وهكذا تجدون اليماني يثني على العالم البغدادي، والمصري يثني على العالم المصري، والنيسابوري يثني على العالم الشامي، والكوفي يثني على البصري، والبصري يثني على الحجازي وعلى اليماني. الآن أصبح الهوى يتحكم والدعايات الملعونة من شيوعيين، وبعثيين، ومرتزقة، يرتزقون من الحروز والعزائم، نعم، كنا قبل خدمًا لهم فساءهم هذا، حتى نساؤنا كن يطلعن بالحطب إلى باب المركز في عهد أولئك الذين تعرفون، وذاك بالرشوة، وذاك بالدجل والشعوذة، فلما جاء الدعاة إلى الله يبينون الحق قامت قيامتهم، وصاروا تارةً يقولون: ذاك وهابيّ، وذاك عميل للسعودية، وذاك عميل، ربما قالوا لأمريكا، شنقوا السيد قطب -رحمه الله تعالى- وقالوا: إنه عميل لأمريكا !!
كان هناك شابّ يعلم الله بحاله، أستطيع أن أقسم لكم إنه كان لا يملك ألف ريال ذهب للدعوة إلى الله وسكن في ماوية(1) في هذا الزمن فوصل إليهم ودعاهم إلى الحق، فقامت قيامة بعض المتأكلة سواء أكانوا من مشايخ القبائل أم من غيرهم، قالوا: هذا شيوعي، وبقي ما شاء الله واتضح وعرف من هو عميل الشيوعية ومن هو الداعي إلى الله، وفى نهاية أمره قتله الشيوعيون لا جزاهم الله خيرًا.
أقصد إخواني في الله أنّهم يريدون أن يحرموكم الخير، ويريدون أن يجعلوا بينكم وبين علمائكم فاصلاً، أستطيع أن أقول: إن أعداء الإسلام يخافون من العلماء أعظم مما يخافون من طائراتنا ومن صواريخنا، لأن عندهم أكبر منها وأكثر، لكنهم يخافون من العلماء، وما أكثر ما يدخلون البلدة ويبدؤون بقتل العلماء، كما حصل هذا في جنوب اليمن قبل الوحدة.
__________
(1) ? ... قرية من قرى محافظة تعز.(1/112)
ونحن نقولها لكم، مشفقين عليكم ونحب لكم الخير، ونريد لكم العزة والكرامة ولوطنكم الأمن، وإلا فالحمد لله أرض الله واسعة، لا تظنوا أنني مستريح باليمن، أنا أؤلف الكتاب ثم بعد ذلك يعرض للضياع، يبقى ثلاث أو أربع سنوات ولم يطبع، وربما بعد الطبع يخرج بطبعة رديئة، وعند أن نزلت في مصر، والله لو أستطيع أن أؤلف فى اليوم كتابًا أو أحقق في اليوم كتابًا لنشر، فلا تظنوا أننا ههنا في وطننا وفي بلدنا مستريحون، نحن نعتبر أنفسنا غرباء، ولكننا نرى هذه الوجوه المباركة الكريمة، وإقبالها على الخير فهذا هو الذي يصبرنا بين أظهركم وإلا فأرض الله واسعة والله المستعان.
ماحال ابن لهيعة؟
عبدالله بن لهيعة، من أهل العلم من يرده، ومنهم من يقبله كـ(أحمد شاكر } ومنهم من يفصل يقول: إذا روى عنه العبادلة:
عبدالله بن يزيد المقرئ.
وعبدالله بن وهب.
عبدالله بن المبارك.
وأضاف بعضهم عبدالله بن مسلمة وليس بصحيح لأنه صغير، والصحيح أنه يضعف ابن لهيعة مطلقًا.
وقد رأيت بحثًا قيّمًا في كتاب "الأذان" لأخينا في الله أسامة القوصي، يقول فيه: الصحيح أن ابن لهيعة مضعف سواء روى عنه العبادلة أم غيرهم، وأنه إذا روى عنه العبادلة أحسن حالاً مما إذا روى عنه غير العبادلة، وإلا فالصحيح أنه مضعف، وأنصح بقراءة ما كتبه أخونا أسامة في كتاب "الأذان".
ويا سبحان الله كيف يتلقى الناس العبارات ولا يبحثون، أنا من فضل الله ما أعلم حديثًا واحدًا قد قبلته لابن لهيعة، ولو روى عنه العبادلة، أقصد من هذا أنني من أول الأمر والحمد لله لا أقبل حديثه. وهو يصلح في الشواهد والمتابعات والله المستعان.
الحديث الذي يأتي من طريقين بصحابي واحد أقوى؟ أم الحديث الذي يأتي من طريقين وصحابيين، مع ذكر اسم كل منهما؟
الذي يظهر، أن الذي يأتي عن صحابيين أقوى من الذي يأتي عن صحابي.
كيف تتعلم البحث(1/113)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى إنّما يتذكّر أولو الألباب(1)}.
وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما": عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)). ورويا في "صحيحيهما": عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتّى إذا لم يبق عالمًا اتّخذ النّاس رءوسًا جهّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا?)).
وفي حديث أنس المتفق عليه، وحديث أبي هريرة المتفق عليه أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر من أمارات الساعة: ((رفْع العلم، وظهور الجهل))، أو بهذا المعنى.
ونحن في هذا الزمن قد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ظهور الجهل وتفشّيه، حتى إنه أصبح كثير من المسلمين لا يميّز بين العالم والمنجّم، بل لا يميز بين المسلم والشيوعي، وكل هذا بسبب بعد المسلمين عن تعلّم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
إذا عرفت هذا، -ومعرفته بإذن الله تعالى نافعة للباحث- أعني أن الباحث إذا نظر إلى أحوال المسلمين وإلى حاجتهم، ونظر إلى تفشي الجهل، أنه يحتسب الأجر والثواب ويصبر، فإن طلب العلم يحتاج إلى صبر، ورضي الله عن عبدالله بن عمر إذ يقول: قل لطالب العلم يتخذ نعلين من حديد(2). وكذا يحيى بن أبي كثير -رحمه الله تعالى- يقول لولده عبدالله: لا يستطاع العلم براحة الجسم. ذكره الإمام مسلم في (كتاب الصلاة).
