشر قصته في الصحف وأعلن عن الكتب المقررة التي تهاجم الرسول والإسلام وحاولت الجامعة أن تتنصل وتقول إن هذه الكتب ليست مقررة.
***
وكان الدكتور وطسون مدير الجامعة قد أعلن قبل ذلك بقليل.
إن المعتقدات الإسلامية آخذة في الانحلال وأنها غير ملائمة للحالة الحاضرة وأن الجيل الناشئ الذي تنصل به نراه مهتماً كل الاهتمام لا بالإسلام ولكن بالمسائل المادية والإلحاد، ونحن نسر حين نستطيع أن نجعل فتى مسلماً يقبل مبادئ المسيحية ووحي المسيح.
وقال الدكتور وطسون:
"وإننا نراقب سير القرآن في المدارس الإسلامية ونجد فيه الخطر الداهم ذلك أن القرآن وتاريخ الإسلام هم الخطران العظيمان اللذان تخشاهما سياسة التبشير".
الوثيقة السابعة:
وهناك وثائق تشهد على أصحاب المخطط نفسه ذلك أنه عندما بدأت حركة التغريب التي تضم التبشير والاستشراق في تقييم عملها تقدم خمسة من المستشرقين لدراسة العالم الإسلامي كله وقدموا تقارير شاملة عن مختلف الأقطار نشرت تحت عنوان هوزر إسلام (المترجمة وجهة الإسلام).
وفيها يتحدث كبيرهم هاملتون جب عن التعلم فيقول -وهي وثيقة أخرى نقدمها للباحثين:(39/15)
"إن إدخال طرائق جديدة في البلاد الإسلامية كان سيطلب نظاماً جديداً في التربية من عهد الطفولة في المدارس الابتدائية والثانوية قبل الانتقال للدراسات العالية، وأن إصلاح التعليم على النحو لم يكن في ذلك الوقت يخطر على بال السلطات المدنية الإسلامية، ولكن هذا الفراغ ملأه هيئات أخرى؛ فقد انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر شبكة واسعة من المدارس في معظم البلاد الإسلامية ولاسيما في تركيا وسوريا ومصر وذل يرجع غالباً إلى جهود جمعيات تبشيرية مسيحية مختلفة. وربما كان أكثرها عدداً المدارس الفرنسية وقد كانت المدارس الإنجليزية في الإمبراطورية العثمانية أقل منها في الهند وكانت المدارس الهولندية قاصرة على جزء الهند الشرقية.
هذه المدارس صاغت أخلاق التلاميذ وكونت أذواقهم والأهم أنها علمتهم اللغات الأوربية التي جعلت التلاميذ قادرين على الاتصال المباشر بالفكر الأوربي فصاروا في سبيل حياتهم مستعدين للتأثر بالمؤثرات التي فعلت فعلها أيام الطفولة (أي التعليم على الطريقة المسيحية).
وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطة إلى أبعد حد من ذلك بإنماء التعليم العلماني تحت الإشراف الإنجليزي في مصر والهند، ولعل هناك نصيباً من الحق في التهم التي ترمي بها هذه المدارس الأجنبية من أنها مفسدة لقومية التلاميذ وإن كنا لا نستطيع القول بأن التطورات السياسية التي أعقبت ذلك في البلاد الإسلامية أيدت هذه التهمة.
ولكن الذي فعلته بلا ريب أنها ربت في التلاميذ خروجاً على الأنظمة الاجتماعية وأضعف من هذه الوجوه سلطان النزعة الإسلامية القديمة على التلاميذ وأخلت في بناء المجتمع الإسلامي أداة هامة وقطعت بعض الأوامر التي كانت تربطه وتحفظه".(39/16)
ويقول جب راسماً خطة المستقبل: "لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم آثرا يجعلهم في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد ولا ريب أن ذلك خاصة هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار".
هذه صورة سريعة للخنجر الذي غُرس في جسم الأمة الإسلامية جاءت بعد خمسين عاماً محققة للهدف مكونة للأجيال التي أرادها الاستعمار.
تحقق هذا منذ أن دعاء إليه لويس التاسع وحدده غلادستون عندما وقف في مجلس العموم البريطاني ومعه المصحف الشريف وقال: "إننا لا نستطيع أن نحكم المسلمين مادام هذا الكتاب باقياً في الأرض".
ثم جاء كرومر وقال: "جئت لأمحو ثلاث: القرآن والكعبة والأزهر"، وجاء تقرير لورد دوفرين إلى اللور جرانفيل وزير خارجية إنجلترا بعد الاحتلال البريطاني لمصر محدداً الخطة التي توقف نمو الأزهر وتركز على التعليم المدني وترفع من شأن العامية وتخفض من شأن القرآن. قال دوفرين في تقريره الذ نشرته "المقتطف" في المجلد السابع ص 668: "إخال أن أمل التقدم في مصر ضعيف طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية، لغة القرآن، كما في الوقت الحاضر حالة كونها لا تتعلم اللغة العربية الدارجة؛ لأن نسبة اللغة المصرية الدارجة إلى لغة القرآن كنسبة الإيطالياني إلى اللاتيني والإغريقي القديم، وعربية الفلاح لغة قائمة بنفسها وقواعدها خاصة بها، وإذا لم توجد الاحتياطات الفردية للحصول على النتائج المقبلة في المدارس العديدة التهذيبية التي أشرت إليها يستمر الجيل الجديد كسابقه وغير صالح لخدمة وطنه، وساء كان للقيادة العسكرية أو في الصنائع أو في الخدمات، وتبقى عبارة مصر للمصريين كما كانت اسماً بلا مسمى".
ولقد كانت مهمة كرور واضحة ومستمرة؛ فهو دائب في كل عام أن يرددها:(39/17)
"في مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أشياء كثيرة فيمكن أن تحدثه نفسه يوماً بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يداً لا تعرف حرمة القديم، فيكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقاً لإرشاد قوم لا شأن لهم في الأمر (يعني الإنجليز)؛ لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي، فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في الإصلاح ويلاقوا الأمر قبل حلوله".
هذا في مصر، والتاريخ يحفظ مثله في تونس والمغرب والجزائر لكرومرها ودنلوبها: وفي كل بلد إسلامي كرومر ودنلوب يجري على نفس الخطة وينفذ نفس المخطط.
ويعلق اللورد لويد (المندوب السامي في مصر) بعد كرومر بعشرين عاماً في كتاب له تحت عنوان (مصر منذ أيام كرومر) على خطة التعليم فيقول:
"إن التعليم الوطني (في مصر) عندما قدم الإنجليز كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين والتي كانت أساليبها الجافة تقف حاجزاً في طريق أي إصلاح تعليمي وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدراً عظيماً من غرور التعصب الديني، فلو أمكن تطوير الأزهر لكانت هذه خطوة جليلة الخطر، فليس من اليسير أن يتصور لنا أي تقدم طالما ظل الأزهر متمسكاً بأساليبه هذه، ولكن إذا بدا أن مثل هذه الخطوة غير متيسر تحقيقها فعندئذٍ يصبح الأمل محصوراً في إيجاد التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح" اهـ .
وقد حقق الاستعمار هذا تماماً حين فرق التعليم في العالم الإسلامي إلى ديني ومدني فجمد الأول وحجب تخريجه عن مناصب القيادة ودفع الثاني دفعة قوية إلى الصراع والتعارض والخصومة وأعلاه في خبث ومكر شديدين.(39/18)
وجملة القول في هذا أن الخنجر الذي طُعِن به المسلمون قد وُضِع بذكاء في موضع القلب وقصد به أن تكون المناهج كلها وخاصة في العقيدة والتاريخ واللغة قائمة على أساس فلسفة الغرب ومفاهيمه وإعلاء شخصيته وتاريخه وحتى يكون تاريخ الإسلام وعقيدتهم ولغتهم هي موضع احتقار شبابها ومثقفيها. ولن أحدثكم عن النتائج فأنتم تعلمونها وأن كل ما يتصل بأزمة المسلمين والعرب اليوم إنما مرده إلى هذا الخنجر المغروس قريباً من القلب وهو ما يزال ينزف بغزارة. أناشدكم الله أن تبحثوا عن السبيل الذي يمكنكم من اقتلاعه وتضميد جراحه.
أنور الجندي(39/19)
سلسلة على طريق الأصالة
41
أخطاء في كتابة التاريخ الحديث
(1)
تعرض التاريخ الحديث لموجات من التحليل والتفسير اختلفت باختلاف المدارس التاريخية الغربية التي حاولت أن تصدر أحكامًا من وجهة نظرها أولا كغرب، وخاصة فيما يتعلق بتاريخ الإسلام وعلاقات المسلمين بالغرب، صدرت هذه الأحكام تحت تأثير طابع الاستعلاء الغربي في النظر إلى الأشياء وتفسيرها، ومن حيث النظرة المستمدة من غرب حاكم مسيطر ومستعمر على عالم الإسلام الذي وقع تحت تأثير النفوذ الغربي منذ سقطت الدولة الإسلامية في الهند تحت النفوذ البريطاني وسقطت منطقة أرخبيل الملايو تحت النفوذ الهولندي، بل يرجع إلى أبعد من ذلك، عندما تدافعت قوات أسبانيا والبرتغال لضرب المغرب العربي والزحف على غرب إفريقيا في بدء مرحلة يمكن أن يطلق عليها جولة الاستعمار الغربي الحديث التي وصفها الغرب بأنها تتمة للحروب الصليبية التي سبقتها بأكثر من ثمانمائة عام، ولقد كان من شأن هذا الصراع بين عالم الغرب وعالم الإسلام أن شكل من خلال حركة الاستشراق مفهومًا خاطئًا وتفسيرات متعصبة لحركات الإسلام الحديث ومراحل تاريخه، فقد صدرت هذه المفاهيم وهذه التفسيرات من وجهة نظر الغرب القائمة على التعصب والخلاف والخصومة، فهي ليست خالصة لوجه الحق، وإنما يغلب عليها الهوى والحقد، هذا فضلا عن أن مقاييس التفسير التاريخي الغربي، هي مقاييس مستمدة من التاريخ الغربي نفسه، ولذلك فهي ليست صالحة لتفسير التاريخ الإسلامي الذي يستمد قوانين تفسيره من أصوله ومقوماته، ولا ريب أن هناك خلاف عميق بين أصول التاريخ الغربي ومقوماته التي تقررت عليها مقاييس تفسيره.(40/1)
ترجع هذه الأصول إلى العقيدة والثقافة والتاريخ القديم، ولا ريب أن التاريخ الغربي يتصل اتصالا عميقًا بمفاهيم الوثنية اليونانية والعبودية الرومانية والتفسيرات المسيحية، وهذه كلها تشكل نظرة خاصة إلى الأوضاع والأحداث والمواقف، ومن هنا فهي تختلف اختلافًا عميقًا عن أصول التاريخ الإسلامي الذي يقوم على أساس عقيدة التوحيد والنبوة والبعث ومسئولية الإنسان والتزامه الأخلاقي ومفاهيم الإخاء الإنساني والعدل والرحمة وفي إطار المنهج الذي قدمه القرآن الكريم والذي يختلف بل ويتعارض مع تفسيرات العقيدة والقيم التي تقررت في الفكر البشري المختلط، وخاصة فيما يتعلق باضطراب مفاهيم العقائد اليهودية والمسيحية، وهي التي تشكل الأساس الأول للثقافة والفكر الغربي، ويتجلى هذا الخلاف في تفسير التاريخ الإسلامي حيث يقوم الاستشراق بتطبيق مقاييس غربية مختلفة كل الاختلاف عن مفاهيم وقيم الإسلام التي تتشكل من خلال مفهوم كل جامع بين الروح والمادة والقلب والعقل، والدنيا والآخرة، فبينما تقوم مفاهيم الغرب على التفسيرات المادية الخالصة، التي لا تستطيع أن تستوعب التوحيد والوحي والنبوة وآثار الجوانب الروحية والمعنوية في قيام الدول في آماد قصيرة وانتصار الجيوش بالعدد الأقل، وانتشار الإسلام ذاتيًا، كل هذا يستدعي من الباحثين إعادة النظر في هذه التغيرات.
(1) لتكون الحقيقة أكثر جلاء ووضوحًا يجب التفرقة بين حكم العثمانيين للعرب وبين حكم الاتحاديين والتفرقة بين حكم المماليك في مراحله الأولى وبينه في مراحله الأخيرة.
(2) القول بأن الأتراك سبب تأخر العرب قول مردود، لقد كان الحكم العثماني في البلاد العربية مختلفًا عن الحكم الاستعماري، وأن الترك وحكمهم ليس سبب تأخر العرب وعدم نهوضهم، ذلك لأن الترك أنفسهم كانوا متأخرين في العلوم والفنون.
(3) خطأ القول بأن الأتراك هم الذين سيطروا على البلاد العربية واحتلوها.(40/2)
كان دخول العرب في الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر التقاء الجزء بالكل والتئام الأجزاء الضعيفة مع الجزء الأقوى لصد خطر الإفناء الصليبي الذي صاحب مطالع عصر الاستعمار واكتشاف رأس الرجاء الصالح.
ولا ريب أن ارتباط العرب بالترك كان عاملا هامًا في تأخير سقوط البلاد العربية في قبضة الاستعمار الغربي أربعة قرون، وكان مصدر صمود الجبهة في مواجهات ضربات أوربا.
(4) فساد مفهوم الإصلاح المنقول من إصلاح المسيحية باعتبارها قامت على تفسيرات بشرية جعلتها غير قادرة على مواجهة تغييرات الأزمنة والبيئات.
أما الإسلام فإنه لا يقر الإصلاح بمفهوم تعديل مقررات الشريعة الإسلامية الثابتة، وكلمة التجديد أقرب إلى مفهوم الإصلاح (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) والتجديد هنا هو العودة إلى المنابع ومصطلحات الإصلاح والتطور والتجديد بمفهوم ممالأة الاستعمار الغربي في تغريب الإسلام أو تمسيحه هي مصطلحات باطلة.
كذلك لا ينطبق على الإسلام مفهوم التطور لأن التطور مرتبط بالمناهج البشرية القاصرة التي سرعان ما يتجاوزها الزمن فتحاول إصلاح نفسها بالتطور، أما المنهج الإسلامي الرباني فإنه قادر على العطاء في مختلف العصور والبيئات، وهو منهج مرن واسع الجنبات قادر على العطاء والاستجابة مع تغير الأوضاع.
(5) فساد محاولة القضاء على فريضة الجهاد على النحو الذي تقدمه القاديانية والبهائية، بهدف إيقاف الكفاح ضد المستعمر والغاصب وهي محاولة لتغريب الإسلام وتمسيحه وإعطائه طابع الغاندية والتولستوية الذي لا يمثل مفهوم الإسلام.
وتعد محاولة علي عبد الرازق، والقادياني، وأحمد خان، والبهاء محاولات باطلة تستهدف تغيير مفهوم الإسلام الأصيل.(40/3)
وقد حاول علي عبد الرازق الادعاء بأن الخلافة ما كانت إلا ملكًا ولا سلطانًا، وأن النبوة ليست حكمًا ولا ملكًا. وقال إن الملك الذي شيده النبي صلى الله عليه وسلم عمل دنيوي لا علاقة له بالرسالة، وإن زعامة الرسول ليست إلا زعامة دينية، وهذا فهم باطل للإسلام الجامع بين الدين وبين نظام المجتمع.
وقد جرت محاولات النفوذ الأجنبي لضرب حركات التحرر الإسلامية والقضاء عليها.
(1) القضاء على ثورة المسلمين في الهند.
(2) القضاء على ثورة الأمير شامل في القوقاز.
(3) تحطيم القوة المصرية في نفارين.
(4) تحطيم القوة الوهابية الصاعدة في الجزيرة.
كما جرت محاولة تمزيق وحدة العالم الإسلامي إلى قوميات وإقليميات، بدأت هذه المحاولة قبل إلغاء الخلافة فانقسم المسلمون إلى نحو سبعين جنسية وفرقة كل منها معزولة عن الأخرى ومحبوسة وراء فواصل مادية وأدبية لا حصر لها.
أخطاء في كتابة التاريخ الحديث:
(2)
قضى الاستعمار على الزعامات الأصيلة التي كانت مفاهيمها تربط بين الوطنية والإسلام بمفهومه العام وكانوا يرون كفاح الاستعمار جزءًا من النضال في سبيل الله، وصنع مدرسة أخرى من تلاميذ الاستعمار هم الذين قاموا بحركاتهم في دائرة الاستعمار وفكره ومنهجه الداعي إلى قبول الأمور الواقعة ثم المطالبة، والذين كانوا مبهورين بالحضارة الغربية، معجبون لأولياء الاستعمار متعاونون معهم.
وقد كانت معركة الجزائر تختلف عن ذلك فقد قامت على أساس مفهوم الجهاد في الإسلام، ولولا أنهم أكدوا ذلك لما استشهد منهم مليون شهيد، فالشعب الجزائري لم يدعي لخوض المعركة التحريرية إلا باسم الإسلام، ولولا ذلك لما استطاع أن يحمل في هذا العصر لواء المقاومة للاستعمار المدجج بأحدث الأسلحة، ولكن التجربة لم تكتمل فقد خشيت أوربا مغبة هذا الاتجاه ولذلك فقد أجهض قبل أن يقيم الجزائريون دولة إسلامية.(40/4)
إن تجربة الجزائر أعادت القيم الإسلامية إلى الظهور مرة أخرى بعد صلاح الدين وبعد أن غابت عن مسرح الحياة الإنسانية.
وقد كان الاستعمار والنفوذ الأجنبي حريصًا على إجهاض الاتجاه الإسلامي في الجهاد حتى لا يؤدي إلى مواجهة عقائدية مع النفوذ الأجنبي، وقد خدع مصطفى كمال الأتراك والعالم الإسلامي حين حمل القرآن ودعا إلى حرب اليونان ثم كانت جولته في مواجهة إسقاط الإسلام وإلغاء الخلافة.
(3)
انطلقت فكرة الدولة الباكستانية من مفهوم الإسلام ولكن الدولة الباكستانية لم تقم عليه، فقد حالت حوائل كثيرة دون تحقيق هذه الغاية، بل إن المدرسة التي كان يرأسها محمد علي جناح لم تكن إلا مدرسة غربية شبيهة بالمدارس التي كونها النفوذ الأجنبي في البلاد العربية، كان من المؤمنين بالليبرالية الغربية.
قال الأستاذ المودودي: إنه بالرغم من أن هذه الحركة (حركة جناح) تثار باسم الإسلام ولكنها ليست حركة إسلامية وطرح نظرية العمل الإسلامي الصحيح وهو أن ينتشر الإسلام أولا إذا ما انتصر الدين الإسلامي في أعماق الجماهير فإن هؤلاء المسلمين سيقيمون الإسلام في الهند جزء من عقيدتهم. وقال غلام أعظم (أمير الجماعة الإسلامية في باكستان الشرقية) بما أن هذه الحركة لم تتبلور كحركة إسلامية فإن غالبية قادتها بعد قيام الباكستان تنكروا لمفهوم الإسلام، لقد قامت باكستان على تصور إسلامي ولكنها بعد تأسيسها لم تتخذ هذا التصور وبالتالي لم يترسخ في أعماق الجيل الجديد ولذلك حينما بحث هذا الجيل عن قوميته وجدت الإقليمية طريقها إلى تفكيره.
(4)
طرحت عناصر مختلفة في أفق كل بلد عربي أو إسلامي:(40/5)
(1) عنصر قديم متصل بالتاريخ السابق للإسلام، ففي عصر الفرعونية وفي الشام البابلية وفي العراق الآشورية، وفي المغرب البربرية، وفي الهند الإسلامية: الهندوكية القديمة وفي إيران تاريخ كورش والمجوسية القديمة وفي تركيا الطورانية وتاريخ الذئي الأغبر وكلها محاولات المردة إلى القديم البالي الذي حطمه الإسلام.
(2) عنصر قومي وإقليمي متصارع، كالمصرية، أو السورية، والعراقية تحاول أن تلتقط من التاريخ صفحات ومراحل وشخصيات وفي محاولة لتقسيم أعلام الفكر الإسلامي إلى عرب وفرس وترك، وإلى مصريين وسوريين وعراقيين.
(3) عنصر غربي أوربي (فرنسي، بريطاني) أو أمريكي، وعنصر ليبرالي أو ماركسي.
ووراء كل عنصر من هذه العناصر مفاهيمه، فالبلاد التي خضعت لفرنسا أبان الاحتلال، ما زال ولائها الثقافي للفكر الفرنسي (لاتيني) البلاد التي خضعت لإنجلترا ما زال ولائها (سكسوني) وقد قامت الصراعات بين اللاتينية والسكسونية،وبين الولاء للغة الإنجليزية واللغة الفرنسية، وبين الولاء الغربي نفسه: فرنسي، وإنجليزي، وأمريكي من خلال الثقافة والمترجمات.
ثم جاء الصراع الآخر بين الأيدلوجيات: الرأسمالية الغربية والماركسية السوفيتية، وما يتصل بإتباع هذين الأيدلوجيين.
والهدف هو الحيلولة دون قيام وحدة إسلامية أصيلة مستمدة من القرآن واللغة العربية والإسلام هي الصراع بين المدارس والمناهج.
(5)
لما كان الغربيون يرون في أبطال النضال الوطني خصومًا لهم لأنهم قاوموهم وهزموهم فإنهم يحاولون أن يسموهم بأسماء زائفة، فالرئيس حميدو القائد الجزائري المشهور الذي أخضع دول أوربا لبأس الجزائر وسلطانها حتى كان الأوربيون يؤدون للجزائر مغرمًا سنويًا وكانوا لا يدخلون هذا البحر المتوسط حتى يعطوا الجزية، هذا القائد البطل يصفه المؤرخون الفرنسيون بأنه قاطع طريق وبأنه هو وأصحابه الأبطال قراصنة متوحشون.
(6)(40/6)
إن ظهور سعد زغلول (مصر) ومصطفى كمال (تركيا) ورضا شاه (إيران) في مرحلة واحدة بعد الحرب العالمية الأولى كان يستهدف القضاء على صيغة العالم الإسلامي الإسلامية وإرساء مفاهيم الإقليمية والقوميات الوافدة، والوطنية الضيقة، والقضاء على الوحدة الإسلامية، والخلافة، بل أن بعض المؤرخين يردون هذه المحاولة إلى محمد علي الذي فتح الباب لأول مرة أمام الحكومة العلمانية التي حطمت نظام الحكم الإسلامي وقد سجل السيد رشيد رضا هذه الظاهرة فقال إن لمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة كان كل منها موضع خلاف:
أولا: تأسيس حكومة مدنية في مصر (أي علمانية) كانت مقدمة لاحتلال الأجانب له.
ثانيًا: قتاله الدولة العثمانية بما أظهر به للعالم كله ولدول أوربا خاصة ضعفها وعجزها وجرأهن على التدخل في أمور سياستها.
ثالثًا: مقاتلة الوهابية والقضاء على ما نهضوا به من الإصلاح الديني في جزيرة العرب مهد الإسلام وأحد معاقله.
وأن محمد علي هو أول من تجرأ في العالم الإسلامي على استبدال القوانين الأوربية بالشريعة الإسلامية ولا ينسون قتاله لخليفة المسلمين مما يعد حرابه، ولا ينسون أن (توفيق) هو الذي تآمر على ثورة عرابي واستدعى الإنجليز لاحتلال مصر واحتمى بجيشهم بعد أن عاهد جمال الدين على تطبيق حكم الشورى بمصر ثم نفاه وزعم أنه رئيس عصابة من المفسدين.
ويعد هذا في تقدير الباحثين هو التمهيد لما قام به سعد زغلول في مصر وكمال أتاتورك في تركيا ورضا شاه وابنه محمد في إيران في محاولة تغريب مصر وتركيا وإيران.
(7)
ظهرت دعاوى باطلة تحاول أن تصور العالم الإسلامي وكأنه قبل الاحتلال الغربي كان في سبات عميق، وأنه تجمد في القرون الوسطى وكأن أوضاعه السياسية والاجتماعية وإن لم ينهض إلا حين نهض به النفوذ الأجنبي وأن الحملة الفرنسية على مصر هي بدأ اليقظة وإن الإرساليات الأجنبية هي التي حققت له الصحوة.(40/7)
كذلك شوه الاستعمار حركات اليقظة التي قامت قبل قدومه وادعى أنها لم تحقق شيئًا بينما كانت البلاد العربية والإسلامية قبل الاحتلال على درجة عالية من الوعي السياسي والاجتماعي وكانت بها نظم سياسية جيدة، مثل ما كان في مصر.
وكانت الحياة الحضارية والثقافية في أوج التقدم في مختلف مناطق أفريقيا التي احتلها الاستعمار البريطاني والفرنسي وحاول تشويه ثقافتها وحضارتها وأطبق عليها بفوده وثقافته ليزيل الوجود الإسلامي والعربي بها.
ولا شك كان الأزهر حافلا بحركات اليقظة قبل الحملة الفرنسية وكانت الجزيرة العربية (في نجد ومنطقة الخليج) في أوضاع ثقافية واجتماعية طيبة بدعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب. وقد جاء احتلال الجزائر بعد فترة من إنجازات ضخمة كان لها شأنها في هزيمة الاحتلال الفرنسي ثم جاء التدخل الأجنبي بعد أن أوشكت هذه الحركات على النجاح فأجهضها وأدخلها في صراع مع بعضها البعض بقصد ضرب بعضها ببعض والقضاء عليها.
ولا ريب أن الحركات الوطنية والفكرية في مصر وتونس عبر القرن التاسع عشر قد ألزمت الفئات الحاكمة على الشورى والعدل وتمكنت من الحصول على مزيد من حرية العمل والفكر، ووضع أسس دستورية وتشريعية كانت كفيلة بالمساهمة الشعبية في الحكم، بل إن هذه الحركات الإصلاحية قبل الاحتلال الأجنبي كانت تستمد مفاهيمها من الأصول الإسلامية في تحديد وجهتها، غير أن النفوذ الأجنبي قد حطم هذه المحاولات كلها ووضع البلاد الإسلامية في دور التبعية الكاملة لنفوذه وقوانينه تحت أسماء الانتداب والوصاية بادعاء أن أهالي هذه البلاد لم يكونوا على أي قدر من الوعي السياسي وكان في ذلك كاذبًا ومضللا.(40/8)
ذلك لأنه كان يطمع في القضاء على تلك الروح الإسلامية الأصيلة في الإصلاح، وكان يهدف إلى القضاء على هذه المدرسة الإسلامية في السياسة والحكم والاجتماع، وبناء مدرسة من أوليائه التابعين الخاضعين المزيفين، الذين يوالون سيطرته ويقبلونها ويعجبون بها ويلتمسون بقائها ليستمر بقائهم، ومن هؤلاء سعد زغلول في مصر وعدد كبير من الحكام الذين نشأوا في مدارس الإرساليات وعملوا على تثبيت دعائم الاستعمار.
ثم تحولت التنظيمات السياسية والاجتماعية والتربوية فاقتبست الأنظمة الغربية والقوانين الوضعية، فأفسد ذلك المجتمع الإسلامي إفسادًا تامًا. حيث انتشرت عوامل الفساد الاجتماعي نتيجة حجب الشريعة الإسلامية بحدودها، في الربا وفي العلاقات الاجتماعية، وغيرها وفتح باب الاستدانة والرشوة والفساد الخلقي لتمكين الغاصب من عصر هذه الشعوب والحصول على ثمرات نتاجها.
وهنا حجبت القوى الغازية أهل الأصالة والحق عن مواقع القيادة، وسمحت للقلة الموالية للغرب أن تسيطر وظهر من يدعو إلى تبني فكرة ارتباط العالم الإسلامي بالحضارة الأوسطية والغرب، وتبنى الولاء الغربي وإنكار الأصول الإسلامية والعربية في العلاقات والثقافة والقصائد والأعراق وظهرت تلك الدعوات الإقليمية، والقوميات الوافدة، والوطنية وأخذت البلاد الإسلامية تطبق على فكرها ومجتمعها مقاييس الاستعمار ومعاييره في مفهوم التقدم والتخلف، وفي التنظيمات الاجتماعية والسياسية.
كانت هذه المحاولات كلها ترمي إلى تمزيق وحدة الفكر الإسلامي والجامعة الإسلامية التي تقوم على الإسلام والقرآن والتوحيد.
(8)(40/9)
حاول كتاب الغرب في تفسير التاريخ الإسلامي تفسيرًا ماديًا واقتصاديًا وغفلوا عن جانب المعنويات والقوة الروحية والإيمان الذي كان عاملا أساسيًا في النصر الذي حققه المسلمون بالأعداد القليلة على القوى الكبيرة وباندفاع هذه القوى التي لم تكن تملك من التكتيك العسكري أو العَدَد أو العِدَد ما يوازي عشر معشار ما يملكه عدوهم، ثم أنصارهم عليها، وإذا نظرنا نظرة عامة قلنا أن عدد المسلمين في المعارك الإسلامية لا يزيد عن مائة ألف مقاتل فتحوا في ثمانين عام ثلاثة أرباع المعمورة، وهذا هو المد الذي لم يشهد له التاريخ مثيلا من قبل وهذه الظاهرة هي التي أزعجت أصحاب مقاييس التفسير الغربي للتاريخ عن معرفة السر في هذه المعجزة.
ولقد جاءت محاولات تفسير هذه الظاهرة تحمل طابع الجهل بالجوانب الروحية والمعنوية وأثرها البعيد في التعبير، أو طابع الحقد الدفين على هذا النفوذ الإسلامي في مواجهة الأرض التي كانت خاضعة للرومان.
إن دعوى القول بأن العرب خرجوا من جزيرتهم تحت ضغط الفاقة والحاجة لا يمكن أن تكون إجابة صحيحة لهذه الروح من الإيمان والاستشهاد وعدم المبالاة بالغنائم، إن للوقوف عند هذا التفسير بالعامل الاقتصادي وحده لا يمكن أن يوصل إلى الحقيقة ولقد أجاب المجاهدون المسلمون أنفسهم عن هذا التساؤل حين قال رستم للمغيرة بن شعبة: قال: قد علمت أنه لم يحملكم على ما أنتم عليه إلا ضيق المعاش وشدة الجهد ونحن نعطيكم ما تشبعون به.
قال المغيرة: إن الله بعث إلينا نبيه صلى الله عليه وسلم فسعدنا بإجابته وإتباعه وأمرنا بجهاد من خالف ديننا حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ونحن ندعوك إلى عبادة الله وحده والإيمان بنبيه فإن فعلت وإلا فالسيف بيننا وبينكم.(40/10)
وقال ربعي بن عامر: أتيناكم بأمر ربنا نجاهد في سبيله وننفذ أمره وننجز موعوده وندعوكم إلى الإسلام وحكمه فإن أجبتمونا تركناكم ورجعنا وخلفنا معكم كتاب الله وإن أبيتم لم يحل لنا إلا أن نعاطيكم القتال أو تفتدوا بالجزية فإن فعلتم وإلا فالله قد أورثنا أرضكم وأبناءكم وأموالكم فاقبلوا فوالله لإسلامكم أحب إلينا من غنائمكم ولقتالكم بعد أحب من صحبتكم.
ومن المؤسف أن تصور غزوات الإسلام التي كانت مثلا عاليًا في الرحمة والخلق بأنها أعمال السلب والنهب.
وإذا كان العامل الاقتصادي هو واحد من جملة عوامل في تفسير التاريخ فإن ذلك يكون قريبًا من الواقع، غير أن وقائع التاريخ كلها تشهد بأن منازعات الأمم وحروبها ترجع في أغلبها إلى الدين والاعتقاد وإن محاولة قصر عوامل التاريخ على الاقتصاد لا تنطبق على التاريخ الإسلامي بل لا تنطبق أيضًا على التاريخ الأوربي.
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(40/11)
حقائق عن الغزو الفكري للإسلام
الأستاذ أنور الجندي
هناك مجموعة من الحقائق التي تكشفت أخيراً بعد أن انهارت مخططات التغريب والغزو الثقافي في العالم الإسلامي وبعد أن أوشكت جولة هذا الباطل تسربل بالعلم والبراعة واللمعان الخاطف أن تنطفئ وتنهار.
وكان حقاً علينا أن نتعرف على هذه الأمور حتى لا تخدعنا مرة أخرى حين يحاول النفوذ الأجنيب أن يغير جلده أو يعاود خداعه أو يحاول تجديد أساليب مكره.
ونحن نعرف أن هذا النفوذ الأجنبي الذي يحاول أن يحتوي أمتنا وفكرنا هو مجموعة من المؤتمرات التي يحكيها النفوذ الأجنبي والصهيوني والماركسي، وأنه بدأ بصيحات متعددة:
هي صيحة لويس التاسع وصيحة غلادستون وصيحة كرومر، وصيحة اللورد اللنبي وصيحة كامبل وهي صيحات خمس يجب أن نعيها ونتعرف عل هدفها.
أم لويس التاسع فإنه بعد أن هزم في الحملة الصليبية السابعة التي تحطمت أمام المنصورة وأقتيد وهو قائدها أسيراً حتى يفتدي نفسه وسجن في بيت لقمان.
هذا الرجل المهزوم الأسير كتب في مذكراته يقول: "لقد تبين لنا بعد هذه الجولة الطويلة أن هزيمة المسلمين عن طريق الحرب مسألة مستحيلة لأنهم يملكون منهجاً محكماً يقوم على الجهاد في بيل الله ومن شأن هذا المنهج أن يحول دون هزيمتنا عسكرياً ولذلك فإن على الغرب أن يسلك طريقاً آخر، هو طريق الكلمة، الذي يقوم على نزع الفتيل من هذا المنهج وتفريغه من القوة والصمود والبسالة، وذلك عن طريق تحطيم مجموعة من المفاهيم بتأويلها أو التشكيك فيها".
هذه الوصية كانت أساس الخطة التي قام بها الغرب من بعد عن طريق إنشاء مؤسستي التبشير والاستشراق وإثارة الشبهات حول مفهوم الإسلام الأصيل الجامع دنيا ودولة وعقيدة وشريعة وأخلاقاً، ومن ثم كانت محاولات الاستشراق تدور كلها حول تحويل الإسلام إلى دين لاهوتي عبادي منفصل عن الحياة منتزع من ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والتربية.(41/1)
ولما كان القرآن هو مصدر هذا المنهج الرباني الأصيل الذي ما هزم المسلمون إلا عندما تغافلوا عنه أو حاولوا التماس غيره فإن صيحة غلادستون في مجلس الهموم البريطاني كانت تمثل حقيقة الفهم الاستعماري الإنجليزي – وإنجلترا إذ ذاك إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس – حين وقف وهو ممسك بالمصحف يقول: "إنه لا أمل في إخضاع المسلمين ما دام هذا الكتاب باقياً في الأرض".
وكان هذا إشارة مضاعفة للعمل على إثارة الشبهات حول القرآن وعقيدته وشريعته على النحو الذي عرفناه من قراءة تاريخ التبشير والغزو الثقافي.
ثم جاء كرومر الذي أمضى ربع قرن كامل وهو الحاكم الفعلي لمصر ليبني – كما قال في تقاريره الرسمية ومذكراته – جيلاً جديداً من المتفرنجين الذين يوالون الحضارة الغربية والحاكم الأجنبي ويقبلون التعامل معه ويؤمنون بأن هذه البلاد لا تنجح إلا إذا سارت في طرق الحضارة الغربية.
وكان من ثمرة عمل كرومر: لطفي السيد الذي أعلن عداءه للعروبة وللإسلام وللعالم الإسلامي ودعا إلى الإقليمية المصرية الفرعونية. وطه حسين الذي قال: أننا يجب أن نأخذ الحضارة الغربية حلوها ومرها وخيرها وشرها وما يحمد منها وما يعاب.
ثم جاءت صيحة أشد نكراً هي صيحة اللورد اللنبي: الذي كانت دولة بريطانيا قد خدعت العرب بوعود إنشاء دولة عربية إذا هم عاونوهم في الحرب العالمية الأولى فلما فعلوه كان جزاءهم احتلال بلادهم.
فاحتل الفرنسيون سوريا ولبنان واحتل الإنجليز الأردن والعراق وفلسطين وظهر وعد بلفور الذي أعطى اليهود وطناً قومياً في فلسطين.
ثم جاء اللورد اللنبي ليقف ويقول: اليوم انتهت الحروب الصليبية. وهو يعني أن الجيوش التي هزمت وآخرها بقيادة لويس قد عادت بعد ثمانمائة سنة مرة أخرى إلى هذه البلاد منتصرة ومنهية للحروب الصليبية على نحو آخر.(41/2)
وإذا كانت هذه الخيوط يمكن أن تعطي المثقف المسلم صورة حقيقية للخلفيات لواقعنا في مواجهة النفوذ الأجنبي فإن هناك قصة أخرى وصيحة أخرى للوزير كامبل وزير خارجية بريطانيا 1907 م.
فقد توصل هذا الرجل إلى أن الحضارة الغربية وهذا النفوذ الاستعماري الضخم للدول الغربية قد دخل في مرحلة الأفول ولكنه أراد أن يجمع علماء العالم ومفكريه ومؤرخيه لوضع خطة تقول:
إذا كانت هذه هي نهاية الحضارة الغربية فمن الذي سيخلف بريطانيا والغرب، فأعلن المؤتمرون: أن المسلمين هم المستخلفون لأنهم أهل المنطقة أولاً، ولأن لهم من عقيدتهم منهج محكم يمكنهم من استعادة بناء الحضارة الإسلامية، هناك جرى التفكير حول خطة للحيلولة دون تمكن المسلمين والعرب من امتلاك هذه الإرادة وتأخير هذه الجولة ما أمكن وجرى البحث حول السبيل الذي يمكن الغرب المنهار بحكم انتهاء جولته من استبقاء نفوذه وتأخير قيام النهضة الإسلامية في بلادها، قال دهاة السياسة ودهاقين الاستبداد والاستعمار:
عليكم أن تغرسوا جنساً غريباً عن هذه الأمة في المنطقة الواقعة بين أفريقيا وآسيا حتى يحول دون امتدادها ويفصل بينها، هنالك تقدم اليهود وقالوا: نحن العنصر الغريب العازل.
ومن هنا بدأت مؤامرة الصهيونية في فلسطين وإلى يوم آخر بعيد.
هذا هو منطلق اليقظة الإسلامية إلى معرفة التحديات التي تواجه الأمة، فإذا أضفنا إليها مثلاً تقرير اللورد كرزون ضعيف ما دام العامة يتعلمون اللغة العربية الفصيحة لغة القرآن كما في الوقت الحاضر ولا يتعلمون اللغة العربية الدارجة لأن نسبة اللغة المصرية الدارجة إلى لغة القرآن كنسبة الإيطالياني إلى اللاتيني واليوناني الحديث إلى اليوناني القديم وعربية الفلاح لغة قائمة بنفسها وقواعدها خاصة بها فإذا لم تؤخذ هذه الاحتياطات يستمر الجيل الجديد مثل سابقه غير حاصل لخدمة وطنه وتظل عبارة مصر للمصريين كما كانت اسماً بلا مسمى".(41/3)
هذا هو الاتجاه الواضح للنفوذ الأجنبي نحو القرآن واللغة العربية والهدف هو قطع اللغة الحية عن القرآن ومن ثم يصبح مجهولاً ويقرأ بقاموس وتموت العربية ويموت القرآن ويذهب الإسلام.
هذا القرآن هو الذي أزعجهم، رمى به غلادستون وقال عنه كرومر أنه يؤخر التقدم ودعا كرزون إلى العامية وجاء بعد ذلك ماسينون ليدعو إلى الكتابة بالحروف اللاتينية.
وتوالت نذر التغريب وتجمعت سحبه في أفق الفكر الإسلامي لاحتوائه والقضاء على ذاتيته وخصائصه، فقالوا نابليون أيقظ الشرق، وكذبوا فإن الذي أيقظة الشرق هو محمد بن عبد الوهاب وصالح المؤمنين الذين ارتفعت صيحتهم بالعودة إلى المنابع.
وعمل الغزو الفكري في ميدان الثقافة والتعليم حتى أن 50 ألفاً من أبناء المحظوظين يتعلمون بمدارس الإرساليات كل عام ويملأون عقولهم وقلوبهم بمفاهيم مسمومة مغلوطة صاغتها قوى متآمرة من المستشرقين والمبشرين والماسون والعلمانيين والوثنيين لهدم هذه القوة التي تقف في وجه الفكر البشري الضال كله وهي الإسلام.
وقد صنع النفوذ الأجنبي تلك المحاولة الخطيرة التي أسموها التغريب والتي استهدفت تحطيم مقومات الإسلام الأساسية وإثارة الشبهات حول مقومات الفكر الإسلامي التي تتمثل في الأصول الأساسية:
القرآن والسنة وهما منهج الإسلام في بناء المجتمع وقد اتهم الدين بالجمود والعجز عن متابعة الحضارات وهو مصدر التقدم في العالم.
اللغة العربية بإعلاء شأن العاميات والحروف الأعجمية وإتهامها بأنها لغة عاجزة عن الاستجابة للتطور إذ أنها لغة دينية.
سيرة الرسول وتاريخ الإسلام بإثارة الشبهات حول وقائعه.
الحضارة الإسلامية وإنكار فضلها على الحضارة المعاصرة واتهامها بأنها حضارة غير أصيلة وإسقاطها في مجال تطور الحضارة الإنسانية.
الأدب العربي وإخضاعه لمقاييس جديدة واحدة تجرده من أصالته الإسلامية.(41/4)
التراث الإسلامي والغض من قدرة ومحاولة إحياء الجوانب المتصلة بالفكر الشعوبي والوثني والفكر الصوفي الفلسفي.
التاريح الإسلامي ومحاولة تزييفه وإثارة الشبهات حوله واتهامه بأنه مليء بالثغرات.
كذلك جرى العمل على الحيلولة دون استئناف المسلمين حياتهم أو بناء مجتمعهم على أساس إسلامي وذلك بإثارة الثغرات القومية والإقليمية والتشكيك في العقيدة وإيجاد الفرق والنحل الهدامة، وتركيز المفاهيم العلمانية والمادية وصرف الأمة عن وجهتيها التي سارت عليها أربعة عشر قرناً والقضاء على خصائصها ومحو مآثرها وتحقير ماضيها وإفساد حاضرها، وخلق جديد منهزم مفتون بالغرب وأباطيله ومفاهيمه.
ولا ريب أن أولى مطالبنا هي الأصالة الفكرية: هذه الأصالة القادرة على فرز كل ما لا يتلاءم مع روح التراث وترك كل ما هو دخيل ثم الدرة على الانفتاح على الفكر الإنساني والتطور العلمي في يقظة ووعي كاملين بحيث نأخذ الوسائل وحدها لا تستطيع أن تقدم شيئاً ذا بال أو تعطي إضافة بناءة صحيحة إذا لم تكن مرتبطة بالأصالة وبوجود الأمة وحقيقة رسالتها وهدفها، وإن التطلع إلى التقدم العلمي والتكنولوجي لن تكون له فائدة إيجابية إذا لم يصدر عن إيمان أكيد بجذور الأمة الأولى الحقيقية وأن يتحرك في داخل إطار فكرها وقيمها. كذلك فإن الحوار مع الفكر العالمي يجب أن يتم في داخل إطار "الأمانة" التي تحمل لواءها الأمة الإسلامية للبشرية كلها دفعاً إياها إلى الحق وحجزاً لها عن الشر.
إن أبرز معالم الإسلام هو التكامل بين أعماق القلب ومجرى الفكر، وإقامة مبدأ التعاون بديلاً لمبدأ الصراع، وتقدير لقاء الأجيال بوصفه أصدق من صراع الأجيال والاعتقاد بأنه ليس بين الإنسان والطبيعة صراع ولكنها محاولة سيطرة واهتداء إلى النفع بها.(41/5)
ولا ريب أن السنة الجامعة هي البوتقة الناصعة التي انصهرت فيها كل الثقافات والنحل والدعوات التي طرحت في فلك الفكر الإسلامي فاستصفتها السنة وحررتها من شبهاتها وأخذت عصارتها الطيبة فضمتها إلى كيانها.
فالسنة هي النهر الكبير والمذاهب والفرق روافد منه وقد صهرت السنة خير ما في الكلام والاعتدال والتصوف والتشيع في مضمونها الجامع الذي يستمد حقيقته ووجوده من المفهوم القرآني الأصيل.
وقد وقف الإسلام أمام الفكر اليوناني الوافد كما وقف أمام غنوص الشرق، موقف العداوة والبغضاء كاشفاً عن وجوده الخلاف بين ذلك كله وبين مفهوم التوحيد الخالص.
كذلك فقد رفض الإسلام التطور على حساب الأصالة.
ورفض التقدم على حساب التضحية بالجذور والقيم الإسلامية.
كما رفض تضحية القيم العليا في سبيل التقدم المادي ولم يخضع مفاهيمه للحضارات وأهواء الأمم، وليس في المناهج والأيديولوجيات شيء لامع إلا وعند المسلمين ما هو مثله أو خير منه وهو في الغرب مقطوع الصلة بالله ولكنه في الإسلام متصل الحلقات وهو في الفكر البشري انشطاري ولكنه في الإسلام جامع متكامل.
إن العودة إلى المنابع هي صيحة المسلمين في كل أزمة وكلما أدلهمت الأحداث وأحاطت الأزمات، كانت دعوة الغزالي وابن حنبل وابن حزم وابن القيم وابن عبد الوهاب.
وفي ضوء هذا كله نجدنا في حاجة إلى استيعاب الحقائق الآتية:
أولاً: إن انطلاق المسلمين والعرب على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية لا يمكن أن يتم بدون الارتكاز على قاعدة أساسية تكون هي المصدر والمنطلق ونقطة البدء ونقطة النهاية: هذه القاعدة ليست سوى المنهج الأصيل الذي قدمه الإسلام لبناء المجتمع.
وعلى المسلمين اليوم أن يفهموا الإسلام فهم الصدر الأول له وهو أصح فهم: قوة خالقة من وراء الإنسان والإنسان مستخلف في الأرض عن الله الخالق مسئولية، وجزاء وتعاليم أخلاقية تطبع الحياة والحركة والمجتمع. الإنسان فرد ولكنه جزء من المجتمع.(41/6)
ولا يزال الجسم الإسلامي يرفض العضو الغريب ولا يزال الكيان الإنساني يرفض الجسم الغرب.
العقيدة وليست اللغة هي علامة بقاء الجماعة فإذا زالت العقيدة زالت الجماعة وانحلت وانقرض وجودها.
كان التأويل من أخطر الأسلحة التي استعملت النصوص تفسيراً يخرجها من مدلولاتها الأصلية إلى مدلولات منحرفة ولقد حذر القرآن من هذا الخطر.
ثانياً: نحن ندرس الفلسفة ولكن نعتقد أن الفكر الفلسفي ليس هو الفكر الإسلامي ونؤمن بأن الفكر الإسلامي قرآني المصدر.
نحن لا تهزنا صور البريق وخاصة براعة البيان إلا إذا كان صاحبه يصدر عن منطلق القرآن وهدي الإيمان ويخشى الله ويبتغيه.
وقد يكون هناك نظريات لامعة تخدع العقل أو تعجب البسطاء وهذه نحذرها لأنها ليست إلا من هوى النفس ومطامع الذات.
ثالثاً: قطع الإسلام الامتداد الفكري والثقافي بين ما قبل الإسلام وبعده: قطعه عن العرب أولاً ثم عن كل مكان ذهب إليه وقد ذهب إلى قلب آسيا وأفريقيا فنزعها تماماً من عبودية ألف سنة لليونان والرومان ثم قطع امتداد العبودية الفرعونية والفارسية والقيصرية للإنسان وقطع امتداد الوثنية في العالم كله وأطلق العقل البشري من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد ورفعه إلى اعتقاد بحياة أخرى وراء هذه الحياة.
إن الثقافة التي قدمها اليونان والرومان والتي استمرت ألف سنة قبل أن يجيء الإسلام قد تلاشت تماماً بعد أقل من قرن من دخول الإسلام وقام على الزمن حقيقة واقعة هي الانقطاع الحضاري.
عندما تشتد المحن والأزمات على المسلمين أن يعودوا إلى المنابع الأولى وأن يلتمسوا أصول الإسلام قبل ظهور الخلاف من أصوله القرآنية وأن تؤمن بأن كل ما انحدر إلينا من الماضي ليس إسلاماً كله فكثير منه وضعه شعوبيون وفلاسفة وملاحدة وأن بين الحق والباطل هوى النفس والظن فإذا تغلب الهوى استخدم العقل لتبرير الفاسد من الأمر والتمس الرخص وفارق العزائم وآثر السلامة على المعاناة.(41/7)
رابعاً: ليس الإسلام ديناً روحياً ولا مذهباً مادياً، ولكنه يجمع بين المعنويات والماديات في تناسق عجيب. وهو حين يرفض روح النسك بمفهوم الرهبانية واعتزال الحياة يرفض في نفس الوقت روح التحلل والإباحية والانطلاق بغير قيود ويقيم نظام الحياة في المجتمع في إطار من الضوابط والحدود يحول بينها وبين الارتطام والانهار.
خامساً: طبع الإسلام حياة العرب والمسلمين في الماضي ولا يزال يطبعها وسيظل يطبعها إلى مئات السنين ولذلك فإن كل حركة فكرية أو اجتماعية في التاريخ الحديث تتجاهل هذا الواقع البديهي فهي تتجاهل الإطار الطبيعي الذي يجب أن ينشأ ضمنه والأساس العملي الذي يجب أن تستند إليه، إنه يجب أن يكون في داخل الإسلام لا خارجه.
سادساً: جاء الإسلام ظاهرة مستقلة عن فعل البيئة. وكذلك جاءت النبوات فهي لم تخضع للتفسير المادي للتاريخ ولم تكن ذات علاقة بردود فعل لظروف الحضارات أو أحوال الأمم (ويخطئ من يقول أن الإسلام جاء بعد أن ضعفت الروم والفرس) أو أنه جاء نتيجة انقلاب في نظم الانتاج أو انبثاقاً من واقع اقتصادي.
ولا يمكن تفسير حروب الإسلام وفتوحه تفسيراً اقتصادياً أو القول بأنها كانت من أجل الفقر أو رغبة في الحصول على المغانم.
لقد أسقط الإسلام منطق التفسير المادي للتاريخ الذي يحتم انبثاق كل انقلاب سياسي من انقلاب مناظر في نظام الانتاج وعلاقاته.
لقد جاء الإسلام من البداية مقرراً المساواة في الغرض وضمان حد الكفاية للفرد وتحقيق التوازن الاقتصادي بين الفرد والمجتمع.
سابعاً: ليست هناك صلة بين المذاهب الاجتماعية والحقائق العلمية: الحقائق العلمية لا تثبت إلا في المعامل أما المذاهب الاجتماعية فهي نظريات من صنع عقول أو تخطئ وتصيب.(41/8)
ثامناً: لقد كان الإسلام عاملاً أساسياً في كل حركات التحرر التي قامت بها الشعوب المستعبدة في عصرنا وقد انطلقت النضالات الوطنية من تحت رأيه الجهاد في سبيل الوطن وكان الإسلام في هذه النضالات رمزاً للمقاومة الروحية والثقافية ضد الاحتلال والاستعباد.
تاسعاً: لقد انحسرت تلك الموجة الضالة التي حاولت أن تلتقط النصوص من السنة أو التراث لدعم وجهة نظر الغزو الثقافي.. وتبين أن كثيراً من النصوص التي أريد بها تأييد الديمقراطية أو الاشتراكية أو تحديد النسل ليست صحيحة.
عاشراً: فليحذر المسلمون اليوم وهم على الطريق لامتلاك أدوات الحضارة المادية وتراثها التكنولوجي والعلمي والميكانيكي أن تستوعبهم هذه الحضارة او تحتويهم في إطار الفكر الغربي الانشطاري للعناصر وعليهم أن يبدأوا من نقطة التوحيد والإيمان بالإخاء الإنساني والعدل والرحمة.
حادي عشر: إن بدايات النصر ومطالع الفجر يجب أن لا تخدع المثقفين وتخلق فيهم طمأنينة زائفة مستسلمة أو تصرفهم عن المثابرة والإصرار على تأكيد الخط الرباني الصحيح وتوسيد الطريق القرآني الأصيل وتثبيت الخطأ على الطريق المستقيم إلى الغاية الكبرى.
ثاني عشر: بالرغم من كل الضربات التي وجهت للمسلمين خلال القرن الرابع عشر فإن عددهم قد تضعفت إلى أن بلغ المليار على امتداد الكرة الأرضية كلها.
لقد تأخرت التجربة الإسلامية لتستعلن بعد أن فشلت كل التجارب يئس المصلحون العلمانيون.(41/9)
ثالث عشر: لقد أصبح المسلمون يملكون الطاقة والثروة والتفوق البشري وهم على أبواب استيعاب تكنولوجيا العلم بحيث يستطيعون استغلال مساحات واسعة من الأراضي وقدرات هائلة لم تستغل بعد، لقد جاء دور عالم الإسلام بعد أن نضبت آبار الغرب وثرواته ومصانعه التي عملت بخامات المسلمين أربعة قرون أو يزيد، وسوف تكون حضارة الإسلام متميزة بطابع العدل والرحمة والإخاء الإنساني، إن المسلمين اليوم ينتقلون من عصر اليقظة إلى عصر النهضة مروراً بمرحلة الرشد والأصالة والحفاظ على الشخصية والتماس المنابع.
رابع عشر: لا نقول قدمت أفغانستان: الفارابي وأين سينا أو قدمت فارس: الغزالي وأبو حنيفة: فالحقيقة أن الإسلام هو الذي قدمهما. وعندما يتحدث الكتاب عن الفوارق بين العقليات الفرنسية والإنجليزية والألمانية بينما هي مسيحية الأصل نجد أن للمسلمين عقلية واحدة موحدة في بلاد المسلمين جميعاً تشهد أصولها من التوحيد وجماع الروح والمادة.
خامس عشر: في مجال الدعوة إلى الحوار يجب الحذر فإن المسألة مرحلية والرأسمالية هي المسيحية. وإنهم يأخذون المسلمين ليكونوا (ردياً) للمسيحية في محاربة الشيوعية. والمعروف أن عداء المسلمين عداء قديم. ولكنها محاولة للاستفادة من الإسلام لخدمة الرأسمالية.
سادس عشر: أربع شخصيات ليست هي شخصيتنا الحقيقية:
المصرية الفرعونة، العربية قبل الإسلام، اليونانية، الأوروبية الحديثة.
سابع عشر: من الخطأ وصف الإسلام بأنه ثورة، ذلك أن الإسلام إصلاحاً لبيئة أو لعصر ولا جاء رداً على ظروف اجتماعية في القرن السابع الميلادي وليس مذهباً ولا نظرية ولكنه رسالة السماء الخالدة التي تختلف عن الأيديولوجيات والفكر البشري.
ثامن عشر: المفهوم النقي للإسلام، القرآني المصدر..
استقامة الفكر مع استقامة الخلق وطهارة الباطن مع طهارة الظاهر ونقاء الوجه مع نقاء السريرة.(41/10)
هذه الشخصية التي لا تطمح إلى شيء من متاع الدنيا وعاشت فقيرة وكانت تستطيع لو أرادت أن تحصل على الكثير ولقد عرض عليها الإغراء فأبت ورغبت فيما عند الله.
تاسع عشر: فهم الغربيون الإسلام منذ وقت مبكر، فهما أشد عمقاً من فهمنا فهموه على أنه منهج حياة ونظام مجتمع، ومن ذلك قول جوردون تشايلنن (في كتابه ماذا حدث في التاريخ) كثير من الناس يعرفون الإسلام كدين من الأديان ولكن قلما يفهمه كحركة من الحركات ولذلك يمكننا أن نختصر هذه الحقيقة في العبارة الآتية: الإسلام دين عجيب بين أديان العالم فهو يجمع بين الدنيا والدين.(41/11)
على طريق الأصالة: الأريوسية الموحدة – 12
منذ وقت بعيد وعلى ألسنة عدد من العلماء والباحثين المسيحيين تتردد الدعوة إلى إعلان بشرية السيد المسيح ونبوته للخالق تبارك وتعالى ومعارضيه ما تردده التفسيرات المسيحية التي تتحدث عن ما يسمى ألوهية السيد المسيح ولقد ظلت هذه الدعوة خافتة حتى جاءت ظاهرتان خطيرتان في الأيام الأخيرة إحداهما ذلك الكتاب الذي صدر في باريس تحت اسم: The Myth of God Incarnat
والذي كتبه سبعة من كبار رجال الكهنوت يعلنون فيه إنكار ألوهية السيد المسيح ويقرون ببشريته فقط. أما الأمر الآخر فهو تلك المخطوطات التي اكتشفت في كهف قمران والتي تثبت أن السيد المسيح نبي مرسل من عند الله وليس إلهًا ولا ابن الإله وإنما هو بشر اختاره الله تبارك وتعالى واصطفاه بالنبوة وأرسله لبني إسرائيل.
وترجع نسبة الأريوسية إلى أريوس الأسقف المصري الذي عارض محاولات تفسير الديانة المسيحية ونسبتها إلى مفاهيم قديمة بالتثليث أو ما يسمى بالطبيعة المزدوجة (وكلها مذاهب وفلسفات قديمة كانت قبل المسيحية وكان أن اقتبسها بولس في تفسيراته للمسيحية وبها نقلها من الديانة الربانية السماوية إلى ديانة بشرية ويقرر الأستاذ رشيد سليم الخوري في وصيته (تموز 1977 م):
إن الكنيسة المسيحية ظلت حتى القرن الرابع الميلادي تعبد الله على أنه الواحد الأحد وأن يسوع المسيح عبده ورسوله حتى تنصر قسطنطين عاهل الروم وتبعه خلق كثير من رعاياه اليونان والرومان فأدخلوا عليها بدعة التثليث وجعلوا لله سبحانه وتعالى أندادًا شاركوه منذ الأزل في خلق السماوات والأرض وتدبير الأكوان وما لأهم الأسقف الأنطاكي مكاريوس الذي لقب نفسه أرثوذكسي (أي مستقيم الرأي) فثار زميله الأسقف آريوس على هذه البدعة ثورة عنيفة شطرت الكنيسة واتسع بين الطائفتين نطاق الجدل حتى أدى إلى الاقتتال فانعقدت المجامع للحوار وفاز أريوس بالحجة القاطعة فوزًا مبينًا.(42/1)
بيد أن السلطة التي هي أصل البلاء وضعت ثقلها في الميزان فأسكت صوت الحق ونفذت الباطل واستمر المسيحيون ممعنين في ضلالتهم والحق يتململ في قيده منتظرًا أريوسًا جديدًا يعيده إلى نصابه.
وكانت صيحة الشاعر القروي تتمثل في قوله: "لكم أتمنى وأنا الأرثوذكسي المولد أن يكون هذا الأريوس بطريركيًا أرثوذكسيًا بطلاً ليصلح ما أفسده سلفه القديم ويمحو عنا خطيئة ألصقها بنا غرباء غربيون ولطالما كان الغرب ولا يزال مصدرًا لمعظم عللنا في السياسة وفي الدين على السواء".
هذه هي صيحة الضمير التي هزت من الأعماق كثير من المسيحيون المثقفون والعلماء وفي مقدمتهم هؤلاء الخمسة نفر من رجال الكهنوت الذي أصدروا كتابهم الذي هو الحياة الفكرية والاجتماعية في أوروبا هزًا عنيفًا. إذ أن هذه الصيحة إنما جاءت بعد إرهاصات كثيرة متعددة سبقها فئة من رجال الدين في اليونان ترفض القول بألوهية المسيح.
وسبقها ظهور كتاب لأستاذ في جامعة السربون هو الأستاذ شارل كينيبر وسبقه ما أعلنه القس دافيد إدوارز من كنيسة وسمنستر أما هؤلاء الخمسة ففي طليعتهم القس موربس ولز رئيس لجنة المعتقدات في كنيسة إنجلترا وأستاذ الإلهيات في جامعة أكسفورد، وكلما تنبني الرأي الإسلامي القائل بأن السيد المسيح لم يتخذ لنفسه طابع الألوهية وإنما جعل إلهًا فيما بعد بتأثيرات وثنية في أوائل القرون الأولى للمسيحية.(42/2)
وتقرر هذه الآراء في مجموعها كما فضها الدكتور معروف الدواليبي بأن القول بألوهية المسيح وبالتثليث وبأنه ابن الله لم يعرف شيء من تلك في حياة المسيح نفسه وتجزم هذه الآراء في مجموعها بأن القول بأن المسيح ابن الله وأنه إله وأنه واحد من ثلاثة: إنما هو صورة للعقائد الوثنية في الهند والشرق الأقصى نقله إلى أوروبا وخاصة إلى روما في هجرات الشعوب "الهند وأوروبية" ثم أدخلت في عهد الامبراطورية الرومانية على الديانة المسيحية لتحتل في شكلها الجديد محل عقيدة التثليث في عقائد روما الوثنية من غير تبديل إلا في الأسماء.
وهذا هو ما سهل على الروم بعد ذلك قبول المسيحية في نفس روما الوثنية من غير تبديل إلا في الأسماء وهذا هو ما سهل على الروم بعد ذلك قبول المسيحية في نفس شكل الوثنية عندهم وكل ذلك كان مجهولاً في بلاد المسيح خاصة وقد أرسل المسيح إلى بني إسرائيل ولم يكن لديهم حينذاك شيء من ذلك، بل كانوا موحدين.
فإذا أضفنا إلى هذه الظاهرة: ظاهرة أخرى أشد قوة هي أن مخطوطات قديمة ظهرت فجأة في كهف قمران وكلما تؤكد البشرية للسيد المسيح وتنفي عنه الألوهية.
وإن هذه مخطوطات مكتوبة في القرن الأول للسيد المسيح عرفنا إلى حد تتجلى اليوم هذه الحقيقة التي ظلت مطموسة أكثر من ستة عشر قرنًا أي منذ عقد مؤتمر شيعة عام 350 ميلادية وقرر أن السيد المسيح إله وابن إله مخالفًا بذلك كل النصوص والوثائق والكتب المحصورة في ذلك العهد.
ولقد كان من أخطر الأحداث ذلك الكشف الأثري الخطير الذي وقع عام 1947 م على شاطئ البحر الميت عندما عثر أحد البدو حينما ضلت عنزاته فاهتدى إلى أحد الكهوف على تلك الجرار الحجرية الغربية التي تشتمل على مخطوطات دينية أذهلت العالم المسيحي بأسره وقد أطلق عليها كشوف شاطئ البحر الميت أو خربة قمران التي تقع جنوب مدينة أريحا (ثمان أميال).(42/3)
وقد عرف من بعد أن هذه الكتابات مما لا يقدر بثمن لأنها ألقت الضوء على مرحلة خطيرة من تاريخ المسيحية وتاريخ السيد المسيح نفسه والتي كتبت قبل مولد السيد المسيح بسنين طويلة وقد أسرعت بعثات الجامعات والفاتيكان إلى الحصول على هذه الملفات أو أجزاء منها وأنفقت الحكومة الأردنية خمسة عشر ألف دينار في سنة واحدة لشراء هذه المخلفات الأثرية العظيمة.
وقد أجريت فحوص دقيقة على هذه المخطوطات من قبل مؤتمر للمستشرقين عقد في باريس أثبتت فيها أنها وثائق حقيقية لا زيف فيها ولا تلاعب وقد وصفها واحد من أعظم علماء الآثار من المتخصصين في آثار التوراة وهو الدكتور ألبرايت من الولايات المتحدة بقوله (إنها أعظم اكتشاف للمخطوطات في العصر الحديث وأفضل تاريخ يمكن أن تكون كتبت فيه هو مائة سنة قبل الميلاد بالحساب التقديري المعروف الآن).
وقد تبين كما يقول الدكتور صبحي الدجاني إن هذه الملفات كتبت بأيدي كتبة في (دير الاسينين) الذي ما زالت خراثبه وأطلاله وبقاياه بادية للعيان إلى يومنا هذا على مقربة من الكهف الذي اكتشفت فيه أول مجموعة من هذه الملفات.
هؤلاء الاسينيون كانوا طائفة يعتقدون أنهم ورثة عهد النبوة وكانت طقوسهم وتعاليمهم وثيقة الصلة بتعاليم الدين المسيحي، وقد أودعوا جميع ما عندهم من ملفات في الكهوف عندما فروا ليأمنوا شر الاضطهاد الروماني الذي كان واقعًا عليهم في ذلك الحين.(42/4)
ويقول العلماء إن السيد المسيح عليه السلام ربما يكون واحدًا من هؤلاء الاسينيين وأنه كان متأثرًا إلى حد بعيد بطقوسهم وعقائدهم. وكان الاسينيون يعتبرون ثروتهم حصة مشتركة بينهم وأنهم يعتقدون بخلود الروح وتتحدث نصوصهم عن واحد منهم يعلو عليهم كثيرًا ويسمونه "السيد الأكبر" المدهون بالزيت أو المسيح الذي اختاره الله وتتحدث وثائق الاسينيين الذين كانوا يقيمون في الدير على مقربة من البحر الميت أنهم كانوا يشعرون بتسام روحي له شكر موجه إلى الله تبارك وتعالى الواحد الأحد.
وتتحدث الوثائق عن حياة هذا السيد بما يشبه حياة السيد المسيح وقد استقرت في الأذهان فكرة مؤداها أن هذا السيد أو المعلم الذي كان ينزل عليه الوحي.
ويقول (ج. ل. تيتشر) أحد أساتذة كمبردج: إن أحد المراجع الأساسية في ملفات البحر الأسود، إن معلم البر والتقوى الذي يتحدث عنه الاسينيون هو نفسه يسوع المسيح ولا أحد غيره.
ويقول جون كلارك صاحب بحث صاف عن الوثائق أنه من الممكن أن المسيح قد عاش قبل مائة سنة قبل التاريخ الذي أجمع الناس عليه حتى الآن وإن في ذلك جواب مقنع للذين طالما أعربوا عن شكوكهم في الأدلة التاريخية الواردة عن مولد السيد المسيح لأنها قليلة ومليئة بالمتناقضات.
ويقول إبراهيم مطر: إن هذه المكتشفات قد اقتضت دراسة استمرت سنوات طويلة ولا تزال. ويعتقد العلماء أنه قد برحت جماعة من الناس المحبة للعزلة إلى تلك الواقعة بجوار البحر الميت فرارًا من المدن الصاخبة وسكنت هذا الغور المقفر عند طرف الصحراء الموحشة فالتجأت إلى نظام رهباني شديد وحياة مشتركة شاملة.(42/5)
وقد هزت هذه المكتشفات الأوساط المسيحية والغربية ورجال الآثار حيث وجدت أدراج وأطمار ومخطوطات متنوعة وقطع من النقود الوفيرة والأواني المطبخية والجرار الفخارية كما عثر على مختلف أسفار العهد القديم ما عدا سفر (استير) فضلاً عن بضعة آلاف من المخطوطات الممنوعة ذات القيمة التاريخية والأثر العظيم وحمله القول أن كشوف كهف قمران تؤكد وجود السيد المسيح البشر النبي المرسل إلى اليهود.
وقد استتبع هذا الكشف هجرة عدد من علماء اللاهوت المسيحيين لدراسة هذه المخططات وقد نشرت مجلة (تايم) في عددها المؤرخ (11 نوفمبر 1966 م) بحثًا مطولاً تحت عنوان (انقلاب أو ثورة أجراها القس المسيحي بايك وقد صدرت غلاف المجلة صورته وهو قس مسيحي أمريكي قالت المجلة أنه يتسم لا بالجمود الفكري ولا بالجمود العقائدي بل بالبحث عن الحقيقة. وكان قد ذهب بعد ذلك وفقد هنا لك وألفت زوجته كتابًا في البحث عنه ويقول الأستاذ محمد عزة دروزة أن البحث قد كشف عن أن فرقًا من النصارى ظلت محافظة على عقيدة التوحيد وظل لبعضها أتباع كثيرون حتى أواخر القرن السادس الميلادي ثم انقرضت كلها بعد ذلك بسبب اضطهاد الدولة الرومانية بعد أن قضت على عقيدة التوحيد واعتقدت عقيدة التثليث رسميًا في مؤتمر نيقة 325 م ومن أهم هذه الفرق (الاريسيون) وهم أتباع اريوس وإليه ينسبون والمعروف أن اريوس كان قسيسًا في مدينة الإسكندرية في أوائل القرن الرابع الميلادي وكان راعيًا قوى التأثير في سامعيه واضح الحجة جريئًا في المجاهرة برأيه وقد قاوم وقتئذ ما ذهب إليه بطريرك الإسكندرية (مكاريوس) من القول بألوهية المسيخ وبنوته لله إذ قام اريوس يقرر ويعلن أن المسيح ليس إلهًا ولا ابنًا للإله وإنما هو بشر مخلوق ورسول الله وأنكر كل ما جاء في جميع الكتب الأربعة (أناجيل متى ومرقص ولوقا ويوحنا).(42/6)
وما ألحق بها من رسائل وهناك فرقة ميلتوس وكان قسيسًا في كنيسة أسيوط يرى ما يراه الاريسيون من أن المسيح عليه السلام ليس إلهًا ولا ابنًا للإله وإنما هو بشر رسول مخلوق.
وقد ذكر ابن البطريق في تاريخه وهو من رجال القرن الثالث الهجري وكان من مترجمي الخليفة المأمون – قال في بيان مذهب اريوس: إنه كان يقول إن الأب وحده هو الله وأن الابن مخلوق مصنوع وقد كان الأب حينما لم يكن الابن وقد تبعه مشايعون كثيرون وكانت كنيسة أسيوط على هذا الرأي وعلى رأسها ميلتوس.
وكان أنصاره في الإسكندرية نفسها، وتبعه خلق كثير في فلسطين ومقدونية والقسطنطينية وحكم عليه بالطرد من الكنيسة في مجتمع نيقة 325 وتكفيره بعد أن أصدر ذلك المجمع قراره بألوهية المسيح وهناك بولس الشعشاطي تحدث عنه ابن حزم في كتابه "الفصل والملل والنحل"، وكان يقول: وإن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله في بطن مريم من غير ذكر وأنه إنسان لا إلهية فيه وقد أشار القرآن إلى تلك الفرق النصرانية التي حافظت على عقيدة التوحيد النقي وانقرضت قبل ظهور الإسلام وأثنى عليها القرآن وحكم بنجاة أفردها من العذاب.
(ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر) الآية.
(إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم) الآية.
(وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا. أولئك لهم أجرهم) الآية.(42/7)
وقد أثبتت الأبحاث الحارة أنه بتقليب (الكتاب المقدس) يتبين أنه لا يوجد به أي شيء من عقائد النصارى الحالية أي لا توجد فيه قصص الآب والابن أو الثالوث وألوهية المسيح وصلبه أو موته وقيامته أو المعمودية بمفهوم النصرانية للغفران من خطيئة آدم أو ما يشير إلى اتحاد الابن الأزلي بالأب أو ما شابه ذلك.
وإن عقائد النصرانية المشار إليها لا توجد في أقوال المسيح إلا في أقوال تلاميذه الذين آمنوا به وسمعوا عنه تعاليمه مما تعيقه معه أن مسائل التثليث وتأليه المسيح وتأليه روح القدس أمور لا أصل لها في كتب الله وفي جوهر الديانة ولكنها أمور مخترعة بعضها اخترع بمعرفة بولس: الذي كان عدوًا للمسيح وأتباعه في أول أمره كما أن المسيح لم يختره من تلاميذه فضلاً عن أنه لم يرد المسيح ولم يسمع عنه مواعظه.
وبعض الأمور اخترع بمعرفة آباء الكنيسة ومجامعها المسكونية في القرون التالية للمسيحية وأن بشارات الأنبياء التي أعلنت مجيء المسيح في العهد القديم ما ذكرت عنه إلا كونه نبيًا من أنبياء دون أي إشارة إلى أنه سيقتل أو يصلب.
ولقول دائرة معارف لاروس: إن تلاميذ المسيح الأولين الذين عرفوا شخصيته وسمعوا قوله كانوا أبعد الناس في الاعتقاد بأنه أحد الأقانيم الثلاثة المكونة لذات الخالق وما كان بطرس تلميذ المسيح يعتبر المسيح أكبر من رجل يومي إليه من عند الله.
وأشار هربرت ولز إلى أن هذه المبارد والشعائر موضوعة ولا سند لها في الأناجيل.
ومن العسير أن نجد آية كلمة تنسب فعلاً إلى المسيح فسير فيها مبادئ الكفارة والفداء أو خص فيها أتباعه على تقديم القرابين أو اصطناع عشاء رباني.
ويقول أن كلمة (أقنوم) لا وجود لها حتى في تلك الأناجيل أو الرسائل الملحقة بها بل ولا في العهد القديم.(42/8)
وقد كشف الباحثون بما لا يدع مجالاً للشك بأن المطلع على الأناجيل الثلاثة الأولى المنسوبة إلى متى ومرقص ولوقا يجد أنها لا تحوي أي إشارة عن التثليث أو ألوهية المسيح أو ألوهية روح القدس أو عقيدة الفداء (وهو تجسيد الابن وظهوره بمظهر البشر ليصلب تكفيرًا لخطيئة آدم) كما يزعمون.
وإن ما جاء في ألوهية المسيح فقد جاء بإنجيل يوحنا، وهذا الإنجيل لا يسلم به محققوا النصرانية، فعلماء النصرانية في أواخر القرن الثاني الميلادي أنكروا نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري وهذا يقطع بأن الإنجيل المنسوب إلى يوحنا مزور النسبة إلى يوحنا الحواري.
وقال العالم أستاولن في العصور المتأخرة (لقلة صاحب كاتلك المجلد بالمطبوع 1944 م، إن كافة إنجيل يوحنا تصنيف أحد طلبة مدرسة الإسكندرية في ذلك الوقت).
تلك المدرسة التي اعتنقت مبادئ الثالوث وألوهية المسيح والروح القدس وبشرت بها جاء ذلك في دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تأليفها 500 من علماء النصرانية ما نصه:
أما إنجيل يوحتا فإنه لا مرية ولاشك كتاب مزور.
يقول: أكهارن في مقدمة أبحاثه أن كثيرًا من العلماء كانوا شاكين في الأجزاء الكثيرة من أناجيلنا لذلك كان من التجوز إضافة مجموع العهد الجديد إلى الله أو إلى المسيح بل إنه يضاف إلى مصنفه فقط كما يقال حاليًا: إنجيل كذا ورسالة كذا:
كذلك فإن المسيح ما جاء أساسًا إلا لشعب اليهود يدعوهم إلى عبادة الله وحده وإلى ترك ما هم فيه من شرور وآثام، وقد ورد في (إنجيل متى اصحاح 15) لم أرسل إلا إلى خراف بني إسرائيل الضالة، وقد دعا المسيح تلاميذه الاثنى عشر إلى تبشير بني إسرائيل فقط لذلك لم تكن رسالة المسيح إلا رسالة قومية يهودية إلى قومه من اليهود وليست رسالة عالمية كما يزعم الرهبان والقساوسة حاليًا بل إن هذا من مخترعاتهم التي لا أساس. والإشارة السابقة تؤكد هذا النظر ذلك أن هؤلاء الاثنى عشر أرسلهم يسوع وأوصاهم قائلاً:(42/9)
إلى طريق أمم لا تمضوا وإلى مدينة ليسامرين لا تدخلوا، بل اذهبوا بالجري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة. وقد حسم القرآن الكريم الموقف في قوله تعالى (ورسولا إلى بني إسرائيل).
وقد عقدت مجلة تايم (فبراير 1978 م) بحثًا هامًا اشتغلت به دوائر وجامعات وكنائس العالم الغربي وهو: ظاهرة الدعوة إلى إنسانية المسيح أو بشرية المسيح والمعارضة لألوهية المسيح فقالت:
إن موجة الرفض لفكرة ألوهية السيد المسيح أو ازدواج طبيعة تزداد قوة وانتشارًا في أوساط المفكرين واللاهوتيين سواء في الجامعات أو في الكنائس الغربية وهؤلاء الرافضون يعلنون أنه لا توجد في الإنجيل ولم يثبت عن السيد المسيح القول بألوهيته، ويؤكدون أنه عليه السلام بشر عادي. وتقول مجلة تايم:
إن هؤلاء الرافضين يمثلون مجموعة دولية تطالب الكنيسة الكاثوليكية باتخاذ موقف شجاع في هذه القضية.
فإذا عرفنا أن مخطوطات كهف قمران قد أهيل عليها التراب بعد قليل وحجبت عن البحث الحر ومات القس الذي ذهب إلى هناك ولم يستطيع أحد التوصل إلى شيء عرفنا إلى أي مدى تحاول دوائر الغرب مواجهة الموقف على طريقة النعامة التي تدفن رأسها في الرمال ولكن إلى متى، فإذا أضفنا إلى هذا كله ما أعلنه دكتور بركاني في كتابه عن زيف النصوص الموجودة في العهد القديم عن خلق الكون وغيره عرفنا إلى أي حد تتهاوى هذه الكتب، وذلك أن الكتب القديمة تواجه تحديًا خطيرًا نتيجة بروز منهج العلم والبحث العلمي القائم على التجربة والنظر وللمقارنة وقد جاءت الكشوف الأثرية في السنوات الأخيرة فكشفت عن زيف كثير من دعاوى الصهيونية عن إبراهيم وإسماعيل وتجاهلها وحجبها لرحلتهما إلى الحجاز وإعادة بناء الكعبة.(42/10)
ويقول رودلف بولتمان أستاذ علم اللاهوت في جامعة ماربورج (المدينة الألمانية العتيقة) إن العهد الجديد (أي الإنجيل) يجب أن يجرد من العناصر المثيولوجية (الأسطورية) التي فيه إذا كنا نريد لهذا الكتاب المقدس أن يعني شيئًا حقيقيًا ما بالنسبة إلى الرجل العادي اليوم، ويقول:
إن عالم الأناجيل يبدو في نظر الرجل المعاصر مختلفًا عن عالمنا اختلاف المريخ عن الأرض، فالكون في العهد الجديد أشبه ما يكون ببيت مكتظ ويقول إن لغة الميثولوجيا التي كانت ذات مغزى في أيام العهد الجديد والمستمدة في الدرجة الأولى من الغنوصية الإغريقية والرؤية النهوية (كرؤية يوحنا وما إليها) ويعتقد أننا لو توقعنا من العصريين من الناس الإيمان بذلك كشيء حقيقي يكون توقعنا هذا عملاً أحمق، وهكذا نرى أن البحث العلمي الغربي أصبح ينظر إلى الكتاب المقدس من كلا النواحي التاريخية والأثرية والعلمية نظرة مغايرة لنظرة التسليم القديمة التي كانت تقوم على الإيمان أولاً ثم التفكير ثانيًا وهنا يبرز مدى الخلاف بين القرآن الكريم الذين يقوم على البرهان والدليل وتقديم سنن الله في الكون والأمم والحضارات والتأمل في خلق الله والنظر في الكون لتكون وسيلة إلى الإيمان بالله وبين هذا الأسلوب.
ومن هنا نرى أن الشاعر القروي: رشيد سليم خوري قد تفتح قلبه على هذه المعاني وقال: إنه كان ينوي إعلان إسلامه ولكنه رأى أن يقوم بدور هام في المسيحية يكون قدوة لإخوانه أدباء النصرانية، وتلك عبارته: وهو أن أصحح خطأ طارئًا على ديننا قررت أن تكون الخطوة الأولى لي في إيقاظ (الأريوسية الموحدة) من رقادها الطويل حتى تزول العقبة المغلقة بين الإسلام والنصرانية وقال إني أعلن عزوفي عن أرثوذكسيتي المكاريوسيه إلى الأرثوذكسية الأريوسية ومطالبة الأرثوذكسية بالعودة إلى أصلها التوحيدي الفطري إلى الجناح الذي كان يمثله "آريوس" الذي رفض التثليث ويقول:(42/11)
"لكم أتمنى أنا الأرثوذكسي المولد أن يكون هذا الأريوسي بطريركيًا بطلاً ليصلح ما أفسده سلفه القديم ويمحو عنا خطيئة ألصقها بنا غرباء غربيون ولطالما كان الغرب ولا يزال مصدرًا لمعظم عالمنا في السياسة وفي الدين على السواء".
هذه الأريوسية التي ذكرها الشاعر القروي والتي تتردد الآن على ألسنة الباحثين اللاهوت هي التي أشار إليها الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه إلى قيصر الروم حين وجه إليه الدعوة إلى دخول الإسلام وحين قال "فإن أبيت فعليك إثم الأريسيين" وقد حاول مفسروا الحديث تفسيرها فقيل أنهم العشارون أو الأكارون أي الفلاحون أو الحرثين وقيل الضعفاء والأتباع أو أهل المكوس وبمراجعة كتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس وكثري والنجاشي نجد أن العبارة ترد هكذا وإلا فعليك إثم القبط إثم المجوس، إثم النصارى من قومك فهي تحمل الملوك تبعة أهل دينهم ولم يرد فيها أي ذكر للفلاحين أو الأكاريين وهكذا وصل الدكتور الدواليبي إلى أن الخطاب حمل هرقل تبعة أهل دينه وخاصة الأريسيين (أتباع أريوس) ممن ثبت أنهم كانوا الفئة الغالبة لدى الروم وأنهم كانوا يؤمنون ببشرية المسيح وينكرون ألوهيته والتثليث والحلول وأنهم كانوا يكرهون على القول ضد ذلك وإلا فالقتل والتنكيل والتحريف لهم ولكتبهم ومعابدهم.
وهي تعني في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إن في رهط هرقل فرقة تعرف بالأريوسية فجاء النسب إليهم كما أورده ابن الأثير حين قال "قوله الأريسيين هو جمع أريسي وهو منسوب إلى أريس بوزن فعيل"وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله خبر أريوس عن كتب النصارى أنفسهم حتنيال كما قال: إن التابعين لأريوس والقائلين بمقالته قد سموا (أريوسيين) مشتقًا من اسمه.(42/12)
وكان أريوس من كبار رجال النصرانية من أهل الإسكندرية ولد 285 بعد الميلاد وتوفي 336 ميلادية وكان معاصرًا لقسطنطين وقد وقف بكل قواه ضد قرارات المجمع المسكوني الأول الذي دعا إليه قسطنطين والذي تبنوا فيه "وثنية" روما في شكل مسيحي في اجتماع لرجال الدين ضم نحوًا من ألفين وخمسمائة رجل حيث رفضت أناجيلهم التي بلغت المائة ومنها إنجيل الحواري "برنابا" ولم يقبل منها غير الأربعة المعروفة اليوم والمقبولة فقط من قبل نحو مائتين من أصل الحاضرين الذين بلغ عددهم نحوًا من ألفين وخمسمائة رجل.
