المقترح في علم المصطلح
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. أما بعد:
فإني أحمد الله الذي وفقني لإخراج كتاب "المقترح" فقد نفع الله به، وتنافس أهل المكاتب في طبعه فطبع مرات بدون إذن منا، ولما نفدت طبعاته الأول طلب مني الأخ الفاضل/ سعيد بن عمر حبيشان أن يعيد طبعه، فأعدت النظر فيه، وأضفت بعض أسئلة إخواننا أهل لودر لأنّها مماثلة لموضوع الكتاب.
وإنني أحمد الله الذي وفقني للسهولة والتيسير، والمصطلح يحتاج إليه كل طالب علم لكن ينبغي أن يكون وسيلةً من الوسائل، أما الأصل فهو الكتاب والسنة لذا تركت الإجابة عن بعض الأسئلة، فإني أنصح كل طالب أن يهتم بعلم الكتاب والسنة ويأخذ من الوسائل ما يحتاج إليه فلا يشغل بالوسيلة عن حفظ القرآن وعن معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومعرفة صحيحها من سقيمها ومعلولها من سليمها، وبسبب هذا -من فضل الله- استفاد طلبة العلم بدار الحديث بدماج، والفضل في هذا لله، فهو الذي وفّقنا وله الحمد والمنة، ونسأل الله أن يتممها بخير وأن يعيذنا من شر أنفسنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أبوعبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي
المقدمة
الحمد لله وحده، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإنّ كثيرًا ما يسأل إخواننا الراغبون في علم السنة كيف الطريق إلى الإستفادة من كتب السنة؟ ترد إلينا هذه الأسئلة من اليمن، ومن أكثر البلاد الإسلامية. وكنت أجيب على هذا في أشرطة، فلما رأيت الأسئلة تتكرر؛ رأيت أن ينشر هذا، فإن الكتاب يبقى.
وأضفت إلى هذا أسئلة أخينا في الله أبي الحسن المصري لنفاستها وفائدتها، وما اشتملت عليه الأسئلة من الفوائد.(1/1)
الجمع بين الصلاتين في السفر
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن شيخنا محمد الأمين المصرى رحمه الله قد طلب منا ونحن في الدراسات العليا في الجامعة الإسلامية أن نكتب في حديث قتيبة بن سعيد الآتي إن شاء الله، ذلك لأنه اختلف أهل العلم رحمهم الله في صحته وضعفه، بل حكم عليه الحاكم رحمه الله بالوضع. فرأيت أن أضمّ إلى المسألة الحديثية مسائل فقهيةً، فقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)).
والفقه فى الدين هو فهم الكتاب والسنة على ما أراده الله بحسب الطاقة البشرية.
فجمعت ما تيسر لي في هذا الموضوع. وبما أن حكم بعض المسائل الفقهية يخفى على كثير من الناس، بل ربما يحصل خصام بين سائق السيارة وبعض الركاب من أجل النزول للصلاة في أول الوقت، وأكثرهم لا يدري أن الجمع جائز في السفر، بل هو السنة إذا جدّ به السير على ما سيأتي تفصيله إن شاء الله. بما أن الأمر كذلك؛ رأيت أنْ أضمّ إلى هذه الفائدة الحديثية بعض الفوائد الفقهية وأنشرها بين الناس.
أسأل الله أن ينفع بها الإسلام والمسلمين، وأن يجعل عملي خالصًا لوجهه الكريم إنه جواد كريم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
الجمع بين الصلاتين في السفر
1- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3ص236) مع "الفتح": حدثنا إسحاق قال أخبرنا عبدالصمد قال حدثنا حرب قال حدثنا يحيى قال حدثني حفص بن عبدالله بن أنس أن أنسًا رضي الله عنه حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: كان يجمع بين الصّلاتين في السّفر يعني المغرب والعشاء.
تخريج الحديث: أخرجه عبدالرزاق (ج2 ص545)، وأحمد (ج3 ص138، 151) والطحاوي في "شرح معاني الآثار" (ج1 ص162).
2- قال البخاري رحمه الله تعالى (ج3 ص233): حدثنا علي بن عبدالله قال حدثنا سفيان قال سمعت الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السّير.
تخريج الحديث: أخرجه مسلم (ج5 ص214) مع النووي، ومالك في "الموطأ" من حديث نافع عن ابن عمر به (ج1 ص161) مع "تنوير الحوالك"، وابن الجارود ص
(87)، وابن خزيمة (ج2 ص81)، والدارمي (ج1 ص335)، وأحمد (ج2 ص7) من حديث نافع عن ابن عمر به، وص (8، 63، 102، 106، 148)، والنسائي (ج1 ص133) وابن أبي شيبة، وعبدالرزاق (ج2 ص544)، والطحاوي في "معاني الآثار" (ج1 ص161)، والبيهقي (ج3 ص159)، وأبونعيم في "الحلية" (ج9 ص161)، والخطيب (ج7 ص27).
هذا وللحافظ العراقي رحمه الله كلام نفيس في شرح حديثي ابن عمر وأنس فدونكه، قال رحمه الله في كتابه "طرح التثريب في شرح التقريب" (ج3 ص121):
باب الجمع في السفر
عن سالم، عن أبيه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جدّ به السّير.
وعن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا عجل به السّير جمع بين المغرب والعشاء.
فيه فوائد:
الأولى: أخرجه من الطريق الأولى الشيخان والنسائي من طريق سفيان ابن عيينة بهذا اللفظ، والبخاري أيضًا من طريق شعيب بن أبي حمزة، ومسلم من طريق يونس بن يزيد بلفظ: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أعجله السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء)، ثلاثتهم عن الزهري، عن سالم.
وأخرجه الزهري من طريق كثير بن قاووند، عن سالم، عن أبيه في جمعه بين الظّهر والعصر، حين كان بين الصّلاتين بين المغرب والعشاء ، حين اشتبكت النجوم. وفيه: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ((إذا حضر أحدكم الأمر الّذي يخاف فوته، فليصلّ هذه الصّلاة)).
وأخرجه من الطريق الثانية مسلم، والنسائيّ من طريق مالك، عن نافع.
وأخرجه مسلم أيضًا من طريق يحيى القطان، والترمذي من طريق عبدة ابن سليمان، كلاهما عن عبيدالله عن نافع: أنّ ابن عمر كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء بعد أن يغيب الشّفق. ويقول: إنّ
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا جدّ به السّير جمع بين المغرب والعشاء. لفظ مسلم.
ولفظ الترمذي: إنّه استغيث على بعض أهله فجدّ به السّير، وأخّر المغرب حتّى غاب الشّفق، ثمّ نزل فجمع بينهما، ثمّ أخبرهم أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يفعل ذلك إذا جدّ به السّير. وقال: حسن صحيح.
ورواه أبوداود من طريق أيوب، عن نافع: أنّ ابن عمر استصرخ على صفيّة وهو بمكّة، فسار حتّى غربت الشّمس وبدت النّجوم، فقال: إنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به أمر في سفر، جمع بين هاتين الصّلاتين فسار حتّى غاب الشّفق، فنزل فجمع بينهما.
رواه النسائي من طريق موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير، أو حزبه أمر، جمع بين المغرب والعشاء.
ومن طريق ابن جابر، عن نافع، عن ابن عمر في خروجه معه إلى صفية بنت أبي عبيد، وفيه: حتّى إذا كان في آخر الشّفق نزل فصلّى المغرب، ثمّ أقام العشاء وقد توارى الشّفق فصلّى بنا، ثمّ أقبل علينا فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا عجل به السّير صنع هكذا.
ومن طريق إسماعيل بن عبدالرحمن شيخ من قريش، عن ابن عمر في جمعه بين المغرب والعشاء حين ذهب بياض الأفق وفحمة العشاء، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل.
وأخرجه البخاري في (الحج والجهاد) في "صحيحه"، من طريق زيد بن أسلم عن أبيه، قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما بطريق مكّة، فبلغه عن صفيّة بنت أبي عبيد شدّة وجع، فأسرع السّير، حتّى كان بعد غروب الشّفق نزل فصلّى المغرب والعتمة، جمع بينهما، ثمّ قال: إنّي رأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جدّ به السّير أخّر المغرب وجمع بينهما.
الثانية: قوله في الرواية الأولى: (جدّ به السّير)، أي: اشتدّ به السير. قال في "المحكم": جدّ به الأمر، أي: اشتد.
وقال القاضي عياض في "المشارق": جدّ به السّير، أي أسرع وعجل في الأمر الذى يريده. انتهى.
وما ذكرته أولى لأنّ الذي في الحديث نسبة الجدّ إلى السير، وفي كلام القاضي نسبة الجد إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فاللفظ الواقع في الحديث إمّا أن يراد به الاشتداد كما نقلته عن صاحب "المحكم"، وإمّا أن ينسب الجد إلى السير على سبيل التوسع، والإسراع في الحقيقة إنما هو من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويكون هذا على حد قولهم: (نهاره صائم، وليله قائم)، فينسب الصيام إلى النهار، والقيام إلى الليل لوقوعه فيهما، وفي الحقيقة إنما هو من الفاعل. فمعنى قوله: (جدّ به السير) جدّ في السير.
ويوافق هذا قوله في رواية أخرى: إذا جدّ في السير.
قال في "الصحاح": الجدّ: الاجتهاد في الأمور، تقول منه: جدّ في الأمر يجدّ ويجدّ، أي: بكسر الجيم وضمها، وأجدّ في الأمر مثله. قال الأصمعي: يقال: إنّ فلانًا لجادّ مجدّ باللغتين جميعًا. وقال في "المحكم": جدّ في أمره يجدّ ويجدّ جدًّا وأجدّ حقق. وقال في "المشارق": الجدّ المبالغة في الشيء. انتهى.
ويأتي هذان الاحتمالان في قوله في الرواية الثانية: (عجل به السير). إمّا أن يضمّن (عجل) معنى اشتد، وإمّا أن تكون نسبة العجل الى إلسير مجازًا وتوسعًا. والأصل: (عجل في السير).
الثالثة: فيه جواز الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء في هذه الحالة، وهي الجدّ في السفر والاستعجال فيه.
وتقدم من "سنن النسائي": الجمع بين الظهر والعصر أيضًا، وفي
"الصحيحين" عن أنس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما، فإن زاغت قبل أن يرتحل صلّى الظّهر ثمّ ركب.
وفي رواية للبخاري: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السّفر.
وفى رواية لمسلم: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصّلاتين في السّفر، أخّر الظّهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما.
وفي رواية له: إذا عجل عليه السّير، يؤخّر الظّهر إلى أوّل وقت العصر، فيجمع بينهما ويؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء حين يغيب الشّفق.
وفي "صحيح البخاري" تعليقًا، و"صحيح مسلم" موصولاً عن ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين صلاة الظّهر والعصر إذا كان على ظهر سير ويجمع بين المغرب والعشاء. لفظ البخاري.
ولم يقل مسلم: إذا كان على ظهر سير، وزاد: (قال سعيد بن جبير: فقلت لابن عباس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمّته). فزاد في حديثي أنس وابن عباس: الجمع بين الظهر والعصر، وأما اقتصار ابن عمر رضي الله عنهما في الرواية المشهورة عنه على ذكر الجمع بين المغرب والعشاء فسببه أنه ذكر ذلك جوابًا لقضية وقعتْ له، فإنه استصرخ على زوجته فذهب مسرعًا، وجمع بين المغرب والعشاء، فذكر ذلك بيانًا لأنه فعله على وفق السنة. فلا دلالة فيه لعدم الجمع بين الظهر والعصر. فقد رواه أنس وابن عباس ومعاذ وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم.
وفي "صحيح مسلم" وغيره عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك، فكان يصلّي الظّهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا. وفي لفظ له: جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك بين الظّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء.
زاد في "الموطأ" و"سنن أبي داود" و"النسائي" و"صحيح ابن حبان": فأخّر الصّلاة يومًا، ثمّ خرج فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ دخل، ثمّ خرج فصلّى المغرب والعشاء جميعًا. قال ابن عبدالبر: هذا حديث صحيح ثابت الإسناد.
وفي "سنن أبي داود" و"الترمذي" و"صحيح ابن حبان" وغيرها، عن معاذ أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشّمس، أخّر الظّهر إلى العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشّمس عجّل العصر إلى الظهر وصلى الظهر والعصر جميعًا، ثم سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء، فصلاها مع المغرب. قال الترمذي: حديث حسن. وقال البيهقي: هو محفوظ صحيح. انتهى.
ففي حديث معاذ الجمع بين الظهر والعصر أيضًا، ولم يقيد ذلك بأن يعجل به السفر بل صرّح في رواية "الموطأ" وأبي داود وغيرهما بالجمع وهو غير سائر، بل نازل ماكث في خبائه، يخرج فيصلي الصلاتين جميعًا، ثم ينصرف إلى خبائه.
قال الشافعي رحمه الله في "الأم" بعد ذكره هذه الرواية: هذا وهو نازل غير سائر لأن قوله: (دخل ثم خرج)، لا يكون إلا وهو نازل، فللمسافر أن يجمع نازلاً ومسافرًا. انتهى.
وفي رواية أبي داود والترمذي وغيرهما التصريح بجمع التقديم والتأخير فى الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء، وقد كانت غزوة تبوك في أواخر الأمر سنة تسع من الهجرة.
وقد اختلف العلماء فى هذه المسألة على أقوال:
أحدها: جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء بعذر السفر، جمع تقديم في وقت الأولى منهما، وجمع تأخير في وقت الثانية منهما. وبه قال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه، والجمهور، إلا أن المشهور من مذهب مالك اختصاص الجمع بحالة الجد فى السير، لخوف فوات الأمر أو لإدراك مهمّ، وبه قال أشهب. وقال ابن الماجشون وابن حبيب وأصبغ: إنّ الجدّ لمجرد قطع السفر مبيح للجمع.
وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" الجمع بين الصلاتين في السفر عن سعد ابن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وأبي موسى الأشعري، وأسامة بن زيد، وغيرهم. وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس، وابن عمر، وطاوس، ومجاهد، وعكرمة، وأبي ثور، وإسحاق، قال: وبه أقول.
وقال البيهقي: الجمع بين الصلاتين بعذر السفر من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين، مع الثابت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم عن أصحابه، ثم ما أجمع عليه المسلمون من جميع الناس بعرفة ثم بالمزدلفة، وروى في ذلك عن عمر، وعثمان، ثم روى عن زيد بن أسلم، وربيعة، ومحمد بن المنكدر، وأبي الزناد أنّهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر، إذا زالت الشمس.
وحكاه ابن عبدالبر عن عطاء بن أبي رباح، وسالم بن عبدالله، وجمهور علماء المدينة.
وحكاه ابن بطال عن جمهور العلماء. وحكاه ابن قدامة في "المغني" عن أكثر أهل العلم.
وحكاه أبوالعباس القرطبي عن جماعة السلف وفقهاء المحدثين.
القول الثاني: اختصاص ذلك بحالة الجد في السفر لخوف فوات أمر أو لإدراك مهم، وهو المشهور عن مالك، كما تقدم. وتمسك هؤلاء بظاهر حديث ابن عمر هذا، وجوابه أن في حديث غيره زيادة يجب الأخذ بها وهي الجمع من غير جدّ في السفر.
قال ابن عبدالبر بعد ذكر حديث معاذ الذي سبق ذكره من "الموطأ" وغيره: في هذا أوضح الدلائل، وأقوى الحجج في الرد على من قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا إذا جدّ به السير. وهو قاطع للإلتباس، قال: وليس فيما روي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان إذا جدّ به السير جمع بين المغرب والعشاء ما يعارضه لأنه إذا كان له الجمع نازلاً غير سائر، فالذي يجد به السير أحرى بذلك، وإنما يتعارضان لو كان في أحدهما أنه قال: لا يجمع المسافر بين الصلاتين إلا أن يجد به السير. وفي الآخر: أنه جمع نازلاً غير سائر، فإما أن يجمع وقد جدّ به السير، ويجمع وهو نازل لم يجد به السير. فليس هذا بمتعارض عند أحد له فهم.
قال: وقد أجمع المسلمون على الجمع بين الصلاتين بعرفة ومزدلفة، فكل ما اختلفت فيه من مثله فمردود إليه. وروى مالك عن ابن شهاب أنه قال: سألت سالم بن عبدالله هل يجمع بين الظهر والعصر في السفر؟ فقال: نعم، لا بأس بذلك. ألم تر إلى صلاة الناس بعرفة. فهذا سالم قد نزع بما ذكرنا وهو أصل صحيح لمن ألهم رشده، ولم تمل به العصبية إلى المعاندة. انتهى.
وحكى أبوالعباس القرطبي عدم اشتراط الجد في السفر عن جمهور السلف، وعلماء الحجاز، وفقهاء المحدثين، وأهل الظاهر.
القول الثالث: كالذي قبله في الاختصاص بحالة الجدّ في السفر لكن لا يختص ذلك بأن يكون سبب الجد خوف فوات أمر أو إدراك مهم، بل لو كان الجد لمجرد قطع المسافة كان الحكم كذلك، وهذا قول جماعة من المالكية، كما تقدم.
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن أسامة بن زيد أنّه كان إذا عجل به السّير جمع بين الصّلاتين. وعن سالم بن عبدالله بن عمر أنّه سئل عن الجمع بين الصّلاتين في السّفر فقال: لا، إلاّ أن تعجلني سير.
وحكى ابن عبدالبر عن الليث بن سعد أنه لا يجمع إلا من جدّ به السير. وقال أبوبكر بن العربي: إن قول ابن حبيب هذا هو قول الشافعي لأن السفر نفسه إنما هو لقطع الطريق. انتهى.
وفيما قاله نظر فإنّ الماكث في المنْزلة ليس قاطعًا للطريق، وكذلك من هو سائر إلا أنه لا استعجال به، بل هو يسير على هينته، فهو أن يجوّز الشافعي لهما الجمع ولا يجوّزه لهما ابن حبيب ومن قال بقوله، ولعل صاحب هذا القول أسعد بحديث ابن عمر من القول الذي قبله، فإن الذي في حديث ابن عمر اعتبار الجد في السفر من غير سبب مخصوص لذلك، ولا يقال: إنما يكون الجد لخوف فوات أمر أو إدراك مهم، فقد يكون الجد لمجرد قطع المسافة والاستراحة من متاعب السفر. وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فإذا قضى أحدكم نهمته من سفره فليعجّل إلى أهله ))، لكن زاد حديث معاذ على ذلك ببيان الجمع في زمن الإقامة التي لا تقطع اسم السفر فوجب الأخذ به كما تقدم. والله أعلم.
القول الرابع: أنه لا يجمع بين الصلاتين إلا من عذر، رواه ابن أبي شيبة عن الحسن البصري، وعمر بن عبدالعزيز.
وحكاه ابن عبدالبر عن الأوزاعي وقال: لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا جدّ به السير جمع. قال: وعن الثوري نحو هذا، وعنه أيضًا ما يدل على الجواز، وإن لم يجد السير. انتهى.
وفي "مصنف ابن أبي شيبة" عن جابر بن زيد: ما أرى أنْ يجمع بين الصّلاتين إلاّ من أمر. فجعل صاحب هذا القول الجد في السير مثالاً للعذر، والاعتبار بالعذر بأيّ وجه كان، ويقول الجمهور: السفر نفسه عذر ومظنة للرخصة فنيط الحكم بمجرده. والله أعلم.
القول الخامس: منع الجمع بعذر السفر مطلقًا وإنما يجوز للنسك بعرفة ومزدلفة، وهذا قول الحنفية، بل زاد أبوحنيفة على صاحبيه وقال: لا يجمع للنسك إلا إذا صلى في الجماعة، فإن صلى منفردًا صلى كل صلاة في وقتها. وقال أبويوسف ومحمد: المنفرد في ذلك كالمصلي جماعة.
وحكى ابن قدامة في "المغني" هذا عن رواية ابن القاسم عن مالك واختياره. وروى ابن أبي شيبة في "مصنفه" عن إبراهيم النخعي قال: كان الأسود وأصحابه ينْزلون عند وقت كل صلاة في السفر، فيصلون المغرب لوقتها، ثم يتعشون، ثم يمكثون ساعة، ثم يصلون العشاء.
وعن الحسن وابن سيرين أنّهما قالا: ما نعلم من السنة الجمع بين الصلاتين في حضر ولا سفر، إلا بين الظهر والعصر بعرفة، وبين المغرب والعشاء بجمع. وعن عمر وأبي موسى أنّهما قالا: الجمع بين الصلاتين بغير عذر من الكبائر. وروي هذا مرفوعًا من حديث ابن عباس، رواه الترمذي، وهو ضعيف.
وأجاب هؤلاء عن أحاديث الجمع بأن المراد بها أن يصلي الأولى في آخر وقتها، والأخرى في أول وقتها وهذا مردود بوجهين:
أحدهما: أنه وردت الروايات مصرّحةً بالجمع في وقت إحداهما. فمنها ما تقدم من "صحيح مسلم" من حديث ابن عمر: جمع بيْن المغْرب والعشاء بعْد أن يغيب الشّفق. ومنها قوله في حديث أنس: أخّر الظّهر حتّى يدخل أوّل وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما. وحديث معاذ صريح في جمعي التقديم والتأخير في الظهر والعصر، وفي المغرب والعشاء. وهذه الأحاديث لا يمكن معها التأويل الذي ذكروه.
الثاني: أن الجمع رخصة فلو كان على ما ذكروه، لكان أشد ضيقًا وأعظم حرجًا من الإتيان بكل صلاة في وقتها، لأنّ الإتيان بكل صلاة في وقتها أوسع من مراعاه طرفي الوقتين، بحيث لا يبقى من وقت الأولى إلا قدر فعلها، ومن تدبر هذا وجده واضحًا كما وصفنا، ثم لو كان الجمع هكذا لجاز الجمع بين العصر والمغرب، والعشاء والصبح. ولا خلاف بين الأمة في تحريم ذلك، والعمل بالأحاديث على الوجه السابق إلى الفهم منها أولى من هذا التكلف الذى لا حاجة إليه.
واحتج هؤلاء بما رواه الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، قال: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قطّ صلاةً لغير وقتها إلا ّالمغرب والصّبح بالمزدلفة، فإنّه أخّر المغرب حتّى جمعها مع العشاء، وصلّى الصّبح قبل الفجر. وقالوا: إن مواقيت الصلاة تثبت بالتواتر فلا يجوز تركها بخبر واحد، والجواب عن حديث ابن مسعود أنه متروك الظاهر بالإجماع من وجهين:
أحدهما: أنه قد جمع بين الظهر والعصر بعرفة بلا شك، وقد ورد التصريح بذلك في بعض طرق حديث ابن مسعود فلم يصح هذا الحصر.
وثانيهما: أنه لم يقل أحد بظاهره في إيقاع الصبح قبل الفجر، والمراد أنه بالغ في التعجيل، حتى قارب ذلك ما قبل الفجر، ثم إنّ غير ابن مسعود حفظ عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الجمع بين الصلاتين في السفر بغير عرفة ومزدلفة، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ، ولم يشهد.
وقد روى أبويعلى الموصلي في "مسنده" بإسناد جيد عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجمع بين الصّلاتين في السّفر.
والجواب عن قولهم: لا يترك المتواتر بالآحاد، بأنّا لم نتركها وإنما خصصناها، وتخصيص المتواتر بالآحاد جائز بالإجماع وقد جاز تخصيص الكتاب بخبر الواحد إجماعًا، فتخصيص السنة بالسنة أولى بالجواز، والله أعلم.
وذكر الشافعي قول عمر: جمع الصلاتين من غير عذر من الكبائر. وقال: العذر يكون بالسفر والمطر. وليس هذا ثابتًا عن عمر وهو مرسل.
القول السادس: جواز التأخير ومنع جمع التقديم. وهو رواية عن أحمد. قال ابن قدامة: وروي نحوه عن سعد، وابن عمر، وعكرمة. قال ابن بطال: وهو قول مالك في "المدونة"، وبهذا قال ابن حزم الظاهري، بشرط الجد في السفر، واعتماد هؤلاء على أن جمع التقديم لم يذكر في حديثي ابن عمر وأنس وإنما ذكر فيهما جمع التأخير، وتأكد ذلك بقوله في حديث أنس: فإن زاغت قبل أن يرتحل صلّى الظّهر، ثمّ ركب. ولم يذكر صلاة العصر.
وجوابه: أنه لا يلزم من عدم ذكرها أن لا يكون صلاها مع الظهر. وقد ورد التصريح بجمع التقديم في حديث معاذ وغيره، فوجب المصير إليه، وحمل بعضهم حديث أنس على أنّ معناه صلى الظهر والعصر، قال: لأنه عليه السلام إنما كان يؤخر الظهر إلى العصر إذا لم تزغ الشمس، فكذلك يقدم العصر إلى الظهر إن زاغت الشمس، ذكره ابن بطال.
وقد ورد التصريح بذلك من حديث أنس بسند لا بأس به في "معجم الطبراني الأوسط"، ولفظه: إذا كان في سفر فزاغت الشّمس جمع بينهما في أوّل وقت العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء.
وحكى ابن العربي أن اللؤلؤي حكى عن أبي داود أنه قال: ليس في تقديم الوقت حديث قائم. Z. وليس ذلك في روايتنا "لسنن أبي داود" من طريق اللؤلؤي، وضعف ابن حزم حديث معاذ في جمع التقديم، وقد بسطت الرد عليه في ذلك في كراسة كتبتها قديمًا سميتها "الدليل القويم على صحة جمع التقديم".
الرابعة: غاية ما دلّ عليه هذا الحديث جواز الجمع، فأما رجحانه وكونه أفضل من إيقاع كل صلاة في وقتها، فلا دلالة فيه عليه، فلعله عليه الصلاة والسلام بيّن بذلك الجواز أو فعله على سبيل الترخيص والتوسع، وإن كان الأفضل خلافه. وقد صرح أصحابنا الشافعية بذلك، وقالوا: إنّ ترك الجمع أفضل. وقال الغزالي: إنه لا خلاف في المذهب فيه.
وعللوه بالخروج من الخلاف فإن أباحنيفة وجماعة من التابعين لا يجوزونه، وعن أحمد بن حنبل في ذلك روايتان، وزاد مالك رحمه الله على ما قاله أصحابنا من أنّ الأفضل ترك الجمع فقال: إن الجمع مكروه. رواه المصريون عنه، كما قاله ابن العربي، واحتجّ له بتعارض الأدلة وقال ابن شاس في "الجواهر": وقع في "العتبية": (قال مالك: أكره جمع الصلاتين في السفر)، فحمله بعض المتأخرين على إيثار الفضل لئلا يتسهل فيه من لا يشق عليه. وقال ابن الحاجب في "مختصره": لا كراهة على المشهور. وحكى أبوالعباس القرطبي عن مالك رواية أخرى أنه كره الجمع للرجال دون النساء. وقال الخطابي: كان الحسن ومكحول يكرهان الجمع في السفر بين الصلاتين. انتهى.
فإن أراد بالكراهة التحريم، فهو القول الخاص المحكي في الفائدة الثالثة. وإن أراد التنْزيه فهو موافق لهذا المحكي عن مالك.
الخامسة: لم يبيّن في حديث ابن عمر ولا في غيره من الأحاديث هل كان يفعل ذلك في كل سفر، أو كان يخص به السفر الطويل، وهو سفر القصر، لكن قد يقال: إن الظاهر من الجدّ في السفر أنه إنما يكون فى الطويل، والحقّ أن هذه واقعة عين محتملة، فلا يجوز الجمع في السفر القصير، مع الشك في ذلك. ومذهب مالك أنه لا يختص ذلك بالطويل، ومذهب أحمد بن حنبل اختصاصه به، وللشافعي في ذلك قولان أصحهما اختصاصه بالطويل والله أعلم. Z كلامه رحمه الله.
ولنرجع إلى سرد الأدلة بأسانيدها إن شاء الله:
3- مسلم (ج5 ص215 و216): حدثنا يحيى بن حبيب الحارثي حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- حدثنا قرة حدثنا أبوالزبير حدثنا سعيد بن جبير حدثنا ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الصّلاة في سفرة سافرها في غزوة تبوك، فجمع بين الظّهر والعصر، والمغْرب والعشاء، قال سعيد: فقلْت لابن عبّاس: ما حمله على ذلك؟ قال: أراد أن لا يحْرج أمّته.
تخريج الحديث: ذكره ابن خزيمة (ج2 ص82) عقب حديث فيه الجمع، ثم قال بمثل ذلك. وأبوداود (ج1 ص276)، وأحمد (ج1 ص217و351)، والبخاري تعليقًا (ج3 ص234) قال: وقال إبراهيم بن طهمان عن حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن ابن عباس به. وقد وصله البيهقي (ج3 ص164).
4- مالك في "الموطأ" (ج1 ص160): عن داود بن الحصين، عن الأعرج ، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يجْمع بين الظّهر والعصر في سفره إلى تبوك.
تخريج الحديث: أخرجه عبدالرزاق (ج2 ص545). والحديث رجاله رجال الصحيح إلا أنه اختلف في وصله وإرساله، كما في "تنوير الحوالك". وقد قال ابن عبدالبر في "التمهيد" (ج2 ص337): حديث رابع لداود مرسل من وجه، متصل من وجه صحيح، ثم ذكره مرسلاً ومتصلاً. فهو رحمه الله في الترجمة يحكم له بالصحة.
5- مسلم (ج5 ص216): حدثني يحيى بن حبيب حدثنا خالد -يعني ابن الحارث- حدثنا قرة بن خالد حدثنا أبوالزبير حدثنا عامر بن واثلة أبوالطفيل حدثنا معاذ بن جبل، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزْوة تبوك بيْن الظّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، قال: فقلْت: ما حمله على ذلك؟ قال: فقال: أراد أن لا يحْرج أمّته.
تخريج الحديث: أخرجه ابن خزيمة (ج2 ص81)، وابن حبان (ج3 ص89)، وعبدالرزاق (ج2 ص545)، والطيالسي (ج1 ص126) من "ترتيب المسند"، وابن أبي شيبة (ج2 ص456)، وابن ماجة (ج1 ص340)، وأحمد ( ج5 ص229 و230 و236)، والبيهقي (ج3 ص 162)، والطحاوي في "معاني الآثار" (ج1 ص160).
6- قال الإمام أبوبكر بن أبي شيبة في "المصنف" (ج2 ص458): حدثنا بكر بن عبدالرحمن قال ثنا عيسى بن المختار عن ابن أبي ليلى عن أبي قيس، عن هزيل، عن عبدالله بن مسعود، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع بين الصّلاتين في السّفر.
هذا حديث ضعيف، في سنده محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى القاضي وقد ضعّف من أجل سوء حفظه.
تخريج الحديث: أخرجه أبويعلى في "المسند" (ج9 ص284) وسقط من سنده هزيل الراوي عن ابن مسعود، جزمنا بأنه سقط، لأن الحديث مرويّ من طريق أبي بكر ابن أبي شيبة.
وأخرجه البزار كما في "كشف الأستار" (ج1 ص330).
وأخرجه أبوداود الطيالسي ص (49)، قال: حدثنا شعبة، عن أبي قيس قال: سمعت الهزيل، قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سفر فأخّر الظّهر، وعجّل العصر، وجمع بينهما، وأخّر المغرب، وعجّل العشاء، وجمع بينهما.
لم يقل شعبة فيه: (عن عبدالله). قال: وروى عن ابن أبي ليلى أنه وصله إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.Z
قال أبوعبدالرحمن: فإرسال شعبة للحديث يزيد حديث ابن أبي ليلى الموصول ضعفًا، إذ وصْله يعتبر منكرًا، وأما قول الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص159): (إنّ رجال أبي يعلى رجال الصحيح) فوهم واضح، لأنّ محمد بن عبدالرحمن بن أبي ليلى ليس من رجال الصحيح كما في "تهديب التهذيب" و"الميزان"، وما رمزا له إلا "بالسنن".
جواز الجمع بين الصلاتين وإن لم يجد به السير
تقدمت الأحاديث الدالة على جواز الجمع، وسيأتي مزيد لها إن شاء الله، وقد ورد في السنة المطهرة مايدل على جواز الجمع وإن كان نازلاً.
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج15 ص40): حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي حدثنا أبوعلي الحنفي حدثنا مالك وهو ابن أنس عن أبي الزبير المكي أنّ أبا الطفيل عامر بن واثلة أخبره أن معاذ بن جبل أخبره قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عام غزوة تبوك، فكان يجمع الصّلاة، فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، والمغرب والعشاء جميعًا، حتّى إذا كان يومًا أخّر الصّلاة، ثمّ خرج فصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ دخل، ثمّ خرج بعد ذلك فصلّى المغرب والعشاء جميعًا، ثمّ قال: ((إنّكم ستأتون غدًا إن شاء الله عين تبوك، وإنّكم لن تأتوها حتّى يضحي النّهار، فمن جاءها منكم فلا يمسّ من مائها شيئًا حتّى آتي))، فجئناها وقد سبقنا إليها رجلان، والعين مثل الشّراك تبضّ بشيء من ماء، قال: فسألهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :((هل مسستما من مائها شيئًا))؟ قالا: نعم، فسبّهما النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال لهما ما شاء الله أن يقول، قال: ثمّ غرفوا بأيديهم من العين قليلاً قليلاً، حتّى اجتمع في شيء، قال: وغسل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه يديه ووجهه، ثمّ أعاده فيها، فجرت العين بماء منهمر، أو قال: غزير -شكّ أبوعليّ أيّهما قال- حتّى استقى النّاس، ثمّ قال: ((يوشك يا معاذ إن طالت بك حياة أن ترى ما هاهنا قد ملئ جنانًا)).
تخريج الحديث:
الحديث أخرجه ابن خزيمة (ج2 ص82)، وابن حبان (ج3 ص92)، والنسائي (ج1 ص229)، ومالك (ج1 ص160)، والدارمي (ج1 ص356)، والشافعي في "الأم" (ج1 ص66)، وعبدالرزاق (ج2 ص545)، وأحمد (ج5 ص237)، والبيهقي (ج3 ص162).
بعض هؤلاء اقتصر على حكم الجمع بين الصلاتين وهو نازل، وبعضهم ذكر الحديث بتمامه. ونقل الحافظ العراقي رحمه الله في "شرح التقريب" (ج3 ص124و 125) كلامًا حسنًا، وقد تقدم، والحمد لله.
جمع التأخير
1- قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى (ج3 ص226): حدثنا أبواليمان قال أخبرنا شعيب عن الزهري قال أخبرني سالم عن عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أعجله السّير في السّفر يؤخّر المغرب حتّى يجمع بينها وبين العشاء.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (ج5 ص214)، وابن خزيمة من حديث نافع بمعناه، والنسائي (ج1 ص229)، والترمذي من حديث نافع به، والشافعي في "الأم" (ج1 ص67) من حديث إسماعيل بن عبدالرحمن بن أبي ذئب الأسدي عن ابن عمر به، وعبدالرزاق
(ج2 ص546، 547) من طرق عن نافع به، وأحمد (ج2 ص4، 12، 51، 54، 77، 85، 150)، والطحاوي (ج1 ص162)، والدارقطني (ج1 ص319)، والبيهقي
(ج3 ص159 و160).
وجملة الذين رووه عن عبدالله بن عمر فيما اطلعت عليه:
(1) سالم (2) نافع (3) إسماعيل بن عبدالرحمن
(4) أسلم مولى عمر (5) عبدالله بن دينار والمعنى واحد.
2- قال البخاري رحمه الله (ج1 ص236): حدثنا حسان الواسطي قال حدثنا الفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب عن أنس بن مالك قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ يجمع بينهما، وإذا زاغت صلّى الظّهر ثمّ ركب.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (ج5 ص214)، وابن خزيمة (ج2 ص83) ، وابن حبان (ج3 ص90) وعنده: (وإذا زاغتْ قبل أن يرتحل صلّى ثم رحل)، وأبوداود (ج1 ص278)، والنسائي (ج1 ص229)، وأحمد (ج3 ص247و265)، وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص321)، والدارقطني (ج1 ص390)، والبيهقي (ج3 ص161).
3- قال البخاري رحمه الله (ج4 ص270): حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك، عن موسى بن عقبة، عن كريب، عن أسامة بن زيد رضى الله عنهما أنه يقول: دفع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من عرفة، فنزل الشّعب، فبال ثمّ توضّأ، ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصّلاة؟ فقال:
((الصّلاة أمامك)) فجاء المزدلفة نزل فتوضّأ فأسبغ، ثمّ أقيمت الصّلاة، فصلّى المغرب، ثمّ أناخ كلّ إنسان بعيره في منْزله، ثمّ أقيمت الصّلاة فصلّى، ولم يصلّ بينهما.
تخريج الحديث:
أخرجه مسلم (ج9 ص3) وأبوداود (ج1 ص447) والنسائي (ج5 ص209).
هذا والأحاديث في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمزدلفة عن جماعة من الصحابة منهم: أبوأيوب وابن عمر كما في "الصحيح" فشهرتها تغني عن تخريجها.
جمع التقديم
4- قال الإمام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (ج4 ص260): باب الجمع بين الصّلاتين بعرفة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا فاتته الصّلاة مع الإمام جمع بينهما.
وقال الليث: حدثني عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سالم أنّ الحجّاج بن يوسف عام نزل بابن الزّبير رضي الله عنهما، سأل عبدالله رضي الله عنه كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال سالم: إن كنت تريد السّنّة فهجّر بالصّلاة يوم عرفة، فقال عبدالله بن عمر: صدق، إنّهم كانوا يجمعون بين الظّهر والعصر في السّنّة. فقلت لسالم: أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فقال سالم: وهل تتّبعون في ذلك إلا سنّته؟.
5- أبوداود (ج1 ص445): حدثنا أحمد بن حنبل ثنا يعقوب ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني نافع، عن ابن عمر قال: غدا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منًى حين صلّى الصّبح صبيحة يوم عرفة، حتّى أتى عرفة فنزل بنمرة، وهي منْزل الإمام الّذي ينْزل به بعرفة، حتّى إذا كان عند صلاة الظّهر راح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مهجّرًا، فجمع بين الظّهر والعصر، ثمّ خطب النّاس، ثمّ راح فوقف على الموقف من عرفة.
هذا حديث حسن لتصريح ابن إسحاق بالتحديث.
6- قال الإمام مسلم في "صحيحه" (ج8 ص170): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم قال أبوبكر حدثنا حاتم ابن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبدالله. وذكر الحديث وفيه صفة حجة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيه: حتّى أتى عرفة فوجد القبّة قد ضربت له بنمرة، فنزل بها، حتّى إذا زاغت الشّمس أمر بالقصواء فرحلت له، فأتى بطْن الوادي فخطب النّاس -وذكر الخطبة، وبعدها:- فأذّن ثمّ أقام فصلّى الظّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر ولم يصلّ بينهما شيئًا. وذكر الحديث.
فلو لم يكن في الباب إلا هذه الأحاديث لكانت كافية في جمع التقديم، كيف وقد تقدم عمومات في الفصل الأول. وستأتي أحاديث صريحة إن شاء الله في ذلك.
7- قال الإمام أحمد بن الحسين البيهقي رحمه الله في "سننه" (ج3 ص162): حدثنا أبوعمرو الأديب حدثنا أبوبكر الإسماعيلي أنبأ جعفر الفريابي حدثنا إسحاق بن راهويه أنبأ شبابة بن سوار عن ليث بن سعد، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس بن مالك كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا كان في سفر فزالت الشّمس صلّى الظّهر والعصر جميعًا ثمّ ارتحل.
قال الحافظ في "التلخيص" (ج2 ص49): وإسناده صحيح قاله النووي. وفي ذهني أن أبا داود أنكره على إسحاق.
وعزاه في "بلوغ المرام" إلى أبي نعيم في "المستخرج" ثم قال في "التلخيص" بعد قوله (في ذهني أنّ أبا داود أنكره على إسحاق): ولكن له متابع رواه الحاكم في "الأربعين" عن أبي العباس محمد بن يعقوب عن محمد بن إسحاق الصغاني عن حسان بن عبدالله، عن المفضل بن فضالة، عن عقيل، عن ابن شهاب، عن أنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر إلى وقت العصر، ثمّ نزل فجمع بينهما فإن زاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر والعصر، ثمّ ركب.
وهو في "الصحيحين" من هذا الوجه بغير هذا السياق وليس فيهما: (والعصر)، وهي زيادة غريبة صحيحة الإسناد، وقد صححه المنذري من هذا الوجه، والعلائي، وتعجب من الحاكم كونه لم يورده في "المستدرك". Z
وقال في "بلوغ المرام": وللحاكم في "الأربعين" بإسناد صحيح، فذكره، وهذا يدل على جزمه بصحة ما في "الأربعين" للحاكم.
وأما في "الفتح" (ج3 ص237) فقد تردد في ثبوتها، فلعله اطلع على سندها بعد ذلك بدليل جزمه في "بلوغ المرام" وفي "التلخيص". ثم قال في
"التلخيص": وله طريق رواه الطبراني في "الأوسط".
حدثنا محمد بن إبراهيم بن نصر بن شبيب الأصبهاني حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا يعقوب بن محمد الزهري حدثنا محمد بن سعد ثنا ابن عجلان عن عبدالله بن الفضل، عن أنس بن مالك أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا كان في سفر فزاغت الشّمس قبل أن يرتحل صلّى الظّهر والعصر جميعًا، وإن ارتحل قبل أن تزيغ الشّمس جمع بينهما في أوّل العصر، وكان يفعل ذلك في المغرب والعشاء. وقال: تفرد به يعقوب بن محمد.
8- قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج1 ص386): حدثنا قتيبة حدثنا الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل زيغ الشّمس، أخّر الظّهر إلى أن يجمعها إلى العصر فيصلّيهما جميعًا، وإذا ارتحل بعد زيغ الشّمس، عجّل العصر إلى الظّهر، وصلّى الظّهر والعصر جميعًا، ثمّ سار، وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخّر المغرب حتّى يصلّيها مع العشاء، وإذا ارتحل بعد المغرب عجّل العشاء فصلاها مع المغرب.
قال: وفي الباب عن عليّ، وابن عمر، وأنس، وعبدالله بن عمرو، وعائشة، وابن عبّاس، وأسامة بن زيد، وجابر بن عبدالله.
قال أبوعيسى: وروى عليّ بن المديني عن أحمد بن حنبل عن قتيبة هذا الحديث، وحديث معاذ حديث حسن غريب تفرد به قتيبة عن الليث، ولا نعرف أحدًا رواه عنه غيره، وحديث الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل عن معاذ حديث غريب. والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع في غزوة تبوك بين الظّهر والعصر وبين المغرب والعشاء. رواه قرة بن خالد، وسفيان الثوري، ومالك، وغير واحد عن أبي الزبير المكي.Z
تخريج الحديث:
أخرجه أبوداود (ج1 ص278)، وقال: لم يرو هذا إلا قتيبة وحده. وابن حبان
(ج3 ص91)، وقال عقبه: سمعت محمد بن إسحاق الثقفي يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: عليه علامة الحفاظ، كتبوا عني هذا الحديث أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، والحميدي، وأبوبكر بن أبي شيبة، وأبوخيثمة، حتى عدّ سبعة.
وأخرجه أحمد (ج5 ص241)، والدارقطني (ج1 ص392)، والبيهقي (ج3 ص163) وذكر عقبه ما سنذكره إن شاء الله من كلام
البخاري رحمه الله، والطبراني في "الصغير" (ج ص234) وقال: لا يروى هذا الحديث عن معاذ إلا بهذا الإسناد تفرد به قتيبة.
فائدة:
قال المباركفوري رحمه الله في حديث عبد الله بن عمرو: فلينظر من أخرجه؟ فوجدته في مسند أحمد (ج2 ص181) و ص(204)، وفي
"مصنف ابن أبي شيبة" (ج2 ص458) من طريق حجاج أيضًا. وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج2 ص108): فيه الحجاج بن أرطأة وفيه كلام.
الطاعنون في حديث قتيبة
1- تقدم قول الترمذي رحمه الله تعالى: والمعروف عند أهل العلم حديث معاذ من حديث أبي الزبير إلى آخر كلامه رحمه الله.
2- ذكر الحافظ في "التلخيص" (ج2 ص49) أن أبا داود قال: إنه حديث منكر وليس في جمع التقديم حديث قائم.Z
وأقول: ينظر في صحة هذا عن أبي داود فإن الأحاديث الثابتة في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم عرفة في الصحيحين وغيرهما.
3- قال الحافظ في "التلخيص": وقال أبوسعيد بن يونس: لم يحدثْ بهذا الحديث إلا قتيبة، ويقال: إنه غلط فيه، فغير بعض الأسماء وإن موضع يزيد بن حبيب، أبوالزبير.
4- الحاكم أبوعبدالله جعله مثالاً للشاذ، فقال رحمه الله بعد ذكره بالسند المتقدم: هذا حديث رواية أئمة ثقات، وهو شاذ الإسناد والمتن لا نعرف له علة نعلله بها، ولو كان الحديث عند الليث عن أبي الزبير عن أبي الطفيل لعللنا به الحديث، ولو كان عند يزيد بن أبي حبيب عن أبي الزبير لعللنا به، فلما لم نجد له العلتين خرج عن أن يكون معلولاً، ثم نظرنا فلم نجدْ ليزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل روايةً، ولا وجدنا هذا المتن بهذه السياقة عند أحد من أصحاب أبي الطفيل، ولا عند أحد ممن رواه عن معاذ غير أبي الطفيل فقلنا: الحديث شاذ. ثم ذكر نحو ما تقدم عن ابن حبان من أنه كتب هذا الحديث عن قتيبة سبعة وأن علامتهم عليه، ثم قال: قائمة الحديث إنما سمعوه من قتيبة تعجبًا من إسناده ومتنه ثم لم تبلغنا عن واحد منهم أنه ذكر للحديث علة.
وقد قرأ علينا أبوعلي الحافظ هذا الباب، وحدثنا به عن أبي عبدالرحمن النسائي وهو إمام عصره عن قتيبة بن سعيد، ولم يذكر أبوعبدالرحمن ولا أبوعلي للحديث علة فنظرنا فإذا الحديث موضوع وقتيبة بن سعيد ثقة مأمون.
حدثني أبوالحسن محمد بن موسى بن عمران الفقيه قال: حدثنا محمد ابن إسحاق بن خزيمة قال سمعت صالح بن حفصويه النيسابوري قال أبوبكر وهو صاحب حديث يقول: سمعت محمد بن إسماعيل البخاري يقول: قلت لقتيبة بن سعيد: مع من كتبت عن الليث بن سعد حديث يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل؟ فقال: كتبته مع خالد المدائني.
قال البخاري: وكان خالد المدائني يدخل الأحاديث على الشيوخ.Z
5- ابن أبي حاتم قال رحمه الله في "العلل" (ج1 ص91): سمعت أبي يقول: كتبت عن قتيبة حديثًا عن الليث بن سعد لم أصبه بمصر عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الطفيل، عن معاذ عن النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه كان في سفر فجمع بين الصّلاتين.
وقال أبي: لا أعرفه من حديث يزيد، والذي عندي أنه دخل له حديث في حديث.
حدثنا أبوصالح: قال حدثنا الليث عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل، عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الحديث.
6- الحافظ أحمد بن علي بن ثابت الخطيب ذكر الحديث بأسانيد إلى قتيبة ثم ذكر كلام البخاري من طريق الحاكم ثم عقّبه بقوله: قلت: لم يرو حديث يزيد بن حبيب عن أبي الطفيل عن الليث غير قتيبة وهو منكر جدًا من حديثه ويرون أن خالدًا المدائني أدخله على الليث وسمعه قتيبة معه فالله أعلم.Z (ج12 ص467).
7- الحافظ أبومحمد علي بن أحمد بن حزم رحمه الله قال في
"المحلى" (ج3 ص174) بعد ذكره هذا الحديث من طريق الليث بن سعد به: فإن هذا الحديث أردى حديث في الباب لوجوه، أولها: أنه لم يأت هكذا إلا من طريق يزيد بن أبي حبيب عن أبي الطفيل، ولا يعلم أحد من أصحاب الحديث ليزيد سماعًا من أبي الطفيل. والثاني: أن أبا الطفيل صاحب راية المختار، وذكر أنه كان يقول بالرجعة. والثالث: أننا روينا عن محمد بن إسماعيل البخاري مؤلف "الصحيح" أنه قال: قلت لقتيبة... وذكر القصة المتقدمة.
8- الشافعي رحمه الله: قال رحمه الله: ليس الشاذ من الحديث ما يرويه الثقة ولا يرويه غيره، ولكن الشاذ ما يرويه الثقة ويخالفه عمل الناس مثل حديث معاذ في غزوة تبوك في الجمع بين الصلاتين.Z من
"طبقات الشافعية" لأبي عاصم محمد بن أحمد العبادي ص (19).
حاصل ما قاله أهل العلم في هذا الحديث:
1- صحيح عند ابن حبان.
2- حسن عند الترمذي.
3- منكر عند الخطيب وأبي داود إن ثبت عنه.
4- موضوع عند الحاكم.
الجواب عن هذه المطاعن
الجواب عن المطاعن الثلاث الأولى هو: أن قتيبة رحمه الله تعالى لم ينفرد به بل قد رواه هشام بن سعد كما سيأتي إن شاء الله.
وأما قول أبي سعيد بن يونس: يقال: إن قتيبة غلط فيه إلخ كلامه. فهذا لا يثبت إلا ببرهان.
وأما القصة التي ساقها الحاكم والخطيب واعتمد عليها ابن حزم، فإنّها تدور على شيخ الحاكم محمد بن موسى بن عمران. قال الحافظ في "لسان الميزان": وكان له فهم، ولكنه كان مغفلاً، ذكره الحاكم.Z وصالح بن حفصويه راوي القصة عن البخاري ما وجدت ترجمته، ولا نكتفي بقول الإمام ابن خزيمة: وكان صاحب حديث. فثبوت القصة متوقف على صحة السند إلى البخاري رحمه الله.
ويبقى على الحديث ثبوت سماع يزيد بن أبي حبيب من أبي الطفيل، فإنه ممكن لأن أبا الطفيل توفي سنة (100) وولد يزيد بن أبي حبيب سنة (53) لكنه لم يأت في حديث آخر ولم يصرح في هذا الحديث بالسماع، وهو يرسل فينبغي أن نتوقف فى سماعه من أبي الطفيل.
وأما قول الحاكم رحمه الله: (فهؤلاء الأئمة ماكتبوه عن قتيبة إلا تعجبًا من سنده ومتنه) فدعوى فإن أئمة الحديث رحمهم الله قد يكتبون الحديث ليتخذوه حجة عند الله، وللتوقف فيه حتى يحصل له عاضد، وللنظر في مذهب المحدث، والظاهر هنا الأول، ذلك لأنّهم لو علموا أن قتيبة واهم في هذا لراجعوه. كيف ويحيى بن معين قد اختبر شيخه أبا نعيم الفضل بن دكين، والبخاري قد رد على بعض شيوخه، كما في مقدمة "الفتح"، وقد ساق الخطيب بسنده إلى قتيبة أنه قال لأحمد بن محمد: ما رأيت في كتابي من علامات الحمرة فهو علامة أحمد بن حنبل، وما رأيت فيه من الخضرة فهو علامة يحيى بن معين.
وأما أبوحاتم رحمه الله فإنه اعتمد على شيئين: أحدهما: أنه لم يجد الحديث في مصر، وإنما حدثه به قتيبة وهذا لا يمنع أن يتفرد قتيبة بحديث عن الليث، والثاني: أنه عللها برواية أبي صالح عن الليث، عن هشام بن سعد. وأبوصالح هو عبدالله بن صالح كاتب الليث، والكلام فيه معروف، وهشام هو ابن سعد مختلف فيه والراجح ضعفه إلا إذا روى عن زيد بن أسلم فهذه الرواية لا تصلح أن تكون معلة لتلك الرواية.
هذا والجواب عن بقية المطاعن تؤخذ مما تقدم، وعلى كل فليس الاعتماد في المسألة على حديث قتيبة ولكن على الأحاديث المتقدمة.
وبعد: فقد ترجح لي ضعف حديث قتيبة لإنكار كبار المحدثين على قتيبة وتوهيمه، ويغني عنه ما تقدم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع جمْع تقديم بعرفة، ولأدلة أخر. والحمد لله رب العالمين.
متابعات وشواهد
قال الإمام أبوداود رحمه الله في "سننه" (ج1 ص 27): حدثنا يزيد بن خالد بن يزيد بن عبدالله بن موهب الرملي حدثنا المفضل بن فضالة والليث ابن سعد عن هشام بن سعد، عن أبي الزبير، عن أبي الطفيل عن معاذ بن جبل أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشّمس قبل أن يرتحل جمع بين الظّهر والعصر، وإن يرتحل قبل أن تزيغ الشّمس أخّر الظّهر حتّى ينْزل للعصر وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشّمس قبل أن يرتحل جمع بين المغرب والعشاء، وإن يرتحل قبل أن تغيب الشّمس أخّر المغرب حتّى ينْزل للعشاء ثمّ جمع بينهما.
تخريج الحديث:
أخرجه الدارقطني (ج1 ص362)، والبيهقي (ج3 ص 162) وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص322).
والحديث في سنده هشام بن سعد، وهو ضعيف، وقد خالفه الحفاظ من أصحاب أبي الزبير كمالك والثوري، وقرة بن خالد وغيرهم فلم يذكروا في روايتهم جمع التقديم قاله الحافظ في "الفتح".
وأما قول الحافظ في "التلخيص": فقد خالفه أوثق الناس في أبي الزبير وهو الليث بن سعد، فينظر فإنه وإن خالفه في المتن من طريق أخرى فقد روى عنه هذه الطريق كما عند أبي داود.
هذا وفي الباب جملة أحاديث كما في "التلخيص"، و"زاد المعاد" (ج1 ص163) وليس لدي وقت لذكرها بأسانيدها، ولكني أعرّج عليها مع بيان ما يظهر لي فيها:
1- ما رواه أحمد والدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس وفيه حسين ابن عبدالله الهاشمي ضعيف جدًا، وقد اتّهم بالزندقة كما في "ميزان الاعتدال"، وقد اختلف عليه فيه.
2- كذلك ما رواه يحيى بن عبدالحميد الحمّاني في "مسنده"، عن أبي خالد الأحمر، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس. ويحيى بن عبدالحميد الحمّاني حافظ منكر الحديث، وقد وثّقه ابن معين وغيره. وقال أحمد: كان يكذب جهارًا. وقال النسائي: ضعيف. وحجاج هو ابن أرطأة ضعيف. والحكم هو ابن عتيبة، لم يسمع من مقسم إلا خمسة أحاديث كما في "تهذيب التهذيب" ليس هذا منها.
وذكره ابن أبي حاتم في "العلل" (ج1 ص183) وقال: قال أبوزرعة: هو خطأ إنما هو أبوخالد عن ابن عجلان، عن الحسين بن عبدالله، عن عكرمة ، عن ابن عباس.Z
3- وروى إسماعيل القاضي في "الأحكام" عن إسماعيل بن أبي أويس، عن أخيه، عن سليمان بن بلال، عن هشام بن عروة، عن كريب، عن ابن عباس نحوه.
وهذا أمثلها وإن كان قد تكلّم في إسماعيل بن أبي أويس.
4- عبدالله بن أحمد كما في "زوائد المسند" (ج1 ص136): قال عبدالله: حدثني أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا أبوأسامة عن عبدالله بن محمد بن عمر ابن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جده، أن عليًا رضي الله عنه كان يسير حتى إذا غربت الشمس وأظلم، نزل فصلى المغرب، ثم العشاء على أثرها، ثم يقول: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصنع.
الحديث أخرجه أبوبكر بن أبي شيبة (ج2 ص458).
الكلام على بعض رجال السند:
عبدالله بن محمد بن عمر: قال الحافظ في "التقريب": مقبول من السادسة. وقال الحافظ الذهبي في "الميزان": قال ابن المديني: هو وسط. وقال غيره: صالح الحديث. وقال ابن سعد: يلقب دافن.
وقال الحافظ في ترجمة والده محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب: صدوق من السادسة، وروايته عن جده مرسلة.
وقال في ترجمة عمر بن علي: ثقة. فهذا الحديث أقل أحواله أن يكون حسنًا لغيره.
وبهذا يتضح ثبوت الأحاديث في جمع التقديم.
هذا وأما ما يفعله بعض الناس ممن لا يبالي بدينه من الجمع بين الصلاتين في الحضر من أجل القات، إنما يفعله من لا يبالي بدينه فإن الله عز وجل يقول: {إنّ الصّلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} .
وفي "الصحيحين" من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم سئل أيّ الأعمال أفضل؟ قال: ((الصّلاة لوقتها)). وقد روى الإمام أحمد، والنسائي، والترمذي، عن جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جاءه جبريل فقال: قم فصلّه. فصلّى الظّهر حين زالت الشّمس، ثمّ جاءه العصر، فقال: قم فصلّه. فصلّى العصر حين صار ظلّ كلّ شيء مثله، ثمّ جاءه المغرب فقال: قم فصلّه. فصلّى المغرب حين وجبت الشّمس، ثمّ جاءه العشاء فقال: قم فصلّه. فصلّى العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ جاءه الفجر فقال: قم فصلّه. فصلّى حين برق الفجر، أو قال: حين سطع الفجر، ثمّ جاءه من الغد للظّهر فقال: قم فصلّه. فصلّى الظّهر حين صار ظلّ كلّ شيء مثله، ثمّ جاءه للعصر فقال: قم فصلّه، فصلّى العصر حين صار ظلّ كلّ شيء مثليه، ثمّ جاءه للمغرب المغرب وقتًا واحدًا لم يزل عنه، ثمّ جاءه العشاء حين ذهب نصف اللّيل، أو قال: ثلث اللّيل فصلّى العشاء، ثمّ جاءه حين أسفر جدًّا، فقال: قم فصلّه. فصلّى الفجر.
وقال الترمذي: إنّ البخاري قال: إنه أصح شيء في الباب. Z "نيل الأوطار".
وروى الإمام أحمد، ومسلم، وأبوداود، والنسائي عن أبي موسى، عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: وأتاه سائل يسأله عن مواقيت الصّلاة، فلم يردّ عليه شيئًا، وأمر بلالاً فأقام الفجر حين انشقّ الفجر، والنّاس لا يكاد يعرف بعضهم بعضًا، ثمّ أمره فأقام الظّهر حين زالت الشّمس، والقائل يقول: انتصف النّهار أو لم وكان أعلم منهم، ثمّ أمره فأقام العصر والشّمس مرتفعة، ثمّ أمره فأقام المغرب حين وقبت الشّمس، ثمّ أمره فأقام العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ أخّر الفجر من الغد حتّى انصرف منها والقائل يقول: طلعت الشّمس أو كادت، وأخّر الظّهر حتّى كان قريبًا من وقت العصر بالأمس، ثمّ أخّر العصر فانصرف منها، والقائل يقول: قد احمرّت الشّمس، ثمّ أخّر المغرب حتّى كان عند سقوط الشّفق، وفي لفظ: فصلّى المغرب قبل أن يغيب الشّفق، أخّر العشاء حتّى كان ثلث اللّيل الأوّل، ثمّ أصبح فدعا السّائل فقال: ((الوقت فيما بين هذين)).
قال صاحب "منتقى الأخبار": وروى الجماعة إلا البخاري نحوه من حديث بريدة الأسلمي.
قال الشوكاني رحمه الله: حديث بريدة صححه الترمذي ولفظه: أنّ رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن وقت الصّلاة، فقال له: ((صلّ معنا هذين الوقتين)) فلمّا زالت الشّمس أمر بلالاً فأذّن، ثمّ أمره فأقام الظّهر، ثمّ أمره فأقام العصر والشّمس مرتفعة بيضاء نقيّة، ثمّ أمره فأقام المغرب حين غابت الشّمس، ثمّ أمره فأقام العشاء حين غاب الشّفق، ثمّ أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلمّا أن كان اليوم الثّاني أمره فأبرد بالظّهر، أو أنعم أن يبرد بها ، وصلّى العصر والشّمس مرتفعة أخّرها فوق الّذي كان، وصلّى المغرب قبل أن يغيب الشّفق، وصلّى العشاء بعدما ذهب ثلث اللّيل، وصلّى الفجر فأسفر بها، ثمّ قال: ((أين السّائل عن وقت الصّلاة))؟ فقال الرّجل: أنا يا رسول الله، قال: ((وقت صلاتكم بين ما رأيتم)).Z
فهذه الأحاديث تدل على أن الله جعل لكل صلاة وقتًا.
وقد قال محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني: وأمّا الجمع في الحضر فقال الشارح بعد ذكر أدلة القائلين بجوازه فيه: إنه ذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يجوز الجمع في الحضر لما تقدم من الأحاديث المبيّنة لأوقات الصلاة، ولما تواتر من محافظة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أوقاتها، حتى قال ابن مسعود: ما رأيت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها، إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء بجمع، وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها.
وأما حديث ابن عباس عند مسلم: أنّه جمع بين الظّهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قيل لابن عبّاس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد ألاّ يحرج أمّته. فلا يصح الاحتجاج به لأنه غير معين لجمع التقديم والتأخير كما هو ظاهر رواية مسلم، وتعيّن واحد منهما تحكّم فوجب العدول عنه إلى ما هو واجب من البقاء على العموم
في حديث الأوقات للمعذور وغيره، وتخصيص المسافر لثبوت المخصّص وهذا هو الجواب الحاسم.
وأما ما يروى من الآثار عن الصحابة والتابعين بغير حجة إذ للاجتهاد في ذلك مسرح، وقد أوّل بعضهم حديث ابن عباس بالجمع الصوري واستحسنه القرطبي ورجحه، وجزم به ابن الماجشون، والطحاوي، وقوّاه ابن سيد الناس لما أخرجه الشيخان عن عمرو بن دينار -راوي الحديث- عن أبي الشعثاء قال: قلت: يا أبا الشعثاء أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظنه. قال ابن سيد الناس: وراوي الحديث أدرى هو بالمراد منه من غيره وإن لم يجزم أبوالشعثاء بذلك.
وأقول: إنما هو ظن من الراوي، والذى يقال فيه: (أدرى بما روى) إنما يجري في تفسيره للفظ مثلاً. على أن في هذه الدعوى نظر فإن قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)). يرد عمومها، نعم يتعين هذا التأويل، فإنه صرح به النسائي في أصل حديث ابن عباس ولفظه: صلّيت مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة ثمانيًا جمعًا، وسبْعًا جمعًا، أخّر الظّهْر وعجّل العصْر، وأخّر المغرب وعجّل العشاء.
والعجب من النووي كيف ضعف هذا التأويل وغفل عن متن الحديث المروي، والمطلق في رواية يحمل على المقيّد إذا كانا في قصة واحدة، كما في هذا. والقول بأن قوله: (أراد ألاّ يحرج أمّته)، يضعّف هذا الجمع الصوري لوجود الحرج فيه. مدفوع بأن ذلك أيسر من التوقيت، إذ يكفي للصلاتين تأهب واحد، وقصد واحد إلى المسجد، ووضوء واحد بحسب الأغلب، بخلاف الوقتين فالحرج في هذا الجمع لا شك أخف، وأما قياس الحاضر على المسافر كما قيل فوهم، لأن العلة في الأصل هي السفر، وهي غير موجود في الفرع، وإلا لزم مثله في القصر والقطر.Z
قال الصنعاني رحمه الله: قلت: وهو كلام رصين وقد كنا ذكرنا ما يلاقيه في رسالتنا "اليواقيت في المواقيت" قبل الوقوف على كلام الشارح، رحمه الله وجزاه خيرًا، ثم قال -أي الشارح-: واعلم أن جمع التقديم فيه خطر عظيم، وهو كمن صلى الصلاة قبل دخول وقتها، فيكون حال الفاعل كما قال الله: {وهمْ يحسبون أنّهم يحْسنون صنعًا} الآية. من ابتدائها وهذه الصلاة المقدمة لا دلالة عليها بمنطوق ولا مفهوم ولا عموم ولا خصوص.Z
وذكر العلامة الشوكاني في "نيل الأوطار" نحو ذلك.
ولكن الاستدلال برواية النسائي التي ذكرت الجمع الصوري متوقف على جمع الطرق، إذ الرواية في "الصحيح" ليس فها الجمع الصوري مرفوعًا، والمخرج واحد، فيخشى أن يكون أدرجه بعضهم والله أعلم. فالراجح أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعله في النادر، وعليه فلا بأس بفعله في النادر لا كما يفعل أصحاب القات.
فجدير بأسارى القات المضيعين للصلوات الذين يخشى أن يصدق على كثير منهم قوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلْف أضاعوا الصّلاة واتّبعوا الشّهوات فسوف يلْقون غيًّا} . وقوله تعالى: {فويل للمصلّين الّذين هم عن صلاتهم ساهون} . جدير بهم أن يستفيدوا من كلام هؤلاء العلماء اليمنيين وأن يصلّوا كل صلاة في وقتها.
وإن تعجب فعجب أن ترى من أهل العلم من يدافع عن هذه الشجرة الأثيمة التى ألهت كثيرًا من المجتمع اليمني عن أداء الصلوات في أوقاتها، وأضرّت باقتصادهم وبعقولهم، فكم من مجنون يصل إلى الأطباء ويقول الطبيب: سببه القات. نعم، وضيّعت أوقاتهم، فنصف الوقت للقات، تجدهم في مجالسهم يقضمونه كما تقضم المعزى المرعى، ولقد أحسن من قال:
إنّما القات حشيش أخضر فإذا ما أكلته أمّة ليس يحتاج إليه البشر فاعذروهم إنّما هم بقر
ولأخينا في الله عائض مسمار رسالة في بيان أضرار القات أنصح بقراءتها.
الصلاتان اللتان تجمعان لهما أذان واحد ولكل واحد منهما إقامة
قال الإمام مسلم رحمه الله (ج8 ص170): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم جميعًا عن حاتم قال أبوبكر حدثنا حاتم بن إسماعيل المدني عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: دخلنا على جابر بن عبدالله، ثم ذكر لهم جابر بن عبدالله حديثه الطويل في صفة حجة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفيه في عرفة: ثمّ أذّن، ثمّ أقام، فصلّى الظّهر، ثمّ أقام فصلّى العصر، ولم يصلّ بينهما شيئًا. وفيه: حتّى أتى المزدلفة فصلّى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ولم يسبّح بينهما شيئًا.
واعلم أنّها قد اختلفت الأحاديث في الأذان والإقامة للصلاتين اللتين تجمعان.
قال ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن" (ج2 ص400): وذهب سفيان الثوري وجماعة إلى أنه يصليهما بإقامة واحدة لهما، كما جاء في بعض روايات حديث ابن عمر.
قال ابن عبدالبر: وهو محفوظ من روايات الثقات: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلّى المغرب والعشاء بجمع، بإقامة واحدة.
قلت: وقد ثبت ذلك عن ابن عباس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلّى الصّلاتين بالمزدلفة بإقامة واحدة.
وقال مالك: يصليهما بأذانين وإقامتين، وهو مذهب ابن مسعود. وفي
"صحيح البخاري" من حديث ابن مسعود أنه صلى الصلاتين كل واحدة وحدها بأذان وإقامة.
قال ابن المنذر: روي هذا عن عمر رضي الله عنه.
قال ابن عبدالبر: ولا أعلم في ذلك حديثًا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بوجه من الوجوه، ولكنه روي عن عمر بن الخطاب أنه صلاهما بالمزدلفة كذلك.
ومذهب إسحاق وسالم والقاسم: أنه يصليهما بإقامتين فقط. وحجّتهم: حديث ابن عمر المتقدم، وهو رواية عن أحمد.
ومذهب أحمد، والشافعي في الأصح عنه، وأبي ثور، وعبدالملك الماجشون، والطحاوي أنه يصليهما بأذان واحد وإقامتين وحجتهم: حديث جابر الطويل. وقد تكلّف قوم الجمع بين هذه الأحاديث بضروب من التكلف.
وعن ابن عمر في ذلك ثلاث روايات. إحداهن: أنه جمع بينهما بإقامتين فقط. والثانية: أنه جمع بينهما بإقامة واحدة لهما. وقد ذكر أبوداود الروايتين. والثالثة: أنه صلاهما بلا أذان ولا إقامة، ذكر ذلك البغوي: حدثنا الحجاج بن المنهال حدثنا حماد بن سلمة، عن أنس بن سيرين قال: وقفت مع ابن عمر بعرفة وكان يكثر أن يقول: لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كلّ شيء قدير. فلمّا أفضْنا من عرفة دخل الشعب فتوضأ ثم جاء إلى جمع فعرض راحلته ثم قال: الصّلاة. فصلّى المغرب ولم يؤذّنْ ولم يقمْ، ثم سلّم، ثم قال: الصّلاة. ثم صلى العشاء ولم يؤذّن ولم يقمْ.
والصحيح في ذلك كله: الأخذ بحديث جابر، وهو الجمع بينهما بأذان وإقامتين لوجهين اثنين:
أحدهما: أن الأحاديث سواه مضطربة مختلفة، فهذا حديث ابن عمر في غاية الاضطراب كما تقدم، فروي عن ابن عمر من فعله: الجمع بينهما بلا أذان ولا إقامة، وروي عنه الجمع بينهما بإقامة واحدة، وروي عنه الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة، وروي عنه مسندًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: الجمع بينهما بإقامة واحدة. وروي عنه مرفوعًا: الجمع بينهما بإقامتين، وعنه أيضًا مرفوعًا الجمع بينهما بأذان واحد وإقامة واحدة لهما، وعنه مرفوعا الجمع بينهما دون ذكر أذان ولا إقامة، وهذه الروايات صحيحة عنه فيسقط الأخذ بها لاختلافها واضطرابها.
وأما حديث ابن مسعود فإنه موقوف عليه من فعله.
وأما حديث ابن عباس فغايته أن يكون شهادة على نفي الأذان والإقامة الثابتين، ومن أثبتهما فمعه زيادة علم وقد شهد على أمر ثابت عاينه وسمعه.
وأما حديث أسامة فليس فيه الإتيان بعدد الإقامة لهما، وسكت عن الأذان وليس سكوته عنه مقدمًا على حديث من أثبته سماعًا صريحًا، بل لو نفاه جملة لقدّم عليه حديث من أثبته لتضمنه زيادة علم خفيت على النافي.
الوجه الثاني: أنه قد صح من حديث جابر في جمعه صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعرفة: أنه جمع بينهما بأذان وإقامتين، ولم يأت في حديث ثابت قط خلافه، والجمع بين الصلاتين بمزدلفة كالجمع بينهما بعرفة، لا يفترقان إلا في التقديم والتأخير، فلو فرضنا تدافع أحاديث الجمع بمزدلفة جملةً لأخذنا حكم الجمع من الجمع في عرفة.
مسائل وفوائد يحتاجها المسافر
الأولى: كثيرًا ما يسأل عن صلاة المسافر خلف المقيم هل يقصر أو يتم؟
فالجواب: أنه يتابع الإمام، لما رواه الإمام أحمد في
"مسنده" بسند حسن عن موسى بن سلمة قال: كنّا مع ابن عبّاس بمكّة، فقلت: إنّا إذا كنّا معكم صلّينا أربعًا، وإذا رجعْنا إلى رحالنا صلّينا ركعتين، قال: تلك سنّة أبي القاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأصل الحديث في "صحيح مسلم".
الثانية: قصر الرباعية إلى ركعتين واجب.
قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (ج1 ص158):
فصل في صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في السفر
وكان يقصر الرباعية فيصليها ركعتين من حين خرج مسافرًا إلى أن يرجع إلى المدينة، ولم يثبت عنه أنه أتم الرباعية في سفره البتة، وأما حديث عائشة: أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقصر في السّفر ويتمّ، ويفطر ويصوم. فلا يصح. وسمعت شيخ الاسلام ابن تيمية يقول: هو كذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. انتهى.
وقد روي: (كان يقصر وتتمّ) الأول بالياء، والثاني بالتاء المثناة من فوق، وكذا (يفطر وتصوم)، أي: تأخذ هي بالعزيمة في الموضعين، قال شيخنا ابن تيمية: وهذا باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجميع أصحابه فتصلي خلاف صلاتهم، كيف والصحيح عنها: (أنّ الله فرض الصّلاة ركعتين ركعتين، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر). فكيف يظن بها مع ذلك أن تصلي خلاف صلاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والمسلمين معه.
قلت: وقد أتمت عائشة بعد موت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال ابن عباس وغيره إنّها تأولت كما تأول عثمان، وإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقصر دائمًا، فركّب بعض الرواة من الحديثين حديثًا وقال: (فكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقصر وتتمّ هي). فغلط بعض الرواة فقال: (كان يقصر ويتمّ)، أي: هو.
والتأويل الذي تأولته قد اختلف فيه فقيل: ظنّت أن القصر مشروط بالخوف في السفر، فإذا زال الخوف زال سبب القصر، وهذا التأويل غير صحيح فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سافر آمنًا وكان يقصر الصلاة. والآية قد أشكلت على عمر رضي الله عنه وعلى غيره، فسأل عنها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأجابه بالشفاء، وأن هذا صدقة من الله وشرع للأمة، وكان هذا بيان أن حكم المفهوم غير مراد، وأن الجناح مرتفع في قصر الصلاة عن الآمن والخائف، وغايته أنّه نوع تخصيص للمفهوم، أو رفع له، وقد يقال: إن الآية اقتضت قصرًا يتناول قصر الأركان بالتخفيف، وقصر العدد بنقصان ركعتين، وقيد ذلك بأمرين: الضرب بالأرض والخوف، فإذا وجد الأمران أبيح القصران فيصلون صلاة الخوف مقصورةً عددها وأركانها، وإن انتفى الأمران فكانوا آمنين مقيمين انتفى القصران فيصلون صلاة تامة كاملة، وإن وجد أحد السببين ترتب عليه قصره وحده، فإذا وجد الخوف والإقامة قصرت الأركان واستوفى العدد، وهذا نوع قصر، وليس بالقصر المطلق في الآية، فإنْ وجد السفر والأمن، قصر العدد واستوفى الأركان، وسميت صلاة أمن، وهذا نوع قصر وليس بالقصر المطلق، وقد تسمى هذه الصلاة مقصورةً باعتبار نقصان العدد، وقد تسمى تامةً باعتبار إتمام أركانها، وأنّها لم تدخل في قصر الآية، والأول: اصطلاح كثير من الفقهاء المتأخرين، والثاني: يدلّ عليه كلام الصحابة كعائشة وابن عباس وغيرهما. قالت عائشة: فرضت الصّلاة ركعتين ركعتين فلمّا هاجر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المدينة زيد في صلاة الحضر، وأقرّتْ صلاة السفر.
فهذا يدل على أن صلاة السفر عندها غير مقصورة من أربع، وإنما هي مفروضة كذلك، وأنّ فرض المسافر ركعتان.
وقال ابن عباس: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. متفق على حديث عائشة، وانفرد مسلم بحديث ابن عباس.
وقال عمر رضي الله عنه: صلاة السفر ركعتان، والجمعة ركعتان، والعيد ركعتان، تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد خاب من افترى. وهذا ثابت عن عمر رضى الله عنه وهو الذي سأل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ما بالنا نقصر وقد أمنّا؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((صدقة تصدّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)).
ولا تناقض بين حديثيه فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أجابه بأن هذه صدقة الله عليكم ودينه اليسر السمح. علم عمر أنه ليس المراد من الآية قصر العدد كما فهمه كثير من الناس فقال: صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر.
وعلى هذا فلا دلالة في الآية على أن قصر العدد مباح منفيّ عنه الجناح، فإن شاء المصلي فعله، وإن شاء أتم.
وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يواظب في أسفاره على ركعتين ركعتين، ولم يربّعْ قط إلا شيئًا فعله في بعض صلاة الخوف كما سنذكره هناك ونبين ما فيه إن شاء الله تعالى.
وقال أنس: خرجنا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من المدينة إلى مكّة، فكان يصلّي ركعتين ركعتين، حتّى رجعنا إلى المدينة. متفق عليه.
ولما بلغ عبدالله بن مسعود أن عثمان بن عفان صلى بمنىً أربع ركعات قال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صلّيت مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمنًى ركعتين، ومع أبي بكر بمنًى ركعتين، ومع عمر بن الخطّاب ركعتين، فليْت حظّي منْ أرْبع ركْعات ركعتان متقبّلتان. متفق عليه.
ولم يكن ابن مسعود ليسترجع من فعل عثمان أحد الجائزين المخير بينهما، بل الأولى على قول، وإنما استرجع لما شاهده من مداومة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وخلفائه على صلاة ركعتين في السفر. Z
الفائدة الثالثة: قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد"
(ج1 ص161): وكان من هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم الاقتصار على الفرض، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه صلى سنة الصلاة قبلها ولا بعدها، إلا ما كان من الوتر وسنة الفجر، فإنه لم يكن ليدعها حضرًا ولا سفرًا. قال ابن عمر: وقد سئل عن ذلك فقال: صحبت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم أره يسبح في السفر، وقال الله عز وجل: {لقد كان لكم في رسول الله أسْوة حسنة} ومراده بالتسبيح السنة الراتبة. وإلا فقد صح عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه.
وفي "الصحيحين" عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي في السّفر على راحلته حيث توجّهت به، يومئ إيماءً صلاة اللّيل إلاّ الفرائض، ويوتر على راحلته.
قال الشافعي رحمه الله: وثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يتنفّل ليلاً وهو يقصر. وفي "الصحيحين" عن عامر بن ربيعة: أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي السّبْحة باللّيل في السّفر على ظهْر راحلته. فهذا قيام الليل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن التطوع في السفر؟ فقال: أرجو أن لا يكون بالتطوع في السفر بأس.
وروي عن الحسن قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسافرون فيتطوعون قبل المكتوبة وبعدها. وروي هذا عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وأنس، وابن عباس، وأبي ذر.
وأما ابن عمر فكان لا يتطوع قبل الفريضة ولا بعدها، إلاّ من جوف الليل مع الوتر. وهذا هو الظاهر من هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان لا يصلي قبل الفريضة المقصورة ولا بعدها شيئًا، ولكن لم يكن يمنع من التطوع قبلها ولا بعدها، فهو كالتطوع المطلق لا أنه سنة راتبة للصلاة، كسنة صلاة الإقامة. ويؤيد هذا أن الرباعية قد خففت إلى ركعتين تخفيفًا على المسافر فكيف يجعل لها سنة راتبة يحافظ عليها، وقد خفف الفرض إلى ركعتين، فلولا قصد التخفيف على المسافر، وإلا كان الإتمام أولى به. ولهذا قال عبدالله بن عمر: لو كنْت مسبحًا لأتممت. وقد ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه صلى يوم الفتح ثماني ركعات ضحًى وهو إذ ذاك مسافر.
وأما مارواه أبوداود في "السنن" من حديث الليث، عن صفوان بن سليم، عن أبي بسرة الغفاري، عن البراء بن عازب قال: سافرت مع
رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمانية عشر سفرًا، فلم أره ترك ركعتين عند زيغ الشّمس قبل الظّهر.
قال الترمذي: هذا حديث غريب. قال: وسألت محمدًا عنه فلم يعرفه إلا من حديث الليث بن سعد، ولم يعرف اسم أبي بسْرة، ورآه حسنًا. وبسرة: بالباء الموحدة المضمومة وسكون السين المهملة.
وأما حديث عائشة رضي الله عنها أن النبى صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان لا يدع أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها. فرواه البخاري في "صحيحه"، ولكنه ليس بصريح لفعله ذلك في السفر، ولعلها أخبرتْ عن أكثر أحواله وهو الإقامة، والرجال أعلم بسفره من النساء، وقد أخبر ابن عمر أنه لم يزد على ركعتين، ولم يكن ابن عمر يصلي قبلها ولا بعدها شيئًا. والله أعلم.Z
الفائدة الرابعة: قال ابن القيم رحمه الله في "زاد المعاد" (ج1 ص162): فصل في صلاة التطوع على الراحلة، وكان من هديه صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة التطوع على راحلته حيث توجهت به، وكان يومئ إيماءً برأسه في ركوعه، وسجوده أخفض من ركوعه. وروى أحمد وأبوداود عنه من حديث أنس أنه كان يستقبل بناقته القبلة عند تكبيرة الإفتتاح، ثم يصلي سائر الصلاة حيث توجهت به. وفي هذا الحديث نظر، وسائر من وصف صلاته صلى الله عليه وعلى آله وسلم على راحلته أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به، ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة الإحرام ولا غيرها، كعامر بن ربيعة، وعبدالله بن عمر، وجابر بن عبدالله، وأحاديثهم أصح من حديث أنس هذا، والله أعلم.
وصلى على الراحلة وعلى الحمار إن صح عنه. وقد رواه مسلم في
"صحيحه" من حديث ابن عمر، وصلى الفرض بهم على الرواحل لأجل المطر والطين إن صح الخبر بذلك. وقد رواه أحمد والترمذي والنسائي أنه عليه الصلاة والسلام انتهى إلى مضيق هو وأصحابه وهو على راحلته، والسماء من فوقهم، والبلة من أسفل منهم، فحضرت الصلاة، فأمر المؤذن فأذن وأقام، ثم تقدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على راحلته فصلى بهم يومئ إيماءً، فجعل السجود أخفض من الركوع. قال الترمذي: حديث غريب تفرد به عمر بن الرماح، وثبت ذلك عن أنس من فعله.
الفائدة الخامسة: المسافر المستمر في السفر كالسائق، حكمه حكم المسافر غير المستمر، لعموم الأدلة، فيجب عليه أن يقصر، وله أن يفطر في رمضان كما يقول الله سبحانه وتعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدّة من أيّام أخر}.
حد السفر الذي يجب به القصر ويباح به الإفطار
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في (ج24 ص38) من "مجموع الفتاوى": وهذا مما اضطرب الناس فيه. قيل: ثلاثة أيام، وقيل: يومين قاصدين. وقيل: أقل من ذلك. حتى قيل: ميل. والذين حددوا ذلك بالمسافة منهم من قال: ثمانية وأربعون ميلاً. وقيل: ستة وأربعون ميلاً. وقيل: خمسة وأربعون. وقيل: أربعون، وهذه أقوال عن مالك. وقد قال أبومحمد المقدسي: لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهًا، وهو كما قال رحمه الله فإن التحديد بذلك ليس ثابتًا بنص ولا إجماع ولا قياس. وعامة هؤلاء يفرقون بين السفر الطويل والقصير، ويجعلون ذلك حدًا للسفر الطويل، ومنهم من لا يسمي سفرًا إلا ما بلغ هذا الحد وما دون ذلك لا يسميه سفرًا.
فالذين قالوا: ثلاثة أيام، احتجوا بقوله: ((يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن)). وقد ثبت عنه في "الصحيحين" أنه قال: ((لا تسافر امرأة مسيرة ثلاثة أيّام إلا ومعها ذو محرم)). وقد ثبت عنه في "الصحيحين" أنه قال:
((مسيرة يومين)). وثبت في "الصحيح": ((مسيرة يوم))، وفي "السنن": ((بريدًا)) فدل على أن ذلك كله سفر، وإذنه له في المسح ثلاثة أيام إنما هو تجويز لمن سافر ذلك، وهو لا يقتضي أن ذلك أقل السفر، كما أذن للمقيم أن يمسح يومًا وليلة وهو لا يقتضي أن ذلك أقل الإقامة.
والذين قالوا: يومين، اعتمدوا على قول ابن عمر، وابن عباس. والخلاف في ذلك مشهور عن الصحابة حتى عن ابن عمر، وابن عباس. وما روي: ((ياأهل مكّة لا تقصروا في أقلّ من أربعة برد من مكة إلى عسفان)). إنما هو من قول ابن عباس. ورواية ابن خزيمة وغيره له مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم باطل بلا شك عند أئمة أهل الحديث. وكيف يخاطب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أهل مكة بالتحديد، وإنما أقام بعد الهجرة زمنًا يسيرًا، وهو بالمدينة لا يحد لأهلها حدًا كما حده لأهل مكة، وما بال التحديد يكون لأهل مكة دون غيرهم من المسلمين.
وأيضًا فالتحديد بالأميال والفراسخ يحتاج إلى معرفة مقدار مساحة الأرض، وهذا أمر لا يعلمه إلا خاصة الناس، ومن ذكره فإنما يخبر به عن غيره تقليدًا وليس هو مما يقطع به، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقدر الأرض بمساحة أصلاً فكيف يقدر الشارع لأمته حدًا لم يجر له ذكر في كلامه وهو مبعوث إلى جميع الناس، فلا بد أن يكون مقدار السفر معلومًا علمًا عامًا، وذرع الأرض مما لا يمكن، بل هو إما متعذر وإما متعسر، لأنه إذا أمكن الملوك ونحوهم مسح طريق فإنما يمسحونه على خط مستو أو خطوط منحنية انحناءً مضبوطًا، ومعلوم أن المسافرين قد يعرفون غير تلك الطريق، وقد يسلكون غيرها وقد يكون في المسافة صعود، وقد يطول سفر بعضهم لبطء حركته، ويقصر سفر بعضهم لسرعة حركته، والسبب الموجب هو نفس السفر لا نفس مساحة الأرض.
والموجود في كلام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة في تقدير الأرض بالأزمنة كقوله في الحوض: ((طوله شهر وعرضه شهر)) وقوله: ((بين السّماء والأرض خسمائة سنة)) وفى حديث آخر: ((إحدى أو اثنتان أو ثلاث وسبعون
سنة))، فقيل: الأول: بالسير المعتاد سير الإبل والأقدام، والثاني: سير البريد، فإنه في العادة يقطع بقدر المعتاد سبع مرات. وكذلك الصحابة يقولون: يوم تام، ويومان. ولهذا قال من حده بثمانية وأربعين ميلاً: مسيرة يومين قاصدين بسير الإبل والأقدام، لكن هذا لا دليل عليه.
وإذا كان كذلك فنقول: كل اسم ليس له حدّ في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى العرف. فما كان سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذى علق به الشارع الحكم، وذلك مثل سفر أهل مكة إلى عرفة، فإن هذه المسافة بريد وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر والجمع بالسنة والبريد هو نصف يوم بسير الإبل والأقدام وهو ربع مسافة يومين وليلتين، وهو الذي قد يسمى مسافة القصر، وهو الذي يمكن الذاهب إليها أن يرجع من يومه.
وأما ما دون هذه المسافة إن كانت مسافة القصر محدودة بالمساحة فقد قيل: يقصر في ميل، وروي عن ابن عمر أنه قال: لو سافرت ميلاً لقصرت. قال ابن حزم: لم نجد أحدًا يقصر في أقل من ميل، ووجد ابن عمر وغيره يقصرون في هذا القدر، ولم يحد الشارع في السفر حدًا. فقلنا بذلك اتباعًا للسنة المطلقة، ولم نجد أحدًا يقصر بما دون الميل، ولكن هو على أصله، وليس هذا إجماعًا فإذا كان ظاهر النص يتناول ما دون ذلك. لم يضره أن يعرف أحدًا ذهب إليه كعادته في أمثاله.
وأيضًا فليس في قول ابن عمر أنه لا يقصر في أقل من ذلك. وأيضًا فقد ثبت عن ابن عمر أنه كان لا يقصر في يوم أو يومين، فإما أن تتعارض أقواله أو تحمل على اختلاف الأحوال، والكلام في مقامين:
المقام الأول: أن من سافر مثل سفر أهل مكة إلى عرفات يقصر، وأما إذا قيل: ليست محدودة بالمسافة، بل الاعتبار بما هو سفر، فمن سافر ما يسمى سفرًا، قصر، وإلا فلا.
وقد يركب الرجل فرسخًا يخرج به لكشف أمر وتكون المسافة أميالاً، ويرجع في ساعة أو ساعتين، ولا يسمى مسافرًا، وقد يكون غيره في مثل تلك المسافة مسافرًا بأن يسير على الإبل والأقدام سيرًا، لا يرجع فيه ذلك اليوم إلى مكانه، والدليل على ذلك من وجوه:
أحدها: أنه قد ثبت بالنقل الصحيح المتفق عليه بين علماء أهل الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حجة الوداع كان يقصر الصلاة بعرفة ومزدلفة، وفي أيام منى، وكذلك أبوبكر وعمر بعده، وكان يصلي خلفهم أهل مكة ولم يأمروهم بإتمام الصلاة، ولا نقل أحد لا بإسناد صحيح ولا ضعيف أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لأهل مكة لما صلى بالمسلمين ببطن عرنة الظهر ركعتين قصرًا وجمعًا ثم العصر ركعتين: ياأهل مكة أتموا صلاتكم. ولا أمرهم بتأخير صلاة العصر، ولا نقل أحد أن أحدًا من الحجيج لا أهل مكة ولا غيرهم صلى خلف النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خلاف ما صلى بجمهور المسلمين، أو نقل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أو عمر قال في هذا اليوم: ياأهل مكة أتموا صلاتكم، فإنا قوم سفر. فقد غلط وإنما نقل أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال هذا في جوف مكة لأهل مكة عام الفتح.
وقد ثبت أن عمر بن الخطاب قاله لأهل مكة لما صلى في جوف مكة، ومن المعلوم أنه لو كان أهل مكة قاموا فأتموا وصلوا أربعًا، وفعلوا ذلك بعرفة ومزدلفة وبمنى أيام منى لكان مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله بالضرورة، بل لو أخروا صلاة العصر ثم قاموا دون سائر الحجاج فصلوها قصرًا لنقل ذلك، فكيف إذا أتموا الظهر أربعًا من دون المسلمين.
وأيضًا فإنّهم إذا أخذوا في إتمام الظهر والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد شرع في العصر لكان إما أن ينتظرهم فيطيل القيام، وإما أن يفوتهم معه بعض العصر، بل أكثرها، فكيف إذا كانوا يتمّون الصلوات، وهذا حجة على كل أحد وهو على من يقول: إن أهل مكة جمعوا معه أظهر، وذلك أن العلماء تنازعوا في أهل مكة يقصرون ويجمعون بعرفة على ثلاثة أقوال:
فقيل لا يقصرون ولا يجمعون، وهذا هو المشهور عند أصحاب الشافعي وطائفة من أصحاب أحمد كالقاضي في "المجرد" وابن عقيل في "الفصول" لاعتقادهم أن ذلك معلق بالسفر الطويل وهذا قصير.
والثاني: أنّهم يجمعون ولا يقصرون. هذا مذهب أبي حنيفة وطائفة من أصحاب أحمد، ومن أصحاب الشافعي والمنقولات عن أحمد توافق هذا، فإنه أجاب في غير موضع بأنّهم لا يقصرون، ولم يقل: لا يجمعون. وهذا هو الذي رجّحه أبومحمد المقدسي في الجمع، وأحسن في ذلك.
والثالث: أنّهم يجمعون ويقصرون، وهذا مذهب مالك. وإسحاق بن راهويه، وهو قول طاووس وابن عيينة وغيرهما من السلف، وقول طائفة من أصحاب أحمد والشافعي كأبي الخطاب في "العبادات الخمس" وهو الذي رجّحه أبومحمد المقدسي وغيره من أصحاب أحمد، فإن أبا محمد وموافقيه رجّحوا الجمع للمكي بعرفة.
وأما القصر فقال أبومحمد: الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه، والمعلوم أن الإجماع لم ينعقد على خلافه. وهو اختيار طائفة من علماء أصحاب أحمد، كان بعضهم يقصر الصلاة في مسيرة بريد وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين السنة وتدبّرها، فإن من تأمّل الأحاديث في حجة الوداع وسياقها، علم علمًا يقينًا أن الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أهل مكة وغيرهم صلوا بصلاته قصرًا وجمعًا، ولم يفعلوا خلاف ذلك، ولم ينقل أحد قط عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال بعرفة ولا مزدلفة ولا منًى: ((يا أهل مكّة أتمّوا صلاتكم، فإنّا قوم سفر)). وإنما نقل أنه قال ذلك في نفس مكة كما رواه أهل السنن عنه. وقوله في ذلك في داخل مكة دون عرفة ومزدلفة ومنى، دليل على الفرق، وقد روي من جهة أهل العراق عن عمر أنه كان يقول بمنى: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر. وليس له إسناد.
وإذا ثبت ذلك فالجمع بين الصلاتين قد يقال إنه لأجل النسك، كما تقوله الحنفية وطائفة من أصحاب أحمد، وهو مقتضى نصه فإنه يمنع المكي من القصر بعرفة، ولم يمنعه من الجمع. وقال في جمع المسافر: إنه يجمع في الطويل كالقصر عنده، وإذا قيل: الجمع لأجل النسك، ففيه قولان:
أحدهما: لا يجمع إلا بعرفة ومزدلفة، كما تقوله الحنفية.
والثاني: أنه يجمع لغير ذلك من الأسباب المقتضية للجمع، وإن لم يكن سفرًا وهو مذهب الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد. وقد يقال: لأن ذلك سفر قصير، وهو يجوز الجمع في السفر القصير، كما قال هذا بعض الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي وأحمد، فإن الجمع لا يختص بالسفر، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يجمع في حجته إلا بعرفة ومزدلفة، ولم يجمع بمنى، ولا في ذهابه وإيابه، ولكن جمع قبل ذلك في غزوة تبوك، والصحيح أنه لم يجمع بعرفة لمجرد السفر، كما قصر للسفر بل لاشتغاله باتصال الوقوف عن النْزول، ولاشتغاله بالمسير إلى مزدلفة، وكان جمع عرفة لأجل العبادة، وجمع مزدلفة لأجل السير الذي جد فيه، وهو سيره إلى مزدلفة، وكذلك كان يصنع في سفره، كان إذا جدّ به السير أخّر الأولى إلى وقت الثانية، ثم ينْزل فيصليهما جميعا، كما فعل بمزدلفة، وليس في شريعته ما هو خارج عن القياس، بل الجمع الذي جمعه هناك يشرع أن يفعل نظيره، كما يقول الأكثرون. ولكن أبوحنيفة يقول: هو خارج عن القياس، وقد علم أن تخصيص العلة إذا لم تكن لفوات شرط، أو وجود مانع دل على فسادها، وليس فيما جاء من عند الله اختلاف ولا تناقض، بل حكم الشيء حكم مثله، والحكم إذا ثبت بعلة ثبت بنظيرها.
وأما القصر فلا ريب أنه من خصائص السفر، ولا تعلق له بالنسك، ولا مسوغ لقصر أهل مكة بعرفة وغيرها إلا أنّهم بسفر، وعرفة عن المسجد بريد، كما ذكره الذين مسحوا ذلك. وذكره الأزرقي في "أخبار مكة". فهذا قصر في سفر قدره بريد، وهم لما رجعوا إلى منى كانوا في الرجوع من السفر، وإنما كان غاية قصدهم بريدًا، وأي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين إلى قدر ذلك من بلادهم. والله لم يرخص في الصلاة ركعتين إلا لمسافر، فعلم أنّهم كانوا مسافرين، والمقيم إذا اقتدى بمسافر فإنه يصلي أربعًا. كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل مكة في مكة: ((أتمّوا صلاتكم فأنّا قوم سفر)). وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم من العلماء، ولكن في مذهب مالك نزاع.
الدليل الثاني: أنه قد نهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم أو زوج: تارةً يقدر وتارةً يطلق. وأقل ماروي في التقدير بريد، فدل ذلك على أن البريد يكون سفرًا، كما أن الثلاثة الأيام تكون سفرًا، واليومين تكون سفرًا: واليوم يكون سفرًا. هذه الأحاديث ليس لها مفهوم بل نهى عن هذا وهذا وهذا.
الدليل الثالث: أن السفر لم يحده الشارع، وليس له حد في اللغة، فرجع فيه إلى ما يعرفه الناس ويعتادونه، فما كان عندهم سفرًا فهو سفر. والمسافر يريد أن يذهب إلى مقصده ويعود إلى وطنه، وأقل ذلك مرحلة يذهب في نصفها، ويرجع في نصفها، وهذا هو البريد وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة على الشهادة، وكتاب القاضي إلى القاضي، والعدو على الخصم، والحضانة، وغير ذلك مما هو معروف في موضعه، وهو أحد القولين في مذهب أحمد. فلو كانت المسافة محدودة لكان حدها بالبريد أجود، لكن الصواب أن السفر ليس محددًا بمسافة بل يختلف، فيكون مسافرًا في مسافة بريد، وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا.
الدليل الرابع: أن المسافر رخص الله له أن يفطر في رمضان، وأقل الفطر يوم، ومسافة البريد يذهب إليها ويرجع في يوم، فيحتاج إلى الفطر فى شهر رمضان، ويحتاج أن يقصر الصلاة بخلاف ما دون ذلك، فإنه قد لا يحتاج فيه إلى قصر ولا فطر إذا سافر أول النهار ورجع قبل الزوال، وإذا كان غدوه يومًا، ورواحه يومًا، فإنه يحتاج إلى القصر والفطر، وهذا قد يقتضي أنه قد يرخص له أن يقصر ويفطر في بريد، وإن كان قد لا يرخص له في أكثر منه إذا لم يعد مسافرًا.
الدليل الخامس: أنه ليس تحديد من حدّ المسافة بثلاثة أيام بأولى ممن حدها بيومين، ولا اليومان بأولى من يوم، فوجب أن لا يكون لها حد بل كل ما يسمى سفرًا يشرع. وقد ثبت بالسنة القصر في مسافة بريد، فعلم أن في الأسفار ما قد يكون بريدًا، وأدنى ما يسمى سفرًا في كلام الشارع البريد، وأما ما دون البريد كالميل فقد ثبت في "الصحيحين" من حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه كان يأتي قباء كل سبت وكان يأتيه راكبًا وماشيًا، ولا ريب أن أهل قباء وغيرهم من أهل العوالي كانوا يأتون إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولم يقصروا الصلاة هو ولا هم.
وقد كانوا يأتون الجمعة من نحو ميل وفرسخ ولا يقصرون الصلاة، والجمعة على من سمع النداء، والنداء قد يسمع من فرسخ، وليس كل من وجبت عليه الجمعة أبيح له القصر، والعوالي بعضها من المدينة وإن كان اسم المدينة يتناول جميع المساكن كما قال تعالى: {وممّن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النّفاق} وقال: {ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أنْ يتخلّفوا عن رسول الله}.
وأما ما نقل عن ابن عمر، فينظر فيه هل هو ثابت أم لا؟ فإن ثبت فالرواية عنه مختلفة وقد خالفه غيره من الصحابة، ولعله أراد إذا قطعت من المسافة ميلاً ولاريب أن قباء من المدينة أكثر من ميل، وما كان ابن عمر ولا غيره يقصرون الصلاة إذا ذهبوا إلى قباء.
فقصر أهل مكة الصلاة بعرفة، وعدم قصر أهل المدينة الصلاة إلى قباء ونحوها مما حول المدينة دليل على الفرق. والله أعلم.
وقال رحمه الله تعالى في ص (131): وفي "صحيح مسلم" حدثنا ابن أبي شيبة وابن بشار كلاهما عن غندر، عن شعبة، عن يحيى بن يزيد الهنائي: سألت أنس بن مالك عن قصر الصّلاة؟ فقال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال، أو ثلاثة فراسخ -شعْبة الشّاكّ- صلّى ركعتين. و لم ير أنس أن يقطع من المسافة الطويلة هذا؟ لأن السائل سأله عن قصر الصلاة، وهو سؤال عما يقصر فيه ليس سؤالاً عن أول صلاة يقصرها، ثم إنه لم يقل أحد إن أول صلاة لا يقصرها إلا في ثلاثة أميال أو أكثر من ذلك، فليس في هذا جواب لو كان المراد ذلك، ولم يقل ذلك أحد، فدل على أن أنسًا أراد أنه من سافر هذه المسافة قصر، ثم ما أخبر به عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعل من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يبين هل كان ذلك الخروج هو السفر، أو كان ذلك هو الذي قطعه من السفر، فإن كان أراد به أن ذلك كان سفره فهو نص، وإن كان ذلك الذي قطعه من السفر فأنس بن مالك استدل بذلك على أنه يقصر إليه إذا كان هو السفر، يقول: إنه لا يقصر إلا في السفر، فلولا أن قطع هذه المسافة سفر لما قصر.