__________
(1) ? ... سورة الرعد، الآية:19.
(2) ? ... ثم ظهر لي أنه ضعيف.(1/114)
أما إذا لم يصحب الشخص الصبر والاحتساب فإنه يوشك أن يملّ، ويسأم، بل ربما إذا حصل على فائدة وأخرجها للمسلمين، ولم ير المسلمين يتقبلونها، ربما يحمله ذلك على أن يترك، كما حصل لغير واحد من المتقدمين، وربّ شخص يحرق كتابه، وآخر يدفن كتبه، إما لخلل في كتبه، وإما لعدم إقبال الناس عليها، كما قال بعضهم:
غزلت لهم غزلاً نسيجًا فلم أر لغزلي نسّاجًا فكسّرت مغزلي
فالشخص الذي لا يصبر ولا يحتسب ربما تأخذه السآمة، ويأخذه الفتور، سيما ونحن في مجتمع وعصر لا يشجع على العلم.
فربّ ولد محبّ للعلم يحول بينه وبين العلم والده الجاهل، وربّ شخص محبّ للعلم يحول بينه وبين العلم أهله الجاهلون، فمجتمعنا لا يشجّع على العلم، لكن ينبغي أن نصبر، وأن نحتسب، ولا نبالي، فرب العزة يقول في كتابه الكريم: {ياأيّها الّذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون(1)}.
ويقول سبحانه وتعالى: {وجعلنا منهم أئمّةً يهدون بأمرنا لمّا صبروا(2)}.
فطالب العلم لابد أن يصبر، حتى وإن تراكمت عليه الأمور والمشاكل، ووجد ضيقًا في صدره، وربما يكلّف نفسه من الحفظ ومن الاهتمام بطلب العلم، حتى يجد قسوةً في قلبه، فلا ينبغي أن يثنيه عن هذا، فالشيطان لا يريد لك الخير، يريد أن يصرفك عن طلب العلم لأن طلب العلم في هذا الزمن أعظم حصن بإذن الله تعالى، يقيك من الفتن، فهو يعتبر حصنًا حصينًا، كما أن الذكر يعتبر حصنًا حصينًا، فكذلك العلم في هذا الزمن.
والذي ننصح به طالب العلم والمحب لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يأخذ من اللغة العربية ما يستقيم به لسانه، وما يعرف به ارتباط المعاني، فإن القرآن الكريم كما وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: {قرءانًا عربيًّا غير ذي عوج(3)} وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عربية.
__________
(1) ? ... سورة آل عمران، الآية:200.
(2) ? ... سورة السجدة، الآية:24.
(3) ? ... سورةالزمر، الآية:28.(1/115)
كما ننصحه أن يتعلم الخط والإملاء، فإنه ينبغي أن يؤهل نفسه للتحقيق والتأليف، والرد على المنحرفين، سواء كان في صحافة، أو في إذاعة، أو كان في كتب عصرية. ينبغي أن تكون همته عاليةً كما قال الشاعر:
فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همّته في الثريا
ومن رزقه الله فهمًا وحفظًا، ثم قصّر في نفسه، وفي طلب العلم، فقد حرم خيرًا كثيرًا، كما ذكره الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى في كتابه "الفقية والمتفقه".
إذا أخذ من اللغة العربية ما يستقيم به لسانه، ويمكن أن يكتفي "بقطر الندى" وأخذ من الخط ما يفهم لأن الخط عبارة عن نقوش اصطلح عليها الناس للتفاهم، فإذا كان خطه يقرأ، وقد عرف الإملاء، ولو أن يفهم "المفرد العلم" من أجل أن يعرف أصحاب المطابع الخط، ويعرف الناس الآخرون إذا أراد أن يكتب. والمنحرفون يعيرون أصحاب المساجد، يقولون: لا يستطيع أحدهم أن يكتب اسمه، أو لا يستطيع أن يكتب إلى أبيه أو إلى قريبه, ينبغي أن نقطع ألسنتهم، والكتابة مما امتن الله سبحانه وتعالى بها، قال الله سبحانه وتعالى: {ن * والقلم وما يسطرون?(1)} وقال سبحانه وتعالى: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق * خلق الانسان من علق * اقرأ وربّك الأكرم * الّذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم?(2)}.
__________
(1) ? ... سورة القلم، الآية:1-2.
(2) ? ... سورة العلق، الآية:1-5.(1/116)
وينبغي أن يحرص كل الحرص على تكوين مكتبة، فإن وجد علماء يثق بهم من علماء السنة، فننصحه أن يجلس إليهم، فرب جلسة عند عالم، خير من قراءة شهر، ويحرص على مجالستهم، فإذا لم يكونوا في بلده ينبغي أن يرحل إليهم، والرحلة مشروعة، ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرغّب في الرحلة في طلب العلم، والصحابة رضوان الله عليهم كان أحدهم يرحل في المسألة الواحدة، فالإمام البخاري رحمه الله تعالى قال: باب الرحلة في العلم، في كتاب العلم من "صحيحه" ثم ذكر حديث الرجل الذي أتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن امرأة سوداء زعمت أنّها أرضعته وأرضعت امرأته.