وهكذا ولدت الديانة الجديدة والكاثوليكية منذ ذلك التاريخ في مطالع القرن الرابع بقرار من نحو مائتين من كهنوت الروم مدعمين بسلطة قسطنطين ولم يسمح بعد ذلك بالاعتماد على واقع المسيحية وتاريخها السابقين أو على أحد أناجيلها الباقية والبالغة (96 إنجيلاً) وقد عارض أريوس بكل عنف قرارات المجتمع المسكوني بألوهية المسيح وبعقيدة التثليث معلنًا بشرية المسيح مجاهرًا بأن الله واحد ومنزه عن الحلول بأحد وقد هزت وقفته الجبارة هذه الإمبراطور قسطنطين نفسه، لذلك عقد المجمع الثاني ممن قالوا بألوهية المسيح والتثليث وبنوة المسيح لله فقط ليناقشوا أريوس فيما يدعو إليه ولكن أريوس ظل كالطود في عقيدته فحكموا عليه بالكفر والنفي وأخذوا ينكلون بمن كان يقول بقوله.(42/13)
ويحرقون أناجيلهم وكنائسهم، حتى أرغموا الناس على التظاهر بقبول العقيدة الكاثوليكية وقد كان في الإمبراطورية الرومانية ثلاثة بطاركة في (استانبول) وأنطاكية والإسكندرية وقد نقل شيخ الإسلام ابن تيميه عن كتبهم في كتاب الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح فقال: إنه كلما عين الإمبراطور بطرقًا على هذه المدن الثلاث لا يلبث أن يظهر لهم أنه (أريوس) فيقتل أو يطرد وينكل به وبأصحابه حدث هذا وظل مستمرًا حتى جاءت دعوة الإسلام وكتب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل يقول "فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم فإن توليت فعليم إثم الأريسيين وهكذا ارتفع صوت رسول الإسلام لحماية الأريسيين من مذابح الكاثوليكية. ومهد لدعوة الإسلام بالقبول الفوري لدى النصارى في كل من سوريا ومصر من بعد.
وقد ظل تاريخ الأريوسية مجهولاً كما يقول الدكتور الدواليبي الذي نقلنا عنه هذه النصوص التاريخية، حتى جاء اليوم، الذي يتحدث فيه كتاب الغرب من لاهوتيين وغيرهم عن هذه الدعوة التي وأدتها الكاثوليكية وبعد أن كشفت الأبحاث العلمية، ومفاهيم الإسلام المنقولة إلى الفكر الغربي عن فساد التفسيرات التي أضافها بولس وغيره إلى حقيقة الدين المنزل على السيد المسيح وأنها معارضة للفطرة ولسنن الله في الكون والمجتمعات وعلت اليوم الصيحة التي سوف يحتاج في السنوات القادمة كل الركام البشري دعوة (بشرية المسيح) ووحدانية الله تبارك وتعالى من غير حلول ولا تثليث.
... ... ... ... ... الأستاذ أنور الجندي(42/14)
سلسلة على طريق الأصالة
18
على المحجة البيضاء
عطاء الإسلام في وجه العلم الحديث
###3### بسم الله الرحمن الرحيم
على المحجة البيضاء
عطاء الإسلام في وجه العلم الحديث
في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).
ونحن في مواجهة شبهات كثيرة مثارة على الفكر الإسلامي نجد أن هناك حقائق أساسية عجز التغريب عن تزييفها ووجد من علماء الغرب أنفسهم من يؤكد وجودها، وكان لحركة اليقظة الإسلامية دور كبير في الكشف عنها.
أولا: أصالة المسلمين في إقامة منهج كتابة التاريخ:
شهد الأستاذ هوتشو المؤرخ البريطاني المشهور للمسلمين بأنهم أصحاب منهج أصيل في التاريخ يقول: إذا كان (الإسناد) عن العرب والمسلمين هو أساس نقد الأخبار فقد كان أساس ضبطها هو التوقيت الدقيق لها بالسنين والشهور والأيام وهو ضبط انفردوا به عن نظرائهم عند اليونان والرومان وأوروبا في العصور الوسطى.
وقال المؤرخ بكل: إن التوقيت على هذا النحو لم يعرف في أوروبا قبل عام 1597.
###4### وقد جرت كتابات استشراق كثيرة تحاول أن ترد منهج كتابة التاريخ الإسلامي إلى مناهج الفرس أو مناهج اليونان السابقة لها، ولكن ذلك كله لم يستطع أن يصل إلى حد الصدق وباتت كل هذه الشبهات ولا سند لها، كذلك فإن (النقد) عند المسلمين قد اتخذ منهجين متكاملين فانصب على الرواة من ناحية تحت اسم (الجرح والتعديل) وجرى من ناحية أخرى في (نقد النص) نفسه وامتحانه والتأكد من سلامته.
ثانيًا: أصالة المسلمين من صناعة الأحداث:(43/1)
وهذا يعني أن الإسلام نفسه كان منطلقًا لعصر جديد في العالم كله وقد أعلن الأستاذ بيرون في المؤتمر الدولي للعلوم التاريخية الذي عقد في مدينة (أوسلو، عاصمة النرويج) في 14 آب 1920 إلى اعتبار أن ظهور الإسلام هو خاتمة العصور القديمة وبداية إيقاظ الإنسانية في أول عصورها المتوسطة باعتبار أن الإسلام هو بداية العصر العربي.
وخطأ المؤرخ الغربي في القول المذاع بأن انقسام الدولة الرمانية إلى شرقية وغربية بحسبانه بداية عصر النهضة متجاهلين أن ظهور الإسلام هو أعظم حادثة في العصر الحديث بينما اعترف كثير من كتاب الغرب بهذه الحقيقة.
ثالثًا: أصالة ارتباط العرب والترك في دائرة الجامعة الإسلامية:
###5### أكد كثير من الباحثين سلامة الخطة التي خطاها العرب بالاندماج في الدولة العثمانية في النصف الأول من القرن السادس عشر، وذلك لمواجهة خطر الغزو الاستعماري الذي كان قد تجدد مرة أخرى بعد انتهاء الحروب الصليبية وهزيمة الغرب بعد قرنين كاملين من الحملات – نعم تجدد الغزو في محاولة جديدة – وكانت الرابطة التي قامت بين العرب والترك هي رابطة إسلامية أصيلة مع أكبر قوة عسكرية من أبناء الإسلام لصد خطر الإفناء الصليبي الذي صاحب نهضة الإفرنج وبدأ عصر السيطرة الاستعمارية، كذلك فقد دخل أمراء لبنان وشريف مكة تحت الحكم العثماني باختيارهم، أما دخول الجزائر تحت هذا الحكم فقد تم دون حرب بل بمحض إرادة حاكمها خير الدين المعروف بباذرباروس.
رابعًا: أصالة العرب بالنسبة للاحتواء الغربي:(43/2)
إن تجربة الاتحاديين في تركيا التي احتوتها المحافل الماسونية والنفوذ الأجنبي (1909 – 1918) قد فتحت عيون العرب إلى ما فيها من أخطار وما وراءها من قوى فلم يترددوا في شجبها، كذلك فهم قد رفضوا التحول التغريبي الذي تورط فيه مصطفى كمال أتاتورك وشوه به وجه تركيا الإسلامية وقد تأكد فشل التجربة اليوم فشلا تامًا وعندما نحاول تقييمها فإننا نجد أنها لم تحقق للأتراك ذلك الوهم الذي كانوا يخدعون به فظلوا دولة ضعيفة إذ امتنع الغرب عن إعطائهم ###6### من العلم التجريبي والتكنولوجيا بل وسخر منهم أرنولد توينبي على أنهم لم يقدموا شيئًا للحضارة الغربية وظلوا عالة على أوروبا، وقد أشار إلى ذلك (هاملتون جب) الذي قال إن العرب لن يكرروا التجربة التغريبية التركية. هذا وقد عاد الأتراك مرة أخرى إلى الأصالة وهم اليوم بسبيل استعادة مكانة عقيدتهم وقيمهم وأصولهم التي عرفوها وآمنوا بها منذ أربعة عشر قرنًا.
خامسًا: أصالة المسلمين بالنسبة للتجربتين الماركسية والليبرالية:
وبالرغم من أن التجربة الرأسمالية الليبرالية بدأت بنفوذ الاستعمار، ويحلق أطر ومدارس وأجيال تؤمن بها وتحمل لواءها فإنها وجدت إعراضًا في العالم الإسلامي كله في التطبيق وعجزت الأيدلوجيات الوافدة أن تحقق مطامح النفس المسلمة التي شكلها القرآن والتوحيد والشريعة. وكذلك جاءت التجربة الماركسية فوجدت نفس الاستجابة بالإعراض أيضًا. وقد تبين أن النفس المسلمة لا تقبل الاحتواء وترفض الانطواء تحت مفهوم إعلاء الفردية وصولا إلى الرأسمالية الربوية أو مفهوم طحن الفرد وصولا إلى إعلاء طبقة خاصة.
سادسًا: أصالة المفهوم الإسلامي بالنسبة للقوميات والإقليميات:(43/3)
كشف المفكرون المسلمون فساد الدعوات التي طرحت في أفق الفكر الإسلامي في البلاد العربية عن إعلاء الآشورية أو البابلية أو الفرعونية أو الفينيقية وبينوا بدليل التاريخ القاطع أن هذه كلها موجات عربية ###7### خرجت من الجزيرة العربية ونزحت عن موطنها الأول وانداحت في هذه المنطقة العربية الحنيفية (أبناء إسماعيل) الذين نزلت عليهم رسالة التوحيد قبل أن تغلب العنصرية على الحنيفية.
سابعًا: أصالة المفهوم الإسلامي في مواجهة العلمانية:
كشفت حركة اليقظة الإسلامية عن أن المجتمع الإسلامي ينبذ فكرة العلمانية لأنها لا تجد مكانًا في أوضاعه القائمة على تكامل الاجتماع دينًا ودولة من حيث أن الإسلام نفسه دين ومنهج حياة ونظام مجتمع. أما العلمانية فهي حركة غربية استهدفت إقصاء تفسيرات المسيحية عن الحياة العربية بعد أن عجزت هذه التفسيرات عن أن تقدم للمجتمع المسلم أو النفس الإنسانية ما يرضيها، ذلك أن الإسلام لم يعرف الحكومة الثيوقراطية أو حكومة رجال الدين ولم يجعل للإكليروس نفوذًا على الناس يبيع لهم صكوك الغفران.
ثامنًا: أصالة المفهوم الإسلامي في مواجهة العلاقة بين العروبة والإسلام:
فقد كشفت الأبحاث الإسلامية المعاصرة عن أن العلاقة بين العروبة والإسلام تختلف اختلافًا شديدًا عن العلاقة بين القوميات في أوروبا وبين الكتب، ويؤكد أن الذين درسوا هذه الفكرة من الغربيين أمثال ويلفرد كانتول سميث: إن تاريخ الشرق الأدنى الحديث يدل على أن القومية المجردة ليست القاعدة الملائمة للنهوض والبناء وأنه لم يكن المثل الأعلى إسلاميًا على وجه من الوجوه ###8### فإنه لن تثمر الجهود المبذولة من أجل النهضة وكذلك فإن العرب والمسلمين جميعًا قد استمدوا مقاومتهم في العصر الحديث للاستعمار واندفاعاتهم الوطنية من أجل الحرية من مفاهيم الإسلام نفسه.(43/4)
كذلك تبين أن عروبة الفكر تعني إسلاميته، فليس هناك فلسفة عربية في الفكر غير مستمدة من القرآن وأن محاولة خلق فلسفة عربية معاصرة معزولة عن الإسلام هي محاولة زائفة ولا استمرار لها في الظروف المفروضة بقوة النفوذ الأجنبي.
كذلك تبين بما لا يدع مجلا للشك أن محاولة خلق وجود عربي أو عروبة أو فكر عربي على الوجه العلماني المنفصل عن الإسلام أمر بالغ الاستحالة وبالغ الابتعاد عن الذاتية العربية الإسلامية الجوهر والمزاج النفسي الذي أنشأه القرآن، ونماه منذ أربعة عشر قرنًا.
تاسعًا: أصالة المفهوم الإسلام بالنسبة للمناهج التربوية والتعليمية الوافدة:(43/5)
كشفت الدراسات والأبحاث التي قام بها كتاب اليقظة الإسلامية في العصر الحديث أن مناهج الدراسة في المدرسة والجامعة في أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي تخضع للمنهج الغربي في التربية والتعليم ولذلك ###9### فهي تقصر عن العطاء الحقيقي للشباب المسلم، ولأنها تستمد مفاهيمها من الأيدلوجيات والفلسفات الوافدة فإنها (أولا) لا تغطي بأمانة حقيقة الدور الذي قام به المسلمون في بناء القلعة التجريبية والطبيعية والرياضية – هذا الدور الخطير الذي كان من أبرز معالمه إنشاء المنهج التجريبي الإسلامي أساس الحضارة الغربية القائمة، كذلك فإن للفكر الإسلامي مفهومه الأصيل في هذه المناهج المطروحة عن الاجتماع والنفس والفلسفة والسياسة والاقتصاد، وهي تستمد مفاهيمها من الرأسمالية الغربية والماركسية وتسيطر عليها الفلسفة المادية والمفاهيم التلمودية الصهيونية، بينما لهذه الأمة فكرها الأصيل ومنهجها الرباني الذي يختلف اختلافًا عميقًا عن الانشطارية الغربية حيث يقوم جامعًا بين العلوم والدين والمادة والروح والنفس والعقل والدنيا والآخرة، بينما تقوم الأيدلوجيات العربية (شِرقية وغربية) على النظرية المادية والتفسير المادي للتاريخ، ولقد كان من حق شبابنا المسلم المثقف أن يعرف الدور الذي قام به أجداده المسلمون في بناء العلم والحضارة، وأن يعلموا في نفس الوقت أن هذه المفتريات التي تدرس (ماركس وفرويد وسارتر ودوركايم وغيرها) ليست علومًا حقيقية وإنما هي فروض ونظريات خاضعة للصلاحية والرفض أنها تستمد وجودها من مجتمعات مختلفة عن مجتمعاتنا وتواجه تحديات لا نعرفها، وأن الأمة الإسلامية التي رباها القرآن بعد أن كونها منذ أربعة عشر قرنًا لهذا قيمها ومفاهيمها المستمدة من التوحيد الخالص والقائمة على العدل ###10### والرحمة والإخاء الإنساني وأنها لا تقبل بديلا بأسلوب غير أسلوبها الأصيل وأن الإنسان المكون من روح ومادة لا يمكن أن يخضع لنظريات(43/6)
تطبق على المادة أو على الحيوان وأن كل ما يقدم تحت اسم العلوم النفسية أو الاجتماعية لا يمكن أن تكون بمثابة حقيقة علمية لأنها تقوم على التفسير المادي والنظرية المادية، وهي ليست مفهومًا كاملا للوجود والحياة.
(2)
عاشرًا: أصالة المفهوم الإسلامي بالنسبة للإسلام إزاء الأيدلوجيات:
لقد كان واضحًا أن الإسلام ليس مذهبًا ولا نظرية ولا ثورة وأنه لا يجوز للكاتب المسلم أن يدخل الإسلام في مقارنة مع الأيدلوجيات أو الثورات العديدة التي قدمها أو قام بها الإنسان على مر التاريخ، ذلك أن الإسلام إذا كان ثورة فإن ذلك يعني أن له دورًا قد أداه وانتهى وأنه كان مذهبًا أو نظرية فإنه قابل للتغيير والتبديل والانتقاض والإضافة وهو ليس كذلك، ذلك أن الإسلام هو ذلك المنهج الرباني الأصيل الجامع الذي تختلف عن المذاهب البشرية، وقد صنع أمة من يقظة الواحد الذي هو النبي صلى الله عليه وسلم والذي أقام مجتمعه على أساس التوحيد الخالص وفي إطار الشريعة السمحة الكريمة العالمية ربانية المصدر إنسانية الطابع – تقوم على الإخاء الإنساني والعدل والرحمة ولها مفاهيمها الجامعة الكاملة في مختلف ميادين السياسة ###11### والاقتصاد والاجتماع والأخلاق والتربية وأن بعض الأيدلوجيات قد تشبه الإسلام ولكن يظل الإسلام متميزًا بأنه ليس نظرية ولا أيدلوجية لأنه ليس من صنع البشر فلا يقارن بعمل البشر الجزئي الوقتي الزائل.
الحادي عشر: أصالة المفهوم الإسلامي إزاء العلم والتجربة:
يقول جوستاف لوبون في كتابة تاريخ العرب:
"إن العرب أدركوا بعد لأي أن التجربة والمشاهدة خير من أفضل الكتب ولذلك سبقوا أوروبا إلى هذه الحقيقة التي تعزى إلى أن يكون (فرنسيس بيكون) أنه أول من أقام التجربة والاختبار اللذين هما ركن المناهج العلمية الجديد، فالمسلمون أسبق إلى نظام التجربة في العلوم.(43/7)
وتقول سيجريد هونكه: إن العرب ظلوا ثمانية قرون طوالا يشعون على العالم علمًا وفنًا وأدبًا وحضارة كما أخذوا بيد أوروبا فأخرجوها من الظلمات إلى النور.
وتقول: سوف نرى عندما تخرج الكتب المودعة في دور الكتب الأوروبية أن تأثير العرب الخالد في حضارة العصور الوسطى كان أجل شأنًا وأجل خطرًا مما عرفناه حتى الآن.
الثاني عشر: أصالة الفكر الإسلامي في عطائه القانوني المستمد من ###12### الشريعة الإسلامية:
يؤكد هذا ما كشفه عدد من رجال القانون المسلمين من عظمة الشريعة الإسلامية وعطاء الفقه الإسلامي الوافر في عشرات من المواضع والقضايا التي تحولت في الغرب إلى قوانين، ومنها ما كتبه عمر لطفي في دراسته عن (حرمة المنازل) والتي استمدها من القرآن الكريم، وكان الألمان قد استمدوا من التشريع الإسلامي قانون حرمة المساكن من قبل ثم رجعوا إلى الاعتراف بفضل الإسلام.
وكذلك نظرية (التعسف في استعمال الحقوق) التي عرفتها القوانين الحديثة والتي كشف الدكتور محمد فتحي في أطروحته في فرنسا أنها مستمدة من فقه الإمام الشاطبي.
هذا فضلا عما اعترف به رجال القانون العالميين من مكانة الشريعة الإسلامية في عدد من المؤتمرات منها مؤتمر القانون الدولي في لاهاي 1937 والقانون المقارن في لندن 1950 ودورة باريس 1951 والتي أعلنت أن المبادئ الإسلامية قد سمحت للحقوق بأن تستجيب للرغبات التي تتطلبها الحياة الحديثة وأن المناقشات قد أوضحت بجلاء ما لمبادئ القانون الإسلامي من قيمة لا تقبل الجدل وأنها تضم أشرف النظريات القانونية والفن البديع، وكل هذا يمكنها من تلبية جميع حاجات الحياة العصرية وأنها شريعة مستقلة بنفسها ليست مأخوذة من غيرها وأنها قائمة بذاتها وأنها شريعة حية صالحة ###13### لتطور المجتمعات والبيئات. وأشارت الأبحاث كيف أعلن الإسلام حقوق الإنسان قبل الثورة الفرنسية.(43/8)
الثالث عشر: أصالة الفكر الإسلامي في عطائه في مجال الفلك والجغرافيا والطب والكيمياء:
وما اعترف به المفكرون الغربيون المنصفون من اعتراف بهذا العطاء وكيف قدم المسلمون (المصطلح الشريف) البروتوكول – والترقيم وأسماء النجوم العربية والكسور العشرية ورائدها (البكاشي) وليس مستيقين، وابن حمزة المغربي رائد اللوغاريتمات، وكيف أن الجغرافيا علم عربي أصيل، وكيف سبق ابن خلدون فلاسفة الغرب في اكتشاف علم التاريخ وعلم الاجتماع وكيف اقتحم المسلمون المحيط قبل أن يدخله كولومبس وكيف عرف المسلمون أمريكا قبل أن يعرفها الغرب.
وكيف كان الشريف الإدريسي عمدة الجغرافيا عند المسلمين وكيف كان أبو القاسم الزهراوي يجري عمليات جراحة المخ ويستعمل المرقد (البنج) وكيف عرف المسلمون كتابات المكفوفين (طريقة بريل) وكيف كتب المسلمون في الأحكام السلطانية وهي السياسة الشرعية (الماوردي وابن يعلى الفراء الحنبلي). وكيف قدم المسلمون مفهوم العمارة الإسلامية وكيف عرفوا نظرية الدورة الدموية (ابن النفيس) وكيف قاد أحمد بن ماجد السفن ووضع قواعد الملاحة البحرية العالمية، وقد كتب هذا كله قدري طوقان وعبد الحليم منتصر وكثيرون.
###14### الرابع عشر: أصالة العطاء الإسلامي في مجال العلوم التجريبية:(43/9)
فقد كشف الباحثون إن المسلمين هم الذين وضعوا أصول المنهج التجريبي الذي قامت عليه الحضارة المعاصرة وأنه لم يكن من ذلك شيء قبل نزول القرآن الكريم الذي هدى المسلمين إلى البحث والتجريب وكيف أن التجربة أساسها الاستقراء والقياس وقد ظهر جليًا أن كتاب (المنهج الجديد) لفرنسيس بيكون الذي يعد في الغرب قاعدة العمل التجريبي كله، هذا الكتاب مصدره إسلامي أصلا بل إنه مأخوذ بالنص من الرسالة للإمام الشافعي كما كشف عنه أخيرًا المستشار عبد الحليم الجندي في كتابه (القرآن و المنهج العلمي المعاصر) وذلك بالرغم من تجاهل بيكون للمصدر الإسلامي في كتابه الذي وضع به الأرجانون الجديد على أنقاض أرسطو، وإن هذا المنهج الإسلامي في (التجربة) هو الذي قلب تفكير أوروبا رأسًا على عقب وأخرجها من ظلمات القرون الوسطى بعد ألف عام ومن الرهبانية ومن مفهوم أرسطو في الثبات ومن مفهوم التأملات. وقد أكد المستشار عبد الحليم الجندي بالأدلة الدامغة أن (ارجاتون بيكون) مستمد من رسالة الشافعي التي قامت على رفض المنطق اليوناني المبني على الفروض لا على المدركات الحسية والاستقراء التي أخذها بيكون من الفكر الإسلامي.
ويعد هذا خطة بعد إعلان الشيخ مصطفى عبد الرازق إن الإسلامية لا تبدأ بأرسطو أو أفلاطون وإنما تبدأ بالإمام الشافعي وعلم أصول الفقه الذي وضع مقرراته.
###15### الخامس عشر: أصالة الفكر الإسلام في تأكيد مصدر (الإمام الغزالي في كتاب المنقذ من الضلال الذي هدى "ديكارت" إلى منهج الشك على النحو الذي رسمه الإمام الغزالي في كتابه):(43/10)
ولقد وجدت نسخة من كتاب المنقذ من الضلال مترجمة إلى اللغة الفرنسية في مكتبة ديكارت في المكتبة الوطنية في باريس وقد أشار في الهامش إلى النص وكتب (بنقل هذا إلى كتابنا: مقال عن المنهج) وقد نقل هذا العلامة عثمان الكعان المؤرخ التونسي الذي رأى بنفسه هذه الإشارة في نسخة ديكارت وهذا ما فات أمثال طه حسين وغيره عندما نقلوا نظرية ديكارت كأنها فكر جديد بينما هي مأخوذة من المسلمين.
السادس عشر: أصالة الفكر الإسلامي في إنشاء المنهج العلمي:
فقد أشار الدكتور محمد حسين هيكل في مقدمة كتابه حياة محمد بأنه اصطنع في كتابه المنهج العلمي الغربي في دعوى بأنه يدخل إلى الفكر الإسلامي الحديث عطاء لم يكن يعرفه المسلمون.
ولكن الإمام لمراغي رحمه الله وهو يقدم كتاب حياة محمد أشار إلى صحة هذه المقولة، فقال:
"إن المنهج الجديد ليس بجديد بل هو بض من كل سبق به القرآن الكريم دستور الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان وعمل به العلماء العرب في كل فنون العلم، وهي عناصر خطاب موجه للحاضر ###16### والمستقبل معًا باقتدار المنهج القرآني في إبلاغ الفكر الإسلامي أعلى مبالغة، وقال المستشار عبد الحميد الجندي معلقًا:
لقد آن للمسلمين أن يدركوا أن عندهم مفاتيح التقدم وأنهم يعملون به يستردون تقدمهم ولا يستوردونه".
السابع عشر: تكشفت أصالة الإسلام في الاعتراف بسبقه في مجال العلم والحضارة والكشف:
1) ابن خلدون سبق سميث وهيجل وغيرهم من فلاسفة الغرب في وضع أسس علمي الاجتماع والاقتصاد السياسي بأربعة قرون كاملة، فقد درس ابن خلدون الظواهر الاجتماعية على أساس علمي مستمد من القرآن الكريم وقرر إن الظواهر العمرانية في تزاحمها وتواليها تحكمها قوانين وكان وسيلته إلى ذلك الاستقراء والقياس.
2) المعري سبق دانتي في وصف الجنة والنار وقد جاءت الكوميديا الإلهية لدانتي متأثرة برسالة الغفران للمعري.(43/11)
3) ابن مسكويه سبق دارون فقد ذكر ابن مسكويه في كتبه إن النباتات أسبق في الوجود من الحيوان وقد وردت لفظة (التطور) في الطبقات الكبرى للسبكي ومقدمة ابن خلدون وفي البدر الطالع للشوكاني.
###17### 4) الطرطوشي سبق ميكافيلي، في كتابه سراج الملوك الذي رسم منهج الحكم وذلك قبل ميكافيلي بخمسة قرون.
وقد اتضح للباحثين أن معظم مواد كتاب الطرطوشي قد نسقت في كتاب (الأمير) وأن أبوابًا كاملة قد ترجمت (مع ملاحظة اختلاف الوجهة بين الرجلين).
5) أعلن العلامة هنري عالم النبات الصيني في المؤتمر الحادي والسبعين بعد المائة للجمعية الشرقية الأمريكية (في أبريل 1961) إن الملاحين العرب قد عبروا الأطلنطي قبل كولومبس بثلاثة قرون، وقد جاء هذا الإعلان بعد أن أمضى زهاء ثمانية أعوام في تتبع انتشار السلع الزراعية والنباتية وأنواع الحيوان.
وقد استند هنري إلى وثائق مخطوطة في الصين يرجع عصرها إلى القرن الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين، وقد ورد فيها اسم مدينة (مولان بي) على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية.
وقد أثبت بالوثائق إن العرب الذي قاموا قبل عام 1100 م من الطرف الغربي للعالم الإسلامي من ميناء الدار البيضاء على وجه التحديد ورسول في عدة مواضع على الساحل الأمريكي.
###18### وفي عام 1922 ظهر كتاب في ثلاثة مجلدات لعالم لغوي في جامعة هارفارد اسمه ليودنير عنوانه "أفريقية وكشف أمريكا" أثبت مؤلفه فيه وجود كلمات عربية في لغات هنود أمريكا.
وقال إنه درس لغة هنود أمريكا كما دونها المرسلون اليسوعيون في عهد القائد الأسباني الذي فتح المكسيك فوجد فيها كثيرًا من الكلمات الإنجليزية والأسبانية والفرنسية والإنجليزية ووجد أقدم منها كلمات عربية ترجع أقدم هذه الكلمات إلى عام 1290 م أي قبل قرنين من وصول كولومبس إلى أمريكا.
6) كتاب المكفوفين:(43/12)
وقد سبق الفكر الإسلامي في أولية كتاب المكفوفين وهي التي عرفت بالحروف البارزة وأطلق عليها من بعد طريقة بريل.
وقد عرف عدد من المخترعين هذه الطريقة في مقدمتهم علي بن أحمد بن يوسف المشهور بزين الدين الآمدي وقد سجل صلاح الدين خليل بين أيبك الصفدي في كتابه (نكت العيمان في نكت العميان) هذه الطريقة.
###19### 7) مقارنات الأديان:
قال هاملتون جب:
كل العرب أول من ألف في هذا الباب لأنهم كانوا واسعي الصدر تجاه العقائد الأخرى. فقد حاولوا أن يفهموها ويدحضوها بالحجج والبرهان، ثم إنهم اعترفوا بما أتى قبل الإسلام من ديانات توحيدية ويخطئ ابن حزم في هذا المجال بالنصيب الأوفر.
هذا وبالله التوفيق.
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(43/13)
(1)
الخنجر المسموم الذي طُعِن به المسلمون
ما هو الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون ؟!
ذلك هو السؤال الذي تلح الأحداث المتوالية في العالم الإسلامي على إلقائه وتطلب الإجابة عليه، وهو تساؤل مقدم اليوم على كل سؤال، لقد تحدث المصلحون عن مقاتل متعددة أصيب المسلمون بها في كيانهم وذكروها وأولوها اهتمامهم وبحثوا أمرها، ولكنهم لم يركزوا كثيراً على "الخنجر" الذي طعنوا به في هذه المقاتل، وأولى لهم أن ينتزعوه من جسمهم أولاً قبل أن يعالجوا مكانه النازف بالدم، ذلك لأنهم إذا لم ينتزعوه فسوف يظل ينزف وسوف لا يكون جدوى لشيء ما من إصلاح أو تصحيح أو تحرير أو علاج، إذ لابد أن يبدأ العمل من نقطة أولية:
هي نقطة الخنجر، ذلك الخنجر في تقديري وفيا وصل إليه اعتقادي واعتقاد الكثيرين من العاملين نفي دراسات التغريب والغزو الثقافي هو "التعليم" وما يتصل به من شأن التربية والثقافة، هذا هو الخنجر المغروس في الجسد الإسلامي، ومازال ينزف دماً، ولقد كان المستعمرون غاية في الدهاء عندما بدأوا معركتهم مع المسلمين والعرب من المدرسة وعن طريق برامج التعليم ومن خلال الإرساليات والسيطرة على أجهزة المعارف والتخلص من المناهج والمقررات والكتب التي كانت تدرس في مختلف أنحاء العالم الإسلامي والبلاد العربية الأزهر والزيتونة والقرويين ومعاهد الحديث ورجالها والعاملين بها وإحلال مناهج جديدة ومقررات جديدة وإذا كان يرمز إلى هذا بدنلوب في مصر فإن البلاد الإسلامية قد عرفت عشرات من أمثاله وأنداده.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ ومجتمعنا فإنما مرد ذلك كله إلى هذا الخنجر المدفون في أعماق الجسم الإسلامي.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في شريعتهم فأقصيت عن مجال التطبيق في مجتمعاتهم وحل محلها القانون الوضعي فإنما مرد ذلك إلى التعليم الذي خرج أجيالاً تحتقر الشريعة وتؤمن بعظمة قانون نابليون.(44/1)
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في لغتهم وبرزت دعوى العاميات في مختلف أنحاء الوطن العربي وغيرت الأبجديات في بعض الأقطار الإسلامية فإنما مرد ذلك إلى مناهج التعليم التي خدعت العرب والمسلمين بدعوى عظمة اللغات الأجنبية ودخول اللغة اللاتينية إلى المتحف فلماذا تبقى العربية العجوز. وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم الإسلامي للاقتصاد فإنما يرجع ذلك إلى أن المسلمين والعرب درسوا في مدارس الإرساليات وفي المدارس الوطنية الموجودة في العالم أن الربا هو القاسم المشترك الأعظم على كل الأنظمة والمشروعات.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفهومهم السياسي الإسلامي فإنما يرجع ذلك إلى تلك الصور الزاهية التي قدمت لهم في مدارسهم وجامعاتهم عن الديمقراطية والليبرالية والجماعية وغيرها من أنظمة الغرب فخدعهم.
وإذا كان المسلمون قط طعنوا في مفهومهم للعلم فإنما يرجع ذلك إلى تلك المقررات المدرسية والجامعية التي ترد العلوم الحديثة من كيمياء وفيزياء وفلك وطبيعة وتكنولوجيا إلى علماء الغرب وحدهم متجاهلة ذلك الدور الخطير الذي قام به المسلمون والعرب في بناء الطابق الأساسي من منشئة العلم وأنهم هم الذين قدموا المنهج العلمي التجريبي إلى البشرية كلها.
وإذا كان المسلمون قد طعنوا في مفاهيمهم الاجتماعية فإنما مراد ذلك إلى مناهج التعليم الذي يدرس المجتمعات الغربية ومنهج مدرسة العلوم الاجتماعية الذي يقوم على إنكار فطرية الأسرة وأصالة الدين وثبات الأخلاق ويدعو إلى التطور المطلق وإلى الجيرية الاجتماعية، كل ذلك بدراسة أبناء المسلمين في مدارسهم ومعاهدهم وجامعاتهم على أنه حقائق مقررة، لا على أنه نظريات مؤقتة مرتبطة ببيئاتها وعصورها، قابلة للخطأ والصواب لأنها من نتاج عقليات بشرية تخطئ وتصيب.(44/2)
هذا هو الخطر الواضح من وراء الخنجر الذي طعن به المسلمون ومفهوم هذا الخطر أن النفس الإسلامية في العالم الإسلامي كله من حيث أنها قد انحسرت في بيوتها مفاهيم الثقافة الإسلامية القائمة على القرآن والسنة، وضعفت القدرة التي تبني الشباب، فإنها تسلم إلى المدرسة شباباً غضاً، يحس بالفراغ في مجال وجدانه وعاطفته وفكره، فلا يجد إلى مفاهيم الإسلام سبيلاً، ثم إذا به يلتقي بتلك المفاهيم التي تصور له فكر الغرب على صورة العقيدة، وتملأ نفسه بحب تاريخ الغير، وترفع في نظره شأن لغة الغريب وتقدم له العلم والاقتصاد والقانون والاجتماع من نتائج مجتمعات أخرى على أنه هو الفكر الإنساني والثقافة البشرية.
وأين الفكر الإسلامي في ذلك كله والمسلمون لهم منهج حياة كامل وله مفهوم جامع للحياة والمجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية.
هذا كله مما لا يزال ضائعاً ولا يزال ناقصاً ولا يزال مهملاً.
ومن هنا فإن النفس المسلمة التي عجزت عن أن تملأ فراغها الروحي والفكري بمقدراتها وقيمتها لا تلبث أن تملأه بأي شئ، وبما يقدم إليها زاهياً براقاً في كتب ملونة مزخرفة، بينما هي تعجز عن أن تجد من فكرها ما يرد عنها الخطر أو يصحح لها الخطأ أو يزيح عن نفسها الشبهات.
تلك هي القضية الأولى أيها السادة في التحدي الخطير الذي يواجهه المسلمون اليوم في كل مكان، ومن هذه النقطة نصل إلى كل قضية وكل أزمة، وكل موقف ومن خلال الطريق الطويل استطاعت قوى الصهيونية والاستعمار والشيوعية أن تحقق ما وصلت إليه لأنها استطاعت أن تبث فكرها في النفس الإسلامية وأن تحتويها وأن تنقلها من دائرة الإسلام المرنة الجامعة المتكاملة الوسيطة إلى دائرة الغرب المغلقة القاتلة.(44/3)
ومن هذه النقطة نصل إلى كل ما تطمعون فيه من وحدة وتقدم وقيام أمة الإسلام في أرضها بدورها الرباني الإنساني العالمي الذي هو مفروض عليها والذي هو حق في أعناقنا جميعاً والذي يجب أن نلقى (الله) عليه صادقين وإلا فنحن آثمون مقصرون مأخوذون بجريرة الذنب.
لكي نفهم هذه القضية الكبرى أعمق فهم لابد أن نبحث عن أبعادها إلى أقصى مدى ولا نقع في الأخطاء التي فرضها علينا نفوذ الدائرة المغلقة بأن نقصر البحث على ما هو أمامنا من واقع لأن كل واقع أمامنا لابد أن يكون متصلاً بأبعاد أخرى غير منظورة في المكان أو التاريخ ونحن في الإسلام نؤمن بالتكامل والنظرة الجامعة ونرى كل العناصر مؤدية إلى بناء عمل واحد فلا نفرق بين التربية أو الأخلاق أو الاقتصاد أو الاجتماع أو السياسة أو الفن.
كذلك فنحن في واقعنا القائم يجب أن تكون نظرتنا ممتدة إلى يوم أن بعث الله رسوله بهذه الرسالة من ناحية وإلى اليوم الآخر الذي يقع فيه الجزاء حتماً وأن نعرف أن روابطنا بالأمم ليست حديثة وإنما هي قديمة جداً، وليست اقتصادية أ وسياسية أو دينية وإنما هي كل هذا.
ولنعرف الحقيقة الكبرى التي رسمها القرآن وهي أن عالم الإسلام تكون من قلب عالم أهل الكتاب وهو منذ وجد في صراع معه وسيظل إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
هذا هو التحدي القائم الذي يجب أن يظاهر حياة المسلمين وحضارتهم ولا يغيب عنهم لحظة، ذلك أن الأمم لا تموت إلا إذا فقدت عنصر التحدي أو الطموح، ولقد كانت أزمة المسلمين في مرحلة ضعفهم وتخلفهم هي فقدان عنصر الطموح والاستنامة إلى ما وصلوا إليه، هنالك اندفع العدو الذي يرقبهم وينتظر منهم لحظة غفلة فأدال منهم.(44/4)
(ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة)، فليأخذ المسلمون بالحذر ليجعلوا التحدي نصب أعينهم، هذا التحدي الذي هو صورة مغايرة لهدف محدد يتكرر تحت أسماء مختلفة في التاريخ من حروب صليبية في المشرق إلى حروب الفرنجة في المغرب إلى حروب التتار إلى الاستعمار الحديث إلى الصهيونية العالمية إلى الدعوات الهدامة من شيوعية وإباحية والحادية ووثنية ومادية.
ونحن نعرف أن معركة حاسمة دارت بين الإسلام والغرب هي معركة الحروب الصليبية، وقد عاشها المسلمون بالمقاومة والجهاد مائتي عام وانتهوا منها بالنصر، ولكن هل كان هذا هو نهاية الشوط بالنسبة للغرب، وهل توقف طموحه للسيطرة على أرض الإسلام وبلاد الإسلام، أن شيئاً من ذلك كله لم يحدث، لقد استمرت المؤامرة واضطردت وتبلورت في مفهوم جديد.
كان ذلك المفهوم يتصور أن المسلمين قد غلبوا الغرب وهزموه لأنهم متقدمون حضارياً وعسكرياً فلابد من هزيمتهم حضارياً وعسكرياً، فانقض الغرب على ميراث المسلمين ونقل منهج العلم التجريبي وانطلق وسبق به المسلمين حتى كانت معارك الدولة العثمانية مع الغرب في أخرها تمنى دائماً بهزيمة المسلمين لأمر واحد هو أن الغرب استحدث أساليباً في الصناعة والحرب عجز عنها المسلمون.(44/5)
غير أن الغرب لم يقف عند هذا في صراعه ومؤامراته ولكنه وصل إلى مقطع الأمر كله وذلك عندما قرر أن تكون الحرب الموجهة إلى عالم الإسلام هي حرب فكر، ذلك أن المسلمين مهما تخلفوا في ميادين الصناعة والعلم فسوف تبقى لهم عقيدتهم الراسخة التي تحمل طابع الجهاد والتي تدفع بألوفهم إلى ساحات الاستشهاد في سبيل الدفاع عن الحق، وعن الأرض، وعن العرض، إذن فالمعركة يجب أن تبدأ أولاً من هذه النقطة الخطيرة ولابد من تزييف هذه العقيدة وامتصاص ما فيها من قوة وجهاد وإيمان حتى يفقد المسلمون هذا السر الخطير الكامن في نفوسهم، وقد تصور الغرب أنهم عندئذٍ يصبحون قطيعاً من السائمة التي تنطوي وتقهر، ومن هنا بدأت المعركة أطلق عليها أسماء كثيرة:
(التبشير، الاستشراق، التغريب، الغزو الثقافي، الاحتواء).
الوثيقة الأولى:
لقد وضعت الخطة منذ وقت مبكر وإن لم تستكشف إلا بعد سنوات طويلة وكانت أولى علاماتها المستكشفة في وصية لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة بما يمكننا من القول بأن نهاية الحروب الصليبية كانت بداية المخطط الجديد للغزو الثقافي والفكري ودحر الإسلام كفكر بعد العجز عن دحر أمته.
وتعد وصية لويس التاسع أخطر وثيقة في هذا الاتجاه فهي التي فتحت الباب واسعاً أمام عملية التبشير والاستشراق.
وعلى أثرها مباشرة بدأت حركة أوربا المعروفة إلى ترجمة القرآن والتعرف على الإسلام، وبدأت نواة التبشير والاستشراق في المعاهد الأوربية: دراسة للغة العربية والإسلام والقرآن بمفهوم الرد عليه وإنقاصه وإثارة الشبهات حوله.(44/6)
وقد ظاهر هذه الحركة عملية "سرقة" التراث العربي الإسلامي من البلاد العربية والإسلامية بواسطة القناصل والتجار وأستميحكم العذر في أن أقول "سرقة" لأن عملية الاستيلاء على الفكر الإسلامي في الأندلس أيضاً كانت "سرقة" بالرغم من أن المسلمين كانوا يؤمنون بأن العلم للجميع حتى العلم التجريبي الذي هو الآن من أسرار الأمم الحديثة والتي عجز المسلمون والعرب خلال قرن ونصف قرن في الحصول عن أصوله ومعادلاته.
أما المسلمون فكانوا يعملونه في جامعات الأندلس وجزيرة صقلية في حرية تامة، غير أن الغرب في تناهي حقده لم يقف عند هذا الحد، بل إنه عزل الموقع الإسلامي كله وصادره بما في وأخرج من المسلمين إخراجاً، وكذلك فعل في الأندلس حيث أحرزت أوربا كل ثمرات النتاج الإسلامي العلمي والفكري بأرضه ومعامله ومعاهده وحوائطه، ولم تبق للمسلمين حتى مجرد القدرة على استئناف تجاربهم وهم في أرض أخرى هاجروا إليها.(44/7)
لقد عكف لويس التاسع بعد هزيمته في المنصورة خلال محبسه في دار ابن لقمان يفكر ويستعرض هذه الحملات الصليبية المتوالية على بيت المقدس ودمشق ومصر وكيف هزمت هزيمة منكرة وكيف هزمت حملته في قلب دلتا النيل، وسبق إلى الاعتقال، وكيف كان المصريون والعرب المسلمون يقاتلون ببسالة عجيبة في الدفاع عن بلادهم خلال سبع حملات متوالية ووصل إلى نتيجة حاسمة: هي أن المسلمين لا يهزمون ما دام فكرهم باقياً وما دامت عقيدتهم قائمة، ذلك لأنهم تدفعهم في قوة إلى الاستشهاد في سبيل حماية الزمار ومقاومة الغاصب وتطهير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض من دنس الغزاة، والإسلام يجعل القتال في سبيل تحرير الأرض ديناً وعقيدة ولذلك فإن سبيل الغرب إلى الانتصار على المسلمين والسيطرة على أرضهم يجب أن تبدأ أولاً من حرب الكلمة ولابد من أن تقوم في الغرب قوى من الباحثين والدارسين يترجمون القرآن ويدرسون العربية ويعملون على القضاء على تلك المفاهيم القوية التي تتصل بالجهاد في سبيل الله، فإذا استطاع الغرب أن يفعل ذلك فقد استطاع أن يقضي على القوة الروحية والنفسية القائمة وراء تلك المقاومة الجبارة وعندئذٍ يمكن للغرب السيطرة على العالم الإسلامي ومن هذه النقطة بدأت حرب الكلمة بالتبشير والاستشراق والتغريب والغزو الثقافي والسيطرة على التعليم والتربية والثقافة والفكر والصحافة، وقد استطاعت هذه الخطة أن تحقق للغرب انتصاراته التي يمكن أن يطلق عليها الاستعمار الغربي الحديث، ولا ريب أن وثيقة لويس التاسع تنصح بهذا الاتجاه الخطير وتدعو إليه.
ولقد بلغ لويس درجة القداسة في نظر الغرب؛ لأنه حمل الصليب وحارب به في مصر، ثم كانت حملته التاسعة المشهورة على تونس.(44/8)
وإذا كانت الحملات الصليبية ثم توقفت منذ استعاد المسلمون عكا بقيادة الأشرف خليل عام 690 هجرية/ 1291 ميلادية، وعلى أثر ذلك قامت الدولة الإسلامية العثمانية الكبرى بعد تسع سنوات لا غير من سقوط الحروب الصليبية وهزيمة أوربا، هذه الدولة التي استمرت حتى عام 1337 هجرية الموازية لعام 1918 الميلادي أي أنها استمرت تحمل لواء الإسلام خمسة قرون ونصف القرن.
نقول إذا كانت الحملات الصليبية قد توقفت منذ عام 690 هجرية فإن أوربا لم تتوقف فقد استأنفت حركتها مرة أخرى بعد وقت قصير حين تدافعت بعد سقوط الأندلس على الطريق الأفريقي من ناحية الغرب دون توقف: الأسبان والبرتغال ومن ورائهم الإنجليز والفرنسيين والهولنديين.
أما في أفق البلاد العربية فإن عام 830 كان علامة الخطر حين بدأت فرنسا في غزو الجزائر وامتدت المعركة إلى تونس فمصر والسودان. منذ ذل كاليوم بدأت طلائع التبشير تعمل وأخذت حركة الاستشراق تزدهر وكانت بؤرة العمل هي ساحل البحر الأبيض الشرقي: في مواجهة الشام من الشرق وإستانبول من الشمال ومصر من الجنوب.
وانتقلت المطابع وبدأت المدارس وتصارعت قوى البروتستانتية الأمريكية والكاثوليكية الفرنسية على تقديم مناهجها.
ثم جاءت حكومات الاستعمار في كل البلاد العربية فأخذت مناهج مدارس الإرساليات ونفذتها تواً.
وفي عديد من مصادر تاريخ اللقاء بين الشرق والغرب نجد إشارة إلى وصية لويس التاسع الذي كان أول من أشار إلى تجنيد المبشرين الغربيين في معركة سلمية لمحاربة تعاليم الإسلام ووقف انتشاره ثم القضاء عليه معنوياً واعتبار هؤلاء المبشرين في تلك المعركة جنوداً للغرب.(44/9)
وإذا كانت الحروب الصليبية منذ بدأت 1299م وانتهت 1499 فإن انسحاب المسلمين من الأندلس انتهى 1493 وكان ذلك بعد انم استولى محمد الفاتح على القسطنطينية عام 1354 (857 هجرية) في ظل ذلك كله بدأ العمل تواً على إنشاء قاعدة للغرب في قلب الشرق العربي يتخذها نقطة ارتكاز له ومعقلاً لمعركته العقائدية الفكرية التي تستهدف حصار الإسلام والوثوب عليه.
وقد اختيرت هذه الأراضي على شاطئ البحر الأبيض الشرقي مسرحاً لهذا العمل منذ ذل كالوقت وتحرك العمل بين بيروت والقاهرة والقسطنطينية. وفي نفس الوقت الذي كان عمل مماثل يتحرك في تونس والجزائر ومراكش، وأعمال أخرى في المناطق الإسلامية في الهند وفي جاوة وأندونيسيا والفيليبين.
الوثيقة الثانية:
أما الوثيقة الثانية فهي تقرير من أحد معاهد الإرساليات بقلم الأستاذ نبيه أمين فارس يكشف فيه إبعاد الخطة كلها وهي في نظرنا وثيقة تطبيقية لمخطط لويس التاسع يقول: "بينما كان الشرق الأدنى مطمحاً لأفكاره بناء الإمبراطوريات كان أيضاً مطمح إنظار جماعة أخرى من الناس تنشد أن تنجز عن طريق "الكلمة" ما عجز أجدادها الصليبيون عن تحقيقه عن طريق السيف. وبعبارة أخرى تنشد احتلال مهد المسيحية وإخضاع العالم كله للمسيح. إن هذا الحلم المسيحي قديم-قدم المسيحية ذاتها وهو يستمد وحيه الدائم من الوصية العظمى كما سجلها أبو المبشرين، القديس بولس.(44/10)
ولعل سبب سيطرة هذه الوصية كرة أخرى على عقول المسيحيين يعود إلى اليقظة الدينية التي عمت إنكلترا في أواخر القرن الثامن عشر، واليقظة الدينية المقابلة لها في الولايات المتحدة التي تمثلت فيما سمى بروح إنكلترا الجديدة، وعلى ذلك فقد شهدت السنوات الأخيرة من القرن الثامن عشر والسنوات الأولى من القرن التاسع عشر ظهور كثير من الجمعيات التبشيرية التي كرست نفسها لحمل الإنجيل إلى جميع البشر، ويمكن أن يضاف إلى هذين العاملين عامل آخر هو ازدياد المطامع السياسية والاقتصادية في ممتلكات رجل أوربا المريض (يقصد الدولة العثمانية الإسلامية) ومن المحتمل أن يكون لهذا العامل الأخير علاقة باختيار الشرق الأدنى ميداناً مفضلاً للنشاط التبشيري.
ومن أهم هذه الجمعيات التبشيرية التي ظهرت في هذه الفترة: الجمعية التبشيرية الكنسية التي أسست في لندن 1799 والمجلس الأمريكي لمندوبي البعثات التبشيرية. وقد أرسل المجلس الأمريكي بعد تسع سنين من تأسيسه أول مبشرة إلى الشرق الأدنى، ولما كانت المشكلة الأولى التي واجهت أولئك المبشرين هي اختيار مركز ملائم لهم. وقدم سوريا 1823 مبشراً آخرين وانتقلوا إلى بيروت وكان غرض البروتستانت أن يتمكنوا بالاشتراك مع كنائس الشرق الناهض من كسب الكفار إلى دين المسيح غير أنهم سرعان ما وجدوا أن الإسلام لم يكن قد فقد سيطرته على قلوب المؤمنين وصمم المبشرين منذ البداءة على استعمال الكلمة حيث فشل استعمال السيف، وفي سبيل هذه الغاية أسسوا المطبعة الأمريكية أولاً في مالطة 1822 ثم في بيروت 1834، وأخذوا يفتحون مدارس للبنين والبنات بصورة منتظمة حتى بلغ عدد هذه المدارس ثلاثاً وثلاثين في أقل من هذا العدد من السنين وعكفوا على إنجاز تلك المهمة العظيمة: مهمة إعداد ترجمة عربية صالحة مقروءة للتوراة.(44/11)
وعدوا فوق ذلك حمل لواء الحرية الدينية بصورة خاصة والمطلقة بصورة عامة(1).
الوثيقة الثالثة:
ومن الجزائر تقدم تقم هذه الوثيقة: من قلم الدكتور محمد تقي الدين الهلالي نشرها في الفتح عام 1931.
"إن هؤلاء الأوروبيين الفاتحين المبعدين للأحرار المحربين للديار مازالوا يحرمون عبيدهم من كلمة الجهاد ويعدون ذكراه فضلاً عن فعله من أعظم الذنوب وهو آية الهمجية والتعصب الديني الممقوت، وبلغ بعضهم الأمر أن حرموا على المسلمين تفسير آيات الجهاد في كتب الفقه وبعيني شاهدت صحيفة الأذن Permited التي حصل عليها شيخنا محمد بن حبيب الله الشنقيطي رحمه الله في مدينة المشربة قسم وهران من الجزائر وفيها أن الإذن بتدريس علوم الدين مقيد بأن المدرس لا يفسر أي آية أو حديث يدل على الجهاد وأن لا يدرس شيئاً من أبواب الجهاد في كتب الفقه ولما راجت دعاية هؤلاء في الشرق صار المسلمون ينفرون من لفظ الجهاد".
ويعد المبشرون أن أولى فرصتهم جاءت بعد سقوط السلطان عبد الحميد عام 1908 حيث أمكن منذ ذلك الوقت تفسيخ الدولة العثمانية وتوسع بعثات التبشير على النحو الذي حقق تنفيذ مناهج التعليم على النحو الذي رسمته مخططات الغزو حتى ليقول الدكتور زويمر زعيم المبشرين وكبيرهم في الشرق في مثل هذا التاريخ الذي نقلنا فيه وثيقة الجزائر تقريباً ما يأتي:
إن السياسة الاستعمارية لما قضت من نصف قرن –أي منذ عام 1882 تقريباً- على برامج التعليم في المدارس الابتدائية أخرجت منها القرآن ثم تاريخ الإسلام وبذلك أخرجت ناشئة لا هي مسلمة ولا هي مسيحية ولا هي يهودية. ناشئة مضطربة مادية الأغراض لا تؤمن بعقيدة ولا تعرف حقاً فلا للدين كرامة ولا للوطن حرمة.
الوثيقة الرابعة:
__________
(1) مجلة الأبحاث أيلول-سبتمبر 1958، م 11، ص 383.(44/12)
وهذه الوثيقة يقدمها عميد المبشرين في البلاد العربية في الثلاثينات (وهي أخطر مراحل تاريخ العالم الإسلامي الحديث فهي مرحلة تكوين الأسس والقواعد والخطط التي خرجت من بعد نتائجها الخطيرة).
يقول صمويل زويمر في تقريره في مؤتمر المبشرين سنة 1924: "في كل حقل من حقول العمل يجب أن يكون العمل موجهاً نحو النشء الصغير من المسلمين وموزعاً فيما بينهم ليحيط بهم وليكونوا منه على صلة مباشرة، ويجب أن يقدم هذا على كل عمل سواه في الأقطار الإسلامية فإن تنور روح الإسلام في الناشئ الحديث يبتدئ باكرا من عمره فيجب والحالة هذه أن يؤتي بالنشء الصغير من المسلمين قبل أن يتكامل نمو عقليتهم وأخلاقهم وحينئذ يستعصي على المبشر ولم يزل التعليم التبشيري هو أفضل طريقة للوصول إلى المسلمين".
ويعود في المؤتمر التالي بعد عشر سنوات 1933 فيصور ما تحقق من نتائج وما يجب التأكيد عليه في المرحلة القادمة في مؤتمر المبشرين في القدس"
"إن مهمة التبشير الذي ندبتكم دول المسيحية للقيام بها في البلاد المحمدية ليست هي إدخال المسلمين في المسيحية فإن ذلك هداية لهم وتكريماً. وإنما مهمتكم أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبح مخلوقاً لا صلة له بالله، وبالتالي لا صلة تربطه بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها وبذلك تكونون أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية.
هذا ما قمتم به خلال الأعوام المائة السابقة خير قيام.(44/13)
لقد قضينا في هذه الحقبة من الدهر من ثلث القرن التاسع عشر إلى يومنا هذا على جميع برامج التعليم في الممالك الإسلامية، ونشرنا في تلك الربوع مكامن التبشير والكنائس والجمعيات والمدارس المسيحية تلك التي تهيمن عليها الدول الأوربية والأمريكية. ولذلك جاء النشء الإسلامي طبقاً لما أراده له الاستعمار المسيحي لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل ولا يعرف أهمية في دنياه إلا الشهوات فإذا تعلم فللشهوات وإذا جمع فللشهوات وإذا تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل المال يجود بكل شئ.
وفي نفس الطريق تقول المبشرة (أنامليجان):
"ليس ثمة طريق إلى حسن الإسلام أقصر مسافة من هذه المدرسة، إن المدرسة أقوى قوة لجعل الناشئين تحت تأثير الدين المسيحي، هذا التأثير يستمر حتى يشمل أولئك الذين سيصبحون يوماً قادة أوطانهم.
الوثيقة الخامسة:
وهنا وثائق أخرى حية: تتمثل في أفراد وأحداث، أما في 1909 فقد ثار الطلاب المسلمون في إحدى مدارس الإرساليات الكبرى لإجبارهم على الصلاة المسيحية يومياً فأصدرت هذه الكلية بياناً قالت فيه:
"إن هذه الكلية مسيحية أسست بأموال شعب مسيحي هم اشتروا الأرض وهم أقاموا الأبنية ولا يمكن للمؤسسة أن تستمر إذا لم يسندها هؤلاء، وكل هذا قد فعله هؤلاء ليوجدوا تعليماً يكون الإنجيل من مواده فيعرض منافع الحقيقة المسيحية على كل تلميذ وكل طالب يدخل مؤسستنا يجب أن يعرف سابقاً ماذا يطلب منه.
ثم جاء النص الآتي: "إن الكلية لا تؤسس للتعليم العلماني ولا لبث الأخلاق الحميدة ولكن من أولى غاياتها أن تعلم الحقائق الكبرى التي في التوراة وأن تكون مركزاً للنور المسيحي".
الوثيقة السادسة:
قد كشف ذلك طالب عربي معروف هو عبد القادر الحسيني (ابن كاظم باشا الحسيني وبطل معركة القسطل فيما بعد) الذي وقف في حفل توزيع الدبلومات في إحدى العواصم العربية على المنصة وفي يده الشهادة التي أخذها ثم اتجه إلى الحاضرين وكانوا علية القوم وقال:(44/14)
"إن هذه الجامعة تظهر أمام الناس في مظهر المدرسة العلمية ولكنها في الحقيقة بؤرة إفساد للعقائد الدينية وهي تطعن في الدين الإسلامي ولذلك لا يصح للمسلمين أن يبقوا أولادهم بها".
كان ذلك يوم 27 مايو 1932.
فاهتزت الدنيا للحدث وأسرع المبشرون الأساتذة يمزقون الدبلوم من يد الطالب وينهرونه، ولم يلبث عبد القادر أن نشر قصته في الصحف وأعلن عن الكتب المقررة التي تهاجم الرسول والإسلام وحاولت الجامعة أن تتنصل وتقول إن هذه الكتب ليست مقررة.
***
وكان الدكتور وطسون مدير الجامعة قد أعلن قبل ذلك بقليل.
إن المعتقدات الإسلامية آخذة في الانحلال وأنها غير ملائمة للحالة الحاضرة وأن الجيل الناشئ الذي تنصل به نراه مهتماً كل الاهتمام لا بالإسلام ولكن بالمسائل المادية والإلحاد، ونحن نسر حين نستطيع أن نجعل فتى مسلماً يقبل مبادئ المسيحية ووحي المسيح.
وقال الدكتور وطسون:
"وإننا نراقب سير القرآن في المدارس الإسلامية ونجد فيه الخطر الداهم ذلك أن القرآن وتاريخ الإسلام هم الخطران العظيمان اللذان تخشاهما سياسة التبشير".
الوثيقة السابعة:
وهناك وثائق تشهد على أصحاب المخطط نفسه ذلك أنه عندما بدأت حركة التغريب التي تضم التبشير والاستشراق في تقييم عملها تقدم خمسة من المستشرقين لدراسة العالم الإسلامي كله وقدموا تقارير شاملة عن مختلف الأقطار نشرت تحت عنوان هوزر إسلام (المترجمة وجهة الإسلام).
وفيها يتحدث كبيرهم هاملتون جب عن التعلم فيقول -وهي وثيقة أخرى نقدمها للباحثين:(44/15)
"إن إدخال طرائق جديدة في البلاد الإسلامية كان سيطلب نظاماً جديداً في التربية من عهد الطفولة في المدارس الابتدائية والثانوية قبل الانتقال للدراسات العالية، وأن إصلاح التعليم على النحو لم يكن في ذلك الوقت يخطر على بال السلطات المدنية الإسلامية، ولكن هذا الفراغ ملأه هيئات أخرى؛ فقد انتشرت في منتصف القرن التاسع عشر شبكة واسعة من المدارس في معظم البلاد الإسلامية ولاسيما في تركيا وسوريا ومصر وذل يرجع غالباً إلى جهود جمعيات تبشيرية مسيحية مختلفة. وربما كان أكثرها عدداً المدارس الفرنسية وقد كانت المدارس الإنجليزية في الإمبراطورية العثمانية أقل منها في الهند وكانت المدارس الهولندية قاصرة على جزء الهند الشرقية.
هذه المدارس صاغت أخلاق التلاميذ وكونت أذواقهم والأهم أنها علمتهم اللغات الأوربية التي جعلت التلاميذ قادرين على الاتصال المباشر بالفكر الأوربي فصاروا في سبيل حياتهم مستعدين للتأثر بالمؤثرات التي فعلت فعلها أيام الطفولة (أي التعليم على الطريقة المسيحية).
وفي أثناء الجزء الأخير من القرن التاسع عشر نفذت هذه الخطة إلى أبعد حد من ذلك بإنماء التعليم العلماني تحت الإشراف الإنجليزي في مصر والهند، ولعل هناك نصيباً من الحق في التهم التي ترمي بها هذه المدارس الأجنبية من أنها مفسدة لقومية التلاميذ وإن كنا لا نستطيع القول بأن التطورات السياسية التي أعقبت ذلك في البلاد الإسلامية أيدت هذه التهمة.
ولكن الذي فعلته بلا ريب أنها ربت في التلاميذ خروجاً على الأنظمة الاجتماعية وأضعف من هذه الوجوه سلطان النزعة الإسلامية القديمة على التلاميذ وأخلت في بناء المجتمع الإسلامي أداة هامة وقطعت بعض الأوامر التي كانت تربطه وتحفظه".(44/16)
ويقول جب راسماً خطة المستقبل: "لقد استطاع نشاطنا التعليمي والثقافي عن طريق المدارس العصرية والصحافة أن يترك في المسلمين ولو من غير وعي منهم آثرا يجعلهم في مظهرهم العام لا دينيين إلى حد بعيد ولا ريب أن ذلك خاصة هو اللب المثمر في كل ما تركت محاولات الغرب لحمل العالم الإسلامي على حضارته من آثار".
هذه صورة سريعة للخنجر الذي غُرس في جسم الأمة الإسلامية جاءت بعد خمسين عاماً محققة للهدف مكونة للأجيال التي أرادها الاستعمار.
تحقق هذا منذ أن دعاء إليه لويس التاسع وحدده غلادستون عندما وقف في مجلس العموم البريطاني ومعه المصحف الشريف وقال: "إننا لا نستطيع أن نحكم المسلمين مادام هذا الكتاب باقياً في الأرض".
ثم جاء كرومر وقال: "جئت لأمحو ثلاث: القرآن والكعبة والأزهر"، وجاء تقرير لورد دوفرين إلى اللور جرانفيل وزير خارجية إنجلترا بعد الاحتلال البريطاني لمصر محدداً الخطة التي توقف نمو الأزهر وتركز على التعليم المدني وترفع من شأن العامية وتخفض من شأن القرآن. قال دوفرين في تقريره الذ نشرته "المقتطف" في المجلد السابع ص 668: "إخال أن أمل التقدم في مصر ضعيف طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصيحة العربية، لغة القرآن، كما في الوقت الحاضر حالة كونها لا تتعلم اللغة العربية الدارجة؛ لأن نسبة اللغة المصرية الدارجة إلى لغة القرآن كنسبة الإيطالياني إلى اللاتيني والإغريقي القديم، وعربية الفلاح لغة قائمة بنفسها وقواعدها خاصة بها، وإذا لم توجد الاحتياطات الفردية للحصول على النتائج المقبلة في المدارس العديدة التهذيبية التي أشرت إليها يستمر الجيل الجديد كسابقه وغير صالح لخدمة وطنه، وساء كان للقيادة العسكرية أو في الصنائع أو في الخدمات، وتبقى عبارة مصر للمصريين كما كانت اسماً بلا مسمى".
ولقد كانت مهمة كرور واضحة ومستمرة؛ فهو دائب في كل عام أن يرددها:(44/17)
"في مصر جيل جديد يختلف عن أجداده في أشياء كثيرة فيمكن أن تحدثه نفسه يوماً بأن يمد إلى تلك الأركان القديمة يداً لا تعرف حرمة القديم، فيكون أشد عليها من يد حكومة تمدها اليوم طبقاً لإرشاد قوم لا شأن لهم في الأمر (يعني الإنجليز)؛ لأنهم لا يدينون بالدين الإسلامي، فإذا كان لهذا الحساب نصيب من الصواب فالأجدر بأبناء اليوم أن يشرعوا في الإصلاح ويلاقوا الأمر قبل حلوله".
هذا في مصر، والتاريخ يحفظ مثله في تونس والمغرب والجزائر لكرومرها ودنلوبها: وفي كل بلد إسلامي كرومر ودنلوب يجري على نفس الخطة وينفذ نفس المخطط.
ويعلق اللورد لويد (المندوب السامي في مصر) بعد كرومر بعشرين عاماً في كتاب له تحت عنوان (مصر منذ أيام كرومر) على خطة التعليم فيقول:
"إن التعليم الوطني (في مصر) عندما قدم الإنجليز كان في قبضة الجامعة الأزهرية الشديدة التمسك بالدين والتي كانت أساليبها الجافة تقف حاجزاً في طريق أي إصلاح تعليمي وكان الطلبة الذين يتخرجون من هذه الجامعة يحملون معهم قدراً عظيماً من غرور التعصب الديني، فلو أمكن تطوير الأزهر لكانت هذه خطوة جليلة الخطر، فليس من اليسير أن يتصور لنا أي تقدم طالما ظل الأزهر متمسكاً بأساليبه هذه، ولكن إذا بدا أن مثل هذه الخطوة غير متيسر تحقيقها فعندئذٍ يصبح الأمل محصوراً في إيجاد التعليم اللاديني الذي ينافس الأزهر حتى يتاح له الانتشار والنجاح" اهـ .
وقد حقق الاستعمار هذا تماماً حين فرق التعليم في العالم الإسلامي إلى ديني ومدني فجمد الأول وحجب تخريجه عن مناصب القيادة ودفع الثاني دفعة قوية إلى الصراع والتعارض والخصومة وأعلاه في خبث ومكر شديدين.(44/18)
وجملة القول في هذا أن الخنجر الذي طُعِن به المسلمون قد وُضِع بذكاء في موضع القلب وقصد به أن تكون المناهج كلها وخاصة في العقيدة والتاريخ واللغة قائمة على أساس فلسفة الغرب ومفاهيمه وإعلاء شخصيته وتاريخه وحتى يكون تاريخ الإسلام وعقيدتهم ولغتهم هي موضع احتقار شبابها ومثقفيها. ولن أحدثكم عن النتائج فأنتم تعلمونها وأن كل ما يتصل بأزمة المسلمين والعرب اليوم إنما مرده إلى هذا الخنجر المغروس قريباً من القلب وهو ما يزال ينزف بغزارة. أناشدكم الله أن تبحثوا عن السبيل الذي يمكنكم من اقتلاعه وتضميد جراحه.
أنور الجندي(44/19)
كمال أتاتورك وإسقاط الخلافة الإسلامية
الأستاذ أنور الجندي
حاولت أجهزة الدعاية الغربية والصهيونية إعطاء "مصطفى كمال" أتاتورك حجماً أكبر بكثير من حجمه الطبيعي، وذلك عن طريق عشرات المؤلفات التي طبعت ووزعت في مختلف أنحاء العالم، بتضخيم حجم هذا العمل التغيريبي التخريبي الخطير، الذي قام به.
ولقد حظيت اللغة العربية بعدد من هذه الكتب، منها كتاب "كمال أتاتورك" الذي كتبه "محمد محمد توفيق" واعتمد على 53 مرجعاً إنجليزياً وفرنسياً، وما زال يعد في نظر التغريبيين مرجعاً أساسياً في تقديم هذا النموذج الأول الذي هو بمثابة المثل البكر لتجربة التغريب في العالم الإسلامي، والتي فشل تطبيقها في البلاد العربية وسقطت أخيراً في إيران.
ولا يمكن فهم حقيقة كمال أتاتورك إلا بالعودة إلى السلطان عبد الحميد ومحاولة إسقاطه، التي تمت عام 1909 م والتي تولى الاتحاديون بعدها زمام الحكم إلى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918 م، كمرحلة إعداد الدور الذي قام به كمال أتاتورك من بعد.
بداية مريبة:
وما إن أسقط السلطان عبد الحميد حتى تحول الأمر في الدولة العثمانية إلى شيء خطير، فقد فتحت الأبواب لكل الأقطار والدعوات المعارضة للوحدة الإسلامية والخلافة الإسلامية والإسلام نفسه، وأتيحت الفرصة لكل الغلاة وخصوم العرب والإسلام، في أن يذيعوا كل ما من شأنه أن يحقق للاستعمار الغربي واليهودية العالمية مطامعها وأهدافها، وخرجت جماعات خريجي الإرساليات التبشيرية والمحافل الماسونية، لتسيطر على الرأي العام عن طريق الصحافة، وتولت الحكم وزارة في الدولة العثمانية بها ثلاثة وزراء من اليهود.
ثم انفتح الطريق إلى فلسطين وأتيح لسماسرة بيع الأراضي العمل في حرية كاملة، ونشط اليهود والدونمة والماسون من ورائهم للعمل.
وأسفرت عن نفسها:(45/1)
وبدأت الحركة الطورانية تشق طريقها في تمزيق وحدة العرب والإسلام واندفعت جمعيو الاتحاد والترقي إلى تتريك العناصر الداخلة ضمن الامبراطورية. وكان التركيز على تتريك العرب شديداً.
وكانت أولى خطوات الاتحاديين في الحكم: بناء منهج سياسي فكري للدولة العثمانية، مستمد من النظرية الغربية العلمانية، جرياً وراء الخطة التي رسمنتها الماسونية للثورة الفرنسية، وإلغاء المفاهيم الإسلامية وإحلال مفاهيم غربية خالصة بدلاً منها، وسارع الاتحاديون بإصدار تصريحات تقول بعزل النظام السياسي القائم، وقام أحدهم: أنه لا محل للجامعة الإسلامية في برنامج تركيا الفتية.
وقد جرت مهمة الاتحاديين في هذه الفترة على إعداد الدولة العثمانية لحركة التغريب في عديد من الجهات:
استسلامهم لبريطانيا استسلاماً كاملاً.
تسليم طرابلس الغرب لإيطاليا.
فتح الطريق أمام اليهود إلى فلسطين.
وضع العقبات أمام وحدة العرب والترك بتعليق العرب على المشانق في الشام.
محاولة تتريك الأعراق البشرية الداخلة في نطاق امبراطوريتهم وخاصة العرب.
إعلان فكرة الطورانية وإعلاء الجنس التركي على العالم كله.
وهكذا فإن كل ما حدث في فترة السنوات العشر السابقة للحرب العالمية الأولى إنما كان تمهيداً لما جاء بعد ذلك. في تركيا أو في مصر أو لبنان، وذلك في ضوء التحول الخطير الناتج عن إسقاط الدولة العثمانية وتمزيقها، وقد تحقق ذلك بالفعل، نتيجة لدخول الاتحاديين الحرب العالمية في صف الألمان. فكانت هزيمة الألمان في الحرب هزيمة لهم مما أدى إلى السيطرة على تركيا وإذلالها، وفرض نفوذ فكري سياسي غربي عليها، حتى ينتهي هذا الوجود الإسلامي المرتبط بالخلافة والوحدة الإسلامية، وحتى لا تكون تركيا مرة أخرى منطلقاً للإسلام إلى أوربا، أو مصدراً للخطر، أو جرثومة لتجمع إسلامي.(45/2)
نعم كانت فترة السنوات العشر للاتحاديين مقدمة لما بعد ذلك، وتمهيداً للمخطط التغريبي العنيف، الذي نفذه مصطفى كمال أتاتورك بقوة القانون.
مصطفى كمال والأهداف:
وقد كان مصطفى واحداً من الاتحاديين بين زملائه طلعت وجمال وجاويد، ولكنه لم يلمع تحت الأضواء في هذه الفترة فقد استبقاه التخطيط الدقيق ليحمل لواء المرحلة التالية. وليصبح بعد الحرب امتداداً لهم. ونقطة تجمع لهذه القوى. لتشكل مرة أخرى على نحو آخر، بعد أن حققت أكبر أهدافها وهي:
إسقاط الدولة العثمانية وتمزيق وحدة العرب والترك التي هي مظهر وحدة العروبة والإسلام. فقد كان أتاتورك واحداً من رجال جماعة سالونيك ومحافلها الماسونية، ومن أبرز رجال الاتحاد والترقي، مؤمناً بتلك المبادئ والمخططات التي نفذت فلم يكن حرباً عليها وأن أعلن اختلافه معها – في ظاهر الأمر – ولكنه كان يحقق مرحلة جديدة، فيها إعادة النظر إزاء بعض الوسائل مع الاحتفاظ بالغاية الكبرى، والوصول إليها بأساليب أشد إحكاماً.
والتي تكن معارضته لفكرة الدعوة الطورانية إلا من هذا القبيل، وإذا كان الاتحاديون قد حطموا الدولة العثمانية، وفرقوا رابطة العروبة والإسلام. فإن أتاتورك قد حقق عملاً واحداً في التاريخ الإسلامي أشد قسوة وخطراً من كل عمل، وهو "إلغاء الخلافة الإسلامية" وتحويل تركيا من دولة إسلامية تحمل لواء الجامعة الإسلامية والخلافة وقيادة الأمم الإسلامية، إلى دولة غريبة خالصة تكتب من الشمال وتطبق القانون السويسري المسيحي.
بروتوكول لوزان:
وأبرز هذه الأعمال إقرار تلك الوثيقة الخطيرة: بروتوكول معاهدة لوزان المعقود بين الحلفاء والدولة التركية عام 1923 م المعروفة بشروط كرزون الأربعة وهي:
قطع كل صلة بالإسلام.
إلغاء الخلافة.
إخراج أنصار الخلافة والإسلام من البلاد.
اتخاذ دستور مدني بدلاً من دستور تركيا القديم المؤسس على الإسلام.(45/3)
ويؤكد أرنست أ. ر أفرور. وصديقه آرنست باك. وبمراجعة كتاب أرمسترونج "الذنب الأغبر": عن حياة مصطفى كمال: أنه كان ماسونياً وأن المحفل الإطيالي الذي ساعد الاتحاديين عام 1908 م على نجاح حركتهم كان معاوناً له في نجاح حركته. ولعله أحس بعد أن نجحت حركته أنه لا حاجة إلى الجمعيات الماسونية في بلاده، فألغاها بعد أن تحققت كل أهدافها.
من هو مصطفى كمال:
ولاشك أن العنف الذي واجه به مصطفى كمال مؤسسات الإسلام، وما قام به من دحر لنفوذه في تركيا، يكشف بوضوح عن أنه كان من أخلص رجال المحافل الماسونية، بل يصل إلى أبعد من ذلك عندما يؤكد اما ردده كثير من الباحثين من: أن مصطفى كمال نفسه من أصل يهودي من الدونمة في سالونيك، وأنه كان يتخفى بالمكر والخديعة في معاركه حتى استطاع كسب قلوب المسلمين، فأرسلوا له من التبرعات والأموال الشيء الكثير حتى إذا تمكن من امتلاك أزمة الأمور سحق أنصار الإسلام سحقاً.
والواضح من دراسة تاريخ حياة مصطفى كمال أمور عدة:
أولاً:
أنه لم يكن هو قائد معركة التحرير ضد القوات الأوروبية واليونانية وإنما هو الذي سيطر على هذه القوات من بعد وسحب أسماء الأبطال الذين بدأوا هذه المعارك.
وكان لهم دور كبير في تحقيق النصر وإن الفضل الأول كان للقائد قره بكير وغيره.
ثانياً:
إن أوربا قد سلمت لمصطفى كمنال بزعامة تركيا وانسحبت أمامه، بعد أن وقع على وثيقة رسمية دولية في مؤتمؤ الصلح. قرر فيها إزالة الإسلام والخلافة وإخراج زعماء المسلمين، والحكم بالقوانين الغربية وإلغاء اللغة العربية بعد أن اطمأنت إلى أن تركيا – عنصر المخافة – قد انتهت.
ثالثاً:(45/4)
إن هذه البطولة التي حكيت لها أثوابها، ووضعت في هذا الطابع من الروعة والبهاء، إنما كانت خدعة النفوذ الاستعماري لتأكيد وجوده وسلطانه، ومنحه القوة على تدمير كل المؤسسات الإسلامية، حتى لا يبقى منها شيء يخيف أوربا أو يزعج اليهودية العالمية، التي كانت تطمع منذ وقت بعيد إلى أحد أمرين:
القضاء على الدولة العثمانية واتخاذ إلغاء الخلافة الإسلامية طريقاً للوصول إلى فلسطين.
وظهر على حقيقته:
ولقد دفع مصطفى كمال تركيا دفعاً قوياً إلى العلمانية، وألغى القوانين الإسلامية واضطهد المسلمين والإسلام أبشع اضطهاد، وقتل العشرات وعلق جثثهم على أعواد الشجر، وأغلق المساجد ومنع الآذان والصلاة باللغة العربية. وأعاد مسجد أيا صوفيا كنيسة ومتحفاً. واستبدل بالشريعة الإسلامية قانوناً وضعياً، واتخذ الحروف اللاتينية بدلاً من العربية في كتابة الأبجدية التركية (2) وألغى تدريس الإسلام في المدارس والجامعات ودعا إلى قومية طورانية عرفية متصلة الأواصر بالوثنيين السابقين للإسلام.(45/5)
ولقد كان منفذا أميناً للمخطط الذي رسمه الاستعمار واليهودية العالمية وهو إزالة الخلافة، وفصل تركيا عن العالم الإسلامي والأمة العربية، وبذلك حقق مصطفى كمال – في العالم الإسلامي وفي مواجهة العروبة – أخطر حركة استغراب، وفرضها فرضاً على الأمة التركية، ولم يحققها تدريجياً، أو على نحو التقبل والتطور والمرونة، فقد كان مدفوعاً من القوى الأجنبية إلى تنفيذ ذلك في أقصى سرعة وأبعد مدى، وإقامة هذا النظام على أساس السلطة الحاكمة والقوانين والإرهاب الدموي، وذلك حتى لا توجد ثغرة من بعد للتفتح على الإسلام من جديد أو الترابط بين العرب والترك، ولقد جمع الاتحاديون الشمل المشتت بعد الحرب العالمية خلف مصطفى كمال فتسموا بالقوى الكمالية ولا فارق بين الدعوة الاتحادية والدعوة الكمالية في أبرز مخططاتها وهو إعلاء العنصرية التركية وكتابة اللغة التركية بالحروف اللاتينية وتنفيذ نظام سياسي واجتماعي غربي لا ديني منفصل عن الإسلام والشريعة والقيم والمعتقدات الإسلامية التي عرفتها الدولة العثمانية أكثر من أربعمائة عام وقبل قيام الدولة العثمانية كان الأتراك مسلمين منذ عهد العباسيين.
آراء مؤرخي الغرب:
ولقد كان انتماء تركيا إلى الغرب سبة في تاريخها. فلم تسلم من قام مؤرخ أو فيلسوف، فما استطاعت تركيا أن تعطي الحضارة الغربية شيئاً ما. بعد أن انتمت إليها كما أعطتها شعوبها. إلا أنها كانت ولا تزال ذيلاً لها.
وقد أشار أرنولد توينبي إلى ذلك صراحة في موسوعته وقال: إن تركيا حين تغربت لم تقدم شيئاً إلى الغرب أو جديداً إلى الحضارة وعاشت عالة على القوانين والمنظمات الغربية.(45/6)
وكما قال عبد الله التل: كان تخلي تركيا عن الإسلام ثمناً لتأييد دول الحلفاء لها في حركتها التي قادها مصطفى كمال. ولقد كان الوسيط الذي أشرف على اتفاق الحلفاء مع مصطفى كمال هو الحاخام "حاييم ناحوم" الذي كان رئيساً لليهود في ترطيا قبل انتقاله إلى مصر. وهو الوسيط القوي الذي أوفده مصطفى كمال إلى دول الغرب في مؤتمر لوزان فحقق لتركيا ما أراد الغرب.
دراسات جادة:
وقد ظهرت في السنوات الأخيرة دراسات جادة تكشف حقيقة "كمال أتاتورك" منها كتاب الالدكتور رضا نور. حيث كشف جرائم أتاتورك وماخزيه وخياناته في أكثر من ألفين من الصفحات تحت عنوان "حياتي وذكرياتي" كما صدر كتاب "الرجل الصنم" لأحد الضباط المقربين من أتاتورك.
وقد هدمت هذه المؤلفات بناء الأكذوبة الأسطورية التي خدعن الأتراك والمسلمين في بعض البلاد إلى حين وألقت الأضواء الحقيقية على حياة المغامر الخطير. بل لقد تحدثت في جرأة شديدة على مولده وظروف حياته الأولى.
بل أن هذه الظروف قد أوردتها كتب ناصرت أتاتورك وأهمها كتاب "الذنب الأغبر" الذي يقول بالنص:
كان بفطرته ثائراً لا يحترم رئيساً أو إنساناً. أو وضعاً من الأوضاع ولا يقجس شيئاً على الإطلاق. وإنه كان يشرب ويلهو كل ليلة حتى مطلع الفجر في المقاهي وأوكار الغرام. وقد مارس جميع الرذائل وجرب كل الموبقات. وانغمس فيها حتى أذنيه ثم دفع الثمن مرضاً جنسياً وصحة منهارة.
ويقول أرمسترونج أيضاً. أنه كان ولوعاً بالأحاديث الخليعة والإفراط في الشراب والمغامرات الماجنة والليالي الحمراء في رفقة النساء.
عنف وتسلط:
وهناك جوانب أخرى يعف القلم عن ذكرها أو ترديدها.
وعندما نستعرض حياة كمال أتاتورك منذ تولي السلطة حتى وفاته 1938 م. نجد صورة عاصفة من العنف والظلم والتسلط البالغ المدى في سبيل تثبيت دعائم هذا النظام الوافد وآية ذلك الولاء المزدوج لبريطانيا وروسيا الشيوعية في آن.(45/7)
وأبرز هذه المواقف صلته بالإنجليز وما تحمله الوثائق مشيرة إلى عبارة: قيامه ببيع الوطن إلى الإنجليز. ومن ذلك موقفه إبان المرض. عندما استدعى السفير البريطاني في تركيا وطلب إليه أن يتولى منصب رئيس جمهورية تركيا وفزعت بريطانيا لذلك.
ولقد استطاع أن يحقق للصهيونية العالمية خطتها في السيطرة بإلغاء الخلافة والوجهة الإسلامية والحروف العربية والشريعة والمواريث والأوقاف والتعليم الديني.
إسقاط الخلافة الإسلامية:
وإذا كانت تركيا تحاول أن تعود اليوم إلى طابعها الإسلامي الأصيل فإن محاذير كثيرة تعمل لتصدها عن تحقيق هذه الغاية ولكن الله غالب على أمره (3) ولكن التجربة كلها تثبت أن مجاوزة الفطرة ومحاربة الدين هي محاولة باطلة لا يمكن أن تستمر ولابد أن يحطمها الزمن لمجافاتها لسنن الأمم والحضارات والتاريخ.
وإذا أردنا أن نتحدث عن كمال أتاتورك في كلمة، قلنا: إن تاريخه قد ارتبط بأخطر حدث في تاريخ الإسلام. وهو إلغاء الخلافة الإسلامية بعد تدمير الدولة العثمانية أكبر مركز تجمع للأمة الإسلامية وهو آخر المراحل التي تطلع إليها الاستعمار واليهودية العالمية من أجل تمزيق وحدة الإسلام والعروبة. والقضاء على آخر صرح جامع للعرب والترك يحمل لواء الجامعة الإسلامية ويتنادى بالمسلمين في كل بقاع الأرض.