وهذا يوافق قول من يقول: لا يقصر حتى يقطع مسافة تكون سفرًا، لا يكفي مجرد قصده المسافة التي هي سفر، وهذا قول ابن حزم وداود وأصحابه. وابن حزم يحد مسافة القصر بميل، ولكن داود وأصحابه يقولون: لا يقصر إلا فى حج أو عمرة أو غزو. وابن حزم يقول: إنه يقصر في كل سفر. وابن حزم عنده أنه لا يفطر إلا في هذه المسافة، وأصحابه يقولون: إنه يفطر في كل سفر بخلاف القصر، لأن القصر ليس عندهم فيه نص عام عن الشارع، وإنما فيه فعله أنه قصر في السفر، ولم يجدوا أحدًا قصر فيما دون ميل، ووجدوا الميل منقولاً عن ابن عمر. وابن حزم يقول: السفر هو البروز من محلة الإقامة، لكن قد علم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج إلى البقيع لدفن الموتى، وخرج إلى الفضاء للغائط والناس معه فلم يقصروا، ولم يفطروا. فخرج هذا عن أن يكون سفرًا، و لم يجدوا أقل من ميل يسمى سفرًا، فإن ابن عمر قال: لو خرجت ميلاً لقصرت الصلاة. فلما ثبت أن هذه المسافة جعلها سفرًا، ولم نجد أعلى منها يسمى سفرًا جعلنا هذا هو الحد. قال: وما دون الميل من آخر بيوت قريته له حكم الحضر، فلا يقصر فيه ولا يفطر، وإذا بلغ الميل فحينئذ صار له سفر يقصر فيه الصلاة ويفطر فيه، فمن حينئذ يقصر ويفطر، وكذلك إذا رجع فكان على أقل من ميل فإنه يتم ليس في سفر يقصر فيه.
قلت: جعل هؤلاء السفر محدودًا في اللغة. قالوا: وأقل ما سمعنا أنه يسمى سفرًا هو الميل، وأولئك جعلوه محدودًا بالشرع، وكلا القولين ضعيف. أما الشارع فلم يحده. وكذلك أهل اللغة لم ينقل أحد عنهم أنّهم قالوا: الفرق بين ما يسمى سفرًا، وما لا يسمى سفرًا هو مسافة محدودة، بل نفس تحديد السفر بالمسافة باطل في الشرع واللغة، ثم لو كان محدودًا بمسافة ميل فإن أريد أن الميل يكون من حدود القرية المختصة به فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرج أكثر من ميل من محله في الحجاز ولا يقصر ولا يفطر، وإن أراد من المكان المجتمع الذي يشمله اسم مدينة ميلاً فقيل له: فلا حجة لك في خروجه إلى المقابر والغائط، لأن تلك لم تكن خارجًا عن آخر المدينة. ففي الجملة كان يخرج إلى العوالي وإلى أحد، كما كان يخرج إلى المقابر والغائط، وفي ذلك ما هو أبعد من ميل، وكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأصحابه يخرجون من المدينة إلى أكثر من ميل، ويأتون إليها أبعد من ميل، ولا يقصرون، كخروجهم إلى قباء، والعوالي وأحد، ودخولهم للجمعة وغيرهما من هذه الأماكن.
وكان كثير من مساكن المدينة عن مسجده أبعد من ميل، فإن حرم المدينة بريد في بريد، حتى كان الرجلان من أصحابه لبعد المكان يتناوبان الدخول يدخل هذا يومًا، وهذا يومًا، كما كان عمر بن الخطاب وصاحبه الأنصاري يدخل هذا يومًا وهذا يومًا. وقول ابن عمر: لو خرجت ميلاً قصرت الصلاة. هو كقوله: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر. وهذا إما أن يريد به ما يقطعه من المسافة التى يقصدها، فيكون قصده إني لا أوخر القصر إلى أن أقطع مسافةً طويلة. وهذا قول جماهير العلماء إلا من يقول: إذا سافر نهارًا لم يقصر إلى الليل.
وقد احتج العلماء على هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلى الظهر بالمدينة أربعًا، والعصر بذي الحليفة ركعتين. وقد يحمل حديث أنس بن مالك على هذا، لكن فعله يدل على المعنى الأول أو يكون مراد ابن عمر: من سافر قصر ولو كانت قصده هذه المسافة، إذا كان في صحراء بحيث يكون مسافرًا لا يكون متنقلاً بين المساكن، فإن هذا ليس بمسافر باتفاق الناس، وإذا قدر أن هذا مسافر، فلو قدر أنه مسافر أقل من الميل بعشرة أذرع فهو أيضًا مسافر، فالتحديد بالمسافة لا أصل له في شرع، ولا لغة، ولا عرف، ولا عقل، ولا يعرف عموم الناس مساحة الأرض، فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء لا يعرفونه، ولم يمسح أحد الأرض على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا قدّر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأرض بالأميال ولا فراسخ، والرجل قد يخرج من القرية إلى صحراء لحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا، وإن كانت المسافة أقل من ميل بخلاف من يذهب ويرجع من يومه، فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا، فإن الأول يأخذ الزاد والمزاد، بخلاف الثاني فالمسافة القريبة في المدة الطويلة تكون سفرًا، والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا.
فالسفر يكون بالعمل الذى سمي سفرًا لأجله، والعمل لا يكون إلا في زمان، فإذا طال العمل وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر من الزاد والمزاد سمي مسافرًا، وإن لم تكن المسافة بعيدة، وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد، لم يسم سفرًا، وإن بعدت المسافة فالأصل هو العمل الذى يسمى سفرًا، ولا يكون العمل إلا في زمان فيعتبر العمل الذي هو سفر، ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن، وهذا مما يعرفه الناس بعاداتهم، ليس له حد في الشرع، ولا اللغة، بل ماسمّوه سفرًا فهو سفر.
مسألة:
لا يثبت حديث في الجمع في المطر، وقد جاء حديث مرسل، والمرسل من قسم الضعيف. وأما حديث ابن عباس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جمع في المدينة من غير خوف ولا مطر. فليس بصريح في الجمع في المطر.
وقد شرع لنا أن نصلي في رحالنا في المطر كما في حديث ابن عباس وابن عمر وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن يقول المؤذن في الأذان بدل حي على الصلاة حي على الصلاة: صلوا في رحالكم، صلوا في رحالكم. وفي حديث ابن عمر أنّها تقال بعد الأذان، وحديث ابن عباس متفق عليه، وحديث ابن عمر متفق عليه.
وبهذا ينتهي ما يسر الله جمعه، فله الحمد والمنة. ونسأله المزيد من فضله، إنه جواد كريم.
الخاتمة
مسألة الجمع بين الصلاتين في السفر من المسائل الفقهية التى يحتاج إليها كل مسلم، وبحمد الله قد حرصت على جمع الأدلة وذكر أقوال أهل العلم رحمهم الله، وأضفت إليها فوائد يحتاج إليها المسافر، وبحمد الله قد راجعت كثيرًا من كتب الحديث، ومن كتب الفقهاء رحمهم الله، ومن الكذب المفضوح والبهتان الواضح قول بعض الجاهلين: إنني أحرّم قراءة كتاب
"المغني" لابن قدامة وكتاب "المجموع" للنووي.
فنحن نقول لكم أيها الجاهلون الحاقدون الحاسدون: نحن نستفيد من كتب علمائنا المحدثين، والمفسرين، والفقهاء، غير مقلدين، وقل أن تعرض مسألة إلا وأنا أرجع إلى "المغني" و"المجموع" لأنظر ماذا قال العلماء رحمهم الله، ولكن إذا رأيت في المسألة آية قرانية أو حديثًا نبويًا أستغني بهما عن قول فلان وفلان، وإذا لم أجد فلست ملزمًا بنقل أقوال الفقهاء رحمهم الله، ولكننا نستعين بالله ثم بأفهامهم على فهم بعض الأدلة، غير مقلدين لهم، لأننا نعتقد أن التقليد حرام. قال الله سبحانه وتعالى: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون} .
وهذه المسألة من تلكم المسائل قد رجعت بحمد الله إلى "المغني" وإلى
"المجموع" ولكني رأيت في الأدلة وفي "زاد المعاد" و"فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية" ما يغني والحمد لله.(/)
المقترح في علم المصطلح
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.. أما بعد:
فإني أحمد الله الذي وفقني لإخراج كتاب "المقترح" فقد نفع الله به، وتنافس أهل المكاتب في طبعه فطبع مرات بدون إذن منا، ولما نفدت طبعاته الأول طلب مني الأخ الفاضل/ سعيد بن عمر حبيشان أن يعيد طبعه، فأعدت النظر فيه، وأضفت بعض أسئلة إخواننا أهل لودر لأنّها مماثلة لموضوع الكتاب.
وإنني أحمد الله الذي وفقني للسهولة والتيسير، والمصطلح يحتاج إليه كل طالب علم لكن ينبغي أن يكون وسيلةً من الوسائل، أما الأصل فهو الكتاب والسنة لذا تركت الإجابة عن بعض الأسئلة، فإني أنصح كل طالب أن يهتم بعلم الكتاب والسنة ويأخذ من الوسائل ما يحتاج إليه فلا يشغل بالوسيلة عن حفظ القرآن وعن معرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومعرفة صحيحها من سقيمها ومعلولها من سليمها، وبسبب هذا -من فضل الله- استفاد طلبة العلم بدار الحديث بدماج، والفضل في هذا لله، فهو الذي وفّقنا وله الحمد والمنة، ونسأل الله أن يتممها بخير وأن يعيذنا من شر أنفسنا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أبوعبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي
المقدمة
الحمد لله وحده، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإنّ كثيرًا ما يسأل إخواننا الراغبون في علم السنة كيف الطريق إلى الإستفادة من كتب السنة؟ ترد إلينا هذه الأسئلة من اليمن، ومن أكثر البلاد الإسلامية. وكنت أجيب على هذا في أشرطة، فلما رأيت الأسئلة تتكرر؛ رأيت أن ينشر هذا، فإن الكتاب يبقى.
وأضفت إلى هذا أسئلة أخينا في الله أبي الحسن المصري لنفاستها وفائدتها، وما اشتملت عليه الأسئلة من الفوائد.
أرجو أن ينفع الله بالجميع، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حول العلم وفوائد في علم الحديث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الموضوع الذي تم اختياره هو موضوع العلم. والعلم يعتبر علاجًا لجميع أمراضنا، ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمره ربه أن يطلب الزيادة من العلم، فقال سبحانه وتعالى: {وقل ربّ زدني علمًا} ورب العزة يبين حالة العالم وحالة الجاهل، فقال: {أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى إنّما يتذكّر أولو الألباب}.
ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول فيما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث معاوية رضي الله عنه: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)).
ورب العزة يعلّل كثيرًا من مخلوقاته، فيقول في آية من كتابه: {إنّ في ذلك لآيات للعالمين}. وقال تعالى: {وما يعقلها إلاّ العالمون}.
ورب العزة يفضّل الكلب المعلم على غير الكلب المعلم، فيحلّ صيد الكلب المعلم مع ذكر اسم الله تعالى، فيقول سبحانه وتعالى: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم الله}.
بل يخبرنا الله سبحانه وتعالى أن الهدهد صال بحجته على سليمان فقال: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين}.
ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرغّب أمته في العلم، ويرغّب أمته في أشرف العلوم، ألا وهو حفظ كتاب الله، فإن أفضل العلوم هو القرآن الكريم، بخلاف ما يقول أهل علم الكلام. أهل علم الكلام يقولون: إن أفضل العلوم هو علم الكلام لأنه يتكلم عن الله وصفاته. وهذا جهل منهم بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: (حكمي على أهل علم الكلام، أن يدار بهم في الأسواق ويضربوا بالسياط, ويقال: هذا جزاء من استبدل بكتاب الله أو من أعرض عن كتاب الله).
فأفضل العلوم هو تعلم كتاب الله وتعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم {يرفع الله الّذين ءامنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات}، {إنّما يخشى الله من عباده العلماء}.
والعلم أفضله هو حفظ القرآن الكريم, فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول -كما في "صحيح البخاري" من حديث عثمان رضي الله عنه: ((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه))، ويقول كما في "صحيح مسلم" من حديث عمر رضي الله عنه: ((إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين )).
وكان علماؤنا المتقدمون رحمهم الله تعالى, منهم من يتخصص للقرآن, ومنهم من يتخصص لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ومنهم من يتخصص في اللغة العربية. وفي الغالب أن المتخصص منهم يكون ملمًا ببقية العلوم, لكن قد وجد من القراء كحفص بن سليمان إمام في القراءة -وهو أحد القراء السبعة- لكنه متروك في الحديث, ووجد أيضًا من هو إمام في الحديث, وربما يلحن في الأمور السهلة، وذلكم كعثمان بن أبي شيبة أخي أبي بكر بن أبي شيبة وأخي القاسم أيضًا، فإنه كان إمامًا في الحديث, لكنه يصحّف في القرآن, وإن كان الحافظ ابن كثير ينكر هذا في كتابه "مختصر علوم الحديث".
ومن علمائنا المتقدمين من كان يتخصص في اللغة العربية، بل العربية تنقسم إلى أقسام، فمنهم من يتخصص في النحو، ومنهم من يتخصص في الصرف إلى غير ذلك، ومنهم من يجمع بين هذا وذاك, فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى كان إمامًا في اللغة، وربما احتجّ بعربيته, وكان إمامًا في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إنه لقّب بناصر السنة، وكتاباه "مختلف الحديث" و"الرسالة" ينبئان بأنه يستحق أن يلقب بناصر السنة, لأنه رد على أصحاب الرأي، ورد أيضًا على المعتزلة، وعلى من يطعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والعلم منْزلته رفيعة، من أجل هذا, فقّل أن تجد مؤلّفًا إلا وقد عقد كتابًا في العلم, ففي "البخاري" (كتاب العلم), وفي "صحيح مسلم" (كتاب العلم)، وفي "الترمذي" )كتاب العلم)، بل من أهل العلم من أفرد العلم بالتأليف كالحافظ ابن عبدالبر يوسف بن عبدالله، فإنه ألف كتابًا قيّمًا يساوي الدنيا، اسمه "جامع بيان العلم وفضله" فذكر فيه فضل العلماء، وذكر فضل العلم, وذكر التقليد, وأن التقليد ليس بعلم.
يقول بعضهم: أجمع العلماء على أن المقلد لا ينبغي أن يعدّ من أهل العلم, ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون}.
فذلك الكتاب القيم بدأه بفرض العلم، ثم أتى بحديث: ((طلب العلم فريضة على كلّ مسلم )) وأشار إلى تضعيفه رحمه الله تعالى، لكن الإمام السيوطي رحمه الله تعالى يقول: إنه وجد له قدر خمسين طريقًا، ومن ثمّ حكم بصحته.
وما هو العلم الذي يعد فريضة؟.
العلم الذي أوجبه الله عليك هو الذي يعد فريضة. فالعقيدة (التوحيد) واجب على كل مسلم أن يتعلمها، كما جاءت في الكتاب والسنة. ويحرم الجهل بالعقيدة سواء أكانت في أسماء الله أو صفاته، ويجب الإيمان بالعقيدة في أسماء الله وصفاته، كما وردت في كتاب الله، وكما وردت في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتلكم الجارية التي هي راعية غنم كما في حديث معاوية بن الحكم السّلمى رضي الله عنه: أنه أتى بجارية ليعتقها. فقال: يا رسول الله إني أريد أن أعتقها. فقال لها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا جارية أين الله؟)) قالت: في السماء. قال: ((أعتقها فإنّها مؤمنة)).
يجب على كل مسلم أن يؤمن أن الله في السماء، وأن الله سبحانه وتعالى بعلمه مع كل أحد، وبحفظه وكلاءته ونصره مع المؤمنين يجب أن نؤمن بهذا: {ءأمنتم من في السّماء أن يخسف بكم الأرض}، {الرّحمن على العرش استوى}.
وهناك كتاب قيم في هذا الموضوع أنصح إخواني في الله بقراءته, ذلك الكتاب القيم هو "العلو للعلي الغفار" للحافط الذهبي رحمه الله تعالى، وقد اختصره الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى, فمن كان من طلبة العلم المحققين فينبغي أن يقتني الأصل, ومن كان لا يستطيع التحقيق فيقتني اختصار الشيخ، وإن جمع بين الكتابين فحسن، فإن أحدهما لا يغني عن الآخر.
والعلم قيض الله له علماء حفظوا لنا هذا الدين، حفظوا كتاب الله، وتلقاه الآخر عن الأول، وحفظوا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونفوا عنها الكذب والأباطيل، نفوا ووقفوا في وجوه الكذّابين، ونخلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نخلاً، لأنّهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.
يقول الإمام الشافعي: (من روى عن البياضي بيّض الله عيونه). يدعو على من روى عن البياضي لأن البياضي مجروح. ويقول: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (الرواية عن حرام بن عثمان حرام). فهذا قول الإمام الشافعي في هذين المحدثين.
ولقد كان العلماء رحمهم الله تعالى ينخلون السنة نخلاً، حتى إنه قدّم زنديق لتضرب عنقه في عصر الرشيد فقال: كيف تقتلونني وقد وضعت في دينكم أربعة آلاف حديث أحرّم فيها الحلال وأحلّ فيها الحرام. فقال له الرشيد: يا خبيث، إن أبا إسحاق الفزاري وعبدالله ابن المبارك سينخلانها نخلاً.
وكانت لديهم غيرة على سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إن يحيى بن معين رحمه الله تعالى عند أن حدّث سويد بن سعيد: ((من عشق فعفّ فمات مات شهيدًا)). قال يحيى بن معين: لو أنّ لي فرسًا ورمحًا لغزوت سويدًا، لأنه تجرأ في رواية الأحاديث الضعيفة.
ورئي شعبة بن الحجاج رحمه الله تعالى ذات يوم متقنعًا في نصف النهار، فقيل له: إلى أين يا أبا بسطام؟ قال: أريد أن أعتدي على جعفر بن الزبير, فإنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن لم يكن من المحدثين فلا بد أن يتخبط في عبادته، وفي وعظه، وفي معاملته، وفي جميع شئونه. لأنّه لا يؤمن أن يحدث بحديث ضعيف. وأنا آتيكم بمثال أو بأمثلة:
من الأمثلة على هذا حديث قد شاع وذاع: ((حبّ الوطن من الإيمان)) هذا الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن الأمثلة على هذا أيضًا حديث: ((اختلاف أمّتي رحمة)) حديث لا يوجد له سند، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن الأمثلة على هذا أيضًا حديث: ((الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني))، هذا حديث معناه صحيح. لكنه بهذا اللفظ ضعيف، لأنه من طريق أبي بكر بن أبي مريم، وقد اختلط بسبب حليّ سرقت عليه.
ومن الأمثلة: قصة يحدّث بها في الحرمين ويحدّث بها في الإذاعات، قصة ثعلبة، التي فيها أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يسأل الله أن يرزقه مالاً، وأنه قيل له: ((يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه))، وذكرت في "الجلالين"، وقلّ أن تجد تفسيرًا إلاّ وقد ذكرت فيه.
هذه القصة استفدنا تضعيفها في أول الأمر من أبي محمد بن حزم رحمه الله تعالى، قال: إن في سندها معان بن رفاعة، وعلي بن يزيد الألهاني، والقاسم بن عبدالرحمن، وثلاثتهم ضعفاء. ثم روجع "مجمع الزوائد" فإذا هو يقول: في سندها علي بن يزيد الألهاني وهو متروك. ثم روجع "تخريج الكشاف" للحافظ ابن حجر فإذا هو يقول: في سندها علي بن يزيد الألهاني وهو واه، ثم روجع "تخريج الإحياء" فإذا الحافظ العراقي يقول: إن في سندها ضعفًا. وناهيك بالسيوطي تساهلاً فإنه ذكرها في "لباب النقول من أسباب النّزول".
هذه القصة كان بعض علماء الحرم يحدث بها فقيل له: يا شيخ إنّها ضعيفة. قال: نريد أن نرقّق بها قلوب العامة.
يا سبحان الله!! أما في كتاب الله، ولا في صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يرقق قلوب العامّة!! {فبأيّ حديث بعد الله وءاياته يؤمنون}.
ومن الأمثلة على هذا حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) وما أكثر ما قد حدثْنا بهذا الحديث! يقول الحافظ ابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم": إنه من طريق نعيم بن حماد، وهو ضعيف. هذه علة.
والعلة الثانية: أنه اختلف على نعيم في شيخه. والعلة الثالثة: أنه لا يدرى أسمع عقبة بن أوس من عبدالله بن عمرو أم لم يسمع؟
ومن الأمثلة على هذا: ((من تعلّم لغة قوم أمن مكرهم)) هذا الحديث بحث عنه الباحثون فلم يجدوا له أصلاً، وإن كان معناه صحيحًا، لكن لا يجوز لنا أن نضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا ما ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن الأمثلة على هذا: أنكم تجدون بعض الأئمة عند تسوية الصفوف يقول: ((استووا فإنّ الله لا ينظر إلى الصّفّ الأعوج))، وهذا لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويكفي أن تقول: استووا، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم)).
من الأمثلة على هذا -أي على الأحاديث الموضوعة- أنّهم رووا حديثًا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((من قال حين يسمع المؤذّن يقول: أشهد أنّ محمدًا رسول الله، ثمّ ينفث في ظفري إبْهاميه ويمسح بهما عينيه ثمّ يقول: مرحبًا بحبيبي وقرّة عيني. قال: فمن قالها فإنّه لا يرمد)) الحديث ذكره الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة".
ومن الأمثلة على هذا حديث: ((أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن يرد المدينة فليأت الباب)). فيه عبدالسلام بن صالح أبوالصلت الهروي وهو متروك.
والصحيح كاف. يكفي ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويكفي كتاب الله، فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار)). هذا مرويّ عن علي بن أبي طالب، وعن المغيرة بن شعبة، وعن الزبير بن العوام وعن قدر ستين صحابيًا.
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من حدّث عنّي حديثًا وهو يرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين )).
قد يقول قائل: إن من أهل العلم من أجاز أن يحدث بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال!
نعم، أجازه عبدالرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، والإمام البيهقي، وجمع من العلماء لكنهم يعنون الحسن، بدليل أنّهم مثلوا بمحمد بن عمرو بن علقمة وأمثاله, وجعلوا حديثه ضعيفًا، والمتأخرون يحسنون حديثه. فهم يريدون الحسن.
ومن أجاز التحديث بالحديث الضعيف, فإنما يجيزه بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن لا يشتد ضعفه.
الشرط الثاني: أن يكون مندرجًا تحت أصل من الأصول.
الشرط الثالث: أن لا يشتهر العمل به، وأن لا يعتقد ثبوته.
أما الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى فإنه يقول في كتابه "الفوائد المجموعة": وهو شرع ومن ادعى التفصيل فعليه البرهان.
قد يقول قائل أو يظن ظانّ أن المشتغل بتصحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشغله عن الدعوة، لا، بل يقويك على الدعوة، وتصبح حاكمًا، تستطيع أن تحكم على الخطيب، وعلى الصحفي، وعلى المؤلف, فكم من حديث ضعيف يختلف الناس فيه، وهو حديث ضعيف. منهم من يقول به، ومنهم من لا يقول به.
ومن الأمثلة على هذا: حديث أن جماعةً من الصحابة ضحكوا في الصلاة، ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يعيدوا الصلاة، وأن يعيدوا الوضوء.
هذا حديث من طريق أبي العالية الرياحي، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حديث أبي العالية رياح. يعني لا يثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن الأمثلة على هذا أي على الأحاديث الضعيفة والموضوعة: ما جاء في "فيض القدير" وفي "المجموع" المنسوب لزيد بن علي: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته، وهو في الصلاة، فقال: ((لو خشع قلب هذا لسكنتْ جوارحه)). هذا الحديث يحدث به كثير من الناس، مع أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن الأمثلة على هذا: ((صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحتْ أمّتي وإذا فسدا فسدتْ أمّتي: العلماء والأمراء)). الحديث معناه صحيح، لكن لا يجوز لك أن تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, لأنّه ما كلّ ما يصحّ معناه يجوز لك أن تضيفه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالأحاديث الضعيفة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" سبب من أسباب الفرقة، تجد الرجل قد استدل بحديث، فيأتي آخر ويضعفه، وليس معنى هذا أنه لا سبيل إلى أن تعرف الحقيقة.
ومن أهل الخير، ومن الناس الطيبين من يحب علم الحديث، ويحب أهل الحديث, لكنه يرى أن الأئمة قد اختلفوا في التجريح والتعديل، واختلفوا في التصحيح والتضعيف، فيظن أنه لا سبيل إلى ذلك، لأن الأئمة رضوان الله عليهم وضعوا قواعد، فأنت إذا قال لك رجل: فلان ثقة. وقال لك آخر: أنا سمعته يعكف على آلات اللهو والطرب أو رأيته على آلات اللهو والطرب. فبأي القولين تأخذ؟ ويقول لك رجل: فلان ثقة يصلي معنا، وحسن المعاملة. وآخر يقول: أنا رأيته عاكفًا على آلات اللهو والطرب. فبأي القولين تأخذ؟ الجرح المفسّر مقدّم على التعديل، والجارح اطلع على مالم يطلع عليه المعدل.
والعلماء يتفاوتون في هذا المضمار من أجل هذا يحصل الاختلاف. وقد ذكر ابن أبي حاتم في كتابه "مناقب الشافعي" والبيهقي أيضًا في كتابه "مناقب الشافعي" أنه اختلف الشافعي ومحمد ابن الحسن أي العالمين أعلم، مالك أم أبوحنيفة؟ وكان الشافعي يحب مالكًا، والشافعي تلميذ مالك. ومحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة. فقال الإمام الشافعي لمحمد بن الحسن: أنشدك الله، أصاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم -يعني مالكًا-. قال: أنشدك الله، أصاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم -يعني مالكًا-. قال: فلم يبق إلا القياس فالذي ليس لديه أصول فعلى أي شيء يقيس. هذه القصة ذكرها ابن أبي حاتم والبيهقي بسند صحيح.
شاهدنا من هذا أن العلماء يتفاوتون فمنهم إمام في الفقه، وهو ضعيف في الحديث، ومنهم إمام في الحديث، لا يستطيع أن يستنبط أحكامًا كما يستطيع أن يستنبطها الفقيه.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) ويقول: ((ربّ مبلّغ أوعى من سامع)).
وعلم الحديث الذي زهد فيه كثير من الناس، وأصبحوا يزهّدون فيه, إن لم يكن الفقيه محدثًا فلا بد أن يتخبط، كما ذكره الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه "نيل الأوطار".
وهكذا أيضًا لأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيرة ولا بد من النظر فيها، فماذا يفعل علماؤنا رحمهم الله تعالى؟ العلماء رحمهم الله تعالى إذا أرادوا أن يستدلوا بحديث؟ فإن كان في"الصحيحين" فقد أجمع أهل الحق على تلقي ما في "الصحيحين" بالقبول إلا أحاديث يسيرة انتقدها الحفاظ كالدارقطني وغيره. وإن كان في غير "الصحيحين" فإما أن يصححه حافظ من الحفاظ، كالحافظ ابن حجر والحافظ العراقي وغيرهما من العلماء الذين تصدوا للتصحيح والتضعيف، وإما أن تبحث أنت عن سنده لابد من هذا وإلا فلا يحل لك أن تستدل، لأن العلماء رحمهم الله تعالى مثل أبي داود رحمه الله تعالى يقول في "سننه": ذكرت الصحيح وما يقاربه وما يشابهه، وما كان فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح.
وهكذا الترمذي ذكر الأحاديث الصحيحة، ورب حديث يذكره الترمذي ويقول: إنه ضعيف، ويقول: إنه منقطع، ويقول: إنه غريب. والغالب على ما قال فيه الترمذي: (غريب) فقط الضعف.
إذًا فسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجب على المدرس وعلى الواعظ أن يتعلمها وما أكثر التخبطات في كلام كثير من الواعظين، وذلكم من زمن قديم حتى إن من العلماء من ألّف كتابًا بعنوان "القصّاص" وآخر يؤلف كتابًا بعنوان "تحذير الخواص من أحاديث القصاص"، وكثير من الواعظين يعظون الناس بأحاديث ضعيفة وموضوعة، خصوصًا الأحاديث التي يتلقاها بعضهم من بعض. فأنصح إخواني في الله من أراد أن يعظ فليقتن "رياض الصالحين" وليقتن "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان" وليقتن الكتب التي قد خدمت.
أما أن تقرأ في "تنبيه الغافلين" لأبي الليث السمرقندي، أو تقرأ في "نزهة المجالس" أو تقرأ في "بدائع الزهوروكثير من الكتّاب العصريين يكتفون بقولهم: رواه الترمذي، رواه ابن ماجه، رواه أبوداود، رواه الطبراني. وهذا لا يكفى لأن هؤلاء لم يشترطوا الصحة, بل لابد أن يقول رواه الطبراني وهو حديث صحيح أو حسن أو ضعيف إلى غير ذلك.
لا يكفى أن يعزو الحديث، ثم بعد ذلك أنت تقرأ وتظن أنه قد طبع في المطابع ولو لم يكن صحيحًا لما طبع في المطابع، لا، فكتب السحر والدجل والشعوذة طبعت في المطابع، فإن المطابع الآن أصبحت آلة ارتزاق، يهمهم أن يطبعوا الكتاب الذي ينفق لهم في الأسواق.
فلا بد أن تسأل العلماء، وأن ترحل إلى العلماء، كما كان العلماء السابقون يرحلون. فربما رحلوا من أجل حديث واحد، ونحن الآن معشر المسلمين يتغرب أحدنا عشر سنين، أو خمس سنين، أو سنتين من أجل الدنيا، أولئكم كانوا يتغربون، وكانوا يرحلون من أجل العلم, لعلمهم أنه لا قوام للأمة الإسلامية إلا بالعلم, لاسيما وبلدنا معشر اليمنيين فقيرة من العلم نحن محتاجون إلى شباب يدرسون كتاب الله ويحفظون كتاب الله، وإلى شباب يحفظون سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والأمر سهل جدًا لو تغرب طالب العلم مدة يسيرة استطاع أن يحفظ القرآن ومدةً يسيرة يستطيع أن يعرف كيف يستفيد من الكتب العلمية يستطيع أن يستفيد في مدة يسيرة. يسر الله ذلك إنه على كل شيء قدير.
أسئلة في المصطلح من أبي الحسن حفظه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد:
فهذه عدة أسئلة نطرحها على شيخنا أبي عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى، بحضور إخواننا طلبة العلم. ونسأل الله أن ينفعنا وأياهم، وأن يعلّمنا ما جهلنا.
السؤال1 في كتب المصطلح ذكروا: أن الرجل المشهور بالطلب ولم يثبتْ فيه جرح ولا تعديل، نص بعضهم مثل المزي، والذهبي، وابن القطان، وابن حجر، وغيرهم على قبول روايته، حتى يثبت جرح فيه، وأن أمره محمول على العدالة، وكان هذا منهم مصيّرًا على مذهب ابن عبدالبر، في الحديث الذي ذكروه، واعترضه ابن الصلاح. بعضهم قال: إن هذا متعين في زمننا، وهذا الذي عليه العمل. فنريد أن نعرف: أن الرجل إذا لم يثبت فيه جرح ولا تعديل لكنه معروف عند أهل العلم، هل حديثه محمول على الاحتجاج به؟ أم ماذا؟
الجواب: الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فالسؤال عن الرجل المحدّث المشهور بالطّلب، ولم يذكر فيه جرح ولا تعديل، ذكر صاحب "فتح المغيث" أن الرجل إذا كان مشهورًا بالطلب، ولم يأت فيه جرح ولا تعديل أنّهم يقبلونه، وهكذا الإمام الذهبي رحمه الله تعالى، لكن صاحب "فتح المغيث" مثّل بالإمام مالك رحمه الله تعالى، فالإمام مالك مشهور بالطلب وقد وثّق فإذا حصل من هذا النوع وكان مشهورًا بالطلب وتتلمذ له معاصروه مثل: يحيى بن سعيد القطان، أو يحيى بن معين، أو الأئمة من أمثالهما فيقبل، وإن لم يأت فيه جرح ولا تعديل، لأنه لو كان ضعيفًا لضعّف، والأصل في المسلمين هو العدالة، ولكنه يضاف إلى العدالة الحفظ -لا بد من معرفة الحفظ- إلا أنه لو كان مخلّطًا لصاحوا به، فهذا مستقيم إن شاء الله تعالى، ولا يقدح فيه أنّهم يشترطون العدالة ويشترطون الضبط، لو لم يكن عدلاً لما تتلمذ له، لا أقول: إنه لو لم يكن عدلاً لما تتلمذ له مثل يحيى وغيره، فإنّهم قد تتلمذوا للعدل ولغيره، فقد قال بعضهم: إننا نسمع الحديث للفائدة ونسمعه للنظر في حال صاحبه، لكن أقول: لو كان مخلطًا أو كان ليس بثقة لصاح به مثل يحيى بن معين، ومثل يحيى بن سعيد القطان، وهكذا الإمام أحمد والبخاري، والله أعلم.
السؤال2 استطراد: بارك الله فيك، المسألة على طرف آخر، فإن ابن الصلاح وغيره من الأئمة الذين تكلموا في المصطلح ذكروا: أن العدالة تثبت إما بالشهرة مثل الذين ذكرتهم -يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل وغيرهم- وإما بالتنصيص على ذلك من واحد من العدول، لكن مسألتنا في جانب آخر: رجل لم يكن مشهورًا عند أئمة الجرح بالتوثيق، لأن مثل الإمام مالك رحمه الله تعالى أمره مستفيض وأمره مشهور بالعدالة، فشهرة هؤلاء أقوى من أن يعدلهم أحد الناس لكن مسألتنا مثل ما قالوا هنا في غير هؤلاء المشاهير، رجل قالوا: إنه (معروف). أو على سبيل المثال قالوا: إنه (حافظ) أو (ضابط).
الجواب: هذا أمر آخر: قالوا (معروف) لا تكفي، (حافظ) أو (ضابط) أو كذا يقبل منهم لأنه مثل أئمة الجرح والتعديل إذا أطلقوا مثل هذه العبارات على المحدث، فلو كان به جرح لصاحوا به مثل: أبي حاتم الرازي، ومثل أبي زرعة، ومن تقدّم ذكرهم، لو سمعوا عنه ووجدوه مجروحًا، لا يتركونه. فتتلمذهم له، وشهرته، ولا بد أن يكون مشهورًا بالطلب، وتتلمذ له أئمة من أئمة الجرح والتعديل، فلو كان ضعيفًا لصاحوا به.
السؤال3 هل الحديث الذي تلقاه الناس بالقبول يحكم بصحته وإن لم يصح سنده، كما ذكر صاحب "التدريب" عن البخاري رحمه الله تعالى بحديث ((هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته)) قال: لا أعلم له إسنادًا يصح غير أن الناس تلقوه بالقبول؟
الجواب: لا بد من النظر في أسانيده، وقد ذكر هذا الصنعاني في كتابه "توضيح الأفكار" وقد قال ابن عبدالبر في بعض الأحاديث مثل حديث: ((لايمسّ القرآن إلاّ طاهر)) قال: إن الأمة تلقته بالقبول، وادعى بعضهم في حديث: ((اختلاف أمّتي رحمة)) أن الأمة تلقته بالقبول، وهذا ليس بصحيح، لا ذا ولا ذاك، وأما حديث: (( هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته)) في ماء البحر فهو وإن لم يصح له سند بمفرده فهو بمجموع طرقه صالح للحجية، وإلا فلا بد من النظر في سنده، وما أكثر الأحاديث التي اشتهرت عند المحدثين، ومع هذا فهم ينظرون إلى أسانيدها، وما أكثر الأحاديث التي يسأل بعضهم بعضًا عن أسانيدها، فلا بد من النظر في السند والنظر في المتن، لا يكون المتن شاذًا ولا يكون معلاً، إلى غير ذلك، ذكر هذا الصنعاني في كتابه "توضيح الأفكار" ثم رب حديث يكون قد تلقاه طائفة من الناس بالقبول مثل حديث: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أرسل معاذًا إلى اليمن قال: ((بم تقضي فيهم)) قال: بكتاب الله تعالى. قال: ((فإن لم تجد))؟ قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال: ((فإن لم تجد))؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
يقولون: إن الفقهاء تلقوه بالقبول، أبومحمد بن حزم رحمه الله يقول: إنه نفق عليهم الحديث وتناقلوه من كتاب إلى كتاب، حتى ظنوه أنه متلقى بالقبول، مع أنه يدور على الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة، وهو مجهول العين. وقد قال البخاري: إن حديثه لايصح. وله طرق أخرى ذكرها الشيخ ناصر الدين الألباني حفطه الله تعالى، ذكره في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" وبيّن طرقه، وما فيها من الضعف.
السؤال4 في تعارض الجرح والتعديل ذكر الجمهور أن الجرح مقدم، لأن الجارح لا يكذب المعدلين، ولكن يوافقهم ويقول: اطلعت على ما لم تطلعوا عليه. والحافظ ابن حجر له في ذلك مذهب كما تعلمون: أن الرجل إذا ثبتت له مرتبة سنيّة فلا يزحزح عنها إلا بأمر جلي. وأنا ليس سؤالي في الجرح أو التعديل ولكن سؤالي فيما إذا تعارضت مرتبة، كأن يقول في رجل: ثقة، وآخر يقول فيه: صالح الحديث، أو حسن الحديث، أو شيخ، وأحد العلماء يجعله في مرتبة الاحتجاج، وآخر يجعله في مرتبة الاستشهاد، واللذان تعارض كلامهما من أئمة الشأن ليس لأحد منهم فضل على الآخر حتى أرجّح كلامه على الآخر، فلا أدري: هل أبقيه على مرتبة الثقة ولا أنزله إلى مرتبة الاستشهاد؟ أم ماذا؟
الجواب: مثل هذا الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" يأخذ مرتبة وسطى، ويجعله صدوقًا، وهذا حسن، والمسألة اجتهادية.
السؤال5 رجل وصف بأنه (عابد) أو (مقلّ)، ليس في وصفه إلا هكذا، فهل يعتبر بحديثه، ويستشهد به؟
الجواب: يستشهد به، ولا يحتج به، لأن العبادة تحتاج إلى حفظ، فما أكثر المحدثين العابدين الذين ضعّفوا مثل: أبان بن أبي عياش، وعبدالله بن عمر العمري، وجمع كثير من العباد الذين ضعّفوا، حتى قال يحيى بن سعيد رحمه الله تعالى: لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث. أو بهذا المعنى، يقول مسلم: بمعنى أن الكذب يجري على ألسنتهم ولا يتعمدونه. فهذه العبارة لفظة (عابد) أو ما يجري مجراها لا تدل على أنه يقبل الحديث، لأنه يشترط في الحديث أمر آخر وهو: الضبط. والله المستعان.
السؤال6 لو أن أحدنا مثلاً قال: إنه معروف من الصالحين أنّهم مغفلون في الحديث ويفحشون في الخطأ، وقال: إن الذي يوصف بعابد لا أستشهد بحديثه، فكم جرب على عابد أنه لا يحتج بحديثه ولا يستشهد به، ونزله منْزلة المردود، نعم هو عابد في دينه، أما من حيث حفظه فإنه ليس بشيء، لو أن أحد الناس قال: الذي يوصف بعابد لا يحتج به، ولا يستشهد به، بم نجيب عليه؟
الجواب: كم روى عنه؟ نرجع إلى القاعدة: إذا روى عنه اثنان فأكثر، ولم يوثقه معتبر ولم يجرح، يصلح في الشواهد والمتابعات.
السؤال7 ذكرتنا بكم الرواة عنه قالوا: إن الراوي عنه يكون عدلاً، لو أنّ -مثلاً- رجلاً شيخًا، في ترجمته أنه شيخ من مراتب الاستشهاد وليس من مراتب الاحتجاج، وكان من الرواة عنه أناس هم من مراتب الاستشهاد، هل يرفعون جهالته؟
الجواب: الظاهر أن جهالته ترتفع، إلا إذا كان الراوي عنه كذابًا، فربما أن الكذاب يروي عمن لم يوجد ولم يخلق.
السؤال8 وإذا قالوا في الرجل: (يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم)، هل هذا الكلام يفهم منه أنه كذاب أو أنه منكر الحديث؟
الجواب: ينبغي أن ينظر في قائل هذه الكلمة، فإن مثل هذه الكلمة يقولها ابن حبان في بعض الحفاظ الكبار، من رجال البخاري ومسلم، فإذا قالها الإمام أحمد، أو يحيى بن معين، أو من جرى مجراهما، فمثل هؤلاء ينظر فيما قاله غير القائل، ينظر أوثّقه غير القائل؟ أو قال: إنه صدوق غير القائل. أما إذا لم ترد إلا هذه العبارة فهي تعتبر جرحًا، وهي محتملة أنه يكذب، وأنه يهم. محتملة لهذا وهذا، فنحن نتوقف في أمره، لا نحكم عليه بأنه كذاب، ولا نحكم عليه بأنه صالح للشواهد والمتابعات، ولكن إن وردت عبارات أخرى لبعض أهل العلم يحمل عليها هذا القول، بمعنى أنه يهم، وينظر أذلك الحديث من أوهامه، أم ليس من أوهامه؟ فإذا لم ترد إلا هذه العبارة توقفنا في أمره ولا نحتج به، لكن ربما يصلح للشواهد والمتابعات، وينظر فيمن روى عنه أهم من الثقات الأثبات أم ماذا؟
السؤال9 قولهم في الرجل: (يروي المعضلات) هل المقصود بذلك العجائب والمشكلات، أو الأوابد -كما يقولون-، أم المعضلات بالمعنى الاصطلاحي؟ وإذا كان المقصود المعنى الاصطلاحي فما وجه القدح؟
الجواب: ذلك بمعنى الأوابد، وبمعنى الأمور التي لم تثبت عنهم، لكن هذه العبارة -كما تقدم- ينبغي أن ينظر في قائلها، فيخشى أن تكون من ابن حبان رحمه الله تعالى، فكثيرًا ما يقول: يروي المعضلات عن الأثبات فاستحق الترك. فابن حبان هو شديد التجريح، كما أنه متساهل في توثيق المجهولين، فهو يطلق هذه العبارة على بعض رجال الشيخين، فيتوقف في كلامه، وربما اعترض عليه الحافظ الذهبي وقال: إنه لا يدري ما يخرج من رأسه.
السؤال10 بارك الله فيكم. ومثلها قولهم (يروي المرسلات والمنقطعات والمقطوعات)، ماوجه القدح فيها؟
الجواب: الظاهر أنّهم يعنون بهذا أنه يصل المرسلات، لعلهم يعنون هذا، يصل المرسل ويرفع الموقوف... الخ، هذا بمعنى أنه يخالف الناس في هذا، فإذا كان ثقةً أو قيل فيه: صدوق، بقي علينا أن ننظر في كتاب "ميزان الاعتدال" وفي كتاب "الكامل" لابن عدي، وفي غير هذين الكتابين، أهذا الحديث مما تفرد هو برفعه والناس يروونه موقوفًا، أو تفرد بوصله والناس يروونه مرسلاً؟ فينبغي أن تراجع ترجمته، وإذا قد وثقه العلماء الأثبات -وبعضهم قال هذا-، بقي علينا أن ننظر في ترجمته، أهذا الحديث مما أخطأ فيه؟ فيترك خطؤه، وهكذا إذا قالوا: صدوق يهم، صدوق يخطيء، وهنا أمر أنصح به طلبة العلم وهو: أن يعرضوا ما كتبوه على كتب العلل، فربّ حديث نغترّ به ونقول: إن رجاله رجال الشيخين، ثم بعد هذا نجد أن الحديث معل، وقد حكم عليه بالوضع، وربّ حديث قد حدّثْنا به وهززْنا به رؤوسنا وفي النهاية فإذا الحديث معل، وقد قال أبوحاتم أو الدارقطني رحمهما الله تعالى: إن هذا معل، فالذي أنصح به إخواني في الله أن يعرضوا ما كتبوه على كتب العلل، والحمد لله كتب العلل تغربل الأحاديث غربلة، وقد قال علي بن المديني -وهو كما يقول الحافظ ابن حجر: أعلم أهل عصره بعلل الحديث- يقول: الحديث إذا لم تجمع طرقه، لم يتبين خطؤه. والله المستعان.
السؤال11 إذا قال أحد من أئمة الحديث: إن الحديث معلول. فهل لا بد من أن يبين السبب ويظهره لنا كطلبة علم، أو لا يقبل منه هذا القول، أو يقبل منه من غير بيان؟
الجواب: أنا وأنت في هذا الأمر ننظر إلى القائل، فإذا قاله أبوحاتم، أو أبوزرعة، أو البخاري، أو أحمد بن حنبل، أو علي بن المديني، ومن جرى مجراهم، نقبل منه هذا القول، وقد قال أبوزرعة كما في "علوم الحديث للحاكم" ص (113) عند جاء إليه رجل وقال: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة -إذا أردت أن تعرف صدقنا من عدمه، أنحن نقول بتثبت أم نقول بمجرد الظن والتخمين؟- أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وارة -يعني محمد بن مسلم بن وارة- وتسأله عنه ولا تخبره بأنك قد سألتني عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله ثم تميز كلام كل منا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلاف فاعلم أن كلاً منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم. ففعل الرجل فاتفقت كلمتهم عليه فقال أشهد أن هذا العلم إلهام.
وقد قال عبدالرحمن بن مهدي كما في "العلل" لابن أبي حاتم (ج1 ص10): إن كلامنا في هذا الفن يعتبر كهانة عند الجهال.
وإذا صدر من حافظ من المتأخرين، حتى من الحافظ ابن حجر ففي النفس شيء، لكننا لا نستطيع أن نخطّئه، وقد مرّ بي حديث في "بلوغ المرام" قال الحافظ: إنه معلول. ونظرت في كلام المتقدمين، فما وجدت كلامًا في تصحيح الحديث ولا تضعيفه، ولا وجدت علةً، فتوقفت فيه.
ففهمنا من هذا، أنه إذا قاله العلماء المتقدمون ولم يختلفوا، أخذنا به عن طيبة نفس واقتناع، وإذا قاله حافظ من معاصري الحافظ ابن حجر نتوقف فيه.
السؤال12 ذكرتم في من قيل فيه: (صدوق يخطئ)، أو (صدوق يهم): أننا نرجع "للميزان" للذهبي أو "الكامل" لابن عدي للنظر، هل هذا الحديث من أوهامه وأخطائه، أم لا؟ وأحيانًا أرجع إلى ترجمة بعض الرواة الذين قيل فيهم هذه المقالة، فأجدهم يقولون: ومن أوهامه، لا يسوقون هذا مساق الحصر، ولكن مساق التمثيل، يمثّلون بأوهامه، ولم يذكروا الحديث الذي بين يدي، لكنهم ما قالوا: إن هذه كل أوهامه، وإنما ذكروها على سبيل المثال، فكيف بالحديث الذي بين يدي؟
الجواب: سؤال حسن، إن كان الحديث من أحاديث الأحكام، فأحاديث الأحكام قد نخلت نخلاً، لأن هناك فقهاء محدثين، مثل الإمام النووي، ومثل الإمام الحافظ ابن حجر، ومثل العراقي، ومثل الزيلعي في "نصب الراية"، ومثل من تقدمهم، كالبيهقي، ومثل الطحاوي، فمثل هذه الأحاديث يتكلمون عليها إذا استدل شافعيّ بالحديث، والحنفي يعلم به علة، يبيّن أنه معلّ، وهكذا على العكس رجعت إلى كتب الأحكام مثل: "نيل الأوطار" وغيره من الكتب، ومن أحسن المراجع في هذا هو "التلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، لكن إذا كان الحديث يتعلق بالتفسير، أو بالسير، فأنت تنظر أذكر في أوهامه أم انتقد عليه؟ وإلا حكمت عليه بما يقتضيه ظاهر السند، والله تعالى أعلم.
السؤال13 الشيخ الألباني-حفظه الله تعالى- يحسّن حديث من هذا حاله، فهل يحمل تحسينه على ما ذكرت أنت من التفصيل؟ أم أن هذه قاعدة عنده أن (صدوق يخطئ) حديثه حسن، وذكره غير مرة في كتابه "السلسلة"؟
الجواب: الذي يظهر أن هذه قاعدة عنده، وقد سألناه بمدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال حفظه الله تعالى: إنّ من مارس أعمالهم في كتب الحديث يرى أنّهم يحسّنون لمحمد بن عمرو بن علقمة ومن جرى مجراه، فالظاهر أن هذه قاعدة عنده وهي قاعدة مقبولة لا غبار عليها، لكن من أحب أن يتثبّت وينظر في ترجمته وفي العلل فهو الأحوط لدينه.
السؤال14 ذكر ابن الوزير رحمه الله تعالى أنّ مدلس تدليس التسوية لا بد أن يصرّح بالتحديث من أول السند إلى آخره، ولا ينفعه أن يصرح بالتحديث بينه وبين شيخه، فماذا تقولون؟
الجواب: هذا هو المعروف، لأن تدليس التسوية هو: إسقاط ضعيف بين ثقتين، وزاد بعضهم: قد سمع أحدهما من الآخر، فهذا هو المعروف والمعتبر، وهذا هو الذي عليه العمل: أنه إذا وجد مدلس تدليس التسوية مثل: بقية بن الوليد، أو الوليد بن مسلم، فإنه لا بد أن يصرّح بالتحديث في السند كله، لكن ينبغي أن يعلم أنه يحتاج إلى أن تجمع الطرق، فربما لا يصرّح في "صحيح البخاري" ويصرح في "مسند أحمد"، أو يصرّح في "معجم الطبراني".
وقد قيل للوليد بن مسلم -وهو كثير الرواية عن الأوزاعي-: مالك تحذف شيوخ الأوزاعي الضعفاء؟ قال: أجلّه عن أن يروي عنهم، قيل له: إذا حذفت شيوخ الأوزاعي الضعفاء، ضعّف الأوزاعي، وأبى الوليد بن مسلم إلا أن يستمر على ما هو عليه.
فلا بد من التصريح، فمثلاً الوليد بن مسلم يروي عن الأوزاعي، والأوزاعي يروي عن الزهري، والزهري يروي عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن المسيب يروي عن أبي هريرة، لا بد أن يكون فيه: حدثنا الأوزاعي، أو سمعت، أو ما يؤدي هذا، وهكذا الأوزاعي عن الزهري، حدثنا الزهري والزهري عن سعيد بن المسيب، حدثنا سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
السؤال15 الهيثم بن خارجة لما سأل الوليد بن مسلم في القصة التي ذكرتها قال: أنت إذا فعلت ذلك وحذفت ما بين الأوزاعي والزهري، أو مابين الأوزاعي وغيره من المشايخ، ضعّف الأوزاعي، فلو أن الأوزاعي ثبت لقاؤه للشيخ هذا، ويقينًا تحمل عنه الأوزاعي، ومع ذلك عنعن، فما وجه ضعف الأوزاعي؟ هل وجه ضعفه أن الحديث منكر؟
الجواب: إذا عنعن والراوي عنه الوليد بن مسلم (نعم)، فقط خاف أن يضعّف، وإلا فالأوزاعي قد عرفت إمامته، وعرفت ثقته، فخاف أن الناس يظنون أن الأوزاعي هو الذي وضع هذا الحديث الضعيف، أو هذا الحديث المنكر، فخاف من هذا، والحمد لله لم يحصل -أي لم يضعف الأوزاعي- لأنه قد عرف أن الوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية؟
السؤال16 إذا كان الحديث في "الصحيحين" وقد عنعن المدلس فماذا؟
الجواب: من أهل العلم من يقول: إنه يحمل على السماع، قال ابن دقيق العيد -كما في "فتح المغيث"-: إن في النفس شيئًا. فهو محمول على السماع، لأن مثل الإمام البخاري لا يخفى عليه هذا، وهو الأحوط، حتى لا يتجرأ على تضعيف أحاديث في "الصحيحين"، ما ضعفها أحد من المتقدمين، والله أعلم.
السؤال17 مثل كتب "المستخرجات"، ذكروا أن الذي يخرج كتابًا على كتاب، أنه يجب عليه أن يلتزم بشرط صاحب الكتاب الأول، ومن هنا تكلّم الحافظ ابن حجر على فوائد "المستخرجات"، فقال: إنّ الرجال الجدد الذين يذكرهم صاحب "المستخرج" لهم حكم العدالة مالم يثبت فيهم جرح أو تعديل، لأن الرجل التزم بشرط الصحيح، فمن هنا قال: يستفاد من "المستخرجات": توثيق الرجال الجدد الذين لم يثبت فيهم جرح ولا تعديل، وحديثهم الذي في غير "المستخرج" محمول على العدالة، لأن صاحب "المستخرج" قد ذكرهم، لكنه قال بعد ذلك: إنه لا يحكم لهم بالعدالة، قال: والسبب في ذلك: أنّ الحافظ منهم، همّه العلو، فكيف الجمع بين الكلام الأول والأخير؟
الجواب: الأخير هو المعتبر، لا بد من نظر في رجال السند من المؤلف إلى أن يلتقي مع من استخرج عليه، فالمعتبر هو الأخير.
السؤال18 قول ابن الصلاح: إن الأمة تلقت "الصحيحين" بالقبول، هل هذا عليه العمل؟ وإذا كان هذا عليه العمل، فهل لي أنا أو لغيري من طلبة العلم إذا اتضح له حديث فيه علة ولم يتكلم عليه الأئمة الأولون هل لي أن أتكلم فيه، لأني سمعت أن بعض الإخوة يضعف حديثًا في البخاري ما ذكره الدارقطني، ولا غيره من الأئمة، فهل هذا الأخ أو الذي يقول هذه المقالة يدفع بأن الأمة تلقت هذين "الصحيحين" بالقبول إلا الأحرف اليسيرة؟ أم يقول الأمر أمر اجتهاد، وأسير كما سار الدارقطني، وأنا صاحب شوكة وصاحب أهلية...الخ؟
الجواب: الذي يظهر أن "الصحيحين" قد تلقتهما الأمة بالقبول-كما يقول ابن الصلاح- إلا أحاديث يسيرة انتقدها الحفاظ كالدارقطني وغيره، وأنه لا ينبغي أن يفتح الباب لزعزعة الثقة بما في "الصحيحين"، وربّ حديث يكون قد تحقق للعلماء أنه صحيح مثل البخاري، أقصد أن مثل الإمام البخاري، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وعلي بن المديني، ومن جرى مجراهم، يعرفون الراوي وما روى عن ذلك الشيخ، وإذا روى حديثًا ليس من حديثه يقولون: هذا ليس من حديث فلان، دليل على أنّهم يحفظون حديث كل محدث، وربما يروون له عن أناس مخصوصين، فهم قد اطلعوا على مالم نطلع عليه، ونحن ما بلغْنا منْزلتهم، والصحيح أنّ مثلنا مثل الذي يعشي-وأنا أتحدث عن نفسي أولاً- فالذي يعشي يمشي في الليل وعنده نور قليل فهو يتخبط، فنحن نفتش الورق ونقرأ ونبحث، فينبغي أن يعلم أنّهم حفاظ، ونحن لسنا بحفاظ، وربما نغترّ بظاهر السند هو كالشمس في نظرنا، وهو معلّ عندهم، وربما يكون في السند ابن لهيعة، وهم يعلمون أنّ هذا الحديث من صحيح حديث ابن لهيعة، فإذا صححه الحافظ الكبير ولم يقدح فيه حافظ معتبر مثله فهو مقبول لأنّهم قد نخلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نخلاً، ولو كان ضعيفًا لصاحوا به.
السؤال19 بعض الرواة يكون ثقةً إذا روى عن أهل بلد وضعيفًا إذا روى عن أهل بلد أخرى، مثل: إسماعيل بن عياش في روايته عن الشاميين والحجازيين، ومثل: بقية. والسؤال: إذا روى عن غير أهل هذين البلدين، مثلاً إسماعيل بن عيّاش يروي عن المصريين، ما حكم روايته؟
الجواب: يصلح في الشواهد والمتابعات. إذا روى عن الشاميين تقبل روايته، وإذا روى عن المصريين أو المدنيين يصلح في الشواهد والمتابعات.
السؤال20 إن كان الأئمة قد ضعفوا حديثًا بعينه، ثم جاء المتأخرون فصححوه، وقد ذكر الأئمة في السابق أن له طرقاً بعضها ضعيفة، وبعضها كذا، إلا أن الرجل المتأخر رد هذه العلة، مرةً يرد هذه العلة، ومرةً يقول: أنا بحثت عن الحديث فوجدت له سندًا لم يطلع عليه الحفاظ الأولون، فماذا تقول؟
الجواب: سؤال حسن ومهم جدًا -جزاكم الله خيرًا- العلماء المتقدمون مقدّمون في هذا، لأنّهم كما قلنا قد عرفوا هذه الطرق، ومن الأمثلة على هذا: ما جاء أن الحافظ رحمه الله يقول في حديث المسح على الوجه بعد الدعاء: أنه بمجموع طرقه حسن، والإمام أحمد يقول: إنه حديث لا يثبت، وهكذا إذا حصل من الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى هذا؛ نحن نأخذ بقول المتقدمين ونتوقف في كلام الشيخ ناصر الدين الألباني، فهناك كتب ما وضعت للتصحيح والتضعيف، وضعت لبيان أحوال الرجال مثل: "الكامل" لابن عدي و"الضعفاء" للعقيلي، وهم وإن تعرضوا للتضعيف، فهي موضوعة لبيان أحوال الرجال، وليست بكتب علل، فنحن الذي تطمئن إليه نفوسنا أننا نأخذ بكلام المتقدمين، لأن الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى ما بلغ في الحديث مبلغ الإمام أحمد بن حنبل، ولا مبلغ البخاري، ومن جرى مجراهما. ونحن ما نظن أن المتأخرين يعثرون على مالم يعثر عليه المتقدمون اللهم إلا في النادر، فالقصد أن هذا الحديث إذا ضعفه العلماء المتقدمون الذين هم حفاظ، ويعرفون كم لكل حديث من طريق، فأحسن واحد في هذا الزمن هو الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى، فهو يعتبر باحثًا، ولا يعتبر حافظًا، وقد أعطاه الله من البصيرة في هذا الزمن ما لم يعط غيره، حسبه أن يكون الوحيد في هذا المجال، لكن ما بلغ مبلغ المتقدمين.
السؤال21 الشيخ الألباني-جزاه الله خيرًا- قد يأتي بحديث في نفس هذه المسألة، فإن بحثت في كتب الفقه المتقدمة وجدت الحديث ضعيفًا، ووجدت العمل ليس عليه عند الفقهاء المتقدمين، والشيخ ناصر يصحح الحديث، فيحتج بعض طلبة العلم ويقولون: لماذا تضعّفون هذا والحديث في "صحيح الجامع" للألباني، فيحرج الإنسان، فما تقولون في ذلك؟
الجواب: سؤال حسن أيضًا، الشيخ ناصر الدين الألباني- حفظه الله تعالى- هو عندنا ثقة، فالباحث الذي يستطيع أن يبحث لنفسه فما راء كمن سمع، وليس الخبر كالمعاينة، والذي لا يستطيع أن يبحث وأخذ بقول الشيخ الألباني في التصحيح والتضعيف، فهذا لا شيء عليه إن شاء الله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:{ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} فالشيخ ناصر هو عندنا ثقة، والذي يأخذ بتصحيحه وتضعيفه لا ننكر عليه بحال من الأحوال وإن خالفنا، لكن يبحث وهو الأحوط والأولى، وهو الذي يرجى أن ينفع الله به الإسلام والمسلمين.
أما إذا قال لك قائل: هذا صححه الشيخ ووجدته ليس أهلاً للبحث فاترك صاحبك هذا، ولا تختلف أنت وهو، اتركه وابحث الحديث واعمل بما تراه حقًا، ولست بأول شخص أنت وصاحبك ممن اختلف في تصحيح الحديث وتضعيفه، أو في توثيق الرجل وتضعيفه، ولا ينبغي أن يكون هذا سببًا لفرقة ولا اختلاف ولا تنافر.
ونحن لا نطالب الناس بأن يكونوا كلهم محدثين، فمن أخذ بما صححه الشيخ أو ضعفه، لا نستطيع أن ننكر عليه، ولا نقول شيئًا، حتى وإن خالف ما نرى، سواء
أكان الشيخ أم غيره، كالأخ محمد ابن عبدالوهاب عندنا، وكذلك الأخ أبي الحسن أو غيرهما، القصد أن العلماء الأولين اختلفوا في التصحيح والتضعيف، واختلفوا أيضًا في التوثيق والتجريح، فالأمر سهل إن شاء الله في هذا.
السؤال22 بعض الإخوة المصريين الذين يبحثون في علم الحديث يحكم على أحاديث الشيخ الألباني عامةً التي يحسّنها وهي من قبل مضعفة، يقول: الشيخ متساهل في التحسين فماذا تقول؟
الجواب: على العموم نحن لا نستطيع أن نحكم على الشيخ أنه متساهل في التحسين، ولا أنه متساهل في التصحيح، طالب العلم ينبغي أن يبحث، نحن مع الشيخ في هذا الأمر، وفي مواضع لا نأخذ بقول الشيخ، وفي مواضع نرجع بعد سنة أو سنتين إلى قول الشيخ، إذا لم يكن الشخص صاحب هوى من إخوانك المصريين، فلا بأس، وإن قال: إن الشيخ متساهل. لا ينكر عليه، لكن لا نستطيع أن نقول: إن الشيخ حفظه الله متساهل على العموم، لكن كما قلنا هذه مسألة اجتهادية، والباحث متعبّد بما أدى إليه اجتهاده، فالذي يبحث ويأخذ بما أدى إليه اجتهاده، فهذا هو الأحوط لدينه، والذي يأخذ بتحسين الشيخ أو تضعيفه فقد أخذ إن شاء الله بما ينجيه عند الله سبحانه وتعالى.
السؤال23 قولهم في الرجل: (مجروح)، هل هذه فيها تهمة بالكذب وما وثّق؟
الجواب: نتوقف في أمره، أقل حاله أن يكون ضعيفًا.
السؤال24 لأن هذه تجرني إلى كلمة أخرى، الدارقطني رحمه الله تعالى قال: تجنب تدليس ابن جريج، فإنه لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح؟
الجواب: معنى كلامه: أن ابن جريج إذا عنعن توقفت فيه، ولفظة (مجروح) الجرح يتفاوت، فهى محتملة لأن يكون ضعيفًا، أو شيخًا أو يكون أكذب الناس، كل هؤلاء مجروحون، فهي عبارة محتملة، نتوقف فيما عنعن فيه ابن جريج رحمه الله تعالى.
السؤال25 الذي قيل فيه: (مجروح) ولا ندري أهو مجروح من كذب أم من سوء حفظ، وما ذكر فيه إلا هذه العبارة هل يستشهد به؟
الجواب: الظاهر أنه يستشهد به، لو كان كذابًا لقالوا: إنه كذاب.
السؤال26 ذكروا أن: من قيل فيه: (لا بأس به)، فهو من مراتب الاحتجاج في الحديث الحسن وأن من قيل: (صالح الحديث) يستشهد به، فكيف لو جمع عالم من العلماء قال فلان: (صالح لا بأس به)، هل لا بأس به في دينه وصالح في حديثه، بمعنى أن يستشهد به أم ماذا؟
الجواب: الذي يظهر لي أنّهم يحسّنون لمن قيل فيه: (صالح لا بأس به).
السؤال27 ذكر الذهبي تعقيبًا على كلام ابن القطان، أن مجهول الحال الذي لم يوثقه معاصر، أو ينقل توثيقه عن معاصر، وأنا أسأل: هل هناك طريقة أخرى في توثيق الرجل غير قول المعاصر فيه، مثل سبر أحاديثه والنظر هل وافق الثقات أم خالفهم، ولم يتكلم فيه أحد ممن عاصره، هل عند العلماء أنّهم يجمعون حديثه وينظرون، هل وافق الثقات أم خالفهم، وبهذا يجعلون له حكمًا وإن لم يوثقه معاصر؟
الجواب: نعم هذه هي الطريقة: إن كان معاصرًا نظروا في حديثه وفي أمره، وإذا كان غير معاصر نظروا في حديثه فإذا لم يخالف الثقات علموا أنه حافظ، وقد أتقن حديثه، وقد ذكر هذا مسلم في مقدمة "صحيحه" وذكره غير مسلم رحمه الله تعالى، وذكر المعلمي في "التنكيل عما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" أن يحيى بن معين ربما يوثّق الشخص الذي لم يوثّق، ويستحق أن يكون مجهولاً لأن يحيى ينظر في حديثه فلا يجده مخالفًا للثقات فيوثقه، فهاتان طريقتان في هذا الأمر.
السؤال28 السند الذي فيه انقطاع ظاهر ليس بالإرسال الخفي ولا بالانقطاع الخفي، وجاء من طريق أخرى فيها أيضًا انقطاع، فهل ينجبر الحديث؟
الجواب: الذي يظهر أنه لا ينجبر، لأنه يحتمل أن يكون المحذوف ثقة، وأن يكون كذابًا، وهكذا أيضًا كذاب عن كذاب لا ينجبر، لكن لو تعددت الأحاديث المنقطعات ربما ترتقي إلى الحسن والله أعلم.
السؤال29 أنظر إلى قولهم: هو (مظلم الأمر)، فأجدها غالبًا ما تقال في المجهول وليس بالمشهور، لكن جاء عند ابن عدي في ترجمة سعيد بن ميسرة البصري أبي عمران، قال: هو منكر، وعنده مناكير، وساق له أحاديث، وقال: هو مظلم الأمر. هل مظلم هنا بمعنى النكارة؟
الجواب: الظاهر أنه بمعنى النكارة، ويحتمل أن المراد لم يتضح لي أمره.
السؤال30 إذا أتى في السند أكثر من مجهول (أي مجهول حال) فهل يصلح في الشواهد والمتابعات؟
الجواب: يصلح في الشواهد والمتابعات، ولو وجد فيه أكثر من مجهول.
السؤال31 الذهبي رحمه الله أحيانًا يذكر في ترجمة الرجل أقوال المتقدمين بالتعديل، ثم يعقّب ذلك بقوله: (لا يعرف) كما في شبيب بن عبدالملك التميمي، قال أبوزرعة: صدوق، وقال أبوحاتم: شيخ بصري ليس به بأس لا أعلم أحدًا حدث عنه غير معتمر بن سليمان -وهو أكبر منه- قال الذهبي: قلت: لا يعرف. فما وجه قول الذهبي وقد وثقه غيره؟
الجواب: نحن نأخذ بأقوال العلماء المتقدمين، وقول الإمام الذهبي في هذا إذا كان لا يعرفه هو فقد عرفه غيره، وكثيرًا ما يتعقب عليه الحافظ ابن حجر.
وقد مرت بي في أيام قريبة قال في ترجمة راو: (لا يعرف) فتعقبه الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" فقال: عجبًا، إنه لعجب، قد عرفه يحيى بن معين فكيف يقال فيه: (لا يعرف). فنأخذ بأقوال العلماء المتقدمين.
السؤال32 وفي المقابل أيضًا الحافظ ابن حجر ذكر ترجمة رجل وقال: وقرأت بخط الذهبي أنه صدوق، وترجم له في "التقريب" قال: (مجهول)؟
الجواب: لا بد أن ينظر ماذا قال العلماء المتقدمون وترجع إلى "تهذيب التهذيب" فإذا قال حافظ من الحفاظ المتقدمين الذين هم من معاصري يحيى بن معين: إنه صدوق فيكون صدوقًا، وأما إذا لم يوثّق، ثم يأتي الحافظ الذهبي ويقول: إنه ثقة، أو صدوق فنحن نتوقف في كلام الحافظ الذهبي، وكثيرًا ما يذكر في كتابه "الكاشف" ويقول: فلان وثّق، فنرجع فإذا هو قد اعتمد على توثيق ابن حبان، أو توثيق العجلي، أو توثيقهما، فالمعتبر في هذا هو الرجوع إلى كلام المتقدمين رحمهم الله، أما الإمام الذهبي ففي قوله: (صدوق) أو كذا، فبينه وبين ذلك الرجل مراحل.
السؤال33 بالنسبة لتوثيق العجلي، ذكر الشيخ الألباني حفظه الله تعالى أن العجلي والحاكم متساهلان في التوثيق، ومع ذلك أجد الحافظ ابن حجر إذا لم يكن في ترجمة الرجل إلا قول العجلى: (كوفي ثقة) أو (مدنيّ تابعيّ ثقة) يقول في "التقريب": ثقة، فما وجه تساهل العجلي؟
الجواب: قد عرف بالاستقراء، من تفرده -مع ابن حبان- بتوثيق بعض الرواة الذين لم يوثقهم غيرهما، فهذا عرف بالاستقراء، وإلا فلا أعلم أحدًا من الحفاظ نص على هذا، والذى لا يوثقه إلا العجلي، والذي يوثقه أحدهما أو كلاهما فقد لا يكون بمنْزلة صدوق، ويصلح في الشواهد والمتابعات، وإن كان العجلي يعتبر أرفع في هذا الشأن فهما متقاربان و"التقريب" محتاج إلى إعادة نظر، فربما يقول فيه: مقبول، وتجد ابن معين قد وثّقه أو على العكس يقول: ثقة، ولا تجد إلا العجلي أو ابن حبان، وقد أعطانا الشيخ محمد الأمين المصري رحمه الله تعالى عشرة عشرة، كل واحد عشرة ممن قيل فيه: (مقبول) فالذي تحصل لي أن "التقريب" يحتاج إلى نظر، ونحن لا نرجع إلى "التقريب" إلا إذا رأينا للعلماء المتقدمين عبارات مختلفة لا نستطيع التوفيق بين عباراتهم، فنرجع إلى "التقريب" ونأخذ عبارة صاحب "التقريب".
السؤال34 ذكروا في مراتب الاستشهاد قولهم: (واه) يقال في الرجل: (واه). قالوا إن هذا يستشهد به، وقالوا: (واهي الحديث) في مراتب الرد، وكثيرًا ما يقول الحافظ الذهبي وغيره: هذا الرجل وهّاه فلان فقال: كذاب. وأحيانًا يقول الحافظ الذهبي أيضًا: فلان واه. ويسوق الترجمة بالترك وبالكذب، فالقول الأخير في قولهم في الرجل (واه) هل هذا يستشهد به؟
الجواب: الذي أعرفه أن من قيل فيه: (واه) لا يصلح في الشواهد والمتابعات.
السؤال35 ابن حبان معروف أنه يوثق المجاهيل، فإن كان الراوي غير مجهول وقد روى عنه أكثر من واحد، وقال ابن حبان: هذا مستقيم الحديث، أو قال: هذا ثقة، هل نتوقف في توثيقه أم نعتبره؟
الجواب: من أهل العلم كما في "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" من قال فيه: إنه يقبل. وهو اختيار المعلمي، أما (ثقة) فالغالب أنه قد عرف هو نفسه بالتساهل، فيتوقف لأنه قد عرف هو بالتساهل في ثوثيق المجاهيل، فإذا وثّق غير مجهول يقبل منه، أما المجهولون فقد عرف منه التساهل في هذا.
السؤال36 أحيانًا يذكر في كتابه "الثقات" يقول: روى عنه فلان وفلان وفلان وهو مستقيم الحديث، أو يقول: هو في حفظه كالأثبات أو يتقن حديثه، هو نفسه ينص على ثوثيقه، ولذا أجد الحافظ ابن حجر في مثل هذه المقالة يترجم له بالتوثيق أو على حسب مقالة ابن حبان وما وثقه إلا هو، وليس فيه إلا هذه العبارة!
الجواب: الذي يظهر أنه يتوقف في أمره، أما المعلمي في "التنكيل" فيقول: مثل هذا يقبل ويأخذ توثيقه عن ابن حبان.
السؤال37 ابن معين سئل عمن يقول فيه (ضعيف) فقال: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. هل الأمر كذلك إذا قال في الرجل: (يضعفونه)؟
الجواب: الذي يقول فيه: (ضعيف) يكون غير ثقة، والذي يقول فيه: (يضعفونه) لا يكون غير ثقة، بل يكون ضعيفًا، لأن الأول قوله، والثاني حكاية عن غيره.
السؤال38 هل هناك فرق بين قولهم: فلان (منكر الحديث)، وفلان (يروي الأشياء المنكرة)؟
الجواب: (منكر الحديث) صيغة تقتضي الديمومة، وأما (يروي الأشياء المنكرة)، فهو يحتمل أنه يرويها كغيره من العلماء الذين يجمعون كما قيل: (إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش)، فيحتمل هذا. وينظر أهذا الحديث من مناكيره أم ليس من مناكيره.
السؤال39 قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة علي بن المديني: إن الثقة إذا تفرد برواية فهي صحيحة غريبة، أما الصدوق فإذا انفرد فهي منكرة، هل هذا قول صحيح؟
الجواب: من أهل العلم من لا يقبل الصدوق، مثل أبي حاتم رحمه الله تعالى فلعله جرى على مثل ما جرى عليه أبوحاتم. أما ابن الصلاح وكثير من أهل العلم فيعتبرون الصدوق إذا انفرد حسن الحديث، ورب كلمة تنفق على المؤلف من غير أن ينظر فيها ويفحصها مثل: زيادة الثقة، وقد زلت قدم الخطيب في بعض كتبه، وفي "الكفاية" ثم تبعه على هذا ابن الصلاح، فالراجح في هذا أنه يحسّن حديثه.
السؤال40 هل هناك فرق بين قولهم: فلان (سيء الحفظ)، وفلان (رديء الحفظ)، وفلان (يخطئ كثيرًا) أو (كثير الخطأ)، هل هناك فرق بين هذه العبارات؟
الجواب: الذي يظهر أنّها مترادفة، والله أعلم.
السؤال41 هل قول البخاري في حديث من الأحاديث: (فيه نظر)، معناه: أن هذا الحديث لا يستشهد به، كقوله في الرجل: (فيه نظر)؟
الجواب: الذي يظهر هو هذا، أنه لا يستشهد به، كقوله في الرجل: (فيه نظر).
السؤال42 سئل ابن المبارك عن نوح بن أبي مريم فقال: هو يقول: (لا إله إلا الله)، وسئل ابن معين عن رجل فقال: (هو مسلم)، ففي أي المراتب؟
الجواب: الذي يظهر أن هذا من باب الهروب عن الإجابة، وأمْر نوح بن أبي مريم معروف أنه كذاب، من رؤوس الكذابين، وكذلك قول عبدالله بن المبارك، فالذي يظهر أن الرجل مجروح شديد الجرح، وبعض الأوقات يقتضى المقام أن لا يصرحوا لأمر ما، إما أنه يخاف على نفسه، وإما لأن للمضعف عليه نعمة أو غير ذلك.
السؤال43 الذهبي في ترجمة محمد بن إسحاق بن يسار صاحب "السيرة" قال: إنه (صالح الحديث)، وقال: (حسن الحديث)، وقال: (صالح الحال)، وقال: (صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة)، ثم ذكره مرةً أخرى في ترجمة هشام بن حسان فقال: والجمهور على أنه لا يحتج به، فماذا تقولون في محمد بن إسحاق، آخر قول فيه؟
الجواب: ابن إسحاق إذا صرح بالتحديث ولم يكن حديثه منكرًا، فيقبل ويحسّن حديثه، وإذا تفرّد بحديث ظاهره النكارة مثل: إثبات صفة الأطيط للعرش، فهذا من طريق ابن إسحاق، والحافظ البيهقي والحافظ الذهبي كلاهما يقدح في الحديث ويقولون: إن ابن إسحاق ليس بعمدة في أحاديث الأحكام، فضلاً عن أحاديث الأسماء بالنكارة لأمر خارج، وإلا فيكون حديثًا مستقلاً ويقبل حديثه إذا صرح بالتحديث.
السؤال44 في ترجمة يحيى بن نصر بن حاجب القرشي، عن عاصم الأحول، وهلال بن خباب، وثور بن يزيد، وعنه إبراهيم بن سعيد الجوهري، وأحمد بن سيار وجماعة، قال أبوزرعة: (ليس بشيء)، وقال أحمد: (كان جهميًّا). وقال أبوحاتم: يلينه عندي قدم رجاله)، هل قول أبي حاتم يشير إلى أنه متهم، ويحدث عمن لم يلقه أم ماذا؟
الجواب: هو يعني هذا، أنه يحدث عن أناس لم يلقهم.
السؤال45 قولهم في الرجل: (وثّقوه)، أليس دون قولهم في الرجل: (ثقة)؟ وكذلك (ضعّفوه) و (ضعيف)؟
الجواب: نعم هو كذلك.
السؤال46 العالم إذا سئل عن حديث إما إسنادًا أو متنًا وصححه، هل يكون ذلك ثوثيقًا منه لرواة ذلك الحديث؟ أم أنه يحتمل أنه صححه لقرينة أخرى؟ وقد أردت أن أستقرئ فيها صنيع الحافظ الذهبي فوجدته أحيانًا يعتبر هذا، ويوثق الرجل، وأحيانًا لا يعتبره، وذكرت بعض الأسماء، ففي ترجمة إسماعيل بن سعيد ابن عبدالله بن جبير بن حية، لم يذكر من روى عنه إلا أن أبا حاتم تركه، والترمذي روى له حديثًا واحدًا فصححه، وذكره ابن حبان في "الثقات" فقال عنه ابن حجر في "التقريب": (صدوق)، هذه الحالة التي اعتبر فيها توثيق الترمذي، وخالف ذلك في جعفر بن أبي ثور، وقد صحح حديثه جماعة: مسلم، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن مندة، والبيهقي وغيرهم، روى عنه أربعة وذكره ابن حبان في "الثقات" ومع ذلك قال: مقبول؟
الجواب: لا بد من نظر في توثيق الراوي: أوثقه معتبر أم لم يوثقه معتبر؟ وبالنسبة للحديث فيحتمل أن يكون صححه لطريق أخرى وتصحيح الحديث لا يدل على أن رجاله ثقات.
السؤال47 قول الحافظ في ترجمة: أحمد بن بكّار أبي ميمونة قال: (صدوق كان له حفظ)، فهل هذا يرفعه إلى درجة ثقة؟
الجواب: يبقى حسن الحديث، ولا يرتفع إلى درجة الثقة، لأن الصدوق له حفظ، ولو لم يكن له حفظ لكان من الضعفاء.
السؤال48 الشافعي رحمه الله تعالى معلوم كلامه في المرسل إذا اعتضد بقرائن، لكن خص ذلك بمرسل كبار التابعين، الذي عليه العمل: هل هو مطلق التابعي، أم أنه كما قال الشافعي رحمه الله تعالى؟
الجواب: الذي يظهر أنه من مطلق المرسل، إلا الذين عرف بأن مراسيلهم شديدة الضعف مثل: قتادة، ويحيى بن أبي كثير، والزهري، والحسن البصري، فمثل هؤلاء عرف أن مراسيلهم شديدة الضعف، لا تصلح في الشواهد ولا المتابعات، أما المرسل وإن كان من أوساط التابعين أو من صغارهم فينطبق عليه، وهذه مسألة اجتهادية، فإن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول: مع هذا فليس في رتبة الحديث المتصل.
السؤال49 هل قول البخاري في الرجل: (حديثه ليس بالمعروف) مثل قوله: (منكر الحديث) كما قالوا: إن المنكر عكسه المعروف؟
الجواب: الذي يظهر أنه ليس كقوله: (منكر الحديث)، أما (المعروف) فهو عندهم يقابل (المنكر)، كما أن (المحفوظ) يقابل (الشاذ)، لكن هذه العبارة لا يظهر منها أنّها مثل: (منكر الحديث)، وإلا فما يمنع البخاري رحمه الله تعالى من قول: (منكر الحديث)، وما أكثر ما يقول هذا. فالذي يظهر أنّها أحسن حالاً، والله أعلم.
السؤال50 قالوا: إن الرافضة لا يكتب عنهم ولا كرامة، فكيف بجابر الجعفي، وكان يؤمن بالرجعة؟
الجواب: جابر بن يزيد الجعفي وثقه بعضهم، وهو يعتبر رافضيًّا، وقد كذبه أبوحنيفة فقال: ما رأيت أكذب منه، وكذبه غير أبي حنيفة، فجابر بن يزيد الجعفي ومن جرى مجراه لا يحتاج إليه، وقد ذكر الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في "الميزان" في ترجمة أبان بن تغلب ذكر: أن الشيعي إذا كان صدوق اللسان فإنه يؤخذ عنه، وأما الرافضة -الذين يسبون أبا بكر وعمر- قال: فلا يحتاج إليهم، قال: على أنني لا أعرف من هذا النوع أحدًا يحتاج إليه، بل الكذب شعارهم والتقية دثارهم، أو بهذا المعنى.
فالرافضة ليس هناك أحد منهم يحتاج إليه، حتى قال الأعمش رحمه الله تعالى: ما كنا نسميهم إلا الكذابين. وذكر نحو هذا شريك ابن عبدالله النخعي، فلعل من روى لجابر يقصد أنه يعتبر بحديثه، فعلى كل فروايته لا تصلح في الشواهد والمتابعات.
السؤال51 قول الحافظ في جهضم بن عبدالله بن أبي الطفيل: (صدوق يكثر عن المجاهيل)، ما حكم ذلك في مراتب الجرح والتعديل؟ ومتى تعد كثرة الرواية عن الضعفاء والمجاهيل قدحًا؟ ولماذا؟
الجواب: ينبغي أن ينظر في شيخه، فإن كان مجهولاً دخلت علينا الريبة من هذا، ثم إن كتاب الحافظ هو تقريب كاسمه، فينبغي أن يرجع إلى "تهذيب التهذيب" و"ميزان الإعتدال" وغيرهما من الكتب التي تتكلم وتبسط الكلام على الراوي، وعلى كل فأنت ترجع إلى شيخه، فإذا وجدته مجهولاً دخلت الريبة علينا، وإذا لم تجده مجهولا فيقبل حديثه ويحسن، والله أعلم.
السؤال52 لم يخصصون هذه المسألة: (يكثر عن المجاهيل)؟
الجواب: إكثاره عن المجاهيل جعل في القلب ريبةً من روايته لكن إذا لم يكن شيخه مجهولاً، وكان ممن يقبل حديثه قبل. والله أعلم.
السؤال53 الإمام أحمد رحمه الله تعالى في ترجمة حجاج بن أرطأة قال: (كان من الحفاظ)، قيل: فلم؟ أليس هو عند الناس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، لا يكاد له حديث إلا فيه زيادة. فكيف الجمع بين قوله: حافظ وقوله: في حديثه زيادة على حديث الناس، هل يعني أنه مكثر أو معه علم كثير أم أنه حافظ ضابط كما هو معلوم؟
الجواب: ضابط ويأتي بزيادات لا يعتمد عليها، ثم إن حجاج بن أرطأة أيضًا به جرح آخر وهو: أنه ذكر الحافظ في ترجمته في "ميزان الاعتدال" قال: إن فيه تيهًا، وذكر عنه أنه قال: إنّها لا تكمل مروءة الشخص حتى يترك الصلاة مع الجماعة. يقصد أنه بمخالطته للناس لا يهابونه، وهو أيضًا مدلس، فلا يمنع أن يكون حافظًا، وأن يكون مدلسًا، وأن تكون لديه زيادات، فالزيادات التي يزيدها على غيره، ينبغي أن تجتنب حتى ولو زادها على من يماثله، نستفيد هذا من التعبير الذي قاله الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
السؤال54 حسان بن عطية المحاربي كان الأوزاعي يثني عليه جدًا، قال خالد بن نزار: قلت للأوزاعي: حسان بن عطية عمن؟ فقال لي: حسان ما كنا نقول عمن؟ فما معنى كلمة الأوزاعي هنا؟
الجواب: حسان بن عطية هو شامي والأوزاعي شامي، والأوزاعي يعتبر من أعرف الناس بالشاميين، فمعناه أنه واثق برواية حسان بن عطية، ومعناه أيضًا أن حسان بن عطية مهاب، إذا حدثهم لا يستطيعون أن يستفسروا منه، لكن ينبغي أن يستفسر وينبغي أن يعرف مشايخه كغيره من العلماء. القصد أن قول الأوزاعي يفيد أحد أمرين أو الأمرين معًا: وثوقهم برواية حسان أو مهابتهم له، فإن بعض الرواة يكون مهابًا في نفوس الناس.
السؤال55 في مسألة لما ذكروها في قولهم: (حدثني الثقة)، وقال: هذا تعديل للمبهم، تكلم الحافظ ابن حجر وغيره قالوا: إن مالكًا إذا قال: حدثني فلان، أو حدثني الثقة عن فلان فهو يعني به فلانًا، والشافعي إذا قال: حدثني الثقة عن فلان. فهو يعني به فلانًا، الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى قال: هذا كله تخمين، يعنى لايوجد جزم لأن هذه مسألة استقراء تصيب وتخطئ.
الجواب: مسألة (حدثني الثقة)، لا بد أن يبيّن شيخه، والإمام مالك رحمه الله تعالى قد روى عن ضعيفين: عن عبدالكريم بن أبي المخارق وعن عاصم بن عبيدالله، فلا بد كما ذكروا في المصطلح من أن يبين شيخه، ذكره صاحب "فتح المغيث"، الإمام أحمد أيضًا من الذين لا يحدثون إلا عن ثقات، روى عن عامر بن صالح الزبيري حتى قال الإمام يحيى بن معين عند أن بلغه هذا: جنّ أحمد.
وشعبة من الذين اشتهروا أنّهم لا يحدثون إلا عن ثقات، وفي مرة يقول: لو لم أحدثكم إلا عن ثقة ما حدثتكم إلا عن ثلاثين، وفي رواية: ما حدثتكم إلا عن ثلاثة، فالتوثيق لا بد أن ينظر، ويسمى رجاله.
وهكذا الحسن، فالعلماء سبروا مراسيله فوجدوها شديدة الضعف، لأن الحسن رحمه الله تعالى يأخذ عمن أقبل وأدبر، أو بهذا المعنى، ذكروا: أنه قد يكون ثقةً عنده، ويكون ضعيفًا عند غيره.
السؤال56 الشافعي رحمه الله تعالى إذا قال: (حدثني الثقة)، جاء من بعده الربيع بن سليمان فقال: إذا قال الشافعي: حدثني الثقة فهو يعني يحيى بن حسان التنيسي وهو ثقة. فإذا قال الشافعي: (حدثني الثقة) هل نحملها على هذا مطلقًا؟
الجواب: لا نحمله على هذا، وهم قد اختلفوا، فليس هذا القول متفقًا عليه كما في "فتح المغيث" وفي غيره من المراجع، حتى ولو قال الشافعي ذلك فقد روى الشافعي رحمه الله تعالى عن إبراهيم بن أبي يحيى وقد قال الإمام أحمد فيه: إنه قدري معتزلي رافضي جهمي كل بلاء فيه. وأيضًا الإمام النسائي يقول: الكذابون أربعة: وذكر منهم إبراهيم بن أبي يحيى بالمدينة. فلا بد من التسمية.
السؤال57 الحافظ رحمه الله تعالى في بعض التراجم في "التقريب" لا يذكر أنه ثقة أو ضعيف، يقول: وثقة فلان، وثقه النسائي، وثقه الدارقطني، وثقه العجلي، أو ضعفه فلان، يعزو الأمر إلى غيره، كأنه في ذلك والله أعلم لا يريد أن يقطع في هذا الأمر بشيء، ماذا ترى في هذا؟
الجواب: ما أرى إلا ما رأيت.
السؤال58 قولهم في الرجل: (ثقة له أوهام)، أو (ثقة يخطئ)، أو (له مناكير)، فإذا لم يتضح لي أي شيوخه يهم فيه أو أي أحاديثه وهم فيها، كنت أظن أنه يحتاج إلى متابع كما في مسألة: صدوق يخطئ، أو صدوق يهم، حتى وقفت على كلام لابن حبان في ترجمة أبي بكر بن عياش في كتابه "الثقات" قال: كان أبوبكر من الحفاظ المتقنين وكان يحيى القطان وابن المديني يسيئان الرأي فيه، وذلك أنه لما كبر سنه ساء حفظه، فكان يهم إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا يخلو منهما البشر، فلو كثر الخطأ حتى صار غالبًا على صوابه لاستحق مجانبة روايته، فأما هذا فلا يستحق ترك حديثه بعد تقدم عدالته وصحة سماعه، والصواب في أمره، مجانبة ما علم أنه أخطأ فيه والاحتجاج بما يروي سواءً وافق الثقات أم لا، لأنه دخل في جملة أهل العدالة ومن صحت عدالته لم يستحق الترك ولا الجرح إلا بعد زوال العدالة عنه بأحد أسباب الجرح، وهذا حكم كل محدث ثقة صحت عدالته وتيقن خطؤه، ومثل هذا قاله أيضًا الحافظ الذهبي قال: إذا خالفه غيره فيكون أقوى منه، أما أنه يحتاج إلى متابع فلا، فماذا ترى؟
الجواب: هذا كلام طيب، وذكر الإمام ابن حبان رحمه الله تعالى في مقدمة "صحيحه" نحو هذا الكلام على حماد بن سلمة، ويقول: ومن الذي لايغلط ومن الذي لا يهم؟ ولو رددنا هذا الضرب لرددنا أحاديث صحابة، حتى ذكر أبا بكر وعمر. وينظر أهذا الحديث من أوهامه التي وهم فيها أم لا، وإلا فيحكم على حديثه بالصحة.
السؤال59 قولهم في الرجل: (ثقة إن شاء الله)، وليس في ترجمته إلا هذه العبارة هل هذا ينْزله إلى صدوق؟
الجواب: لاينْزله، لكن ليس مثل الإطلاق.
السؤال60 قولهم في الرجل: فلان (قاصّ) أو (صاحب سمر)، كنت أظن أنه صاحب حكايات وروايات، أما ضبط الحديث فلا، أو أنه مثلاً قد يأكل بالحديث، حتى إني وجدتّهم قالوا: فلان (قاص)، في ترجمة سلمة بن دينار أبي حازم، وكذا في صالح بن بشير المعروف بالمري، وهو ضعيف الحفظ مشهور بالعبادة، فهل في قولهم: فلان (قاصّ). شيء من ناحية الحفظ؟ أو فيها شيء من ناحية العدالة؟
الجواب: فيها شيء من عدم التثبت، لأن الغالب على القصّاصين أنّهم لا يتثبتون، وإن كان عطاء بن يسار قد لقّب بأنه قاصّ، لكن هو من أثبت الناس، والغالب على القصاصين أنّهم لا يتثبتون، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: ما أحوج الناس إلى قصّاص صدوق. فإذا أطلقوا هذه العبارة وحدها، ولم يزيدوا عليها شيئًا، فهذه توقع الريبة في القلب ولا يعتمد عليه، لأن الأصل في القصاصين عدم التثبت.
السؤال61 معلوم أن ابن حبان يوثّق المجاهيل، والمجاهيل عند العلماء لهم حدّ، فلا ترتفع جهالة العين إلا برواية عدلين، ولا ترتفع جهالة الحال إلا بنص أو شهرة بالطلب كما هو معلوم، غير أني أجد الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى يقول: صدوق أو مقبول، في راو لم يرو عنه إلا واحد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فهل يصلح أن يكون وجه ذلك عند الحافظ ابن حجر أن ابن حبان نصّ على قاعدته في التوثيق: أن الرجل إذا لم يجرح، وروى عنه واحد وكان حديثه ليس منكرًا فهذه قاعدته أو الأسس التي بني عليها توثيقه، فالرجل إذا لم يجرح وذكره ابن حبان في "الثقات" وليس حديثه منكرًا، هل القول فيه: إنه مقبول صحيح؟
الجواب: (مقبول) عند الحافظ، يعني بها أنه يحتاج إلى متابع، فإذا قال فيه: إنه مقبول فقول في موضعه، لكن تقدم لنا الكلام على "التقريب" أنه محتاج إلى إعادة نظر في كثير من التراجم، ونحن لا نرجع إلى "التقريب" إلا عند العجز، وإذا اختلفت عبارات المحدثين ولم نستطع التوفيق بينها، رجعنا إلى "التقريب"، والله المستعان.
السؤال62 الرجل إذا قيل فيه: (صدوق تغير بآخره، هل يحتاج إلى متابع؟ الشيخ الألباني قال في "السلسلة الصحيحة"، يحتج به ما لم يخالف؟ وهل هنا فرق بين قولهم: تغير، وبين قولهم: اختلط؟
الجواب: الذي يظهر هو قول الشيخ الألباني، لأن التغيّر ليس بمنْزلة الإختلاط، ذكر هذا الحافظ الذهبي في ترجمة هشام بن عروة عند أن قال ابن القطّان: إنه تغير أو هكذا اختلط بعد ما نزل إلى العراق. فأنكر عليه وقال: إنه ضعف حفظه -أي هشام- ولم يبلغ إلى حد الاختلاط، ثم قال: وهشام شيخ الإسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطّان. فهذا الذي قاله الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى هو الصواب إن شاء الله، ثم بعد ذلك لا ينبغي أن ننسى ما تقدم لنا: أن أهل العلم قد نخلوا السنة نخلاً خصوصًا ما يتعلق بالأحكام، فينبغي أن يرجع إلى شروح الحديث، وإلى كتب التخاريج مثل "التلخيص الحبير" وغيره، فربما ذكروا أن هذا الحديث مما حدث به بعد تغيره.
السؤال63 قولهم في الراوي: إذا روى عنه ثقة، أو يقولون بعبارة أخرى: إذا كان فوقه ثقة، ودونه ثقة، فهو مستقيم، ومعلوم من حال الثقات جميعًا أن الحديث يكون مستقيمًا إذا كان السند كله مستقيم الرجال، فما وجه هذا التخصيص؟
الجواب: الذي يظهر أنه نفسه لا يكون متحريًا، فربما ينفق عليه ما ليس بثابت إذا كان شيخه ضعيفًا أو كذابًا أو مجهولاً، وهكذا إذا روى يمكن أن أصوله صحيحة، لكن المحدث إذا حدث عنه وليس أهلا للرواية -الذي هو الراوي عنه- فربما يحصل تخليط من عدم تحريه هو نفسه، في الأخذ والتحديث.
السؤال64 الرواي إذا قيل فيه: مجهول، راو من الرواة قال أحد علماء الجرح والتعديل فيه: مجهول، وقال آخر: ضعيف، هل نرجع بذلك إلى من روى عنه؟ وإذا كان روى عنه جماعة فالقول قول من قال: ضعيف، أم أنه إذا روى عنه أقل فالقول قول من قال فيه: مجهول، لأن (مجهول) لا يستشهد به، و(ضعيف) يستشهد به، فتعارض القولان، فالمرجع في ذلك إلى من روى عنه أم ماذا؟
الجواب: هذا الذي قال: إنه مجهول قال بحسب علمه، وذاك عرف عنه شيئًا زائدًا، فيصار إلى أنه ضعيف.
السؤال65 من قيل فيه: (صدوق صحيح الكتاب)، وأنا لا أدري هل حدث من كتابه أم من حفظه؟ فهل يحمل على أنه صدوق؟ وإذا علمت أنه حدث من كتابه هل يرتقي إلى مرتبة ثقة؟
الجواب: يحكم على الحديث بأنه حسن في الحالتين، وإذا حدث من غير كتابه فربما ينْزل عن مرتبة الحسن، وهذا يحتاج إلى تنصيص أنه حدث هذا الحديث من غير كتابه، ومثل هذا ينبغي -كما قلنا- الرجوع إلى كتب العلل وشروح الحديث.
السؤال66 في ترجمة سلم بن زرير قال فيه ابن عدي: أحاديثه قليلة، وليس في مقدارها أن يعتبر ضعفها، هل معنى ذلك أنه لقلة حديثه لا يحتمل الضعف الذي فيها كما يحتمل للثقات أصحاب الحديث، لأنه ما من ثقة إلا وتفرد وخالف، ويكون معنى ذلك أنه ليس بالقوي أم ماذا؟
الجواب: الذي يظهر أن معناه أنه ملتبس أمره على الحافظ ابن عدي، لأنه ما استطاع أن يحكم عليه بسبب قلة أحاديثه، والله أعلم، فنحن نتوقف في حديثه.
السؤال67 قولهم في الرجل: (صدوق وسط)، هل معناه أنه من مراتب الاستشهاد؟
الجواب: من مراتب الحسن، و(صدوق) هو وسط بين الثقات والضعفاء، فكلمة (وسط) إن شاء الله من باب التأكيد.
السؤال68 قول ابن المديني في كثير من الرواة أحيانًا في تراجم "التهذيب" يقول: وقال ابن المديني: إنه من الطبقة الثانية، أو الثالثة، من أصحاب نافع. هل أصحاب نافع لهم شرط خاص؟
الجواب: أصحاب نافع، وأصحاب الزهري، وأصحاب قتادة، وأصحاب الحفاظ المشاهير، كلهم طبقات، الطبقة الأولى هى أرفع طبقة، والطبقة الثانية، إلى الطبقة الخامسة والسادسة والسابعة، هكذا أصحاب الزهري، ومن أحسن المراجع الموجودة هى "شرح علل الترمذي" لابن رجب المجلد الثاني، فقد ذكر ابن رجب أصحاب نافع وطبقاتهم، وأصحاب الزهري وطبقاتهم، وأصحاب علقمة وطبقاتهم، حتى طبقات ابن مسعود.
السؤال69 مسألة الطبقات: هل اتفق العلماء على اصطلاح واحد في الطبقات؟
الجواب: ليس متفقًا عليها، حتى في الصحابة أنفسهم منهم، من يجعل البدريين طبقة، والسابقين طبقة، وأهل بيعة الرضوان طبقة، وهكذا، فليس متفقًا عليها، لكن المؤلف يعرف اصطلاحه من مقدمة كتابه.
السؤال70 هل ترتيب الطبقات على حسب العمر أم على حسب التوثيق؟
الجواب: أما طبقات أصحاب الزهري فعلى حسب التوثيق، وكذلك أصحاب نافع وأصحاب قتادة، وغيرهم، أما الطبقات التي سأل عنها أخونا عبدالمحسن فعلى حسب العمر، فينبغي أن يعرف هذا. على أنّهم ليست لهم قاعدة مطردة في الطبقات، فمنهم من يجعل الصحابة طبقات، ومنهم من يجعلهم طبقةً واحدة ولا مشاحة في الإصطلاح.
السؤال71 شعيب بن أيوب بن زريق (صدوق يدلس) كما في "التقريب"، قال فيه أبوداود: (إني لأخاف الله في الرواية عن شعيب)، وأنا أسأل لو أن هذه المقالة بمفردها على أي اتجاه أضعها؟
الجواب: هذه العبارة بمفردها معناها تضعيف الراوي (التي هي عبارة أبي داود) والظاهر أنّها بمنْزلة (متروك) عند أبي داود.
السؤال72 قول أبي حاتم في بعض الرواة: من (عتّق الشيعة)، ماذا يقصد؟
الجواب: يقصد أنه من متشدديهم، كما يقولون: (شيعيّ جلد).
السؤال73 إذا ذكر ابن حبان الرجل في كتابه "الثقات" وذكر من روى عنهم، ومن رووا عنه، وقال: (وهو مستقيم الحديث)، أو قال: (وهو في الحفظ كالأثبات)، هل هذه العبارات يعمل بها كتوثيق؟ وقد وجدت الحافظ في "التقريب" يعمل بها؟
الجواب: وهكذا عبدالرحمن المعلمي في كتابه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، هو أيضًا يعمل بها، والذي يظهر أنه إذا تفرد ابن حبان، أنّ في النفس شيئًا، أما المعلمي فيقول: يكون في النفس شيء فقط إذا ذكر الرجل في كتابه "الثقات" يذكر الرجل فيقول: فلان بن فلان، فيقول العلماء: وذكره ابن حبان في "الثقات"، أما إذا قال: (مستقيم الحديث)، أو قال: (ثقة)، أو كذا، فهذا يقول: يعض عليه بالنواجذ، ويقول: وهو ليس بدون غيره في هذا. لكن ينظر في هذا.