وفي "الأدب المفرد" للبخاري: أن جابر بن عبدالله رحل من أجل حديث واحد إلى عبدالله بن أنيس إلى الشام، فلما حدثه به رجع.(1/117)
وقد ألف الخطيب -رحمه الله تعالى- كتابًا في الرحلة، فإن تيسر له أن يرحل إلى أهل العلم، ويجالس أهل العلم، فمجلس واحد ربما يكون خيرًا من قراءة شهر، ويا سبحان الله لا تزال عبارة علمائنا الذين سمعنا منهم واستفدنا منهم، في أذهاننا إلى الآن فجزاهم الله خيرًا، فلا أزال أذكر من شيخنا محمد بن عبدالله الصومالي -حفظه الله تعالى-: إذا رأيت شعبة عن عمرو فهو ابن مرة، وإذا رأيت سفيان عن عمرو فهو ابن دينار، وإذا رأيت عبدالله بن وهب عن عمرو فهو ابن الحارث، وهكذا إذا جاء سفيان في السند في "صحيح مسلم" في الثالث أي: بينه وبين مسلم اثنان، قال: في الغالب بأنه سفيان الثوري، وإذا جاء في "صحيح مسلم" بينه وبين مسلم واحد، قال: فالغالب أنه سفيان بن عيينة. لا أزال أذكر مثل هذه الفوائد التي استفدناها منه حفظه الله تعالى، تلقين الشيخ له أثر لا سيما الشيخ الذى يعمل لله ويعلّم لله، أما الشيخ المستأجر الذى يدرس بأجرة فالفائدة قليلة، فقد كنا في الجامعة الإسلامية، وبعض المشايخ يشرح الدرس حتى كأننا نشاهد الألفاظ بأعيننا، ونخرج بسبب عدم الثقة في الشيخ فلا نستفيد الفائدة التي ينبغي أن تستفاد.(1/118)
فإن لم يتيسر له الحضور عند المشايخ ومجالستهم، فننصحه بتكوين مكتبة، والحمد لله الوجادة من طرق التحمل التي أجازها علماؤنا المتقدمون على الصحيح، يكون مكتبة من كتب السنة، ومن كتب الرجال، ومن كتب العقيدة، ومن كتب الفقه، ومن كتب التفسير، ينبغي أن يحرص كل الحرص على أن لا يترك كتابًا من كتب المراجع الإسلامية إلا ويكون موجودًا في مكتبته بحسب القدرة والطاقة، والفائدة الواحدة من الكتاب تساوي الدنيا عند الذي يعرف قدر العلم، وعند من أصبح العلم أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين، كما قاله شعبة في حديث تعب في الرحلة من أجل أن يتحصل عليه، وانتهى به الأمر إلى أن الحديث من طريق شهر بن حوشب، فقال: أفسده عليّ شهر، ولو صح هذا لكان أحب إليّ من أهلي ومالي وولدي والناس أجمعين. أو بهذا المعنى. ذكر هذا الإمام الخطيب في كتابه "الرحلة" وكتابه "الكفاية" وذكر بعضه ابن أبي حاتم في مقدمة "الجرح والتعديل(1)" في ترجمة شعبة. فالفائدة الواحدة عند المحب للعلم والذي يعرف قدر العلم خير من الدنيا وما فيها، بل عبّر بعض أهل العلم بأن تحصيل الفوائد لا يعادلها شيء في نفسه فيقول شعرًا:
ڑٹ?0سهري لتنقيح العلوم ألذّ لي
وتمايلي طربًا لحلّ عويصة
وصرير أقلامي على أوراقها
وألذّ من نقر الفتاة لدفّها
أأبيت سهران الدّجا وتبيته ڑ
ڑ
من وصل غانية وطيب عناقي
أشهى وأحلى من مدامة ساقي
أحلى من الدوكاة والعشاق
نقري لألقي الرّمل عن أوراقي
نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي?ٹڑ
ثم بعد هذا جمْع ما تيسر من كتب اللغة، الكتب التى تشرح المفردات سواء كانت متعلقة بالحديث "كالنهاية" لابن الأثير و "الفائق" للزمخشري، أم كانت من قواميس اللغة "كالقاموس" و"تاج العروس" و"لسان العرب" وغير ذلك من الكتب التي لا بد أن يقتنيها فهو يحتاج إلى البحث فيها.
__________
(1) ? ... الصحيح منه ما ذكره ابن أبي حاتم في المقدمة.(1/119)
بقي كيف يستفيد من هذه الكتب؟ وهذا هو الذي يهمنا كيف يستفيد من هذه الكتب؟ يستفيد أحسن استفادة بالممارسة، وبالقراءة من كتب أصحاب التخاريج مثل "التلخيص الحبير" ومثل: "نصب الراية" ومثل "تفسير ابن كثير" يعتبر أيضًا من أعظم كتب التخاريج يبين طرق الحديث وإن كان تفسيرًا، وطالب العلم المحب للعلم والذي لديه غيرة يستطيع أن يكتب، ويستفيد من مكتبته الصغيرة فقد كنت في مكة، وكان عندي مكتبة في دولاب صغير من الخشب، والحمد لله كتبت "الطليعة في الرد على غلاة الشيعة" والله المستعان. فإن تيسر توفير الكتب فبها ونعمت، وإن لم يتيسر فينبغي أن تستفيد من مكتبتك الصغيرة، وأن تصبر، إلا أنه فرق بين توفر الكتب وبين عدم توفرها، فتوفر الكتب يوفر عليك وقتك فرب مسألة قد ألّف العلماء فيها المؤلفات من أمثال هذا: {بسم الله الرحمن الرحيم}أيجهر بها في الصلاة أم لا يجهر بها؟ الحافظ ابن عبدالبر له كتاب "الإنصاف في مسألة الخلاف" في هذا الموضوع، كذلك الدارقطني له كتاب في هذا الموضوع. يؤيد الجهر في {بسم الله الرحمن الرحيم}، والخطيب أيضًا له كتاب في هذا الموضوع بعض علمائنا المتقدمين مما لا أذكره، لأنه حصل صراع في هذه المسألة بين الشافعية وبين الحنابلة، الحنابلة يرون الإسرار، والشافعية يرون الجهر، فحصل صراع في هذه المسألة فكثرت التآليف فيها، والإسرار أصح لما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما": عن أنس -رضي الله عنه- قال: صلّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم فكانوا يستفتحون القراءة بـ{الحمد لله ربّ العالمين}. وفي رواية: في "صحيح مسلم": لا يجهرون بـ{بسم الله الرحمن الرحيم}.(1/120)
والجهر وارد لما رواه الحاكم في "مستدركه": عن أبي هريرة أنه صلى بأصحابه وقال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وليس كما يقول بعض الناس: إن نعيمًا المجمر تفرد به، بل تابعه عبدالرحمن بن يعقوب، وتابعه رجل آخر، فالحديث صحيح في الجهر، وحديث الإسرار أصح.