لقد كان إسقاط الخلافة عام 1924 م من أخطر الأحداث في العالم كله وسيظل من الأعمال الكبرى ضد الإسلام وسيحمل لاسم مصطفى كمال أكبر التبعات في حكم التاريخ. فقد فتح الباب واسعاً أمام صراع الإقليميات والقوميات التي تتحرك في فراغ دون أن ترتبط بدائرة أساسية هي دائرة الفكر الإسلامي أو الوحدة الإسلامية للجامعة في مجال الجغرافيا أو في مجال الفكر.(45/8)
غير أن إلغاء الخلافة الإسلامية لم يحقق ما توقعه الاستعمار واليهودية العالمية من تمزق الإسلام أو اضطراب المسلمين والعرب. الذين أغرقوا على التو في أتون الأجناس والعصبيات والعنصرية. بقصد تعميق عوامل الخلاف ودعمها، والحيلولة دون قيام وحدة فكرية أو اجتماعية بينهم لقد ركزت هذه الدعوات التغريبية على الازدراء بالخلافة العثمانية والجامعة الإسلامية. وعلى إثارة الصراع بين الإسلام والعروبة وبين القومية والوطنية وبين الإقليمية والقومية وبين العناصر المختلفة وبين الأديان والمذاهب، وذلك كله لإذابة كل هدف سليم واضح تطرحه حركة اليقظة الإسلامية في الطريق الصحيح إلى معرفة الحقيقة. وإلى اتخاذ الأسلوب الأصيل لمواجهة الأخطار ونتيجة للضعف السياسي الذي كان يمر بالعالم الإسلامي.
فقد عجز قادة المسلمين عن إعادة بناء الخلافة الإسلامية مربة أخرى بعد أن أسقطها مصطفى كمال، وإن ظلت عنصراً أساسياً في مناهج الدعوات الإسلامية وخطة واضحة في برنامج حركة اليقظة العربية الإسلامية.وما زال المسلمون يبحثون عن صيغة تحمل لواء الوحدة، بديلاً من الخلافة أو مقدمة لها. ولقد كانت مكة وجامعتها في أيام الحج. وكان الأزهر، من القوى التي ساندت حركة اليقظة الإسلامية بعد سقوط الخلافة، وكان انتعاش السلفية الجديدة في الجزيرة العربية واليقظة الإسلامية في مصر وباكستان وغيرها، من علامات التعويض السريع ثم جاءت بعد ذلك مؤتمرات التضامن الإسلامي – وما زالت تخطو خطوات بطيئة ولكنها ثابتة.
آثار إلغاء الخلافة:
وقد صور الدكتور عبد الوهاب عزام الآثار التي ترتبت على إلغاء الخلافة في العالم الإسلامي فقال: إن عمل الكماليين من بعد. دل على أن إلغاء الخلافة لم يكن نزوة عابرة. بل كان الحلقة الأولى في سلسلة مصنوعة والخطوة الأولى من خطة موضوعة: خطة أملاها عليهم الروس والإنجليز وأوربا.(45/9)
لقد كان إلغاء الخلافة من هذه الخطوب المكفهرة لحل رباط حزمة من التعصب في ريح عاصف بلغت من المسلمين أسوأ مبلغ. وبلغت بأعدائهم أبعد غاية. ولا ينكر هذا إلا جاخل بطبائع الأمم. وأحسب أن الإنجليز كان يهون عليهم أن يبذلوا ملايين الجنيهات ليبلغوا الغاية التي بلغهم إياها الكماليون بغير بذل ولا كد.
أمر مقرر؟؟
وهناك من الدلائل ما يؤكد أن إلغاء الخلافة الإسلامية كان أمراً مقرراً منذ اليوم الأول للانقلاب العثماني. الذي قام بإسقاط السلطان عبد الحميد عام 1909 م، ولكنه نفذ على مراحل واتخذت إجراءاته واحدة بعد أخرى، حتى تم تنفيذه على يد مصطفى كمال عام 1924 م، بعد أن أسقط الخلافة الزمنية، وأقام بدلاًً منها خلافة منفصلة عن السلطنة توطئة للإجهاز عليها، جملة.
وسيظل تاريخ مصطفى كمال أتاتورك مرتبطاً بإسقاط الخلافة الإسلامية إلى أن تعود بإذن الله تبارك وتعالى خلال القرن الخامس عشر.(45/10)
المسلمون في فجر القرن الوليد – 22
أولاً – الحفاظ على الذاتية الإسلامية:
مع مطالع القرن الخامس عشر الهجري يجد المراقبون أن المسلمين يتقاربون اليوم في عدة مفاهيم أساسية يكادون يلتقون عندها ويكونون بها منطقاً" جديداً فيه طابع الأصالة وعلامة التحول من عصر التبعية إلى عصر الرشد الفكري. ولقد كان للتجارب التي مرت بهم خلال القرن الرابع عشر أثرها الواضح في هذا الفهم الجديد الذي يقرب بهم من الحقيقة بعد أن دفعوا ثمنها غالياً من الزمن والأنفس والأموال، وقد كانت بينة في كتاب ربهم ويبن أيديهم من قبل ولكنهم كانوا عنها غافلين، لم يستطيعوا استيعابها إلا بعد أن حزت في نفوسهم وتركت موضعها وعليه أثر كدمات الدم.
أولاً: لقد تبين للمسلمين أن جريهم وراء أسلوب العيش الغربي واندفاعهم وراء بريق الحضارة المنطلقة وراء شهوة الفم والبدن هو غواية الأمم الغربية لهم بهدف تبديد ثرواتهم وتحطيم معنوياتهم والقضاء على القوة النفسية والجسمية التي أعطاها لهم الإسلام بالاستقامة والصلاة ليكونوا قادرين على مواجهة الأحداث، مرابطين في الثغور حتى لا يفاجئهم غزو العدو ومن هنا فقد أخذوا يتحولون إلى بناء مستقبل بلادهم بهذه الثروات لتكون لهم قوة دائمة على الزمن.(46/1)
ثانياً: اكتشفوا أن مناهج السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية التي قدمها لهم الغرب (بشقيه) خلال القرن الماضي لم تكن إلا تراكمات مجتمع آخر مختلف ونتيجة تحولات في عقائد وثقافات تختلف اختلافاً واضحاً عن المجتمع الإسلامي، وهي ثمرة تكوين نفسي واجتماعي وعقلي تنازعته وثنية اليونان والرومان، وتفسيرات المسيحية، واستعلاء العقل والعلم بعد كشوف الطبيعة، وقد تشكلت في مجتمع لم يكن من دينه "منهج حياة" أو "نظام مجتمع" فإن المسيحية حين عبرت من الشرق إلى الغرب عبرت على هيئة وصايا وعبادات وتراتيل فكان أهلها في حاجة إلى أسلوب عيش امتد سريعاً بين الرأسمالية واللبرالية والماركسية والوجودية والقومية والإقليمية دون أن يجد منها بعد تجربة السنوات الطوال إلا مزيداً من الصراع والاضطراب.
ومن هنا فقد كانت مؤامرة نقلا هذه الإيديولوجيات إلى بلاد الإسلام التي تملك أعظم منهج رباني جامع خالد أضحوكة التاريخ والأجيال، إذ كيف يقترض من يملك هذا المجد الأمثل فتات الأمم ومحاولات العقول البشرية القائمة على الهوى والظن والتي لم تثبت في مجال التجربة بل لقد كشفت أبحاث العلماء عن فساد هذه الإيديولوجيات في بيئاتها التي نبتت فيها ولم تحقق مطامح النفس البشرية وخلقت ما يسمونه أزمة الإنسان المعاصر فكيف تصلح هذه لبيئات أخرى تختلف أشد الاختلاف.(46/2)
ثالثاً: آمن المسلمون بعد تجربتهم الطويلة مع الغرب إن حضارة الغرب ليست هي الأسلوب الأصلح لامتلاك الإرادة، ولتحقيق افتقاد المسلمين مكانتهم في الأرض، وإنما الأسلوب الأصلح هو التماس منهج القرآن وتطبيق شريعة الإسلام، فهذه هي "العروة الوثقى" التي كلما التمسها المسلمون على طول تاريخهم نجوا بها من أزمة التبعية والنفوذ الأجنبي وسلطان الأقوياء عليهم، وأن الحضارة المادية مهما بلغت من زخرفها لن تبرههم إلى الحد الذي يجعلهم يضحون وجودهم وكيانهم وذاتيتهم في سبيل الحصول على هذا البريق، وخاصة أن الحضارة المادية مهما بلغت من زخرفها لن تبرهم إلى الحد الذي يجعلهم يضحون وجودهم وكيانهم وذاتيتهم في سبيل الحصول على هذا البريق، وخاصة أن الحضارة الغربية اليوم لا تقدم – فيما غير العلم - إلا ذلك الانحراف الخطير في الترف والشهوات ولذائذ الماديات والإسراف في تبديد الكيان الإنساني وهو ما يتعارض مع كرامة المسئولية والالتزام الأخلاقي للإنسان الذي شرفه الحق تبارك وتعالى بالاستخلاف في الأرض وتعميرها وإقامة المجتمع الرباني بها.
هذه الحقائق التي تبدو واضحة الآن في العقل الإسلامي والنفسي الإسلامية تعطي هدفاً أساسياً هو أن القوى الأجنبية التي تتجمع اليوم لتواجه عالم الإسلام وهو يتحفز لامتلاك إرادته إنما تهدف إلى القضاء على هذه الذاتية الخاصة التي شكلها الإسلام في النفس المسلمة فأصبحت الأمة الإسلامية كالشامة في الجمع الغفير.(46/3)
هذه الغاية قائمة اليوم من وراء كل محاولات الغزو الفكري والتغريب وتحريك قوى الشعوبية والاستشراق والتبشير الغربي وضرب الإسلام من الداخل بالفرق الضالة كالبهائية والقاديانية، أو ظهور جماعات من يدعون "العودة إلى الإسلام" لكسب ثقة المثقفين عن كتاباتهم وضرب الإسلام من الداخل على النحو الذي دعا إليه عتاة التغريبيين من الشيوعيين كمحاولة ماكرة وقد تكشف فعلاً في السنوات الأخيرة أن كثيراً ممن أعلنوا عودتهم إلى حظيرة الإسلام خدعة قد وقفوا في وجه تطبيق الشريعة الإسلامية، أو التمسوا مفاهيم الباطنية وأصحاب مفاهيم الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، وذلك بعد أن رتبت لهم محاولات إبرازهم وكسب الثقة فيهم، والواقع أن بيننا وبين هؤلاء: مفهوم الإسلام الجامع الصحيح كمنهج حياة ونظام حياة مجتمع فكل نكوص أو نصول أو محاولة للتشكيك في هذه الوجهة إنما هي إقرار بالتبعية، ذلك لأن مفهوم المسلم الصحيح هو الإيمان بالمنهج الرباني وسلامة تطبيقه لا يعتوره في ذلك ذرة من الشك أو التردد أو التماس الأعذار لبقاء الأنظمة القائمة على القانون الوضعي وأخطر ما في هذا هو أن يتحدث هؤلاء عن الإسلام بمفهوم المسيحية أي يفصل بين الدين والسياسة أو بين الدين والمجتمع.
والحق أن القوى الأجنبية ما زالت قادرة على أن تقدم مموهين لهم بألفاظ براقة وكلمات خداعة، يحاولون الصد عن إحدى عقائد المسلمين اليوم وهي تطبيق الشريعة الإسلامية كمحاولة وحيدة وأخيرة لتحرير المجتمع الإسلامي من أسباب ضعفه واضطرابه. وكمنطق لامتلاك الإرادة الأساسية للأمة الإسلامية على أرضها وتأكيد وجودها ولتستطيع بعد ذلك أداء رسالتها المنوطة بها وهي "تبليغ" الإسلام للعالم المضطرب الممزق المتطلع إلى منهج جديد يخرجه من أزماته وانحلاله.(46/4)
إن أخطر ما يواجه المسلمين اليوم هو حماية هذه
"الذاتية الإسلامية" بكل شاراتها وعلاماتها ومقدراتها ربانية قرآنية كما رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيرته وسنته وخلقه وتصرفه اليومي في كل الأمور، ذلك أن هذه الذاتية الإسلامية هي هدف القوى الثلاث: الصهيونية والماركسية والغربية، من كل محاولات التخريب والغزو الثقافي، لأنها هي القوة الحامية لهذه الأمة من أن تذوب في العالمية والأممية الدولية وهي في مرحلة الضعف الذي تمر به وحيث أن الأممية ضالة مسرفة في الوثنية والمادية والإباحية.
ولذلك فإن أبرز مطامح القرن الخامس عشر هو تأكيد تمايز هذه الأمة عن الأمم، وهذا التمايز كما يقول الدكتور محمد محمد حسين مقصود لذاته لأن الأصل هو تباين الأمم ودفع بعضها ببعض وهو من سنن الله الكبرى، وإذا كانت النظريات الرياضية والتجريبية واحدة لا تختلف باختلاف الأمم فإن النظريات السلوكية التي تقنن سلوك الفرد وسلوك الجماعة مختلفة متباينة تباين أممهم.
"وأولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض".
"ولو شاء الله لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم".
ويتميز المسلمون بالمقدار الذي يعتمدون فيه على قيمهم وعقيدتهم، هذا الالتقاء على نظام يجعلهم كالجسم الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ومن طريق المخالفة لغيرهم الذي يصونهم عن الذوبان والفناء في غيرهم وهذا واضح في قوله تعالى:
"وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله".
فالآية تدعو المسلمين إلى الاجتماع على طريق الإسلام من ناحية وتنهاهم من ناحية أخرى عن إتباع طرق غير المسلمين لأنها تؤدي إلى تفرق جماعتهم. إن الخطر هو تطويع الإسلام لأشكال الحضارة الغربية ومفاهيمها وتطوير المجتمع ليكون في نهاية المطاف صورة من صور المجتمعات الغربية.(46/5)
هذا التمايز، وهذه الذاتية الإسلامية، الواضحة العميقة، لا تقتصر على مجال واحد ولا ميدان واحد، ولكنها تشمل كل الميادين والمجالات، من الاقتصاد إلى السياسة إلى الأدب إلى اللغة إلى التاريخ إلى أدق الدقائق في القضايا الاجتماعية والفكرية والثقافية.
وهذا التمايز هو الحصانة الوحيدة دون الذوبان والانصهار في بوتقة هذه الحضارة المضطربة التي تمر بأقسى مراحل أزماتها ونهايتها.
الدعوة الإسلامية تشق طريقها إلى آفاق الأرض مع عديد من التحديات والانتصارات:
ما زال الإسلام يفتح آفاقاً جديدة أمام الدعوة إلى الله عن طريق الحكمة والموعظة الحسنة في مختلف أجزاء الكوكب الأرضي على نحو هو الآن موضوع دهشة المراقبين وعجبهم نظراً لقلة الموارد المالية التي تنفق في هذا السبيل وبالرغم من كل أعمال المقاومة والحشد المبذول للحيلولة بين الناس وبين الإسلام.
وفي العالم الغربي (أوروبا والأمريكتين) بالرغم من ضخامة النفوذ الذي تفرضه الكنيستان الكاثوليكية والبروتستانتية والإنفاق الضخم والمحاولات الجديدة في كسب الشباب بفتح أبواب الإغراء بحلبات الرقص وتقبل قوانين الإجهاض وإقرار الشذوذ الجنسي والعياذ بالله ورفع الحظر عن معتنقي الماسونية فإن ذلك كله يوحي بالكساد الشديد والانصراف الشديد حتى في مجال تربية أجيال جديدة من قادة الفكر الديني فإن النسبة المطروحة توحي بالانصراف الشديد عن هذا المجال، هذا بينما يكسب الإسلام مزيداً من معتنقيه تحت تأثير قراءة النصوص الإسلامية أو الالتقاء بالدعاة المسلمين على ندرتهم في المراكز الإسلامية في بعض العواصم، بالإضافة إلى تلك الروح البارزة لإنصاف الإسلام ورسوله التي تكشف عنها الكتابات التلقائية التي لا يدرج أصحابها تحت قوائم الاستشراق والتبشير.(46/6)
وفي مناطق مختلفة من الأمريكتين واستراليا بالإضافة إلى أوروبا نفسها نجد تجمعات جديدة تمثل أقليات صغيرة مسلمة تحاول أن تقيم مجتمعاً إسلامياً خالصاً وسط هذا الركام الضخم من فساد الحضارة الغربية واضطراب المجتمعات الأوروبية.
وتجرى المحاولات لاستخلاص تصريحات من قادة المسلمين ترمي إلى القول بأنه لا فوارق حقيقية بين الإسلام والمسيحية أو الأديان الأخرى بهدف تثبيط همم الذين يزعمون الدخول في الإسلام بوصفه يمثل عقيدة التوحيد الصحيحة اليوم المحررة من الوثنية والتثنية والتعدد.
وفي الولايات المتحدة جاليات من الملونين الذين هم من الأفارقة في الأصل يمثلون تجمعاً إسلامياً، ولكن هناك أعداد كثيرة من الأمريكيين أنفسهم أخذت تدخل في الإسلام حتى يقول مديرٍ إحدى المؤسسات الإسلامية في واشنطون: "إنه لا تطلع الشمس يوماً إلا على مسلم جديد" وإن هذا يحدث في كثير من بقاع القارة الأمريكية وتتزايد هذه الظاهرة حتى تمثل علامة جديدة يصفها الدكتور محمد عبد الرؤوف بقوله:
إنني أرى أن هناك قوة خفية تعمل على نشر الإسلام في هذه البلاد وهي قوة الله تبارك وتعالى وليس عملنا إلا من وراء إرادة الله وتقديره، حيث لا ينتشر الإسلام بين الأمريكيين السود فحسب بل بين العنصر المسيحي (أنجلو ساكسون) وقد وجد طريقه إلى ذوي النفوذ في البلاد.(46/7)
وعندما تقرأ ما يكتبه أمثال الدكتور موريس بوكاي من مقارنات بين العهد القديم وبين القرآن من حيث (المصدر) حيث يكتشف "ربانية" القرآن و "بشرية العهد القديم" فإلي أي مدى تحدث هذه الآثار دوياً، فإذا أضيف إلى هذا ما تقدمه منظمات عدة في دراسات الكتب المقدسة، بالإضافة إلى ما كشفته مخطوطات كهف قمران وما تزال تكشفه الحفريات الأثرية مما يؤكد صدق نصوص القرآن الكريم وتزييف كثير من تلك المسميات الكاذبة التي تقوم عليها دراسات التاريخ القديم من حيث تجاهل (الحنيفية الإيراهيمية) ودورها في بناء ذلك التكوين الروحي الذي عرفته هذه المنطقة ممتداً من إبراهيم عليه السلام في أبنائه وفي إسماعيل إلى محمد صلى الله عليه وسلم.
"ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً".
وما يتصل بهذه الرسالة من حقائق تتمثل في جماع الإيجابيات التي نراها في الجاهلية وفي فساد التفسيرات التي صرفتها اليهودية والمسيحية مما كشف القرآن زيفها مما غيره أهل الكتاب من وجهة الدين ومن إنكار الارتباط بالنبوة الخاتمة وما تزال هذه الحقائق تنكشف وما تزال قوى التزييف تحول بين الناس وبينها "يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره".(46/8)
وفي الوقت الذي تتعدد فيه الجاليات الإسلامية في كل مكان في العالم وفي أوروبا وفي آسيا لم يترك النفوذ الأجنبي هذا النشاط يزدهر وعلى هذا الأساس دعم الإنجليز الحركة الأحمدية (القاديانية) في الهند وغذوها بالأموال لإيجاد بلبلة في صفوف الأمة الإسلامية، وبنى في إنجلترا مسجد للأحمدية (أو القاديانية) ليكون مركز انطلاق لهم في إنجلترا أو أوروبا. كما ساعدت إنجلترا على طبع كتب الأحمدية المضللة وخصوصاً باللغة الإنجليزية، وقد توسعت الأحمدية في قلب أفريقيا ولكنها ما تزال مرفوضة لما تخالف من مفهوم السنة الجامعة، وقد فضح أهدافها وعمالتها للاستعمار العلامة المودودي والسيد الندوي ورابطة العالم الإسلامي وغيرها من الهيئات الإسلامية وقد توسعت في عديد من البلدان الأوروبية، وتزاحم الغربيون في كل مكان أمام الأعياد الإسلامية ليحضروا ويشاهدوا شعائر الصلاة الإسلامية من قيام وركوع وسجود وتقاطروا على سماع خطبة العيد مما لفت أنظارهم فسعوا إلى الاتصال بالمراكز الإسلامية والحصول على المؤلفات الشارحة للعقيدة الإسلامية، ولاشك أنها ملأت نفوس هذه الجماعات وخاصة شباب المدارس والجامعات شدتهم إلى الإسلام لبساطة عقيدته وسلامة مبادئه وسماحته واقترابه من الفطرة وعطائه وتكامله مع أشواق النفس الإنسانية، وحيث يدعو إلى الرحمة والعدل والإخاء والتوحيد، فقد شد إليه الزنوج الأمريكيين الذين عانوا من العسف والظلم والاسترقاق على أيدي الأمريكيين البيض.
ويعاني المسلمون معاناة شديدة في مناطق كثيرة من العالم.(46/9)
وأقسى ما يواجهون ما يلقونه في المناطق الواقعة تحت سيطرة الاتحاد السوفيتي والدول الشيوعية، وهناك ما يلقاه المسلمون في مناطق كثيرة من أفريقيا إزاء الحملات التبشيرية النصرانية حيث تتركز البعثات التبشيرية في نيجيريا والكاميرون وجنوب السنغال وكينيا وحيث تندفع القبائل الوثنية إلى الإسلام وتدخل القبائل الزنجية في دين الله أفواجاً وحيث تقف الدعوة الإسلامية بقوتها الذاتية في مواجهة الإمكانيات الضخمة المتاحة لرجال الإرساليات وحيث الكنائس والأديرة والمعابد مقامة في أنحاء كثيرة من البلاد في المدن والقرى.(46/10)
وقد شهد الذين قاموا بنشر الدعوة الإسلامية بين الوثنيين بما يلقونه من ترحيب كبير وخاصة في المديريات الجنوبية الثلاث: أعالي النيل والاستوائية وبحر الغزال حيث الاتصال بالمواطنين البدائيين والضاربين في منابت الأحراش والغابات ومواطن الحشائش والمستنقعات، يقول أحدهم: "اقتنعنا بأن العمل في هذا الميدان سهل ميسور وأن ما يبذله المبشرون المسيحيون من جهود، لو بذل المسلمون عشر معشاره لأثمرت جهودهم أضعاف ما تثمر جهود المبشرين" بل إن الإسلام قد اقتحم مناطق جنوب أفريقيا: (جوهانسبرج، ديريين، ايست لندن، كيب تاون) حيث قامت مجتمعات صغيرة من المسلمين ولكنها متماسكة، فهم يجمعون الزكاة ويوزعونها على مستحقيها وينشئون المدارس الإسلامية والمساجد ويطبعون الصحف والمجلات الإسلامية والمساجد هي مركز نشاط المسلمين الاجتماعي، وكلما استولت الحكومة على منطقتهم، رحلوا إلى أرض أخرى وأقاموا مساجدهم ومساكنهم. ويتساءل بعض الذين زاروا تلك المناطق: "لماذا تتجه جميع بيوت المسلمين في جنوب أفريقيا نحو القبلة" رغم الصراع الحقيقي الذي يخوضونه مع جهاز البلدية عند تخطيط البناء. فالمسلم هنا لا ينام إلا في اتجاه القبلة ويقيم في داره ثلاث حنفيات للوضوء، وغرفة للمصاحف، ومكان للصلاة، والنساء المسلمات يخرجن محجبات ويعمل الجميع في تكامل رائع، والأطفال يحفظون القرآن ويحسنون تلاوته وتجويده، ويقبل الوثنيون في جنوب أفريقيا على اعتناق الإسلام اقتناعاً بأنه الدين الذي أوجب المساواة وذوب الفوارق بين الناس ولم يعترف بأي امتياز أو فضل أو تفوق مصدره اللون أو العرق أو المال.(46/11)
وما تزال مناطق إسلامية كثيرة تقاوم، أمثال: إرتيريا في مواجهة الحبشة المسيحية الماركسية، ومسلمي الفيليبين (شعب بانجامور) المسلم 8 ملايين نسمة في الجزر الجنوبية الخمسة الكبرى وهناك اضطهاد المسلمين المتجدد في الهند وهناك مشاكل مسلمي بورما الذين شردتهم حكومة بورما ومسلمي كمبوديا وفيتنام ولاوس وهي مثل لما يقاسيه المسلمون الذين يعيشون في الدول الشيوعية وهناك مشكلة خمسة ملايين مسلم في تايلاند.
وما يزال مسلوم قبرص يقاومون في سبيل تثبيت وجودهم في الجزيرة وحقهم في البقاء حيث لم تكن قبرص في يوم من الأيام أرضاً يونانية وحيث عمد الاستعمار البريطاني إلى تفريغ الجزيرة من المسلمين وجعلهم أقلية فيها، وقد تعرض المسلمون لصنوف بشعة من التعذيب والحرمان.
ومن الآفاق الجديدة التي فتحها الإسلام في سنوات ما قبل بزوغ فجر القرن الخامس عشر الهجري: غزوته السلمية لليابان حيث ديانته الشنتو (عبادة الطبيعة) والبوذية القادمة من كوريا والصين في القرن السادس الميلادي حيث أصبح نصف الشعب الياباني يعتنقها، والمعروف أنه بعد اندحار اليابان في الحرب العالمية الثانية ودخول قوات الاحتلال أعلن الإمبراطور للملأ أنه لم يعد إلهاً وإنما هو بشر، وقد انتهزت الهيئات التبشيرية العالمية الفرصة وركزت جهودها على اليابان متطلعة إلى أن تكون "المسيحية" هي عقيدة الشعب الياباني، وفي ظل هذا الفراغ العقائدي وجد اليابانيون في الإسلام استجابة لمطامح نفوسهم وتطلعاتها بين ثلاث حركات تتصارع هي التبشير المسيحي (حيث توجد خمس جامعات تبشيرية ومدارس ثانوية وابتدائية تضم 300 ألف) ودعوة ماركسية شيوعية واشتراكية، وحركة بوذية. وقد دخل الإسلام إلى اليابان من عدة جهات من قازان عاصمة جمهورية التتار الإسلامية، ومن الصين، مقاطعة منشوريا، ومن إندونيسيا والملايو حيث اتصل أفراد جيش الاحتلال الياباني لإندونيسيا بالشعوب المسلمة هناك.(46/12)
وما تزال الدعوة الإسلامية في اليابان تشق طريقها مع آمال عريضة. وهكذا نجد أن الدعوة الإسلامية في نهاية القرن الرابع عشر ومطالع القرن الخامس عشر تواجه عديداً من التحديات.
وسيبلغ الإسلام ما بلغ الليل والنهار مع امتداد الزمان وجهاد العاملين. والحمد لله رب العالمين.
المسلمون في فجر القرن الوليد (رد الشبهات ومواجهة التحديات):
إن العالم الإسلامي اليوم يعي في وضوح تلك المحاولة الماكرة اللئيمة التي تقوم بها قوى النفوذ الأجنبي لتحول بيته وبين انبعاث النهج الإسلامي للحياة والحضارة الذي تتطلع البشرية كلها إليه وتجد فيه أملها.
إن موجات التحامل والتشكيك في جوهر الإسلام وقدرته على العطاء، وسلامة منطلقه، وأصالة هدفه، تنطلق اليوم في عنف من الصهيونية لتثير في النفس الغربية الخوف من ضياء الإسلام البازغ من خلال السحب والغيوم. وتحاول هذه الكتابات المغرضة أن صف الإسلام على أنه دين رجعي متأخر جاد معاد للحضارة والتقدم والتطور. أو تصوير يقظة المسلمين على أنها حركة معادية للغرب الصناعي المتحضر، أو التحذير من نزعة الجهاد الإسلامية، ومن هنا تبزغ دعوة خصوم الإسلام إلى إشعال الفتن المذهبية، أو العمل على خلق صراعات طائفية في الشرق بين البلاد الإسلامية حتى تحول بين المسلمين وبين التضامن الإسلامي والوحدة الجامعة، وهم في ذلك يخدعون العرب الذي يعرف أن اليقظة الإسلامية بناءة وسمحة وكريمة، وأنها تقوم على العطاء والإيجابية والسماحة والبعد عن التعصب. ويخطئ مكسيم رودنسون حين يقول أن الإسلام لم يكف يوماً عن كونه رافضاً كل تطور لمجاراة الحياة العصرية بسبب تمسكه المتزمت بحرفية الدين.(46/13)
فالواقع أن الإسلام متفتح في مواجهة الحضارات والأمم وهو لا يعارض النظم المختلفة ولكنه يؤمن بالحفاظ على ذاتيته ومنهجه العقائدي والفكري الذي ينطلق منه إلى التعامل السمح الكريم مع الأمم والشعوب، إما أن يفرض على المسلمين أسلوب عيش غير أسلوبهم في محاولة لمسخ شخصيتهم وإذابة كيانهم الخاص في أتون الأممية العالمية أو أن يكون الإسلام مبرراً للحضارة الغربية المضطربة في مرحلة أفولها وانهيارها فإن ذلك لن يكون.
ويكفي الإسلام أنه بحافظ على كيانه ويقيم حضارته ومجتمعه ليكون نبراساً للبشرية ليهتدي به إلى طريق الله. ولكنه لن يكون عدوانياً أو مدمراً لحضارات الأمم أو وجودها.
وحين نتلفت اليوم ونحن على أبواب القرن الخامس عشر الهجري نجد المسلمين وهم يبنون كيانهم الحضاري الاجتماعي وسط المحاولات التي تحاول أن تحول بينهم وبين اكتمال إرادتهم، وفي أفغانستان يقاوم المسلمون نفوذاً غريباً يحاول السيطرة عليهم، وفي باكستان نجد العمل الجاد في سبيل إقامة المجتمع الإسلامي الأصيل، وفي تركيا نجد الاتجاه الصحيح نحو تحرير المسلمين من نفوذ الإيديولوجيات والأنظمة ماضياً في طريقه.(46/14)
يكشف هذا نجم الدين أربكان حين يقول: إن الصهيونية والماسونية حاولا عزل تركيا عن العالم الإسلامي، ومؤامرتهم مستمرة. ذلك أن المعركة بين الإسلام في تركيا والصهيونية قد اتخذت أشكالاً عدة وهي حرب طويلة المدى وهي مستمرة منذ خمسة قرون منذ فتح السلطان محمد الفاتح القسطنطينية وعمل على فتح روميه ولكن هذا الصراع في المائة سنة الأخيرة أخذ شكل مخطط أعد له سلفاً فاستطاعت بعض القوى عام 1839م أن تؤثر في جسم الدولة الفكري وتدخل القوانين الوضعية البعيدة عن الإسلام بواسطة المنظمات اليهودية الماسونية، وقسم العمل اليهودي في تركيا إلى ثلاث مراحل مدتها ثلاثون سنة وهي عبارة عن تنفيذ فكرة تيودور هرتزل بإسقاط الدولة الإسلامية في تركيا، أما المرحلة الثانية فقد استمرت عشرين سنة وهي تقسيم الدولة العثمانية إلى دويلات صغيرة، أما المرحلة الثالثة فقد استمرت خمسين سنة وكانت لإبعاد تركيا عن الإسلام.
ثم نشأ حزب الاتحاد والترقي وكانت له علاقته باليهود والماسونية، ومن ثم استطاع إسقاط السلطان عبد الحميد وبدأ في إبعاد تركيا عن الخط الإسلامي وتغريبها بطرق عديدة أهمها العلمانية التي كانت تعني في تركيا بالتحديد اضطهاد المسلمين.(46/15)
ثم بدأت تركيا الإسلامية تكشف عن وجودها، وبدأت تتحرر من أساليب التغريب، وهي اليوم على مفرق طريق اليقظة الذي يعم العالم الإسلامي كله تطلعاً إلى تحقيق أهدف كبرى، منها إنشاء الأمم المتحدة الإسلامية وإقامة السوق الإسلامية المشتركة وإيجاد الدينار الإسلامي الموحد والمعاهد الثقافية الموحدة والوحدة الإسلامية للدفاع عن العالم الإسلامي، وهناك في العالم الإسلامي كله إيمان أكيد بأنه لا تقوم للإسلام دولة إلا بتكوين الفرد المسلم الذي تربى على أساس من القرآن والسنة وهدى من السيرة. ولابد من انبثاق نظم البلاد الإسلامية وقوانينها ومعارفها واقتصادها وسياستها الخارجية من النظام الإسلامي. وحيثما ننظر من حولنا نجد أضواء الأصالة تزحف مع مطالع فجر القرن الخامس عشر. ففي اليابان يقول الدكتور شوقي فتاكي: أن هناك 30 ألف مسلم ياباني يشكلون مجتمعهم الجديد ويدعون إلى الوحدة الإسلامية والجهاد من أجل تحرير المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي. بالإضافة إلى جميع المقدسات الإسلامية وقد وحدنا القوى الإسلامية اليابانية في دعوة للتضامن مع المسلمين ونحن ندعو اليوم إلى تجديد وصقل الوحدة والتضامن للقوى الإسلامية في العالم أجمع من أجل تحقيق تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا العالم الحديث.
ومن أفريقيا نجد المجلس الإسلامي لجنوب أفريقيا يكشف عن الأخطار التي تواجه المسلمين وخاصة في شأن تربية الأطفال تربية إسلامية، وما يتطلع إليه الشباب المسلم ليكون قادراً على مواجهة التيارات المعادية للإسلام وخاصة هجمات الماركسيين والمستشرقين ودعاة المذاهب الشرقية. ويتطلعون إلى إقرار برنامج شامل للتربية الإسلامية، مقوم على أساس تثبيت قواعد العقيدة الإسلامية.(46/16)
ويعلق المجلس الإسلامي أهمية كبرى على نشر الإسلام في جنوب أفريقيا وهذا دور المنظمات الإسلامية، ويرى أن جنوب أفريقيا مهيأ لانتشار الإسلام لأن هناك من المسلمين المقيمين بجنوب أفريقيا منذ ثلاثمائة سنة، وأن أول مسجد في مدينة الكاب يعود إلى عام 1790 كما يوجد بجنوب أفريقيا 150 مسجدًا.
وهكذا أينما يولي المسلم وجهه يجد اليقظة الإسلامية وهي تتدافع في قوة لتحقق هدفاً واضحاً في هذا القرن الخامس عشر هو الخروج نم التبعية الغربية سواء جاءت من الاستعمار أو الصهيونية أو الشيوعية، ووصولاً إلى الرشد الفكري وتحقيق غاية أساسية هي بناء الشخصية الإسلامية والحفاظ عليها والتضحية بكل عزيز وغال في سبيل هذا التميز الذي عرف به المسلمون بين الناس والملل.
وعندما نراجع خريطة المتغيرات نجد أن الدعوة الإسلامية تمضي في كل طريق وتقتحم كل مجال وتستعمل كل أسلوب على هذا النحو:
أولاً: نجد انتشار الإسلام بالدعوة الإسلامية في مختلف بقاع العالم حيث يتحقق ما وعد به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الدخول إلى كل دار في زاوية من زوايا الأرض.
ثانياً: انتشار دعوة التصحيح وتحرير المفاهيم والعودة إلى منهج الله في كثير من بلاد المسلمين حيث تتنامى قوة المطالبة بالعودة إلى الشريعة الإسلامية واكتشاف هذه الأقوام مدى النتائج الخطيرة التي تحققت نتيجة التبعية للمنهج الوافد سواء في مجال الفكر أو الاجتماع أو الحكم.
ثالثًا: بروز الذاتية الإسلامية في بلاد قاست طويلاً من مظالم العلمانية وسيطرة الدكتاتورية الفردية الحاكمة ونماء أجيال جديدة تكشف لها زيف هذه التيارات التي جرت فيها الأمم طويلاً.
رابعًا: بروز فريضة الجهاد كعامل حاسم في حل المشاكل ووضوح هذا العمل وقيامه بدور ضخم في تحرير كثير من الأوطان الإسلامية.
خامسًا: نماء القوة العسكرية الإسلامية في مختلف أجزاء العالم بحيث تصبح قوة واحدة عندما تلتقي القلوب على وحدة إسلامية صحيحة.(46/17)
أقدم لك الإسلام
الأستاذ أنور الجندي
أيها الأخ الكريم: سلام الله عليك..
مالي أراك تجري فوق موج الحياة دون أن تتبين خطوك أو تنظر حولك أو تعرف هدفك ترتبط بغاية واضحة تمتلك عليك وجدانك وعقلك وتوجه إليها كل قصدك وتقدم لها كل جهدك.
ألا تعرف أن لك رسالة وأنك مكلف وأنه لابد من هوية واضحة، وغاية صريحة تتوجه إليها.
إننا نحن – بني الإنسان – جئنا هذا الوجود لغاية ولم نأت عبثاً وهي غاية عالية كريمة، وليست جرياً وراء المطامع والأهواء، فإذا نظرنا حولنا فرأينا هذا المجتمع المزدحم بالغايات وجب علينا ألا نندفع وراء التيار دون علم أو وعي، وإنما نقف وقفة ونسأل صديقاً ناصحاً أو أستاذاً مرشداً، أو والداً موجهاً، فسنعرف أن في الحياة وجهة صالحة ووجهة تائهة، فإذا ذهبنا وراء البريق وجدنا أنفسنا في دوامة، يتموج لذات خاطفة، تذهب بشبابنا ومالنا وتنحرف بنا عن الطريق السليم، أما إذا تريثنا ووعينا وجدنا أنفسنا على مرتقى الأصالة والرشد، وإني لأربأ بك وبعقلك وشخصيتك الكريمة ومحتدك الأصيل أن تكون جارياً مع التيار أو ضائعاً في المجموع، وأتوسم فيك أن تكون من النخبة الممتازة من أبناء هذه الأمة التي تتطلع إلى أن تقدمك خصائصك الكاشفة من ذكاء وفهم ونبل فتعرف لك غاية واضحة، ومهمة صالحة، وخير الغايات وأعظم المهام، هي أن تكون داعية لكلمة الله ولساناً من السنة الحق وعاملاً من عوامل الإسلام تنشر كلمته وتذيع فضله وتسير على طريقه، قدوة طيبة ومثلاً يحتذى وطيفاً قرآنياً يستمد سمته وفعله مما كان عليه سيدنا رسول الله (الأسوة الحسنة) للمسلمين منذ جاء الإسلام إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(47/1)
فإذا تبينت ذلك في أعماق فطرتك النقية وهداك الله تبارك وتعالى إلى طريقه وجدت نفسك، وأحسست بأن للك كياناً مؤثراً فاعلاً، ورأيت أمامك ضوءاً كاشفاً، فعزفت نفسك عن الأهواء والمطامع وتطلعت إلى أن تكون من أولئك الذين هدى الله الملتمسين سبيله، المتطلعين إلى فضله ورحمته، الراغبين في أن يكونوا من خدام دعوته ومن العاملين لإعلاء كلمته.
وليس معنى هذا أنك تنسحب من الحياة، إلى عزلة صوفية أو خصومة مع المجتمع، أو إلى عزوف عن العمل، كلا كلا بل إلى اقتحام الحياة بأسلحة جديدة هي الإيمان والعمل لخير الناس ومعاملة الناس بالحسنى وإحلال وتحريم الحرام في مطعمك ومشربك، ودعوة أهلك إلى الصلاة والزكاة وعمل الخير، والاستجابة لكل أمر الله والوقوف عند حدوده، فدعوة الإسلام دعوة إيجابية لإصلاح الحياة لا لاعتزالها ولدعوة الناس الحسنى إلى طريق الله، ولهداية الخلق إلى الحق، من غير تزمت في وسيلة أو إسراف في توجيه، أو تعصب على أسلوب، وإنما بالمرونة والتدرج والتماس الأعذار والالتقاء في نقاط الخير، "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" و "قولول للناس حسناً".
والزمن جزء من العلاج، ولنعرف أولاً حقائق ديننا الذي هو عصمة أمرنا، ونجعله الضوء الكاشف على طريقنا في الحياة، مؤمنين بأننا قد جئنا هذه الحياة لنؤدي رسالة، ولنعمر الأرض، ونبني، ونقيم المجتمع الرباني، على أساس المسئولية الفردية والالتزام الأخلاقي والإيمان بالجزاء الآخروي والبعث وعلى ضوء هذا الفهم المستنير تستطيع أن تواجه الحياة وأن نتعامل مع الناس وأن نمضي على طريق الله، في بيوتنا وفي أعمالنا، وفي كل مكان نحل فيه، ومع كل إنسان نلتقي به.(47/2)
وأن نرعى هذه الأسر ة الصغيرة: الزوجة والأبناء وأن نشكلهم على الإيمان فإنها مسئوليتنا الأولى "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" ولنباشر هذه المسئولية يوماً بعد يوم وساعة بعد ساعة فلا يبعدنا عنها شيء، ولنجعلها اولى مهامنا ولنصادق أبناءنا ونجعل بيننا وبينهم مودة وأمناً فنعرف احوالهم وظروفهم ونعالج أمورهم في أول أشواطها، ونرعى أمر صداقاتهم ومعارفهم فنحميهم من الصديق السوء، ونذلل أمامهم الأمور حتى تضيء أنفسهم بتجربة آبائهم فلا يسقطون في المآزق، ويكونوا دائماً على حذر من مطبات الحياة. ذلك أن القدوة الحسنة هي أسرنا وبيوتنا على مفاهيم الإسلام الحقيقية، انقشعت عن أمتنا تلك السحب المظلمة والغيوم الكثيفة ومن ثم تشرق الشمس ويبدو الأفق مضيئاً بنور الله.
ويقتضي هذا الاتجاه أنم نفهم أسلافنا فهماً صحيحاً، وأن نعرف التحديات التي تواجه الإسلام من قوى كثيرة تتآمر بها.(47/3)
أما الإسلام فهو منهج رباني جامع، يعمل على بناء الفرد والأسرة والجماعة على أساس الإيمان بالله، وعلى أساس التكامل والتضامن والعدل والرحمة والإخاء الإنساني وهو دعوه إلى بناء مجتمع ومنهج حياة يقام لإسعاد البشرية، وهو مختلف تماماً عن المناهج والأيديولوجيات التي قدمها الإنسان لنفسه والتي ما تزال تضطرب وتتخبط ولا تحقق للبشرية شيئاً إيجابياً، وها نحن نرى كيف يعيش المجتمع العالمي حياة مأزومة مضطربة لألأنها خلت من الاستمداد من الله والتماس منهجه، ولما فصلت المناهج البشرية نفسها عن دين الله المنزل عجزت عن تحقيق الأمن للناس ذلك أن هذه المناهج فصلت بين الروح والمادة وبين السياسية والأخلاق وبين الدنيا والآخرة، وما تزال المجتمعات العالمية تضطرب منذ أربعمائة عام وتتخبط عندما أقامت المنهج المادي العلماني الذي يمزق وحدة الإنسان الجامع بين الروح والمادة، فأنت أيها الأخ الكريم ترى كيف نتخبط هذه المناهج، وتضيف وتحزف، ولا تستطيع أن تحقق شيئاً.
وقد نشأت في المجتمع العالمي تلك الأزمة العميقة: وتلك الغربة والتمزق والغثيان نتيجة الانفصال عن الإيمان بالله وأخلاقية المجتمع والحضارة، وقد ثبت لصيحات الأعلام والبارزين من المفكرين الغربيين بأنه لا طريق صحيح للبشرية إلا بالإسلام وحده وقد اعتنق هؤلاء الأعلام العقيدة الإسلامية بعد أن بحثوا سنوات طويلة وعجزوا عن أن يجدوا سبيلاً إلا عن طريق هذا النور الإلهي (وإسلام الدكتور بوكاي والفيلسوف جارودي) أخيراً من العلامات التي سبقتها علامات كثيرة.(47/4)
ولقد جرب الغرب مذاهب ودعوات مختلفة من الشرق والغرب وقد فشلت جميعها والعالم يتطلع إلى منهج جديد يحرره من العبودية والإباحية والشك والتمزق، وليس غير الإسلام هو الذي ينقذ البشرية، ولكن كيف يمكن ذلك وأهل الإسلام أنفسهم مكبلون بقيود وثيقة للنفوذ الغربي بشقيه، أنهم لابد أولاً أن يتحرروا من هذه القيود وأن يقيموا مجتمعهم ثم يقدموا الإسلام للبشرية.
والحقيقة أن الإسلام يواجه تحديات خطيرة اليوم، ويطالب المؤمنين به بأن يؤمنوا حتى يقوم الصف المسلم القادر على حماية الأمة من الانهيار والتمزق والسقوط في حلقة التبعية الخطيرة، وهي المؤامرة التي تعمل الحضارة العالمية لي تذويب المسلمين فيها بعد أن تفسد مفهومهم الصحيح لعقيدتهم، وإثارة الشبهات حولها حتى يضيع ذلك النور القوي الذي يملأ القلوب ويدفعها إلى العمل لحماية بيضة هذا الدين، والدفاع عنها والإعداد لمقاومة كل من يفكر في السيطرة عليها، وذلك بالمرابطة في ثغور الإسلام المادية والمعنوية لحماية الأمة من مؤامرة إذابة هذه الأمة في بوتقة الأممية، فليس للمسلمين اليوم من مهمة في الحقيقة أكبر من الحفاظ على ذاتيتهم الإسلامية وشخصيتهم التي كونها لهم الإسلام منذ أربعة عشر قرناً، حتى يظلوا مسلمين حقيقة، وليسوا صورة ممسوخة من الأمم الأخرى، وفي سبيل حماية هذه الذاتية يجب ان يحافظ المسلمون على عقيدتهم وعبادتهم ومفاهيمهم في المجتمع والسياسة والاقتصاد والتربية، حقيقة واضحة، فلا يقبلون بالتبعية لفكر غير فكرهم، أو الانبهار بمذاهب أو مناهج غير مذهبهم ومنهجهم الأصيل الذي كونهم منذ أربعة عشر قرناً وحماهم من الذوبان أو التمزق في حضارات أخرى، فلن تستطيع أي أيديولوجية وافدة أن تعطي المسلمون قوة لأو تمكنهم من امتلاك إرادتهم وقد حدثت التجربة خلال السنوات الماضية وعجزت عن أن تحقق لهم شيئاً، بل كانت سبيلاً للأزمة والهزيمة والنكسة وسقوط بيت المقدس وفلسطين في أيدي أعدائهك،(47/5)
وقد جرى ذلك نتيجة الخداع الذي كان يخدع هذه الأمة بأن التبعية للغرب هي التي ستمكنهم من الوصول إلى القوة وامتلاك الإرادة، وقد ظهر كذب هذا، وكانت كل الخطوات ترمي إلى إذابتهم في البوتقة العالمية وإضاعة ذاتيتهم ووجودهم الخاص المستقل، كافة تحمل رسالة التوحيج الخاص، إن المحافظة على الذاتية الإسلامية بعيدة الانصهار في بوتقة الأمم الأخرى هي أساس عميق من أسس الإسلام الذي جاء ليعيد الإنسان إلى الفطرة بعد أن أفسدته المطامح والشهوات التي غيرت كلمة الله، وأن أكبر الأخطار التي تواجه المسلمين هي خطر النفوذ الغربي والصهيوني والماركسي (مجتمعين) على إذابة المسلمين في بوتقة الحضارة الغربية التي تمر بأسوأ مراحل انهيارها وتمزقها.
إن أول ما يدعونا إليه الإسلام بعد التوحيد الخالص أمران:
أولهما: المحافظة على الشخصية الإسلامية بكل معالمها.
ثانيهما: القدرة على تقديم النفس خالصة لله في مرابطة دائمة يقظة حتى لا يعتدى على العقيدة والوطن الذي يحمي العقدة معقد، فإذا كانت أرض الوطن الإسلامي في أي جزء منها قد وقع عليها اعتداء فإننا مطالبون بمؤازرته.
إننا نعرف أنك أيها الشاب المسلم تواجه الآن إغراءً خطيراً هو إغراء ذلك البريق المتصل بالحياة الاجتماعية وما يتصل بها من صور عارية وأفلام مكشوفة وتحلل في محيط المرأة، واستهانة بالحلال في محيط التجارب والعمل، مما يغري بالاندفاع وراء الأهواء أو المكاسب الحرام ولكن من يمتلك إرادة الإيمان يستطيع أن يقف وقفة الحسم، إزاء ذلك خوفاً من مجاوزة حدود الله، مضحياً بهذا الزخرف الحرام في سبيل انتظار عطاء الله الحلال المبارك الذي يمنحه لأولياء الخير واليقين.(47/6)
فالمسلم دائماً على طريق الله يسأل عن حق الله وما أحل وما حرم، ويستفتي قلبه، فهو ما دام يقرأ القرآن والسنة النبوية فهو على أول الطريق، فعليه أن يلتمس الفهم العميق من مصادره الراشدة، بعيداً عن العنف والتطرف والتعصب فطريق الله كله رحمة "أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" وعلى الشباب المسلم أن يعرف أن للأمور الكبرى مراحل تمر بها، وأن التربية وبناء العقول والنفوس هو العامل الحقيقي للوصول إلى الغايات الكريمة وهو تأصيل المجتمع وإعادته إلى الله، وأن أية خطوة من خطوات العنف ستكون عاملاً في تأخير النهضة، بينما تؤدي خطوات بناء النفوس والعقول في ضوء الإسلام ونور القرآن إلى الغاية المرتجاة.
إن المسلم إذا وهب نفسه لدعوة الله فقد ارتفع فوق مطامع الحياة وأصبح من خدام دعوة التوحيد، فإذا وقر في قلبه فعليه:
(أولاً): أن يطهر نفسه من المطامع والأهواء. وأن يحصن نفسه بالعلم والإيمان والصبر الطويل على مكاره العمل وأن يهب وجوده كله، عافيته وثقافته وماله لكشف طريق الله أمام الناس غير متزيد ولا متطاول.
(ثانياً): أن يكون مؤمناً صادق الإيمان بالمسئولية الفردية، وأن يرفض مفاهيم الفسلفات الوافدة التي تقول أن المسئولية في الأخطاء والانحراف على المجتمع فنحن المسلمون نؤمن بأن كل إنسان مسئول عن عمله، وأن له إرادة حرة يستطيع أن يتحرك من خلالها لعمل الخير، ولدفع الشر، وأنه ملتزم بالمسئولية الأخلاقية في كل عمله وأنه مطالب بالمساهمة في بناء المجتمع الرباني الأصيل الذي تتطلع إليه البشرية، وأنه محاسب عن ذلك كله في الآخرة.
وقد أشار القرآن إلى الإرادة الحرة في ثلاثة وستين موضعاً.(47/7)
(ثالثاً): أن تكون عبادته هي عبادة المجاهدين العاملين، الذي يفنون أنفسهم في خدمة أمتهم ومجتمعهم وذلك ببناء لبنة في المجتمع، على قدر استطاعته، وأن لا يقبل مفهوم العبادة الفردية المنعزلة التي تدعو إليه بعض الطرق الصوفية، فذلك مفهوم قاصر، لأنه يحرم المسلم من ثواب النضال في دائرة المجتمع وهداية الناس وتصحيح المفاهيم، وما خلق المسلم ليعتزل الناس ويعبد الله بالذكر والانفصال عن المجتمع، ذلك أن عبادة الله تبارك وتعالى في الإسلام إنما تكون بمخالطة المجتمع والتعامل معه، وإبلاغ الناس كلمة الحق والخير على قدر المستطاع.
(رابعاً): وعلى المسلم الذي يدعو إلى الله أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بالحكمة والموعظة الحسنة، وإبلاغ المسلم الآخر ما لا يعلمه، حتى يعلمه، وإن ينصح أهله وأسرته وأبناءه وأن يقيمهم على الحق، بالرضا والإحسان.
وعندما يكون المسلم مؤمناً حقاً، يستطيع ذلك "فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم".
(خامساً): أن يكون المسلم قدوة حسنة، لا يأمر أهله بشيء وهو يقترفه، فإنه إذ ذاك لا يبلغ نفوس الناس ولا يقبلوا منه إلا إذا هو مثلاً حقيقياً لذلك في حياته وعمله.
(سادساً): أن يختار عملاً في الدعوة الإسلامية يباشره، ويتخصص فيه ويفهم كل ما يتصل به، دون أن ينسى أن الإسلام كل جامع متصل لا ينفصل فيه فرع عن باقي الفروع فإذا كان أديباً فعليه أن يعرف المسئولية الأخلاقية وإذا كان عالماً نفسياً أو اجتماعياً عليه أن يفهم معنى التكامل بين القيم الإسلامية التي تشكل المفهوم الإسلامي الجامع بين الروح والمادة.
(سابعاً): أن يكون المسلم واضح الوجهة إزاء ما يرضي الله وما حرمه الله، وأن يعرف هذه الحدود، وأن يقيمها في نفسه وأسرته وأهله فيما استطاع إلى ذلك سبيلاً.(47/8)
(ثامناً): أن يجعل رابطة "لا إله إلا الله" أعلى الروابط وهي التي تجمع المسلمين جميعاً فتجعلهم أمة واحدة، وأن لا يعلي من شأن روابط الدم أو العنصر او الإقليم فهذه كلها روابط تفصل ولا تجمع، وقد حرم الإسلام التفاضل بالأنساب والأجناس والطبقات والعصبة. فنحن مطالبون بالتآخي تحت لواء الإسلام.
(تاسعاً): أن نعرف أن هذه الأمة قائمة على شاطئ التحدي فهي دائماً موضع طمع الامبراطوريات والقوى الكبرى، تعمل على السيطرة عليه واحتوائه وتعمل على القضاء على شخصيته الإسلامية وذاتيته الربانية المستمدة من التوحيد الخالص، ولذلك فيجب أن نحس دائماً بالحذر ونعمل على المرابطة والإعداد حتى لا نؤخذ على غرة، وأن نكون على استعداد كامل للتضحية في سبيل حماية الأمة والدين والعرض. وقد دعانا الحق تبارك وتعالى إلى فريضة الجهاد القائمة والماضية إلى يوم القيامة لحماية الإسلام أمة ودولة ووجوداً، وقد وضع الإسلام على أساس طلب الغلبة الشركة والغزة والعلم فالناظر في أصول هذا الدرس يعتقد بأنهم لابد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم وان يسبقوا جميع الأمم إلى اختراع الآلات الحربية واتقان العلوم العسكرية.
(عاشراً): معنى الإسلام هو إسلام الوجه لله وحده، وكان هو الرسالة الأولى، وكان هو الرسالة الأخيرة وأن تعاليم الإسلام ليست حلولاً للمشاكل بقدر ما هي وقاية من المشاكل قد وردت كلمة إسلام ثماني مرات في القرآن بمعنى إسلام النفس إلى الله.
ويقوم الإسلام على مجموعة من الأصول العامة: عقيدة سليمة، عبادة صحيحة، كتاب منير، أسوة حسنة (الرسول) شريعة عادلة، أخلاق إيجابية، جهاد في سبيل الله، تربية صالحة، الصمود في وجه العدو. هذا هو إسلام القرآن الذي يحث على الإعداد الإنساني لهذه الحياة وعدم إلغاء الشخصية الفردية.(47/9)
(حادي عشر): إن قانون المعرفة في الإسلام (يجمع بين العقل والقلب) في ضزء الشريعة، ولا يستطيع العقل وحده التعرف على المصلحة بل إنه في حاجة إلى إرشاد الشرع (قرآناً وسنة) والعقل لن يهتدى إلا بالشرع فالعقل كالأساس والشرع كالبناء، وأن العقل قد تحجبه الأهواء والشهوات فالعقل لن يهتدى إلا بالشرع، العقل كالبصر والشرع كالشعاع، ولن يغني البصر ما لم يكن شعاع من خارج العقل كالسراج والشرع كالزيت الذي يجده فما لم يكن الزيت لم يحصل السراج وما لم يكن سراج لم يضيء الزيت.
( ثاني عشر): الرجوع إلى الحق متى تبين للمسلم، هذه قاعدة أساسية لبناء العقل الإسلامي المؤمن، وفي ذلك قول عمر بن الخطاب "ولا يمنعك قضاء قضيته بالأمس هديت فيه إلى رشدك أن ترجع فيه إلى الحق فإن الحق قديم والرجوع إلى الحق خير من التنادي في الباطل".
(ثالث عشر): على المثقف المسلم أن يعلم أن أكبر أخطار الفكر الحديث هو إنكاره صاحب الكون وصانعه وصانع العلوم ومعلمها للإنسان نفسه وهو الحث تبارك وتعالى والخطأ الثاني هو عدم الاستسلام للوجهة الربانية في بناء المجتمع وصناعة الحضارة وتطبيق العلم ومن هنا فقد حاولت الأمم الغربية أن تضع قوانين وشرائع مختلفة بل ومتعارضة مع أحكام الله، وهذا هو سر أزمتها واضطراب مجتمعها والأخطار التي تواجه الإنسان المعاصر، فلابد من العودة إلى الإيمان بأن الله هو الصانع وليست الطبيعة وأنه لابد من قوة علوية تشرف على الإنسان من فوقه وتمنحه الأسلوب المتوازن الشامل الذي يتعامل به مع جهازه الإنساني الصعب، إن فقدان الإيمان بالله كحقيقة علمية وكهدف أساسي من أهجاف المجتمعات هو مصدر كل الأزمات.(47/10)
(رابع عشر): لابد من فهم دور المرأة الحقيقي ومهمتها في المجتمع، ولابد من معرفة تركيبها العضوي والعصبي الذي يكشف العلم اليوم عن أنه مختلف وأن لها رسالة خاصة تتعلق بالبيت والأسرة وتربية الطفل ولذلك فإن تجاوزها ذلك من شأنه أن يحطم حياتها كذلك فإن للإسلام مفهوماً في الملابس والأزياء والعلاقات بين الرجل والمرأة.
(خامس عشر): يجب أن يقيم المسلم مجتمع الإسلام في نفسه وبيته وأهله وأن يتحول إلى العرف الإسلامي في عاداته ومعاملاته، في قلبه ولسانه وإننا لابد أن نعيد للإسلام سلطانه على الحياة الاجتماعية كلها ولا نقف به عند العبادات وأن نخضع معاملاتنا له.
( سادس عشر): الإيمان بصلاحية الإسلام لكل زمان ومكان، وأن منهج الإسلام الرباني الواسع الأطر، لا يحتاج حاجة إلى مناهج الأمم في الاقتصاد أو الاجتماع او التربية، وإنما إلى تطور أو تطوير شأن المناهج البشرية وليس المسلم في يحتاج إلى الأساليب المستحدثة في وسائل التنفيذ، فلا يحتاج المسلمون إلى نظم وإنما إلى تنظيمات وكل ما يتصل إليهم من الحضارات فإنما هو مواد خام تنصهر في بوتقة الإسلام.
(سابع عشر): الإيمان بالله تبارك وتعالى خالقاً ومدبراً لكل أمر، والإيمان بأن محمداً صلى الله عليه وسلم هو قائد البشرية إلى الحق.
(ثامن عشر): إن علينا أن نحرر الفكر الإسلامي من مفاهيم فاسدة في الفومية والعلمانية والمادية وأن نكشف بأن للإسلام مفاهيم أكثر إنسانية ورحمة هي التي تجمع الناس تحت لواء الإخاء الإنساني والارتباط بالله تبارك وتعالى وفهم الحياة والإنسان فهماً جامعاً بين المادة والروح، ولقد نقل الإسلام البشرية من اختلاف الأجناس وصراع العناصر إلى وحدة البشرية الصادرة عن أب واحد، المؤمنة بري واحد، ودين واحد.(47/11)
(تاسع عشر) لقد ربى الإسلام معتنقيه على الاعتزاز بالله والإيمان بأنهم خلقوا ليقدموا رسالة التوحيد إلى البشرية، سادة معتزين بكرامتهم لا يعرفون العبودية لغير الله وحده.
(العشرون) ليس الإسلام مذهبًا ولا نظرية ولا ثورة ولا يجوز للكاتب المسلم أن يدخل الإسلام في مقارنة مع الثورات العديدة التي قام بها الإنسان على مر التاريخ، فالإسلام منهج رباني شاء الله تبارك وتعالى أن لا يرتبط اسمه بزمن معين ولا مكان معين ولا جنس معين ولا بفرد معين كما ارتبطت أسماء الأديان والنحل؛ وإنما هو مطلق، ماض إلى يوم القيامة يعز عزيزًا ويذل ذليلا ويبسط جناحيه على البشرية.
(واحد وعشرون) تميز الإنسان بالتكامل الجامع؛ فلهو يضم العقيدة والشريعة والأخلاق:
العقيدة هي: معرفة الله سبحانه وعالم الغيب والبعث والآخرة.
الشريعة: تنظيم الحياة على منهج الله.
الأخلاق: معرفة الخير والشر والحق والباطل.
وأهم عناصرها مسئولية الإنسان عن عمله، والثبات على الحق والاستمساك به والرفق في سوق الناس إلى الله، والصبر على أذاهم وألا يتعجلوا النصر فيطلبوه من غير سبيله ويسعوا إليه من غير بابه، وفي الإسلام كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، وليس فيه أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فيقصر وكل شئ لله، وفيه درء المفسدة مقدم على جلب المنفعة، وإننا لا نعرف الحق بالرجال ولكن نعرف الرجال بالحق، وللإسلام ضوابط للاجتهاد وحدود تمنع من استغلال الأهواء والأغر اض لظروف التغيير.
وصدق الإمام الشافعي حين قال: "إن هذا العلم دين؛ فانظروا عمن تأخذون دينكم".
(اثنان وعشرون) أكبر ما أعطى الإسلام: الفكر والذكر (معرفة قدرة الله واقتدارها قدرها) والبيان والارتفاع فوق طفولة البشرية بالنظرة الشاملة ذات الأبعاد التي ترتبط بالأزل والأبد وبالدنيا والآخرة وتستمد أول نقطة انطلاقها من الله تبارك وتعالى، ثم تعود إليه جل شأنه بعد تمام الرجولة.(47/12)
وإن الله تبارك وتعالى يحب الواقفين ببابه المتمسجين بأعتابه والطالبين منه والملحين في الدعاء؛ فالدعاء اعتراف وإذعان بالعبودية لله، وأن الله وحده هو القادر على كل شئ وأن الله تبارك وتعالى يحب أن يسمع صوت تذلل عبده له: ادعوني أستجب لكم.
(ثلاث وعشرون) التربية تربيتان: تربية العقل من الضلالة وتربية النفس من الهوى، اقتناع العقل بالدليل واقتناع القلب باليقين، وفي الإسلام توازن قائم بين الجانب الروحي والجانب المادي بين العلاني والوجداني بين الفردي والجماعي.
(أربعة وعشرون) لقد علمنا الإسلام أن نقف بين المعرفة المعروضة علينا موقف التعرف الصحيح عليها في ضوء القرآن والسنة، وقد رفض الإسلام التطور على حساب الأصالة والقيم الأساسية، كما رفض تضحية القيم العليا في سبيل التقدم المادي، ولم يخضع الإسلام قيمة لتبرير الحضارات وأهواء الأمم، وليس في المناهج والأيدلوجيات المطروحة من شئ إلا وعند المسلمين مثله أو خير منه، ويزيد عليه أنه في الإسلام موصول بالله تبارك وتعالى.
والمسلم كما قال إقبال: لم يخلق ليندفع في التيار ويساير الركب البشري حيث سار؛ بل خلق ليوجه العالم والمجتمع والمدنية ولابد من تطويع الدنيا لأمر الله ونصرة تعاليمه ومقاومة أكبر علل الحضارة الحديثة: عبادة الحياة.
(خمس وعشرون) منذ أن شكل الإسلام لونه المميز على خريطة العالم وهو عالم مستقل له طابعه المفرد، صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة، ومنهجه المتكامل المتجدد بالتوحيد والإيمان والأخلاق، ومنذ ذلك اليوم أصبح للمسلمين قبلتهم الواحدة التي لم يحيدوا عنها وتهوى إليها قلوبهم وأفئدتهم بالإيمان والفكر والنظر، ولم يكن لهم بعدها منذ ذلك اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها قبلة أخرى.(47/13)
(ست وعشرون) إن منهج القرآن يختلف عن مناهج ثلاث: هي منهج الفلسفة ومنهج العلم ومنهج التصوف. إن علينا أن نلتمس مقاييس الله تبارك وتعالى في تقدير الأمور المادية وفي تقدير الأنساب وفي فهم معاني الكلمات ونرفض مقاييس البشر (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان).
إن علينا أن نعرف الفوارق العميقة بين الإسلام والنحل المختلفة، ويجب أن يكون واضحًا في أذهاننا موقف الإسلام من الأمور المتشابهات: فيما أحدثت الحضارة من فعاليات اجتماعية خاصة في الآداب والفنون، وعلاقات الرجل والمرأة، ووسائل التسلية والترفيه ولنعلم أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وعلينا أن نحافظ على ذاتيتنا الإسلامية المميزة لنا عن الاسم؛ لأننا مسئولون أمانة تبليغ الإسلام إلى العالمين حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وأن مهمة الداعية إلى الله المسلم اليوم هو تحرير الأمور في ضوء الإسلام وتصحيح المفاهيم، وأن علينا أن نفهم القانون الأساسي لحركة المسلم؛ وهو قانون مترابط بين الثوابت والمتغيرات، بين القيم الأساسية التي جاء بها الإسلام وبين متغيرات البيئات والعصور، فلا نندفع مخدوعين وراء صيحة التطور والتطور المطلق والنسبية الأخلاقية الجبرية الاجتماعية.
اللهم اجعلنا هادين مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلمًا لأوليائك حربًا لأعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من خالفك.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته ومَن دعا بدعوتِه إلى يوم الدين ...
غرة المحرم 1404.
أنور الجندي(47/14)
الكتب التي كتبتها أنا عبد الله يوسف من دائرة الضوء
المسلسل
عنوان الكتاب
الرقم في السلسلة
ملاحظات
1
وحدة الفكر الإسلامي مقدمة للوحدة الإسلامية الكبرى
1
2
الخنجر المسموم الذي طعن به المسلمون
2
3
في سبيل إعادة كتابة تاريخ الإسلام
3
4
في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي للشباب
4
5
الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي
5
6
التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام
6
7
تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث
7
8
على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر وفرويد ودوركايم
8
9
أخطاء الفلسفة المادية
9
10
نظريات وافدة كشف الفكر الإسلامي زيفها
10
11
فارغ مؤقتاً (غير موجود)
11
12
موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية
12
13
تصحيح المفاهيم الإسلامية
13
14
ماذا يقرأ الشباب المسلم
14
15
محاذير وأخطاء في مواجهة إحياء التراث والترجمة
15
16
رسالة المسلم
16
17
من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية
17
18
قضايا الشباب المسلم
18
19
المؤامرة على الفصحى لغة القرآن
19
20
فارغ مؤقتاً
20
21
فارغ مؤقتاً
21
22
فارغ مؤقتاً
22
23
هل غير الدكتور طه حسين آراؤه في سنواته الأخيرة
23
24
فارغ مؤقتاً
24
25
الوجه الآخر لطه حسين من مذكرات السيدة سوزان – معك
25
26
فارغ مؤقتاً (شغال فيه عبد الله يوسف)
26
27
الإسلام في وجه التيارات الوافدة
27
28
مصححو المفاهيم الإسلامية الغزالي وابن تيمية وابن حزم وابن خلدون
28
29
فارغ مؤقتاً
29
30
تحديات في وجه المجتمع الإسلامي
30
31
نظرية السامية مؤامرة على الحنفية الإبراهيمية
31
32
كمال أتاتورك وإسقاط الخلافة العثمانية
32
33
الفنون والمسرح
33
34
التبشير الغربي
34(48/1)
35
الانقطاع الحضاري
35
36
فارغ مؤقتاً
36
37
الخلافة الإسلامية
37
38
الفكر البشري القديم
38
39
ابتعاث الأسطورة مؤامرة جديدة تواجه الفكر الإسلامي
39
40
فارغ مؤقتاً (شغال فيه عبد يوسف)
40
41
حركة الترجمة
41
42
الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري
42
43
السلطان عبد الحميد صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم
43
44
القاديانية خروج على السنة النبوية
44
45
عقيدة الكاتب المسلم
45
46
الاستشراق
46
47
أقدم لك الإسلام
47
48
حقائق عن الغزو الفكري للإسلام
48
49
مؤامرة تحديد النسل
49
50
بناء مناهج جديد للتعليم والثقافة على قاعدة الأصالة
50
ملحوظة هامة: الأعداد (11-20-21-22-24-26-36-40 من "في دائرة الضوء" لم يكتبوا)، هذه الأعداد غير موجودة ماعدا العددان 26-40 موجودين والسلام عليكم.
... ... ... ... ... ... ... ... عبد الله يوسف الزهري(48/2)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة
21
الأدب
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا – بيروت
الطبعة الأولى
1402 هـ - 1982 م
###3### الأدب
إن خصائص الأدب العربي التي تميزه عن الآداب العالمية المختلفة في الشرق والغرب ترجع إلى البيئة التي نشأ فيها، والمفكر الذي تشكل في إطاره، والتحديات التي واجهته في طريق مساره الطويل، وقد نشأ الأدب العربي في الجزيرة العربية إلى قرون عديدة سبقت الإسلام، وصاغته مقومات دعوة التوحيد الأولى "الحنيفية" حين قام هذا المجتمع الجديد في قلب الجزيرة بجوار بيت الله الحرام، فجمع بين جنوب الجزيرة وشمالها ووسطها، وصهرها جميعًا في ذلك البناء الذي أقامه الإسلام ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم حفيد إبراهيم وإسماعيل، ولا ريب أن الإسلام هو الذي أعطى العرب كيانهم الاجتماعي، والقرآن هو الذي صاغ لهم منهج الأدب العربي، ولقد كان قبل الإسلام شعر وأدب وأسواق، ###4### وكان الشعر ديوان العرب ومجموعات من سجع الكهان، غير أن صورة الأدب في معالمه الأصيلة، إنما وضحت بعد نزول القرآن الذي كان العامل الأعظم في بناء الأدب، وظهور فنونه وعلومه ومناهجه، والذي أغنى اللغة العربية بالأساليب والمضامين، ولا ريب أن اللغة العربية سابقة على الإسلام، وهي عماد وجود الأمة العربية، وهي لغة تطورت، ونمت خلال مئات السنين حتى وصلت إلى صورتها التي عرفت بها قبيل الإسلام، وإن ظلت لها لهجاتها المتعددة، فلما نزل القرآن انصهرت اللغة العربية في لهجة واحدة، ثم كان أن أعطاها القرآن – كما أعطى الأدب العربي – هذا البيان المعجز الفائق – الذي فهمه العرب، وأعجبوا به، وعجزوا في نفس الوقت عن الإتيان بمثله. ولقد كان لميراث النبوة في إسماعيل: جد العرب، وبقايا الحنيفية "دين إبراهيم" قيم خالطت النفس العربية، قامت على الأريحية والمروءة، وإن أصابها كثير من فساد عادات الثأر، ووأد البنات، والشرك وعبادة الأصنام، والاستعلاء(49/1)
والتفاخر، فلما جاء الإسلام حرر هذه النفس العربية من جاهليتها، وصاغ كثيرًا من طوابعها صياغة جديدة، وحول أهداف الكرم وحماية الذمار والنجدة، فأعطاها مفهومًا متجددًا هو مفهوم التوحيد ###5### الأصيل، واستبقى قدرتها على المجالدة والحمية، ووجه ذلك كله إلى هدف أسمى تحت لواء عقيدة التوحيد الخالص، وبذلك محا درن الجاهلية، وحرر قيمها التي كانت عماد القوة الكبرى التي اندفعت في الأرض ترفع راية الإسلام، وتعلن اسمه، وتمد نفوذه من حدود الصين إلى حدود فرنسا، كل هذه العوامل أعطت أدب اللغة العربية ذاتية خاصة، وطبعته على نحو خاص يختلف به عن أدب الأمم الأخرى، وظهرت فنون لم توجد في الآداب الأخرى، واختفت منه فنون توجد في الآداب الأخرى، وظهور تلك الفنون واختفاء تلك الأخرى منه لا ينقص من قدره، ما دام يصدر عن أعماق روحه الطبيعية ومقوماته الخالصة، ومن هنا فإن هذا الأدب لا يمكن أن يدرس في ضوء مناهج وضعت لآداب أخرى، ذلك أن أساليب النقد والبحث إنما توضع للآداب بعد ظهورها، ولذلك فهي مستمدة منها وليس العكس.(49/2)
إن مذاهب الأدب التي يحاول النقاد محاكمة الأدب العربي إليها، هي في جملتها مذاهب غربية، وضعت مسمياتها ومناهجها بعد قيام ظواهرها في الآداب الأوروبية، وهي في الحق ليست مذاهب، وإنما هي أسماء عصور: كالكلاسيكية والرومانسية وغيرهما، وهي تتصل في مجموعها ###6### بتاريخ الأمم التي وضعت هذه المذاهب، فلماذا تنقل لتكون قوانين يخضع لها أدبنا الذي يختلف من حيث تكوينه وطابعه وتاريخه، وبيئته ومظاهر حياته عن هذه الآداب؟ إن اختلاف المصادر والمنابع بين الأدب العربي والآداب الغربية يجعل من العسير خضوع الأدبين لمقاييس واحدة، أو لقوانين واحدة، والمعروف أن الآداب الغربية جميعًا تستمد مصادرها من الأدب الهليني والفلسفة اليونانية، والحضارة الرومانية، فقد اتجه الأدب الأوروبي الحديث منذ أول ظهوره في عصر النهضة إلى هذه المنابع، وربط نفسه بها، وجعلها أساسًا ثابتًا لمختلف وجهات نظره ومفاهيمه وقيمه، كما اتخذ من النظريات التي قدمها أرسطو في الأدب والنقد والشعر وغيره أساسًا له.
ولا ريب أن الأسس التي يقوم عليها الأدب الغربي بمختلف فنونه وبيئاته، تختلف اختلافًا واضحًا عن الأسس التي يقوم عليها الأدب العربي الذي استمد مصدره أساسًا من القرآن الكريم، والإسلام والقيم العربية الأصيلة التي تلاقت مع مفاهيم الإسلام، وانصهرت معها.(49/3)
2- أما الفكر الذي تشكل الأدب العربي في إطاره، فهو القرآن، وأداته اللغة العربية، ويقوم هذا الفكر على ###7### أساس التوحيد الخالص. فقاعدة الإسلام الأزلية هي الاعتقاد بوجود الله الواحد الذي لا يتغير بتغير الزمان والمكان، فالله – سبحانه وتعالى – هو خالق الكون، وهو الذي يمسك هذا النظام المترابط في كل لحظة بحيث لو تخلى عنه لتلاشى وانتهى، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، وهذا المفهوم هو الأساس في الأدب العربي، والإنسان في نظر الإسلام مستخلف في الأرض، وله طبيعته الجامعة بين الروح والجسد، والعقل والقلب، وله رغباته المادية وأشواقه الروحية، وله إرادته ومسؤوليته، ولما كان القرآن هو المصدر الأصيل للفكر الإسلامي، فهو المثل الأعلى للأدب العربي. ولا ريب أن تأثير القرآن في هذا الأدب لا ينقطع لأنه متصل بالأداء والمضمون معًا حيث يستمد الأدب العربي أصوله من الإسلام والقرآن الكريم، وفي مقدمتها: الأصالة والصدق، والوضوح والإيمان، والتفاؤل والأخلاقية، والتكامل، والالتزام والمسئولية، والحرية ذا الضوابط وثبات القيم وترابط الفردية والاجتماعية والتوحيد والتجريب والفطرة، وقوامة الرجل، وتكامل المعرفة وترابط العروبة بالإسلام والطابع الإنساني.
3- من خلال دراسة الأصول التي استمد الأدب ###8### العربي منها وجوده تظهر جليًا وجه الخلاف والتباين بين الأدب العربي والآداب الغربية وخاصة في أربع مواقع هامة:
أولا: تفسيرات العقائد.
ثانيًا: طبيعة البلاد.
ثالثًا: موروثات الهلينية والفكر اليوناني.
رابعًا: الآثار الخطيرة التي حققتها سيطرة الفكرة التلمودية على الفكر الغربي كله في العصر الحديث.(49/4)
ومن هنا نجد الخلاف عميقًا في العقائد والثقافة ومناهج البحث والطبيعة النفسية، والطبيعة الجغرافية جميعًا، ولهذا الخلاف أبعد الأثر في مفهوم الأدبين، ذلك أن أبرز طوابع الفكر الغربي "الأدب الغربي بالتبعية" هو تجزئة الأمور لا تكاملها "فهي تفهم شيئًا واحدًا، وترى الآخر عكسه أو ضده، وهي تفصل بين الأشياء فصل العداوة أو المخالفة أو التعارض، ولا تستطيع أن تقبل المواءمة أو المصالحة؛ أو الالتقاء أو التكامل على النحو الذي يمثل طبيعة واضحة للفكر العربي الإسلامي، وحين يستمد الأدب العربي مقوماته من التوحيد، يستمد الأدب الأوروبي مقوماته من أشياء أخرى يكاد الدين الغربي أن يكون عنصرًا فيها، ###9### ولكن أبرز المقومات هي الوثنية الهلينية والأدب الجنسي الصريح.
4- واجه الأدب العربي عددًا من النظريات الوافدة في مجال النقد الأدبي، قدمها بعض الأدباء في نطاق الدعوة إلى تجديد الأدب العربي، وقد خالفت هذه النظريات منطلق الأدب العربي وجذوره، وعارضت ذاتيته الإسلامية العربية الخالصة، واصطدمت مع مزاجه النفسي والعقلي، ومن هنا فقد سقطت واحدة بعد أخرى، ولم تجد مجالا للعمل والنماء والتشكل مع الأدب العربي ذلك أن هذه النظريات في أصولها قد انطلقت من طوابع الآداب الأوروبية وذاتيتها، وتشكلت وفق مضامين تلك الآداب، واعتمدت أساسًا على النظريات التي بدأت في دائرة العلم الطبيعي، ثم فرضت نفسها على الفلسفات والآداب، وهي النظريات التي اعتبرت الإنسان حيوانًا خاضعًا لظروف البيئة خضوع مختلف الأشياء لها، وهي نظرية مادية خالصة لا تتفق مع روح الأدب العربي الذي يقوم على أساس ترابط واضح بين المادية والروحية، وبين العقل والقلب، والتي تعتمد قاعدة التوحيد الإسلامية أساسًا لمنطقها.(49/5)
###10### ويقوم منهج النقد الأدبي العربي الحديث الذي فرضه بعض الأدباء بعد الحرب العالمية الأولى على الأدب العربي على أساس مادي خالص، فهو مبني على أساس النظريات التي استمدت مناهجها من نظرية دارون عن التطور وأصل الإنسان: هذه النظرية التي قامت في دائرة العلم الطبيعي، ثم نقلها الفيلسوف هربرت سبنسر إلى مجال المجتمع، فطبقها على مبادئ الأخلاق، ثم جاء "برونتير" الناقد الفرنسي، فطبقها على الأجناس الأدبية، هذا فضلا عن أن المفاهيم التي اعتمد عليها دعاة المذهب الغربي في النقد الأدبي، إنما استمدوها من برونتير هذا، ومن تين وسانت بيف، وهم يرون أن الإنسان ما هو إلا أثر من آثار البيئة بمعناها الاجتماعي الواسع، وأنه لا يكاد يفترق عن النبات والحيوان في انتفاء الحول وانعدام الإرادة، وما يتصل بهذا من أن الفضيلة والرذيلة ليستا إلى حد كبير إلا نتاجًا لعملية تلقائية مثل الأحماض والقلويات، فضلا عما ترتبط هذه النظرة جميعها به من أثر نظرية النشوء والارتقاء من حيث إنزال الإنسان من مكان البطولة إلى مكان الحيوان الذي يعيش تحت رحمة القوى المحيطة به، وقد نمى هذه النظريات الباحث الفرنسي دروكايم في مفاهيمه التي تلقاها بعض أدبائنا هؤلاء ###11### في جامعة السوربون، وجعلوا من هذا الخليط كله أساسًا لنظريتهم في النقد الأدبي التي جرى تطبيقها على المتنبي وابن خلدون والمعري، ثم جرى تطبيقها على الشعر الجاهلي، وعلى أدب القرن الثاني للهجرة، وكان لها ذلك الأثر العميق من التضارب الذي أصاب القيم الإنسانية للأدب العربي والفكر الإسلامي والثقافة، والتي ذهب الباحثون في تعقب آثارها فلم يصلوا إلى هذا المعنى إلا منذ وقت قريب حين تبين محاولة إخضاع الأدب للمنهجين الاجتماعي الذي رسمه دوركايم والذي يعترف بأن الإنسان حيوان اجتماعي وأن مختلف قيم المجتمع ليست أصيلة فيه، والمنهج النفسي الذي التقطه الأدباء من نظرية فرويد، والذي يرى أن(49/6)
الإنسان عبد لشهواته، وأن الجنس هو المحرك الأول لكل تصرفاته.
وقد غلب المذهب الاجتماعي على دراسات الأدب والتاريخ، وغلب المذهب النفسي على دراسات التراجم والشعر ومن هنا ظهرت تلك الآراء الغريبة التي تمسك بها بعض الأدباء، والتي لا تتفق من قريب أو بعيد مع مفاهيم الفكر الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية، ومن ذلك ما قاله الدكتور طه حسين من أن "الدين نبت من الأرض ولم ينزل من السماء" وقوله: "إن العالم الحقيقي هو الذي ينظر إلى ###12### الدين كما ينظر إلى اللغة، وكما ينظر إلى اللباس من حيث إن هذه الأشياء كلها ظواهر اجتماعية يحدثها وجود الجماعة، ومن هنا نصل إلى أن الدين في نظر العلم لم ينزل من السماء، ولم يهبط به الوحي، وإنما خرج من الأرض كما خرجت الجماعة نفسها" اهـ.
والواقع أن قائل هذا كان يردد صيحة معروفة في الغرب على أيدي العلماء اليهود تلاميذ وأحفاد بروتوكولات صهيون، وأن العلم الذي يشير إليه ليس هو العلم بمعناه الحقيقي، وإنما هي الفلسفة المادية، ومدرسة العلوم الاجتماعية، والتحليل النفسي، وكلها تقوم على مصدر مادي خالص، ولا تعترف بأن الإنسان روح ومادة، ولا ريب أن هذه الآراء واحدة، وأن الدكتور طه لم يبتكرها، ولم يصل إليها بعد بحث، ولكنه تعلمها من دوركايم وغيره من الكتَّاب الغربيين الذين أرادوا أن يتحركوا بمفاهيمهم هذه من خلال الفكر الغربي من الفلسفة المثالية التي كانت سائدة إلى الفلسفة المادية الخالصة.