السؤال74 ابن المديني رحمه الله تعالى قال في طلحة بن أبي سعيد الاسكندراني: (معروف)، فهل لذلك معنى فوق رفع الجهالة؟
الجواب: فيها معنى رفع الجهالة، ويحتمل أن يكون معروفًا ثقة، أو مخلطًا أو معروفًا كذابًا، فالعبارة فيها رفع الجهالة، ولا يرتفع إلى مرتبة الاحتجاج، ويعتبر به.
السؤال75 في ترجمة عبدالله بن داود بن عامر الهمداني، قال ابن عيينة: (ذاك أحد الأحدين)، و(ذاك شيخنا القديم)، ففي أي المراتب قوله الأول؟ أفي معنى: ثقة ثبت، أم في معنى: ثقة؟
الجواب: الظاهر أنّها توثيق، لكن رتبتها الله أعلم.
السؤال76 قولهم في الرجل: (ليس بثقة في حديثه)، هل هو مثل قولهم: (ليس بثقة)؟ وأن (ليس بثقة)، تعني في دينه، و(ليس بثقة في حديثه)، تعني في حفظه؟
الجواب: الذي يظهر أن: (ليس بثقة في حديثه) أنه يدخل عليه الخطأ، وهو لا يدري: كما تقدم لنا أن يحيى بن سعيد القطان يقول: ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث.
السؤال77 قولهم في الرجل: (حسن الحديث)، هذه المسألة كنت أردت أن أستفسر فيها أكثر، فهم قد ذكروا في كتب المصطلح: أن قول العلماء في الرجل: (حسن الحديث)، و(صالح الحديث) أن هذا من مراتب الاستشهاد، وأنت في مقدمة الكلام قلت: إن هذا يحتج به، وأنا أجد كثيرًا من قول أبي حاتم وغيره: فلان (صالح)، قيل: يحتج به؟ قال: لا، يكتب عنه ولا يحتج به. وكذلك غير أبي حاتم؟
الجواب: الذي يظهر لي أن من قيل فيه: (حسن الحديث) يحسّن حديثه، وأما من قيل فيه (صالح)، فيصلح في الشواهد والمتابعات، كما في "تدريب الراوي" وقد تقدم أن أبا حاتم لا يرى الحسن حجة.
السؤال78 عبدالله بن عثمان بن أبي مسلم الخراساني، روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: (يعتبر حديثه إذا روى عن غير الضعفاء)، فلماذا يخصص هذا؟
الجواب: معناه: أنه لا يتحرى في الأخذ.
السؤال79 قولهم في الرجل: (يستضعف)، هل هو في مرتبة (لين الحديث)؟
الجواب: الذي يظهر أنه في مرتبة (لين الحديث)، وكلمة: (يستضعف)، أحسن حالاً من كلمة: (ضعيف). والله أعلم.
السؤال80 أبوداود يشترط أن يروي عن ثقة عنده، كما ذكره الآجري وغيره، هل ذلك في "السنن" خاصة أم في السنن كلها؟ فقد كنت أظن أنه في "السنن" خاصة، حتى قال الحافظ ابن حجر في ترجمة عبدالله بن محمد بن يحيى الخشاب الرملي: (مقبول)، ولم يوثقه أحد، غير أن أبا داود وجماعة رووا عنه، وقال ابن القطان وغيره: (مجهول الحال)، والرجل روى له أبوداود في "المراسيل"؟
الجواب: أما من حيث الواقع فالذي وجد في "سنن أبي داود" أن فيها روايات عن مجاهيل وعن ضعفاء، بل روى أبوداود في "سننه" حديثًا من أحاديث جابر بن يزيد الجعفي-الظاهر أنه في سجود السهو- وقال: ليس لجابر في كتابي غير هذا، فأبوداود إذا قال بهذا فهو لم يوف بشرطه، فقد قال أبوداود: وما سكتّ عنه فهو صالح. ووجدناه سكت عن أشياء، وجاء الحافظ المنذري وبيّن ضعفها، ثم جاء الحافظ ابن القيم وبيّن ما لم يبينه أبوداود ولا المنذري، ولا يزال المجال مفتوحًا للباحثين في "سنن أبي داود"، وكذلك رواية أبي داود مباشرة عن الشخص لا تكفي، فكم من محدث قيل عنه: إنه لا يروي إلا عن ثقة، ثم تجده قد روى عن ضعيف، وعن مجهول، كما في "الصارم المنكي في الرد على السبكي".
السؤال81 هل يعني أبوداود في كلمته (صالح) أنه صالح للاحتجاج، أم أنه صالح للشواهد والمتابعات؟
الجواب: الظاهر أنه عنى هذا وهذا، فمنه ما هو صالح للحجية ومنه ما هو صالح للشواهد والمتابعات، وقد وجدناه سكت عن أحاديث في "الصحيحين"، وأحاديث تصلح في الشواهد والمتابعات، وأحاديث ضعيفة.
السؤال82 أبوداود إذا وثق مشايخه هل يقبل منه؟
الجواب: أبوداود كغيره، الراوي إذا وثّق شيخه أيقبل منه أم لا يقبل؟ لا يقبل، لأنه يجوز أن يكون ثقةً عنده، وغير ثقة عند غيره، كما ذكر في "فتح المغيث" عن الأئمة رحمهم الله تعالى، ومنهم من قبل هذا. والصحيح أنه لا يقبل.
السؤال83 الإمام العراقي عقد مقارنةً بين قول المحدث: (حدثني الثقة)، وبين قوله: (أنا أشترط أن أروي عن ثقة)، فالحافظ العراقي رجح أن الاشتراط، أرجح من قوله: حدثني الثقة، فتعقبه السخاوي رحمه الله تعالى وقال: أبدًا الصورة الثانية أولى، لسبب وهو احتمال أنه اشترط هذا الشرط مؤخرًا، ولم يتميز لنا مشايخه الأولون من المتأخرين، أو يذهل عن القاعدة، ومن هنا رجح أن من قيل فيه: (حدثني الثقة) أولى من الذي يشترط، والحافظ يترجم لمثل هذه المسائل -خاصة الثانية- بمقبول؟
الجواب: لا أعلم إلا هذا -أي-: أنه مقبول يصلح في الشواهد والمتابعات، ولا يكفي سواءً قال حدثني الثقة، أم قال: أنا لا أروي إلا عن ثقة، فلا بد من البحث عما قال غيره، لأنه يجوز أن يكون ثقةً عنده، ضعيفًا عند غيره كما تقدم.
السؤال84 إذا قال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه في رجل: سألت أبي عنه فقال: (ثقة)، جاء أبوطالب فقال: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: (ضعيف)، هل أرجح رواية ابنه عنه على رواية الآخر لأن ابنه ملازم له، لوجوه الترجيح المعروفة؟ أم أجمع بينهما وأقول: صدوق؟ وأريد أن يكون السؤال أعم من هذا مع بقية العلماء، مثلاً في ابن معين، لو تعارض مثلاً إسحاق بن منصور مع غيره وفلان بن فلان، فإذا كان في هذه المسألة فائدة، فأفدنا بارك الله فيك؟
الجواب: هذه المسألة ذكرها صاحب "فتح المغيث" ويقول: إنّها تحتمل أمرين: إما أن يكون سئل عنه مقرونًا بحافظ كبير فقال: (ليس بشيء)، أي بالنظر إلى ذلك الحافظ الكبير، وإما أن يكون تغير اجتهاده في الشخص، يقول السخاوي: فينبغي أن ينظر في هذا، وذكر أمثلة لهذا، لرواة سئل عنهم يحيى بن معين مقرونين فضعفهم بالنسبة إلى الحافظ الكبير، وسئل عنهم بمفردهم فوثقهم، هذا، وفي غير النسبي، إما أن يكون تغير اجتهاده، وإما أن يكون بالنسبة إلى غيره، ولا بد أن نعرف حال الثاني، نحن الآن نعرف عبدالله بن أحمد وملازمته لأبيه، فلا بد من معرفة حال الثاني، فقد يكون أوثق ولو لم يلازمه، فالأولى التوقف في هذا الراوي.
السؤال85 ذكروا قاعدة ابن خزيمة وتلميذه ابن حبان في توثيق المجاهيل، وألحق السخاوي رحمه الله تعالى الدارقطني والبزار أنه يوثق الرجل إذا روى عنه اثنان، فهل الترجمة التي ليس فيها إلا توثيق البزار وتوثيق الدارقطني -وهذا أمر رأيته في "التقريب" ولكن لا أذكر صاحب الترجمة- الرجل وثقة الدارقطني، ومع ذلك الحافظ اعتبره وقال عنه: (مقبول)، فأنا كنت قد كتبت في الحاشية قلت: كيف وقد وثقه الدارقطني؟! ثم لما رجعت وقرأت كلام السخاوي جعل الدارقطني ممن يقول بمقالة ابن حبان وابن خزيمة، فماذا ترى؟
الجواب: أما البزار فقد عرف تساهله، وأما الدارقطني فيحتاج إلى دراسة والله أعلم. والحاكم متساهل في تصحيح أحاديث المجهولين فقد ذكر في "المستدرك" بعد حديث أبي هريرة: ((من لا يدعو الله يغضب عليه)) قال: هذا حديث صحيح الإسناد، فإنّ أبا صالح الخوزي، وأبا المليح الفارسي، لم يذكرا بالجرح، إنما هما في عداد المجهولين.
السؤال86 قولهم في الراوي: (ثقة صحيح الكتاب إلا أن في حفظه لينًا)، ثم وقفت على حديث لم أدر أهو من حفظه أم من كتابه، هل يكون مثل: (ثقة له أوهام)، ويحتج به ما لم يخالف أم ماذا؟
الجواب: نتوقف إذا كنا لاندري أحدث به من حفظه، أم حدث به من كتابه، وبعض الرواة يذكرون أنه حدثه من كتابه، وإلا فنتوقف فيه، لكن إذا حدث وصححه غيره من المعتبرين ولم ينتقد فهذ يدل على أنه حدث بهذا الحديث من كتابه، والله أعلم.
السؤال87 في ترجمة عبدالله بن يزيد المخزومي المقرئ، قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه فقال: ثقة، فقيل له: حجة؟ قال: إذا روى عنه مالك، ويحيى بن أبي كثير، وأسامة فهو حجة، والرجل قد روى عنه غير من ذكر، والسؤال: هل رواية من سماهم أبوحاتم مقدمة عمن دونهم لأنّهم تحملوا عنه زمن الاستقامة؟ غير أنني لم أقف على قول لأحد بأن عبدالله بن يزيد قد اختلط، كونه لم يتكلم فيه أحد باختلاط، والحافظ أبوحاتم يقول: إذا روى عنه فلان وفلان وفلان أحاديثه مستقيمة، ما معنى ذلك؟
الجواب: معناه: أنّهم ينتقون من أحاديثه ما يظهر لهم ثبوته، والله أعلم.
السؤال88 الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أحيانًا إذا روى عن الرجل واحد ثقة أو أكثر، نقول مثلاً: ثلاث ثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات" لم يزد، لم يقل: (مستقيم الحديث) أو نحوه، قال: وذكره ابن حبان في "الثقات"، أحيانًا يترجم لهذا الرجل بـ (مقبول) وأحيانًا يترجم له بـ (مستور) أما إذا روى عنه واحد فأحيانًا يترجم لمن هذا حاله بـ (مجهول) وأحيانًا يقول: (مقبول)، فأنا من خلال استقرائي للكلام نظرت ووجدت أن الحافظ يقول للرجل الذي روى عنه واحد وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال عنه: (مقبول)، وجدت أن الرجل الذي روى عنه هذا الراوي أنه من المشاهير، ووجدت أن الذي يقول فيه: (مجهول)، أن الرجل عدل وليس من المشاهير -أي الذي روى عنه- ومثلها في الذي يقول في: (مستور) و(مقبول) فالذي يقول فيه: (مستور) الرواة عنه مشاهير؟
الجواب: الحافظ نفسه رحمه الله تعالى -كما تقدم- يحتاج في العبارات إلى تتبع في كتابه "تقريب التهذيب" وقد تتبعنا -كما تقدم- عشرة عشرة من بعض الحروف. ونحن قدر تسعة نفر أو عشرة نفر، وأمر كل واحد منا أن يتتبع عشرة ممن قال فيهم الحافظ: (مقبول) فوجدنا بعضهم يستحق رتبة (ثقة)، وبعضهم يستحق رتبة (صدوق) وبعضهم يستحق (مقبولاً) -على اصطلاح الحافظ- وبعضهم يستحق (مجهول الحال)، فلا بد من رجوع إلى "تهذيب التهذيب" و"ميزان الإعتدال" وغيرهما من كتب الرجال ويحكم عليه بما يستحقه.
السؤال89 أليست رواية المشاهير ترفع من شأن الرجل عن رواية الآخرين، وإن كانوا عدولاً وليسوا بالمشاهير؟
الجواب: ترفع من شأنه، لكن الحافظ في "التقريب" يحتاج إلى تتبع، فلا يرجع إليه إلا عند العجز.
السؤال90 قولهم في الرجل: (ثقة)، وقولهم في الرجل: (يحتج به)، أرى أن قولهم (ثقة) أعلى من قولهم: يحتج به، لأنّها تخصيص درجة عليا؟
الجواب: تختلف عباراتهم، وقد سئل عبدالرحمن بن مهدي عن أبي خلدة وقد حدث عنه، فقيل له: أكان ثقةً؟ فقال: كان صدوقاً وكان مأمونًا، الثقة شعبة وسفيان. كما في مقدمة "الجرح والتعديل".
والذي يظهر أن الحجة أرفع من ثقة، وينظر في القائل: بعضهم يطلق الثقة على أنزل من حجة.
وأما (يحتج به) فالظاهر أن ما قلته صحيح، أن (الثقة) أرفع من قولهم: يحتج به لأنه قد يحتج بالثقة وقد يحتج بالصدوق.
السؤال91 عند تعارض كلام أهل الجرح والتعديل في رجل، فنرجع إلى الجمع والترجيح، فمثلاً من وجوه الترجيح أن أحد الأئمة يكون له المرجع في الكلام على أهل بلد ما، كابن يونس في أهل مصر والمغرب، كما قال الحافظ في ترجمة عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي، والمطلوب منكم -بارك الله فيكم- أن توضحوا لي من كان بهذا السبيل في بقية البلدان؟
الجواب: يقولون: إن بلدي الشخص أعرف به وبحاله، ويقدمونه على غيره، بل الغريب إذا أتى إلى بلد ربما يتزين له المحدث ويحدثه بأحاديث صحاح، فيحكم عليه من ضمنها، كما ذكروا هذا في بعض من يوثقه يحيى بن معين ويضعفه أهل بلده، ويقولون أهل بلده أعرف به، ربما تزين ليحيى بأحاديث وحدثه بها فوثقه يحيى. ومما أذكره الآن دحيم في أهل الشام.
السؤال92 قال الجريري في عبدالله بن واقد أبي قتادة الحراني قال: (غيره أوثق منه). قال الحافظ: وهذه العبارة يقولها الجريري في الذي يكون شديد الضعف، وأحيانًا أجد غير الجريري يقولها، كما قالها الحربي في عبدالرحمن بن زياد بن أنعم، فهل له نفس الحكم أم أنه اصطلاح خاص بالجريري لتصريح الحافظ بذلك؟
الجواب: الذي يظهر أنه اصطلاح خاص بالجريري.
السؤال93 هل هناك فرق بين قولهم: فلان (يعتبر حديثه)، وفلان (يعتبر بحديثه)؟
الجواب: فلان (يعتبر حديثه) أي: ينظر فيه، وفلان (يعتبر بحديثه) أي: يصلح في الشواهد والمتابعات.
السؤال94 في كثير من التراجم أجد أن الحافظ ابن حجر لا يبني على ما يذكره ابن خلفون، وابن شاهين في "الثقات" كبير حكم. يقول: ذكره ابن شاهين في "الثقات"، أو ذكره ابن خلفون في "الثقات"، ومع ذلك إذا جاء يترجم له في "التقريب" مثلاً قال: مقبول، فهل هناك في توثيق هؤلاء شيء؟
الجواب: ابن شاهين أعرف أنه هو نفسه من المتساهلين. وأما ابن خلفون فلا أذكر شيئا، ولكن صنيع الحافظ الذى ذكرته دليل على أنه من المتساهلين.
السؤال95 قولهم في الرجل: (كان طلابة)، كما قال عيسى بن يونس في عبدالرحمن بن مغرا، هل في منْزلة قولهم: (شيخ) أم بمنْزلة قولهم: (صدوق)؟
الجواب: الذى يظهر أنّها أرفع من قولهم: (شيخ)، ومعناها أنه كثير الطلب، ونرجع إلى ما تقدم قبل، أنه إذا اشتهر بالطلب وما جرح فإن حديثه يقبل.
السؤال96 قول يعقوب بن شيبة في عبدالعزيز بن رفيْع: (يقوم حديثه مقام الحجة)، الراجح أنه بمنْزلة صدوق فماذا ترون؟
الجواب: الذي يظهر أن هذه العبارة تدل على أن المترجم له ثقة، أو أرفع، وعبدالعزيز بن رفيع هو ثقة أو أرفع من ثقة.
السؤال97 عبدالمتعال بن طالب الأنصاري وثقه ابن معين وغيره، وذكر ابن عدي في "الكامل" أن عثمان الدارمي سأل ابن معين عن حديث عبدالمتعال هذا عن ابن وهب فقال: ليس هذا بشيء، فأجاب الحافظ في "التهذيب" بقوله: وهذا أمر محتمل لا يوجب تضعيف الرجل، وجْه سؤالي: ألا يوجب تضعيفه في هذا الحديث لمّا قال: ليس بشيء؟
الجواب: الذي يظهر أنه يؤخذ قوله كما هو إذا روى عن ابن وهب ضعّف، وإذا روى عن غيره قبل.
السؤال98 ما الفرق بين قولهم: فلان (رحّال)، أو (جوّال)، وبين قولهم: (فلان معروف) هل لفظة (رحّال) أو (جوّال) دلالة على الشهرة بالطلب أما العدالة في الدين فمسكوت عنها، وقولهم: (معروف)، أي أنه معروف في دينه، أما في حديثه فلا يعرف، أم أن الجميع بمعنى؟
الجواب: (رحّال) يكون أشهر، وكذلك (جوال)، وهو يحتاج إلى معرفة العدالة والضبط، و(معروف)، تقدم أنه يصلح في الشواهد والمتابعات إذا لم يوثق. والله أعلم.
السؤال99 الحافظ ابن حجر ذكر في مقدمة "لسان الميزان" أن الذهبي قال -هو عزاه إلى ترجمة أبان بن يزيد العطار، لكن النسخة التي عندنا ليس فيها هذه الكلمة-: (إذا وضعت علامة صح أمام الترجمة دلالة على أن العمل على توثيقه)، لكن يوجد بعض الناس أصلاً وقع فيهم كلام شديد من العلماء: هذا متروك، هذا يسرق الحديث، هذا كذا، فهل يعتمد على كلمة (صح) هذه أن العمل على توثيقه، أم تحتاج إلى بحث؟
الجواب: لا بد من نظر، لأن (صح) فيها اجتهاد الحافظ الذهبي رحمه الله، ثم إن هذه النسخ التي بين أيدينا يدخلها التحريف.
السؤال100 قولهم: فلان (غمزوه)، أو: فلان (مغموز)، هل فيها شيء من الاتّهام؟
الجواب: الذي يظهر أنه سقط حديثه عن الحجيّة، يستشهد به. مثل ما تقدم لنا: إن شهرًا نزكوه، إن شهرًا نزكوه، إن شهرًا نزكوه، أي: تكلموا فيه.
السؤال101 قولهم في الرجل: فلان (محله محل الأعراب)، ما معناه؟
الجواب: معناه أنه ليس من أهل الحديث.
السؤال102 لكن في ترجمة بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قالوا: (إسناد أعرابي) فماذا يعنون؟
الجواب: يعنون أن حديثهم ليس بالعمدة، على أنه قد اختلف في هذه السلسلة، فمنهم من يحسّنها. ومنهم من يراها أنزل من الحسن، على أن بهزًا قد توبع على أكثر أحاديثه كما في "المسند" وقد اخترت في "الصحيح المسند" و"الجامع الصحيح" طريقاً إلى هذه الصحيفة من غير طريق بهز.
السؤال103 قول يحيى بن سعيد في الحسن بن صالح بن صالح ابن حي الفقيه قال: (لم يكن بالسّكة)، كان يخرج على الولاة، وقوله أيضًا: (لم يكن بالسّكة مثله)، ما معنى كل منهما، وما الفرق بينهما؟
الجواب: السّكة كلمة تطلق على الطريق وتطلق على العملة، فالظاهر أنه ما كان خالصًا، لأن به شيئًا من البدعة وهى: الخروج على الأمراء، وأيضًا ترك الجمعة. فمن وثّقه فلصدق لسانه، ومن جرحه فلبدعته. وقوله: (ليس في السكة مثله) أي: ليس يعتمد عليه، والصحيح أنه صدوق اللسان، صاحب بدعة فتقبل روايته التي لم تكن موافقةً لبدعته، وتجتنب بدعته وهو من رجال مسلم.
السؤال104 قولهم في الرجل: فلان (ليس بمحمود)، هل هو في مرتبة الشواهد والمتابعات أم في مرتبة الرد؟
الجواب: الذي يظهر من هذه العبارة أنه يصلح في الشواهد والمتابعات. على أنه قول مبهم، فيحتمل أنه مبتدع ويحتمل أنه سيء الحفظ. والله أعلم.
السؤال105 قول أبي داود في حماد بن يحيى الأبحّ: (يخطئ كما يخطئ الناس)، هل هو بمنْزلة صدوق، ويكون خطؤه محتملاً لروايته الأخرى أو لغير ذلك، ويكون قول أبي داود رافعًا له، أم أنه بمنْزلة (صدوق يخطئ)؟
الجواب: الذي يظهر أن حديثه ما ينْزل عن الحسن، إلا أن يكون الحديث من أخطائه مثل حديث: ((مثل أمّتى كمثل المطر لا يدرى أوّلها خير أم آخرها))، فهذا الحديث جاء من حديثه وهو من جملة أوهامه، لكن الحديث له طرق أخرى يرتقى بها إلى الحجية.
السؤال106 في حديث ذكره الحافظ الذهبي في "الميزان" وهو في الصحيح: ((من عادى لي وليًّا)) الحديث، من طريق خالد بن مخلد القطواني، يقول الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في "النهاية": فهذا حديث غريب جدًا، لولا هيبة "الجامع الصحيح" لعدّوه في منكرات خالد بن مخلد وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولا خرّجه من عدا البخاري، ولا أظنه في "مسند أحمد"، وقد اختلف في عطاء فقيل: هو ابن أبي رباح، والصحيح أنه عطاء بن يسار، فماذا تقولون في هذا الحديث؟
الجواب: الحديث الظاهر أنه صالح للحجيّة، ونقول فيه ما قاله الحافظ الذهبي، وقد ذكر له الحافظ شواهد، وكذلك الشيخ ناصر الدين الألباني.
السؤال107 قول الحاكم وابن أبي زرعة في خلف بن محمد الخيام قالا: (كتبْنا عنه ونبرأ من عهدته، وإنما كتبنا عنه للاعتبار). فهل في قولهم: (نبرأ من عهدته) شيء من الاتّهام؟ أم أنه في مراتب الاستشهاد كما قالوا: وإنما كتبنا عنه للاعتبار؟
الجواب: الذي يظهر أنّهما كتبا عنه وليسا متأكدين من ثقته أو جرحه، ولم يعتمدا عليه، وقد أطلقا مثل هذه العبارة، فقد كان ابن خزيمة يقول في عبّاد بن يعقوب الرواجني: حدثني عبّاد بن يعقوب الصدوق في روايته، المتهم في دينه. ثم ترك الرواية عنه، وكذا القاسم السيّاري كان يروي عن محمد بن موسى بن حاتم القاشاني ويقول: (أنا أبرأ إلى الله من عهدته)، فالذي يظهر أن معنى كلامهم: نحن لا نعتمد عليه وكتبنا عنه للنظر في حديثه.
السؤال108 في ترجمة الربيع بن حبيب المصرى وثقه أحمد وابن معين وابن المديني. وقال الدارقطني: (لا يترك)، قال الذهبي: فقول الدارقطني ليس بتجريح له. أي ليس فيه تجريح له، ومعلوم أن الرجل -أصلاً- إذا قيل فيه: لا يترك ليس معنى ذلك أنه يكون حجة، فأنا أسأل هل هذه العبارة من الدارقطني تعني (ثقة)، أم أنّها بالمعنى المعروف؟
الجواب: فيها شيء من التجريح وليس تجريحًا مطلقًا -أي عبارة الدارقطني-.
السؤال109 قولهم في الرجل: (ذهب حديثه)، أجدها غالبًا تقال في المتروك أو المتهم، بمعنى: أنّ الراوي إذا كان كذلك تركه الناس، وتركهم له يؤدي إلى ذهاب حديثه، لكن وقفت على قول ابن المديني في روح بن أسلم الباهلي قال: (ذهب حديثه)، وفسره محمد بن عثمان بن أبي شيبة بأنه ضاع، فهل يحمل قول ابن أبي شيبة على ما سبق، وأن سبب ضياعه سكوت الناس عنه؟ أم أنّها ليست عبارة تجريح؟
الجواب: المعنى: أنه ترك حديثه إلا أن يفسر بأنه ضاع.
السؤال110 قولهم في الرجل: (جائز الحديث) أيستشهد به؟
الجواب: الظاهر أنه يصلح في الشواهد والمتابعات.
السؤال111 قولهم: (فلان يستدل به)، كنت أظن أن أقل أحواله (صدوق) حتى قال أحمد بن حنبل في صالح بن أبي الأخضر: (يستدل به، يعتبر به)، قال ذلك جوابًا عن سؤال: أيحتج به؟
الجواب: نخشى أن يكون معناها عند قائلها غير معناها عند الإمام أحمد، وإذا أطلقت فالظاهر أنّها بمعنى يصلح للاستدلال بحديثه، أي يكون مقبولاً وهذا عند غير الإمام أحمد، أما هو فقد فسّر قصده أنه يصلح للاعتبار.
السؤال112 في ترجمة العباس بن الحسن الخضرمي قال أبوعروبة: (كان في رجله خيط)، فما معنى ذلك؟
الجواب: بعض العبارات لا تعد جرحًا، وهذه العبارة لا أعلم معناها، فقد يكون المجيب متشددًا مثل شعبة عندما سئل عن شخص فقال: رأيته يركض على برذون. ومثل حماد بن سلمة إذ ذكر عنده راو، فامتخط فعدّه من رأوه جرحًا، ويجوز أنّ حمادًا امتخط لأن به مخاطًا. ويجوز أن يكون قول أبي عروبة هروبًا من الجواب -أي حاد عن الجواب-.
السؤال113 هل هناك فرق بين قولهم: (فلان لا يحتج به)، وقولهم: (فلان لا يجوز الاحتجاج به)؟ لأن الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قال في ترجمة علي بن محمد بن عيسى الخياط: واتّهمه ابن يونس فقال: لا يجوز الاحتجاج به. فهل تحمل الثانية على التهمة؟
الجواب: الظاهر من التعبير فقط أن قولهم: لا يجوز الاحتجاج به أبلغ في تضعيفه، وأن قائلها متثبت، أكثر من قولهم: (لا يحتج به)، ولا نستطيع أن نحكم على هذه اللفظة أنّها تؤدي إلى معنى (متهم) لأننا لم نطلع على كلام ابن يونس وهو في "تاريخ مصر"، والله أعلم.
السؤال114 قولهم: (فلان آية من الآيات) أو (فلان آية)، أراهم يطلقونها غالبًا في الحافظ، فهل لها معنًى غير ذلك؟
الجواب: لا أعلم إلا أنّها تدل على تثبته وعلى منْزلتة الرفيعة.
السؤال115 في ترجمة القاسم بن داود البغدادي قالوا عنه: (طير غريب) أو (لا وجود له)، انفرد عنه أبوبكر النقاش ذاك التالف، كذا قال في "الميزان"، فهل معنى (طير غريب) أنه مجهول؟
الجواب: معناه أنه ليس بمعروف، ثم بعد ذلك إما أن يكون ليس بمعروف، أو أنه لا وجود له لأن أبا بكر النقاش هو متكلّم فيه واسمه محمد بن الحسن، وله تفسير اسمه "شفاء الصدور" يقول اللالكائي: ينبغي أن يسمى (شقاء الصدور) بالقاف بدلاً من الفاء -وليس "شفاء الصدور".
السؤال116 في ترجمة محمد بن السائب الكلبي المفسر النساب الأخباري: قال الثوري: اتقوا الكلبي. قالوا: إنك تحدث عنه. فقال: أنا أعرف صدقه من كذبه. والسؤال هنا: هل رواية الثوري عنه معتمدة؟ وإذا كانت معتمدة فكيف الجمع بين هذا وبين قولهم: ومن كذب في الرواية مرة فترد رواياته كلها حتى وإن تاب؟
الجواب: الرواية، هم يروون عن الراوي لأحد أمور ثلاثة: إما للاحتجاج به، وإما لبيان حاله وهو تالف، وإما للنظر في حديثه، فرواية الثوري لا تدل على أن الكلبي ثقة أو أنه يجوز الاحتجاج به، والكلبي أيضًا كذاب لا يجوز الاحتجاج به.
السؤال117 يجرنا هذا إلى ما ذكروه في إسماعيل بن عبدالله بن عبدالله بن أويس من أنه يكذب -كما في ترجمته من "التهذيب"- ولم يدفع ذلك الحافظ، ولكن حمله على أن ذلك كان في شبيبته، قال: ولعله قد تاب، وهذا يخالف ما ذكرته من أن الذي يكذب في الحديث ترد رواياته كلها، وإن تاب، فكيف الجمع؟
الجواب: أما إسماعيل بن أبي أويس فالظاهر أنه لم يثبت كذبه، وهو ضعيف، والدليل على أنه لم يثبت كذبه أن البخاري -رحمه الله تعالى- انتقى من حديثه. وقد قيل للبخاري: لم رويت عنه؟ قال أخرج إليّ كتابه فانتقيت منه، وكان إسماعيل بن أبي أويس يفتخر ويقول: هذه الأحاديث انتقاها محمد بن إسماعيل البخاري. يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في ترجمته في "الفتح": فعلى هذا لا يحتج بإسماعيل خارج "صحيح البخاري". ولو كان كذابًا ما جاز للبخاري أن ينتقي من أحاديثه، وأما الضعف فهو ضعيف، والدليل على هذا قول البخاري حيث قيل له: لم رويت عنه؟ فقال: إنني انتقيت من حديثه. وذكرت شيئًا: يقول يحيى بن معين: آل أبي أويس كلهم ضعفاء. فانتقد على يحيى بن معين، حيث إن عبدالحميد بن عبدالله بن أويس أبا بكر هو ثقة، وقد وثّقه يحيى بن معين نفسه، وإسماعيل ضعيف ووالده عبدالله ضعيف، لكنْ أخو إسماعيل عبدالحميد ليس بضعيف بل هو ثقة أو صدوق.
السؤال118 في ترجمة ابن عائذ الدمشقي قال أبوداود: (هو كما شاء الله)، ففي أي المراتب؟
الجواب: هذا تليين فيه، ولكن الله أعلم في أي المراتب.
السؤال119 قولهم في الرجل: (فلان لا يتعمّد الكذب)، وقولهم: (فلان أظرف من أن يكذب)، أرى أن قولهم: (أظرف من أن يكذب) أرفع من قولهم: (لا يتعمّد الكذب)، فماذا ترى؟
الجواب: الأمر كما قلت، (لا يتعمّد الكذب) معناه أن الكذب يجري على لسانه من غير تعمّد. وبسبب ضعفه في الحديث، وعدم إتقانه لعلم الحديث يجري على لسانه الكذب، أما ذلك الآخر الذي هو: (أظرف من أن يكذب) فليس فيه إثبات الكذب عليه.
السؤال120 قولهم: (حدّثونا عنه)، هذه عبارة كثيرًا ما يذكرونها، ومن خلال استقرائي لها وجدتّهم يقولونها في: (المتروك) أو (المتهم). يقولون: (حدثونا عنه)، والرجل كل الأقوال فيه سيئة؟
الجواب: يستفاد تضعيفه من العبارات الأخرى التي ذكرتها، وأما قولهم: (حدثونا عنه) فهي لا تفيد تضعيفه، ولا توثيقه، بل هي إلى تليين أمره أقرب والله أعلم.
السؤال121 قولهم في الرجل: فلان (كان من الناس)، ما معنى هذا القول؟
الجواب: الظاهر أن هذه من تلك العبارات التي تقدمت، مثل: (رأيت برجله خيطًا) و(هو مسلم)، وسئل عن آخر فقال: (هو مسلم) أو (ممن يقول: لا إله إلا الله)، فالظاهر أن المسئول يحيد، لأنه قد يحتاج في بعض الأوقات إلى الحيدة، قد يسألون عن شخص يخافون من ضرره أو عن شخص يلتبس أمره، أو غير ذلك، فيقولون مثل هذه العبارات، كعبارة الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في أبي حنيفة، يقول: (فقيه مشهور) وهذه عبارة ما ذكرها الحافظ ابن حجر في مقدمة "تقريبه"، فما هو إلا من باب الحيدة، لأن الحنفية كان أمرهم قويًّا، فلم يستطع الحافظ أن يتكلم بما يرى أنه الحقّ، وقبل هذا كان الحنفية في الغالب يأخذون القضاء. ويستطيعون أن ينفّذوا ما يريدون. فالحافظ يقول فيه: (فقيه مشهور)، والله المستعان.
ولنا بحمد الله كتاب مطبوع بعنوان "نشر الصحيفة في كلام أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة".
السؤال122 قولهم: (فلان كان من العوام) أو (فلان من العوام) أهي مثل قولهم: (كان من الناس)؟
الجواب: قولهم: (من العوام)، يدل على أنه ليس من أهل العلم، ولا من أهل الضبط.
السؤال123 قولهم: (فلان يأخذ من كل أحد)، وأيضًا: (فلان حاطب ليل)، هل بين هذين القولين فرق؟ وما معنى قول مطين في محمد بن أبي شيبة: (عصا موسى تلقف ما يأفكون)؟
الجواب: الظاهر أنّها بمعنى واحد، وقول مطين في محمد تحمل على الجرح لأنه يتكلم على محمد بن أبي شيبة، ومحمد يتكلم في مطين، ولا يقبل كلامهما في بعضهما لأنه من كلام الأقران.
فائدة حول رواية الأقران:
جرح الأقران أثبت من غيرهم، لأنّهم أعرف بقرنائهم، فهي مقبولة إلا إذا علم أن بينهما تنافسًا وعداوةً سواء لأجل دنيا، أو مناصب، أو خطأ في فهم، ويريد أن يلزم الآخر بخطأ فهمه.
فينبغي أن تعلم هذا ولا تصغ لقول المبتدعة والحزبيين والديمقراطيين: أن كلام الأقران ليس مقبولاً على الإطلاق.
السؤال124 أنا لا أعني قول مطين فيه، هل ثابت فيه أم لا، ولكني أريد أن أعرف معنى الكلمة، التي هي: (عصا موسى، تلقف ما يأفكون)؟
الجواب: معنى الكلمة تؤدي إلى تضعيفه وأنه لا يحتج به وفيها إشارة أيضًا إلى الاتّهام وهي شبيهة بقولهم: (حاطب ليل).
السؤال125 الأخذ عن كل أحد متى يكون في الرجل عيبًا؟ ومعلوم أن الثوري من الذين يأخذون عن كل أحد؟
الجواب: إذا كان لا يميّز يكون عيبًا، والثوري ليس متفقًا عليه أنه كان يأخذ عن كل أحد، بل بعضهم يقول: إنه حتى التدليس لا يكثر منه، وإنه متثبت، فهو يعرف ما يكتب. وعليه فإذا كان الشخص يأخذ عن كل أحد ويعرف ما يكتب فلا يضر هذا، لأنه كما تقدم أن قلنا: إنّهم يكتبون عن الشخص لثلاثة أمور: للاحتجاج بحديثه، ولبيان حاله، وللاستشهاد به.
السؤال126 مسألة زيادة الثقة، أو ما أرسله أحدهم ووصله آخر، فيها بعض الأمور نحتاج إلى تفصيلها، إذا تعارضت الكثرة مع الحفظ فأيهما يرجّح؟ ومنها إذا كان الذي أرسله ثقة، والذي وصله اثنان كل منهما صدوق، هل تقدم الزيادة هنا أم ماذا؟ ومنها: أن الذي أرسل إمام مشهور، لكن الذي وصل إن كان دون الأول في التثبت إلا أن معه قرائن أخرى كملازمته للشيخ أو أنه من أهله، أو أنه صحيح الكتاب وغيرها من المرجحات الأخرى؟
الجواب: زيادة الثقة من الأمور التي اختلف فيها العلماء ولحذاق الحديث فيها مجال واختلاف، من حيث إن منهم من يقبل زيادة الثقة ويقول: إنه علم ما لم يعلم غيره وحفظ ما لم يحفظ غيره، ومنهم من يردّها، ومنهم من يتوسط فيقبلها إذا لم يخالف من هو أرجح منه، أما إذا خالف من هو أرجح منه فيعد شاذًا، ومن هو أرجح منه سواءً أكان في العدد، أم كان في الضبط، أم غير ذلك، فنأتي بمثال من الأحاديث: حديث: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان جالسًا في المسْجد فجاء ذلكم الرجل الذي أساء صلاته فقال: السّلام عليك يا رسول الله. قال: ((وعليك السّلام ارجع فصلّ فإنّك لم تصلّ)) هذا الحديث يرويه يحيى بن سعيد القطان، عن عبيدالله، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، فجاء آخرون جمع كثير جدًا وخالفوا يحيى فرووه عن عبيدالله عن سعيد عن أبي هريرة فلم يذكروا أباه، خالف يحيى جمع كثير، وأراد الدارقطني أن ينتقده ثم هاب أن يوهّم يحيى بن سعيد القطان فقال: لعل الحديث روي على الوجهين.
فهذه المسألة مسألة اجتهادية، تنظر إلى صفات الرواة وإلى ضبطهم وإلى كثرتهم، فلو تعارض صدوق وصدوق، وثقة وثقة، فإذا لم يحصل لك ترجيح حملت الحديث على الوجهين أنه روي هكذا وهكذا، مثلاً: جاء مرسلاً ومتصلاً تحمله على أن الراوي رواه مرسلاً ومتصلاً، والمرسل صحيح، والمتصل صحيح، أو رواه مرفوعًا وموقوفًا، تحمله على هذا وهذا، إذا لم يظهر الترجيح، وإذا تعارض ثقة وصدوق مع ثقة مثلاً: الثقة أرسل، والثقة والصدوق وصلا الحديث، فيرجّح الثقة والصدوق.
بقي علينا لو اختلف ثقة حافظ وثقة وصدوق، يعني: هذا في جانب، وهذان في جانب، أيهما يرجّح؟ الظاهر أنه يحمل على الوجهين.
والمسألة اجتهادية ليس فيها حكم مطّرد، هكذا يقول الحافظ في مقدمة "الفتح" فإن لحذّاق الحديث نظرات إلى زيادة الثقة، فرب زيادة يقبلونها، ورب زيادة يتوقفون فيها أو يردونها.
السؤال127 الحافظ في بعض التراجم التي يسوقها في "التهذيب" لا يذكر فيها أي قول من التجريح أو التعديل ويترجم لها في "التقريب": صدوق، فهل وقف على أقوال أخرى ولا سيّما أنه يذكر هذا فيمن يشير إليه بتمييز، هل شرطه في التمييز أن يختصر ترجمته في "التهذيب" ووقف على أقوال أخرى في الرجل فذكرها في "التقريب"؟
الجواب: يحمل هذا على أنه اعتمد على توثيق ابن حبان أو رواية، مثلاً الراوي عنه: حريز بن عثمان، أو الراوي عنه مالك ممن قيل إنه لا يروي إلا عن ثقة، فينظر في الرجال الذين رووا عنه، فلعله اعتمد على شيء من هذا.
السؤال128 إذا أرسل إمام حافظ مثل: اختلاف شعبة والثوري وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق في حديث: ((لا نكاح إلاّ بوليّ))، رجّحوا رواية إسرائيل قالوا في ذلك: إن شعبة تحمّل الحديث هو والثوري في مجلس واحد، والقصة تعرفونها، لكني أسأل لو أن شعبة خالف إسرائيل في حديث ما في أبي إسحاق، شعبة معلوم، وإسرائيل له مزية في أبي إسحاق؟
الجواب: إذا لم يظهر الترجيح حمل الحديث على الوجهين، شعبة حافظ متقن ويتثبت، وأبوإسحاق مدلس، وذاك -إسرائيل- أعلم بحديث جده، فإذا لم يظهر الترجيح حمل الحديث على الوجهين.
الذي أردت أن أقوله: إنّهم لم يرجحوا رواية إسرائيل على سفيان وشعبة، لكون إسرائيل أرجح منهما، رجحوه لترجيحات عدة منها: أن رواية شعبة وسفيان كانت في مجلس واحد، وكانت من باب العرض، هما عرضا على أبي إسحاق: أحدثك أبوبردة كذا وكذا؟ قال: نعم، ومنها أن إسرائيل توبع، تابعه خلق كما ذكره الحاكم -رحمه الله تعالى- في "المستدرك" وكما ذكره الحافظ أيضًا في "النكت على ابن الصلاح".
السؤال129 معلوم أن من قيل فيه: (ضعيف) أن هذا من جهة حفظه، أما دينه فهو صدوق فيه. فكيف إذا قالوا: (فلان صدوق ضعيف الحفظ) هل يكون في منْزلة (ضعيف) أم في منْزلة: (صدوق سيء الحفظ)؟
الجواب: يكون في منْزلة وسطى بين (الصدوق) وبين (الضعيف)، ويصلح في الشواهد والمتابعات.
السؤال130 لو أن رجلاً قيل فيه: ضابط أو حافظ، ذكر السخاوي -رحمه الله تعالى- أن ذلك ليس فيه تعرّض للعدالة، وأننا نحتاح إلى بيان العدالة، هل معنى ذلك أني لا أحتج بحديث رجل هذا وصفه حتى أبحث عن عدالته أو متابع له، على أن عبدالوهاب بن عبداللطيف صاحب الحاشية التي على "التقريب" لما ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة إبراهيم بن محمد بن الحارث أنه ثقة حافظ، قال المعلق: يطلق الحافظ عند المتأخرين في باب التعديل على الصدوق غالبًا، قال هذا في "التقريب" (ج1 ص41)؟
الجواب: الذي أعرفه أن المعلق ليس من المتمكنين في علم الحديث، فنحن نستريح من قوله، لكنه قد وجد حفاظ وهم متهمون مثل محمد بن حميد الرازي فهو حافظ وقد كذّب، وسليمان بن داود الشاذكوني حافظ وقد كذّب، وأبوالفتح الأزدي محمد بن الحسين حافظ كبير وقد اتّهم -وهو صاحب الكلام في الجرح والتعديل- فلفظة: حافظ لا تؤدي بأنه عدل، وهو الصحيح، فيحتاج في من قيل فيه: حافظ إلى إثبات عدالته، العدالة لا تكفي كما تقدم، والحفظ وحده لا يكفي.
السؤال131 قولهم في الرجل: (فلان ليس كأقوى ما يكون)، ففي أي منْزلة؟
الجواب: الظاهر أنه يكون بمنْزلة (ثقة) أو (صدوق) المهم أنه يقبل حديثه.
السؤال132 الشيخ الألباني حفظه الله تعالى في قولهم في الرجل: فلان (ليس بثقة)، وفلان (ليس بالثقة)، وفلان (ليس بقويّ)، وفلان (ليس بالقوى)، يفرّق بين هذه العبارات؟
الجواب: نعم هناك فرق بين هذه العبارات، فهي تتفاوت، (ليس بالثقة) أي: الثقة العالي الرفيع، و(ليس بالقوي) كذلك، و(ليس بالثقة) و(ليس بالقوي) أعلى و(ليس بثقة) و(ليس بقويّ) أدنى، والذي يظهر من قولهم: (ليس بالثقة) أنه يكون مردودًا، لكن ليس بمنْزلة (ليس بثقة)، و(ليس بالقوي) و(ليس بقويّ) الظاهر أن كليهما يصلح في الشواهد والمتابعات، لكن (ليس بالقوي) أرفع، فالضعف يتفاوت كما أن التعديل يتفاوت.
السؤال133 قولهم في الرجل: فلان (ثقيل البدن)، يقصدون بذلك العبادة أم ماذا؟
الجواب: الله أعلم.
السؤال134 لو قال البخاري في رجل: (حديثه ليس بالمعروف)، هل يكون بمنْزلة قوله: (منكر الحديث) لأنه قال في ترجمة أيوب بن واقد الكوفي: (حديثه ليس بالمعروف، منكر الحديث)؟
الجواب: هذا مفسّر له، وإلا فالذي يظهر أن: (ليس بالمعروف) أرفع قليلاً من منكر. والله أعلم.
السؤال135 قولهم: فلان (على شرط الصحيح)، يكون من باب ثقة ثبت أم من باب ثقة؟ لأنه كما هو معلوم في شروط الصحيح مع توثيق رجاله، سلامته من الشذوذ والعلة، والسلامة من الشذوذ والعلة تحتاج إلى مزيد ضبط، فماذا ترون؟
الجواب: الظاهر أنّهم يعنون: أنه ثقة يصح حديثه. والله أعلم.
السؤال136 قولهم في الرجل: فلان (ثقة وليس من الأثبات)، أيكون بمنْزلة صدوق أم دونها؟
الجواب: التوثيق نفسه يتفاوت، فالذي يظهر أنه يصح حديثه لأنه ممكن أن يقال فيه: ثقة ثبت، أو ثقة حافظ، أو أوثق الناس. فيكون هذا في رتبة ثقة وأرفع من صدوق.
السؤال137 قولهم في الرجل: (أحاديثه مستقيمة) أو (مستوية)، وأحيانًا يقولون: فلان (حديثه متماسك)، وفلان (حديثه قائم) فهل بين هذه العبارات من فرق؟
الجواب: الذي يظهر أن مستقيمة تقبل وكذلك مستوية، أما متماسك فهو إلى الضعف أقرب، وكذلك قائم. والله أعلم.
السؤال138 إذا ذكروا إسنادًا وقالوا: وسوّاه فلان، ماذا يعنون؟
الجواب: يقولون: وسوّاه فلان، وجوّده فلان، بمعنى: أن ظاهره قبل أن يرويه به علة، إما من أجل الانقطاع، أو غيره، ثم إنه أزال تلك العلة وهو أيضًا يحتاج إلى نظر، فإذا قالوا: سوّاه فلان وجوّده فلان فهو إلى الريبة أقرب، فينبغي أن تنظر فيه.
السؤال139 إذا أردت أن أبحث عن حديث لأعرف صحته من ضعفه، فنجد الشيخ الألباني في بعض التحقيقات يقول: وقد وقعت على إسناد في المخطوط الفلاني في المكتب الفلاني، فإذا أردت أن أصحح حديثًا أو أبحث عنه وليس في يدي شيء من المخطوطات فكيف أبحث؟
الجواب: تقدم أن قلنا: إذا استطعت أن تقف على المراجع وتقف على الحقيقة بنفسك، فما راء كمن سمع، وليس الخبر كالمعاينة. وإذا لم تستطع نقلت من كتاب الشيخ -حفظه الله تعالى- وعزوته إليه.
السؤال140 سؤال أخينا في غير النقطة التي تكلمنا فيها سابقًا، أخونا يقصد مثلاً: لو أني أحقق الآن كتابًا والمراجع عندي محدودة، الألباني حفظه الله تعالى عنده من المخطوطات وعنده من القدرة، يعني يده طويلة تستطيع أن تلقى كتبًا كثيرة، مثلا أخونا يحقق في "مسند الشافعي" في مكتبتنا هذه على هيئتها التي تراها، هل له أن يفعل ذلك أم نقول له: هناك طرق أنت لا تطلع عليها فيجب عليك أن تقف؟
الجواب: أنت تحكم على السند بموجب ما عندك، وإذا رأيت كلامًا للشيخ ناصر الدين الألباني، ونقل من مراجع ليست بمتناولك لك أن تنقل من كتابه وتعزو الكلام إليه.
فإذا صبر طالب العلم وإن كانت مكتبته صغيرة وتجلد ونظر إن كان الحديث يتعلق بالأحكام، رجع إلى كتب الأحكام، وإن كان يتعلق بالعقيدة، رجع إلى كتب العقيدة، وإذا كان يتعلق بالترغيب والترهيب، رجع إلى كتب الترغيب والترهيب الموجودة في مكتبته، فربما يجد هذه الطرق في مكتبته، وإذا كانت المكتبة صغيرة فهي تحتاج إلى جهد أكثر، ومراجعة لمظان الحديث، لكن إذا كانت المكتبة كبيرة، فرب حديث قد استوعب العلماء المتقدمون طرقه، فيسهل بل ربما أفردوه بالتأليف.
السؤال141 هل يمكن للشخص خاصة إذا قرأ في المصطلح "الباعث" و"التدريب" مثلاً، هل له أن يدرب نفسه على تحقيق كتاب، وإذا انتهى من تحقيقه يرسله مثلاً إليكم؟
الجواب: هذا يفعله إخواننا، ويمكن أن تدربوا أنفسكم على هذا فيستشار في أي شيء يكتب، فالكاتب لا بد أن يعرف في أي شيء يكتب. هم يقولون: المؤلف لا بد أن ينظر المسألة التي سيؤلف فيها، فربما تكتب كتابًا وتجد بعد أيام عالمًا من العلماء الكبار قد سبقك وجمع أضعاف ما جمعت، إذًا أتعبت نفسك، ولا يلتفت إلى كتابك إلا أنك تستفيد من التمرين، فلا بد من أن يستشير الشخص إخوانه في أي شيء يكتب، ثم إذا كان قد كتب، وقد أتعب نفسه، يستمر حتى ولو قالوا له: فلان قد كتب في هذا الموضوع ينبغي أن يكون لديه إقدام.
السؤال142 في ترجمة ثور بن يزيد بن زياد الكلاعي، قالوا في ترجمته: (ثقة، ثبت، رمي بالقدر)، قال ابن القطان: كان ثور إذا حدثني عن رجل قلت له: أنت أكبر أم هو؟ فإذا قال: هو أكبر كتبت عنه، وإذا قال: أنا أكبر لم أكتب عنه، لم يظهر لي وجه كلام ابن القطان؟
الجواب: الأمر فيه سهل، معناه: أنه إذا روى عن أصغر منه كأنه يستنكف أن يروي عن أصغر منه، فربما يكون بينه وبينه واسطة، فحذف الواسطة، لكن إذا روى عن أكبر منه فهو لا يروي عن أكبر منه إلا إذا قد سمعه منه، وهناك احتمال آخر بالنسبة للأصغر إضافة إلى احتمال أن يكون بينهما واسطة وهو: أنه ما أتقن حديثه.
السؤال143 قولهم في الرجل: فلان (لو لم يحدث لكان خيرًا له) هل هذا فيه تهمة؟
الجواب: مثل قول بعضهم في: أسد بن موسى: لو لم يؤلف لكان خيرًا له، وكذلك أيضًا قولهم: لو لم يحدث لكان خيرًا له، يدل على أنه حصل منه تخليط.
السؤال144 كلمة قالها ابن المديني في خليفة بن خياط الملقب بشباب، قال: (في دار شباب ابن خياط شجر يحمل الحديث)، هل معنى ذلك أنه مغفل لا يدري ما الحديث؟ أم ماذا يعني ابن المديني بذلك؟
الجواب: الله أعلم.
السؤال145 قول البخاري في درست بن زياد العنبري: (حديثه ليس بالقديم)، هل معنى ذلك أنه ألحق في حديثه ما لم يسمعه أم أنّها تصحيف من قولهم: فلان (ليس حديثه بالقائم)؟ وهل معنى قولهم: (حديثه ليس بالقائم) أنه مضطرب غير متماسك؟
الجواب: يحتمل أحد أمرين: إما أن يكون معناه: ليس بالقديم، أي: أنه حدث بما لم يسمع، أو أنه يروي عمن هو أنزل منه، أو أن يلحق في كتبه ما لم يسمع. وقولهم: فلان (حديثه ليس بالقائم) الظاهر، أنّها مثل قولهم: فلان حديثه غير متماسك، والله أعلم.
السؤال146 قول غير الحافظ ابن حجر مثل ما قاله الطحاوي ومثل ما قاله البيهقي في بعض الرواة: فلان (مقبول) هل يكون بمعنى صدوق؟
الجواب: الظاهر أن معناه أنه يحتج به، وهو أعم من الثقة والصدوق.
السؤال147 قولهم في الرجل: (كأن أحاديثه فوائد)، هل ذلك لعزّتها وقلتها، أم لجودتها وقوتها؟
الجواب: الظاهر أنه لجودتها وقوتها، والله أعلم.
السؤال148 ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى: أن العنعنة التي لم تأت لها طرق أخرى مصرحة بالسماع، تكون في الشواهد لا الاحتجاج، فما مدى الصواب في ذلك؟
الجواب: العنعنة في "الصحيحين" محمولة على السماع، لماذا؟ لأن صاحبي "الصحيح" حافظان كبيران يعرفان ما سمعه المحدث من شيخه وما دلس فيه ولم يسمعه، وهذا هو قول جمهور أهل العلم، وقال ابن دقيق العيد بعد أن ذكر قولهم هذا -كما في "فتح المغيث"-: وفي النفس منه شيء. وقال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في ترجمة أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس بعد أن ذكر جملةً من الأحاديث وقد عنعن فيها وهي في "صحيح مسلم" قال: وله غير ذلك، وفي النفس منها شيء.
فمن تردد فيما عنعن فيه المدلس -وأعني بالمدلس الذي هو من الطبقة الثالثة، والطبقة الرابعة، وهكذا الطبقة الخامسة، وإن كانت الخامسة اجتمع مع التدليس ضعف، أما الطبقة الأولى والثانية فإن العلماء تسامحوا في عنعنتهما، والذي ينبغي أن يصار إليه أنّها محمولة على السماع، إلا إذا ظهر أو أقام برهانًا حافظ من الحفاظ أنه لم يسمع ذلك الحديث، فيصار إليه. والله أعلم. وكذلك فعنعنة غير المدلس عمن قد سمع منه محمولة على السماع.
السؤال149 "طبقات المدلسين" للحافظ ابن حجر، هل يعمل بها؟
الجواب: طبقات المدلسين للحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- اجتهاد منه، وفي الغالب أن اجتهادات الحافظ ابن حجر، واجتهادات غيره من الحفاظ أسدّ من اجتهاداتنا، فلست ملزما بها، لكن إذا عجز الشخص ولم يستطع أن يميز بين أقوال أهل العلم، فلا بأس أن يأخذ بها، وقد نوع الحافظ ابن حجر في بعضهم، فالزهري عدّه من الطبقة الثالثة، وهي من الطبقات التي تضر عنعنتها، ونازعه الصنعاني في "توضيح الأفكار" وقال: ينبغي أن يعدّ من الطبقة الثانية. فهذا اجتهاد من الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-، وإذا رأيت خلاف هذا عن اجتهاد وفهم فلا بأس بذلك.
السؤال150 بقية المسألة التي سألت من أجلها: أن ابن حجر يقول هذا في الشواهد، ويقول: إذا بحثت عن عنعنة ولم تجد لها تصريحًا من طريق أخرى فهذا في الشواهد، لا يوجد في الاحتجاج، أو في الأصول، هل هذا الكلام صحيح؟
الجواب: الظاهر أنه ليس مطردًا، والحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري" يحرص كل الحرص إذا مر الحديث من طريق مدلس أن يلتمس فيه طريقًا أخرى قد صرح فيها بالتحديث، ومما أذكره الآن سبب نزول قوله تعالى: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينك قبلةً ترضاها} فإنه من طريق أبي إسحاق عن البراء، وأبوإسحاق مدلس، قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: وقد صرح أبوإسحاق بالتحديث في التفسير فأمنا من تدليسه، فهو يحرص على بيان سماع المدلس وربما لا يجد، فهذا ليس مطردًا والله أعلم.
وقد تقدم أن عنعنة غير المدلس عمن قد سمع منه محمولة على السماع.
السؤال151 قولهم في تعارض الجرح والتعديل: لا بد أن يكون الجرح مفسّرًا كما قال الحافظ ابن حجر، أريد أن أقف على بعض الألفاظ التي تكون مفسرة، مثلا قولهم: (ليس بقويّ) و(لا يحتج به)، و(صدوق يهم)، و(منكر الحديث)، و(مضطرب)، أهذا جرح مفسر أم يحتاج مثلاً (صدوق يهم) أن يقال: وهم في حديث فلان أو في شيخ فلان، واختلف على فلان واختلف عليه فلان، لا بد من التصريح بهذا أم يكفي مثلاً: صدوق يهم، ويكون هذا الكلام جرحًا مفسرًا؟
الجواب: (صدوق يهم) جرح مفسر، و(ليس بالقوي) جرح غير مفسر، و(ضعيف) جرح ليس مفسرًا، و(سيء الحفظ) جرح مفسر، و(منكر الحديث) جرح مفسر، و(مضطرب الحديث) كذلك جرح مفسر.
السؤال152 قولهم: فلان (عالي الإسناد) تحتمل عندي أن الرجل إذا كان مشهورًا بالعدالة فهو مدح دال على الرحلة والطلب، وإن كان في غير ذلك فهو دال على التدليس أو الكذب أو السرقة، فماذا ترى؟
الجواب: الذي يظهر أنّها بمعنى: أنه عمّر، وأنه أدرك من المتقدمين ما لم يدركه غيره، وبمعنى أنه بكر بالطلب وسمع من مشايخ لم يسمع منهم غيره من معاصريه، ومن أمثلة ذلك أن الدارمي وهو: عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمد هو معاصر للبخاري، فسمع من يزيد بن هارون يقول الحافظ: ولو بكّر البخاري في الطلب لسمع من يزيد بن هارون، وإن بعض معاصري الإمام البخاري من مشايخ الإمام البخاري كالإمام أحمد سمع من عبدالرزاق، يقول الإمام الحافظ ابن حجر: ولو بكر الإمام البخاري في الرحلة لسمع من عبدالرزاق، بل يذكر الخطيب البغدادي أن محدثًا سمع منه البخاري عن عبدالرزاق، فأراد البخاري أن يرحل إلى عبدالرزاق فتحايل ذلكم الرجل على البخاري وقال: إن عبدالرزاق قد مات ولم يمت عبدالرزاق، من أجل أن يسمع البخاري منه فإنه يعدّ شرفًا له إذا سمع منه البخاري عن عبدالرزاق وهو أيضًا يعدّ كذّابًا، فمن بكر في الطلب سمع من شيوخ لم يسمع منهم بعض معاصريه. فالذي يظهر أنّهم يتنافسون في العلو ويجعلونه منقبة، بل الإمام أحمد يقول: طلب العلو سنة، ويحيى بن معين عند أن حضرته الوفاة كما في "مختصر مقدمة ابن الصلاح لابن كثير" قيل له: أي شيء أحب إليك؟ قال: بيت خال وسند عال، فهم يتنافسون في العلو.
السؤال153 حول زيادة الثقة جعلوا محل النّزاع من دون الصحابة، لما تكلموا في زيادة الثقة ومتى تكون شاذة ومتى لا تكون؟ قالوا: هذا في التابعي ومن دونه، أما في الصحابي فحتى لو اختلفوا، وقال السخاوي: زياداتهم مقبولة بالاتفاق، وكذا قال الصنعاني -رحمه الله تعالى- ولست أدري ما وجه الفرق، على أن ابن الوزير رحمه الله تعالى لما أراد أن يستدل على شذوذ رواية من خالف الجماعة استدل بحديث ذي اليدين وهو صحابي، وإن كانوا رضي الله عنهم كلّهم عدولاً إلا أنّهم ليسوا سواء إن لم يكن في العدالة ففي الملازمة وطول الصحبة والفقه، وغير ذلك من المرجّحات، فماذا تقولون؟
الجواب: أما هذا فله مسوغ، قبول زيادة الصحابي لها مسوغ، الدليل على هذا ما جاء من حديث جابر بن سمرة أن النبيصلى الله عليه وعلى آله وسلم أخبر أنه سيكون اثنا عشرة خليفةً، قال: فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلمة خفيفة لم أسمعها فاستفهمت من أبي، يعني فقد يكون الشخص في المجلس وهذا يسمع الكلام، وذاك لا يسمعه، وهذا أمر معروف حتى في مجالس طلبة العلم وغيرهم، وربما ينقطع به المجلس، فقد جاء في "الصحيح" عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كان الله على العرش ولم يكن قبله شيء)) أو بهذا المعنى، قال: فقيل لي: يا عمران أدرك ناقتك، قال: فنظرت فإذا هي يقطع دونها السراب، قال ووددت أني تركتها، فكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديثه وعمران بن حصين قام لحاجته، وما ود أنه تركها إلا من أجل أن لا يفوته بقية حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
حديث ثالث: أن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من قال: لا إله إلا الله فله من الأجر كذا وكذا)) فقال: فقلت: بخ بخ -أو بهذا المعنى، والحديث في مسلم - فقال عمر: الذى فاتك أعجب، قال ما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنّة الثّمانية يدخل من أيّها شاء)).
والأدلة على هذا متكاثرة أن الشخص ربما يسمع الكلمة، وربما يقوم من المجلس، وربما يروي شيئاً مستقلاً، والله المستعان.
السؤال154 هذه الأدلة التي استدل بها الخطيب على قبول زيادة الثقة من التابعي ومن غير التابعي كما في "الكفاية" لكن أنا أسأل: لم خصص الصحابي بأن زيادته مقبولة حتى وإن خالف الجماعة، ومعروف حديث ذي اليدين لما قال: يا رسول الله أقصرت الصّلاة أم نسيت؟ فقال: ((لم تقصر، ولم أنس)) قال: فإنّما صلّيت ركعتين فقال: ((أكما يقول ذو اليدين))؟ فقالوا: نعم. فمن هذا استدل ابن الوزير على أنه حتى الصحابي، هو ما صرح بهذا لكنه نفس دليلي في الصحابي؟
الجواب: ينضم إلى ما ذكر عدالة الصحابة، وأيضًا ممكن أن الصحابي يسمع ما لم يسمع غيره. أما فيما بعد فقد كانوا حريصين، ذاك يكتب وذاك كذا، وإذا لم يفهم الكلمة استفهم غيره، والله المستعان، والذي يظهر لأجل التحري بهذا، ولأجل هذه الأدلة والله المستعان.
السؤال155 في تفصيل زيادة الثقة ذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- وابن الصلاح وغيرهما أن زيادة الثقة على ثلاث مراتب، وقال: ننظر إذا وقعت ما هي فيه أو أنّها مخالفة لما هي فيه أو أنّها لم تخالف لكن خالفت غير الذي سيقت فيه، ساق على هذا تفصيلاً ذكره الأرناؤوط في تحقيقه "لجامع الأصول"، يقول: إذا كان يمكن الجمع بين الزيادة وبين الأصل عن طريق الجمع المعروف بالأصول: المطلق والمقيد والعموم والخصوص، فلا مانع، وبهذا يمكن أن يجمع بين كثير من الزيادات، ولا يدّعى الشذوذ؟
الجواب: هم يشترطون في رد الزيادة أن تكون منافية، لكن الذي يظهر أن الزيادة نفسها -كون أنّها زيادة- تنافي، من الأمثلة على هذا الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي موسى وفيه زيادة في بيان كيفية الصلاة: ((إذا قرأ فأنصتوا)) فالإمام الدارقطني ينتقد هذه الزيادة ويقول: إنه تفرد بها سليمان التيمي، ويوافقه النووي رحمه الله تعالى على هذا ويقول: إن الحفاظ -إشارة إلى جمع، إضافة إلى الدارقطني- ضعفوا هذه الزيادة. فالذي يظهر أن الزيادة بمجردها تعتبر منافاة.
السؤال156 قول ابن معين -رحمه الله تعالى- في سهيل بن عبدالعزيز قال: (لا يجوز في الضحايا)، والذي يظهر لي أن ذلك العيب فيه كما أن الأضحية إذا كانت معيبةً لا يضحّى بها، لكن العيوب متفاوتة، فهل يكون قوله هنا بمعنى (ضعيف) أم بمعنى (ليس بشيء)؟ مع العلم أن هذه الأقوال الثلاثة قالها ابن معين نفسه في هذا الرجل؟
الجواب: يحمل (ليس بشيء) على (ضعيف)، و(ضعيف) عند ابن معين معناه: ليس بثقة، وقوله: (لا يجوز في الضحايا) تحمل على أنه ليس بثقة.
السؤال157 بالنسبة لموافقة النووي والبيهقي أيضًا للدارقطني في نقد زيادة أبي موسى، البعض يقول: النووي شافعي المذهب فما وافق الدارقطني إلا لأنّها لا تخالف مذهبه، فهل وجدته أنه كثيرًا ما يغلب عليه التمذهب أو يقول باصطلاح المذهب؟
الجواب: البيهقي والنووي محدثان شافعيان، فإذا رجحا شيئًا يوافق المذهب الشافعي نظرت، هما محدثان لا يتعصبان للمذهب، لكن ربما أن الألفة والعادة والذي استمر عليه الشخص ينْزلق بسببه، فإذا وجدته يدافع عن مذهب شافعي فتثبت منه، ومثال لميلان النووي إلى المذهب: بوّب النووي في "صحيح مسلم": باب وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت الصدر، ثم قال: هذا مذهبنا المشهور، وبه قال الجمهور.
قوله: (تحت الصدر) مخالف لظاهر الحديث، فإن الحديث هو (على الصدر) كما رواه ابن خزيمة. وليس بالمفهوم ولا بالمنطوق في "صحيح مسلم" الذي بوب عليه؛ أنّها تكون تحت الصدر، بل في "صحيح مسلم" عن وائل: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي واضعًا يده اليمنى على يده اليسرى) ولم يحدد محلها، فحددها الإمام النووي.
السؤال158 قال ابن جريج إذا قلت: (قال عطاء)، فهو محمول على السماع كما في ترجمته، واختلف في قوله: (عن عطاء) وما جرى مجراها، قال: الظاهر عندي أن (عن) تأخذ حكم (قال) بأنّها تحمل على الاتصال. ابن جريج إذا قال: عن عطاء تحمل على الاتصال كما لو قال: (قال عطاء)، هل هذا عليه العمل؟
الجواب: الظاهر هو هذا، أنه إذا حدث عن عطاء بأي صيغة تكون محمولة على السماع. والله أعلم.
السؤال159 الألباني في "السلسلة الصحيحة" في حديث: ((إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق )) ذكر له طرقًا وحسن الإسناد، وله طريق حسن الإسناد، وله شاهد مرسل حسن، قال: فالحديث صحيح. فهل القول بصحة ما هذا سبيله صواب؟
الجواب: يحتمل أن يكون صحيحًا لغيره، وأن يكون جيدًا، و(جيد) هي رتبة بين الصحة وبين الحسن.
السؤال160 وأيضًا في حديث آخر قال رجل: (حدثنا أصحاب لنا)، فهل هذا الجمع يجبر الجهالة إلى درجة الحكم بالصحة أم بالحسن؟
الجواب: الذي يظهر أنه لا بد أن يبين، فإذا قال: (أصحاب لنا) فإنه يحتمل أن يكونوا ثقات، وأن يكونوا غير ثقات. والله أعلم.
السؤال161 وإن كانوا غير ثقات بمعنى أنّهم ضعفاء في حفظهم أليس ينجبر بالجمع؟
الجواب: إذا كانوا هكذا، ينجبر، لكن يحتمل أن يكون فيهم ضعفاء، وأن يكون فيهم كذابون، وأن يكونوا مجاهيل. فيتوقف فيه. وأنا لا أعلم حديثًا في "الصحيحين" فيه: (حدثنا أصحاب لنا) سواء كان في وسط السند أم في أوله، فينظر هذا، اللهم إلا أن يكون معلقاً على أنه قد جاء في البخاري أشعث بن غرقدة قال سمعت الحي يتحدثون عن عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه دينارًا ليشتري له شاةً. الحديث
السؤال162 ذكر الألباني حفظه الله في الحديث رقم (207) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يغيّر الاسم القبيح إلى الحسن، وذكر أنه من طريق عمر بن علي المقدمي، وعمر هذا هو في نفسه ثقة، لكنه كان يدلس تدليسًا سيئًا جدًا -ورجعت إلى " التهذيب" فوجدت أن تدليسه تدليس السكوت- قال الشيخ الألباني: لا يعتد بحديثه حتى ولو صرح بالتحديث. ثم ساق للحديث طرقًا أخرى، فهل من يدلس تدليس القطع، أو تدليس السكوت، لا يقبل حديثه وإن صرح بالتحديث؟
الجواب: يتوقف في حديثه إلا أن يقبله الحفاظ، أو صحح حديثه حافظ من الحفاظ، وإلا فيتوقف فيه، هذا مع تصريحه بالتحديث.
السؤال163 ذكر الشيخ الألباني حفظه الله تعالى أن مستوري التابعين الذين روى عنهم جماعة من الثقات يحتج بحديثهم ما لم يظهر خطؤهم، قال هذا في الحديث رقم (253) في "السلسلة"، وسبقه ابن الصلاح فقال: إن الذين تقادم العهد بهم و لم يذكرهم أحد بجرح أو تعديل يجب أن يكون العمل على الاحتجاج بحديثهم. فما صحة ذلك مع مراعاة الشروط التي وضعها العلماء لما يحتج به من الأحاديث؟
الجواب: الظاهر أن هذا اختيار ابن كثير والذهبي، وقد استدلوا بحديث: ((خير النّاس قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم )) والحديث لا شاهد فيه، لأنه لو قيل به فالتابعون وتابعو التابعين يشملهم هذا فمن بعدهم، إلى عصر الإمام البخاري رحمه الله تعالى، فهذا كلام لا تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
السؤال164 الرجل إذا لم يكن فيه إلا قولهم: (كان أعقل أهل زمانه) كما قال أبوداود في خالد بن عبدالله بن حسين: (كان أعقل أهل زمانه) ففي أي المراتب؟
الجواب: هذه اللفظة بمفردها لا تدل على أنه ثقة، ويستأنس بحديثه، فيحيى بن أكثم كان من أعقل أهل زمانه، وكان داهيةً ومع هذا فهو متكلم فيه، فهي نفسها لا تدل على أنه ثقة.
السؤال165 في "السلسلة الصحيحة" الحديث رقم (401) ((إذا قمت إلى صلاتك فصلّ صلاة مودّع)) نقل الشيخ الألباني عن السندي قوله: لكن كون الحديث من أوجز الكلمات، وأجمعها للحكمة، يدل على قربه للثبوت. فهل كون الكلام بليغًا ومثل هذه الأمور يجعل حافظًا أو عالمًا من علماء الجرح والتعديل أو النقد أو التحقيق يحكم على الحديث بالثبوت أم أن هذه قرينة من قرائن الترجيح في مثل هذه المسائل؟
الجواب: هو لا يدل، هذه الألفاظ ربما تكون حكمًا أو من كلام أهل العلم، والعلماء أنفسهم ربما يشمّون منه رائحة الثبوت، مثل حديث: ((ازهد في الدّنيا يحبّك الله، وازهد عمّا في أيدي النّاس يحبّك النّاس ))يقول بعضهم: عليه نور النبوة، مع أنه ضعيف وإن حسّنه الشيخ حفظه الله تعالى، وعلى كل فلا بد من السند المستجمع لشروط القبول.
السؤال166 الحديث رقم (468) أيضًا في "السلسلة الصحيحة": ((أكثروا من شهادة أن لا إله إلاّ الله)) -نسأل الله أن يجعلنا من أهلها- قال الشيخ الألباني: رمز المناوي رحمه الله تعالى لضعفه، وتقدمه العراقي مبيّنًا لعلته، قال: فيه موسى بن وردان مختلف فيه، قال الشيخ الألباني: وفي هذا الكلام نظر من وجوه: أولاً: أن العراقي قال في ابن وردان: مختلف فيه، ليس نصًا في تضعيفه، بل هو إلى تقويته أقرب منه إلى تضعيفه، لأن المعهود في استعمالهم لهذه العبارة: (مختلف فيه) أنّهم لا يريدون به التضعيف، بل يشيرون بذلك إلى أن حديثه حسن، أو على الأقل قريب من الحسن، ولا يريدون تضعيفه مطلقًا، لأن من طبيعة الحديث الحسن أن يكون في راويه اختلاف وإلا كان صحيحًا. والسؤال مني ليس في نفيه الضعف المطلق، ولكن في جعْل هذه العبارة إشارةً إلى حسن حديثه، وهي مذكورة في مراتب التجريح المعتبرة في الشواهد، وكون رجال الحسن فيهم اختلاف لكن يعبرون عنه بقولهم: (صدوق أو لا بأس به) لا بقولهم: (مختلف فيه) فما هو الصواب؟
الجواب: الأمر كما قلت، فالذي فهمته أنت هو الذي فهمته أنا، أنّ قول المحدث: (مختلف فيه) بمعنى أن منهم من يوثّقه، ومنهم من يضعّفه، ويحتاج إلى نظر في كلام من وثقه أهو أرجح، أم من ضعّفه أرجح، فما يوحي بأنه حسن، ولا بأنه أنزل من حسن، و(مختلف فيه) و(متكلم فيه) محتاج إلى أن يقف الشخص على كلامهم، فينظر الشخص هل الراجح قبوله أم الراجح ضعفه؟ فلا بد من الوقوف على عباراتهم فإن لم يتيسر الوقوف على عباراتهم توقف، والشيخ حفظه الله تعالى يقول في شهر بن حوشب، وأبي جعفر الرازي وغيرهما مختلف فيه والراجح ضعفه.
السؤال167 بالأمس ونحن نسأل قلت: إن هناك فرقًا بين قولهم في الرجل: (تغير في آخره) أو (اختلط)، لكن قلت: إن الذي يقال فيه: (تغير بآخره) أنه يحتج به، وأنه من باب الحسن لذاته، وهذا الشيخ الألباني في الحديث رقم (518) من "السلسلة الصحيحة" قال في حديث: ((إنّ الله عزّ وجلّ لم ينْزل داءً إلاّ أنزل له شفاءً)) الحديث، قال: فيه أبوقلابة عبدالملك بن محمد الرقاشي، قال عنه الحافظ: صدوق يخطئ، تغير حفظه، فقال الشيخ الألباني فمثله يحتج به إذا وافق غيره، أما إذا خالف أو تفرد، فلا.
الجواب: الذي أعرفه أنه إذا كان مما أخطأ فيه ينظر، لأن الحافظ الذهبي ذكر في "ميزان الاعتدال" في ترجمة هشام بن عروة أنه تغير بآخره قال: أي خفّ حفظه وضبطه، ثم ذكر أن ابن القطان قال: (اختلط)، وأنكر غاية الإنكار على قوله بأنه (اختلط)، فالذي يظهر أنه إذا قالوا: (تغير) ينظر أهذا الحديث مما حدث به في حال تغيره، أو مما وهم فيه بسبب تغيره، وإلا قبل.
السؤال168 قولهم في الرجل: فلان (على شرط الستة)، ماذا يعنون؟
الجواب: إذا كان من المتأخرين فيظهر أنه يعني أصحاب الأمهات الست، وإن كان من المتقدمين فلا أعرف، وشرط أصحاب الأمهات الست مختلف.
السؤال169 عند أن سألتك عن المدلس تدليس السكوت وقلت: نرجع إلى ترجمة عمر بن علي المقدمي، فننظر من الذي قال هذه المقالة, فبعض الأئمة لا يفوت عليهم التدليس مثل القطان وغيره، فنرجو أن توضح هذه الفائدة.
الجواب: بعض الأئمة لا ينفق عليه التدليس، فسفيان الثوري أراد أن يدلس على يحيى بن سعيد القطان، وقال ذات مرة: حدثني أبوسهل فقال يحيى بن سعيد القطان: محمد بن سالم، فضحك سفيان الثوري وقال: لا يفوتك شيء يا يحيى.
السؤال170 الكلام الذي ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب رغم العدالة. قال: هم اشترطوا العدالة، ولسائل أن يسأل: إذا كنتم تقبلون حديث الداعية المبتدع فلم اشترطتم في العدالة أن يجتمع كذا وكذا؟ فأنا أسأل هم قالوا العدالة: أن يكون سالماً من أسباب الفسق، وخوارم المروءة، ولا شك أن المبتدع حتى وإن كان عاميًّا أو المبتدع الداعية الذي حتى وإن كان متحرّجًا من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أليس هذا من خوارم المروءة؟
الجواب: هو من أسباب الفسق، والذي حملهم على قبول رواية المبتدع أنّها وجدت بدع في كبار المحدثين مثل: الأعمش بالتشيع، وأبي إسحاق بالتشيع، وقتادة بالقدر، فوجد في كبار المحدثين بحيث لو ردّت أحاديثهم لردّت سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحملهم على أن يقبلوا حديثهم، وهو أمر ضروريّ، حتى أبوإسحاق الجوزجاني بعد أن ذكر جماعةً من الشيعة قال: لو رددنا حديث هذا الضرب لرددنا الكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
السؤال171 في الحديث الشاذ، ذكروا أن من شروط الصحيح أن لا يكون شاذًا، وكنت أعرف من ذلك أن الشاذ من جملة الضعيف حسب ترتيب ابن الصلاح لأقسام الضعيف، فلما انتهى من الشاذ وذكر هذه الأشياء أنّها من جملة الضعيف قال: هناك فوائد، ولكن الحافظ ابن حجر قال في بعض أقواله: إنه لا يسمي ضعيفًا ولكن مرجوحاً، وكم من صحيح لا يعمل به وهو من جملة الصحيح لمعارض أقوى أو لمرجّح؟
الجواب: الأمر سهل في هذا، فمؤداه مؤدى الضعيف، فإذا قيل فيه: إنه صحيح لأن سنده ثقات، فصحيح باعتبار سنده، ضعيف باعتبار آخر، إما باعتبار سنده الشاذ، وإما بسبب متنه والله أعلم.
السؤال172 في حديث قد صححه إمام من الأئمة: مثل ابن حنبل أو الترمذي، أو مثل أبي داود، أو مثل الحافظ ابن حجر، أو الشيخ الألباني، أو الشيخ مقبل، وأنا أستطيع أن أبحث، ولكن ليس عندي الوقت أو من النشاط ما يجعلني أراجع وأقف على مقال، فأعتقد في حديث وقلت: هذا الحديث صحيح أخذًا ومعتقدًا في ذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد حثنا على قبول قول أهل العلم، فبعض الإخوة يقول: إن هذا من باب التقليد، لأنك أخذت بقوله دون أن تبحث ما ورائه، فقلت له: إن قول الإمام من الأئمة: هذا حديث صحيح هو كما قال الصنعاني: اختصار لكلام كثير، إن هذا الرجل عدل، أو هذا الحديث رجاله عدول، وحتى لو قال رجاله عدول، فالعدالة أصلاً مختلف فيها، عدول ينتهون من كذا، ويفعلون كذا، وضابطون ومعنى الضبط، وهذا كلام يطول جدًا. فقوله: صحيح يكفينى، لأنه من أئمة الشأن ويعرف معنى كلمة صحيح وعلى أي شيء تقع، ويعرف الاسم ومسماه، ويقول له الإخوة: إن هذا من باب التقليد لأنك أخذت هذا من غير حجة، وبعض الإخوة يقول: إن هذا من باب الاتباع، فماذ ترون؟
الجواب: هذا ليس من باب التقليد كما ذكره الصنعاني في رسالة "إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد"، إذا عرف من الرجل التحري وأنه لا يصحح إلا ما كان صحيحًا، ولا زال أهل العلم يستعملون هذا، فهذا لا يعتبر إن شاء الله من باب التقليد، والله سبحانه وتعالى يقول: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا} مفهومه إذا جاء العدل تقبل.
السؤال173 إذا قالوا في الرجل: (عالي الإسناد)، قلت: يحتمل أن يكون مدلسًا؟
الجواب: الأقرب والمتبادر إلى الذهن أنه بمعنى أنه بكر في الطلب فأدرك شيوخًا لم يدركهم غيره، لكن الأخ أبا الحسن أتى بمعنى أنه يحدث عن أناس لم يدركهم، فيكون محتملاً لهذا، ومحتملاً لهذا. والله أعلم.
السؤال174 الشيخ المعلمي رحمه الله ذكر في مقدمة "الفوائد المجموعة" عند أن تكلم على الأحاديث الموضوعة، ذكر عدة فوائد يقف عليها طالب العلم وقال: ينتفع بها، منها: فائدة أردت أن أذكرها ليتضح لي الخوض فيها، قال: إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنّهم يتطلبون له علة، إذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر، فمن ذلك إعلالهم أن راويه لم يصرّح بالسماع، هذا مع أن الراوي غير مدلس، أعل البخاري بذلك خبرًا رواه عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عكرمة تراه في ترجمة عمرو من "التهذيب"، ونحو ذلك كلامه في حديث عمرو بن دينار في القضاء بالشاهد واليمين، ونحوه أيضًا كلام شيخه علي بن المديني في حديث:((خلق الله التّربة يوم السّبت)) إلخ، كما تراه في "الأسماء والصفات" للبيهقي، وكذلك أعلّ أبوحاتم خبرًا رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري كما تراه في "علل أبي حاتم "(ج2 ص353) ومن ذلك إشارة البخاري إلى إعلال حديث الجمع بين الصلاتين، بأن قتيبة لما كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني، وكان خالد يدخل على الشيوخ، فليراجع هذا في "معرفة علوم الحديث" للحاكم ص(120)، ومن ذلك الإعلال بالحمل على الخطأ، وإن لم يتبين وجهه، كإعلالهم حديث عبدالملك بن أبي سليمان في الشفعة، ومن ذلك إعلالهم بظن أن الحديث أدخل على الشيخ كما ترى في "لسان الميزان" في ترجمة الفضل بن الحباب، وغيرها، وحجتهم في هذا، بأن عدم القدح في العلة مطلقًا إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكرًا يغلب على ظن الناقد بطلانه، فقد يحقق وجود الخلل، وإذا لم يوجد سبب له إلا تلك العلة فالظاهر أنّها هي السبب، وأن هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها، وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة، وأنّهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر، هذه فائدة قرأتها؟
الجواب: هذه فائدة تساوي الدنيا، وربما أعلوا الحديث ولم يستطيعوا أن يعبروا عن العلة، والفائدة لن أجيب عليها. فلا مزيد عليها.
فالأمر كما قال، بل أعظم من هذا: أنّهم ربما يعلون الحديث ولا يستطيعون إبراز العلة، ويلزم المتأخر أن يأخذ بقولهم، لأنه ما بلغ مبلغهم في الحفظ ومعرفة الرجال، وحفظ كل طرق الحديث، وكل راو وما روى، يعنى كم له من تلاميذ، وكم روى كل تلميذ عنه، فهم يعتبرون آيةً من آيات الله.
السؤال175 ذكر السخاوي -رحمه الله تعالى- في "فتح المغيث" (ج2 ص12) أن البزار في "مسنده" وابن القطان في "الوهم والإيهام" ذهبا أن العدالة تثبت برواية جماعة من المشاهير عن الراوي، حتى قال الذهبي في ترجمة مالك ابن الخير الزبادي وقد نقل عن ابن القطان أنه ممن لم تثبت عدالته، ويريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة، قال: وفي رواة "الصحيحين" عدد كثير ما علمنا أن أحدًا نص على توثيقهم. والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح، لكن تعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فقال: ما نسبه للجمهور لم يصرّح به أحد من أئمة النقد إلا ابن حبان، هو حق فيمن كان مشهورًا بالطلب والانتساب إلى الحديث. والسؤال: إذا كان مذهب البزار وابن القطان مرجوحًا فإذا وجدنا راويًا لم يوثقه غيرهما أو أحدهما، أليس من التواضع أن يكون حكمه مقبولاً حيث يتابع كما يفعل الحافظ في كثير من التراجم أم ماذا تقولون؟
الجواب: إذا وثقا فهما معتبران، إذا رأينا حديثًا في كتابيهما أو في كتبهما من طريق راو روى عنه جماعة، لم يوثقه معتبر، وليس مشهورًا بالطلب. أو رأيناهما صححا هذا الحديث فيتوقف فيه، يعني عرفت قاعدتهما بحسب ما قرأته في التصحيح لا في التوثيق نفسه، فإذا وجدناهم قد صححا حديثًا فيه راو روى عنه جماعة ولم يوثقه معتبر ولم يشتهر بالطلب توقفنا في تصحيحه. ثم إنه قد علم تساهل البزار في التوثيق وكذا في التصحيح.
فائدة: قال السخاوي رحمه الله تعالى في "فتح المغيث" (ج2 ص12): وذهب بعضهم إلى أن مما تثبت به العدالة رواية الجماعة من الجلة عن الراوي وهذه طريقة البراز في "مسنده" وجنح إليها ابن القطان في الكلام على حديث قطع السدر من كتابه الوهم والإيهام.
قلت: ابن القطان ليس له قاعدة مطردة في هذا، فيحتمل أنه حسن حديث السدر لرواية الجماعة عن سعيد بن محمد بن جبير أو أنه ممن عرفت بيته ونسبه أو للأمرين جميعاً.
وهذا نص كلامه: (...وأما ابن عمه سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم فلا تعرف له حال، وإن كان قد روى عنه جماعة منهم: عثمان المذكور، وعبيدالله بن موهب، وابن أبي ذئب، وعبدالله بن جعفر، وغيرهم كلهم أخذ عنه هذا الحديث، ولا أعرف له من العلم غيره وإن كان معروف البيت والنسب.
وله أخ أسمه عمر، وأخ ثان اسمه الحارث، يروي أيضًا عن أبيه، وثالث اسمه جبير بن محمد، يروي أيضًا عن أبيه فهم أربعة: سعيد وعمر والحارث وجبير، فالحديث من أجله حسن.
وإلا فقد حصل بينه وبين الإمام الذهبي خصام في بعض الرواة من هذا الضرب ففي ترجمة حفص بن بغيل من "الميزان": روى عن زائدة وجماعة، وعنه أبوكريب وأحمد بن بديل، قال ابن القطان: لا يعرف له حال، ولا يعرف. قال الذهبي: لم أذكر هذا النوع في كتابي فإن ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته، وهذا شيء كثير، ففي "الصحيحين" من هذا النمط خلق كثير مستورون، ما ضعّفهم أحد ولا هم بمجاهيل. وزاد صاحب "تهذيب التهذيب" ممن روى عنه عبدالرحمن بن صالح الأزدي، وأبا الوليد الكلبي. قال ابن حزم: مجهول.
وفي ترجمة مالك بن الخير الزبادي نسبه إلى موضع في المغرب يقال: (زباد) بالباء الموحدة قال ابن القطان: وهو ممن لم تثبت عدالته فرد عليه الذهبي قائلاً: (يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة) وفي رواة "الصحيحين" عدد كثير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم.
وقد قال فيه الذهبي: (محله الصدق) يروي عن أبي قبيل.. روى عنه حيوة بن شريح، وهو من طبقته، وابن وهب، وزيد بن الحباب، ورشدين. اهـ
وفي "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" (ج1 ص442) أنه سأل عنه أحمد بن صالح: ما تقول في مالك بن الخير الزبادي؟ قال: ثقة. اهـ
وفي "تهذيب التهذيب" كثير ممن يروي عنه جماعة فيقول: مجهول الحال، فعلى هذا فلا ينبغي أن يعزى توثيق المجاهيل لابن القطان.
السؤال176 ماذا تقولون في قول الذهبي -رحمه الله تعالى-: لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة، وكثير من التراجم يختلف فيها ابن معين، وأحمد بن حنبل، وأبوحاتم، وأبوزرعة، بعضهم يقول: ضعيف، والآخر يقول: ثقة، فهو قال: لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة، ذكر هذا السيوطي؟
الجواب: هذه العبارة مفسّرة بتفسير لا أذكره الآن، ولعل المراد لا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف لا يخالفهما أحد، أو على تضعيف ثقة لا يخالفهما أحد، والله أعلم.
السؤال177 في رواية الفرع -وهو ثقة- للحديث ويجحده الأصل ذكروا لذلك تفصيلات كما هو معلوم. وأنا أسأل: إذا جحد الأصل مكذّبًا للفرع وليس شاكًا وقال: أنا ما حدثتك بهذا الحديث. وقال الفرع: أنت حدثتني بهذا الحديث، فهم رجّحوا كلام الأصل قائلين: إنه أعلم بفعل نفسه، والثاني -الفرع- أعلم بسماع نفسه، فهل يترك هذا الحديث من أجل هذا؟
الجواب: هذه المسألة الذي يظهر أن الراجح فيها، والله أعلم هو: إذا كذبه فيتوقف في ذلك الحديث نفسه، ولا يقدح فيهما في هذا ولا هذا، وأما أبومحمد بن حزم -رحمه الله تعالى- فيقول: وإن كذبه فهو ثقة، والنسيان يطرأ على الشخص، هذا إذا كان قد جحده من دون مسوغ، أما إذا وجد مسوغ لجحوده -كأن يكون في الحديث مضرّة عليه وقال: أنا ما حدثت فلانًا بهذا- فيحمل عليه لكن من دون ما يسوغ له الجحود فيتوقف فيه، وإلا فيقبل، فقد جاء في حديث: ((ما كنّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلاّ بالتّكبير)) جاء في هذا الحديث أن عمرو بن دينار سأل شيخه فأنكر أنه حدثه بهذا، فالإمام البخاري ذكره ولم يذكر ترددًا، قال فسألته فقال: ما حدثته بهذا -يعنى لا أذكر هذا- ومع هذا فأورده البخاري في "صحيحه" ولم يورد هذا التردد، وأورده الإمام مسلم في "صحيحه" وأورد هذا التردد، فإذا كان مجرد تردد فلا بأس إن شاء الله وإن جحد الأصل فيتوقف فيه، لأنه يكون محل ريبة. وهذه مسألة اجتهادية.
السؤال178 وأيضًا ذكروا فيمن ترد روايته: من خالف ثم أصر ولم يرجع -أي خالف في حديثه وخالف من هو أوثق منه أو أكثر منه، ومع ذلك راجعوه فلم يرجع- وقالوا هذا ترد روايته، لكن معلوم أن الإمام مالكًا رحمه الله له في ذلك قصة في مخالفته للثقات، في روايته عن الزهري عن علي بن الحسين عن عمر بن عثمان عن أسامة مرفوعًا ((لا يرث المسلم الكافر)) وغيره من أصحاب الزهري، رووه عن عمرو بن عثمان -بفتح العين- ومع ذلك لم يرجع الإمام مالك؟
الجواب: نعم هم جعلوا ذلك من القوادح، لكنه محمول على إذا لم يرجع عنادًا وتكبرًا، أما إذا كان واثقًا بنفسه فلا، والإمام الطبراني رحمه الله تعالى أيضًا وهم في اسم شيخ من شيوخه فقيل له في ذلك، فلم يرجع، وقد ذكروا في ترجمة غير راو أنه لم يرجع لوثوقه بعلمه، والله أعلم.
السؤال179 قولهم في الرجل: (لا نعلم إلا خيرًا)، يترجم له الحافظ رحمه الله تعالى في "التقريب" بقوله: (مقبول) إذا لم يكن في الرجل إلا كلمة أبي زرعة أو غيره: (فلان لا نعلم إلا خيرًا) قال عنه في "التقريب": (مقبول) إلا أن أبا زرعة سأل دحيمًا: ما تقول في علي بن حوشب الفزاري؟ فقال: لا بأس به. قال أبوزرعة: ولم لا تقول: (ثقة ولا نعلم إلا خيرًا)، قال: قد قلت لك: إنه ثقة. الشاهد في قول أبي زرعة: ولم لا تقول: ثقة ولا نعلم إلا خيرًا، هل هذه العبارة تعني أنه أرفع من أن يترجم له بمقبول؟
الجواب: العلماء تختلف عباراتهم حتى في الألفاظ، قد يكون اللفظ واحدًا وله معنى عند يحيى بن معين، غير معناه عند البخاري، من أجل هذا كما تقدم قد ألف اللكنوي كتابه "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل" وكان الحافظ ابن حجر كما ذكره تلميذه السخاوي يقول: (يا حبذا لو جمعت ألفاظ الجرح والتعديل وفسرت) وقد وفق الله اللكنوي فجمعها، فلا بد أن تحمل على المعنى اللائق بها، فقوله -من حيث المعنى اللغوي-: (لا أعلم إلا خيرًا) الظاهر إذا سئل عنه: أهو ثقة، أم ليس بثقة؟ أنه يقبل، هذا من حيث مؤداها، وهو محتمل أيضًا: أنه لا يعلم إلا خيرًا في الصلاح، وبقي الضبط، (لا أعلم إلا خيرًا) ويكون مستور الحال، لا أعلم إلا خيرًا في الصلاح، لكن إذا سئل مثل يحيى بن معين، ويحيى بن سعيد القطان، وكذا الإمام أحمد وغيره وليس هناك مانع أنه يأتي بكلام فيه معاريض فيحمل على أنه مقبول -وأعني- أنه ثقة يقبل حديثه، وليس مقبولاً على اصطلاح الحافظ.
السؤال180 في قولهم في كثير من الرجال: (فلان طويل اللحية) هل يحمل على أنه يرفع المراسيل، ويصل المنقطعات، وإلا فما وجه قولهم؟
الجواب: عند بعض الأدباء الذين لا خير فيهم أن طول اللحية دليل على خفة العقل، فنحن إن شاء الله ما نحمل كلام المحدثين على هذا النحو السخيف، فالله أعلم بمرادهم، ولعله أيضًا من باب الحيدة عن الجواب الصحيح.
السؤال181 الشيخ الألباني حفظه الله تعالى في حديث: "الأذنان من الرّأس" ساق إسنادًا من "الفوائد المنتقاه" ثم قال: وهذا سند حسن عندي، فإن رجاله كلهم ثقات معروفون غير يحيى بن العريان الهروي، وقد ترجمه الخطيب ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، غير أنه وصفه بأنه كان محدثًا، فهل هذا يحسن حديثه لذاته؟
الجواب: لا يحسن، ولكن يستأنس به، فلفظة كونه محدثًا لا تدل على أن حديثه مقبول، فيجوز أنه محدث وهو ضعيف، محدث وهو كذاب، محدث وهو ثقة، والله أعلم.
السؤال182 بعضهم يقول: فلان من المحدثين، وفلان من الشيوخ، أيعني أنه من الشيوخ الفقهاء أم ماذا؟
الجواب: يعني أنه من الشيوخ الذين ليسوا بأثبات. والله أعلم.
أسئلة شباب لودر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين.
وبعد: فهذه أسئلة من شباب (لودر) نقدّمها إلى شيخنا العلامة المحدث الشيخ مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى.
السؤال183 فضيلة الشيخ: ماهو القول في قول شعبة بن الحجاج ومسعر بن كدام في أهل الحديث: (يا أهل الحديث إن هذا الحديث يشغلكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)، وكيف نجمع بين هذا وبين قول الإمام أحمد لما سمع أحدهم يتكلم في أصحاب الحديث، فنفض ثوبه وقال: زنديق؟
الجواب: الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فالجمع بين القولين -على أنه لا يوجد تعارض- أن القول الأول: لا يشغلنكم الحديث عن ذكر الله، فإن من المحدثين من ربما ينهمك في الحديث ويشغل به عن الذكر، ويشغل به عن بعض النوافل، وربما يزدحم المحدثون على الشخص ويقلقونه ويضجرونه، فيضجر ويقول عند ضجره مثل هذا الكلام، مثل ما كان يفعل سفيان الثوري فقد كان يطرد المحدثين من عنده ثم يقول بعد ذلك: لو لم يأتوني لأتيتهم وما أستطيع أن أصبر عنهم.
وكما جاء عن الأعمش عند أن مات كلبه فأزدحم المحدثون على بابه وعليه وأضجروه حتى قال: مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر -يقصد كلبه-. وألحّ بعض المحدثين على أبي معاوية فقال لأبي معاوية: الأعمش عمن؟ فقال أبومعاوية: عن إبليس.
أما قول الإمام أحمد: إنه من تكلّم في أهل الحديث أنه زنديق، ونفض ثوبه وقام، على أن القصة فيها كلام، فنعم، فإن الذي يطعن في أهل الحديث يعتبر طاعنًا في دين الله، فهم نقلة الدين وحماته، كما قال الحافظ الصوري -رحمه الله تعالى- في شأن المحدثين:
قل لمن عاند الحديث وأضحى أبعلم تقول هذا أبن لي أيعاب الذين هم حفظوا الدين وإلى قولهم وما قد رووه عائباً أهله ومن يدّعيه أم بجهل فالجهل خلق السّفيه من الترهات والتمويه راجع كلّ عالم وفقيه
السؤال184 بالنسبة للحديث الضعيف إذا كان الضعف راجعًا إلى سوء الحفظ، وتكون له طرق كثيرة فهل يرتقي إلى الصحيح لغيره؟
الجواب: نعم، إذا لم يشتد ضعفه، فممكن أن يرتقي إلى الحسن لغيره، وإلى الصحيح لغيره إذا جاء من نحو سبع طرق أوست، سيء الحفظ مع سيء الحفظ مع سيء الحفظ، ولكن بشرط ألا يكون ذلك الذي قيل فيه سيء الحفظ قد خالف، وقد ذكر الحديث في ترجمته من "الكامل" لابن عدي، أو ذكر في ترجمته في "ميزان الإعتدال"، أو ذكر في ترجمته من "لسان الميزان" أو في كتب العلل أن هذا الحديث منكر، فمثل هذه الطريق لا تصلح في الشواهد والمتابعات لأنه إذا خالف الثقات المتكاثرين فحديثه منكر والمنكر لا يصلح في الشواهد والمتابعات، فلا بد من اعتبار هذه الشروط. والله المستعان.
السؤال185 ما هو القول الفصل فيمن قيل فيه من المحدثين: إنه متساهل كالحاكم، وابن حبان، والترمذي، هل هو الحكم على الحديث الحسن بالصحة أم غير ذلك؟
الجواب: أما ابن حبان فتساهله فيما يختص بالمجهولين، وقاعدته وقاعدة شيخه ابن خزيمة معروفة كما في مقدمة "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر: أنّهما يوثقان المجهول، وعلى هذا بنيا عملهما في صحيحيهما.
أما في بقية الأمور فربما يحصل منه بعض التساهل، مثل: تصحيح حديث درّاج عن أبي الهيثم أو غيره، ولكن "صحيح ابن حبان" يعتبر مرجعًا من المراجع الكبيرة المفيدة، وأخطاؤه في مسألة توثيق المجهول وتصحيح حديث المجهول لا ينبغي أن يتابع عليها، وتساهله في بعض الأحاديث التي من طرق بعض الرجال لا يتابع عليها أيضًا.
والترمذي كذلك، مع أن الترمذي أكثر تساهلاً من ابن حبان، فالحافظ الذهبي قال في ترجمة كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف وقد ذكر حديث: ((المسلمون على شروطهم))، قال: وأما الترمذي فصحح حديثه، ولهذا لا يعتمد العلماء على تصحيحه. لأنه قد كان ذكر في ترجمة كثير بن عبدالله عن الإمام الشافعي وأبي داود، أنه ركن من أركان الكذب.
وقال في ترجمة يحيى بن يمان: وقد ذكر في ترجمته حديثًا وهو أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى ناراً في المقبرة، وذهب فإذا هم يحفرون بالليل ودفن في الليل، والدفن جائز في الليل لأدلة أخرى ليس الكلام على هذا فقال الترمذي: حسن، فقال الذهبي: حسّنه الترمذي، وفي سنده ثلاثة ضعفاء، فعند المحاققه غالب تحسينات الترمذي ضعاف.