إنما أتينا بمثال من هذه المسائل ليعلم أن بعض المسائل قد ألّف علماؤنا فيها، وإذا كان قد ألف في المسألة وفّر عليك الوقت، وكذلك أيضًا الأحاديث الواردة في فضل رجب، ربما تتعب وأنت تتتبعها من الكتب، قد ألف الحافظ ابن حجر كتابًا -رحمه الله تعالى- في هذا وسماه "تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب" وهكذا أيضًا القراءة خلف الإمام، ألف الإمام البخاري جزءًا، وألف الإمام البيهقي جزءًا.
والمسائل التى خصّت بالتأليف كثيرة، فهذا يوفر عليك وقتك. إذا علمت هذا فكيفية الاستفادة من الكتب، ذكرنا لك فائدة وهي أن ترجع إلى التخاريج، وتنظر كيف يستفيدون.
شيء آخر، ترجع إلى معاني الحديث، فإن كان الحديث يتعلق بالطلاق رجعت إلى كتب الطلاق من "صحيح البخاري" ومن "صحيح مسلم" ومن "سنن أبي داود"، ومن "جامع الترمذي"، ومن "سنن النسائي"، ومن "سنن ابن ماجه"، إلى غير ذلك، وهكذا "سنن البيهقي" وإن كنت تعرف صحابيه يمكن أن ترجع إلى "تحفة الأشراف" لتعرف من أخرجه، أو ترجع إذا لم تجده في "تحفة الأشراف" إلى المسانيد كـ"مسند الإمام أحمد" و"مسند البزار" و"مسند الحميدي" إلى غير ذلك من كتب المسانيد.(1/121)
وبقي شيء، ما إذا كان الحديث مشهورًا فعلماؤنا أيضًا ألفوا في هذا، فهناك كتاب "المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة" للإمام السخاوي وهناك "كشف الخفا ومزيل الإلباس عما أشتهر على ألسنة الناس" للعجلوني، والعجلوني ربما يذكر الحديث ولا يذكر الحكم، وربما يكون حديثًا مخلاًّ بالعقيدة مثل حديث: ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)) ذكره وسكت عليه، وهو دعوة إلى التمسح بأتربة الموتى، وإلى العقيدة الشركية، وإن كان يمكن أن يحمل الحديث أي: أنكم تزورون القبور، فإنّها تزهد في الدنيا، وتذكر في الآخرة، كما في حديث بريدة مرفوعاً ((إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكّركم الآخرة)). رواه مسلم.
إن العجلوني ربما يذكر بعض الأحاديث فلا يتكلم عليها، بل هو نفسه مخرّف، فقد ذكر في مقدمة كتابه: "كشف الخفا ومزيل الإلباس" أنه يمكن أن يعرف الحديث أنه صحيح ويكون عند المحدثين ليس بصحيح، كيف يعرفه؟ بواسطة الكشف بأنه يكشف للولي إذا نزل جبريل بالحديث إلى النبي ?صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكشف له، ويكشف له بأنه ليس بصحيح ويكون عند المحدثين صحيحًا، ما هذا؟ إذًا فما فائدة كتابك "كشف الخفا" لم لا تعتمد على الكشف الذي هو أوهام وخرافات وخزعبلات، فرحم الله علماءنا المحدثين.
ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا?(1)} وأوهام الصوفية وخرافاتهم وخزعبلاتهم تهدم علم الحديث.
وإن كنت مبتدئًا وكانت هذه الطريقة أو الطرق التى ذكرناها بعيدةً عليك، فننصحك بأن تأخذ سندًا من "سنن أبي داود" ثم تتبع رجاله رجلاً رجلاً، وينبغي أن تتحرى في ابتداء أمرك حتى لا يلتبس عليك الأمر، فربما تجد وأنت تبحث عن محمد بن علي فتجد في "التقريب" جماعةً ممن يسمون محمد بن علي، فلا تدري من هو الذي في السند فكيف تستطيع التمييز؟.
__________
(1) ? ... سورة الحجرات، الآية:6.(1/122)
بأمور منها: الطبقات، ومنها: الرموز، فأنت تبحث في "سنن أبي داود"، فإذا رأيت محمد بن علي لم يكن من رجال الجماعة، ولا من رجال أصحاب "السنن" ولا من رجال أبي داود عرفت أن هذا الرجل ليس هو الذي تبحث عنه. بعد هذا بالطبقة، ثم ترجع أيضًا إلى المشايخ تنظر إلى مشايخه ثم إلى الرواة من هو، وهم يميزون لك من هو، فإذا لم يتيسر لك هذا، فاجمع طرق الحديث فرب طريق يكون قد نسب فيها المحدث ويقولون مثلاً: محمد بن علي النيسابوري، أو مثلاً محمد بن علي يذكرون لقبه أو يذكرون كنيته. جمع الطرق أيضًا ربما تستطيع أن تميز بها.
فإذا لم تستطع أن تميز، وقد سلكت هذه المسالك فإن كانا ثقتين فلا يضر. من الأمثلة على هذا: علي بن محمد، شيخان لابن ماجة أكثر ابن ماجة عن علي بن محمد الطنافسي، وهناك علي بن محمد آخر أحدهما ثقة، والآخر صدوق، فلا يضر.
وإن اشتبه عليك ضعيف بثقة. ومن الأمثلة على هذا: إسماعيل ابن أبان المقرئ من مشايخ البخاري في طبقته إسماعيل بن أبان الغنوي متروك، والمقرئ من مشايخ البخاري. مثال آخر: الليثان: ليث بن سعد، وليث بن أبي سليم، ليث بن أبي سليم مختلط، وليث ابن سعد إمام.
مثال ثالث: عبدالكريم بن مالك الجزري، وعبدالكريم بن أبي المخارق اشتركا في كثير من المشايخ، واشترك كثير من الطلبة في الأخذ عنهما. الجزري من رجال البخاري، وابن أبي المخارق ضعيف.