أما الأدب العربي والفكر الإسلامي، فليس له مع هذه القضية أو هذه الأزمة صلة ما، ولذلك فإن من الظلم البين أن ينقل مجال المعركة إلى الأدب العربي بغير حاجة إليها إلا ###13### حاجة واحدة في نفس يعقوب، هي محاولة تغريب الأدب العربي وعزله عن ذاتيته الخاصة ومقوماته وأرضيته.(49/7)
وفي نفس مجال الادعاء بأن هناك صراع، بين الدين والعلم، فإن الأمر يبدو مضللا، فليس بين العلم والدين خصومة حقيقة فضلا عن أنه ليس بين الإسلام والعلم خصومة ما، والنظريات العلمية لم تثبت تناقضًا بين العلم والدين.
5- وقد عارض كثير من الباحثين هذا المنهج الوافد في نقد الأدب العربي، وقال الدكتور حلمي علي مرزوق في كتابه "تطور النقد": إن المنهج العلمي في البحث الذي ينقد به طه حسين الأدب العربي لا يصلح استخدامه إلا في مجال الوقائع العلمية التي يدرسها العلماء كأصول الدراسة الكيميائية والطبيعية، وما إليها حيث لا يدخل في مجال الوقائع العلمية معارف الشعوب، ولا يستطيع العلم أن يستقل بالبحث في هذا الموضوع لأنه أدخل في مجال الرأي، ويهول طه حسين في المنهج الاجتماعي الذي ينظر إلى الإنسان على أنه حيوان اجتماعي، ومن هنا يعول على دراسة البيئة والعصر، ولا يدرس البواعث النفسية للأديب التي تحفزه إلى نوع من السلوك دون آخر، وقد فرق الأستاذ محمد أحمد الغمراوي ###14### بين مناهج الأدب ومناهج العلم في مناقشته لهذه النظرية فقال: أما العلم فإنه ميدان العقل ومتاعه، وهو لا وطن ولا قومية له، كما أن العقل لا قومية له ولا وطن، فقوانين التفكير واحدة وسبل العقل واحدة في العالمين، ثم أنت لا تشعر أثناء تلقي العلم من أجنبي أنك تتلقى شيئًا خاصًا بجنس من البشر دون جنس، أو بقوم دون قوم، ولكن تتلقى شيئًا من البشر مشتركًا، أو ينبغي أن يكون مشتركًا بين الناس أجمعين اشتراك العقل بينهم، وليس الأدب كذلك، فبينما أنت في العلم لا تجد علمًا ألمانيًا ولا علمًا فرنسيًا، ولكن علمًا واحدًا إذ تجد الأدب متعددًا بتعدد الأمم، لكل أمة أدبها كما لكل أمة لغتها، وتجد أدب كل أمة مطبوعًا بطابعها طبعًا لا خفاء فيه، أو هكذا هو إذا استقلت الأمة بأدبها، ونسجت لنفسها بردًا من روحها وتاريخها وتقاليدها وعادتها ودينها، بدلا من أن تلتف بشق من برد(49/8)
غيرها، لا تجد فيه دفئًا ولا قوة ولا جمالا، وقد وجد هذا المذهب في النقد الأدبي معارضة تستمد قوتها من معارضته للذوق العربي ومضادته لذاتية الأدب العربي التي تعتبر الإنسان سيد الكائنات، وتعلي من قدر عقله ووجدانه، وتحاكمه إلى مقاييس تختلف اختلافًا كبيرًا عن المقاييس المادية التي تراه حيوانًا أو خاضعًا للجنس.
###15### وقد سقطت نظرية خضوع الأدب للمذهب الاجتماعي والمذهب النفسي على السواء، وتبين فساد الرأي الذي أعلنه طه حسين في العشرينات من هذا القرن حين قال: إنه يريد أن يدرس الأدب كما يدرس صاحب العلم الطبيعي علم الحيوان وعلم النبات.
6- كذلك هناك خلاف عميق حول أخلاقية الأدب، فقد كان من أبرز ما دعا إليه المذهب الغربي في الأدب، هو تحرير الأدب من طابع الأخلاق، ودفعه إلى تصوير الغرائز والأهواء في غير ما قيد، وذلك باسم "حرية الأدب" التي أطلق عليها مصطلح "الفن للفن" ولقد بدأ هذا الاتجاه بظواهر ثلاث:
1- الإفاضة في الحديث عن حياة بشار وأبي نواس وغيرهم من شعراء الإباحة في العصر العباسي، ونشر الجوانب الشاذة من أحاديثهم وأسمارهم على النحو الذي كتبه طه حسين في "حديث الأربعاء".
2- ترجمة القصة الفرنسية الإباحية والكشف عن جوانب الصراع الحسي في العلاقات الشاذة بين الرجل والمرأة وترجمة أشعار بودلير وغيره من شعراء الأدب المكشوف.
###16### 3- الإذاعة بمذهب حرية الأدب والدعوة إليه والدفاع عنه وفق منهج له طابع علمي زائف بدعوى أنه منطلق إنساني أصيل.(49/9)
وقد استهدفت هذه الدعوة التي اتسع نطاقها، وقامت من أجلها المناظرات والمحاضرات، فضلا عن ذلك الفيض الضخم من القصص الفرنسية المكشوفة التي جرت ترجمتها وتقديمها بأسعار زهيدة وإلقاؤها بين أيدي الشباب والفتيات، والغمز لكل ما يتصل بالعقائد الدينية، والسخرية بالفضائل والبطولات والدعوة إلى الانطلاق بدون حرج، والجرأة على المقدسات، بل إن ذلك قد جرى تطبيقه في بيئات مختلفة، منها بيئة العلم الأساسية، ولقد لقيت نظرية حرية الأدب ومعارضة الأخلاق نقدًا واعتراضًا، مصدره تعارضها مع طابع الأدب العربي أصلا، وكشف الباحثون المنصفون عن أن حرية أبي نواس وبشار لم يكن مصدرها الأدب العربي أو مفاهيم الإسلام الاجتماعية، وإنما مصدرها تطلعاتهم الحسية وأهدافهم الشعوبية التي أرادوا إذاعتها والجهر بها لهدم مقومات الأدب العربي الأصيلة، وإعلاء مفاهيم المجوسية والإباحية التي تحرر منها الأدب ###17### العربي بعد الإسلام، ذلك أنه ليس في مفهوم الأدب العربي أصلا ما قاله طه حسين حين قال: "خسرت الأخلاق وربح الأدب" وقد واجه الدكتور حلمي رزق هذه النظرية حين قال: إن حرية الأدب لا جدال في إطلاقها، ولكن الخطأ في قصرها على عاطفة دون عاطفة، أو وجدان دون وجدان فضلا عن عاطفة الهوى ووجدان الشك والمجون، وأخطأ الخطأ أن يوحي إلينا طه حسين أن الأخلاق في مواضعات الحياة الجامدة كأنها وليدة الإرادة العمياء التي نادى بها شوبنهور فهي فرص مكررة أو إلزام أعمى تقتضي الحرب والإنكار؛ والقاعدة الأخلاقية ليست من قبيل المواضعات العمياء، ولا الضوابط الجامدة، وإنما شأوها شأو الفن، وليدة التجربة العميقة التي يقع بها صاحبها على الصلات الحقيقية بين الأشياء.(49/10)
وشواهد الصلة بين الفن والأخلاق شائعة معلومة في تواريخ الأدب والفنون، ونراها ماثلة فيما يجري بيننا من شعر المتنبي وأمثال شكسبير على أن طه حسين حينما يصرف الأدباء عن الأخلاق إنما يقع في العيب الذي يأخذهم به، فهو يشتط في نفي الحجر على الشاعر، ويقع هو فيه وأي حجر أشد من الوقوف بالأخلاق والفضائل موقفًا بعيدًا عن الفن، فلا ###18### ينبغي للأديب أن يقربها، وإلا كان أدبه "قديمًا من قوارير" تصطلح عليه علل الكذب وإدواء الصنع، وتنتفي عنه سمات العصرية أو الأدب الحديث، أو الوجدان الديني، يعد شأنه في الأدب شأن غيره من الأحاسيس ومشاعر النفس، لا ينبذه ناقد ولا يكون له في قضية الحب نصيب على أنه سيظل ماثلا في الأذهان أن الحرية قد تقضي لا محالة إلى ما دعا إليه طه حسين من الخروج عن الأعراف والمواصفات، وتنتهي إلى التعبير الحر عن الأهواء والنزوات، وخلاصة القول: إن دعوى الاختلاف بين الفن والدين والأخلاق، نشأت من اتباع نظرية الفن للفن، ومرد الاختلاف إلى اعتبار الفن نوعًا من التعبير لا أزيد ولا أقل، فلا عبرة بالموضوع في ذاته، وإنما العبرة بمقتضيات التعبير، فالفنان لا حجر عليه في تصوير ما يشاء من المشاعر والأحاسيس، اتفقت ومواضعات الجماعة وأعراف الناس أم خرجت عليها، فالفن لا يخضع لغير قانون التعبير.(49/11)
ومن هنا أيضًا نشأ التضارب، وسار عليه طه حسين فيما أسلفنا من القول: "خسرت الأخلاق وربح الأدب" وهو موقف يوحي به ظاهر المذهب، وعنه شاع هذا الخطأ حتى أصبح تبريرًا لكل تبذل مقصود، وحجة يسوقها أنصاف ###19### الفنانين بين أيدي الانحلال، يريدون أن يضفوا عليها ثوبًا من المشروعية الزائفة، ينفقونه في سوق الغباء الغني، فغاية المذهب الحقة تخليص الأدب من القيم الدخيلة عليه، ولم يكن قصاراه أن يقف من الأخلاق والدين موقف التناقض والحق أن نسبة مثل هذه النظرية إلى المفاهيم العلمية، إنما هو من قبيل تحصيل الحاصل، ذلك لأن الدعاة إلى هذه النظرية، وهم قد طبقوها فعلا في كتاباتهم، إنما كانوا يستهدفون غايات بعيدة أعمق أثرًا، ولذلك لم يكن انتسابهم إلى قواعد العلم والفن إلا محاولة لتبرير جوهم الاجتماعي الخاص الذي كانوا يعيشونه فعلا متحررين من قيود الخلق والدين، ذاهبين إلى أبعد حدود الانطلاق، ولم يكن من المعقول أن يمارسوا هذه الحرية، ثم يقفوا من الأدب موقفًا يخالف ما يعتقدون ويمارسون، ذلك أنهم كانوا قد قرؤوا عن بلزاك وجان جاك روسو وإسكندر ديماس، وما كانت تحويه حياتهم الخاصة من فساد ونزق، وكانوا يتطلعون إلى أن يكونوا كذلك هم، وشاعت بين الأدباء في هذه الفترة دعوة تقول ببوهيمية الأدباء، وأن من حق الأدباء مقارفة كل فنون الحياة ليتمكنوا بالتجربة من الحكم على ما يجدونه في الكتب ###20### والقصص، ومن هنا كانت تلك الدعوة إلى "لا أخلاقية الأدب" مظهرًا حقيقيًا وواضحًا وصريحًا في أدب الأدباء وحياتهم في هذه الفترة.(49/12)
والعلاقة بين الفن والدين علاقة واضحة، وفي الإسلام أوضح، فالفطرة كلها منشئها واحد هو الله سبحانه وتعالى، والعلم والدين كلاهما قد أجمعا على استحالة التناقض في الفطرة، فإذا كانت هذه الفنون من روح الفطرة، ووجب ألا تخالف أو تناقض دين الفطرة "دين الإسلام" في شيء، فإذا خالفت الفنون الدين في أصوله، ودعت صراحة، أو ضمنًا إلى رذيلة من أمهات الرذائل التي جاء الدين لدفعها عن الإنسان حتى يبلغ ما قدر له من الرقي في النفس والروح، إذا خالفت الفنون الدين في شيء من هذا أو في شيء غير هذا، فهي بالصورة التي تخالف بها الدين فنون باطلة، فنون جانبت الحق ودابرت الخير، وأخطأت الفطرة التي فطر الله الناس عليها، فإذا كان من شأن بعض من يعمل أو يكتب باسم الفن أو الأدب أن يتجاوز في تأثيره ما سبق، فيحول بين الإنسان وبين ربه، ويدخل عليه الشك في دينه بأي صورة من الصور، ولأي حد من الحدود، كان ذلك البعض المعمول أو المكتوب باسم الفن أو ###21### باسم الأدب يعد زورًا أو إفكًا في الأدب والفن والدين على السواء، ولذلك كما يقول الدكتور محمد أحمد الغمراوي: يجب أن ينزل الأدب والفن على حكم الدين وروحه، وعليهما يجري التطابق العام معه، وبذلك يتحقق لهما الاتحاد مع الفطرة في الصميم، والأدب المكشوف يصدم أول ما يصدم مقر الفضيلة في النفس، ويؤذي أول ما يؤذي حاسة الجمال النفسي في الإنسان، وهو في صميمه أدب غير جميل.(49/13)
7- كذلك كان من أخطر ما قدمته مناهج النقد الأدبي الوافدة "أسلوب الشك" وهو أسلوب ماكر من أساليب الغزو الثقافي أريد به إدارة الأبحاث الأدبية والعلمية والتاريخية كلها في دائرة اللاأدرية والتشكيك والتهكم والسخرية بحيث يرى القارئ أنه إزاء جو مغرق من الاستهانة والاحتقار لكل ما يتناوله؛ ويقول الدكتور طه في بحث له العبارة الآتية: "أخضعت للشك – دون أن أمس الدين – بعض المعتقدات التي ورد ذكرها في القرآن وأحاديث الرسول" أي أسلوب من المكر والتضليل أبعد من هذا في حين يعترف بأنه أخضع بعض المعتقدات التي ورد ذكرها في القرآن للشك، وكيف أنه حين فعل ذلك لم يمس الدين الذي هو مصدر الاعتقاد، والذي هو منطلق كل ما ورد في القرآن، وقد سجل الكثير من الباحثين ###22### هذه الخاصية التي عمد إلى إذاعتها طه حسين في الأدب العربي كله حيث يقول عمر فروخ: إن أبرز معالم أدبه تردده بين المفهوم وغير المفهوم والمنحول والثابت، والممكن وغير الممكن، ولم تره في كتاب إلا داعية للشك، بل كان ينفي ما يثبت نفسه بنفسه، وهو يكتب: "لعل، ربما" ويقول رأيه على التأويل والدوران والتغير، فهو لا يقطع في شيء أبدًا، ولا يصف شيئًا بأنه أبيض أو أسود، ولقد خلط طه حسين بين الشك وبين المخرج من الشك، فجعل الشك القاعدة الأساسية.(49/14)
وكان من أخطر ما قدمه المنهج الوافد، هو فصل الأدب عن دائرة الأمة، وفصله عن دائرة الفكر، ذلك أن من أخطر النظريات التي حاولت حركة التغريب فرضها على الأدب العربي للقضاء على جوهره الأصيل وعزله عن طبيعته ومقوماته، هي نظرية استقلالية الأدب وانفصاله عن العناصر الأخرى المرتبطة به من أخلاق ومجتمع وتربية وسياسة وفق مفهوم الفكر الإسلامي الأساسي القائم على أن الفكر مركب، وكل من هذه عناصر، والأدب عنصر منها، وإذا كان الأدب الغربي قد انفصل، فإن الفكر الغربي يقوم على ###23### قاعدة الفصل بين العناصر، وإعطاء كل منها حق الحرية بينما لا يقر الفكر الإسلامي ذلك، ويرى فيه خطرًا على مجموعة القيم، وعلى الأمة، وعلى الأخلاق ومن نتاج هذا الفصل قيام النزعة الانشطارية في الفكر الغربي، واضطراب المجتمع حيث يعطي للأدب من الحرية ما يسمح له بأن يتجاوز ضوابط المجتمع أو حدود الأخلاق، لذلك قامت هذه الدعوة للفصل بين الأدب العربي ومقومات الفكر الإسلامي على أساس الادعاء بأن الإسلام ليس إلا دينًا روحيًا، وليس نظامًا اجتماعيًا كما في الواقع. وهو بهذا المعنى يتسم بالشمول والتكامل والترابط بين القيم المختلفة، ومن شأن هذا استحالة الفصل بين الأدب والدين، وبين الأخلاق والدين أو بين الأدب والتربية، ولا شك أن هذه الدعوة إنما كانت قد صيغت على نحو ماكر وخطير وبعيد المدى يهدف إلى إخراج الأدب العربي على ذاتيته ومقوماته وطبيعته وإغراقه في مفهوم غريب عنه يتيح لهؤلاء الدعاة حرية النقد، وإثارة الشبهات حول القرآن الكريم باعتباره نصًا أدبيًا، أو نصًا بيانيًا، وكذلك إطلاق حرية الأدب المكشوف وفنون الإباحة والإلحاد انطلاقها من الدعوة الباطلة التي تقول بأن الأدب ليس له أي ارتباط بالدين أو الأخلاق أو الأمة ولا شك أن كتاب "في ###24### الشعر الجاهلي" قد رسم أصول هذا المنهج الخطير المسموم، وما زال مفهوم هذا المنهج هو الأساس الذي يقوم عليه(49/15)
نقد الأدب العربي المعاصر والحديث، وإن أغلب الأدباء والكتَّاب قد اعتمدوا هذا المذهب في كتابة دراساتهم، فأطلقوا لأنفسهم حرية الكشف عن جوانب من التصوير للعاطفة الجنسية، وللنظريات الحرة دون تقيد بأي مقوم من مقومات الأدب العربي الأصيل المستمدة من القرآن التي تتحرك داخل إطار التوحيد، ومع ضوابط الأخلاق والمسؤولية الاجتماعية، وحماية المجتمعات من أخطار الإلحاد والإباحة. كذلك كان من أخطر ما دعا إليه المنهج الوافد نتيجة لدعوى فصل الأدب عن الفكر، إعطاء الأدب حرية الحكم على أشياء كثيرة خارج نطاقه، فقد أخذ الأدباء في إصدار آراء حرة وجزئية مستمدة من نظريتهم الأدبية الواحدة في الحكم على التاريخ والعقائد، أو الأخلاق والدين، وقد تناولوها بدون قيد عليهم على أنها أدب، وحاكموها بمنهج الماديين، وأثاروا حولها شكوكًا خطيرة، وكان هذا تجاوزًا لوظيفة الأدب وخروجًا عن دائرة اختصاصه.(49/16)
9- كذلك كان من أخطر ما أساء لمنهج النقد الأدبي الاعتماد على المصادر الزائفة، وأهمها كتب المحاضرات ###25### وروايات القصاص وكتابا: ألف ليلة وليلة، والأغاني، فقد اتخذت هذه الكتب التي كتبت أساسًا للتسلية وتزجية الفراغ، اتخذت مراجع يعتمد عليها خصوم المسلمين والعرب من أجل ترويج آراء كاذبة مضللة، ذلك لأن هذه المؤلفات لم يكتبها علماء موثوق بهم، ولم تكتب وفق أصول العلم والبحث، وإنما كتب للتسلية والترويح؛ وقصد بها جمع الفكاهات، والنكات، والأحاجي لإغراق المجتمعات بالأوهام والأباطيل، وقد ارتفع صوت العلماء المحققين في هذا العصر بالتحذير من هذه المصادر الزائفة التي تجمع أخبار الندماء والجلساء والمغنين والمضحكين؛ وقد ظلت هذه المؤلفات مجهولة ضائعة حتى جاء المستشرقون والمبشرون في العصور الأخيرة، فأعادوا طبعها، وأذاعوها في العالم، وأخرجوا أغلبها في طبعات فاخرة، وأوعزوا إلى تابعيهم من دعاة التغريب الإشارة إليها والإشادة بها، والنقل عنها واعتمادها مصدرًا من مصادر التأليف.
كذلك كان من أخطر ما أذيع في هذا الصدد ما أطلق عليه "رباعيات الخيام" وهي مجموعة من الشعر الفارسي المجهول النسب الإباحي الطابع الذي نسب كذبًا إلى الخيام ###26### لإثارة روح الإباحية والاستهتار بالحياة واحتقار القيم في المجتمع الإسلامي.(49/17)
10- حاول دعاة التغريب الترويج لأدب الجنس والتحلل، وذلك بالدعوة إلى أدب لورنس وأوسكار وايلد، وترجمة مجموعة من الأدب الغربي المكشوف، وذلك في محاولة إطلاق الغرائز من عقالها والكشف عن الحيرة والضياع، وكذلك في إحياء بشار وأبي نواس، مما عرف في عهود استعلاء الشعوبية والدعوات الباطنية الهدامة، وقد كان ذلك كله مخالفًا لروح المجتمع الإسلامي وطابعه الذي يقوم على العفاف والخلق، والقول الكريم دون الهجر وعلى الإشارة العابرة إلى الأمور المبتذلة دون الكشف والإفاضة في ضوء المحرمات الجنسية والميول المنحرفة، ولا شك أن الاتجاه إلى الكشف في الأدب هو طابع غربي له جذور إغريقية قديمة، وله طوابع متصلة كل الاتصال بالوثنية وعبادة الأجساد، وهو مما يرفضه الأدب العربي ويعارضه تمامًا.(49/18)
11- كان من أخطر الدعوات التي طرحها المذهب الغربي في الأدب، فصل العصر الحديث عن تاريخ العرب والإسلام تحت اسم الأدب المصري أو السوري أو المغربي في محاولة مضللة، فإن الأدب هو أدب اللغة العربية أساسًا، ###27### وهو في عمومه امتداد للأدب العربي الذي صنعه الإسلام بنزول القرآن. وترمي هذه المحاولة أساسًا إلى عزل الأدب العربي عن فصاحة القرآن مما يترتب عليه العزوف عن الأنماط الأولى، والتماس الأساليب الغربية الحديثة، وهي أساليب وثنية وغربية ومتصلة بالتوراة في الأغلب، من شأنها أن تحجب الأساليب العربية الأصيلة، وتحول دون تذوق بلاغة القرآن المعجزة وفهمها، ولقد جرى الكثيرون على نقل استعارات اللغات الغربية، ولقد حاول رجال مدرسة المهجر إدخال أسلوب التوراة والعهد القديم إلى الأدب العربي كما فعل جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وأمين الريحاني، ولقد سجل الدكتور محمد أحمد الغمراوي هذه الظاهرة حين أشار إلى أن صاحب كتاب "الشعر الجاهلي" – يقصد طه حسين – ومن لف لفه يسوقون الأدب العربي في غير طريقه، ويلبسونه ثوبًا من غير نسجه، وينسجون عليه نسجًا فرنسيًا، ويسوقونه في نفس الطريق التي ضل فيها الأدب الألماني قرنًا وبعض قرن، فضل عن نفسه، ولم يهتد حتى رده عن تلك الطريق أمثال هللر وهاجيدن وليسنج، فما هي تلك الطريق التي يسوقون فيها الأدب العربي إلا طريق الافتتان بالأدب الفرنسي خاصة والغرب عامة.(49/19)
###28### 12- كذلك حاول المنهج الغربي الوافد أن يخضع الأدب العربي لأسلوب فصل العصور السياسية، وهو أسلوب عرفته الآداب الأوروبية، وربما كان يتفق مع طبيعتها وظروفها؛ ولكنه حين يطبق على الأدب العربي تأتي بنتائج غاية في الاضطراب والفساد، فالوحدات الأوروبية المتعددة المنفصلة كل منها عن الأخرى انفصالا سياسيًا وتاريخيًا ولغويًا من حيث استغلال كل منها بلغته الخاصة، قد اقتضى هذا المنهج خاصة بالنسبة للحدود الضيقة، ولأول عصر الانفصال عن اللغة اللاتينية، وهو لا يتجاوز ثلاثة قرون أو أربعة.
أما الأدب العربي المتصل في هذه البقعة على امتدادها، المترابط بين أجزائها إلى أكثر من أربعة عشر قرنًا، فإنه لا يتفق له مثل هذا المنهج؛ ومن شأن تطبيقه أن يعجز عن تحقيق أي نتائج علمية، ذلك أن الأدب العربي تميز بخاصتين عظيمتين باين فيهما آداب هذه الوحدات الأوروبية وغيرهما، فامتنع بتلك المباينة إمكان إخضاعه لما خضعت له من قانون، أما أحدها فما انبسط له من أوطان ترامت ما بين بلاد الغال في الغرب إلى تخوم الصين في الشرق، وأما الأخرى فطبيعته الخاصة ومناشئه وينابيعه الدافقة بما يمنحه من استقلال الشخصية وحماية وجودها بالصمود أمام الأعاصير، والقدرة ###29### على التأثير في مجاري أحداث الحياة؛ ولما كانت الأحداث تمضي متلاحقة ومتلازمة بالضرورة تلازم أجزاء الزمن الذي تحدث فيه، نشأ كل حدث، وهو منفعل بأسباب وعلل متقدمة، فما يكون في يومنا من حادث فلأحداث الأمس الدابر أثر في حدوثه، ومن شأن تقسيم الأدب إلى عصور أن يضيف إلى عهد لاحق نتاج عصر سابق، حمل في أعماقه كل عوامله ومؤثراته وخصائصه.(49/20)
13- كذلك من أخطر ما واجه الأدب العربي محاولة التركيز على الأدب الحديث وتجاهل الأدب العربي منذ عصر الإسلام، بينما يتخذ الغربيون لآدابهم تراثًا ممتد الجذور بالأدب اليوناني، ويرون أنه لا سبيل لفهم الأدب الغربي الحديث إلا بدراسة الآداب اللاتينية واليونانية، بل واللغتين القديمتين المندثرتين، ولا ريب أن دعوى الفصل بين أدبنا الحديث وبين الأدب العربي الإسلامي الممتد منذ الإسلام هي من أخطر المحاولات التي تفرق الجماعة، وتشتت الشمل، فالأصل أن تكون حياتنا الراهنة والمستقبلة امتدادًا لحياتنا الإسلامية العربية، وأن تكون أخلاقنا وأذواقنا ولغتنا وأساليبنا امتدادًا قابلا للتغير المتصل بالعصور والبيئات الحفيظ على الأصول العامة والقيم الأساسية.
###30### ومن وراء ذلك هدف واضح، هو أن يصبح المسلمون اليوم مقطوعي الصلة بماضيهم في اللغة والدين والعادات والذوق الفني والمزاج وفي التقنين الخلقي.
14- كذلك كانت نظرية إقليمية الأدب من أخطر ما تناولته دراسات الأدب الحديث، ودعت إليه المذاهب الوافدة، وعلينا أن نفرق بين تقرير تأثير البيئة في الأدب، وهذا لا اعتراض عليه، وبين القول بإقليمية الأدب، وهذا شيء آخر، إن واقع الأدب في الماضي القريب والبعيد، يثبت أن هذه الآثار لا ترجع إلى قطر من الأقطار أو إقليم من الأقاليم، فالمتنبي مثلا ولد في الكوفة، وعاش في بغداد وحلب ودمشق، وأثره لم يقتصر على إقليم ما، بل شمل جميع الأقطار وغيره كثيرون على هذا النحو، ولقد حافظ الأدب العربي على طبيعته الموحدة والمولدة حتى في أسوأ عصور تفكك الدول؛ وتفتت شعوبها، والحقيقة الواضحة أنه لا يوجد أدب مصري، وأدب عراقي، وأدب مغربي، وإنما يوجد أدباء مصريون وعراقيون ومغاربة.
... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(49/21)
نظرية السامية مؤامرة على الحنفية الإبراهيمية
الأستاذ أنور الجندي
في النصف الثاني من القرن الثامن عشر ابتكر "شلوسر" مصطلح "السامية" واعتمد في هذه التسمية على نص من التوراة، وكانت الصهيونية من وراء هذه الفكرة، ومن ثم فقد اتسع نطاق هذه المقولة الزائفة، وأقام عليها الكتاب الموالون للصهيونية والاستعمار ما أطلق عليه اسم: "عام الأجناس".
ولغياب الفكر الإسلامي في هذه المرحلة فقد اتسع نطاق الفكرة الإسرائيلية، وسيطرت على مناهج الجامعات ودراسات الثقافة جميعاً، وفي كليات الآداب بالبلاد العبربية تقررت دراسات اللغات السامية وقام على هذه الدراسات مستشرقون يهود، في مقدمتهم يوسف شاختـ وإسرائيل ولفنسون، اللذان أخذا يخدعان الشباب المسلمين والعرب بقولهم: "إن العربية ليست سوى عبرية مقلوبة، وإن العرب إنما اتخذوا اسمهم من (عربة) للصلة بين العرب واليهود من ناحية، وبإعطاء اليهود مكاناً زائفاً في مجال الآداب والعلوم.
البداية:
ومنطلق البحث: أنه قبل بروز فكرة الصهيونية في العصر الحديث "كمخطط متجدد، ومبتعث من (التوراة) التي كتبها حكماء اليهود إبان السبي البابلي، و (التلمود) الذي جاء بعد تدمير الرومان للقدس".
هذا المخطط هو (بروتوكولات صهيون) التي عرفت لأول مرة عام 1897 م، وفي خلال إعداد هذا المخطط كانت هناك محاولات جبارة تعمل على وضع مفهوم الصهيونية التلمودية في داخل كتب التاريخ والموسوعات العالمية. وإدخالها في مناهج المدارس والجامعات الغربية. وبثها عن طريق معاهد المفكرين الذين احتوتهم الصهيونية، شلوسر وبروكلمان ورينان ودور كايم ودوزي. وذلك بالإضافة إلى الاستشراق اليهودي الصهيوني: مارجليوث، جولد تسيهر، برنارد لويس.
السامية إحدى دعاوي الاستشراق اليهودي:
امتصاص الفضل:
وقد حاولت هذه الخطة تحقيق عدة أهداف:(50/1)
أولاً: نشر فكر السامية التي نسبت إليها كل أمجاد التاتريخ العربي القديم، وسلبه من أصحابه الحقيقيين وخاصة إسماعيل بن إبراهيم وأبنائه وأحفاده، وأضافت هذا كله إلى مصدر غامض ليس له سند علمي، ويستمد مصدره الأساسي من "التوراة" التي كتبها اليهود بأيديهم، وليست التوراة الحقيقية المنزلة على موسى عليه السلام، وذلك بهدف إشراك اليهود مع العرب في هذه الأمجاد، بينما لا يوجد لليهود أي اتصال ببدء هذه الحضارة، ويستتبع هذا الخطر: إيجاد صلة ما بين العربية والعبرية على النحو الذي حاوله الكتاب الذين ما أسموه "تاريخ اللغات السامية" وقاموا بتدريسه في الجامعات وهم: إسرائيل ولفنسون وشاخت ثم الدكتور مراد كامل.
التشكيك في الحق:
ثانياً: محاولة التشكيك في رحلة إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى الحجاز وإقامة ابنه إسماعيل وزوجته هاجر في مكة، وهذا يبدو واضحاً من تجاهل التوراة "الزائفة" لهذه الواقعة التاريخية ومحاولة إثارة الشبهات حولها. وقد ردد الدكتور طه حسين هذا القول في كتابه "في الشعر الجاهلي".
ثالثاً: محاولة اعتبار التوراة "الزائفة" مرجعاً للبحث العلمي، مع أن شهادات كل علماء الغرب تؤكد أن التوراة الموجودة الآن كتبها علماء اليهود، منها ما كتب أيام المملكة الإسرائيلية، ومنها ما كتب قبل الميلاد بنحو ثلاثة قرون.
ظهور الهدف:
رابعاً: محاولة خلق تصور زائف اليهود في الجزيرة العربية وفي الأدب العربي.
خامساً: محاولة إيجاد ترابط بين العرب واليهود، والقول بأنهما أبناء عمومة، وذلك كله يستهدف التمهيد للدعوة إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.(50/2)
سادساً: إعلاء شأن "إسحاق" على "إسماعيل" وهما ابنا إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، وأكبرهما إسماعيل الذي هاجر به وأمه إلى مكة، والذي أقام معه القواعد من البيت الحرام، والذي امتحن بذبحه وجاءه بالفداء من السماء، والهدف هو إخراج أبناء إسماعيل من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم عليه السلام من ربه، وقصر الوعد على أبناء إسحق تحت اسم أسطورة "شعب الله المختار".
التزييف القديم:
هذه هي أهم أطراف المؤامرة الخطيرة لتزييف تاريخ الإسلام والعرب قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم لحساب الصهيونية التلمودية، وقد جرى تطعيم دوائر المعارف وكتب التاريخ ومناهج المدارس والجامعات بهذه المفاهيم، واستكتاب عشرات الكتاب البحوث المتعددة التي تدور حول هذه الشبهات، لخلق أدلة مضللة لتثبيتها في الأذهان.
وتكاد تكون فكرة "السامية" أخطر هذه الشبهات، وهي مصطلح لم يرد مطلقاً في كتابات العرب والمسلمين على مدى التاريخ، وقد استمد أساساً من نص من نصوص التوراة المكتوبة بأيدي الأحبار، في ظل تقسيم واه للأجناس البشرية مستمد من أسماء أبناء نوح حفيد آدم أبي البشر سام وحام ويأفث.
التزييف الحديث:
وقد برز هذا المعنى في ظل تقسيم مستحدث، ظهر في أوربا إبان استعلاء نزعة العنصرية الأوروبية التي قسمت العالم إلى ساميين وآريين لتضع العرب والمسلمين في قائمة موازية للجنس الآري، صانع الحضارة الذي وصف بكل أوصاف العبقرية والعظمة والاستعلاء على البشر وخضوع الأجناس الأخرى له.
وكان هذا التنظير الذي ألبس ثوب العلم، إنما يستهدف إعطاء الاستعمار "مبرراً" علمياً لسيطرته على الأمم غير الآرية أوروبية.
غير أن المحاولة التي حاولت أن تضع عبارة "السامي" والسامية بديلاً للإبراهيمية والحنيفية وللعرب وللعربية، كانت محاولة ماكرة خطيرة استهدفت أمجاد التاريخ القديم عن العرب، ونسبتها إلى اسم قديم لا يعرف التاريخ الصحيح له مصدراً واضحاً.(50/3)
والغربيون يعرفون أن التوراة التي بين أيدي الناس اليوم، هي توراة مكتوبة بأيدي الأحبار، وأن صلتها بالتوراة الصحيحة مشكوك فيها، ولذلك فإن الاعتماد عليها في إقامة نظرية تعطي كل هذا القدر من التوسع والنمو والسيطرة في دوائر الثقافة والعلم والجامعات، هو أمر لا أساس له من منهج العلم الصحيح، ولقد كانت اليهودية الصهيونية من وراء هذه النظرية، في سبيل طمس التاريخ العربي السابق للإسلام، وإحياء اللغة العربية وإعطائها رصيداً زائفاً من الصلة باللغة العبرية هو أكبر بكثير من حجمها الطبيعي.
معنى السامية والأكاذيب:
وفكرة السامية تدور حول القول بأن هناك أصلاً واحداً مشتركاً للعرب واليهود، ومحاولة إعطاء العربية أثراً ومكانة غير صحيحة في حضارات الشرق القديم.
وقد كانت الصهيونية وراء هذه الفكرة في محاولة لإعطاء اليهود فضلاً زائفاً في مجالات كثيرة، ومن ذلك القول بأن اليهود هم الذين وضعوا شريعة حمورابي، إبان نفيهم في بابل. بينما وثائق التاريخ تكذب ذلك، وتثبت أن اليهود إبان النفي كانوا يبحثون في حضارات الأمم، عن خيوط يضمونها إلى نسيجهم المهلهل، ليتمكنوا من القول بأن لهم فلسفة معينة، وقد كانت فلسفتهم ومنهجهم الفكري فيما بعد جماع الفلسفة البابلية القديمة والهلينية ومدرسة الأفلاطونية المحدثة وبقايا المجوسية والغنوصية والشرقية، وذلك بعد أن فقدوا أصلهم الأصيل وهو: "توراة موسى" علية الصلاة والسلام كذلك فقد كان هدف هذه المحاولات القول بأن اليهود والعرب أبناء عمومة تربطهم أواصر الرحم والقربى، وتاريخ اليهود بعد الإسلام في المدينة يكشف عن طبيعة هذه الرحم والقربى في مؤامراتهم وغدرهم الذي امتد طوال تاريخهم.
ولقد حاول دوزي ومرجليوت إدعاء هذه الصلات واختلاق تشابه بين قبائل قريش وأسباط اليهود والقول بأن موطن اليهود هو بلاد اليمن، اعتماداً على ألفاظ ملتقطة من لغة سبأ البائدة، تشبه ألفاظاً عبرية.(50/4)
ولقد استع نطاق هذه الكتابات في الفكر الغربي في هذه الفترة المبكرة، تمهيداً للفكرة الصهيونية، حتى أن بعض العلماء الغربيين لم تخدعهم هذه التلفيقات فكشفوا زيفها، أمثال جوستاف لوبون الذي قال: "لا جرم أن الشبه قليل بين العربي أيام حضارته، واليهودي الذي عرف منذ قرون بالنفاق والبخل والجبن، وأن من الإهانة للعربي أن يقاس باليهودي، ولا ننسى أن طرق الحياة الخاصة التي خضع اليهود لحكمها منذ قرون كثيرة، أمة تكون عرضة لمثل ما أصاب اليهود، ولا عمل لها غير التجارة والربا، وتحتقر كل مكان تنتقل إليه، تلك الغرائز المنحطة بالوراثة المتتابعة مدة عشرين قرناً، وأكثر، فتتأصل فيها وتصير إلى ما صار إليه اليهود لا محالة" أ. هـ.
الشبهات حول العربية:
ولقد كانت مؤامرة "السامية" هذه موضع نظر الباحثين العرب والمسلمين منذ وقت طويل، فلم نقتهم تلك الخطة الماكرة التي استهدفت اعتبارها منهجاً من مناهج الدراسة الجامعية، وإعطاء شبهاتها صيغة المسلمات.
وقد استخدم الدكتور طه حسين في هذا الأمر استخداماً خطيراً، فقد استغل دراسته في تجديد الأدب العربي ودراسة الشعر الجاهلي، لإقرار عدة مفاهيم تخدم وجهة النظر الصهيونية، ومنها القول بأن اللغة العربية لم تكن لغة واحدة في الجزيرة العربية، وأنه قد كانت لغة في الجنوب ولغة في الشمال., وهي محاولة مضللة استهدفت التشكيك في وحدة اللغة العربية قبل الإسلام وإثارة الشبهات حول نموها واتجاهها إلى اتخاذ مكانها الذي أهلها لتكون لغة القرآن ولسان الإسلام.(50/5)
كذلك فإن الدكتور طه قد هيأ لشاب يهودي استقدمه من فرنسا لإعداد دراستين: إحداهما عن اليهود في جزيرة العرب والأخرى عن تاريخ اللغات السامية، ليحشد فيها كل تلك المخططات التي أعدتها الصهيونية لتزييف التاريخ الإسلامي، وقد قدمت إحدى هذه الدراسات على أنها أطروحة دكتوراه قدمها "إسرائيل ولفنسون" وكان ذلك مقدمة لتصبح هذه السموم "مسلمات" تدرس في الجامعات ولا تزال.
من هذا الباب دخلت الفكرة:
وبذلك استطاعت الصهيونية العالمية أن تدخل نظريتها المسمومة إلى قلب الفكر الإسلامي والأدب العربي، لتضرب به ذلك المفهوم الأصيل الذي عرفه المسلمون واستوعبته آثارهم وتراثهم.
كذلك فقد عاش الدكتور طه حسين حياته كلها يحاول إقناع المسلمين والعرب، بأن لليهود فضلاً على أدبهم وتاريخهم، فهو يعرض لليهود واليهودية كلما عرض للغة العربية وآدابها، ولقد عمل باكراً لتحقيق هذا الهدف حين أعلن بأن وجود إبراهيم وإسماعيل لا تثبته المصادر العلمية والتاريخية وأنكر أن ورود اسمهما وخبرهما في القرآن يعد سنداً صحيحاً.
ومن العجب أن تجد نظرية السامية مثل هذا الاتساع والشهرة وهي تعتمد على نص من التوراة التي كتبها أحبار اليهود، ويقرها طه حسين على ذلك، ولكنه لا يقر القرآن المنزل على وجود إبراهيم وإسماعيل، والقرآن هو النص الموثق الذي نزل من السماء والذي لم يصبه أي تحريف.
كذلك فقد تحدث الدكتور طه عما أسماه أثر اليهود في الحياة العربية والأدب العربي، ومحاضراته متعددة في هذا الصدد وأهمها محاضرته التي سجلتها له مجلة الجامعة المصرية في عددها الأول من سنتها الثالثة عام 1952 م عن أثر اليهود:
أولاً: أن اليهود أثروا في الأدب العربي أثراً كبيراً جنى على ظهوره ما كان بين العرب واليهود.
ثانياً: إن اليهود قالوا كثيراً من الشعر في الدين وهجاء العرب وقد أضاعه مؤلفو العرب.(50/6)
ثالثاً: إن اليهود انتحلوا شعراً لإثبات سابقتهم في الجاهلية على لسان شعرائهم وشعراء العرب.
كشف الغطاء:
وفي مقدمة كتاب إسرائيل ولفنسون (الذي أصبح الآن يشرف على البعوث الإسرائيلية في أفريقيا) يقول الدكتور طه حسين:
"ليس من شك أن المستعمرات اليهودية قد أثرت تأثيراً قوياً على الحياة العقلية والأدبية للجاهليين من أهل الحجاز، وليس من شك في أن الخصومة كانت عنيفة أشد العنف بين الإسلام ويهودية هؤلاء اليهود وفي أنهار قد استحالت من المحاجة والمجادلة إلأى حرب بالسيف انتهت بإجلاء اليهود عن البلاد العربية.
ويعلن الدكتور طه حسين اغتباطه إلى أن إسرائيل ولفنسون (قد وفق إلى تحقيق أشياء كثيرة لم تكن قد حققت من قبل).
ولكن هذه هي الحقيقة؟؟ أن (الدكتور فؤاد حسنين علي) أكبر المتخصصين في مصر في اللغة العربية وتاريخ اليهود يقول: إن هذا البحث حلقة من حلقات كتب الدعاية الصهيونية التي كانت الشعبة الثقافية للمؤتمر الصهيوني بإشراف (مارتن برير) تدعو إلى نشرها، وما نقله إسرائيل ولفنسون في سرالته من آراء، كان القصد منه إطلاع اليهود الشرقيين وقراء العربية على ما جاء في المصادر الأجنبية، وأن هذه الرسالة التي ما زالت في أيدي المثقفين والباحثين مشحونة بالأخطاء، وهي بعيدة عن المراجع العبرية، وقد أخذ بالنتائج التي وصل إليها الباحث دون التحقق منها بعض الذين يجيدون هذا النوع من الدراسات، والأمانة العلمية كانت تقتضي غير هذا، ذلك أن البحث العلمي يجب ألا يصبغ بصبغة القومية المتعصبة، كما لا يتخذ وسيلة من وسائل الدعاية السياسية أو الكسب المادي الرخيص".
ولاريب أن هذا مقتل من مقاتل طه حسين الكثيرة التي غابت عن كثير من الباحثين.
ما هي قيمة تراثهم:(50/7)
وإلى قيمة تراث اليهود وصلته بالتراث الإسلامي، يقول الدكتور فؤاد حسنين: "في مصر بزغ فجر الضمير، ومنها أخذ اليهود ما أخذوا، وفي بابل وآشور كانت شريعة حمورابي وفيها الشيء الكثير من هذا التراث الذي نقلوا معهم عن سصفر التثنية، ولما عاد اليهود من المنفى نقلوا معهم عن العرب البابليين الشيء الكثير مما نجده في كتابهم المقدس وكان عند المعينيين والسبنيين العمارة وهندسة الري والتجارة، وقصة ملكة سبأ والدور الذي تلعبه في تاريخ الإسرائيليين، وحياتهم الاقتصادية لا تخفى على أحد، ويشير الدكتور فؤاد حسنين إلى آثار اليهودية والمسيحية والإسلام: وما استتبعه ذلك من تفتق العقل البشري فأنتج أدباً وشعراً ونثراً وقصصاً وفسلفة وحكماً وأمثالاً.
وكان من نتائج هذه الثورات العربية والروحية أن رمت العروبة ببعض أبنائها شعوب العالم القديم من شرقيين وغربيين فحطموا مخلفاتهم العفنة البالية وأقاموا على أنقاضها هذه الدول الفتية التي جاءت بالمعجزات/ فالعرب لا اليونان أو اليهود هم الذين بعثوا العالم من حالة الجمود إلى حياة أفضل، مكنته من التحكم في مصائر الكون، فأطلق العربي الأفكار من عقالها وحررها من جمود رجال المعبد اليهودي والكنيسة المسيحية وظهرت طائفة من القرابين حيث أنكر هؤلاء التلمود وتعاليمه كما انكمش سلطان الكنيسة وتورات وراء جدران المعابد وقد مهد هذا التطور بدوره إلى ظهور حركة الإصلاح الديني وبعث النهضة العلمية.
تسامح الإنسانية:
وكما عاون العرب على الاضطلاع بهذه الرسالة تسامحهم ومبادؤهم الإنسانية التي أزالت الفوارق بين الشرق والغرب، كما أنهم لمن يمكنوا اللون من أن يكون عاملاً من عوامل التفرقة والتمييز العنصري والحط من القيم الإنسانية، والدين الإسلامي هو الذي ثبت مبادئ الحقوق الإنسانية ولذلك نجح العربي في تحقيق ما عجز عنه اليوناني والفلسفة اليونانية.(50/8)
ومذهب الإنسانية لم يقو ولم ينتصر إلا بفض العرب، ولم تعرفه أوربا إلا في العصور الوسطى وعلى يد العرب وبعد أن تتلمذ أوربا على العرب في العصر الإسلامي.
التضليل:
ويصل الدكتور فؤاد حسنين إلى القول: بأن الحالقين على العرب والإسلام، والناسبين التراث العربي إلى اليونان واليهود، يضللون أنفسهم وغيرهم، والعكس هو الصحيح، فالمسلمون هم أصحاب الفضل على اليونان واليهود والتاريخ اليهودي يحدثنا أن العرب أحسنوا معاملة اليهود عندما كانوا يهربون من وجه الطغاة من حكامهم في فلسطين، أو فزعاً من اضطهاد اليونان والرومان، فقد نزل أولئك اليهود الجزيرة العربية فوجدوا سهلاً، وهذه القبائل اليهودية التي كانت تنزل يثرب وخيبر ووادي القرى، وفد إقرارها على العرب بعد أن أفقدتهم القرون التي مرت بهم منذ زوال دولتهعم ولغتهم المقدسة، تذوق اللغة العبرية وتجديدها حتى أصبح من المألوف لدى اليهودي أن يعبر عن أفكاره وشعوره في لغة ركيكة هي خليط من العبرية والكلدانية واليونانية، فحالت ظروفه هذه دون خلق آداب عبرية فما كان أولئك اليهود بمستطيعين قول الشعر أو إجادة النثر، فغير نزولهم بين العرب هذه الأوضاع، وبخاصة أن العربي معجب بلغته معني بها نثراً وشعراً، حريص على المحافظة عليها فصيحة نقية.
لغة غير اللغة وطباع غير الطباع:(50/9)
أخذ اليهود من جيرانهم العرب فن الكلام والنطق الصحيح وفصاحة التعبير فلما رحل بنو قينقاع والنضير وقريظة ويهود خيبر ووادي القرى وغيرهم إلى العراق والشام وفلسطين كانوا يتكلمون بلغة عربية ويتأدبون بأدب عربي ويتطبعون بطباع عربية، يقولون الشعر في مختلف فنونه، ويعبرون عن خواطرهم في لغة هي لغة أهل الحجاز وقد حبب إلى اليهود ظاهرة المحافظة على عربية القرآن الكريم، فاقتفوا فيها أثر العرب، وقد فتح العرب أمام اليهود دون العلم على مصاريعها ولم يفرقوا بينهم وبين غيرهم ويحدثنا التاريخ اليهودي أن الإسلام أحسن معاملة اليهود، حتى أولئك الذين اضطر النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون إلى إجلائهم عن قلب الجزيرة العربية تأميناً لرسالة الإسلام وأتباعه، فأقطعهم أمثير المؤمنين عمر بن الخطاب والإمام علي كرم الله وجهه الأراضي الواسعة بالقرب من الكوفة، وعلى ضفاف الفرات، مما دفع المؤرخ اليهودي "جريتز" إلى الإشادة بعدالة العرب وإنسانيتهم في كتابه تاريخ اليهود، قال: لقد وزع عمر أراضي اليهود على المسلمين المحاربين، وعوض اليهود المطرودين – وهذه هي العدالة – أخرى بالقرب من الكوفة على الفرات حوالي عام 640 م، حقاً رب ضارة نافعة.
يقول الدكتور حسنين: هذه بعض حسنات العرب على اليهود، فالعرب هم الذين أهدوهم العربية بعد أن كانوا يرطنون خليطاً لا شرقياً ولا غربياً، والعرب هم الذين هذبوا ذوقهم اللغوي، ورفعوا مستواهم الأدبي فمكنوهم من خلق ملكة أدبة، وثالثاً وليس أخيراً احتذى اليهود حذو المسلمين مع القرآن الكريم، فعنوا بدراسة كتابهم وشرعوا في وسع نحو لغتهم صيانة لها من اللحن والضياع. هذه هي الحقيقة العلمية أسوقها للدكتور طه حسين وتلميذه الدكتور إسرائيل ولفنسون.
سر الحقد:(50/10)
نقول: هذا هو سر الحقد الشديد الذي بينته الصهيونية العالمية للعرب، واللغة العربية، فتعمل على محو ذلك التاريخ الطويل، ورفع اسم العرب عنه ونسبته إلى رمز مضلل هو "السامية"، فينقل ذلك التاريخ الزاخر من مصدره الأصيل إلى مصدر غامض، يقوم على نص من التوراة التي كتبها أحبار اليهود، التي لا ترقى إلى مستوى الحقائق الثابتة التي قدمها القرآن الكريم الذي لم يصبه أي تحريف.
إن الهدف هو طمس الرابطة بين الإسلام الذي جاء به محمد بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرن السادس الميلادي، وبين دعوة إبراهيم التي بدأت منذ عام 1750 قبل الميلادي، ذلك أن إقامة إبراهيم ابنه إسماعيل في قلب الجزيرة العربية في مكة، وإسماعيل هو جد العرب وجد محمد صلى الله عليه وسلم، وبناء البيت الحرام الكعبة، ودعوة الله سباحه وتعالى إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى إتباع ملة إبراهيم. "وأوحينا إليك أن ابتع ملة إبراهيم حنيفاً".
هذا ما يريد اليهود والصهيونية طمسه وتزييفه، وقد أثبتت الأحافير التي كشف عنها أخيراً: أن إبراهيم عليه السلام كان يتكلم العربية وإن لم تكن العربية التي نزل بها القرآن أو التي نتكلمها اليوم. كما أثبتت الأحافير: أن اللغة التي كانت مستعملة في اليمن والعراق والشام والحجاز لغة واحدة، وأن اختلفت لهجاتها كما تخلف لهجات الأمم العربية في هذه الأيام، وقد استشهد عبد الحميد السحار – رحمه الله – الذي أورد في كتابه "محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – والذين معه" بالآية الكريمة: "كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس".(50/11)
وقد جاء في كتاب العلامة (ألبرايت) عن أحافير فلسطين قوله: "تتقارب اللغات العربية القديمة عدا الأكادية في الآجرومية والنطق بحيث تشترك كل لهجة وما جاورها ولا يلحظ الانتقال من لهجة إلى لهجة إلا كما يلحظ مثل هذا الانتقال اليوم بين اللهجات الفرنسية والجرمانية".
سكتت التوراة. لماذا؟؟
والملاحظ أن التوراة لم تورد ذكر ذهاب إبراهيم عليه السلام إلى الحجاز، وسكتت هذه المصادر سكوتاً متعمداً عن علاقة إبراهيم بالجزيرة العربية ومكة وبناء الكعبة، بل وسكتت أيضاً عن ذكر هود وصالح من أنبياء العرب القدامى كأنما لم يكن عاد وثمود على مقربة من فلسطين، وقد حدد بطليموس في أطسله موقع ثمود وعاد، وكشفت الحفريات عن مدائن صالح، وعثر على بعض الخطوط الثمودية في ثمود وفي الطائف وقد كان اليهود ينفسون على العرب أن صار لهم بيت محرم منذ أيام إبراهيم، بينما لم يصبح لهم هيكل في بيت المقدس إلا في أيام سليمان بن داود، فكان هذا السكوت المتعمد، وقد عمد اليهود إلى طمس حقيقة وعد الله تبارك وتعالى لإبراهيم، فجعلوه قاصراً على إسحق ولذلك تجاهلوا ابنه الأكبر إسماعيل، وحاولوا إخراجه وإخراج أبنائه من حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من ربه، وابتكروا الأكذوبة التي تقول: إن بني إسرائيل وحدهم شعب الله المختار.
يقول الأستاذ السحار: حرم اليهود أبناء إسماعيل حقوق الوعد الذي تلقاه إبراهيم من ربه، وأرادوا أن يسلبوا إسماعيل كل فضل فزعموا أن الذبيح هو إسحق، مع أن التقاليد تقضي بتقديم الابن الأكبر قرباناً لله".
ولاريب أن إنكار إسماعيل وأبنائه يحرف تاريخ العرب قبل الإسلام تحريفاً شديداً، فإن أبناء إسماعيل الاثنى عشر قد انبثوا في هذه المنطقة.
الدليل حقيقة واقعة:(50/12)
وقد أعلنت ألواح الطين التي كتبت بالخط المساري والتي وجدت في أطلال بابل ونينوي، وبلاد ما بين لالنهرين أن بني إسماعيل كانوا حقيقة واقعة وأن أبناءه الاثنى عشر صاروا قبائل قوية تناوئ بابل وآشور ومصر والإغريق والرومان.
والواقع أن تاريخ هذه المنطقة منذ عهد إبراهيم عليه السلام (1750 قبل الميلاد) هو تاريخ العرب الذين كانت تطلقهم الجزيرة العربية، في موجات مهاجرة امتدت من حدود الفرات إلى المغرب وشملت هذه المنطقة كلها، وإن فكرة السامية الزائفة لم تكن شيئاً معروفاً أم مقرراً، ولا توجد أي إشارة إليها في أي من الكتب أو الحفريات أو الأسانيد المكتوبة على الأعمدة أو الآثار القديمة.
خاتمة:
ومن خلال هذا العرض نصل إلى أن جزيرة العرب أخذت باسم العروبة الصريحة، في كتب اليونان والرومان وأسفار العهد القديم منذ (ألفين وخمسمائة سنة) واسم العرب الصريح أخذ يطلق على أهلها، وعلى المستعمرين في داخلها وتخومها الشمالية جزئياً ثم كلياً منذ ألفين وخمسمائة سنة كذلك، بل قبل ذلك مما تدل عليه النقوشات والمدونات القديمة، واللغة العربية التي تكلم بها سكان الجزيرة والنازحون منذ ألفين وخمسمائة سنة كذلك هي اللغة العربية الصريحة، بقطع النظر عن تعدد لهجاتها، كذلك فإنت الحقائق تؤكد أن اليهود لم يكن لهم دوؤ صريح أو وضع صريح أو أثر صريح في أي نهضة من نهضات هذا التاريخ الطويل، وأنهم زيفوا تاريخهم وتاريخ العرب وعمدوا إلى حجب إسماعيل حتى يقصروا الوعد على أبناء إسحق.
وأن كلمة السامية هي تعبير اصطنعه اليهود ليحصلوا من عمومه دوراً لهم أكثر وضوحاً، من دور العرب أصحاب الشأن الحقيقي وأن يجعلوا منه تكاة لمعارضة خصومهم باسم معاداة السامية.(50/13)
مؤامرة تحديد النسل وأسطورة الانفجار السكاني
تكشف الأبحاث والإحصائيات العالمية أن العالم الآن يضم 3.5 مليار من السكان، ترتفع إلى 7 مليارات نسمة في نهاية القرن الحالي، وقد زاد الجنس البشري سبعمائة مليون نسمة في السنوات العشر الأخيرة، وفي كل عام يولد بالعالم 127 مليون طفل ويصل إلى سن التعليم منهم 95 مليون طفل وإن الدول النامية: في آسيا وأمريكا اللاتينية هي أكثر الدول تأثراً بهذه الزيادة إذ أن ثلثي سكان العالم يعيش في هذه المناطق وأن خمسة أسداس الزيادة المنتظرة في عدد السكان تكون أيضاً في هذه المناطق، وقد أصبح الوافدون يزيدون عن الراحلين في الشهر الواحد، بما لا يقل عن سبعة ملايين نفس فالعالم الآن يستقبل كل يوم 30 ألف نسمة زيادة صافية بعد الخسائر.
العبرة لم يؤمن:
وقد استغرق العالم ثلاثة آلاف عام بأكملها قبل أن يتضاعف تعداده ولكنه الآن يتضاعف تلقائياً كل خمسة وأربعين عاماً. ولا ريب أن لنا نحن المسلمين عبرة في دراسة هذه الأرقام. فنحن نؤمن بأن الكون كله لله تبارك وتعالى وأنه هو الخالق، وأن ظاهرة التفوق البشري هذه ظاهرة طبيعية، في طريق اكتمال صورة الكون والأرض على النحو الذي أشار إليه القرآن الكريم، لتأخذ الأرض زخرفها وزينتها، ولتخرج الأرض مذخورها من معطيات الحياة من قلب البحار ومن قلب صخور الجبال ومن جوف الأرض. وأن للمسلمين في هذه الثلاثمائة ألف طفل يومياً أكثر من 219 ألف طفل يومياً، وهذا يدل على أن ظاهرة "التفوق البشري" تمثل جيشاناً ضخماً في عالم الإسلام بما يدل على تفوق ظاهرة لهذه القوة المؤمنة بالله، بينما نجد أن الانحسار السكاني واضح الدلالة في عالم الغرب.
ظاهرة غريبة:(51/1)
وفي إحصائيات أخرى نجد أن عدد سكان العالم الآن هو 3700 مليون نسمة وأنه إذا سار معدل المواليد على حالته الآن فإن العدد سيتضاعف خلال 26 سنة – أي في نهاية القرن الميلادي – ويكون الرقم قد ارتفع إلى 7400 مليون نسمة، وأن هذه الزيادة ستكون من نصيب الدول النامية في آسيا وأفريقيا أي أنه من بين 224 طفل يولدون في الدقيقة الواحدة 202 طفل في الدول النامية "العالم الإسلامي" و 22 طفلاً في الدول المتحضرة "الغرب".
وهذه الإحصائيات تعطينا مؤشراً واضحاً للأحداث.
ذلك أن ظاهرة تقلص حجم المواليد في عالم الغرب، وزيادة هذا الحجم في عالم الإسلام، من الظواهر التي تزعج الرأسمالية الغربية والنفوذ الغرب المسيطر اليوم في بلاد المسلمين والعرب إزعاجاً شديداً، ذلك لأنهم يحسون بمدى الخطر الذي ينتظرهم في السنوات القادمة، ويترصد بهم نتيجة نضوب المواليد نسبتها في البلاد الغربية بينما تزداد هذه النسبة وتتضاعف في بلاد أفريقيا وآسيا.
محاولة خداعة تحت اسم مثير:
ولما كانت هذه الظاهرة ستصبح بعيدة المدى في متغيرات موازين السيطرة والنفوذ وتملك الموارد الطبيعية والطاقة وغيرها في السنوات القادمة فإن الغرب يشن حملة شديدة وعاصفة عنيفة على هذه الزيادة المضطرة بوصفها بعيدة الأثر في عالم الإسلام تحت اسم مثير هو ما يطلق عليه اسم "الانفجار السكاني" ويجند له عشرات من الأقلام والمفكرين والساسة دون أن يشير إلى حقيقة الموقف وطبيعة التحول الاجتماعي والحضاري الذي يوحي بأن فساد المجتمعات الغربية، قد أدى إلى نضوب منابع "الوالدية" بها، نتيجة لشيوع الخمر والماريجوانا والترف، وانصراف المرأة الغربية عن رسالتها كلية وكراهيتها الشديدة للولادة وتربية الأولاد، والإسراف في عمليات الزواج غير الشرعي وظاهرة اللقطاء واستعمال حبوب منع الحمل.
انهيار الحضارة الغربية:(51/2)
هذا الاضطراب الاجتماعي في عالم الغرب المرتبط بمرحلة الانهيار في الحضارة الغربية، هو مصدر انخفاض نسبة المواليد بما أدى إلى انزعاج الغرب لهذا السبب، وما يحاوله الآن من إغراء وتشجيع الزواج والولادة بإغراءات خطيرة دون جدوى، بينما يشن في الناحية الأخرى حملة شديدة على الولادة المتزايدة في البلاد النامية والمتخلفة وينفق ملايين كثيرة في بلاد العرب والإسلام من أجل "تحديد النسل" وتعقيم الرجال، والإغراء بإعطاء الحبوب واللوالب وغيرها من أجل تقليل نسبة المواليد.
ولا شك أن الغرب يرى في ظاهرة التقلص في مواليده وزيادة نسبة مواليد المناطق التي تسمى "البلاد النامية" خطراً شديداً على نفوذه وعلى المقدرات التي يحصل عليها من الخامات والثروات والمواد الأولية وعلى كل ما يعنيه على التفوق المتصل على عوالم أفريقيا وآسيا المتخلفة.
أبعاد المؤامرة:
من أجل هذا نجد المجتمع الغربي لا يتبنى فكرة تحديد النسل فحسب، بل يفرضه فرضاً على عالم الإسلام، بينما يعلن البابا بيوس الثاني عشر رأيه صراحة في تأييد المسيحية لكثرة النسل، ويواجه المسلمون – مع حملة تحديد النسل – ذلك التحدي الخطير: تحدي الهجرة والنمو المتزاد لليهود في فلسطين ونمو المسيحية في أوربا وفي أجزاء كثيرة من العالم الإسلامي، بينما يجبر المسلمون بوسائل شتى فيها الإغراء أو التعقيم الإجباري "كما حدث لمسلمي الهند على يد أنديرا غاندي" على خفض تعدادهم، وهنا تنكشف المؤامرة، ويتبين أن هناك خطة مدبرة ضد المسلمين بالذات ذلك أن غير المسلمين يخشون تكاثر المسلمين، ويحاولون إيقاف هذا النمو والتزايد بكل وسيلة ومن هنا جاءت الدعوة إلى تحديد النسل والحد من تعدد الزوجات.
وبينما يطلب إلى المسلمين تحديد نسلهم، تترك الصين ليتزايد سكانها بمعدل 14 مليوناً كل سنة.
الأكذوبة:(51/3)
ولا ريب أن تهديد العالم الثالث بنضوب الثروات هو أكذوبة كبرى، فإن الخطر الحقيقي كله كامن في سوء استخدام الثروات والكنوز التي تفيض بها الأراضي البكر. وسوء التخطيط لتطوير إنتاجي أفضل. وبينما تنقل هذه الخامات إلى بلاد الغرب وتنهب، ثم تعيد تصديرهما للأمم المترفة الاستعمارية لا يحصل أصحاب هذه الثروات إلا على الفتات.
الانحسار السكاني في الغرب:
وتتحدث الأبحاث عن ظاهرة الانحسار السكاني في الغرب، وتصفها بأنها ظاهرة مخيفة وخطيرة تقلق الخبراء الاجتماعيين والسياسيين ورجال الأعمال، فأمريكا تتجه نحو حالة الصفر في النمو السكاني. فهي تقف الآن في النقطة التي يكون فيها عدد المواليد مساوياً لعدد الوفيات. وتتحدث الأبحاث عن هذا الخطر الهائل الذي يتهدد الولايات المتحدة والدول الغربية على بعد بضعة أجيال، مما يؤدي إلى انخفاض القوة العاملة وما يؤدي إلى ركود الإنتاج، في حين أن الدول الفقيرة تنموا نمواً متزايداً.
وتقول الأبحاث أن عدد سكان أمريكا (212 مليون نسمة) وأن النمو السكاني في أمريكا يصل إلى درجة الصفر (2 / 2) عندما يبلغ السكان 260 مليون نسمة. ويشارك الولايات المتحدة في هذه الظاهرة "السويد وألمانيا الغربية، اليابان، هنغاريا، رومانيا" وأن نسبة المواليد في هذه الدول في هبوط مستمر منذ الحرب العالمية الأخيرة، وأن الهبوط كان هائلاً في السنوات الأربع الماضية، في السويد وفنلندا والنمسا وبلجيكا وألمانيا. أما هنغاريا وبريطانيا فقد بلغت درجة الصفر. والقلق ناجم من أن القوة العاملة سوف تتضاءل في المستقبل بما يؤدي إلى ركود الإنتاج، ومن أجل ذلك شددت بعض دول أوروبا في قضايا الإجهاض وفرضت عقوبات على من يفعله، ومنع السوقيات تداول الحبوب المانعة للحمل. وأعطوا إجازات أطول للزوجة الحامل.(51/4)
ويتوقع الخبراء أن تصل أكثر دول أوروبا إلى درجة الصفر في النمو السكاني في بداية القرن الواحد والعشرين، كما يرى بعض الخبراء أن الانحسار السكاني إلى درجة الصفر سيؤدي إلى ركود اقتصادي واجتماعي خطير.
التعقير أو التحديث:
ويرجع الخبراء هبوط الخصب في المدى البعيد في الدول المتطورة إلى مجموعة عوامل يطلقون عليها "التعقير أو التحديث" ويقول الخبراء أن موانع الحمل والإجهاض قد خفضت المعارضة الأخلاقية لضبط النسل، وأن ثلث السكان من النساء الكاثوليكيات يمارسن موانع الحمل. بالرغم من تعاليم الكنيسة الكاثوليكية، التي تقول أن موانع الحمل أمر خاطئ غير مستحب، كذلك فإن الموجة الجديدة للأنوثة قد ساعدت على جعل نسبة المواليد منخفضة حيث شجعت المرأة على تحدي دورها كربة بيت وأم.
وقال الدكتور جو يلدز: أن المرأة لم تشعر بأن عليها إنجاب الأطفال لتصبح إنساناً بشرياً، ويرى كثير من النساء أن مساهمتهن في المجتمع أو تحقيق اكتفاء ذاتي أكبر، يكون ببقائهن في أعمالهن، بدلاً من البقاء في البيوت مع الأطفال وأن المرأة شيئاً مهملاً إذا كانت أماً أو ربة بيت (6.5 مليون امرأة عاملة تؤلف 46% من القوة العاملة في الولايات المتحدة).
صيحات الخبراء:
ويشير التقرير إلى خطورة امتناع الشباب المتزوج عن إنجاب الأطفال يقول "بول ايرليس" في كتابه "القنبلة البشرية" عام 1968 وكتاب آخر "حدود النمو" أن العالم يواجه كارثة إذا تقلص النمو السكاني. وقال ولفريد نيكرمان: أن الإنسان قد استخف بحجم الموارد الطبيعية الهائلة في العالم. وهناك إشارة إلى أن التضخم الاقتصادي يعد عائقاً في إنجاب الأطفال وأنه بوجود دخلين في الأسرة، غداً في مقدور الكثير من الأزواج التمتع بالأمور الترفيهية.
هنا يكمن السبب:(51/5)
وهكذا نجد الخلفية الواضحة لموقف الغرب إزاء التفوق البشري في عالم الإسلام، وتجنيده اتباع المحافل الماسونية وأندية الروتاري والليونز للكتابة عن الانفجار السكاني والأخطر المتوهمة للكوارث التي ستصيب البلاد من زيادة السكان. وهذه الحشود من العلماء الذين تجمعهم مؤتمرات الوالدية في تحديد النسل ومؤتمر الغذاء العالمي وقد أكدت عشرات المصادر والدراسات أن الخوف من نمو السكان في البلاد النامية والمتخلفة، هو الذي يقلق سادة الغرب فإن هؤلاء سيصبحون قوة عددية متزايدة على غير هوى المتصدرين للنفوذ الاقتصادي العالمي.
وسوء النية:
ويشير البرفسور خورشيد أحمد الأستاذ بجامعة كراتشي في بحثه الضافي عن سوء نية الأوروبيين، والتخطيط الاقتصادي لإدامة سيطرة الدول المتقدمة على الشعوب النامية، ويقول: "أن آسيا والعالم الإسلامي هي أكبر كمناطق الأرض اليوم ازدحاماً بالسكان". وما عدد السكان في البلاد الغربية بالقياس إليها إلا قليل، وأن هذا التفوق السكاني سوف يقضي على الأسس التي أقامها الغرب لسيادته السياسية العالم منذ القرون الخمسة الماضية، وعلى ذلك التفوق الفني والعلمي الذي كان له على الشرق، والذي به استطاع أن يقيم احتكاره السياسي على العالم. لقد آمن الاستعمار إلى أبعد الأبعاد، على الرغم من قلة سكانه، ولكن الأوضاع الحالية والحقائق الجديدة في العالم، قد فندت هذا الخيال الخاطئ وماطت اللثام عن وجه الحقيقة، وأنه لاجل التناقض المضطرد في عدد سكان البلاد الغربية.
حصاد النتائج:(51/6)
فقد ظهرت بوادر الانحطاط والأفول في السياسة، رغم الشعور بعد الحرب العالمية الأولى خاصة، بأن خطة تحديد النسل ضررها أكر من نفعها من الوجهتين السياسية والاجتماعية، كان من نتائج ذلك أن فقدت فرنسا مكانتها العلمية شيئاً فشيئاً وأعلن المارشال بيتان عقب الحرب العالمية الثانية اعترافه بأنه من الأسباب الرئيسية التي عملت على توهين قوة فرنسا وزاحتها عن مكانتها العالمية: قلة عدد الأطفال والسكان. وقد بدأت آثارها السيئة في حياة إنجلترا وغيرها وأوجست خيفة من آثارها السويد وألمانيا وفرنسا وإنجلترا وإيطاليا، وشعرت بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في خطتها بشأن عدد السكان، ولذا فهي تبذل الآن جهوداً متتابعة لزيادة عدد سكانها بدلاً من تقليله.
إلا أن الغرب لن يستطيع مع كل هذه الجهود أن يزيد عدد سكانه إلى حد يستطيع معه أن يحتفظ بمكانته السياسية ويبقى متربعاً على كرسي السيادة العالمية، بل الذي لاشك فيه أن سيعود عاجزاً في المستقبل عن مقاومة الشرق والعالم الإسلامي مهما بذل من جهوده لزيادة عدد السكان في أقطاره، وأشار الدكتور خورشيد إلى أن عدد السكان في بلاد الشرق أكبر بدرجات من عدد السكان في الغرب، وأن هذا معناه أنه ليس في الإمكان بقاء شعوب الشرق محكومة مغلوبة على أمرها بعد تدربها على الآلات الميكانيكية وتصنيعها في العلوم الفنية، بل سيكون من النتيجة اللازمة لهذه النهضة كسابق الفطرة، أن يفقد سادة الغرب على العرب أزهى أيام حياتها، وأن تبرز القيادة العالمية في أماكن فيها زيادة السكان ولها في نفس الوقت خبرة فنية وتكتيكية حربية، فكل ما يصنعه الغرب اليوم للاحتفاظ بسيادته العالمية في مثل هذه الأوضاع خطير للغاية، وأن أي محاولة للحد من زيادة السكان في الشرق عن طريق تحديد النسل ومنع الحمل مسألة فاشلة تماماً".
الخوف الرأسمالي:(51/7)
وهكذا يتبين لنا ارتباط أبعاد هذه المحاولة الخطيرة التي يقوم بها الغرب لإيقاف النمو السكاني والتفوق البشري في عالم الإسلام، وكذلك لإيقاف القدرة على استعمال التكنولوجيا والسيطرة عليها، وتحويل إرادة المسلمين والعرب لتوجيه مقدراتهم وثرواتهم مقدارتهم الاقتصادية المالية إلى طريق الاستهلاك والترف، يقول الدكتور خورشيد: "إن هذيان أمريكا ما تبذل من النصائح والمواعظ عم مشكلة السكان إنما هو نتيجة إلى حد كبير لشعورها بخطر تلك النتائج والمؤثرات السياسية المتوقعة على أساس تغير الأحوال في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.
يقول آرثر كرومول: إنه لما يعجب الناس في البلاد المتقدمة إعجاباً فطرياً أن يزداد عدد سكان الناس في البلاد غير المتقدمة، وذلك أنهم يرون في زيادتهم المضطرة خطراً داهماً على مستواهم الرفيع في المعيشة وعلى سلامتهم السياسية.
كيف أعلنوا نواياهم؟:
وقد أشار "ميك كارل" إلى هذه المؤامرة الخطيرة لإنقاص سكان العالم الإسلامي فقال "إن أهل الشرق سوف لا يلبثون إلا قليلاً حتى يطلعوا على حقيقة هذا الدجل ثم لا يغتفرونه لأهل الغرب، لأنه استعمار من نوع جديد، يهدف إلى دفع الأمم غير المتقدمة ولا سيما الأمم السوداء إلى مزيد من الذل والخسف، حتى تتمكن الأمم البيضاء من الاحتفاظ بسيادتها وأن القوة الغالبة لا تكون في المستقبل إلا للبلاد التي تتمتع بزيادة السكان وتحلى في نفس الوقت بالعلوم الفنية. وأن محاولة أمم الغرب للاحتفاظ بسيادتها وقيادتها للعمل، هي التي تدعوها إلى العمل على نشر حركة تحديد النسل ومنع الحمل في بلاد آسيا وأفريقيا، في نفس الوقت التي تعمل البلاد الأوروبية الآن ما في وسعها لزيادة سكانها، وفي نفس الوقت تستعين بأحسين ما عندها من أساليب الدعاية لتقيم حركة تحديد النسل في البلاد الآسيوية والأفريقية. وللأسف أن كثيراً من المسلمين يتقدمون ليقعوا في شرك دجلها.
محمد إقبال:(51/8)
وقد تنبه لهذا المعنى الفيلسوف الإسلامي محمد إقبال فقال:
كل ما هو واقع اليوم أو على وشك الوقوع في الغد القريب في بلادنا أن هو إلا من آثار دعاية أوروبا، هنالك سيل عرم من الكتب والرسائل الأخرى قد انحرف في بلادنا لدعوة الناس إلى اتباع خطة منع الحمل وتشويقهم إلى قبول حركتها، على حين أن أهل الغرب في بلادهم يتابعون الجهود الفنية لرفع نسبة المواليد وزيادة عدد السكان.
ومن أهم أسباب هذه الحركة تدهور عدد السكان في أوروبا وتناقصه مضطرداً، بناء على الظروف التي ما خلفتها أوروبا إلا بنفسها وقد استعصى عليها اليوم أن توجد لها حلاً مرضياً، وأن عدد السكان في الشرق على العكس من ذلك في زيادة مضطردة ما ترى فيه أوروبا خطراً مخيفاً على كيانها السياسي.
ويقول العلامة علال الفاسي: أن أكبر الخطر أن تدرس حركة تحديد النسل منفصلة عن سياقها السياسي والتاريخي فنحن لا نستطيع أن نفهمها على حقيقتها. ولا أن نرسم لأنفسنا خطة عملية راشدة إلا داخل نطاق التحدي، فإذا أضفنا إلى هذا: الخطط الصهيونية لإجلاء العرب عن الشرق الأوسط، وتهجير أكبر عدد مكن من اليهود إليه، وخلق حركات داخل كل بلد إسلامي وعربي من الاقليات، التي يصل بها التعصب أحياناً إلى الانفصال عن الوطن الوالد، عرفنا أن التنقيص في عدد المواليد لا يخدم إلا مصلحة الاستعمار والصهيونية، كذلك فإن عدداً من علماء الطب والاجتماع والدين من جهة وعلماء الاقتصاد من جهة أخرى، يرون أن تحديد النسل خطر على قوة الدولة العددية وعلى زيادة إنتاجها ويقاومون الدعوات التي سبقت في بلادهم والحركة التي نشأت عنها فكيف يمكننا نحن الذين ما زلنا في طور التخلف وما زلنا نأمل أن يكون من شعبنا قوة مادية وإنسانية، أن نتجه إلى معالجة ضعف الإنتاج الاقتصادي بأضعاف الإخصاب الإنساني.
موقف الإسلام:(51/9)
يقول علماء الإسلام: أنه لا يجوز للإنسان أن ينظم تخطيطاً جماعياً على الشكل الذي تدعو إليه هذه المنظمات، لأن ذلك يتنافى مع مقاصد الشريعة الإسلامية التي جعلت من غايات الأسرة "تكثير النسل" وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة".
وقد نص الإمام الشاطبي في الموافقات على أن مما أجمعت عليه الملل والنحل وجوب حفظ المال والنفس والعرض والنسل فمحاولة المساس بواحدة من هذه الأربعة بغير حق مناف للشرائع كلها ولا يقع إلا من الظالمين الذي قال الله تعالى فيهم:
"وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد" سورة البقرة: الآية 205، وقد التبس على بعض المتملقين ما قاله بعض الفقهاء في مسألة إباحة العزل، مع أن قضية العزل هي قضية التخطيط العائلي لأنها مسألة تتعلق بحالات فردية اختيارية، لا تتدخل فيها الدولة ولا تنظمها ولا تدعو إليها وتجعلها جزءاً من برنامجها يقول العلامة علال الفاسي: إما إدعاء أن التنقيص من عدد السكان ضروري لتنفيذ التخطيطات الاقتصادية وتحقيق النمو فهو خطأ من الناحية الاقتصادية ومن الناحية الاجتماعية، لأن المواليد لا يولدون بأفواههم فقط بل يولدون بعقولهم وسواعدهم، فهم مادة وعامل قوي في النمو الاقتصادي وتقوية الإنتاج، وليسوا مجرد طفيليين في المجتمع وإنما عجز التدبير من الحاكمين وسوء توزيع الثروة على المواطنين، والتخلي عن الأقاليم الوطنية للمستعمرين هو الذي يدفع إلى هذا التفكير الكسول، الذي يرضي بهذه التدابير غير الإنسانية، ولا يعلم أن مقتضيات التطور الحديث يقضي بتحمل الدولة لتكاليف العائلة.
حكم التعقيم:(51/10)
ومن جهة أخرى فقد نص الفقهاء على أن خصى المواطن ممنوع شرعاً بالإجماع لكونه يعوق عن الغاية المقصودة من الشارع كما نصوا على أن أخذ الأدوية لمنع الحمل ممنوع، كما في النوازل الموجودة في كتاب الجامع من المعيار "للونشريشي". وأحسن من هذه الكتاب كله قول الله تبارك وتعالى: "ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم" سورة الإسراء، الآية رقم 30. وفي الآية الأخرى: "ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقهم وإياهم" سورة الأنعام، الآية رقم 150.
وقد أوضحت الشريعة الإسلامية سفه الذين يقتلون أولادهم مخافة الفقر "قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله" سورة الأنعام، الآية رقم 139.
من فعل الناس بأنفسهم:
أما الرزق فإن الله تبارك وتعالى قد يسر طريقه وجعله مستطاعاً وأعطى الإنسان أدواته من صيد ونار وغيره ولكن صعوبة الرزق بدأت بعد أن تدخلت أهواء الناس ومطامعهم وظهرت عمليات الاحتكار والاحتجاز، وظهرت عوامل التفرقة والاستغلال، والقوى الذي يسيطر على الكثير فلا يترك للضعفاء والفقراء ما يطعمهم أو يقوتهم، هذه هي الأزمة وهي ليست أزمة الرزق نفسه وإنما هي أزمة الجشع والتسلط.
وتقدير الله بالخير:
وهناك قانون الوفرة الذي يؤكد وجود ثمرات طيبات لكل من يعيش على ظهر الأرض مهما بلغ عدد هؤلاء السكان وذلك بتقدير الله تبارك وتعالى وما تزال هناك مذخورات كثيرة في البحار والجبال، وقد أعطى الحق تبارك وتعالى عهده وميثاقه إلى البشر بضمان الطعام وضمان الرزق لكل مخلوق ودابة وحشرة، بحيث تطمئن النفس الإنسانية إلى عهد الله تبارك وتعالى الصادق الأكيد، فلا تكون مثل هذه الصيحات الضالة مصدراً لزعزعة الإيمان، فلقد حفظ الله تبارك وتعالى للإنسان هذه الموارد التي لا تنضب في نفس الوقت الذي دعاه إلى السعي في الأرض والأكل من رزق الله.(51/11)
ولو وضعت الموازين الحقيقية لقضية الطعام ولو روعي في توزيعه ما أمر الله تبارك وتعالى به، لأمكن للإنسانية أن تتجنب الكثير من عمليات البخل والشح، حيث ينفق بعض الأفراد في بعض البلاد ما يوازي عشرات أضعاف ما ينفقه الآخرون. وهناك في بعض البلاد المنتجة تغرق المحاصيل في البحر أو تحرق للمحافظة على مستوى أسعار التصدير بينما يقتل الجوع الملايين وذلك من أساليب الاستعمار الرأسمالي والماركسي للسيطرة على القوى البشرية بإجاعتها.
كذلك فإن حاجة المسلمين في الدرجة الأولى إلى التوالد والتناسل لأن الإسلام مهدد في معاقله الأولى ويواجه حرباً صهيونية استعمارية لا قبل له بها وأن هذه الحرب ستطول، ويسقط فيها كثير من المسلمين وأن تعبئة الأمم في ميادين النمو الاقتصادي بوسائل العمل المنظم تغني عن كل تدبير مناف لطبائع الأشياء وأن هذه المبالغ الضخمة التي تصرف في مجال تحديد النسل وإنشاء مستشفيات التعقيم وإنتاج حبوب منع الحمل وهي تزيد على 100 مليار من الدولارات لو أنفقت في مجال النمو الاقتصادي لجاءت بنتائج إيجابية وعلينا أن نذكر أن من مقاصد الشريعة الرغبة في تكثير سواد الأمة الإسلامية وقد أمتن بالتكثير في القرآن إذ قال: "واذكروا إذ كنتم قليلاً فكثركم وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين" سورة الأعراف: الآية رقم 85.