وروى الترمذي في "جامعه" لمحمد بن سعيد المصلوب، ومحمد بن السائب الكلبي ولبعض الهلكى، من أجل هذا نزلت رتبته عن "سنن أبي داود" وعن "سنن النسائي"، وأما الحاكم فهو أكثر الثلاثة تساهلاً فربما يصحح حديثًا من طريق أبي حذيفة إسحاق بن بشر البخاري، أو من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي، وربما يصحح حديثًا منقطعًا أو شديد الضعف، وقد تتبع الذهبي -رحمه الله- بعض ما تيسر له، وتتبعنا بحمد الله بعض ما سكت عليه الحافظ الذهبي، في هوامش المستدرك، وقد خرج الكتاب والحمد لله وهو بعنوان "تتبع أوهام الحاكم التي سكت عليها الذهبي".
والإمام الذهبي رحمه الله يقول في ترجمة الحاكم في شأن "المستدرك": وياليته لم يؤلّفه.
ويقول أيضًا: إنه محتاج إلى نظر فيه -أي "المستدرك"- لماذا؟ لأن كتاب الذهبي مجرد تلخيص "للمستدرك"، فإذا جاء منه تنبيه على حديث ضعيف فهو عفو وفضل منه -رحمه الله- والعلماء منهم من أسرف في شأن "المستدرك"، فأبوسعد الماليني يقول: ليس في "المستدرك" حديث صحيح على شرطهما. قالوا: وهذا إسراف وغلو.
والحافظ الذهبي يقول: فيه النصف صحيح، وقدر الربع صالح، والباقي عجائب وغرائب. وقد جمع الحافظ الذهبي نحو مائة حديث من "المستدرك" التي هي موضوعة.
وأعدل شيء في "المستدرك" هو قول الإمام الذهبي فيه، ولا تطمئن النفس إلى ما تفرد به حتى ينظر من أخرجه، لكثرة أوهامه في هذا الكتاب.
أما "صحيح ابن حبان" فهو كتاب عظيم يستفاد منه.
وأما "جامع الترمذي" فقد كان أبوالحسن المقدسي ينصح طلبة العلم بالبدء قبل البخاري ومسلم لسهولته، فإنه يذكر الحديث ويذكر الحكم عليه، ويذكر ما يستنبط منه، ومن قال به من الفقهاء، وإذا ذكر الاسم ذكر الكنية أو النسبة بعد الحديث، وإذا ذكر الكنية ذكر الاسم بعد الحديث، فكتاب الترمذي كتاب عظيم على تساهله هو وابن حبان.
السؤال186 يقال إن تساهل الحاكم راجع إلى مافي آخر"المستدرك" لأنه قد حرر أوله ولم يحرر آخره، فما مدى صحة هذا القول؟
الجواب: لعل الأكثر في آخره، وإلا فأوائله وأواخره سواء، ومن أوائل الأحاديث التي في "المستدرك" في كتاب الإيمان يقول: في سنده أبوبلج يحيى بن سليم، أو يحيى بن أبي سليم فهو متساهل في هذا من أوله إلى نهايته، إلا أن التساهل في آخره أكثر.
والحافظ يقول: إن الحاكم كان في أول "المستدرك" يمليه املاءً فكان التساهل فيه أقل، وفي آخره لا يمليه.
فعلى هذا فهو إلى نحو نصف المجلد الثالث وهو يمر بنا الإملاء وليس كما يقول الحافظ إنه في أوائله أو في نحو الربع أو النصف.
السؤال187 يكثر الإمام النووي -رحمه الله- في "شرحه للمهذب" من القول في بعض الأحاديث: (وهذا الحديث قد اتفق الحفاظ على ضعفه)، فهل يقبل منه ذلك، وهل هذا الأمر ممكن أصلاً؟
الجواب: هو كغيره، فالحافظ يتعقبه في كثير من الأشياء مثل قوله: اتفق الحفاظ على أن زيادة (وبركاته) في التسليم في الصلاة ضعيفة، أو غير صحيحة، وكذلك في حديث آخر، فلا بد من نظر فقد عرف أنه ربما يقول هذا ويتعقبه الحافظ، فالإمام النووي كغيره من العلماء لابد أن ينظر في الحديث بسنده ويحكم عليه بما يستحقه.
السؤال188 وضع المحدثون قواعد للجرح والتعديل، والحكم على الأحاديث، ومضى عليها من بعدهم فيما ظهر لهم، ولكن بالنظر إلى بعض أحكامهم يجد المحدث أو الباحث أن حكمهم على الحديث بالضعف أو الوضع مخالف لما ظهر له من القواعد، فهل يأخذ بالقواعد التي وضعوها أو يعتمد قولهم في المخالفة؟
الجواب: إذا قال أبوحاتم: هذا حديث ضعيف، أو هذا حديث منكر، أو هذا حديث موضوع، ولم يخالفه أحد من معاصريه، أو ممن بعد معاصريه كالإمام الدارقطني فنأخذ به، إلا إذا قصد حديثًا بهذا السند نفسه، فلا بأس إذا جاء من طريق أخرى، فإنّهم قد يعلّون الحديث بسند واحد كما ذكرنا هذا في مقدمة "أحاديث معلة ظاهرها الصحة" ونقلناه أيضًا من "الإلزامات والتتبع" ونقلناه من "النكت على ابن الصلاح" للحافظ ابن حجر بتحقيق أخينا الفاضل الشيخ ربيع بن هادي -حفظه الله- فإن أراد هذا الحديث بهذا السند ضعيف، وعثرت على سند آخر صحيح فلا بأس بذلك، أما إذا قال: الحديث لا يثبت بحال من الأحوال. أو تريد أنت أن تصححه بذلك السند فقد يحكم أبوحاتم بأن الحديث لا يصح لأنه تفرد به فلان، فيأتي الباحث العصري ويقول: وفلان ثقة، فالحديث صحيح، فيامسكين من أنت بجانب ذلك الإمام، أليس الثقة يخالف الثقات؟ أو ليس الثقة يهم أو يغلط؟، فإذا ضعّفوا الحديث وهذا الباحث يريد أن يصححه بذلك السند فلا نقبل، لأنّهم يعرفون حديث المحدث، وحديث شيوخه، وحديث تلاميذه، وهل هذا من حديث فلان أو ليس من حديث فلان، أما إذا عثرت له على سند صحيح فلا بأس، ولم يجزم الحافظ بأنه لا يصح بوجه من الوجوه من ذلك الزمان كأبي زرعة، وأبي حاتم، والبخاري، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، والدارقطني، ومن سلك مسلك هؤلاء من معاصريهم فمن بعدهم من الحفاظ الكبار ولم يخالفهم أحد من معاصريهم فنأخذ به وأنفسنا مطمئنه، ونترك قول المعاصر، فالفرق بينهم وبيننا أن المعاصر لا يعدو أن يكون باحثًا، وهم حفاظ يحفظون حديث المحدث وحديث شيخه، وحديث تلميذه، وهل هذا من حديث فلان أم ليس من حديث فلان.
السؤال189 ما هو الفرق في التقليد لقول أحد المحدثين في الحكم على حديث، أو أحد الفقهاء في مسألة فقهية، وقد ذكرتم -حفظكم الله- في "المقترح" أنه لا بأس لطالب العلم أن يقلّد الحافظ في التصحيح والتضعيف في "بلوغ المرام"؟
الجواب: لا أظن أنني قلت: يقلّد، ولو أعلم أنني قلت تقليدًا لشطبتها من الكتاب، بل لا بأس أن يأخذ ويتبع الحافظ في هذا كما أجاب بهذا محمد بن إسماعيل الأمير في كتابه "ارشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد"، فقال: إن قولهم: هذا حديث صحيح معناه: أنه متصل السند يرويه العدل عن مثله غير معلّ ولا شاذّ، ولكنهم يستطيلون هذا، فهم يختصرونه بقولهم: صحيح، فهذا من باب قبول خبر الثقة، وليس من باب التقليد، فإن الله عز وجل يقول في شأن قبول خبر الثقة: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.
مفهوم الآية أنه إذا جاءنا العدل بالخبر نقبله، على أن الذي يبحث ويتتبع الطرق تطمئن نفسه أكثر من غيره، ولكن لك أن تأخذ بتصحيح الحافظ ابن حجر، ولك أن تأخذ بتصحيح الشيخ الألباني، وبتصحيح العراقي، أو غيرهم من العلماء، ولك أن تبحث، وهذا الذي أنصحك به، وأن تقف على الحقيقة بنفسك.
أما التقليد فتذهب إلى العالم ويقول لك: تفعل كذا وكذا، بدون دليل، فتصلي كما صلى مالك، أو تصلي كما صلى ابن حنبل، أو كما صلى الشافعي، أو كما صلى الشيخ المعاصر، والشيخ المعاصر لم يقل: سأصف لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما إذا قال: سأصف لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مستعد للمناقشة بعد أن ينتهي فلا بأس بذلك ولا يعد تقليدًا، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يعلّم بالقول والفعل، والتعليم بالفعل يرتسم في الذهن أكثر.
السؤال190 لربما استخرج المستخرج على "الصحيحين" لفظةً ليست عنده، فهل يرجع فيها إلى النظر، أم تترك لاحتمال أنه تركها لعلّة عنده؟
الجواب: بل لابد من النظر، هل هذه الزيادة التي زيدت في المستخرج هل الذي زادها يماثل من لم يزدها، أو هو أرجح ممن لم يزدها، فتقبل. أما إذا كان مرجوحًا فيتوقف فيها وترد.
السؤال191 إذا أورد ابن حبان رجلاً في "الثقات" فوثقه وأورد رجلاً آخر، ولم يوثقه فهل هما في مرتبة واحدة؟ وهل مراتب ابن حبان في التوثيق واحدة؟ بمعنى أن كل من ذكرهم عنده موثقون في توثيق واحد؟
الجواب: يلتمس، هل وثّقه غيره ممن يعتد به -غير العجلي فإنه متساهل كما تساهل ابن حبان-؟ فإذا وثقه غير ابن حبان مثل: ابن أبي حاتم، أو البخاري، أو يحيى بن معين، أو غيرهم من الأئمة الذين ألّفوا في الرجال فيقبل مثل: يعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة، فمثل هؤلاء يقبل، وإذا تفرد هو بالتوثيق فقول: (ثقة) أرفع من مجرد ذكره في "الثقات"، لأنه قد ذكر في "الثقات" بعض الناس وقيل له من هو؟ فقال: لا أدري من هو ولا ابن من هو؟
ولكن أيحتج به إذا قال: (ثقة) أم نتوقف فيه؟، وإن كان المعلمي له تقسيم في "التنكيل" فقد قسم من وثقه ابن حبان إلى خمسة أقسام، إذا لم يوافقه أحد، أما نحن فنتوقف فيه لما علم من تساهل ابن حبان -رحمه الله- في توثيق المجهولين.
السؤال192 بالنسبة للعنعنة في "الصحيحين" ولم نجد لها التصريح بالسماع يقول فيها المزي -رحمه الله-: لا يسعنا إلا تحسين الظن، بصاحبي "الصحيحين"، فكيف نبني على هذا الظن؟ وما الذي أخرج "الصحيحين" عن قواعد المصطلح والجرح والتعديل؟
الجواب: أخرجهما شروطهما، فشروطهما ليست كغيرهما، والحديث المدلّس يحتمل أنه قد صرح بالتحديث في مكان آخر، والإمام الدارقطني -رحمه الله- قد أجهد نفسه في التتبع لما أخطأ فيه الشيخان، فما بلغ الخطأ إلا نحو مائتي حديث، وبعضها لم يسلّم للدارقطني -رحمه الله تعالى- بأنّها منتقدة، على أن انتقادات الإمام الدارقطني اعتبرها العلماء.
فقال ابن الصلاح في "المصطلح": إن أحاديث "الصحيحين" تفيد العلم اليقيني النظري إلا أحاديث يسيرة انتقدها الحفاظ كالدارقطني وغيره. فهم يعتبرون انتقاداته -رحمه الله-.
السؤال193 الذين هذّبوا كتب الرجال واختصروها هل كان عملهم مجرد الاختصار والتهذيب، أم هو قائم علىالترجيح في ألفاظ الجرح والتعديل بالنسبة للرجل؟
الجواب: منهم من اختصر مجرد اختصار، وربما يذكر أقوالاً متناقضة ولا يلتفت إلى صحيحها من سقيمها، ومنهم من اختصر مع ملاحظة الأسانيد والمتون كما هو شأن الحافظ ابن حجر، وكذلك الحافظ الذهبي رحمهما الله. فهما يلاحظان متون الكلام الذي قيل عن أئمة الجرح والتعديل ويلاحظان السند فرب قصة يسكت عنها الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال" ويتكلم عليها في "السير" أو يسكت عنها في "السير" ويتكلم عنها في "ميزان الإعتدال" أو يسكت عنها فيهما ويتكلم عليها في "تذكرة الحفاظ"، فهذا هو شأن بعض أهل العلم الذين اختصروا.
وعلى هذا فلا يقال: أن حذفهم الأسانيد يعتبر مخلاً، لأنّهم أرادوا أن يأتوا بفائدة مختصرة، فربما تمرّ بك في الترجمة الواحدة في "تهذيب التهذيب" أو "تهذيب الكمال" عدة مراجع ويقربون هذا لك بأوجز عبارة، على أنك إذا استطعت أن ترجع إلى الأصول فعلت ذلك، فربما اختصروا كلمةً وحذفوها ولها تعلّق بجرح أو تعديل، وربما ذكروا الكلام بالمعنى، ولو ذكر باللفظ لكان فيه زيادة أو نقص، فهذه هي نصيحة الشيخ عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- في "التنكيل" ونعم ما نصح به.
السؤال194 بالنسبة لكتاب "تقريب التهذيب" هل يستطيع أحد في هذا العصر أن يحققه ويخالف الحافظ ابن حجر فيه، علمًا بأنه ليس هناك حافظ في هذا العصر؟
الجواب: أما وضع الكتاب فلا يستطيع أحد أن يضع مثله، لأنه جهود حافظ كبير، وإذا أشكلت علينا عبارات أهل العلم ولم نستطع الجمع والترجيح بينها رجعنا إلى عبارة الحافظ في "تقريب التهذيب".
وأما الأخطاء التي وقعت للحافظ فلأنه جهد كبير، وبعضها أخطاء كبيرة جدًا حتى أن شيخنا محمد الأمين المصري -رحمه الله- طلب منا ونحن في الجامعة الإسلامية أن يكتب كل واحد منا في عشرة من كل حرف، وكان قد أعطاني مقبولين من حرف الهمزة، فرأيت أن بعضهم يستحق أن يقال فيه: مجهول العين، وبعضهم صدوق، وبعضهم ثقة، وليس لديّ من المراجع في ذلك إلا "تهذيب التهذيب"، فما ظنك لو راجع شخص جميع المصادر التي قد طبعت الآن.
فالانتقادات في موضعها، ومن ذلك الزمان، وأنا أتمنى أن ييسر الله بأخ يقوم بتعقبات للحافظ ابن حجر -رحمه الله- في هذا الكتاب القيم.
وأنا في بحوثي من ذلك الوقت إلى الآن أرجع إلى "تهذيب التهذيب"، ولا أرجع إلى "تقريب التهذيب" إلا إذا لم أستطع الجمع بين أقوالهم، فعندئذ أرجع إلى عبارة "التقريب" وأكتبها.
السؤال195 ما هو القول الفصل فيما رمي به الأئمة مثل: الحاكم، وعبدالرزاق بالتشيع؟ وهل ثبت أن عكرمة قال بالقدر؟
الجواب: أما عبدالرزاق الصنعاني -رحمه الله- فقد دخل عليه شيء من التشيع، وقد قيل له: من أين لك هذا؟ مع أن أستاذيك أصحاب سنة؟ فقال: أتى إلينا جعفر بن سليمان الضبعي، وكان ذا هدي وسمت حسن فتأثرنا به فدخل علينا شيء من التشيع، ولم يبلغ به الحال إلى أن يتنقص الأئمة والخلفاء الراشدين والصحابة، بل هو سنيّ من أهل السنة.
وقد جاء في ترجمة عبدالرزاق أنه قال في كلام عمر أنه قال: لفاطمة: جئت تطلبين ميراثك من أبيك وقال للعباس: جئت تطلب ميراثك من ولد أخيك. فقال عبدالرزاق: أنظروا إلى هذا الأحمق لم يقل: جئت تطلبين ميراثك من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فينظر هل ثبت عن عبدالرزاق أم لم يثبت، فإن ثبت فهو يعتبر خطأ لا يجوز أن يتّبع عليه، وقد قال الإمام الذهبي: أن عمر تكلم بهذا الكلام بناءً على قسمة الفرائض أن شخصًا مات عن ابنة وعن عم، فما لكل واحد منهما؟ ولم يقصد أن يتنقص رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه ليس نبيًا ولا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما الحاكم فقد جاء عنه بعض الانزواء وبعض الانحراف عن معاوية رضي الله عنه، وقد قال أبوطاهر عن عبدالله بن محمد الهروي أبي إسماعيل أنه قال: إمام في الحديث لكنه رافضي خبيث.
وقال أيضًا كما في "العلل المتناهية" لابن الجوزي وقد ذكر حديث الطير أو حديثًا غيره وذكر ابن الجوزي ما فيه من الضعف، ثم ساق بسنده إلى أبي طاهر المقدسي وهو محمد بن طاهر عن شيخه قال: لا يخلو الحاكم إما أن يكون جاهلاً فهذا لا يؤخذ عنه العلم وإما أن يكون كذابًا دساسًا، وهذا أيضًا لا يؤخذ عنه العلم.
والحق أنه لا يثبت لا ذا ولا ذاك، فالحاكم ليس بجاهل، عرفنا هذا من ترجمته، وعرف العلماء منْزلته الرفيعة كما في "سير أعلام النبلاء" وفي "تذكرة الحفاظ" وفي "الإرشاد" للخليلي، فهو إمام متفق على جلالته.
فالحاصل أن بهما شيئًا من التشيع لا يخرجهما إلى الرفض كما قال الحافظ الذهبي عند أن ذكر هذا الكلام عن أبي إسماعيل الهروي، قال: إن الله يحب الإنصاف ما الرجل برافضي ولكن به شيء من التشيع.
وقال المعلمي في "التنكيل" عندما ذكر كلام أبي إسماعيل الهروي: إمام في الحديث رافضيّ خبيث، قال المعلمي: لعل السجعة هي التي حملت قائلها إلى أن يقول ما قال. وما أشبهها بما كتب الصاحب بن عباد إلى قاض (بقم) -وهي بلدة كانت سنية ثم أصبحت رافضية- فكتب الصاحب بن عباد:
أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم
فلما وصلت إلى القاضي تذكر ذنوبه ماهو الذي فعله؟ فلم يجد أنه أذنب ولا فعل شيئًا، فقال: والله ما عزلتني إلا السجعة.
وأما عكرمة فقد رمي برأي الخوارج وليس بالقدر، فإن الذي رمي بالقدر هو قتادة، وقد دافع عن عكرمة الحافظ ابن حجر وبرّأه وذكر في "فتح الباري" في الكلام على سبب نزول قول الله تعالى: {إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرًا} أنه قيل لعكرمة وقد سأله شخص: أأخرج مع هؤلاء الذين يخرجون؟ أي: للقتال، والقتال بين مسلمين، فقال له عكرمة: لا تخرج، ثم استدل بهذه الآية أي: لا تكثر سواد أهل الباطل ولا تخرج. قال: في هذا دليل على أن عكرمة لا يرى رأي الخوارج.
السؤال196 ذكر الشيخ عمرو بن عبدالمنعم في كتابه: "لا دفاعًا عن الألباني فحسب بل دفاعًا عن السلفية": أن ابن معين قد يطلق لفظة: (ثقة)، ولا يريد بها إلا إثبات صفة الصدق والعدالة للراوي فما تقولون؟
الجواب: الأصل في (الثقة) أنّها توضع لمن اجتمع فيه الحفظ والعدالة، فإذا نص ابن معين على ذلك قبل عنه ذلك، وإلا فهذا هو الأصل في هذه اللفظة، إذا قالوا: (ثقة) بمعنى أنه حافظ وعدل، وأن حديثه ينبغي أن يصحح.
السؤال197 ماهو مقصود الحاكم -رحمه الله- بقوله: (على شرطهما) وقوله: (على شرط الشيخين)؟
الجواب: هما بمعنى واحد على شرطهما أو على شرط الشيخين، أي: البخاري ومسلم، والصحيح من أقوال أهل العلم أن المقصود بهذا هو أن رجال هذا السند هم رجال الشيخين، أو قال: على شرط البخاري، أن رجال هذا السند هم رجال البخاري، أو فيهم واحد من رجال البخاري فقط، والباقون متفق عليهما أو على شرط مسلم، كما يقول الحاكم في بعض الأوقات: على شرط مسلم فقد روى لسماك، أو على شرط البخاري فقد روى لعكرمة، أو صحيح فإن البخاري قد أخرج لعكرمة، ومسلم قد أخرج لسماك، وبعضهم يقول: إن معنى على شرطهما، أي: أن هذا الحديث قد توفرت فيه الشروط التي يشترطونها في "صحيح البخاري ومسلم"، وإن لم يكن رجاله رجالهما، وهذا ليس بصحيح فقد ذكرنا أمثلةً بحمد الله في مقدمة "المستدرك" متكاثرة، وذكر الحافظ ابن حجر مثالاً أو مثالين في "النكت"، قال: فإن قلت: إن الحاكم قد يقول: على شرطهما، ويوجد فيه رجل ليس من رجالهما، أو يوجد فيه رجل ضعيف، يقول الحافظ: فنعده من أوهام الحاكم المتكاثرة.
وهذا الذي قاله الحافظ كلام حق، فعرفنا من هذا أن قوله على شرطهما، أو على شرط الشيخين، أي: أن رجال هذا السند رجال الشيخين، كما قد صرح الحاكم بهذا في غير موضع.
السؤال198 قول يحيى بن سعيد القطان: كل من هو عاصم فهو ضعيف، هل هذه القاعدة على إطلاقها، وكيف نفعل بعاصم بن بهدلة؟
الجواب: وهناك أقوى من عاصم بن بهدلة، عاصم بن سليمان الأحول، فلا تسلّم له هذه القاعدة.
السؤال199 عندنا حديث مرسل قد جاء من طريقين، فهل يقوى بهما أم له شروط؟
الجواب: هذه مسألة اجتهادية والشافعي -رحمه الله- يقول: إن مرسلاً مع مرسل يرتقي إلى الحجية. ويشترط أيضًا ألا يتحد المخرج فمثل مرسل قتادة مع مرسل سعيد بن المسيب يحتمل أنّهما مرسل واحد، وأن قتادة رواه عن سعيد بن المسيب.
وإذا روى همام بن منبه وروى قتادة فهذا روى مرسلاً، وذاك روى مرسلاً، فهذا عند الإمام الشافعي يرتقي إلى الحجية، لأن همام ابن منبه يمنيّ وقتادة بصريّ، وهذا مجرد مثال.
فهذه مسألة اجتهادية وليست بملزمة لأن مسألة التصحيح والتضعيف مبناهما على غلبة الظن.
السؤال200 يقول ابن معين -رحمه الله- في الرجل: ثقة، ثم يقول في موضع آخر: صدوق، فكيف نجمع بينهما؟
الجواب: إن علم المتقدم من المتأخر من كلام يحيى بن معين فتأخذ بالمتأخر، وإن لم يعلم تنظر أسباب كلامه، فربما قال: ثقة، وقد قورن بضعيف، فهو ثقة بالنسبة إلى هذا الضعيف، وربما قال: صدوق وقد قورن بثقة أرفع منه فقال: صدوق، فتكون الإجابة كما ذكر صاحب "فتح المغيث" بحسب من قورن به، بحيث لو سئل يحيى بن معين عن الرجل بمفرده استقر رأيه على أنه صدوق أو أنه ثقة، فإذا لم يظهر لا هذا ولا ذاك، أخذت رتبة وسطى وهي: جيد، وقلت في حديثه: جيد، أو فلان جيد، فهي رتبة بين الحسن والصحة.
السؤال201 ماذا يقصد الإمام أحمد بلفظة: (منكر) في الحديث أو في الرجل؟
الجواب: أما إذا قال في الحديث: (منكر) فهو محمول على النكارة وعلى التفرد، فقد يتفرد راو من بين سائر الرواة، وربما أطلق الإمام أحمد النكارة بمعنى التفرد، حتى ولو تفرد به راو ثقة وهو محتج به مثل قوله في محمد بن إبراهيم التيمي: روى مناكير، ومحمد بن إبراهيم التيمي هو حامل لواء حديث ((إنّما الأعمال بالنّيات وإنّما لكلّ أمرئ ما نوى)) فهو يرويه عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب.
فربما يطلقها على الثقة وهو يعني أنه يتفرد بأحاديث، ولا يعني أنّها ترد، وهكذا الإمام النسائي -رحمه الله- وربما يطلقها على النكارة التي هي ضد المعروف، فإذا لم يظهر لا ذا ولا ذاك من تصرفه، حملت على النكارة التي هي ضد المعروف وتوقّف فيه.
لكن مثل قوله في محمد بن إبراهيم التيمي: يروي المناكير، ومن كان على شاكلة محمد بن إبراهيم التيمي فهو يعني أنه يتفرد ببعض الأحاديث، والتفرد لا شيء فيه إذا لم يخالف من هو أرجح منه.
السؤال202 قولهم في الرجل: متروك، هل هو جرح مفسّر؟
الجواب: الصحيح أنه جرح مفسر، لأنّهم يعنون بأنه متّهم بالكذب أو أوهامه أكثر من صوابه، وقد توسع بعضهم في غير المفسر فجعل منه كذابًا وقال: إنه جرح غير مفسر، كما قاله حسين السياغي، وكما نقله عن محمد بن إبراهيم الوزير من "تنقيح الأنظار"، وكما في "تدريب الراوي" (ج1 ص306) نقلاً عن الصيرفي.
السؤال203 ماهو القول الفصل في الحارث الأعور؟
الجواب: لا يحتج بحديثه، فتلميذه الشعبي يقول: حدثنا الحارث الأعور وكان كذابًا، وأما قول من قال: إن ضعفه من أجل رأيه لا في روايته، فالصحيح أنه لا يحتج به، فهل احتج به البخاري، ومسلم، وابن حبان، وابن خزيمة، فلا يحتج بالحارث الأعور، ولا يصلح في الشواهد والمتابعات، وكذّاب جرح مفسر.
السؤال204 أيهما ترجّح على الآخر ابن خزيمة أم تلميذه ابن حبان لأن السيوطي في "التدريب" قدم ابن خزيمة، وشعيب الأرناؤوط نافح عن ابن حبان وقدمه؟
الجواب: لا شك أن ابن خزيمة أرجح، وأن ابن حبان توسع في القاعدة وإن كان قد شارك شيخه في توثيق المجهولين.
"فصحيح ابن خزيمة" يعتبر أرجح من "صحيح ابن حبان".
السؤال205 بالنسبة لحديث الآحاد هل يفيد العلم، وهل تقبل قراءة القرآن بخبر الآحاد؟
الجواب: أما تقسيم الحديث إلى آحاد ومتواتر، فهو تقسيم مبتدع، وأول من ابتدع هذا هو عبدالرحمن بن كيسان الأصم الذي قال فيه بعضهم: وهو عن الحق أصم. وتبعه على ذلك تلميذه إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم الشهير بابن علية، ووالده هو المشهور بابن علية وهو -أي والده إسماعيل- من مشايخ الإمام أحمد ومن رجال الشيخين، أما إبراهيم بن إسماعيل فجهميّ جلد، وأما ما جاء عن الشافعي أنه استعمل في "الرسالة" متواترًا فلعله أخذها عن أهل الكلام.
فتقسيم الحديث إلى آحاد ومتواتر يهون من قيمة السنة المطهرة في نفوس كثير من الباحثين، وهو باب للشر قد فتح، فحالق اللحية يحلق لحيته وتريد أن تنصحه فيقول: أحاديث إعفاء اللحية أحاديث آحاد، والمصور يصور فتنصحه، ثم يقول: أحاديث تحريم الصور أحاديث آحاد. فقد فتحوا بابًا من أبواب الشر.
والصحيح أن الحديث إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب قبوله، ونقول يجب قبوله ولا نقول: يجب العمل به، لأن العمل قد يكون واجبًا، وقد يكون محرمًا وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مستحبًّا، وقد يكون مباحًا.
ولكننا نقول: يجب قبوله، إذا ثبت سنده، وسلم من العلة والشذوذ، ولا يضرنا أأفاد علمًا أم أفاد ظنًا، فالناس يختلفون في معرفتهم للرجال، ويختلفون في معرفتهم لأوهام الرجال، فقد يهم الحفاظ أمثال: شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، وغير هذين الحافظين، وإنما مثّلت بهما لكونهما غاية في الإتقان.
فعلى هذا إذا ثبت سند الحديث وسلم من العلة والشذوذ وجب قبوله، سواء أفاد علمًا أم أفاد ظنًا.
وأبومحمد بن حزم يقول: إنه يفيد علمًا، واستدل بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} والصنعاني في تعليقه على "المحلى" عند كلام أبي محمد بن حزم المتقدم يقول: إنه يفيد ظنًّا، واستدل بحديث ((لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ بالله عزّ وجلّ)) وليس كل الظن ممقوتًا، لأن ابن حزم -رحمه الله- استدل بقوله تعالى: {إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئًا}.
فقال الصنعاني: إن المراد بالظن ههنا: الذي هو بمعنى الشك، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (( لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ بالله عزّ وجلّ )).
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب))، أي: مبناها على التحري وهي من أشرف العبادات.
ويقول أيضًا في شأن بيان العمل بالظن: ((إنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئًا، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار)).
شاهدنا من هذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد يحكم بغير العلم، ويحكم بالظن، ويجوز أن يكون في حكمه مصيبًا وأن يكون مخطئًا.
السؤال206 ما حكم من يغلط في ضبط الحديث مثل ما ذكره الخطابي -رحمه الله- في غلط المحدثين في حديث ذي اليدين فقال: سرعان، وسرْعان، وسرْعان الناس، ونحن كطلبة علم ربما قرأنا الحديث فربما أخطأنا فيه فما حكم ذلك؟
الجواب: الواجب هو التحري أما المعروف والذي رجّحه الخطابي فهو: سرعان.
وهذا لا يدخل في حكم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو الوعيد على الكذب، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار)).
وقد جاء عن الأصمعي وهو عبدالملك بن قريب أن الذي يلحن يتناوله أو يخشى عليه قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار)).
ولكن الصحيح أن الذي يلحن أو يصحّف غير متعمد فلا يشمله الوعيد، لكن الواجب عليه أن يتعلّم وأن يصلح لسانه.
السؤال207 ما حال حديث: ((يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله))؟
الجواب: الذي يظهر أنه مرسل من مراسيل إبراهيم العذري، وجاء من طرق أخرى لا ترتقي إلى الحجية، وجاء عن الإمام أحمد أنه يقول: إنه صحيح، وقد خولف الإمام أحمد -رحمه الله-، ثم لو صح فهو على الأمر لا على الإخبار، بمعنى: ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله. قال بهذا بعض أهل العلم.
وقد استدل ابن عبدالبر بهذا الحديث على أن حملة العلم أو المحدثين عدول، وهذا مخالف لما جاء في تراجم المحدثين، فمثلاً سليمان ابن داود الشاذكوني أبوأيوب وكان حافظًا، جاء عنه أنه كان يشرب الخمر، وقال فيه الإمام البخاري: إنه أضعف من كل ضعيف.
وكذلك محمد بن عمر الجعابي نقل عنه أنه كان لا يصلي، فالواقع يخالف ما قاله ابن عبدالبر -رحمه الله-: أن حملة علم الحديث كلهم ثقات.
وعندنا بحمد الله "ميزان الاعتدال"، والإمام الشافعي -رحمه الله- يقول: من روى عن البياضي بيض الله عيونه.
ويقول أيضًا في حرام بن عثمان: الرواية عن حرام بن عثمان، حرام.
وما أكثر المحدثين الذين يعتبرون من حملة الحديث ومن حفاظه الكبار، ومع ذلك فهم مضعّفون مثل: أحمد بن محمد بن سعيد الشهير بابن عقدة، فهو حافظ كبير أمثاله قليل في الحفظ من معاصريه، ومع هذا فهو ضعيف.
السؤال208 ((أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك يا أبا ذرّ))، هل هذا حديث وإن كان حديثًا فما حاله؟
الجواب: هو حديث، لكنه ضعيف، فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى ابن يحيى الغساني وقد كذّبه أبوحاتم، وأبوزرعة، كما في "الميزان".
السؤال209 ما صحة نسبة كتاب "الروح" للإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-؟
الجواب: هو صحيح، والعلماء يثبتونه، وقد حصلت له أخطاء فيه لا ينبغي أن يتابع عليها، وبعضهم يقول: لعله ألّفه قبل أن يثبت عقيدته.
وآخرون يقولون: لعله ألّفه قبل أن يجالس شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنه ينقل في هذا الكتاب عن شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذا دليل على أنه كان يجالسه، وعلى كلّ فيتوقف فيما يرى مخالفًا لأصول الشرع والأحاديث الصحيحة.
أسئلة متفرقة في المصطلح
السؤال210 ما سبب اختلاف العلماء في زيادة الثقة؟ وما الراجح في ذلك؟
الجواب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد:
فسبب اختلاف العلماء، اختلاف تصرف جهابذتهم الكبار، فليس لهم قانون متّبع في زيادة الثقة، فرب زيادة ثقة يقبلونها، ويردون مماثلةً لها في ذلك السند نفسه، أو ما يماثل ذلك السند نفسه.
والسبب في هذا أن العلماء المتقدمين حفاظ، يحفظون رواية الشيخ، ورواية طلبته، ورواية شيخه، ولا أقصد الرواية الواحدة، بل يحفظون كم روى الشيخ، وكم روى التلميذ، وكم روى تلميذ التلميذ، فإذا زاد واحد منهم زيادة وهم يعلمون أنّها ليست من حديث ذلك الشيخ حكموا عليها بأنّها غير مقبولة، وإذا تفرد واحد منهم بزيادة وهم قد عرفوا أنّها من رواية ذلك الشيخ فإنّهم يقبلونها، أما إذا اختلف حفاظ الحديث في شأن زيادة الثقة أتقبل أم لا؟ فإنا نرجع إلى الترجيح، وهو أن تقارن بين الرواة، ثم تجعل المرجوح شاذًّا، والراجح محفوظًا، وتأخذ بالمحفوظ، وهكذا إذا وجدت زيادة ثقة ولم تجد للعلماء المتقدمين فيها كلامًا لا تصحيحًا ولا تضعيفًا ترجع إلى تعريف الإمام الشافعي في الشاذ، أن الشاذ: مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، وتقارن بين الصفات وبين العدد، فربّ شخص يعدل خمسة، فلا تقارن بين العدد فقط.
مثل يحيى بن سعيد القطان، أو سفيان بن سعيد الثوري لو خالفه اثنان أو ثلاثة ممكن أن تجعل الحديث مرويًّا على الوجهين، وقد قال الدارقطني في "التتبع" بعد أن ذكر جماعةً خالفوا يحيى بن سعيد القطان يرويه عن عبيدالله عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة.
وجماعة يروونه عن عبيدالله عن سعيد عن أبي هريرة.
فيحيى بن سعيد تفرد بزيادة عن أبيه. ثم بعد أن ذكر الدارقطني الجمع الكثير الذين يخالفون يحيى بن سعيد قال: ولعل الحديث روي على الوجهين، فقد هاب الدارقطني أن يقول: إن يحيى بن سعيد شاذ.
إذا تساوت الصفتان يحمل على أن الحديث روي على الوجهين وأنصح أن يرجع إلى ما ذكره الحافظ ابن رجب في شرحه "علل الحديث للترمذي" و"توضيح الأفكار" للصنعاني وما كتبته في "الإلزامات والتتبع".
السؤال211 ما الفرق بين الشهادة والرواية؟
الجواب: سيأتي بعض ذلك في كلام الخطيب -رحمه الله- ص (189)، وقد ذكر الإمام الشافعي -رحمه الله- ص (161) إلى (172) ومن جملة ما ذكره: أن الرواية قد يتحرى فيها ما لا يتحرى في الشهادة، بألا يقبل إلا من ثقة حافظ عالم بما يحيل المعنى. اهـ المراد منه.
وقد أتى السيوطي -رحمه الله- بخلاصة ما يجتمعان فيه، وما يختلفان، فقال -رحمه الله تعالى- في "التدريب" ص(222): فائدة ثم ذكرها. وبعضها عليه دليل، وبعضها لا دليل عليه. ومن أجل هذا لم أنقلها.
فأنصح الأخ السائل بمراجعة كتب المحدثين، فإن فيها ما يحتاج إليه الباحث، وإذا ثبتت سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم استسلم لها واتّهم نفسه. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
السؤال212 إذا قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، هل يكون الرجال هم الذين في البخاري ومسلم؟ أم ليسوا في البخاري ومسلم؟
الجواب: هذا هو الذي ينبغي أن يفهم منه، أن قوله: على شرط الشيخين، معناه: أن رجاله رجال الشيخين. وقد يهم الحاكم، ويكون في السند من ليس من رجال الشيخين، أو هو من رجال أحدهما، وقد يهم ويكون في السند من هو كذاب أو وضّاع.
وربما يتساهل الحاكم ويقول في حديث من طريق محمد بن إسحاق: صحيح على شرط مسلم، ومن طريق سماك عن عكرمة صحيح على شرط مسلم، مع أن رواية سماك عن عكرمة مضطربة ويأتي بأناس روى لهم البخاري في المتابعات ويقول: صحيح على شرط البخاري، أو روى لهم مسلم في الشواهد والمتابعات، ويقول: صحيح على شرط مسلم، على أن البخاري ومسلم ربما ينتقيان لبعض المشايخ، فمثل هشيم عن الزهري لا يقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، مع أن البخاري ومسلمًا قد رويا لهشيم، ورويا للزهري، لكن لم يرويا بهذه السلسلة، ولعلهما رويا قدر أربعة أحاديث، يقولون: الذي حفظه هشيم عن الزهري قدر أربعة أحاديث.
من أجل هذا فنحن ننصح الإخوة في شأن "مستدرك الحاكم" أن ينظروا السند، وأن يبحثوا عنه رجلاً رجلاً، وما أحوجه إلى من يحققه ويخرّج أحاديثه، فإنه لا يزال محتاجًا إلى خدمة.
أما أنا فالذي أعمله هو تتبع مثل هذا الذي تقدم، فربما يقول: صحيح على شرط الشيخين، ويكون قد أخرجه أحدهما، أو يقول: صحيح على شرط البخاري، وفي السند من ليس من رجال البخاري، أو صحيح على شرط مسلم، وفي السند من ليس من رجال مسلم، أو صحيح الإسناد، ويكون من طريق درّاج عن أبي الهيثم، ودرّاج منهم من يضعّف حديثه مطلقًا، ومنهم من يضعّفه في أبي الهيثم، وربما يكون في السند من هو كذّاب فأنا أتتبّع هذا، والله المستعان.
ولكن ينبغي أن يعلم أنني الآن قد كتبت نحو ألفين وما أراها شيئًا بالنسبة إلى ما بقي فيه. فهو محتاج إلى جهود وعناية، يسر الله ذلك إنه على كل شيء قدير.
وسأذكر إن شاء الله في مقدمة "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين" جملة من أوهام الحاكم -رحمه الله- الفاحشة، وإنكار الذهبي عليه، يسر الله ذلك إنه على كل شيء قدير.
هذا، ومما ينبغي أن يعلم أن سكوت الحافظ الذهبي على بعض الأحاديث التى يصحّحها الحاكم وهي ضعيفة لا يعد تقريرًا للحاكم، بل الذي ينبغي أن يقول الكاتب: صححه الحاكم، وسكت عليه الذهبي. لأمور، منها: أن الذهبي -رحمه الله- لم يذكر في مقدمة تلخيصه (ما سكتّ عليه فأنا مقرّ للحاكم).
ومنها: أنه ذكر في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الحاكم أن كتابه التلخيص محتاج إلى نظر.
ومنها: أن الحاكم قد يقول: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، أو صحيح على شرط أحدهما، أو صحيح ولم يخرجاه، ويكون في سنده من قال الذهبي في "الميزان": إنه كذّاب أو ضعيف وربما يذكر الحديث في ترجمته من "الميزان".
فعلى هذا فلا تقل: (صحّحه الحاكم وأقره الذهبي)، بل تقول: (صححه الحاكم وسكت عنه الذهبي)، على أني وقعت في كثير من هذا قبل أن أتنبّه لهذا، والحمد لله، ونسأله المزيد من فضله، إنه على كل شيء قدير.
السؤال213 هل يعمل بالحديث الضعيف؟
الجواب: الحديث الضعيف لسنا متعبّدين به على الصحيح من أقوال أهل العلم، لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {ولا تقف ما ليس لك به علم} فنحن نأخذ ديننا بتثبّت. والعلماء الذين فصلوا بين الحديث الضعيف في فضائل الأعمال وبينه في الأحكام والعقائد، يقول الإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى- في كتابه "الفوائد المجموعة": إنه شرع، ومن ادعى التفصيل فعليه البرهان. والأمر كما يقول الشوكاني -رحمه الله تعالى- والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من حدّث عنّي بحديث يرى أنّه كذب، فهو أحد الكاذبين)).
فالحديث الضعيف لا يحتاج إليه، وفي كتاب الله وفي الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يغني عن الضعيف. ثم إن هؤلاء الذين يقولون: يعمل به -خصوصًا من العصريين- تجده لا يعرف الحديث الضعيف، ولا يدرى لماذا ضعّف؟ أضعّف لأن في سنده سيء الحفظ؟ أم لأن في سنده كذابًا؟ أم لأن في سنده صدوقاً يخطئ كثيرًا...إلخ؟ فتجده يأخذ الأحاديث الضعيفة ويقول: يعمل به في فضائل الأعمال، والذين أجازوا العمل بالضعيف اشترطوا شروطاً:
o لا بد أن يكون مندرجًا تحت أصل، كأن يأتي حديث في فضل ركعتي الضحى ويكون ضعيفًا، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها وقد ورد القرآن بالترغيب في الصلاة من حيث هي. وأيضًا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أسألك مرافقتك في الجنّة، قال: ((أو غير ذلك))؟ قلت: هو ذاك، قال: ((فأعنّي على نفسك بكثرة السّجود)).
o ألا يشتد ضعفه، أي: لا يكون في سنده من قيل فيه: ضعيف جدًا، أو قيل فيه: إنه كذاب، أو قيل فيه: إنه متروك، وهذا الشرط لا يعرفه إلا المحدثون.
o أن يعمل به في خاصة نفسه.
السؤال214 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فقد وصل إليّ سؤال يتضمن طلب الإفادة في قبول المحدثين رواية المرأة، والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى}
الجواب: والله الموفق للخير والصواب: إن هذه المسألة بحمد الله قد بيّن أهل المصطلح رحمهم الله شأنها، فقال الخطيب رحمه الله في "الكفاية" ص (58): باب ذكر ما يستوي فيه المحدث والشاهد، ثم ساق بسنده إلى أبي الطيب -رحمه الله- أنه لا خلاف في قبول خبر من توفرت فيه صفات الشاهد في الحقوق: من الإسلام، والبلوغ، والعقل، والضبط، والصدق، والأمانة، والعدالة، إلى ما شاكل ذلك.
ولا خلاف أيضًا في وجوب اتفاق المخبر والشاهد في العقل، والتيقظ, والذكر.
فأما ما يفترقان فيه: فوجوب كون الشاهد حراً، وغير والد، ولا مولود، ولا قريب قرابة تؤدي إلى ظنّة، وغير صديق ملاطف، وكونه رجلاً إذا كان في بعض الشهادات، وأن يكونا اثنين في بعض الشهادات، وأربعة في بعضها، وكل ذلك غير معتبر في المخبر لأننا نقبل خبر العبد، والمرأة، والصديق، وغيره ثم ذكر حديث: ((لا تكتبوا العلم إلاّ عمّن تجوز شهادته)) ثم ذكر أنه لا يثبت، لأنه من طريق صالح بن حسان، وقد ترك نقاد الحديث الاحتجاج به.
قال أبوعبدالرحمن: ويمكن أن يستدل بما جاء عن عمر, أنه قال في حديث فاطمة بنت قيس الذي فيه: أنّ زوجها طلّقها طلاقًا بائنًا وأنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لها: ((ليس لك نفقة ولا سكنى)) فقال عمر: لا ندع كتاب ربّنا لقول امرأة لعلّها نسيت. ويجاب عنه بأنّها لم تنس، بل عمر رضي الله عنه لم تبلغه هذه السنة.
ثم قال الخطيب رحمه الله ص (162): باب ما جاء في كون المعدّل امرأةً أو عبدًا أو صبيًّا. وذكر سؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بريرة عن عائشة: ((هل علمْت على عائشة شيئًا يريبك، أو رأيت شيئًا تكرهينه))؟ قالت: أحمي سمعي وبصري.. عائشة أطيب من طيب الذّهب.
قال أبوعبدالرحمن: هكذا هذه الرواية. وفي "الصحيح": ما رأيت عليها أمرًا قطّ أغمصه، غير أنّها جارية حديثة السّنّ تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدّاجن فتأكله. اهـ المراد من "الكفاية".
وهناك أدلة تدل على قبول رواية المرأة التي توفرت فيها شروط القبول من إسلام، وبلوغ، وعدالة، وضبط، كما تقدم في شروط الرجال، منها:
A قوله تعالى: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا} مفهوم الآية: أنه إذا جاءنا العدل نأخذ به. والعدل يشمل الذكر والأنثى، إذ الأصل عموم التشريع.
يدل على ذلك تصديق موسى، إذ قالت له ابنة الرجل الصالح: {إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا}.
وتصديق الرجل الصالح، لابنته حيث قالت: {ياأبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين}.
B قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعائشة: ((مري أبا بكر فليصلّ للنّاس))، ولو كان خبرها غير كاف لأرسل معها من يعززها.
C إقراره صلى الله عليه وعلى آله وسلم عائشة، إذ تعلم المرأة كيف تزيل أثر الحيض. والحديثان في "الصحيح".
D ما رواه أبوداود (ج4 ص215) والإمام أحمد (ج6 ص37) عن الشفاء رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: ((ألا تعلّمين هذه رقية النّملة، كما علّمتيها الكتابة))؟ سنده حسن.
وأخرجه أحمد (ج6 ص286) من حديث حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها. وسنده صحيح.
E في "صحيح مسلم" (ج2 ص779)، أن عمر بن أبي سلمة سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن القبلة للصائم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((سل هذه)) لأم سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل ذلك. الحديث.
F قال البخاري -رحمه الله تعالى- (ج13 ص243): باب خبر المرأة. حدّثنا محمّد بن الوليد، حدّثنا محمّد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن توبة العنبريّ قال: قال لي الشّعبيّ: أرأيت حديث الحسن عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقاعدت ابن عمر قريبًا من سنتين، أو سنة ونصف، فلم أسمعه يحدّث عن صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير هذا، قال: كان ناس من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيهم سعد، فذهبوا يأكلون من لحم فنادتْهم امرأة من بعض أزواج النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنّه لحم ضبّ، فأمسكوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كلوا، أو اطعموا، فإنّه حلال -أو قال:- لا بأس به -شكّ فيه- ولكنّه ليس من طعامي)).
G حديث عقبة بن الحارث: أنّه تزوّج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إنّي قد أرضعت عقبة والّتي تزوّج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنّك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كيف وقد قيل))، ففارقها عقبة.
سواء أكان هذا من قبيل الشهادة، أم من قبيل الإخبار، إذ قد قبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خبرها، وأمره بفراق امرأته.
ففي هذه الأدلة دليل على قبول خبر المرأة، ويجب أن تكون من وراء حجاب لحديث: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشّيطان)) رواه الترمذي من حديث ابن مسعود.
ولا يجوز لها أن ترقّق صوتها لقوله تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الّذي في قلبه مرض}.
وليس هذا من تقديم قول أئمة الجرح والتعديل -رحمهم الله- على كتاب الله، فإنّهم لا يذكرون اصطلاحاتهم في الغالب إلا بأدلة، كما في كتاب العلم من "صحيح البخاري"، ومقدمة "الضعفاء والمجروحين" لابن حبان، وأوائل كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، "وإحكام الأحكام" لأبي محمد بن حزم -رحمهم الله-.
السؤال215 ماذا تعرفون عن هذا الحديث: ((لعن الله امرأةً رفعت صوتها ولو بذكر الله))؟
الجواب: الحديث لا يثبت، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وقلن قولاً معروفًا} ويقول في كتابه الكريم: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الّذي في قلبه مرض} فلو قالت المرأة بصوت خشن: سبحان الله، الله أكبر، وذكرت الله سبحانه وتعالى فلا شيء في هذا إن شاء الله.
السؤال216 عندي كتاب "بلوغ المرام" ومعتمد عليه، فهل هو قويّ أم ضعيف؟
الجواب: نعم الكتاب، "بلوغ المرام" من أحسن الكتب للحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - فقد حكم على غالب أسانيده بالصحة، أو الضعف أو الحسن أو النكارة، فهو كتاب قيّم، وليس معنى هذا أنه لا يوجد فيه حديث ضعيف، لكن إذا عملت به فأنت إن شاء الله على خير. وقد اهتم العلماء بالكتاب فقام بشرحه غير واحد ومن أحسنها "سبل السلام".
السؤال217 أخبرونا عن صحة هذه الأحاديث: (1) ((إذا رأيتم الرّجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان)). (2) ((من كنت مولاه فعليّ مولاه))
الجواب: أما ((إذا رأيتم الرّجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان)) فرواه الترمذي والحاكم. روياه من طريق درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودرّاج ضعيف، هذا الحديث صححه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، فتعقبه الذهبي فقال: فيه دراج وهو ذو مناكير، هذا في (كتاب الصلاة)، ثم ذكره الحاكم في (التفسير) في سورة التوبة، وقال: صحيح الإسناد، وسكت الذهبي على هذا، فلا أدري هل اعتمد على ما تقدم أم سها، فدراج لا يعتمد عليه خصوصًا في روايته عن أبي الهيثم.
الحديث الثاني: ((من كنت مولاه فعليّ مولاه)) حديث صحيح، رواه الترمذي وغيره وقد ساق الشيخ ناصر الدين الألباني -حفطه الله تعالى- طرقه المتكاثرة فى "السلسلة الصحيحة" ولكن فهمته الشيعة فهمًا باطلاً، فهموا أنّ عليًا أحق بالخلافة، ونشأ عن هذا تخطئة أبي بكر وعمر وتخطئة الصحابة كلهم.
والإمام الشافعي والإمام الطحاوي وغيرهما يقولون فى هذا الحديث: إنه ولاء الإسلام، بمعنى قول الله عز وجل: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض} هكذا يقول الإمام الشافعي، والإمام الطحاوي وغيرهما، أما صاحب "نصب الراية" وهكذا فيما يظهر شيخ الإسلام ابن تيمية فإنّهما حكما على الحديث بالضعف ولا مجال لتضعيفه فهو مرويّ من طرق كثيرة متكاثرة لا يستطاع أن يحكم عليه بالضعف. والله المستعان.
السؤال218 نرجو أن ترشدونا إلى كتاب فيه أحاديث صحيحة وإلى كتاب فيه معرفة الأحاديث الضعيفة؟
الجواب: سؤال حسن. كنت أحب أن أعرف المستوى العلمي للسائل، ولكن إذا كان مبتدئًا فأنصحه "برياض الصالحين"، وإن كان قد ارتفع قليلاً كذلك مع "رياض الصالحين": "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان" فإن كان قد ارتفع قليلاً فننصحه باقتناء "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم" و"تفسير ابن كثير"، ومن الكتب القيمة التى لا يستغني عنها مسلم، كتاب: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" كتاب "التوحيد" للشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله تعالى- و"فتح المجيد" لأحد أحفاده.
أنت تأخذ الحق ممن جاءك، النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقر الشيطان على كلمة الحق، لما قال الشيطان لأبي هريرة: ((إنّك إذا قرأت آية الكرسيّ عند نومك لا يقربك شيطان)) قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لقد صدقك وهو كذوب)) وفى "سنن النسائي" بسند صحيح عن قتيلة امرأة من جهينة أنّ يهوديًّا أتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: إنّكم تندّدون، وإنّكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربّ الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثمّ شئت.
فالمسلم يقبل الحق ممن جاء به. والشيخ محمد بن عبدالوهاب هو عالم من علماء المسلمين يصيب ويخطئ.
الدين ليس فيه محاباة، الآن تحكمت الأهواء في الدين وأصبح اليمني لا يثق إلا باليمني. والنجدي لا يثق إلا بالنجدي، والمصري لا يثق إلا بالمصري. بخلاف ما عليه علماؤنا المتقدمون، فقد رحل العلماء إلى عبدالرزاق الصنعاني من بغداد، ومن نيسابور، ومن مصر، ومن مكة، ومن جميع البلاد الإسلامية، حتى قيل: إنه لم يرحل إلى عالم أكثر مما رحل إلى عبدالرزاق الصنعاني.
وهكذا تجدون اليماني يثني على العالم البغدادي، والمصري يثني على العالم المصري، والنيسابوري يثني على العالم الشامي، والكوفي يثني على البصري، والبصري يثني على الحجازي وعلى اليماني. الآن أصبح الهوى يتحكم والدعايات الملعونة من شيوعيين، وبعثيين، ومرتزقة، يرتزقون من الحروز والعزائم، نعم، كنا قبل خدمًا لهم فساءهم هذا، حتى نساؤنا كن يطلعن بالحطب إلى باب المركز في عهد أولئك الذين تعرفون، وذاك بالرشوة، وذاك بالدجل والشعوذة، فلما جاء الدعاة إلى الله يبينون الحق قامت قيامتهم، وصاروا تارةً يقولون: ذاك وهابيّ، وذاك عميل للسعودية، وذاك عميل، ربما قالوا لأمريكا، شنقوا السيد قطب -رحمه الله تعالى- وقالوا: إنه عميل لأمريكا !!
كان هناك شابّ يعلم الله بحاله، أستطيع أن أقسم لكم إنه كان لا يملك ألف ريال ذهب للدعوة إلى الله وسكن في ماوية في هذا الزمن فوصل إليهم ودعاهم إلى الحق، فقامت قيامة بعض المتأكلة سواء أكانوا من مشايخ القبائل أم من غيرهم، قالوا: هذا شيوعي، وبقي ما شاء الله واتضح وعرف من هو عميل الشيوعية ومن هو الداعي إلى الله، وفى نهاية أمره قتله الشيوعيون لا جزاهم الله خيرًا.
أقصد إخواني في الله أنّهم يريدون أن يحرموكم الخير، ويريدون أن يجعلوا بينكم وبين علمائكم فاصلاً، أستطيع أن أقول: إن أعداء الإسلام يخافون من العلماء أعظم مما يخافون من طائراتنا ومن صواريخنا، لأن عندهم أكبر منها وأكثر، لكنهم يخافون من العلماء، وما أكثر ما يدخلون البلدة ويبدؤون بقتل العلماء، كما حصل هذا في جنوب اليمن قبل الوحدة.
ونحن نقولها لكم، مشفقين عليكم ونحب لكم الخير، ونريد لكم العزة والكرامة ولوطنكم الأمن، وإلا فالحمد لله أرض الله واسعة، لا تظنوا أنني مستريح باليمن، أنا أؤلف الكتاب ثم بعد ذلك يعرض للضياع، يبقى ثلاث أو أربع سنوات ولم يطبع، وربما بعد الطبع يخرج بطبعة رديئة، وعند أن نزلت في مصر، والله لو أستطيع أن أؤلف فى اليوم كتابًا أو أحقق في اليوم كتابًا لنشر، فلا تظنوا أننا ههنا في وطننا وفي بلدنا مستريحون، نحن نعتبر أنفسنا غرباء، ولكننا نرى هذه الوجوه المباركة الكريمة، وإقبالها على الخير فهذا هو الذي يصبرنا بين أظهركم وإلا فأرض الله واسعة والله المستعان.
السؤال219 ماحال ابن لهيعة؟
الجواب: عبدالله بن لهيعة، من أهل العلم من يرده، ومنهم من يقبله كـ(أحمد شاكر( ومنهم من يفصل يقول: إذا روى عنه العبادلة:
عبدالله بن يزيد المقرئ.
وعبدالله بن وهب.
عبدالله بن المبارك.
وأضاف بعضهم عبدالله بن مسلمة وليس بصحيح لأنه صغير، والصحيح أنه يضعف ابن لهيعة مطلقًا.
وقد رأيت بحثًا قيّمًا في كتاب "الأذان" لأخينا في الله أسامة القوصي، يقول فيه: الصحيح أن ابن لهيعة مضعف سواء روى عنه العبادلة أم غيرهم، وأنه إذا روى عنه العبادلة أحسن حالاً مما إذا روى عنه غير العبادلة، وإلا فالصحيح أنه مضعف، وأنصح بقراءة ما كتبه أخونا أسامة في كتاب "الأذان".
ويا سبحان الله كيف يتلقى الناس العبارات ولا يبحثون، أنا من فضل الله ما أعلم حديثًا واحدًا قد قبلته لابن لهيعة، ولو روى عنه العبادلة، أقصد من هذا أنني من أول الأمر والحمد لله لا أقبل حديثه. وهو يصلح في الشواهد والمتابعات والله المستعان.
السؤال220 الحديث الذي يأتي من طريقين بصحابي واحد أقوى؟ أم الحديث الذي يأتي من طريقين وصحابيين، مع ذكر اسم كل منهما؟
الجواب: الذي يظهر، أن الذي يأتي عن صحابيين أقوى من الذي يأتي عن صحابي.
كيف تتعلم البحث
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى: {أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى إنّما يتذكّر أولو الألباب}.
وروى البخاري ومسلم في "صحيحيهما": عن معاوية رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)). ورويا في "صحيحيهما": عن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتّى إذا لم يبق عالمًا اتّخذ النّاس رءوسًا جهّالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا )).
وفي حديث أنس المتفق عليه، وحديث أبي هريرة المتفق عليه أيضًا: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذكر من أمارات الساعة: ((رفْع العلم، وظهور الجهل))، أو بهذا المعنى.
ونحن في هذا الزمن قد وقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ظهور الجهل وتفشّيه، حتى إنه أصبح كثير من المسلمين لا يميّز بين العالم والمنجّم، بل لا يميز بين المسلم والشيوعي، وكل هذا بسبب بعد المسلمين عن تعلّم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
إذا عرفت هذا، -ومعرفته بإذن الله تعالى نافعة للباحث- أعني أن الباحث إذا نظر إلى أحوال المسلمين وإلى حاجتهم، ونظر إلى تفشي الجهل، أنه يحتسب الأجر والثواب ويصبر، فإن طلب العلم يحتاج إلى صبر، ورضي الله عن عبدالله بن عمر إذ يقول: قل لطالب العلم يتخذ نعلين من حديد. وكذا يحيى بن أبي كثير -رحمه الله تعالى- يقول لولده عبدالله: لا يستطاع العلم براحة الجسم. ذكره الإمام مسلم في (كتاب الصلاة).
أما إذا لم يصحب الشخص الصبر والاحتساب فإنه يوشك أن يملّ، ويسأم، بل ربما إذا حصل على فائدة وأخرجها للمسلمين، ولم ير المسلمين يتقبلونها، ربما يحمله ذلك على أن يترك، كما حصل لغير واحد من المتقدمين، وربّ شخص يحرق كتابه، وآخر يدفن كتبه، إما لخلل في كتبه، وإما لعدم إقبال الناس عليها، كما قال بعضهم:
غزلت لهم غزلاً نسيجًا فلم أر لغزلي نسّاجًا فكسّرت مغزلي
فالشخص الذي لا يصبر ولا يحتسب ربما تأخذه السآمة، ويأخذه الفتور، سيما ونحن في مجتمع وعصر لا يشجع على العلم.
فربّ ولد محبّ للعلم يحول بينه وبين العلم والده الجاهل، وربّ شخص محبّ للعلم يحول بينه وبين العلم أهله الجاهلون، فمجتمعنا لا يشجّع على العلم، لكن ينبغي أن نصبر، وأن نحتسب، ولا نبالي، فرب العزة يقول في كتابه الكريم: {ياأيّها الّذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتّقوا الله لعلّكم تفلحون}.
ويقول سبحانه وتعالى: {وجعلنا منهم أئمّةً يهدون بأمرنا لمّا صبروا}.
فطالب العلم لابد أن يصبر، حتى وإن تراكمت عليه الأمور والمشاكل، ووجد ضيقًا في صدره، وربما يكلّف نفسه من الحفظ ومن الاهتمام بطلب العلم، حتى يجد قسوةً في قلبه، فلا ينبغي أن يثنيه عن هذا، فالشيطان لا يريد لك الخير، يريد أن يصرفك عن طلب العلم لأن طلب العلم في هذا الزمن أعظم حصن بإذن الله تعالى، يقيك من الفتن، فهو يعتبر حصنًا حصينًا، كما أن الذكر يعتبر حصنًا حصينًا، فكذلك العلم في هذا الزمن.
والذي ننصح به طالب العلم والمحب لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يأخذ من اللغة العربية ما يستقيم به لسانه، وما يعرف به ارتباط المعاني، فإن القرآن الكريم كما وصفه الله سبحانه وتعالى بقوله: {قرءانًا عربيًّا غير ذي عوج} وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عربية.
كما ننصحه أن يتعلم الخط والإملاء، فإنه ينبغي أن يؤهل نفسه للتحقيق والتأليف، والرد على المنحرفين، سواء كان في صحافة، أو في إذاعة، أو كان في كتب عصرية. ينبغي أن تكون همته عاليةً كما قال الشاعر:
فكن رجلاً رجله في الثرى وهامة همّته في الثريا
ومن رزقه الله فهمًا وحفظًا، ثم قصّر في نفسه، وفي طلب العلم، فقد حرم خيرًا كثيرًا، كما ذكره الحافظ الخطيب رحمه الله تعالى في كتابه "الفقية والمتفقه".
إذا أخذ من اللغة العربية ما يستقيم به لسانه، ويمكن أن يكتفي "بقطر الندى" وأخذ من الخط ما يفهم لأن الخط عبارة عن نقوش اصطلح عليها الناس للتفاهم، فإذا كان خطه يقرأ، وقد عرف الإملاء، ولو أن يفهم "المفرد العلم" من أجل أن يعرف أصحاب المطابع الخط، ويعرف الناس الآخرون إذا أراد أن يكتب. والمنحرفون يعيرون أصحاب المساجد، يقولون: لا يستطيع أحدهم أن يكتب اسمه، أو لا يستطيع أن يكتب إلى أبيه أو إلى قريبه, ينبغي أن نقطع ألسنتهم، والكتابة مما امتن الله سبحانه وتعالى بها، قال الله سبحانه وتعالى: {ن * والقلم وما يسطرون } وقال سبحانه وتعالى: {اقرأ باسم ربّك الّذي خلق * خلق الانسان من علق * اقرأ وربّك الأكرم * الّذي علّم بالقلم * علّم الإنسان ما لم يعلم }.
وينبغي أن يحرص كل الحرص على تكوين مكتبة، فإن وجد علماء يثق بهم من علماء السنة، فننصحه أن يجلس إليهم، فرب جلسة عند عالم، خير من قراءة شهر، ويحرص على مجالستهم، فإذا لم يكونوا في بلده ينبغي أن يرحل إليهم، والرحلة مشروعة، ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرغّب في الرحلة في طلب العلم، والصحابة رضوان الله عليهم كان أحدهم يرحل في المسألة الواحدة، فالإمام البخاري رحمه الله تعالى قال: باب الرحلة في العلم، في كتاب العلم من "صحيحه" ثم ذكر حديث الرجل الذي أتى يسأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن امرأة سوداء زعمت أنّها أرضعته وأرضعت امرأته.
وفي "الأدب المفرد" للبخاري: أن جابر بن عبدالله رحل من أجل حديث واحد إلى عبدالله بن أنيس إلى الشام، فلما حدثه به رجع.
وقد ألف الخطيب -رحمه الله تعالى- كتابًا في الرحلة، فإن تيسر له أن يرحل إلى أهل العلم، ويجالس أهل العلم، فمجلس واحد ربما يكون خيرًا من قراءة شهر، ويا سبحان الله لا تزال عبارة علمائنا الذين سمعنا منهم واستفدنا منهم، في أذهاننا إلى الآن فجزاهم الله خيرًا، فلا أزال أذكر من شيخنا محمد بن عبدالله الصومالي -حفظه الله تعالى-: إذا رأيت شعبة عن عمرو فهو ابن مرة، وإذا رأيت سفيان عن عمرو فهو ابن دينار، وإذا رأيت عبدالله بن وهب عن عمرو فهو ابن الحارث، وهكذا إذا جاء سفيان في السند في "صحيح مسلم" في الثالث أي: بينه وبين مسلم اثنان، قال: في الغالب بأنه سفيان الثوري، وإذا جاء في "صحيح مسلم" بينه وبين مسلم واحد، قال: فالغالب أنه سفيان بن عيينة. لا أزال أذكر مثل هذه الفوائد التي استفدناها منه حفظه الله تعالى، تلقين الشيخ له أثر لا سيما الشيخ الذى يعمل لله ويعلّم لله، أما الشيخ المستأجر الذى يدرس بأجرة فالفائدة قليلة، فقد كنا في الجامعة الإسلامية، وبعض المشايخ يشرح الدرس حتى كأننا نشاهد الألفاظ بأعيننا، ونخرج بسبب عدم الثقة في الشيخ فلا نستفيد الفائدة التي ينبغي أن تستفاد.
فإن لم يتيسر له الحضور عند المشايخ ومجالستهم، فننصحه بتكوين مكتبة، والحمد لله الوجادة من طرق التحمل التي أجازها علماؤنا المتقدمون على الصحيح، يكون مكتبة من كتب السنة، ومن كتب الرجال، ومن كتب العقيدة، ومن كتب الفقه، ومن كتب التفسير، ينبغي أن يحرص كل الحرص على أن لا يترك كتابًا من كتب المراجع الإسلامية إلا ويكون موجودًا في مكتبته بحسب القدرة والطاقة، والفائدة الواحدة من الكتاب تساوي الدنيا عند الذي يعرف قدر العلم، وعند من أصبح العلم أحب إليه من ماله وولده والناس أجمعين، كما قاله شعبة في حديث تعب في الرحلة من أجل أن يتحصل عليه، وانتهى به الأمر إلى أن الحديث من طريق شهر بن حوشب، فقال: أفسده عليّ شهر، ولو صح هذا لكان أحب إليّ من أهلي ومالي وولدي والناس أجمعين. أو بهذا المعنى. ذكر هذا الإمام الخطيب في كتابه "الرحلة" وكتابه "الكفاية" وذكر بعضه ابن أبي حاتم في مقدمة "الجرح والتعديل" في ترجمة شعبة. فالفائدة الواحدة عند المحب للعلم والذي يعرف قدر العلم خير من الدنيا وما فيها، بل عبّر بعض أهل العلم بأن تحصيل الفوائد لا يعادلها شيء في نفسه فيقول شعرًا:
سهري لتنقيح العلوم ألذّ لي وتمايلي طربًا لحلّ عويصة وصرير أقلامي على أوراقها وألذّ من نقر الفتاة لدفّها أأبيت سهران الدّجا وتبيته من وصل غانية وطيب عناقي أشهى وأحلى من مدامة ساقي أحلى من الدوكاة والعشاق نقري لألقي الرّمل عن أوراقي نومًا وتبغي بعد ذاك لحاقي
ثم بعد هذا جمْع ما تيسر من كتب اللغة، الكتب التى تشرح المفردات سواء كانت متعلقة بالحديث "كالنهاية" لابن الأثير و "الفائق" للزمخشري، أم كانت من قواميس اللغة "كالقاموس" و"تاج العروس" و"لسان العرب" وغير ذلك من الكتب التي لا بد أن يقتنيها فهو يحتاج إلى البحث فيها.
بقي كيف يستفيد من هذه الكتب؟ وهذا هو الذي يهمنا كيف يستفيد من هذه الكتب؟ يستفيد أحسن استفادة بالممارسة، وبالقراءة من كتب أصحاب التخاريج مثل "التلخيص الحبير" ومثل: "نصب الراية" ومثل "تفسير ابن كثير" يعتبر أيضًا من أعظم كتب التخاريج يبين طرق الحديث وإن كان تفسيرًا، وطالب العلم المحب للعلم والذي لديه غيرة يستطيع أن يكتب، ويستفيد من مكتبته الصغيرة فقد كنت في مكة، وكان عندي مكتبة في دولاب صغير من الخشب، والحمد لله كتبت "الطليعة في الرد على غلاة الشيعة" والله المستعان. فإن تيسر توفير الكتب فبها ونعمت، وإن لم يتيسر فينبغي أن تستفيد من مكتبتك الصغيرة، وأن تصبر، إلا أنه فرق بين توفر الكتب وبين عدم توفرها، فتوفر الكتب يوفر عليك وقتك فرب مسألة قد ألّف العلماء فيها المؤلفات من أمثال هذا: {بسم الله الرحمن الرحيم}أيجهر بها في الصلاة أم لا يجهر بها؟ الحافظ ابن عبدالبر له كتاب "الإنصاف في مسألة الخلاف" في هذا الموضوع، كذلك الدارقطني له كتاب في هذا الموضوع. يؤيد الجهر في {بسم الله الرحمن الرحيم}، والخطيب أيضًا له كتاب في هذا الموضوع بعض علمائنا المتقدمين مما لا أذكره، لأنه حصل صراع في هذه المسألة بين الشافعية وبين الحنابلة، الحنابلة يرون الإسرار، والشافعية يرون الجهر، فحصل صراع في هذه المسألة فكثرت التآليف فيها، والإسرار أصح لما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما": عن أنس -رضي الله عنه- قال: صلّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم فكانوا يستفتحون القراءة بـ{الحمد لله ربّ العالمين}. وفي رواية: في "صحيح مسلم": لا يجهرون بـ{بسم الله الرحمن الرحيم}.
والجهر وارد لما رواه الحاكم في "مستدركه": عن أبي هريرة أنه صلى بأصحابه وقال: إني لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وليس كما يقول بعض الناس: إن نعيمًا المجمر تفرد به، بل تابعه عبدالرحمن بن يعقوب، وتابعه رجل آخر، فالحديث صحيح في الجهر، وحديث الإسرار أصح.
إنما أتينا بمثال من هذه المسائل ليعلم أن بعض المسائل قد ألّف علماؤنا فيها، وإذا كان قد ألف في المسألة وفّر عليك الوقت، وكذلك أيضًا الأحاديث الواردة في فضل رجب، ربما تتعب وأنت تتتبعها من الكتب، قد ألف الحافظ ابن حجر كتابًا -رحمه الله تعالى- في هذا وسماه "تبيين العجب فيما ورد في فضل رجب" وهكذا أيضًا القراءة خلف الإمام، ألف الإمام البخاري جزءًا، وألف الإمام البيهقي جزءًا.
والمسائل التى خصّت بالتأليف كثيرة، فهذا يوفر عليك وقتك. إذا علمت هذا فكيفية الاستفادة من الكتب، ذكرنا لك فائدة وهي أن ترجع إلى التخاريج، وتنظر كيف يستفيدون.
شيء آخر، ترجع إلى معاني الحديث، فإن كان الحديث يتعلق بالطلاق رجعت إلى كتب الطلاق من "صحيح البخاري" ومن "صحيح مسلم" ومن "سنن أبي داود"، ومن "جامع الترمذي"، ومن "سنن النسائي"، ومن "سنن ابن ماجه"، إلى غير ذلك، وهكذا "سنن البيهقي" وإن كنت تعرف صحابيه يمكن أن ترجع إلى "تحفة الأشراف" لتعرف من أخرجه، أو ترجع إذا لم تجده في "تحفة الأشراف" إلى المسانيد كـ"مسند الإمام أحمد" و"مسند البزار" و"مسند الحميدي" إلى غير ذلك من كتب المسانيد.
وبقي شيء، ما إذا كان الحديث مشهورًا فعلماؤنا أيضًا ألفوا في هذا، فهناك كتاب "المقاصد الحسنة فيما اشتهر على الألسنة" للإمام السخاوي وهناك "كشف الخفا ومزيل الإلباس عما أشتهر على ألسنة الناس" للعجلوني، والعجلوني ربما يذكر الحديث ولا يذكر الحكم، وربما يكون حديثًا مخلاًّ بالعقيدة مثل حديث: ((إذا أعيتكم الأمور فعليكم بأصحاب القبور)) ذكره وسكت عليه، وهو دعوة إلى التمسح بأتربة الموتى، وإلى العقيدة الشركية، وإن كان يمكن أن يحمل الحديث أي: أنكم تزورون القبور، فإنّها تزهد في الدنيا، وتذكر في الآخرة، كما في حديث بريدة مرفوعاً ((إنّي كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنّها تذكّركم الآخرة)). رواه مسلم.
إن العجلوني ربما يذكر بعض الأحاديث فلا يتكلم عليها، بل هو نفسه مخرّف، فقد ذكر في مقدمة كتابه: "كشف الخفا ومزيل الإلباس" أنه يمكن أن يعرف الحديث أنه صحيح ويكون عند المحدثين ليس بصحيح، كيف يعرفه؟ بواسطة الكشف بأنه يكشف للولي إذا نزل جبريل بالحديث إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكشف له، ويكشف له بأنه ليس بصحيح ويكون عند المحدثين صحيحًا، ما هذا؟ إذًا فما فائدة كتابك "كشف الخفا" لم لا تعتمد على الكشف الذي هو أوهام وخرافات وخزعبلات، فرحم الله علماءنا المحدثين.
ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا } وأوهام الصوفية وخرافاتهم وخزعبلاتهم تهدم علم الحديث.
وإن كنت مبتدئًا وكانت هذه الطريقة أو الطرق التى ذكرناها بعيدةً عليك، فننصحك بأن تأخذ سندًا من "سنن أبي داود" ثم تتبع رجاله رجلاً رجلاً، وينبغي أن تتحرى في ابتداء أمرك حتى لا يلتبس عليك الأمر، فربما تجد وأنت تبحث عن محمد بن علي فتجد في "التقريب" جماعةً ممن يسمون محمد بن علي، فلا تدري من هو الذي في السند فكيف تستطيع التمييز؟.
بأمور منها: الطبقات، ومنها: الرموز، فأنت تبحث في "سنن أبي داود"، فإذا رأيت محمد بن علي لم يكن من رجال الجماعة، ولا من رجال أصحاب "السنن" ولا من رجال أبي داود عرفت أن هذا الرجل ليس هو الذي تبحث عنه. بعد هذا بالطبقة، ثم ترجع أيضًا إلى المشايخ تنظر إلى مشايخه ثم إلى الرواة من هو، وهم يميزون لك من هو، فإذا لم يتيسر لك هذا، فاجمع طرق الحديث فرب طريق يكون قد نسب فيها المحدث ويقولون مثلاً: محمد بن علي النيسابوري، أو مثلاً محمد بن علي يذكرون لقبه أو يذكرون كنيته. جمع الطرق أيضًا ربما تستطيع أن تميز بها.
فإذا لم تستطع أن تميز، وقد سلكت هذه المسالك فإن كانا ثقتين فلا يضر. من الأمثلة على هذا: علي بن محمد، شيخان لابن ماجة أكثر ابن ماجة عن علي بن محمد الطنافسي، وهناك علي بن محمد آخر أحدهما ثقة، والآخر صدوق، فلا يضر.
وإن اشتبه عليك ضعيف بثقة. ومن الأمثلة على هذا: إسماعيل ابن أبان المقرئ من مشايخ البخاري في طبقته إسماعيل بن أبان الغنوي متروك، والمقرئ من مشايخ البخاري. مثال آخر: الليثان: ليث بن سعد، وليث بن أبي سليم، ليث بن أبي سليم مختلط، وليث ابن سعد إمام.
مثال ثالث: عبدالكريم بن مالك الجزري، وعبدالكريم بن أبي المخارق اشتركا في كثير من المشايخ، واشترك كثير من الطلبة في الأخذ عنهما. الجزري من رجال البخاري، وابن أبي المخارق ضعيف.
مثال آخر أيضًا: أسامة بن زيد الليثي، وأسامة بن زيد بن أسلم، أسامة بن زيد الليثي يحسن حديثه عند بعضهم، وأسامة بن زيد بن أسلم ضعيف، فإذا كان أحدهما ضعيفًا والآخر ثقة توقفت.
فإذا انتهيت من رجال السند وعرفتهم، ووجدتهم ثقات ينبغي أن تجمع طرق الحديث، فرب حديث يكون سنده كالشمس، ثم بعد ذلك تظهر به علة أو يكون شاذًّا، ومع جمعك للطرق فإنك تعرف الشذوذ، وتعرف العلة، ورحم الله علي بن المديني، إذ يقول: (الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبين خطؤه)، ورب حديث كما تقدم يكون سنده كالشمس، وهو شاذّ، أو معل، فجمع الطرق أمر مهم.
كيف تستطيع أن تجمع الطرق؟ تقدم شيء من هذا، إن كان الحديث يتعلق مثلاً بفضيلة الوضوء، ترجع إلى أبواب الوضوء وأبواب الطهارة في الكتب على الأبواب.
فإن كنت تعرف صحابيّه رجعت أيضًا إلى "تحفة الأشراف" وإلى المسانيد.
ما عرفت لا ذا، ولا ذاك، لكنك الآن قد خرجت إلى طريق أخرى، لكن لو ذكرت حديثًا ولم تعرف صحابيه ولم تعرف إلا معناه، فينبغي أن ترجع إلى "المعجم المفهرس" فهو يتكلم عن المعاني، ويرشد، ولكن لا ينبغي أن تقتصر على "المعجم المفهرس"، بل هناك كتب لم تذكر في "المعجم المفهرس" من الأمثلة على هذا "مسند الحميدي" ومعاجم الطبراني الثلاثة "المعجم الكبير والمعجم الأوسط والمعجم الصغير" وكيفية الاستفادة من هذه الثلاثة المعاجم.
الاستفادة منها: أما "المعجم الصغير" فإنه على ترتيب شيوخه، وقد فهرس والحمد لله ونشرت فهرسته، فأما "المعجم الكبير" فإنه كالمسانيد على الصحابة، وإن كان يذكر فوائد ليست من الأحاديث و"المعجم الكبير" يخالف المسانيد، هو مثل المسانيد، بأنه على ترتيب الصحابة، يخالفهم ربما يذكر فوائد وآثار عن الصحابة، ويذكر تفسيرًا له إن كان من أئمة التفسير.
ومعرفة كيفية الاستفادة من الكتب أمر مهم، أذكر أننا في ذات مرة سألت بعض أهل العلم كيف أستطيع أن أستفيد من "التمهيد" لابن عبدالبر فجزاه الله خيرًا، كان لا يعرف مثلي كيف يستفاد لكن أعطاه الله بصيرة، قال: ائتنا بكتابه فأتينا بالكتاب، فإذا هو على ترتيب مشايخ الإمام مالك، فشيخ الإمام مالك في الحديث اسمه إبراهيم فارجع إلى "التمهيد" تجد خيرًا كثيرًا لأن التمهيد يعتبر من أحسن الكتب في جمع الطرق والكلام على المعاني والجمع بين الأدلة.
ونسيت شيئًا مهمًا مما يستفاد من "التمهيد" وهو ذكر الاختلاف في وصل الحديث وإرساله، أو وصل الحديث وانقطاعه، أو رفْع الحديث ووقفه، وطريقة الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- قريبة أو أنه استفاد الحافظ ابن حجر من "التمهيد" ومن طريقة "التمهيد" وفي طريقة إخراج الحديث، ثم الجمع بين الأدلة، ثم استنباط الأحكام، فجزاه الله خيرًا.
معرفة الاستفادة من الكتب من الأمور المهمة، فرب شخص يستطيع أن يستخرج الحديث في قدر نصف ساعة، ويخرج الحديث والحمد لله، لكن شخص آخر ممكن أن يبقى فيه سبعة أيام، وممكن أن يبقى فيه شهرًا.
وعند أن كنت مبتدئا مرّ بي حديث: ((يا عليّ لولا أن تقول فيك طوائف من أمّتي ما قالت النّصارى في عيسى لقلت فيك مقالاً لا تمرّ بأحد إلا أخذوا التّراب من أثرك لطلب البركة)) وأنا كنت أكتب في "الطليعة في الرد على غلاة الشيعة" فوجدت في السند يحيى ابن يعلى، ووجدت جماعةً في "تهذيب التهذيب" ممن يسمون يحيى بن يعلى فما استطعت التمييز وصرت أسأل العلماء في الحرم، وغالبهم لا يهتم بالحديث فلم أجد منهم إجابة، حتى سألت بعض الباحثين فقال: هو يحيى بن يعلى الأسلمي القطواني قال: استفدت من "تهذيب الكمال" قلت: أين هو "تهذيب الكمال"؟ قال: في مكتبة الحرم المكي، ثم بعد ذلك ذهبت أهرول إلى مكتبة الحرم المكي حتى أنقله بعلوّ وأراجع ترجمة يحيى بن يعلى الأسلمي القطواني في "ميزان الاعتدال" إلى غير ذلك، فمعرفة الكتب ومعرفة الاستفادة من الكتب مهم.
وذات مرة كنت أبحث، فمرت بي كلمة لغوية، وكان عندي أخ في الله متخرّج من الجامعة الإسلامية كلية الشريعة، فأعطيته "القاموس المحيط" ليخرجها، فأخذ الكتاب ووضعه على فخذه، وأنا كما يقولون: واحرّ قلباه ممن قلبه شبم، فأنا استحييت أن أقول له: أعطني الكتاب من أجل أن أخرج الكلمة، وهو أيضًا استحيى أن يردّ لي الكتاب، ويقول لا أستطيع استخراجها فقلت له: مالك يا أخي ما تخرج الكلمة؟ قال: أنا لا أعرف كيف أستخرجها، وصار يضحك جزاه الله خيرًا.
فمعرفة الاستفادة من الكتب توفر عليك وقتك. بقي المواضيع، فرب حديث يتعلق بالعقيدة وأنت تريد أن تخرجه وما وجدته في "السنن" ولا في "صحيح البخاري" أنصحك أن ترجع إلى كتب العقيدة مثل "الأسماء والصفات" للبيهقي وكتاب "التوحيد" لابن خزيمة و"الرد على الجهمية" لعثمان الدارمي و"الرد على الجهمية" لابن منده، وإذا كان الحديث يتعلق بالترغيب والترهيب ترجع إلى "الترغيب والترهيب" للمنذري ليدلك على مخرجه، لأن "الترغيب والترهيب" ليس كافيًا. إذا كان الحديث يتعلق بالطب ترجع إلى كتب الطب التي ألفت في هذا ككتاب "الطب" للحافظ ابن القيم وكتاب "الطب" للحافظ الذهبي، وكتاب "الطب" لأبي نعيم إلى غير ذلك من الكتب التي ألفت.
فينبغي أن تنظر وتفكر في الموضوع الذى تريد أن تخرجه.
فإذا لم تر الحديث فلا توقف بحثك من أجل أنك ما رأيت الحديث، أو من أجل أنك ما رأيت ترجمة الراوي، فكيف تعمل؟ تترك بياضًا كما كان علماؤنا الأولون، يتركون بياضًا فابن أبي حاتم في كتابه "الجرح والتعديل" ربما يترك بياضًا. حتى تنتهي من البحث وتراجع، فإن وجدته وإلا قلت: لم أجده، كما يقول الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء" وكما يقول الحافظ الهيثمي في كتابه "مجمع الزوائد" يقول: في سنده فلان ابن فلان ولم أجده أو لم أجد له ترجمة، والحافظ أيضًا في "تخريج الكشاف" ربما يقول: الحديث لم أجده، لأن الزمخشري يعتبر حاطب ليل، وكذا الغزالي يعتبر حاطب ليل، وربما يأتيك شخص بكلام يظنه حديثًا، كما كنا نسمع ونحن في مكة عند أن أخبر الناس بأن اثنين صعدا إلى القمر، فإذا قائل يقول: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تقوم الساعة حتى يصعد اثنان إلى ظهر القمر". أو بهذا المعنى. والحديث من موضوعات العصريين، فلا تتعب نفسك في البحث عنه، ومن الأمثلة على هذا أيضًا قول بعض الأئمة "استووا فإن الله لا ينظر إلى الصف الأعوج" وهكذا أيضًا "من تعلم لغة قوم أمن مكرهم" حديث ليس له أصل، ثم يطالبونك أن تخرجه من كتب السنة. ثم هب أنه في كتب السنة التي لم تطلع عليها، وهنا أمر أريد أن أنبّه عليه، فربما يقع فيه كثير من الناس ونحن من أولئك، ربما يستدل المستدل بجملة من الحديث وأنت تريد أن تستخرج هذا الحديث فتذهب وتبحث في كتب الفهارس في كتب الحديث وتتعب نفسك فلا تجد الحديث.
فإذا ذهبت تبحث في أوائل الحديث في كتاب مثل: "معجم الطبراني" فأحاديثه ليست موجودة في "المعجم المفهرس" وليست موجودة في "تحفة الأشراف" فكيف تعمل؟ ترجع إلى كتب الفقه إن كان يتعلق بالفقه، وهكذا سائر الفنون في الحديث.
بقى شيء في طريقة البحث، فإذا كنت تريد أن تكتب موضوعًا باستيعاب، والموضوع يستحق هذا فكيف تعمل؟ الذي أنصحك به أن تطالع كتب السنة كلها، وكلما وجدت حديثًا يتعلق بموضوعك كتبته، فإن كنت لا تريد الاستيعاب وتريد أن تكتب جملةً من الأدلة نظرت إلى الكتب التى ألّفت في هذا الموضوع.
وسآتي بمثال: فإذا كنت تريد أن تكتب في القدر، ومن جملة أبواب القدر المشيئة، فعليك أن ترجع إلى الكتب التى كتبت في القدر تجد أحاديث يسيرة في المشيئة، لكن لو ألّف أحد كتابًا في المشيئة من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لخرج الكتاب مجلدًا. وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه، والحمد الله رب العالمين.
علم الحديث
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن علم الحديث لا يستطيع المتكلم أن يفي بمهماته ومقاصده، لا بكلمة، أو كلمتين، أو ثلاث، ولا شريط، ولا شريطين، ولا ثلاثة، لكن الذي يشتغل في علم الحديث تبدو له أشياء وأشياء. من تلكم مسألة ما إذا اختلف العلماء في راو في توثيقه وتجريحه، وهذه المسألة يدندن بها المقلّدة ودعاة التقليد، فيقولون: المحدثون ما تركوا أحدًا إلا وطعنوا فيه، وليس الأمر كذلك، فإن كثيرًا من أئمة الحديث لم يتكلم فيهم، ثم ليس كل كلام يكون معتبرًا.
أي إذا اختلفوا في الراوي ومنهم من يجرّحه، فإن كان الجرح مفسّرًا أخذ بالجرح المفسر، لأن الجارح اطّلع على ما لم يطلع عليه المعدّل، فمثلاً رجل يقول: فلان محدّث. وهو سنيّ من أهل السنة ويفهم، فجاء آخر ممن يعتمد قوله وقال: هو كذّاب. فالذي حكم عليه أنه كذاب اطلع على ما لم يطلع عليه المعدل، فعنده زيادة يجب الأخذ بها، ثم بعد ذلك ينظر.
إذا لم يكن الجرح مفسرًا ينظر في الموثق، والمجرح، فيخشى أن يكون جرحه بما لم يكن جارحًا، وأئمة الجرح والتعديل منهم المتشدد ومنهم المتوسط، فقد ذكر العلماء من المتشدّدين شعبة، ويقابله: سفيان الثوري وهو من المتوسطين، ومنهم أي: المتشددين يحيى بن سعيد القطان، يقابله عبدالرحمن بن مهدي من المتوسطين، ومن المتشددين أيضًا يحيى بن معين، ويقابله أيضًا أحمد بن حنبل من المتوسطين، ومن المتشددين أبوحاتم، ويقابله البخاري من المتوسطين. فإذا عدل المتشدد في الجرح عضضت عليه بالنواجذ، فهو لا يعدّل إلا عن تثبّت، كذا من الموثقين من هو متساهل كابن حبان، وشيخه ابن خزيمة في توثيق المجاهيل، والعجلي كذلك في توثيق المجاهيل، فمنهم من هو متساهل في التوثيق.
ودراسة أحوال المحدثين من الأمور المهمة، حتى تعلم من المتشدد منهم ومن المتساهل. بل دراسة حال المؤلف الذي تقرأ في كتابه من الأمور المهمة ماذا عن عقيدته؟ وماذا عن تساهله في الجرح والتعديل؟ وهكذا أيضًا اختلاف الأحاديث والمترجمين. هذا وقد ذكر الحافظ الحازمي -رحمه الله تعالى- في كتابه "الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار" جملةً من المرجّحات، وشروح الحديث التي تعين على المرجحات مثل "فتح الباري" وغيره من الكتب التي اهتمت بهذا، ومثل كتب العلل تعين على المرجحات.
ومما ينبغي أن يعلم أن من الكتب التي يستفاد منها في علم الحديث كتب الشيخ ناصر الدين الألباني، لا ينبغي لطالب علم أن تخلو مكتبته من كتب الشيخ ناصر الدين الألباني غير مقلّد له في المسائل التي يستنبطها. أما إذا قبلت قوله في التصحيح والتضعيف فهو ثقة، لك أن تقبل قوله، وإذا احتطت لنفسك وبحثت عن الحديث وعن صحته وعن ضعفه فهو أفضل، وإن قبلت حكمه على الأحاديث فذاك، أما استنباطه وفهمه من كتب الحديث كغيره من العلماء، فإننا نستعين بالله سبحانه وتعالى، ثم بفهم الصحابة رضوان الله عليهم، والتابعين وأئمة المذاهب وغيرهم من المؤلفين.
فمثلاً كتاب "المجموع" للنووي وكتاب "المغني" لابن قدامة وغيرهما من كتب الفقه لا ينبغي أن تخلو مكتبة طالب علم منهما، لكن الاعتماد على ما في كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهكذا "المحلى" لأبي محمد بن حزم يعتبر كتاب فقه، وكتاب جرح وتعديل، وكتاب تصحيح وتضعيف، وكتاب ردود على أباطيل، فأنصح كل طالب علم أن يقتنيه، ويحذر من بعض تصحيحاته أو بعض تضعيفاته لبعض الأحاديث. ثم أيضًا يحذر من تهجّمه على العلماء، التهجّم الذي فيه مجازفة غير مقبول من أبي محمد بن حزم -رحمه الله تعالى- فربما تحامل على الإمام مالك، أو على أبي حنيفة، أو على غيره من الأئمة. نستفيد من كتابه، أما تحامله فلا. وكذلك لا يعتمد عليه في الأسماء والصفات فإنه أوّل كثيرًا منها.
ومسألة التقليد إذا كنا نقول: الأئمة -رضوان الله عليهم- كمالك والشافعي وأحمد لا يجوز أن يقلدوا, فكذلك لا يقلّد الإمام ابن حزم -رحمه الله تعالى- وكتابه "الإحكام في أصول الأحكام" يعتبر من أحسن كتب أصول الفقه، وكتب أصول الفقه تقول: هذا جائز، وافعل ولا تفعل، وهذا يقتضي الوجوب، وهذا يقتضي الإباحة إلى غير ذلك، وقليل ما يأتون بالأدلة بخلاف أبي محمد بن حزم -رحمه الله تعالى- فإنه يذكر الأدلة من كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع التصحيح للتي هي صحيحة، والتضعيف للأحاديث التي لا يراها صحيحة، وهو في مسألة التصحيح والتضعيف كغيره من العلماء، ونقله حجة. أما في فهمه فكغيره من سائر العلماء الذين نستفيد من أفهامهم، ولا نقلدهم، لأن التقليد حرام.
ولا يجوز لمسلم أن يقلد في دين الله، حتى ولا العامي يسأل عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والعامي ممن يشمله قول الله تعالى: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون} ومما يشمله قوله تعالى: {وما ءاتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وممن يشمله قوله تعالى: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} فهل العامي ممن تشمله هذه الأدلة أو ممن لا تشمله؟ فلماذا يقولون العامي يقلد؟ العامي ممن يشمله قوله تعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينًا}.
العامي ينبغي أن يعلّم، وأن يذهب إلى العالم يستفتيه: ما حكم الله في هذه المسألة؟ ثم يذكر له الدليل، فإن فهم العامي فذاك، وإن لم يفهم ذكرت له حكم الله في هذه المسألة، وبحمد الله أننا نجد كثيرًا من العامة الذين بعضهم يشتغل في صناعة البلوك والآجر ويشتغل حمالاً، ويشتغل مزارعًا، أنواع من أنواع المهن التي يزاولها كثير من العامة ثم هم يسألون عن الدليل، وهم الذين يعجزون المخرّفين، رب زارعي حرث وهو يقف أمام المبتدع: ما دليلك على هذه المسألة؟ ماذا يقول المبتدع؟ يقول: ما أتعبنا إلا الدليل، وما أعجزنا إلا الدليل. فأنا أنصح كل مسلم بمطالبة الدليل.
أنأ أسالكم -إخواني في الله- العامة أكثر أم أهل العلم؟ العامة، فلماذا نفرط في الكثرة الكاثرة ونتركهم فريسةً للشيوعية، وللبعثية، والناصرية، ولأعداء الإسلام؟ لماذا لا نربطهم بكتاب الله، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ ونعلّمهم أن الله افترض عليهم طلب العلم، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((طلب العلم فريضة على كلّ مسلم)) هل قال إلا العامة؟ فلم يقل: طلب العلم فريضة على كل مسلم إلا العامة، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين))، هل قال إلا العامة؟
نترك الكثير من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أشباه الأنعام أتباع كل ناعق، بل نصرخ بين ظهرانيهم أنّهم متعبّدون بكتاب الله، ومتعبدون بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى يشعروا بأنّهم مسؤولون عن هذا، ويطالبون من يحتفل بالموالد، ومن يدعو غير الله، ومن يتمسح بأتربة الموتى، ويطالبون أصحاب الحروز والعزائم، بالأدلة.
وماذا تكون أيها الداعي إلى الله في المجتمع؟ والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يحضر خطبه العامي والعالم والجاهل، وكان يقول في كثير من المجالس: ((رحم الله امرأً سمع مقالتي فوعاها، ثمّ أدّاها كما سمعها)).
ويقول أيضًا في كثير من المجالس: ((ليبلّغ الشّاهد الغائب، فربّ حامل فقه ليس بفقيه)) يحث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على التبليغ.
هذا شأن المسلم، وشأن الداعي إلى الله، ألا يخص بدعوته طبقة من الطبقات، والرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول الله له: {قل ياأيّها النّاس إنّي رسول الله إليكم جميعًا} فهو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى المكلفين جميعًا، وليس مقصورًا على فلان وفلان، كما هو شأن بعض الدعوات، وكما هو شأن دعاة التقليد، ودعاة الضلال, فإن كثيرًا من دعاة الضلال يهمهم جدًا أن تبقى الشعوب عمياء، من أجل ما إذا دعوا إلى الشيوعية باسم ماذا؟ باسم العدالة، وإلى اشتراكية باسم العدالة، استجابوا، وإن دعوا إلى تبرج وسفور باسم الحرية، وإلى بنوك ربوية من أجل الاقتصاد استجابوا، وإن دعوا إلى أي شيء باسم الفساد استجابوا.
يجب أن نتقي الله في العامة وأن نشعرهم بأنّهم مسؤولون عن كتاب الله وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومما ينبغي للباحث أن يستفيد منه، كتب الفهارس، لكن كتب الفهارس أخي في الله متى ترجع إليها؟ إذا كنت مستعجلاً أو ليست لك بصيرة في البحث، أما إذا كنت تريد أن تبحث، فأنا أنصح كل أخ بالبحث، قبل أن يرجع إلى كتب الفهارس فرب مسألة تبحث عنها، أو رب مسألة تعثر عليها، أحسن من المسألة التى تبحث عنها، وربما تبحث عن حديث ضعيف، فتجد في المسألة آيةً قرآنيةً قد استدل بها العلماء على ذلك الحكم، أو تجد حديثًا صحيحًا في "صحيح البخاري"، أو تجد شاهدًا لذلك الحديث الذي تبحث عنه إلى غير ذلك. فمن استطاع أن يبحث في كتب علمائنا المتقدمين فليفعل، ومن لا، فلا بأس أن يرجع إلى كتب الفهارس، وقد اهتم بها في هذا العصر، والحمد لله.
بقي أمر نبهنا عليه، وهو مسألة المصطلح للباحث، ولمن يريد أن يستفيد من كتب السنة، لأنه يمرّ بك في بعض الأحاديث حديث منكر، وفي بعض الرواة منكر الحديث، ويمر بك في بعض الأحاديث: معضل، أو حديث منقطع، أو حديث مرسل، أو حديث شاذّ إلى غير ذلك من الألقاب التي تمر بك، وأحسن كتاب هو "مختصر مقدمة ابن الصلاح" للحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- ممكن أن تكتفي به، وإن كنت تريد التزود رجعت إلى أصله، وهو كتاب "المقدمة" لابن الصلاح، وإن كنت تريد أن تتزود فارجع إلى أصولها وهو "الكفاية" وكتاب الرامهرمزي "المحدث الفاصل" إلى غير ذلك من الكتب التي سيشير إليها أو يعزو إليها ابن الصلاح.
أما ألفاظ الجرح والتعديل فـ"الرفع والتكميل" للكنوي مع الحذر من تعصّبه، وهو حنفيّ جامد يتعصب لأبي حنيفة، ويحمل على شيخ الإسلام ابن تيمية، وعلى الشوكاني، وغيرهما من أئمة أهل السنة. ماذا تستفيد من كتابه؟ تستفيد ألفاظ الجرح والتعديل، وماذا يعني بها العلماء؟ وتستفيد بيان مقاصدهم، أما حملاته على أئمة الهدى فلا تقبلها، وهكذا ترويجه وتزيينه للمذهب الحنفي، فإن المذهب الحنفي يعتبر أبعد المذاهب الثلاثة عن كتاب الله، وعن سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لست أقصد أنه ليس له صلة بالكتاب والسنة، أقصد أنه أبعد المذاهب الثلاثة عن الكتاب والسنة، حتى قال بعض العلماء: إذا أردت أن تصيب الحقّ فخالف أبا حنيفة، والحافظ الإمام ابن أبي شيبة -رحمه الله تعالى- ذكر جزءًا كبيرًا من المجلد الرابع من كتاب "المصنف" فيما خالف فيه أبوحنيفة الحديث، وأبوحنيفة عالم من علماء المسلمين، ولكنه التقليد فكن على حذر من تقليده، ومن تقليد غيره، فقد أدى التعصب ببعضهم إلى أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من أجل التعصب لأبي حنيفة فقد قيل لبعضهم: ألا ترى مذهب محمد بن إدريس كيف قد انتشر في البلاد، قال: لأخزينّه، حدثني فلان عن فلان عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((ليأتينّ رجل من أمّتي وهو أضرّ عليهم من إبليس، اسمه محمّد بن إدريس، وأبوحنيفة سراج أمّتي وأبوحنيفة سراج أمّتي وأبوحنيفة سراج أمّتي )) فتعصب شديد عند الأتباع، وننصح كل أخ أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفق الله الجميع إلى ما يحبه ويرضاه. وصلى اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أبوعبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي(/)
تحريم الخضاب بالسواد
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {ياأيّها الّذين ءامنوا ادخلوا في السّلم كافّةً}، أي: خذوا الإسلام من جميع جوانبه.
وقال تعالى: {قل ياأهل الكتاب لستم على شيء حتّى تقيموا التّوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربّكم}.
وقال الإمام البخاري رحمه الله (ج14 ص113) طبعة حلبية: باب مايتّقى من محقّرات الذّنوب:
حدثنا أبوالوليد حدثنا مهدي عن غيلان عن أنس رضي الله عنه قال: إنّكم لتعملون أعمالاً هي أدقّ في أعينكم من الشّعر، إن كنّا لنعدّها على عهد النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الموبقات.
قال أبوعبدالله: يعني بذلك: المهلكات.