مثال آخر أيضًا: أسامة بن زيد الليثي، وأسامة بن زيد بن أسلم، أسامة بن زيد الليثي يحسن حديثه عند بعضهم، وأسامة بن زيد بن أسلم ضعيف، فإذا كان أحدهما ضعيفًا والآخر ثقة توقفت.(1/123)
فإذا انتهيت من رجال السند وعرفتهم، ووجدتهم ثقات ينبغي أن تجمع طرق الحديث، فرب حديث يكون سنده كالشمس، ثم بعد ذلك تظهر به علة أو يكون شاذًّا، ومع جمعك للطرق فإنك تعرف الشذوذ، وتعرف العلة، ورحم الله علي بن المديني، إذ يقول: (الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه)، ورب حديث كما تقدم يكون سنده كالشمس، وهو شاذّ، أو معل، فجمع الطرق أمر مهم.
كيف تستطيع أن تجمع الطرق؟ تقدم شيء من هذا، إن كان الحديث يتعلق مثلاً بفضيلة الوضوء، ترجع إلى أبواب الوضوء وأبواب الطهارة في الكتب على الأبواب.
فإن كنت تعرف صحابيّه رجعت أيضًا إلى "تحفة الأشراف" وإلى المسانيد.
ما عرفت لا ذا، ولا ذاك، لكنك الآن قد خرجت إلى طريق أخرى، لكن لو ذكرت حديثًا ولم تعرف صحابيه ولم تعرف إلا معناه، فينبغي أن ترجع إلى "المعجم المفهرس" فهو يتكلم عن المعاني، ويرشد، ولكن لا ينبغي أن تقتصر على "المعجم المفهرس"، بل هناك كتب لم تذكر في "المعجم المفهرس" من الأمثلة على هذا "مسند الحميدي" ومعاجم الطبراني الثلاثة "المعجم الكبير والمعجم الأوسط والمعجم الصغير" وكيفية الاستفادة من هذه الثلاثة المعاجم.
الاستفادة منها: أما "المعجم الصغير" فإنه على ترتيب شيوخه، وقد فهرس والحمد لله ونشرت فهرسته، فأما "المعجم الكبير" فإنه كالمسانيد على الصحابة، وإن كان يذكر فوائد ليست من الأحاديث و"المعجم الكبير" يخالف المسانيد، هو مثل المسانيد، بأنه على ترتيب الصحابة، يخالفهم ربما يذكر فوائد وآثار عن الصحابة، ويذكر تفسيرًا له إن كان من أئمة التفسير.(1/124)
ومعرفة كيفية الاستفادة من الكتب أمر مهم، أذكر أننا في ذات مرة سألت بعض أهل العلم كيف أستطيع أن أستفيد من "التمهيد" لابن عبدالبر فجزاه الله خيرًا، كان لا يعرف مثلي كيف يستفاد لكن أعطاه الله بصيرة، قال: ائتنا بكتابه فأتينا بالكتاب، فإذا هو على ترتيب مشايخ الإمام مالك، فشيخ الإمام مالك في الحديث اسمه إبراهيم فارجع إلى "التمهيد" تجد خيرًا كثيرًا لأن التمهيد يعتبر من أحسن الكتب في جمع الطرق والكلام على المعاني والجمع بين الأدلة.
ونسيت شيئًا مهمًا مما يستفاد من "التمهيد" وهو ذكر الاختلاف في وصل الحديث وإرساله، أو وصل الحديث وانقطاعه، أو رفْع الحديث ووقفه، وطريقة الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قريبة أو أنه استفاد الحافظ ابن حجر من "التمهيد" ومن طريقة "التمهيد" وفي طريقة إخراج الحديث، ثم الجمع بين الأدلة، ثم استنباط الأحكام، فجزاه الله خيرًا.
معرفة الاستفادة من الكتب من الأمور المهمة، فرب شخص يستطيع أن يستخرج الحديث في قدر نصف ساعة، ويخرج الحديث والحمد لله، لكن شخص آخر ممكن أن يبقى فيه سبعة أيام، وممكن أن يبقى فيه شهرًا.(1/125)
وعند أن كنت مبتدئا مرّ بي حديث: ((يا عليّ لولا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النّصارى في عيسى لقلت فيك مقالاً لا تمرّ بأحد إلا أخذوا التّراب من أثرك لطلب البركة)) وأنا كنت أكتب في "الطليعة في الرد على غلاة الشيعة" فوجدت في السند يحيى ابن يعلى، ووجدت جماعةً في "تهذيب التهذيب" ممن يسمون يحيى بن يعلى فما استطعت التمييز وصرت أسأل العلماء في الحرم، وغالبهم لا يهتم بالحديث فلم أجد منهم إجابة، حتى سألت بعض الباحثين فقال: هو يحيى بن يعلى الأسلمي القطواني قال: استفدت من "تهذيب الكمال" قلت: أين هو "تهذيب الكمال"؟ قال: في مكتبة الحرم المكي، ثم بعد ذلك ذهبت أهرول إلى مكتبة الحرم المكي حتى أنقله بعلوّ وأراجع ترجمة يحيى بن يعلى الأسلمي القطواني في "ميزان الاعتدال" إلى غير ذلك، فمعرفة الكتب ومعرفة الاستفادة من الكتب مهم.