الإطار الصحيح:
ولا ريب أن كل مشاكل الأمم يمكن التغلب عليها بالتفوق البشري شريطة أن يتحرك هؤلاء البشر من خلال عقيدة صحيحة كتلك التي حركت المسلمين الأوائل، والإسلام وحده هو العقيدة القادرة على إطلاق الطاقات المفطورة في أعماق هذه الأمة، وما استطاع مجتمع متخلف أو نام أن يحقق التقدم ويصل إلى القوة من خلال اعتناقه عقيدة المجتمعات الأخرى.(51/12)
ومن هنا يتبين أن قصة الانفجار السكاني ليست أسطورة يراد بها تقليل عدد المسلمين ونسلهم في سبيل التمكين للنفوذ الأجنبي والوافد وعمليات التهجير بما يزيد غيرهم بالاستيطان وامتلاك الثروة.(51/13)
الوجه الآخر لطه حسين من مذكرات السيدة سوزان "معك"
الأستاذ أنور الجندي
نشرت السيدة سوزان طه حسين مذكراتها عن حياتها مع زوجها في مجلة "أكتوبر" المصرية ولما كنا قد أصدرنا كتابنا (طه حسين: حياته وفكره في ميزان الإسلام) فقد طلب إلينا بعض القراء أن نقدم تصورنا لما كتبناه من قبل في ضوء هذه المذكرات وعما إذا كانت هذه المذكرات تغير شيئاً من وجهة نظرنا السابقة التي كشفناها في كتابنا وخاصة أن الحلقات بلغت بضع عشرة حلقة وتعرضت لمواقف كثيرة من حياة الدكتور ويسعدنا أن نجيب على هذا التساؤل وهو موضع اهتمامنا ولقد كان من حق قراء الاعتصام الزاهرة علينا – ونحن نشرف بأن ننتسب إلى كتابنا منذ بضع عشرة سنة – أن نقول إن ما كتبناه عن طه حسين كان محاولة لترجمة حياة رجل دوى اسمه في الشرق والغرب وسيطر سيطرة كاملة على الأدب والصحافة في الفكر سنوتا طويلة وله تلاميذ وأتباع وله فوق 1لك آراء ومفاهيم. ولقد قدمنا حياة الدكتور طه حسين مدعومة بالوثائق والأسانيد ولم نعرض لأمر ما في هذه الحياة دون أن نقدم "الوثيقة" الدالة عليه وخاصة في مجالات البحث عن علاقاته بالاستشراق وفرنسا والصهيونية والمسيحية والشيوعية ولم نكن في صف الاتهام له بأي حال وإنما كنا محايدين، غير أن مجلة "الهلال" هي التي صبغت ذلك كله بصبغة الاتهام حين أصدرت عددها "مايو 1977 م" بهذه العناوين:
طه حسين في قفص الاتهام.
هل كان طه حسين شيوعياً.
هل كان طه حسين عميلاً للصهيونية.
ها تنصر طه حسين في كنيسة في فرنسا.
ولعل القارئ المتابع لهذه المذكرات قد أحس بذلك الجو الكنائسي المليء بالتراتيل والمزامير والقداس الذي أضفته السيدة سوزان على حياتهما الاجتماعية، وهذا الاحتفال المتصل بأعياد العنصرة وعيد القيامة وكيف كان طه حسين يستمتع بهذه الأحفال.
وهؤلاء الكردينالات والقسس والآباء الذين يملأون هذه الحياة.(52/1)
وذلك الاهتمام بأجراس الكنائس حين سمي (كلود) الذي هو مؤنس ديوانه باسمها.
وذالك الهتاف الذي سجلته السيدة لابنها حين يصبح يوم الأحد "يا صباح إحدى الجميل" تقول السيدة سوزان: عندما تأسست جامعة الدول عام 1925 م اتخذ الطريق إلى بيتنا قادمون جدد، هناك بدأت جلسات الأحد التي سرعان ما اتسعت كثيراً في الزمالك، كان طه خلالها قطباً حقيقياً، إذ ما كاد الأساتذة الأجانب الذين كانوا يؤلفون أول فريق يصلون إلى مصر، حتى يأتوا بالطبع إلى بيتنا لقضاء ساعة أو ساعتين برفقة زوجاتهم، وكان منهم العميد جرايجور والفيلسوف إميل برهين، وعالم الآثار الإنجليزي بحرندور والشخصية الساحرة سكايف الذي كان أستاذاً للأدب الإنجليزي وسالمر وسانياك.
ونحن نعرف معنى هذا تماماً، لقد فتح طه حسين أبواب الجامعة (وكلية الآداب بالذات) للمستشرقين وعتاة الدراسات التبشيرية والتغريبية ليحطموا في نفوس أبناء أمتنا كل عقائدهم ومقدساتهم فكان لابد أن يصلوا أول الأمر عند هذه (القاعدة) التي بنوها في مصر، ومن هنا نجد أن السيدة سوزان تقول أنه عندما ترك طه الجامعة أعلن هؤلاء الأساتذة أنهم لن يدخلوا الجامعة إلا إذا عاد هو؛ وهذا ليس معاً يفسر على أنه مكانة عالية لطه حسين وإنما هو في الحقيقة علامة على التبعية.
وتقول السيدة طه حسين: وخاصة تلك اللقاءات التي كانت تتم بوجه خاص مع أناس قادمين من خارج مصر والتي كانت تزداد بنسبة مثيرة وكانت حصيلتها محاورات خصبة بالنتائج وتبادل الأفكار واتهامات مختلفة بقدر ما كان ينتج عنها أيضاً حجارة جديدة من أجل البناء الذي كان طه حسين يتابع إنشاءه بكتبه ونشاطه.(52/2)
ونحن نعرف أن هذه الجلسات مصدر تلك القنابل المحرقة التي كان طه حسين يلقيها على الإسلام والتاريخ الإسلامي والفكر الإسلامي يوماً بعد يوم، وأنها كانت مصدر الوحي لدراساته المختلفة التي سبق بها المستشرقون أنفسهم إلى تصورات تهدم التراث الإسلامي حتى لتقول السيدة طه حسين أنه كتب إليها مرة يقول: "إن أبحاثي الشخصية تصل إلى نتائج كبار المستشرقين نفسها. أتدرين أنني قررت ألا أقرأ أبحاثهم إلا بعد أن أنجز أبحاثي لأكون على علم بها فقط".
ومعنى هذا في تقديرنا أن طه حسين قد تمكن من العقيدة الاستشراقية بمفاهيمها إلى الدرجة التي لم تجعله في حاجة إلى أن يقرأ للمستشرقين، ونحن نعجب كيف أن طه حسين طابق المستشرقين أو سبقهم أو تابعهم في آرائه المختلفة.
في رأيه في الشعر الجاهلي الذي سبقه به مرجليوث.
في رأيه في المتنبي الذي سبقه به بلاشير.
في طريقة كتابه هامش السيرة التي سبقه بها الكاتب المسيحي فلان.
في نظرية في الأدب والنقد التي سبقه بها تين وبرونتير.
في نظرية أن الدين نبت من الأرض ولم ينزل من السماء كما سبقه بها دوركايم.
في رأيه أن وجود إبراهيم وإسماعيل لا دليل عليه تاريخياً وقد سبقه بها هاشم العربي.
ولعجب لأن السيدة طه حسين تكرر دائماً عبارة أن الطلبة حملوه على الأعناق وأن الطلبة هتفوا له وأن الأزهريين حضروا محاضراته في الجامعة الأمريكية وصفقوا له. نحن نعرف كيف كانت الحزبية تنظم هذه الاحتفالات فلا تخدعنا أبداً ونعرف أن المصريين يحبون "الفرجة" فهم يجتمعون في المحاضرات لا ليسمعوا طه حسين ولكن ليشاهدوه بعد أن عزل من الجامعة أو أخرج من الوزارة أو أي موقف آخر فليس هذا دليلاً على الحب والولاء، وليس له دليل على المتابعة في الرأي.(52/3)
نحن نعرف كيف كان الطلاب يحملون الأساتذة في مظاهرات الأحزاب ونعرف أن طه حسين عندما سافر إلى الصعيد وهو وزير المعارف كان يفاجأ بأن يهتف باسمه في كل محطة يقف فيها القطار يبتسم ويحيي هؤلاء ظناً منه أن الأمة كلها خرجت لاستقباله وقد تبين من بعد أن حزب الوفد قد حجز عربة لمجموعة من (الهتيفة) كانوا ينزلون من القطار عندمل يقف ويتقدمون إلى الديوان الذي يجلس فيه فيهتفون ثم يسرعون بركوب القطار.. ويا للسخرية.
ولقد عرفنا من مذكرات السيدة سوزان طه حسين:
صورة تدعو إلى التساؤل:
لماذا هذا الاهتمام الخطير بالاتصال بالأحزاب والصراع والخصومة مع زعماء الأغلبية – أول الأمر – والانتماء إلى أحزاب الأقلية، ثم تحوله بعد ذلك، لماذا هذا الصراع مع الأحزاب وهو الرجل الأديب في الجامعة والعالم الذي يجب أن يحتفظ بطابع العلماء وحده.
ولقد أجبنا على ذلك في كتابنا: أن طه حسين يعتصم لبالأحزاب ويقوي مركزه بها ليكون أكثر قدرة على تحقيق ما هو مطلوب منه، في تغيير المناهج وفي تعيين الأساتذة وفي استقطاب الأجيال التي تسير وراء خطته وتحمل آراء التغريب والغزو الثقافي.
وتسود مذكرات السيدة سوزان صورة الولاء الأجنبي واضحة وذلك في عدة مواضع منها زيارته لإيطاليا واشتراكه في مؤتمر المستشرقين.. تقول: كان المطران تيسيران (ولم يكن قد أصبح كاردينالاً بعد) يعرف طه حسين معرفة جيدة فأخذه من ذراعه وقال لي مبتسماً: "لا تقلقي سوف أعيده إليك" وكان المطران تيسيران هو الذي قدم طه حسين إلى البابا بيوس الحادي عشر وكان بيوس الحادي عشر مستشرقاً وكان قد أراد استقبال مؤتمر المستشرقين وقد وجه لطه كلمات في منتهى الرقة كما وجه إلي أيضاً مثلها.(52/4)
وبعد الجلسة الأولى تنازل (نلينو) عن رئاسة التعليم لطه ونحن نعرف معنى هذا كله وتقدير هؤلاء جميعاً والكنيسة الكاثوليكية كلها لأفضال طه حسين، ونعرف معنى أن يضعوه على رأس مؤتمر الاستشراق. تقول: ولم يسبق أن حدث هذا الأمر إطلاقاً. ونحن نعرف أن طه تميز عن جميع الذين اصطتعهم الاستشراق.
وتصور السيدة سوزان كيف أن جميع المستشرقين في أنحاء الأرض كانوا إذا مروا بمصر زاروا طه حسين: وأن جورج حنين والأب قنواتي كانوا يأتون بأصدقاء يمرون عبر القاهرة إلى بلد آخر، وإنها كانت وطه يلتقون بهم في بلادهم بعد: في فرنسا أو في إيطاليا.
وتعجب السيدة سوزان لأن المشايخ كانوا يحاورون بصداقة من الأدباء الدومينكان أو مع رئيس كلية الأسرة المقدسة الأب العزيز (فارغو) أو الأستاذ جورج درينتون مدير معهد الآثار أو المطران ديبس أو اديل أو ابنا ميل أو موسكاتيلي.
وتدهش لهؤلاء المشايخ، فليس هؤلاء إلا مصطفى عبد الرازق وأمين الخولي وبعض الأذلاء الطامعين في نفوذ طه حسين للحصول على درجة أو منصب.(52/5)
ولقد أضفت السيدة سوزان على مذكراتها روحاً كنسياً وطابعاً مسيحياً خالصاً مما يدهش له القارئ، ويعجب كيف عاشت هذه السيدة في مصر خمسين سنة ولم تستطع أن ينشرح صدرها لطوابع مصر الإسلامية، بل على العكس من ذلك ظل بيتها سجناً رهيباً للغة الفرنسية فلم يكن أحد فيه يتكلم العربية حتى ابن عميد الأدب لم يعرف العربية وقد استطاعت أن تبني ذلك الحاجز الخطير بين مصر وتقاليدها وقيمها العربية الإسلامية وبينها فظلت حتى آخر أيامها لا تكتب ولا تتكلم ولا تعيش إلا في جو فرنسي وما في حياتها شيء أبداً يوحي بالروح العربية أو الإسلامية فهي في ليلة عيد الميلاد تستمع إلى قداس منتصف الليل من الراديو تبحث عن محطة فرنسية، وهي لا تستقبل إلا هؤلاء القساوسة والكردينالات الفرنسيين الغربيين. لقد عاشت هذه السيدة في مصر هذه المدة الطويلة دون أن تتمصر أو تتعرب أو تجد رائحة هذا الجو وإنما عاشت في تعصب وإصرار على جوها الفرنسي الغربي المصطنع.
ولقد كشفت السيدة طه حسين تلك الصورة القاتمة التي كان يعيشها الدكتور طه حسين، أزمات وراء أزمات وأحداث متوالية من الضيق والمصاعب والمشاق والتطلعات والبحث عن الموارد الجديدة من كل مكان فما صفت الحياة يوماً وهي في كل هذه الحلقات تعطي انطباعاً سيئاً مظلماً متجهماً لحياة طه حسين وأيامه وقد صورته بصورة الرجل الخائف المذهعور الذي تنتابه الأحداث من كل ناحية فإذا به ينقبض ويعتزل بينه وبين الناس الأبواب ولا يستطيع أن يرفع رأسه إلى السماء ليدعو الله أن يفرج عنه.
وتقول السيدة: على الرغم من دعوة الجامعة والصحيفة (جريدة السياسة) فقد بقى وضعنا المادي في منتهى السوء وبعد مماطلة ومضايقات انتهى المجلس إلى الموافقة على زيادة ضئيلة قدرها أربعة جنيهات للأساتذة.(52/6)
لقد كان ذلك عام 1922 م ومع ذلك فقد ظلت السيدة تردد هذه النغمة طويلاً فما أحست أبداً أن كل ما جاء به طه حسين من التأليف والصحافة والجامعة يكفي رليحقق طموحها في الحياة على أعلى مستوى.
تقول: "كل ما كان في السنوات التالية ينذر باستمرار إذ كان كل ذلك عاجزاً عن أن يؤمن ما يسمى بمورد ثابت".
ومع ذلك فالأستاذ سلامى موسى في حديثه مع طه حسين في الهلال سنة 1924 م يحسد طه حسين على ذلك المستوى الذي لم يصل إليه هؤلاء أبداً.
وأعطت السيدة سوزان صورة مزعجة لطه حسين الذي كان قد تحول إلى نموذج أجنبي خالص حيث يشكو لها في رسالة بعض الأزمات إبان غيابها ثم يقولا: "عندما رجعت إلى البيت: ذهبت مباشرة إلى الصورة وركعت أمامها وقصصت الأمر عليها بصوت عال". هكذا كان يفعل هذا الرجل الذي كتب تاريخ الإسلام يركع أمام صورة ويشكو لها، ألا يشكو إلى الله خير له؟ وهي تصور طه حسين وقد غرق في ترنيمات الكنائس وأجراسها وتراتيلها مع الإعجاب الصادق بجو الأحفال الكنسية والموسيقى الفرنسية على نحو يعجب له القارئ.
يقول: "بالأمس كان عيد العنصرة ومرة أخرى ترد إلى خاطري بصفاء بالغ ذكرى عبد العنصرة في (بار دونيه)، كنت قد استمعت إلى القداس في الكنيسة من الأعلى، وكان الخوري العجوز قد قرأ إنجيل يوحنا، كان: (سلاماً ارتك سلامي أعطيتم) إنجيل يوحنا – ثم كررت على مسامعك (تقول لطه) هذه الكلمات بانفعال:
أذكر هذا الصباح وأفكر في ذلك التوافق السري الذي وحدنا دوماً في احترام كل منا للآخر، كنت غالباً ما تحدثني عن القرآن وكنت تقرأ التوراة وكنت أتحدث إلى يسوع، كنت تردد في كثير من الأحيان أننا لا نكذب على الله.(52/7)
وتتحدث عن شيء آخر جد خطير، فطه حسين الذي كان مؤهلاً لأن يطرح من الأفكار ما يشاء له المخطط المرسوم أن يطرح كان حريصاً على أن يكون له سناد من الحزب الذي يحميه وكان حريصاً على ألا يحال بينه وبين نشر آرائه وأفكاره المسمومة: تقول: أنه هاجم القصر، لا لكي يدافع عن الحكومة، وإنما لأن القصر يريد الحد من حرية المعتقدات فالأديان المعترف بها هي التي ستكون مسموحاً بها في مصر والملحد لا يستطيع أن يعلن نفسه ملحداً فهل يسع الإنسان الذي دافع عن كل الحريات وفي المقام الأول حرية الضمير أن يبقى لا مبالياً".
زتقول: "نعم فقد كان يريد طه حسين أن يبقى الباب مفتوحاً لكل الأديان والنحل والمذاهب" وهي تسمي ما حدث بعد صدور الشعر الجاهلي بثورة الجهل والغضب وتصور نقد النقاد له بعبارات عجيبة فتقول: هذه الأحكام البليدة والتحيز الأخرق والحقد الحاسد ضد إنسان شريف وجره إلى المحكمة والتهديد بالموت الذي كان وراء إقامة حراسة على مدخل بيتنا أمام باب الحديقة خلال عدة أشهر.
وتقول: إنه كان يستعيد فس سنواته الأخيرة تلك العقبات التي كان يواجهها والرفض الذي جوبه به والهزء بل الشتائم من أولئك الذين كانوا بحاجة إلى مرور زمن طويل حتى يتمكنوا من الإدراك. وتقول: إدراك ماذا؟.
لقد صدق هو نفسه حين عبر في آخر حياته عن حصاد حياته بعد أن تحطمت كل النظريات التي قدنها وبان عوارها وتكشف فساد كل الدعوات التي حاول أن يقيمها ولم تكن عبارته التي سجلتها السيدة سوزان إلا رمزاً لهذه الحياة: "هل يمكن أن نجعل من الأعمى قائد سفينة".
وتقدم السيدة سوزان صورة لذلك التناصر الخطير الذي قدمه المستشرقون والكردينالات ورجال الفكر الغربي لذلك الرجل وكيف استقبله البابا وفي كل مؤتمر كانت هناك محاولات ضخمة لتكريمه وإعلاء شأنه، نياشين وتحف وهدايا وتحيات.
كان يكتب له أحدهم (بيرغستراسة) هذا الإهداء:(52/8)
طه حسين الذي يناضل في الصف الأول في سبيل تقدم الروح العلمية.
ولما أخرج من الجامعة اعتصم المستشرقون (وأدال جرانت، بيرغستراسة) وقالوا: لن نعود حتى يعود طه. وكتب المستشرق ليفي ديلافيدا مصوراً مدى الخطر على خططهم من خروج طه من الجامعة ومدى جزعهم على أهدافهم التي طان يمثلها حين قال: أحزنتني هذه الأخبار بصورة عميقة. إن تاريخ النضال من أجل الحرية العلمية لم يستكمل مسيرته بعد ولكن ذلك سيتحقق يوماً وإني على اقتناع بذلك وسيتحقق ذلك بانتصار روح الحرية والحقيقة بأن المأساة التي أصابتكم ستكون عارضة وأني لعلي يقين من ذلك لأن قضية كقضيتكم بل أقول قضيتنا هي من القضايا التي لم تكن خاسرة في يوم من الأيام.
ونقول لهؤلاء: لقد خسرت قضيتكم أخيراً وانكشف فسادها.
ذلك بعض ما قدمته لنا مذكرات السيدة سوزان وإليك هذه الملاحظات:
كان الدكتور طه حسين حريصاً على أن يصور نفسه للناس على أنه غضنفر لا تجتاحه الأحداث ولا تنوشه السهام فهو قائم دائماً مقام الدفاع عن نظرياته.
ولكن مذكرات السيدة سوزان كشفت عن صور مغايرة تماماً لذلك فهي تقول مثلاً: أنه في قضية إسماعيل صدقي، مر طه حسين بساعات يائسة إلى حد أنه اعترف لي (طه حسين) بعدها أنه فكر كثيراً في الانتحار.
وتقول: لقد حدث لنا شيء مذهل أطلق نفسه عليه وصف (الشيطان) فقد وقع نتيجة الإرهاق والمرض والوضع الفاضح وتمسكه في عزل نفسه عن الناس فريسة إحدى التوبات السوداء المحنقة التي كثيراً ما عرفتها، كان إذ ذاك يحبس نفسه وراء صمت شرس مخيف كما لو أنه سقط في أعماق حفرة لا يستطيع أي شيء على الإطلاق أن ينتزعه منها، كانت حياتي تبدو كأنما قد توقفت وانسحقت بلا أمل في مواجهة عزلة مطلقة يفرضها على نفسه ورفضه العنيد سماع أقل كلمة تريد أن تحاول معونته.(52/9)
وهي تتحدث عن عمله في كوكب الشرق بعد أن خرج من حزب الأحرار وانضم إلى الوفد دون أن تشير إلى ذلك أدنى إشارة، عندما ترك أصدقاء الأمس وهددهم في كوكب الشرق بفضح أسرارهم ولكن الذي يهم السيدة سوزان هو الموارد المادية فقط.
تقول: "كان يعمل في جريدة كوكب الشرق كما يعمل محكوم عليه بالإشغال الشاقة فقد كان يقضي فيها كل ساعات الصباح وعندما حل الصيف كانت الحرارة لا تطاق وكان المتطفلون الذين يغيظونه يوجدون دوماً عنده في اللحظة التي يكتب فيها مقاله".
أمر لا يكاد يصدق، كيف أنهم لم يدركوا أنهم كانوا يسببون له المزيد من التعب بتطفلهم هذا.
وتقول: "إنه اندفع في الكتابة فأقيمت دعوى على الصحيفة، وذهب طه حسين عدة مرات إلى النيابة. أما هي فكانت قد سافرت إلى فرنسا لأنها لا تحتمل صيف مصر وتركته فكتب إليها يقول: يبدو أني أهنت الشيخ الأكبر وكل المشايخ ورئيس الوزراء وكل الوزراء بل ربما أهنت في النهاية كل الناس، كان ذلك عملاً أحمق وشريراً، بل أن المحقق نفسه لم يخف إشمئزازه مما كان يعمله وكنت أود لو سمعت إجاباتي الساخرة".
تقول: "واستعمرت الخصومات التي لا تطاق مع مالك عنيد، لم يستطع طه أن يتابع العمل في هذا الجو فالنحاس يشجعه معنوياً من ناحية وتقنطه اللامبالاة العامة من جهة أخرى" وأخرج جريدة الوادي، وتقول أنه كان "يتشاجر مع الآلات التي لم تكن تسير، ويشكو من الورق الذي لا يرسلونه وحروف الطباعة التي لم تكن تكفي".
وتصور كيف كان الموقف بعد إخراجه من الجامعة فتقول:(52/10)
كان يدفع غالياً ثمن جريدته في أن يكون إنساناً حراً، إلا أنهم كانوا يريدون سحقه حقاً هذه المرة إذ لم يكتفوا بطرده من الكلية التي كان عنواناً لعزتها وكرامتها وقوة نابضة فيها، وإنما أرادوا إحراق كتبه فأخذوا منذ بيته الذي يسكن فيه وأغرقوه بالشتائم وحاولوا أن يحرموه من كل وسيلة للعيش بمنعهم مثلاً بيع الصحيفة التي كان يصدرها وبإنذارهم البعثات الأجنبية في مصر بالكف عن أن تقدم له عروضاً للعمل ولابد هنا من الثناء على الجامعة الأمريكية في القاهرة التي تحدث هذا الإنذار وطلبت إلى طه حسين تقديم مجموعة من المحاضرات الأمر الذي قدم له دعماً لا يقدر بثمن.
تقول: ولم يقف الأمر عند هذا الحد فإن القوى قد تنادت لنصرته وسأله كبيرهم (ماسنيون) عما إذا كان على استعداد للذهاب للولايات المتحدة وتوالت دعواته إلى المؤتمرات.. أصدقاء في فرنسا وفينا وإيطاليا (ليتمان وبيرغسترا وبونكر) وغيرهم.
وكانت تصور بإعجاب موقف طه حسين وهو يرثي كبار رجال الاستشراق باسم الجامعة المضرية وكيف زار الجامعة العبرية بالقدس وكيف وقف يرلي بول دومير (مؤسس الكوليج دي فرانس) وما أدراك ما الكوليج دي فرانس إنه المعهد الاذي يخرج قادة التغريب في بلاد المسلمين.
تقول: "وقف طه حسين يلقي خطاب الجامعة المصرية في جلسة مهيبة في القاعة الكبرى بجامعة السربون، وعندما وصلنا طه حسين وأنا إلى المنصة الكبرى نزل بول درجات المنصة وجاء إلينا وتناول ذراعي طه حسين بذراعيه فصفق الحاضرون تصفيقاً بلغ من القوة حداً أثار ذهول أمي" نعم وأكثر من هذا يحدث: أليس رجلهم في مصر والشرق، ألم يكن أعظم ثمرة في الشجرة كلها: هذا الذي سموه رينان الشرق.
وكانت السيدة سوزان تعرف مهمة طه حسين وقد أفلتت العبارات منها أكثر من مرة لتكشف هذا الدور.
فهي تقول: "لم يكن مثله بالذي يقبل أن يقوم بدور محدود".
"ثم إن هنا معركته ومستقبله مهما يكن هنا مصيره ورسالة وجوده".(52/11)
وتقول في كتاب كتبه لوالدتها: "إننا نصنع على كل حال أشياء ستبقى ولن يستطيع أحد فيما أظن يقوضها".
وتقول: "لما عاد عميداً من جديد كانت كل أنواع الأفكار تدور في رأسه وكان عليه أن يضعها موضع التنفيذ" وكان هو يقول "إنك تعرفين هذا النوع من الرضا الذي يعقب القيام بالواجب وإن المرء على مستوى الرسالة التي كلف بها رغم المصاعب التي يواجهها" وكانت تشيد بمحاضراته في الجامعة الأمريكية وجمعية الشبان المسيحيين التي كان يحتشد فيها الألوف.
كان واضحاً من هذه الصورة كلها، زيارات المستشرقين والمحادثات الطويلة التي كان يصنع فيها موضوعاته، ومقابلاته هناك والاحتفاء به، وجورج حنين والأب قنواتي الذين يأتون إليه بكل من يمر بالقاهرة من الآباء والكردينالات والمطارنة.
وهم لا يتوقفون عن تشجيعه فيكتبون له بين حين وحين، تقول جوزيه كابورني: "في دوامة التيارات الثقافية بحرية وسرعان ما غدوتهم رجل الساعة ووجهتهم القوى الروحية في هذا البلد في اتجاه لا يستطيع أحد أن يتنبأ بمآله".
وفي مصر كان لطفي السيد وعبد العزيز فهمي، وثروت، وعلي عبد الرازق وعشرات من الذين يسيرون على نفس الدرب كانوا من حوله دائماً.
وتتحدث عن الزواج المختلط وتنحي باللائمة على الشيخ محمد بخيت الذي انتقد الزواج المختلط. وتنسى أن طه حسين نفسه قبل سفره إلى أوروبا حمل على المصري الذي يسافر إلى أوروبا ويتزوج أجنبية. وقالت أن الشيخ بخيت قال لطه حسين: لو كنت حراً لاشترعت قانوناً ينفي كل مصري يتزوج أجنبية يا دكتور طه، ما هي الأسباب الحقيقية التي حملتك على الزواج من أجنبية، وأنت مصري فكيف أقدمت على هذا العمل.
هذا قليل من كثير تقدمه مذكرات السيدة سوزان وملاحظتنا أن السيدة سوزان لم تتمكن من استيعاب حياة طه حسين استيعاباً كاملاً وغفلت عن جوانب كثيرة من أدق مراحلها ووجوه كثيرة من أبرز معالمها.(52/12)
ولكننا نستطيع أن نقول أنه في حدود ما رسمته السيدة سوزان فإن طه حسين كان يعيش في ثلاثة محاور:
حياة شخصية من الناحية المادية تتطلب الجهد البالغ لإعطاء المادة وتجرى التفسيرات كلها حول صورة الفقر ومحاولة الخروج منه والجري إلى حد الإنهاك في سبيل توفير حياة رضية بينما كان الدكتور طه حسين يحصل على مرتب أستاذ جامعة ومرتب محرر في صحيفة الأحرار الدستوريين فضلاً عن مكافآت كتبه ومقالاته هنا وهناك وما كانت تقدمه الجامعة له ولزوجته بمثابة بدل سفر وإقامة إلى مؤتمر سنوي للاستشراق أو لغيره ولا ريب أن هذه الصور التي رسمتها السيدة سوزان مبالغ فيها وهي توحي بأن الدافع الذي كان يسوق حياة طه حسين هو الكسب المادي فكان يلهث وراء الموارد لتمكين السيدة من أن تحيا حياة ارستقراطية باذخة.
حياة رجل مريض الأعصاب يسقط بين آن وآن ويغمي عليه مرة ومرة ولا يستطيع أن يقاوم الأحداث وتفترسه الوحدة والصمت أياماً كلما ادلهمت الأحداث ويركع أمام الصورة وأمام الأيقونة ويحدثها وربما يقول لها كلمة أخرى.
الصورة المغايرة لصورة الصلف والغرور والاستعلاء والبطولة الزائفة والشجاعة الكاذبة التي كان طه حسين يصور بها نفسه في مقالاته بينما تصوره مذكرات زوجته في صورة مغايرة تماماً.
الصورة الكنسية في أصدقاء كردينالات وآباء ورهبان وفي أعياد مسيحية وفي مناسبات غربية وفي طوابع تومئ بانفصال طه حسين تماماً عن الحياة المصرية والعربية والإسلامية بكل ملامحها فكأنه ليس أكثر من رجل مستشرق غربي أجنبي يعيش في بلادنا. وآية ذلك أنه لم يستطع أن ينقل زوجته وأولاده إلى المحيط العربيوظلت زوجته إلى اليوم وهي مصرة على وجودها الأجنبي وجوها الأجنبي بينما غيرت زوجات كثير من الأدباء الذين تزوجوا بأجانب حياتهم، وبقيت رامتان لا يؤذن فيها الله ولا تنطق فيها كلمة عربية ولا حول ولا قوة إلا بالله.(52/13)
بسم الله الرحمن الرحيم
الأستاذ
أنور الجندي
~~~~~
{ من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا }
هو وَاحِدٌ من زُمْرَةٍ فَرِيْدَةٍ من القِمم الشَّامخة وُجِدَت وَعَاشَت بيننا في هذا العصر ، وما وُجِدَت إلا برحمةِ الله وعلى عَيْنِهِ وما كان لظروف عصره أن يُوجد أبدا ، انضوى قلبه على حب عميق لهذا الدين ، وتفانٍ غريب في سبيل نصرته ، أنكر ذاته - بل تلاشت في فكره وهَمِّه - ، .. أُشرب قلبه قوله تعالى {قل إن صلاتي ونُسُكِي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين }
عاش للإسلام وللإسلام وحده حتى كأنه مثال حي لقوله تعالى { ومن الناس من يَشري نفسه ابتغاء رضوان الله والله رؤوف بالعباد }.
حمل القلم مجاهدا بفكره ، وكانت عينه دائما معلقة بالسماء ، مرتبطا قلبه بحبل الله، ... منا من عرفه ومنا من لم يعرفه ، لكن أثره باق إلى يوم القيامة - ، ولسان حالهم يقول { وعَجِلْتُ إليك ربِّ لترضى }، مضى إلى ربه وترك مكانه شاغرا إلى يوم القيامة .
عاش الرجل مجاهدا مقاتلا بفكره وقلمه ، وجعل كل لحظة من عمره لنصره الإسلام ... وقف على أخطر الثغور التي ولج منها الأعداء إلى ديار المسلمين وعقولهم فاجتاحوهم شر اجتياح ، فسبوا عقولهم ونهبوا كل ما يملكون ، واسترقوهم شر استرقاق ... إنه ميدان الثقافة ... !!!
إنه من ذلكم الطراز الفذ من الرجل العظماء الذين ذابوا إخلاصا ووفاء لنصرة الدين ، إذا وقفت إلى جواره وجدتَ نفسك قزما بين عمالقة ، لا يبلغ بصرك منتهى قمته في السماء ، فإذا خاطبته طأطأ الرأس تواضعا وانبثت شفتاه عن مثل اللؤلؤ دررا من ثمرات الفكر والفهم والإخلاص .
إن كاتب هذه الكلمات ينفر بطبعه من المدح والمبالغات التي تعج بها حياتنا الثقافية قديما وحديثا ، ويَعُدُّ ذلك أَحَد أَمْرَاض الأمة التي لا قيام لأمتنا إلا بشفائها منها ...(53/1)
فهو – وإن كان يرى ذلك مرفوضا مذموما فإنه يراه واجبا مطلوبا إن كان يعبر عن الحقيقة والصدق ، إن التراجم – تراجم الرجال – شهادة يجب أن يؤديها من يتقدم بها كاملة بأصدق عبارة وأدق لفظ ذما كان أو مدحا ، وما يسطره عن الأستاذ أنور الجندي ليس من قبيل المديح المَرَضِيّ وإنما هي الشهادة يتقدم بها للأمة التي صارت لا تعرف رجالها ولا تقدر الرجال حق قدرهم ، بل صارت قتالة لرجالها عقوقة لأبنائها .
- ولد في مدينة ديروط ( بمحافظة أسيوط ) بصعيد مصر سنة 1917 م .
- نشر أول كلماته سنة 1932 في " البلاغ " و " أبولو "
- تُشَكِّلُ سنة 1940 م علامة فارقة في حياة الأستاذ أنور الجندي بعد قراءته لملخص عن كتاب " وجهة الإسلام " ( لمجموعة من المستشرقين ) الذي لفت نظره إلى التحدي للإسلام ومؤامرة التغريب ، وهو يصف ذلك بقوله : " وبدأت أقف في الصف : هذا قلمي عدتي وسلاحي من أجل مقاومة النفوذ الفكري الأجنبي والغزو الثقافي ، غير أني لم أتبين الطريق فورا ، وكان عليّ أن أخوض في بحر لجي ثلاثون عاما .. كانت وجهتي الأدب ولكني كنت لا أنسى ذلك الشيء الخفي الذي يتحرك في الأعماق .. هذه الدعوة التغريبية في مدها وجزرها ، في تحولها وتطورها ……. ". ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 48 )
وبل يقول عن مقدمات لذلك في قضيته في مواجهة التغريب : " … ولعلي نذرت نفسي منذ ذلك الوقت – 1932 – وسني ست عشر عاما لهذه الغاية " ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 11 )
- اشترك في الكثير من المؤتمرات الإسلامية في القاهرة والرياض والجزائر والمغرب وجاكرتا ومكة المكرمة والأردن والخرطوم ، ودعي إلى الزيارة والمحاضرة في جامعات الإمام محمد بن سعود الإسلامية وجامعة العين بالإمارات والمجمع اللغوي بالأردن .(53/2)
اتصف بالعمل الدؤوب الجاد ، وكتب الكثير من الموسوعات ، واهتم بتقديم خطة كاملة لمقاومة التغريب والغزو الثقافي ثم اتجه بعد ذلك إلى العمل في أسلمة العلوم والمناهج وتأصيل الفكر الإسلامي وبناء البدائل وهو ما واصل العمل فيه إلى آخر لحظة في حياته .
التقى بالأستاذ حسن البنا فكانت أكبر علامة فارقة في حياته
بدأ الكتابة في صحف الإخوان سنة 1946 .
اعتقل عاما كاملا قبيل ثورة 1952 .
بعد فترة من القيود الصارمة عاشها في العهد الناصري استطاع بالكتابة لمجلة " منبر الإسلام " العودة للكتابة عن التغريب سنة 1963 م ، ويصف أنور الجندي سياسته في العهد الناصري بقوله : " ولقد كان من إيماني أن يكون هناك صوت متصل وإن لم يكن مرتفعا بالقدر الكافي ليقول كلمة الإسلام ولو تحت أي اسم آخر ، ولم يكن مطلوبا من أصحاب الدعوة أن يصمتوا جميعا وراء الأسوار " ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 67 )
من هو ؟ :
قال عن نفسه : " من أنت ؟ أنا محام في قضية الحكم بكتاب الله ، مازلت موكلا فيها منذ بضع وأربعين سنة ، منذ رفع هذه القضية الإمام الذي استشهد في سبيلها قبل خمسين عاما للناس ، حيث أُعِدُّ لها الدفوع وأُقدِّم المذكرات بتكليف بعقد وبيعة إلى الحق تبارك وتعالى وعهد على بيع النفس لله ، والجنة – سلعة الله الغالية – هي الثمن لهذا التكليف { إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة } ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 7 )
- يصف الأستاذ تحوله الفكري إلى الفكر الإسلامي الأصيل . فيقول : " نعم عندما اكتمل مفهوم الإسلام ( منهج حياة ونظام مجتمع ) في نفسي كان ذلك حدا فاصلا بين حياة وحياة ، فقد أخذت أراجع آرائي كلها في كل ما كتبت وأنظر إليها في ضوء مفهوم الإسلام الجامع بعد أن كان مفهومها قاصرا في المرحلة الأولى … .. … " : ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 11 )(53/3)
- واجه فكر طه حسين في الكثير من المؤلفات وهو بفسر سبب ذلك بقوله : " لقد كان طه حسين هو قمة أطروحة التغريب وأقوى معاقلها ، ولذلك كان توجيه ضربة قوية إليه هي من الأعمال المحررة للفكر الإسلامي من التبعية " . ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 12 : ، 74 )
- ويقول في العلاقة بين الأدب والفكر وخطر الفصل بينهما : " إن فصل الأدب عن الفكر – وهو عنصر من عناصره – من أخطر التحديات التي فتحت الباب واسعا أما الأدب ليتدخل في كل قضايا الإجماع ويفسد مفاهيم الإسلام الحقيقية " (أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 13 )
- كشف أثر مدرسة العلوم الاجتماعية ( فرويد ، ماركس ، دوركايم ) في تزييف الفكر الإسلامي الأصيل في أذهان الأمة الإسلامية ، وكذا مدرسة تولستوي وغاندي التي حملت مفهوم دحض " فريضة الجهاد " والدعوة إلى الخضوع والاستسلام تحت اسم السلام ( انظر : أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 13 ( هام جدا )
- وهو يقول في الحديث عن مراحله الفكرية في الطريق إلى الأصالة الفكرية الإسلامية : " إن أخطر كلمة يجب أن تُقال في هذا : أن الفضل كله لله ، وأن الهدى هدى الله ، ولولا فضل الله في التوجه إلى هذا الطريق المستقيم لضللنا في ضلال السبل التي لا توصل أبدا ، والتي هي عبارة عن أهواء وركام " . ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص14 : 15 )(53/4)
- وهو يصف أطواره الفكرية فيقول في كتابه " شهادة العصر والتاريخ " ص 26 : " وأستطيع أن أقول أنني عشت مرحلة نقد المجتمع من 1940 – 1950 ، ثم عشت مرحلة معالجة الواقع 1950 – 1964 ، وفي هذه المرحلة تناولت قضايا الوطنية والقومية ، وهي مرحلة تقبلت فيها بعض المفاهيم المطروحة قبل أن أعرف خفاياها التي اتضحت لي من بعد . ثم بدأت من 1964 مرحلة جديدة لتصحيح المفاهيم بعد سيطرة الشيوعية على الإسلام ، وفي هذه المرحلة أستطيع أن أكشف كثيرا من الحقائق فضل عن أن الدعوة القومية والإقليمية كانت قد قدمت حقائق خطيرة "
- وهو يفرق بين مفهوم " العروبة " القومي الأصيل الذي ظهر بعد سقوط الخلافة وتبناه كبار الدعاة أمثال شكيب أرسلان ورشيد رضا ومحب الدين الخطيب ، وهو مختلف تماما عن المفهوم الذي سيطر من بعد وهو مفهوم ساطع الحصري وميشيل عفلق ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 66 )
- اهتم بتراجم الأعلام ، وهو يقول في ذلك : " ثمة بضع عشر شخصية تستأثر بكتابات الكتاب وقد صدر عن إحداها كتاب وخمسة بل وعشرة .. مثال ذلك جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين وشوقي وجبران ورفاعة الطهطاوي والشدياق ومي ولطفي السيد وطه حسين والعقاد والمنفلوطي . أما باقي شخصيات فكرنا العربي المعاصر فإن الكتاب يتحامونها مع تقديرهم لفضلها وأثرها ، أما السبب فهو أن المادة الخام الموجودة عنهم قليلة في مجال الكتب المؤلفة … " ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 99 )
- أوصى الأستاذ كامل كيلاني لأنور الجندي بالقصاصات والرسائل الخاصة به(53/5)
- يقول أنور الجندي ( وهو يعكس دأبه في البحث ) : " قرأت بطاقات دار الكتب ، وهي تربو على مليوني بطاقة وأحصيت في كراريس بعض أسمائها . راجعت فهارس المجلات الكبرى كالهلال والمقتطف والمشرق والمنار والرسالة والثقافة ، وأحصيت منها بعض رؤوس موضوعات . راجعت جريدة الأهرام على مدى عشرين عاما بين آخرين ، وراجعت المقطم والمؤيد واللواء والبلاغ وكوكب الشرق والجهاد وغيرها من الصحف وعشرات من المجلات العديدة والدوريات التي عرفتها في بلادنا في خلال هذا القرن ، كل ذلك من أجل تقدير موقف القدرة على التعرف على ( موضوع ) معين في وقت ما ( أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 104 )
ويقول : " … وأصبح لي منذ بضع وعشرين سنة موقعا في دار الكتب لا أغيب عنه إلا لماما ، وقد قرأت به مئات من الكتب . بل لقد اضطررت وأنا أعد " الموسوعة الإسلامية العربية " الجامعة أن تكون لي قائمة تضم أسماء الكتب التي تلزمني وأرقامها حتى لا يضيع الوقت كل يوم في البحث عن هذه الأرقام ، ومن ثم عكفت على دراسة ما يزيد على نصف مليون بطاقة أخذت من الوقت أكثر من خمسة أشهر راجعت فيها بطاقات يحويها أكثر من 180 صندوقا ، وأعددت من خلال ذلك مجلدا يحوي أكثر من خمسة آلاف كتاب ، هذا بالإضافة إلى فهارس ضخمة للصحف والمجلات التي صدرت منذ 1871 حتى اليوم ، ومنها فهرس خاص لأعداد صحيفة الأهرام التي صدرت في الفترة الممتدة ما بين الحربين العالميتين يحوي مواد الأهرام الأدبية والفكرية والاجتماعية والأحداث التاريخية ": أنور الجندي : شهادة العصر والتاريخ ص 109 ، وانظر تفصيلا لذلك ص 133
قائمة ببعض مؤلفات الأستاذ أنور الجندي :
** شهادة العصر والتاريخ .. خمسون عاما على طريق الدعوة الإسلامية / أنور الجندي .
ط. دار المنارة ، جدة ، السعودية ، ط 1 : 1413 / 1993 ، 287 صفحة .
قطع متوسط ،
هي مذكرات أنور الجندي .(53/6)
فرغ من كتابة مقدمتها في 4 / 1413 هـ = 10 / 1992 م ( _ كما في شهادة العصر والتاريخ ص 3 ، 6 ) ، وقد جاوز السبعين .
والكتاب ممتع رائق ، يعبر عن فكر إسلامي نقي ، ورؤية هامة لما مرت به الأمة الإسلامية خلال القرن 15 هـ = 20 م من مؤامرات الاحتواء والتغريب والتبعية ، وفيه شهادة للتاريخ ، وفيه معلومات صادقة هامة عن المؤلف وحياته وفكره وهمومه .
** مقدمات العلوم والمناهج .. محاولة لبناء منهج إٍسلامي متكامل / بقلم : أنور الجندي .
ط. دار الأنصار ، القاهرة ، قطع كبير ، 10 أجزاء .
" يتناول بالبحث الجذور الأساسية للفكر الإسلامي التي بناها القرآن الكريم والسنة المطهرة ، وما واجهه من محاولات ترجمة الفكر اليوناني والفارسي والهندي ، وكيف قاوم مفهوم التوحيد كل محاولة لاحتوائه أو السيطرة عليه بما مكنه من بناء " منهج السنة والجماعة "، وكيف انبعثت عنه حركة اليقظة الإسلامية في العصر الحديث من قلب العالم الإسلامي نفسه فقاومت حركات التغريب والغزو الثقافي .
وضم الدراسة إلى ذلك مخططات الغزو الاستعماري عن طريق الاستشراق والتبشير ومؤامرات ابتعاث الفكر الوثني الهليني والشرقي القديم ".
الهدف من الكتاب : قال مؤلفه 1 / 3 :
" إن التحدي الخطير الذي يواجه العالم الإسلامي اليوم ( على أبواب القرن الخامس عشر الهجري ) انتقالا من التبعية إلى الأصالة ، ومن التغريب إلى الرشد الفكري ، ومن الإسلام إلى الإيمان هو وضع مقدمات العلوم والمناهج المبثوثة بحيث يمكن أن تغطي تلك لفجوة الضخمة بين الإسلام ومفاهيم العصر ، وبحيث يمكن أن تكون تلك المقدمات بمثابة إطار إسلامي للفكر المعاصر كله ، وهو ما قصرت عنه دراسات المعاهد والجامعات وبرامج التربية والتعليم المقررة ، حماية للشباب المسلم من تحديات
* * آثاره : * كتب / تأليف :
- « آفاق جديدة للدعوة الإسلامية في عالم الغَرْب » .(53/7)
- « ابتعاث الأسطورة مؤامرة جديدة تواجه الفِكر الإسلامي » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 39 ).
- « أحمد زكي الملقب بشيخ العُروبة .. حياته ، آراؤه ، آثاره » . ( سلسلة : أعلام العرب رقم 29 ) .
- « أخطاء الفلسفة المادية » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 9 ) .
- « أخطاء المنهج الغربي الوافد » .
- « الأخطار التي تواجه الأمم » . ( سلسلة : موسوعة القرن الخامس عشر الهجري رقم 9 ). ( ط: 1959 )
- « الأدب العربي الحديث في معركة المقاومة والتجمع والحرية » .
- « أساليب الغزو الفكري » .
- « الإسلام على مشارف القرن الخامس عشر » . ( سلسلة : الموسوعة الإسلامية العربية ).
- « الإسلام في أربعة عشر قرناً » . ( سلسلة : أحاديث إلى الشباب المسلم رقم 4 ) .
- « الإسلام في حضارته ونظمه الإدارية والسياسية والعلمية » ^ ( ط: 1973 ) .
- « الإسلام في مواجهة الفلسفات القديمة » . ( سلسلة : الموسوعة الإسلامية العربية رقم 11 ).
- « الإسلام في وجه التحديات الوافدة والمؤثرات الأجنبية » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 27 ).
- « الإسلام والتيارات الوافدة » . ( سلسلة : قضايا إسلامية ). ( ط: 1987 ).
- « الإسلام والحضارة » .
- « الإسلام وحركة التاريخ » .
- « الإسلام والدعوات الهدامة » .
- « الإسلام والعالم المعاصِر » .
- « الإسلام وموقفه بين الفلسفات والأديان » . ( ط: 1983 ، - مقدمات العلوم والمناهج )
- « أصالة الفكر العربي الإسلامي في مواجهة الغزو الثقافي » ^.
- « أضواء على الأدب العربي المعاصر » . ( سلسلة : المكتبة العربية )
- « أضواء على الفكر العربي الإسلامي » . ( سلسلة : قضايا إسلامية ) .
- « إطار إسلامي للفكر المعاصر » . ( سلسلة : موسوعة القرن الخامس عشر الهجري رقم 6 )
- « إعادة النظر في كتابات العصريين في ضوء الإسلام » . ( سلسلة : موسوعة القرن الخامس عشر الهجري ).(53/8)
- « اعرضوا أنفسكم على موازين القرآن » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 29 ).
- « الأعلام الألف » .
- « أعلام وأصحاب أقلام » . ( ط: 1984 ).
- « الإمام المراغي » . ( سلسة : اقرأ رقم 115 ) .
- « الانقطاع الحضاري » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 35 )
- « أهداف التغريب في العالم الإسلامي » . ( ط: 1987 )
- « بطاقة إسلامية » . ( ط: 1979 )
- « البطولة في تاريخ الإسلام » ^ . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 21 ) .
- « بماذا انتصر المسلمون » . ( ط: 1983 ، سلسلة : الرسالة الإسلامية رقم 2 ).
- « بناء منهج جديد للتعليم والثقافة على قاعدة الأصالة » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 50 ).
- « البهائية مِن الدعوات الهدامة » ^. ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 36 )
- « تاريخ الدعوة الإسلامية في مرحلة الحِصَار من حركة الجيش إلى كامب ديفيد » . ( ط: 1987 ) .
- « تاريخ الصحافة الإسلامية » . ( ط: 1984 )
- « تأصيل اليقظة وترشيد الصحوة » . ( سلسلة : موسوعة العلوم الإسلامية ) .
- « التبشير الغربي » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 34 ) .
- « التجربة الغربية في بلاد المسلمين » ^ . ( ط: 1979 )
- « تحديات في وجه المجتمع الإسلامي » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 30 ).
- « تحديات في وجه المرأة المسلمة » . ( سلسلة : أحاديث إلى الشباب المسلم رقم 6 ).
- « تحديات الفكر الإسلامي » . ( سلسلة : الرسائل الجامعة ) .
- « تراجم الإعلام المعاصرين في العالم الإسلامي » ^ .
- « تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث .. السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 7 ) .
- « تصحيح المفاهيم » . ( سلسلة : موسوعة القرن الخامس عشر الهجري رقم 11 ).
- « تصحيح المفاهيم الإسلامية » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 13 ).(53/9)
- « التغريب أخطر التحديات في وجه الإسلام » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 6 ) .
- « الجِبَاه العالية " ( ط: 1956 )
- « جمال عبد الناصر رائد القومية العربية » ^ .
- « جوهر الإسلام " ^ .
- « جيل العمالقة والقِمَم الشوامخ في ضَوْء الإسلام » . ( ط: 1985 )
- « الجيل في أعلامه "
- « حتى لا تضيع الهوية الإسلامية والانتماء القرآني " ( ط: 1958 )
- « حركة تحرير المرأة في ميزان الإسلام ... خلفية قاسم أمين وحقيقة هدى شعراوي " ( ط: 1979 ).
- «حسن البنا الداعية الإمام والمجدد الشهيد » ( ط1 : 1978 )
- « حضارة الإسلام تُشْرِقُ من جديد " ^ ( ط: 1979 )
- « حقائق مضيئة في وجه شبهات مثارة " ( ط1 : 1989 )
- « خصائص الأدب العربي " ( ط: 1984 ، _ سلسلة أحاديث إلى السباب المسلم رقم 5 )
- « الخلافة الإسلامية » ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 37 ).
- « خلفيات عمر الخيام ^ وقضية الرباعيات » . ( ط: 1979 )
- « الخنجر المسموم الذي طُعِنَ به المسلمون » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 2 )
- « الدعوة الإسلامية في القرن الخامس عشر الهجري » ^ . ( ط: 1979 )
- « رجال اختلف فيهم الرأي » . ( ط: 1982 )
- « رسالة المسلم » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 16 )
- « رواد الحرية في العالم العربي » .
- « رواد القومية العربية » .
- « الروتاري واجهة جديدة للماسونية » ^ .
- « زكي مبارك .. دراسة تحليلية لحياته وأدبه » ^. ( ط: 1962 )
- « سقوط نظرية دارون » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 20 )
- « السلطان عبد الحميد ^ ... صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم لمواجهة تحديات الاستعمار والصهيونية » .
- « السلطان عبد الحميد والخلافة الإسلامية ... تصحيح أكبر خطأ في تاريخ الإسلام الحديث » . ( انظر : « تصحيح أكبر ... » إلخ )
- « سموم الاستشراق والمستشرقين في العلوم الإسلامية » .(53/10)
- « السنة النبوية » . ( 1979 )
- « شبهات في الفكر الإسلامي » ^ . ( ط: 1978 ، سلسلة : أحاديث إلى الشباب المسلم رقم 1 )
- « الشبهات المطروحة في أفق الفكر الإسلامي » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 5 ).
- « الشبهات والأخطاء الشائعة » . ( سلسلة موسوعة القرن 15 الهجري رقم 1 )
- « الشرق في فجر اليقظة .. صورة اجتماعية للعصر من 1871 إلى 1939 »^ .
- « الشعوبية في الأدب العربي الحديث » .
- « الصحافة السياسية في مصر منذ نشأتها إلى الحرب العالمية الثانية » . ( ط: 1962 )
- « الصحافة والأقلام المسمومة » . ( ط: 1980 )
- « الصحوة الإسلامية » . ( سلسلة موسوعة القرن 15 الهجري رقم 10 )
- « الطريق إلى الأصالة » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 24 )
- « الطريق إلى الأصالة والخروج من التبعية » . \\\ هل هو السابق ؟ \\\
- « طه حُسَيْن حياته وفكره في ميزان الإسلام » . ( ط: 1979 )
- « عالمية الإسلام » .
- « عبد العزيز الثعالبي رائد الحرية والنهضة الإسلامية 1879 - 1944 » . ( ط : 1984 )
- « عبد العزيز جاويش من رواد التربية والصحافة والاجتماع » . ( سلسلة أعلام العرب رقم 44 )
- « عقبات في طريق النهضة » . ( ط: 1984 )
- « على الفكر الإسلامي أن يتحرر من سارتر ، و فرويد ، و دوركايم » . ( سلسلة : في دائرة الضوء 8 )
- « العودة إلى المنابع ... دائرة معارف إسلامية » . ( ط: 1984 )
- « فَسَاد نظرية الجنس السامي واللغة السامية » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 11 )
- « الفكر الإسلامي والثقافة العربية المعاصرة في مواجهة تحديات الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي » ^.
- « الفكر البشري القديم » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 38 )
- « الفكر العربي المعاصر في معركة التغريب والتبعية الثقافية » . ( ط: 1961 )
- « الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا » .(53/11)
- « " الفلكلور " إحياء التراث الجاهلي والوثني » ^. ( ط: 1979 )
- « الفنون والمسرح » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 33 )
- « في سبيل إعادة تاريخ الإسلام » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 3 )
- « في مواجهة الحملة علي الإسلام » .
- « في مواجهة الفراغ الفكري والنفسي للشباب » . ( سلسلة في دائرة الضوء 4 )
- « قائد الدعوة ... حياة رجل ، وتاريخ مدرسة » . ( في ترجمة الشيخ حسن البنا ) ( ط: 1946 )
- « القرن الخامس عشر قضاياه وتحدياته » . ( سلسلة القرن 15 هـ رقم 5 )
- « قصة محمود تيمور » ^ . ( ط: 1951 )
- « قضايا الشباب المسلم » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 18 )
- « قضايا مثارة تحت ضوء الإسلام » . ( ط: 1984 ، سلسلة الرسائل الجامعة رقم 32 )
- « قضايا العصر في ضوء الإسلام » . ( ط: 1971 )
- « قضايا العصر ومشكلات الفكر » ^.
- « كمال أتاتورك وإسقاط الخلافة الإسلامية » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 32 )
- « كيف يحتفظ المسلمون بالذاتية الإسلامية في مواجهة أخطار الأمم » .
- « كيف يعود الأدب العربي المعاصر إلى أصالته » . ( ط: 1982 )
- « اللغة العربية بين حُمَاتِهَا وخُصُوْمِهَا » . ( ط: 1965 )
- « المؤامرة على الفُصْحَى لغة القرآن » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 19 )
- « ماذا يقرأ الشباب المسلم » . ( سلسلة : في دائرة الضوء 14 )
- « مؤلفات في الميزان » . ( مجموعة مقالات نشرت في م. منار الإسلام ، جمعت في كتاب أصدرته المجلة ).
- « محاكمة فكر طه حسين » ^.
- « محاذير وأخطار في وجه إحياء التراث والترجمة » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 15 ).
- « محمد فريد وجدي رائد التوفيق بين العلم والدين » . ( ط: 1974 )
- « المد الإسلامي في مطالع القرن الخامس عشر » ^. ( سلسلة موسوعة القرن 15 هـ )
- « المدرسة الإسلامية على طريق الله ومنهج القرآن » . ( ط: 1984 )(53/12)
- « المسلمون في فجر القرن الوليد » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 22 )
- « مشكلات العصر وقضايا الفكر » ( سلسلة : موسوعة القرن 15 هـ رقم 6 )
- « مصححو المفاهيم : الغزالي ، ابن تَيْمِيَّة ، ابن حزم ، ابن خلدون » . ( سلسلة في دائرة الضوء رقم 28 )
- « المعارك الأدبية في مصر 1914 - 1939 » . ( ط: 1985 )
- « معالم تاريخ الإسلام المعاصر » . ( سلسلة موسوعة القرن 15 هـ )
- « معالم الفكر العربي المعاصر » ^. ( ط: 1966 )
- « مَعْلَمَة الإسلام » .
- « مفاهيم النفس والأخلاق والاجتماع في ضوء الإسلام » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 26 )
- « مفكرون وأدباء من خلال آثارهم » .
- « مفهوم القومية الوافد .. سقطت نظرية ساطع الحصري » . ( ط: 1979 )
- « ( موسوعة ) مقدمات العلوم والمناهج .. محاولة لبناء منهج إسلامي متكامل » ^. ( ط: 1984 ، وما بعدها )
- « من أعلام الحرية في العالم العربي الحديث » .
- « من أعلام الفكر والأدب » . ( ط: 1964 )
- « من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 17 )
- « منهج الإسلام في بناء العقيدة » . ( سلسلة : أحاديث إلى السباب المسلم رقم : 2 )
- « موسوعة القرن الخامس عشر الهجري » . ( 11 جزء مبثوثة أسماء أجزائه في هذا المسرد ).
- « موقف الإسلام من العلم والفلسفة الغربية » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 12 ).
- « النثر العربي المعاصر في مائة عام » .
- « نحن وحضارة الغرب » . ( ط: 1984 ، سلسلة أحاديث إلى الشباب المسلم رقم 3 ).
- « نظريات وافدة كشف الفكر الإسلامي زَيْفَهَا » .
- « نظرية السامية مؤامرة على الحنيفية الإبراهيمية » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 31 ).
- « نوابغ الإسلام » . ( سلسلة موسوعة القرن 15 هـ رقم 8 )
- « هزيمة الاستشراق في ملتقى الإسلام » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 40 ).(53/13)
- « هزيمة الشيوعية في العالم الإسلامي » . ( ط: 1983 )
- « هل غير الدكتور طه حسين آراءه في سنواته الأخيرة » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 23 )
- « الوجه الآخر لطه حسين » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 25 )
- « وحدة الفكر الإسلامي » . ( سلسلة : في دائرة الضوء رقم 1 )
- « اليقظة الإسلامية » . ( ط: 1984 ).
- « يقظة الفكر العربي المعاصر » . ( ط: 1972 )
- « من أعلام الإسلام » . ( ط: 1963 )
- « الرسول الإنسان وأعلام الإسلام » . ( ط: 1956 )
- « الزعامة النبوية في تاريخ الرسول » . ( ط: 1948 )
- « الإسلام والثقافة العربية » . ( ط: 1967 )
- « شمائل الرسول وشخصيته الإنسانية » . ( ط: 1938 )
- « القومية العربية والوحدة الكبرى » . ( ط: 1962 )
- « الشعر العربي المعاصر تطوره ، وأعلامه 1875 - 1940 » . ( ط: 1963 )
- « جرجي زيدان منشئ الهلال » . ( ط: 1958 )
- « هذا هو جمال بني مُرّ إلى الجمهورية العربية المتحدة » . ( ط: 1960 )
- « أضواء على تاريخ الإسلام » . ( ط: 1957 )
- « النيل لا يتجزأ .. تاريخ الجنوب الحبيب ، ماضيه و حاضره ومستقبله » . ( ط: 1947 )
- « اخرجوا من بلادنا » . ( ط: 1946 )
- « مناورات السياسة » . ( ط: 1947 )
- « معركة المقاومة العربية » . ( ط: 1961 )
- « سقوط العلمانية » .
- « التربية وبناء الأجيال » .
- « العالم الإسلامي والاستعمار السياسي » .
- « الفصحى لغة القرآن » .(53/14)
(3)
في سبيل إعادة كتابة تاريخ الإسلام
تتعالى الصيحات في الوقت الحاضر بالدعوة إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام بعد أن تبين للعلماء والباحثين أن الصورة الموجودة الآن في أيدي شبابنا وطلبة مدارسنا وجامعاتنا والتي صنعت في ظل الاستعمار وتشكلت أولاً في هذه البلاد التي سيطر عليها ليست بالصورة المثلى، ذلك أن هذه الصورة نبتت أساساً في ظل الاحتلال بعد أن انفصلت عن الدولة الأم: الدولة العثمانية. وعن الطابع الأساسي الذي أريد لها هو أن تكون كتابات محلية خالصة: لا تستهدف كتابة تاريخ الإسلام نفسه ولكن كتابة تاريخ الأوطان، ومن ثم انحازت هذه الكتابات للأمة أو القطر أو البلد وأعلت من شأن وجوده الخاص، وتاريخه القديم، واستوحت أشد الصفحات بعداً عن الأصالة وعن الرؤيا الصحيحة، فأعلى شأن الفرعونية والفينيقية والبابلية والآشورية والبربرية والزنجية وغيرها. فإذا عرض أمر الإسلام فإنما يعرض على هون وفي أسلوب يوحي بأن الأمم أو الأقطار كانت أكبر منه وأنها حين دخل عليها أقامته وسيطرت عليه، وعَدّته بعض الكتابات استعماراً أشبه بالاستعمار الفارسي والروماني.
ويرجع ذلك كله إلى أن النظرة الأساسية التي قامت عليها كتابة التاريخ نظرة استعمارية ووافدة، وحين فتحت الأفاق لدراسة تاريخ الإسلام، درس على أنه تاريخ الدولة أو الإمبراطورية التي قامت ثم تمزقت إلى دول. وحين عرض لم يعرض إلا من خلال خلافات بعض الملوك والأمراء والحكام وصراعاتهم الخاصة.
وكان التركيز شديداً على الخلاف الأول بين الصحابة (عثمان وعلي ومعاوية). في محاولة لتفسيره تفسيراً مادياً خطيراً بأنه صراع على الحكم.
وغلبت على دراسة التاريخ مذاهب الاستشراق وهي مذاهب غربية أصلاً قامت في ظل تاريخ أوربي وغربي له تحدياته وظروفه، مثل الصراع بين الكنيسة والعلماء، وبين الأمراء والشعب، وصراع المذاهب الكاثوليكية والبروتستانتية وذلك القتال الرهيب بين الملوك والدول والأمم.(54/1)
هذا المذهب في تفسير التاريخ الذي كان مطبقاً في الغرب حاول المستشرقون نقله إلى أفق التاريخ الإسلامي رغبة في محاكمة هذا التاريخ إليه، فكان خطراً وفاسداً ومضطرباً؛ لأنه ليس متسقاً معه وليس منبعثاً من وجوده ومذاهب التاريخ والأدب والنقد وغيرها جميعاً لا يمكن أن تنقل من بيئة إلى أخرى، وإنما هي تنبع من بيئتها لأنها جزء من الثقافة الذاتية الخاصة القائمة على العقائد والتراث والعادات والطوابع العميقة للأمم.
ولكن الاستعمار ومن ورائه التغريب والغزو الثقافي فرض هذا المنهج من تفسير التاريخ على التاريخ الإسلامي فمزقه إرباً وأحاله أركاماً، فهو أولاً يدرسه مجزءاً واقعة واقعة، أو أنه يرجح رواية توافق الهوى أو أنه لا يفهم تيار التاريخ الإسلامي نفسه، هذا التيار الذي لا يفهمه إلا من يعرف منطلقه الأساسي كما رسمه القرآن الكريم وصورة الإسلام في أصوله وقيمه.
وقد استهدت هذه الدراسات بالطابع الوطني الخالص، الذي حجب عنها الصورة الكاملة للتاريخ بأبعادها حيث عجزت هذه الصورة أو تعمدت إلا تشير إلى أن هذا الوطن وهذه الدولة، ليست إلا جزءاً من الوطن الإسلامي ومن الدولة الإسلامية أساساً وأن الروابط بين الجزء والكل لا يمكن أن تنفصم؛ لأنها روابط عقدية ولغة وشريعة وتاريخ طويل وأمة وسطى جامعة لا يستطيع جزء منها أن ينفصل أو ينغلق مهما حاول ذلك أو حاوله له الاستعمار.
وفضلاً عن هذا فإن هذه النظرة الوطنية الضيقة التي جهلت مكانها كجزء من الكل، لم تتوقف عند هذا الحد، بل أنها أعلنت استعلاءها بخصائصها التاريخية القديمة أو طبيعتها الخاصة، ثم ذهبت إلى أبعد من ذلك حين أعلنت الحرب والخصومة على الأجزاء المجاورة لها وإقامة سد عالٍ بينها وبينه؛ وذلك بهدف ألا تتصل الأجزاء مرة أخرى ولا تلتقي.(54/2)
ولقد استمر هذا الاتجاه طويلاً، ثم جاءت بعد ذلك الدعوات القومية والدعوة العربية بالذات فكان لها أيضاً محاذيرها في كتابة التاريخ. فقد أخذ العرب يفصلون تاريخهم عن تاريخ الأمة الإسلامية، ويفصلون جغرافيتهم عن جغرافية العالم الإسلامي، وبدا كأنما العرب أمة قائمة بنفسها فكان لها تاريخها الخاص في الجاهلية ولم يكن الإسلام إلا نبتاً من النبات، وما تزال الأمة العربية هي الأمة العربية التي لم يغير فيها الإسلام شيئاً، ثم يجئ بعد ذلك الاستعلاء بدور العرب في الفتح والتوسع والحضارة.
وكل هذا أيضاً من آثار السيطرة الاستعمارية على التاريخ الإسلامي؛ في محاولة تمزيقه إلى تاريخ دول وأمم وإلى صبغ هذه التجزئة بالتعصب والاستعلاء العنصري.
ولذلك فقد كان من أخطر ما واجه التاريخ الإسلامي، هذه المجموعة من أتباع المستشرقين وحملة ألوية الفكر الغربي ودعاة التغريب الذين سيطروا على مجال التربية والتعليم، والذين مازالوا منبثين في عديد من الجامعات ومعاهد الإرساليات، حيث نجد الشباب المسلم يعرف عن نابليون أكثر من خالد بن الوليد وطارق بن زياد.
هؤلاء الذين يريدون تفسير تاريخنا الإسلامي في الإطار المحلي أو الإقليمي أو القومي أو الوطني؛ في سبيل إعلاء دعوة العنصرية أو العرق، مع أن الإسلام جاء ليقضي على استعلاء العنصرية والعرقية ويدعو إلى إقامة مجتمع الإخاء الإنساني العالمي.(54/3)
كذلك فإن الدعوة إلى ربط التاريخ الحديث بالتاريخ القديم السابق للإسلام جاهلياً أو فرعونياً أو فينيقياً، إنما هو دعوة إلى أمر مستحيل؛ حيث سيطر الإسلام على الساحة الفكرية والاجتماعية والروحية والنفسية وللبشرية بعد أربعة عشر قرناً وقطع الصلة بينهم وبين الماضي قطعاً لا سبيل إلى إعادته، وقد أكد علماء كثيرون غربيون أيضاً نظرية "الانقطاع الحضاري ولا استمرارية التاريخ" في هذه المنطقة، والحاجز الضخم الذي أقامه الإسلام بين الأمم وبين ما كان لها من تاريخ ودين وعقيدة وفكر من قبل.
ذلك أن ظهور الإسلام –وهو كذلك في تقدير الباحثين الغربيين المنصفين- هو علامة بارزة على بدء تاريخ العصر الحديث حتى بالنسبة لعوالم الغرب نفسه، وأن كل ما سبق الإسلام من حركات التاريخ إنما كانت تمهيداً له، فالإسلام هو الذي حمل إلى البشرية لأول مرة "الأخوة البشرية" ووحدة الجنس الإنساني ووحدة الدين ووحدة الفكر بديلاً عن الوثنية في الفكر والعبودية في المجتمع، فهو الذي حرر الفرد في الجماعة وحرر النفس من عبادة غير الله وحرر العقل بالنظر إلى الكون؛ فدفعه إلى إنشاء المنهج العلمي التجريبي قاعدة الحضارة القائمة ولم يكن يعرف منه قبل الإسلام شئ ما.
كذلك الخطر الذي نواجهه في دراسة التاريخ: وهو تاريخ إسلامي أم تاريخ عربي أم تاريخ إسلامي عربي، وفي تسمية الحضارة هل هي إسلامية أم عربية، والفتوحات هل هي إسلامية أم عربية، والعلماء والمفكرون هل هم عرب أم فرس أم ترك.
كل هذه محاولات للتزييف وإثارة الشبهات وصرف الشباب المثقف عن الحقيقة التي هي معروفة ومقررة من أن الإسلام هو الذي أعطى العرب هذه الوحدة وهذه المكانة وهو الذي دفعهم في الأرض وأن هذه الحضارة وذلك الفتح وهذا العلم كله إنما جاء من الإسلام ولولا الإسلام ما استطاع العرب أن يقتحموا الآفاق أو يقيموا حضارة ما.(54/4)
ونحن نعرف أن التراث الفكري الذي كان موجوداً قبل الإسلام سواء تراث بابل الغنوصي أو تراث فارس الوثني أو تراث اليونان المادي، إنما كان عبارة عن محاولات من البشر لتبرير رغبات الإنسان ومطامعه وأهوائه دون أن تكون قائمة على توحيد أو عدالة أو رحمة، وأن تراث الأديان نفسه كان قبل ذلك كله هو الضوء الوحيد الذي عرفته البشرية في طريقها، وأن هذا التراث قد حاولت التفسيرات الزائفة والدعوات المضللة أن تبدده وتمزقه وتخرجه عن مضمونه، حتى جاء الإسلام فألقى إلى البشرية تلك الحصيلة الضخمة البارة من العلم والفهم والإيمان والضياء؛ لإخراجهم من الظلمات إلى النور، وأن هذه الحصيلة وحدها هي التي فتحت الآفاق إلى النهضة والحضارة التي شملت أغلب أجزاء العالم إذ ذاك –هذا وإن كانت الحضارة الإسلامية قد استصفت إليها كل عصارات الفكر القديم وما وجدته صالحاً وصهرته في بوتقتها- ولم تترك إلا الزائف الفاسد.
ومن هنا فالحضارة إسلامية حقاً، وهؤلاء العلماء ليسوا غرباً وليسوا فُرساً وليسوا أتراكاً، وإنما هم مسلمون كونت عقلياتهم فكرة التوحيد وملأت نفوسهم كلمة القرآن وعمرت أرواحهم دعوة الله إلى النظر في السماوات والأرض، فكل ما أنتجوا إنما جاء من محيط القرآن والإسلام وليس من محيط بلادهم أو تراثهم، ذاك أن الإسلام إنما أعاد صياغة عقليات وقلوب ونفوس أربابه وأصحابه خلقاً جديداً فشكلهم على نمط جديد هو روح الإسلام، ومن قلب هذا الروح كان نتاجهم، ومن هنا فإن هذا التكوين النفسي والعقلي هو بمثابة الجنس والأخوة الإسلاميين.(54/5)
إن منهج تفسير الإسلام للتاريخ هو المنطلق الوحيد للنظر في التاريخ الإسلامي العربي وإعادة كتابته من جديد، فإن التاريخ المكتوب الآن واقع تحت تأثير النظرة الاستشراقية التي تغض من شأن الإسلام لحساب خلفياتها الاستعمارية، أو النظرة القاصرة التي تستمد قدرتها من العقلية الغربية المسيحية التي لم تستوعب الفارق البعيد بين العقائد والأخلاق والقيم والتي تنطلق من مصدر واحد هو أن الإسلام دين عبادي لاهوتي محض، وهي نظرية المسيحية، أو نظرة الفكر الغربي المسيحي التي لا تعترف بأن الإسلام إنما هو نظام اجتماعي ومنهج حياة أصلاً وأن الدين بمعنى العبادة واللاهوت جزء منه.
فالغربي ينطلق من قاعدة أن الدين لله وأن المجتمع بكل شرائحه الاجتماعية والاقتصادية السياسية يخضع لنظريات بشرية وأيدلوجيات يصنعها الفلاسفة وليس كذلك الإسلام: الإسلام الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ليكون منهج حياة لهذه الأمة التي شرقت وغربت ووصلت إلى حدود نهر اللوار في فرنسا وإلى أسوار فينا في قلب أوربا والتي يشمل ضياؤها ذلك المدى الممتد من الصين إلى غرب أوربا، ومن هنا تبدأ القاعدة التي تقوم على التفسير الإسلامي للتاريخ.(54/6)
فهل آمن دعاة إعادة كتابة التاريخ بهذه القاعدة الأصولية، أن عليهم أن يعلنوا ذلك صراحة وأن يلتزموا ذلك في كتابة أبحاثهم على أن يختار لهذا العمل كل من آمن بالإسلام وعاش له وامتلأت نفسه إيماناً بصدقه وبقدرته على تغيير حياة المسلمين ودعوتهم إلى القوة والعزة من جديد؛ ذلك لأن التفسير الإسلامي للتاريخ يؤمن بأن هزيمة المسلمين في السنوات الماضية وتقلبهم بين الغزو والنكسة والنكبة واقتطاع فلسطين وبيت المقدس، كل هذا إنما جاء ثمرة (التحول) الخطير الذي دفعهم إلى نفض أيديهم من مناهج مجتمعهم ونظام حياتهم الأصيل القرآني المصدر الرباني الأساسي، إلى التماس مناهج الأمم، هذه المناهج البشرية سواء منها الغربية أو الماركسية وأن هذا التفريط في منهجهم هو الذي ألقى إليهم هذه الهزائم والنكبات وأنه لا خلاص لهم مما هم فيه من هزيمة وتخلف إلا بالعودة مرة أخرى إلى التماس منهجهم الأصيل والاستمداد من النبع الأول: القرآن الكريم.
وأن هذه الظاهرة قد تكررت خلال تاريخهم مرات ومرات، فهم كلما نفضوا أيديهم من منهج القرآن ضربهم الله بالذل حتى يعودوا إليه (سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً).
ذلك تفسير حركة التاريخ الإسلامي بين النصر والهزيمة.
كذلك فإن هناك ملحظاً أساسياً لابد من تقديره هو أن هناك فرقاً بعيداً وبوناً شاسعاً بين "المنهج" وبين "الواقع": بين المنهج الرباني الذي جاء به الإسلام والذي لا يتخلف ولا يتعثر والذي يحمل في تضاعيفه أسباب النصر والقوة ووسائل الهزيمة والتخلف.
وبين الواقع التاريخي الذي عاشه المسلمون والذي هو التاريخ الإسلامي ولا يمكن أن يكون التاريخ الإسلامي حجة على المنهج أو مثاراً لتوجيه الشبهة إليه، بل على العكس من ذلك: أن المنهج هو الحجة لأنه هو عنصر الثبات وهو القوة التي يستمد منها المسلمون أسباب حياتهم وطريق عيشهم. فالمسلمون حين ينحرفون عنها تقع الأزمة وتبدأ عوامل الهزيمة.(54/7)
وتاريخ الإسلام فيه النصر وفيه الهزيمة وكلاهما يرد إلى تطبيق المنهج أو التخلف عنه.
وفي تاريخ الإسلام الذي يعرض الآن ويقدم لأبنائنا زيف كثير لأنه يحاول أن يعلي شيئاً كثيراً من الروايات الباطلة في سبيل إثارة جو من الخصومة والخلاف بين الفرق المختلفة أو الأحزاب والدول، وذلك مما فرضه الاستعمار والاستشراق حتى يحتقر المسلمون تاريخهم وتضعف مكانته في نفوسهم.
وكذلك فإن هناك ازوراراً كبيراً عن المواقف الحاسمة والبطولات الضخمة، وذلك حتى لا ينبهر المسلمون بعظمة أجدادهم، ولا يعرفون حقيقة الدور الذي قاموا به في بناء الحضارة.
وكذلك فإن هناك ازوراراً كبيراً عن المواقف الحاسمة الاجتماعي آثاراً في التاريخ ولكن ليس لأحدهما أن يفترض أنه وحده العامل المؤثر؛ وإنما هي في مجموعها عوامل ذات أثر بدرجات متفاوتة، وهناك عامل آخر له أهميته ولا ينفصل أبداً في دراسة تاريخ الإسلام هو عامل العقيدة والوحي والنبوة، وإرادة الله العليا التي تتحرك من داخلها إرادة الإنسان والتي تفرض وجودها على حركة الكون كله.
وبعد فإننا نتطلع إلى إعادة كتابة تاريخ الإسلام بحرص كبير ونأمل من الغيورين أن يكونوا عوناً لأمتهم لتخرج من دائرة سيطرة الاستشراق والتغريب والغزو الثقافي.
(2)
إن المحاولة التي جرت منذ وقت بعيد في سبيل تفسير الإسلام (حركته ودعوته) تفسيراً مادياً صرفاً لا ريب تعجز أشد العجز عن أن تقول الكلمة الفاصلة؛ لأنها تعجز عن أن تستوفي الأبعاد المختلفة، والجوانب المتعددة، حين تضع بينها وبين الحقيقة حجاباً، هذه الحقيقة الممثلة في العوامل النفسية والمعنوية والروحية والفكرية وهي عوامل أشد أثراً وأبعد عمقاً وأكثر أهمية من الجانب المادي الواحد الذي هو أحد جوانب التفسير لا محالة ولكنه ليس واحدها وليس أكبر أهمية.(54/8)
إن التفسير المادي أو الاقتصادي للتاريخ الإسلامي إنما يحاول أن يواجه البحر بإناء من ماء، أو الجنة الفيحاء بفسيلة من حطب.
لقد حاولت كتابات كثيرة في السنوات الأخيرة أن تتمثل الإسلام وكأنه ثورة الفقراء ضد الأغنياء فحسب، والحق أن الإسلام ليس ثورة موقوتة ولكنه حركة شاملة من حيث الزمن ومن حيث المضامين لتغير أشياء كثيرة: تغيير المجتمع وتغيير النفس وتغيير الأخلاق وتغيير الاقتصاد.
ومن هنا فإن الإسلام ليس هو التفسير الاقتصادي وليس محمد صلى الله عليه وسلم هو المصلح الاجتماعي أو رسول الحرية، وليس يكفي حين يذكر أن تورد شطر الآية الكريمة (قل إنما أنا بشر) فهذا تزييف؛ فإن الآية تقول (قل إنما أنا بشر يُوحَى إليّ أنَّما إلهكم إلهٌ واحِد).
لقد جاءت كتابات التفسير الاقتصادي ثم المادة متباينة حذرة في (على هامش السيرة وفي الفتنة الكبرى) ثم اتسعت بعد ذلك في (محمد رسول الحرية)، ونمت شبهاتها حتى لقد حرص الكثيرون على أن يربطوا بين هذه الآثار على ما بينها من فروق في الزمن واختلاف في المصادر والموارد، في إدعاء كاذب بأن مثل هذه الكتابات قد حاولت أن تعتمد على الوقائع لا على الخوارق، وقد ظن أصحابها أن المعجزات يمكن أن تسلك فيما يوصف في الغرب بأنه أساطير، ولا ريب أن لرسول الله معجزات غير القرآن، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يجد الطريق سهلاً إلى رسالته ولم يجد العرب مستعدين للنهضة فنهض بهم -كما يردد البعض- ومن هنا فإنه في نظرهم لم يكن في حاجة إلى معجزات أو خوارق.
ولا ريب أن هذا الادعاء باطل وأن وقائع حياة رسول الله بعد بعثته إلى هجرته خلال ثلاثة عشر عاماً تكشف في وضوح مدى المعاناة والظلم والاضطهاد في عشرات الصور والمواقف، مِما يدهش معه أي باحث كيف واجهت قريشاً والعرب دعوة التوحيد وقاومتها.(54/9)
ومن هنا نعجب من قول أحدهم حين قال: "ومحمد بهذا ليس في حاجة إلى خارقة تعينه على إقناع الناس بما يقول؛ لأنه بما يقول إنما يستجيب لآمال الناس وأحلامهم".
ولقد تردد هذا القول قديماً في (النثر الفني) وفي بعض كتابات (الشعر الجاهلي) وغيره، وهو من زيف المستشرقين الذين يهدفون به إلى التقليل من عظمة الرسالة الإسلامية.
ولقد واجه العلامة فريد وجدي مثل هذه الشبهة حين قال: "إن قريشاً وهي أرقى القبائل لغة وفهماً ومكانة لم تقبل دعوة النبي إلا رجالاً ونساءً لا يزيد عددهم على بضع عشرات. ولو كانت قريش أقرب العرب إلى الحضارة لقبلت دعوة محمد بصدر رحب وأحلتها المكان اللائق بها ونهضت تحت قيادته لجمع كلمة القبائل وإبطال دينهم.
"إن اتباع النبي الأولين اضطهدوا اضطهاداً شديداً حتى هاجروا إلى بلاد الحبشة، وأن الجاهلين كانوا يهزءون بالدعوة للدين وبالداعي إليه، وأن النبي لبث على هذا الحال من الاضطهاد ثلاث عشرة سنة، ولما أنست قريش من النبي الهجرة قررت قتله وأرصدت له، ولما علم أهل مكة بأفلاته اقتفوا أثره، كل هذا ينطق بلسان فصيح أن قريشاً وهي مظنة النجابة والفهم من العرب في ذلك العهد لم تكن (وقد استعدت للملك بعد تطورات عديدة) فإن المجتمع الذي يقاتل الداعي للتجديد والنهوض بهذا النفور ويصبر عليه ثلاثة وعشرين سنة لا يزداد بعدها إلا عناداً وتشدداً لا يمكن أن يوصف بأنه مجتمع كان مستعداً للنهوض وأنه سرعان ما نهض مع النبي صلى الله عليه وسلم ..
كذلك فإن قريشاً لم ترفض الإسلام لأنه يقضي على نفوذها الاقتصادي وحده، ولكنها كانت تعلم أنه قضاء على كيانها الفكري والاجتماعي والديني جميعاً.(54/10)
ومن هناك كان خطأ القائلين بالتفسير الاقتصادي، ذلك أن الأديان السماوية إنما تغير المجتمع كلية ومن الأساس، وهي حين تقصد أول ما تقصد فإنما تبني النفس الإنسانية وتشكلها تشكيلاً جديداً فيه صمود وصبر وقدرة على مواجهة الاضطهاد واحتمال البلاء وتهيئها لعمل كبير توهب فيه الأرواح والنفوس ويجل عن المعاني المادية.
ومن هناك كانت دهشة المستشرقين وغيرهم لعظمة الفتح الإسلامي الذي صنعه هؤلاء الذين بناهم محمد في خلال ثلاثة عشر عاماً في مكة وغير بهم الدنيا كلها وليس جزيرة العرب وحدها، لقد نظروا إلى هذا الفتح الذي تم في خلال بضع وسبعين سنة على أنه معجزة لم تفسر: نعم كانت تعرف قريشاً أن معارضة محمد لهم لن تفقدهم نفوذهم الاقتصادي ولكنها ستلغي كيانهم إلغاءً كاملاً بكل فكره وماضيه ومواقفه الاجتماعية والأدبية.
إنه تغيير جذري ليس الاقتصاد إلا جانب منه، تغيير في نظام الموءودة وزواج الأخت في العلاقة بين الأهل وفي القضاء (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا: اعدلوا هو أقرب للتقوى)، كان القوي إذا أذنب تركوه وإذا أذنب الضعيف أقاموا عليه الحد، الله تبارك وتعالى هو المشرع، تجريد الفرد من سلطانه ومن الخضوع لمقاييس الهوى، مقاييس جديدة ربانية لكل الأمور.