قال الحافظ رحمه الله: التعبير بالمحقرات، وقع في حديث سهل بن سعد رفعه: ((إيّاكم ومحقّرات الذّنوب، فإنّ مثل محقّرات الذّنوب، كمثل قوم نزلوا في بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتّى جمعوا ما أنضجوا به خبزهم، وإنّ محقّرات الذّنوب متى يؤخذ بها صاحبها أهلكتْه)).
أخرجه أحمد بسند صحيح، ونحوه عند أحمد والطبراني من حديث ابن مسعود، وعند النسائي وابن ماجه عن عائشة أنّ النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ياعائشة، إيّاك ومحقّرات الذّنوب، فإنّ لها من الله عزّ وجلّ طالبًا)). وصححه ابن حبان. اهـ
ومن الذنوب التي يحتقرها كثير من الناس، ويجهل حكمها آخرون الخضاب بالسواد.
وكنت وأنا بمكة قد رأيت بعض طلبة العلم يخضب بالسواد، فنصحته بترك ذلك فأبى، وقال: أنه ليس بمحرم، وكان من أصحابه رجل من العلماء، فقلت لذلك العالم ينصحه، فقال: إنه ليس بمحرم. بل قال: لا شيء فيه، فقلت له: حديث جابر في "صحيح مسلم" وفيه: ((وجنّبوه السّواد))، فقال: هي مدرجة. فقلت له: فحديث ابن عباس الذي رواه أبوداود، والإمام أحمد، وفيه وعيد شديد. فقال: إنه حديث لا يثبت.
والرجل محدث ولكني لم أقتنع بكلامه ودفعني هذا إلى جمع هذه الرسالة.
ومما دفعني أيضًا إلى جمع هذه الرسالة، أنّ بعض أهل العلم، وهكذا أيضًا بعض الزعماء والمسؤولين، وبعض مشايخ القبائل يخضبون بالسواد، هؤلاء الذين لا يتجرأون على لحاهم بالحلق.
أما الذين يتجرّأون ويحلقونها ويخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بإعفائها وبتوفيرها، ورضوا بالتشبّه بأعداء الإسلام، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من تشبّه بقوم فهو منهم)). رواه أحمد بسند جيد كما قال شيخ الإسلام في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم".
ونحن إذا التقينا بهم يكون هناك من الكبائر التي توجد في المجتمع أكبر من الخضاب بالسواد، من أجل ذلك رأيت أن تطبع هذه الرسالة حتى يطّلع على ما فيها من الأحاديث وكل امرئ حجيج نفسه.
ولست أقول كما يقول بعض جهلة الإخوان المسلمين: إنّ هذا من القشور. ولكني أقول: إنه يجب على المسلم أن يلتزم بشرع الله، في حدود ما يستطيع، فإن الله عز وجل يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {فاستقمْ كما أمرت}. ويقول لنا أيها المسلمون: {فاسْتقيموا إليه} ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لرجل وقد طلب منه أن يوصيه فقال له:((قل آمنت بالله ثمّ اسْتقم)) رواه مسلم. وقد ذكرت جملة من هذا في "المخرج من الفتنة".
وعلى كل فالمسلم لا ينبغى له أن يستهين بشيء من الذنوب، فربّ ذنب يكون سببًا لزيغ القلب. يقول الله سبحانه وتعالى: {فلمّا زاغوا أزاغ الله قلوبهم}.
أعاذنا الله وإياكم من زيغ القلوب، وثبت قلوبنا على الحق. آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
وبعد: فهذه بعض الأحاديث الواردة في الخضاب نقلتها ليتضح خطأ من يخضب بالسواد لما فيه من الغش، ولا أنقل إلا ما كان من حديث رسول الله، إذ لا حجة إلا في كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال الامام البخاري رحمه الله في "صحيحه" (ج12 ص476) مع "الفتح": حدثنا الحميدي حدثنا سفيان حدثنا الزهري عن أبي سلمة وسليمان بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ اليهود والنّصارى لا يصبغون فخالفوهم)).
ورراه مسلم (ج2 ص44) من طريق سفيان بن عيينة به.
هذا الحديث مطلق يتناول أي صباغ، لكنه قيّد بما رواه الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص44) قال رحمه الله: حدثني أبوالطاهر أخبرنا عبدالله بن وهب عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: أتي بأبي قحافة يوم فتح مكّة ورأسه ولحيته كالثّغامة بياضًا فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((غيّروا هذا بشيء، واجتنبوا السّواد)).
ولم يصب من زعم أن قوله: ((واجتنبوا السّواد)). مدرجة إذ الأصل عدم الإدراج، وأما ما رواه الإمام أحمد من أن زهير بن معاوية سأل أبا الزبير لما حدثه بهذا الحديث قال: قلت لأبي الزبير: قال:((جنّبوه السّواد))؟ قال: لا. فمبنيّ على أن أبا الزبير قد نسي وكم من محدث قد نسي حديثه بعد ما حدث به، وهذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلميقول: ((رحم الله فلانًا لقد ذكّرني آية كذا كنت أنسيتها))، وقد صرح الحافظ في "النخبة" أنّ الصحيح أنه لا يرد الحديث لنسيان الشيخ، إلا أن يقول: كذب عليّ، لم أحدثه بهذا، ثم إنه قد تابع ابن جريج ليث كما عند ابن ماجة والإمام أحمد، وهو ليث بن أبي سليم مختلط، لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات.
وللحديث شاهد صحيح، قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص160): ثنا محمد بن سلمة الحراني عن هشام عن محمد بن سيرين قال: سئل أنس ابن مالك عن خضاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يكن شاب إلاّ يسيرًا، ولكنّ أبا بكر وعمر بعده خضبا بالحنّاء والكتم، قال: وجاء أبوبكر بأبيه أبي قحافة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم فتح مكّة يحمله، حتّى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي بكر: ((لو أقررت الشّيخ في بيته لأتيناه)) تكرمةً لأبي بكر، فأسلم ولحيته ورأسه كالثّغامة بياضًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((غيّروهما، وجنّبوه السّواد)).
قال الهيثمي في "المجمع" بعد ذكره هذا الحديث (ج5 ص160): رواه أحمد وأبويعلى، والبزار باختصار، وفي الصحيح طرف منه، ورجال أحمد رجال الصحيح.
وآخر حسن: [قال ابن سعد في "طبقاته" (ج5 ص333-334): أخبرنا عبدالرحمن بن محمد المحاربي عن محمد بن إسحاق قال حدثني يحيى بن عباد بن عبدالله بن الزبير عن أبيه عن أسماء قالت: لمّا دخل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكّة واطمأّنّ وجلس في المسجد أتاه أبوبكر بأبي قحافة فلمّا رآه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((يا أبا بكر ألا تركت الشّيخ حتّى أكون أنا الّذي أمشي إليه؟)) قال: يا رسول الله هو أحقّ أن يمشي إليك، من أن تمشي إليه. فأجلسه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بين يديه، ثمّ قال: ((يا أبا قحافة أسلم تسلم)) قال: فأسلم وشهد شهادة الحقّ، قال: وأدخل عليه رأسه ولحيته كأنّهما ثغامة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((غيّروا هذا الشّيب وجنّبوه السّواد)).
أخرجه أيضًا الإمام أحمد (ج6 ص349) مطولاً، وابن حبان (1700) "موارد"، والحاكم (ج3 ص46).]اهـ رازحي.
هذا وقد جاء الوعيد الشديد لمن يخضب بالسواد، روى الإمام أحمد في "مسنده" عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((يكون قوم في آخر الزّمان يخضبون بالسّواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنّة)).
قال صاحب "الفتح الرباني" في تعليقه على "ترتيب المسند" (ج17 ص319): سنده صحيح، ومن الغريب أن ابن الجوزي أورده في "الموضوعات" وهو من الأحاديث التي ذبّ عنها الحافظ ابن حجر في كتابه "القول المسدد في الذب عن مسند أحمد". قال رحمه الله بعد ذكر سنده ومتنه: أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" من طريق أبي القاسم البغوي عن هاشم بن الحارث عن عبيدالله بن عمرو به. وقال: حديث لايصح عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. المتّهم به عبدالكريم بن أبي المخارق أبوأمية البصري، ثم نقل تجريحه عن جماعة، قال الحافظ: وأخطأ في ذلك، فإن الحديث من رواية عبدالكريم الجزري الثقة المخرّج له في "الصحيح"، وقد أخرج الحديث من هذا الوجه أبوداود والنسائي وابن حبان في "صحيحه" وغيرهم.
قال أبوداود في كتاب (الترجل): حدثنا أبوتوبة حدثنا عبيدالله عن عبدالكريم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يكون قوم يخضبون في آخر الزّمان بالسّواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنّة)).
وأخرجه النسائي في الزينة وابن حبان والحاكم في "صحيحيهما" من هذا الوجه، وقال أبويعلى في "مسنده": حدثنا زهير حدثنا عبيدالله بن جعفر، هو الرقي به، وأخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في "المختارة مما ليس في الصحيحين" من هذا الوجه أيضًا.اهـ كلام الحافظ.
قال المعلق على "ترتيب المسند": قلت: وبهذا تعرف أن الحديث صحيح لا مطعن فيه.اهـ
قلت: ومما يزيدنا وضوحًا أنّ الذي في سند هذا الحديث عبدالكريم الجزري وليس بابن أبي المخارق أن الحديث في "سنن أبي داود" وعبدالكريم ابن أبي المخارق ليس من رجال أبي داود كما في "تهذيب التهذيب" و"الميزان" وغيرهما من كتب الرجال، نعم روى له أبوداود خارج "السنن" كما في "تهذيب الكمال" فإنه رمز "لمسائل أحمد" وأما في "السنن" فلا.
هذا وإنني ذاكر ما وجدته من الشواهد للأحاديث المتقدمة، قال الامام أحمد رحمه الله تعالى "ترتيب المسند" (ج17 ص319): حدثنا قتيبة أنا ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((غيّروا الشّيب ولا تقرّبوه السّواد)).
ابن لهيعة فيه ضعف، ولا يمنع من الاستشهاد بحديثه.
وقال البيهقي رحمه الله في "السنن الكبرى" (ج7 ص311): أخبرنا أبوالحسن محمد بن الحسين بن داود العلوي أنا أحمد بن محمد بن الحسن الحافظ نا الحسن بن هارون ثنا مكي بن إبراهيم نا عبدالعزيز بن أبي رواد عن محمد بن زياد عن أبي هريرة رضي الله عنه ذكر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((غيّروا الشّيب، ولاتشبّهوا باليهود، واجتنبوا السّواد)) اهـ
وعبدالعزيز بن أبي روّاد فيه كلام، والحسن بن هارون: قال أبوحاتم: لا أعرفه. كما في "لسان الميزان".
وفي "مجمع الزوائد" (ج5 ص160): وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على مشيخة من الأنصار بيض لحاهم فقال: ((يا معشر الأنصار حمّروا أو صفّروا، وخالفوا أهل الكتاب)) فذكر الحديث.
رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، وفي "الصحيح" طرف منه، ورجال أحمد رجال الصحيح، خلا القاسم وهو ثقة وفيه كلام لا يضر.
قال أبوعبدالرحمن: القاسم هو ابن عبدالرحمن أبوعبدالرحمن الأموي، مختلف فيه وهو إلى الضعف أقرب، ولا يمنع من الاستشهاد بحديثه.
ثم قال الهيثمي: وعن أنس أنّ النبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((غيّروا الشّيب وإنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب: الحنّاء والكتم)).
رواه البزار وفيه سعيد بن بشير وهو ثقة وفيه ضعف، وعن أنس بن مالك قال: كنّا يومًا عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدخلت عليه اليهود فرآهم بيض الّلحى، فقال: ((ما لكم لا تغيّرون))؟ فقيل: إنّهم يكرهون، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لكنّكم غيّروا وإيّاي والسّواد)).
رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه: ابن لهيعة، وبقية رجاله ثقات وهو حديث حسن.
وعن ابن عباس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلمقال: ((يكون في آخر الزّمان قوم يسوّدون أشعارهم، لا ينظر الله إليهم)).
قلت: رواه أبوداود، خلا قوله: ((لا ينظر الله إليهم)).
رواه الطبراني في "الأوسط" وإسناده جيد.اهـ المراد من "مجمع الزوائد".
وقال الإمام الترمذي رحمه الله في "جامعه" (ج3 ص55) مع "تحفة الأحوذي" طبعة هندية: حدثنا سويد بن نصر ثنا ابن المبارك عن الأجلح عن عبدالله بن بريدة عن أبي الأسود عن أبي ذر رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ أحسن ما غيّر به الشّيب الحنّاء والكتم)).
هذا حديث حسن صحيح.
الحديث عزاه المجد في "المنتقى" للخمسة يعني أصحاب "السنن" وأحمد.
وقال النسائي رحمه الله (ج8 ص139): حدثنا محمد بن مسلم حدثنا يحيى بن يعلى حدثنا به أبي عن غيلان عن أبي إسحاق عن ابن أبي ليلى عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أفضل ما غيّرتم به الشّمط: الحنّاء والكتم)).
قلت: رجاله رجال مسلم غير محمد بن مسلم بن عثمان أبوعبدالله بن واره، قال الحافظ فيه: ثقة حافظ. وأبوإسحاق هو السبيعي، ثقة مدلس وقد عنعن، فهو لابأس به في الشواهد.
وله شاهد من حديث ابن عباس عند أبي يعلى (ج3 ص27)، والطبراني (ج11 ص 258)، قال أبويعلى رحمه الله: حدثنا بشر بن سيحان حدثنا يزيد بن زريع عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أحسن ما غيّرْتم به الشّيب، الحنّاء والكتم)).
الحديث رجاله رجال الشيخين، خلا بشر بن سيحان، قال فيه أبوحاتم: ما به بأس كان من العباد. وقال أبوزرعة: شيخ بصري صالح. اهـ "الجرح والتعديل" (ج2 ص 358).
هذا ولهم شبه لا بأس ببيانها، لكي تنقطع حجتهم:
منها: حديث ابن ماجة، قال رحمه الله (ج2 ص1197): حدثنا أبوهريرة الصيرفي محمد بن فراس حدثنا عمر بن الخطاب بن زكريا الراسبي حدثنا دفّاع بن دغفل السدوسي عن عبدالحميد بن صيفي عن أبيه عن جده صهيب الخير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( إنّ أحسن ما اختضبتم به لهذا السّواد أرغب لنسائكم فيكم وأهيب لكم في صدور عدوّكم)).
إني لأعجب ممن يعارض الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في "صحيحه"، والحديث الصحيح الذي رواه أحمد في "مسنده" والحديث الصحيح الذي رواه الترمذي في "جامعه"، وقال: حديث حسن صحيح؛ بمثل هذا الحديث الذي اجتمع فيه النكارة والضعف والإنقطاع، أما نكارته فظاهرة، وهو مخالفته لما اشتهر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم من نهيه عن السواد، وأما ضعفه فقد قال الإمام الذهبي في "الميزان" في ترجمة دفّاع بن دغفل: ضعفه أبوحاتم ووثقه ابن حبان.اهـ، وليس له في الأمهات إلا هذا الحديث رواه ابن ماجة، وقد قال المزي رحمه الله: أن الغالب فيما تفرد به ابن ماجة الضعف. ذكره المناوي في "فيض القدير" (ج1 ص25) وذكره صاحب "تحفة الأحوذي" في المقدمة ص(66) طبعة هندية.
وأما توثيق ابن حبان له فهو معروف بالتساهل، وقد كثر توثيقه للمجهولين، كما بينه الشيخ الألباني في تعليقه على "التنكيل" (ج1 ص438) وذكره الحافظ في "مقدمة لسان الميزان". وقد يذكر الرجل في كتاب "الثقات" وفي كتاب "الضعفاء" كما ذكره المعلمي رحمه الله (ج1 ص436) من "التنكيل".
وأما انقطاع الحديث فقد قال الذهبي رحمه الله في "الميزان": عبدالحميد ابن زياد بن صيفي بن صهيب قال البخاري: لا يعرف سماع بعضهم من بعض.اهـ
وقال الحافظ في "تهذيب التهذيب": قال أبوحاتم: شيخ روى له ابن ماجة حديثًا واحدًا. ثم قال الحافظ: قلت: وذكره ابن حبان في "الثقات".اهـ
هذا وقد تقدم الكلام على ما انفرد به ابن ماجة، وأنه لا يعبأ بتوثيق ابن حبان إذا انفرد.
ولهم حديث آخر يمكن أن يموهوا به على من لا معرفة له بعلم الحديث، وهو حديث: ((إذا خطب أحدكم المرأة وهو يخضب بالسّواد فليعلمها أنّه يخضب)).
قال السيوطي في "الجامع الصغير": رواه الديلمي في "مسند الفردوس" عن عائشة، ورمز لضعفه، وقال المناوي في "فيض القدير": رواه عنها أيضًا البيهقي وزاد بعد قوله: ((فليعلمها ولا يغرّها))، وفيه عيسى بن ميمون قال البيهقي: ضعيف، وقال الذهبي: متروك.اهـ
هذا ولهم شبهة أخرى، وهو فعل بعض السلف رحمهم الله، وما كنت أظن أن يتجاسر مؤمن يؤمن بالله وبقوله تعالى: {لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله}.
وقوله: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}.
ما كنت أظن أن يتجاسر من يعرف هاتين الآيتين أن يعارض قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقول فلان وفعل فلان، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وحسبنا الله ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
انتهى،،،،،،،(/)
ذم المسألة
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله حمدًا مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإني لما رأيت أقوامًا ممن يزعمون أنّهم دعاة إلى الله تخصصوا للتسول، وتركوا الإحتراف، فرب زرّاع يأكل أكلاً حلالاً من كسب يده، بل عمله من أفضل القربات، فقد روى البخاري ومسلم عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((ما من مسلم يغرس غرسًا، أو يزرع زرعًا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلاّ كان له به صدقة)) .
ورب شخص يعمل في التجارة، وهي أيضًا من أفضل القربات، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه سئل: أيّ الكسب أطيب؟ قال: ((عمل الرّجل بيده، وكلّ بيع مبرور)) .
بل ربما يكون الرجل بدويًّا يأكل مما تنتجه غنمه وإبله، فيرى المتسولين يفتحون المعارض، ويبنون العمائر، فيعفو لحيته ويتشبه بالدعاة إلى الله، ويحترف التسول، أفّ لها من وظيفة مشينة مزرية، وأقبح من هذا أن أناسًا يزعمون أنّهم دعاة إلى الله تخصّصوا للتسوّل باسم الدعوة، والله عزوجل يقول في نبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {ولا يسألكم أموالكم * إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم} .
ويقول سبحانه وتعالى: {أم تسألهم أجرًا فهم من مغرم مثقلون} .
ويقول سبحانه وتعالى حاكيًا عن بعض الصالحين إذ ينصح قومه: {اتّبعوا من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون} .
ويقول سبحانه وتعالى حاكيًا عن نبي الله نوح عليه السلام: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين} .
ويقول سبحانه وتعالى عن نبي الله هود عليه السلام: {وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلاّ على ربّ العالمين }.
وهكذا حكى عن صالح، ولوط، وشعيب، عليهم السلام.
هذا فما ظنك بمن لا تهمّه الدعوة، ولا يهمه إلا اختلاس الأموال والوثوب على مصارف الزكاة الثمانية، إنّها لأحدى الكبر.
من الذي يظن أن محمدًا المهدي تهمّه الدعوة؟ وهو قد انسلخ من السنة، ويخشى عليه أن ينسلخ من الدين، وإليكم قضية حدثت في هذه الأيام، فقد حصل خصام بين فئتين، فانبرى محمد المهدي ومدير الناحية، وثالث يقال له: عبدالكريم، فحكموا بذبح أربعة أثوار عند المخطإ عليه، وهذا الذبح لغير الله حرام، وأكله حرام، لأنه ذبح لغير الله، فقيل: يا محمد هذا حرام. قال: ما هو إلا صلح.
وأخيرًا فإنني أنصح لأهل السنة أن يصبروا على الفقر، فهي الحال التي اختارها الله لنبيه محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين * الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون} .
وإليك نبذة من صبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم والصحابة رضي الله عنهم على الفقر والجوع والعري:
1- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج3 ص1609): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا خلف بن خليفة عن يزيد بن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم أو ليلة، فإذا هو بأبي بكر وعمر، فقال: ((ما أخرجكما من بيوتكما هذه السّاعة))؟ قالا: الجوع يا رسول الله، قال: ((وأنا، والّذي نفسي بيده، لأخرجني الّذي أخرجكما، قوموا))، فقاموا معه، فأتى رجلاً من الأنصار، فإذا هو ليس في بيته، فلمّا رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلاً، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أين فلان))؟ قالت: ذهب يستعذب لنا من الماء. إذ جاء الأنصاريّ فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وصاحبيه، ثمّ قال: الحمد لله، ما أحد اليوم أكرم أضيافًا منّي، قال: فانطلق فجاءهم بعذق فيه بسر، وتمر، ورطب، فقال: كلوا من هذه. وأخذ المدية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إيّاك والحلوب))، فذبح لهم فأكلوا من الشّاة، ومن ذلك العذق، وشربوا، فلمّا أن شبعوا ورووا، قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي بكر وعمر: ((والّذي نفسي بيده، لتسألنّ عن هذا النّعيم يوم القيامة، أخرجكم من بيوتكم الجوع، ثمّ لم ترجعوا حتّى أصابكم هذا النّعيم)).
وحدثني إسحق بن منصور أخبرنا أبوهشام يعني المغيرة بن سلمة حدثنا عبدالواحد بن زياد حدثنا يزيد حدثنا أبوحازم قال سمعت أبا هريرة يقول: بينا أبوبكر قاعد وعمر معه، إذ أتاهما رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((ما أقعدكما هاهنا))؟ قالا: أخرجنا الجوع من بيوتنا والّذي بعثك بالحقّ. ثمّ ذكر نحو حديث خلف بن خليفة.
2- قال البخاري رحمه الله (ج6 ص610): حدثنا محمد بن الحكم أخبرنا النضر أخبرنا إسرائيل أخبرنا سعد الطائي أخبرنا محل بن خليفة عن عدي بن حاتم قال: بينا أنا عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ أتاه رجل فشكا إليه الفاقة، ثمّ أتاه آخر فشكا إليه قطع السّبيل، فقال: ((يا عديّ هل رأيت الحيرة))؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها، قال: ((فإن طالت بك حياة لترينّ الظّعينة ترتحل من الحيرة، حتّى تطوف بالكعبة، لا تخاف أحدًا إلا الله))، قلت فيما بيني وبين نفسي: فأين دعّار طيّئ، الّذين قد سعّروا البلاد؟، ((ولئن طالت بك حياة لتفتحنّ كنوز كسرى)) قلت: كسرى بن هرمز؟ قال: ((كسرى ابن هرمز، ولئن طالت بك حياة لترينّ الرّجل يخرج ملء كفّه من ذهب أو فضّة، يطلب من يقبله منه، فلا يجد أحدًا يقبله منه، وليلقينّ الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان، يترجم له، فليقولنّ له: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلّغك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأفضل عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه، فلا يرى إلا جهنّم، وينظر عن يساره، فلا يرى إلا جهنّم))، قال عديّ: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة، فمن لم يجد شقّ تمرة، فبكلمة طيّبة))، قال عديّ: فرأيت الظّعينة ترتحل من الحيرة حتّى تطوف بالكعبة، لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لترونّ ما قال النّبيّ أبوالقاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخرج ملء كفّه.
3- قال الإمام الترمذي رحمه الله (ج7 ص33): حدثنا العباس بن محمد أخبرنا عبدالله بن يزيد المقرئ أخبرنا حيوة بن شريح حدثني أبوهانئ الخولاني أن أبا علي عمرو بن مالك الجنبي أخبره عن فضالة بن عبيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان إذا صلّى بالنّاس يخرّ رجال من قامتهم في الصّلاة من الخصاصة، وهم أصحاب الصّفّة، حتّى يقول الأعراب: هؤلاء مجانين، أو مجانون. فإذا صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم انصرف إليهم، فقال: ((لو تعلمون ما لكم عند الله لأحببتم أن تزدادوا فاقةً وحاجةً)) قال فضالة: وأنا يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
هذا حديث حسن صحيح.
4- قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2278): حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعد فإنّ الدّنيا قد آذنت بصرم، وولّت حذّاء، ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابّها صاحبها، وإنّكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم، فإنّه قد ذكر لنا أنّ الحجر يلقى من شفة جهنّم فيهوي فيها سبعين عامًا لا يدرك لها قعرًا، ووالله لتملأنّ، أفعجبتم؟ ولقد ذكر لنا أنّ ما بين مصراعين من مصاريع الجنّة مسيرة أربعين سنةً، وليأتينّ عليها يوم وهو كظيظ من الزّحام، ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لنا طعام إلا ورق الشّجر حتّى قرحت أشداقنا.
5- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج13 ص303): حدثنا سليمان ابن حرب حدثنا حماد عن أيوب عن محمد قال: كنّا عند أبي هريرة، وعليه ثوبان ممشّقان من كتّان، فتمخّط، فقال: بخ بخ أبوهريرة يتمخّط في الكتّان! لقد رأيتني وإنّي لأخرّ فيما بين منبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى حجرة عائشة مغشيًّا عليّ، فيجيء الجائي فيضع رجله على عنقي ويرى أنّي مجنون، وما بي من جنون ما بي إلا الجوع.
وأخرجه الترمذي (ج7 ص33) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
6- قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله (ج3 ص1625) بتحقيق محمد فؤاد عبدالباقي: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا شبابة بن سوار حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبدالرحمن بن أبي ليلى عن المقداد قال: أقبلت أنا وصاحبان لي، وقد ذهبت أسماعنا وأبصارنا من الجهد، فجعلنا نعرض أنفسنا على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فليس أحد منهم يقبلنا، فأتينا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فانطلق بنا إلى أهله، فإذا ثلاثة أعنز، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((احتلبوا هذا اللّبن بيننا)) قال: فكنّا نحتلب فيشرب كلّ إنسان منّا نصيبه، ونرفع للنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نصيبه، قال: فيجيء من اللّيل فيسلّم تسليمًا لا يوقظ نائمًا، ويسمع اليقظان، قال: ثمّ يأتي المسجد فيصلّي، ثمّ يأتي شرابه فيشرب، فأتاني الشّيطان ذات ليلة وقد شربت نصيبي، فقال: محمّد يأتي الأنصار فيتحفونه، ويصيب عندهم، ما به حاجة إلى هذه الجرعة، فأتيتها فشربتها، فلمّا أن وغلت في بطني، وعلمت أنّه ليس إليها سبيل، قال: ندّمني الشّيطان، فقال: ويحك ما صنعت؟ أشربت شراب محمّد فيجيء فلا يجده، فيدعو عليك، فتهلك فتذهب دنياك وآخرتك. وعليّ شملة، إذا وضعتها على قدميّ خرج رأسي وإذا وضعتها على رأسي خرج قدماي، وجعل لا يجيئني النّوم، وأمّا صاحباي فناما، ولم يصنعا ما صنعت، قال: فجاء النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسلّم كما كان يسلّم، ثمّ أتى المسجد فصلّى، ثمّ أتى شرابه فكشف عنه فلم يجد فيه شيئًا، فرفع رأسه إلى السّماء، فقلت: الآن يدعو عليّ فأهلك، فقال: ((اللهمّ أطعم من أطعمني، وأسق من أسقاني))، قال: فعمدت إلى الشّملة فشددتها عليّ، وأخذت الشّفرة، فانطلقت إلى الأعنز أيّها أسمن، فأذبحها لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فإذا هي حافلة، وإذا هنّ حفّل كلّهنّ، فعمدت إلى إناء لآل محمّد صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما كانوا يطمعون أن يحتلبوا فيه، قال: فحلبت فيه حتّى علته رغوة، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((أشربتم شرابكم اللّيلة))، قال: قلت: يا رسول الله اشرب. فشرب، ثمّ ناولني، فقلت: يا رسول الله اشرب. فشرب، ثمّ ناولني، فلمّا عرفت أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد روي وأصبت دعوته، ضحكت، حتّى ألقيت إلى الأرض، قال: فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إحدى سوآتك يا مقداد)) فقلت: يا رسول الله كان من أمري كذا وكذا، وفعلت كذا. فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما هذه إلا رحمة من الله، أفلا كنت آذنتني، فنوقظ صاحبينا فيصيبان منها)) قال: فقلت: والّذي بعثك بالحقّ ما أبالي إذا أصبتها وأصبتها معك، من أصابها من النّاس.
وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا النضر بن شميل حدثنا سليمان بن المغيرة بهذا الإسناد.
7- قال البخاري رحمه الله (ج2 ص427) حدثنا سعيد بن أبي مريم قال حدثنا أبوغسان قال حدثني أبوحازم عن سهل قال: كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقًا، فكانت إذا كان يوم جمعة تنْزع أصول السّلق فتجعله في قدر، ثمّ تجعل عليه قبضةً من شعير تطحنها، فتكون أصول السّلق عرقه، وكنّا ننصرف من صلاة الجمعة فنسلّم عليها، فتقرّب ذلك الطّعام إلينا، فنلعقه، وكنّا نتمنّى يوم الجمعة لطعامها ذلك.
8- قال البخاري رحمه الله (ج7 ص83): حدثنا عمرو بن عون حدثنا خالد بن عبدالله عن إسماعيل عن قيس قال: سمعت سعدًا رضي الله عنه يقول: إنّي لأوّل العرب رمى بسهم في سبيل الله، وكنّا نغزو مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما لنا طعام إلا ورق الشّجر، حتّى إنّ أحدنا ليضع كما يضع البعير أو الشّاة ما له خلط، ثمّ أصبحت بنو أسد تعزّرني على الإسلام، لقد خبت إذًا وضلّ عملي. وكانوا وشوا به إلى عمر، قالوا: لا يحسن يصلّي.
9- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج1 ص55): حدثنا أبوبكر بن النضر بن أبي النضر قال حدثني أبوالنضر هاشم بن القاسم حدثنا عبيدالله الأشجعي عن مالك بن مغول عن طلحة بن مصرف عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في مسير، قال: فنفدت أزواد القوم، قال: حتّى همّ بنحر بعض حمائلهم، قال: فقال عمر: يا رسول الله لو جمعت ما بقي من أزواد القوم، فدعوت الله عليها. قال: ففعل، قال: فجاء ذو البرّ ببرّه، وذو التّمر بتمره، -قال: وقال مجاهد-: وذو النّواة بنواه، قلت: وما كانوا يصنعون بالنّوى؟ قال: كانوا يمصّونه ويشربون عليه الماء، قال: فدعا عليها، حتّى ملأ القوم أزودتهم، قال: فقال عند ذلك: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيهما، إلا دخل الجنّة)).
حدثنا سهل بن عثمان وأبوكريب محمد بن العلاء جميعًا عن أبي معاوية، قال أبوكريب: حدثنا أبومعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد -شك الأعمش- قال: لمّا كان غزوة تبوك أصاب النّاس مجاعة، قالوا: يا رسول الله لو أذنت لنا فنحرنا نواضحنا فأكلنا وادّهنّا. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((افعلوا)) قال: فجاء عمر، فقال: يارسول الله إن فعلت قلّ الظّهر، ولكن ادعهم بفضل أزوادهم، ثمّ ادع الله لهم عليها بالبركة، لعلّ الله أن يجعل في ذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((نعم)) قال: فدعا بنطع فبسطه، ثمّ دعا بفضل أزوادهم، قال: فجعل الرّجل يجيء بكفّ ذرة، قال: ويجيء الآخر بكفّ تمر، قال: ويجيء الآخر بكسرة، حتّى اجتمع على النّطع من ذلك شيء يسير، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليه بالبركة، ثمّ قال: ((خذوا في أوعيتكم))، قال: فأخذوا في أوعيتهم، حتّى ما تركوا في العسكر وعاءً إلا ملئوه، قال: فأكلوا حتّى شبعوا، وفضلت فضلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاكّ فيحجب عن الجنّة)).
10- قال البخاري رحمه الله (ج5 ص128): حدثنا بشر بن مرحوم حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة رضي الله عنه قال: خفّت أزواد القوم وأملقوا، فأتوا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نحر إبلهم، فأذن لهم، فلقيهم عمر فأخبروه، فقال: ما بقاؤكم بعد إبلكم؟ فدخل على النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله ما بقاؤهم بعد إبلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ناد في النّاس فيأتون بفضل أزوادهم)) فبسط لذلك نطع، وجعلوه على النّطع، فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فدعا وبرّك عليه، ثمّ دعاهم بأوعيتهم، فاحتثى النّاس حتّى فرغوا، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله)).
11- قال البخاري رحمه الله (ج11 ص281): حدثني أبونعيم بنحو من نصف هذا الحديث حدثنا عمر بن ذر حدثنا مجاهد أنّ أبا هريرة كان يقول: والله الّذي لا إله إلا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يومًا على طريقهم الّذي يخرجون منه، فمرّ أبوبكر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثمّ مرّ بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثمّ مرّ بي أبوالقاسم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي، وما في وجهي، ثمّ قال: ((يا أبا هرّ))، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((الحقْ)) ومضى، فتبعته فدخل فاستأذن فأذن لي، فدخل فوجد لبنًا في قدح، فقال: ((من أين هذا اللّبن))؟ قالوا: أهداه لك فلان، أو فلانة. قال: ((أبا هرّ)) قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((الحق إلى أهل الصّفّة فادعهم لي))، قال: وأهل الصّفّة أضياف الإسلام لا يأوون إلى أهل ولا مال، ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم، ولم يتناول منها شيئًا، وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها، وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفّة، كنت أحقّ أنا أن أصيب من هذا اللّبن شربةً أتقوّى بها، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدّ، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: ((يا أبا هرّ)) قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: ((خذ فأعطهم)) قال: فأخذت القدح فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح، حتّى انتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد روي القوم كلّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده فنظر إليّ فتبسّم فقال: ((أبا هرّ))، قلت: لبّيك يا رسول الله. قال: ((بقيت أنا وأنت)) قلت: صدقت يا رسول الله. قال: ((اقعد فاشرب)) فقعدت فشربت، فقال: ((اشرب))، فشربت، فما زال يقول: ((اشرب))، حتّى قلت: لا والّذي بعثك بالحقّ ما أجد له مسلكًا. قال: ((فأرني)) فأعطيته القدح فحمد الله وسمّى، وشرب الفضلة.
12- قال البخاري رحمه الله (ج9 ص226): وقال إبراهيم عن أبي عثمان واسمه الجعد عن أنس بن مالك قال: مرّ بنا في مسجد بني رفاعة، فسمعته يقول: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا مرّ بجنبات أمّ سليم دخل عليها، فسلّم عليها، ثمّ قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم عروسًا بزينب، فقالت لي أمّ سليم: لو أهدينا لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هديّةً، فقلت لها: افعلي. فعمدت إلى تمر وسمن وأقط، فاتّخذت حيسةً في برمة، فأرسلت بها معي إليه، فانطلقت بها إليه. فقال لي: ((ضعها))، ثمّ أمرني، فقال:((ادع لي رجالاً -سمّاهم- وادع لي من لقيت))، قال: ففعلت الّذي أمرني، فرجعت فإذا البيت غاصّ بأهله، فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وضع يديه على تلك الحيسة، وتكلّم بها ما شاء الله، ثمّ جعل يدعو عشرةً عشرةً، يأكلون منه، ويقول لهم: ((اذكروا اسم الله، وليأكل كلّ رجل ممّا يليه)) قال: حتّى تصدّعوا كلّهم عنها، فخرج منهم من خرج، وبقي نفر يتحدّثون، قال: وجعلت أغتمّ، ثمّ خرج النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نحو الحجرات، وخرجت في إثره، فقلت: إنّهم قد ذهبوا فرجع، فدخل البيت وأرخى السّتر، وإنّي لفي الحجرة وهو يقول: {يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النّبيّ إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إنّ ذلكم كان يؤذي النّبيّ فيستحيي منكم والله لا يستحيي من الحقّ} قال أبوعثمان: قال أنس: إنّه خدم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عشر سنين.
13- قال البخاري رحمه الله (ج6 ص586): حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة أنّه سمع أنس بن مالك يقول: قال أبوطلحة لأمّ سليم: لقد سمعت صوت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ضعيفًا، أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم. فأخرجت أقراصًا من شعير، ثمّ أخرجت خمارًا لها، فلفّت الخبز ببعضه، ثمّ دسّته تحت يدي ولاثتني ببعضه، ثمّ أرسلتني إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، قال: فذهبت به، فوجدت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد ومعه النّاس، فقمت عليهم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((آرسلك أبوطلحة))؟ فقلت: نعم، قال: ((بطعام))؟ فقلت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمن معه: ((قوموا)) فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتّى جئت أبا طلحة فأخبرته، فقال أبوطلحة: يا أمّ سليم قد جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالنّاس، وليس عندنا ما نطعمهم. فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبوطلحة، حتّى لقي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأبوطلحة معه، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هلمّي يا أمّ سليم ما عندك))، فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ففتّ وعصرت أمّ سليم عكّةً، فأدمته، ثمّ قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيه ما شاء الله أن يقول، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأذن لهم، فأكلوا حتّى شبعوا، ثمّ خرجوا، ثمّ قال: ((ائذن لعشرة))، فأكل القوم كلّهم وشبعوا، والقوم سبعون أو ثمانون رجلاً.
أخرجه مسلم (ج3 ص1612).
14- قال البخاري رحمه الله (ج7 ص395): حدثني عمرو بن علي حدثنا أبوعاصم أخبرنا حنظلة بن أبي سفيان أخبرنا سعيد بن ميناء قال سمعت جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: لمّا حفر الخندق رأيت بالنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم خمصًا شديدًا، فانكفأت إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإنّي رأيت برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خمصًا شديدًا. فأخرجت إليّ جرابًا فيه صاع من شعير، ولنا بهيمة داجن فذبحتها، وطحنت الشّعير، ففرغتْ إلى فراغي وقطّعتها في برمتها، ثمّ ولّيت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقالت: لا تفضحني برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبمن معه. فجئته فساررته، فقلت: يا رسول الله ذبحنا بهيمةً لنا، وطحنّا صاعًا من شعير كان عندنا، فتعال أنت ونفر معك. فصاح النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((ياأهل الخندق، إنّ جابرًا قد صنع سورًا، فحيّ هلاً بكم))، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تنْزلنّ برمتكم، ولا تخبزنّ عجينكم، حتّى أجيء)) فجئت وجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقدم النّاس، حتّى جئت امرأتي، فقالت: بك وبك. فقلت: قد فعلت الّذي قلت، فأخرجت له عجينًا فبصق فيه وبارك، ثمّ عمد إلى برمتنا فبصق وبارك، ثمّ قال:((ادع خابزةً فلتخبز معي، واقدحي من برمتكم، ولا تنْزلوها))، وهم ألف، فأقسم بالله لقد أكلوا حتّى تركوه، وانحرفوا، وإنّ برمتنا لتغطّ كما هي، وإنّ عجيننا ليخبز كما هو.
قال البخاري رحمه الله (ج7 ص 395): حدثنا خلاد بن يحيى حدثنا عبدالواحد بن أيمن عن أبيه قال: أتيت جابرًا رضي الله عنه، فقال: إنّا يوم الخندق نحفر فعرضت كدية شديدة، فجاءوا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالوا: هذه كدية عرضت في الخندق، فقال: ((أنا نازل)) ثمّ قام وبطنه معصوب بحجر، ولبثنا ثلاثة أيّام لا نذوق ذواقًا، فأخذ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم المعول، فضرب فعاد كثيبًا أهيل، أو أهيم، فقلت: يا رسول الله ائذن لي إلى البيت. فقلت لامرأتي: رأيت بالنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئًا ما كان في ذلك صبر، فعندك شيء؟ قالت: عندي شعير وعناق، فذبحت العناق، وطحنت الشّعير، حتّى جعلنا اللّحم في البرمة، ثمّ جئت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافيّ قد كادت أن تنضج، فقلت: طعيّم لي، فقم أنت يا رسول الله ورجل أو رجلان. قال: ((كم هو))؟ فذكرت له، قال: ((كثير طيّب))، قال: ((قل لها: لا تنْزع البرمة، ولا الخبز من التّنّور، حتّى آتي)) فقال: ((قوموا))، فقام المهاجرون والأنصار، فلمّا دخل على امرأته قال: ويحك، جاء النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمهاجرين والأنصار ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم. فقال: ((ادخلوا ولا تضاغطوا))، فجعل يكسر الخبز ويجعل عليه اللّحم ويخمّر البرمة والتّنّور إذا أخذ منه ويقرّب إلى أصحابه، ثمّ ينْزع فلم يزل يكسر الخبز ويغرف، حتّى شبعوا، وبقي بقيّة، قال: ((كلي هذا وأهدي، فإنّ النّاس أصابتهم مجاعة)).
وأخرجه مسلم (ج3 ص1610).
15- قال البخاري رحمه الله (ج5 ص128): حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن وهب بن كيسان عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما أنّه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعثًا قبل السّاحل، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح، وهم ثلاث مائة، وأنا فيهم، فخرجنا، حتّى إذا كنّا ببعض الطّريق، فني الزّاد، فأمر أبوعبيدة بأزواد ذلك الجيش فجمع ذلك كلّه، فكان مزودي تمر، فكان يقوّتنا كلّ يوم قليلاً قليلاً، حتّى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، فقلت: وما تغني تمرة؟، فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. قال: ثمّ انتهينا إلى البحر فإذا حوت مثل الظّرب، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلةً، ثمّ أمر أبوعبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثمّ أمر براحلة فرحلت، ثمّ مرّت تحتهما، فلم تصبهما.
وأخرجه مسلم (ج3 ص 1536).
16- قال البخاري رحمه الله (ج5 ص230): حدثنا أبوالنعمان حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان عن عبدالرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنّا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثلاثين ومائةً، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هل مع أحد منكم طعام)) فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه، فعجن ثمّ جاء رجل مشرك مشعانّ طويل بغنم يسوقها، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((بيعًا أم عطيّةً))؟ -أو قال: ((أم هبةً))؟- قال: لا، بل بيع. فاشترى منه شاةً، فصنعت، وأمر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسواد البطن أن يشوى، وايم الله ما في الثّلاثين والمائة، إلا قد حزّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم له حزّةً من سواد بطنها، إن كان شاهدًا أعطاها إيّاه، وإن كان غائبًا خبأ له، فجعل منها قصعتين، فأكلوا أجمعون وشبعنا، ففضلت القصعتان فحملناه على البعير. أو كما قال.
وأخرجه مسلم (ج3 ص1637).
17- قال البخاري رحمه الله (ج1 ص215): حدثنا أحمد بن أبي بكر أبومصعب قال حدثنا محمد بن إبراهيم بن دينار عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبريّ عن أبي هريرة قال: قلت: يا رسول الله إنّي أسمع منك حديثًا كثيرًا أنساه، قال: ((ابسط رداءك))، فبسطته، قال: فغرف بيديه ثمّ قال: ((ضمّه))، فضممته، فما نسيت شيئًا بعده. حدثنا إبراهيم بن المنذر قال حدثنا ابن أبي فديك بهذا أو قال: غرف بيده فيه.
وقال رحمه الله (ج4 ص287): حدثنا أبواليمان حدثنا شعيب عن الزهريّ قال أخبرني سعيد بن المسيب وأبوسلمة بن عبدالرحمن أنّ أبا هريرة رضي الله عنه قال: إنّكم تقولون: إنّ أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقولون: ما بال المهاجرين والأنصار لا يحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل حديث أبي هريرة، وإنّ إخوتي من المهاجرين، كان يشغلهم صفق بالأسواق، وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ملء بطني، فأشهد إذا غابوا، وأحفظ إذا نسوا، وكان يشغل إخوتي من الأنصار عمل أموالهم، وكنت امرأً مسكينًا من مساكين الصّفّة أعي حين ينسون، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث يحدّثه: ((إنّه لن يبسط أحد ثوبه حتّى أقضي مقالتي هذه، ثمّ يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول))، فبسطت نمرةً عليّ حتّى إذا قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقالته جمعتها إلى صدري، فما نسيت من مقالة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تلك من شيء.
وأخرجه مسلم (ج4 ص1939، 1940).
18- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص417): حدثنا علي بن إسحاق أخبرنا عبدالله يعني ابن مبارك قال أخبرنا الأوزاعيّ قال حدثني المطلب بن حنطب المخزوميّ قال حدثني عبدالرحمن بن أبي عمرة الأنصاريّ حدثني أبي قال: كنّا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزاة فأصاب النّاس مخمصة، فاستأذن النّاس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في نحر بعض ظهورهم، وقالوا: يبلّغنا الله به، فلمّا رأى عمر بن الخطّاب أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد همّ أن يأذن لهم في نحر بعض ظهرهم، قال: يا رسول الله كيف بنا إذا نحن لقينا القوم غدًا جياعًا أرجالاً، ولكن إن رأيت يا رسول الله أن تدعو لنا ببقايا أزوادهم فتجمعها ثمّ تدعو الله فيها بالبركة، فإنّ الله تبارك وتعالى سيبلّغنا بدعوتك. أو قال: سيبارك لنا في دعوتك. فدعا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ببقايا أزوادهم فجعل النّاس يجيئون بالحثية من الطّعام، وفوق ذلك، وكان أعلاهم من جاء بصاع من تمر، فجمعها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ قام فدعا ما شاء الله أن يدعو، ثمّ دعا الجيش بأوعيتهم فأمرهم أن يحتثوا. فما بقي في الجيش وعاء إلا ملئوه، وبقي مثله، فضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتّى بدت نواجذه، فقال: ((أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّي رسول الله لا يلقى الله عبد مؤمن بهما إلا حجبت عنه النّار يوم القيامة)).
حديث صحيح ورجاله ثقات.
19- قال الإمام ابن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص(418): أخبرنا عبدالله بن محمد بن سلم حدثنا حرملة بن يحيى حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث عن سعيد بن أبي هلال عن نافع بن جبير عن ابن عباس أنّه قيل لعمر بن الخطاب: حدّثنا عن شأن العسرة. قال: خرجنا إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً أصابنا فيه عطش، حتّى ظننّا أنّ رقابنا ستنقطع، حتّى إنْ كان الرّجل ليذهب يلتمس المًاء فلا يرجع حتّى نظنّ أنّ رقبته ستنقطع حتّى إنّ الرّجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه، ويجعل مابقي على كبده، فقال أبوبكر الصّدّيق: يارسول الله قد عوّدك الله في الدّعاء خيرًا، فادع؟ قال: ((أتحبّ ذّلك))؟ قال: نعم. قال: فرفع يديه صلى الله عليه وعلى آله وسلمفلم يرجعها حتّى أطلّت سحابة ثمّ سكبت، فملأوا ما معهم، ثمّ ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر.
حديث صحيح، وحرملة بن يحيى أعلم الناس في ابن وهب قاله الدوري عن ابن معين كما في "تهذيب التهذيب".
20- قال الإمام محمد بن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص(526): أنبأنا عمر بن محمد الهمداني حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح حدثنا يحيى بن سليم حدثنا عبدالله بن عثمان بن خثيم عن أبي الطفيل عن ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمّا نزل مران حيث صالح قريشًا، بلغ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّ قريشًا تقول: إنّما بايع أصحاب محمّد ضعفًا وهولاً فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لو نحرنا ظهرنا فأكلنا لحومها وشحومها، وحسونا من المرق، أصبحنا غدًا إذا غدونا عليهم وبنا جمام، قال: ((لا ولكن ائتوني بما فضل من أزوادكم))، فبسطوا أنطاعًا ثمّ صبّوا عليها مافضل من أزوادهم، فدعا لهم النّبيّصلى الله عليه وعلى آله وسلم بالبركة، فأكلوا حتّى تضلّعوا شبعًا، ثمّ كفتوا مافضل من أزوادهم في جربهم.
هذا حديث حسن، ويحيى بن سليم قد تكلّم فيه، ولكنه قال الإمام أحمد: قد أتقن حديث ابن خثيم، كما في "تهذيب التهذيب" وخص النسائي ضعفه في عبيدالله بن عمر العمري كما في "تهذيب التهذيب)).
21- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص487): حدثنا عبدالصمد بن عبدالوارث قال حدثني أبي حدثنا داود يعني ابن أبي هند عن أبي حرب، أنّ طلحة حدّثه وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: أتيت المدينة وليس لي بها معرفة، فنزلت في الصّفّة مع رجل، فكان بيني وبينه كلّ يوم مدّ من تمر، فصلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم، فلمّا انصرف، قال رجل من أصحاب الصّفّة: يا رسول الله أحرق بطوننا التّمر، وتخرّقت عنّا الخنف. فصعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخطب ثمّ قال: ((والله لو وجدت خبزًا، أو لحمًا لاطعمتكموه، أما إنّكم توشكون أن تدركوا، ومن أدرك ذلك منكم أن يراح عليكم بالجفان، وتلبسون مثل أستار الكعبة))، قال: فمكثت أنا وصاحبي ثمانية عشر يومًا وليلةً، ما لنا طعام إلا البرير، حتّى جئنا إلى إخواننا من الأنصار، فواسونا، وكان خير ما أصبنا هذا التّمر.
حديث صحيح على شرط مسلم.
22- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص324): حدثنا عبدالصمد حدثني أبي ثنا الجريري عن عبدالله بن شقيق قال: أقمت بالمدينة مع أبي هريرة سنةً، فقال لي ذات يوم، ونحن عند حجرة عائشة: لقد رأيتنا وما لنا ثياب إلا البراد المفتّقة، وإنّه ليأتي على أحدنا الأيّام ما يجد طعامًا يقيم به صلبه، حتّى إن كان أحدنا ليأخذ الحجر فيشدّه على أخمص بطنه، ثمّ يشدّه بثوبه ليقيم به صلبه، فقسّم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذات يوم بيننا تمرًا، فأصاب كلّ إنسان منّا سبع تمرات فيهنّ حشفة، فما سرّني أنّ لي مكانها تمرةً جيّدةً، قال: قلت: لم، قال: تشدّ لي من مضغي.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم، والجريري هو: سعيد بن إياس مختلط، ولكن عبدالوارث بن سعيد، سمع منه قبل الإختلاط كما في "الكواكب النيرات".
23- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج2 ص298): حدثنا محمد بن كثير قال أخبرنا سفيان عن أبي حازم عن سهل بن سعد قال: كان النّاس يصلّون مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهم عاقدو أزرهم من الصّغر على رقابهم، فقيل للنّساء: لا ترفعن رءوسكنّ حتّى يستوي الرّجال جلوسًا.
قال الحافظ في "الفتح" (ج1 ص348): وفي رواية أبي داود من طريق وكيع عن الثوري: عاقدي أزرهم في أعناقهم من ضيق الأزر. اهـ المراد من "الفتح".
24- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص348): حدثنا سريج بن النعمان قال ثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عروة عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا معشر النّساء، من كان منكنّ تؤمن بالله واليوم الآخر، فلا ترفع رأسها حتّى يرفع الإمام رأسه))، من ضيق ثياب الرّجال.
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح.
25- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص142): حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبدالله أخبرنا شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه إبراهيم أن عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه أتي بطعام، وكان صائمًا، فقال: قتل مصعب بن عمير، وهو خير منّي، كفّن في بردة إن غطّي رأسه بدت رجلاه، وإن غطّي رجلاه بدا رأسه. وأراه قال: وقتل حمزة وهو خير منّي، ثمّ بسط لنا من الدّنيا ما بسط. أو قال: أعطينا من الدّنيا ما أعطينا، وقد خشينا أن تكون حسناتنا عجّلت لنا، ثمّ جعل يبكي، حتّى ترك الطّعام.
26- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص142): حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا شقيق حدثنا خباب رضي الله عنه قال: هاجرنا مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم نلتمس وجه الله، فوقع أجرنا على الله فمنّا من مات لم يأكل من أجره شيئًا، منهم: مصعب بن عمير، ومنّا من أينعت له ثمرته فهو يهدبها، قتل يوم أحد فلم نجد ما نكفّنه، إلا بردةً، إذا غطّينا بها رأسه، خرجت رجلاه، وإذا غطّينا رجليه خرج رأسه، فأمرنا النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن نغطّي رأسه، وأن نجعل على رجليه من الإذخر.
27- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج10 ص322): حدثنا عبدالله ابن مسلمة حدثنا عبدالعزيز بن أبي حازم أنّه سمع سهلاً يقول: جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقالت: جئت أهب نفسي. فقامت طويلاً، فنظر وصوّب، فلمّا طال مقامها، فقال رجل: زوّجنيها إن لم يكن لك بها حاجة. قال: ((عندك شيء تصدقها))؟ قال: لا. قال: ((انظر)) فذهب، ثمّ رجع، فقال: والله إنْ وجدت شيئًا. قال: ((اذهب فالتمس ولو خاتمًا من حديد)) فذهب، ثمّ رجع قال: لا والله ولا خاتمًا من حديد. وعليه إزار ما عليه رداء، فقال: أصدقها إزاري؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إزارك إن لبسته لم يكن عليك منه شيء، وإن لبسْته لم يكن عليها منه شيء))، فتنحّى الرّجل فجلس، فرآه النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مولّيًا، فأمر به فدعي، فقال: ((ما معك من القرآن))؟ قال: سورة كذا وكذا، لسور عدّدها، قال: ((قد ملّكتكها بما معك من القرآن)).
28- قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج8 ص306): حدثنا أبوتوبة الربيع بن نافع أخبرنا معاوية بن سلاّم عن زيد أنّه سمع أبا سلاّم قال حدثني عبدالله الهوزني قال: لقيت بلالاً مؤذّن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحلب، فقلت: يا بلال حدّثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ قال: ما كان له شيء، كنت أنا الّذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفّي، وكان إذا أتاه الإنسان مسلمًا فرآه عاريًا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة، فأكسوه، وأطعمه، حتّى اعترضني رجل من المشركين، فقال: يا بلال إنّ عندي سعةً فلا تستقرضْ من أحد إلاّ منّي. ففعلت فلمّا أن كان ذات يوم توضّأت ثمّ قمت لأؤذّن بالصّلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التّجّار، فلمّا أن رآني قال: يا حبشيّ. قلت: يا لبّاه. فتجهّمني، وقال لي قولاً غليظًا، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشّهر؟ قال: قلت: قريب. قال: إنّما بينك وبينه أربع، فآخذك بالّذي عليك فأردّك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك. فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس النّاس، حتّى إذا صلّيت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي إنّ المشرك الّذي كنت أتديّن منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عنّي ولا عندي وهو فاضحي، فأذنْ لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الّذين قد أسلموا حتّى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يقضي عنّي. فخرجت حتّى إذا أتيت منْزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجنّي عند رأسي، حتّى إذا انشقّ عمود الصّبح الأوّل أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو: يا بلال أجب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فانطلقت، حتّى أتيته فإذا أربع ركائب مناخات عليهنّ أحمالهنّ، فاستأذنت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أبشر فقد جاءك الله بقضائك)) ثمّ قال: ((ألم تر الرّكائب المناخات الأربع))؟ فقلت: بلى، فقال: ((إنّ لك رقابهنّ، وما عليهنّ، فإنّ عليهنّ كسوةً وطعامًا، أهداهنّ إليّ عظيم فدك، فاقبضهنّ واقض دينك))، ففعلت، فذكر الحديث: ثمّ انطلقت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قاعد في المسجد فسلّمت عليه، فقال: ((ما فعل ما قبلك))؟ قلت: قد قضى الله كلّ شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلم يبق شيء، قال: ((أفضل شيء))؟ قلت: نعم، قال: ((انظر أن تريحني منه، فإنّي لست بداخل على أحد من أهلي حتّى تريحني منه))، فلمّا صلّى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العتمة دعاني، فقال: ((ما فعل الّذي قبلك))؟ قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد، فبات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسجد، وقصّ الحديث: حتّى إذا صلّى العتمة -يعني- من الغد دعاني، قال: ((ما فعل الّذي قبلك))؟ قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله، فكبّر وحمد الله شفقًا من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثمّ اتّبعته حتّى إذا جاء أزواجه فسلّم على امرأة امرأة حتّى أتى مبيته، فهذا الّذي سألتني عنه.
هذا حديث صحيح ورواته ثقات.
هذا وقد ذكرت بحمد الله في "ذم المسألة" آيات قرآنية، وأحاديث صحيحة بأسانيدها الصحيحة، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيّ عن بينة.
وبهذا تنتهي مقدمة الطبعة الثانية، وهي بحمد الله تعتبر متممة.
والحمد لله رب العالمين.
مقدمة الطبعة ألأولى
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فمن أعظم نعم الله على العبد نعمة المال. فبه يوصل الرحم، الذي يكون سببًا لطول العمر، والبركة في المال، كما قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)). متفق عليه من حديث أنس، وأخرجه البخاري من حديث أبي هريرة.
وبه ينال صاحبه إذا صرفه في مصارفه مخلصًا في ذلك الأجر العظيم، قال الله سبحانه وتعالى: {مثل الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبّة أنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبّة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم * الّذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثمّ لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى لهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
وقال سبحانه وتعالى: {الّذين ينفقون أموالهم باللّيل والنّهار سرًّا وعلانيةً فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} .
وبه يتألّف الشارد والمعاند، فقد كان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعطي الرجل في حال كونه يبغض النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما يأتى زمن إلا وهو أحب الخلق إليه.
ذلكم المال الذي أساء التصرف فيه نوعان:
أحدهما: التجار، فلا يتحرّون إنفاقه في مصارفه الشرعية، بل ربما بعضهم لا يؤدّي الزكاة، وبعضهم يصرفها في غير مصارفها الشرعية، فهو يدعم الحزبية التي شتتت المسلمين وأضعفت قواهم.
والتجار بصنيعهم هذا لا يدرون أنّهم يعاونون على الباطل، وربما يعاونون على انتشار الصوفية، أو التشيع المبتدعين اللذيْن وقفا حجر عثرة في طريق سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والثاني: قوم يتلصّصون لأخذ الزكوات وليسوا مصرفًا، ثم يصرفونها في مصالحهم الشخصية.
وأقبح من هذا ما يحصل من بعض طلبة العلم يضيع وقته، ويهين العلم والدعوة، ركضًا من أرض الحرمين إلى الكويت، إلى قطر، إلى أبي ظبي، مالك يا فلان؟ فيقول: عليّ دين، أو أريد أن أبني مسجدًا وسكنًا للإمام (وهو نفسه الإمام)، وأريد سيارةً للدعوة، وأريد أن أتزوج.
آه آه، وإنّ طلب علم نهايته الشحاذة لا خير فيه:
ولو أنّ أهل العلم صانوه صانهم ولكن أهانوه فهان ودنّسوا ولو عظّموه في النّفوس لعظّما محيّاه بالأطماع حتى تجهّما
ولم أر أحدًا أبصر في التلصص لاستخراج المال، من الإخوان المفلسين، فهم يصورون للناس أن القضية التي يدعون إليها هي الإسلام، وإذا لم يبذل المال في هذه القضية، انتصر الكفر على الإسلام، وهكذا القضية تلو القضية، وكلما انتهت تلك القضية ولم ير الناس لها أثرًا في نصرة الدين، بل ربما تكون عارًا على الإسلام، شغلوا الناس بقضية أخرى، فأين ثمرة تلكم المظاهرات التي يقلّدون فيها أعداء الإسلام، وأين ثمرات مؤتمر الوحدة والسلام؟ وأين ثمرات الانتخابات الطاغوتية؟ نحن نقول هذا حزنًا على الدين، وتألّمًا من قلب الحقائق، لا أننا نغبطهم على جمع الأموال، فهم سيسألون عنها يوم القيامة.
وأخيرًا، فإني أنصح الذين يلهثون بعد جمع الأموال، فالذي لم يتزوج قد أرشده الله ماذا يعمل فقال: {وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحًا حتّى يغنيهم الله من فضله} .
وفي "الصحيحين" عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :((يا معشر الشّباب، من استطاع الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء)).
على أني أنصح الأغنياء بمساعدته من غير أن يسأل، حتى يتفرغ للعلم والتعليم.
والذي عليه دين أنصحه أن يعمل حتى يقضي الله دينه.
وهكذا بناء المسجد لا يجوز أن يهين نفسه، ويهين العلم والدعوة، من أجل بناء مسجد، فالرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أراد أن يبني مسجدًا قال: ((يا بني النّجّار ثامنوني بحائطكم))، أي: من أجل أن يبني فيه مسجدًا، فقالوا: بل هو لله ولرسوله.
على أنه يمكن أن يبني مسجدًا من الطين واللبن بنحو مائة ألف ريال يمني، والوقت الذي تصرفه في المسألة، يمكن أن تصرفه في عمارة المسجد والعمل فيه ودعوة الناس إلى العمل بأيديهم.
فالأموال التي تكون فيها إهانة للعلم وللدعاة إلى الله، أو دعوة إلى حزبية، أو جعل المساجد للشحاذة، فلسنا بحاجتها.
ويالله كم من داعية كبير تراه يحفظ الآيات التي فيها ترغيب في الصدقة، وينتقل من هذا المسجد إلى هذا المسجد: {وما تقدّموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرًا} .
وانقلب المسكين من داعية إلى شحاذ، وصدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول: ((لكلّ أمّة فتنةً، وفتنة أمّتي المال)).
وتلكم الجمعيات التي لا يؤذن لها إلا بشروط أن تكون تحت رقابة الشئون الاجتماعية، وأن يكون فيها انتخابات، وأن يوضع مالها في البنوك الربوية، ثم يلبّس أصحابها على الناس ويقولون: هل بناء المساجد، وحفر الآبار، وكفالة اليتامى حرام؟ فيقال لهم: ياأيها الملبّسون: من قال لكم: إن هذه حرام؟ فالحرام هي الحزبية، وفرقة المسلمين، وضياع أوقاتكم في الشحاذة، ولقد انقلبت العمرة في رمضان إلى شحاذة:
يا مشعر القراء ويا ملح البلد ما يصلح الملح إذا الملح فسد
وهناك غير واحد يركضون باسم دعوة أهل السنة بدماج، وذاك يطلب تزكية، وذاك يطلب شفاعة، وأنا بسبب كثرة شواغلي أشغل عن التفكير في التاريخ، فتبقى هذه الشفاعة صالحة لأي وقت، وربما صوّرت لآخر، وبعد اطلاعي على هذا التلاعب المخزي فإني أبطل كل الشفاعات السابقة وتنتهي من يومنا هذا (4/شهر ذي الحجة/ سنة 1413هـ) حتى لا نعين على إهانة الدعوة.
ولا داعي لعرض ما يحصل من المتسولين باسم الدعوة، فذاك يزور له ختمًا، وذاك يركض إلى هنا وهناك وكأنه الوكيل الوحيد للدعوة.
بلغنى ذلك عن شخص بالمدينة، وآخر بمكة، نسأل الله أن يهديهما وأن يتوب عليهما، فمن أجل هذه الدناءة رأيت أن أجمع رسالة في (ذم المسألة) ليعلم أنني بريء مما يحدث، وإني أنكره، ومن أجل أنّ أخوةً مستفيدين صرفوا عن مواصلة طلب العلم، وشغلوا، وأصبحوا يجرون بعد الدنيا، ويقولون: نحن من طلبة (الوادعي)، هدانا الله وإياهم. آمين.
وبعد الانتهاء من المقدمة، فإلى الرسالة.
والحمد لله.
فضل الصدقة
29- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص321): ثنا عبدالرزاق أنا معمر عن ابن خثيم عن عبدالرحمن بن سابط عن جابر بن عبدالله أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لكعب بن عجرة: ((أعاذك الله من إمارة السّفهاء)) قال: وما إمارة السّفهاء؟ قال: ((أمراء يكونون بعدي، لا يقتدون بهديي، ولا يستنّون بسنّتي، فمن صدّقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا منّي ولست منهم، ولا يردوا عليّ حوضي، ومن لم يصدّقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك منّي، وأنا منهم، وسيردوا عليّ حوضي، يا كعب بن عجرة، الصّوم جنّة، والصّدقة تطفئ الخطيئة، والصّلاة قربان، -أو قال-: برهان، يا كعب بن عجرة إنّه لا يدخل الجنّة لحم نبت من سحت النّار أولى به، يا كعب بن عجرة النّاس غاديان، فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها)).
هذا حديث حسن، وإن كان ابن معين يقول: إنّ حديث عبدالرحمن بن سابط مرسل، كما في "تهذيب التهذيب"، فقد أثبت له ابن أبي حاتم السماع من جابر، والمثبت مقدم على النافي.
وابن خثيم هو عبدالله بن عثمان بن خثيم، حسن الحديث.
وأخرجه معمر في "الجامع" كما في آخر "مصنف عبدالرزاق" (ج11 ص345).
وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص 319): حدثنا وهيب حدثنا عبدالله بن عثمان ابن خثيم به. وقد وقع في هذا السند تخليط، ففيه: حدثنا وهيب، حدثنا عبدالله بن وهيب، حدثنا عبدالله بن عثمان بن خثيم، والصواب ما أثبتناه، فوهيب يرويه عن عبدالله بن عثمان كما في "كشف الأستار" (ج2 ص241).
الحديث أخرجه البزار كما في كشف الأستار (ج2 ص241) فقال رحمه الله: حدثنا عمرو بن علي ثنا معلى بن أسد ثنا وهيب به.
ثم قال: لا نعلمه بهذا اللفظ عن جابر إلاّ بهذا الإسناد.
30- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص147): ثنا علي بن إسحاق أنا عبدالله بن المبارك أنا حرملة بن عمران أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يحدّث أنّ أبا الخير حدّثه أنّه سمع عقبة بن عامر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((كلّ امرئ في ظلّ صدقته، حتّى يفصل بين النّاس -أو قال: يحكم- بين النّاس)) قال يزيد: وكان أبوالخير لا يخطئه يوم إلا تصدّق فيه بشيء، ولو كعكةً أو بصلةً، أو كذا.
هذا حديث صحيح.
الحديث أخرجه أبويعلى (ج2 ص301) فقال رحمه الله: حدثنا إبراهيم بن الحجاج السلمي حدثنا ابن المبارك به.
وأخرجه الحاكم (ج1 ص416) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
31- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص72): ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة ثنا الأزرق بن قيس عن يحيى بن يعمر عن رجل من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة صلاته، فإن أتمّها، كتبت له تامّةً، وإن لم يكن أتمّها قال: انظروا تجدون لعبدي من تطوّع، فأكملوا ما ضيّع من فريضته، ثمّ الزّكاة، ثمّ تؤخذ الأعمال على حسب ذلك)).
هذا حديث صحيح.
32- قال أبوداود رحمه الله (ج7 ص256): حدثنا مؤمل بن الفضل الحراني أخبرنا الوليد أخبرنا ابن جابر عن زيد بن أرطأة الفزاري عن جبير ابن نفير الحضرمي أنّه سمع أبا الدرداء يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((ابغوني الضّعفاء، فإنّما ترزقون وتنصرون بضعفائكم)) قال أبوداود: زيد بن أرطاة أخو عديّ بن أرطاة.
هذا حديث صحيح ورجاله ثقات.
وأخرجه الترمذي (ج7 ص357) فقال: حدثنا أحمد بن محمد حدثنا ابن المبارك حدثنا عبدالرحمن بن يزيد بن جابر به. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه النسائي (ج6 ص45).
33- قال الحاكم رحمه الله: حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب ثنا الربيع بن سليمان ثنا عبدالله بن وهب أخبرني أبوهانئ عن عمرو بن مالك الجنبي عن فضالة بن عبيد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خرج ذات يوم على راحلته وأصحابه معه بين يديه، فقال معاذ بن جبل: يانبيّ الله أتأذن لي في أن أتقدّم إليك على طيبة نفس؟ قال: ((نعم))، فاقترب معاذ إليه فسارا جميعًا، فقال معاذ: بأبي أنت وأمّي يارسول الله أسأل الله أن يجعل يومنا قبل يومك، أرأيت إن كان شيء ولا نرى شيئًا إن شاء الله تعالى، فأيّ الأعمال نعملها بعدك؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((الجهاد في سبيل الله))، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((نعم الشّيء الجهاد، والذّي بالنّاس أملك من ذلك فالصّيام والصّدقة -قال:- نعم الشّيء الصّيام والصّدقة)). فذكر معاذ كلّ خير يعمله ابن آدم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((وعاد بالنّاس خير من ذلك))؟ قال: فماذا بأبي أنت وأمّي عاد بالنّاس خير من ذلك؟ قال: فأشار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى فيه، قال:((الصّمت إلاّ من خير)) قال: وهلْ نؤاخذ بما تكلّمت به ألسنتنا؟ فضرب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فخذ معاذ ثمّ قال: ((يا معاذ ثكلتك أمّك -أو ما شاء الله أن يقول له من ذلك- وهل يكبّ الناس على مناخرهم في جهنّم إلاّ ما نطقت به ألسنتهم، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت عن شرّ، قولوا خيرًا تغنموا واسكتوا عن شرّ تسلموا)).
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
كذا قال، وهو صحيح، لكنه ليس على شرطهما، لأنّهما لم يخرجا لعمرو بن مالك الجنبي في "الصحيح".
34- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص146): حدثنا حسن ثنا حماد ابن سلمة عن ثابت عن أنس أنّ رجلاً قال: يا رسول الله إنّ لفلان نخلةً، وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتّى أقيم حائطي بها، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أعطها إيّاه بنخلة في الجنّة))، فأبى، فأتاه أبوالدّحداح فقال: بعني نخلتك بحائطي، ففعل، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله إنّي قد ابتعت النّخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كم من عذق راح، لأبي الدّحداح في الجنّة))، قالها مرارًا، قال: فأتى امرأته فقال: ياأمّ الدّحداح اخرجي من الحائط، فإنّي قد بعته بنخلة في الجنّة، فقالت: ربح البيع. أو كلمةً تشبهها.
هذا حديث صحيح.
الحديث أخرجه الحاكم (ج2 ص20): وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
35- قال الترمذي رحمه الله (ج7 ص168): حدثنا محمد بن بشار أخبرنا يحيى بن سعيد عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي ميسرة عن عائشة، أنّهم ذبحوا شاةً، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما بقي منها))؟ قالت: ما بقي منها إلا كتفها. قال: ((بقي كلّها، غير كتفها)).
هذا حديث صحيح. وأبوميسرة الهمداني اسمه عمرو بن شرحبيل.
36- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص196): حدثنا بهز وعفان قالا: حدثنا حماد بن سلمة عن إسحاق بن عبدالله عن عبدالرحمن بن أبي عمرة عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ ملكًا بباب من أبواب السّماء يقول: من يقرض اليوم يجز غدًا، وملكًا بباب آخر، يقول: اللهمّ أعط منفقًا خلفًا، وعجّل لممسك تلفًا)).
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة بلفظ: ((ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينْزلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهمّ أعط ممسكًا تلفًا)).
37- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص66): حدثنا أحمد بن حنبل أخبرنا عبيدة بن حميد التيمي حدثني أبوالزعراء عن أبي الأحوص عن أبيه مالك بن نضلة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي الّتي تليها، ويد السّائل السّفلى، فأعط الفضل ولا تعجزْ عن نفسك)).
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، إلاّ أبا الزعراء وهو عمرو بن عمرو الجشمي، وقد وثّقه أحمد وابن معين والنسائي، والحديث من الأحاديث التى ألزم الدارقطنيّ البخاريّ ومسلمًا أن يخرجاها.
وأبوالأحوص هو عوف بن مالك.
الحديث أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" (ج1 ص158) فقال رحمه الله: حدثنا الحسن بن محمد، قال: ثنا عبيدة بن حميد فذكره.
ثم قال رحمه الله: أبوالزعراء هذا عمرو بن عمرو بن أخي أبي الأحوص، وأبوالزعراء الكبير الذى يروي عن ابن مسعود اسمه: عبدالله بن هانىء.
وأخرجه الحاكم في "المستدرك" (ج4 ص408): ثم قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص473): ثنا عبيدة بن حميد أبوعبدالرحمن التيمي قال: ثنا أبوالزعراء عن أبي الأحوص عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الأيدي ثلاثة: فيد الله العليا، ويد المعطي الّتي تليها، ويد السّائل السّفلى، فأعط الفضل ولا تعجز عن نفسك)).
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، إلا أبا الزعراء عمرو بن عمرو الجشمي، وهو ثقة كما في "تهذيب التهذيب" عن أحمد وابن معين.
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص276): باب إنفاق المال في حقّه.
38- حدثنا محمد بن المثنى حدثنا يحيى عن إسماعيل قال: حدثني قيس عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول:((لا حسد إلاّ في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلّطه على هلكته في الحقّ، ورجل آتاه الله حكمةً، فهو يقضي بها ويعلّمها)).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص304): باب قوله تعالى: باب قول الله تعالى: {فأمّا من أعطى واتّقى * وصدّق بالحسنى * فسنيسّره لليسرى * وأمّا من بخل واستغنى * وكذّب بالحسنى * فسنيسّره للعسرى} اللهمّ أعط منفق مال خلفًا.
39- حدثنا إسماعيل قال: حدثني أخي عن سليمان عن معاوية بن أبي مزرد عن أبي الحباب عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا ملكان ينْزلان، فيقول أحدهما: اللهمّ أعط منفقًا خلفًا، ويقول الآخر: اللهمّ أعط ممسكًا تلفًا)).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص277): باب الصّدقة من كسب طيّب، لقوله: {ويربي الصّدقات والله لا يحبّ كلّ كفّار أثيم}.
40- حدثنا عبدالله بن منير سمع أبا النضر حدثنا عبدالرحمن هو ابن عبدالله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيّب ولا يقبل الله إلا الطّيّب، وإنّ الله يتقبّلها بيمينه، ثمّ يربّيها لصاحبه كما يربّي أحدكم فلوّه، حتّى تكون مثل الجبل)).
تابعه سليمان عن ابن دينار. وقال: ورقاء عن ابن دينار عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ورواه مسلم بن أبي مريم، وزيد بن أسلم، وسهيل عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص282): باب: اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة، والقليل من الصّدقة، {ومثل الّذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم} الآية إلى قوله: {من كلّ الثّمرات}.
41- حدثنا عبيدالله بن سعيد حدثنا أبوالنعمان الحكم هو ابن عبدالله البصري حدثنا شعبة عن سليمان عن أبي وائل عن أبي مسعود رضي الله عنه قال: لمّا نزلت آية الصّدقة، كنّا نحامل، فجاء رجل فتصدّق بشيء كثير، فقالوا: مرائي، وجاء رجل فتصدّق بصاع، فقالوا: إنّ الله لغنيّ عن صاع هذا، فنزلت: {الّذين يلمزون المطّوّعين من المؤمنين في الصّدقات والّذين لا يجدون إلاّ جهدهم} الآية.
حدثنا سعيد بن يحيى حدثنا أبي حدثنا الأعمش عن شقيق عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أمرنا بالصّدقة، انطلق أحدنا إلى السّوق، فيحامل فيصيب المدّ، وإنّ لبعضهم اليوم لمائة ألف.
42- حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن أبي إسحاق قال سمعت عبدالله بن معقل قال: سمعت عدي بن حاتم رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((اتّقوا النّار ولو بشقّ تمرة)).
43- حدثنا بشر بن محمد أخبرنا عبدالله أخبرنا معمر عن الزهري قال: حدثني عبدالله بن أبي بكر بن حزم عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت امرأة معها ابنتان لها، تسأل فلم تجد عندي شيئًا غير تمرة، فأعطيتها إيّاها، فقسمتها بين ابنتيها، ولم تأكل منها، ثمّ قامت فخرجت، فدخل النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم علينا، فأخبرته فقال: ((من ابتلي من هذه البنات بشيء، كنّ له سترًا من النّار)).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص305): باب مثل المتصدّق والبخيل.
44- حدثنا موسى حدثنا وهيب حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((مثل البخيل والمتصدّق، كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد)).
وحدثنا أبواليمان أخبرنا شعيب حدثنا أبوالزناد أنّ عبدالرحمن حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((مثل البخيل والمنفق، كمثل رجلين عليهما جبّتان من حديد من ثديّهما إلى تراقيهما، فأمّا المنفق فلا ينفق إلا سبغت -أو وفرت- على جلده، حتّى تخفي بنانه، وتعفو أثره، وأمّا البخيل فلا يريد أن ينفق شيئًا إلا لزقت كلّ حلقة مكانها، فهو يوسّعها ولا تتّسع)).
تابعه الحسن بن مسلم عن طاوس: في ((الجبّتين)). وقال حنظلة عن طاوس: ((جنّتان)) وقال الليث: حدثني جعفر عن ابن هرمز سمعت أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((جنّتان)).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص284): باب فضل صدقة الشّحيح الصّحيح لقوله: {وأنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت} الآية. وقوله: {ياأيّها الّذين آمنوا أنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه} الآية.
45- حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبدالواحد حدثنا عمارة بن القعقاع حدثنا أبوزرعة حدثنا أبوهريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال: يا رسول الله أيّ الصّدقة أعظم أجرًا؟ قال: ((أن تصدّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل، حتّى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان)).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص267): باب البيعة على إيتاء الزّكاة {فإن تابوا وأقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة فإخوانكم في الدّين}.
46- حدثنا ابن نمير قال: حدثني أبي حدثنا إسماعيل عن قيس قال: قال جرير بن عبدالله: بايعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم على إقام الصّلاة، وإيتاء الزّكاة، والنّصح لكلّ مسلم.
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص301): باب الصّدقة فيما استطاع.
47- حدثنا أبوعاصم عن ابن جريج. وحدثني محمد بن عبدالرحيم عن حجاج بن محمد عن ابن جريج قال: أخبرني ابن أبي مليكة عن عباد بن عبدالله بن الزبير أخبره عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنّها جاءت إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((لا توعي، فيوعي الله عليك ارضخي ما استطعت)).
الحديث أخرجه مسلم (ج2 ص714).
باب الشفاعة في الصدقة
قال الله سبحانه وتعالى: {من يشفع شفاعةً حسنةً يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعةً سيّئةً يكن له كفل منها} .
وقال سبحانه وتعالى: {كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضّون على طعام المسكين} .
وقال سبحانه وتعالى: {أرأيت الّذي يكذّب بالدّين * فذلك الّذي يدعّ اليتيم * ولا يحضّ على طعام المسكين} .
48- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج3 ص299) من "الفتح": حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبدالواحد حدثنا أبوبردة بريد بن عبدالله ابن أبي بردة حدثنا أبوبردة بن أبي موسى عن أبيه رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا جاءه السّائل، أو طلبت إليه حاجة، قال: ((اشفعوا تؤجروا، ويقضي الله على لسان نبيّه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ما شاء)).
الحض على الصدقة
قال الله سبحانه وتعالى: {كلا بل لا تكرمون اليتيم * ولا تحاضّون على طعام المسكين} .
وقال سبحانه وتعالى: {أرأيت الّذي يكذّب بالدّين * فذلك الّذي يدعّ اليتيم * ولا يحضّ على طعام المسكين} .
49- قال البخاري رحمه الله (ج3 ص299): حدثنا صدقة بن الفضل أخبرنا عبدة عن هشام عن فاطمة عن أسماء رضي الله عنها قالت: قال لي النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا توكي، فيوكى عليك)) حدثنا عثمان بن أبي شيبة عن عبدة وقال: ((لا تحصي، فيحصي الله عليك)).
الحديث أخرجه مسلم (ج2 ص713).
50- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص116): حدثنا مسدد أخبرنا إسماعيل أنبأنا أيوب عن عبدالله بن أبي مليكة عن عائشة أنّها ذكرت عدّةً من مساكين، -قال أبوداود: وقال غيره: أو عدّةً من صدقة-، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أعطي، ولا تحصي، فيحصى عليك)).
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
الحديث أخرجه النسائي (ج5 ص73): قال رحمه الله : أخبرني محمد بن عبدالله بن عبدالحكم عن شعيب حدثني الليث قال: حدثنا خالد عن ابن أبي هلال عن أمية بن هند عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كنّا يومًا في المسجد جلوسًا، ونفر من المهاجرين والأنصار، فأرسلنا رجلاً إلى عائشة ليستأذن فدخلنا عليها قالت: دخل عليّ سائل مرّةً، وعندي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأمرت له بشيء ثمّ دعوت به، فنظرت إليه. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أما تريدين أن لا يدخل بيتك شيء، ولا يخرج إلا بعلمك))؟ قلت: نعم. قال: ((مهلاً يا عائشة، لا تحصي، فيحصي الله عزّ وجلّ عليك)).
هذا السند فيه أمية بن هند، روى عنه اثنان كما في "تهذيب التهذيب" ولم يوثقه معتبر، فهو مستور الحال، يصلح حديثه فى الشواهد والمتابعات.
51- قال الإمام أبوعبدالله بن ماجة (ج1 ص74): حدثنا عبدالوارث ابن عبدالصمد بن عبدالوارث حدثني أبي عن جدي عن أيوب عن محمد ابن سيرين عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحثّ عليه، فقال رجل: عندي كذا وكذا. قال: فما بقي في المجلس رجل إلا تصدّق عليه، بما قلّ أو كثر. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من استنّ خيرًا فاستنّ به، كان له أجره كاملاً، ومن أجور من استنّ به، ولا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن استنّ سنّةً سيّئةً، فاستنّ به، فعليه وزره كاملاً، ومن أوزار الّذي استنّ به، ولا ينقص من أوزارهم شيئًا)).
حديث حسن على شرط مسلم.
الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص520) فقال: ثنا عبدالصمد به. وهو بسند الإمام أحمد على شرط الشيخين.
52- قال أبوداود رحمه الله (ج9 ص173): حدثنا مسدد أخبرنا أبومعاوية عن الأعمش عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة قال: كنّا في عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نسمّى السّماسرة، فمرّ بنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسمّانا باسم هو أحسن منه، فقال: ((يامعشر التّجّار، إنّ البيع يحضره اللّغو والحلف، فشوبوه بالصّدقة)).
حدثنا الحسين بن عيسى البسطامي وحامد بن يحيى وعبدالله بن محمد الزهري قالوا: أخبرنا سفيان عن جامع بن أبي راشد وعبدالملك بن أعين وعاصم عن أبي وائل عن قيس بن أبي غرزة بمعناه قال: ((يحضره الكذب والحلف)). وقال عبدالله الزهري: ((اللّغو والكذب)).
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطنيّ البخاريّ ومسلمًا أن يخرجاها. كما في "الإلزامات" ص(140).
الحديث رواه الترمذي (ج4 ص398) وقال: حديث قيس بن أبي غرزة حديث حسن صحيح، رواه منصور والأعمش وحبيب بن أبي ثابت وغير واحد عن قيس، ولا نعرف لقيس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير هذا.
ورواه النسائي (ج7 ص15 وص247)، وابن ماجة (ج2 ص725)، وابن أبي شيبة (ج7 ص21)، وأحمد (ج4 ص65).
53- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص174): ثنا وكيع ثنا إسماعيل عن قيس عن دكين بن سعيد الخثعمي قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونحن أربعون وأربع مائة، نسأله الطّعام، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمر: ((قم فأعطهم))، قال: يا رسول الله ما عندي إلا ما يقيظني والصّبية. -قال وكيع: القيظ في كلام العرب: أربعة أشهر- قال: ((قم فأعطهم))، قال عمر: يارسول الله سمعًا وطاعةً. قال: فقام عمر وقمنا معه، فصعد بنا إلى غرفة له، فأخرج المفتاح من حجزته، ففتح الباب، -قال دكين- فإذا في الغرفة من التّمر شبيه بالفصيل الرّابض، قال: شأنكم، قال: فأخذ كلّ رجل منّا حاجته ما شاء، قال: ثمّ التفتّ وإنّي لمن آخرهم، وكأنّا لم نرزأ منه تمرةً.
ثنا يعلى بن عبيد ثنا إسماعيل عن قيس عن دكين أبي سعيد المزني قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أربعين راكبًا وأربع مائة، نسأله الطّعام، فقال لعمر: ((اذهب فأعطهم))، فقال: يا رسول الله ما بقي إلا آصع من تمر، ما أرى أن يقيظني، قال: ((اذهب فأعطهم))، قال: سمعًا وطاعةً، قال: فأخرج عمر المفتاح من حجزته، ففتح الباب، فإذا شبه الفصيل الرّابض من تمر، فقال: لتأخذوا، فأخذ كلّ رجل منّا ما أحبّ، ثمّ التفتّ وكنت من آخر القوم، وكأنّا لم نرزأ تمرةً.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
وأخرجه الحميدي (ج2 ص395) فقال رحمه الله: ثنا سفيان ثنا ابن أبي خالد به.
54- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص25): ثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان ثنا عياض عن أبي سعيد قال: دخل رجل المسجد يوم الجمعة والنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المنبر فدعاه فأمره أن يصلّي ركعتين، ثمّ دخل الجمعة الثّانية، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على المنبر، فدعاه، فأمره، ثمّ دخل الجمعة الثّالثة، فأمره أن يصلّي ركعتين، ثمّ قال: ((تصدّقوا))، ففعلوا، فأعطاه ثوبين ممّا تصدّقوا، ثمّ قال: ((تصدّقوا)) فألقى أحد ثوبيه، فانتهره رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وكره ما صنع، ثمّ قال: ((انظروا إلى هذا، فإنّه دخل المسجد في هيئة بذّة، فدعوته فرجوت أن تعطوا له فتصدّقوا عليه وتكسوه، فلم تفعلوا، فقلت: تصدّقوا، فتصدّقوا، فأعطيته ثوبين ممّا تصدّقوا، ثمّ قلت: تصدّقوا، فألقى أحد ثوبيه. خذ ثوبك))، وانتهره.
هذا حديث حسن، وليس صارفًا لأمره بالصلاة ركعتين الدال على الوجوب، والله أعلم.
والحديث أخرجه الحميدي (ج2 ص326) فقال رحمه الله: ثنا سفيان قال: ثنا محمد بن عجلان به.
الصدقة ليست مختصة بالإعطاء
55- قال الإمام أبوبكر بن أبي شيبة رحمه الله في "المصنف" (ج8 ص549): محمد بن بشر قال: حدثنا عبدالجبار بن عباس عن عدي بن ثابت عن عبدالله بن يزيد عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((كلّ معروف صدقة)).
هذا حديث حسن.
وقد أخرجه أحمد (ج4 ص307) فقال رحمه الله: ثنا محمد بن بشر به.
وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (ج4 ص137) فقال رحمه الله: حدثنا أبوبكر (وهو ابن أبي شيبة) محمد بن بشر به.
وهكذا هو في "مصنف ابن أبي شيبة" ليس فيه صيغة التحديث كما ترى، وتقدر: عن، أو حدثنا، أو سمعت، أو ما يصلح من صيغ التحديث اللائقة بابن أبي شيبة رحمه الله.
على كل مفصل صدقة
56- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص354): ثنا زيد حدثني حسين حدثني عبدالله بن بريدة سمعت أبي بريدة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((في الإنسان ستّون وثلاث مائة مفصل، فعليه أن يتصدّق عن كلّ مفصل منها صدقةً))، قالوا: فمن الّذي يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال: ((النّخاعة في المسجد تدفنها، أو الشّيء تنحّيه عن الطّريق، فإن لم تقدر فركعتا الضّحى تجزئ عنك)).
الحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج5 ص259) فقال: ثنا علي بن الحسن بن شقيق أنا الحسين بن واقد فذكره.
وأخرجه أبوداود (ج14 ص155) فقال: حدثنا أحمد بن محمد المروزي حدثني علي بن حسين حدثني أبي فذكره.
هذا حديث صحيح.
وأخرجه محمد بن نصر في "الصلاة" (ج2 ص822) فقال رحمه الله: حدثنا هارون ابن عبدالله ثنا علي بن الحسن بن شقيق ثنا الحسين بن واقد به.
فضل صدقة السر
57- قال الإمام النسائي رحمه الله (ج5 ص80): أخبرنا محمد بن سلمة قال: حدثنا ابن وهب عن معاوية بن صالح عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن كثير بن مرة عن عقبة بن عامر أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((الجاهر بالقرآن، كالجاهر بالصّدقة، والمسرّ بالقرآن، كالمسرّ بالصّدقة))
هذا حديث حسن.
الحديث أخرجه الإمام أحمد (ج4 ص151) فقال: حدثنا حماد بن خالد ثنا معاوية ابن صالح، عن بحير بن سعد به، ثم قال الإمام أحمد: كان حماد بن خالد حافظًا، وكان يحدثنا وكان يحفظ، كتبت عنه أنا ويحيى بن معين.
وأخرجه أبويعلى (ج3 ص378) فقال رحمه الله: حدثنا زهير حدثنا معن بن عيسى حدثنا معاوية بن صالح عن بحير بن سعد به.
وفي "الصحيحين" من حديث أبي هريرة قال: ((سبعة يظلّهم الله في ظلّه))وذكر منهم: ((رجلاً تصدّق بصدقة فأخفاها، حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه)).
ما جاء في جهد المقل
58- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص94): حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن موهب الرملي قالا: أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن يحيى ابن جعدة عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله أيّ الصّدقة أفضل؟ قال: ((جهد المقلّ، وابدأ بمن تعول)).
هذا حديث حسن، ورجاله رجال الصحيح، إلا يحيى بن جعدة وقد وثقه أبوحاتم والنسائي.
من بدأ بالصدقة فاقتدى به غيره
59- قال الإمام أبوعبدالله بن ماجة (ج1 ص74): حدثنا عبدالوارث ابن عبدالصمد بن عبدالوارث حدثني أبي عن جدي عن أيوب عن محمد ابن سيرين عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحثّ عليه، فقال رجل: عندي كذا وكذا، قال: فما بقي في المجلس رجل إلا تصدّق عليه، بما قلّ أو كثر. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من استنّ خيرًا فاستنّ به، كان له أجره كاملاً، ومن أجور من استنّ به، ولا ينقص من أجورهم شيئًا، ومن استنّ سنّةً سيّئةً، فاستنّ به، فعليه وزره كاملاً، ومن أوزار الّذي استنّ به، ولا ينقص من أوزارهم شيئًا)).
حديث حسن على شرط مسلم.
الحديث أخرجه الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص520) فقال: ثنا عبدالصمد به. وهو بسند الإمام أحمد على شرط الشيخين.
من تصدق بجميع ماله إذا كان واثقا بالله
60- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص94): حدثنا أحمد بن صالح وعثمان بن أبي شيبة، وهذا حديثه قالا: أخبرنا الفضل بن دكين أخبرنا هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يومًا أن نتصدّق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يومًا. فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ماأبقيت لأهلك))؟ قلت: مثله. قال: وأتى أبوبكر رضي الله عنه بكلّ ما عنده فقال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما أبقيت لأهلك))؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله. قلت: لا أسابقك إلى شيء أبدًا.
هذا حديث حسن.
الحديث أخرجه الترمذي (ج10 ص161) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
ابدأ بمن تعول
61- قال الإمام النسائي رحمه الله (ج5 ص61): أخبرنا يوسف بن عيسى قال: أنبأنا الفضل بن موسى قال: حدثنا يزيد وهو ابن زياد بن أبي الجعد عن جامع بن شداد عن طارق المحاربي قال: قدمنا المدينة فإذا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قائم على المنبر يخطب النّاس، وهو يقول: ((يد المعطي العليا، وابدأ بمن تعول، أمّك وأباك وأختك وأخاك، ثمّ أدناك أدناك)) مختصر.
هذا حديث صحيح، وهو من الأحاديث التي ألزم الدارقطنيّ البخاريّ ومسلمًا أن يخرجاها.
62- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص330): ثنا روح ثنا ابن جريج أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((أفضل الصّدقة عن ظهر غنًى، وابدأ بمن تعول، واليد العليا خير من اليد السّفلى)).
هذا حديث حسن على شرط مسلم.
الصدقة عن ظهر غنى
63- قال أبوداود رحمه الله (ج5ص92): حدثنا إسحاق بن إسماعيل أخبرنا سفيان عن ابن عجلان عن عياض بن عبدالله سمع أبا سعيد الخدري يقول: دخل رجل المسجد، فأمر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يطرحوا ثيابًا، فطرحوا، فأمر له بثوبين، ثمّ حثّ على الصّدقة، فجاء فطرح أحد الثّوبين، فصاح به وقال: ((خذ ثوبك)).
هذا حديث حسن.
وقال الإمام النسائي رحمه الله (ج5 ص63): أخبرنا عمرو بن علي قال: حدثنا يحيى قال: حدثنا ابن عجلان عن عياض عن أبي سعيد أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب، فقال: ((صلّ ركعتين))، ثمّ جاء الجمعة الثّانية والنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخطب، فقال: ((صلّ ركعتين))، ثمّ جاء الجمعة الثّالثة، فقال: ((صلّ ركعتين))، ثمّ قال: ((تصدّقوا))، فتصدّقوا، فأعطاه ثوبين، ثمّ قال: ((تصدّقوا))، فطرح أحد ثوبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ألم تروا إلى هذا، أنّه دخل المسجد بهيئة بذّة، فرجوت أن تفطنوا له، فتتصدّقوا عليه، فلم تفعلوا، فقلت: تصدّقوا، فتصدّقتم، فأعطيته ثوبين، ثمّ قلت: تصدّقوا، فطرح أحد ثوبيه، خذ ثوبك))، وانتهره.
هذا حديث حسن.
الحديث أخرجه الترمذي (ج3 ص30) فقال رحمه الله: حدثنا محمد بن أبي عمر أخبرنا سفيان بن عيينة عن محمد بن عجلان به.
وقال: حديث حسن صحيح.
وأخرجه الإمام أحمد (ج3 ص25) فقال: ثنا يحيى بن سعيد عن ابن عجلان ثنا عياض عن أبي سعيد به.
وأخرجه الحميدي (ج2 ص326) فقال: ثنا سفيان قال ثنا محمد بن عجلان قال: ثنا عياض بن عبدالله بن سعد بن أبي سرح قال: رأيت أبا سعيد الخدريّ جاء ومروان ابن الحكم يخطب يوم الجمعة، فقام يصلّي الرّكعتين فجاء إليه الأحراس ليجلسوه فأبى أن يجلس، حتّى صلّى الرّكعتين، فلمّا قضى الصّلاة، أتيناه، فقلنا: يا أبا سعيد كاد هؤلاء أن يفعلوا بك. فقال أبوسعيد: ما كنت لأدعهما لشيء، بعد شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فذكر الحديث.
وأخرجه أبويعلى رحمه الله (ج2 ص279) فقال: حدثنا أبوخيثمة حدثنا يحيى عن ابن عجلان أخبرنا عياض فذكره.
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص325): باب الزّكاة على الأقارب وقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((له أجران: أجر القرابة، والصّدقة)).
64- حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبدالله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: كان أبوطلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً من نخل، وكان أحبّ أمواله إليه بيرحاء، وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيّب، قال أنس: فلمّا أنزلت هذه الآية: {لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون} قام أبوطلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله، إنّ الله تبارك وتعالى يقول: {لن تنالوا البرّ حتّى تنفقوا ممّا تحبّون} وإنّ أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وإنّها صدقة لله، أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت، وإنّي أرى أن تجعلها في الأقربين)) فقال أبوطلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبوطلحة في أقاربه وبني عمّه.
تابعه روح وقال يحيى بن يحيى وإسماعيل عن مالك: ((رايح)).
65- حدثنا ابن أبي مريم أخبرنا محمد بن جعفر: قال أخبرني زيد عن عياض بن عبدالله عن أبي سعيد الخدرى رضي الله عنه: خرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أضحًى أو فطر، إلى المصلّى ثمّ انصرف فوعظ النّاس، وأمرهم بالصّدقة، فقال: ((أيّها النّاس تصدّقوا))، فمرّ على النّساء، فقال: ((يا معشر النّساء تصدّقن، فإنّي رأيتكنّ أكثر أهل النّار))، فقلن: وبم ذلك يارسول الله؟ قال: ((تكثرن اللّعن، وتكفرن العشير، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للبّ الرّجل الحازم من إحداكنّ يا معشر النّساء))، ثمّ انصرف، فلمّا صار إلى منْزله جاءت زينب امرأة ابن مسعود تستأذن عليه، فقيل: يارسول الله هذه زينب. فقال: ((أيّ الزّيانب))؟ فقيل: امرأة ابن مسعود. قال: ((نعم، ائذنوا لها))، فأذن لها، قالت: يانبيّ الله، إنّك أمرت اليوم بالصّدقة، وكان عندي حليّ لي فأردت أن أتصدّق به، فزعم ابن مسعود أنّه وولده أحقّ من تصدّقت به عليهم. فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((صدق ابن مسعود، زوجك وولدك أحقّ من تصدّقت به عليهم)).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص328): باب الزّكاة على الزّوج والأيتام في الحجر، قاله أبوسعيد عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
66- حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي حدثنا الأعمش قال: حدثني شقيق عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبدالله رضي الله عنهما قال: فذكرته لإبراهيم، ح فحدّثني إبراهيم عن أبي عبيدة عن عمرو بن الحارث عن زينب امرأة عبدالله بمثله سواءً، قالت: كنت في المسجد فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((تصدّقن ولو من حليّكنّ))، وكانت زينب تنفق على عبدالله، وأيتام في حجرها، قال: فقالت لعبدالله سل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أيجزي عنّي أن أنفق عليك وعلى أيتام في حجري من الصّدقة؟ فقال: سلي أنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فانطلقت إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فوجدت امرأةً من الأنصار على الباب، حاجتها مثل حاجتي، فمرّ علينا بلال، فقلنا: سل النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أيجزي عنّي أن أنفق على زوجي وأيتام لي في حجري؟ وقلنا: لا تخبر بنا، فدخل فسأله، فقال: ((من هما)) قال: زينب. قال: ((أيّ الزّيانب))؟ قال: امرأة عبدالله. قال: ((نعم، لها أجران: أجر القرابة، وأجر الصّدقة)).
67- حدثنا عثمان بن أبي شيبة حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول الله ألي أجر أن أنفق على بني أبي سلمة، إنّما هم بنيّ؟ فقال: ((أنفقي عليهم، فلك أجر ماأنفقت عليهم)).
68- قال الإمام أبوعبدالله بن ماجة رحمه الله (ج1 ص587): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة ثنا يحيى بن آدم ثنا حفص بن غياث عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالصّدقة، فقالت زينب امرأة عبدالله: أيجزيني من الصّدقة أن أتصدّق على زوجي وهو فقير، وبني أخ لي أيتام، وأنا أنفق عليهم هكذا وهكذا، وعلى كلّ حال؟ قال: ((نعم))، قال: وكانت صناع اليدين.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص327): باب الصّدقة على اليتامى.
69- حدثنا معاذ بن فضالة حدثنا هشام عن يحيى عن هلال بن أبي ميمونة حدثنا عطاء بن يسار أنه سمع أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يحدّث أنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم جلس ذات يوم على المنبر، وجلسنا حوله، فقال: ((إنّ ممّا أخاف عليكم من بعدي، ما يفتح عليكم من زهرة الدّنيا وزينتها)) فقال رجل: يا رسول الله أويأتي الخير بالشّرّ؟ فسكت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقيل له: ما شأنك تكلّم النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يكلّمك، فرأينا أنّه ينْزل عليه، قال: فمسح عنه الرّحضاء، فقال: ((أين السّائل))؟ وكأنّه حمده، فقال: ((إنّه لا يأتي الخير بالشّرّ، وإنّ ممّا ينبت الرّبيع يقتل أو يلمّ، إلا آكلة الخضراء، أكلت حتّى إذا امتدّت خاصرتاها استقبلت عين الشّمس فثلطت وبالت ورتعت، وإنّ هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المسلم ما أعطى منه المسكين واليتيم وابن السّبيل -أو كما قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وإنّه من يأخذه بغير حقّه، كالّذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة)).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص361): باب صلاة الإمام ودعائه لصاحب الصّدقة وقوله: {خذ من أموالهم صدقةً تطهّرهم وتزكّيهم بها وصلّ عليهم إنّ صلاتك سكن لهم}.
70- حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو عن عبدالله بن أبي أوفى قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: ((اللهمّ صلّ على آل فلان))، فأتاه أبي بصدقته فقال: ((اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى)).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص357): باب أخذ الصّدقة من الأغنياء وتردّ في الفقراء حيث كانوا.
71- حدثنا محمد أخبرنا عبدالله أخبرنا زكريا بن إسحاق عن يحيى بن عبدالله بن صيفي عن أبي معبد مولى ابن عباس، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: ((إنّك ستأتي قومًا أهل كتاب، فإذا جئتهم فادعهم إلى أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمّدًا رسول الله، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم خمس صلوات في كلّ يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فأخبرهم أنّ الله قد فرض عليهم صدقةً، تؤخذ من أغنيائهم فتردّ على فقرائهم، فإن هم أطاعوا لك بذلك، فإيّاك وكرائم أموالهم، واتّق دعوة المظلوم، فإنّه ليس بينها وبين الله حجاب)).
الكفاف والقناعة
72- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص730): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا أبوعبدالرحمن المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب حدثني شرحبيل (وهو ابن شريك) عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو ابن العاص: أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنّعه الله بما آتاه)).
73- حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وعمرو الناقد وأبوسعيد الأشج قالوا: حدثنا وكيع حدثنا الأعمش (ح) وحدثني زهير بن حرب حدثنا محمد بن فضيل عن أبيه كلاهما عن عمارة بن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اللهمّ اجعل رزق آل محمّد قوتًا)).
قال البخاري رحمه الله (ج11 ص171): باب الغنى غنى النّفس، وقول الله تعالى: {أيحسبون أنّ ما نمدّهم به من مال وبنين} إلى قوله تعالى: {من دون ذلك هم لها عاملون} قال ابن عيينة: لم يعملوها، لا بدّ من أن يعملوها.
74- حدثنا أحمد بن يونس حدثنا أبوبكر حدثنا أبوحصين عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكنّ الغنى غنى النّفس)).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص267): باب إثم مانع الزّكاة، وقول الله تعالى: {والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}.
75- حدثنا الحكم بن نافع أخبرنا شعيب حدثنا أبوالزناد أن عبدالرحمن بن هرمز الأعرج حدثه أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه يقول: قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((تأتي الإبل على صاحبها على خير ما كانت، إذا هو لم يعط فيها حقّها، تطؤه بأخفافها، وتأتي الغنم على صاحبها على خير ما كانت، إذا لم يعط فيها حقّها، تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها))، وقال: ((ومن حقّها أن تحلب على الماء، قال: ولا يأتي أحدكم يوم القيامة بشاة يحملها على رقبته لها يعار، فيقول: يا محمّد. فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد بلّغت. ولا يأتي ببعير يحمله على رقبته له رغاء، فيقول: يا محمّد. فأقول: لا أملك لك من الله شيئًا، قد بلّغت)).
76- حدثنا علي بن عبدالله حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا عبدالرحمن ابن عبدالله بن دينار عن أبيه عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من آتاه الله مالاً فلم يؤدّ زكاته، مثّل له ماله يوم القيامة شجاعًا أقرع، له زبيبتان، يطوّقه يوم القيامة، ثمّ يأخذ بلهزمتيه، يعني: بشدقيه، ثمّ يقول: أنا مالك، أنا كنْزك، ثمّ تلا: {لا يحسبنّ الّذين يبخلون} الآية.
77- وقال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص680): وحدثني سويد بن سعيد، حدثنا حفص (يعنى ابن ميسرة الصنعاني) عن زيد بن أسلم أن أبا صالح ذكوان أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من صاحب ذهب ولا فضّة، لا يؤدّي منها حقّها، إلا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنّم فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلّما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتّى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار))، قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: ((ولا صاحب إبل لا يؤدّي منها حقّها، ومن حقّها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ماكانت، لايفقد منها فصيلاً واحدًا، تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها، كلّما مرّ عليه أولاها ردّ عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتّى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار))، قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: ((ولا صاحب بقر ولا غنم، لا يؤدّي منها حقّها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لايفقد منها شيئًا، ليس فيها عقصاء ولاجلحاء ولا عضباء، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلّما مرّ عليه أولاها، ردّ عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتّى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار))، قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: ((الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأمّا الّتي هي له وزر، فرجل ربطها رياءً وفخرًا ونواءً، على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأمّا الّتي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله، ثمّ لم ينس حقّ الله في ظهورها، ولا رقابها، فهي له ستر، وأمّا الّتي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام، في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الرّوضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاستنّت شرفًا أو شرفين، إلا كتب الله له عدد آثارها وأرواثها حسنات، ولا مرّ بها صاحبها على نهر فشربت منه، ولا يريد أن يسقيها إلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات))، قيل: يا رسول الله فالحمر؟ قال: ((ما أنزل عليّ في الحمر شيء، إلا هذه الآية الفاذّة الجامعة: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره))}.
وحدثني يونس بن عبدالأعلى الصدفي أخبرنا عبدالله بن وهب حدثني هشام بن سعد عن زيد بن أسلم في هذا الإسناد بمعنى حديث حفص بن ميسرة، إلى آخره. غير أنه قال: ((ما من صاحب إبل لا يؤدّي حقّها))، ولم يقل: ((منها حقّها))، وذكر فيه: ((لا يفقد منها فصيلاً واحدًا))، وقال: ((يكوى بها جنباه وجبهته وظهره)).
وحدثني محمد بن عبدالملك الأموي حدثنا عبدالعزيز بن المختار حدثنا سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من صاحب كنْز لا يؤدّي زكاته، إلاّ أحمي عليه في نار جهنّم فيجعل صفائح، فيكوى بها جنباه وجبينه، حتّى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، وما من صاحب إبل لا يؤدّي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر كأوفر ماكانت تستنّ عليه، كلّما مضى عليه أخراها، ردّت عليه أولاها، حتّى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار، وما من صاحب غنم لا يؤدّي زكاتها، إلا بطح لها بقاع قرقر، كأوفر ما كانت، فتطؤه بأظلافها، وتنطحه بقرونها، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء، كلّما مضى عليه أخراها، ردّت عليه أولاها، حتّى يحكم الله بين عباده، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثمّ يرى سبيله إمّا إلى الجنّة وإمّا إلى النّار))، قال سهيل: فلا أدري أذكر البقر أم لا؟ قالوا: ((فالخيل يا رسول الله))؟ قال: ((الخيل في نواصيها، -أو قال: الخيل معقود في نواصيها، قال سهيل: أنا أشكّ- الخير إلى يوم القيامة، الخيل ثلاثة: فهي لرجل أجر، ولرجل ستر، ولرجل وزر، فأمّا الّتي هي له أجر، فالرّجل يتّخذها في سبيل الله، ويعدّها له، فلا تغيّب شيئًا في بطونها إلا كتب الله له أجرًا، ولو رعاها في مرج ماأكلت من شيء إلا كتب الله له بها أجرًا، ولو سقاها من نهر كان له بكلّ قطرة تغيّبها في بطونها أجر، حتّى ذكر الأجر في أبوالها وأرواثها، ولو استنّت شرفًا أو شرفين كتب له بكلّ خطوة تخطوها أجر، وأمّا الّذي هي له ستر فالرّجل يتّخذها تكرّمًا وتجمّلاً، ولا ينسى حقّ ظهورها وبطونها في عسرها ويسرها، وأمّا الّذي عليه وزر، فالّذي يتّخذها أشرًا وبطرًا وبذخًا ورياء النّاس، فذاك الّذي هي عليه وزر))، قالوا: فالحمر يارسول الله؟ قال: ((ماأنزل الله عليّ فيها شيئًا، إلا هذه الآية الجامعة الفاذّة: {فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره))}.
وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا عبدالعزيز (يعني الدراوردي) عن سهيل بهذا الإسناد، وساق الحديث.
وحدثنيه محمد بن عبدالله بن بزيع حدثنا يزيد بن زريع حدثنا روح بن القاسم حدثنا سهيل بن أبي صالح بهذا الإسناد، وقال: بدل: (عقصاء)،((عضباء))، وقال: ((فيكوى بها جنبه وظهره))، ولم يذكر: ((جبينه)).
وحدثني هارون بن سعيد الأيلي حدثنا ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث أن بكيرًا حدثه عن ذكوان عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: ((إذا لم يؤدّ المرء حقّ الله أو الصّدقة في إبله)).
وساق الحديث بنحو حديث سهيل عن أبيه.
وحديث أبي هريرة قد أخرجه البخاري مفرقًا. من أجل هذا اخترت رواية مسلم.
78- حدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عبدالرزاق (ح) وحدثني محمد ابن رافع (واللفظ له) حدثنا عبدالرزاق أخبرنا ابن جريج أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابر بن عبدالله الأنصاري يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((ما من صاحب إبل لا يفعل فيها حقّها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت قطّ، وقعد لها بقاع قرقر تستنّ عليه بقوائمها وأخفافها، ولا صاحب بقر لا يفعل فيها حقّها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت وقعد لها بقاع قرقر تنطحه بقرونها، وتطؤه بقوائمها، ولا صاحب غنم لا يفعل فيها حقّها، إلا جاءت يوم القيامة أكثر ما كانت، وقعد لها بقاع قرقر، تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، ليس فيها جمّاء ولا منكسر قرنها، ولا صاحب كنْز لا يفعل فيه حقّه، إلا جاء كنْزه يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبعه فاتحًا فاه، فإذا أتاه فرّ منه فيناديه: خذ كنْزك الّذي خبأته، فأنا عنه غنيّ. فإذا رأى أن لا بدّ منه سلك يده في فيه فيقضمها قضم الفحل)).
قال أبوالزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول هذا القول، ثم سألنا جابر بن عبدالله عن ذلك؟ فقال مثل قول عبيد بن عمير.
وقال أبوالزبير: سمعت عبيد بن عمير يقول: قال رجل: يا رسول الله ما حقّ الإبل؟ قال: ((حلبها على الماء، وإعارة دلوها، وإعارة فحلها، ومنيحتها، وحمل عليها في سبيل الله)).
حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا أبي حدثنا عبدالملك عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم، لا يؤدّي حقّها، إلا أقعد لها يوم القيامة بقاع قرقر، تطؤه ذات الظّلف بظلفها، وتنطحه ذات القرن بقرنها، ليس فيها يومئذ جمّاء ولا مكسورة القرن)) قلنا: يا رسول الله وما حقّها؟ قال: ((إطراق فحلها، وإعارة دلوها ومنيحتها، وحلبها على الماء، وحمل عليها في سبيل الله. ولا من صاحب مال لا يؤدّي زكاته، إلا تحوّل يوم القيامة شجاعًا أقرع، يتبع صاحبه حيثما ذهب، وهو يفرّ منه، ويقال: هذا مالك الّذي كنت تبخل به. فإذا رأى أنّه لا بدّ منه، أدخل يده في فيه، فجعل يقضمها كما يقضم الفحل)).
79- قال معمر بن راشد في "جامعه" كما في "مصنف عبدالرزاق" (ج11 ص351): عن معمر عن أبي عمران الجوني عن عبدالله بن الصامت وهو ابن أخي أبي ذر عن أبي ذر قال: كنت رديفًا خلف رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم على حمار، فلمّا جاوزنا بيوت المدينة، قال: ((كيف بك ياأبا ذر إذا كان بالمدينة جوع، تقوم عن فراشك، لاتبلغ مسجدك حتّى يجهدك الجوع))؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((تعفّفْ ياأبا ذر))، قال: ((كيف بك ياأبا ذر إذا كان بالمدينة موت يبلغ البيت العبد))، -يعني أنّه يباع القبر بالعبد- قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((تصبر))، قال: ((كيف بك ياأبا ذر إذا كان بالمدينة قتل تغمر الدّماء حجارة الزّيت))، قال: قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((تأتي من أنت منه))، قال: قلت: وألبس السّلاح؟ قال: ((شاركت القوم إذًا))، قلت: وكيف أصنع يارسول الله؟ قال: ((إنْ خشيت أن يبهرك شعاع السّيف، فألق ناحية ثوبك على وجهك، ليبوء بإثمك وإثمه)).
ما جاء في ذم البخل والتحذير منه
80- قال الإمام البخاري رحمه الله في "الأدب المفرد" ص (111): حدثنا عبدالله بن أبي الأسود قال: حدثنا حميد بن الأسود عن الحجاج الصواف قال: حدثني أبوالزبير قال: حدثنا جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من سيّدكم يابني سلمة))؟ قلنا: جدّ بن قيس، على أنّا نبخّله، قال: ((وأيّ داء أدوأ من البخل، بل سيّدكم عمرو بن الجموح)). وكان عمرو على أصنامهم في الجاهليّة، وكان يولم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا تزوّج.
هذا حديث حسن.
81- وقال أبوداود رحمه الله (ج5 ص115): حدثنا حفص بن عمر أخبرنا شعبة عن عمرو بن مرة عن عبدالله بن الحارث عن أبي كثير عن عبدالله بن عمرو قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((إيّاكم والشّحّ، فإنّما هلك من كان قبلكم بالشّحّ، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا)).
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح، إلاّ أبا كثير الزبيدي وقد وثّقه النسائي.
82- قال أبوداود رحمه الله (ج7 ص187): حدثنا عبدالله بن الجراح عن عبدالله بن يزيد عن موسى بن علي عن أبيه عن عبدالعزيز بن مروان قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((شرّ ما في رجل، شحّ هالع، وجبن خالع)).
هذا حديث حسن.
الحديث رواه الإمام أحمد (ج5 ص15 وص164) فقال: حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن موسى يعني ابن علي عن أبيه به.
وأبوبكر بن أبي شيبة (ج9 ص98) فقال رحمه الله: الفضل بن دكين عن موسى بن علي به.
83- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص94): حدثنا قتيبة بن سعيد ويزيد بن خالد بن موهب الرملي قالا: أخبرنا الليث عن أبي الزبير عن يحيى ابن جعدة عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله أيّ الصّدقة أفضل؟ قال:((جهد المقلّ، وابدأ بمن تعول)).
هذا حديث حسن، ورجاله رجال الصحيح، إلا يحيى بن جعدة وقد وثقه أبوحاتم والنسائي.
84- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص4): ثنا أسود بن عامر ثنا أبوبكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال عمر: يارسول الله، لقد سمعت فلانًا وفلانًا يحسنان الثّناء، يذكران أنّك أعطيتهما دينارين، قال: فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لكنّ والله فلانًا ماهو كذلك، لقد أعطيته من عشرة إلى مائة، فما يقول ذاك، أما والله إنّ أحدكم ليخرج مسألته من عندي، يتأبّطها، يعني تكون تحت إبطه: يعني نارًا، قال: قال عمر: يا رسول الله لم تعطيها إيّاهم؟ قال: ((فما أصنع، يأبون إلا ذاك، ويأبى الله لي البخل)).
هذا حديث صحيح رجاله رجال الصحيح.
وأخرجه الإمام أحمد أيضًا ص(16): فقال: ثنا يحيى بن آدم ثنا أبوبكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال عمر: يا رسول الله سمعت فلانًا يقول خيرًا، ذكر أنّك أعطيته دينارين. قال: ((لكن فلان لا يقول ذلك، ولا يثني به، لقد أعطيته ما بين العشرة إلى المائة، أو قال: إلى المائتين، وإنّ أحدهم ليسألني المسألة فأعطيها إيّاه، فيخرج بها متأبّطها، وما هي لهم إلا نار))، قال عمر: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: ((إنّهم يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل)).
ما جاء في طول الأمل
85- قال البخاري رحمه الله (ج11 ص239): حدثنا علي بن عبدالله حدثنا أبوصفوان عبدالله بن سعيد أخبرنا يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا يزال قلب الكبير شابًّا في اثنتين: في حبّ الدّنيا، وطول الأمل)).
قال ليث: عن يونس -وابن وهب عن يونس- عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد وأبوسلمة.
86- حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا هشام حدثنا قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حبّ المال، وطول العمر)).
رواه شعبة عن قتادة .
قال البخاري رحمه الله (ج11 ص252): باب ما يتّقى من فتنة المال، وقول الله تعالى: {إنّما أموالكم وأولادكم فتنة}.
87- حدثنا يحيى بن يوسف أخبرنا أبوبكر بن عياش عن أبي حصين عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((تعس عبدالدّينار، والدّرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض)).
88- حدثنا أبوعاصم عن ابن جريج عن عطاء قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى ثالثًا، ولا يملا جوف ابن آدم إلا التّراب، ويتوب الله على من تاب)).
حدثني محمد أخبرنا مخلد أخبرنا ابن جريج قال: سمعت عطاء يقول: سمعت ابن عباس يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لو أنّ لابن آدم ملْء واد مالاً، لأحبّ أنّ له إليه مثله، ولا يملأ عين ابن آدم إلا التّراب، ويتوب الله على من تاب)).
قال ابن عبّاس: فلا أدري من القرآن هو أم لا؟ قال: وسمعت ابن الزّبير يقول ذلك على المنبر.
89- حدثنا أبونعيم حدثنا عبدالرحمن بن سليمان بن الغسيل عن عباس بن سهل بن سعد قال: سمعت ابن الزّبير على المنبر بمكّة في خطبته يقول: يا أيّها النّاس إنّ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يقول: ((لو أنّ ابن آدم أعطي واديًا ملآن من ذهب، أحبّ إليه ثانيًا، ولو أعطي ثانيًا، أحبّ إليه ثالثًا، ولا يسدّ جوف ابن آدم إلا التّراب، ويتوب الله على من تاب)).
90- حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله حدثنا إبراهيم بن سعد عن صالح عن ابن شهاب قال أخبرني أنس بن مالك أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لو أنّ لابن آدم واديًا من ذهب، أحبّ أن يكون له واديان، ولن يملا فاه إلا التّراب، ويتوب الله على من تاب)).
وقال لنا أبوالوليد: حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبيّ قال: كنّا نرى هذا من القرآن حتّى نزلت: {ألهاكم التّكاثر}
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص337) باب من أعطاه الله شيئًا من غير مسألة ولا إشراف نفس، {وفي أموالهم حقّ للسّائل والمحرومB}.
91- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن يونس عن الزهري عن سالم أنّ عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت عمر يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعطيني العطاء فأقول: أعطه من هو أفقر إليه منّي. فقال: ((خذه، إذا جاءك من هذا المال شيء، وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، وما لا فلا تتبعه نفسك)).
92- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص220): ثنا عبدالله بن يزيد ثنا سعيد بن أبي أيوب حدثني أبوالأسود عن بكير بن عبدالله عن بسر بن سعيد عن خالد بن عدي الجهني قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من بلغه معروف عن أخيه من غير مسألة ولا إشراف نفس فليقبله، ولا يردّه، فإنّما هو رزق ساقه الله عزّ وجلّ إليه)).
هذا حديث صحيح، وأبوالأسود هو محمد بن عبدالرحمن الملقب بيتيم عروة. الحديث أخرجه أبويعلى (ج2 ص226).
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص338): باب من سأل النّاس تكثّرًا.
93- حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث عن عبيدالله بن أبي جعفر قال: سمعت حمزة بن عبدالله بن عمر سمعت عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما يزال الرّجل يسأل النّاس، حتّى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مزعة لحم، وقال: إنّ الشّمس تدنو يوم القيامة حتّى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثمّ بموسى، ثمّ بمحمّد ))صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وزاد عبدالله: حدثني الليث حدثني ابن أبي جعفر: ((فيشفع ليقضى بين الخلق فيمشي حتّى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، يحمده أهل الجمع كلّهم)).
وقال معلى: حدثنا وهيب، عن النعمان بن راشد عن عبدالله بن مسلم أخي الزهري عن حمزة سمع ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في المسألة.
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص335): باب الاستعفاف عن المسألة.
94- حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن عطاء ابن يزيد الليثي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّ ناسًا من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، ثمّ سألوه فأعطاهم، حتّى نفد ما عنده، فقال: ((ما يكون عندي من خير فلن أدّخره عنكم، ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله ومن يتصبّر يصبّره الله، وما أعطي أحد عطاءً خيرًا وأوسع من الصّبر)).
95- حدثنا عبدالله بن يوسف أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((والّذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره، خير له من أن يأتي رجلاً فيسأله أعطاه أو منعه)).
96- حدثنا موسى حدثنا وهيب حدثنا هشام عن أبيه عن الزبير بن العوام رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لأنْ يأخذ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة الحطب على ظهره فيبيعها، فيكفّ الله بها وجهه، خير له من أن يسأل النّاس، أعطوه أو منعوه)).
97- حدثنا عبدان أخبرنا عبدالله أخبرنا يونس عن الزهري عن عروة ابن الزبير وسعيد بن المسيب أن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ سألته فأعطاني، ثمّ قال: ((ياحكيم، إنّ هذا المال خضرة حلوة، فمن أخذه بسخاوة نفس، بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يبارك له فيه، كالّذي يأكل ولا يشبع، اليد العليا خير من اليد السّفلى))، قال حكيم: فقلت: يا رسول الله والّذي بعثك بالحقّ لا أرزأ أحدًا بعدك شيئًا، حتّى أفارق الدّنيا، فكان أبوبكر رضي الله عنه يدعو حكيمًا إلى العطاء فيأبى أن يقبله منه، ثمّ إنّ عمر رضي الله عنه دعاه ليعطيه، فأبى أن يقبل منه شيئًا، فقال عمر: إنّي أشهدكم يامعشر المسلمين على حكيم أنّي أعرض عليه حقّه من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه، فلم يرزأ حكيم أحدًا من النّاس بعد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، حتّى توفّي.
أخذ البيعة على الناس على ألا يسألوا الناس شيئًا
98- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص721): حدثني عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي وسلمة بن شبيب (قال سلمة: حدثنا، وقال الدارمي: أخبرنا مروان، وهو ابن محمد الدمشقي) حدثنا سعيد (وهو ابن عبدالعزيز) عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخولاني عن أبي مسلم الخولاني قال: حدثني الحبيب الأمين، أما هو فحبيب إليّ، وأما هو عندي فأمين، عوف بن مالك الأشجعي قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسعةً، أو ثمانيةً، أو سبعةً، فقال: ((ألا تبايعون رسول الله))، وكنّا حديث عهد ببيعة، فقلنا: قد بايعناك يارسول الله. ثمّ قال: ((ألا تبايعون رسول الله))؟ فقلنا: قد بايعناك يارسول الله. ثمّ قال: ((ألا تبايعون رسول الله)) قال: فبسطنا أيدينا وقلنا: قد بايعناك يا رسول الله، فعلام نبايعك؟ قال: ((على أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، والصّلوات الخمس، وتطيعوا))، وأسرّ كلمةً خفيّةً: ((ولا تسألوا النّاس شيئًا))، فلقد رأيت بعض أولئك النّفر يسقط سوط أحدهم، فما يسأل أحدًا يناوله إيّاه.
قال البخاري رحمه الله (ج3 ص340): باب قول الله تعالى: {لا يسألون النّاس إلحافًا} وكم الغنى، وقول النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ولا يجد غنًى يغنيه)) لقول الله تعالى: {للفقراء الّذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض} إلى قوله: {فإنّ الله به عليم}.
99- حدثنا حجاج بن منهال حدثنا شعبة أخبرني محمد بن زياد قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ليس المسكين الّذي تردّه الأكلة والأكلتان، ولكن المسكين الّذي ليس له غنًى ويستحيي، أو لا يسأل النّاس إلحافًا)).
100- حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا إسماعيل بن علية حدثنا خالد الحذاء عن ابن أشوع عن الشعبي حدّثه كاتب المغيرة بن شعبة قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة: أن اكتب إليّ بشيء سمعته من النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم؟ فكتب إليه: سمعت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يقول إنّ الله كره لكم ثلاثًا: قيل، وقال، وإضاعة المال، وكثرة السّؤال)).
101- حدثنا محمد بن غرير الزهري حدثنا يعقوب بن إبراهيم عن أبيه عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب قال: أخبرني عامر بن سعد عن أبيه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رهطًا وأنا جالس فيهم، قال: فترك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم منهم رجلاً لم يعطه، وهو أعجبهم إليّ، فقمت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فساررته، فقلت: مالك عن فلان، والله إنّي لأراه مؤمنًا. قال: ((أو مسلمًا))، قال: فسكتّ قليلاً، ثمّ غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يارسول الله ما لك عن فلان، والله إنّي لأراه مؤمنًا. قال: ((أومسلمًا))، قال: فسكتّ قليلاً، ثمّ غلبني ما أعلم فيه، فقلت: يارسول الله ما لك عن فلان، والله إنّي لأراه مؤمنًا. قال: ((أو مسلمًا)) يعني، فقال: ((إنّي لأعطي الرّجل وغيره أحبّ إليّ منه، خشية أن يكبّ في النّار على وجهه)).
وعن أبيه عن صالح عن إسماعيل بن محمد أنه قال: سمعت أبي يحدّث بهذا فقال في حديثه: فضرب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بيده، فجمع بين عنقي وكتفي، ثمّ قال: ((أقبل أي سعد، إنّي لأعطي الرّجل)).
قال أبوعبدالله: (فكبكبوا): قلبوا، (مكبًّا) أكبّ الرّجل، إذا كان فعله غير واقع على أحد، فإذا وقع الفعل قلت: كبّه الله لوجهه، وكببته أنا.
102- حدثنا إسماعيل بن عبدالله قال: حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ليس المسكين الّذي يطوف على النّاس، تردّه اللّقمة واللّقمتان، والتّمرة والتّمرتان، ولكن المسكين الّذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدّق عليه، ولا يقوم فيسأل النّاس)).
103- حدثنا عمر بن حفص بن غياث حدثنا أبي حدثنا الأعمش حدثنا أبوصالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لأن يأخذ أحدكم حبله، ثمّ يغدو -أحسبه قال-: إلى الجبل فيحتطب، فيبيع فيأكل ويتصدّق، خير له من أن يسأل النّاس)).
تحريم السؤال لغير حاجة
104- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص4): ثنا أسود بن عامر ثنا أبوبكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال عمر: يا رسول الله لقد سمعت فلانًا وفلانًا يحسنان الثّناء، يذكران أنّك أعطيتهما دينارين. قال: فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لكنّ والله فلانًا ماهو كذلك، لقد أعطيته من عشرة إلى مائة فما يقول ذاك، أما والله إنّ أحدكم ليخرج مسألته من عندي يتأبّطها -يعني تكون تحت إبطه- نارًا)). قال: قال عمر: يا رسول الله لم تعطيها إيّاهم؟ قال: ((فما أصنع، يأبون إلا ذاك، ويأبى الله لي البخل)).
هذا حديث صحيح، رجاله رجال الصحيح.
وأخرجه الإمام أحمد أيضًا ص(16): فقال: ثنا يحيى بن آدم ثنا أبوبكر عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال عمر: يا رسول الله سمعت فلانًا يقول خيرًا، ذكر أنّك أعطيته دينارين. قال: ((لكن فلان لا يقول ذلك، ولا يثني به، لقد أعطيته ما بين العشرة إلى المائة -أو قال: إلى المائتين- وإنّ أحدهم ليسألني المسألة فأعطيها إيّاه، فيخرج بها متأبّطها، وما هي لهم إلا نار))، قال عمر: يا رسول الله فلم تعطيهم؟ قال: ((إنّهم يأبون إلا أن يسألوني، ويأبى الله لي البخل)).
105- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص165): ثنا يحيى بن آدم ويحيى بن أبي بكير قال : ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من سأل من غير فقر فكأنّما يأكل الجمر)).
ثنا أبوأحمد الزبيري ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن حبشي بن جنادة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من سأل من غير فقر))، فذكر مثله.
هذا حديث صحيح.
106- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص34): حدثنا عبدالله بن محمد النفيلي حدثنا مسكين أخبرنا محمد بن المهاجر عن ربيعة بن يزيد عن أبي كبشة السلولي أخبرنا سهل بن الحنظلية قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، فسألاه فأمر لهما بما سألا، وأمر معاوية فكتب لهما بما سألا، فأمّا الأقرع فأخذ كتابه فلفّه في عمامته وانطلق، وأمّا عيينة فأخذ كتابه وأتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم مكانه، فقال: يامحمّد أتراني حاملاً إلى قومي كتابًا لا أدري ما فيه كصحيفة المتلمّس. فأخبر معاوية بقوله رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من سأل وعنده ما يغنيه، فإنّما يستكثر من النّار)).
وقال النفيلي في موضع آخر: ((من جمر جهنّم)) فقالوا: يارسول الله وما يغنيه؟. وقال النفيلي في موضع آخر: وما الغنى الّذي لا تنبغي معه المسألة؟ قال: ((قدر ما يغدّيه ويعشّيه)). وقال النفيلي في موضع آخر: أن يكون له شبع يوم وليلة، أو ليلة ويوم)).
وكان حدثنا به مختصرًا على هذه الألفاظ التى ذكرت.
هذا حديث صحيح ورجاله رجال الصحيح.
107- وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص180): ثنا علي بن عبدالله حدثني الوليد بن مسلم حدثني عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: حدثني ربيعة بن يزيد قال: حدثني أبوكبشة السلولي أنّه سمع سهل بن الحنظليّة الأنصاريّ صاحب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّ عيينة والأقرع سألا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم شيئًا، فأمر معاوية أن يكتب به لهما ففعل وختمها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأمر بدفعه إليهما، فأمّا عيينة فقال: ما فيه؟ قال: فيه الّذي أمرت به. فقبّله وعقده في عمامته، كان أحكم الرّجلين، وأمّا الأقرع فقال: أحمل صحيفةً لا أدري ما فيها كصحيفة المتلمّس. فأخبر معاوية رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقولهما، وخرج رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حاجة فمرّ ببعير مناخ على باب المسجد من أوّل النّهار، ثمّ مرّ به آخر النّهار وهو على حاله، قال: ((أين صاحب هذا البعير؟))، فابتغي فلم يوجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اتّقوا الله في هذه البهائم ثمّ اركبوها صحاحًا، واركبوها سمانًا -كالمتسخّط آنفًا- إنّه من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من نار جهنّم)) قالوا: يارسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وما يغنيه؟ قال: ((ما يغدّيه أو يعشّيه)).
هذا حديث صحيح.
108- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص34): حدثنا قتيبة بن سعيد وهشام بن عمار قالا: أخبرنا عبدالرحمن بن أبي الرجال عن عمارة بن غزية عن عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من سأل وله قيمة أوقيّة، فقد ألحف))، فقلت: ناقتي الياقوتة، هي خير من أوقيّة. قال هشام: خير من أربعين درهمًا، فرجعت فلم أسأله شيئًا، زاد هشام في حديثه: وكانت الأوقيّة على عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أربعين درهمًا.
هذا حديث حسن رجاله رجال الصحيح، إلا عبدالرحمن بن أبي الرجال، وقد اختلف قول الأئمة فيه، والظاهر أنه لا ينْزل حديثه عن الحسن والله أعلم.
الحديث أخرجه النسائي (ج5 ص98).
109- قال الإمام الدارمي رحمه الله (ج1 ص474): أخبرنا محمد بن عبدالله الرقاشي ثنا يزيد هو ابن زريع ثنا سعيد عن قتادة عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((من سأل النّاس مسألةً وهو عنها غنيّ، كانت شينًا في وجهه)).
هذا حديث صحيح. وقد أخرجه الإمام أحمد (ج5 ص281).
110- قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "المطالب العالية" (ج3 ص 1044) بتحقيق الأخ: باسم بن طاهر حفظه الله:
وقال أبوبكر: حدثنا عبيدالله بن موسى عن إسرائيل عن منصور عن سالم عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ الّرجل يأتيني منكم فيسألني فأعطيه، فينطلق وما يحمل في حضنه إلاّ النّار)).
صحيح. اهـ.
قال أبوعبدالرحمن: أبوبكر هو عبدالله بن محمد بن أبي شيبة. وسالم هو ابن أبي الجعد.
111- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص119) بشرح النووي: حدثني أبوغسان المسمعي حدثنا معاذ وهو ابن هشام قال حدثني أبي عن يحيى بن أبي كثير قال حدثني أبوقلابة عن ثابت بن الضحاك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((ليس على رجل نذر فيما لا يملك، ولعن المؤمن كقتله، ومن قتل نفسه بشيء في الدّنيا عذّب به يوم القيامة، ومن ادّعى دعوى كاذبةً ليتكثّر بها لم يزده الله إلاّ قلّةً، ومن حلف على يمين صبر فاجرة)).
فضل ترك السؤال
112- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص57): حدثنا عبيدالله بن معاذ أخبرنا أبي أخبرنا شعبة عن عاصم عن أبي العالية عن ثوبان قال: وكان ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((من تكفّل لي أن لا يسأل النّاس شيئًا، فأتكفّل له بالجنّة))؟ فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدًا شيئًا.
هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
الحديث أخرجه النسائي (ج5 ص96)، وابن ماجة (ج1 ص588). أخرجاه من طريق ابن أبي ذئب عن محمد بن قيس عن عبدالرحمن بن يزيد عن ثوبان به.
113- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص513): حدثنا ابن عامر أنا أبوبكر عن هشام عن محمد عن أبي هريرة قال: دخل رجل على أهله فلمّا رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البريّة، فلمّا رأت امرأته، قامت إلى الرّحى فوضعتها، وإلى التّنّور فسجرته، ثمّ قالت: اللّهمّ ارزقنا. فنظرت فإذا الجفنة قد امتلأت، قال: وذهبت إلى التّنّور فوجدته ممتلئًا، قال: فرجع الزّوج، قال: أصبتم بعدي شيئًا؟ قالت امرأته: نعم من ربّنا. قام إلى الرّحى، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال:((أما إنّه لو لم يرفعها، لم تزل تدور إلى يوم القيامة))، شهدت النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يقول: ((والله لأن يأتي أحدكم صبيرًا، ثمّ يحمله يبيعه، فيستعفّ منه، خير له من أن يأتي رجلاً يسأله)).
من تحل له المسألة
114- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص722): حدثنا يحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد كلاهما عن حماد بن زيد قال يحيى: أخبرنا حماد بن زيد عن هارون بن رياب حدثني كنانة بن نعيم العدوي عن قبيصة بن مخارق الهلالي قال: قال تحمّلت حمالةً، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أسأله فيها، فقال: ((أقم حتّى تأتينا الصّدقة، فنأمر لك بها))، قال: ثمّ قال: ((ياقبيصة إنّ المسألة لا تحلّ إلا لأحد ثلاثة: رجل تحمّل حمالةً فحلّت له المسألة حتّى يصيبها، ثمّ يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلّت له المسألة، حتّى يصيب قوامًا من عيش -أو قال: سدادًا من عيش- ورجل أصابته فاقة، حتّى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانًا فاقة. فحلّت له المسألة، حتّى يصيب قوامًا من عيش -أو قال: سدادًا من عيش- فما سواهنّ من المسألة ياقبيصة سحتًا، يأكلها صاحبها سحتًا)).
سؤال السلطان
115- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص48): حدثنا حفص بن عمر النمري أخبرنا شعبة عن عبدالملك بن عمير عن زيد بن عقبة الفزاري عن سمرة عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((المسائل كدوح، يكدح بها الرّجل وجهه، فمن شاء أبقى على وجهه، ومن شاء ترك، إلا أن يسأل الرّجل ذا سلطان أو في أمر لا يجد منه بدًّا)).
هذا حديث صحيح، ورجاله رجال الصحيح إلا عقبة بن زيد الفزاري، وقد وثقه النسائي.
الحديث أخرجه الترمذي (ج3 ص358) وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وأخرجه النسائي (ج5 ص100).
من غضب إذا لم يعط
وقوله تعالى: {ومنهم من يلمزك في الصّدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون * ولو أنّهم رضوا ماءاتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنّا إلى الله راغبون}.
116- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص219): حدثنا يعقوب حدثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني أبوعبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر عن مقسم أبي القاسم مولى عبدالله بن الحارث بن نوفل قال: خرجت أنا وتليد بن كلاب اللّيثيّ حتّى أتينا عبدالله بن عمرو بن العاص وهو يطوف بالبيت معلّقًا نعليه بيده فقلنا له: هل حضرت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين يكلّمه التّميميّ يوم حنين؟ قال: نعم، أقبل رجل من بني تميم يقال له: ذو الخويصرة، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو يعطي النّاس، قال: يامحمّد قد رأيت ماصنعت في هذا اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أجل، فكيف رأيت))؟ قال: لم أرك عدلت، قال: فغضب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثمّ قال: ((ويحك، إن لم يكن العدل عندي، فعند من يكون))؟ فقال عمر بن الخطّاب: يا رسول الله ألا نقتله؟ قال: ((لا، دعوه فإنّه سيكون له شيعة، يتعمّقون في الدّين، حتّى يخرجوا منه، كما يخرج السّهم من الرّميّة، ينظر في النّصل فلا يوجد شيء، ثمّ في القدح فلا يوجد شيء، ثمّ في الفوق فلا يوجد شيء، سبق الفرث والدّم)).
قال أبوعبدالرحمن (هو عبدالله بن أحمد): أبوعبيدة هذا اسمه محمد ثقة، وأخوه سلمة ابن محمد بن عمار، لم يرو عنه إلا علي بن زيد، ولا نعلم خبره، ومقسم ليس به بأس.
هذا حديث حسن.
117- قال أبوداود رحمه الله (ج5 ص32): حدثنا عبدالله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن رجل من بني أسد أنه قال: نزلت أنا وأهلي ببقيع الغرقد، فقال لي أهلي، اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسله لنا شيئًا نأكله. فجعلوا يذكرون من حاجتهم، فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فوجدت عنده رجلاً يسأله، ورسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا أجد ما أعطيك))، فتولّى الرّجل عنه وهو مغضب، وهو يقول: لعمري إنّك لتعطي من شئت. فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يغضب عليّ أن لا أجد ماأعطيه، من سأل منكم وله أوقيّة أو عدلها، فقد سأل إلحافًا))، قال الأسديّ: فقلت: للقحة لنا خير من أوقيّة، والأوقيّة أربعون درهمًا، قال: فرجعت ولم أسأله، فقدم على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد ذلك شعير وزبيب، فقسم لنا منه، أو كما قال، حتّى أغنانا الله عزّ وجلّ.
قال أبوداود: هكذا رواه الثوري، كما قال مالك.
وتقدم حديث أبي هريرة: ((تعس عبدالدّينار، والدّرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط لم يرض)).
وبعد فنصيحتي للدعاة إلى الله، أن يستعفّوا، ولأصحاب الأموال أن يتحرّوا إنفاقها في مصارفها المشروعة، وهكذا نصيحتي للفقراء أن يصبروا، ولا يستثيرنّهم الشيوعيون على المجتمع، ويكونوا سببًا للفتن وسفك دماء المسلمين، وأنصحهم أن يسألوا الله من فضله، والأغنياء الذين لا يؤدون الزكاة أو يؤدونها ولكنها في غير مصرفها إما لضابط دائرة، أو مرور، من أجل إذا حدث عليه أمر يساعده، وهكذا لصوص الدعوة الذين يستغلون الأموال لصالح الحزبيّة.
نسأل الله أن يرزقنا القناعة، وأن يغنينا من فضله، إنه جواد كريم.(/)
إيضاح المقال في أسباب الزلزال والرد على الملاحدة الضلال
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله المعز لأوليائه، والمنتقم من أعدائه، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فقد جرت سنة الله في خلقه أن جعل بعض خلقه لبعض فتنة فجعل منهم المؤمن والكافر، والغني والفقير، والعاقل والسفيه، فكان ذلك من أعظم الأسباب لاختلافهم، كما قال ربنا عز وجل في كتابه الكريم: {ولا يزالون مختلفين إلاّ من رحم ربّك ولذلك خلقهم} .
وقد اختلفوا في الأفهام وفي العلم، وكان مما اختلف فيه أهل العلم وذوي الجهل والزيغ مسألة الزلزال، فأهل العلم قالوا عند أن حدث الزلزال بذمار: ماقررناه في الكتاب، وذوو الجهل والزيغ قالوا: إنه أمر طبيعي. من أجل ذلك ألقيت بعض الخطب ثم رأيت أن أخرجها في رسالة ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة.
إنّ القائلين بأنه أمر طبيعي يبطلون انتقام الله لأوليائه، قال سبحانه وتعالى في قوم صالح في سورة الأعراف: {فعقروا النّاقة وعتوا عن أمر ربّهم وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين * فأخذتْهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * فتولّى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبّون النّاصحين} .
وقال في قوم شعيب في سورة الأعراف: {وقال الملأ الّذين كفروا من قومه لئن اتّبعتم شعيبًا إنّكم إذاً لخاسرون * فأخذتْهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين * الّذين كذبوا شعيبًا كأن لم يغنوا فيها الّذين كذبوا شعيبًا كانوا هم الخاسرين * فتولّى عنهم وقال ياقوم لقد أبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم فكيف آسى على قوم كافرين} .
وقال في سورة العنكبوت في قوم شعيب: {فكذبوه فأخذتْهم الرّجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين}.
وقال تعالى في قوم موسى في سورة الأعراف: {واختار موسى قومه سبعين رجلاً لميقاتنا فلمّا أخذتْهم الرّجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإيّاي أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت وليّنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين}.
وقال سبحانه وتعالى في يوم القيامة: {يوم ترجف الأرض والجبال وكانت الجبال كثيبًا مهيلاً}.
وقال سبحانه تعالى: {يوم ترجف الرّاجفة}.
وقال سبحانه وتعالى: {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها* وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدّث أخبارها * بأنّ ربّك أوحى لها * يومئذ يصدر النّاس أشتاتًا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره}.
وقال سبحانه وتعالى في أول سورة الحج: {ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم إنّ زلزلة السّاعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت وتضع كلّ ذات حمل حملها وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد}.
أبعد هذه الأدلة يجوز للمسلم أن يصغي إلى قول أولئك الملاحدة الذين يعترضون على قدرة الله وحكمته وعدله، آمنا بالله وكفرنا بقول الملاحدة وأذنابهم، وحسبنا الله ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}.
{ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا}.
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولا سديدًا * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وما أرسلنا في قرية من نبيّ إلا أخذنا أهلها بالبأساء والضّرّاء لعلّهم يضّرّعون * ثمّ بدّلنا مكان السّيّئة الحسنة حتّى عفوا وقالوا قد مسّ آباءنا الضّرّاء والسّرّاء فأخذناهم بغتةً وهم لا يشعرون * ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتّقوا لفتحنا عليهم بركات من السّماء والأرض ولكن كذّبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون * أفأمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتًا وهم نائمون * أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحًى وهم يلعبون * أفأمنوا مكر الله فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون}.
وقال سبحانه وتعالى: {وكذلك أخْذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخْذه أليم شديد}.
وفي "الصحيحين" عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ الله ليملي للظّالم حتّى إذا أخذه لم يفلتْه)) قال: ثمّ قرأ: {وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد}.
وقال سبحانه وتعالى: {وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذّبوها عذابًا شديدًا كان ذلك في الكتاب مسطورًا * وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أنْ كذب بها الأوّلون وآتينا ثمود النّاقة مبصرةً فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفًا} .
وقال سبحانه وتعالى: {ربّكم الّذي يزجي لكم الفلك في البحْر لتبتغوا من فضله إنّه كان بكم رحيمًا * وإذا مسّكم الضّرّ في البحر ضلّ من تدعون إلاّ إيّاه فلمّا نجّاكم إلى البرّ أعرضتم وكان الإنسان كفورًا * أفأمنتم أن يخْسف بكم جانب البرّ أو يرسل عليكم حاصبًا ثمّ لا تجدوا لكم وكيلاً * أمْ أمنتم أن يعيدكم فيه تارةً أخرى فيرسل عليكم قاصفًا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثمّ لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا}.
وقال سبحانه وتعالى: {أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الّذين من قبلهم وكانوا أشدّ منهم قوّة وما كان الله ليعجزه من شيء في السّموات ولا في الأرض إنّه كان عليمًا قديرًا * ولو يؤاخذ الله النّاس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابّة ولكن يؤخّرهم إلى أجل مسمًّى فإذا جاء أجلهم فإنّ الله كان بعباده بصيرًا} .
وقال سبحانه وتعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرًا} .
قص الله سبحانه وتعالى علينا في هؤلاء الآيات شأن المكذّبين بالرسل، وما فعل الله بهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.
وفي "الصحيحين" عن جابر رضي الله عنه قال: لمّا نزلت هذه الآية: {قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابًا من فوقكم} قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أعوذ بوجهك))، قال: {أو من تحت أرجلكم} قال: ((أعوذ بوجهك))، {أو يلبسكم شيعًا ويذيق بعضكم بأس بعض} قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هذا أهون أو هذا أيسر)).
ولا تزال العبر تتجدّد وتحدث منذ خلق الله سبحانه وتعالى الأرض إلى زمننا هذا.
وفي هؤلاء الآيات التهديد الأكيد، والوعيد الشديد لمن أعرض عن ما جاء به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
ونحن لا نزال كما قلنا قبل نرى العبر، ونسمع الآيات، ونسمع الحوادث التي تزعج المسلمين، ولكن أعداء الإسلام يجعلون الحوادث حوادث طبيعية من أجل أن يبطلوا آيات الأنبياء، وأن يبطلوا انتقام الله لأنبيائه.
يقول الله سبحانه وتعالى: {إنّ قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إنّ مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوّة إذ قال له قومه لا تفرحْ إنّ الله لا يحبّ الفرحين * وابتغ فيما آتاك الله الدّار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدّنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إنّ الله لا يحبّ المفسدين * قال إنّما أوتيته على علم عندي أولمْ يعلم أنّ الله قد أهْلك من قبله من القرون من هو أشدّ منه قوّة وأكثر جمعًا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون * فخرج على قومه في زينته قال الّذين يريدون الحياة الدّنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنّه لذو حظّ عظيم * وقال الّذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقّاها إلا الصّابرون * فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين * وأصبح الّذين تمنّوا مكانه بالأمس يقولون ويْكأنّ الله يبسط الرّزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويْكأنّه لا يفلح الكافرون}.
وفي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إنّ ثلاثةً في بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى، بدا لله عزّ وجلّ أن يبتليهم، فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن قد قذرني النّاس. قال: فمسحه فذهب عنه، فأعطي لونًا حسنًا وجلدًا حسنًا، فقال: أيّ المال أحبّ إليك؟ قال: الإبل أو قال: البقر -هو شكّ في ذلك إنّ الأبرص والأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الآخر: البقر- فأعطي ناقةً عشراء فقال: يبارك لك فيها، وأتى الأقرع فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عنّي هذا، قد قذرني النّاس. قال: فمسحه فذهب وأعطي شعرًا حسنًا. قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟ قال: البقر، قال: فأعطاه بقرة حاملاً، وقال: يبارك لك فيها، وأتى الأعمى فقال: أيّ شيء أحبّ إليك؟ قال: يردّ الله إليّ بصري، فأبصر به النّاس. قال: فمسحه فردّ الله إليه بصره، قال: فأيّ المال أحبّ إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدًا، فأنتج هذان، وولّد هذا، فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم، ثمّ إنّه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطّعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثمّ بك، أسألك بالّذي أعطاك اللّون الحسن والجلد الحسن والمال، بعيرًا أتبلّغ عليه في سفري. فقال له: إنّ الحقوق كثيرة، فقال له: كأنّي أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك النّاس فقيرًا، فأعطاك الله! فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر، فقال: إن كنت كاذبًا فصيّرك الله إلى ما كنت، وأتى الأقرع في صورته وهيئته، فقال له مثل ما قال لهذا، فردّ عليه مثل ما ردّ عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبًا فصيّرك الله إلى ما كنت، وأتى الأعمى في صورته: فقال رجل مسكين وابن سبيل، وتقطّعت بي الحبال في سفري، فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثمّ بك، أسألك بالّذي ردّ عليك بصرك شاةً أتبلّغ بها في سفري. فقال: قد كنت أعمى فردّ الله بصري، وفقيرًا فقد أغناني، فخذ ما شئت فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنّما ابتليتم، فقد رضي الله عنك وسخط على صاحبيك)).
ويقول الله سبحانه وتعالى: {ياأيّها النّاس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغنيّ الحميد * إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز}.
ورب العزة عند أن ذكر في سورة (اقتربت الساعة) الأنبياء وتكذيب أممهم وما فعل الله بهم من الدّمار، قال: { أكفّاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزّبر}.
ونحن نستطيع أن نقول للشيوعيّين وللبعثيّين وللناصريّين، وللحداثيّين وللعلمانيّين: أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر؟!.
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فكلاً أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ومنهم من أخذته الصّيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون}.
ونحن في بلدنا، وفي يمننا لم تنته بعد فجيعة الزّلزال وضحايا الزّلزال بذمار ، ثم في هذه الأيام الزّلزال بالعدين.
إن المنكرات الموجودة بالعدين هي موجودة بصعدة.
وإن المنكرات الموجودة بالعدين هي المنكرات الموجودة بصنعاء.
وإن المنكرات الموجودة بالعدين هي المنكرات الموجودة بعدن، وبحضرموت، وبغيرها من البلاد، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل لنا عبرةً في بلد إخواننا العدينيّين.
وكثرة الزلازل في آخر الزّمان، تعتبر علمًا من أعلام النبوة، كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في حديث سلمة بن نفيل رضي الله عنه.
والشأن كل الشأن: هل اعتبرنا؟ وهل رجعنا إلى الله؟ أم صرنا كما يقول ربنا عز وجل: {أولا يرون أنّهم يفتنون في كلّ عام مرّة أو مرّتين ثمّ لا يتوبون ولا هم يذّكّرون}.
فهل أنكر اليمنيون (مصنع الخمر)؟ وهل تبرّؤا من الحزبيّة؟ وهل تبرّؤا من الديمقراطية؟ وهل تبرّؤا من الفساد الموجود بين أظهرهم؟ بل هل تبرّؤا من الوحدة مع الشيوعيّين؟ فالأمر يحتاج إلى توبة، وإلى رجوع إلى الله عز وجل: {واتّقوا فتنةً لا تصيبنّ الّذين ظلموا منكم خاصّةً واعلموا أنّ الله شديد العقاب}.
يقول بعض الملاحدة: لا تقل إن الزلزال بسبب الذنوب، فسيصير اليمنيون مذنبين ورب العزة يقول في كتابه الكريم:{وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير}.
ويقول سبحانه وتعالى: {ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إنّ ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحبّ كلّ مختال فخور}.
ويقول: { ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤْمن بالله يهْد قلْبه والله بكلّ شيْء عليم }.
والزّلزال قد يكون للابتلاء كما قال الله تعالى: {ياأيّها الّذين آمنوا استعينوا بالصّبر والصّلاة إنّ الله مع الصّابرين * ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون * ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثّمرات وبشّر الصّابرين * الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
فهل نحن معصومون من الخطأ؟ وهل ننزّل أنفسنا منْزلة الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون؟ بل المنكرات طافحة في المجتمع، وصدق الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذ يقول كما في "صحيح البخاري" من حديث النعمان بن بشير: ((مثل القائم على حدود الله والواقع فيها،كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الّذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرّوا على من فوقهم، فقالوا: لوأنّا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا)).
فالمنكرات والفساد موجودان في البلاد اليمنية، كل يوم وهي تتجسّد، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقد يقول بعض المنحرفين: فما ذنب الأطفال؟ نقول: لقد أخذوا بذنب آبائهم وأهليهم.
ففي "الصحيح" عن عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأوّلهم وآخرهم)) قالت: قلت: يا رسول الله كيف يخسف بأوّلهم وآخرهم، وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: ((يخسف بأوّلهم وآخرهم، ثمّ يبعثون على نيّاتهم)).
وفي "الصحيح" أيضًا من حديث زينب بنت جحش أنّها قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من نومه وهو محمرّ وجهه وهو يقول: ((لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج)) وعقد بيديه عشرة قالت زينب: قلت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصّالحون؟ قال:((إذا كثر الخبث)).
ويقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {واسألهم عن القرية الّتي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السّبت إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرّعًا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم كذلك نبلوهم بما كانوا يفسقون * وإذ قالتْ أمّة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذّبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرةً إلى ربكم ولعلّهم يتّقون * فلمّا نسوا ما ذكّروا به أنجينا الّذين ينهون عن السّوء وأخذنا الّذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون * فلمّا عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين * وإذ تأذن ربّك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب إنّ ربّك لسريع العقاب وإنّه لغفور رحيم * وقطّعناهم في الأرض أممًا منهم الصّالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسّيّئات لعلّهم يرجعون} .
فقد كثر الخبث: مصنع الخمر، والتبرّج والسفور، فالله أعلم ما سيحدث، دع عنك الخصام بين القبائل الذين لا يحكّمون كتاب الله، ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما الذي يسند الأمور إلى الطبيعة ويقول: حوادث طبيعية، فإذا أراد أن الطبيعة هي المتصرفة فهو كافر.
ففي "الصحيحين" عن زيد بن خالد الجهنيّ أنه قال: صلّى لنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم صلاة الصّبح بالحديبية على إثر سماء كانت من اللّيلة، فلمّا انصرف النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقبل على النّاس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربّكمْ))؟ قالوا: الله ورسوله أعلم؟ قال: ((أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأمّا من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأمّا من قال: بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)).
وفي "الصحيحين" عن عائشة وابن عباس وغيرهما رضي الله عنهم، أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ الشّمس والقمر لا يكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنّهما من آيات الله يخوّف الله بهما عباده، فإذا رأيتم كسوفًا فاذكروا الله حتّى ينجليا)).
ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {إنّ الله يمسك السّماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنّه كان حليمًا غفورًا} .
فهل تستطيع أمريكا أن توقف الزّلزال، أو توقف الفيضانات المائيّة، أو تستطيع أن توقف المطر؟ بل لم تستطع في أهون من هذا، وهو علاج مرض ( الإيدز) وعلاج بعض الأمراض الحديثة.
وحسبنا الله ونعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير.
الرد على الملاحدة الذين يسندون الحوادث إلى الطبيعة
قال الله سبحانه وتعالى: {إنّ في خلق السّموات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار والفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع النّاس وما أنزل الله من السّماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبثّ فيها من كلّ دابّة وتصريف الرياح والسّحاب المسخّر بين السّماء والأرض لآيات لقوم يعقلون}.
وقال سبحانه وتعالى: {إنّ في خلق السّموات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار لآيات لأولي الألباب} .
وقال سبحانه وتعالى: {إذ قال الله ياعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيّدتّك بروح القدس تكلّم النّاس في المهد وكهلاً وإذ علّمتك الكتاب والحكمة والتّوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطّين كهيئة الطّير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرًا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبيّنات فقال الّذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين}.
وقال تعالى: {وهو الّذي أنشأ جنّات معروشات وغير معروشات والنّخل والزّرع مختلفًا أكله والزّيتون والرّمّان متشابهًا وغير متشابه كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقّه يوم حصاده ولا تسرفوا إنّه لا يحبّ المسرفين}.
وقال تعالى: {إنّ ربّكم الله الّذي خلق السّموات والأرض في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش يغشي اللّيل النّهار يطلبه حثيثًا والشّمس والقمر والنّجوم مسخّرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين}.
وقال تعالى: {وهو الّذي أنزل من السّماء ماءً فأخرجنا به نبات كلّ شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًّا متراكبًا ومن النّخل من طلعها قنوان دانية وجنّات من أعناب والزّيتون والرّمّان مشتبهًا وغير متشابه انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إنّ في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون} .
وقال تعالى: {وهو الّذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته حتّى إذا أقلّت سحابًا ثقالاً سقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كلّ الثّمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون}.
وقال تعالى: {الله الّذي رفع السّموات بغير عمد ترونها ثمّ استوى على العرش وسخّر الشّمس والقمر كلّ يجري لأجل مسمًّى يدبر الأمر يفصّل الآيات لعلّكم بلقاء ربكم توقنون * وهو الّذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنْهارًا ومن كلّ الثّمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي اللّيل النّهار إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون * وفي الأرض قطع متجاورات وجنّات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضّل بعضها على بعض في الأكل إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون} .
وقال تعالى: {والله أنزل من السّماء ماءً فأحيا به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيةً لقوم يسمعون * وإنّ لكم في الأنعام لعبرةً نسقيكم ممّا في بطونه من بين فرث ودم لبنًا خالصًا سائغًا للشّاربين * ومن ثمرات النّخيل والأعناب تتّخذون منه سكرًاورزقًا حسنًا إنّ في ذلك لآيةً لقوم يعقلون * وأوحى ربّك إلى النّحل أن اتّخذي من الجبال بيوتًا ومن الشّجر وممّا يعرشون * ثمّ كلي من كلّ الثّمرات فاسلكي سبل ربك ذللاً يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للنّاس إنّ في ذلك لآيةً لقوم يتفكّرون}.
وقال تعالى: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم اللّيل سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون * قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النّهار سرمدًا إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون * ومن رحمته جعل لكم اللّيل والنّهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون}.
وقال سبحانه وتعالى: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون * ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمةً إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكّرون * ومن آياته خلق السّموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالمين * ومن آياته منامكم باللّيل والنّهار وابتغاؤكم من فضله إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون * ومن آياته يريكم البرق خوفًا وطمعًا وينزّل من السّماء ماءً فيحي به الأرض بعد موتها إنّ في ذلك لآيات لقوم يعقلون} .
وقال تعالى: {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون * أولم يروا أنّا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعًا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون}.
وقال تعالى: {والله خلقكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ جعلكم أزواجًا وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه وما يعمّر من معمّر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إنّ ذلك على الله يسير * وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كلّ تأكلون لحمًا طريًّا وتستخرجون حليةً تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلّكم تشكرون} .
وقال تعالى: {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبًّا فمنه يأكلون * وجعلنا فيها جنّات من نخيل وأعناب وفجّرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون * سبحان الّذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض ومن أنفسهم وممّا لا يعلمون * وآية لهم اللّيل نسلخ منه النّهار فإذا هم مظلمون * والشّمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدّرناه منازل حتّى عاد كالعرجون القديم * لا الشّمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا اللّيل سابق النّهار وكلّ في فلك يسبحون * وآية لهم أنّا حملنا ذريّتهم في الفلك المشحون * وخلقنا لهم من مثله ما يركبون * وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمةً منّا ومتاعًا إلى حين} .
وقال تعالى: {هو الّذي خلقكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ يخرجكم طفلاً ثمّ لتبلغوا أشدّكم ثمّ لتكونوا شيوخًا ومنكم من يتوفّى من قبل ولتبلغوا أجلاً مسمًّى ولعلّكم تعقلون}.
وقال تعالى: {ومن آياته أنّك ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربتْ إنّ الّذي أحياها لمحيي الموتى إنّه على كلّ شيء قدير} .
وقال تعالى: {إنّ في السّموات والأرض لآيات للمؤمنين * وفي خلقكم وما يبثّ من دابّة آيات لقوم يوقنون * واختلاف اللّيل والنّهار وما أنزل الله من السّماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون}.
وقال تعالى: {الّذي خلق سبْع سموات طباقًا ما ترى في خلق الرّحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور * ثمّ ارجع البصر كرّتين ينقلبْ إليك البصر خاسئًا وهو حسير * ولقد زيّنّا السّماء الدّنيا بمصابيح وجعلناها رجومًا للشّياطين وأعتدنا لهم عذاب السّعير} .
وقال تعالى: {إنّ الله يمْسك السّموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنّه كان حليمًا غفورًا}.
وقال تعالى: { أولم يروا إلى الطّير فوقهم صافّات ويقْبضن ما يمسكهنّ إلا الرّحمن إنّه بكلّ شيء بصير}.
وقال سبحانه وتعالى: { فلينظر الإنسان إلى طعامه * أنّا صببنا الماء صبًّا * ثمّ شققنا الأرض شقًّا * فأنبتنا فيها حبًّا * وعنبًا وقضبًا * وزيتونًا ونخلاً * وحدائق غلبًا * وفاكهةً وأبًّا * متاعًا لكم ولأنعامكم} .
إنك إذا تدبّرت هذه الآيات علمت أن الملاحدة ليسوا بعقلاء ولا بذوي سمع وبصر وفكر، ويقال للملاحدة الذين يسندون الأشياء إلى الطبيعة: هل هذه الطبيعة خالقة أم مخلوقه؟ قال الله سبحانه وتعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}.
لما كان العرب الذين نزل القرآن في عصرهم يفهمون الألفاظ العربية، قال جبير بن مطعم -وكان آنذاك مشركًا-: لما سمعت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقرأ: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون}. قال: كاد قلبي أن يطير، وفي رواية: فوقع الإيمان في قلبي.
أما هؤلاء فذاك أعجميّ، وذاك مخمور العقل، وذاك مخدّر بآلات الّلهو والطّرب، وذاك مخدّر بالفتيات الفاتنات، وذاك بليد، وذاك مشغول ببطنه، وصدق الله إذ يقول في وصفهم بأنّهم لا يعقلون ولا يسمعون ولا يهتدون ولا يتفكرون.
إنه يقال لهم: مال هذه الطبيعة لا تخلق الآن جبالاً، ولا تخلق للناس زرعًا عند حاجتهم إليه؟ {كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلاّ كذبًا}.
أليس البعرة تدل على البعير؟ والأثر يدل على المسير؟ فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدل على اللطيف الخبير؟! ونسألهم: هل تستطيع الطبيعة أن تعلم ما في صدر المخلوق؟ وهل تستجيب للدعاء؟ أما الله سبحانه وتعالى فإنه يخبر نبيّه ببعض ما في صدور عباده، كما في دلائل النبوة.
والمسلم يدعو الله فيستجيب له ويرى الإجابة أمامه. فهل تستطيع الطبيعة أن تجيب الدعاء؟ وهل تستطيع الطبيعة أن تكثّر الماء القليل الذي هو قدر صاع حتى يروي ويتوضأ منه الخلق الكثير؟ وهل تستطيع الطبيعة أن تكثّر الطعام القليل الذي لا يكفي ثلاثة فيكفي الخلق الكثير، وقد أجْري هذا الخير الكثير وغيره على يدي نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما ذكرناه في "الصحيح المسند من دلائل النبوة".
هل تستطيع الطبيعة أن تخالف سنة الله أو أن تخلق إنسانًا لا ينام؟ هؤلاء الطبائعيون أشبه بالحمر.
ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون}.
فهم لو نظروا في تصرف الله فيهم، وفي قلوبهم وإرادتهم لما كابروا، فليأمروا الطبيعة أن تخلق لنا إنسانًا لا يبول ولا يتغوط !! أولست تريد أمرًا وتصمم عليه ويريد الله أمرًا غيره فتنصرف إلى ما يريده الله؟ وهذا أمر يحس به كل أحد منا، ولكن صدق الله إذ يقول: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} .
العاقل تتوارد على قلبه الدلائل الإلهية حتى إنه لا يدري بأيّها يبدأ كما قيل:
فيا عجبًا كيف يعصى الإله وفي كلّ شيء له آية أم كيف يجحده الجاحد تدلّ على أنه الواحد
نحن نأسف لبعض الملاحدة المخذولين الذين منّ الله عليهم وجعلهم من ذوي اللسان العربي ثم لا يشكرون الله على هذه النعمة، ويتّبعون أناسًا كالأنعام بل هم أضل، ذاك كوبي، وذاك روسي، أعاجم لا يفهمون الإسلام على حقيقته ولا يفهمون قول الله ولا قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولعل بعضهم لم يبلغه الإسلام على حقيقته.
جدير بأبناء اليمن أن لا يودّعوا عقولهم لماركس ولينين ومن جرى مجراهم من أئمة الضلال، فأنتم أيها اليمنيون لكم مواقف طيّبة في الدفاع عن الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وفي الفتوحات الإسلامية، ثم بعد هذا تلحقون بأنفسكم الخزي وتحرمون نعيم الجنة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
أي خير تحرمونه أيها الملاحدة؟ وأي خطر تعرّضون له أنفسكم؟ إنّها النار التي وقودها الناس والحجارة، وهناك لا تنفع المكابرة ولا ينفعك ماركس ولينين، بل يكونان أمامك في النار أعاذنا الله وإياكم من عمى البصيرة، وثبّتنا بالقول الثابت في الدنيا والآخرة وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والملاحدة الذين يقولون: حوادث طبيعية. ينكرون القيامة، كبرت كلمةً تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.
قال الله سبحانه وتعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا * فيذرها قاعًا صفصفًا * لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا}.
وقال سبحانه وتعالى: {بسم الله الرحمن الرحيم * إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها * وقال الإنسان ما لها * يومئذ تحدّث أخبارها * بأنّ ربّك أوحى لها * يومئذ يصدر النّاس أشتاتًا ليروا أعمالهم * فمن يعمل مثقال ذرّة خيرًا يره * ومن يعمل مثقال ذرّة شرًّا يره}.
وقال سبحانه وتعالى: {ياأيّها النّاس إن كنتم في ريب من البعث فإنّا خلقناكم من تراب ثمّ من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة مخلّقة وغير مخلّقة لنبيّن لكم ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمًّى ثمّ نخرجكم طفلاً ثمّ لتبلغوا أشدّكم ومنكم من يتوفّى ومنكم من يردّ إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزّت وربتْ وأنبتت من كلّ زوج بهيج * ذلك بأنّ الله هو الحقّ وأنّه يحي الموتى وأنّه على كلّ شيء قدير * وأنّ السّاعة آتية لا ريب فيها وأنّ الله يبعث من في القبور * ومن النّاس من يجادل في الله بغير علم ولا هدًى ولا كتاب منير * ثاني عطفه ليضلّ عن سبيل الله له في الدّنيا خزي ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق}.
وقال سبحانه وتعالى: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثمّ جعلناه نطفةً في قرار مكين * ثمّ خلقنا النّطفة علقةً فخلقنا العلقة مضغةً فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثمّ أنشأناه خلقًا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين * ثمّ إنّكم بعد ذلك لميّتون * ثمّ إنّكم يوم القيامة تبعثون}.
وقال سبحانه وتعالى: {أولم ير الإنسان أنّا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين * وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحي العظام وهي رميم * قل يحييها الّذي أنشأها أوّل مرّة وهو بكلّ خلق عليم * الّذي جعل لكم من الشّجر الأخضر نارًا فإذا أنتم منه توقدون * أوليس الّذي خلق السّموات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاّق العليم * إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون * فسبحان الّذي بيده ملكوت كلّ شيء وإليه ترجعون} .
وقال سبحانه وتعالى: { بسم الله الرحمن الرحيم * ق * والقرآن المجيد * بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافر ون هذا شيء عجيب * أئذا متنا وكنّا ترابًا ذلك رجع بعيد * قد علمنا ما تنقص الأرض منهم وعندنا كتاب حفيظ * بل كذّبوا بالحقّ لمّا جاءهم فهم في أمر مريج * أفلم ينظروا إلى السّماء فوقهم كيف بنيناها وزيّنّاها وما لها من فروج * والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كلّ زوج بهيج * تبصرة وذكرى لكلّ عبد منيب * ونزّلنا من السّماء ماءً مباركًا فأنبتنا به جنّات وحبّ الحصيد * والنّخل باسقات لها طلع نضيد * رزقًا للعباد وأحيينا به بلدةً ميتًا كذلك الخروج}.
وقال سبحانه وتعالى: {وكانوا يقولون أئذا متنا وكنّا ترابًا وعظامًا أئنّا لمبعوثون * أو آباؤنا الأوّلون * قل إنّ الأوّلين والآخرين * لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم * ثمّ إنّكم أيّها الضّالّون المكذّبون * لآكلون من شجر من زقّوم * فمالئون منها البطون * فشاربون عليه من الحميم * فشاربون شرب الهيم * هذا نزلهم يوم الدّين * نحن خلقناكم فلولا تصدّقون * أفرأيتم ما تمنون * أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون * نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين * على أن نبدّل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون * ولقد علمتم النّشأة الأولى فلولا تذكّرون * أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزّارعون * لو نشاء لجعلناه حطامًا فظلتم تفكّهون * إنّا لمغرمون * بل نحن محرومون * أفرأيتم الماء الّذي تشربون * أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون * لو نشاء جعلناه أجاجًا فلولا تشكرون * أفرأيتم النّار الّتي تورون * أأنتم أنشأتم شجرتها أم نحن المنشئون * نحن جعلناها تذكرة ومتاعًا للمقوين * فسبّح باسم ربّك العظيم}.
وقال سبحانه وتعالى: {فلولا إذا بلغت الحلقوم * وأنتم حينئذ تنظرون * ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون * فلولا إن كنتم غير مدينين * ترجعونها إن كنتم صادقين}.
وقال سبحانه وتعالى: { بسم الله الرحمن الرحيم * لا أقسم بيوم القيامة * ولا أقسم بالنّفس اللّوّامة * أيحسب الإنسان ألّن نجمع عظامه * بلى قادرين على أن نسوّي بنانه * بل يريد الإنسان ليفجر أمامه * يسأل أيّان يوم القيامة * فإذا برق البصر * وخسف القمر * وجمع الشّمس والقمر * يقول الإنسان يومئذ أين المفرّ * كلا لاوزر * إلى ربّك يومئذ المستقرّ * ينبّأ الإنسان يومئذ بما قدّم وأخّر}.
وقد سمّى الله القيامة بالحاقة، والواقعة، والطامة، والصاخة، والنبأ العظيم. ولو حصرتْ آيات البعث لكانت كتابًا مستقلاً، وما أحوج القارئ إلى تدبّرها من كتاب الله، وأما السّنة فقد ألّف الحافظ البيهقي كتابًا في البعث.
فالمؤمن إذا آمن بالبعث وبالميزان والصراط والجنة والنار، وعلم أنه مسئول عن عمله؟ انكفّ عن المعاصي وأقبل على الطاعات، وأيضًا يصبر على المظالم إذا ظلم ويعلم أن تلك المظالم ستلقاه عند الله.
أما الملاحدة فإنّهم ينكرون البعث لإشباع رغباتهم البهيمية، وأيضًا البعث يدعو إلى الإيمان بالله وهم لا يريدون أن يؤمنوا إلا بالإلحاد.
قتلوا الأنفس البريئة المسلمة، وأخذوا أموال المسلمين ظلمًا وقهرًا، وهتكوا الأعراض، وأفسدوا البلاد والعباد، وهم أيضًا يزيّنون ذلك، وإذا عجزوا عن مقاومة قبيلة أرسلوا من يسمّم لهم المياه، فتنوا بحب السلطة الجائرة الظالمة، وغطّى الخمر على عقولهم عن تدبر الآيات التي فيها البعث والجزاء والحساب، ثم يشكّكون الناس بشبه داحضة من تلبيس إبليس، فإبليس في هذا الموضع أقل منهم مكابرة: {قال ربّ فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنّك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم} .
ويقول الشيطان يوم القيامة ما حكاه الله عنه بقوله: {وقال الشّيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخيّ إنّي كفرت بما أشركتموني من قبل إنّ الظّالمين لهم عذاب أليم} .
والملاحدة الذين لا يؤمنون بالبعث أقل من القليل، وغالب أتباعهم إمّا أن يتّبعوهم خوفًا منهم، وإمّا عدم مبالاة بالدّين، إني أذكّر الجميع بقوله تعالى: {وبرزوا لله جميعًا فقال الضّعفاء للّذين استكبروا إنّا كنّا لكم تبعًا فهل أنتم مغنون عنّا من عذاب الله من شيء قالوا لو هدانا الله لهديناكم سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص} .
وبقوله تعالى: {ولو ترى إذ الظّالمون موقوفون عند ربّهم يرجع بعضهم إلى بعض القول يقول الّذين استضعفوا للّذين استكبروا لولا أنتم لكنّا مؤمنين * قال الّذين استكبروا للّذين استضعفوا أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم بل كنتم مجرمين * وقال الّذين استضعفوا للّذين استكبروا بل مكر اللّيل والنّهار إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادًا وأسرّوا النّدامة لمّا رأوا العذاب وجعلنا الأغلال في أعناق الّذين كفروا هل يجزون إلا ما كانوا يعملون} .
وقال تعالى: {ولو يرى الّذين ظلموا إذ يرون العذاب أنّ القوّة لله جميعًا وأنّ الله شديد العذاب * إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا من الّذين اتّبعوا ورأوا العذاب وتقطّعت بهم الأسباب * وقال الّذين اتّبعوا لو أنّ لنا كرّة فنتبرّأ منهم كما تبرّؤا منّا كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النّار} .
هؤلاء الملاحدة رءوس الكفر والضلال سيتبرّءون من أتباعهم يوم القيامة.
والآيات التي ذكرناها في البعث والنشور كافية لمن أراد الله هدايته، ومن يضلل فما له من هاد.
ثم وجدت للحافظ ابن القيم رحمه الله كلامًا قيمًا حول الطبيعة في "مفتاح دار السعادة" (ج2 ص 194) بتحقيق أخينا الفاضل: علي بن حسن بن علي بن عبدالحميد حفظه الله، قال رحمه الله:
كرر النظر في نفسك فارجع الآن إلى نفسك، وكرر النظر فيك، فهو يكفيك.
وتأمل أعضاءك وتقدير كل عضو منها للأرب والمنفعة المهيأ لها: فاليدان للعلاج والبطش والأخذ والإعطاء والمحاربة والدفع، والرجلان لحمل البدن والسعي والركوب وانتصاب القامة، والعينان للاهتداء والجمال والزينة والملاحة ورؤية ما في السموات والأرض وآياتهما وعجائبهما، والفم للغذاء والكلام والجمال وغير ذلك، والأنف للنّفس وإخراج فضلات الدماغ وزينةً للوجه، واللسان للبيان والترجمة عنك، والأذنان صاحبتا الأخبار تؤدّيانها إليك، واللسان يبلّغ عنك، والمعدة خزانة يستقر فيها الغذاء فتنضجه وتطبخه، وتصلحه إصلاحًا آخر وطبخًا آخر غير الإصلاح والطبخ الذي توليته من خارج، فأنت تعاني إنضاجه وطبخه وإصلاحه حتى تظن أنه قد كمل، وأنه قد استغنى عن طبخ آخر وإنضاج آخر، وطبّاخه الداخل ومنضجه يعاني من نضجه وطبخه ما لا تهتدي إليه ولا تقدر عليه، فهو يوقد عليه نيرانًا تذيب الحصى وتذيب ما لا تذيبه النار، وهي في ألطف موضع منك لا تحرقك ولا تلتهب عليك، وهي أشد حرارةً من النار، وإلا فما يذيب هذه الأطعمة الغليظة الشديدة جدًّا حتى يجعله ماءً ذائبًا! وجعل الكبد للتّخليص وأخذ صفو الغذاء وألطفه، ثم رتّب منها مجاري وطرق يسوق بها الغذاء إلى كل عضو وعظم وعصب ولحم وشعر وظفر، وجعل المنافذ والأبواب لإدخال ما ينفعك وإخراج ما يضرك. وجعل الأوعية المختلفة خزائن تحفظ مادة حياتك: فهذه خزانة للطعام، وهذه خزانة للحرارة، وهذه خزائن للدم، وجعل منها خزائن مؤديات لئلا تختلط بالخزائن الأخر، فجعل خزائن للمرة السوداء، وأخرى للمرة الصفراء، وأخرى للبول، وأخرى للمني.
فتأمل حال الطعام في وصوله إلى المعدة، وكيف يسري منها في البدن، فإنه إذا استقر فيها اشتملت عليه وانضمت، فتطبخه وتجيد صنعتة، ثم تبعثه إلى الكبد في مجار دقاق، وقد جعل بين الكبد وبين تلك المجاري غشاء كالمصفاة الضيّقة الأبخاش تصفّيه، فلا يصل إلى الكبد منة شيء غليظ خشن، فينكؤها لأن الكبد رقيقة لا تحمل الغليظ، فإذا قبلته الكبد أنفذته إلى البدن كله في مجار مهيأة له بمنْزلة المجاري المعدة للماء ليسلك في الأرض فيعمها بالسقي، ثم يبعث ما بقي من الخبث والفضول إلى مغايض ومصارف قد أعدّت لها، فما كان من مرّة صفراء بعثت به إلى المرارة، وما كان من مرّة سوداء بعثت به إلى الطحال، وما كان من الرطوبة المائية بعثت به إلى المثانة.
فمن ذا الذي تولى ذلك كله وأحكمه ودبّره وقدّره فأحسن تقديره؟.
وكأني بك أيها المسكين تقول: هذا كله من فعل الطبيعة، وفي الطبيعة عجائب وأسرار فلو أراد الله أن يهديك لسألت نفسك بنفسك، وقلت: أخبريني عن هذه الطبيعة، أهي ذات قائمة بنفسها لها علم وقدرة على هذه الأفعال العجيبة؟ أم ليست كذلك؟ بل عرض وصفة قائمة بالمطبوع تابعة له محمولة فيه.
فإن قالت لك: بل من ذات قائمة بنفسها، لها العلم التام والقدرة والإرادة والحكمة.
فقل لها: هذا هو الخالق البارئ المصوّر، فلم تسمّيه طبيعةً!؟ ويالله من ذكر الطبائع ومن يرغب فيها! فهلاّ سميته بما سمّى به نفسه على ألسن رسله ودخلت في جملة العقلاء والسعداء، فإن هذا الذي وصفت به الطبيعة صفته تعالى.
وإن قالت لك: بل الطبيعة عرض محمول مفتقر إلى حامل، وهذا كله فعلها بغير علم منها ولا إرادة ولا قدرة ولا شعور أصلاً، وقد شوهد من آثارها ما شوهد!
فقل لها: هذا ما لا يصدقه ذو عقل سليم، كيف تصدر هذه الأفعال العجيبة والحكم الدقيقة التي تعجز عقول العقلاء عن معرفتها وعن القدرة عليها ممن لا عقل له ولا قدرة ولا حكمة ولا شعور؟ وهل التصديق بمثل هذا إلا دخول في سلك المجانين والمبرسمين.
ثم قل لها بعد: ولو ثبت لك ما ادّعيت، فمعلوم أن مثل هذه الصفة ليست بخالقة لنفسها ولا مبدعة لذاتها، فمن ربها ومبدعها وخالقها؟ ومن طبعها وجعلها تفعل ذلك؟ فهي إذاً من أدلّ الدلائل على بارئها وفاطرها وكمال قدرته وعلمه وحكمته، فلم يجد بك تعطيلك رب العالم وجحْدك لصفاته وأفعاله إلا مخالفتك العقل والفطرة.
ولو حاكمناك إلى الطبيعة لأريناك أنك خارج عن موجبها، فلا أنت مع موجب العقل ولا الفطرة ولا الطبيعة ولا الإنسانية أصلاً، وكفى بذلك جهلاً وضلالاً، فإن رجعت إلى العقل وقلت: لا يوجد حكمة إلا من حكيم قادر عليم، ولا تدبير متقن إلا من صانع قادر مختار مدبّر عليم بما يريد قادر عليه، لا يعجزه ولا يصعب عليه ولا يؤوده.
قيل لك: فإذا أقررت -ويحك- بالخلاّق العظيم الذي لا إله غيره، ولا رب سواه فدع تسميته طبيعة أو عقلاً فعالاً أو موجبًا بذاته، وقل: هذا هو الله الخالق البارئ المصور رب العالمين وقيّوم السموات والأرضين ورب المشارق والمغارب الذي أحسن كل شيء خلقه وأتقن ما صنع، فما لك جحدت أسماءه وصفاته بل وذاته.
وأضفت صنعه إلى غيره وخلقه إلى سواه، مع أنك مضطّر إلى الإقرار به وإضافة الإبداع والخلق والربوبية والتدبير إليه ولا بد، فالحمد لله رب العالمين.
على أنك لو تأملت قولك: (طبيعة) ومعنى هذه اللفظة، لدلك على الخالق البارئ لفظها كما دل العقول عليه معناها، لأن (طبيعة) فعيلة بمعنى مفعولة، أي: مطبوعة، ولا يحتمل غير هذا البتّة، لأنّها على بناء الغرائز التي ركّبت في الجسم ووضعت فيه كالسجيّة والغريزة والبحيرة والسليقة والطبيعة، فهي التي طبع عليها الحيوان وطبعت فيه.
ومعلوم أن طبيعةً من غير طابع لها محال، فقد دل لفظ الطبيعة على الباري تعالى كما دل معناها عليه.
والمسلمون يقولون: إن الطبيعة خلق من خلق الله مسخّر مربوب، وهي سنته في خليقته التي أجراها عليه، ثم إنه يتصرف فيها كيف شاء وكما شاء، فيسلبها تأثيرها إذا أراد ويقلب تأثيرها إلى ضده إذا شاء ليري عباده أنه وحده البارئ المصور، وأنه يخلق ما يشاء كما يشاء: {إنّما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون}.
وأن الطبيعة التي انتهى نظر الخفافيش إليها إنما هي خلق من خلقه بمنزلة سائر مخلوقاته.
فكيف يحسن بمن له حظ من إنسانية أو عقل أن ينسى من طبعها وخلقها ويحيل الصنع والإبداع عليها؟!
ولم يزل الله سبحانه يسلبها قوتها ويحيلها ويقلبها إلى ضد ما جعلت له حتى يري عباده أنّها خلقه وصنعه مسخرة بأمره: {ألا له الخلق والأمر تبارك الله ربّ العالمين}. اهـ
وقال رحمه الله (ج2 ص213):
من أين للطبيعة هذا الاختلاف والفرق الحاصل في النوع الإنساني بين صورهم؟ فقلّ أن يرى اثنان متشابهان من كل وجه، وذلك من أندر ما في العالم، بخلاف أصناف الحيوان كالنعم والوحوش والطير وسائر الدواب، فإنك ترى السّرب من الظّباء، والثلّة من الغنم، والذود من الإبل، والصوار من البقر، تتشابه حتى لا يفرق بين أحد منها وبين الآخر إلا بعد طول تأمّل أو بعلامة ظاهرة، والناس مختلفة صورهم وخلقتهم، فلا يكاد اثنان منهم يجتمعان في صفة واحدة وخلقة واحدة، بل ولا صوت واحد ولا حنجرة واحدة.
والحكمة البالغة في ذلك أن الناس يحتاجون إلى أن يتعارفوا بأعيانهم وحلاهم، لما يجري بينهم من المعاملات، فلولا الفرق والاختلاف في الصور لفسدت أحوالهم، وتشتت نظامهم، ولم يعرف الشاهد من المشهود عليه، ولا المدين من ربّ الدّيْن، ولا البائع من المشتري، ولا كان الرجل يعرف عرْسه من غيرها للاختلاط، ولا هي تعرف بعلها من غيره، وفي ذلك أعظم الفساد والخلل، فمن الذي ميّز بين حلاهم وصورهم وأصواتهم، وفرّق بينها بفروق لا تنالها العبارة ولا يدركها الوصف؟!
فسل المعطل: أهذا فعل الطبيعة؟ وهل في الطبيعة اقتضاء هذا الاختلاف والافتراق في النوع؟
وأين قول الطبائعيين: إن فعلها متشابه لأنّها واحدة في نفسها، لا تفعل بإرادة ولا مشيئة، فلا يمكن اختلاف أفعالها!
فكيف يجمع المعطل بين هذا وهذا؟!
{فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} .
وربما وقع في النوع الإنساني تشابه بين اثنين لا يكاد يميز بينهما، فتعظم عليهم المؤنة في معاملتهما، وتشتد الحاجة إلى تمييز المستحق منهما والمؤاخذ بذنبه ومن عليه الحق، وإذا كان يعرض هذا في التشابه في الأسماء كثيرًا ويلقى الشاهد والحاكم من ذلك ما يلقى، فما الظن لو وضع التشابه في الخلقة والصورة؟!
ولما كان الحيوان البهيم والطير والوحوش لا يضرها هذا التشابه شيئًا لم تدع الحكمة إلى الفرق بين كل زوجين منها، فتبارك الله أحسن الخالقين الذي وسعت حكمته كل شيء. اهـ
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلّم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا كثيرًا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن في قصص المتقدمين، وما أنزل الله بهم من غضبه وعقابه بسبب إعراضهم عن ما جاءت به رسلهم عبرةً وعضة.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وكأيّن من قرية عتت عن أمْر ربّها ورسله فحاسبناها حسابًا شديدًا وعذّبناها عذابًا نكرًا} .
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {فأمّا ثمود فأهلكوا بالطّاغية * وأمّا عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية * سخّرها عليهم سبع ليال وثمانية أيّام حسومًا فترى القوم فيها صرعى كأنّهم أعجاز نخل خاوية * فهل ترى لهم من باقية}.
وقال تعالى حاكيًا عن موسى: {وقال موسى ربّنا إنّك آتيت فرعون وملأه زينةً وأموالاً في الحياة الدّنيا ربّنا ليضلّوا عن سبيلك ربّنا اطمس على أموالهم واشْدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتّى يروا العذاب الأليم}.
وقال تعالى حاكيًا عن قوم يونس: {فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لمّا آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدّنيا ومتّعناهم إلى حين}.
وقال تعالى: {ونخوّفهم فما يزيدهم إلا طغيانًا كبيرًا}.
فقصص الأولين تعتبر عبرة لنا وزاجرًا لنا، أن نرد شيئًا مما جاء به نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فعلينا أن نتوب إلى الله.
وقصة الثلاثة النفر الذين انطبقت عليهم الصخرة ثم فرجت عنهم بسبب أن تضرعوا إلى الله سبحانه وتعالى بصالح أعمالهم.
ففي "الصحيحين" عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((بينما ثلاثة نفر ممّن كان قبلكم، إذ أصابهم مطر، فأووا إلى غار فانطبق عليهم. فقال بعضهم لبعض: إنّه والله يا هؤلاء لا ينجيكم إلا الصّدق، فليدْع كلّ رجل منكم بما يعلم أنّه قد صدق فيه. فقال واحد منهم: اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أجير عمل لي على فرق من أرزّ فذهب وتركه، وأنّي عمدّت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أنّي اشتريت منه بقرًا، وأنّه أتاني يطلب أجره، فقلت له: اعمد إلى تلك البقر فسقها، فقال لي: إنّما لي عندك فرق من أرزّ. فقلت له: اعمد إلى تلك البقر، فإنّها من ذلك الفرق، فساقها. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا. فانساخت عنهم الصّخرة. فقال الآخر: اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي أبوان شيخان كبيران، فكنت آتيهما كلّ ليلة بلبن غنم لي، فأبطأت عليهما ليلةً فجئت وقد رقدا، وأهلي وعيالي يتضاغون من الجوع، فكنت لا أسقيهم حتّى يشرب أبواي، فكرهت أن أوقظهما، وكرهت أن أدعهما فيستكنّا لشربتهما، فلم أزل أنتظر حتّى طلع الفجر. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا. فانساخت عنهم الصّخرة حتّى نظروا إلى السّماء. فقال الآخر: اللهمّ إن كنت تعلم أنّه كان لي ابنة عمّ من أحبّ النّاس إليّ، وأنّي راودّتها عن نفسها فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فطلبتها حتّى قدرْت فأتيتها بها، فدفعتها إليها، فأمكنتني من نفسها، فلمّا قعدت بين رجليها فقالت: اتّق الله ولا تفضّ الخاتم إلا بحقّه، فقمت وتركت المائة الدينار. فإن كنت تعلم أنّي فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنّا. ففرّج الله عنهم فخرجوا)).
فعلينا أن نتضرّع إلى الله أن يحفظ بلدنا، وعلينا أن نتضرّع إلى الله أن ينتقم ممن يريد نشر الفساد والفتن في بلدنا.
فبلاد المسلمين كلها على خطر، والفساد فيها منتشر.
أما أولئك الذين قدّر الله عليهم في هذا الزّلزال بالهدم فإنّهم إذا كانوا صالحين ولم يكونوا شيوعيّين، ولا بعثيّين، ولا ناصريّين، ولا حداثيّين، ولا علمانيّين، فإنّهم شهداء، ففي "الصحيحين" عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ((الشّهداء خمسة -وذكر منهم:- صاحب الهدم)).
لكن من كان متعلقًا بحزبيّة خبيثة كالشيوعيّين وغيرهم، أو كانت له نيّة سوء، فإنه يبعث على نيّته الخبيثة.
فعلينا أن نتوب وأن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الله يقبل التوبة من عبده، وأن نعلن الكفر بما أتانا من قبل أعداء الإسلام مما يخالف دين الإسلام.
فيجب ألا نكون إمّعة، فقد أصبح المسلمون إمّعة، أصبحوا تبعًا: إما لحكامهم، وإما لعلماء السوء: {اتبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون}.
وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتدي، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}
{ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالا كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا}.
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفرْ لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {ولقد أخذنا آل فرعون بالسّنين ونقص من الثّمرات لعلّهم يذكّرون * فإذا جاءتْهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيّئة يطّيّروا بموسى ومن معه ألا إنّما طائرهم عند الله ولكنّ أكثرهم لا يعلمون * وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين * فأرسلنا عليهم الطّوفان والجراد والقمّل والضّفادع والدّم آيات مفصّلات فاستكبروا وكانوا قومًا مجرمين }.
في هؤلاء الآيات المباركات بيان انتقام الله سبحانه وتعالى من الظالمين، إنّها سنة الله في خلقه وإن لله جنودًا: {وما يعلم جنود ربّك إلا هو}.
فجميع ما خلقه الله سبحانه وتعالى هو مسخر لإرادة الله وتحت أمره، فقد يبتلي الله سبحانه وتعالى الناس بالجوع، وأنت إذا قرأت في "المدهش" ص(64-70) لابن الجوزي رحمه الله وجدت أممًا تموت من الجوع.
وفي "مسند الإمام أحمد" عن صهيب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا صلّى همس شيئًا لا نفهمه، ولا يحدّثنا به. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فطنتم لي))؟ قال قائل: نعم. قال: ((فإنّي قد ذكرت نبيًّا من الأنبياء أعطي جنودًا من قومه فقال: من يكافئ هؤلاء، أو من يقوم لهؤلاء، قال: فأوحى الله إليه: اختر لقومك بين إحدى ثلاث: إمّا أن أسلّط عليهم عدوًّا من غيرهم أو الجوع أو الموت. قال: فاستشار قومه في ذلك. فقالوا: أنت نبيّ الله نكل ذلك إليك فخر لنا. قال: فقام إلى صلاته. قال: وكانوا يفزعون إذا فزعوا إلى الصّلاة. قال: فصلّى. قال: أمّا عدوّ من غيرهم فلا، أو الجوع فلا، ولكن الموت. قال: فسلّط عليهم الموت ثلاثة أيّام فمات منهم سبعون ألفًا. فهمسي الّذي ترون أنّي أقول: اللهمّ يا ربّ بك أقاتل وبك أصاول ولا حول ولا قوّة إلا بالله)).
فإذا قرأت في التاريخ تجد أممًا قد ماتت من الجوع، وربما ينتهي بهم الحال إلى أن يأكل بعضهم بعضًا، ومن الذي يستطيع أن يقاوم الله؟ وأن يفرض إرادته على الله سبحانه وتعالى؟!
ومن الأمم أيضًا: من مات بسبب المرض، أو بسبب من الأسباب، بل ربما تنْزل حجارةً من السماء، وكل هذا بسبب الذنوب.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنةً مطمئنّةً يأتيها رزقها رغدًا من كلّ مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون}.
إن هذه الأمة قد ارتكبت الجرائم التي ارتكبتها الأم المتقدمة.
فعلينا أن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى لعله يرحمنا.
ويقول سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {لقد كان لسبإ في مسكنهم آية جنّتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربّكم واشكروا له بلدة طيّبة وربّ غفور * فأعرضوا فأرسلنا عليهم سيل العرم وبدّلناهم بجنّتيهم جنّتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل}.
نذكر هذا حتى لا يغتر أحد بما آتاه الله سبحانه وتعالى: {قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورًا فمن يأتيكم بماء معين}.
{وأحيط بثمره فأصبح يقلّب كفّيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها}.
وهكذا أيضًا جنة أصحاب (ن) وما حدث لها.
فعلينا أن نرجع إلى الله سبحانه وتعالى، فإن عذاب الله شديد، وانتقام الله شديد، فهو وإن كان غفورًا رحيمًا فإنّه شديد العقاب.
علينا أن نرجع إلى الله تعالى قبل أن يحلّ بنا ما حلّ بغيرنا.
فإخواننا (بالعدين) أصبحوا مصرفًا للزكاة، وأصبحوا محتاجين إلى مد يد العون، ولكن أن ترسل مع يد أمينة، أو تذهب بما أعطاك الله من المال إلى أولئك المنكوبين الذين قد حلّت لهم المسألة. فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إن المسألة لا تحلّ إلاّ لثلاثة -وذكر-: رجلاً أصابته جائحة)).
فقد أصابتهم جائحة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
وهذا أمر يعتبر موعظة وذكرى، وهو أن ترى البيوت المهدمة والمشققة إلى غير ذلك، فإن الله سبحانه وتعالى ينتقم لنفسه، فقد أصبح الناس لا ينتقمون لدين الله، ولكن ينتقمون لأنفسهم فالحدود معطلّة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معطّل في كثير من البلاد الإسلامية الذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كما في "سنن أبي داود" من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ((ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي، ثمّ يقدرون على أن يغيّروا، ثمّ لا يغيّروا، إلا يوشك أن يعمّهم الله منه بعقاب)).
وقد أخبرت أن في بعض البلاد المجاورة إذا كان الشخص عنده حملة حطب، قد وضعها عند الباب، أو عنده كبش من الغنم، أو عنده سيارة إلى غير ذلك، فإنه يحتاج إلى أن يحرس هذا، فقلت للأخ: لعلها عصابة؟ قال: لا، ولكن عصابة الجوع.
فعلينا أن نحمد الله سبحانه وتعالى، وأن نؤدي الزكاة، وأن نصل الرحم، ونساعد المنكوب، علينا أن نتقي الله، حتى يحفظنا الله سبحانه وتعالى في أنفسنا وأموالنا، وأولادنا وديننا، لا تقل: أنا ارتكبت ذنبًا صغيرًا ففي الناس من يرتكب الكبائر، لا، ولكن عليك نفسك وإصلاح نفسك، ثم أن تحاول إصلاح الآخرين: {ولولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض لهدّمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرًا ولينصرنّ الله من ينصره إنّ الله لقويّ عزيز * الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة وآتوا الزّكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور}.
فهل هذه الخصال متوفرة فينا؟ وهل هي متوفرة في مسئولينا؟ وهل هي متوفرة في مجتمعاتنا؟: {الّذين إن مكّنّاهم في الأرض أقاموا الصّلاة} فربما تقوم تصلي، وولدك نائم بين الفراش، {وآتوا الزّكاة}، صرفوها في مصارفها الثمانية: {وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} الأمر بالمعروف الذي يعتبر قطب رحى الإسلام، والرحى دائرة عليه، فقد أصبح ميّتا ومعدومًا في يمننا، ولو أنك أمرت بمعروف أو نهيت عن منكر، فأول من يعارضك الشيعة هداهم الله، أو قطع دابرهم.
وسأذكر قصة لا بد من ذكرها، فقد كان الأخ (محمد القعيصي) يدعو يهوديًّا إلى الإسلام، فجاء شاب شيعيّ يدخل بينه وبين اليهودي، والناس مجتمعون، والعساكر محيطون، وإذا هو يريد أن يعارض (القعيصي) فأخذ يده ولطمه حتى خرّ على قفاه، وانتقده الحاضرون كلهم، وقالوا: هذا اللئيم يسوؤه أن يسلم اليهودي.
اللهم عليك بالشيعة فإنّهم وقفوا في وجه الدعوة، وأخّروا الدعوة إلى الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعتبر أمانًا لمجتمعاتنا أصبح ميّتًا، وأصبحت الشيعة يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف. فهم يأمرون بمحاربة أهل السنة وهو منكر، فماذا عمل بهم أهل السنة؟ وهم ينهون عن المعروف الذي هو دعوة أهل السنة إلى كتاب الله، وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. ولسنا ننافسهم على كراسيهم، ولسنا نستحل دماءهم، ولا أعراضهم، ولا أموالهم. فإنا لله وإنا إليه راجعون.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وسلّم تسليمًا كثيرًا. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضّرّاء لعلّهم يتضرّعون * فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرّعوا ولكن قست قلوبهم وزيّن لهم الشّيطان ما كانوا يعملون * فلمّا نسوا ما ذكّروا به فتحنا عليهم أبواب كلّ شيء حتّى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتةً فإذا هم مبلسون * فقطع دابر القوم الّذين ظلموا والحمد لله ربّ العالمين}.
إننا نخشى معشر المسلمين أن يكون ما فتحه الله سبحانه وتعالى على كثير من البلاد استدراجًا من الله سبحانه وتعالى، هل نشكر نعمته أم نكفرها؟
إن المسلمين الآن أصبحوا يهرولون بعد أعداء الإسلام، ويظنون أن أعداء الإسلام تقدّموا بسبب الكفر والإلحاد، وبسبب المعاصي، والواقع أن أعداء الإسلام تقدّموا بسبب جدّهم واجتهادهم.
والمسلمون وخصوصا في الشعب اليمني، الثلثان من الوقت يضيّعونهما، لأن الطيّب منهم يشتغل إلى الظهر، ومن بعد الظهر على الشجرة الأثيمة (القات) إلى الساعة الرابعة من بعد العشاء وقد وجدت بعينيّ من يصلي المغرب والعشاء الساعة الرابعة بعد ما انتهى من مجلس القات ألستم مسئولين عن هذه الأوقات؟!
إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتّى يسْأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم وضعه، وعن علمه ماذا عمل فيه)).
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((احْرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجزْ)).
فينبغي أن تحرص على ما ينفعك في أمر دينك ودنياك، وألاّ تكون كسولاً، وقد استعاذ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالله من العجز والكسل.
شباب في خيرة أعمارهم يضيّعون أوقاتهم في هذه الشجرة الأثيمة. علينا أن نتقي الله، وأن نحرص على تعلّم العلم النافع، ونحرص على صلة الرحم، ونحرص على الإحسان إلى الجار، وقبل هذا كله على تعلم العقيدة الصحيحة.
إذا أردتم أن يرفعكم الله فلا تكونوا إمّعة، فإن الذي يكون إمّعة لا يزال منهزمًا.
انظروا إلى الذين صفّقوا (لصدام) أصبحوا منهزمين نفسيًا.
إن تلك الشجرة الأثيمة أخذت عقول كثير من اليمنيين، وأنتم تعرفون، فبعضهم يذْهب به إلى (تعز) قد اختلّ عقله، وبعضهم يصبح مجنونًا، ينتظر متى يقتل شخصًا أو يقتل نفسه.
شجرة خاطئة ابتلى الله اليمنيين بها، وابتلى الله الحبشة بها.
فعلينا أن نصرف أوقاتنا فيما ينفعنا في طلب العلم حتى نعبد الله على بصيرة، وحتى نقول: نعم ولا، على بصيرة، فإذا قلت: نعم، تكون على بصيرة، وإذا قلت: لا، تكون على بصيرة. لا تكن إمّعة إن أحسن الناس أحسنّا وإن أساءوا أسأنا.