وذات مرة كنت أبحث، فمرت بي كلمة لغوية، وكان عندي أخ في الله متخرّج من الجامعة الإسلامية كلية الشريعة، فأعطيته "القاموس المحيط" ليخرجها، فأخذ الكتاب ووضعه على فخذه، وأنا كما يقولون: واحرّ قلباه ممن قلبه شبم، فأنا استحييت أن أقول له: أعطني الكتاب من أجل أن أخرج الكلمة، وهو أيضًا استحيى أن يردّ لي الكتاب، ويقول لا أستطيع استخراجها فقلت له: مالك يا أخي ما تخرج الكلمة؟ قال: أنا لا أعرف كيف أستخرجها، وصار يضحك جزاه الله خيرًا.(1/126)
فمعرفة الاستفادة من الكتب توفر عليك وقتك. بقي المواضيع، فرب حديث يتعلق بالعقيدة وأنت تريد أن تخرجه وما وجدته في "السنن" ولا في "صحيح البخاري" أنصحك أن ترجع إلى كتب العقيدة مثل "الأسماء والصفات" للبيهقي وكتاب "التوحيد" لابن خزيمة و"الرد على الجهمية" لعثمان الدارمي و"الرد على الجهمية" لابن منده، وإذا كان الحديث يتعلق بالترغيب والترهيب ترجع إلى "الترغيب والترهيب" للمنذري ليدلك على مخرجه، لأن "الترغيب والترهيب" ليس كافيًا. إذا كان الحديث يتعلق بالطب ترجع إلى كتب الطب التي ألفت في هذا ككتاب "الطب" للحافظ ابن القيم وكتاب "الطب" للحافظ الذهبي، وكتاب "الطب" لأبي نعيم إلى غير ذلك من الكتب التي ألفت.
فينبغي أن تنظر وتفكر في الموضوع الذى تريد أن تخرجه.(1/127)
فإذا لم تر الحديث فلا توقف بحثك من أجل أنك ما رأيت الحديث، أو من أجل أنك ما رأيت ترجمة الراوي، فكيف تعمل؟ تترك بياضًا كما كان علماؤنا الأولون، يتركون بياضًا فابن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل" ربما يترك بياضًا. حتى تنتهي من البحث وتراجع، فإن وجدته وإلا قلت: لم أجده، كما يقول الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" وكما يقول الحافظ الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" يقول: في سنده فلان ابن فلان ولم أجده أو لم أجد له ترجمة، والحافظ أيضًا في "تخريج الكشاف" ربما يقول: الحديث لم أجده، لأن الزمخشري يعتبر حاطب ليل، وكذا الغزالي يعتبر حاطب ليل، وربما يأتيك شخص بكلام يظنه حديثًا، كما كنا نسمع ونحن في مكة عند أن أخبر الناس بأن اثنين صعدا إلى القمر، فإذا قائل يقول: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يصعد اثنان إلى ظهر القمر". أو بهذا المعنى. والحديث من موضوعات العصريين، فلا تتعب نفسك في البحث عنه، ومن الأمثلة على هذا أيضًا قول بعض الأئمة "استووا فإن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج" وهكذا أيضًا "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم" حديث ليس له أصل، ثم يطالبونك أن تخرجه من كتب السنة. ثم هب أنه في كتب السنة التي لم تطلع عليها، وهنا أمر أريد أن أنبّه عليه، فربما يقع فيه كثير من الناس ونحن من أولئك، ربما يستدل المستدل بجملة من الحديث وأنت تريد أن تستخرج هذا الحديث فتذهب وتبحث في كتب الفهارس في كتب الحديث وتتعب نفسك فلا تجد الحديث.
فإذا ذهبت تبحث في أوائل الحديث في كتاب مثل: "معجم الطبراني" فأحاديثه ليست موجودة في "المعجم المفهرس" وليست موجودة في "تحفة الأشراف" فكيف تعمل؟ ترجع إلى كتب الفقه إن كان يتعلق بالفقه، وهكذا سائر الفنون في الحديث.(1/128)
بقى شيء في طريقة البحث، فإذا كنت تريد أن تكتب موضوعًا باستيعاب، والموضوع يستحق هذا فكيف تعمل؟ الذي أنصحك به أن تطالع كتب السنة كلها، وكلما وجدت حديثًا يتعلق بموضوعك كتبته، فإن كنت لا تريد الاستيعاب وتريد أن تكتب جملةً من الأدلة نظرت إلى الكتب التى ألّفت في هذا الموضوع.
وسآتي بمثال: فإذا كنت تريد أن تكتب في القدر، ومن جملة أبواب القدر المشيئة، فعليك أن ترجع إلى الكتب التى كتبت في القدر تجد أحاديث يسيرة في المشيئة، لكن لو ألّف أحد كتابًا في المشيئة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لخرج الكتاب مجلدًا. وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه، والحمد الله رب العالمين.
علم الحديث
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن علم الحديث لا يستطيع المتكلم أن يفي بمهماته ومقاصده، لا بكلمة، أو كلمتين، أو ثلاث، ولا شريط، ولا شريطين، ولا ثلاثة، لكن الذي يشتغل في علم الحديث تبدو له أشياء وأشياء. من تلكم مسألة ما إذا اختلف العلماء في راو في توثيقه وتجريحه، وهذه المسألة يدندن بها المقلّدة ودعاة التقليد، فيقولون: المحدثون ما تركوا أحدًا إلا وطعنوا فيه، وليس الأمر كذلك، فإن كثيرًا من أئمة الحديث لم يتكلم فيهم، ثم ليس كل كلام يكون معتبرًا.
أي إذا اختلفوا في الراوي ومنهم من يجرّحه، فإن كان الجرح مفسّرًا أخذ بالجرح المفسر، لأن الجارح اطّلع على ما لم يطلع عليه المعدّل، فمثلاً رجل يقول: فلان محدّث. وهو سنيّ من أهل السنة ويفهم، فجاء آخر ممن يعتمد قوله وقال: هو كذّاب. فالذي حكم عليه أنه كذاب اطلع على ما لم يطلع عليه المعدل، فعنده زيادة يجب الأخذ بها، ثم بعد ذلك ينظر.(1/129)
إذا لم يكن الجرح مفسرًا ينظر في الموثق، والمجرح، فيخشى أن يكون جرحه بما لم يكن جارحًا، وأئمة الجرح والتعديل منهم المتشدد ومنهم المتوسط، فقد ذكر العلماء من المتشدّدين شعبة، ويقابله: سفيان الثوري وهو من المتوسطين، ومنهم أي: المتشددين يحيى بن سعيد القطان، يقابله عبدالرحمن بن مهدي من المتوسطين، ومن المتشددين أيضًا يحيى بن معين، ويقابله أيضًا أحمد بن حنبل من المتوسطين، ومن المتشددين أبوحاتم، ويقابله البخاري من المتوسطين. فإذا عدل المتشدد في الجرح عضضت عليه بالنواجذ، فهو لا يعدّل إلا عن تثبّت، كذا من الموثقين من هو متساهل كابن حبان، وشيخه ابن خزيمة في توثيق المجاهيل، والعجلي كذلك في توثيق المجاهيل، فمنهم من هو متساهل في التوثيق.