موقف جديد بالنسبة للقيم الكبرى: الحرب والعلم والكرم، فهي ليست موجهة للظهور أو الاستعلاء أو الجاه؛ ولكنها موجهة لله وحده، شعار لا إله إلا الله يغير المجتمع كله ويغير النفس الإنسانية على مختلف المستويات الدينية والاجتماعية والفكرية والنفسية والأخلاقية، ليست حركة طبقة ضد طبقة، ولا ثورة الفقراء على الأغنياء؛ فقد اشتركت فيها الطبقات واشترك فيها الأغنياء والفقراء، وخرج الأغنياء عن مالهم، وخرج الأبناء عن آباءهم وأنكروا ترفهم وفجورهم.
ويبدو ذلك واضحاً في لقاء المشركين للنبي:(54/11)
إن كنتَ تريد ملكاً ملكناك علينا. وإن كنتَ تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً. وتكون إجابة الرسول هي منطلق تفسير الإسلام: (والله يا عم: لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه: ما تركته).
ولم يكن موقف الرسول موقف المزايدة أو الموائمة أو الالتقاء في منتصف الطريق؛ بل كان حاسماً وكان رفضه لقيم المجتمع القديمة صريحة، أما ما أقره الإسلام من قيم الجاهلية، فكان من أنقاها، وتلك هي بقايا دين إبراهيم مِما لا يتعارض مع التوحيد.
وكان أبرز ما في دعوة الإسلام بناء الرجال على الصمود والصبر والجلد وعزلهم عن مجتمع الجاهلية بمختلف ألوان فجوره، حيث أجرى الإسلام تغييرهم من أعلى الرأس إلى أخمص القدم (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
كانت دعوة الإسلام مفاصلة بين الله وحده وبين الأهل والولد ومتاع الحياة كله، ولذلك فإن عدد الداخلين فيها كان قليلاً، وكانت المحن تتوالى لتصفية هذا القليل ودحر صلابة عوده.
كان الإسلام يستهدف بناء إنسان في سبيل فكره، ليس له في الدنيا نهمة ولا مطمع إلا أن يقدم روحه خالصة لله.
ومن هنا تعجز مقاييس التفسير المادي للتاريخ أو التفسير الاقتصادي للتاريخ أن تحيط بذلك كله وأن تعرف الفرق بين هذه القيم المعنوية التي لا تقاس بالمقاييس المحسوسة.
وإذا كانت هذه القيم المعنوية لا تقاس؛ لأنها ليست مادية محسوسة، فإنها تستطيع أن تكشف عن نفسها بآثارها، إن آثارها التي أنتجتها والتي يقف أمامها أصحاب المنهج المادي واجمين عاجزين هو الدليل عليها.
"ليس من المنهج العلمي الحق أن ينكر وجود القيم المعنوية أو الروحية أو النفسية لمجرد أنه لا يمكن أن يلمسها أو يراها، كما تلمس أو ترى الأشياء المادية فإن الأثر الذي تحدثه ينهض دليلاً محسوساً على وجودها".(54/12)
إن المقاييس المادية والاقتصادية لتعجز أن تفسير كيف يبكي العائدون من الغزوات لأنهم لم يستشهدوا، ولا الذين لقوا لآبائهم في صفوف الكفار فقتلوهم، ولا الذين هاجروا وتركوا أموالهم وأولادهم واستأنفوا حياتهم في المدينة بدينار اقترضوه، ولا يستطيعون أن يفسروا كيف تنكسف الشمس يوم موت إبراهيم بن النبي، ثم يقف النبي فيعلن أن الشمس لا تنكسف لموت أحد، أو أن يقف النبي في حجة الوداع فيقول أنه يلغي كل الربا ويضعه، وأول ربا يضعه تحت قدميه هو ربا عمه العباس بن عبد المطلب"، أو يقول "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها"، أو أن توضع الحجارة المحماة على صدر بلال فلا يزيده ذلك إلا أن يقول: أحد أحد.
كل هذا يعجز عن تفسيره المذهب المادي والمذهب الاقتصادي.
لقد كانت دعوة الإسلام شاملة تعجز عنها تفسيرات مذاهب الماديين، ويصدق في هذا نموذجان من القول:
أما أحدهما فقول فيليب حتي:
"لم يسجل التاريخ أن رجلاً واحداً سوى النبي محمد كان صاحب رسالة، وباني أمة ومؤسس دولة، هذه الثلاثة التي قام بها محمد كانت في نشأتها وحدة متلاحمة لا يمكن أن تنفصم الواحدة منها عن الأخرى، وكانت إلى حد ما متوافقة يشد بعضها أزر بعض، وكان الدين من بينها على مدى التاريخ القوة الواحدة، وكان أبقاها زمناً حتى إذا رحت تعد الناس في العالم اليوم وجدت أن السابع أو الثامن منهم يدعو نفسه مسلماً".
أما النص الثاني فهو قول: الأستاذ تريتون في كتابه "الإسلام عقيدته وعبادته":(54/13)
"إذا صح في العقول أن التفسير المادي يمكن أن يكون صالحاً في تعليل بعض الظواهر التاريخية الكبرى وبيان أسباب قيام الدول وسقوطها، فإن هذا التفسير المادي يفشل فشلاً ذريعاً حين يرغب في أن يعلل وحدة العرب وغلبتهم على غيرهم وقيام حضارتهم واتساع رقعتهم وثبات أقدامهم. فلم يبق أمام المؤرخين إلا أن ينظروا في العلة الصحيحة لهذه الظاهرة فيرى أنها تقع في هذا الشيء الجديد: ألا وهو الإسلام" ..
ويقول ولفرد كانتول سميث في موقف الأمم المختلفة من تفسير التاريخ:
"الرجل الهندي لا يأبه للتاريخ ولا يحس بوجوده؛ فالهندي مشغول بعالم الروح ومن ثم فكل شيء في عالم الفناء المحدود لا قيمة له عنده ولا زون، أما المسيحي فيعيش بشخصية مزدوجة أو في عالمين منفصلين لا يربط بينهما رباط والمثل الأعلى عنده غير قابل للتطبيق والواقع البشري المطبق في الأرض منقطع عن المثل الأعلى.
أما الماركسي فهو قوي الإيمان بحتمية التاريخ، بمعنى أن كل خطوة تؤدي إلى الخطوة التالية، فهو لا يؤمن إلا بهذا العالم المحسوس، بل لا يؤمن إلا بالمذهب الماركسي وكل ما عداه باطل، والماركسي يتبع عجلة التاريخ ولكنه لا يوجهها.
أما المسلم فإنه يحس بالتاريخ إحساساً جاداً، إنه يؤمن بتحقيق ملكوت الله في الأرض، يؤمن بأن الله قد وضع نظاماً واقعياً عملياً يسير البشر في الأرض على مقتضاه، ويحاولون دائماً أن يصوغوا واقع الأرض في إطاره. ومن ثم فهو يعيش كل عمل فردي أو جماعي، وكل شعور فردي أو جماعي بمقدار قربه أو بعده من واقع الأرض لأنه قابل للتحقيق" ..
(3)
خطأ التفسير المادي لحياة الرسول
هناك محاولة مستمرة منذ أربعين عاماً تحاول أن تفسر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام وتاريخ الإسلام تفسيراً اقتصادياً أو مادياً، وهي ترمي من ذلك إلى أن تجعل من حياة الرسول بطولة عربية أو بطولة إقليمية أو بطولة أمة أو عبقرية أو دعوة إلى الحرية.(54/14)
بدأت هذه المحاولات بكتابات عن حياة الرسول مجردة من المعجزات، محاولة أن تفسر جوانب الوحي وما يتصل بكثير نواميس الكون وقوانينه تفسيراً مجازياً أو منامياً، أو غير ذلك، ثم اتسع نطاق هذه المحاولات فوصفت حياة الرسول بأنها بطولة أو زعامة، ولا ريب أن الهدف من نفي النبوة هو مقدمة لنفي الألوهية.
وأن الهدف من نفي النبوة هو إنكار الوحي وبالتالي إنكار رسالة السماء جملة ومن هنا جاءت المحاولات المتعددة لوصف البطولة الإنسانية ووضع مقوماتها على نحو مختلف كل الاختلاف عن النبوة التي يختار الله تبارك وتعالى من يشاء لها من عباده ويعده في الأصلاب والأرحام جيلاً من بعد جيل.
1- فإذا تقررت في نظر الناس قوانين معينة للبطولة الفردية البشرية أمكن الطعن في النبوة؛ لأن هذه القوانين لا تتفق مع تقديرات الله التي تعلو على القوانين وتأخذ طابع المعجزات.
فالبطل في النظرية المادية، لابد أن يصدر عن أسرة موسرة، وعن ثقافة عالية، وعن أبوة حكيمة، أما بيئات الفقراء والأيتام والأميين فهي لا تصلح لإخراج البطل.
بينما تنقض النبوة هذه النظرية المادية نقضاً كاملاً وتكشف عن كذبها وتضليلها وتكشف عن قدرة الله في إغناء النبي بعد فقره وتعليمه وهدايته بعد أمية وإيوائه بعد يُتم، وفي هذا معنى المعجزة الإلهية التي تنكرها نظرية البطولة الغربية الوافدة.(54/15)
2- والإسلام يقرر المعجزة، وهي الأمر الخارق الذي يحصل على يد نبي مرسل؛ تأكيداً لصدق نبوته، وليس في المعجزات منافاة للعلم المادي؛ وإنما هناك قصور من أجهزة العقل والإدراك عن معرفة الأسباب التي انعقدت لها المعجزة، فضلاً عن إيمان المسلم بأن الله تبارك وتعالى هو صانع السنن والنواميس والقوانين وهو وحده القادر على خرقها على النحو الذي كشفت عنه الكثير من المواقف مع الأنبياء، كالولادة لهم بعد سن الكبر للرجال واليأس للزوجة، والولادة من غير أب كما حدث للسيد المسيح عيسى بن مريم، وكتجريد النار من خاصية الحريق كما حدث لسيدنا إبراهيم، أو تجريد الخنجر من خاصية الذبح كما حدث لسيدنا إسماعيل، وهكذا، وتعرف المعجزة في علم المصطلحات الإسلامية بأنها حقيقة تخالف القواعد العامة وتعارض المجرى العادي للحوادث، وسببها فوق إدراك البشر، وهي حقيقة تتحدى كل مَن يرتاب فيها.
وفي مقدمة المعجزات معجزة القرآن فهي معجزة قائمة أبد الدهر، تمتاز عن معجزات الرسل والأنبياء بأنها باقية، ومعجزة القرآن إنما تمثل في مطابقته الدائمة لحقائق الماضي والحاضر والمستقبل، وصدق تحدياته للبش في عجزهم عن معارضته، حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وفي الآيات التي أثبتتها ما تزال قائمة، تعجز الملوك والدول والأمم عن مواجهتها. وما تزال قائمة، تعجز الملوك والدول والأمم عن مواجهتها.
3- من ناحية أخرى فإن النبوة ضرورة أساسية للحياة البشرية وبناء الإنسان الفكرى والاجتماعي؛ فهي التي تحسم عشرات القضايا المصيرية التي تبقي بلا جواب عندما تقوم الريبة والشك في حقيقة الوحي.
إن الوحي هو الذي يضع النقاط على الحروف في تلك الشبهات التي تثير عوامل القلق والتمزق والصراع النفسي الذي يواجه الآن مجموعة الأمم التي ألحدت وفصلت ما بينها وبين نور الله.
4- إن عجز العقل عن فهم الغيبيات وما يتصل بها يكشف عن ضرورة الوحي والنبوة، فالعقل غير كاف وحده وغير قادر وحده.(54/16)
"والوحي يعاضد العقل ويؤكد حكمه ويجعله موثوقاً فيما يصل العقل إلى معرفته فيكونا دليلين على مدلول واحد يرشد العقل ويهديه فيما لا يستقل بمعرفته مثل المعاد ويكشف عن وجود الأشياء التي لا يدرك العقل كنهها ومنهجها".
وقد التقى الوحي والعقل في القرآن لأول مرة في الفكر الإنساني والإسلام وأهله يؤمنون بأن المعرفة الإنسانية ليست قاصرة على معطيات الحس، وعلى حد تعبير الشيخ محمد عبده وقد نقلناه عنه "قد يعرص الدين شيئاً يتجاوز حدود الفهم، ولكن لا يعرض شيئاً يتجاوز حدود الإدراك مطلقاً".
5- ولقد امتدت النظرية الوافدة في البطولة والوحي والنبوة إلى القول بأن القرآن انطباع في نفس محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو ليس كذلك أبداً؛ فهناك فارق واضح وعميق بين كلام النبي محمد ونظم القرآن الكريم يعرفه أهل البيان واللغة ويعرفون أبعاده ومداه.
وليس صحيحاً أن القرآن فيض من العقل الباطن في محاولة دعوة الإشادة بعبقرية محمد وألمعيته وصفاء نفسه، ولا ريب أن لمحمد كل صفات السمو النفسي، ولكنه وصفه بالنبي نسبة إلى الوحي الإلهي هي أكبر معطياته.
ومثل هذا القول إنما يرمي إلى محاولة خادعة لقطع الصلة بين المسلمين والقرآن؛ فإنه إن كان كلام محمد كان من عمل البشر.
وبذلك يفقد معناه الأسمى وجلاله الأعظم ويفقد "ثباته" الذي يعطيه تلك القدرة الضخمة على أن يكون الأساس الذي يرتبط به كل فكر والقاعدة التي يمتد عليها كل بناء والإطار الذي تجري فيه كل حركة، وهناك أدلة كثيرة تدحض هذه الدعوة، وأبسطها "أن محمداً كان أمياً لا يقرأ ولا يكتب، فمن الذي أطلعه على أن ما في القرآن مصدق لما في التوراة" "وكان علمه بشئون قومه لا يزيد على علم غيره" فمن الذي أطلعه على تاريخ الأمم وقصص الأولين.
(وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطِلون).(54/17)
6- ولقد جلى الباحثون المسلمون ظاهرة الوحي: وأكدوا "أنها ليست ظاهرة نفسية داخلية تنبعث من كيانه صلى الله عليه وسلم؛ وإنما هي حقيقة خارجية عن ذاته استقبلها من خارج كيانه، كما ينطق بذلك حديث بدء الوحي ومشاهد أخرى"(1).
"وإنما رأى محترفو الغزو الفكري في (ظاهرة الوحي): المنبع الأول للحقائق الدينية والكليات الاعتقادية ورأوا أنهم إذا استطاعوا تكدير صفاء هذا المعين الأول أمكنهم تكدير صفاء كل ما يتفرع منه واقتحام أسباب الدس والتشويش عليه.
"من أجل هذا زعم بعضهم أن الوحي في حياته صلى الله عليه وسلم إنما كان نوعاً من الإلهام الخفي، وزعم آخرون أن ذلك كان إشراقاً روحياً معيناً وأصرت جماعة أخرى على أنه كان يصاب بالصرع".
"والعجيب الرائع حقاً في حياته صلى الله عليه وسلم أن أمر الوحي له قام على أسس وحقائق تصفع هذه الأوهام صفعات تلقيها في متاهات الحمق والجنون".
7- ولقد تواجه الفلسفات الغربية حقيقة النبوة وظاهرة الوحي فتصفها بأنها وصاية على الإنسان الذي بلغ رشده وأصبح في غير حاجة إلى وصاية ما.
وذلك قوة من الزيف المسرف في إحسان الظن بالبشرية.
__________
(1) راجع كتاب "قصة السيرة" للدكتور محمد سعيد البوطي.(54/18)
فهل استطاعت البشرة حقاً بعد هذا الزمن الطويل الذي قطعته(1) أن تكون راشدة، الواقع الذي تثبته وثائع التاريخ وأحداث الزمن أن البشرية ما زالت عاجزة عن حماية نفسها من المطامع والأهواء والحروب والمذابح والمظالم، بل لعلها قد بلغت بفضل تقدم العلم قدراً أكبر فهي التي تمضي في تهديد الأمم الضعيفة بقوى الذرة والتكنولوجيا، ولم يستطع تقدمها العلمي أن يرد إليها شيئاً من الإيمان أو العدل أو السماحة أو الارتفاع فوق الأهواء. ولذلك فهي لازالت في حاجة إلى رعاية رسالات السماء وفد أشد الحاجة إلى الوحي والنبوة، لقد تقدم الإنسان في مضمار السباق العلمي، ولكنه عجز عن فهم نفسه وحماية كيانه من المطامع وما تزال أهواؤه تحول بينه وبين توجيه هذه المعطيات لخير الإنسان.
ومن الحق أن يقال أن الإنسان لم يزل بعد عاجزاً عن أن يكون أميناً على نفسه أو جنسه ولن يستطيع ذلك إلا إذا آمن بالوحي والنبوة.
8- في ضوء هذا كله ننظر إلى تلك المحاولات التي جرت في تزييف سيرة الرسول:
أولاً: بإضافة الأساطير القديمة في (هامش السيرة).
ثانياً: بإنكار أن الإسراء كان بالروح والجسد في (حياة محمد).
ثالثاً: إنكار النبوة والوحي في (محمد رسول الحرية).
رابعاً: وصف النبي بالعبقرية دون الرسالة في (عبقرية محمد).
ولا ريب أن أبلغ أخطاء وصف النبوة بالعبقرية إنما هو في تعميم هذه الصفة على شخصيات أخرى لم تنفرد بالنبوة مما تجعلها تبدو كأنها محاولة إلى فرض مفهوم البشرية على الرسول الذي تفرد بالعصمة والوحي وامتاز بهما عن سائر صحابته.
__________
(1) بتصرف من بحث للأستاذ محمد المجذوب.(54/19)
ولا ريب أن العبقريات وقعت تحت سلطان الفكر الغربي الذي تشكل الكاتب في أحضانه ثم نفذ منه إلى دراسة الإسلام دون أن يقدر مدى الفارق الدقيق والعميق بين ذاتية الإسلام في مفاهيمه ومناهجه والعوامل التي شكلت أهله، ولم يلتفت أيضاً إلى تميز النبوة الوافر، فالنبي في (عبقرية محمد) إنسان له مواهب وملكات منفصلة تماماً عَن وحي السماء. وحين تجري مقارنته بنابليون أو غيره لا يلتفت تماماً إلى اختلاف النوع وانعدام الصلة حتى ليبدو إغفال الوحي إغفالاً كاملاً في دراسته. ولم يرد إعجاب المسلمين بالرسول وحبهم له دون حدود إلى الإسلام نفسه وإنما رده إلى شخصية الرسول.
يقول غازي التوبة في دراسته عن العبقريات: "فلو اقتص دخول المسلمين على إعجابهم بشخص الرسول وحبهم له وافتنانهم به لانتهت الدعوة الإسلامية بوفاة الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد فاته ريثما يزول سحر الافتتان، ولكن الدعوة الإسلامية استمرت قروناً طويلة؛ وما ذلك إلا لملاءمة الإسلام للفطرة البشرية التي انجذبت إليه في زمن الرسول ثم استمر الانجذاب في الأزمان التالية".
9- وغاية القول أن اعتماد كتابنا العرب والمسلمين في النظرة إلى النبوة والبطولة في ضوء تفاسير غربية إنما يحجب عنهم شيئاً كثيراً من الحق.
ذلك أن الغربيين عن طريق مفاهيم عقائدهم وفكرهم لا يفرقون بين الألوهية والنبوة، بينما نحن نفرق بينها تماماً.
كذلك فهو يرى أن الكتب المقدسة كتبها الرسل، ونحن نؤمن بأن الكتاب المنزل هو وحي من الله وليس من عمل النبي.
كذلك فهم يعيشون في إطار مفهوم الوثنية اليونانية القائمة على عبادة البطولة ورفع الفرد إلى مصاف الآلهة وأنصاف الآلهة. بينما يقصر المسلمون العظمة كلها والعبودية كلها لله سبحانه وتعالى.
كذلك فهم يجسدون البطولة في تماثيل، بينما لا يؤمن الإسلام بتجسيد البطولة ويركز مفهوم تقديرها في توجيه العمل البطولي نفسه خالصاً لله.(54/20)
وقد رفض رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قبل من أن الشمس كسفت لموت ابنه، واتخذ عمر من الهجرة مبدأ للتاريخ الإسلامي ولم يجعله شبيهاً بالأديان الأخرى حين اتخذوا مولد أنبيائهم.
10- أن أخطر ما استُدرج إليه الكتاب المسلمون والعرب من التبعية للمناهج الغربية في تقدير البطولة أو تفسيرها ذلك الاتجاه نحو الوراثة والطبائع الفردية، بينما يقوم منهج تفسير البطولة الإسلامي على تقدير الأثر الخطير الذي تُحدثه التربية والعقيدة في توجيه الإنسان وتحويله من حال إلى حال، ومن هنا يبدو خطأ الاعتماد على رأي لونبروزوا ومدرسته في تكوين البطل أو العبقري، ومن التعسف البالغ رد عظمة أبي بكر وعمر إلى ملكاتهم دون تقدير أثر الإسلام في تغيير النفوس وإعادة تشكيلها مرة أخرى.
لا ريب أن العقيدة الإسلامية هي التي حولت هذه الشخصيات وأعادت صياغتها من جديد في ضوء التوحيد وأخرجتها من شخصيتها القديمة وأن أي مقارنة بين حياة عمر قبل الإسلام وبعده تكشف عن ذلك بوضوح، كذلك يبدو هذا في نماذج أقل بطولة: يظهر ذلك في تحول الخنساء مثلاً.
ومن الحق أن يقال أن هذا الزيف في فرض منهج أو مذهب في تفسير النبوة على أنها بطولة أو عبقرية أو دعوة إلى حرية؛ إنما هو من أعمال الأيدلوجية التلمودية التي تهدف إلى تدمير قيم الوحي ورسالات السماء.
أنور الجندي(54/21)
البطولة في تاريخ الإسلام – 21
الأستاذ أنور الجندي
في تاريخ الإسلام تتكشف البطولة في ثلاثة أبعاد:
- بطولة الحرب والمقاومة ورد الغزاة.
- بطولة الفكر وتصحيح المفاهيم.
- بطولة بناة الدول في مجال الحضارة.
وهي بهذا تكاد تسيطر على تاريخ الإسلام كله للذي يجري في هذه الأبعاد الثلاثة، والواقع أن الإسلام قد رسم أيديولوجية جديدة لها طابعها الخاص، تتسم بالإيمان بالله وقوامها الجهاد في سبيل كلمته وإقامة حياة الفرد والجماعة على أساس العمل المتقدم البناء في مجال الإنشاء والحضارة، ونم خلال هذا المفهوم تتمثل النظرة إلى الحياة والمال والموت والجزاء
ومن هنا برزت "البطولة" التي تمثلت في شخصيات نموذجية أهدت حياتها لتحقيق رسالة الإسلام في الدعوة إليه والدفاع عنه وتصحيح مفاهيمه ورد عادية خصومه عن قيمه وعن أرضه.. ومن هنا كان مفهوم "الجهاد" لا يتوقف على الحرب وحدها وإنما يتسع نطاقه حتى يشمل مجال النشاط الإنساني كله ما دام هدف الحياة الإنسانية الأساسي هو تحقيق رسالة الإسلام ودعوته.
هذا هو التغيير الخطير الذي أدخله الإسلام على مفاهيم الأمة التي بزغ فيها ضوؤه وهي أمة مهيأة بالفطرة لتقبل رسالة عظمى كهذه الرسالة ولما كانت حركات التاريخ كلها تتمثل في أمم وجماعات تكون بطبيعتها معدة إعداداً نفسياً وبيئياً ووراثياً لحمل رسالة معينة، فإنه من خلال هذه الجماعة تبرز بطولات الأفراد التي تخطو بالعمل خطواته المنوالية.(55/1)
كذلك فإن الأمة العربية بطبيعة تكوينها وبيئتها ووراثياتها، وهي تعيش في هذه الجزيرة الضيقة المنعزلة عن حضارة الرومان وحضارة الفرس والتي بعدت عن عبور الغزاة وحركات الغزو ومعارك القتال وتيارات الحضارة والفكر والمذاهب والأديان، إنما كانت معدة بذلك إعداداً خاصاً لتلقي رسالة ضخمة إنسانية عالمية تحمل لواءها بكل هذه العوامل المكونة لنفسية جماعتها وأفرادها، وقد التقى مفهوم الإسلام بطبائع العرب. فتحقق بذلك تحول خطير في قيم العرب وفق مقاصد الإسلام، وقد حدث هذا التحول الخطير في دقة ويسر.. واستطاعت أعوام لا تزيد على نيف وعشرين عاماً هي حياة الرسول محمد بن عبد الله منذ بعثته إلى وفاته، أن تحقق هذا التحول.. فقد عرف العرب بالشهامة والكرة والقوة والعزم والمقاتلة والصبر والصمود والبذل. وتلك كلها صفات يرتضيها الإسلام.. غير أنها قبل الإسلام كانت موجهة في بسيل الغاية الفردية. والاستطالة والثأر. والاستعلاء والظلم. فكان أن حولها الإسلام إلى مفهوم إنساني رفيع، وجعلها في سبيل تحقيق هدف ومن أجل غايات عليا قوامها الإنسانية والتوحيد والعدل والحق والحرية، وأحاطها بسياج متين من الضوابط، فعدل اتجاهها وبالتالي عدل اتجاه النفس الإنسانية العربية وجعل عزيمتها الصارمة قوة لا حد لها في سبيل إذاعة كلمة الله في الآفاق وتحطيم كل قوة تحول دون توسعها.
دون أن تكون قوة عدوان أو تسلط أو ظلم. وإنما تكون وفق مفهوم القرآن "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا..".(55/2)
والمسلمون يقاتلون في سبيل غاية عليا هي تحقيق كلمة الله ونشر الإسلام والدفاع عنه. وهم لا يطمعون في مغلم مادي بالدرجة الأولى. وهم في أعمق أعماقهم قد خرجوا على مضمون واضح في نفوسهم.. هو النصر أو الشهادة.. وفي حال الشهادة يحس المسلم أنه أحرز أكثر نصر.. فهو قد قدم روحه في سبيل فكرة ملأت نفسه وفاضت بها روحه. ومن هنا فهو يقاتل دون أن يخشى الموت أو القتل لأنه وطد نفسه على أن يموت. فلابد أن ينصر الكلمة التي آمن بها أولاً. ومن هنا فإن النتيجة أن ينتصر ولا يموت، تحقيقاً لقانون صادق: "اطلب الموت توهب لك الحياة". وليس معنى هذا أنه لم يقتل من المسلمين أحد، فقد قتل الكثيرون ولكنهم ماتوا شهداء.. مؤمنين بأنهم قد أدوا حق الله في سبيل مبدأ آمنوا به وعقيدة ملأت نفوسهم.
وقد عاش هذا المعنى في نفوس المسلمين طويلاً وما زال حياً نابضاً بالحياة، فهم يتمثلون في كل خطوة، ذلك المعلم الأول والقائد الأول.. ما تزال صورته الواضحة الدقيقة المتمثلة في كتب السنة، وفي مختلف تصرفاته، تواجههم وتملأ قلوبهم بالشوق إلى المتابعة والتأسي. فقد كان صلى الله عليه وسلم هو التطبيق العملي لفكرة الإسلام ومقاصده وأهدافه.
فكان تجسيداً كاملاً لتعاليم الإسلام، والأسوة الحسنة للمسلمين، كان خلقه القرآن.. وقد وصفه الحق بقوله: "وإنك لعلى خلق عظيم".
وقد تمثلت البطولة بعد مرحلة النبوة في مواجهة الردة التي أصبحت الجزيرة العربية عليها ذات يوم بعد اختيار النبي للرفيق الأعلى، وفيما عدا تثقيف وقريش فقد ارتد سائر العرب.. وكان موقف الصديق، دائماً قوياً فقد أصر أبو بكر الخليفة الأول على المقاومة ورفض الاستسلام.. وأنفذ أحد عشر جيشاً في يوم واحد.. واستطاع أن يستأصل الردة في معارك متعددة أكبرها معركة اليمامة..(55/3)
وسرعان ما أبرزت هذه المعركة الأساسية في ميزان بقاء الإسلام بطولات. في مقدمتها بطولة البراء بن مالك. فقد زحف المسلمون حتى الجئوا المرتدين إلى حديقة أطلق عليها من بعد (حديقة الموت) وفيها مسيلمة مدعي النبوة.
فقال البراء: يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديثة.
فقيل للبراء: لا تفعل.. قال: والله لتطرحني عليهم فيها..
فحمل إلى أن أشرف على الحديقة حتى فتحها للمسلمين.
وفي مواقف متعددة وغزوات مختلفة توالت على ثرى الشام وفارس والعراق ومصر برزت معالم البطولة الإسلامية حية نابضة بالحياة. وقد غيرت مقومات الإسلام القيم والمفاهيم لدى المرأة، كما غيرتها لدى الرجل. فقد جاهدت المرأة في الحرب وقاتلت.. فقدمت حليها وشعرها.. وفي معركة اليرموك قاتلت النساء في جولة فخرجت جويرية بنت أبي سفيان ومعها زوجها فقاتلت قتالاً شديداً.
وهكذا بدت بطولة الحرب والمقاومة في صورة نم أدق صورها. مستمدة قوتها نم مفهوم الإسلام نفسه. وإذا كانت بطولة الحرب قد توقفت في العام 114 هـ بصورة عامة، فإنها ظلت حية تتمثل في حركة المقاومة التي لم تتوقف في جبهات الحدود الإسلامية البيزنطية والحدود الأندلسية الأوربية والإسبانية وفي حدود عالم الإسلام والمشرق.(55/4)
فقد امتدت معارك المقاومة متقطعة على مراحل وفترات ولكنها كانت وفق خطة لم تتغير من جانب العدو هي: الإدالة من علم الإسلام أو الحيلولة بينه وبين التوسع... ثم برزت ثلاث معارك ضخمة.. هي الحروب الصليبية في المشرق وحروب الفرنجة في الأندلس والمغرب والغزو الصليبي التتري. وفي خلال هذه المعارك تجددي مفاهيم الإسلام في المقاومة بصمودها وسماحتها في الوقت نفسه. وبرزت نماذج جديدة من البطولة الحربية، وتشابهت صور نور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي مع صور خالد ابن الوليد وسعد بن أبي وقاص.. وتلمس المسلمون على المدى الطويل أخلاق الإسلام ومفاهيمه، يحاولون أن يكونوا على مستوى الرعيل الأول حماية للذمار ومقاومة للعدو وعدلاً وسماحة.
بطولة العلم التجريبي
لا مشاحة إن العلم كان ولا يزال من أخصب جوانب الفكر الإسلامي ودعامة أساسية في بناء الحضارة الإسلامية فقد حرض القرآن على اصطناع العقل، ودعا إلى النظر في الكون والبحث في أعماق الأرض ففتح الباب واسعاً للمسلمين مذ اللحظة الأولى لنزوله إلى النظرة العلمية العقلية القائمة على التكامل بين العقل والقلب والوسطية بين الروح والمادة وقد كانت أزهر فترات التاريخ الإسلامي هي المرحلة التي توازن فيها الفكر الإسلامي: جامعاً بين الدين والدنيا وبين ثقافة القلب وثقافة العقل..
وفي مجال العلم برز أبطال من الباحثين الدارسين لم يتوقف أمرهم عند علوم الشريعة والعقيدة والأخلاق وإنما امتد إلى مجال العلوم الطبيعية والرياضية فبلغوا في مختلف مجالاتها قدراً عاليًا، وقد كانت قاعدتهم الأساسية: العلم هو علم الدنيا والآخرة معاً وهو العلم الجامع بين بناء الحضارة وبناء النفس الإنسانية جميعاً.(55/5)
هذه النظرة كانت قيمة أساسية في مجال البحث العلمي الإسلامي.. أما انحراف هذه النظرة في مرحلة الضعف حين غلبت (الجبرية) وحين انصرف المسلمون عن العلوم الطبيعي والرياضية فذلك انحراف لا ينسب إلى الإسلام وإنما ينسب إلى المسلمين.
وقد بدأ المسلمون ممارسة العلم والبحث في مختلف المجالات قبل أن يتصلوا بالفلسفات اليونانية وغيرها فلما بدأت ترجمة الآثار اليونانية أخذوا تلك المبادئ القليلة التي كانت عند اليونان فنظروا فيها وعرضوها على مفهوم التوحيد الخالص فرفضوا منها وقبلوا ثم نموا ما قبلوه وأضافوا إليه ثم أبدعوا علوماً أخرى لم يسبقهم إليها أحد.
ولاشك أن اتجاه الفكر الإسلامي إلى الانفتاح على الثقافات البشرية: فارسية ويونانية وهندية، كان إيماناً بإنسانية الفكر الإسلامي ومرونته وحيويته وقدرته على استيعاب الثقافات البشرية وصهرها في بوتقته ورفض ما لا يتفق مع مفاهيم الإسلام ومقوماته. وإذا كان أئمة المسلمين يهدون الهدايا إلى حكام بيزنطة إغراء لهم بإرسال الكتب القديمة، بل وكانوا يجعلون هذه الكتب من الجزية المفروضة على الروم فإن دلالة هذا التصرف واضحة في فهم المسلمين للإسلام وجرأتهم في مجال العلم والعقل والبحث.
وقد نما الفكر الإسلامي من خلال العقائد والفقه وكان تحقيق الحديث النبوي علامة ضخمة على قيام المنهج العلمي الموثق لقبول النصوص أو رفضها، هذا المنهج الذي نما بعد ذلك في مجال الفقه والتاريخ، ثم كانت التفريعات والتشقيقات التي قام بها المفكرون المسلمون إزاء القضايا والأحداث والمواقف المتعددة لإيجاد حلول منوعة لكل حالة من حالات المجتمع وعلاقات الناس في مختلف البيئات والعصور.(55/6)
كانت هذه الممارسة مقدمة للعمل في مجال الفلك والكيمياء والرياضيات والطب الذي حقق مولد حدث ضخم هو (المنهج التجريبي الإسلامي) الذي رسم المفكرون المسلمون والعرب منهاجه ووضعوا قواعده وأقاموا عليه أعمالاً ضخمة وحققوا به تقدماً بارعاً.
هذا المنهج التجريبي الإسلامي هو آخر ما أهدت الحضارة الإسلامية لأوروبا في القرن العاشر الهجري والقرن السادس عشر الميلادي عن طريق الأندلس بعد أن سجل أعلام العلم التجريبي خطوات واسعة تشهد بدور المسلمين في إقامة هذا المنهج وممارسته، وفي مقدمة هؤلاء الرازي وابن سينا والخوارزمي والبتاني والبيروني وعمر الخيام، وابن زهر وابن خاتمة وابن الهيثم وابن العوام وابن البيطار وابن رشد وابن الخطيب.
الآراء اليونانية بالآراء الهندية. وقال: إذا لم يكن هذا الذي فعله العرب ابتكاراً فليس في العلم ابتكار على الإطلاق، فالابتكار العلمي في الحقيقة إنما هو حياكة الخيوط المتفرقة في نسيج واحد.
والحق أن المسلمين لم ينقلوا المفهوم الرياضي الإغريقي بل وضعوا مفهوماً جديداً – كما فعلوا في الفلسفة والأخلاق والتصوف والأدب، وكل الفنون التي كان لها وجود سابق على الإسلام. وكان مفهومهم قائماً على الربط الوثيق بين مكتشفات العلم وبين مبادئ الإسلام.
وهكذا كان موقف المسلمين من العلم موقفاً له طابعه الاستقلالي الإبداعي، وإذا كانوا قد أخذوا من تراث الأقدمين فإنهم لم يستسلموا له أو يتوهوا فيه ولم يدعوه يصوغهم بل هم الذين صاغوه وفق إطار واضح منت قيمهم ومفاهيمهم، ذلك أن القرآن قد دعاهم إلى العلم وحثهم الإسلام على النظر في الكون والبحث في الأرض فلما تسلموا زمام العلم لم يخضعهم، وإنما أخضعوه وحرروه من زيوف الوثنيات والغموض وحاولوا دون أن يكون وسيلة للعدوان أو أباحته. فقد أعادوا صياغته في ضوء مفهوم الإسلام خلقاً جديداً مختلفاً كل الاختلاف ثم أقاموا عليه بناء ضخماً وأضافوا إليه إضافات كبيرة.(55/7)
وقد كانت أداة العمل في مجال العلم عند المسلمين هي:
(النظر العقلي + التجربة + الرحلة) وقد بلغ المسلمون في ذلك غاية الغايات فحققوا النصوص القديمة ورفضوا ما لا يقبله العقل والتمسوا التجربة في المعامل فقاموا بها على الحيوانات والحشرات ثم ذهبوا إلى أطراف الأرض يبحثون عن الحقائق وقد رحل البخاري ستة عشر عاماً ورحل الغزالي عشر سنوات ورحل ابن بطوطة ربع قرن كامل.
كما حفلت عواصم الحضارة الإسلامية بمعاهد العلم ومعامله ومراصد الفلك والمكتبات، وكان في بغداد وحدها في عصر المقتدر بالله الخليفة العباسي ما قارب التسعمائة طبيب ممن جازوا الامتحان ليكونوا أطباء وقد نظمت صناعة الطب فكان للأطباء رؤساء وكان عليهم رقباء لاتصال أعمالهم بمصالح الناس كافة، ومن الأطباء من كان خاصاً بالجند فهو يصحبهم في أسفارهم ولهم رواتب ومنهم من يطببون العامة وهم غير المرتزقين ومنهم متخصصون ومنهم الطبيب على إجماله ومنهم الجراح والفاصد ومنهم الكحال أي طبيب العيون والأسنان ومنهم من يقتصر عمله على معالجة النساء ومنهم من يطب للمجانين. وكانت جامعة بغداد تعتمد سنوياً مليوناً ونصف مليون فرنك لشراء الكتب والمخطوطات.
ولم يقف شأن العلماء التجريبيين المسلمين عند مجال الطب بل تعداه إلى مختلف مجالات الفلك والجغرافية والكيمياء والفيزياء، والنبات والزراعة والرياضة والتاريخ والرحلة والكشف.
وقد سبق الباحثون المسلمين علماء أوروبا في (تقعيد) القواعد فابن حزم وضع أسس نظرية المعرفة التي قام بها (كانط) بعده بثمانية قرون.
وابن خلدون بسط فلسفة الاجتماع قبل منتسكيو وتادر بخمسة قرون. وبراهين الغزالي للدفاع عن الإيمان سبقت نظرات القديس توماس الاكويني بعشرة قرون.(55/8)
وكان أبرز عوامل التقدم العلمي الإسلامي سماحة المسلمين في تلقي علوم السابقين لهم وإن خالفت أصول فكرهم كما كان العلماء المسلمون سمحاء مع اليهود والنصارى، ذلك التسامح الذي لم يسمع بمثله في العصور الوسطى، وكانوا آية التسامح في عرض علوم الملل والنحل، وقد قدموا كل نتاج أبحاثهم العلمية في الأندلس إلى أوروبا بسماحة، وكان العلماء المسلمون مطبوعين على الخلق والصدق وشمول النظرة بين العلوم العقلية والشرعية والرياضية. والحق أن الإسلام لم يعط الغرب أساس البحث العلمي التجريبي فحسب ولكنه أعطاه مفهوم الحرية والاندفاع نحو العمل والبناء والإنشاء والابتكار، وهو ما قدمه ابن رشد للفلسفة الأوروبية من مفاهيم زلزلت القيم الجامدة القديمة، حيث تغيرت نظرة إنكار الدنيا والتشاؤم التي كانت غالبة على الفكر الأوروبي وحلت محلها نظرة إيجابية مصدرها الإسلام، فالإسلام وهو دعوة البحث عن الحق قد حرض الناس على السعي إليه عن طريق المعرفة والدفاع عنه وقدم في هذا المجال قانونين أساسيين:
(الأول).. هو الشك قبل الإيمان وقدم لذلك قصة إبراهيم الذي تطلع إلى القمر ثم الشمس وغيرهما ثم دخل بعد الشك في الإيمان.
(الثاني).. جعل للمجتهد أجراً إذا أخطأ، وأجرين إذا أصاب..
وقد أكد العلامة بريفولت دور المسلمين في إبداع المذهب العلمي التجريبي فقال:
لا يستطيع (روجر بيكون) ولاسميه الذي جاء من بعده أن يدعيا أنهما ابتكرا الطريقة التجريبية، تلك الطريقة التي هي من صنع العرب وحدهم ولم يسبقهم إليها باحث أو مفكر وكل ما عمله (بيكون) أنه كان تلميذاً مخلصاً للمسلمين تلقى أفكارهم كما تلقى عنهم الطريقة التجريبية التي ابتكروها ونقها إلى أوروبا.
وقد أرسى العلماء المسلمون قاعدة بحثهم على هذه الأسس:
1- تكريم العقل.
2- احترام الشخصية الإنسانية.
3- العدل والمساواة.
4- الإيمان بالعلم والحقيقة.
5- الاعتماد على التجربة.
6- الاعتقاد ببقاء الروح بعد البدن.(55/9)
7- الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة.
8- القول بإله واحد قديم خلق العالم من لا شيء.
بطولة العلم والعلماء
للعلم والعلماء صفحة بطولة في تاريخ الإسلام، ورائعة باهرة، ففي كل مجال من مجالات العلم نجد أسماءهم اللامعة وإضافاتهم البناءة.
ففي التاريخ: الطبري والمسعودي وابن الأثير وابن خلدون.
وفي الأدب: الجاحظ وابن قتيبة والخليل بن أحمد.
وفي الفلسفة: الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد.
وفي التصوف: ابن عربي وابن الفارض والشعراني وعبد القادر الجيلاني.
وفي الكلام: واصل بن عطاء والنظام والأشعري والماتريدي والباقلاني والجويني.
وفي الحديث النبوي: ابن شهاب الزهري، وابن جريج المالكي وابن إسحق والترمذي.
وفي الفقه: مالك وأبو حنيفة والشافعي وابن حنبل وأبو يوسف.
وفي العلم: الخوارزمي والبيروني والبتائي وجابر بن حيان والرازي وابن الهيثم وثابت بن قرة.
وفي تصحيح المفاهيم: ابن حزم والغزالي وابن تيمية.
وابن سينا أعظم الأطباء والبيروني أعظم الجغرافيين وابن الهيثم أعظم علماء البصريات وجابر بن حيان أعظم الكيميائيين وابن رشد فقيه وفيلسوف.
يقول ول ديورانت: ليس ما نعرفه من ثمار الفكر الإسلامي إلا جزءاً صغيراً مما بقي من تراث المسلمين وليس هذا الجزء الباقي إلا قسماً ضئيلاً مما أثمرته قرائحهم وليس ما أثبتناه إلا نقطة من تراثهم.
كان لهؤلاء العلماء رحلاتهم الطويلة من أجل البحث عن النص وتحقيق السند، ذهب البخاري في رحلته الطويلة بضعة وعشرين عاماً في تحقيق الحديث، وجد سبعين ألفاً وأقر منها أربعة آلاف فقط. وعرض لذلك كله في ذوق رفيع وأدب وخلف فلم يهاجم أحداً، ولما عاد رفض أن يحدث الناس إلا في بيته أو في المسجد.(55/10)
وكانوا جميعاً يوجهون العلم لله خالصاً ولخدمة الأمة، ولا يتطلعون إلى مال أو جائزة سنية، كان ابن الهيثم صاحب نظرية الضوء التي قام عليها علم أوروبا كله يعتمد في كسب قوته على نسخ الكتب وكان يقول: يكفيني قوت يوم، وقال كلمته المشهورة عندما وصلته هدية أحد الأمراء: أعلم أنه لا أجر ولا رشوة ولا هدية في إقامة الخير ونشر العلم.
أما البيروني فقد رد ثلاثة جمال تنوء بأحمالها من النقود وقال: "إنما نخدم العلم للعلم".
وفي مجال العلم عرفوا: "البرهان والحق" فقد دافع ابن حزم عن كروية الأرض بالعقل والدين وسبق "كانت" في نظرية المعرفة بسبعة قرون وقال: إن التقليد حرام، ولا معجزة لنبي بعد وفاته. وكان مذهبه "لا يحل لأحد أن يأخذ بقول أحد من غير برهان".
والفارابي فكر في أمم متحدة منذ قرون، ومدينته الفاضلة تضاءلت إلى جانبها جمهورية أفلاطون، فقد أقامها على العدل المطلق بين أبناء المدينة أما أفلاطون فقد رفع الأمراء وجعل عامة الشعب عبيداً. والأمة عند الفارابي جسم واحد لا يستقيم أمره إلا بالتضامن والتعاون.
وقد ظهرت آراء الفارابي فيما بعد في نظرية العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، ومن آراء الفارابي: إن السعادة ممكنة على وجه الأرض إذا تعاون المجتمع على نيلها بالأعمال الفاضلة، ويرى أن النجاح في الأعمال هو تمام ارتباط العلم بالعمل وأن بلوغ الغاية يكون بإصلاح الإنسان نفسه ثم إصلاح على النجوم، هذه الأسماء التي تزال حتى اليوم تطلق عليها في عصر غزو الكواكب، فالشعري اليمانية والعيون والسماك والرامح والنسر وقلب العقرب، ما زالت تترجم إلى اللغات الأوروبية بأسمائها العربية. وقد كشف علماء المسلمين عن المجموعات الفلكية: مجموعة العقرب والبروج الاثنا عشر والدب الأكبر والنجم القطبي والفرقدان والحاوي.(55/11)
"وابن رشد" دعا إلى مشاركة المرأة الرجل في خدمة المجتمع والدولة، وعنده أن النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له. أما "الغزالي" فقد سبق "كانت وهيوم" وغيرهما من الفلاسفة العقليين في مسألة قدم العالم والزمان والمكان بمئات السنين واهتدى في ذلك إلى آراء سبق بها فلاسفة القرن الثامن عشر.
و "الطوسي أبو جعفر": له فضل إقامة مرصد مراغة العظيم، وله مؤلفات رائعة في علم التحول وانعكاسات الشعاعات قال سارذون: أن أقوال "الطوسي" مهدت للأعمال التي قام بها "كوبرنيكس" فيما بعد وبحوثه عن الكرة السماوية ونظام الكواكب. وكتابه "شكل القطاع" أنه كتاب يفصل المثلثات ويجعلها علماً مستقلاً.
أما "الشاطبي" فقد توصل إلى نظرية شبيهة بما يسمى في القوانين العصرية بـ "نظرية التعسف في استعمال الحقوق" فأثبت بعد تحليل وتفصيل دقيقتين أنه يجب منع الفعل المأذون فيه شرعاًَ إذا قصد منه فاعله الإضرار بالغير. وقال "ابن حزم" زعم قوم أن الفلك والنجوم تعقل وأنها ترى وتسمع، وهذه دعوى باطلة وبلا برهان وصحة الحكم أن النجوم لا تعقل أصلاً وأن حركتها أبداً على رتبة واحدة ولا تتبدل عنها، وهذه صفة الجماد الذي لا اختيار له، وليس للنجوم تأثير في أعمالنا ولا لها عقل تدبرنا به، إلا إذا كان المقصود أنها تدبرنا طبيعياً كتدبير الماء والهواء ونحو أثرها في المد والجزر، وقال إن النجوم لا تدل على الحوادث المقبلة.
أما إبراهيم النظام فدعا إلى الشك في سبيل اليقين وقال: إن الشك سبيل الإنسان إلى كل يقين وإن طالب العلم لا يكون كحاطب ليل، بللا ينبغي أن يتخير مما فيها ولا يسمح أن يدخل في نفسه إلا الجد المنتقى وعنده أن الكتب لا تحيي الموتى ولا تحول الأحمق عاقلاً ولا البليد ذكياً ولكن طبيعة الإنسان إذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي.(55/12)
ويقول: الشاك أقرب إليك من الجاحد، ولم يكن يقين قط حتى صار فيه شك ولم ينتقل أحد من اعتقاد إلى اعتقاد غيره حتى يكون بينهما حالة شك.
والمعروف أن النظام وواصل بن عطاء وغيرهما كان لهما دور ضخم في الدفاع عن الإسلام في وجه مناهج الفلسفة اليونانية التي حمل لواءها خصوم الإسلام وقد استطاع بعمق منطقه وسلامة جداله تصحيح الحقائق والعقائد في نفوس المئات.
وقد عرف علماء المسلمين "التقنين" ممثلاً في اللغة القانونية المحكمة التي كتبت بها مصنفاتهم الفقهية وفي التبويب الدقيق للمسائل مما نجده في أوضح صورة في المختصرات المكرسة للفقه العملي مثل كتاب الماوردي وكتاب أبي يعلي المعاصر له والحامل نفس العنوان. وقد نسقت أحكام هذه المختصرات على صورة تجعل من الميسور تصنيفها إلى مواد قانونية على الشكل المتبع في التقنين الحديث وكان ابن حجر العسقلاني واحداً من أعمدة المنهج العلمي، يقول "البقاعي" عنه: لا يستطيع أحد أن يقسره في شيء أصلاً، أو أن يقرب من ذلك فهو لا يقبل كلام أحد في غيبة خصمه فو آية في حسن القضاء ومعرفة دسائس الناس في كلامهم والاهتداء إلى قطه الأمور. له في المناظرة مسلك غريب قل أن يثبت له في ذلك أحد. ويركز "الترمذي" منهجه الفكري على الحق والعدل والصدق. يقول: إنا وجدنا دين الله عز وجل مبنياً على ثلاثة أركان: على الحق والعدل والصدق، فالحق على الجوارح والعدل على القلوب والصدق على العقول، فإذا افتقد الحق من عمل خلفه الباطل وإذا افتقد منه العدل خله الجور وإذا افتقد منه الصدق خلفه الكذب. فهذه الثلاثة جند المعرفة وهذه الثلاثة التي هي أضدادهن جند الهوى.(55/13)
والطرطوشي في كتاب (سراج الملوك) يسبق فلاسفة السياسة وفن الحكم في أوروبا وهو واحد من عدد من علماء الإسلام الذين عملوا في هذا المجال: كالغزالي في التبر المسبوك والشيرازي في المنهج المسلوك في سياسة الملوك وابن طباطبا في (الفخري) وأبرز مفاهيم الطرطوشي أنه لا يفرق بين السياسة والأخلاق بل يراهما شيئاً واحداً متفقاً، وهذا المنهج الإسلامي يخالف منهج "ميكافللي" في كتابه الأمير.
أما "الكندي" الفيلسوف فقد درس الصلة بين الموسيقى وتحريك النفس وما يناسب أحوالها وما يبعث السرور، ودس علاقة ذلك بالطب وأمكنه التوصل إلى إمكان معالجة المرضى بالموسيقى، وذلك ضرب الأنغام المناسبة للمريض.
وعرف المقدسي بأنه أعظم جغرافي عرفته البشرية قاطبة على حد تعبير المستشرق "أشيرنجر" فقد طاف العالم كله ما عدا الأندلس والسند وركب المخاطر في بحر الهند والبحر الأحمر والبحر الأبيض يقول: ما بقيت خزانة ملك إلا وقد لزمتها ولا مذاهب قوم إلا وقد عرفتها ولا أهل زهد إلا وقد خالطتهم ولم يبق شيء مما يلحق المسافرين إلا وقد أخذت منه نصيباً غير الكدية "التسول" وركوب الكبية، وقد تفقهت وتزهدت وتعبدت وفقهت وأدبت وخطبت على المنابر ودعوت في المحافل وتكلمت في المجالس وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الخافقائيين الثرائد، ومع النواتي "الملاحين" العصائد، وطردت في الليالي من المساجد، وسحت في البراري وتهت في الصحاري.(55/14)
أما "الطبري" فقد صور منهجه في كتابة التاريخ في مقدمة كتابه "تاريخ الرسل والملوك" فقال: ليعلم الناظر في كتابنا إن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره منه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه والآثار أنا مسندها إلى رواتها دون ما أدرك بحجج العقول واستنبط بفكر النفوس. وابن كثير "الذي تصدى للمرويات الإسرائيلية وفصل القول فيها وهو يرى أن القرآن قصد إلى الإجمال فيجب الوقوف عند ما قصد إليه والزمخشري في (الكشاف) يحرر فكره من الخضوع للأهواء ويعارض العلماء ذوي الأهواء الذين جمعوا عزائم الشرع ودونوها ثم رخصوا فيها للأمراء وهونوها ومقال: إنما حفظوا وعقلوا وصفقوا وحلقوا ليجمعوا المال ويسيروا". والخليل بن أحمد واضع قواعد العروض ومناهجه، وأبو الأسود الدؤلي واضع مناهج الفصحى وقواعد النحو والجاحظ واضع مناهج النقد الأديب، والشافعي واضع مناهج الاستنباط وأصول الفقه.
والأشعري صاحب الحملة على الانحراف إلى الفكر اليوناني وابن تيمية صاحب الحملة إلى الطرقيات المنحرفة والغزالي صاحب الحملة على مغالاة الفقهاء.
وابن دقيق العيد الذي قال: "النص" هو الإمام. والرأي هو المأموم والمذاهب ترد إليه. ويقول لا يصح أن يجعل الرأي الذي فيها للنص أصلاً فيرد النص إليه بالتكليف والتحايل.
الأستاذ أنور الجندي(55/15)
(3)
المؤامرة على الفُصْحى لغة القرآن
(1)
المؤامرة على الفصحى موجهة أساساً إلى القرآن والإسلام
ما تزال المؤامرة على اللغة العربية الفصحى مستمرة لم تتوقف .. لها خيوطها المرتبطة بالاستعمار والاستشراق والتبشير والتغريب .. ثم تضاعفت الدعوة إليها وتنوعت مرتبطة بالصهيونية والماركسية .. وهي مؤامرة تلبس في بعض حلقاتها ومراحلها ثوب البحث العلمي، وتحاول أن تدعي أنها تستهدف الخير والتقدم .. والصورة المعروضة اليوم تخدع الكثيرين. وربما تجد لها من بعض الشباب الذي لم يلم إلماماً كافيا بخطوات المؤامرة، استجابة ساذجة.
وقد كانت المؤامرة على اللغة العربية أساساً تستهدف الدعوة إلى العامية، أو كتابة العربية بالحروف اللاتينية، وأخذت في بعض الأوقات الدعوة إلى معارضة مفاهيم النحو أو نطق الكلمات، وجرت في خلال السنوات الطويلة الممتدة منذ حمل لواءها المبشر الإنجليزي وليم ويلكوكس في مراحل متعددة وانتقلت من مصر إلى المغرب إلى الشام ولبنان، واستطاعت أن تجد لها دعاة ممن يكتبون بالعربية خلفوا أولئك الأجانب الذين حملوا اللواء أول الأمر ..(56/1)
والذين ينظرون اليوم في مشروع العربية الأساسية الذي تقدمت به بعض الهيئات الأجنبية في حزيران-يونيو 1973 في مؤتمر برمانا، ومنذ أن ارتفعت صيحة الدكتور عمر فروخ بالكشف عنه وإذاعته واهتمام الجهات المختصة به حتى أصدرت إحدى الهيئات الإسلامية وهي: مجمع البحوث بالأزهر تحذيرها الخطير بتوقيع الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الجامع الأزهر -أقول إن الذين ينظرون في هذا المشروع اليوم يجدونه مرتبطاً كل الارتباط بما أعلنه اللورد دوفرين في تقريره الذي وضعه عام 1882 بعد الاحتلال البريطاني لمصر حين دعا إلى معارضة اللغة الفصحى، لغة القرآن، وتشجيع لهجة مصر العامية واعتبارها حجر الزاوية في بناء منهج الثقافة والتعليم والتربية في مصر .. وحين قال في تقريره بالحرف الواحد "إن أمل التقدم ضعيف في مصر طالما أن العامة تتعلم اللغة الفصحى العربية -لغة القرآن- كما هي في الوقت الحاضر" ..
ثم لم يلبث المبشر وليم ويلكوكس الذي كان يعمل مهندساً في الحملة الاستعمارية على مصر أن دعا في خطابه المشهور عام 1883 بنادي الأزبكية إلى نشر اللغة العامية والتأليف بها. وقد أطلق على خطبته اسماً خطيراً هو: "لماذا لا توجد قوة الاختراع عند المصريين ..!"، وكانت إجابته بالطبع: "إن السر ذلك هو اللغة العربية الفصحى، وإن سبيل إيجاد قوة الاختراع هو اتخاذ العامية بديلاً ..!".
وتوالت المحاولات الماكرة اللئيمة التي كانت تستهدف أمراً واحداً هو عزل المسلمين عن بيان القرآن وعن أسلوبه وشق وحدة اللسان والكلمة بإعلاء العاميات في مختلف أنحاء البلاد الإسلامية حتى تنمو تلك العاميات وتصبح لغات منفصلة، وعندئذ يصبح القرآن (تراثاً) يترجم ويقرأ عن طريق القواميس. وهم يعضون تجربة اللغة اللاتينية بالنسبة للإنجيل في أوربا كصورة نموذجية للمحاولة، ويجهلون مدى الفارق البعيد بين اللغتين، وينسون أن الإنجيل لم ينزل باللغة أصلاً؛ وإنما ترجم إليها ..(56/2)
2- ولما عجزت خطة العامية، قدمت خطة الكتابة بالحروف اللاتينية. واضطلعت المحافل اللغة الرسمية في تقديم عشرات من المشروعات: كان أخطرها مشروع عبد العزيز فهمي باشا الذي قوبل بالسخط والنكير من جميع حماة اللغة العربية والذائدين عنها، وإن كان أتباع التغريب من أمثال لطفي السيد وطه حسين عجزوا عن أن يعلنوا رأياً صريحاً قاطعاً. ذلك أن لطفي السيد نفسه كان من أوائل المصريين الذين حملوا لواء الدعوة إلى العامية بعد أن مهد لها: (ويلكوكس – ويلمور – دنلوب).
3- ثم كانت هناك حطة ثالثة هي: (اللغة الوسطى) وتلك دعوة حمل لواءها فريد أبو حديد وتوفيق الحكيم وأمين الخولي. وهي محاولة ماكرة لفصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام ولغة الكتابة بإعلاء اللهجات واعتماد اللغة الصحفية لغة أساسية. فلا هي عامية ولا هي فصحى؛ ولكنها تنزل درجة عن الفصحى لتنفصل عن بيان القرآن وتكون مقدمة لمرحلة أخرى تصل بها إلى العامية.
4- وجاءت بعد ذلك محاولة خطيرة تولاها وتصدى لها الدكتور طه حسين، هي: تبديل الخط العربي وقواعد النحو باسم (تطوير اللغة) تحت اسم تهذيب أو تيسير أو إصلاح أو تجديد، وهي أسماء لبقة مرنة تخفي وراءها هدفاً خطيراً هو –كما عبر عنه الدكتور محمد محمد حسين: "التحلل من القوانين والأصول التي صانت اللغة خلال خمسة عشر قرناً أو يزيد) وهي القوانين التي ضمنت لنا القدرة على مطالعة تراث المسلمين والعرب خلال أربعة عشر قرناً.
فإذا ما تحققت هذه الخطة التي تسمى بالتطوير أو التهذيب وتحللنا من هذه الأصول والقوانين والقواعد التي صانت اللغة هذه القرون، كانت النتيجة هي تحقيق الهدف. في تبلبل الألسنة بين المصري والشامي والمغربي وما بين الإيطالي والأسباني .. وتصبح قراءة القرآن والتراث العربي والإسلامي متعذرة على غير المتخصصين من دارس الآثار ومفسري الطلاسم .. وعندئذٍ تصبح وحدة العرب مقدمة لوحدة المسلمين عمل باطل ..!.(56/3)
يقول الدكتور محمد محمد حسين: "ليس الخطر في الدعوة إلى العامية، ولا في الدعوة إلى الحروف اللاتينية ولا إلى إبطال النحو وقواعد الإعراب أو إسقاطها؛ وإنما الخطر في هؤلاء العتاة الذين يعرفون كيف يخدعون الصيد بإخفاء الشراك .. إن الخطر الحقيقي هو في الدعوات التي يتولاها خبثاً الهدامون مِمَن يخفون أغراضهم الخطيرة ويضعونها في أحب الصور إلى الناس ولا يطمعون في كسب عاجل، ولا يطلبون انقلاباً كاملاً سريعاً .. إن الخطر الحقيقي هو قبول (مبدأ التطوير) نفسه؛ لأن التسليم به والأخذ فيه لا ينتهي إلى حد معين أو مدى معروف يقف عنده المتطورون، ولا ريب أن التزحزح عن الحق كالتفريط في العرض.
5- كانت هناك ولا تزال خطة أخرى (وهذه الخطط كلها تعمل داخل المؤسسات) مؤسسات اللغة والتعليم. تلك هي بدعة إصلاح اللغة .. وقد ظن الكثير من البسطاء أن المسألة يراد بها سهولة الأداء، فالمصطلح خادع وماكر وسيء النية أيضاً .. وقد كشف هذه المؤامرة الدكتور علي العناني حين قال: "إن الإصلاح في الألفاظ والتراكيب والأساليب لا يكون إلا بتغيير قواعد أبنية اللغة وهي (الصرف) وتحوير ضوابط إعرابها والأحوال العارضة على الألفاظ باختلاف الوضع في الجملة وهو (النحو) وتبديل الموضع اللفظي في المفرد والمركب من حيث الحقيقة والمجاز والاستعارة والكناية وهو (البيان) وبتغيير وإهمال ضوابط الفصاحة والبلاغة وهي (المعاني)، ومعنى إصلاح قواعد الصرف انتقالاً من الصعب إلى السهل إنما يعني أن نهدم علم الصرف من أساسه وننسخه نسخاً تاماً لتعدد قواعده وتنوع ضوابطه، وبعد أن يتم الهدم يبني المصلحون على أنقاضه صرفاً جديداً محدود القواعد، قليل التنويع، خفيفاً على العقل والفكر، سهلاً على الذهن والفهم .. وكذلك الأمر في إصلاح قواعد النحو، وإصلاح علوم البلاغة.(56/4)
وبهذا يكون معنى الإصلاح في اللغة نسخ العقلية العربية وما فيها من ثقافة نظرية وعملية. ذلك أن الإصلاح هو التغيير، والتغيير يعني الإزالة والوضع.
ويقول الدكتور العناني أن تغيير قواعد اللغة العربية صرفاً ونحواً بالوضع فقط، أو بالوضع والإزالة معناه إحداث لغة جديدة بقواعد جديدة. وهذه اللغة العربية الجديدة إن صح اتصالها بالعربية الحالية المدونة اتصال اللهجة بالأم، فإنه تعبد عنها شيئاً فشيئاً حتى تختفي معالم الصلات بينهما، أو تكاد وعندئذ تكون اللغة العربية الحالية من اللغات الميتة ..
ونقول أن هذا ما يحلم به سعيد عقل، وأنيس فريحة، ولويس عوض .. وما كان يتمناه سلامة موسى، والخوري مارون غصن وطه حسين ولطفي السيد .. ومعنى هذا أن يصبح كل تراث العربية البالغ عشرات الآلاف من الكتب في مختلف مجالات الشريعة الإسلامية والأدب، والحضارة والفكر والفن عبارة عن توابيت في دار الآثار والمتاحف .. ويقول الدكتور علي العناني: "إن قواعد اللغة العربية وُضِعت طبقاً لنصوص القرآن والحديث والمسموع من العرب، فالتغيير في هذه القواعد هجر للقرآن والحديث.(56/5)
كذلك فإن الدين الإسلامي وهو عقيدة وشريعة قد استنبطت أحكامه فيما يختص بالعقيدة والتشريع في العبادات والمعاملات من الكتاب والسنة وعمل الرسول والقياس والاجتهاد. وكل هذه الأركان والينابيع لا يمكن أن يستنبط منها حكم إلا بواسطة مبادئ خاصة وقوانين معروفة بعلم الأصول. وأساس هذه المبادئ والقوانين الراسخ أو دعائم علم الأصول إنما هي فهم لغة العرب: لغة القرآن والرسول بما وضع لها من القواعد الصرفية والنحوية وضوابط علوم البلاغة، وإذا أصلحت هذه الضوابط وتلك القواعد بالإزالة والوضع انهدم أساس علم الأصول وتداعت دعائمه، وإذا انهدم الأساس وتداعت الدعائم انهدم أيضاً ما يرتكز عليها، وهو هذا العلم .. وإذا وصل هذا العلم الأساسي في استنباط أحكام العقيدة ومسائل الشريعة إلى التداعي، تداعت معه أيضاً طريقة الاستنباط وفهم ما استنبط ودون بالفعل، وضاعت العقيدة واحتجبت الشريعة وعدنا إلى الجاهلية الأولى.
6- هذه هي خلفية الصورة البراقة التي نراها اليوم يحملها مجموعة من أعداء الإسلام واللغة العربية ويدافعون عنها وينقلونها من ثوب إلى ثوب، ومن أسلوب إلى أسلوب، كلما انكشف لهم جانب أعادوا تشكيله في صورة أخرى، وهم الآن على أبواب التعليم، وهي خطوة خطيرة إذا سمح بها وأعين عليها. ومن هنا نجد عبارة شخ الأزهر واضحة في معارضة المشروع حين يقول: "إن هذا المشروع واضح الهدف في هدم معالم اللغة العربية، وتبعاً لذلك البعد بها وبأهلها عن القرآن الكريم. ثم ما ينتج عن ذلك من مساس بالإسلام وأصوله كما هي مصونة في كتاب الله وسنة رسوله الكريم، ذلك إلى إيجاد الهوة الواسعة بين ما تئول إليه اللغة (لا قدر الله) وما احتوته من تراث في صورتها السليمة يمتد عبر أربعة عشر قرناً في نحو أربعة عشر إقليماً ..(56/6)
ولذلك فإن مجمع البحوث الإسلامية يرى في هذا المشروع خطراً داهماً على اللغة العربية والعلوم الإسلامية، من شأنه أن يقطع صلة المسلم بالقرآن الكريم والسنة النبوية والتراث الفقهي الذي يعتمد فيما يعتمد عليه على دلالة المفهوم والمنطوق وأساليب القصر، والتقديم والتأخير وما إلى ذلك مما لا يتحقق في لغة أساسها العامية. بل إنه يقطع صلة المسلم بالتراث العلمي الإسلامي بصفة شاملة.
ومَن يطالع تقرير الدكتور عمر فروخ يحس بالخطر الكامن واضحاً في عبارات صريحة، يقول: "وفي أثناء الجلسات الرسمية للمؤتمر، وفي الفترات المتعددة بين الجلسات جرت بحوث واقتراحات وملاحظات جعلتني = خيفة شديدة من المشروع .. إن كل ما دار في مؤتمر برمانا كان يولد فيّ شعوراً بأن الغاية الأولى والأخيرة من المؤتمر كان الاهتمام باللغة العامية .. لقد حضر هذا المؤتمر عدد قليل من اللبنانيين ونفر من العرب غير اللبنانيين (وكثرة) من الأجانب لفتت نظري أن جلهم من الرهبان اليسوعيين ..(56/7)
ونحن نقول إنها حلقة جديدة من حلقات المؤامرة أخش أنم تقف منها المجامع العربية موقع الصمت أو التردد؛ حيث نرى بعض رجالها يؤمنون بما يؤمن بها المستشرقون ويدافعون عنه، وخاصة في محاولة تطبيق علم اللغات الحديث على اللغة العربية، وهو علم قامت نظرياته ومستخلصاته على أساس دراسة واسعة للغات الأوربية. وهذه اللغات لها تاريخ وتحديات وطرق. أما تاريخها فإنها مشتقة من اللغة اللاتينية ولغات أخرى. وقد كانت في أول أمرها لهجات عامية ثم استقلت بنفسها تحت تأثير عوامل كثيرة .. أما التحديات فإن ترجمة الكتاب المقدس إلى اللغة القومية الأوربية جعل الموقف جد مختلف بينها وبين العربية .. أما الطريق فهو أن اللغة العربية ارتبطت بكتاب منزل أعطاها وحماها وجعلها ليست لغة العرب وحدهم؛ وإنما لغة الثقافة الإسلامية بعامة .. ومن هنا فإن محاولة القول الذي تردد كثيراً على ألسنة طه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد، وما يزال يتردد على ألسنة بعض من يتولون أمر اللغة، بأن اللغة العربية لغتنا ونحن أصحابها، ولنا حق التصرف فيها، هو قول باطل وغير صحيح ومردود؛ ويرده واقع التاريخ ومنطق البحث العلمي .. وربما كان قولاً صحيحاً بالنسبة للغات الأوربية، أما بالنسبة للغة العربية فإنه أمر جد مختلف؛ ذلك أن اللغة العربية منذ أن نزل التنزيل بها فقد أعطاها أبعاداً تختلف وواقعاً خاصاً ..
فاللغة العربية منذ ارتبطت بالقرآن الكريم أصبحت ليست لغة أمة هي العرب فحسب؛ بل هي لغة فكر وعقيدة ودين وثقافة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم أكثر من 700 مليون.
ومن هنا فإن ارتباطها بالقرآن هو وحده الذي حماها من أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة، وأن يقرأ تراثها بقاموس .. وسيظل الترابط بين المسلمين ولغة الضاد الفصحى لغة القرآن قائماً إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها ..(56/8)
وبعد: فإن مؤامرة مشروع العربية العامية يجب أن يشجب بقوة من جميع الهيئات الإسلامية وفي مقدمتها رابطة العالم الإسلامي التي تمثل اليوم مكان الأمم لمختلف المنظمات الإسلامية. وهي ما هي غيرة وقوة وإيماناً.
(2)
الفصحى: لغة القرآن
لغة ألف مليون: هم المسلمون
وليس مائة مليون هم العرب وحدهم !
ما تزال قوى التغريب والغزو الثقافي تطارد اللغة العربية الفصحى مطاردة شديدة: وفي مؤتمر المستشرقين الأخير دارت مناقشات وأبحاث كثيرة حول ما يسمونه اللغة العربية الحديثة وحول اللهجات العامية التي يسمونها لغات.
وهناك اتجاه في بعض الجامعات التي يشرف على الدراسات الإسلامية والعربية فيها يهود صهيونيون يرمي إلى المبالغة في أهمية اللهجات العامية والعناية بدراستها باعتبارها اللغة المستعملة، وهناك دراسات عن اللهجات المصرية والتونسية والمغربية.
ويواجه الأساتذة العرب هذه الحركة بحركة مضادة معادية لهذا الاتجاه يقررون فيها ضرورة التمسك باللغة الفصحى لغة القرآن ويكشفون فساد هذا المنهج التعريبي الذي تحمل لواءه اليهودية العالمية لحساب الصهيونية وإسرائيل، ونحن نعرف أن الهدف هو القرآن والإسلام والقضاء على الوحدة الفكرية الجامعة تحت لواء الإسلام في لغة الأمم.
وفي هذا نذكر ذلك النذير الذي أصدره الأستاذ مصطفى صادق الرافعي منذ خمسين عاماً حين قال:
"إن العربية لغة دين قائم على أصل خالد هو القرآن الكريم، وقد أجمع الأولون والآخرون على إعجازه بفصاحته، إلا مَن لا حفل له به مِن زنديق يتجاهل أو جاهل يتزندق، ثم إن فصاحة القرآن يجب أن تبقى مفهومة ولا يدنو الفهم منها إلا بالمران والمداولة ودرس الأساليب الفصحى والاحتذاء بها وأحكام اللغة والبصر في حقائقها وفنون بلاغتها والحرص على سلامة الذوق بها، وكل هذا يجعل الترخص في هذه اللغة وأساليبها ضرباً من الفساد، والحال الخاصة في فصاحة هذه اللغة ليست في ألفاظها ولكن في تركيب ألفاظها".(56/9)
ويعني هذا الذي يقوله الأستاذ الرافعي رحمه الله أن اللغة العربية ارتبطت بالقرآن فأصبحت لغة أمة: ولغة فكر وثقافة ولغة عبادة للمسلمين جميعاً الذين يبلغ تعدادهم ألف مليون، وليست لغة مائة مليون هم العرب وحدهم، ولقد حماها ارتباطها بالقرآن مِن أن تتحول لهجاتها إلى لغات مستقلة وحال بينها وبين أن يُقرأ تراثها بقاموس كما يُقرأ تراث اللغات الأوربية. وسيظل الترابط بين المسلمين وبين لغة الضاد قائماً مادام القرآن الكريم وإلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها.
إن اللغات الأوربية حين انسحبت من اللغة اللاتينية إلى اللهجات القومية فأصبحت لغات خاصة انقطعت عن تراثها القديم، وقد أصبح من شأن هذه اللغة أن تتطور وتتطور وهي في كل فترة تنتقل من اللغة المكتوبة إلى لغة الكلام التي تصبح بدورها لغة كتابة، ومن ثم فإن أوربا لا تستطيع أن تقرأ شكسبير أو ملتون أو غيرهما من أعلام الأدب إلا بواسطة القاموس، وليس بين اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وبين هذا التراث أكثر من أربعمائة عام، بينما يقرأ العرب والمسلمون اليوم امرؤ القيس وبينهم وبينه أكثر من ألف وخمسمائة عام كأنما ألقى شعره في نفس اليوم، ولو أن إنساناً عربياً من الجاهلية بعث اليوم لاستطاع أن يتحدث إلينا ونتحدث إليه ويفهم منا ونفهم منه.
عن القول الباطل الذي يردده هؤلاء التغريبيون من قولهم أن اللغة العربية هي لغتنا ونحن أصحابها ولنا حق التصرف فيها هو قول غير صحيح يرده واقع التاريخ ويدحضه منطق البحث العلمي.(56/10)
وقد يكون صحيحاً بالنسبة لعلم اللغات الذي استمد مقوماته من دراسة اللغات الأوربية وأقام نظرياته على أساس واقعها وهو إذ يصح بالنسبة لكل اللغات فإنه لا يصح بالنسبة للغة العربية التي احتضنها القرآن فنزل بها ومن ثم فقد أعطاها "أبعاداً خالدة" تختلف اختلافاً واسعاً عن اللغات وقد تتباين ويتعارض معها، ذلك أن اللغات الأوربية ترجمت كتابها المقدس إلى لغاتها الجديدة، وكانت موجة القوميات الأوربية عاملاً على أن تقيم من لهجاتها لغات خاصة منفصلة عن اللغة الأم، كما انفصلت سياسياً عن النظام السياسي الغربي الذي كان قائماً ومتصلاً بالكنيسة الغربية الواحدة، وهذا أمر يختلف في اللغة العربية تماماً؛ فإن المسلمين لم يترجموا قرآنهم وما يزال يقرؤه الهندي والفارسي والتركي والبربري وغيرهم من الأجناس واللغات بنفس اللغة العربية التي نزل بها، ولذلك فهو قد أقام للغة العربية كياناً خاصاً حماها من التحول إلى العاميات، ومن ثم فإن علم اللغات الحديث الذي تجري محاولة تطبيقه على اللغة العربية هو علم قاصر قامت مستخلصاته على أساس دراسة اللغات الأوربية وظروفها، كما ذكرت ولكنه لم يدرس ظروف اللغة العربية.(56/11)
ولقد اعتقد المسلمون على مدى القرون، وهو الحق: أن لغتهم جزء من حقيقة الإسلام؛ لأنها كانت ترجماناً لوحي الله ولغة لكاتبه ومعجزة رسوله ولساناً لدعوته، ثم هذبها النبي الكريم بحديثه ونشرها الدين بانتشارها وخلدها القرآن بخلوده، فالقرآن لا يسمى قرآناً إلا بها والصلاة لا تكون صلاة إلا بها، وأن "الأرجانون" لأي فكر أو "منهج بحث" لأي فكر إنما يستند إلى خصائص اللغة ولذلك فإن منهج البحث العلمي العربي إنما يستند إلى خصائص اللغة العربية ولا يستطيع أن يستند إلى خصائص لغة أخرى، فلكل لغة منهجها الفكري القائم على معانيها ومضامينها، وكما هاجم المسلمون المنهج الأرسطي وقالوا أنه مستند إلى خصائص اللغة اليونانية التي تخالف اللغة العربية فكذلك الأمر بالنسبة للمنهج الغربي الوافد (ماركسياً أو ليبرالياً أو فرويدياً أو وجودياً)؛ ذلك لأن الفكر الإسلامي منهج البحث الخاص به ومنهج المعرفة الذي يمثله والمستمد من اللغة العربية أصلاً ومن التوحيد الخالص.
ولا ريب أن محاولة فصل اللغة العربية الفصحى عن لغة الكلام بإعلاء اللهجات أو بخلق ما يسمونه لغة وسطى أو لغة الصحافة، كل هذا له خطره وله أبعاده ومخاطره.
إن النظرة اليسيرة قد ترى في ذلك شيئاً مقبولاً، ولكن النظرة العميقة تكشف عن محاذير عميقة أبرزها: الانفصال عن مستوى البيان القرآني؛ ذلك أنه من الضروري أن تظل اللغة العربية متصلة ببيان القرآن ومرتبطة به، فإذا بعدت عنه كان من أخطار ذلك أن تنفصل أو تنعزل عن مستوى البيان القرآني. فإذا مر زمن طال أو قصر انقطعت الصلة بين البيان والأداء العربي وبين القرآن.(56/12)
واللغة العربية: لغة غنية خصبة عملاقة، يقول الخليل بن أحمد في كتاب العين: "إن عدد أبنية كلام العرب 12 مليون و305 ألف و412 كلمة"، ويقول الحسن الزبيدي أن ما يستعمل من ألفاظ اللغة العربية هو 5620 لفظاً فقط. وعندما نزل بها القرآن أزاحت السريانية والكلدانية والنبطية والآرامية واليونانية والقبطية عن مكانها في مصر والشام وأفريقيا وأدالت منها قبل أن ينقضي قرن واحد، فلما بلغت القرن الثالث تحولت الصلوات في الكنائس إليها، ثم كتبت بها اللغات التركية والفارسية والأوردية والأفغانية والكردية والمغولية والسودانية والأبجية والساحلية. كما كتب بها لغة أهل الملايو وقد حدث هذا منذ أكثر من ألف عام.
ثم دخلت إلى اللغات الأوربية كالفرنسية والألمانية والإنجليزية، وفي اللغة الإنجليزية وحدها أكثر من ألف كلمة عربية. ومن الناحية العلمية فهي تفوق أضخم اللغات ثروة وأصواتاً ومقاطع؛ إذ بها 28 حرفاً غير مكررة. بينما في اللغة الإنجليزية 26 حرفاً ومنها مكرر، كذلك فإن اللغة العربية ثراء في الأسماء فيها 400 اسم للأسد و300 للسيف و255 للناقة و170 للماء و70 للمطر؛ لكل واحد منها استعماله الخاص في حالة معينة.
ولقد عرف رجل من أشد خصوم الإسلام قدر اللغة العربية فكتب عنها في كتابه اللغات السامية، ذلك هو أرنست رينان فقال:(56/13)
"من أغرب ما وقع في تاريخ البشر وصعب حل سره: انتشار اللغة العربية، فقد كانت هذه اللغة غير معروفة بادئ ذي بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسلة أي سلاسة، غنية أي غنى، كاملة؛ بحيث لم يدخل عليها منذ يومنا هذا أي تعديل مهم، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأول أمرها تامة محكمة ولم يمضِ على فتح الأندلس أكثر من خمسين سنة حتى اضطر رجال الكنيسة أن يترجموا صلواتهم بالعربية ليفهمها النصارى، ومن أغرب المدهشات أن نبتت تلك اللغة القومية وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمة من الرحل، تلك اللغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم أُعلنت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغير أي تغير يذكر حتى أنه لم يعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا تكاد تعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تبارى، ولا نعلم شيئاً عن هذه اللغة التي ظهرت للباحثين كاملة من غير تدريج وبقيت حافظة لكيانها خالصة من كل شائبة".
هذا وقد أثبت الأستاذ كامل كيلاني أنه ما من فن أو علم أو معنى في شعر أو نثر يتحدث في أدب من الآداب إلا وله ضريب في اللغة العربية، وقد جمع 18 صورة من هذه المقابلات، بينما وجد أن هناك 25 صورة من الأدب العربي لا ضريب لها في الآداب الغربية.
وقد شغلت كلمة (الوفاء) في اللغة العربية من لسان العرب صفحات 278، 279، 280، 281 من جزئه العشرين، بينما لا توجد هذه الكلمة في بعض اللغات كلية.
ولقد كتب جول فيرن الروائي المشهور قصة خيالية عن قوم شقوا أعماق الأرض طريقاً إلى جوفها فلما خرجوا سجلوا أسماءهم باللغة العربية، فلما سُئِل عن ذلك قال: لأنها لغة المستقبل.
ولذلك فمن الخطر فصل اللغة العربية عَن مستوى بيان القرآن، وذلك هو هدف التغريب الذي يعرفه جيداً جميع المستشرقين.
يقول بول كراوس: "لا لغة عربية بدون قرآن".(56/14)
ويقول سيديو: أن "اللغة العربية حافظت على وجودها وصفاتها بفضل القرآن".
ومن ثم فإن كل هذه المحاولات لإفساد جوهرها هي بمثابة هجوم على الإسلام يتخفى وراء عبارات كاذبة مضللة.
(3)
وكانت مجلة البيان الكويتية قد اقترحت أن يطلق عام 1397 عام اللغة العربية الفصحى لغة القرآن، ومن الحق أن اللغة العربية في أشد الحاجة إلى هذه النصرة والتجمع والمؤازرة في هذه المرحلة التي يمر بها العالم الإسلامي والوطن العربي بالذات؛ حيث تتجمع قوى كبيرة للتآمر عليه وقد ارتفعت الأصوات: أصوات دعاة اليقظة الإسلامية بالتحذير من تلك الأخطار التي توجه إلى اللغة العربية الفصحى ..
فإن العدو عندما عجز عن مواجهة القرآن الكريم لجأ إلى مهاجمته عن طريق اللغة في مجال البيان، ولجأ إلى التشكيك فيه عن طريق السنة في مجال الفقه. وعلى شباب المسلمين المثقف أن يحذر مما يوجه الآن إلى اللغة والسنة من مؤامرات وتحديات ..
ولقد صدرت في السنوات الأخيرة مؤلفات ودراسات تكشف عن هذه المحاذير، في مقدمتها "الزحف على لغة القرآن" للأستاذ الجليل أحمد عبد الغفور عطار، و"العامية" للدكتورة نفوسة، وصدر لكاتب هذه السطور: "اللغة العربية بين حماتها وخصومها"، ومنذ وقت قريب عُقد في الخرطوم مؤتمر بحث تطوير دراسة اللغة العربية، قرر توحيد مناهج إعداد معلمي اللغة العربية والعمل على تأكيد قرار معلمي أفريقيا الخاص باعتبار اللغة العربية إحدى ثلاث لغات أفريقيا أساسية يدرسها كل أفريقي مع لغته الأصلية، كما أوصى بالإسراع في تعريب التعليم الجامعي.(56/15)
والواقع أن مجامع اللغة التي قدمت عدداً أوفر من المصطلحات قد أصبحت اليوم محتواة بمجموعة من خصوم اللغة العربية الذين استطاعوا السيطرة عن طريق ما أسموه دراسات علم اللغة والأصوات وهم الذين يحملون لواء الدعوة إلى تشجيع العاميات واللهجات ويفسحون أمامها الطريق لتدخل القواميس ولتسطير على منهجية البيان العربي الأصيل الذي فرضه القرآن الكريم والذي يلتزم أهل العربية بالاتصال به والاستمرار في مستواه ..