فالشأن كل الشأن هو الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، حتى إذا حدثت حادثة أو آية من الآيات يصير الشخص إن نجا نجا، وإن لم ينج فإنه يبعث على نيّته، وقد كنت نقلت شيئًا من هذا في "المخرج من الفتنة" فيما ابتلى الله سبحانه وتعالى به أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من بعد نبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى عصر ابن الجوزي، وهذا شيء قليل ذكره ابن الجوزي في "المدهش" ولم يستوعب، وبقي من زمن ابن الجوزي إلى زمننا هذا لو أن شخصًا تتبّعه لكان أكثر وأكثر، ومما ينبغي أن يعلم أن الزّلزال لم يحدث على عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا على عهد أبي بكر، وحدث على عهد عمر. قلنا: وقد سرد الحافظ ابن الجوزي رحمه الله تعالى في كتابه "المدهش" بعض الحوادث التي مرّت على أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم من جوع وزلزال فرأيت إثباته لما فيه من العبرة قال رحمه الله:
فصل في الجدوب وعموم الموت
أجدبت الأرض في سنة ثماني عشرة، فكانت الريح تسفي ترابًا كالرّماد، فسمّي عام الرمادة، وجعلت الوحوش تأوي إلى الإنس، فآلى عمر ألاّ يذوق سمنًا ولا لحمًا حتى يحيا الناس، واستسقى بالعباس فسقوا. وفيها كان طاعون عمواس، مات فيه أبوعبيدة، ومعاذ، وأنس.
وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة، وماتت أم أميرهم فما وجدوا من يحملها.
وفي سنة ست وتسعين كان طاعون الجارف، هلك في ثلاثة أيام سبعون ألفًا، ومات فيه لأنس ثمانون ولدًا، وكان يموت أهل الدار فيطيّن الباب عليهم-أي يصير البيت قبرًا لهم لأنه لا يوجد من يخرجهم إلى المقبرة ويحفر لهم قبرًا-.
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة مات أول يوم في الطاعون سبعون ألفًا، وفي اليوم الثاني نيّف وسبعون ألفًا، وفي اليوم الثالث خمد الناس.
وفي السنة التاسعة عشرة وثلاثمائة كثر الموت، وكان يدفن في القبر الواحد جماعة.
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة ذبح الأطفال، وأكلت الجيف، وبيع العقار برغفان، واشْتري لمعز الدولة كرّ دقيق بعشرين ألف درهم.
وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة عمّت الأمراض البلاد فكان يموت أهل الدار كلهم.
وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة أصاب أهل البصرة حرّ فكانوا يتساقطون موتى في الطرقات.
وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عم القحط فأكلت الميتة وبلغ المكوك -كتنور: مكيال- من برز البقلة سبعة دنانير والسفرجلة والرمانة دينارًا والخيارة واللينوفرة دينارًا، وورد الخبر من (مصر) بأن ثلاثةً من اللصوص نقبوا دارًا فوجدوا عند الصباح موتى أحدهم على باب النقب والثاني على رأس الدرجة والثالث على الثياب المكورة. وفي السنة التي تليها وقع وباء فكانت تحفر زبية -بالضم: الرابية، وحفيرة الأسد- لعشرين وثلاثين فيلقون فيها، وتاب الناس كلهم وأراقوا الخمور ولزموا المساجد.
وفي سنة ست وخمسين وأربعمائة وقع الوباء وبلغ الرطل من التمر الهندي أربعة دنانير.
وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة اشتدّ الجوع والوباء بـ(مصر) حتى أكل الناس بعضهم بعضًا، وبيع اللوز والسكر بوزن الدراهم، والبيضة بعشرة قراريط، وخرج وزير صاحب (مصر) إليه فنزل عن بغلته فأخذها ثلاثة فأكلوها فصلبوا، فأصبح الناس لا يرون إلا عظامهم تحت خشبهم وقد أكلوا.
وفي سنة أربع وستين وأربعمائة وقع الموت في الدواب، حتى إن راعيًا قام إلى الغنم وقت الصباح ليسوقها فوجدها كلها موتى.
فصل في الزلازل والآيات
زلزلت الأرض على عهد عمر في سنة عشرين.
ودامت الزلازل في سنة أربع وتسعين، أربعين يومًا، ووقعت الأبنية الشاهقة، وتهدّمت (أنطاكية).
وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلت (فرغانة) فمات فيها خمسة عشر ألفًا.
وفي السنة التي تليها رجفت (الأهواز) وتصدّعت الجبال، وهرب أهل البلد إلى البحر والسفن، ودامت ستة عشر يومًا.
وفي السنة التي تليها مطر أهل (تيما) مطرًا وبردًا كالبيض، فقتل بها ثلاثمائة وسبعين إنسانًا، وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك اعف عن عبادك، ونظروا إلى أثر قدم طولها ذراع، بلا أصابع، وعرضها شبر، ومن الخطوة إلى الخطوة خمسة أذرع أو ست، فاتبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتًا ولا يرون شخصًا.
وفي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين رجفت (دمشق) رجفةً حتى انقضّت منها البيوت وسقطت على من فيها، فمات خلق كثير وانكفأت قرية في (الغوطة) على أهلها فلم ينج منهم إلا رجل واحد، وزلزلت (أنطاكية) فمات منها عشرون ألفًا.
وفي السنة التي تليها هبّت ريح شديدة لم يعهد مثلها فاتّصلت نيفًا وخمسين يومًا، وشملت (بغداد) و(البصرة) و(الكوفة) و(واسط) و(عبّادان) و(الأهواز)، ثم ذهبت إلى (همذان) فأحرقت الزرع، ثم ذهبت إلى (الموصل) فمنعت الناس من السعي فتعطلت الأسواق، وزلزلت (هراة) فوقعت الدور.
وفي سنة ثمان وثلاثين وجّه طاهر بن عبد الله إلى المتوكل حجرًا سقط بناحية (طبرستان) وزنه ثمانمائة وأربعون درهمًا أبيض فيه صدع، وذكروا أنه سمع لسقوطه هدة أربعة فراسخ في مثلها وأنه ساخ في الأرض خمسة أذرع.
وفي سنة أربعين ومائتين خرجت ريح من بلاد الترك فمرت بـ(مرو) فقتلت خلقًا كثيًرا بالزكام، ثم صارت إلى (نيسابور) وإلى (الرّي) ثم إلى (همذان) و(حلوان) ثم إلى (العراق)، فأصاب أهل (بغداد) و(سرمن رأى) حمّى وسعال وزكام، وجاءت كتب من المغرب أن ثلاث عشرة قرية من قرى (القيروان) خسف بها فلم ينج من أهلها إلا اثنان وأربعون رجلاً سود الوجوه، فأتوا القيروان فأخرجهم أهلها، وقالوا: أنتم مسخوط عليكم. فبنى لهم العامل حظيرةً خارج المدينة فنزلوها.
وفي سنة احدى وأربعين ماجت النجوم في السماء وجعلت تتطاير شرقًا وغربًا كالجراد من قبل غروب الشمس إلى الفجر، ولم يكن مثل هذا إلا عند ظهور رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وفي السنة التي تليها رجمت قرية يقال لها: (السويدا) ناحية (مصر) بخمسة أحجار، فوقع حجر منها على خيمة أعرابي فاحترقت، ووزن منها حجر فكان فيه عشرة أرطال، وزلزلت (الرّي) و(جرجان) و(طبرستان) و(نيسابور) و(أصفهان) و(قم) و(قاشان) كلها في وقت واحد، وزلزلت (الدامغان) فهلك من أهلها خمسة وعشرون ألفًا، وتقطّعت جبال، ودنا بعضها من بعض، وسمع للسماء والأرض أصوات عالية فهلك من أهلها.
وسار جبل باليمن عليه مزارع حتى أتى مزارع قوم آخرين، ووقع طائر أبيض دون الرّخمة وفوق الغراب على دلبة -شجرة - بـ(حلب) لسبع مضين من رمضان، فصاح: يا معشر الناس اتقوا الله الله الله حتى صاح أربعين صوتًا ثم طار، وجاء من الغد فصاح أربعين صوتًا ثم طار، فكتب صاحب البريد بذلك، وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه، ومات رجل في بعض (كور الأهواز) فسقط طائر أبيض على جنازته فصاح بالفارسية والخورية: إن الله قد غفر لهذا الميّت ولمن شهده.
وفي سنة خمس وأربعين ومائتين زلزلت (أنطاكية) فسقط منها ألف وخمسمائة دار، ووقع من سورها نيّف وتسعون برجًا، وسمع أهلها أصواتًا هائلة من كوى المنازل، وسمع أهل (تنّيس) صيحةً هائلةً دامت فمات منها خلق كثير، وذهبت (جبلة) بأهلها.
وفي سنة خمس وثلاثين ومائتين مطرت قرية حجارة بيضاء وسوداء.
وفي سنة ثمان وثمانين زلزلت (دنبل) في الليل فأصبحوا ولم يبق من المدينة إلا اليسير، فأخرج من تحت الهدم خمسون ومائة ألف ميّت.
وفي سنة تسع عشرة وثلاثمائة عدل حجاج عن الجادة خوفًا من العرب، فرأوا في البرية صور الناس من الحجارة، ورأوا امرأةً قائمة على تنور وهي من حجارة، والخبز الذي في التنور من حجارة.
وفي سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة هبّت ريح بـ(فم الصلح) شبهت بالتّنين، خرقت (دجلة)، حتى ذكر أنّها بانت أرضها وأهلكت خلقًا كثيرًا واحتملت زورقًا منحدرًا وفيه دواب فطرحته في أرض (جوخى) - قرية من عمل بغداد-.
وفى سنة عشرين وأربعمائة جاء برد هائل، ووقعت بردة حزرت بمائة وخمسين رطلاً فكانت كالثور النائم.
وفي سنة أربع وثلاثين زلزلت (تبريز) فهدم سورها وقلعتها، وهلك تحت الهدم خمسون ألفًا.
وفي سنة أربع وأربعين وأربعمائة كانت بـ(أذربيجان) زلازل انقطعت منها الحيطان، فحكى من يعتمد على قوله أنه كان قاعدًا في إيوان فانفرج حتى رأى السماء من وسطه ثم عاد.
وفي سنة ستين وأربعمائة كانت زلزلة بـ(فلسطين) هلك فيها خمسة عشر ألفًا، وانشقت صخرة بيت المقدس، ثم عادت فالتأمت، وغاب البحر مسيرة يوم فساخ في الأرض فدخل الناس يلتقطون فرجع عليهم فأهلك خلقًا كثيرًا منهم.
وفي سنة اثنتين وستين خسف بـ(أيلة) -بلد بين (ينبع) و(مصر)-. وفي سنة ست وخمسمائة سمع ببغداد صوت هدة عظيمة في أقطار بغداد في الجانبين، قال شيخنا أبوبكر بن عبدالباقي: أنا سمعتها، فظننت حائطًا قد وقع، ولم يعلم ما ذاك، ولم يكن في السماء غيم فيقال: رعد!
وفي سنة سبع وقعت زلزلة بناحية الشام، ووقع من سور (الرهاء) -بلد بنواحي الشام- ثلاثة عشر برجًا، وخسف بـ(سميساط) -بلد على الفرات- وقلب بنصف القلعة.
وفي سنة إحدى عشرة زلزلت الأرض ببغداد يوم عرفة فكانت الحيطان تمر وتجئ.
وفي سنة خمس عشرة وقع الثلج ببغداد فامتلأت منه الشوارع والدروب ولم يسمع قبله بمثله.
وفي سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة كانت زلزلة بـ(جنزة) -بلدة عظيمة بإيران- أتت على مائتي ألف وثلاثين ألفًا فأهلكتهم، وكانت في مقدار عشرة فراسخ في مثلها.
وفي السنة التي تليها خسف بـ(جنزة) وصار مكان البلد ماءً أسود، وقدم التجار من أهلها فلزموا المقابر يبكون على أهليهم. وزلزلت (حلوان) فتقطّع الجبل وهلك خلق كثير.
وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت زلازل بالشام في ثلاث عشر بلد من بلاد الإسلام، فمنها ما هلك كله ومنها ما هلك بعضه.اهـ ما ذكره رحمه الله.
وقد ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في كتاب "البداية" جلّ هذا مفرقًا على حوادث السنين وزاد عليه ما حدث بعد الحافظ ابن الجوزي رحمه الله.
وفي هذا عبرة وذكرى فعسى الله أن يوفق المسلمين إلى الرجوع إلى الله، والتوبة الصادقة، ونبذ التقاليد الأجنبية المخالفة للكتاب والسنة. آمين.
فائدة:
كثرة الزلازل بضوران بذمار زمن الملك الظالم إسماعيل بن القاسم
قال عبدالله بن علي الوزير في كتابه "طبق الحلوى" ص (311):
وقبل ذلك اتفق بضوران خاصةً قريب من ثلاثين رجفة، قال بعض أقارب الإمام، وكان قد تضاعف على أهل اليمن الأسفل مطالب غير الزكاة والفطرة، والكفارة مثل مطلب الصلاة على المصلي وغيره، ومطلب التنباق، ومطلب الرباح، ومطلب الرصاص والبارود، ومطلب سفرة الوالي، ومطلب العيد، فقال: وللإمام مندوحات بما كان يأخذه، وقد كان حازمًا عالماً متيقّظًا فيحمل على السلامة، ولعل ذلك بسبب التظالم والمعاصي وقد ذكر السيوطي في كتاب "الصلصلة في الزلزلة" مايقضي بذلك، وقد وقع في القرآن العظيم ذكر الرجفة في قوم شعيب، وبعض أصحاب موسى وغيرهم لأسباب مختلفة يشملها سلوك ما لايرضاه الله حسبما تقضي به التفاسير.
قال أبوعبدالرحمن: وهذا يدل على شؤم ذلك الملك الظالم كما قال ربنا عزوجل: {وكذلك أخْذ ربّك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إنّ أخذه أليم شديد}.
الخاتمة
تحصل مما تقدم أن الزّلزال قد يكون ابتلاءً من الله، وقد يكون بسبب الذنوب، ويكون مع هذا كله مقدرًا من الله، وقد تقدمت الأدلة على ذلك، والقائلون: إنّها براكين، إن أرادوا أنّها بقدر الله وبسبب الذنوب أو الابتلاء فلا تنافي بين هذا وما تقدم، وإن أرادوا أنّها حوادث طبيعية فهذا هو الذي يخالف الكتاب والسنة ويخالف أيضًا السنن الكونيّة في انتقامه سبحانه من أعدائه، وقد تقدم تفنيد ذلك وأنه إلحاد في آيات الله، وفي "الصحيحين" عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إذا رأيتم الّذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الّذين سمّى الله فاحذروهم)).
آمنا بالله وبكتابه وقدره، وكفرنا بما يقول الملحدون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(/)
ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر
وبيان بعد محمد رشيد رضا عن السلفية
جمعها
أبوعبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية
الحمد لله الذي بيّن لنا سبيل الفلاح والفوز فقال: {ولتكن منكم أمّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله القائل: ((لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتّى يأتي أمر اللّه عزّ وجلّ وهم على ذلك)).
وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فإن من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن الدعوة إلى الله بل ومن الجهاد في سبيل الله بيان عقيدة أهل السنة والجماعة والذّب عنها، وكشف عوار أهل البدع والملحدين والتحذير منهم، كما قال ربنا عزوجل في كتابه الكريم: {بل نقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق}.
وجزى الله أهل السنة خيرًا فهم من زمن قديم يتصدون لأهل البدع، حتى فضّل بعضهم الرّدّ على أهل البدع على الجهاد في سبيل الله.
وفي هذا الزمن شاع وذاع أن جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، من المجددين وأنّهم علماء الفكر الحر، فقام غير واحد من المعاصرين ببيان ضلالهم وأنّهم مجدّدون للضلال وترهات الإعتزال فعلمت حقيقتهم، وصدق الله إذ يقول: {فأمّا الزّبد فيذهب جفاءً وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض }فصارت معرفة ضلالهم كلمة إجماع بين أهل السنة، لكن محمد رشيد رضا لم يوفّ حقه واغترّ بعض الناس ببعض كلماته في الردود على بعض أهل البدع، وما يدري أن عنده من البدع والضلال ما يقاربهم، ولقد صدق مروان بن محمد الطاطري إذ يقول كما في ترجمته من "ترتيب المدارك" للقاضي عياض: ثلاثة لا يؤتمنون: الصوفي والقصاص والمبتدع يرد على المبتدعة.
لذا رأيت أن أكتب هذه الرسالة الموسومة بـ"ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر وبيان بعد محمد رشيد رضا عن السلفية".
ولما نفدت طبعتها الأولى عزمت على نشرها مع بعض الزيادات، نسأل الله أن ينفع بها وأن يجعلها خالصةً لوجهه الكريم إنه جواد كريم.
والحمد لله رب العالمين.
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
وبعد : فإني لما كنت بمدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بلغني أن بعض الناس ينكرون حديث السحر، فقلت لمن أخبرني إنه في البخاري ومسلم. فقال: وهم ينكرونه! فقلت: بمن ضعّفوه؟ وكنت أظن أنّهم يسلكون مسالك العلماء في النقد والتجريح، لعلهم وجدوا في سنده من هو سيء الحفظ أو جاء موصولاً والراجح أنه منقطع أو جاء مرفوعًا والراجح فيه الوقف، كما هو شأن الحافظ الدارقطني رحمه الله في انتقاداته على الصحيحين، فإذا هؤلاء الجاهلون أحقر من أن يسلكوا هذا المسلك الذي لا يقوم به إلا جهابذة الحديث ونقاده، والميزان عند هؤلاء أهواؤهم، فما وافق الهوى فهو الصحيح وإن كان من القصص الإسرائيلية، أو مما لا أصل له، وما خالف أهواءهم فهو الباطل ولو كان في الصحيحين، بل ربما تجاوز بعض أولئك المخذولين الحد وطعن في بعض القصص القرآنية.
لذا رأيت أن أقدّم لإخواني طلبة العلم هذا الحديث الشريف، وتوجيه أهل العلم لمعناه على المعنى الذي يليق بشرف النبوة والعصمة النبوية، ولا أدّعي أنني صحّحت الحديث فهو صحيح من قبل أن أخلق ومن قبل أن أطلب العلم، وما طعن فيه عالم يعتد به، وناهيك بحديث اتفق عليه الشيخان، ورواه الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم، ولا يتنافى معناه مع أصول الشريعة.
والذي أنصح به طلاب العلم أن لا يصغوا إلى كلام أولئك المفتونين الزائغين وأن يقبلوا على تعلم الكتاب والسنة وأن يبينوا للناس أحوال أولئك الزائغين ويحذروهم منهم ومن كتبهم ومجلاتهم وندواتهم.
والله أسأل أن يحفظ علينا ديننا وأن يتوفانا مسلمين.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
المبتدعة ينكرون حقيقة السحر
قال القرطبي رحمه الله (ج2 ص46): ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة، وذهب عامة المعتزلة وأبوإسحاق الأستراباذي من أصحاب الشافعي إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام، لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفّة والشعوذة، كما قال تعالى: {يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى} ولم يقل:تسعى على الحقيقة، ولكن قال: {يخيّل إليه} وقال أيضًا: {سحروا أعين النّاس } وهذا لا حجة فيه، لأنا لا ننكر أن يكون التخييل وغيره من جملة السحر، ولكن ثبت وراء ذلك أمور جوّزها العقل وورد بها السمع، فمن ذلك ما جاء في هذه الآية من ذكر السحر وتعليمه، ولو لم يكن له حقيقة لم يمكن تعليمه ولا أخبر تعالى أنّهم يعلمونه الناس فدل على أن له حقيقة، وقوله تعالى في قصة سحرة فرعون: {وجاءوا بسحر عظيم } وسورة الفلق مع اتفاق المفسرين على أن سبب نزولها ما كان من سحر لبيد بن الأعصم، وهو مما خرجه البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضى الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يهوديّ من يهود بني زريق، يقال له لبيد بن الأعصم الحديث، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما حل السحر قال: ((إن الله شفاني)).
والشفاء إنما يكون برفع العلة وزوال المرض، فدل على أن له حقًا وحقيقة،ً فهو مقطوع به بإخبار الله تعالى ورسوله على وجوده ووقوعه، وعلى هذا أهل الحل والعقد الذين ينعقد بهم الإجماع، ولا عبرة مع اتفاقهم بحثالة المعتزلة ومخالفتهم أهل الحق.
ولقد شاع السحر وذاع في سابق الزمان، وتكلّم الناس فيه ولم يبد من الصحابة ولا من التابعين إنكار لأصله، وروى سفيان عن أبي الأعور عن عكرمة عن ابن عباس قال: علم السحر في قرية من قرى مصر، يقال له: (الفرما)، فمن كذب به فهو كافر مكذب لله ورسوله، منكر لما علم مشاهدةً وعيانًا.
وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص254): فصل: حكى أبوعبدالله الرازي في "تفسيره" عن المعتزلة أنّهم أنكروا وجود السحر قال: وربما كفّروا من اعتقد وجوده، قال: وأما أهل السنة فقد جوّزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء، أو يقلب الإنسان حمارًا والحمار إنسانًا، إلا أنّهم قالوا: إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرّقى والكلمات المعيّنة، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا، خلافًا للفلاسفة والمنجّمين والصابئة، ثم استدل على وقوع السحر وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى: {وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله }.
ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر، وأن السحر عمل فيه، وبقصة تلك المرأة مع عائشة رضى الله عنها، وما ذكرت تلك المرأة من إتيانها بابل وتعلمها السحر، قال: وبما يذكر في هذا الباب من الحكايات الكثيرة.
رجال زائغون سنّوا للناس سنةً سيئةً
من هؤلاء الزائغين الرافضة على اختلاف أصنافهم فقد قدحوا في أفاضل الصحابة رضوان الله عليهم، وردّوا من الشرع مالا يوافق أهواءهم، ومنهم بعض رءوس الاعتزال:
واصل بن عطاء، فقد قدح في أصحاب الجمل وعلي ومن معه، كما في "الفرق بين الفرق" (ص100) ومنهم: عمرو بن عبيد بن باب، قال بفسق تلك الطائفتين المتقاتلتين يوم الجمل، كما في "الفرق بين الفرق" (101)، ومنهم: إبراهيم النّظام، كما في "الفرق بين الفرق" (ص134) فأئمة الضلال من الروافض والمعتزلة هم الذين جرّءوا الناس على رد السنن الصحيحة، وعلى القدح في الأئمة الأثبات، وكل من انحرف من أمة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسلك هذا السبيل فهو سالك سبيلهم، وهم الذين جرّءوا المستشرقين على الطعن في السنة المطهرة، وأصل الضلال في هذا الباب هم أئمة الاعتزال، وأما الرافضة فإنّهم يطعنون طعنًا سخيفًا غير معقول ولا مقبول، لأنّهم كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: أجهل الناس بالمعقول والمنقول.
وقد سلك مسلك هؤلاء الزائغين جمال الدين الإيراني المتأفغن، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، ومحمد مصطفى المراغي، ومحمد فريد وجدي، ومحمود شلتوت، وعبدالعزيز جاويش، وعبدالقادر المغربي، وأحمد مصطفى المراغي، وأبوريّة صاحب الظلمات، وأحمد أمين صاحب "فجر الإسلام" و"ضحاه" و"ظهره"، وإني أقتصر على بيان حال محمد رشيد رضا لأن بعض الناس اغتروا بسلفيّته.
1- من التفسير المسمى بـ"المنار" وهو بالظلام أشبه (ج1 ص351) قال: وأما قوله: {فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى } فهو بيان لإخراج ما يكتمون. ويروون في هذا الضرب روايات كثيرة، قيل إن المراد: اضربوا المقتول بلسانها، وقيل: بفخذها، وقيل: بذنبها... وقالوا: إنّهم ضربوه فعادت إليه الحياة، وقال: قتلني أخي أو ابن أخي فلان، الخ ما قالوه، والآية ليست نصًا في مجمله فكيف بتفصيله. والظاهر مما قدمنا أن ذلك العمل كان وسيلةً عندهم للفصل في الدماء عند التنازع في القاتل إذا وجد القتيل قرب بلد ولم يعرف قاتله، ليعرف الجاني من غيره، فمن غسل يده وفعل ما رسم لذلك في الشريعة برئ من الدم، ومن لم يفعل ثبتت عليه الجناية. ومعنى إحياء الموتى على هذا حفظ الدماء التي كانت عرضةً لأن تسفك بسبب الخلاف في قتل تلك النفس، أي: يحييها بمثل هذه الأحكام. اهـ
وقد سبق أن استدل محمد رشيد رضا وشيخه بكلام نقله من التوراة وهذا مخالف لما رواه البخاري في "صحيحه" من حديث أبي هريرة مرفوعًا: ((لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم وقولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم)). بل مخالف لما أخبرنا الله عن أهل الكتاب أنّهم قد حرّفوا التوراة، وأتوا بكلام من عندهم يزعمون أنه كلام الله.
وأما حديث عبدالله بن عمرو بن العاص: ((وحدّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج)). فالمراد به ما أخبرنا الله أو رسوله، وإلا فمن أين لنا السند إلى موسى عليه السلام، والمحدثون رحمهم الله يضعّفون المرسل، فكيف بماليس له سند والله أعلم.
وما ذكره المفسرون أن الله أحيا المقتول، فهذا ظاهر القرآن، وما صرفه محمد رشيد وشيخه إلا لموافقة أهل الكتاب، ولأن المستشرقين لا
تتسع عقولهم لمعجزات النبوة، فأرادوا أن يتقرّبوا إليهم بهذا التأويل المستبعد.
2- {ألم تر إلى الّذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم إنّ الله لذو فضل على النّاس ولكنّ أكثر النّاس لا يشكرون }.
قال محمد رشيد رضا (ج2 ص457): أقول: ولا يشترط أن تكون القصة في مثل هذا التعبير واقعةً، بل يصح مثله في القصص التمثيلية، إذ يراد أن من شأن مثلها في وضوحه أن يكون معلومًا حتى كأنه مرئي بالعينين. ومنه ما نبّهنا عليه من الفرق بين العطف بالفاء وبثم، وقد قالوا: إن العطف في قوله تعالى: {وقاتلوا} للإستئناف، لأن الجملة المبدوءة بالواو هنا جديدة لا تشارك ما قبلها في إعرابه ولا في حكمه الذي يعطيه العطف، قال الأستاذ الإمام: وهذا لا يمنع أن يكون بين الجملة المبدوءة بواو الاستئناف وبين ما قبلها تناسب وارتباط في المعنى غير ارتباط العطف والمشاركة في الإعراب، كما هو الشأن هنا، فإن الآية الأولى مبيّنة لفائدة القتال في الدفاع عن الحق أو الحقيقة، والثانية آمرة به بعد تقرير حكمته وبيان وجه الحاجة إليه، فالارتباط بينهما شديد الأواخي لا يعتريه التراخي.
خرجوا فارين {فقال لهم الله موتوا} أي: أماتهم بإمكان العدو منهم، فالأمر أمر التكوين لا أمر التشريع، أي: قضت سنته في خلقه بأن يموتوا بما أتوه من سبب الموت، وهو تمكين العدوّ المحارب من أقفائهم بالفرار، ففتك بهم وقتل أكثرهم. ولم يصرح بأنّهم ماتوا لأن أمر التكوين عبارة عن مشيئته سبحانه، فلا يمكن تخلفه، وللإستغناء عن التصريح بقوله بعد ذلك: {ثمّ أحْياهم} وإنما يكون الإحياء بعد الموت والكلام في القوم لا في أفراد لهم خصوصيّة، لأن المراد بيان سنته تعالى في الأمم التي تجبن فلا تدافع العادين عليها، ومعنى حياة الأمم وموتها في عرف الناس جميعهم معروف. فمعنى موت أولئك القوم هو أن العدو نكل بهم فأفنى قوّتهم وأزال استقلال أمتهم حتى صارت لا تعدّ أمةً بأن تفرّق شملها وذهبت جامعتها، فكان من بقي من أفرادها خاضعين للغالبين ضائعين فيهم، مدغمين في غمارهم، لا وجود لهم في أنفسهم وإنما وجودهم تابع لوجود غيرهم. ومعنى حياتهم هو عود الاستقلال إليهم. ذلك أن من رحمة الله تعالى في البلاء يصيب الناس أنه يكون تأديبًا لهم ومطهرًا لنفوسهم مما عرض لها من دنس الأخلاق الذميمة. أشعر الله أولئك القوم بسوء عاقبة الجبن والخوف والفشل والتخاذل بما أذاقهم من مرارتها، فجمعوا كلمتهم ووثقوا رابطتهم حتى عادت لهم وحدتهم قويّةً فاعتزوا وكثروا إلى أن خرجوا من ذل العبوديّة التي كانوا فيها إلى عز الإستقلال، فهذا معنى حياة الأمم وموتها -يموت قوم منهم باحتمال الظلم ويذل الآخرون حتى كأنّهم أموات، إذ لا تصدر عنهم أعمال الأمم الحية من حفظ سياج الوحدة وحماية البيضة بتكافل أفراد الأمة ومنعتهم، فيعتبر الباقون فينهضون إلى تدارك ما فات والاستعداد لما هو آت، ويتعلمون من فعل عدوهم بهم كيف يدفعونه، قال عليّ كرم الله وجهه: إن بقية السيف هي الباقية. أي التي يحيا بها أولئك الميتون، فالموت والإحياء واقعان على القوم في مجموعهم على ما عهدنا في أسلوب القرآن إذ خاطب بني إسرائيل في زمن تنْزيله بما كان من آبائهم الأولين بمثل قوله: {أنجيْناكم من آل فرْعون} وقوله: {ثمّ بعثناكم من بعْد موتكم} وغير ذلك، وقلنا: إن الحكمة في هذا الخطاب تقرير معنى وحدة الأمة وتكافلها وتأثير سيرة بعضها في بعض حتى كأنّها شخص واحد وكل جماعة منها كعضو منه، فإن انقطع العضو العامل لم يكن ذلك مانعًا من مخاطبة الشخص بما عمله قبل قطعه، وهذا الاستعمال معهود في سائر الكلام العربي، يقال: هجمنا على بني فلان حتى أفنيناهم أو أتينا عليهم، ثم أجمعوا أمرهم وكروا علينا (مثلاً). وإنما كر عليهم من بقي منهم.
أقول: وإطلاق الحياة على الحالة المعنوية الشريفة في الأشخاص والأمم والموت على مقابلها معهود كقوله تعالى: {ياأيّها الّذين ءامنوا استجيبوا لله وللرّسول إذا دعاكم لما يحييكم}، وقوله: {أومن كان ميتًا فأحييناه وجعلنا له نورًا يمشي به في النّاس كمن مثله في الظّلمات ليس بخارج منها }الآية، وانظر إلى دقة التعبير في عطف الأمر بالموت على الخروج من الديار بالفاء الدالة على اتصال الهلاك بالفرار من العدو، إلى عطفه الاخبار بإحيائهم بثم الدالة على تراخي ذلك وتأخره، ولأن الأمة إذا شعرت بعلة البلاء بعد وقوعه بها وذهابه باستقلالها فإنه لا يتيسر لها تدارك ما فات، إلا في زمن طويل، فما قرره الأستاذ الإمام هو ما يعطيه النظم البليغ وتؤيده السنن الحكيمة، وأما الموت الطبيعي فهو لا يتكرر كما علم من سنة الله ومن كتابه إذ قال: {لا يذوقون فيها الموت إلاّ الموتة الأولى} وقال: {وأحْييتنا اثنتيْن}، ولذلك أوّل بعضهم الموت هنا بأنه نوع من السكتة والاغماء الشديد لم تفارق به الأرواح أبدانها، وقد قال بعدما قرره: هذا هو المتبادر فلا نحمّل القرآن مالا يحمل لنطبقه على بعض قصص بني إسرائيل، والقرآن لم يقل إن أولئك الألوف منهم كما قال في الآيات الآتية وغيرها، ولو فرضنا صحة ما قالوه من أنّهم هربوا من الطاعون وأن الفائدة في إيراد قصتهم بيان أنه لا مفر من الموت لما كان لنا مندوحة عن تفسير إحيائهم بأن الباقين منهم تناسلوا بعد ذلك وكثروا، وكانت الأمة بهم حيّةً عزيزةً، ليصح أن تكون الآية تمهيدًا لما بعدها مرتبطة به، والله تعالى لا يأمرنا بالقتال لأجل أن نقتل ثم يحيينا بمعنى أنه يبعث من قتل منا بعد موتهم في هذه الحياة الدنيا. اهـ
أقول: نحن نؤمن بظاهر القرآن، والحامل على هذا التأويل أن عقول المستشرقين لا تخضع لهذا.
3- قوله تعالى: {أو كالّذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها قال أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم قال بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنّه وانظر إلى حمارك ولنجعلك ءايةً للنّاس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثمّ نكسوها لحمًا فلمّا تبيّن له قال أعلم أنّ الله على كلّ شيء قدير}.
قال محمد عبده (ج3 ص49) في الكلام على قول الله عز وجل: {فأماته الله مائة عام ثمّ بعثه}: قالوا: معناه ألبثه الله مائة عام ميتًا. وذلك أنّ الموت يكون في لحظة واحدة، قال الأستاذ الإمام: وفاتهم أنّ من الموت ما يمتد زمنًا طويلاً، وهو ما يكون من فقد الحس والحركة والإدراك من غير أن تفارق الروح البدن بالمرّة، وهو ما كان لأهل الكهف، وقد عبّر عنه تعالى بالضرب على الآذان. أقول: ولعل وجهه أن السمع آخر ما يفقد من إدراك من أخذه النوم أو الموت، وهذا الموت أو الضرب على الآذان، هو المراد بالشق الثاني من قوله تعالى: {الله يتوفّى الأنفس حين موتها والّتي لم تمت في منامها} والبعث هو الإرسال. فإذا كان هذا النوع من الموت يكون بتوفي النفس أي: قبضها، فزواله إنما يكون بإرسالها وبعثها.
وأقول: قد ثبت في هذا الزمان أن من الناس من تحفظ حياته زمنًا طويلاً يكون فيه فاقد الحس والشعور ويعبّرون عن ذلك بالسبات، وهو النوم المستغرق الذي سماه الله وفاةً، وقد كتب إلى مجلة "المقتطف" سائل يقول: إنه قرأ في بعض التقاويم أن امرأةً نامت (5500) يوم، أي: بلياليها من غير أن تستيقظ ساعة ما في خلال هذه المدة. وسأل: هل هذا صحيح؟ فأجابه أصحاب المجلة بأنّهم شاهدوا شابًا نام نحو شهر من الزمان، ثم أصيب بدخل في عقله. وقرأوا عن أناس ناموا نومًا طويلاً أكثره أربعة أشهر ونصف، واستبعدوا أن ينام إنسان مدة (5500) أي أكثر من 15 سنة نومًا متواليًا، وقالوا: إنّهم لا يكادون يصدقون ذلك. نعم إن الأمر غير مألوف، ولكن القادر على حفظ الإنسان أربعة أشهر ونصف و(15) سنة، قادر على حفظه مائة سنة، وإن لم نهتد إلى سنته في ذلك، فلبْث الرجل الذي ضرب على سمعه هناك مثلاً مائة سنة غير محال في نظر العقل، ولا يشترط عندنا في التسليم بما تواتر به النص من آيات الله تعالى، وأخذها على ظاهرها، إلاّ أن تكون من الممكنات دون المستحيلات، وإنما ذكرنا ما وصل إليه علم بعض الناس من هذا السبات الطويل الذي لم يعهده أكثرهم. لأجل تقريب إمكان هذه الآية من أذهان الذين يعسر عليهم التمييز بين ما يستبعد لأنه غير مألوف وما هو محال لا يقبل الثبوت لذاته. اهـ.
أقول: وفي قصة الحمار نحو ذلك من التحريف، فكأنه موكل بتحريف ما لا تتسع له عقول أعداء الإسلام.
4- {وإذ قال إبراهيم ربّ أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئنّ قلبي قال فخذ أربعةً من الطّير فصرهنّ إليك ثمّ اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءًا ثمّ ادعهنّ يأتينك سعيًا واعلم أنّ الله عزيز حكيم }.
قال محمد عبده كما في "المنار" الذي هو بالظلام أشبه(ج3 ص55): ملخص معنى الآية عند الجمهور: أن إبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم طلب من ربه أن يطلعه على كيفية إحياء الموتى، فأمره تعالى بأن يأخذ أربعة من الطير فيقطعهن أجزاء يفرقها على عدة جبال هناك، ثم يدعوها إليه فتجيئه، وقالوا: إنه فعل ذلك. وخالفهم أبومسلم المفسر الشهير فقال: ليس في الكلام ما يدل على أنه فعل ذلك، وما كلّ أمر يقصد به الامتثال، فإن من الخبر ما يأتي بصيغة الأمر، لاسيما إذا أريد زيادة البيان كما إذا سألك سائل: كيف يصنع الحبر مثلاً؟ فتقول: خذ كذا وكذا وافعل كذا وكذا يكن حبرًا. تريد هذه كيفيته، ولا تعني تكليفه صنع الحبر بالفعل. قال: وفي القرآن كثير من الأمر الذي يراد به الخبر، والكلام ههنا مثل لإحياء الموتى. ومعناه: خذ أربعةً من الطير فضمها إليك وآنسها بك حتى تأنس وتصير بحيث تجيب دعوتك فإن الطيور من أشد الحيوانات استعدادًا لذلك، ثم اجعل كل واحد منها على جبل، ثم ادعها فإنّها تسرع إليك لا يمنعها تفرق أمكنتها وبعدها من ذلك.
كذلك أمْر ربك إذا أراد إحياء الموتى، يدعوهم بكلمة التكوين (كونوا أحياء) فيكونوا أحياء، كما كان شأنه في بدء الخلق إذ قال للسموات والأرض: ائتيا طوعًا أو كرهًا. قالتا: أتينا طائعين، هذا ما تجلى به تفسير أبي مسلم، وقد أورده الرازي مختصرًا. وقال:
والغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة، وأنكر (يعني أبا مسلم) القول بأن المراد منه فقطعهن واحتج عليه بوجوه:
الأول: أن المشهور في اللغة في قوله: {فصرْهنّ} أملهن، وأما التقطيع والذبح فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية إلحاقًا لزيادة بالآية لم يدل الدليل عليها وأنه لا يجوز.
والثاني: أنه لو كان المراد بصرّهن قطعهن لم يقل: {إليْك} فإن ذلك لا يتعدى بإلى، وإنما يتعدى بهذا الحرف إذا كان بمعنى الإمالة، فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون في الكلام تقديم وتأخير، والتقدير: فخذ إليك أربعةً من الطير فصرهن؟ قلنا: التزام التقديم والتأخير من غير دليل ملجئ إلى التزامه خلاف الظاهر.
والثالث: أن الضمير في قوله: {ثمّ ادْعهنّ} عائد إليها لا إلى أجزائها، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً متفاصلة، وكان الموضوع على كل جبل بعض تلك الأجزاء، يلزم أن يكون الضمير عائدًا إلى تلك الأجزاء لا إليها، وهو خلاف الظاهر، وأيضًا الضمير في قوله: {يأتينك سعيًا } عائد إليها لا إلى أجزائها، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض كان الضمير في: {يأتينك } عائدًا إلى أجزائها لا إليها.
واحتج القائلون بالقول المشهور بوجوه:
الأول: أن كل المفسرين الذين كانوا قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه حصل ذبح تلك الطيور وتقطيع أجزائها، فيكون إنكار ذلك إنكارًا للإجماع.
والثاني: أن ما ذكره غير مختص بإبراهيم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلا يكون له فيه مزيّة على الغير.
والثالث: أن إبراهيم أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى، وظاهر الآية يدل على أنه أجيب إلى ذلك، وعلى قول أبي مسلم لا تحصل الإجابة في الحقيقة.
والرابع: أن قوله: {ثمّ اجْعل على كلّ جبل منهنّ جزءًا} يدل على أن تلك الطيور جعلت جزءًا جزءًا.
قال أبومسلم: في الجواب عن هذا الوجه: أنه أضاف الجزء إلى الأربعة فيجب أن يكون المراد بالجزء الواحد من تلك الأربعة. والجواب: أن ما ذكرته وإن كان محتملاً، إلا أن حمل الجزء على ما ذكرنا أظهر، والتقدير فاجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءًا أو بعضًا. اهـ كلام الرازي.
آية فهم الرازي وغيره فيها خلاف ما فهمه جميع المفسرين من قبله، ولم يقل أحد: أنّ فهْم فئة من الناس حجة على فهم الآخرين، على أن ما فهمه أبومسلم هو المتبادر من عبارة الآية الكريمة، وما قالوه مأخوذ من روايات حكمّوها في الآية ولآيات الله الحكم الأعلى، وعلى ما في تلك الرواية هي لا تدل.
وأما قوله: إن ما ذكره أبومسلم غير مختص بإبراهيم، فلا يكون فيه مزيّة. فهو مردود بأن هذا المثال لكيفية إحياء الله للموتى أو لكيفية التكوين فيه توضيح لها وتحديد لما يصل إليه علم البشر من أسرار الخليقة، ولا دليل على أن العلم بذلك كان عامًا في الناس، فيقال: إنه لا خصوصية فيه لإبراهيم. على أنه يرد مثل هذا الإيراد على حجة إبراهيم على الذي آتاه الله الملك، وحجته على عبدة الكواكب في سورة الأنعام، فإن مثل هذه الحجج التي أيد الله تعالى بها إبراهيم مما يحتج به الرازي وغيره، فهل ينفي ذلك أن تكون هدايةً من الله لإبراهيم وإخراجًا من ظلمات الشبه التي كانت محيطةً بأهل زمنه إلى نور الحق، وقد قال تعالى: {وتلك حجّتنا ءاتيناها إبراهيم }الآية.
وأما قوله: إن إجابة إبراهيم إلى ما سأل لا تحصل بقول أبي مسلم وإنما تحصل بقول الجمهور، فالأمر بعكسه، وذلك أن إتيان الطيور بعد تقطيعها وتفريق أجزائها في الجبال لا يقتضي رؤية كيفية الإحياء. إذ ليس فيها إلا رؤية الطيور كما كانت قبل التقطيع، لأن الإحياء حصل في الجبال البعيدة، وافرض أنك رأيت رجلاً قتل وقطّع إربًا إربًا ثم رأيته حيًا أفتقول حينئذ: إنك عرفت كيفية إحيائه؟ هذا ما يدل عليه قولهم. وأما قول أبي مسلم فهو الذي يدل على غاية ما يمكن أن يعرف البشر من سر التكوين والإحياء، وهو توضيح معنى قوله تعالى للشيء: {كنْ فيكون} ولولا أن الله تعالى بيّن لنا ذلك بما حكاه عن خليله لجاز أن يطمع في الوقوف على سر التكوين الطامعون، ولو فهم الرازي هذا لما قال: إنه لا خصوصية لإبراهيم على الغير. وهذا النوع من الجواب قريب من جواب موسى إذ طلب رؤية الله تعالى، ومن جواب السائلين عن الأهلة وليس مثلهما من كل وجه فإنه بيّن وأوضح ما يمكن علمه في المسألة نفسها ونهى عما زاد على ذلك، وجملة القول: أن تفسير أبي مسلم هو المتبادر الذي يدل عليه النظم وهو الذي يجلي على الحقيقة في المسألة فإن كيفية الإحياء هي عين كيفية التكوين في الابتداء. وإنما تكون بتعلق إرادة الله تعالى بالشيء المعبر عنه بكلمة التكوين (كن) فلا يمكن أن يصل البشر إلى كيفية له إلا إذا أمكن الوقوف على كنْه إرادة الله تعالى وكيفية تعلقها بالأشياء. وظاهر القرآن وهو ما عليه المسلمون أن هذا غير ممكن، فصفات الله منزهة عن الكيفية، والعجز عن الإدراك فيها هو الإدراك، وهو ما أفاده قول أبي مسلم رحمه الله تعالى: ومما يؤيده في النظم المحكم قوله تعالى: {ثمّ اجْعلْ} فإنه يدل على التراخي الذي يقتضيه إمالة الطيور وتأنيسها على أن لفظ: {صرْهنّ} يدل على التأنيس. ولولا أن هذا هو المراد لقال: فخذ أربعة من الطير فقطعهن واجعل على كل جبل منهن جزءًا، ولم يذكر لفظ الإمالة إليه، ويعطف جعلها على الجبال بثم. ويدل عليه أيضًا ختم الآية باسم العزيز الحكيم، دون اسم القدير، والعزيز هو الغالب الذي لا ينال، وما صرف جمهور المتقدمين عن هذا المعنى على وضوحه إلا الرواية، بأنه جاء بأربعة طيور من جنس كذا وكذا وقطعها وفرقها على جبال الدنيا، ثم دعاها فطار كل جزء إلى مناسبه، حتى كانت طيورًا تسرع إليه، فأرادوا تطبيق الكلام على هذا ولو بالتكلف. وأما المتأخرون فهمهم أن يكون في الكلام خصائص للأنبياء من الخوارق الكونية. وإن كان المقام مقام العلم والبيان والإخراج من الظلمات إلى النور وهو أكبر الآيات، ولكل أهل زمن غرام في شيء من الأشياء يتحكم في عقولهم وأفهامهم. والواجب على من يريد فهم كتاب الله تعالى أن يتجرد من التأثر بكل ما هو خارج عنه فإنه الحاكم على كل شيء، ولا يحكم عليه شيء. ولله در أبي مسلم ما أدق فهمه وأشد استقلاله فيه. اهـ
وأنت ترى أن ظاهر القرآن مع الجمهور، وليس هناك ما يوجب صرفه عن ظاهره، وأبومسلم من أئمة الابتداع المعتزلة.
5- {إذ قال الله ياعيسى إنّي متوفّيك ورافعك إليّ ومطهّرك من الّذين كفروا }.
يقول محمد عبده كما في "المنار " (ج3 ص316) الذي هو بالظلام أشبه: يقول بعض المفسرين: إني متوفيك، أي منوّمك، وبعضهم: إني قابضك من الأرض بروحك وجسدك ورافعك إلي بيان لهذا التوفي، وبعضهم: إني أنجيك من هؤلاء المعتدين فلا يتمكنون من قتلك وأميتك حتف أنفك، ثم أرفعك إليّ، ونسب هذا القول إلى الجمهور، وقال: للعلماء ههنا طريقتان: إحداهما وهي المشهورة: أنه رفع حيًا بجسمه وروحه، وأنه سينْزل في آخر الزمان فيحكم بين الناس بشريعتنا ثم يتوفاه الله تعالى. ولهم في حياته الثانية على الأرض كلام طويل معروف، وأجاب هؤلاء عما يرد عليهم من مخالفة القرآن في تقديم الرفع على التوفي بأن الواو لا تفيد ترتيبًا، -أقول: وفاتهم أن مخالفة الترتيب في الذكر للترتيب في الوجود لا يأتي في الكلام البليغ إلا لنكتة، ولا نكتة هنا لتقديم التوفي على الرفع إذ الرفع هو الأهم، لما فيه من البشارة بالنجاة ورفعة المكانة-.
(قال): والطريقة الثانية: أن الآية على ظاهرها، وأن التوفي على معناه الظاهر المتبادر وهو الإماتة العادية، وأن الرفع يكون بعده وهو رفع الروح، ولا بدع في إطلاق الخطاب على شخص وإرادة الروح، فإن الروح هي حقيقة الإنسان والجسد كالثوب المستعار فإنه يزيد وينقص ويتغير، والإنسان إنسان لأن روحه هي هي. (قال): ولصاحب هذه الطريقة في حديث الرفع والنزول في آخر الزمان تخريجان: أحدهما: أنه حديث آحاد متعلق بأمر اعتقادي لأنه من أمور الغيب، والأمور الاعتقادية لا يؤخذ فيها إلا بالقطعي، لأن المطلوب فيها هو اليقين، وليس في الباب حديث متواتر.
وثانيهما: تأويل نزوله وحكمه في الأرض بغلبة روحه وسرّ رسالته على الناس، وهو ما غلب في تعليمه من الأمر بالرحمة والمحبة والسلم، والأخذ بمقاصد الشريعة دون الوقوف عند ظواهرها، والتمسك بقشورها دون لبابها، وهو حكمتها وما شرعت لأجله، فالمسيح عليه السلام لم يأت لليهود بشريعة جديدة، ولكنه جاءهم بما يزحزحهم عن الجمود على ظواهر ألفاظ شريعة موسى عليه السلام ويوقفهم على فقهها والمراد منها، ويأمرهم بمراعاته وبما يجذبهم إلى عالم الأرواح بتحري كمال الآداب، أي: ولما كان أصحاب الشريعة الأخيرة قد جمدوا على ظواهر ألفاظها بل وألفاظ من كتب فيها، معبرًا عن رأيه وفهمه وكان ذلك مزهقًا لروحها ذاهبًا بحكمتها كان لابد لهم من إصلاح عيسوي يبين لهم أسرار الشريعة وروح الدين وأدبه الحقيقي، وكل ذلك مطوي في القرآن الذي حجبوا عنه بالتقليد الذي هو آفة الحق وعدوّ الدين في كل زمان، فزمان عيسى على هذا التأويل هو الزمان الذي يأخذ الناس فيه بروح الدين والشريعة الإسلامية، لإصلاح السرائر من غير تقيد بالرسوم والظواهر، هذا ما قاله الأستاذ في الدرس مع بسط وإيضاح، ولكن ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك تأباه، ولأهل هذا التأويل أن يقولوا: إن هذه الأحاديث قد نقلت بالمعنى كأكثر الأحاديث، والناقل للمعنى ينقل ما فهمه. وسئل عن المسيح الدجال وقتل عيسى له فقال: إن الدجال رمز للخرافات والدجل والقبائح التي تزول بتقرير الشريعة على وجهها والأخذ بأسرارها وحكمها، وإن القرآن أعظم هاد إلى هذه الحكم والأسرار، وسنة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم مبينة لذلك فلا حاجة للبشر إلى إصلاح وراء الرجوع إلى ذلك، وسنعود إلى مبحث ما جرى للمسيح عليه السلام مع الماكرين الذين أرادوا قتله وصلبه في تفسير سورة النساء إن شاء الله تعالى. اهـ
وأحاديث نزول عيسى وخروج الدجال لدى أهل العلم متواترة، ولكن سهل على هؤلاء الذين سلكوا مسلك جمال الدين الإيراني المتأفغن ردها والقدح فيها وتحريفها، وإني أنصح للشباب المصري ولعلماء مصر أن يطهروا مصر من هذه الأفكار الإلحادية. وفّقهم الله لذلك إنه على كل شيء قدير.
وبما أنه ليس لدي وقت لتفنيد ما في هذا الكتاب من الضلال فإني أكتفي بهذا وما تركته أكثر وأكثر. وقد اخترت هذا الكتاب من بين سائر كتبهم الزائغة لأن كثيرًا من الناس يغترون بالكتاب وبالمؤلف، ففي ذات مرة ونحن بفصل الدراسة بالجامعة الإسلامية تحدّث مدرس التفسير عن التفاسير وما دخل عليها من الدخيل، فسأله طالب أي تفسير أحسن؟ فقال: تفسير المنار، فروجع الأستاذ ولم يقبل.
وفى أخرى كنت أحذر من أئمة الضلال وذكرت منهم جمال الدين الإيراني المتأفغن، ومحمد عبده المصري، ومحمد رشيد رضا، وكان ذلك بمسجد (النزيلي) بصنعاء وبعد أيام التقيت بأخ محب للخير فنصحني أن لا أذكرهم فإنّهم قدموا خدمات جليلة للإسلام، ولم يكن الوقت متسعًا لتفهيم الأخ ببعض ضلالهم.
وفى أخرى كتب إليّ من مصر بعض الأخوة يقول: إنه قيل له: لم ذكرت محمد رشيد في Aالصحيح المسند من دلائل النبوة@ وشاركته مع أولئك في الضلال، وهو معروف بالسلفية، فكتبت للأخ: إقرأ كتابه "المنار" الذي هو بالظلام أشبه، وكذا مجلة "المنار" وستقول إن شاء الله: أف لهذه السلفية، ستجده بعيدًا عن السلفية، والسلفية بعيدة عنه، فأنا أحيل طلبة العلم الذين قد عرفوا الحق من الباطل أن يرجعوا إلى كتبه، وأنا متأكد أنّهم سيعلمون أنه بريء من السلفية، والسلفية بريئة منه.
لا نكتفي من محمد رشيد رضا بمحاربة التقليد، وهو أكبر المقلدين لجمال الدين، ومحمد عبده، لا نكتفي بمهاجمة الشرك والبدع، وهو يحرّف كتاب الله ويرد من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما لا يتمشى مع أفكار جمال الدين ومحمد عبده.
نحن بحمد الله لا نكتفي بالدعاوي، بل لابد من البراهين والاستقامة، وسلوك طريقة السلف. والله المستعان.
فإن قلت: أين أضر على الإسلام محمد عبده وجمال الدين الأفغاني، أم محمد رشيد رضا؟ قلت: محمد رشيد رضا، لأنه عالم بعلم الحديث، فهو يستطيع أن يلبّس على الجهال بعلم السنة ولذا فقد أكثر النقل عنه أبوريّة في ظلماته، ولما سئل عن ذلك قال ما معناه: إن محمد رشيد رضا عالم كبير ومشهور بالسلفية فأحب أن يكون كلامي مقبولاً.
هذا وقد طلب بعض إخواني في الله مزيدًا من البراهين على بعد محمد رشيد رضا عن السلفية. فأقول: الذي نفهمه عن النسبة السلفية أن معناها الانقياد لشرع الله انقيادًا شموليًا كما قال تعالى: {ياأيّها الّذين ءامنوا ادخلوا في السّلم كافّةً} وقد أنكر الله على من أخذ من الدين ما يوافق هواه فقال عز من قائل: {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلاّ خزي في الحياة الدّنيا ويوم القيامة يردّون إلى أشدّ العذاب وما الله بغافل عمّا تعملون }.
وقال سبحانه وتعالى: {إنّ الّذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتّخذوا بين ذلك سبيلاً أولئك هم الكافرون حقًّا وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا }.
وقال سبحانه وتعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا }.
أولئك الانْهزاميون الذين انْهزموا أمام أعداء الإسلام وأصبحوا يحرفون ما لا تتقبله عقولهم، كأنّهم مفوضون في شرع الله فأصبحوا يتبعون أهواء الملحدين في تحريف المعجزات وغيرها من شرع الله، ورب العزة يقول لنبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتّبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولّوا فاعلم أنّما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإنّ كثيرًا من النّاس لفاسقون}.
ويقول سبحانه وتعالى: {ولئن اتّبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنّك إذًا لمن الظّالمين} .
ويقول سبحانه وتعالى: {ثمّ جعلناك على شريعة من الأمر فاتّبعها ولا تتّبع أهواء الّذين لا يعلمون إنّهم لن يغنوا عنك من الله شيئًا وإنّ الظّالمين بعضهم أولياء بعض والله وليّ المتّقين }.
ويقول سبحانه وتعالى: {وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبينًا }.
ويقول سبحانه وتعالى : {وإن كادوا ليفتنونك عن الّذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذًا لاتّخذوك خليلا ولولا أن ثبّتناك لقد كدت تركن إليهم شيئًا قليلا إذًا لاذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ثمّ لا تجد لك علينا نصيرًا }.
هذا ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس بيني وبين محمد رشيد عداوة دنيوية، فهو شاميّ وأنا يمنيّ، وكلانا يجمعنا الإسلام، ولكني رأيت له ولجمال الدين الأفغاني ولمحمد عبده ومن سلك مسلكهم أخطاءً اشمأز منها قلبي، ورأيت أنه لا يجوز السكوت عليها، وأنا بحمد الله أعلم أنه ردّ على كثير من المبتدعة، منهم الرافضة فقد رأيت الرافضي الأثيم محسن أمين العاملي في كتابه "كشف الارتياب في أتباع محمد بن عبد الوهاب" ذلك الكتاب الذي يدعو إلى الوثنيّة، رأيته فيه يرد على محمد رشيد رضا، ويتوجع من ردود محمد رشيد رضا عليهم، لكني أريد أن أبيّن أن الرجل ليس ملتزمًا بمذهب السلف الذي هو قبول ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، من غير تأويل ولا تحريف ولا تعطيل ولا تضعيف لأحاديث صحيحة، ولا تصحيح لأحاديث ضعيفة، وقد تقدمت بعض الآيات وتحريفها عما يخرجها عن تفسير السلف رحمهم الله، وإليك ما يتيسر لي الآن:
1- قال في "المنار" (ج11 ص155): ولولا حكاية القران لآيات الله التي أيّد بها موسى وعيسى عليهما السلام لكان إقبال أحرار الإفرنج عليه أكثر، واهتداؤهم به أعم وأسرع، لأن أساسه قد بني على العقل والعلم وموافقة الفطرة البشرية، وتزكية أنفس الأفراد وترقية مصالح الاجتماع. اهـ المراد منه.
فهل هذا الكلام يتمشى مع ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ما من الأنبياء من نبيّ إلا قد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الّذي أوتيت وحيًا أوحى الله إليّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة )).
الله سبحانه وتعالى وصف القرآن بأنه يهدي للتي هي أقوم وأنه شفاء وأنه نور، وقد تأثر بالقرآن بعض كفار قريش، كما في قصة جبير بن مطعم أنه قدم على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلي بأصحابه المغرب يقرأ سورة الطور، قال: فلما بلغ إلى قوله تعالى: {أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون} كاد قلبي أن يطير-وفي رواية- فوقع الإيمان في قلبي.
وتأثر به الجن كما في سورة الأحقاف والجن، وهؤلاء الإفرنج يجوز أنّهم لم يبلّغوا القرآن على الوجه الصحيح، أو أنّهم بلّغوا ولكنهم معاندون كما حصل لبعض مشركي قريش.
وقد ذكرت شيئًا من هذا في مقدمة Aالصحيح المسند من دلائل النبوة@.
ويجوز أن الله ما قدّر هدايتهم كما قال تعالى: {ولو جعلناه قرءانًا أعجميًّا لقالوا لولا فصّلت ءاياته ءأعجميّ وعربيّ قل هو للّذين ءامنوا هدًى وشفاء والّذين لا يؤمنون في ءاذانهم وقر وهو عليهم عمًى أولئك ينادون من مكان بعيد }.
وتأثر النجاشي عند أن قرأ عليه جعفر بن أبي طالب القرآن ثم إسلامه معروف رواه أحمد في "مسنده".
وقال الله سبحانه وتعالى: {ولتجدنّ أقربهم مودّةً للّذين ءامنوا الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ منهم قسّيسين ورهبانًا وأنّهم لا يستكبرون وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرّسول ترى أعينهم تفيض من الدّمع ممّا عرفوا من الحقّ يقولون ربّنا ءامنّا فاكتبنا مع الشّاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحقّ ونطمع أن يدخلنا ربّنا مع القوم الصّالحين فأثابهم الله بما قالوا جنّات تجري من تحتها الأنْهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين }.
وأخيرًا نقول لأفراخ الإفرنج: {ءأنتم أعلم أم الله} .
2- قوله تعالى: {ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت فقلنا لهم كونوا قردةً خاسئين فجعلناها نكالاً لما بين يديها وما خلفها وموعظةً للمتّقين }.
أبعد النجعة محمد رشيد رضا في "المنار" (ج1 ص345) واختار أنه مسخ معنوي، تابعًا في ذلك مجاهدًا لأن رأي مجاهد موافق لهواه.
وفي(ج9 ص379) من "المنار"، ذكر القولين وسكت، وجمهور المفسرين رحمهم الله على أنه مسخ حقيقي، قال الحافظ ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر أثر مجاهد (ج1 ص190): وهذا سند جيد عن مجاهد، وقول غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام وفي غيره قال الله تعالى: {قل هل أنبّئكم بشرّ من ذلك مثوبةً عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطّاغوت}. اهـ
ثم قال ابن كثير رحمه الله ص(192) قلت: والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الأئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله من أن مسخهم إنما كان معنويًا لا صوريًّا، بل الصحيح أنه معنوي صوري، والله تعالى أعلم. اهـ. يعني أنه يشمل مسخ صورهم، ويشمل مسخ أخلاقهم.
3- قال البخاري رحمه الله (ج8 ص164): حدثني محمد حدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((قيل لبني إسرائيل {ادخلوا الباب سجّدًا وقولوا حطّة} فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا وقالوا حطّة حبّة في شعرة)).
محمد رشيد رضا في تفسير سورة البقرة بعد أن اعترف أنه في الصحيح يقول: ولكنه لا يخلو من علّة إسرائيلية، وسنبين ذلك في تفسير المسألة من سورة الأعراف.
وقال في سورة الأعراف (ج9 ص373): ولا ثقة لنا بشيء مما روي في هذا التبديل من ألفاظ عبرانية ولا عربية، فكله من الإسرائيليات الوضعيّة كما قاله الأستاذ الإمام هنالك، وإن خرّج بعضه في الصحيح والسنن موقوفًا ومرفوعًا كحديث أبي هريرة المرفوع في الصحيحين وغيرهما لبني إسرائيل: {وادخلوا الباب سجّدًا وقولوا حطّة} فدخلوا يزحفون على أستاههم فبدّلوا وقالوا حطّة حبّة في شعرة)) ، وفي رواية: ((شعيرة)). رواه البخاري في تفسير السورتين من طريق همام بن منبه أخي وهب، وهما صاحبا الغرائب في الإسرائيليات، ولم يصرح أبوهريرة بسماع هذا من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيحتمل أنه سمعه من كعب الأحبار، إذ ثبت أنه روى عنه، وهذا مدرك عدم اعتماد الأستاذ رحمه الله على مثل هذا من الإسرائيليات, وإن صح سنده، ولكن قلّ ما يوجد في الصحيح المرفوع شيء يقتضي الطعن في سندها. اهـ
وهذا يدل أن محمد رشيد رضا لم يغيّر منهجه عن شيخه في التفسير بالرأي، ولكنه يستكثر من الاستدلال بالسنة إذا كانت موافقة لهواه، بل أقبح من هذا أنه يستدل بأقوال الصوفية والرافضة إذا كانت موافقةً لهواه.
4- {ياأيّها الّذين ءامنوا لا تأكلوا الرّبا أضعافًا مضاعفةً واتّقوا الله لعلّكم تفلحون} .
يهوّن الأمر في ربا الفضل، "المنار" (ج4 ص23-إلى ص130) وفي رسالة بعنوان Aالربا والمعاملات في الإسلام@ (ص127)، وهو في (ج3 ص116) لا يرى بأسًا أن تعطي شخصًا مالاً يستغلّه ويجعل لك من كسبه حظًا معينًا، وهذا من ربا النسيئة فهو يهوّن الأمر في ربا الفضل ويتسامح في القليل من ربا النسيئة.
5- من اجتهادات محمد عبده الباطلة، أنه يرى جواز التيمم للمسافر وإن كان واجدًا للماء، "المنار" (ج5 ص121و122).
6- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج8 ص78): حدثنا عبدالوارث بن عبدالصمد بن عبدالوارث وحجاج بن الشاعر كلاهما عن عبدالصمد واللفظ لعبدالوارث بن عبدالصمد حدثنا أبي عن جدي عن الحسين بن ذكوان حدثنا ابن بريدة حدثني عامر بن شراحيل الشعبي شعب همدان، أنه سأل فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت من المهاجرات الأول فقال: حدّثيني حديثًا سمعتيه من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لا تسنديه إلى أحد غيره... فذكرت الحديث وفيه ذكر الجساسة والدجال، ثم ذكر له مسلم طرقًا إلى الشعبي.
هذا الحديث يشكك فيه محمد رشيد رضا كما في "المنار" (ج9 ص197) ولا أعلم عالماً من علماء المسلمين تكلم فيه، بل يمثّل به أهل المصطلح لرواية الأكابر عن الأصاغر، وقد شرحه تقي الدين أحمد بن على المقريزي بكتاب سماه Aضوء الساري في معرفة خبر تميم الداري@.
7- قوله تعالى: {فمن جاءه موعظة من ربّه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون}.
يدفع شيخه القول بخروج مرتكبي كبيرة الربا من النار، ويقرّه محمد رشيد رضا (ج3 ص98،99) من "المنار".
ويقول محمد عبده (ص102) في الكلام على قول الله عز وجل: {ياأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين }:
وهذا يؤيد ما قلنا في مسألة خلود من عاد إلى الربا بعد تحريمه في النار.اهـ
وهو ينكر خروج القاتل الموحد من النار، فقال محمد رشيد رضا في "المنار" (ج5 ص341): أقول: وقد استكبر الجمهور خلود القاتل في النار، وأوّله بعضهم بطول المكث فيها، وهذا يفتح باب التأويل لخلود الكفار- إلى آخر كلامه.
وأنت خبير أن الأحاديث متواترة بخروج الموحّدين من النار، وهو قول أهل السنة والجماعة.
8- تشكيكه في أحاديث الدجال (ج9 ص490) إلى ص (499) وقد ألّف الأخ أحمد بن عيسى رسالة ماجستير في أحاديث الدجال، وطعنه في أحاديث المهدي (ج9 ص499-504) وقد ألّف الشيخ عبدالمحسن العباد رسالة قيمة في أحاديث المهدي.
9- قول محمد رشيد رضا إنه يصح أن تكون الميكروبات نوعًا من الجن، "المنار" (ج3 ص96) وهذا كلام ما أنزل الله به من سلطان، بل هو مناف لصفات الجن الواردة في الكتاب والسنة.
10- طعنه في معجزة انشقاق القمر كما في "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" (ص580)-إلى ص (586) وعزاه إلى مجلة "المنار".
ومحمد رشيد رضا يشكك في المعجزات النبوية التي لم ترد في القرآن كلها كما في "المنار" (ج11 ص155).
11- تشكيك محمد عبده في أن آدم هو أبو البشر كلهم، وإقرار محمد رشيد له بل تأييده (ج4 ص323،324،325)، وعدم إنكاره على الذين يقولون: إن أصل الإنسان قرد (ج4 ص327) من "المنار".
12- قول محمد عبده: إن الملائكة قوًى طبيعية أودعها الله في المخلوقات. بمعنى أن الملائكة ليسوا مخلوقين خلقًا مستقلاً يصعدون وينْزلون، ويكتبون، وغير ذلك من تصرفاتهم الواردة في الكتاب والسنة، ومحمد رشيد رضا يؤيد قول شيخه -راجع "المنار" (ج1 ص267-275).
13- يشكك في رفع عيسى بروحه وجسده حيًا حياة دنيوية بهما ... وليس في القرآن نص صريح بأنه ينزل من السماء، وإنما هذه عقيدة أكثر النصارى، وقد حاولوا في كل زمان منذ ظهور الإسلام إلى الآن بثها في المسلمين. اهـ بالمعنى من "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" (ص712) وعزاه إلى مجلة "المنار" (الجزء العاشر من المجلد28 ص756)، وهذا يخالف ظاهر القرآن بدون برهان، ثم إن نزول عيسى من أمارات الساعة، والأحاديث في ذلك متواترة، ولو لم تكن متواترة وورد حديث واحد صحيح السند سالم من العلة والشذوذ لوجب قبوله.
14- قال البخاري رحمه الله (ج8 ص296): حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا عبدالواحد حدثنا عمارة حدثنا أبوزرعة حدثنا أبوهريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشّمس من مغربها، فإذا رآها النّاس آمن من عليها، فذاك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل)).
ثم قال البخاري رحمه الله: حدثني إسحاق أخبرنا عبدالرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ((لا تقوم السّاعة حتّى تطلع الشّمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها النّاس آمنوا أجمعون، وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها)) ثم قرأ الآية.
ورواه البخاري (ج1 ص352) من حديث الأعرج عن أبي هريرة به.
وأخرجه مسلم (ج2 ص371) من حديث العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة به.
هذا الحديث من الأحاديث التي طعن فيها محمد رشيد رضا، "المنار" (ج8 ص210،211).
15- قال الإمام البخاري رحمه الله (ج6 ص297): حدثنا محمد بن يوسف حدثنا سفيان عن الأعمش عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب))؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنّها تذهب حتّى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها: ارجعي من حيث جئت فتطلع من مغربها فذلك قوله تعالى: {والشّمس تجري لمستقرّ لها ذلك تقدير العزيز العليم ))}.
وأخرجه مسلم (ج2 ص372) رقم (397).
هذا الحديث يطعن فيه كما في "المنار" (ج8 ص211) ويقول: إن الإمام أحمد قال: إن إبراهيم بن يزيد لم يسمع من أبي ذر، وقد ذكره هو عن إبراهيم عن أبيه عن أبي ذر، فسبحان من أعمى بصيرته، أعني أن الحديث مرويّ عن يزيد والد إبراهيم عن أبي ذر، لا عن إبراهيم عن أبي ذر.
وبعد فإن الحديث مرويّ عن جماعة من الصحابة كما في "تفسير ابن كثير" (ج2 ص194) منهم: حذيفة بن أسيد، رواه مسلم (ج18 ص235) برقم (7215) ومنهم: صفوان بن عسال، رواه الترمذي (ج5 ص545) والنسائي في "الكبرى" وابن ماجة (ج2 ص1353)، ومنهم: عبدالله بن عمرو، رواه مسلم (ج18 ص280) برقم (7359).
ولا أعلم عالمًا من علماء المسلمين طعن فيه.
16- قدحه في كعب الأحبار ووهب بن منبه، "المنار" (ج9 ص480) وهو لم يسبق إلى هذا، اللهم إلا قول معاوية رضي الله عنه في كعب الأحبار: إنه يكذب، ولكنه مؤول على أنه بمعنى الخطأ، كما في "الفتح" (ج13 ص346) طبعة الريان.
ووهب وثقه أبوزرعة والنسائي، وقال عمرو بن علي: كان ضعيفًا كما في "تهذيب التهذيب"، ووهب من رجال الشيخين، وكعب الأحبار روى له البخاري تعليقًا، ومسلم موصولاً، كما ذكره الحافظ في "تهذيب التهذيب".
17- ثناؤه على جمال الدين الأفغاني:
وقد أنكر عليه بعض معاصريه فقال أبوالهدى الصيادي لمحمد رشيد رضا: (إني أرى جريدتك طافحة بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة، وقد تدرجت به الحسينية التي يزعمها زورًا، وقد ثبت في دوائر الدولة رسميًا أنه مازندراني من أحلاف الشيعة). اهـ من "منهج المدرسة العقلية في التفسير" ص(76).
وإذا أردت أن تعرف شيئًا عن ضلال جمال الدين قرأت "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" للأخ فهد بن عبدالرحمن الرومي، وكتاب "دعوة جمال الدين الأفغاني في الميزان الإسلامي" للأخ: مصطفى فوزي بن عبداللطيف غزال.
18- ثناؤه على محمد عبده وفتنته به:
فتن محمد رشيد رضا بمحمد عبده، حتى أنكر عليه يوسف النبهاني فقال:
فذاكرته في شيخه وهو عبده فقلت له لو كابن سيناء زعمتم لقلنا لكم: حقًا وإن كان باطلاً ولكنكم مع تركه الحج مرة ومع تركه فرض الصلاة ولم يكن ومع كونه شيخ المسون مجاهرًا ومع غير هذا من ضلالاته التي تقولون: أستاذ إمام لديننا ونحن نراه عندنا شر فاسق تملكه الشيطان عن قومه قسرًا وعالم فاراب وأرفعهم قدرًا ولم نر من هذا على ديننا ضرًا وحج لباريز وللندن عشرًا يسر بذا بل كان يتركها جهرًا بذلك لا يخفي إخوتهم سرًا بها سار مثل السهم للجهة الأخرى فما أكذب الدعوى وما أقبح الأمرا فيقتل فسقًا بالشريعة أو كفرًا
قال أبوعبدالرحمن: ابن سيناء والفارابي ملحدان، ويوسف النبهاني مخرّف، ولا مانع من قبول الحق ممن كان.
وأما كون شخص هداه الله للسنة على يدي محمد رشيد رضا، فهو يرى أنه لزامًا عليه أن يدافع عنه، فهذا أمر عجيب، فما أكثر الناس الذين هداهم الله على أيدي جماعة التبليغ ثم تحولوا إلى السنة، ثم أصبحوا بحمد الله يحذّرون من بدع جماعة التبليغ.
ومن الناس من يهديه الله للإسلام على أيدي الصوفية، ثم يرى هزة الرءوس عند الذكر، ويلتمس طريقة أهل السنة التي هي الطريق القويم، ومن الناس من يكون قد هداه الله على أيدي بعض الإخوان المسلمين، فتدعوه إلى السنة فيقول: أنا ياأخي كنت ضائعًا فهداني الله على أيدي الإخوان المسلمين، فتقول له: أنت انتقلت من ضياع سهل إلى ضياع مستصعب، وأنا أدعوك إلى الطريق القويم، إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى تعلّمها ثم العمل بها ثم الدعوة إليها، {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}.
فكونك قد هداك الله للسنة على يدي محمد رشيد رضا، لا يدل أنه على الصراط المستقيم، وإذا أردنا أن نثْبت للشخص السلفية فلابد أن نعرض أعماله على أعمال السلف الذين لا يرفعون رأسًا إلا لقول الله وقول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد أصبحت السلفيّة ستارًا يندرج تحته حالق اللحية المتشبه بأعداء الإسلام، مهلاً مهلاً أيها المسلمون اتقوا الله، ودعوا هذه الإدّعاءات، فقد أصبح عوام المسلمين وطلبة العلم المبتدئين أضحيتهما، {ياأيّها الّذين ءامنوا اتّقوا الله وكونوا مع الصّادقين}.
{ليس بأمانيّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا ومن يعمل من الصّالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنّة ولا يظلمون نقيرًا ومن أحسن دينًا ممّن أسلم وجهه لله وهو محسن واتّبع ملّة إبراهيم حنيفًا واتّخذ الله إبراهيم خليلاً}.
فليست السلفية بالإدعاءات، ولكنها استسلام لله وقبول ما جاء عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وبعض الصحابة رضوان الله عليهم عند أن أنزل الله سبحانه وتعالى: {وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله} شق عليهم ذلك فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهْل الكتابين من قبْلكم: سمعْنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعْنا، فلما أذعن القوم أنزل الله في إثرها: {آمن الرّسول بما أنزل إليه من ربّه والمؤمنون} إلى قوله: {لا يكلّف الله نفسًا إلاّ وسْعها}. إلى آخر السورة. رواه بهذا المعنى مسلم من حديث أبي هريرة وابن عباس.
لسنا نقبل أن يتحمس الشخص للدين من جوانب، ويهدمه من جانب، فأصحاب المدرسة العقلية الحديثة لا يرون حجيّة حديث الآحاد، والدين أغلبه من طريق الآحاد، ويقدمون العقل على النقل فهل هذه طريقة السلف؟. وليس عندي من كتب محمد رشيد رضا إلا "المنار" ورسالة في الربا، ولو أردت استقصاء ما ردّ من الأحاديث أو شكك فيه، لكان مجلدًا، أفكان سلفنا كذلك.
ائتوني بسلفي حرّف ما تقدم من الآيات، ورد ما تقدم من الأحاديث، وأضعاف أضعافها، والرجل لم يؤت من جهل فقد بهرتني كثرة استدلالاته، وسعة اطلاعه، ولكنه صاحب هوى، فتن بجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
أما آثار المدرسة العقلية على الدين فإفساد الأزهر، والتبرج والسفور، ومهاجمة السنة، وما ذكرت شيئًا بالنسبة لكتاب "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" وكتاب "دعوة جمال الدين الأفغاني في ميزان الإسلام".
وكون محمد رشيد خالف أستاذه بعد وفاة أستاذه كما ذكره في "المنار" ص(16) فهل أقصر عن رد الأحاديث التي لا توافق هواه؟ الجواب: لا، فقد انتهى شيخه محمد عبده عند تفسير: {وكان الله بكلّ شيء محيطًا}آية (125) من سورة النساء كما في "المنار" ثم مشى على تضعيف ما لم يوافق هواه، وهل تراجع عن الأحاديث التي وافق شيخه على تضعيفها، وكان الواجب عليه أن ينبّه في أثناء التفسير وعند مناسبات المواضيع من الأحاديث.
ولما كان فعل أصحاب المدرسة العقلية الحديثة يهدم الإسلام وكثير من الناس لا يعلمون أن الطعن في حديث الآحاد طعن في الدين كله، وقد اهتم العلماء رحمهم الله برد هذه الفكرة الخطيرة على الدين فرد عليهم الإمام الشافعي رحمه الله في "الرسالة"، والإمام البخاري في "صحيحه" عقد كتابًا للرد عليهم وأبومحمد ابن حزم في كتاب "إحكام الأحكام" وابن القيم رحمه الله في كتاب "الصواعق المرسلة"، وردّهم لما يخالف أهواءهم من السنة أمر قد أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج12 ص354): حدثنا عبدالوهاب بن نجدة أخبرنا أبوعمرو بن كثير بن دينار عن حريز بن عثمان عن عبدالرحمن ابن أبي عوف عن المقدام بن معدي كرب عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: ((ألا إنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه، ألا لا يحلّ لكم الحمار الأهليّ، ولا كلّ ذي ناب من السّبع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه)).
عبدالرحمن بن أبي عوف مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
والحديث له شواهد، منها الذي بعده على أنه قد تابعه الحسن بن جابر اللخمي، كما عند الترمذي، وهو مستور الحال، فالحديث حسن لغيره.
قال أبوداود رحمه الله (ج12 ص356): حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل وعبدالله بن محمد النفيلي قالا أخبرنا سفيان.
حدثنا أحمد بن محمد بن حنبل وعبدالله بن محمد النفيلي وابن كثير قالوا حدثنا سفيان عن أبي النضر عن عبيدالله بن أبي رافع عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لا ألفينّ أحدكم متّكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما وجدنا في كتاب الله اتّبعناه)).
فإن رأينا من يجادل أو يدافع عن بعد محمد رشيد رضا عن السلفية، فإننا إن شاء الله سنكلف بعض إخواننا بجمع ما ردّه أو شك فيه أو شكّك من السنن، ولكننا يعلم الله (نستثقل) هذا أو نراه تحصيل حاصل، فأحاديث الدجال قد جمعت وحكم العلماء بتواترها، وأحاديث المهدي قد جمعت وحكم العلماء بتواترها، وكان قدح ابن خلدون فيها نقيصة فيه، ودليل على قصوره في علم الحديث، وهكذا حديث انشقاق القمر وغيرها من دلائل النبوة، قد جمعت الصحيح منها في "الصحيح المسند من دلائل النبوة" والذي أعتقده وأدين الله به أن دعوة جمال الدين الأفغاني ومن سلك مسلكه، نكبة على الإسلام، وجناية على العلم، وفتح باب للشر بجميع أنواعه، وفتح باب لأعداء الإسلام، وللفسقة من المسلمين، للطعن فيما لا يوافقهم من السنن.
على أنني أحمد الله فقد استيقظ الشباب المصري، وعلموا أن هذه دعوة هدّامة للدين فجزاهم الله خيرًا، وإذا كنا لا نرضى بتقليد أئمة الهدى، مثل: مالك والشافعي وأحمد، فنحن بحمد الله عن تقليد هؤلاء أبعد. وهذا من فضل الله علينا والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
&&&&&
شبهة وجوابها
قال الله سبحانه وتعالى: {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه ءايات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلاّ الله والرّاسخون في العلم يقولون ءامنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب}.
وقال البخاري رحمه الله (ج8 ص209): حدثنا عبدالله بن مسلمة حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: تلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذه الآية : {هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلا أولو الألباب} قالت: قال رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فإذا رأيت الّذين يتّبعون ما تشابه منه، فأولئك الّذين سمّى الله فاحذروهم)).
هذه الشبهة أن بعض المعاصرين ممن جمع بين بدعة الخوارج وبدعة المعتزلة، سمعته يستدل على دفع حديث السحر بقول الله عز وجل: {إذ يقول الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا}.
وقوله تعالى: {وقال الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا }.
قال: فلو قلنا بصحة الحديث لوافقنا المشركين في هذه الدعوى.
قال أبوعبدالرحمن: وليست هذه بأول انْهزامية للمعاصرين أمام أهل الباطل، وما أكثر المعجزات التي أنكروها، لأن عقول أعداء الإسلام لا تتقبّلها، وما أكثر الأحكام التي حرّفوها أو ردوها، لأنّها لا تتمشى مع ما عليه المجتمع، وما أوتي هذا القائل المسكين إلا من قبل نفسه، إذ قد نبذ المسكين كلام الصحابة، وكلام أهل التفسير، وكلام الفقهاء، وكلام المحدثين، وزعم أنه يعتمد على نفسه وهو جاهل باللغة العربية وبغيرها من الوسائل، ولسنا ندعوه إلى تقليد هؤلاء الأئمة رحمهم الله، ولكن إلى الاستفادة من فهمهم، وإلا فالتقليد في الدين محرم، وقد ذكرت جملة من الأدلة في كتابي Aالمخرج من الفتنة@ وأنا ذاكر لك كلام بعض المفسرين حول هذه الآية:
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله (ج3 ص310) في الكلام على قول الله عز وجل: {وقال الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا }قال الله تعالى: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا }أي: جاءوا بما يقذفونك به، ويكذبون به عليك من قولهم: ساحر، مسحور، مجنون، كذّاب، شاعر، وكلها أقوال باطلة كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك. اهـ المراد منه.
والحافظ ابن كثير هو الذي ذكر حديث السحر في تفسير سورة الفلق محتجًا به رحمه الله.
وقال الشوكاني رحمه الله (ج4 ص63): أي ما تتبعون إلا رجلاً مغلوبًا على عقله بالسحر، وقيل: ذا سحر، وهي الرئة، أي بشر له رئة لا ملك.اهـ
والشوكاني هو الذي ذكر حديث السحر في تفسير سورة الفلق، لعلم هذين المفسريْن رحمهما الله بأنه لا تعارض بين الحديث وبين الآيتين، لأن الحديث يحمل على ما وجّهه الإمام القاضي عياض والحافظ ابن حجر وغيرهما من علماء الإسلام، والحديث قد تلقّاه علماء الإسلام بالقبول، فقد اتفق على إخراجه البخاري ومسلم، وما اتفقا عليه فهو أعلى مرتبة في الصحة كما في كتب المصطلح، ثم لم ينتقده الدارقطني ولا أبومسعود الدمشقي، ولا أبوعلي الجياني، ولا أبومحمد بن حزم، ممن تصدى لنقد بعض الأحاديث المعلة التي في الصحيحين، ولسنا نتوقع من علماء الكلام وغيرهم من ذوي الزيغ أن يعظموا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بل دأبهم التنفير عنها وتلقيب حملتها بالألقاب المنفّرة، وقد ذكر ابن قتيبة في كتابه "تأويل مختلف الحديث" الشيء الكثير من سخريّتهم بأهل السنة ،ولكن أبى الله إلاّ أن ينصر أهل السنة، ويذلّ أهل البدعة والحمد لله.
وهذا الحديث الصحيح يهدم على المبتدعة عقيدتهم أن السحر ليس بحقيقة ولكنه تخيّل، فلذلك هم يحاولون التشكيك فيه وفي غيره من السنن التي تخالف أهواءهم فباءوا بالخزي، وتمت كلمة ربك هي العليا، وصدق الله إذ يقول: {إنّا نحن نزّلنا الذّكر وإنّا له لحافظون}.
واحتج بعضهم بقوله: { والله يعصمك من النّاس}.
وهذا شأن من لا يرجع إلى كتب التفسير، ولا يدري المتقدم من المتأخر فهذه الآية من آخر ما أنزل، كما ذكره الحافظ ابن كثير فقد سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وكسرت رباعيته وشج رأسه قبل نزولها، ثم إن المراد: يعصمك من القتل والأسر والتلف، وإلا فهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأبي وأمي بشر يجري عليه ما يجري على البشر، قال الله سبحانه وتعالى: {قل إنّما أنا بشر مثلكم يوحى إليّ أنّما إلهكم إله واحد }.
قال البخاري رحمه الله (ج12 ص339): حدثنا محمد بن كثير عن سفيان عن هشام عن عروة عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّما أنا بشر، وإنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم أن يكون ألحن بحجّته من بعض وأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حقّ أخيه شيئًا فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعةً من النّار)).
وقال البخاري رحمه الله (ج1 ص503): حدثنا عثمان قال حدثنا جرير عن منصور عن إبراهيم عن علقمة قال: قال عبدالله: صلّى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم -قال إبراهيم: لا أدري زاد أو نقص- فلمّا سلّم قيل له: يا رسول الله أحدث في الصّلاة شيء؟ قال: ((وما ذاك)) قالوا: صلّيت كذا وكذا، فثنى رجليه واستقبل القبلة وسجد سجدتين، ثمّ سلّم فلمّا أقبل علينا بوجهه قال: ((إنّه لو حدث في الصّلاة شيء لنبّأتكم به، ولكن إنّما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكّروني، وإذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب فليتمّ عليه، ثمّ ليسلّم ثمّ يسجد سجدتين)).
فنبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشر، يجري عليه ما يجري على البشر، كسرت رباعيته وشج رأسه.
قال الإمام البخاري رحمه الله (ج7 ص372): حدثنا إسحاق بن نصر حدثنا عبدالرزاق عن معمر عن همام سمع أبا هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((اشتدّ غضب الله على قوم فعلوا بنبيّه -يشير إلى رباعيته- اشتدّ غضب الله على رجل يقتله رسول الله في سبيل الله)).
حدثني مخلد بن مالك حدثنا يحيى بن سعيد الأموي حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((اشتدّ غضب الله على من قتله النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في سبيل الله، اشتدّ غضب الله على قوم دمّوا وجه نبيّ الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم )).
حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا يعقوب عن أبي حازم أنه سمع سهل بن سعد وهو يسأل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أما والله إنّي لأعرف من كان يغسل جرح رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومن كان يسكب الماء وبما دووي، قال: كانت فاطمة عليها السّلام بنت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم تغسله، وعليّ يسكب الماء بالمجنّ، فلمّا رأت فاطمة أنّ الماء لا يزيد الدّم إلا كثرةً أخذت قطعةً من حصير فأحرقتها وألصقتها، فاستمسك الدّم، وكسرت رباعيته يومئذ، وجرح وجهه، وكسرت البيضة على رأسه.
حدثني عمرو بن علي حدثنا أبوعاصم حدثنا ابن جريج عن عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس قال: اشتدّ غضب الله على من قتله نبيّ اشتدّ غضب الله على من دمّى وجه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
قال الإمام النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" (ج12 ص148): وفى هذا وقوع الانتقام والابتلاء بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، لينالوا جزيل الأجر، ولتعرف أممهم وغيرهم ماأصابهم ويتأسوا بهم، قال القاضي: وليعلم أنّهم من البشر تصيبهم محن الدنيا، ويطرأ على أجسامهم ما يطرأ على أجسام البشر، ليتيقّنوا أنّهم مخلوقون مربوبون، ولا يفتتن بما ظهر على أيديهم من المعجزات وتلبيس الشيطان من أمرهم، ما لبّسه على النصارى. اهـ.
وردّهم السنة التي لا يدل عليها القرآن في فهمهم السقيم، علم من أعلام النبوة، فقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((ألا وإنّي أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلّوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه)).
رواه أبوداود من حديث المقدام بن معدي كرب، وفيه عبدالرحمن بن أبي عوف، وهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات، وقد تابعه الحسن بن جابر، كما عند الترمذي، وهو مستور الحال، فالحديث حسن لغيره، وله شاهد من حديث أبي رافع عند أبي داود، وقد ذكرتهما بسنديهما في "الصحيح المسند من دلائل النبوة".
الطاعنون في الحديث
قدح الجصاص في حديث السحر:
قال (ج1 ص49): وقد أجازوا من فعل الساحر ما هو أطم من هذا وأفظع، وذلك أنّهم زعموا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر، وأن السحر عمل فيه حتى قال فيه: ((إنّه يتخيّل لي أني أقول الشّيء وأفعله، ولم أقلْه ولم أفعلْه)) وإن امرأةً يهوديةً سحرته في جف طلعة ومشط ومشاقة، حتى أتاه جبريل عليه السلام فأخبره أنّها سحرته في جف طلعة، وهو تحت راعوفة البئر فاستخرج، وزال عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك العارض، وقد قال الله تعالى وهو مكذبًا للكفار فيما ادعوه من ذلك للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال جل من قائل: {وقال الظّالمون إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا} ومثل هذه الأخبار من وضع الملحدين تلعبًا بالحشو الطغام واستجرارًا لهم إلى القول بإبطال معجزات الأنبياء عليهم السلام والقدح فيها، وأنه لا فرق بين معجزات الأنبياء وفعل السحرة، وأن جميعه من نوع واحد، والعجب ممن يجمع بين تصديق الأنبياء عليهم السلام، وإثبات معجزاتهم وبين التصديق بمثل هذا من فعل السحرة مع قوله تعالى: {ولا يفلح السّاحر حيث أتى} فصدّق هؤلاء من كذّبه الله، وأخبر ببطلان دعواه وانتحاله، وجائز أن تكون المرأة اليهودية بجهلها فعلت ذلك، ظنًا منها بأن ذلك يعمل في الأجساد وقصدت به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فأطلع الله نبيه على موضع سرها، وأظهر جهلها فيما ارتكبت وظنت، ليكون ذلك من دلائل نبوته، لا أن ذلك ضرّه وخلط عليه أمره، ولم يقل كل الرواة إنه اختلط عليه أمره، وإنما هذا اللفظ زيد في الحديث ولا أصل له.اهـ
طعن محمد عبده ومحمد رشيد رضا:
قال الأخ فهد بن عبدالرحمن بن سليمان الرومي في كتابه "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" ص(346-351):
ومن هذا ما ورد في "صحيح البخاري" و"مسلم" عن عائشة رضى الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما فعله، حتّى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع نخلة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان)) فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: ((يا عائشة كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، أو كأنّ رءوس نخلها رءوس الشّياطين)) قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: ((قد عافاني الله، فكرهت أن أثوّر على النّاس فيه شرًّا)) فأمر بها فدفنت. رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى عن هذا الحديث: (ثابت عند أهل العلم بالحديث، لا يختلفون في صحته، وقد اتفق أصحاب الصحيحين على تصحيحه، ولم يتكلم فيه أحد من أهل الحديث بكلمة واحدة، والقصة مشهورة عند أهل التفسير، والسنن، والحديث، والتاريخ، والفقهاء، وهؤلاء أعلم بأحوال رسول الله وأيامه من المتكلمين).
وقال الأستاذ عبدالقادر الأرنؤوط: ورواه أيضًا أحمد والنسائي وابن سعد والحاكم وعبد بن حميد وابن مردويه والبيهقي في "دلائل النبوة" وغيرهم.
وقال ابن القيم في "بدائع الفوائد": وهذا الحديث ثابت عند أهل العلم متلقّى عندهم بالقبول.
تلكم درجة ذلك الحديث، ولنسجل هنا في مقابلة هذا ما ذهب إليه الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسيره لقوله تعالى: {ومن شرّ النّفّاثات في العقد} حيث يقول:
(وقد رووا هنا أحاديث في أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحره لبيد بن الأعصم، وأثّر سحره فيه حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله أو يأتي شيئًا وهو لا يأتيه، وأن الله أنبأه بذلك وأخرجت مواد السحر من بئر وعوفي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مما كان نزل به من ذلك ونزلت هذه السورة.
ولا يخفى أن ثأثير السحر في نفسه عليه السلام حتى يصل به الأمر إلى أن يظن أنه يفعل شيئًا وهو لا يفعله، ليس من قبيل تأثير الأمراض في الأبدان، ولا من قبيل عروض السهو والنسيان في بعض الأمور العادية، بل هو ماس بالعقل، آخذ بالروح، وهو مما يصدّق قول المشركين فيه: {إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا}.
وليس المسحور عندهم إلا من خولط في عقله، وخيّل له أن شيئًا يقع وهو لا يقع، فيخيّل إليه أنه يوحى إليه ولا يوحى إليه.
وقد كان كثير من المقلّدين الذين لا يعقلون ما هي النبوة وما يجب لها أن الخبر بتأثير السحر في النفس الشريفة قد صح، فيلزم الاعتقاد به، وعدم التصديق به من بدع المبتدعين، لأنه ضرب من إنكار السحر، وقد جاء القرآن بصحة السحر.
فانظر كيف ينقلب الدين الصحيح، والحق الصريح في نظر المقلّد بدعة، نعوذ بالله، يحتج على ثبوت السحر، ويعرض عن القرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعدّه من افتراء المشركين عليه، ويؤول في هذه ولا يؤول في تلك، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر لأنّهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي نسب إلى لبيد، فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم.
والذي يجب اعتقاده أن القرآن مقطوع به، وأنه كتاب الله بالتواتر عن المعصوم صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو الذي يجب الاعتقاد بما يثبته، وعدم الاعتقاد بما ينفيه، وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبّخهم على زعمهم هذا، فإذن هو ليس بمسحور قطعًا.
وأما الحديث على فرض صحته، فهو آحاد والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد، وعصمة النبي من تأثير السحر في عقله عقيدة من العقائد لا يؤخذ في نفيها عنه إلا باليقين، ولا يجوز أن يؤخذ فيها بالظن والمظنون.
على أن الحديث الذي يصل إلينا من طريق الآحاد، إنما يحصل الظن عند من صح عنده، أما من قامت له الأدلة على أنه غير صحيح فلا تقوم به عليه حجة، وعلى أي حال فلنا بل علينا أن نفوض الأمر في الحديث، ولا نحكمه في عقيدتنا ونأخذ بنص الكتاب وبدليل العقل).
ثم قال: (على أن نافي السحر بالمرة لا يجوز أن يعد مبتدعًا، لأن الله تعالى ذكر ما يعتقد به المؤمنون في قوله: {آمن الرّسول} وفي غيرها من الآيات ووردت الأوامر بما يجب على المسلم أن يؤمن به حتى يكون مسلمًا، ولم يأت في شيء من ذلك ذكر السحر، على أنه مما يجب الإيمان بثبوته، أو وقوعه على الوجه الذي يعتقد به الوثنيون في كل ملة، بل الذي ورد في الصحيح هو أن تعلّم السحر كفر، فقد طلب منا أن لا ننظر بالمرة فيما يعرف عند الناس بالسحر ويسمى باسمه).
وماذا نقول بعد هذا في موقف الأستاذ الإمام، هل يكفي وصف تلميذه لسيد رشيد رضا له: (بأنه كان مقصّرًا في علوم الحديث من حيث الرواية والحفظ والجرح والتعديل؟) لا، لا يكفي ذلك، بل قد تجاوزه الإمام محمد عبده فحتى المقصرين في علوم الحديث يدركون أنه ليس من حقهم الخوض في الأحاديث تصحيحًا وتضعيفًا، حتى يدركوا أصول ذلك، فكيف برد ما رواه البخاري ومسلم.
ثم لنستمع إلى رأي الشيخ رشيد رضا في هذا مدافعًا عن أستاذه وملتمسًا مخرجًا آخر له ولرجال المدرسة كافة، حيث قال بعد سياقه للحديث السابق: (فهذا الحديث صريح في أن المراد من السحر فيه خاص بمسألة مباشرة النساء، ولكن فهم أكثر العلماء أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر سحرًا أثّر في عقله كما أثر في جسده، فأنكره بعضهم، وبالغوا في إنكاره وعدوه مطعنًا في النبوة ومنافيًا للعصمة، لقول عائشة: حتى إنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يكن فعله. فعظمت هذه الرواية على علماء المعقول وعدوها مخالفة للقطعي في النقل، وهو ما حكاه الله تعالى عن المشركين من طعنهم فيه كعادة أمثالهم في رسلهم بقولهم: {إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسْحورًا} وتفنيده تعالى لهم بقوله: {انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلّوا فلا يستطيعون سبيلاً} ومخالفة للقطعي في العقل من عصمة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من كل ما ينافي النبوة والثقة بها، إذ يدخل فى ذلك التخييل ما هو من التشريع، ومخالفة لعلم النفس الذي يعلم منه أن الأنفس السافلة الخبيثة لا تؤثر في الأنفس العالية الطاهرة، فأنكر صحة الرواية بعض العلماء وأقدم من عرفنا ذلك عنهم من المفسرين الفقهاء أبوبكر الجصاص في كتابه "أحكام القرآن" وآخرهم شيخنا الأستاذ الإمام في "تفسير جزء عم"، وقد أطال شيخنا في هذا وبالغ فيه). ثم قال بعد هذا: (وقد محصت هذه المسألة مرارًا آخرها في الرد على مجلة الأزهر "نور الإسلام" في زعمها المفتري أنني كذبت حديث البخاري في سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فبيّنت أن الحديث الصحيح في المسألة عن عائشة رضى الله عنها توهم عبارة بعض رواياته ما هو أعم من المعنى الخاص الذي أرادته منها، وهو مباشرة الزوجية بينه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبينها فقولها: كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لم يفعله، كناية عن هذا الشيء الخاص لا عام في كل شيء... وبينت أيضًا أن الرواية في أصح أسانيدها عند الشيخين عن هشام عن أبيه عن عائشة فيها علة من علل الحديث الخفية التي يشترط في صحة الحديث السلامة منها، وهى: أن بعض منكري الحديث أعلّوه بهشام هذا، وألّف بعضهم كتابًا خاصًا فيه محتجًا بقول بعض علماء الجرح والتعديل أنه كان في العراق يرسل عن أبيه عروة بن الزبير ما سمعه من غيره، وعروة هو راوية عائشة الثقة، وهى خالته وقال ابن خراش: كان مالك لا يرضاه، يعنى: هشامًا، وقد نقم منه حديثه لأهل العراق، وقال ابن القطان: تغيّر قبل موته، ولاشك أن تعديل الجماعة له ومنهم الشيخان، خاص بما رواه قبل تغيره، فهذا عذر من طعن في روايته لهذا الحديث الذي أنكروا متنه بما علمت، والأمر فيه أهون مما قالوا، فالتحقيق أنه خاص بمسألة الزوجية كما جاء في التصريح به في الرواية الثانية كما تقدم، ولا يعقد بغير هذا). اهـ
من يقبل منه الجرح والتعديل
قال الله سبحانه وتعالى: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}.
وقال سبحانه وتعالى: {وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردّوه إلى الرّسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الّذين يستنبطونه منهم}.
وقال سبحانه وتعالى: {أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثمّ يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون}.
وقال سبحانه وتعالى: { ياأيّها الّذين ءامنوا إنّ كثيرًا من الأحبار والرّهبان ليأكلون أموال النّاس بالباطل ويصدّون عن سبيل الله}.
وقال سبحانه وتعالى: { فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلاّ الحقّ ودرسوا ما فيه والدّار الآخرة خير للّذين يتّقون أفلا تعقلون}.
وقال تعالى: {واتل عليهم نبأ الّذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشّيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنّه أخلد إلى الأرض واتّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الّذين كذّبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلّهم يتفكّرون}.
وقال تعالى: {مثل الّذين حمّلوا التّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا بئس مثل القوم الّذين كذّبوا بآيات الله والله لا يهدي القوم الظّالمين}.
وفى "مسند الإمام أحمد" برقم (143) بتحقيق أحمد شاكر من حديث عمر، والبزاركما في "كشف الأستار" (ج1 ص97) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ أخْوف ما أخاف على أمّتي كلّ منافق عليم اللّسان ))، أو بهذا المعنى.
وقال اللكنوى رحمه الله فى "الرفع والتكميل" ص(52): إيقاظ: في شرط الجارح والمعدل.
يشترط في الجارح والمعدل: العلم والتقوى والورع والصدق والتجنب عن التعصب ومعرفة أسباب الجرح والتزكية، ومن ليس كذلك لا يقبل منه الجرح ولا التزكية.
قال التاج السبكي: من لا يكون عالمًا بأسبابهما -أي الجرح والتعديل- لا يقبلان منه لا بإطلاق ولا بتقييد. انتهى.
وقال البدر بن جماعة: من لا يكون عالمًا بالأسباب، لا يقبل منه جرح ولا تعديل لا بإطلاق ولا بالتقييد. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر فى "شرح نخبته": إن صدر الجرح من غير عارف بأسبابه لم يعتبر به. وقال أيضًا: تقبل التزكية من عارف بأسبابها لا من غير عارف، وينبغى أن لا يقبل الجرح إلا من عدل متيّقظ. انتهى.