ودراسة أحوال المحدثين من الأمور المهمة، حتى تعلم من المتشدد منهم ومن المتساهل. بل دراسة حال المؤلف الذي تقرأ في كتابه من الأمور المهمة ماذا عن عقيدته؟ وماذا عن تساهله في الجرح والتعديل؟ وهكذا أيضًا اختلاف الأحاديث والمترجمين. هذا وقد ذكر الحافظ الحازمي -رحمه الله تعالى- في كتابه "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" جملةً من المرجّحات، وشروح الحديث التي تعين على المرجحات مثل "فتح الباري" وغيره من الكتب التي اهتمت بهذا، ومثل كتب العلل تعين على المرجحات.(1/130)
ومما ينبغي أن يعلم أن من الكتب التي يستفاد منها في علم الحديث كتب الشيخ ناصر الدين الألباني، لا ينبغي لطالب علم أن تخلو مكتبته من كتب الشيخ ناصر الدين الألباني غير مقلّد له في المسائل التي يستنبطها. أما إذا قبلت قوله في التصحيح والتضعيف فهو ثقة، لك أن تقبل قوله، وإذا احتطت لنفسك وبحثت عن الحديث وعن صحته وعن ضعفه فهو أفضل، وإن قبلت حكمه على الأحاديث فذاك، أما استنباطه وفهمه من كتب الحديث كغيره من العلماء، فإننا نستعين بالله سبحانه وتعالى، ثم بفهم الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين وأئمة المذاهب وغيرهم من المؤلفين.
فمثلاً كتاب "المجموع" للنووي وكتاب "المغني" لابن قدامة وغيرهما من كتب الفقه لا ينبغي أن تخلو مكتبة طالب علم منهما، لكن الاعتماد على ما في كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهكذا "المحلى" لأبي محمد بن حزم يعتبر كتاب فقه، وكتاب جرح وتعديل، وكتاب تصحيح وتضعيف، وكتاب ردود على أباطيل، فأنصح كل طالب علم أن يقتنيه، ويحذر من بعض تصحيحاته أو بعض تضعيفاته لبعض الأحاديث. ثم أيضًا يحذر من تهجّمه على العلماء، التهجّم الذي فيه مجازفة غير مقبول من أبي محمد بن حزم -رحمه الله تعالى- فربما تحامل على الإمام مالك، أو على أبي حنيفة، أو على غيره من الأئمة. نستفيد من كتابه، أما تحامله فلا. وكذلك لا يعتمد عليه في الأسماء والصفات فإنه أوّل كثيرًا منها.(1/131)
ومسألة التقليد إذا كنا نقول: الأئمة -رضوان الله عليهم- كمالك والشافعي وأحمد لا يجوز أن يقلدوا, فكذلك لا يقلّد الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى- وكتابه "الإحكام في أصول الأحكام" يعتبر من أحسن كتب أصول الفقه، وكتب أصول الفقه تقول: هذا جائز، وافعل ولا تفعل، وهذا يقتضي الوجوب، وهذا يقتضي الإباحة إلى غير ذلك، وقليل ما يأتون بالأدلة بخلاف أبي محمد بن حزم -رحمه الله تعالى- فإنه يذكر الأدلة من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع التصحيح للتي هي صحيحة، والتضعيف للأحاديث التي لا يراها صحيحة، وهو في مسألة التصحيح والتضعيف كغيره من العلماء، ونقله حجة. أما في فهمه فكغيره من سائر العلماء الذين نستفيد من أفهامهم، ولا نقلدهم، لأن التقليد حرام.
ولا يجوز لمسلم أن يقلد في دين الله، حتى ولا العامي يسأل عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والعامي ممن يشمله قول الله تعالى: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون(1)} ومما يشمله قوله تعالى: {وما ءاتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(2)} وممن يشمله قوله تعالى: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(3)} فهل العامي ممن تشمله هذه الأدلة أو ممن لا تشمله؟ فلماذا يقولون العامي يقلد؟ العامي ممن يشمله قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينًا(4)}.
__________
(1) ? ... سورة الأعراف، الآية:3.
(2) ? ... سورة الحشر، الآية:7.
(3) ? ... سورة النور، الآية:63.
(4) ? ... سورة الأحزاب، الآية:36.(1/132)
العامي ينبغي أن يعلّم، وأن يذهب إلى العالم يستفتيه: ما حكم الله في هذه المسألة؟ ثم يذكر له الدليل، فإن فهم العامي فذاك، وإن لم يفهم ذكرت له حكم الله في هذه المسألة، وبحمد الله أننا نجد كثيرًا من العامة الذين بعضهم يشتغل في صناعة البلوك والآجر ويشتغل حمالاً، ويشتغل مزارعًا، أنواع من أنواع المهن التي يزاولها كثير من العامة ثم هم يسألون عن الدليل، وهم الذين يعجزون المخرّفين، رب زارعي حرث وهو يقف أمام المبتدع: ما دليلك على هذه المسألة؟ ماذا يقول المبتدع؟ يقول: ما أتعبنا إلا الدليل، وما أعجزنا إلا الدليل. فأنا أنصح كل مسلم بمطالبة الدليل.