والمؤامرة معروفة ومدخلها: تطوير اللغة، والقول بوضع اللغة في خدمة العصر، وهذه كلها عبارات لم تعد تخدع أحداً، ومعروف هدفها وهو الفصل بين العرب وبين لغة القرآن التي جمعتهم إلى محاولة الوصول باللهجات العامية في كل قطر إلى لغة تمزق الوحدة الفكرية والسياسية الجامعة بين العرب أنفسهم وبين العرب والمسلمين. ولقد قاومت اللغة العربية الفصحى محاولات مستمرة لم تتوقف وصمدت صموداً عنيداً أمام جميع التحديات الاستعمارية في المغرب العربي وفي سوريا وفي مصر، وفي كل مكان حيث حاول النفوذ الأجنبي ضربها ضرباً مزدوجاً باللغات الأجنبية وبإعلاء اللهجات العامية .. قاومت اللغة العربية كل المحاولات من إدماج وإزالة وإبادة؛ لأنها مدينة لقاموسها الجوهري ولنظام بناء الكلمات وتركيب العبارات والنحو والصرف، ومن هنا كانت دعوتنا إلى نقل العلوم والتكنولوجيا من أفق اللغات الأجنبية إلى أفق اللغة العربية، فنحن لا نطالب بأن ينقل الفكر؛ وإنما نطالب بأن ينقل العلم إلى أفق اللغة العربية لا أن ينتقل العرب والمسلمون إلى أفق اللغات الأجنبية. ولقد واجهت اللغة العربية الفصحى في العصر الحديث مقاومة ضخمة في كل مكان: فقد حيل بينها وبين نومها الطبيعي وامتدادها مع انتشار الإسلام إلى آفاق العالم وخاصة في أفريقيا، وتشير التقارير إلى أن اللغة العربية خارج الوطن العربي هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في أفريقيا المعاصرة، وهناك دول تعتبر العربية(56/16)
فيها أكثر اللغات الوطنية انتشاراً. في موريتانيا وتشاد ومالطة، فانتشار العربية في موريتانيا لا يقل عن انتشارها في المملكة المغربية، فاللهجات البربرية المختلفة هي وسيلة التعامل المحلية عند حوالي ثلث سكان موريتانيا، ولكن نصف أبناء البربرية في موريتانيا يستطيعون التعامل في أمور الحياة باللغة العربية وفي المناطق الممتدة من السنغال ومالي إلى تشاد فإن العربية مستخدمة هناك في مناطق كثيرة كلغة أُم أو كلغة تداول، بل إن العربية هي أكثر اللغات استخداماً في المنطقة الممتدة من تمبكتوا (مالي) إلى كانم وواداي إلى غرب السودان.(56/17)
ويقول التقرير أن أهم تجمع بشري يتعامل بالعربية في هذه المنطقة يوجد في تشاد؛ حيث يعيش فيها حوالي مليون و800 ألف مِمَن يستخدمون اللغة العربية كلغة أُم. والعربية بهذا هي أكثر اللغات الوطنية انتشاراً في تشاد؛ فأبناء اللغات الأخرى يكونون 40 في المائة فقط من سكان تشاد، وهناك منطقة لم يرتبط تعريبها بالإسلام وهي جزيرة مالطة: المنطقة الوحيدة التي تخلو من المسلمين ولغة الحديث فيها إحدى اللهجات العربية، أما في موريتانيا وتشاد ومالطة فإن العربية قاصرة على أمور الحياة اليومية البسيطة، ولكن العربية بعيدة عن هذه المناطق في المجالات الثقافية واللغة السياسية، وعلى العكس من ذلك نجد الموقف اللغوي في الصومال حيث تسود في أمور الحياة اليومية البسيطة الواحدة لغة واحدة هي اللغة الصومالية، ولكن أبناءها يتوسلون بالعربية في أمور الثقافة الجادة والتعليم، ويهتم الصوماليون اهتماماً كبيراً بتعليم اللغة العربية ويحسن كثير منهم التعامل بها فتصبح بمثابة اللغة الأم الثانية .. وقدر ارتبط تعليم العربية في الصومال بحفظ القرآن الكريم وبالثقافة الدينية عموماً، غير أنه في ظل الحكم الماركسي الحالي يعاني السكان والعربية من مشاكل كثيرة ليس أقلها قفل المعاهد الإسلامية ومنع الخطابة باللغة العربية .. إنها محنة نعتقد أنها سوق تزول عن شعب الصومال .. وهناك دول، يشكل أبناء العربية فيها أغلبية سكانية ولكنهم يكونون أقليات لغوية هي (مالي والنيجر وإيران وأريتريا وأربكستان وأفغانستان)، وقد لاحظ الرحالة الغربيون أن العربية منتشرة من شمال السنغال ومنطقة النيجر إلى تمبكتو، ثم من بورنو إلى دارفور في السودان .. والمنطقة التي ينقطع فيها استخدام العربية هي المنطقة من بورنو إلى تمبكتو. كما أشار التقرير إلى أن أكبر تجمع بشري يستخدم العربية في دولة مالي والمناطق المتاخمة لها هم (ذووحسان)، وقد تُعرف لهجتهم العربية باسم (الحسانية)، وهم(56/18)
الذين يُسميهم ابن خلدون (عرب المعقل)، وأغلب الظن أنهم دخلوا هذه المنطقة قبيل دخول الهلالية إلى المغرب. كما توجد أقليات عربية اللغة في عدد من الدول الأسيوية، وفي مناطق أخرى من إيران تعيش جماعات تتعامل باللغة العربية في حياتها الخاصة ويقدر عدد هؤلاء بنصف مليون ..
أما في تركيا فتعيش جماعات عربية في منطقة ماردين ويقدر عدد أبناء العربية في تركيا بحوالي رب مليون نسمة، وهناك عدة جزر لغوية صغيرة في أفغانستان وأزبكستان ..
ويقدر الباحثون أن اللغة العربية الآن هي لغة حوالي مائة وخمسة عشر مليوناً من العرب (1970)، أما الجماعات غير العربية فهي لا تزيد عن خمسة ملايين نسمة، وقد لوحظ ازدياد انتشار العربية في الأجيال الصاعدة مع انتشار التعليم ويصدق هذا على جنوب السودان رغم البطء الشديد في نشر التعليم هناك، وأكبر جماعات بشرية غير عربية في البلاد العربية هي جماعات الأكراد (مليون) والبربر (4 ملايين) والنوبيون والمهرة وأبناء لغات جنوب السودان. وفي أقصى جنوب جزيرة العرب تجد في مناطق من جمهورية اليمن الشعبية عدداً من المتحدثين بلغة سامية قديمة هي لغة المهرية، ويعتبر النوبيون أهم تجمع بشري غير العربي في مصر (ربع مليون).
ولا ريب أن هذه الإحصائيات تعطي صورة النمو المتجدد للغة العربية في العالم الإسلامي بالرغم من كل محاولات حصر اللغة الفصحى وحجبها وتغليب اللهجات العامية واللغات الأجنبية عليها، وبالرغم من محاولات تغيير أبجديات اللغات في الملايو وبعض البلاد الأفريقية ..
ولقد كان المرحوم مصطفى صادق الرافعي من أوائل المجاهدين في الدفاع عن اللغة الفصحى، حتى وصف بأنه (حارس لغة القرآن)، يقول:(56/19)
"قد أدهشتني الكلمة التي جرت على قلم يوسف حنا من اعتقادي أني المختار لحراسة لغة القرآن، فأنا لم أقل له هذا ولم أعتقدها مطلقاً، ومن أجل ذلك أثّرت فيّ هذه الكلمة تأثيراً عظيماً وأعددتها أنباء من الغيب واعتقدتها والظاهر أنها كذلك" ..
والحق أن كتاب الرافعي (إعجاز القرآن) كان بمثابة القنبلة الخطيرة التي ألقاها الرافعي في جو ظن خصوم الإسلام والعربية أنهم قادرون فيه على الهدم دون أن يتلفت إليهم أحد ..
ولكن اليقظة الإسلامية كانت تنطلق دائماً مكتسحة كل هذا الركام الذي شيده الأعداء. وفي هذا المجال يذكر رجل آخر من المجاهدين في سبيل اللغة العربية هو أحمد السكندري:
كان الدكتور منصور فهمي يقول كلما واجهتهم في المجتمع اللغوي مشكلة:
"انتظروا السكندري، أرجئوا المسألة فعند السكندري علم ما أشكل علينا ولديه حل ما استعصى علينا"، فلما مات السكندري قال منصور فهمي: "الآن يموت حلال المشكلات والمرتجي في اللغة للمستعصيات". وكان السكندري يقول: "لا يجوز التعريب إلا إذا تحقق العجز في نقل أسماء ومصطلحات الفنون والصناعات وأنواع النبات والحيوان والجماد".
وهو واحد من مؤسسي المجمع ومن أكثر المتحدثين فيه، وقد كان عضواً في لجنة الرياضيات والعلوم الطبيعية والكيميائية وعلوم الحياة والطب، بل لقد كان عضواً في سبع لجان من أحد عشر لجنة، وهو من ذلك الرعيل الأول لدار العلوم: الخضري والمهدي وحفني ناصف -أولئك الذين كانت لم مواقف حاسمة إزاء المؤتمرات التي وجهت إلى اللغة في مطالع العصر ..
ومنذ بدأت فكرة التجمع لحماية اللغة والنظر في أمرها كان السكندري في المقدمة وهو قد شاهد توفيق البكري وحمزة فتح الله والشيخ الشنقيطي وحفني ناصف عندما احتجوا لأول مرة ووضعوا عشرات من الكلمات، ثم جاء بعدهم نادي دار العلوم فوضع مئات الكلمات وشارك هو في هذه اللجنة ..(56/20)
والسكندري: أزهري درعمي معاً: شغف باللغة وتخصص فيها وكان من أصحاب العزائم، كان مؤمناً بمبدأ لا يتزعزع: أن اللغة تكونت من عناصر تمت للأبدية والخلود، فعنده أن عناصر هذه اللغة تنسحب إلى ماضٍ لا أول له، وفي طاقتها أن تمد إلى مستقبل لا آخر له، فاللغة عنده ماضيها وحاضرها ومستقبلها وحدة قوية متماسكة تتسع لكل المصطلحات. وكان يُعَد من المتشددين في القديم. وقد جعل المجمع بالغ الحرص على توفير المظان القديمة، شديد العناية بممارسة ما احتوته من مدخور العربية وكنوزها. ولم تكن معاركه داخل المجمع وحده؛ ولكنه كان معاركاً في كل مجال من أجل اللغة. وعندما كان أحمد زكي باشا شيخ العروبة يكتب كان يتحاماه كثيرون، ولكن شيخ العروبة أراد أن يكتب عن اللغة ويتعرض لكلمات: "على الحركرك، ويا الله)، فكتب رأيه، ثم سأل أصدقائه وطالب السكندري بالذات أن يدلي برأيه في الكلمتين ..
وقال السكندري: "ظن الباشا أن صمت مثلي إنما هو علم يكتمه ولا والله ليس إلا قلة الاعتداد بما خطر على بالي والاستهانة بما سنح لي في تخريج هذا الحرف (على الحركرك)، واللهُ يقول (ولا تقف ما ليس لك به علم)، فأما إذا أحرجني الباشا مرتين ولم يرضَ لي غير إحدى خصلتين: الفتيا ولو بغير مضع، أو استحقاق الإلجام بلجام من نار، فإني أستغفر الله وأقول ما لم أتعود قوله:(56/21)
خطر ببالي أن (على الحركرك) محرف من نقطتين فصيحتين هما: حرَج الحرَج قلبت الجيم فيهما كافاً لتقاربهما في المخارج، الحرَج بفتح الراء معناه أضيق الضيق، فإذا أضيف إلى مثله كما يقول فلان في ضيق الضيق كانت المبالغة أشد، إذ هو بمنزلة أن يقال: أضيق ضيق الضيق، وهو ما تريده العامة وهو نظير قولهم (شفت فيه ويل الويل ومر المر). ويحتمل أن يكون محرفاً عن الحرَج الحرَج، فإذا كان يعجب الباشا مثل هذا التخريج فذاك، وإلا فإنني أعتقد أن إجابتي إنما هي على حرج الحرج، وأربأ بنفسي أن أكون في رأيه مستأهل الإلجام بلجام من نار والعياذ بالله" ..
وبعد فمن الحق للغة العربية أن تفرد لها عاماً يشترك فيه المجاهدون دونها، ولعل الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار أن يقدم وجهة نظره في هذه الدعوة المطروحة الآن على بساط البحث في عدد من البلاد العربية ..
(3)
لماذا دراسة اللهجات العامية والاهتمام بها ؟!
ما تزال اللغة العربية تدافع عن كيانها الذي يرهق الاستشراق والتغريب والذي تخطط له الماركسية في كل مكان تحل فيه، كما يخطط له الاستعمار والصهيونية بوصفها لغة القرآن التي تجمع العرب إلى وحدة الأمة والجماعة وتربط المسلمين إلى وحدة الفكر والثقافة، ولقد ترددتْ في المرحلة الأخيرة ظاهرة تبدو كأنها دفاع عن الفصحى ولكنها تُخفي في أعماقها حربها وخصومتها، تلك هي ظاهرة دراسة اللهجات العامية، ترى ذلك واضحاً اليوم في عديد من مجامع اللغة ومعاهد الدراسة العالية.
وقد حاول بعض الباحثين أن يدعي أن الغاية من دراسة اللهجات هو الكشف عن أنجع الوسائل المؤدية إلى جعل لغة الضاد (موحَدة وموحِدة) في جميع البلاد العربية، أي أن تكون أكبر أداة لتوحيد الشعوب الإسلامية في أمة واحدة.(56/22)
ولكن المتعمق للأمور يرى أن ذلك وَهْم من الأوهام، وأن التجربة لم تحققه؛ بل حققت عكسه، وأن بعض المعاهد التي استقدمت أمثال أنيس فريحة وغيره لم تزد أن أعطت دعاة العامية سلاحاً ضد الفصحى بالإضافة إلى أسلحتهم المشرعة اليوم في مجال المسرح والإذاعة والكاريكاتير ..
يقول الأمير مصطفى الشهابي: "إن اللهجات العربية العامية تعد بالعشرات بل بالمئات وكلها اليوم لا ضابط لها من نطاق أو صرف أو نحو أو اشتقاق أو تحديد لمعنى الألفاظ؛ فهي كلام العامة يستعمل في الأغراض المعاشية وفي علاقات الناس بعضهم ببعض .. وهذا الكلام وقتي لا يثبت على مرور الأيام، وموضعي لا يتجول من قطر عربي إلى قطر عربي آخر .. ومعناه أن اللهجات العامية لا يمكن أن تكون لغات علم وأدب وثقافة وليس في مقدورها أن تعيش طويلاً وأن يعم بعضها أو كلها، الأقطار العربية كافة، وكل ما يكتب بلهجة عامية يظل محصوراً في قطره وقلما يفهمه غير أبناء ذلك القطر أو غير طائفة من أبناء ذلك القطر، فإذا تدارسنا حقائق هذه اللهجات ووضعنا لكل منها قواعد رجراجة، فماذا تكون مغبة هذا العمل .. إن أخشى ما نخشاه أن يستهوي هذا الموضوع عقول بعض هؤلاء الطلاب فيعكفوا على معالجة تنظيم الكتابة والتأليف باللهجات المختلفة وعلى طبع هذه الرطانات ونشرها فتكون النتيجة تشويشاً وضرراً يباعِد بعض الأقطار العربية عَن بعض، بدلاً من أن يتوحد بلغتها، أي تكون النتيجة مخالفة تماماً المخالفة لِمَا يتوقع من تدريس اللهجات العامية في خدمة الفصحى".
أما القول بأن تدريس هذه اللهجات يفضي إلى معرفة مشكلات الفصحى وإلى مداواة أدوائها فهو قول ضعيف في نظرنا؛ فأدوات الفصحى معروفة تحتاج إلى مَن يعالجها بإخلاص ونشاط وصبر ومثابرة وأهمها وضع المصطلحات العلمية أو تحقيقها وتبسيط قواعد الكتابة والإعراب والصرف والنحو وتبسيط الكثير من تعليلات القواعد الصرفية والنحوية.(56/23)
وجميع هذه الأمور الشائكة يعرفها علماؤنا الأثبات ولا علاقة لها باللهجات العامة وقواعد تدريسها. ومن الطبيعي القول بأن هذا التبسيط لم يمس جوهر الفصحى وسلامتها وأنها ستظل صعبة في نظر بعض الناس ولا مجال للبحث عن بعض الآراء التي تذهب إلى جعل التبسيط تشويهاً للفصحى. المطلوب هو رد العامي إلى الفصيح، كما فعل الشيخ أحمد رضا العاملي وعلماء أثبات وفقهاء باللغة مِمَن يعرفون كيف يُفيدون الفصحى مِن دراساتهم وكيف يقربون العامية منها وكيف يمنعون طغيان العامية عليها. إن قضية الفصحى والعامية لا تُحَل بدراسة اللهجات العامية وتدريسها للطلاب؛ بل تُحَل بتيسير قواعد الفصحى مع الاحتفاظ بسلامتها، وعلى الأخص نشر التعليم في سواد الشعوب العربية، ومنها فرض التعليم بالفصحى على المعلمين وعلى التلاميذ في جميع المدارس، ومنع طبع رسائل بالعامية أو التكلم بها في المدارس والمسارح ومحطات الإذاعة ودوائر الحكومات.
(4)
الفصحى في لغات أوربا
يقول (والت تايلور) في رسالته عن الألفاظ العربية في اللغة الإنجليزية أنه في الفترة ما بعد 1450 ميلادية كان الداخل إلى اللغة الإنجليزية من الألفاظ العربية بمعدل 83 في المائة، وذلك بعد أن اتسعت آفاق التجارة وأسباب المواصلات بين الشرق والغرب، وقد كان للجزيرة الأندلسية أعظم أثر فيما قدمته العربية للغات الأوربية، فالسيادة العربية التي بقيت في تلك الجزيرة بضعة قرون قد طعمت لغتها الأسبانية والبرتغالية بعدد كبير من الألفاظ.
والذي يفتح كتاب دوزي عن الألفاظ في اللغة الأسبانية يجد فيه نحو ألف وخمسمائة كلمة من أصل عربي بعضها يرجع إلى عهود العرب الأولى في الأندلس.
كذلك فقد دخلت إلى أوربا ولغاتها مصطلحات كثيرة عن طريقة جزيرة صقلية وعن طريق الحروب الصليبية.
وقد قسم أنيس المقدسي هذه الألفاظ العربية إلى عدة أنواع:
أولاً: أعلام أشخاص وأمكنة وألقاب خاصة.
ثانياً: ألفاظ ومصطلحات مستحدثة.(56/24)
ثالثاً: مصطلحات علمية وخصوصاً الفلكية منها كأسماء النجوم (إبرة العقرب) و(الشعري) و(رأس الثعبان).
رابعاً: ألفاظ عربية تبنتها اللغة الإنجليزية أمثال منبر وكنيسة وسراط وفردوس وسكر ومسك وفندق.
وقد اندغمت هذه المصطلحات والألفاظ في اللغة الإنجليزية حتى لم تعد أصولها العربية واضحة.
ومجال القول في هذا الموضوع ذو سعة، وقد تناوله عشرات الباحثين الأجانب:
1- والتر تايلور: ما اكتسبت الإنجليزية من العربية.
2- الأب لامنسي: علاقة العربية بالفرنسية.
3- دوزي: علاقة العربية بالأسبانية والبرتغالية.
4- قاموس أكسفورد.
5- قاموس وبستر.
6- معجم الألفاظ الفلكية: أمين المعلوف.
7- معجم ألفاظ النبات: للدكتور أحمد عيسى.
8- معجم الألفاظ الزراعية: للأمير مصطفى الشهابي.
9- معجم العلوم الطبيعية والطبية: للدكتور محمد شرف.
10- معجم الألفاظ الداخلة في اللغة العربية: للقس الفيسي.
أنور الجندي(56/25)
الفكر الإسلامي والتحديات التي تواجهه في مطلع القرن الخامس عشر الهجري
الأستاذ أنور الجندي
لاريب في أن نشأة الفكر الإسلامي في حضانة الدعوة الإسلامية له جذوره العريقة وأصوله الأصلية المستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة واللغة العربية وسيرة الرسول وتاريخ الإسلام والأدب العربي وقد اكتمل مفهوم الإسلام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم "اليوم أكملت لكم دينكم" وقد كانت قواعد الفكر الإسلامي الأساسية قد بدأت ونمت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم مستمدة من القرآن وأن هذه القواعد لم تغير من بعده ولم تجر أية إضافة إليه فظلت قيمتها الأساسية كما جاء بها وحي السماء والقرآن وسنن النبي في تفسيرها وتطبيقها. وإنما جرت حركة العمل من داخل الإطار الذي رسمه القرآن. ولقد كان اتصال المسلمين بالفلسفات اليونانية والفارسية والهندية تجربة قاسية انتهت بانتصار الإسلام بمفهوم "السنة الجامعة" وهزمت جميع محاولات السيطرة والاحتواء والغزو الفكري كما نسميه بلغة العصر وبقيت الحقائق الأساسية قائمة.
إن الإسلام ليس ديناً كسائر الأديان ولكنه حركة اجتماعية واسعة تشمل الاعتقاد والمجتمع والدولة ومختلف نظم الاقتصاد والسياسة والأخلاق وأن ميزة الإسلام أنه نظرية كلية شاملة وأنه لم يجزئ الحياة بل نظر إليها نظرة كلية كما نظر إلى الإنسان كوحدة نفسية وجسمية لا تنفصل.
وفي العصر الحديث وفي إبان الحملة الاستعمارية والصهيونية والماركسية واجه الإسلام تحديات خطيرة أبرزها:(57/1)
أولاً: إثارة الشبهات حول حقيقة الإسلام والتشكيك في طبيعته الجامعة التي ميزته عن سائر الأديان وهو أنه منهج حياة ونظام مجمتع وإثارة الشبهات حول مفهوم الدين المنزل من السماء والوحي بصفة عامة والدعوة إلى هدم الأديان عن طريق ما يسمى (علم الأديان) المقارن أو القول بأن الأمم بدأت وثنية ثم عرفت التوحيد بعد ذلك. وهو قول معارض للحقيقة التي جاءت بها الكتب المنزلة والتي تثبتها كل الدلائل التاريخية والكشوف الأثرية، وهي أن البشرية بدأت موحدة ثم اعتراها التغير واستسلمت للفكر البشري الوثني والمادي وأن آدم أبو البشرية كان نبياً وهو موحداً. وهناك تلك الأطروحات الباطلة التي استمدها خصوم الإسلام من غير المسيحية بالقول بأن الإسلام دين عبادي وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان نبياً روحياً وأنه لم يكن حاكماً وما أقام دولة وهو وهم باطل كشفت البحوث الصحيحة عن فساجه وعن أن الذين قالوا به إنما استمدوه من المسيحية ومن مفاهيم الاستشراق المعادية للإسلام كذلك فإن مفهوم التوحيد الذي عرفته بعض الأديان السماوية التي انحرفت تفسيراتها ليس هو مفهوم التوحيد الخالص الذي جاء به الإسلام، وأن هؤلاء القوم يدعون أن لهم إلهاً خاصاً بهم، أما الإسلام فيقرر أن الله تبارك وتعالى هو رب العالمين كذلك فإن ما يدعيه البعض من توحيد إخناتون لم يكن في الحقيقة هو التوحيد الصحيح الذي جاءت به أديان السماء وأن التوحيد كان دعوة أديان السماء المنزلة منذ آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولم تكن قاصرة على دين واحد هو الدين الذي أنزل على موسى عليه السلام كما تحاول أن تطرح ذلك نظريات فاسدة.
وقد تداولت البشرية التوحيد الذي جاءت به الأديان رسولاً بعد رسول ونبياً بعد نبي وفي خلال الفترات التي كانت تعود إلى الوثنية وإلى الفكر البشري ولكنها كانت تعرف التوحيد منذ نشأة الحياة الإنسانية.(57/2)
وقد تميز الإسلام عما سبقته من مفاهيم حول الله تبارك وتعالى بأنه جمع بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وأنه غاير مفهوم الوثنية ومفهوم التعدد والتثليث والشرك وغيره بأن أقر المسلم بالله تعالى رباً خالقاً وبكل ما قدر الله من أمر وهو ما تمثله عبارة القرآن في فاتحة الكتاب "إياك نعبد وإياك نستعين".
ثانياً: إثارة الشبهات حول مفهوم الاجتماع الإسلامي، في شأن ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالدين والدعوة إلى هدم الأخلاق عن طريق مذاهب الوجودية الفرويدية وهدم الأسرة عن طريق مذاهب تدعي أن الأسرة ليست الفطرة وتحاول هذه المذاهب التي عرفت باسم مدرسة العلوم الاجتماعية أن تشكك في ثبات القيم الأخلاقية وارتباطها بالإنسان والدعوة إلى أخلاق متطورة تختلف باختلاف البيئات والعصور.
ويدخل في هذا تلك النظريات التي طرحها فرويد وسارتر ودوركايم.
وأخطر ما يواجه المسلمين من هذه النظريات الوافدة المطروحة في أفق الفكر الإسلامي أن يظن البعض أنها علوم ومفاهيم علمية مقررة والحقيقة أنها مجموعة من الفروض التي قدمها بعض الفلاسفة والمفكرين وأن كثيراً منها ثبت فساده وفشله وأن أبرز ما يدلل على اضطرابها هو عجزها عن العطاء أو عن الثبات مع الزمن أو البيئة وعدم صلاحيتها للتطبيق بعد قليل مما جعل أصحابها ودعاتها يغيرونها بالحذف والإضافة ومع ذلك فهي من الفكر البشري الذي لا يثبت أمام المفاهيم الربانية الحقة التي قدمها الإسلام في مجال النفس والاجتماع والأخلاق.
بل لقد تبين أن هذه النظريات الداعية إلى التحرر من القيم الأخلاقية إنما هي مفاهيم تلمودية قد صنعت بدقة في أسلوب علمي براق زائف وأن بروتوكولات صهيون كشفت عن ذلك صراحة.(57/3)
وأن أغلب هذه النظريات إنما كانت موجهة في الحقيقة ضد الدين الذي عرفته أوربا والذي لم يحقق لها استجابة صحيحة مع أشواق النفس الإنسانية فحال بينها وبين ممارسة الحياة الاجتماعية الطبيعية حين فرض عليها "الرهبانية" ومن ثم كانت هذه الموجة العاتية التي يطلقون عليها ثورة الجنس للوصول إلى أقصى الطرف الآخر في الإباحية وتحرير مفاهيمهم من أغلال المفاهيم المسيحية الجامدة. وهذه القضية بجملتها ليست مطروحة في أفق الفكر الإسلامي الذي دعا دينه إلى حق المتاع الدنيوي بالطعام والمرأة في أوضاع صحيحة وضوابط كاملة دون أن يحرم الإنسان منها شيئاً.
ولقد كانت نظرية فرويد بالتفسير الجنسي للتصرفات الإنسانية موضع نقد وتجريح من علماء النفس أنفسهم فضلاً عن معارضتها للفطرة الإنسانية وقد تبين في العصر الأخير أن العامل الجنسي ليس هو المصدر الأوحد للتصرف الإنساني ولمنه واحد من عوامل كثيرة منها تأكيد الذات ومركب النقص والإيمان بالعقيدة ذلك الدافع الخطير إلى الموت في سبيل الحق.(57/4)
ومن منطلق حرب اليهودية للجوييم أو للأميين كانت محاولتهم لهدم كل قيم الأخلاق والاجتماع والأسرة على النحو الذي قام به فرويد ودوركايم الذي كانت نظريته في علم الاجتماع قائمة على إنكار القواعد الأخلاقية والدينية التي قررها الدين الحق وإنكار فطرة الدين والأسرة والزواج ودوركايم هو الذي روج للنظرية القائلة بأن الدين لم ينزل من السماء وإنما خرج من الجماعة نفسها وهو يدعو إلى ما يسمى بالعقل الجمعي الذي ينكر مسؤولية الإنسان عن عمله والتزامه الأخلاقي الذي هو مصدر الحساب والجزاء الأخروي، كما أنه ينفي القداسة عن الدين والأخلاق والأسرة ويشكك فيها ويدعو إلى تحطيم الدين لأنه يعوق التطور، هذه الأفكار المسمومة التي روجتها التلمودية والفقكر الغربي بعد أن سقط أسيراً للتلمودية، يحاولون الآن طرحها في أفق الفكر الإسلامي لإخراجه عن فطرته وذاتيته ومفهومه الرباني الجامع القائم على التوحيد والرحمة والإخاء البشري.(57/5)
ولعل من أخطر ما يواجه اليقظة الإسلامية في مطلع القرن الخامس عشر الهجري هو هذه التحديات التي تتصل بالمجتمع والأسرة والطفل والمرأة، المستمدة من هذه النظرة المادية الخالصة التي يقوم علم الاجتماع وعلم النفس كما يدرس الآن في الجامعات حيث ينشئ أجيالاً تقوم عقليتها على أساس النظرة المادية الخالصة إلى الإنسان وحيث تنظر في سخرية وامتعاض إلى الأخلاق والدين والأسرة. ونرى أن هذا الذي تعلمه ليس مجرد نظريات لها مقابل في الفكر الإسلامي أكثر أصالة وأعمق نظرة بل هو من الحقائق العلمية والمسلمات التي لا مرد لها، بينما هي لا تعرف وجه الحقيقة بالنسبة لمفهوم الإسلام الحق الذي هو فطرة الله. فطرة الله التي فطر الناس عليها وهو المفهوم الذي يقرر أن الإنسان روح وجسد وعقل وقلب وأنه لا يمكن تفسيره عن طريق المذاهب المادية التي تعامله كالحيوان أو المناهج التجريبية التي تعامله كالمادة الصماء. ولاريب أن نظرية دوركايم في علم الاجتماع حين تلتقي بنظرية فرويد في علم النفس ونظرية ماركس في الاقتصاد من شأنها أن تشكل إنساناً مضطرباً مزعزع الوجدان.
ومن عجب أن تبرز هذه المفاهيم في مختلف مجالات الثقافة والتعليم والصحافة بينما تختفي مفاهيم الإسلام في النفس والأخلاق وتتضائل ولا تعرض حتى على أنها وجهة نظر الأمة التي تواجه تلك القضايا والتحديات بل لعله في الحقيقة ليس هناك مفهوم أعمق وأصدق من هذا المفهوم الإسلامي وأن مفهوم الغرب كان مصدر الكارثة التي تحل بالبشرية اليوم لا نفصاله عن الفطرة والعلم ودعوته إلى الانشطارية بين الروح والمادة والعقل والقلب وهو مصدر التمزق والغثيان والغربة التي هي أزمة الحضارة الغربية المعاصرة.(57/6)
ثالثاً: من أخطر التحديات التي تواجه الفكر الإسلامي ما طرحه الوافد في أفقه من تفسيرات غربية وماركسية وصهيونية وهي جميعها تفسيرات مضللة مستمدة من التفسير المادي للتاريخ الذي طرحه إنجلز وماركس وهو مفهوم ناقص لأنه يتجاهل عوامل كثيرة لها أثرها في توجيه التاريخ.
إن تفسير التاريخ الإسلامي عن طريق مناهج التفسير الغربي هو بمثابة عجز عن النظرة الصحيحة لحركات ووقائع التاريخ الإسلامي فقد قاس الكتاب الغربيون الوقائع الإسلامية على ظروف الامبراطورية الرومانية وغيرها مع اختلاف الظروف والمقاييس.
كذلك فقد كانت نظرة الغربيين إلى تاريخ الإسلام ناقصة وقاصرة لأنها صدرت عن ذلك الاعتبار الخاطئ بأن تاريخ الغرب هو تاريخ البشرية وأن ما عدا ذلك ليس تاريخاً ولا يدخل إلى ساحة المقاييس أو الصورة العامة.
وأشد أنواع الخطأ هي فكرة "الحتمية" التاريخية و "الجبرية" الاجتماعية التي يجرى تطبيقها على التاريخ الأوربي، وأشد ما عجزت عنه تفسيرات الغربيين للإسلام هي عجزهم عن فهم ذلك الجانب المعنوي والروحي: والوحي والنبوة والرسالة السماوية وما يتصل بها من بناء القوة القادرة بإيمانها على هزيمة القوة المادية التي هي أكبر منها عدة وعدداً؟
وتتمثل المعالجة الغربية الظالمة لتاريخ الإسلام في أن علماء الغرب فرضوا التقسيم الغربي للعصور التاريخية على تاريخ العالم وتعميم مقايستهم فيها، فالعصور الوسطى مثلاً هي عصور الظلام في رأيهم ما دامت أوربا كانت في الظلام متجاهلين الحضارة العربية الإسلامية التي كانت متألقة في تلك العصور وتاريخ أفريقيا السوداء يبدأ عندهم حينما دخلها الرحالة الأوروبيون، أما قبل ذلك فليس لها تاريخ، وتمتد هذه النظرة إلى الفكر العالمي الذي هو عندهم الفكر الغربي.
وقد تجسدت هذه النظرة في نظريات ولدت في الغرب قسمت شعوب العرب إلى فئات: دماء بعضها نقية زرقاء، ودماء بعضها الآخر سوداء، وإلى أجناس عليا وأجناس دنيا.(57/7)
ومن منطلق التفسير المادي للتاريخ عجز المؤرخون الأوروبيون عن تفسير الأحداث الكبرى في تاريخ الإسلام وخاصة تفسير سرعة انتشار الإسلام فما زالوا يقيسون ذلك بالمقياس المادي وكذلك انتصار المسلمين بالعدد الأقل على الروم والفرس بالأعداد الضخمة وهم يسقطون من حسابهم القوة المعنوية: قوة الإيمان التي هي في تقدير التفسير الإسلامي للتاريخ عامل مواز إن لم يكن أهم من القوة المادية.
كذلك فقد عجز كتاب الغرب ومؤرخوه عن ضبط النفس في تقدير المواقف المشتركة كمعركة بواتيه والحروب الصليبية والاستعمار الحديث فانحرفوا في تفسيرها مع أهوائهم ومع غرورهم واستعلائهم وبروح الاحتقار والانتقاص للشعوب الضعيفة والمستعمرة.
وكما حمل التفسير المسيحي للتاريخ روح الخصومة، كذلك حمل التفسير الصهيوني للتاريخ الإسلامي روح الحقد، وكان التفسير الماركسي للتاريخ أكثر حقداً وخصومة، وقد عملت هذه التفسيرات على إعلاء شأن الحضارات القديمة والأديان الوثنية السابقة للإسلام أو الإدعاء بأن العرب كانوا ناهضين ومتحضرين ولم يكن ينقصهم إلا قائد لينهضوا ونسوا أن العرب حاربوا الرسول ثلاثة عشر عاماً ووقفوا بالخصومة إزاء كلمة الإسلام حتى فتح الله لها أفقاً جديداً في يثرب.
رابعاً: الدعوة إلى إثارة العصبية والعنصرية وإعلاء الأجناس البيضاء وذلك في محاولة لفرض النفوذ الاستعماري الغربي على الأمم الملونة والقول بوصاية زائفة للجنس الأبيض على العالم والبشرية.
كما عمدوا إلى إذكاء رياح الدعوة إلى الإقليمات والقوميات الضيقة للقضاء على روح الوحدة الإسلامية الجامعة بين الدول الإسلامية والعربية والتي كانت تجمعها تحت راية الخلافة الإسلامية سواء منها ما كان تابعاً للدولة العثمانية (كالعرب والترك) أو بقية البلاد الإسلامية التي كانت تدين بالولاء للخليفة المسلم أمام المسلمين.(57/8)
ولقد حملت دعوات الإقليمية والقومية رياح العصبية والعنصرية الغربية وكانت محاولة خطيرة لوضع الحواجز التي تجمعها رابطة العقيدة والثقافة والتوحيد.
ولقد استهدفت هذه الدعوة في البلاد العربية إلى إعلاء طابع الاستعلاء الجنسي المغلق في مواجهة الأمم الإسلامية، وخلق طابع الانعزال والانفصال الكاملين في التاريخ والتراث والمقومات الإسلامية واستهدفت كذلك خلق وجود معاصر منفصل تماماً عن الإسلام وعن العالم الإسلامي متصل بالغرب في تفسيراته وطوبعه.
لقد كان هدف هذه الدعوة إعلاء شأن القوميات حتى في الأمم الإسلامية ذاتها فضلاً عن فصل هذه الأمم عن الفكر الإسلامي وفصل العرب عن الامتداد الإسلامي.(57/9)
خامساً: من أخطر التحديات التي واجهت الفكر الإسلامي إحياء الماضي السابق للإسلام في البلاد العربية والإسلامية جميعاً، كالدعوة إلى الفرعونية والفينيقية والآشورية والبابلية في البلاد العربية وإحياء تراث كورش في إيران أو الهندوكية في البلاد الهندية الإسلامية وغيرها في باقي أجزاء العالم الإسلامي. كمحاولة لإحياء تاريخ ما قبل الإسلام وحضارته وتراثه الوثني وتجديده. وقد جرت هذه الدعوات شوطاً في محاولة من النفوذ الأجنبي للقضاء على الذاتية الإسلامية ولكن الأمر لم يلبث أن تكشف عن عجز كامل في تحقيق عودة المسلمين إلى تاريخ ما قبل الإسلام على أي نحو من الأنحاء وتبين أن دعوة الإسلام بالتوحيد الخالص خلال أربعة عشر قرناً قد أنشأت كياناً فكرياً وروحياً واجتماعياً قوياً عميق الجذور لا يمكن هدمه أو النيل منه وأن هناك ما عرفه علماء التاريخ بالانقطاع الحضاري بين ما قبل الإسلام وما بعده في جميع البلاد التي دخلها الإسلام وأنه في مقابل هذا "الانقطاع الحضاري" فإن هناك ما يسمى بالاستمرارية الحنيفية الإبراهيمية القائمة الآن في البلاد العربية والإسلامية والممتدة منذ دعوة إبراهيم إلى دعوة محمد صلى الله عليه وسلم والممتدة عبر الديانتين المنزلتين على موسى وعيسى عليهما السلام وأن هذه الانقطاعية بين الدعوة الحنيفية في تلك المناطق جميعاً قد اشتملت على الفكر والثقافة والعقيدة بالرغم من معالم المدنية الحضارية المادية، وتؤكد المصادر كلها على وجود الأرضية العربية السابقة للإسلام في مصر والعراق وسوريا وأن الفينيقية والآشورية والفرعونية والبربرية وغيرها هي موجات خرجت من الجزيرة العربية واندلحت في هذه المنطقة شرقاً وغرباً وكانت توسيداً للموجة الإسلامية العربية الكبرى بعد الإسلام واستكمالاً لها.(57/10)
وقد تبين لدعاة هذه الحضارات الفارسية والفرعونية والفينيقية وغيرها أنه لا توجد أرضية يمكن البدء منها سواء أكانت هذه الأرضية تراثاً ثقافياً أو لغوياً أو دينياً وأن هذه الجذور القديمة للغات السريانية والقبطية والعبرية وغيرها قد زالت وانتهت ولم يبق منها شيء وقد غلب عليها طابع التوحيد الخالص بمفاهيمه القرآنية الخالصة.
سادساً: جرت المحاولات لإحياء التراث الجاهلي والوثني تحت اسم الفلكور او الأدب الشعبي وهي إحدى المحاولات التي استهدفت التأثير في نصاعة الفكر الإسلامي وروحه وربانيته القرآنية الخالصة، بإعلاء تلك الصور الساذجة التافهة من الأزجال والأغاني والمواويل والأمثال العامية والوثنية البائدة التي تتعارض مع سمو التراث الإسلامي العربي القائم على البيان العربي البليغ والمضمون السامي وقد انتشرت هذه الدعوة في السنوات الأخيرة وشملت أقطاراً عربية وإسلامية عديدة وخدعت كثيراً من البسطاء والسذج والإغرار في مجال اللهو والتسلية في محاولة لخداع الجماهير بأساليب تحمل طابع الرقص والغناء والاستعراضات المسرحية لإحياء التراث الجاهلي والوثني الذي قضى عليه الإسلام قضاءً تاماً واعتبره من سقط المتاع وحطمه تحطيماً لأنه يتعارض مع مفهوم التوحيد الخالص ومن دعوة الإسلام للخروج من طفولة الإنسانية والمفاهيم الجاهلية والبدوية الجافة والساذجة القائمة على الأساطير والخرافات وحيل العرافين وأكاذيب الدجالين إلى مفهوم أصيل في الإيمان بالله والتعرف على آياته في الكون والثقة بأن الغيب لله تبارك وتعالى.(57/11)
والهدف معروف هو تغليب العامية والأساطير والقصص الشعبي والأغاني الساذجة والأمثال العامية على البيان القرآني وبلاغة السنة والأدب الصادق والفن الرفيع والفكرة الإنسانية، ارتداداً بالعقول والنفوس التي رفعها التوحيد إلى ذروة الإيمان بالله إلى سذاجة الخرافة وفساد طفولة البشرية وابتعاداً عن الذوق العربي الإسلامي المتسامي بالقرآن الكريم والحديث النبوي والأدب العربي في بلاغته والحكمة الإسلامية في فصاحتها وارتفاعها عن التدني والحيوانية والفساد. نعم. إذابة الذوق الإسلامي العالمي في ألوان ضعيفة ساذجة وثنية تقلل من قدر بيان القرآن وترد الناس إلى مستوى ضعيف يقطع الصلة بمستوى الثقافة الرفيع الذي خلقه القرآن وخلقته السنة ولاريب أن هذا واحداً من أهداف الدعوة إلى العامية كما سيجيء.
سابعاً: العمل على تبني دعوات ضالة كالقاديانية والبهائية والإدعاء بأنها من حركات النهضة الإسلامية كذباً وبهتاناً واستعمالها لضرب الإسلام من الداخل.
وتعمل القوى التغريبية جميعاً ممثلة في الاستشراق والتبشير والغزو الثقافي عن طريق الصحافة والثقافة والمدرسة إلى تبني هذه الحركات الهدامة واحتضانها وخداع البلاد الإسلامية ومن يعالج هاتين الدعوتين المبطلتين البهائية والقاديانية يعرف أنهما استهدفتا ضرب حركة اليقظة الإسلامية التي كانت قد قطعت مرحلة كبيرة في طريق التماس المنابع الأصلية وجوهر الإسلامك بمفهوم التوحيد الخالص وإن كلا الحركتين قد نشأ في أحضان النفوذ الأجنبي واستهدف ضرب الإسلام في أعظم قيمه الأساسية وهي فريضة الجهاد. وقد كشفت الأبحاث التاريخية عن علاقة أكيدة بين هاتين الدعوتين وبينل الاستعمار والصهيونية والهندوكية.(57/12)
وأنهما حاولتا بث الفتنة وزعزعة العقائد وإثارة الشبهات وإضعاف شوكة المسلمين وتثبيط عزائمهم في المكافحة ضد النفوذ الأجنبي والكيد للإسلام. وتضليل المسلمين عن حقيقة عقيدتهم وتفريق وحدتهم. ولم يعد هناك ريب في أن هذه الطوائف الدخيلة تلقى المعونة والتوجيه من المستعمرين والقوى المعادية للإسلام تحت اسم ما يسمونه "حرب الإسلام من الداخل".
وقد واجه رجال اليقظة الإسلامية كلتا الدعوتين منذ اليوم الأول وكشفوا عن فسادهما وزيف فكرهما وسمومهما التي خدعت بعض المسلمين ولاريب أن الدارس للبهائية يجد هدف تقويض الإسلام من الداخل واضحاً في مخططاتها وتاريخها كله، ويجدها واضحة العلاقة بالركام الباطني القديم مجددة إياه في أسلوب حديث براق. يغرري بعض السذج من أبناء أمتنا الذين لم يستكملوا تعليمهم الديني والخلقي. فضلاً عن الارتباط بالصهيونية التلمودية كثمرة من ثماء البروتوكولات ومن هنا كانت دعوتها إلى دين بشري تنصهر فيه الأديان السماوية.
ثامناً: محاولة إحياء الفكر الباطني والوثني والإباحي عن طريق إحياء الفلسفات اليونانية والمسرحية الإغريقية والأساطير البابلية والفكر الغنوصي وكانت بعض هذه الوثنيات قد ترجمت إبان العصر العباسي وأدخلت إلى مفهوم الإسلام كثيراً من البلبلة والاضطراب وقد واجهها الإسلام مواجهة صارمة وكشفوا زيفها وردوها وبينوا أن الفلسفات اليونانية ليست إلا علم الأصنام القديم وهاجموا كلا النظريتين:
اليونانية الهلينية القائمة على الحس وعبادة الجسد والإباحية.
الغنوصية الشرقية القائمة على الحدس والإشراق وغيرها.(57/13)
وقد تجددي المحاولة في العصر الحديث مرة أخرى في النيل من الإسلام وإعادة طرح هذه المفاهيم مرة أخرى بإحياء هذا التراث وتجديد شبهات الفلسفات والفكر الباطني والتصوف الفلسفي والاعتزال والمجوسية وغيرها لإغراق شباب المسلمين في هذه السموم وحتى يحال بينهم وبين مفهوم التوحيد الخالص بما يؤدي إلى توهين روح الصمود في نفوس المسلمين وتفسيخ القيم الخلقية الإسلامية بادعوة إلى إذاعة المجون والمجاهرة بالخلاعة والانحراف الجنسي وهو نفس الأسلوب الذي اتخذته حركة احتواء الإسلام، كان ذلك في الماضي لحساب المجوسية الفارسية ولتمكين القرامطة والباطنية من السيطرة على الدولة الإسلامية واليوم يجرى نفس المخطط لحساب الصهيونية والاستعمار والشيوعية.
تاسعاً: محاولة إخراج اللغة العربية من مفهومها الذي تختلف فيه عن اللغات بوصفها لغة القرآن، وفرض مناهج في علم اللغات للتحكم فيها وتصويرها بأنها لغة قومية فحسب، أي لغة أمة، وإذا كان هذا كمنهج علمي لكل لغات العالم فإنه يعجز عن إقرار ذلك بالنسبة إلى اللغة العربية لأنها إلى جانب أنها لغة أمة، فهي لغة فكر وثقافة وحضارة ودين، وأنها تتصل بمليار من المسلمين يعبدون الله بها ويقرأون بها القرآن الحديث.
ولاريب أن هجف الحملة على اللغة العربية هو خلق عامية تقضي على لغة الفرآن وتمزق وحدة الفكر الإسلامي.(57/14)
ومن هنا تسقط كل محاولات الفكر الوافد في إثارة الشبهات حول اللغة العربية ومقارنتها باللغة اللاتينية التي ماتت ودخلت المتحف، بعد أن تفرعت منها لهجات إقليمية. وليس مثل هذا يمكن أن يحدث للغة العربية التي ما زال القرآن يظاهرها ويجعل ما كتبت به منذ أربعة عشر قرناً مقروءاً إلى اليوم بينما لم يحدث ذلك مطلقاً لأية لغة من اللغات الحية التي تتغير كل بضعة قرون. فإمرؤ القيس السابق للإسلام نقرأه نحن الآن ونفهمه بينما شكسبير لا يفهمه قومه وقد مضى عليه ثلاثمائة عام تقريباً، وهذه الظاهرة تجعل اللغة العربية أكبر من أن تخضع لعلم اللغات الذي يحاول أن يحكم على كل اللغات بظواهر عامة مشتركة.
وقد كانت اللغة العربية بطبيعة تركيبها وتميزها بالقدرة على الاشتقاق والتوالد عاملاً هاماً في مكانتها. وقد وصفها (أرنست رينان) بأنها خلافاً لكل اللغات ظهرت فجأة في غاية الكمال غنية أي غنى بحيث لم يدخل عليها حتى يومنا هذا أي تعديل مهم فليس لها طفولة ولا شيخوخة وأنها ظهرت في أول أمرها تامة مستحكمة ومن خلال هذا بالفهم علينا أن نواجه التحديات التي يطرحها التغريب من القول بتطوير اللغة أو إعلاء شأن العاميات أو الإدعاء بأنها لغة خاصة بأصحابها ونفهم أن هذه كلها محاولات ترمي إلى:
أولاً: عزل المسلمين عن العرب وعزل العرب عن الوحدة الكاملة بينهم.
ثانياً: عزل المسلمين عن العرب على مستوى البيان في القرآن الكريم.(57/15)
ولاريب أن اللغة العربية جديرة بأن تبقى دائماً في مستوى بيان القرآن الكريم وأن يرتفع الناس إليها ولاريب أن الدعوة إلى إقامة لغة وسطى بين الفصحى والعامية هي إحدى محاولات الغزو الكفري وليس لها هدف إلا إنزال اللغة العربية درجة عن كيانها الذي يرتبط ببلاغة القرآن وبذلك تنهدم ركيزة من ركائز الإسلام وهي حجب المسلمين وعن فهم القرآن واستيعابه وهو أمر خطير وهام ويحتاج إلى دوام المحافظة على بلاغة اللغة وروحها، فاللغة أساساً هي فكر الأمة والعربية الفصحى مرتبطة بذاتية الإسلام ومزاجه النفسي والاجتماعي.
عاشراً: الدعوة إلى إحياء الحضارات التي سبقت الإسلام وإعادة عرض الوثنيات والفسلفات والخرافات والأوهام. وتلك محاولة ماكرة مضللة ولكنها فاسدة فقد استطاع الإسلام خلال أربعة عشر قرناً أن يقيم منهجاً عقلياً وروحياً وأن ينشئ مزاجاً نفسياً وذوقاً خالصاً مرتبطاً بالتوحيد والقرآن ومتصلاً بأسباب الإيمان بالله له ضوؤه الباهر الذي لا تستطيع الظلمات أن تقهره.
حادي عشر: الدعوة إلى ما يسمى بالأدب العربي المعاصر، والفكر العربي المعاصر، والثقافة العربية المعاصرة، على أن تبدأ هذه الدراسات منذ حملة نابليون وربطها بالإرساليات والنفوذ الأجنبي كأنما هي من معطياته، وهي محاولة ماكرة تهدف إلى اجتثاث الفكر والأدب والثقافة (العربية والإسلام) من أصولها والفصل بين حاضر العرب والمسلمين وبين ماضيهم، وخلق ثقافة "لقيطة" لا جذور لها بل إن هناك محاولة مضللة تهدف إلى الحيلولة دون ربط الأدب أو الفكر أو الثقافة بتاريخها القديم وماضيها العريق.
ومن الحق أن اليقظة الإسلامية المعاصرة في الفكر والأدب والثقافة جميعاً بدأت من دائرة القرآن وأن جميع الحركات الوطنية والقومية إنما استمدت قوتها من مصادر الإسلام وأنه لا سبيل إلى بناء أدب حديث أو فكر أو ثقافة منفصلاً عن اللغة العربية والإسلام.(57/16)
ثاني عشر: محاولة الإدعاء بأن منطقة البحر الأبيض المتوسط شهدت حضارة واحدة هي التي بدأها الفراعنة والفينيقيون ونماها الإغريق والرومان، ثم أتمها الأوروبيون المعاصرون وأن دور العرب في هذه الحضارة كان دوراً ثانوياً، والحقيقة أن هناك حضارتين لكل منهما طابعه المميز وهما حضارة التوحيد وحضارة الوثنية. وأن الإسلام هو صانع الحضارة التي استمت بهذا المفهوم في مواجهة حضارات بدأت بمفاهيم الوثنية وانتهت بمفاهيم المادية وكانت في مختلف مراحلها معارضة للحق والعدل والرحمة والأخلاق فكانت تضرب واحدة بعد الأخرى وتسقط لأنها تعارض سنن الله في الكون.
ثالث عشر: محاولة لقاء بذور الشبهات حول صلاحية الشريعة الإسلامية للتطبيق في العصر الحديث والإدعاء بأنها شريعة صحراوية موقوتة بعصرها وبيئتها. وكل الدلائل العلمية والتاريخية تكذب هذا الإدعاء وأقربها مؤتمرات القانون الدولي 1931 م، 1937 م، 1952 م وكلها أشارت إلى أن الشريعة الإسلامية شريعة مستقلة لها كيانها الخاص وأنها تحمل منهجاً إنسانياً لم تصل إليها البشرية بعد وتجرى المحاولة التي يفرضها النفوذ الغربي بالدعوة إلى ما يسمى تطوير الشريعة ووضعها موضع الاحتواء من القانون الوضعي.
رابع عشر: استطاعت القوى الاستعمارية فرض نظام الاقتصاد الغربي في أغلب أجزاء العالم الإسلامي وهو نظام قائم على أساس الربا ومعارض أصلاً لمنهج الشريعة الإسلامية ولقد قامت حركة اليقظة الإسلامية بدراسات وساعة للكشف عن فساد نظام الربا والاقتصاد الغربي وجرت محاولات متعددة لإقامة المصرف الإسلامي على غير أساس الربا والعمل على وضع نظام تحرير المسلمين من قيود النظام الاقتصادي الوافد والكشف عن عظمة الفكر الاقتصادي الإسلامي.(57/17)
من طفولة البشرية إلى رشد الإنسانية – 17
الأستاذ أنور الجندي
جاء الإسلام حركة تحرر في مواجهة الغزو الخارجي وحركة عدل اجتماعي في مواجهة الاستغلال وحركة شورى في مواجهة الاستبداد وأخوة عالمية في مواجهة التفرقة العنصرية.
وفي الفتح الإسلامي حذر الالإسلام من الغدر:
"لا تحرقن بيتاً ولا تعقرن شاة، ولا تقتلن وليداً ولا هرماً ولا امرأة".
وكان الرومان يبيدون كل عامر ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ. والإسلام أسبق شريعة قررت العدل الاجتماعي والشورى: لأنهم تقيم الحرية على حق الإنسان الذي لم يكن له حول ولا قوة، حيث لا تشرع الحرية والمسئولية ضرورية لا محيص عنها كما شرعتها من قبلها حكومات الأقدمين، وفي مجلس يزدجرد سأل الامبراطور سفير المسلمين: ما الذي جاء بكن؟ فقال: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.
وأعظم عطاء الإسلام وذروة المعرفة فيه هي معرفة الله تبارك وتعالى ولذلك دعا الإسلام الإنسان إلى الفكر والذكر.
المعرفة بالله وأسمائه جل وعلا، ومعرفة عظمة ملكه المتمثلة في الطبيعة والكون ومعرفة عالم ما وراء المادة، والمعرفة بكتب الله ورسله واليوم الآخر.
والمعرفة طريق إلى الإيمان:
الإيمان: بقوة علوية تشرف على الإنسان من فوق وتمنحه الأسلوب المتوازن الشامل الذي يتعامل به مع جهازه الإنساني الضعيف.
والدين هو الذي كون حاسة "الخوف من الله" وخشية الله بما وضعه من مقاييس للفضائل والرذائل وتعهد بها النفس الإنسانية بالتربية والتقويم.
ويقوم الإسلام على مجموعة من الأصول العامة: عقيدة سليمة وعبادة صحيحة وكتاب منير "القرآن" وأسوة حسنة "الرسول" وشريعة عادلة وأخلاق إيجابية وتربية صالحة وجهاد في سبيل الله".(58/1)
ولقد دعانا الحق تبارك وتعالى أن نتفكر في خلق الله لا في ذات الله فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله فتهلكوا".
إن المسلم يبحث في الكون وآفاقه ولكن لا يحاول أن يبحث في الجوهر. عليه أن يبحث في الخصائص ولا يبحث إطلاقاً عن الماهية، ذلك لأنه لا يملك أدوات البحث فالعقل لا يمكن أن يستقل بمعرفة الله ولا أن يهتدي إليه إلا إذا صحب في تطوافه إلى تلك الغاية قلباً يتلقى عنه مدركاته.
ولقد أرسى القرآن العظيم قواعد الإسلام على وحدة الخالق ووحدة الخلق ووحدة النفس البشرية ووحدة الدين ووحدة الإنسانية ووحدة الكون ووحدة التشريع وحق الله تبارك وتعالى على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وعبادته إنما تتمثل في طاعة أمره وتجنب نواهيه.
"ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم".
إن الله تبارك وتعالى تكفل لمن يعتصم به أن يخرجه من كل ضائقة وكل أزمة ومن كل حيرة يقع فيها "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب".
ومفهوم الإنسان الحق لاستخلاف الإنسان في الأرض وما له من إرادة محدودة يكون مسئولاً في حدودها يمكن الإنسان من إقامة الانسجام والوحدة والتوازن بينه وبين عناصر الكون كلها: من مجتمع وحياة وإنسان.
"وإدراك المسلم بأن الله تبارك وتعالى هو الذي خلق هذا الوجود كله وفق سنن ونواميس متفقة هو الذي وضع له هذا المنهج باعتباره أحد عناصر هذا الوجود يعطيه الثقة بأنه في نطاق هذا المنهج يمارس نشاطه مه حركة الوجود كله ووفق هذه الحركة بانسجام وتوافق لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل هذا المنهج فهو والحالة هذه ليس ريشة في مهب الريح ولا جرماً انفلت عن مداره ولا يدري حتى يصطدم بغيره".(58/2)
وإيمان المسلم بأن له إرادة واختياراً تجعله آمناً من الوقوع تحت سلطان الجبر الذي يقع فيه الماديون فيقتل منزع الإرادة منهم ويعطيهم الجرأة على فعل المنكر "وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها: قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون".
ولو لم يكن للإنسان إرادة واختيار لما كان محلاً للتكليف ولا موضعاً للحساب والجزاء، ولما توجه إليه من الله تعالى أمر ونهي.
أقام الإسلام نظاماً متكاملاً شاملاً للنفس والمجتمع تتمثل مقاصده الأساسية في نقاط محددة، وأساس الإسلام أنه نظام دنيوي أخروي في آن واحد، لا ينفصل فيه الدين عن الدنيا ولا المجتمع عن الشريعة ولا الأخلاق عن الحياة.
وقد أحيا الإسلام عقيدة إبراهيم عليه السلام واعترف بجميع الأنبياء والكتب السماوية المنزلة، ونظم أمور المجتمع ووضع تعاليمه في صيغة كلية وأصول عامة متكاملة مترابطة متفاعلة لا يجوز تجزئتها أو الأخذ بفرع منها دون الآخر، وأقر نظام الأسرة بالزواج وأعلن حقوق الأسرة ورفع مكانة المرأة وأبطل الرق وأعلن الزكاة وجعلها حقاً للفقراء. وقرر الإسلام أن العلاقة بين الله تبارك وتعالى والإنسان علاقة مباشرة دون أي وساطة وأكد الإيمان بالله وحده لا شريك له والإيمان بالبعث والجزاء والحساب وجعل طلب العلم فريضة ودعا إلى النظر والتماس الدليل والبرهان وحث على تنمية المدارك.
وأقام الإسلام شرعة الجهاد ونظم مفهوم المال الذي هو مال الله الذي آتاكم، والإنسان مستخلف لتوجيهه إلى الخير وصالح الجماعة وفي سبيل الله.(58/3)
وقد حرر الإسلام الإنسان من الوثنيات جميعاً: عبادة الأصنام والدنيا والأبطال والخرافات والأساطير وألغى التفرقة بين العناصر والتعصب للجنس ودعا إلى المساواة والإخاء ووفق بين سلطة الحاكم وحرية المحكوم وأعلن احترام الملكية الفردية ووجهها إلى العمل النافع في مال الغني زكاة ودعا إلى التوفيق بين جانبي الإنسان وجانبي الحياة الروحي والمادي وأقام الإسلام الالتزام الأخلاقي وجعله مناط المسئولية والحساب.
وأقام قاعدة حرية الفكر، لا إكراه في الدين، وكفل لغير المسلمين حرية العقائد وحماية الأموال والتسامح.
وأطلق الإسلام العقل الإنساني من قيوده التي كانت تأسره حول المعابد وبين أيدي الكهنة فارتفع إلى الاعتقاد بحياة أخرى وراء هذه الحياة، واعترف بالنوازع البشرية وقرر حق الإنسان في مزاولتها ووضه له ضوابط ونظماً لتوجيهها الوجهة الصحيحة، وهذب من مداخل هذه النوازع ومخارجها بحيث لا تؤذي الفرد نفسه ولا تسيء إلى المجتمع كذلك وعاد الإسلام إلى الوحدة العالمية وجعل من شعيرة الحج منطلقاً إلى التقاء الأجناس والعناصر، وأقام الإخاء العالي وقضى على كل تفرقة لونية أو عنصرية وشجب العنصرية القائمة على الدم والأنساب ومنع التفاضل بهما وجعل تقدير الناس بالأعمال.
أعلن القرآن الكريم أن الله تبارك وتعالى لم يرسل إلى البشرية طوال التاريخ البشري إلا ديناً واحداً هو الإسلام: أي إسلام الإنسان وجهه لله والحكم لله وكل الأنبياء الذين بعثهم الله في أقطار مختلفة وفي شعوب مختلفة في العالم ما جاءوا إلا بنداء التوحيد والإسلام، وقد غيرت التفسيرات من أصل الأديان وبدلت، وحرفتها عن جوهرها الأصيل حتى جاء الإسلام يدعو البشرية من جديد إلى هذا الدين الحق، وقد جعل الله تبارك وتعالى كتابه محفوظاً من حيث النص مهيمناً على الكتب وجعل الإسلام خاتم الأديان وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل وفرض على كل من شهد الإسلام أن يؤمن به.(58/4)
وقد جاءت بشاراته في الكتب السابقة وكان كثير من المؤمنين يترقبون ظهور النبي محمد صلى الله عليه وسلم وترهص الدلائل التي بين أيديهم ببعثه ومطلع رسالته. والمسلمون يؤمنون بجميع من جاء قبل محمد صلى الله عليه وسلم من أنبياء ورسل وكتب وأن هذا الإيمان جزء أساسي من عقيدتهم لا يكمل إسلامهم بدونه وإن كانوا يتلقون الهداية من النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقط لأن تعاليمه هي آخر التعاليم.
وكلام الله الذي بين دفتي المصحف هو كلام إلهي محض لم يمازجه شيء من كلام البشر، وهو محفوظ بلغته الأصلية ولغته هي إحدى اللغات الحية في العالم، ولم يطرأ أي تغير علىق واعدها ومبانيها ومعانيها وأساليبها ورسوم الكتابة بها.
وما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من الأخلاق والسلوك وما صدر عنه من الأقوال تم تدوينه وحفهظ بأصح ما يكون من الطرق وأن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بموجب عقيدتنا جاءت لجميع العالم ولسائر الأزمان.
إن نظرة عميقة مستفيضة إلى بعض الوقائع والأحداث في حياة الإسلام الأولى من خلال تاريخ النبي محمد صلى الله عليه وسلم تكشف أبعاداً عريضة للدعوة الإسلامية لم تكن واضحة وضوحاً كافياً حتى جاءت هذه المرحلة من تاريخ الإسلام فألقت عليها ضوءاً كاشفاً. تعني هذه الوقائع ارتباط الدعوة الإسلامية التي جاء بها محمد بن عبد الله بميراث النبوة كله: إبراهيم وإسماعيل وموسى وعيسى يتجلى ذلك واضحاً في واقعة الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وصلاته إماماً بالأنبياء جميعاً قبل عروجه إلى السموات العلا هذا الارتباط بميراث موسى وعيسى دليل على صدق نبوة محمد وأنه جاء خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الرسائل والأنبياء وجاء كتابه خاتماً لكل الكتب ومهيمناً عليها، وقد تحقق ذلك بعد سنوات قليلة عندما فتح المسلمون بيت المقدس وعقد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لسكان القدس العهدة العمرية.(58/5)
كذلك فقد جاءت فريضة الحج لتربط المسلمين بدين إبراهيم عليه السلام الذي أقام القواعد من البيت وإسماعيل وأهدى إلى أهل التوحيد تلك المناسك في منى وعرفات والمزدلقة وقد جاء محمد صلى الله عليه وسلم دعوة إبراهيم ومن نسل إسماعيل وسجل القرآن ذلك تسجيلاً رائعاً.
"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي".
"ثم أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين".
وهكذا ارتبطت دعوة التوحيد بين إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام وجاء هذا الارتباط واضحاً في كل دين جاء به الأنبياء إذ حمل إليهم الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ولقد ذكرت التوراة والإنجيل كلاهما هذه النبوءة وسجلتها تسجيلاً: "ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل" ولقد أبان سيدنا عيسى بن مريم رسول الله إلى بني إسرائيل هذا الارتباط: "ومصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد".
كل هذا يعطي مفهوماً واضحاً هو المسئولية الكاملة النهائية لكل ميراث النبوة والرسالة، والارتباط بين أنبياء الله ورسله على كلمة التوحيد يسلمها كل منهم إلى من بعده حتى تختتم بمحمد صلى الله عليه وسلم.
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل الأمانة ولذلك نقلها الحق تبارك وتعالى إلى العرب: "قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء".
كذلك كشف القرآن عن عجز بني إسرائيل عن حمل عن أنع دين رشد الإنسانية وأن البشرية قد تجاوزت طفولتها، فقد جاءت رسالة الإسلام معجزة بيان خالد باق إلى يوم القيامة هو القرآن الكريم الذي تحدى به الحق تبارك وتعالى العرب والعجم أن يأتوا بمثله أو بسورة من مثله أو بآية واحدة، ولقد عجز البشر وما زالوا عاجزين إلى اليوم وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها عن هذا التحدي.(58/6)
ولقد جاء الإسلام ليفصل بين تاريخين للبشرية: تاريخ ما قبل الإسلام كله وهو تمهيد لنزول الإسلام، وتاريخ العالم منذ الإسلام، ومنذ أن بزغ ضوء الإسلام وهو عنصر فعال ومؤثر في كل حدث من أحداث البشرية على وجه الأرض.
وقد حرر الإسلام البشرية من الوثنية وعبودية الإنسان في حضارات الفراعنة والفرس والهنود واليونان والرومان وحرر هذه المنطقة العربية التي توالت عليها أمواج الهجرات من قلب الجزيرة العربية خلال أكثر من خمسة آلاف سنة متوالية حتى جاء الإسلام فوسدت له العروبة والعربية ذلك السفح الممتد من العراق إلى الشام إلى مصر إلى أفريقيا وسرعان ما استجابت هذه الأمة كلها لكلمة الله في سنوات قليلة ونسيت تاريخاً إغريقياً رومانياً امتد أكثر من ألف سنة من سوريا إلى إسبانيا عبر شمال أفريقيا، منذ فتح الإسكندر الأكبر.
وفي يوم فتح مكة رفض رسول الله قول سعد بن عبادة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة وقال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".
وأعلن الإسلام دعوة إنسانية عالمية تخاطب الناس جميعاً فالناس كلهم من ذكر وأنثى وعباد الله وخلقه وقد استخلفهم تبارك وتعالى في الأرض، وجعلهم شعوباً وقبائل ليتعارفوا ومن آياته اختلاف ألسنتهم وألوانهم، والرسول صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى العالمين "قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً".
وانداح المسلمون في أنحاء الأرض يعلنون كلمة الله ويقيمون دعوة الحق، ولا يعمدون إلى إفناء السكان الأصليين أو إجلائهم ولا يقيمون المستعمرات أو يضعون الحواجز بينهم وبين سكان المدينة التي انتقلوا إليها وهم كما يقول فتحي عثمان: مع سكان المدن المقيمين، والمهاجرين والوافدين سواء في الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية.(58/7)
ولقد واجه المسلمون النصر والهزيمة، انتصروا حين استمسكوا بكتاب الله تبارك وتعالى وحقه الذي بينه لهم وانهزموا حين تخلوا عنه "والحق تبارك وتعالى – كما يقول الأستاذ محمد قطب – حين يتعامل مع رسله وأنبيائه وأتباعهم من المؤمنين لا يتدخل من أجلهم فيخرق الناموس وينصرهم بالمشيئة على طريقة كن فيكون" وإنما يعودهم أن يكونوا أول الناس إيماناً بالقانون الاجتماعي وأكثرهم إدراكاً لسنن الحياة ونواميسها وأن يكونوا أحرص الناس على التوافق مع هذه السنن والنواميس فهو يبتلي رسوله صلى الله عليه وسلم بتكذيب الناس ولا يتدخل بالمشيئة المباشرة ليعفيه من أعباء الجهاد في سبيل دعوته وإنما يذكره بقانون الحياة وسنة الصراع بين الحق والباطل:
" ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبأ المرسلين". ويبين الله تبارك وتعالى علاقة المشيئة الإلهية بقوانين المجتمع فيقول: "ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض".
ولقد كشف الباحثون المنصفون عن هذا الدور الخطير الذي قام به الإسلام في "تحضير" البشرية ورفعها إلى درجة الإنسانية فيقول إيربري: إن الإسلام لم يكد ينزل على محمد في قلب جزيرة العرب حتى بدأ يغزو العالم بسرعة أذهلت المفكرين المحللين للتاريخ. وقد حاول المؤرخون المحدثون تعليل هذه الانتصارات الواسعة والفتوحات العظيمة بردها إلى عوامل اقتصادية أو حربية أو سياسية ولكن كل تلك التفسيرات ظلت عاجزة عن التعليل الصحيح فكان لابد من الرجوع إلى العامل المؤثر وهو الدين الجديد.
"إن بلاغة القرآن المعجزة مع بساطة تعاليم الإسلام التي جاءت في هذا الكتاب هي المفتاح لحل لغز أعظم "مد" في تاريخ الأديان ذلك أن الإسلام جاء يدعو إلى حياة منظمة جادة، حياة جماعة عاهدوا الهل أن يخضعوا لإرادته في كل أمر، وأن يجاهدوا في حمل كافة البشر على الإقرار بقدرته وملكوته.(58/8)
حقاً، اختار محمد رسول الله الرفيق الأعلى، ولكن رسالته بقيت، حملها معهم المجاهدون إلى أطراف الأرض وكانوا جنداً وفي الوقت نفسه مبشرين بدعوة الدين الجديد. وأعلن أكثر من باحث غربي أن انتشار الإسلام كان أكبر خرقاً للعادة، يقول (م. روي) أن امبراطورية أغسطس الرومية بعد ما وسعها بطلها (تراجان) نتيجة فتوح عظيمة في سبعة قرون ولكنها لا تساوي المملكة الإسلامية التي أسست في أقل من قرن. إن امبراطورية الإسكندر لم تكن في اتساعها إلا كسراً من كسور مملكة الخلفاء الواسعة. أن الامبراطورية الفارسية قاومت الروم زهاء ألف سنة ولكنها غلبت وسقطت أمام سيف الله في أقل من عشر سنوات، وما تزال مسألة "لماذا انتصرت الجيوش الإسلامية القليلة العدد والعدة على الجيوش الضخمة" أكبر معضلة في تاريخ الإسلام وموضع دهشة الباحثين، حين استطاع بسرعة انتشاره المذهلة خلال فترة قصيرة أن يبسط جناحيه من حدود الصين إلى حدود فرنسا.
ويرجع ذلك في الرأي الأصدق إلى طبيعة العقيدة وجمعها بين الدنيا والآخرة والعقل والقلب وطابع العدل والرحمى والإخاء البشري وتحرير العقل الإنساني من الوثنية وتحرير الجسد البشري من العبودية.
فقد عرف الإسلام منذ يومه الأول بمرونته في مواجهة الحضارات والثقافات وإتاحة الفرصة لأهل البلاد في حكم أنفسهم، وحرية العبادة وعدم فرض العقيدة الإسلامية عليهم بالقوة، وكون الإسلام ليس ديناً فحسب ولكنه كان في مجمله منهج حياة ونظام مجتمع.
وقد أدى الإسلام دوراً حضارياً وثقافياً بالغ الخطورة خلال ألف سنة كاملة وإنساب إلى مختلف الثقافات والعقليات فمنها من تقبلته عقيدة ومنها من تقبلته ثقافة وحضارة، وهو الذي أنشأ بذرة الحضارة الحديثة حين قدم لها المنهج العلمي التجريبي.(58/9)
لقد كانت الدولة وأصحاب الأديان يفرضون مذاهبهم وعقائدهم بالقوة، أما الإسلام فقد ترك لكل إنسان حريته في العبادة وأقام العدل وحمى معابد اليهود والنصارى ولم يحارب المسلمون أبداً في سبيل نشر الإسلام وإنما ردوا على عدوان من اعتدى عليهم أو وقف في طريق دعوتهم.
بماذا انتصر المسلمون؟
يقول ماكس مايرهوف في كتابه (العالم الإسلامي):
"يكاد يكون مستحيلاً أن نفهم كيف أن أعراباً منقسمين إلى عشائر ليس عندهم العدد والأعتدة اللازمة يهزمون في هذا الوقت القصير جيوش الرومان والفرس الذين كانوا يفوتونهم في الأعداد والعتاد وكانوا يقاتلونهم في كتائب منظمة، أن القول بالمراس الذي عرفه العرب للحروب والقتال والنظم والانقياد العام للقيادة فيه مغالطة كبيرة، فقد ثبت أن الروم والفرس كانوا راقين في النظام الحربي، وقد بلغت الدولة البيزنطية في بداية القرن السابع المسيحي زهوها وأوج قوتها، ودحر الروم الفرس وردوهم على أعقابهم عام 625 قبل زحف المسلمين على الشام باثنتى عشرة سنة فقط، وقد وقف 24 ألف مسلم في وجه الروم الذين كانوا أكثر من مائة وثمانين ألفاً".
ونقول: لقد كان الإيمان هو الموازن لفرق الكفة من ناحية العدد والعدة، فقد كان المسلمون يدخلون معاركهم وقد آمنوا بأن الحرص على الموت يهب الحياة وكانوا يقدمون أنفسهم وأرواحهم لله خالصة.
ولقد كان المسلمون رحماء في فتوحهم كرماء مع خصومهم أيضاً.
أين هذا مما يقوله مؤرخ الحروب الصليبية حين يقول: "إذا كنت تريد أن تعرف المعاملة التي لقيها أعداؤنا في بيت المقدس فيكفي أن تعلم أن أصحابنا كانوا يخوضون في بحر من الدماء حتى الركب ولم يستطع أحد من الكفار (المسلمين) الخروج سالماً ولم نعف عن أحد حتى النساء والأطفال".(58/10)
أين هذا الذي فعله المسلمون مما فعله فيليب الثاني بأمر البابا عندما أصدر أمراً يقضي بطرد جميع المسلمين من إسبانيا وقبل أن يتمكن المسلمون من الفرار والنجاة بأنفسهم تم القضاء على ثلاثة أرباعهم بأمر الكنيسة والذين استطاعوا النجاةة من الموت أصدرت في حقهم محاكم التفتيش أمراً بالإعدام ثم القضاء على ثلاثة ملايين مسلم دون مبرر.
ومع ذلك فقد أعطى المسلمون حضارتهم ولم يبخلوا: يقول المؤرخ الكبير هونشو: لقد خرج الصليبيون من ديارهم لقتال المسلمين فإذا هم جلوس تحت أقدامهم يأخذون عنهم أفانين العلم والمعرفة، ولقد بهت أشباه الهمج عندما رأوا حضارة المسلمين التي رجحت حضارتهم رجحاناً لا تصح معه المقارنة بينهما.
وكان هناك جانب خفي على الغرب، هو أنهم لم يفهموا الإسلام فهماً صحيحاً فقد استقى الغربيون معارفهم عن الإسلام من مصدرين (كما يقول أدوين كالفرلي) أحدهما يتمثل في الشائعات التي روجها بعض المحاربين والتجار الغربيين وغيرهم، وألا يتمثل في المعلومات التي أذاعها الغربيون القليلون الذين اطلعوا على القرآن وغيره من كتب الإسلام، وقد ذخرت الشائعات التي روجت عن الإسلام بأخطاء كثيرة ما زال بعضها راسخاً في أذهان كثير من الغربيين ومن بين هذه الأخطاء أن المسلمين يعبدون محمداً وليس عسيراً أن يتقبل الغربي هذه الفكرة فكما أن بعض المسيحيين يعبودون المسيح، فكذلك يظن بعض الغربيين أن المسلمين يعبدون محمداً مؤسس دينهم الذي يطلق عليه الغربيون لهذا السبب اسم "المحمدية".(58/11)
وقد كانت هذه الفكرة شائعة في أوربا قبل حروب الصليبيين وأثناءها ثم زادت رسوخاً ورواجاً عند عودة الصليبيين من حروبهم فقد حاول الدعاة من رجال الدين وقادة الجيوش العائدة أن يثيروا في نفوس الجنود بغض المسلمين فأخذوا يروجون الإشاعات المضللة عن معتقدات المسلمين وتقاليدهم وفي مقدمتها أنهم يعبدون محمداً نبيهم ووجدت هذه الإشاعات مرعى خصباً بين أولئك الجنود فأخذوا يتناقلونها ويرددونها مع الزيادة فيها ولاسيما أن أكثرهم كانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون حتى بلغتهم الأصلية، كما أنهم لم يختلطوا بالمسلمين ولم يكونوا يعرفون العربية، فلم يتح لهم أن يقرأوا أو يسمعوا شيئاً يذكر عن الإسلام والمسلمين، والعجيب أن هذه الفكرة الخاطئة ما زالت شائعة تجد الطريق ممهداً لترويجها ويروج كتاب (ماركوبولو) لهذه الفكرة الخاطئة بطريقة غير مباشرة. ففي الفصل الخامس منه يتحدث ماركوبولو عن العرب الذين يعبدون محمداً.
وهناك صحف غربية كثيرة لا تزال تقع في هذا الخطأ وتردده، وبعض المعاهد الغربية تلقن طلبتها هذه الفكرة ويرى أساتذها أن محاولة المسلم أن يطيع محمداً ويحاكيه في كل أفعاله ليس إلا عبادة في حين يقرر المسلمون جميعاً أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الهل وفي حين أن طاعة المسلمين لمحمد ليست إلا طاعة لله الواحد الأحد الذي دعاهم إلى عبادته.
ويصور برناردشو موقف الغرب من الإسلام فيقول: "لقد عمد رجال الإكليروس في العصور الوسطى إلى تصوير الإسلام في أحلك الألوان والواقع أنهم كانوا يسرفون في كراهية محمد وكراهية دينه ويعدونه خصماً للمسيح أما أنا فأرى واجباً على أن يدعي محمد منقذ الإنسانية وأعتقد أن رجلاً مثله إذا تولى زعامة العالم الحديث لنجح في حل مشكلاته".(58/12)
والواقع أن محمداً ودينه لم يكرها المسيح عليه السلام ولم يختصما معه بل آمنا به إيمانهم بكل أنبياء الله ورسله وكتبه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتاً فجمله وحسنه إلا موضع لبنة في زاوية من زواياه، فكان الناس يطوفون بالبيت ويعجبون ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم المرسلين".
ولقد أنكر الغرب وإلى زمن قريب في مدى أربعة قرون فضل المسلمين على الحضارة العالمية، أما المسلمون فأنهم قد اعترفوا بما أفادوا من تراث الأمم، هذا الذي غربلوه ونخلوه في ميدان العلوم الطبيعية والرياضية فحسب أما في مجال الإنسانيات والعقائد وأسلوب العيش والأدب فإنهم لم يأخذوا من أحد واستهدوا فطرتهم وطبيعتهم وفي مجال العلوم استطاعوا أن ينشئوا المنهج العلمي التجريبي وكانوا منصفين دائماً لكل من عرفوا من علم واعترفوا بفضل من سبقهم في أي ميدان دون أن يجدوا في ذلك غضاضة، فقد علمهم دينهم: العدل والإنصاف من النفس وقد فعل الغرب ذلك كله ليصور المسلمين أمام أهليهم بصورة العاجزين عن الانبعاث مرة أخرى أو بصورة التابعين لحضارة العرب ورغبة في إحكام السيطرة والنفوذ على مقدراتهم، كما حاولوا إثارة الفتن القديمة والخلافات بين مختلف الوفود التي طويت مرة أخرى للتفريق بين المسلمين.
ومع ذلك فقد استعاد الإسلام وحدة الفكر من جديد وعرف أهداف الغزو والتغريب وقطع مراحل طويلة في التقدم الاجتماعي وفي التوسع السلمي فدخل بلاداً كثيرة وانتشر في مختلف القارات وأثلجت كلمة لا إله إلا الله ملايين الصدور التي كانت حائرة مضللة.(58/13)
ووصف ذلك عدد من المؤرخين المنصفين فقال أحدهم أنه متى دخلت قبيلة من القبائل الوثنية في الإسلام اختفت عنها في الحال عبادة الشيطان وعبادة البشر وأكل لحم الإنسان وتقديم الضحايا البشرية وقتل الأولاد والسحر، وصاروا يرتدون الثياب وحلت فيهم النظافة وشعروا بالعظمة واحترام النفس وصار قرى الضيف عندهم من الواجبات الدينية وندر شرب المسكرات وحرم القمار والرقص المنافي للعفة وفوضى اختلاط الجنسين وصارت طهارة العرض من أعظم الفرائض وذهبت البطالة والكسل ودخل العمل والكد محلهما وتغلب النظام والرزانة على الشقاق وحرمت القسوة على الحيوان والعبيد، وتعلموا الشعور بالإنسانية واللطف والأخوة، وصدق الله العظيم إذ يقول:
"أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها".(58/14)
السلطان عبد الحميد
( صفحة ناصعة من الجهاد والإيمان والتصميم لمواجهة تحديات الاستعمار والصهيونية)
الأستاذ أنور الجندي
ما نحسب أن شخصية في التاريخ الإسلامي المعاصر لقيت من الغبن والظلم والإعنات ما لقيت شخصية السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن هذه السحابة ما لبثت أن انجابت بعد سنوات طوال، وتكشفت حقيقة هذا الرجل واستعلن موقفه الصامد، وجهاده الباسل ومقاومته العنيدة للمؤامرة الضخمة التي حاولت أن تستغله وتخدعه أو تغريه، ولكنه رفض الوعد والإغراء، وتحمل الوعيد والتآمر صابراً صامداً طوال حياته وسنواته الطويلة بعد موته.
وقد ظل الغموض يحيط بموقف السلطان عبد الحميد أكثر من خمسين عاماً، ثم لم يلبث أن تكشف قليلاً قليلاً، لقد تولى السلطان 1876 م، وخلع 1909 م وتوفي 1918 م.
وكانت حملات الصحف المارونية قد بدأت منذ تبين صلابة موقف الرجل، وقد استمرت هذه الحملات حتى دخلت إلى كتب الأدب والتاريخ المقررة على المدارس في أغلب البلاد العربية وظلت هذه الكتابات تلح على تصوير السلطان عبد الحميد بصورة الطاغية. المتسلك فترة تزيد على خمسين عاماً، ثم بدأ ينكشف موقف السلطان عبد الحميد جزئياً بعد ترجمة بروتوكولات حكماء صهيون التي كشفت مخطط المؤامرة على الدولة العثمانية والخلافة، ثم تكشفت بصورة أوسع بعد ترجمة مذكرات هرتزل الذي روى بإفاضة وتوسع قصة الوساطة بينه وبين السلطان وعروضه ورد السلطان عليه.
رجل أريب:
ومن أهم ما يكشف عنه تاريخ السلطان عبد الحميد هو ذلك الفهم الوافر العميق للمؤامرة اليهودية الصهيونية، الممتدة من الماسونية إلى الدونمة إلى جماعة الاتحاد والترقي بكل أبعادها وأهدافها، هذه التي كانت خافية على ظاهر المواقف السياسية في البلاد العربية الإسلامية في ذلك الوقت، وكانت غامضة على الرأي العام في وقتها، بينما كانت واضحة مفهومة لدى السلطان.(59/1)
وكانت تصرفاته استجابة لهذه الخفايا التي كانت تدبر، ولم تكن مكشوفة إلا للقلة، وكل ما نسب إلى السلطان عبد الحميد من اتهام بالرجعية أو الجمود أو العنف، إزاء الاتحاديين أو الدستور أو الحريات، إنما كان ينطلق من فهمه لأبعاد المؤامرة التي كان يدبرها الاتحاديون الأتراك مع اليهود الدونمة والقوى الخارجية، وإفساح المجال أمام تحقيق مؤامراتهم، بعد أن تبين لهم رفضه الصريح للعروض اليهودية التي قدمها له هرتزل وعدد آخر من اليهود – على ما فيها من إغراء – مادي لدولة مدينة في ذلك الوقت، وقد ظلت هذه الحقائق غامضة، حتى تكشفت من بعد أسرار الماسونية ومخطط الصهيونية.
دهاء السلطان عوض عن ضعف الدولة:
ولعل أبرز ما تميز به السلطان عبد الحميد الذي حكم من (1876 م إلى 1909 م) هو تلك البراعة والذكاء الخارقين. حتى وصفه أعداؤه قبل أنصاره بأنه أعظم داهية في عصره.
ويمكن القول أن هذا الرجل حين رأى الدولة العثمانية وقد فقدت التفوق في القوة العسكرية التي يمكن بها أن تقهر أعداءها فقد فتح الله تبارك وتعالة له باباً من التعويض عن طريق ذلك الدهاء القوي، فاستطاع خلال هذه الفترة الطويلة من حكمه والتي بدأت فيها تلك المؤامرة الخطيرة، أن يواجه الأمر بحكمة أزعجت خصومه وأعجزتهم.
والمعروف أنه في عام 1897 م اجتمع مؤتمر بال وقرر اختيار فلسطين لإقامة الوطن القومي اليهودي، وتحدد أمر الاتصال بالسلطان والدولة العثمانية، ومن ثم بدأت المعركة الخفية بين السلطان واليهود، وخاصة بعد أن تبين لهم إصراره على عدم التسليم لهم بأي مطمع في فلسطين.
وكان السلطان عبد الحميد قبل ذلك قد أمضى عزيمته في الدعوة إلى الجامعة الإسلامية، وتجميع المسلمين من خارج الدولة العثمانية تحت لواء الخلافة، لمواجهة خطر النفوذ الاستعماري الزاحف على العالم الإسلامي.(59/2)
ولقد بقيت صيحته استجابة في خارج الدولة العثمانية – بوصفه زعيماً للعالم الإسلامي كله وليس للدولة العثمانية وحدها – والتف حوله العرب المسلمون والفرس والترك، لتعضيد الخلافة وللزود عنها دون قيد أو شرط.
وكان من أخطر هذه الانجازات تصفية موقف الخلاف بين تركيا وفارس وبين السنة والشيعة، ومن كلماته في هذا الصدد: أن السم القديم يجب ألا يسري في جسد آسيا القوى وعلى السنيين والشيعة أن يتحدوا لمقاومة أوربا في محاولتها قهر العالم.
المؤرخون ورأيهم:
ويرى المؤرخون أن عبد الحميد لما تولى الخلافة سنة 1876 م، وجد أن سلاح الدهاء السياسي هو السلاح الوحيد الذي يستطيع به أن يواجه مؤامرات الغرب (الاستعمار والصهيونية وروسيا القيصرية) التي كانت منذ سنوات طوال تحيك المؤامرات للقضاء على الدولة العثمانية، بوصفها ممثلة للوحدة الإسلامية القائمة بين العرب والترك، ومن ثم أخذ يوسع دائرة هذه الوحدة لتشمل مسلمي العالم كله، ومن ذلك كانت صيحته "يا مسلمي العالم اتحدوا" إزاء الغزو الاستعماري.
فقد أخذ يستصرخ الأمم الإسلامية في كل رقعة من رقاع العالم الإسلامي، للالتفاف حول دولة الخلافة لتكوين قيادة عامة للمسلمين جميعاً، سنة وشيعة عرباً وفرساً وتركاً، وقد جمع السلطان عبد الحميد حوله عدداً كبيراً من زعماء العرب والبلاد الإسلامية، وقد شعرت إنجلترا وفرنسا وهما الدولتان اللتان كانتا تحكمان قهراً أكبر عدد من المسلمين – بحرج الموقف إزاء التفاف العالم الإسلامي حول الخليفة وحسبت لذلك ألف حساب، لا سيما حينما أيدته ألمانيا العدوة لهذه الدول، وحين كسر الخلاف مع الشيعة، وبدأ بعقد صلح معهم بعد استقدام جمال الدين الأفغاني، وحين بدأ يتخذ الأسلوب العصري في الوحدة بإقامة سكة حديد الحجاز، وقد جمع لها سبعة ملايين من الدنانير، وكذلك سكة حديد بغداد.(59/3)
وقد أشارت الدكتورة الماولتن في كتابها عنه، أنه كان لديه أربعون ألفاً من الدعاة للوحدة الإسلامية، ممن كانوا في القسطنطينية من طلبة المعاهد الإسلامية، وقد وجه دعوته إلى روسيا وشمال أفريقيا والهند والصين، وإلى المسلمين أينما وجدوا ومن أي جنس كانوا، وقد حدث هذا في الوقت الذي كانت الدول الأوربية تترقب بفارغ الصبر موت "دولة الرجل المريض" لتقسيم ميراثها وتوزيع أرثها فيما بينها.
رجل يرجح عظماء العصر:
وليس أدل على براعة السلطان عبد الحميد، من عبارة السيد جمال الدين الأفغاني الذي قال، بعد أن التقى بالسلطان وتعرف إلى مشروعه في الجامعة الإسلامية وأسلوبه في العمل السياسي مع دول أوربا: "إن السلطان عبد الحميد لو وزن مع أربعة من نوابغ العصر لرجحهم ذكاء ودهاء وسياسة" فلا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام لملكه من الصعاب من دول الغرب أنه يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية، وهو معد لكل هوة تطرأ على الملك مخرجاً وسلماً. وأعظم ما أدهشني ما أعده من خفى المسائل وأمضى العوامل كي لا تتفق أوربا على أمر خطير في الممالك العثمانية وكان يراها عياناً محسوساً: إن تجزئة السلطنة العثمانية لا يمكن أن تقع إلا بخراب الممالك الأوربية بأسرها، وكلما حاولت دول البلقان الخروج على الدول بحرب، كان السلطان يسارع بدهائه العجيب لحل عقد ما ربطوه وتفريق ما جمعوه".
وقد وصفت خطة السلطان بأنها تمثل "سياسة التوازن الدولي" التي كان من شأنها أن تبقى الدول الغربية متحاسدة متنابذة في الأمور التي تتعلق بتركيا ومستقبلها.
ليس الخلاص في المدنية الغربية:(59/4)
وقد أشارت الدكتورة الماولتن إلى أن السلطان عبد الحميد كان أول من تجرأ – بعد مائتي عام من الهزيمة والتقهقر – على تحدي العالم الغربي، ومن ذلك قوله: "يجب ألا ندع الغرب يبهرنا فإن الخلاص ليس في المدنية الأوربية وحدها"، وقوله: "إن تركيا هي نافذة الإسلام التي سيشع منها النور الجديد".
وقد وجدت دعوته أصداء واسعة وكان لتنقلات الدعاة، والمبشرين المسلمين إلى هذه المسافات البعيدة التي كان عليهم أن يقطعوها للوصول إلى الجماعات الإسلامية المتفرقة، كان لذلك أبعد الأثر في النتائج الحاسمة السريعة فكان يتلقى الوفد الرسائل والوثائق الرسمية من مختلف أنحاء العالم تتضمن تأييد الملايين للسلطان إيماناً بفكرته وتعلقاً بحركة الجامعة الإسلامية.
وأشار تقرير سفير بريطانيا لدى الباب العالي سنة 1907 م إلى هذا الخطر بقوله: "يمكننا أن نقرر أن من أهم حوادث السنوات العشر الأخيرة على الأقل (1798–1907 م) خطة السلطان الباهرة، التي استطاع أن يظهر بها أمام 300 مليون مسلم في ثوب الخليفة – الذي هو الرئيس الروحي في الدين الإسلامي – وأن يقيم لهم البرهان على قوة شعوره الديني وغيرته الدينية ببناء سكة حديد الحجاز ونتيجة لهذه السياسة فقد أصبح حائراً على خضوع رعاياه له خضوعاً أعمى".
عملان جليلان:
وأشار كثير من المؤرخين إلى العملين الكبيرين – اللذين عجلا بإسقاط السلطان عبد الحميد – وهما:
إنهاء الخلاف بين السلطان والشاه وتصافحهما، هذا الخلاف الذي كان منذ مدة طويلة ينخر في عظام العالم الإسلامي.
قرار مد خط حديدي إلى مكة المكرمة كجزء من خطة الجامعة الإسلامية لمساعدة آلاف المسلمين على أداء فريضة الحج، وقد نهض بالمشروع في حماسة بالغة وحشد له كل ما استطاع من جهد مادي وبشري، حتى أتم إنجازه بسرعة خارقة وبدون أي عون من أوربا.(59/5)
وقالت الدكتوره الماولتن: "لقد استطاع أن يقود تركيا بعيداً عن الكارثة بمناوراته السياسية البارعة، موازناً بين مقاطعاته ودول أوربا، مستحثاً الهمم رافعاً الآمال، موجهاً انتباه العالم نحو أشياء جديدة، كلما كان التوتر يهدد بأن يصبح حاداً.
وكانت خطته لاستعادة قوة تركيا ومجدها عن طريق توحيد العالم الإسلامي تقترب من النجاح.
العنصريات والقوميات:
ومن هذه النقطة ضرب السلطان عبد الحميد، فقد كان يواجه تياراً ضخماً من المطامع للدول الأوربية والصهيونية وروسيا في تمزيق امبراطوريته، وكان السلاح هو تسليط سلاح العنصرية الذي حمله رجال تركيا الفتاة والاتحاد والترقي للوصول إلى فلسطين، وواجه السلطان عبد الحميد هذا المخطط بقوة وبسالة، وفي نفس الوقت الذي بدأ فيه هرتزل محاولاته لمقابلة السلطان، كان السلطان قد أصدر أوامره بفصل "سنجق القدس" – مركزي وإداري – عن ولاية سوريا عام 1887 م وإخضاعه لإدارته المباشرة، بمجرد أن تكشفت له المرامي البعيدة وراء المخططات الصهيونية.
وعندما شرع هرتزل يفكر في مقابلة السلطان ملتمساً مختلف الوسائل والطرق ليسترعي انتباه الباب العالي، كان عبد الحميد واعياً لكل المحاولات، فقد سعى هرتزل لدى بسمارك حيث كانت ألمانيا حليفة لتركيا، وسعى عند كثيرين من الشخصيات البارزة، وكان هدفه أن يقنع السلطان بإعطائهم مساحة من الأرض، مقابل استعداد اليهود لدعم مالية الدولة العثمانية والتأثير على الرأي العام الأوربي ليقف إلى جانب السلطان.
وتعددت المحاولات، واستمع إليه السلطان حيث دار الحديث حول مشاكل الدولة العثمانية وتصفية الدين العام وعرض هرتزل خمسين مليوناً من الجنيهات الذهبية للدولة، وخمسة ملايين لخزينة السلطان الخاصة.
حسم وحرم:
ولكن السلطان كان متشبثاً بموقفه المعارض للهجرة اليهودية، ولما توالت العروض حسم الموقف في حزم.(59/6)
"أنصح للدكتور هرتزل أن لا يسير أبداً في هذا الأمر، لا أقدر أن أبيع ولو قدماً واحداً من البلاد، لأنها ليست لي بل لشعبي ولقد حصل شعبي على هذه الامبراطورية بإراقة الدماء وقد غذاها بعد بدمائه، وسوف نغطيها بدمئانا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا.
ليحتفظ اليهود بملايينهم فإذا ما قسمت الامبراطورية فقد يحصل اليهود على فلسطين بدون قتال.. إننا لن نقسم إلا جثثاً، ولن أقبل بتشريح أجسادنا لأي غرض كان (يونيو 1896 م)".
ولما توالت النذر أصدر السلطان عبد الحميد في يونيه 1898 م أمراً بمنع اليهود الأجانب من دخول فلسطين دون تمييز بين جنسياتهم.
التهديد والتآمر:
ولما استيأس هرتزل من السلطان عبد الحميد بعد الإغراء بدأت مرحلة التهديد، فاستخدم اليهود قدراتهم في التآمر للقضاء على الدولة العثمانية، مؤكدين مؤامرتهم على السلطان عبد الحميد بالذات، لأنه كان العقبة الكؤود في طريقهم، فرموه بكل منقصة وأظهروه للأمة في أبشع صوره.
وانطلقت أبواقهم من الصحف المارونية الموجهة من الماسونية والنفوذ الأجنبي تحمل عليه: المقطم والأهرام والمقتطف والهلال، وكتابات جرجي زيدان وسليم سركيس وفارس نمر، تصفه بالسلطان الأحمر، وألف جرجي زيدان قصة الاستبداد العثماني ورمى السلطان بعشرات من الاتهامات الباطلة تمهيداً للقضاء عليه وجرت محاولة اغتياله ثم إسقاطه.
ملاعب الأهواء:
وقد نجح اليهود في إخراج جمعية الاتحاد والترقي إلى ملعب أهوائهم السياسية، وقد كانت هذه الجمعية هي القناع الخارجي الذي يقنعت به جماعة الدونمة المتظاهرين بالإسلام من يهود إسبانيا، الذين اتخذوا من مدينة سالونيك مقاماً لهم بعد فرارهم من محاكم التفتيش الإسبانية، وقد جاءوا بالانقلاب العثماني الذي بيتوا له منذ نصف قرن حتى تم على أيدي مسلمين كانوا يهوداً في الأصل فأسلموا لأجل هذه الغاية.(59/7)
وقد أسلم الانقلاب زمام تركيا لليهود الماسون الدونمة (طلعت وجاويد وجمال ونيازي وكمال) الذين دفعوا تركيا بتوجيه (وايزمان) لخوض حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل سلموها لليهود الذين يتكلمون التركية.
ويقول الدكتور الزعبي في كتابه (الماسونية في العراء):
كان اليهود يرون السلطنة العثمانية – وهي شبح مخيف للخلافة الإسلامية – خطراً على مستقبلهم، وقد زار هرتزل السلطان وعرض عليه عروضاً مغرية فرفض، فقرر المحفل الماسوني الكوني خلع السلطان عبد الحميد، وكلف "فرسان تركيتا الحكماء المستنيرين" بتنفيذ القرار فنفذوه عام 1909 م.
يقول السيد رشيد رضا: لقد كان السلطان عبد الحميد عدواً للجمعية الماسونية، لاعتقاده أنها جمعية سرية وأن غرضها هو إزالة السلطة الدينية من حكومات الأرض، وقد تنفس الزمان للماسون بعد الانقلاب الذي كان لهم فيه أصابع معروفة، فأسسوا شرقاً – محفلاً – عثمانياً أستاذه الأعظم طلعت بك ناظر الداخلية، وأركانه جمعية الاتحاد والترقي وأنصارها من اليهود وغيرهم، ولأجل هذا نرى طلعت بك لا يبالي بسخط الأمة ولا برضاها، في إدارته التي استغاثت منها المملكة بولاياتها الستة كلها، ما عدا ولاية سلانيك، وسلانيك هي مقر السلطة الحقيقية في المملكة (المنار م 14 ص 80).
الخطر المحيط:
يقول جواد رفعت في كتابه "الخطر المحيط بالإسلام":
"إن الشخص الوحيد في تاريخ الترك جميعه، الذي عرف حقيقة الصهيونية "والسباتائية" وقدر أضرارهما على الترك والإسلام وخطرهما المحدق تماماً وكافح معهما مدة طويلة بصورة جدية لتحديد شرورهم، هو السلطان العثماني: الثالث والثلاثون (عبد الحميد الثاني) فقط، وإن هذا السلطان التركي العظيم كافح هذه المنظمات الخطيرة مدة ثلاث وثلاثين سنة بذكاء وعزم وبإرادة مدهشة جداً كالأبطال".(59/8)
ويتساءل الناس: لماذا يقف السلطان عبد الحميد ضد الدستور ويتحرز من هؤلاء الأحرار وأنه كان يعرف أنهم صناعة المحافل المساونية، وأنهم كانوا في مخطط الصهيونية العالمية التي قررت إسقاط عبد الحميد بأي ثمن، بالاتفاق مع الاستعمار العالمي الذي كان يطمع في دحر فكرة الجامعة الإسلامية أكبر خطر واجه حركة الزحف الاستعماري الحديث على يد عبد الحميد، لقد قاوم 33 عاماً تجاه شبكتهم المبثوثة في جميع أنحاء العالم، ومنظماتهم التي أحدثوها وأسلوب دعايتهم وافرتاءاتهم الكاذبة الشنيعة".
التنفيذ:
ويقول المؤرخون المنصفون: إن اليهود أخذوا تواً في تنفيذ المادة الخامسة من البروتوكولات: التي تنص على وجوب تلفيق الوقائع بحق الأشخاص المحترمين لدى الناس، للحط من كرامتهم وكسر اعتبارهم، ومن هنا بدأت حملة الكره ضد السلطان، حيث لفقوا وقائه حياله وقضايا تحت اسم القتل والإحراق والإغراق، ثم كانت مؤامرة اغتيال السلطان عبد الحميد حيث انفجرت قنبلة على موكبة بعد صلاة الجمعة، مقدمة لخطط ومؤامرات انتهت بعزله، وسيطرة الاتحاديين الذين فتحوا الطريق لليهود إلى فلسطين وسلموا طرابلس الغرب إلى إيطاليا.
يقول الأستاذ طه الوالي: كان غاية اليهود إزاحة عبد الحميد عن طريقهم الموصل إلى فلسطين، ولذلك فقد تمكنوا من رشوة بعض رجال الدين، وأغروهم بالخروج إلى الشوارح والمناداة بتطبيق الشريعة المحمدية، وهو ما سمي يومئذ بحركة الارتجاع قاصدين من وراء ذلك إحاج السلطان عبد الحميد بعد غعلان الدستور ودفع الاتحاديين إلى الثورة عليه، فيما بعد.
وقد أتت هذه الحركة الارتجاعية أكلها بالنصر لليهود فقام الجيش بحركته الحاسمة مقتدماً نحو يلدز، طالباً إزاحة العرش من تحت سلطانه، فتقدم ثلاثة في 7 مارس 1909 م من أعيان الدولة: مسلم مأجور ويهودي حقود ونصراني موتور وقدموا إليه ورقة للتنازل عن العرش.(59/9)
وقبل السلطان حقناً للدماء وقد صرح بذلك في رسالته إلى الشيخ محمند أبو الشامات قال:
"إنني لم أتخل عن الخلافة الإسلامية لسبب ما سوى أنني بسبب المضايقة من رؤساء جمعية الاتحاد المعروفة باسم (جون ترك) قد أصروا وأصروا على بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأراضي المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وكان جوابي القطعي: أنكم لو دفعتم ملء الدنيا ذهباً، لن أقبل تكليفهم، وبعد جوابي القطعي اتفقوا على خلعي، فحمدت المولي أنني لم أقبل أن الطخ الدولة العثمانية والعالم الإسلامي بهذا العار الأبدي، عن تكليفها بإقامة دولة يهودية في الأراضي المقدسة (فلسطين).
الصورة الزائفة:
هذه هي الصورة الصحيحة التي تجلت في السنوات الأخيرة عن حقيقة السلطان ووجهته، أما الصورة التي رسمها سليمان البستاني في كتابه: "الدولة العثمانية قبل الدستور وبعده"، وكتابات جرجي زيدان وسليم سركيس، وهؤلاء الطغمة من أعداء الإسلام، فإنها زائفة ومضللة، وقد طلعت عليها شمس الحقيقة وأنوار الوقائع الصحيحة الموثقة، إنها كتابات زائفة أريد بها تهوين شأن السلطان عبد الحميد تمهيداً لعزله أو قتله، وقد كانت في سبيل خدمة النفوذ الصهيوني أساساً.(59/10)
أما المنصفون من كتاب الغرب فقد شهدوا للسلطان عبد الحميد وفي مقدمتهم "لوثروب ستوارت" في كتابه حاضر العالم الإسلامي، كما تكشفت الحقائق حول الوقائع الزائفة التي نسبوها إليه، وخاصة بالنسبة لحياته الخاصة، وقد عرف عنه العزوف عن مظاهر الترف، وقد اكتفى من ملبسه الرسمي بالمعطف العاطل من الزخرف وقد كان يقضي وقته كله في دراسة التقارير المطولة التي ترد إليه من سائر جهات الامبراطورية إلى ساعة متأخرة من الليل، وقد تكشفت كذب إدعاءات: الإغراق في البسفور والخنق وكلها اتهامات أوردها اليهود، وليس لها سند صحيح، وقد كشف الأستاذ سعيد الأفغاني هذا الأمر في حديث له نشره في مجلة الوعي الإسلامي (شباط 1969 م) بعد زيارة لتركيا.
قال: فلما أخذنا ذكر الألوف من الأحرار الذين لا يحصدون الي أغرقهم السلطان عبد الحميد في مياه البسفور، أبدى رئيس الهيئة في رقة ولطف طالباً تسمية عشرة فقط من هذه الألوف التي لا تحصى، فلما أحرجنا قال: يا أخوتي لم يثبت غرق إنسان واحد في البسفور وهي إشاعات استطارت وخدعت الكثيرين ومنهم حافظ إبراهيم الشاعر في قصيدته: (مشبع الحوت من لحوم البرايا).
والصورة الحقيقية:
كذلك تبين كذب الإداعات التي إدعاها كتاب اليهود ومؤلفوهم باتهامه في شجاعته، فإن هذه الشجاعة الفائقة يدل عليها عديد من الوقائع والأحداث.
منها موقفه حبال محاولة اغتياله بعد انفجار القنبلة، واستطار الناس فقد واجه السلطان عبد الحميد الحادث في شجاعة أدهشت رجال السلك السياسي الأجانب وفي حفل الاستقبال في قصر ضلما بغشة عام 1904 م حيث كان يستقبل ضيوفاً من أنحاء العالم، وقع زلزال شديد فتحطمت النوافذ واتسعت الأرض وتهاوت الشرفات من السقوف، وقفز الوزراء والباشوات من النوافذ وقد استولى الذعر على كل الموجودين ما عدا عبد الحميد الذي ظل واقفاً منتصباً رابط الجاش وسط الغرفة المتأرجحة.(59/11)
وقد روت ذلك الدكتورة الماولتن صاحبة كتاب ( عبد الحميد ظل الله على الأرض).
وهناك الاتهامات التي تتصل بالرقابة فقد قيل أن للسلطان ألفاً ومائتي جاسوس، وأنهم مبثوثون بين أهالي الآستانة، وقد تبين أن هذه الصورة مبالغ فيها، وقال جواد رفعت: أن السبب الذي جعل السلطان قد نظم إدارته على نحو معين، ووسع دائرة استخباراته، هو علمه من تقارير الصهيونية بالعمل على التخلص منه والقضاء عليه.
كذلك فقد ثبت بطلان دعوى تعصبه وقد اتخذ كبير أطبائه من المسيحيين، وجعل وزير ماليته دولتلو أغوبيان المسيحي الأرمني، وعهد كثير من مهام سلطته إلى غير المسلمين.
قصة باطلة:
وتتردد كثيراً قصة مذابح الأرمن، ومسئولية السلطان عبد الحميد منها، وقد تبين براءة عبد الحميد من مسئولية هذه المذابح، وأن الغوغاء هم الذين تسببوا فيها، والأرمن هم الذين بدأوا باحتلال مبنى البنك العثماني وقتل بعض موظفيه، رداً على القمع الذي جوبهت به ثورتهم والتي ثبت أن الروس والإنجليز دفعوهم إليها دفعاً، وليس بسبب سوء المعاملة كما قد يتوهم البعض، وقد استغلوا روح التسامح لإحراج الدولة وكسب مزيد من الامتيازات، شهد بهذا دجوفارا حد كبار ساسة رومانية ومؤرخيها.
يقول: إن من أعظم عوامل انحلال الدولة العثمانية هو مشربها في إعطاء الحرية المذهبية والمدرسية التامتين لدعم المسيحية التي كانت خاضعة لها، لأن هذه الأمم بواسطة هاتين الحريتين كانت تثبت دعايتها القومية وتتماسك وتنهض وتسير سيراً قاصداً في طريق الانفصال عن السلطة العثمانية (حاضر العالم الإسلامي).
موت الأفغاني:
كذلك فقد كذبت وقائع التاريخ الصحيحة ما أشيع عن تهمة دس السم الأفغاني، والصحيح أن جمال الدين الأفغاني مات بالسرطان، بعد أن مرض شهوراً طويلة، ولو دسوا له السم لمات بشرعة.(59/12)
وقد وصف جرجي زيدان في الهلال (آذار 1897 م كيف توفي: قال: كان قد أصيب بداء السرطان في فكه السفلي منذ بضعة أشهر، فقاسى آلاماً مبرحة وأجريت له عمليات كثيرة استؤصل الفك السفلي كله أو أكثره، فامتد الداء إلى العنق وأوغل في الفم وعقد اللسان وضاعف الآلام، فاشتد المرض ولبس الناس ينتظرون وقوع الأجل، والحضرة السلطانية تواصل الالتفات إليه، بالإنفاق من الجيب الهمايوني الخاص، على أن ذلك لم يدفع مقدوراً ولا محاً مسطوراً.
ولكن ليس هذا العرض الذي يكشف وجه الحقيقه في أمر هذا السلطان المسلم الذي شوه تاريخه طويلاً، لا يمنع من أن يكون له وقد ولي الحكم سنوات طويلة بعض الأخطاء وقد أشير إلى بعض هذا في:
تعاونه مع ألمانيا مما جر عليه خصومة إنجلترا وفرنسا.
تردده في أن يتخذ اللغة العربية لغة الدولة العثمانية.
الاتجاه إلى الطرق الصوفية وليس إلى التيار الإسلامي الأصيل.
إهمال التدريب العسكري وإهمال الأسطول.
حاشية:
وقد صدرت في السنوات الأخيرة بحثو كثيرة تحمل طابع الاعتدال والإنصاف واختفت تلك الروح الظالمة القاسية التي لم تكن قائمة على الحقيقة التاريخية، وكانت تصدر عن الأهواء والتعصب والحقد، بل إن بعض الكتاب الذين تورطوا في كتاباتهم قد عادوا مرة أخرى إلى الإنصاف.
من هؤلاء الأستاذ محمد جميل بيهم، وكذلك بعض أساتذة الجامعة الأمريكية أمثال الدكتور زين زين.
ومن أبرز هذه الدراسات تلك الأطروحة التي قدمها اللبناني حسان حلاق إلى جامعة بيروت العربيةتحت عنوان (موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897-1909 م).
كذلك فقد كان للتعليقات التي قدمها أحمد الرشيد على مذكرات السلطان التي ترجمها الأستاذ محمد حرب عبد الحميد، بالإضافة إلى مقالاته المتصلة عن الدولة العثمانية تصحيحاً لمواقف غامضة، كل هذا كان له أثره العميق في إعادة النظر في هذه الصفحة التي أحاطها ضباب كثير.(59/13)
وقد تحدث الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى عن ضرورة فتح ملف الدولة العثمانية من جديد، وجرت في الملتقى الإسلامي الجزائري سنوات 1972 م، 1973 م أبحاث واسعة في هذا الصدد، صححت كثيراً من الأخطاء والشبهات حول الدولة العثمانية والسلطان عبد الحميد، وصدرت لكاتب هذه السطور دراسة واسعة ضمنها كتابه (تاريخ الإسلام: مثدمات العلوم والمناهج) بقي أن نقدم حلقة ثالثة عن المرحلة الثالثة للسلطان عبد الحميد الاتحاديون ومصطفى كمال أتاتورك، فإلى اللقاء.(59/14)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة
14
الوجودية
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا – بيروت
###81### الوجودية
ظهرت الفلسفة الوجودية بعد الحرب العالمية الثانية كرد فعل للآثار الخطيرة التي أحدثتها الحروب في أوروبا، والنتائج الضخمة التي أصابت الأسر والأمم بفقد زهرة شبابها وحيرة أبنائها، حتى لم يعد بيت في أوروبا بدون قتيل أو جريح، ومن ثم علت الصيحة إلى الفزع من الخطر الذي تفرضه أخطار السياسة، وصراع الدول على المجتمعات الآمنة بما يهدد الحياة، ويجعل أهلها يعيشون في خطر الحرب الدائم، وقد زاد من هذا الخطر الجديد الذي خلفته القنابل الذرية، كل هذا استجاش النفس الغربية بالدعوة إلى تأكيد الذات وإعلائها والدعوة إلى تحريرها من كل قيود المجتمعات واندفاعها إلى الرغبات، تسابق فيها خطر الحرب المائل، وتشفي غلتها من مطامعها دامت لا تضمن الحياة الرخية المستمرة، وما دامت ###82### ليست للحياة غاية واضحة إلا هذا المتاع السريع الذي قد يزول في أي لحظة حين تنفجر الحرب، وينتقل الملايين من الشباب إلى ساحة الموت.
ذلك هو العالم الحقيقي الذي واجه الفكر الغربي الذي هو بطبيعته فكر يقوم على الحرية والفردية والديمقراطية والرأسمالية، من خلال إيمان بسيادة الرجل الأبيض وسيطرته على مقدرات الشعوب والأمم الضعيفة، واعتصار ثرواتها وخيراتها، ونقلها إلى هذا المجتمع المترف الحافل بكل أدوات النعيم والمتعة والرخاء، فلما أحس الناس بخطر الحرب تأكل الملايين، ثارت في النفوس الرغبة إلى مزيد الاندفاع نحو الترف والمتعة حيث لا توجد غاية واضحة للحياة إلا الرفاهية والحرية.(60/1)
ومن هنا نجد أن انتقال مفاهيم الوجودية إلى أفق المجتمع الإسلامي العربي لا تستطيع أن تجد أسبابها ولا استجاباتها، فإن الأمر جد مختلف، ذلك أن الفكر الغربي لم يصل إلى الدعوة الوجودية على النحو الذي ظهر في الحرب العالمية الثانية إلا بعد أن قطع مراحل كثيرة من التحرر من العقيدة والدين، وإنكار قيود الشرائع الربانية، والسيطرة الظالمة على الأمم الملونة، واعتناق فكرة الرجل الأبيض، سيد ###83### الأرض الذي لا يهزم، والذي يعلم البشرية ويرقيها، ويملك في يديه كل ثرواتها والمتصرف فيها بما يشاء.
كذلك فإن المسلمين والعرب يختلفون مع الغرب فيما يتصوره الغربيون من أخطار الحروب وتحديات الذرة، ذلك لأن الصراع قائم بين طرفيه، فهم يخافون الحرب، ويرهبون الموت لأنهم يريدون استئناف حياة رخية مترفة، أما المسلمون والعرب، فإنهم يواجهون قضايا التحرر والتخلف من الاستعمار والصهيونية، ويعدون أنفسهم للمواجهة الدائمة بكل أخطارها. فضلا عن أن مفاهيمهم الأصلية تجعلهم بمنأى عن الخوف من الموت أو الحرب أو الخطر، فقد صاغهم الإسلام ليكونوا على حذر دائم، وعلى تعبئة كاملة في كل وقت لمواجهة أخطار عدوهم، وللعمل على نشر رسالتهم وتحقيق إرادة عقيدتهم، فضلا عن أنهم لا يؤمنون بالحياة المترفة الرخية، ويرفضونها ويرون نهايات الألم وعلامات الفناء القريب.
2- تركز الوجودية على الفرد الاعتزاز بحقه، وهو الكيان الثابت، وتقدم وجود الفرد على المجتمع؛ وترى أن الفرد له الحرية التامة في تحديد مكانه في الحياة، فإذا اختار لنفسه، فلعيه أن يتحمل نتائجه؛ وهو صاحب الحق في أن ###84### يحكم على الأمور بأنها خير، أو أنها شر حتى لو كان الحق في نظره شرًا في نظر غيره، أو في نظر المجتمع.(60/2)
وترفض الوجودية: قيم الالزام، والضمير؛ والفضيلة والخير والعدل والمسؤوولية، وتقف في أنانية عالية النبرة تقول: لا تنكر وجودك حتى تصير مجرد أداة للآخرين، وتجنح الوجودة إلى الوجدان، وتعلى شأن الحدس، وترفض العقل والحكمة، وتسخر بهما.
ولا ريب أن رفض فكرة الالتزام، هي أخطر مقومات الوجودية، وأخطر معارضاتها للفطرة الإنسانية وللدين الحق.
وهي في مجموع القيم التي ترفضها، إنما ترفض كل ما يضبط الشخصية الإنسانية، ويحميها ويرتفع بها ويقيم لها وجودها الحق؛ فهي بذلك تدفع الإنسان إلى أهوائه لتدمره، وإلى مطامحه لتحطمه.
فالالتزام هو حق الجماعة، والفضيلة هي حماية الذات من حق غيرها، فإذا رفضت النفس الإنسانية المسؤولية، فماذا يكون موقعها في المجتمع، وفي الحياة نفسها؟
وعلى هذا النحو يصدق قول الباحثين من أن الوجودية إنما تعني التحرر من المجتمع ومسؤوليته، ومن كل القيم التي ###85### جاءت بها الأديان والشرائع، ومن الضوابط التي استقر عليها مفهوم الأخلاق.
ويتصل بهذا المفهوم موقف الوجودية من الزواج والطلاق وحرية الصداقة وإسقاط الدين كله من حساب الحياة والاندفاع إلى الأهواء والرغبات بغير حساب يحسب لشيء ما.
وبذلك تتجاوز الوجودية حدود الحرية وضوابط المجتمع إلى الاعتداء على حقوق الآخرين، والعودة بالإنسان إلى عهود الهمجية وشريعة الغاب.(60/3)
3- يحاول الباحثون في الفكر الغربي تقسيمه إلى فكرين: فكر مادي، وفكر وجودي؛ أما الفكر المادي، فهو الفكر العلماني الذي انبعثت منه المناهج السياسية والاقتصادية، سواء الديمقراطية منها، أم الماركسية؛ أما الفكر الوجودي فهو الفكر الإنساني المتصل بالوجدان والنفس والحياة؛ ويرى أتباع الفكر الوجودي أن الفكر المادي صهر الإنسان، وحوله إلى ترس في آلة، ولذلك فهو يبحث عن وجوده، ويريد أن يختار موقفه في الحياة وطريقه، ويتحمل مسؤولية اختياره، ثم يخطو سارتر بالفكر الوجودي خطوة أخرى، فيتحرك داخل إطار الفكر المادي، فينكر الإله والبعث والجزاء، ثم يتجه مرة أخرى إلى الارتباط بالفكر ###86### الماركسي، ثم يأتي مذهب الشخصاينة: فرع من الفكر الوجودي، فيختلف معه.
ونظرنتا نحن أخل الفكر الإسلامي إلى ذلك كله، هي نظرة واحدة، فالفكر الغربي منذ انفصل عن المسيحية، وما زال يصارع في سبيل تكوين منهج للحياة ومفهوم للنفس والإنسان، وهو ما يزال مضطربًا غاية الاضطراب، متحولا دائم التحول لا يتوقف عن الجري إلى غاية غير واضحة.
قد سيطر الاتجاه المادي على الفكر الغربي في طرفيه الليبرالي والماركسي، وسيطر على الفكر النفسي فرويد، والفكر المتصل بوجود الإنسان والوجودية، وسيطرة الاتجاه المادي تعني غلبته الكاملة على الوجهة بحيث لم يعد هناك سبيل للاعتراف بالجانب الديني والروحي الذي يشكل الشق الثاني للتكوين الإنساني، والذي يفقد الإنسان بتجاهله وحجبه الضوء الصحيح إلى الطريق الصحيح.
ومن هنا فنحن نرى ثمرة الوجودية واضحة أشد الوضوح في آثارها وإنتاجها وكتاباتها، وهي مزيج من التشاؤم والقلق والاغتراب والخوف من الموت والتمزق والضياع.
وتمكن القول بأن الفلسفة المادية أنشأت الآن فلسفة الجماعة في الماركسية، وفلسفة الفرد ممثلة في الوجودية.(60/4)
###87### ومعنى هذا أن كلا من المذاهب الثلاث: الماركسية؛ والفرويدية، والوجودية، قد انبثق من المذهب المادي، واختار فكرة العدمية، وإنكار وجود الله أساسًا له. وهذه المذاهب ليست إلا امتدادًا للحملات التي بدأت في الفكر الغربي ممثلة في فولتير ونيتشة وكير كجورد، وموجهة إلى الدين، وإذا كان ماركس قد افترض أن تفسير التاريخ والإنسان أن يبدأ من الطعام، وأن الفردية جعلت حركة الإنسان منبعثة من الغريزة، فإن الوجودية ترمي إلى كسر جميع القيود والضوابط سواء منها الدينية أو الاجتماعية او الأخلاقية التي تحيط بالإنسان، حتى يتمكن من تحقيق ذاته منفصلا عن كل قيد، وفي سبيل هدف الوجودية هذا، ولانفصالها عن الشطر الروحي والديني القائم في أعماق الإنسان، وجدت الوجودية أن العالم كله خداع، وأن الإنسان موجود بدون سبب، وأن العالم يمضي لغير غاية.
ومن حق الوجودية أن تفهم هذا، لأن الإجابة الصحيحة التي تكشف عن هدف وجود الإنسان، وغاية العالم إنما تكمن في الدعوة التي وجهتها الأديان إلى الإنسان من خالقه لتفسير ما ليس في استطاعته الوصول إليه دون عون من الوحي والنبوة ورسالة السماء.
###88### فإذا تجرد الإنسان باعتناق الوجودية من هذا الفهم، فإنما تبدو الحياة له وهمًا كبيرًا، وظلامًا كبيرًا، لأن الغاية الحقيقية التي جاء من أجلها، قد أصبحت محجوبة عنه.(60/5)
وتصدق الوجودية حين ترى أن أزمة العصر هي غربة الإنسان، ونقصد هنا الإنسان الغربي، وذلك حين نرى أن التقدم التكنولوجي قد جعل منه ترسًا في ماكينة أو قطعة غيار في جهاز، ولكن المسلم ليس كذلك، ولا يفهم هذا الفهم لأن دينه علمه مهمته ورسالته، وكشف له عن الغاية، وبذلك عرف أن له دورًا وسعيًا وحركة واسعة، هو مقبل عليها في صدق وإيمان، لأنه يعرف أن من وراء سعيه كسبًا حقيقيًا وبلوغًا لدرجة أرقى ومكانة أعظم، ثم إن المسلم يؤمن بأنه له إرادة مسؤولة يجزى عليها بالخير، أو بالشر في حياة أخرى، وأنه مطالب بأن يخوض معركة الحياة في أخلاقية التقوى والثقة بالله والرحمة بالإنسان، ومن هنا يحس أن حياته جزلة وعامرة وحافلة بالضياء والخير.
وهو في سعيه إلى الغاية الربانية، وفي توكله على الله واستعانته به لا يواجه أبدًا أزمة القلق ولا أزمة التشاؤم، ولا يخاف الموت، فالحياة الإسلامية التي تعرف أبعاد وجودها ورسالتها وغايتها جميعًا تواجه الحياة مواجهة الطمأنينة ###89### والسكينة، والعمل الجاد الدائب دون أن تفقد لحظة واحدة وجهتها، أو تقع في بيداءا اليأس سواء أكانت الحياة يسيرة أو عسيرة، فإن النفس المسلمة ترضى باليسير، وإذا جاء العصر، جالدته صابرة حتى ينطوي دون أن تحس بالقلق أو الحزن.
وهي تعرف أن مع العسر يسرًا، وأن الفرج مع الكرب.(60/6)
4- ولا ريب أن الوجودية ليست إلا اسمًا جديدًا لطابع التشاؤم القائم في أعماق الفكر الغربي منذ وقت بعيد، وأ\ن طابعها موجود في كثير من الفلاسفة السابقين غير أت ميزة الصورة الجديدة على يد سارتر هو غلبة الطابع المادي عليها غلبة مطلقة، أما الفكر الغربي فهو مصبوع منذ يومه الأول بصبغة التشاؤم، هذا التشاؤم الذي ينبعث من عدم الإقناع العقلي بوراثة البشر جميعًا لما يطلق عليه الخطيئة الأصلية. فقد ساد الغرب طابع الوجدان المتشائم نتيجة هذه القضية، وظهرت آثارها القوية واضحة على مختلف نماذج الآداب والفنون والفلسفة والأخلاق، ومن خلال هذه الأيديلوجية السوداوية المتشائمة: تنتشر على أوسع نطاق في عالم الغرب أفكار عن "لا معقولية للحياة" وعبث الوجود حتى أصبح المفكرون المتشائمون ###90### يشنون هجمات هستيرية على كل فكر معارض.
ويرى الباحثون أن (الوجودية) هي أعلى مراتب التشاؤم، ويرد البعض ذلك أثر الماكينة التي انقلبت على صاحبها، وأصبحت وحشًا مدمرًا يحاول أن يقضي على عقله وقلبه، ويجعله آلة طيعة له.
ويرى البعض أن الفرويدية والسريالية كانت نتاج الحرب العالمية الأولى، وأن الوجودية والهيبية، هي نتاج الحرب العالمية الثانية في طريق واحد.
يقول الدكتور حامد عمار: كانت محنة الحرب العالمية الثانية، وما أنشأته من وسائل الدمار والفتك تجربة بشرية قاسية، وفي مثل هذه الظروف كان الجو ملائمًا لظهور أفكار الوجوديين وتفسيراتهم التشاؤمية، هذا الوجدان القلق عند الإنسان الذي يشعر بأن الكون سائر نحو العزلة والعدم، وهذا الشعور المرضي الذي يشبه الغثيان على حد تعبير "سارتر" وهذا الذي نعيش فيه عالم هش قابل للانكسار السريع والتحطم المروع.(60/7)
ما سبيل النجاة من هذه الغاشية التي تحيط بهم، صورة الحياة القائمة، يقولون: "إن الوجود الذاتي هو الشيء الوحيد الذي يملكه الإنسان، ومن ثم عليه أن يخلق نفسه بنفسه، وأن ###91### يختار بنفسه حيث يحيا الإنسان وجوده الحقيقي غير عابئ, بل مجاهد لما يمكن أن يجد في هذا الوجود الذاتي من حدود، أو يعترضه من قيود".
ومعنى هذا أن سارتر والوجودية ترى أنه إزاء هذه الجائحة المجنونة للحرب والموت، فإن على الإنسان أن يحطم كل قيود الخلق والاجتماع والدين، وأن ينطلق إلى لذاته وغاياته غير عابئ لشيء، ذلك لأنه لا يؤمن للحياة بغاية، فمن أجل أي شيء يبقي على شيء.
وهذا حل ساذج أرعن، لا يؤدي إلى مزيد من تدمير الحياة، وهي صيحة الضعف البشري والقصور الذاتي، والعجز عن فهم هدف الحياة ورسالة الإنسان، وهي استجابة للحيرة والقلق بمزيد من الحيرة والقلق، وهو دعوة انهزامية للتدمير.
ولا ريب أن الوجودية ظاهرة زمنية عابرة، لن يلبث الإنسان، أن يتخطاها، وهي – كما يقول جاك بيرك – ليست روحًا، وهي فلسفة عدمية سلبية من ألفها إلى يائها، تود أن تقتل في الإنسان التفكير، وتشل القدرة على استعمال العقل والنطق، وتقول: إذا أردت خلاصًا، فاقتل في نفسك العقل والمنطق هذا فضلا عن إنكار الخلق والدين.
###92### 5- أبرز نتائج الوجودية: القلق والتمزق، والخوف من المجهول والرعب.
ولا تقع النفس الإنسانية في هوة القلق والتمزق إلى بنتيجة الصراع بين الروح والمادة، وانفصال الإنسان عن اليقين الذي يملأ روحه وعقله بالثقة.(60/8)
فقد عزلت الوجودية الإنسان عن كل ركيزة، يمكن أن تحميه أو تطامن نفسه، أو تملأه بالثقة، هذه الركيزة لا تأتي إلا من مصدر واحد، هو الدين. ومن ثم كان إنكار الدين منطلقًا للعدمية التي تفجر كل أنواع القلق والخوف والرعب، فنظرة الإسلام للإنسان هي نظرة التكامل بين رغائبه وأشواقه بين المادة والروح، ولكن النظرة المادية الخالصة من شأنها أن تخلق طابع التشاؤم والشك الذي يحس معه الإنسان بأنه وحيد، وشقي وغريب، وهذا معنى التمزق والضياع، أما حيث يحل في النفس الإيمان بالله، فإنما تحل معه الثقة والتفاؤل، فالإيمان بالله قوة دافعة تعطي الأمل، وتحول دون اليأس، وتبعث الثقة، وتدعو إلى المعاودة في حالة الإخفاق.
ومنذ انعزلت المجتمعات الغربية عن الدين، وعجزت عن أن تبحث عن الدين الحق، فقد حلت فيها روح اليأس ###93### والقلق والتمزق، وعجزت الأيديلوجيات المختلفة عن أن تحقق السعادة.
إن الإنسان الذي صنع من قبضة الطين ونفحة الروح، لا يمكن تفريغ كيانه من مضمونه أو النظر إليه على أنه الهيكل البشري الخالي من الروح والوجدان والقلب والبصيرة، ومن هنا فقد بدت هذه المفاهيم غريبة عنا، وعن مجتمعنا وعن قيمنا كل الغرابة لسبب أنها ثمرة من ثمار تحديات مجتمع معين في ظروف معينة، إن الإنسان الغربي يمر بأزمة خطيرة، فهو ضحية الصراع الذي أعلى من شأن المادة، وأنكر القيمة الروحية والدينية والأخلاقية.
لا ريب أن القلق النفسي الذي يجتاح الإنسان المعاصر بنتيجة مفهوم الوجودية، هو قضاء ماحق للوجود الإنساني الحقيقي.(60/9)
ولذلك فإن دعوة الوجودية إلى الانطلاق لتحقيق اللذة بحسبان أنها الحال الوحيد، هذا الحل لن يحقق التكامل أو الطمأنينة أو السكينة النفسية، بل سيزيد الإنسان نهمًا واضطرابًا حتى يصبح ضحية لمطلب نهم، ما يكاد يتم أشباعه حتى يعود الإلحاح على صاحبه. "سواء الخمر أو المخدرات أو أي لذة أخرى" فإن الامتلاء الذي تلوح لنا به اللذة لا يهيء ###94### الشعور بالطمأنينة أو الإحساس بالسلم، وهيهات أن يشبع الامتلاء نهم الإرادة البشرية.
ولا ريب أن الإنسان إذا ما قطع صلته بالله وبالبعث والجزاء فإنه يعيش مرارة اليأس والظلام ومدافعة المصير المحتوم الذي ينتظر الجميع دون جدوى، فليست هناك فرجة للحياة، ويرون أنهم أشبه بـ "سيزيف" المسكين بطل قصة "العبث" الي حكم عليه بأن يحمل صخرة ثقيلة ليصعد بها قمة الجبل، وسرعان ما تهوى إلى قرار سحيق، فيعيد الكرة. أما المسلم فإن حياته غنية خصبة ثرية مليئة بالثقة والتفاؤل والأمل في الغد، وفي البعث وفي الحياة كلها لأنه ينطلق من رسالة واضحة إلى هدف محدد، يستهدي فيه الله ربه لإقامة المجتمع الرباني الكريم.(60/10)
وهكذا تتجدد فلسفة العدم التي عرفتها الفلسفات المادية قبل الإسلام، حيث كان الإنسان يبحث عن الخلود، فيصدمه الموت، ويحاول أن يتوحد مع ذاته، فتسحقه المتناقضات، ولم يكن ثمة أمل إلا في الدين، فلما جاء الإسلام كان نصرًا سحقًا للإنسان المعذب على مأساته في كل مكان وزمان، فقد جاء له بالخلود عندما علمه أنه على مدى موعد مع الله، وأنه سوف يبعث بعد موته ليحاسب على مدى فاعليته في ###95### الحياة الدنيا: «وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى» [النجم: 39] وفهم سارتر زائف وبعيد عن الحقيقة، فلو فهم سارتر "الله" تبارك وتعالى حق الفهم عن طريق الدين الحق لوجد أن الله، قد أعطى للإنسان إرادة حرة، تجعل له حق التغيير والإضافة، وأنه في ظل هذه الإرادة التي أعطاها لهم، كرم عملهم إذا كان خيرًا وحقًا، ونوه بهم في الدنيا، وجزاهم أحسن الجزاء في الآخرة، أما هذا الفهم الذي يصدر عن سارتر، فهو إنما يستمده من الأساطير الإغريقية، ومن بعض تفسيرات الغرب للدين، وهي تفسيرات زائفة لأن الفكر الغربي فهم العلاقة بين الله والإنسان فهمًا غير صحيح، تداخلت فيه أخطاء العلاقة بين النبي والله، وبين النبي والإنسان، كذلك فإن اعتقاده بنظرية الخطيئة، جعله أشد اضطرابًا في فهم العلاقة بين الله والإنسان.
وإذا كان الغاية من الوجودية هي أن يحقق الإنسان وجوده، فإن ذلك مقرر في الإسلام في إطاره الطبيعي وضوابطه الأصيلة التي تحمي وجوده وكيانه، وليس للإنسان أن يطلق العنان للذاته ومتعه، أو يتمرد على أوضاع المجتمع أو القيم الأخلاقية لأنه بذلك يكون قد خرج عن رسالته الحقة التي جاء ###96### إلى هذه الأرض من أجلها، والوجودية بهذا تكون فلسفة الانحلال والعدم والفوضى التي لم تفهم رسالة الإنسان وحقيقة وجوده في الحياة على على النحو الصحيح.(60/11)
وإذا كانت الماركسية والفرويدية هي رد فعل لمفاهيم التفسيرات الدينية الغربية، فإن الوجودية هي أيضًا رد على تحديات الدعوة إلى العزلة والرهبانية والخطيئة. كذلك جاءت الوجودية رد فعل على طغيان المذاهب المادية على عقول الناس.
لقد خدعت كل فلسفة من هؤلاء خدعت الناس بمظهرها؛ ثم تكشف من بعد هدفها حين دعت الماركسية إلى العدل الاجتماعي، ثم تبين أنها ترمي إلى هدم الدين والأخلاق، وحين دعت الفرويدية إلى حل العقد النفسية، ثم تبين أنها ترمي إلى تدمير المجتمعات؛ وحين دعت الوجودية إلى كرامة الفرد لتجنح بها إلى حيوانية تصيب الفرد والجماعة بالقنوط والانحلال.
6- أشار الباحثون إلى أن الوجودية، قد قدمت إلى الفكر البشري في العصر الحديث أزمات الغربة والغثيان، والعبث والتمرد واللامعقول:
وأشار كولن ولسون في كتبه "اللامنتمي" إلى أن الغربة ###97### مرض متصل بتصدع الذات أو انشقاقها نتيجة لعدم توائمها أو انسجامها مع المجتمع الذي تعيش فيه، وأن التصدع بين الذات والجماعة مشكلة اجتماعية تقوم على شعور الفرد بالانفصام عن مجتمعه، وقال: إن الرومي القديم برغم حيرته وشكه في سبيل العثور على الحقيقة، لم يفقد الإيمان بها، وهو لم ييأس اليأس التام.
أما غريب العصر، فهو لا يفهم ما يعنيه الناس بالحقيقة، فهو إنسان عاجز عن الإيمان بوجودها؛ فالعالم في رأيه عالم مفتقد للحقيقة، عالم زائف قائم على اللامعقول والفوضى، وهما وحدهما في نظره، هما الحقيقة ويعتقد كثيرون أن العقل وحده، ليس بقادر إذا عمل منفردًا على بلوغ الحقيقة وراء هذا العالم، ومن هنا جاءت الغربة التي هي أزمة الإنسان الذي فقد إيمانه بالله، ولم يجد ما يعوضه عن هذا النقص. إنها أزمة العقل المسيطر على الإنسان الذي أضعف مركز الإشعاع العاطفي في الإنسان، وهو العقيدة الدينية.(60/12)
ويقول: إنه ليس الإنسان بقادر على أن يجلو عن نفسه، ما يعتريه من صدأ أو يغلف إحساس من سماكة إلا ما ظفر بشيء من السلام النفسي والهدوء الروحي.
ولكن كولن ولسون عندما يصل إلى هذه النقطة ###98### الصحيحة، يعجز عن الانتقال منها إلى الحل الصحيح، وهو التماس الدين الحق، فإنه ما زال يعيش في دعوات المتصوفة الهنود حيث يدعو إلى تنمية ملكة الرؤيا والكشف الصوفي، أما المسلمون فيعرفون الطريق الصحيح، وهو الإيمان بالله والتماس رحمته، فليس للإنسان في حالة الغربة أو التمزق أو الخوف إلا ملجأ واحد، وسند واحد، هو الله، وبالالتجاء إليه يجد الإنسان السلام والأمن والسكينة؛ ولكن هذا الطريق ما زال بعيدًا عن أصحاب الأزمة، فهم لا يرونه، إن الإسلام يدعو إلى أسلوب أشد عمقًا من الرؤيا والكشف: هو النظر في ملكوت السماء والأرض ذاكرًا عظمة صنع الله وجلال قدرته، وهذه وحدها هي القوة التي تملأ النفس باليقين، وتحقق الوحدة بين الإنسان والوجود.
أما تلك النظريات المهومة التي تتحرك من فراغ، ولا تجري في دائرة التوحيد والإيمان بالله والتماس منهجه في الحياة والعبادة، فإنها لا تصل بالإنسان إلا إلى مزيد من القلق والاضطراب لأنها لم تجد طريقها الصحيح.
وكل ما نستطيع أن نصل إليه مما أورده الباحثون أمثال كولن ولسون وغيره إلى أن أزمة الغربة هي أزمة فقدان الإيمان وأن هذه الأزمة يظل صاحبها على حال من القلق والتململ ###99### والعذاب حتى يعود إلى منطقة الإيمان.
ولقد أصبحت هذه الحقيقة معروفة الآن في الغرب، ولكن السبيل إلى تحقيقها ما زال غامضًا ومغلقًا لأن الغرب لا يجد فيما بين يديه ما يدله على ذلك الطريق الذي هدى الله إليه المسلمين، وكل من حاول أن يهتدي برسالة القرآن.
والعقيدة الدينية هي المفقود الأول، وهي البلسم الأخير، ولكن على صورة بعيدة عن تشوهات الفلسفة والمنطق، وأهواء النفس المتداخلة إلى الحقائق.(60/13)
إن الفكر العقلي المجرد – كما يقول ولسون – لا يحل أزمة الغريب، هذا حق، وإن العاطفة الدينية، هي التي تستطيع أن تحل أزمته، وهذا حق، ولكن كيف السبيل إلى هذه العاطفة إلا بإيمان صادق راسخ بالله رب العالمين: خالق كل شيء، وخالق الإنسان، وواهب الحياة.
ويدعو كولن ولسون إلى حلول جزئية، فيقول: إن تحرير الإنسان يجب أن يبدأ أولا بتحريره من فكرة الخطيئة الأولى التي تسيطر على الإنسان الغربي، والتي تقف حائلا بينه وبين رؤية الحقيقة.
ويقول: إن هذا جزء من الحرية الكاملة التي يعطيها الدين الحق للإنسان، والتي تجعله يؤمن أولا بأن لوجوده ###100### رسالة وغاية وهدفًا وأمانة ومسؤولية، وأن الحياة ليست عبثًا، وليست لعبة، وليس مصادفة بحال.
فالإيمان بالله الواحد الخالق المدبر الذي يرجع إليه الأمر كله، هو المصدر الوحيد للأمن والسكينة، وسوف تفشل كل هذه المحاولات الجزئية أو الحلول التي تستمد مصادرها من فلسفات باطنية أو هندية.
على الإنسان الحديث أن يسلم وجهه لله أولا، ويعتقد بأنه الخالق، وبأنه صاحب الإرادة العليا، وأنه خالق الإنسان لغاية، ورسم له نهجًا، فإذا ما التمس الإنسان غايته ونهجه، طابت نفسه واستقرت، وبدأت الحياة تأخذ طابعها المستقر المليء بالطمأنينة والسكينة، وما دام الإنسان الحديث مصرًا على أنه سيد نفسه، وأنه القادر على إدارة الحياة هازئًا بكل قوة عليًا، ساخرًا من الوصاية والمنهج الرباني، فإنه سوف يلقي هذا الألم الذي يسحق نفسه سحقًا دون أن يقر له قرار.(60/14)
7- إن أخطر ما تقدمه الوجودية للإنسان المعاصر، هو إنكار كل محصول البشرية من التجارب والقيم، فهي لا تأبه به، بل تنادي بضرورة تجاهله، وأن يبدأ الإنسان من جديد كالإنسان البدائي فضلا عن احتقار الوجودية للعلم وإنكار قيمته، ولعل أسوأ ما يتعارض مع طبيعة الحياة، ومع فطرة ###101### الإنسان شجبها للدين وإنكار الوجود الإلهي حيث لا تجد لها أي قاعدة تلتقي مع حقيقة الإنسان ووجوده وذاته.
ثم هي تجعل الفرد منعزلا عن الوجود العام لا جزءًا منه، أما أخلاق الوجودية، فهي الأخلاق المريضة القائمة على القلق والقنوط والتشاؤم والرغبة في الموت والغموض والأنانية المفرطة.
ويرد الباحثون ذلك كله إلى عجز الفكر الديني الغربي عن أن يقدم ترضية كافية إلى مطالب العقل الذي يتوق إلى فهم كل شيء، حيث تصطدم بعض هذه المفاهيم مع العقل الذي لم يكن معدًا لقبولها.
كذلك فإن العلم قد سقط بجميع وسائل البحث والدراسة إزاء الأسئلة المطروحة في وجهه، وعندما سقط العلم عن إرضاء النفس البشرية، جاءت الوجودية لتعترف بعجز الإنسان عن فهم الحياة ومعقوليتها، فساقت الناس مرة أخرى إلى تعمق الشك والقلق وتأكيده.
ومعنى هذا أن الوجودية ليست حلا، وإنما هي اعتراف باليأس، وتعبير عن الفراغ الروحي المخيف؛ وقد جاء ذلك نتيجة أمرين:
الانفصام بين الروح والمادة.
###102### 2- الإنشطار بين الدنيا والآخرة.
هذا اليأس والتمزق النفسي، إنما ولدهما الخواء الروحي والكسل الذي تعانيه الحضارة المعاصرة نتيجة الإسراف في الرفاهية والترف، حيث لا تعرف المجتمعات الآن غير اللذات المسرفة والمسافدة والخمر والسموم.(60/15)
وليس هذا – في تقدير العارفين بسنن الله في الكون والمجتمعات – بغريب، فإن الإنسان حين يخرج عن طريق الله وعن منهج الله، فإنه يورث الحيرة والقلق الذي يجعله يقتل نفسه حيًا؛ ولقد حاول إنسان العصر أن ينحي عنه كل ما هو رباني فلا ينظر فيه اعتمادًا على العقل والعلم، فلم تحقق جولته خلال هذه القرون إلا مزيدًا من الخسارة، وهو الآن في كبريائه عاجز عن أن يعود إلى الدين بعد أن هجره، ولذلك فإنه يعود إلى فلسفات الهنود والبوذية وغيرهما متخطيًا الإسلام الذي يقف شامخًا كالمنار أمام حيرة الإنسان الغربي حاملا الهدى والضياء، وسوف يكثر طواف الإنسان المعاصر، وتمتد حيرته دون أن يجد منقذًا إلا في كلمة الدين الحق.
أما الذين تزدهيهم الوجودية، ويعجبون بها، فإنهم ينساقون وراء أهوائها فحسب؛ حيث يرون فلسفة تبرر الانحراف بدعوى القيم، وتعفي الإنسان من القيم ###103### الأصيلة، وتطلق له عناية الأنانية؛ وليس الإنسان منطلقًا في الحركة في هذه الحياة على النحو الذي يريده لأهوائه ورغباته.
وإنما لا بد أن تتم هذه الحركة داخل إطار من الدين، ومن ضوابط الأخلاق، ومن الحدود التي تحمي الشخصية الإنسانية نفسها، والتي تجعل الإنسان أهلا لتحقيق إرادة الله في الأرض؛ قويًا عاقلا قادرًا على الحركة والمقاومة والعطاء، أما الإنسان المنحل المنحرف المدمر الذي حطمته الأهواء، فهو ليس الإنسان المكلف الملتزم بإرادة الله ومنهجه.
وفي كل ما تعرضه الوجودية لا نجد أكثر حكمة وتوسطًا من الإسلام حيث لا تتصارع فيه إرادة الإنسان، سواء في علاقته مع نفسه أو مع غيره. والإنسان في الإسلام ليس هو الموجود الذي ينبع منه كل شيء، بل هو جزء من الكون متوازن مع كل القوى نفسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا على أساس الاعتدال، والإنسان في الإسلام يعتمد على العقل، تحدوه قوة الإيمان، فلا صراع عنده بين المادة والروح، أو الجسد والعقل.(60/16)
"ويعالج الإسلام قضايا الإنسان معالجة متوازنة (فكرية ونفسية) دونما طغيان لقيمة على قيمة، أو تراجع لقيمة أمام أخرى، ولقد جاء الإسلام كنصر ساحق للإنسان ###104### على آلامه، وكثورة نفسيه عظمى، حققت له توحده الذاتي، وشيدت أمامه أروع أمل في الخلود المطلق في النعيم".
وكلن الإنسان هو الذي ترك هذا الأسلوب الرباني الذي جاءت به الأديان؛ وحاول أن يحل مشاكله بنفسه فاضطرب وعجز، وبدأ ذلك في معالجات الفلسفة اليونانية، والفلسفة الشرقية الغنوصية، والفلسفة المثالية، والفلسفة المادية الحديثتين، لأن الإنسان لا يعرف حقيقة جوهره، أما الإسلام فإنه يعرف أن عنصر التوازن أصيل في الإنسان، وأنه لا بد من التقاء الفكر والنفس، والروح والمادة، والدنيا والآخرة في أي فهم لدراسة الإنسان وفهم نفسيته وذاته.
... ... ... ... ... ... ... ... الأستاذ/ أنور الجندي(60/17)
سلسلة دراسات إسلامية معاصرة
12
الفرويدّية
أنور الجندي
منشورات المكتبة العصرية
صيدا – بيروت
###29### الفرويدية
كان علم النفس قبل هذا القرن يبحث في الإنسان، وكأنه روح بلا جسد؛ وكان يهمل دراسة الحيوان وبعض بني الإنسان كالأطفال والبدائيين والشواذ، وكان معظم دراسته للإنسان كفرد منعزل.
أما الآن، فقد سيطرت العلوم الوضعية – كالطبيعة والكيمياء وعلم الحياة – عليه منذ أواخر القرن الماضي، وأصبح يدرس الإنسان كأنه مادة فقط. ثم انحرف عن أسلوب العلاج إلى أسلوب التقرير، فأصبح "جبريًا" يرى أن الإنسان مسير أمام جملة من العوامل التي يحكمها العقل، وأصبح عاجزًا عن أن يخلق المثل الأعلى لأنه غير قادر على تثبيت قيم الأشياء. ولأنه علم وضعي يسير في نطاق ضيق من التجارب، لم يدع علم النفس إلى المجاهدة؛ وإنما دعا إلى ###30### الاستجابة للأهواء والرغبات المذلة؛ لم يرفع الإنسان أمام نفسه إلى الاستعلاء فوق الغرائز؛ ولكن دعاه إلى الاستجابة لها، ولقد كان من ذاته، ولكنها وسيلة إلى مراقبة السلوك، وقد التمس الإسلام طابع الاعتدال في السلوك، والتوسط في الحركة. وقد نما علم النفس في العصر الحديث على الأسس التي رسمها المفهوم الإسلامي، غير أنه لم يلبث أن تحول تحت تأثير المذاهب الفلسفية، وخاصة الفلسفة المثالية، ثم لم يلبث أن انحرف بعد ظهور الفلسفة المادية حتى انتزع كل مقومات التوجيه والخلق، وأصبح علمًا إحصائيًا محضًا يتوقف عند تصوير الواقع، ولا يتعرض للعلاج، ثم هو يتحول عن طبيعة العلوم النفسية والاجتماعية في الدعوة إلى ضبط النفس وحماية الإنسان ومعارضة الشهوات المذلة، إلى الإسراف في الدعوة إلى الإطلاق.
وهذه النقطة بالذات هي مفرق الطريق عن قيام مفهوم علم النفس على تقدير كامل للإنسان روحًا وجسمًا، وبين تحول علم النفس إلى المادية وسقوطه تحت سيطرة المدرسة المنكرة للدين جملة.(61/1)
ولقد ظهرت مدرسة علم النفس الحديثة ممثلة في ثلاثة هم: فرويد، وادلر، ويونج، الذين سرعان ما ظهرت ###31### عوامل الخلاف بينهم، ثم علا شأن المفهوم الأبعد عن الفطرة والذي رده العالمان الآخران؛ مفهوم فرويد في إعلاء الجنس. جراء استسلام علم النفس الحديث إلى الجبرية أثر بالغ في انبعاث روح الشك في العقائد والأديان.
ولأنه علم تجريبي، فقد عني بالحالات الشاذة، وجعلها أساس البحث، من غير أن يقيم المعايير التي يستطيع المرء أن يتخذها لنفسه غاية، وعلماء النفس يصفون حالات الجماعة ونفسية الجماهير بما يحكمها من عقلية الرعاع، وبما يشينها من العقل الباطن غير المفكر؛ وكان حقيقًا بكل ذلك أن يدفع بالعالم إلى الشك، وأن يزعزع إيمان الناس في سمو المثل الأعلى، فقد أصبح الفرد يرى نفسه غير ملوم، لأنه يتخذ من وجوده في الجماعة ذريعة للتبرؤ.
2- يتصل علم النفس بالأخلاق اتصالا أساسيًا؛ فالأخلاق معرفة وسلوك، وعلم النفس هو ما كان يطلق عليه علم السلوك. وقد قطع الفكر الغربي الإسلامي شوطًا طويلا في مجال دراسة النفس مستمدًا مفاهيمه الأساسية من القرآن الكريم؛ هذه المفاهيم التي تتمثل في حقائق مترابطة، ألقت الضوء الحقيقي على هذه اللطيفة الربانية. وقد عمد الفكر الإسلامي في معرفة النفس أن يكون سبيلا إلى إصلاحها ###32### وتهذيب الأخلاق الذي لا يتأتى إلا بمعرفة عيوب النفس حتى يمكن إصلاحها، فليست معرفة النفس هدفًا مجردًا في.
3- تقوم نظرية فرويد في النفس على الأصول الآتية:
أولا: الحياة النفسية للإنسان المسيطر على كل أفعال الإنسان.
ثانيًا: إن غرائز الإنسان هي التي تحكمه وتسيطر على نشاطه، وإن الجانب المسمى بالروح لا وجود له على الإطلاق.
ثالثًا: الدين والأخلاق ليسا قيمًا أصيلة في الحياة البشرية، ولكنهما انبثاق جنسي.
رابعًا: القيم خرافة، وهي نفاق العقل للنفس والمجتمع.
خامسًا: تفسر النفس كلها من خلال الجنس.(61/2)
سادسًا: رد كل الحوافز الإنسانية إلى الجنس.
ويرى فرويد أن الإنسان في جوهره حيوان كغيره من الحيوانات، وأن الإنسان يولد جنسيًا خالصًا، وأن كل أعمال الطفل تعبير عن طاقة الجنس، وأن الطفل يعشق أمه بدافع الجنس، ثم يجد الأب حائلا بينهما، فيكبت هذا العشق، فتنشأ في نفسه "عقدة أوديب" والطفلة تعشق أباها بدافع ###33### جنسي، فتكبت هذا العشق، فتنشأ في نفسها "عقدة اليكترا".
وهكذا يدخل فرويد الإنسان حظيرة الحيوان، ويثبت أنه عبد لنزواته، وأن العقل الباطن هو المسيطر الفعال في توجيه الإنسان، وأن غرائزه وميوله الفطرية، هي الأساس لسلوكه في الحياة، وهي التي تحكمه، وتسيطر على نشاطه.
ومن نظرية فرويد ظهرت نظريات في الأدب والفن والأخلاق، وفي مقدمتها: السريالية ثم الوجودية.
ولكن هذه النظرية لم تكن مقبولة منذ اللحظة الأولى بين علماء النفس، وقد وجدت معارضة شديدة من حيث معارضتها للفطرة، ومن حيث تغليب عنصر الجنس ورد كل حوافز الإنسان إليه.
4- من حيث المصادر، فقد اعتمد فرويد على الأساطير القديمة، وعدها حقائق علمية، كذلك فقد اعتمد على حالات المرضى الفردية، واتخذ منها أسسًا عامة للأسوياء، وقد أشار العلماء إلى أن فرويد أقرب إلى المتنبئين منه إلى العلماء، وأنه مخترع للفرضيات أكثر منه مجربًا لها، وأنه يرمي بنظرياته وآرائه دون أن يقدم لها البرهان العلمي والسند الواقعي، وأنه يفترض، ثم يصدق ما يفترض ويبني عليه، ###34### وكأنه حقيقة علمية لا يأتيها الباطل، وأن ملاحظاته تتعلق بالمرضى على الأخص؛ ومن ثم يجب ألا تعمم الاستنتاجات النابعة منها بحيث تشمل الأشخاص العاديين، وبخاصة أولئك الذين وهبوا جهازًا عصبيًا قويًا وسيطرة على أنفسهم.(61/3)
كذلك أشار العلماء إلى أن نقطة الضعف الأساسية في فرويد كعالم، هي أنه اتخذ من دراسة نفسه وطفولته قاعدة للتعميم والوصول إلى قوانين عامة، وقد ترك فرويد من كتاباته عن نفسه وعن حياته ما يثبت أنه كان يتخذ من تحليل أحلامه وهواجسه ومشاكل صباه كيهودي في النمسا المتعصبة ضد اليهود قاعدة لكل تصميماته.
5- خالف فرويد في نظريته كلا من: ادلر ويونج وستيكل.
وقال يونج: إن آراء فرويد ذات جانب واحد، وإنها غير ناضجة كل النضوج، وإن مصدر سرور الطفل في الحصول على الغذاء يجب ألا يوصف بأنه جنسي أبدًا، وذلك على اعتبار من أن الدافع الجنسي، لم يتميز في نفسه بعيدًا عن الميل الابتدائي للحياة، وينكر يونج أن اللبيد جنسي بكليته وهو يعد اللبيد أنه إرادة الحياة.
ويقول يونج: إن الجنس ليس أساس الدوافع ###35### الإنسانية، وإنما هو دافع واحد من عدة دوافع.
وهو يخالف فرويد في صميم النظرية، ويرى أن الدافع الإنساني الأول هو الرغبة الملحة في التفوق، وأن الغريزة السائدة في الإنسان هي الرغبة في التفوق والسيادة، وليس الحب، ويقرر أن إرادة القوة، هي الإرادة الصادقة الأصيلة في نفس كل إنسان، ويرى ادلر أن النقص يكاد يكون هو السبب الأساسي للنبوغ.
وقد دعا ادلر إلى نبذ أهمية الغريزة الجنسية النبذ كله، وأرجع تكوين الشخصية ونشأة الأمراض العصبية إلى مجرد الرغبة في القوة وحاجة الإنسان إلى التعويض عن أي نقص في كيانه.
ويقول ادلر: إن الدافع الجنسي ليست له هذه الأهمية الشاملة التي ينسبها فرويد إليه، وأن حافز توكيد الذات (Self asnertive empulse) وليس الدافع الجنسي هو القوة السائدة الإيجابية في الحياة.
وقال ادلر: إن الطفل قبل الخامسة لا يعرف القيم والمعايير الخلقية، بل يكتسب أسلوب الحياة بالقدوة والمثال من البيئة التي يعيش فيها.(61/4)
ويقرر ادلر الاضطرابات التي تعتري حياة الأطفال ###36### النفسية ترجع إلى عدم شعورهم بالمحبة؛ وهو يذهب إلى أن قسوة المستبدين وكراهيتهم ترجع إلى ذلك العامل الذي يثبت في نفوسهم عند الطفولة، وأن الأبناء الذين يفقدون حب آبائهم، يصبحون مصدر مشكلات كثيرة، لأن الطفل الذي يلتمس الحب، فلا يجده، يركبه الحسد والغيرة، ويميل إلى سلوك يحاول به لفت الأنظار وإثبات سيطرته، وقد يدعى المرض أحيانًا التماسًا للعطف.
كذلك أثبت يونج ومكدوجل أن العقل الباطن ما هو إلا خرافة، وقد نوقش فرويد في مسألة العقل الباطن وعقدة أوديب، فأنكرهما أخيرًا.
6- ولقد توالت المعارضات لمفاهيم فرويد في النفس، ولكن نظرية فرويد شقت طريقها في عنف، وسيطرت على جميع ميادين الدراسات النفسية، وكانت من ورائها قوى تدفعها إلى الأمام.
وقد سجلت بروتوكولات صهيون إشارة إلى فرويد فقالت: "يجب أن نعمل لتنهار الأخلاق في كل مكان، فتسهل سيطرتنا؛ إن فرويد منا، وسيظل يعرض العلاقات الجنسية في ضوء الشمس، لكي تبقى في نظر الشباب شيء ###37### مقدس، ويصبح همه الأكبر هو إرواء غرائزه الجنسية، وعندئذ تنهار أخلاقه".
ومن هنا يرجح الكثيرون أن هدف فرويد كان داخلا ضمن المخطط الذي رسمته الصهيونية للسيطرة على العالم بعد تدمير أخلاق البشرية.
ولقد امتد أثر فرويد نتيجة لذلك حتى شمل الأدب والقصة والسينما والمسرح والإذاعة والتليفزيون، ووصل إلى بيوت الأزياء وأدوات الزينة. وفي أصول نظرية فرويد يبدو هو غير منطلق مع الفطرة، بل معارضًا لها، ذلك أنه يرى أن التسامي نوع من الشذوذ، وأن الأخلاق تتسم بالقسوة، وتعوق التطور، كل ذلك دون سند علمي، وأنه في أخطر من هذا كله يقف عند عرض المسائل، ثم يترك الشباب بدون توجيه رغبة في إثارة القلق والاضطراب.(61/5)
ويقرر الباحثون أن ليهودية فرويد دخلا كبيرًا في صياغة الكثير من نظرياته وفرضياته وتعليلاته، ذلك لأنه كان ينتمي إلى الحركة الصهيونية التي أقل ما ينسب إليها حب المال؛ والانغلاق، والتعصب؛ ومن هنا انبعثت فلسفته التي وصفت بأنها ميكانيكية جبرية؛ لأنها تنظر إلى الإنسان كأنه آلة عديمة الحرية، خاضعة كل الخضوع لقوى خفية لا يمكن التغلب ###38### عليها إلا بالحيلة، وهو بذلك قد فرض على علم النفس مبدأ الجبرية، وأنكر الإرادة الفردية القادرة على مقاومة الغرائز.
وقد وصف فرويد بأنه كان يمر بأزمات نفسيه، وهو يعالج مريضة أشبه بالهوس الجنسي – هي سيسلي المصابة بعقدة أوديب – وبينما فرويد يقوم بعلاج هذه الفتاة يتكشف له في نفسه أنه مصاب بعقدة أوديب، وأنه كان يتجه إلى أمه، ويغار من أبيه، وأنه اتهم أباه ظلمًا بجريمة أخلاقية رهيبة.
إن أسطورة أوديب الإغريقية التي تتحدث عن ابن ارتكب جريمتين، فقتل أباه، وارتكب خطيئة أخرى، ثم عافت نفسه بأن فقأ عينه، هذه الأسطورة جعلها فرويد حقيقة يؤمن بها، ويفسر بها سلوك الآخرين، وقد رسمت وقائع حياة فرويد صورة شخصية مضطربة مريضة جديرة بأن تبحث عن من يعالجها، لا أن تكون مصدرًا لرسم أسس لدراسة النفس البشرية.(61/6)
فقد كان فرويد مجموعة من العقد النفسية والعادات الغريبة، ولم يستطع أن يشفي عقله الباطن من هذه العقد النفسية إلى آخر حياته، كان ينسى الأسماء، ومنها اسم أحد معارفه الدكتور فرويد، وكان من يتبع أوراقه التي تدخل في ترجمة حياته فيحرقها، وكان يؤمن بأنه سيموت في نهاية الحرب ###39### العالمية الأولى، فمات في بداية الحرب العالمية الثانية، وكان يدخن عشرين سيجارًا في النهار ليهدئ من ثوراته العصبية، وكان فرويد عرضة للإغماء على أثر المفاجآت، وكانت مرارة الطبع خلة ملازمة له في علاقاته بغيره، وكانت لأحلامه وجوه خفية ترمز إلى دلائلها في سريرته الباطنة، وكانت له ضروب من القلق، تنم على باعث من بواعث الحيرة المكتومة وكان أطهر حالاته الخاصة أنه يحارب التشبث في العقائد الدينية والعادات الخلقية، ولكنه يتشبث بالتفسير الجنسي للعقائد والعادات تشبثًا يربو في إصراره وشدته على تعصب المتعصب اللدود لمذهبه ودينه.
ومن قوله ليونج: عدني أنك لن تتخلى يومًا عن الإيمان بالتفسيرات الجنسية، غير أن يونج لم يلبث أن تزحزح تفكيره شيئًا فشيئًا عن ذلك الإغراق في العصبية الجنسية التي تحيط بكل على، ويتغلغل وراء الأسرار في أعماق كل طوبة، وقد خالفه تلميذه الفرد ادلر كما خالفه يونج.
وكان في طفولته ينسى نفسه ليلا في فراشه، وكان يخشى من السفر بالقطار، ويحضر إلى المحطة قبل موعد قيامه بنحو ساعة، وكان دائم العزلة، لا يسمح لأحد أن يصاحبه طويلا.(61/7)
###40### 7- ولقد حاولت نظرية فرويد السيطرة على مناهج التعليم والتربية والدوائر العلمية، غير أنها في السنوات الأخيرة، انكشف عوارها، وبان فسادها حتى إن الأطباء النفسانيين الذين اجتمعوا لإحياء ذكرى فرويد في مدينة شيكاغو عام 1956، وعدتهم نحو أربعة آلاف، قد فوجئوا بحملة عنيفة على فرويد ومذهبه، يتولاها رجل مسؤول عن مركزه العلمي هو الدكتور برسيفال بيلي مدير معهد النفسيات بولاية ألنيواز. وخلاصة حملته: أن البقية الباقية من طب فرويد قليلة لا يؤبه بها، وأن آراءه لا تضيف شيئًا إلى القيم الإنسانية لأنه يرتد بالإنسان إلى أغوار الباطن، ويهمل جانبه المنطقي الشاعر، وأنه لم يكن يفهم المرأة. ولم يكن يتذوق الموسيقى، ولا يحس جلال العقيدة.
وهكذا يرى المراقبون أن العالم استطاع أن يضع فرويد على المشرحة قبل أقل من عشرين عامًا من وفاته، وأن الدكتور أرنست جونس هو تلميذه الوحيد من غير اليهود.
ومما أورده أرنست جونس في كتابه "حياة وأعمال فرويد" خطابه إلى صديق له يقول: لست في الحقيقة رجلا من رجال العلم، ولا من رجال الملاحظة ولا التجربة، لست مفكرًا، أنا لست إلا مغامرًا بطبيعة مزاجي وتكويني، ولديَّ ###41### كل ما عند المغامر من فضول ومثابرة وجسارة.
ويقول الباحث: إن نظرية فرويد عن العقل الإنساني لا تقوم على أكثر من افتراضات خيالية، انتزعت مادتها من الأساطير والتخمينات التي سبق رفضها في مجال الدراسات المتعلقة بتاريخ الإنسان، ونقول: والتي جاءت حقائق الأديان، وفي خاتمها الإسلام لتقضي عليها، وتكشف عن زيفها وعدم صلاحيتها لأن تكون قاعدة لأي مذهب علمي في فهم النفس الإنسانية.(61/8)
وقد كشفت الأبحاث التي نشرها الكتاب اليهود في السنوات الأخيرة عن علاقة جذرية وعميقة بين نظريات فرويد وبين نصوص التلمود، وقد ظلت هذه النظرية تخدع مئات العلماء ببريقها الزائف سنوات طويلة حتى أعلنت هذه الحقائق، ومن بين الذين كشفوا هذا السر الدكتور صبري جرجس في كتابه: "التراث اليهودي الصهيوني في علم النفس ونظرية فرويد" حيث أشار إلى التركيز الخطير الذي قامت به القوى المسيطرة على الإعلام والآداب والفنون والجامعات في الغرب على نظرية فرويد واحتضانها على هذا النحو المريب، بالرغم من أنها لم تكن صحيحة علميًا، بينما أخفتت أصوات النظريات الأخرى الأكثر قربًا من الحقائق العلمية، يقول ###42### الدكتور صبري جرجس: لفت انتباهي حقيقة كبرى، تلك العلاقة الوثيقة بين فرويد رجل العلم والتحليل النفسي والفكر العالمي من ناحية، وبين التراث اليهودي الصهيوني والصهيونية، والعمل السياسي الديني العنصري من ناحية أخرى، وكما تبدي لي ليست علاقة مصادفة، ولكنها علاقة أصل ومسار وهدف، وأشار إلى أن فرويد وأصحابه الذين حملوا لواء فكرته من بعده كانوا جميعًا من الصهيونية "ساخس، رايك، سالزمان، زيلبورج، شويزي، وتيلز، فرانكل، كاتز، فينكل" وأشار إلى عدة عبارات وردت في كتابات يهودية لفتت نظره إلى ما يراه الآن من علاقة بين الصهيونية وبين نظرية فرويد، وليس ذلك إلى ما أشار إليه باكان في بعض خفايا التراث اليهودي الصهيوني التي لها علاقة بالتحليل النفسي، بل إلى ما ذكرته صراحة الكتابة "ترود، وايز، مارين" عن: كيف تحتقر اليهودية العقل الغربي مزيفة في سبيل ذلك وقائع الماضي وأحداث الحاضر، آمنة بعد ذلك من الافتضاح، ومطمئنة آخر الأمر إلى التصديق.(61/9)