أنأ أسالكم -إخواني في الله- العامة أكثر أم أهل العلم؟ العامة، فلماذا نفرط في الكثرة الكاثرة ونتركهم فريسةً للشيوعية، وللبعثية، والناصرية، ولأعداء الإسلام؟ لماذا لا نربطهم بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ ونعلّمهم أن الله افترض عليهم طلب العلم، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((طلب العلم فريضة على كلّ مسلم)) هل قال إلا العامة؟ فلم يقل: طلب العلم فريضة على كل مسلم إلا العامة، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين))، هل قال إلا العامة؟
نترك الكثير من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشباه الأنعام أتباع كل ناعق، بل نصرخ بين ظهرانيهم أنّهم متعبّدون بكتاب الله، ومتعبدون بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى يشعروا بأنّهم مسؤولون عن هذا، ويطالبون من يحتفل بالموالد، ومن يدعو غير الله، ومن يتمسح بأتربة الموتى، ويطالبون أصحاب الحروز والعزائم، بالأدلة.
وماذا تكون أيها الداعي إلى الله في المجتمع؟ والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يحضر خطبه العامي والعالم والجاهل، وكان يقول في كثير من المجالس: ((رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثمّ أدّاها كما سمعها)).(1/133)
ويقول أيضًا في كثير من المجالس: ((ليبلّغ الشّاهد الغائب، فربّ حامل فقه ليس بفقيه)) يحث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على التبليغ.
هذا شأن المسلم، وشأن الداعي إلى الله، ألا يخص بدعوته طبقة من الطبقات، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول الله له: {قل ياأيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعًا(1)} فهو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المكلفين جميعًا، وليس مقصورًا على فلان وفلان، كما هو شأن بعض الدعوات، وكما هو شأن دعاة التقليد، ودعاة الضلال, فإن كثيرًا من دعاة الضلال يهمهم جدًا أن تبقى الشعوب عمياء، من أجل ما إذا دعوا إلى الشيوعية باسم ماذا؟ باسم العدالة، وإلى اشتراكية باسم العدالة، استجابوا، وإن دعوا إلى تبرج وسفور باسم الحرية، وإلى بنوك ربوية من أجل الاقتصاد استجابوا، وإن دعوا إلى أي شيء باسم الفساد استجابوا.
يجب أن نتقي الله في العامة وأن نشعرهم بأنّهم مسؤولون عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومما ينبغي للباحث أن يستفيد منه، كتب الفهارس، لكن كتب الفهارس أخي في الله متى ترجع إليها؟ إذا كنت مستعجلاً أو ليست لك بصيرة في البحث، أما إذا كنت تريد أن تبحث، فأنا أنصح كل أخ بالبحث، قبل أن يرجع إلى كتب الفهارس فرب مسألة تبحث عنها، أو رب مسألة تعثر عليها، أحسن من المسألة التى تبحث عنها، وربما تبحث عن حديث ضعيف، فتجد في المسألة آيةً قرآنيةً قد استدل بها العلماء على ذلك الحكم، أو تجد حديثًا صحيحًا في "صحيح البخاري"، أو تجد شاهدًا لذلك الحديث الذي تبحث عنه إلى غير ذلك. فمن استطاع أن يبحث في كتب علمائنا المتقدمين فليفعل، ومن لا، فلا بأس أن يرجع إلى كتب الفهارس، وقد اهتم بها في هذا العصر، والحمد لله.
__________
(1) ? ... سورة الأعراف، الآية:158.(1/134)
بقي أمر نبهنا عليه، وهو مسألة المصطلح للباحث، ولمن يريد أن يستفيد من كتب السنة، لأنه يمرّ بك في بعض الأحاديث حديث منكر، وفي بعض الرواة منكر الحديث، ويمر بك في بعض الأحاديث: معضل، أو حديث منقطع، أو حديث مرسل، أو حديث شاذّ إلى غير ذلك من الألقاب التي تمر بك، وأحسن كتاب هو "مختصر مقدمة ابن الصلاح" للحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- ممكن أن تكتفي به، وإن كنت تريد التزود رجعت إلى أصله، وهو كتاب "المقدمة" لابن الصلاح، وإن كنت تريد أن تتزود فارجع إلى أصولها وهو "الكفاية" وكتاب الرامهرمزي "المحدث الفاصل" إلى غير ذلك من الكتب التي سيشير إليها أو يعزو إليها ابن الصلاح.(1/135)
أما ألفاظ الجرح والتعديل فـ"الرفع والتكميل" للكنوي(1) مع الحذر من تعصّبه، وهو حنفيّ جامد يتعصب لأبي حنيفة، ويحمل على شيخ الإسلام ابن تيمية، وعلى الشوكاني، وغيرهما من أئمة أهل السنة. ماذا تستفيد من كتابه؟ تستفيد ألفاظ الجرح والتعديل، وماذا يعني بها العلماء؟ وتستفيد بيان مقاصدهم، أما حملاته على أئمة الهدى فلا تقبلها، وهكذا ترويجه وتزيينه للمذهب الحنفي، فإن المذهب الحنفي يعتبر أبعد المذاهب الثلاثة عن كتاب الله، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لست أقصد أنه ليس له صلة بالكتاب والسنة، أقصد أنه أبعد المذاهب الثلاثة عن الكتاب والسنة، حتى قال بعض العلماء: إذا أردت أن تصيب الحقّ فخالف أبا حنيفة، والحافظ الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله تعالى- ذكر جزءًا كبيرًا من المجلد الرابع من كتاب "المصنف" فيما خالف فيه أبوحنيفة الحديث، وأبوحنيفة عالم من علماء المسلمين، ولكنه التقليد فكن على حذر من تقليده، ومن تقليد غيره، فقد أدى التعصب ببعضهم إلى أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أجل التعصب لأبي حنيفة فقد قيل لبعضهم: ألا ترى مذهب محمد بن إدريس كيف قد انتشر في البلاد، قال: لأخزينّه، حدثني فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((ليأتينّ رجل من أمّتي وهو أضرّ عليهم من إبليس، اسمه محمّد بن إدريس، وأبوحنيفة سراج أمّتي وأبوحنيفة سراج أمّتي وأبوحنيفة سراج أمّتي?)) فتعصب شديد عند الأتباع، وننصح كل أخ أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه. وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أبوعبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي
__________
(1) ? ... ولأخينا أبي الحسن كتاب قيم في هذا "شفاء العليل".(1/136)