وقال الذهبى فى ترجمة (أبي بكر الصديق) من كتابه "تذكرة الحفاظ": حق على المحدث أن يتورع فيما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل الى أن يصير العارف الذى يزكي نقلة الأخبار ويجرحهم جهبذًا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى العلماء والإتقان وإلا تفعل:
فدع عنك الكتابة لست منها ولوسودت وجهك بالمداد
فإن آنست من نفسك فهمًا وصدقًا ودينًا وورعًا، وإلا فلا تفعل، وإن غلب عليك الهوى والعصبية لرأي ولمذهب، فبالله لا تتعب، وإن عرفت أنك مخلّط مخبّط مهمل لحدود الله فأرحنا منك. انتهى.
وقال الحافظ الذهبي فى ترجمة علي بن عبدالله بن المديني (ج3 ص140) ردًا على العقيلي حيث ذكر ابن المديني فى "الضعفاء" وقد بدت منه هفوة (يعني القول بخلق القرآن) ثم قال الإمام الذهبي: وهذا أبوعبدالله البخاري وناهيك به، وقد شحن "صحيحه" بحديث علي بن المديني، وقال: ما استصغرت نفسي بين يدي أحد إلا بين يدي علي بن المديني، ولو تركت حديث علي وصاحبه محمد، وشيخه عبدالرزاق، وعثمان بن أبى شيبة، وإبراهيم بن سعد، وعفان، وأبان العطار، وإسرائيل، وأزهر السمان، وبهز ابن أسد، وثابت البناني، وجرير بن عبدالحميد، لغلقنا الباب وانقطع الخطاب، ولماتت الآثار، واستولت الزنادقة، ولخرج الدجال، أفما لك عقل ياعقيلي، أتدرى فيمن تتكلم وإنما تبعناك فى ذكر هذا النمط لنذب عنهم ولنزيّف ما قيل فيهم: كأنك لا تدري أن كل واحد من هؤلاء أوثق منك بطبقات، بل وأوثق من ثقات كثيرين لم توردهم فى كتابك، فهذا مما لا يرتاب فيه محدث، وأنا أشتهي أن تعرفني من هو الثقة الثبت الذى ما غلط ولا انفرد بما لا يتابع عليه، بل الثقة الحافظ إذا انفرد بأحاديث كان أرفع له وأكمل لرتبته، وأدل على اعتنائه بعلم الأثر وضبطه دون أقرانه لأشياء ما عرفوها، اللهم إلا أن يتبين غلطه ووهمه فى الشيء، فيعرف ذلك، فانظر أول شيء إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلمالكبار والصغار ما فيهم أحد إلا وقد انفرد بسنة، فيقال له: هذا الحديث لا يتابع عليه، وكذلك التابعون كل واحد عنده ما ليس عند الآخر من العلم، وما الغرض هذا، فإن هذا مقرر على ما ينبغي فى علم الحديث، وإن تفرد الثقة المتقن يعد صحيحًا غريبًا، وإن تفرد الصدوق ومن دونه يعد منكرًا، وإن إكثار الراوي من الأحاديث التي لا يوافق عليها لفظًا أو إسنادًا يصيّره متروك الحديث، ثم كل أحد فيه بدعة أو له هفوة أو ذنوب يقدح فيه بما يوهن حديثه، ولا من شرط الثقة أن يكون معصومًا من الخطايا والخطأ، ولكن فائدة ذكْرنا كثيرًا من الثقات الذين فيهم أدنى بدعة، أو لهم أوهام يسيرة فى سعة علمهم، أن يعرف أن غيرهم أرجح منهم وأوثق إذا عارضهم أو خالفهم، فزن الأشياء بالعدل والورع.
وأما علي بن المدينى فإليه المنتهى فى معرفة علل الحديث النبوي مع كمال المعرفة بنقد الرجال وسعة الحفظ والتبحر في هذا الشأن، بل لعله فرد زمانه في معناه. وقد أدرك حماد بن زيد وصنف التصانيف وهو تلميذ يحيى ابن سعيد القطان، ويقال: لابن المديني نحو مائتي مصنف. اهـ
وقال الإمام الذهبي رحمه الله فى ترجمة موسى بن إسماعيل أبوسلمة التبوذكي المنقري: قلت: لم أذكر أبا سلمة للين فيه، ولكن لقول ابن خراش فيه: صدوق وتكلّم الناس فيه. قلت: نعم تكلموا فيه بأنه ثقة ثبت يارافضي. اهـ
وقال الحافظ الذهبي أيضًا فى ترجمة أبان بن إسحاق المدني: قال ابن معين وغيره: ليس به بأس، وقال أبوالفتح الأزدي: متروك. قلت: لا يترك فقد وثقه أحمد والعجلي، وأبوالفتح يسرف فى الجرح وله مصنف كبير إلى الغاية فى المجروحين جمع فأوعى، وجرح خلقًا بنفسه لم يسبقه أحد إلى التكلّم فيهم، وهو المتكلم فيه وسأذكره في المحمدين. اهـ
وهكذا التصحيح والتضعيف لا يقبلان إلا ممن توفّرت فيه هذه الشروط التي ذكرها الإمام الذهبي واللكنوي، وزيادة معرفة المصطلح، ومن أهمه معرفة المعل والشاذ، وهكذا أيضًا علم الرجال، ويبنغى أن يعلم المصحح والمضعف أنه إذا لم يتحرّ فهو بتصحيح الموضوع وما لا أصل له يدخل في شرع الله ما ليس منه، وبتضعيفه الصحيح بالهوى يبطل شرع الله، وكلا الأمرين من أكبر الكبائر، قال الله سبحانه وتعالى فى كتابه الكريم: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفْتروا على الله الكذب}.
وقال سبحانه وتعالى: { قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحقّ وأن تشركوا بالله ما لم ينزّل به سلطانًا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}.
وقال سبحانه وتعالى: {فلا وربّك لا يؤمنون حتّى يحكّموك فيما شجر بينهم ثمّ لا يجدوا في أنفسهم حرجًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا}.
ومن علامة أصحاب الأهواء وأصحاب البدع، أنّهم يصحّحون الحديث إذا كان موافقًا لأهوائهم، ويضعفونه إذا كان مخالفًا لأهوائهم، وقد قرأت كثيرًا في كتب الشيعة وفي "كشاف" الزمخشري فوجدت هذا بخلاف أهل السنة، فإنّهم يحكمون على الحديث بما تقتضيه الصناعة الحديثية، فرب حديث يكون مندرجًا تحت أصل ولا يمنعهم هذا من أن من أن يحكموا على الحديث بأنه ضعيف أو موضوع، وربّ راو يكون رأسًا في السنة فلا يمنعهم هذا من القول بتضعيفه إذا كان ضعيفًا، فرحمهم الله وجزاهم الله خيرًا على نصحهم وإنصافهم واتباعهم الحق أينما وجدوه.
بعض أدلة الجرح والتعديل
الناس يستغربون في هذا الزمن إذا رأوا في كتبنا انتقاد بعض أهل العلم، ذلك لأنّهم جهلوا فنًا عظيمًا ألا وهو علم الجرح والتعديل الذي قام به علماؤنا الأقدمون رحمهم الله، المتبعون لكتاب ربّهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والجرح هو الذي يستغربون، وأما التعديل عندهم فليس له حد، يطلقون تلك الألقاب الضخمة التي ما كان سلفنا رحمهم الله يطلقونها, وأنا ذاكر لك بعض أدلة الجرح لأنه المستنكر عندهم كما قال تعالى: {بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه}، وقال تعالى: {وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم}.
وأنا أسألك أيها المعترض، أعلي الطنطاوي خير أم أبوحاتم الرازي؟ والجواب معروف، أن أباحاتم الرازي إمام متفق على جلالته، إمام من أئمة الجرح والتعديل، وعلي الطنطاوي لا يساوي كلامه فلسًا، بل لا يساوي هو بعرةً، عرفته بالحرم المكي، وهو فاسق حالق اللحية لا يتقيّد بدليل، لا أكثر الله في علماء المسلمين من أمثاله.
وهكذا لابد لأهل السنة من أن يتميّزوا من هذا المجتمع الجاهلي، ولست أعني أنه كافر، ولكن لابد لهم من بيان أحوال الفسقة الذين يلبسون الحق بالباطل، ويفتن بهم المجتمع فيظن أنّهم من أهل العلم، وهم مفتونون فاتنون، وإليك بعض الأدلة على جواز جرح من يستحق الجرح:
1- عن أنس رضى الله عنه عن النبيصلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إنّ الله حجب التّوبة عن كلّ صاحب بدعة حتّى يدع بدعته)). رواه ابن أبي عاصم.
في هذا الحديث جرح أصحاب البدع.
2- عن سلمة بن عمرو بن الأكوع رضي الله عنه أن رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشماله فقال: ((كلْ بيمينك)) قال: لا أسْتطيع. قال: ((لا استطعت ما منعه إلاّ الكبر)) قال: فما رفعها إلى فيه. رواه مسلم.
3- عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل، فقتلت ولدها الّذي في بطنها، فاختصموا إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقضى أنّ دية ما في بطنها غرّة عبد أو أمة، فقال وليّ المرأة الّتي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ، فمثل ذلك يطلّ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان)). متفق عليه. زاد مسلم: من أجْل سجعه الّذى سجع.
4- عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أنّ امرأةً قتلت ضرّتها بعمود فسطاط، فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقضى على عاقلتها بالدّية وكانت حاملاً، فقضى في الجنين بغرّة، فقال بعض عصبتها: أندي من لا طعم ولا شرب ولا صاح فاستهلّ، ومثل ذلك يطلّ، قال: فقال: سجع كسجع الأعراب)). رواه مسلم.
5- عن عائشة رضى الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في مرضه: ((مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس))، قالت عائشة: فقلت: إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالنّاس، فقال: ((مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس))، فقالت عائشة: فقلت لحفصة: قولي له إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالنّاس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّكنّ لانتنّ صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصلّ بالنّاس)) فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا. متفق عليه.
6- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يسألون عن عبادة النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فلمّا أخبروا كأنّهم تقالّوها، فقالوا: وأين نحن من النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، قال أحدهم: أمّا أنا فأصلّي اللّيل أبدًا. وقال الآخر: وأنا أصوم الدّهر ولا أفطر. وقال الآخر: وأنا أعتزل النّساء فلا أتزوّج أبدًا. فجاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: ((أنتم الّذين قلتم كذا وكذا، أما والله إنّي لاخشاكم لله وأتقاكم له، لكنّي أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوّج النّساء فمن رغب عن سنّتي فليس منّي)). متفق عليه.
7- عن ابن مسعود رضى الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((هلك المتنطّعون)). قالها ثلاثًا. رواه مسلم.
في "النهاية" في مادة (نطع): هم المتعمّقون المغالون في الكلام المتكلمون بأقصى حلوقهم، مأخوذ من النطع، وهو الغار الأعلى من الفم، ثم استعمل في كل تعمق قولاً وفعلاً. اهـ
في هذه الأحاديث جرح لمن ترك السنن وأقبل على البدع والأهواء.
8- عن المعرور بن سويد قال: لقيت أبا ذرّ بالرّبذة وعليه حلّة وعلى غلامه حلّة، فسألته عن ذلك فقال: إنّي ساببت رجلاً فعيّرته بأمّه، فقال لي النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا أبا ذرّ أعيّرته بأمّه، إنّك امرؤ فيك جاهليّة، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه ممّا يأكل، وليلبسه ممّا يلبس، ولا تكلّفوهم ما يغلبهم، فإن كلّفتموهم فأعينوهم)) . متفق عليه.
9- عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه أن معاذ بن جبل رضي الله عنه كان يصلّي مع النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ يأتي قومه فيصلّي بهم الصّلاة، فقرأ بهم البقرة، قال: فتجوّز رجل فصلّى صلاةً خفيفةً، فبلغ ذلك معاذًا، فقال: إنّه منافق، فبلغ ذلك الرّجل، فأتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: يا رسول الله إنّا قوم نعمل بأيدينا، ونسقي نواضحنا، وإنّ معاذًا صلّى بنا البارحة فقرأ الْبقرة، فتجوّزت، فزعم أنّي منافق، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا معاذ أفتّان أنت؟ ثلاثًا، اقرأ: {والشّمْس وضحاها} و{سبّح اسم ربّك الأعلى}، ونحوها )). متفق عليه.
وهذا فى حق هذين الصحابيّين الجليلين ومن شابههما المراد به الأدب لا التجريح، وإنما ذكرنا هذا ليدل على جواز إطلاق مثل هذا على من يحتاج إلى تأديب.
10- وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه أنّ رجلاً خطب عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بئس الخطيب أنت، قل: ومن يعص الله ورسوله )). رواه مسلم.
11- وعن بريدة رضي الله عنه أنّ رجلاً نشد في المسجد فقال: ((من دعا إلى الجمل الأحمر فقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لا وجدْت، إنّما بنيت المساجد لما بنيتْ له )). رواه مسلم.
12- وعن جابر رضى الله عنه أنّ عبْدًا لحاطب جاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشْكو حاطبًا، فقال: يارسول الله ليدخلنّ حاطب النّار، فقال رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كذبت لا يدخلها، فإنّه شهد بدْرًا والحديبية )). رواه مسلم.
13- عن أنس رضي الله عنه قال: مرّوا بجنازة فأثْنوا عليها خيرًا، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((وجبتْ )) ثمّ مرّوا بأخرى فأثْنوا عليها شرًّا، فقال: ((وجبتْ)) فقال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: ما وجبتْ؟ قال: ((هذا أثنيتم عليه خيرًا فوجبت له الجنّة، وهذا أثنيتم عليه شرًّا فوجبت له النّار، أنتم شهداء الله في الأرض )). متفق عليه.
14- وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يعودني عام حجّة الوداع من وجع اشتدّ بي، فقلت: إنّي قد بلغ بي من الوجع ما ترى وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، أفأتصدّق بثلثي مالي؟ قال: ((لا)) فقلت: فالشّطر يا رسول الله؟ فقال: ((لا)) قلت: فالثلث يا رسول الله؟ قال: ((الثّلث، والثّلث كثير أو كبير، إنّك أن تذر ورثتك أغنياء، خير من أن تذرهم عالةً يتكفّفون النّاس، وإنّك لن تنفق نفقةً تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتّى ما تجعل في في امرأتك)) فقلت: يا رسول الله أخلّف بعد أصحابي؟ قال: ((إنّك لن تخلّف فتعمل عملاً تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجةً ورفعةً، ولعلّك أن تخلّف حتّى ينتفع بك أقوام ويضرّ بك آخرون، اللهمّ أمض لأصحابي هجرتهم ولا تردّهم على أعقابهم لكن البائس سعد بن خولة)) يرثي له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن مات بمكّة. متفق عليه.
15- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: قال له في شأن الشّيطان: ((أما إنّه قد صدقك وهو كذوب)). رواه البخاري.
16- وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لا تقوم السّاعة حتّى يبعث دجّالون كذّابون قريب من ثلاثين كلّهم يزعم أنّه رسول الله )). متفق عليه واللفظ لمسلم.
17- وعن جابر بن سمرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إنّ بيْن يدي السّاعة كذّابين )). رواه مسلم.
ففي هذه الأدلة دليل على الجرح، وأما أدلة التعديل فأكثر من أن تحصى ولم ينازع فيها العصريون فلم نوردها، وإن كان إيرادها يقوى أدلة الجرح ويثبتها على أن أدلة الجرح كافية. والحمد لله.
وقد ذكرت جملة من أدلة الجرح والتعديل في "الجامع الصحيح مما ليس في الصحيحين" ، وفي "نشر الصحيفة في كلام أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة".
الإنكار على من رد السّنن بالرأي والاستحسان
قال الله سبحانه: {فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنّما يتّبعون أهواءهم} وقد ذكرت في "شرعية الصلاة بالنعال" جملة من هذا، فأنا أنقلها هنا لمناسبتها أيضًا هنا وأزيد مايسر الله.
الحديث الأول:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قضى في امرأتين من هذيل اقتتلتا، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب بطنها وهي حامل فقتلت ولدها الّذي في بطنها، فاختصموا إلى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقضى أنّ دية ما في بطنها غرّة، عبد أو أمة، فقال وليّ المرأة الّتي غرمت: كيف أغرم يا رسول الله من لا شرب ولا أكل، ولا نطق ولا استهلّ، فمثل ذلك يطلّ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان)).
رواه البخاري: (ج12 ص328). ومسلم: (ج11 ص177)، وفيه زيادة قوله: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان من أجل سجعه الّذي سجع)).
وأخرجه أبوداود: (ج4 ص318). والنسائي: (ج8 ص43). وابن ماجة: (ج2 ص882).
الحديث الثاني:
عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: أنّ امرأةً قتلت ضرّتها بعمود فسطاط، فأتي فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقضى على عاقلتها بالدّية، وكانت حاملاً، فقضى في الجنين بغرّة، فقال بعض عصبتها: أندي من لا طعم ولا شرب، ولا صاح فاستهلّ، ومثل ذلك يطلّ، قال: فقال: ((سجع كسجع الأعراب)).
رواه مسلم (ج11 ص179). والنسائي (ج8 ص44).
فأنت ترى أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر عليه معارضته لحديثه برأيه وقال: ((إنّما هذا من إخوان الكهّان)). من أجل سجعه.
الحديث الثالث:
عن عبدالله بن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا، أبوبكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر -قال نافع: لا أحفظ اسمه- فقال أبوبكر لعمر: ما أردت إلا خلافي، قال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله سبحانه:{يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} الآية. قال ابن الزّبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بعد هذه الآية حتّى يستفهمه، ولم يذكر ذلك عن أبيه -يعني- أبا بكر.
أخرجه البخاري (ج10 ص212،214) وفيه رواية ابن أبي مليكة عن عبدالله بن الزبير (ج17 ص39). وأخرجه الترمذي (ج4 ص185) وعنده تصريح عبدالله بن أبي مليكة أن عبدالله بن الزبير حدثه به، وأحمد (ج4 ص6)، والطبري (ج26 ص119) وفيه قول نافع: حدثني ابن أبي مليكة عن ابن الزبير، فعلم اتصال الحديث كما أشار إليه الحافظ في "الفتح" (ج10 ص212).
الحديث الرابع:
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال في مرضه: ((مروا أبابكْر فيصلّ بالنّاس)) قالت عائشة: فقلت: إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ. فقال: ((مروا أبابكر فلْيصلّ بالنّاس)) قالت عائشة: فقلت لحفْصة: قولي: إنّ أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع النّاس من البكاء، فمر عمر فليصلّ بالنّاس، ففعلت حفصة، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّكنّ لأنتنّ صواحب يوسف، مروا أبابكر فليصلّ بالنّاس)) قالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيرًا.
رواه البخاري (ج17 ص39). ومسلم (ج5 ص140،141).
الحديث الخامس:
عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إنّ الله لا ينْزع العلم بعد أن أعطاكموه انتزاعًا، ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهّال يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلّون ويضلّون)).
رواه البخاري (ج17 ص45) ومسلم واللفظ للبخاري.
الحديث السادس:
قال مسلم رحمه الله (ج3 ص1599): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا زيد بن الحباب عن عكرمة بن عمار حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع أنّ أباه حدّثه أنّ رجلاً أكل عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشماله، فقال: ((كل بيمينك)) قال: لا أستطيع. قال: ((لا استطعت))، ما منعه إلا الكبر، قال: فما رفعها إلى فيه.
الحديث السابع:
قال البخاري رحمه الله (ج10 ص121): حدثنا إسحاق حدثنا خالد ابن عبدالله عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم دخل على رجل يعوده، فقال: ((لا بأس طهور إن شاء الله)) فقال: كلا بل هي حمّى تفور، على شيخ كبير، حتى تزيره القبور. قال النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((فنعم إذًا)).
آثار عن السلف
وأما الاثار عن السلف رحمهم الله، فأكثر من أن تحصر، ولكن أشير إلى بعضها:
الأثر الأول:
عن علي رضي الله عنه أنه قال: لو كان الدّين بالرّأي لكان أسفل الخفّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يمسح على ظاهر خفّيه.
رواه أبوداود (ج1 ص63) ورجاله رجال الصحيح، إلا عبدخير، وهو ثقة كما في "التقريب".
وقال الحافظ ابن حجر في "بلوغ المرام": إنّ سنده حسن، وقال في "التلخيص": رواه أبوداود وإسناده صحيح.
الأثر الثاني:
الحديث عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لا تمنعوا نساءكم المساجد إذا استأذنّكم)) قال: فقال بلال بن عبدالله: والله لنمنعهنّ، قال: فأقبل عليه عبدالله فسبّه سبًّا سيّئًا ما سمعته سبّه مثله، وقال: أخبرك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقول: والله لنمنعهنّ.
رواه مسلم (ج4 ص161). وفي "جامع بيان العلم وفضله" (ج2 ص139) للحافظ ابن عبد البر أنه قال له: لعنك الله، لعنك الله. أقول: رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر أن لا يمنعن، وقام مغضبًا.
الأثر الثالث:
عن عبدالله بن المغفل أنّه رأى رجلاً يخذف فقال له: لا تخذف، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نهى عن الخذف، أو كان يكره الخذف، وقال: ((إنّه لا يصاد به صيد، ولا ينكى به عدوّ، ولكنّها قد تكسر السّنّ وتفقأ العين))، ثمّ رآه بعد ذلك يخذف، فقال له: أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه ينهى عن الخذف، وأنت تخذف، لا أكلّمك كذا وكذا.
رواه البخاري (ج12 ص26). ومسلم (ج13 ص105،106) وفيه: لا أكلمك أبدًا.
الأثر الرابع:
عن أبي قتادة تميم بن نذير العدوي أنّه قال: كنّا عند عمران بن حصين في رهط، وفينا بشير بن كعب فحدّث عمران يومئذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((الحياء خير كلّه)) فقال بشير بن كعب: إنّا لنجد في بعض الكتب: أنّ منه سكينةً ووقارًا ومنه ضعف. فغضب عمران حتّى احمرّت عيناه، وقال: ألا أراني أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتعارض فيه، قال: فأعاد عمران الحديث، قال: فأعاد بشير، فغضب عمران، قال: فما زلنا نقول فيه: إنّه منّا يا أبا نجيد، إنّه لا بأس به.
رواه مسلم (ج2 ص7) وأحمد (ج4 ص427،436،440، 442،445)، والطيالسي (ج2 ص41).
الأثر الخامس:
عن ابن أبي مليكة أن عروة بن الزبير قال لابن عباس: أضللت الناس، قال: وما ذاك يا عريّة؟ قال: تأمر بالعمرة في هؤلاء العشر وليستْ فيهنّ عمرة فقال: أولا تسأل أمّك عن ذلك ؟ فقال عروة: فإنّ أبابكر وعمر لم يفعلا ذلك، فقال ابن عبّاس: هذا الّذي أهلككم والله ما أرى إلاّ سيعذّبكم، إنّي أحدّثكم عن النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتجيئوني بأبي بكر وعمر...
رواه أحمد (ج1 ص337). وإسحاق بن راهويه كما في "المطالب العالية" (ج1 ص360) وفيه : نجيئكم برسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتجيئوني بأبي بكر وعمر؟.
والخطيب في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص 145)، والسياق له، وابن حزم في "حجة الوداع" ص(268، 269) من طرق إلى ابن عباس. وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (ج2 ص239،240).
الأثر السادس:
قال الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص150): أنا محمد بن أحمد بن رزق أنا عثمان بن أحمد الدقاق أنا محمد بن إسماعيل الرقي أنا الربيع بن سليمان قال: سمعت الشّافعي وسأله رجل عن مسألة فقال: يروى فيها كذا وكذا عن النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقال له السّائل: يا أبا عبدالله ما تقول فيه؟ فرأيت الشّافعي أرعد وانتفض، فقال: ما هذا، أيّ أرض تقلّني وأيّ سماء تظلني؟ إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثًا فلم أقلْ به، نعم على السّمع والبصر، نعم على السّمع والبصر.
وقال: أنا الربيع قال: سمعت الشّافعي وقد روى حديثًا وقال له بعض من حضر: تأخذ بهذا ؟ فقال: إذا رويت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حديثًا صحيحًا فلم آخذْ به، فأنا أشهدكم أنّ عقلي قد ذهب، ومدّ يديه.
وأخرج الأثرين: الحافظ البيهقي في "مناقب الشافعي" (ج1 ص474،475)، وأبونعيم في "الحلية" (ج9 ص106).
الأثر السابع:
قال الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة رحمه الله في "التوحيد" ص (113): حدثنا الحسن بن محمد الزعفراني وعلي بن الحسين ويحيى بن حكيم قالوا ثنا معاذ بن معاذ العنبري قال ثنا حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله: { فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكًّا} قال بأصبعه هكذا: وأشار بالخنصر من الظفر يمسكه بالإبهام، قال: فقال حميد لثابت: يا أبا محمد دع هذا، ما تريد؟ قال: فضرب ثابت منكب حميد وقال: ومن أنت يا حميد؟ وما أنت يا حميد؟ حدثني به أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وتقول أنت: دع هذا.
هذا لفظه.
حدثنا يحيى بن حكيم والزعفراني وعلي بن الحسين عن معاذ بن معاذ عن حماد بن سلمة.
قال علي ثنا ثابت البناني عن أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وقال الزعفراني: عن ثابت البناني عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في قوله:{فلمّا تجلّى ربّه للجبل جعله دكًّا} قال: هكذا، ووصف معاذ أنه أخرج أول المفصل من خنصره فقال له حميد: يا أبا محمد ما تريد إلى هذا؟ فضرب صدره ضربةً شديدةً وقال: فمن أنت؟ ما تريد إلى هذا؟.
غير أن الزعفراني قال هكذا: ووضع إبْهامه اليسرى على طرف خنصره الأيسر على العقد الأول.
حدثنا عبدالوارث بن عبدالصمد قال ثنا أبي ثنا حماد بن سلمة قال ثنا ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لمّا تجلّى ربّه للجبل)) رفع خنصره وقبض على مفصل منها ((فانساخ الجبل)) فقال له حميد: أتحدث بهذا؟ فقال: حدثنا أنس عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقول: لا تحدث به.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
الأثر الثامن:
قال الترمذي رحمه الله (ج3 ص648): حدثنا أبوكريب أخبرنا وكيع عن هشام الدستوائي عن قتادة عن أبي حسان الأعرج عن ابن عباس أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قلّد نعلين وأشعر الهدي في الشّقّ الأيمن بذي الحليفة، وأماط عنه الدّم.
قال: وفي الباب عن المسور بن مخرمة، قال أبوعيسى: حديث ابن عبّاس حديث حسن صحيح، وأبوحسّان الأعرج اسمه مسلم، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وغيرهم يرون الإشعار، وهو قول الثّوريّ والشّافعيّ وأحمد وإسحق.
قال: سمعت يوسف بن عيسى يقول: سمعت وكيعًا يقول حين روى هذا الحديث قال: لا تنظروا إلى قول أهل الرّأي في هذا، فإنّ الإشعار سنّة وقولهم بدعة، قال: وسمعت أبا السّائب يقول: كنّا عند وكيع فقال لرجل عنده ممّن ينظر في الرّأي: أشعر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويقول أبوحنيفة: هو مثلة. قال الرّجل فإنّه قد روي عن إبراهيم النّخعيّ أنّه قال: الإشعار مثلة. قال: فرأيت وكيعًا غضب غضبًا شديدًا، وقال: أقول لك قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتقول: قال إبراهيم: ما أحقّك بأن تحبس ثمّ لا تخرج حتّى تنْزع عن قولك هذا.
الأثر التاسع:
قال الدارمي رحمه الله (ج1 ص118): أخبرنا سليمان بن حرب ثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أنّه حدّث يومًا بحديث عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال رجل: في كتاب الله ما يخالف هذا، قال: ألا أراني أحدّثك عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وتعرّض فيه بكتاب الله، كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعلم بكتاب الله منك.
هذا الأثر صحيح.
الأثر العاشر:
قال الإمام الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص(56): حدثنا أيضًا الفريابي حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي قال حدثنا معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس رضي الله عنه يومًا من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له: أبوالحورية كان يتّهم بالإرجاء، فقال: ياعبدالله اسمع منّي شيئًا أكلمك به وأحاجك به وأخبرك برأي، قال: فإنْ غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعتني. قال: فإن جاء رجل آخر فكلّمنا فغلبنا؟ قال: نتّبعه. فقال مالك رحمه الله: يا عبدالله بعث الله عزّ وجلّ محمّدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين، قال عمر بن عبدالعزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التّنقل.
أثر مالك صحيح، وما ذكره عن عمر بن عبدالعزيز، منقطع، لكن الآجري رحمه الله قد رواه قبل هذا الأثر بالسند الصحيح، فقال: وحدثنا الفريابي قال حدثنا قتيبة بن سعيد قال حدثنا حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: إن عمر بن عبدالعزيز قال: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل.
وقال الإمام أبوبكر الخطيب رحمه الله في "شرف أصحاب الحديث" ص(5): أخبرنا أبوسعيد محمد بن موسى بن الفضل بن شاذان الصيرفي بنيسابور، قال حدثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب الأصم قال حدثنا محمد بن إسحاق الصغاني قال حدثنا إسحاق بن عيسى قال سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين، ويقول: كلما جاءنا رجل أجدل من رجل أرادنا أن نردّ ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
هذا الأثر صحيح.
وقال الإمام أبوعمر بن عبدالبر رحمه الله في "جامع بيان العلم وفضله" (ج2 ص176): وذكر الطبري في كتاب "تهذيب الآثار" له حدثنا الحسن ابن الصباح البزار قال حدثني إسحاق بن إبراهيم الحنيني قال: قال مالك: قبض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد تمّ هذا الأمر واستكمل، فإنما ينبغي أن نتّبع آثار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولا يتبع الرأي، فإنه متى اتّبع الرأي جاء رجل آخر أقوى في الرأي منك، فاتبعته فأنت كلما جاء رجل عليك اتبعته، أرى هذا لا يتم.
الأثر ضعيف جدًا بهذا السند، إسحاق بن إبراهيم الحنيني الجرح فيه مفسّر، قال النسائي: ليس بثقة، وقال البخاري: فيه نظر، لكن الأثر ثابت بالطريقين المتقدمين، والله أعلم.
الأثر الحادي عشر:
قال عبدالله بن أحمد في كتاب "السنة" ص(38): حدثني إسحاق بن بهلول الأنباري سمعت وكيعًا يقول: من رد حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الرؤية فاحسبوه من الجهميّة.
وأخرجه البخاري في "خلق أفعال العباد" معلقًا ص(18): وفيه: فهو جهمي فاحذروه. وإسحاق بن بهلول شيخ عبدالله بن أحمد ترجمه الخطيب في "التاريخ" (ج6 ص366) وقال: كان ثقةً، ونقل عن ابن أبي حاتم أنه سأل أباه عنه فقال: صدوق.
الأثر الثاني عشر:
قال الإمام الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص(227): وأخبرنا الفريابي قال سمعت أبا حفص عمرو بن علي قال سمعت معاذ بن معاذ وذكر قصة عمرو بن عبيد إن كانت {تبّت يدا أبي لهب} في اللوح المحفوظ فما على أبي لهب من لوم.
قال أبوحفص: فذكرته لوكيع بن الجراح، فقال: من قال بهذا، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.
هذا الأثر صحيح.
الأثر الثالث عشر:
قال الآجري رحمه الله في "الشريعة": حدثنا الفريابي قال حدثنا العباس ابن الوليد بن مزيد قال أخبرني أبي قال سمعت الأوزاعي يقول: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس وإياك وآراء الرّجال، وإن تزخرفوا لك بالقول.
هذا الأثر صحيح.
الأثر الرابع عشر:
إنكار ابن أبي شيبة على أبي حنيفة في رده بعض الأحاديث بالرأي، فقد عقد في "مصنفه" (ج14 ص148) كتابًا فقال رحمه الله: "كتاب الرد على أبي حنيفة":
هذا ما خالف به أبوحنيفة الأثر الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ثم ذكر إلى ص(282)، تشتمل على نحو خمسة وثمانين وأربعمائة بين حديث وأثر، فجزى الله سلفنا الصالح الذين لا تأخذهم في الله لومة لائم.
الأثر الخامس عشر:
قال ابن حزم في كتابه "إحكام الأحكام" (ج1 ص89): وقد ذكر محمد ابن نصر المروزي أن إسحاق بن راهويه كان يقول: من بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خبر يقرّ بصحّته ثم ردّه بغير تقيّة، فهو كافر.
الأثر السادس عشر:
قال الدارمي رحمه الله (ج1 ص60): أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا مالك هو ابن مغول قال: قال لي الشعبي: ما حدّثوك هؤلاء عن رسول الله فخذْ به، وما قالوه برأيهم فألقه في الحشّ.
هذا الأثر صحيح.
الأثر السابع عشر:
ونقل القاضي أبوالحسين محمد بن أبي يعلى في "طبقات الحنابلة" في ترجمة إبراهيم بن أحمد بن شاقلا (ج2 ص135) أنه قال: ومن خالف الأخبار التى نقلها العدل عن العدل موصولة بلا قطع في سندها ولا جرح في ناقليها وتجرأ على ردّها فقد تهجّم على رد الإسلام، لأن الإسلام منقول إلينا بمثل ما ذكرت.
وقال ص(138) لخصمه: أنت تتكلم على المسلمين فتحشوا أسماعهم بمثل كلام الكلبي الكذاب، فيما يخبر عن مراد الله تعالى من الأمم الخالية التي لم يشاهدها، فلا يكون عندك هذيان ثم تجيء إلى مثل إبراهيم النخعي عن علقمة عن عبدالله -حديث الخبر- فتقول: هذا هذيان، وهذا قول من تقلده خرج عندي من الدين وسلك سبيل غير المسلمين.اهـ
الأثر الثامن عشر:
قال الحسن بن علي البربهاري في "شرح كتاب السنة" له ص(113): وإذا سمعت الرجل يطعن على الأثر أو يرد الآثار، أو يريد غير الآثار فاتّهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع.
وقال أيضًا ص(119): وإذا سمعت الرجل تأتيه بالأثر فلا يريده ويريد القرآن، فلا تشك أنه رجل قد احتوى على الزندقة فقمْ من عنده وودّعه.
وقال أيضًا ص(128): ولا يحل لرجل أن يقول: فلان صاحب سنة، حتى يعلم أنه قد اجتمعت فيه خصال السنة، فلا يقال: صاحب سنة حتى تجتمع فيه السنة كلها. اهـ
الأثر التاسع عشر:
وقال الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص152): ولعمري إن السنن ووجوه الحق لتأتي كثيرًا على خلاف الرأي ومجانبته خلافًا بعيدًا، فما يرى المسلمون بدًا من اتّباعها والانقياد لها، ولمثل ذلك ورع أهل العلم والدين فكفهم عن الرأي ودلهم على عوره وغوره أنه يأتي الحق على خلافه في وجوه متعددة، من ذلك:
أن قطع أصابع اليد، مثل قطع اليد من المنكب، أي ذلك أصيب ففيه ستة الآف.
ومن ذلك: أن قطع الرجل في قلة ضررها مثل قطع الرجل من الورك، أي ذلك أصيب ففيه ستة الآف.
ومن ذلك: أن في العينين إذا فقئتا مثل مافي قطع أشراف الأذنين في قلة ضررها، أي ذلك أصيب ففيه اثنا عشرألفًا.
ومن ذلك: أن في شجتين موضحتين صغيرتين مائتي دينار، وما بينهما صحيح، فإن جرح ما بينهما حتى تقام إحداهما إلى الأخرى، كان أعظم للجرح بكثير، ولم يكن فيها حينئذ إلا خمسون دينارًا.
ومن ذلك: أنّ المرأة الحائض تقضي الصيام، ولا تقضي الصلاة.
ومن ذلك: رجلان: قطعت أذنا أحدهما جميعًا، يكون له اثنا عشر ألفًا، وقتل الآخر فذهبت أذناه وعيناه ويداه ورجلاه وذهبت نفسه، ليس ذلك إلا اثنا عشر ألفًا، مثل ذلك الذي لم يصب إلا شراف أذنيه.
في أشباه هذا غير واحد فهل وجد المسلمون بداً من لزوم هذا؟ وأي هذه الوجوه يستقيم على الرأي أو يخرج في التفكير؟ إلى آخر كلامه رحمه الله.
وفي كتاب أبي محمد بن حزم رحمه الله "الإحكام في أصول الأحكام" من هذا الكثير الطيب فأنصح مريد الحق بقراءته.
حديث السحر
قال البخاري رحمه الله (ج10 ص221): حدثنا إبراهيم بن موسى أخبرنا عيسى بن يونس عن هشام عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه كان يفعل الشّيء وما فعله، حتّى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان)) فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه، فجاء فقال: ((يا عائشة كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، أو كأنّ رءوس نخلها رءوس الشّياطين)) قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: ((قد عافاني الله، فكرهت أن أثوّر على النّاس فيه شرًّا)) فأمر بها فدفنت.
تابعه أبوأسامة وأبوضمرة وابن أبي الزّناد، عن هشام، وقال اللّيث وابن عيينة عن هشام: ((في مشط ومشاطة))، يقال: المشاطة ما يخرج من الشّعر إذا مشط، والمشاطة من مشاطة الكتّان.
وقال البخاري رحمه الله (ج10 ص232): وحدثني عبدالله بن محمد قال سمعت ابن عيينة يقول: أول من حدثنا به ابن جريج يقول: حدثني آل عروة فسألت هشامًا عنه فحدثنا عن أبيه: عن عائشة رضى الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر حتّى كان يرى أنّه يأتي النّساء ولا يأتيهنّ. قال سفيان: وهذا أشدّ ما يكون من السّحر إذا كان كذا، فقال: ((يا عائشة أعلمت أنّ الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال الّذي عند رأسي للآخر: ما بال الرّجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن أعصم، رجل من بني زريق حليف ليهود، كان منافقًا، قال: وفيم؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وأين؟ قال: في جفّ طلعة ذكر، تحت راعوفة في بئر ذروان)) قالت: فأتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم البئر حتّى استخرجه، فقال: ((هذه البئر الّتي أريتها، وكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، وكأنّ نخلها رءوس الشّياطين)) قال: فاستخرج، قالت: فقلت: أفلا -أي تنشّرت-؟ فقال: ((أمّا والله فقد شفاني، وأكره أن أثير على أحد من النّاس شرًّا)).
وقال البخاري رحمه الله (ج10 ص235): حدثنا عبيد بن إسماعيل حدثنا أبوأسامة عن هشام عن أبيه: عن عائشة قالت: سحر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتّى إنّه ليخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما فعله، حتّى إذا كان ذات يوم وهو عندي، دعا الله ودعاه، ثمّ قال: ((أشعرت يا عائشة أنّ الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه)) : قلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: ((جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، ثمّ قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ قال: مطبوب، قال: ومن طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهوديّ، من بني زريق، قال: فيما ذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلعة ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)) قال: فذهب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أناس من أصحابه إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل ثمّ رجع إلى عائشة فقال: ((والله لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، ولكأنّ نخلها رءوس الشّياطين))، قلت: يا رسول الله أفأخرجته؟ قال: ((لا، أمّا أنا فقد عافاني الله وشفاني، وخشيت أن أثوّر على النّاس منه شرًّا)) وأمر بها فدفنت.
وقال الإمام مسلم (ج14 ص174): حدثنا أبوكريب حدثنا ابن نمير عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وسلّم يهوديّ من يهود بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، قالت: حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه يفعل الشّيء وما يفعله، حتّى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة، دعا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثمّ دعا ثمّ دعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، جاءني رجلان، فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال الّذي عند رأسي للّذي عند رجليّ، أو الّذي عند رجليّ للّذي عند رأسي: ما وجع الرّجل؟ قال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة، قال: وجفّ طلعة ذكر، قال: فأين هو، قال: في بئر ذي أروان)) قالت: فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أناس من أصحابه، ثمّ قال: ((يا عائشة والله لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، ولكأنّ نخلها رءوس الشّياطين)) قالت: فقلت: يا رسول الله أفلا أحرقته؟ قال: لا، أمّا أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على النّاس شرًّا)) فأمرت بها فدفنت.
حدثنا أبوكريب حدثنا أبوأسامة حدثنا هشام عن أبيه عن عائشة قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وساق أبوكريب الحديث بقصّته نحو حديث ابن نمير وقال فيه: فذهب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى البئر فنظر إليها وعليها نخل، وقالت: قلت: يا رسول الله فأخرجه؟ ولم يقل: أفلا أحرقته، ولم يذكر فأمرْت بها فدفنت.
وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج6 ص63): ثنا إبراهيم بن خالد عن رباح عن معمر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت: لبث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ستّة أشهر يرى أنّه يأتي، ولا يأتي، فأتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه، والآخر عند رجليه، فقال أحدهما للآخر: ما باله؟ قال: مطبوب. قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: فيم؟ قال: في مشط ومشاطة في جفّ طلعة ذكر في بئر ذروان تحت راعوفة، فاستيقظ النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم من نومه فقال: ((أي عائشة ألم ترين أنّ الله أفتاني فيم استفتيته، فأتى البئر فأمر به فأخرج، فقال: هذه البئر الّتي أريتها والله كأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، وكأنّ رءوس نخلها رءوس الشّياطين، فقالت عائشة: لو أنّك -كأنّها تعني أن ينتشر-، قال: ((أما والله قد عافاني الله، وأنا أكره أن أثير على النّاس منه شرًّا)).
الرواة لحديث السحر عن هشام بن عروة
1- يحيى بن سعيد القطان البصرى عند البخاري (ج6 ص276) وأحمد (ج6 ص50) وابن جرير (ج2 ص437) بتخريج أحمد شاكر.
2- عيسى وهو ابن يونس الكوفي عند البخاري (ج6 ص334) و (ج10ص221) والنسائي في "الكبرى" (ج4 ص380) وإسحاق (ج2 ص68) وعند ابن حبان (ج8 ص194) من "تقريب الإحسان". وقال البخاري (ج10 ص221): تابعه أبوأسامة وأبوضمرة وابن أبي الزناد عن هشام وقال الليث وابن عيينة: عن هشام.
3- ابن جريج المكي عند البخاري (ج10 ص232).
4- أبوأسامة وهو حماد بن أسامة الكوفي عند البخاري (ج10 ص235) وعند مسلم (ج14 ص178) وعند أحمد (ج6 ص63) وعند أبي يعلى (ج8 ص90).
5- سفيان بن عيينة الكوفي نزيل مكة عند البخاري (ج10 ص479) وعند الحميدي (ج1 ص125) وابن حزم (ج11 ص400) وقال: هذا خبر صحيح، والشافعي كما في "المسند" (ج2 ص196) بتحقيق أبي عمير حفظه الله.
6- أبوضمرة أنس بن عياض المدني عند البخاري (ج11 ص192) والبيهقي في "دلائل النبوة" (ج9 ص247)، والبغوي في "شرح السنة" (ج6 ص279).
7- عبدالله بن نمير الكوفي عند مسلم (ج14 ص174) وابن ماجة (ج2 ص1173) وعند أحمد (ج6 ص57) وعند ابن أبي شيبة (ج8 ص30) من القسم الأول من الجزء الثامن وابن جرير (ج2 ص437) وعند ابن حبان (ج8 ص194) من "تقريب الإحسان".
8- معمر بن راشد البصري نزيل اليمن عند أحمد (ج6 ص63).
9- وهيب وهو ابن خالد بن خالد البصري عند أحمد (ج6 ص 96) وعند ابن سعد (مجلد2 قسم2 ص4).
10- عبدالرحمن بن أبي الزناد المدني كما ذكره البخاري معلقًا (ج10 ص221) قال الحافظ في "الفتح" ولم أعرف من وصلها.
11- الليث بن سعد المصري عند البخاري (ج7 ص145) طبعة حلبية مع "الفتح" معلقًا قال الحافظ في "الفتح" (ج7 ص145) رويناه موصولاً في نسخة عيسى بن حماد رواية أبي بكر بن أبي داود.اهـ
12- مرجي بن رجاء البصرى ذكره الحافظ في "تغليق التعليق" (ج5ص49). وعزاه في "الفتح" إلى الطبراني.
13- حماد بن سلمة البصرى ذكره الحافظ في "تغليق التعليق" (ج5 ص49).
14- علي بن مسهر في "مشكل الآثار" للطحاوي (ج15 ص179).
فأنت ترى أن الحديث قد رواه جماعة عن هشام بن عروة منهم البصري، ومنهم الكوفي، ومنهم المكي، ومنهم المدني، ومنهم المصري، وناهيك بحديث من رواته يحيى بن سعيد القطان، وهو في غاية من التحرّى، وهذا الحديث لم ينتقده محدث وهم الحجة لا أصحاب الأهواء فإنّهم أعداء السنن.
وهشام بن عروة تكلم بعضهم فيما حدث بالعراق، وأنه حدث عن أبيه بما لم يسمع منه وهذا منفي هنا فإنه قد صرح بالتحديث عن أبيه، وقد قال أبوالحسن بن القطان: إن هشامًا اختلط فقال الحافظ: في "تهذيب التهذيب" ولم نر له في ذلك سلفًا.اهـ
وقال الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال": هشام بن عروة أحد الأعلام، حجة إمام، لكن في الكبر تناقص حفظه ولم يختلط أبدًا ولا عبرة بما قاله أبوالحسن بن القطان من أنه وسهيل بن أبي صالح اختلطا وتغيرا، نعم الرجل تغيّر قليلاً ولم يبق حفظه كهو في حال الشبيبة فنسي بعض محفوظه أو وهم فكان ماذا أهو معصوم من النسيان.
ولما قدم العراق في آخر عمره حدث بجملة كثيرة من العلم في يغضون ذلك يسير أحاديث لم يجودها ومثل هذا يقع لمالك ولشعبة ولوكيع ولكبار الثقات، فدع عنك الخبط وذر خلط الأئمة الأثبات بالضعفاء والمخلطين فهشام شيخ الإسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطان، وكذا قول عبدالرحمن بن خراش: كان مالك لا يرضاه نقم عليه حديثه لأهل العراق، قدم الكوفة ثلاث مرات، قدمة كان يقول: حدثني أبي قال سمعت عائشة. والثانية: فكان يقول: أخبرني أبي عن عائشة وقدم الثالثة فكان يقول أبي عن عائشة يعني يرسل عن أبيه.
وروى محمد بن علي الباهلي عن شيخ من قريش: أهوى هشام بن عروة إلى يد المنصور يقبّلها فمنعه وقال -يا ابن عروة إنا نكرمك عنها ونكرمها عن غيرك. قيل بلغ سبعًا وثمانين سنة. اهـ.
وذكر الحافظ في "الفتح)) أنه جاء عن عمرة عن عائشة فإن ثبت حديث عمرة عن عائشة فيزداد الحديث قوة وإلا فالحديث صحيح والحمد لله. ثم وجدته فى "دلائل النبوة" للبيهقي (ج7 ص92) وفي سنده سلمة بن حبان البصرى ترجمه ابن ماكولا وقال: روى عنه عبدالله بن أحمد بن حنبل ويوسف بن يعقوب القاضي. اهـ
وترجمه ابن أبي حاتم وقال: روى عنه علي بن الحسين بن الجنيد. ولم يذكر أنه وثقه معتبر فعلى هذا فهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
شاهد لحديث السحر
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص367): ثنا أبومعاوية ثنا الأعمش عن يزيد بن حيان عن زيد بن أرقم قال: سحر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من اليهود، قال: فاشتكى لذلك أيّامًا، قال: فجاءه جبريل عليه السّلام فقال: إنّ رجلاً من اليهود سحرك، عقد لك عقدًا عقدًا في بئر كذا وكذا، فأرسل إليها من يجيء بها، فبعث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عليًّا رضي الله عنه، فاستخرجها فجاء بها فحلّلها، قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كأنّما نشط من عقال، فما ذكر لذلك اليهوديّ ولا رآه في وجهه قطّ حتّى مات.
هذا حديث صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه النسائي (ج7 ص 112) فقال: أخبرنا هنّاد بن السري عن أبي معاوية به.
وأخرجه ابن أبي شيبة (ج8 ص1،29،30)، والطبراني (ج5 ص202).
وأخرجه ابن سعد (مجلد2 ق2 ص6) فقال: أخبرنا موسى بن مسعود حدثنا سفيان الثورى عن الأعمش عن ثمامة المحلمي عن زيد بن أرقم قال: عقد رجل من الأنصار (يعني للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم) عقداً، وكان يأمنه ورمى به في بئر كذا وكذا، فجاء الملكان يعودانه، فقال أحدهما لصاحبه: أتدري ما به؟ عقد له فلان الأنصاري، ورمى به في بئر كذا وكذا، ولو أخرجه لعوفي فبعثوا إلى البئر فوجدوا الماء قد اخْضرّ فأخرجوه فرموا به، فعوفي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فما حدث به ولا رؤي في وجهه.
هذا حديث صحيح، وقد اختلف على الأعمش فيه، فرواه أبومعاوية عن الأعمش عن يزيد بن حيان، كما عند الإمام أحمد، وأبومعاوية من أثبت الناس في الأعمش، وخالفه الثوري كما تقدم عند ابن سعد فرواه عن الأعمش عن ثمامة المحلمي عن زيد بن أرقم، وتابع الثوري شيبان بن عبدالرحمن عند يعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج3 ص289) وعند الطبراني (ج5 ص201) وتابعهما جرير وهو ابن عبدالحميد عند الطبراني في "الكبير"، فالظاهر أن أبا معاوية شذّ في هذا، لأنّ سفيان وشيبان وجرير أرجح منه والله أعلم.
وثمامة هو ابن عقبة المحلمي الكوفي وثّقة ابن معين والنسائي، كما في "تهذيب التهذيب"، ويزيد بن حيان وثّقه النسائي كما في "تهذيب التهذيب"، فالحديث صحيح سواء أقلنا: إنّ أبا معاوية شذّ فيه أم إن للأعمش شيخين، والله أعلم.
وقد قال الهيثمي في "المجمع" (ج6 ص281): قلت: رواه النسائي باختصار، ورواه الطبراني بأسانيد ورجال أحدها رجال الصحيح. اهـ
وقد جاء في بعض طرقه كما ترى أنّ الذي سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من الأنصار، فتعقّب الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى هذا في "البداية والنهاية" (ج6 ص39) فقال: قلت: والمشهور أنّ لبيد بن الأعصم اليهودي هو الذى سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . اهـ المراد منه.
شرح الحديث
قال الحافظ رحمه الله في "الفتح" (ج10 ص227):
قوله: (حتى إذا كانت ذات يوم أو ذات ليلة) شك من الراوي، وأظنه من البخاري لأنه أخرجه في صفة إبليس من بدء الخلق، فقال: حتى كان ذات يوم. ولم يشك ثم ظهر لي أن الشك فيه من عيسى بن يونس، وأن إسحاق بن راهويه أخرجه في "مسنده" على الشك، ومن طريقه أخرجه أبونعيم فيحمل الجزم الماضي على أن إبراهيم بن موسى شيخ البخاري حدثه به تارةً بالجزم وتارةً بالشك ويؤيده ما سأذكره من الاختلاف عنه، وهذا من نوادر ما وقع في البخاري أن يخرج الحديث تامًا بإسناد واحد بلفظين، ووقع فى رواية أبي أسامة الآتية قريبًا: (ذات يوم) بغير شك، و(ذات) بالنصب ويجوز الرفع، ثم قيل: إنّها مقحمة، وقيل: بل هي من إضافة الشيء لنفسه على رأي من يجيزه.
قوله: (وهو عندي لكنه دعا ودعا) كذا وقع، وفي الرواية الماضية فى بدء الخلق (حتى كان ذات يوم دعا ودعا)، وكذا علقه المصنف لعيسى بن يونس في الدعوات، ومثله في رواية الليث، قال الكرماني: يحتمل أن يكون هذا الاستدراك من قولها (عندي) أي: لم يكن مشتغلاً بي بل اشتغل بالدعاء، ويحتمل أن يكون من التخيل أي: كان السحر أضره في بدنه لا في عقله وفهمه بحيث أنه توجّه إلى الله ودعا على الوضع الصحيح، والقانون المستقيم، ووقع في رواية ابن نمير عند مسلم: (فدعا ثم دعا ثم دعا)، وهذا هو المعهود منه أنه كان يكرر الدعاء ثلاثًا، وفي رواية وهيب عند أحمد وابن سعد: (فرأيته يدعو)، قال النووي: فيه استحباب الدعاء عند حصول الأمور المكروهات وتكريره، والالتجاء إلى الله تعالى في دفع ذلك. قلت: سلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذه القصة مسلكي التفويض وتعاطي الأسباب، ففى أول الأمر فوض وسلّم لأمر ربه فاحتسب الأجر في صبره على بلائه، ثم لما تمادى ذلك وخشي من تماديه أن يضعفه عن فنون عبادته جنح إلى التداوي ثم إلى الدعاء، وكل من المقامين غاية فى الكمال.
قوله: (أشعرت) أي: علمت، وهي رواية ابن عيينة كما في الباب الذي بعده.
قوله: (أفتاني فيما استفتيته) في رواية الحميدي (أفتاني في أمر استفتيه فيه)، أي أجابني فيما دعوته، فأطلق على الدعاء استفتاءً، لأن الداعي طالب والمجيب مفت، أو المعنى: أجابني بما سألته عنه، لأن دعاءه كان أن يطلعه الله على حقيقة ما هو فيه، لما اشتبه عليه من الأمر، ووقع في رواية عمرة عن عائشة (أن الله أنبأني بمرضي) أي أخبرني.
قوله: (أتاني رجلان) وقع في رواية أبي أسامة: (قلت: وما ذاك؟ قال: أتاني رجلان) ووقع في رواية معمر عند أحمد ومرجأ بن رجاء عند الطبراني كلاهما عن هشام: (أتاني ملكان)، وسماهما ابن سعد في رواية منقطعة جبريل وميكائيل، وكنت ذكرت فى المقدمة ذلك احتمالاً.
قوله: (فقعد أحدهما عند رأسي والاخر عند رجلي) لم يقع لي أيهما قعد عند رأسه لكنني أظنه جبريل لخصوصيّته به عليهما السلام، ثم وجدت في "السيرة" للدمياطي الجزم بأنه جبريل، قال: لأنه أفضل. ثم وجدت في حديث زيد بن أرقم عند النسائي وابن سعد وصححه الحاكم وعبد بن حميد (سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل من اليهود، فاشتكى لذلك أيامًا، فأتاه جبريل فقال: إن رجلاً من اليهود سحرك عقد لك عقدًا كذا في بئر كذا) فدل مجموع الطرق على أن المسئول هو جبريل والسائل ميكائيل.
قوله: (فقال أحدهما لصاحبه) وفي رواية ابن عيينة الآتية بعد باب (فقال الذي عند رأسه للآخر)، وفي رواية الحميدي (فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي)، وكأنّها أصوب، وكذا هو في حديث ابن عباس عند البيهقي، ووقع الشك في رواية ابن نمير عند مسلم.
قوله: (ما وجع الرجل) كذا للأكثر، وفي رواية ابن عيينة (ما بال الرجل) وفي حديث ابن عباس عند البيهقي (ما ترى)، وفيه إشارة إلى أن ذلك وقع في المنام إذ لو جاءا إليه في اليقظة لخاطباه وسألاه، ويحتمل أن يكون كان بصفة النائم وهو يقظان، فتخاطبا وهو يسمع، وأطلق في رواية عمرة عن عائشة أنه كان نائمًا، وكذا في رواية ابن عيينة عند الإسماعيلي (فانتبه من نومه ذات يوم) وهو محمول على ما ذكرت، وعلى تقدير حمله على الحقيقة فرؤيا الأنبياء وحي، ووقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد بسند ضعيف جدًا (فهبط عليه ملكان وهو بين النائم واليقظان).
قوله: (فقال: مطبوب) أي: مسحور يقال: طب الرجل -بالضم- إذا سحر، يقال: كنوا عن السحر بالطب تفاؤلاً، كما قالوا للديغ: سليم، وقال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب، والسحر من الداء ويقال له: طب.
وأخرج أبوعبيد من مرسل عبدالرحمن بن أبي ليلى قال: احْتجم النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم على رأسه بقرْن حيْن طبّ. قال أبوعبيد: يعني سحر.
قال ابن القيم بنى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الأمر أولاً على أنه مرض وأنه عن مادة مالت إلى الدماغ وغلبت على البطن المقدم منه فغيرت مزاجه، فرأى استعمال الحجامة لذلك مناسبًا فلما أوحي إليه أنه سحر عدل إلى العلاج المناسب له وهو استخراجه، قال: ويحتمل أن مادة السحر انتهت إلى إحدى قوى الرأس حتى صار يخيّل إليه ما ذكر، فإن السحر يكون من تأثير الأرواح الخبيثة، وقد يكون من انفعال الطبيعة وهو أشد السحر، واستعمال الحجم لهذا الثاني نافع، لأنه إذا هيّج الأخلاط وظهر أثره فى عضو كان استفراغ المادة الخبيثة نافعًا في ذلك، وقال القرطبي: إنما قيل للسحر طب لأن أصل الطب الحذق بالشيء والتفطن له فلما كان كل من علاج المرض والسحر إنما يتأتى عن فطنة وحذق أطلق على كل منهما هذا الاسم.
قوله: (في مشط ومشاطة) أما المشط بضم الميم، ويجوز كسرها أثبته أبوعبيد وأنكره أبوزيد، وبالسكون فيهما، وقد يضم ثانيه مع ضم أوله فقط، وهو الآلة المعروفة التى يسّرح بها شعر الرأس واللحية وهذا هو المشهور، ويطلق المشط بالإشتراك على أشياء أخرى منها العظم العريض في الكتف وسلاميات ظهر القدم، ونبت صغير يقال له: مشط الذنب قال القرطبي: يحتمل أن يكون الذى سحر فيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أحد هذه الأربع قلت: وفاته آلة لها أسنان وفيها هراوة يقبض عليها ويغطى بها الإناة.
قال ابن سيده فى "المحكم": أنّها تسمى المشط، والمشط أيضًا سمة من سمات البعير تكون في العين والفخذ، ومع ذلك فالمراد بالمشط هنا هو الأول فقد وقع في رواية عمرة عن عائشة فإذا فيها مشط رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن مراطة رأسه، وفي حديث ابن عباس: من شعر رأسه ومن أسنان مشطه وفي مرسل عمر بن الحكم فعمد إلى مشط، وما مشط من الرأس من شعر، فعقد بذلك عقدًا.
قوله: (ومشاطة) سيأتي بيان الاختلاف هل هي بالطاء أو القاف في آخر الكلام على هذا الحديث حيث بيّنه المصنف.
قوله: (وجف طلع نخلة ذكر) قال عياض: وقع للجرجاني يعني في البخاري والعذري -يعني في مسلم- بالفاء ولغيرهما بالموحدة، قلت: أما رواية عيسى بن يونس هنا فوقع للكشميهني بالفاء ولغيره بالموحدة، أما روايته في بدء الخلق فالجميع بالفاء، وكذا في رواية ابن عيينة للجميع وللمستملي في رواية أبي أسامة بالموحدة، وللكشميهني بالفاء، وللجميع في رواية أبي ضمرة في الدعوات بالفاء، قال القرطبي: روايتنا -يعني في مسلم- بالفاء.
وقال النووي: في أكثر نسخ بلادنا بالباء، يعني في مسلم وفي بعضها بالفاء، وهما بمعنى واحد: الغشاء الذي يكون على الطّلع ويطلق على الذكر والأنثى، فلهذا قيّده بالذكر في قوله: (طلعة ذكر) وهو بالإضافة. انتهى.
ووقع في روايتنا هنا بالتنوين فيهما على أن لفظ (ذكر) صفة الجف، وذكر القرطبي أن الذي بالفاء هو وعاء الطلع، وهو الغشاء الذي يكون عليه، وبالموحدة داخل الطلعة إذا خرج منها الكفري قاله شمر، قال: ويقال أيضًا لداخل الركية من أسفلها إلى أعلاها (جف)، وقيل: هو من القطع ماقطع من قشورها، وقال أبوعمرو الشيباني: الجف بالفاء شيء ينقر من جذوع النخل.
قوله: (وأين هو؟ قال: هو في بئر ذروان) زاد ابن عيينة وغيره (تحت راعوفة)، وسيأتي شرحها بعد الباب، وذروان بفتح المعجمة وسكون الراء وحكى ابن التين فتحها، وأنه قرأه كذلك ولكنه بالسكون أشبه، وفي رواية ابن نمير عند مسلم (في بئر ذي أروان)، ويأتي في رواية أبي ضمرة في الدعوات مثله وفي نسخة الصغاني لكنه بغير لفظ (بئر) ولغيره (في ذروان)، و(ذروان) بئر في بني زريق، فعلى هذا فقوله: (بئر ذروان) من إضافة الشيء لنفسه، ويجمع بينهما وبين رواية ابن نمير بأن الأصل (ذي أروان)، ثم لكثرة الاستعمال سهلت الهمزة فصارت (ذروان)، ويؤيده أن أبا عبيدة البكري صوّب أن اسم البئر (أروان) بالهمز، وأن من قال (ذروان) أخطأ، وقد ظهر أنه ليس بخطأ على ما وجهته، ووقع في رواية أحمد عن وهيب وكذا في روايته عن ابن نمير: (بئر أروان) كا قال البكري فكأن رواية الأصيلي كانت مثلها فسقطت منها الراء.
ووقع عند الأصيلي في ما حكاه عياض (في بئر ذي أوان) بغير راء، قال عياض: وهو وهم، فإن هذا موضع آخر على ساعة من المدينة، وهو الذي بني فيه مسجد الضرار.
قوله: (فأتاه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه). وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد (فبعث إلى علي وعمار فأمرهما أن يأتيا البئر)، وعنده في مرسل عمر بن الحكم: (فدعا جبير بن إياس الزرقي وهو ممن شهد بدرًا فدلّه على موضعه في بئر ذروان، فاستخرجه)، قال: ويقال: الذي استخرجه قيس بن محصن الزرقي، ويجمع بأنه أعان جبيرًا على ذلك وباشره بنفسه فنسب إليه، وعند ابن سعد أيضًا (أن الحارث بن قيس قال: يا رسول الله ألا يهور البئر؟) فيمكن تفسير من أبْهم بهؤلاء أو بعضهم، وأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجههم أولاً ثم توجه فشاهدها بنفسه.
قوله: (فجاء فقال: يا عائشة) وفي رواية وهيب (فلما رجع فقال: يا عائشة) ونحوه في رواية أبي أسامة ولفظه: (فذهب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى البئر فنظر إليها ثم رجع إلى عائشة فقال)، وفي رواية عمرة عن عائشة (فنزل رجل فاستخرجه)، وفيه من الزيادة: (أنه وجد في الطلعة تمثالاً من شمع تمثال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وإذا فيه إبر مغروزة، وإذا وتر فيه إحدى عشرة عقدة فنزل جبريل بالمعوذتين فكلما قرأ اية انحلت عقدة، وكلما نزع إبرة وجد لها ألمًا، ثم يجد بعدها راحة)، وفي حديث ابن عباس نحوه كما تقدم التنبيه عليه.
وفى حديث زيد بن أرقم الذى أشرت إليه عند عبد بن حميد وغيره (فأتاه جبريل فنزل عليه بالمعوذتين وفيه: فأمر أن يحل العقد ويقرأ آية، فجعل يقرأ ويحل حتى قام كأنما نشط من عقال)، وعند ابن سعد من طريق عمر مولى غفرة معضلة (فاستخرج السحر من الجف من تحت البئر ثم نزعه فحله فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم).
قوله: (كأن ماءها) في رواية ابن نمير: (والله لكأن ماءها)، أي: البئر (نقاعة الحناء) بضم النون وتخفيف القاف، والحناء معروف وهو بالمد، أي أن لون ماء البئر لون الماء الذى ينقع فيه الحناء، قال ابن التين: يعني أحمر، وقال الداودي: المراد الماء الذى يكون من غسالة الإناء الذى تعجن فيه الحناء.
قلت: ووقع في حديث زيد بن أرقم عند ابن سعد وصححه الحاكم (فوجد الماء وقد اخضرّ)، وهذا يقول قول الداودي.
قال القرطبي: كأن ماء البئر قد تغير إما لرداءته بطول إقامته، وإما لما خالطه من الأشياء التى ألقيت فى البئر، قلت: ويرد الأول أن عند ابن سعد فى مرسل عبدالرحمن بن كعب أن الحارث بن قيس هوّر البئر المذكورة، وكان يستعذب منها، وحفر بئرًا أخرى، فأعانه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حفرها.
قوله: (وكأن رءوس نخلها رءوس الشياطين) كذا هنا، وفي الرواية التي في بدء الخلق: (نخلها كأنه رءوس الشياطين)، وفي رواية ابن عيينة وأكثر الرواة عن هشام: (كأن نخلها) بغير ذكر (رءوس) أولاً، والتشبيه إنما وقع على رءوس النخل فلذلك أفصح به في رواية الباب وهو مقدر في غيرها ووقع في رواية عمرة عن عائشة (فإذا نخلها الذى يشرب من ماءها قد التوى سعفه كأنه رءوس الشياطين)، وقد وقع تشبيه طلع شجرة الزقوم في القرآن برءوس الشياطين.
قال الفراء وغيره: يحتمل أن يكون شبّه طلعها في قبحه برءوس الشياطين لأنّها موصوفة بالقبح وقد تقرر في اللسان أن من قال: فلان شيطان، أراد أنه خبيث أو قبيح، وإذا قبحوا مذكرًا قالوا: شيطان أو مؤنثًا قالوا: غول ويحتمل أن يكون المراد بالشياطين الحيّات، والعرب تسمي بعض الحيّات شيطانًا وهو ثعبان قبيح الوجه، ويحتمل أن يكون المراد نبات قبيح قيل إنه يوجد باليمن.
وقوله: (قلت يا رسول الله أفلا استخرجته) في رواية أبي أسامة (فقال: لا)، ووقع في رواية ابن عيينه أنه استخرجه وأن سؤال عائشة إنما وقع عن النشرة فأجابها بلا، وسيأتي بسط القول فيه بعد باب.
قوله: (فكرهت أن أثير على الناس فيه شرًا) في رواية الكشميهني: (سوءًا) ووقع في رواية أبي أسامة: (أن أثوّر)، بفتح المثلثة وتشديد الواو، وهما بمعنى، والمراد بالناس التعميم في الموجودين، قال النووي: خشي من إخراجه وإشاعته ضررًا على المسلمين من تذكر السحر وتعلمه ونحو ذلك، وهو من باب ترك المصلحة خوف المفسدة، ووقع في رواية ابن نمير: (على أمتي) وهو قابل أيضًا للتعميم، لأن الأمة تطلق على أمة الإجابة وأمة الدعوة، وعلى ما هو أعم وهو يرد على من زعم أن المراد بالناس هنا لبيد ابن الأعصم لأنه كان منافقًا فأراد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن لا يثير عليه شرًا لأنه كان يؤثر الإغضاء عمن يظهر الإسلام، ولو صدر منه ما صدر، وقد وقع أيضًا في رواية ابن عيينة: (وكرهت أن أثير على أحد من الناس شرًا)، نعم وقع في حديث عمرة عن عائشة (فقيل: يارسول الله لو قتلته؟ قال: ((ما وراءه من عذاب الله أشد))).
وفي رواية عمرة: (فأخذه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاعترف فعفا عنه)، وفي حديث زيد بن أرقم: (فما ذكر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لذلك اليهودي شيئًا مما صنع به، ولا رآه في وجهه)، وفي مرسل عمر بن الحكم: (فقال له: ما حملك على هذا؟ قال: حب الدنانير)، وقد تقدم في كتاب الجزية قول ابن شهاب أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يقتله، وأخرج ابن سعد من مرسل عكرمة أيضًا أنه لم يقتله، ونقل عن الواقدي أن ذلك أصح من رواية من قال إنه قتله، ومن ثم حكى عياض في "الشفاء" قولين: هل قتل أم لم يقتل؟ وقال القرطبي: لا حجة على مالك من هذه القصة، لأن ترك قتل لبيد بن الأعصم كان لخشية أن يثير بسبب قتله فتنة، أو لئلا ينفر الناس عن الدخول في الإسلام وهو من جنس ما راعاه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من منع قتل المنافقين حيث قال: ((لا يتحدّث النّاس أنّ محمّدًا يقتل أصحابه)).
قوله: (فأمر بها) أي: بالبئر (فدفنت) وهكذا وقع في رواية ابن نمير وغيره عن هشام وأورده مسلم من طريق أبي أسامة عن هشام عقب رواية ابن نمير وقال: لم يقل أبوأسامة في روايته (فأمر بها فدفنت)، قلت: وكأن شيخه لم يذكرها حين حدثه، وإلا فقد أورده البخاري عن عبيد بن إسماعيل عن أبي أسامة كما في الباب بعده، وقال في آخره: (فأمر بها فدفنت)، وقد تقدم أن في مرسل عبدالرحمن بن كعب أن الحارث بن قيس هورها.
قوله: (تابعه أبوأسامة) هو حماد بن أسامة، وتأتي روايته موصولة بعد بابين.
قوله: (وأبوضمرة) هو أنس بن عياض ستأتي روايته موصولة في كتاب الدعوات.
قوله: (وابن أبي الزناد) هو عبدالرحمن بن عبدالله بن ذكوان، ولم أعرف من وصلها بعد.
قوله: (وقال الليث وابن عيينة عن هشام فى مشط ومشاطة) كذا لأبي ذر ولغيره، و(مشاقة) وهو الصواب وإلا لاتحدت الروايات، ورواية الليث تقدم ذكرها في بدء الخلق، ورواية ابن عيينة تأتي موصولة بعد باب وذكر المزي في الأطراف تبعًا لخلف أن البخاري أخرجه في الطب عن الحميدي، وعن عبد الله بن محمد كلاهما عن ابن عيينة وطريق الحميدي ما هي في الطب في شيء من النسخ التى وقفت عليها، وقد أخرجه أبونعيم في "المستخرج" من طريق الحميدي، وقال بعده: أخرجه البخاري عن عبيدالله ابن محمد لم يزد على ذلك، وكذا لم يذكر أبومسعود في "أطرافه" الحميدي، والله أعلم.
قوله: (ويقال المشاطة ما يخرج من الشعر إذا مشط) هذا لا اختلاف فيه بين أهل اللغة، قال ابن قتيبة: المشاطة ما يخرج من الشعر الذي سقط من الرأس إذا سرح بالمشط وكذا من اللحية.
قوله: (والمشاطة من مشاطة الكتان) كذا لأبي ذر، كأن المراد أن اللفظ مشترك بين الشعر إذا مشط وبين الكتان إذا سرح، ووقع في رواية غير أبي ذر (والمشاقة) وهو أشبه، وقيل: المشاقة هي المشاطة بعينها، والقاف تبدل من الطاء لقرب المخرج والله أعلم. اهـ
وقال ابن مفلح في "الآداب الشرعية" (ج3 ص95): فصل:
(في السحر وعلاجه وحديث سحر لبيد للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم)
في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يهوديّ من يهود بني زريق، يقال له: لبيد بن الأعصم، حتّى كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يخيّل إليه أنّه كان يفعل الشّيء وما يفعله، حتّى كان ذات يوم وهو عندي، دعا الله ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي، والآخر عند رجليّ، فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع ذكر، قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)) فأتى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في أناس من أصحابه، ثمّ قال: ((يا عائشة والله لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء، ولكأنّ رءوس نخلها رءوس الشّياطين)) فقلت: يا رسول الله أفلا أخرجته؟ -وفي مسلم: أحرقته- قال: ((لا، أما أنا فقد عافاني الله، وكرهت أن أثير على النّاس شرًّا فأمرت بها فدفنت)).
وفي لفظ للبخاري: (يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي)، وفيه أيضًا: (حتى كان يرى أنه إن كان يأتي أهله ولا يأتي)، وفيه أيضًا: (حتى كان يرى أنه إن كان يأتي النساء ولا يأتيهن)، قال سفيان: وذلك أشد مايكون من السحر.
وفيه:(قال من طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم من بني زريق، حليف اليهود كان منافقًا).
أنكر بعض الناس هذا، لأنه نقص وعيب، أو أنه يمنع الثقة بالشرع وهذا باطل فإنه من جنس الأوجاع والأمراض والسم، والدلائل القطعية ناطقة بصدقه وعصمته والإجماع أيضًا. فأمّا بعض أمور الدنيا التي لم يبعث بسببها ولم يفضل من أجلها فلا مانع منه.
الطّب: بكسر الطاء، في اللغة يقال على معان:
أحدها: السحر والمطبوب المسحور. يقال: طب الرجل إذا سحر، فكنّوا بالطب عن السحركما كنوا بالسليم عن اللديغ، قال أبوعبيد: تفاؤلاً بالسلامة، وكما كنوا بالمفازة عن الفلاة المهلكة التي لا ماء فيها فقالوا: مفازة تفاؤلاً بالفوز من الهلاك.
والثاني: الإصلاح، يقال: طببته إذا أصلحته، ويقال له طب بالأمور، أي: لطف وسياسة. قال الشاعر:
وإذا تغير من تميم أمرها كنت الطبيب لها بامر ثاقب.
قال ابن الأنباري: الطب من الأضداد، يقال لعلاج الداء طب، وللسحر طب.
والثالث: الحذق، قال الجوهري: كل حاذق طبيب عند العرب، قال أبوعبيد: أصل الطب الحذق بالأشياء والمهارة بها. يقال للرجل: طب وطبيب، إذا كان كذلك، وإن كان في غير علاج المريض، وقال غيره: رجل طبيب، أي حاذق، سمي طبيبًا لحذقه وفطنته. قال علقمة:
فإن تسالوني بالنساء فإنني خبير بأدواء النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قلّ ماله فليس له في ودهنّ نصيب
وقال غيره:
إن تغدقي دوني القناع فإنني طب بأخذ الفارس المستلئم
وذكره بعضهم بكسر الطاء وبعضهم بفتحها. أغدقت المرأة قناعها، أي أرسلته على وجهها، وأغدق الليل، أي أرخى سدوله، وأغدق الصيّاد الشبكة على الصيد. والمستثلم الذي قد لبس لأمة حربه.
الرابع: يقال: الطب لنفس الدواء كقوله:
ألا من مبلغ حسان عني أسحركان طبك أم جنون
الخامس: العادة، يقال ليس ذلك بطبي، أي: عادتي، قال فروة بن مسيك:
فما إن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا
وقال أحمد بن الحسين:
وما التيه طبي فيهمو غير أنني بغيض إلى الجاهل المتغافل
وقول الحماسي:
فإن كنت مطبوبًا فلا زلت هكذا
وإن كنت مسحورًا فلا برئ السحر
أراد بالمطبوب: المسحور، وبالمسحور: العليل المريض. قال الجوهري: ويقال للعليل مسحور، وأنشد هذا البيت، ومعناه: يعني إن كان هذا الذي قد عراني منك ومن حبك أسأل الله دوامه، ولا أريد زواله، سواءً كان سحرًا أو مرضًا، والطب بفتح الطاء: العالم بالأمور وكذلك الطبيب يقال له طب طب أيضًا، وبضم الطاء اسم موضع وأنشد بعضهم:
فقلت هل انْهلتم بطب ركابكم بجائزة الماء التي طاب طيبها
أما علاج المسحور فإما باستخراجه وتبطيله كما في الخبر فهو كإزالة المادة الخبيثة بالإستفراغ، وأما بالإستفراغ في المحل الذي يصل إليه أذى السحر فإن للسحر تأثيرًا عند جمهور العلماء لا مجرد خيال باطل لا حقيقة له، وللمسألة وأحكام السحر والساحر مسائل مشهورة ليس هذا محلها.
وقد روى أبوعبيد في "الغريب" بإسناده عن عبدالرحمن بن أبي ليلى أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إحتجم على رأسه بقرن حين طب، قال أبوعبيد: معنى طب سحر.
قال بعضهم: إنتهت مادة هذا السحر إلى رأسه إلى إحدى قواه التي فيه، بحيث أنه كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولم يفعله.
والسحر مركب من تأثيرات الأرواح الخببثة، وانفعال القوى الطبيعية عنه، وهو سحر النمريجات، وهو أشد ما يكون من السحر، فاستعمال الحجامة على المكان الذي تضرر بالسحر على ما ينبغي من أنفع المعالجة.
قال أبقراط: الأشياء التي ينبغي أن تستفرغ يجب أن تستفرغ من المواضع التي هي إليها أمثل بالأشياء التي تصلح لاستفراغها، وقال بعضهم: لما وقع للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هذا إنه عن مادة دموية أو غيرها مالت إلى جهة الدماغ وغلبت عن البطن المقدم منه فغيرت مزاجه عن طبيعته، وكان استعمال الحجامة حينئذ من أنفع المعالجة، وكان ذلك قبل الوحي، فلما جاءه الوحي أنه سحر عدل إلى العلاج الحقيقي، وهو استخراج السحر وإبطاله فدعا الله فأعلمه به فاستخرجه وكان غاية هذا السحر إنما هو في جسده وظاهر جوارحه لا على عقله وقلبه، وما ورد من التخيّل فهو بالبصر لا تخيل يطرق إلى العقل، ولذلك لم يكن يعتقد صحة ما يميل اليه من إتيانه النساء، بل يعلم أنه خيال، وقد يحدث مثل هذا عن بعض الأمراض.ومن أعظم ما يتحصن به من السحر ومن أنفع علاج له بعد وقوعه التوجه إلى الله سبحانه وتعالى وتوكل القلب والإعتماد عليه والتعوذ والدعاء، وهذا وهذا هو السبب الذي الذي لم يصح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه استعمل شيئًا قبله، بل قد يقال: لم يصح أنه استعمل شيئًا غيره، وهو الغاية القصوى، والنهاية العظمى ولهذا في الخبر أنه لم يخرجه وإنما دفنه لئلا يفضي ذلك إلى مفسدة وانتشارها، لا لتوقف الشفاء والعافية عليه وهذا واضح إن شاء الله.
وعند السحرة أن سحرهم إنما يتم في قلب ضعيف منفعل ونفس شهوانية كجاهل وصبي وامرأة، لا في قلب متيقظ عارف بالله له معاملة وتوجه لأن القلب الضعيف فيه ميل وتعلق فيتسلط عليه بذلك، فالأرواح الخبيثة. فالأرواح الخبيثة تسلط عليه بميله إلى مايناسبها وفراغه عما يعرضها ويقاومها. والله أعلم.
قال بعض الأطباء إذا سنع من قضبان الآراك خلخالاً للعضد منع السحر.
رد أهل العلم على الطاعنين في الحديث
1- قال ابن قتيبة رحمه الله في "تأويل مختلف الحديث" (177):
قالوا: حديث تكذبه حجة العقل والنظر.
قالوا: رويتم أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر وجعل سحره في بئر ذي أروان، وأنّ عليًا كرم الله وجهه استخرجه، وكلّما حل منه عقدة وجد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم خفة فقام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كأنما أنشط من عقال.
وهذا لا يجوز على نبي الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، لأنّ السحر كفر، وعمل من أعمال الشيطان فيما يذكرون، فكيف يصل إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع حياطة الله تعالى له وتسديده إياه بملائكته وصونه الوحي عن الشيطان؟ والله تعالى يقول في القرآن: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه}. وأنتم تزعمون أنّ الباطل ههنا هو الشيطان.
وقال: {عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدًا إلاّ من ارتضى من رسول فإنّه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدًا} أي: يجعل بين يديه وخلفه رصدًا من الملائكه يحفظونه ويصونون الوحي عن أن يدخل فيه الشيطان ما ليس منه.
وذهبوا في السحر إلى أنه حيلة يصرف بها وجه المرء عن أخيه، ويفرق بها بين المرء وزوجه، كالتمائم والكذب، وقالوا: هذه رقى، ومنه السم يسقاه الرجل فيقطعه عن النساء ويغيّر خلقه وينثر شعره ولحيته. وإلى أنّ سحرة فرعون خيلوا لموسى عليه السلام ما أروه.
قالوا: ومثل ذلك أن نأخذ الزئبق فنفرغه في وعاء كالحيّة ثم نرسله في موضع حارّ فينساب انسياب الحيّة.
قالوا: ومن الدليل على ذلك قول الله تعالى: {فإذا حبالهم وعصيّهم يخيّل إليه من سحرهم أنّها تسعى}. إنما هو تخييل، وليس ثم شيء على حقيقته.
وقالوا في قول الله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}. هو بمعنى النفي. أي: لم ينْزل ذلك.
وقالوا: الملكين: بكسر اللام. وذكروا عن الحسن أنه كان يقرؤها كذلك، ويقول: علجان من أهل بابل.
قال أبومحمد: ونحن نقول: إنّ الذي يذهب إلى هذا، مخالف للمسلمين واليهود والنصارى، وجميع أهل الكتب ومخالف للأمم كلها، الهند وهي أشدها إيمانًا بالرقى، والروم والعرب في الجاهلية وفي الإسلام، ومخالف للقرآن معاند له بغير تأويل، لأنّ الله جل وعز قال لرسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {قل أعوذ بربّ الفلق من شرّ ما خلق ومن شرّ غاسق إذا وقب ومن شرّ النّفّاثات في العقد} فأعلمنا أن السواحر ينفثن في عقد يعقدنها كما يتفل الراقي والمعوّذ.
وكانت قريش تسمي السحر: العضه. ولعن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم العاضهة والمستعضهة. يعني بالعاضهة: الساحرة. وبالمستعضهة: التى تسألها أن تسحر لها.
وقال الشاعر:
أعوذ بربي من النافثات في عقد العاضه المعضه
يعني السواحر.
وقد روى ابن نمير عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها، وهذا طريق مرضي صحيح، أنّه قال: حين سحر: ((جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والأخر عند رجليّ. فقال أحدهما: ما وجع الّرجل؟ قال: مطبوب. فقال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم. قال: في أيّ شيء؟ قال في: مشط ومشاطة وجفّ طلعة ذكر. قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان)).
وليس هذا مما يجتر الناس به إلى أنفسهم نفعًا ولا يصرفون عنها ضرًا ولا يكسبون به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثناءً ومدحًا، ولا حملة هذا الحديث كذابين ولا متهمين ولا معادين لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
وما ينكر أن يكون لبيد بن الأعصم هذا اليهودي سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد قتلت اليهود قبله زكرياء بن آذن في جوف شجرة قطعته قطعًا بالمناشير.
وذكر وهب بن منبه أو غيره أنه عليه السلام لما وصل المنشار إلى أضلاعه أنّ، فأوحى الله تعالى إليه: إمّا أن تكف عن أنينك وإما أن أهلك الأرض ومن عليها. وقتلت بعده ابنه يحيى بقول بغيّ واحتيالها في ذلك.
ولو لم يقل الله تعالى: {وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم} لم نعلم نحن أن ذلك شبهه، لأن اليهود أعداؤه، وهم يدّعون ذلك، والنصارى أولياؤه وهم يقرّون لهم به. وقتلت الأنبياء وطبختهم وعذّبتهم أنواع العذاب، ولو شاء الله جل وعز لعصمهم منهم.
وقد سمّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في شاة مشوية سمته يهودية، فلم يزل السم يعاوده حتى مات.
وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((مازالتْ أكلة خيبر تعاودني، فهذا أوان انقطاع أبْهري)) فجعل الله تعالى لليهودية عليه السبيل حتى قتلته.
ومن قبل ذلك ما جعل الله لهم السبيل على النبيّين. والسحر أيسر خطبًا من القتل والطبخ والتعذيب.
فإن كانوا إنما أنكروا ذلك لأن الله تعالى لا يجعل للشيطان على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم سبيلاً ولا على الأنبياء، فقد قرءوا في كتاب الله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبيّ إلاّ إذا تمنّى ألقى الشّيطان في أمنيّته}. يريد: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته، يعزيه عما ألقاه الشيطان على لسانه حين قرأ في الصلاة: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن ترتجى.
غير أنه لا يقدر أن يزيد فيه أو ينقص منه.
أما تسمعه يقول: {فينسخ الله ما يلقي الشّيطان ثمّ يحكم الله ءاياته}أي: يبطل ما ألقاه الشيطان.
ثم قال: {ليجعل ما يلقي الشّيطان فتنةً للّذين في قلوبهم مرض}.
وكذلك قوله في القرآن: {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} أي: لا يقدر الشيطان أن يزيد فيه أولاً ولا آخرًا.
قال أبومحمد: حدثني أبوالخطاب قال: نا بشر بن المفضل عن يونس عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّ جبريل عليه السّلام أتاني فقال: إنّ عفْريتًا من الجنّ يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فقل: {الله لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم} حتى تختم آية الكرسي.
وقد حكى الله تعالى عن أيوب صلى الله عليه وسلم فقال: {أنّي مسّني الشّيطان بنصب وعذاب}.
قال أبومحمد: وأما قولهم في السحر الذي رآه موسى صلى الله عليه وسلم: إنه تخييل إليه، وليس على حقيقته، فما ننكر هذا ولا ندفعه، وإنا لنعلم أن الخلائق كلها لو اجتمعوا على خلق بعوضة لما استطاعوا، غير أنا لا ندري أهو بالزئبق الذي ادعوا أنّهم جعلوه فى سلوخ الحيات حتى جرت أم بغيره. ولا يعلم حقيقة هذا إلا من كان ساحرًا، أو من سمع فيه شيئًا من السحرة.
وأما قولهم في قول الله تبارك وتعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان} ثم قال: {يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين}.
إن تأويله: ولم ينْزل على الملكين ببابل، فليس هذا بمنكر من تأويلاتهم المستحيلة المنكوسة.
فإذا كان لم ينْزل على الملكين ببابل هاروت وماروت، صار الكلام فضلاً لا معنى له، وإنما يجوز بأن يدّعي مدّع أن السحر أنزل على الملكين ويكون فيما تقدم ذكر ذلك أو دليل عليه فيقول الله تعالى: اتبعوا ذلك، ولم ينْزل على الملكين كما ذكروا.
ومثال هذا أن يقول مبتدئًا علّمت هذا الرجل القرآن، وما أنزل على موسى عليه السلام، فلا يتوّهم سامع هذا أنك أردت أن القرآن لم ينْزل على موسى عليه السلام لأنه لم يتقدمه قول أحد: إنه أنزل على موسى عليه السلام، وانما يتوّهم السامع أنك علّمته القرآن والتوراة، وتأويل هذا عندنا مبيّن بمعرفة الخبر المروي فيه، وجملته -على ما ذكر ابن عباس- أن سليمان صلى الله عليه وسلم لما عوقب وخلفه الشيطان في ملكه، دفنت الشياطين في خزانته وموضع مصلاه سحرًا وأخذًا ونيرنجات، فلما مات سليمان صلى الله عليه وسلم، جاءت الشياطين إلى الناس فقالوا: ألا ندلكم على الأمر الذي سخّرت به لسليمان الريح والجن، ودانت له به الإنس؟ قالوا: بلى، فأتوا مصلاه وموضع كرسيه فاستخرجوا ذلك منه.
فقال العلماء من بني إسرائيل: ما هذا من دين الله، وما كان سليمان ساحرًا، وقال سفلة الناس: سليمان كان أعلم منا فسنعمل بهذا كما عمل، فقال الله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان}. أي: اتبعت اليهود ما ترويه الشياطين. والتلاوة والرواية شيء واحد.
ثم قال: {وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين} وهما ملكان أهبطا إلى الأرض حين عمل بنو آدم بالمعاصي ليقضيا بين الناس، وألقي في قلوبهما شهوة النساء وأمرا أن لا يزنيا، ولا يقتلا، ولا يشربا خمرًا، فجاءتْهما الزهرة تخاصم إليهما فأعجبتهما، فأراداها، فأبت عليهما حتى يعلماها الاسم الذى يصعدان به إلى السماء، فعلماها، ثم أراداها فأبت، حتى يشربا الخمر، فشرباها وقضيا حاجتهما، ثم خرجا فرأيا رجلاً فظنا أنه قد ظهر عليهما فقتلاه، وتكلّمت الزهرة بذلك الاسم فصعدت فخنست، وجعلها الله شهابًا، وغضب الله تعالى على الملكين فسماهما: هاروت وماروت، وخيّرهما بين عذاب الدنيا وعذاب الاخرة، فاختارا عذاب الدنيا.
فهما يعلمان الناس ما يفرّقون به بين المرء وزوجه، والذي أنزل الله عز وجل على الملكين فيما يرى أهل النظر -والله أعلم- هو الاسم الأعظم الذي صعدت به الزهرة.
وكانا -قبلها وقبل السخط عليهما- يصعدان إلى السماء، فعلّمته الشياطين فهي تعلمه أولياءها وتعلمهم السحر.
وقد يقال: إنّ الساحر يتكلم بكلام فيطير بين السماء والأرض ويطفوا على الماء.
قال أبومحمد: حدثني زيد بن أخزم الطائي قال نا عبدالصمد قال نا همام عن يحيى بن كثير: أن عامل عمان كتب إلى عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه: إنا أتينا بساحرة فألقيناها في الماء فطفت، فكتب إليه عمر بن عبدالعزيز: لسنا من الماء في شيء، إن قامت البينة وإلا فخلّ سبيلها.
وحدثني زيد بن أخزم الطائي قال: نا عبدالصمد قال: نا زيد بن أبي ليلى قال: نا عميرة بن شكير قال: كنا مع سنان بن سلمة بالبحرين فأتي بساحرة فأمر بها فألقيت في الماء فطفت، فأمر بصلبها، فنحتنا جذعًا، فجاء زوجها كأنه سفود محترق، فقال: مرها فلتطلق عني. فقال لها: أطلقي عنه. فقالت: نعم ائتوني بباب وغزل. فقعدت على الباب، وجعلت ترقى الغزل وتعقد، فارتفع الباب، فأخذا يمينًا وشمالاً فلم يقدر عليهما.
وحدثنا أبوحاتم عن الأصمعي قال: أخبرني محمد بن سليم الطائي في حديث ذكره: إنّ الشياطين لا تستطيع أن تغيّر خلقها، ولكنها تسحره.
وحدثني أبوحاتم قال: قال الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء: إنّ الغول ساحرة الجن.
وحدثنا أبوالخطاب قال: نا المعتمر بن سليمان قال: سمعت منصورًا يذكر عن ربعي بن حراش عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((لأنا أعلم بما مع الدّجّال، إنّ معه نارًا تحْرق، ونهْر ماء بارد، فمن أدركه منكم فلا يهْلكنّ به، وليغمض عينيه وليقعْ في الّتي يراها نارًا، فإنّها نهْر ماء بارد)).
وحدثني أبوحاتم عن الأصمعي عن أبي الزناد قال: جاءت امرأة تستفتي فوجدت النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد توفّي: ولم تجد إلا امرأة من نسائه يقال: إنّها عائشة رضي الله عنها فقالت لها: ياأم المؤمنين قالت لي امرأة: هل لك أن أعمل لك شيئًا يصرف وجه زوجك إليك؟ وأظنه قال: فأتت بكلبين، فركبت واحدًا وركبْت الآخر فسرنا ما شاء الله. ثم قالت: أتدرين أنك ببابل؟ ودخلت على رجل، أو قالت: رجلين فقالا لها بولي على ذلك الرماد، قالت: فذهبت فلم أبل، ورجعت إليهما، فقالا لي: ما رأيت؟ قالت: ما رأيت شيئًا، قالا: أنت على رأس أمرك. قالت: فرجعت، فتشددت، ثم بلت، فخرج مني مثل الفارس المقنع، فصعد في السماء فرجعت إليهما، فقالا: ما رأيت؟ فأخبرتهما. فقالا: ذلك إيمانك قد فارقك. فخرجت إلى المرأة فقلت: والله ما علماني شيئا، ولا قالا لي كيف أصنع. قالت: فما رأيت؟ قلت: كذا، قالت: أنت أسحر العرب، عملي وتمني. قالت: فقطعت جداول وقالت: احقل، فإذا هو زرع يهتز. فقالت: أفرك فإذا هو قد يبس.
قالت: فأخذته ففركتْه وأعطتْنيه، فقالت: جشّي هذا واجعليه سويقًا وأسقيه زوجك فلم أفعل شيئًا من ذلك، وانتهى الشأن إلى هذا، فهل لي من توبة؟. قالت: ورأيت رجلاً من خزاعة كان يسكن أمج فقالت: يا أم المؤمنين هذا أشبه الناس بهاروت وماروت.
قال أبومحمد : وقد روى هذا ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن عائشة رضي الله عنها.
قال أبومحمد: وهذا شيء لم نؤمن به من جهة القياس ولا من جهة حجة العقل، وإنما آمنا به من جهة الكتب وأخبار الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وتواطؤ الأمم في كل زمان عليه خلا هذه العصابة التي لا تؤمن إلا بما أوجبه النظر، ودل عليه القياس فيما شاهدوا ورأوا.
وأما قول الحسن: إنّهما علجان من أهل بابل وقراءته ((الملكين)) بالكسر فهذا شيء لم يوافقه أحد من القراء ولا المتأولين، فيما أعلم، وهو أشد استكراهًا وأبعد مخرجًا. وكيف يجوز أن ينْزل على علجين شيء يفرقان به بين المرء وزوجه. اهـ
2- قال القاضي عياض رحمه الله في "الشفاء" (ج2 ص160) (فصل): فإن قلت قد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم سحر كما حدثنا الشيخ أبومحمد العتابي بقراءتي عليه، قال نا حاتم بن محمد نا أبوالحسن علي بن خلف نا محمد بن أحمد نا محمد بن يوسف نا البخاري نا عبيد بن إسماعيل نا أبوأسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتّى أنّه ليخيّل إليه أنّه فعل الشّيء وما فعله.
وفي رواية أخرى: حتى كأن يخيل إليه أنه كان يأتي النساء ولا يأتيهن الحديث.
وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور، فكيف حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذلك، وكيف جاز عليه وهو معصوم، فاعلم وفقنا الله وإياك أنّ هذا الحديث صحيح، متفق عليه، وقد طعنت فيه الملحدة وتذرّعت به لسخف عقولها وتلبيسها على أمثالها، إلى التشكيك في الشرع، وقد نزّه الله الشرع والنبي عما يدخل في أمره لبسًا، وإنما السحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته.
وأما ماورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولا يفعله، فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شيء من تبليغه أو شريعته، أو يقدح في صدقه لقيام الدليل، والإجماع على عصمته من هذا، وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التي لم يبعث بسببها، ولا فضّل من أجلها، وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر، فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها مالا حقيقة له، ثم ينجلي عنه كما كان، وأيضًا فقد فسر هذا الفصل الحديث الآخر من قوله حتى يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، وقد قال سفيان: هذا أشدّ مايكون من السحر، ولم يأت فى خبر منها أنه نقل عنه في ذلك قول بخلاف ماكان أخبر أنه فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر وتخيلات، وقد قيل: إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل الشيء أنه فعله وما فعله، لكنه تخييل لا يعتقد صحته، فتكون اعتقاداته كلها على السداد، وأقواله على الصحة، هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع ما أوضحنا من معنى كلامهم وزدناه بيانًا من تلويحاتهم، وكل وجه منها مقنع لكنه قد ظهر لي في الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعن ذوي الأضاليل، يستفاد من نفس الحديث، وهو أن عبدالرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب وعروة بن الزبير وقال فيه عنهما: سحر يهود بني زريق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فجعلوه في بئر حتّى كاد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن ينكر بصره ثمّ دلّه الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر.
وروي نحوه عن الواقدي وعن عبدالرحمن بن كعب وعمر بن الحكم وذكر عن عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر : حبس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة سنةً فبينا هو نائم أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه... الحديث.
قال عبدالرزاق: حبس رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة خاصّةً سنةً حتّى أنكر بصره.
وروى محمد بن سعد عن ابن عباس: مرض رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحبس عن النّساء والطّعام والشّراب فهبط عليه ملكان. وذكر القصة.
فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه لا على قلبه واعتقاده وعقله، وأنّه إنما أثّر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه، وأضعف جسمه وأمرضه.
ويكون معنى قوله: (يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن)، أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن كما يعتري من أخذ واعترض، ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون من السحر، ويكون قول عائشة في الرواية الأخرى: إنّه ليخيل إليه أنه فعل الشيء وما فعله، من باب ما اختل من بصره، كما ذكر في الحديث، فيظن أنه رأى شخصًا من بعض أزواجه أو شاهد فعلاً من غيره، ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره، لا لشيء طرأ عليه في ميزه، وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له وتأثيره فيه ما يدخل لبسًا ولا يجد به الملحد المعترض أنسًا. اهكلامه رحمه الله.
3- وقال الحافظ ابن حجر في "الفتح" (ج10 ص226): قال المازري: أنكر بعض المبتدعة هذا الحديث، وزعموا أنه يحط منصب النبوة ويشكك فيها، قالوا: وكل ما أدى إلى ذلك فهو باطل، وزعموا أن تجويز هذا يعدم الثقة بما شرعوه من الشرائع، إذ يحتمل على هذا أنه يخيل إليه أنه يرى جبريل وليس هو ثم وأنه يوحى إليه بشيء ولم يوح إليه بشيء.
قال المازري: وهذا كله مردود، لأن الدليل على صدق النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيما يبلغه عن الله تعالى، وعلى عصمته في التبليغ والمعجزات شاهدات بتصديقه، فتجويز ما قام الدليل على خلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا التي لم يبعث لأجلها ولا كانت الرسالة من أجلها، فهو في ذلك عرضة لما يعترض البشر كالأمراض، فغير بعيد أن يخيل إليه في أمر من أمور الدنيا ما لا حقيقة له مع عصمته عن مثل ذلك في أمور الدين. قال: وقد قال بعض الناس إن المراد بالحديث أنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته ولم يكن وطأهن، وهذا كثيًرا ما يقع تخيله للإنسان في المنام، فلا يبعد أن يخيل إليه في اليقظة.
قلت: وهذا قد ورد صريحًا في رواية ابن عيينة في الباب الذى يلي هذا ولفظه: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن) وفي رواية الحميدي: (أنه يأتي أهله ولا يأتيهم).
قال الداودي: يرى بضم أوله، أي: يظن، وقال ابن التين: ضبطت يرى بفتح أوله.
قلت: وهو من الرأي لا من الرؤية، فيرجع إلى معنى الظن، وفي مرسل يحيى بن يعمر عند عبدالرزاق: سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن عائشة حتى أنكر بصره. وعنده في مرسل سعيد بن المسيب: حتّى كاد ينكر بصره.
قال عياض: فظهر بهذا أن السحر إنما تسلط على جسده وظواهر جوارحه، لا على تمييزه ومعتقده.
قلت: ووقع في مرسل عبدالرحمن بن كعب عند ابن سعد: فقالت أخت لبيد بن الأعصم: أن يكن نبيًا فسيخبر، وإلا فسيذهله هذا السحر حتى يذهب عقله.
قلت: فوقع الشق الأول، كما في هذا الحديث الصحيح، وقد قال بعض العلماء: لا يلزم من أنه كان يظن أنه فعل الشيء ولم يكن فعله أن يجزم بفعله ذلك، وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت فلا يبقى على هذا للملحد حجة.
وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد بالتخييل المذكور أنه يظهر له من نشاطه ما ألفه من سابق عادته من الاقتدار على الوطء، فإذا دنا من المرأة فتر عن ذلك، كما هو شأن المعقود، ويكون قوله في الرواية الأخرى: حتى كاد ينكر بصره، أي: صار كالذي أنكر بصره بحيث أنه إذا رأى الشيء يخيل إليه أنه على غير صفته، فإذا تأمّله عرف حقيقته، ويؤيد جميع ما تقدم أنه لم ينقل عنه في خبر من الأخبار أنه قال قولا فكان بخلاف ما أخبر به.
وقال المهلب: صون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الشياطين لا يمنع إرادتهم كيده فقد مضى في الصحيح: أنّ شيطانًا أراد أن يفسد عليه صلاته فأمكنه الله منه.
فكذلك السحر ما ناله من ضرره ما يدخل نقصًا على ما يتعلق بالتبليغ، بل هو من جنس ما كان يناله من ضرر سائر الأمراض من ضعف عن الكلام أو عجز عن بعض الفعل أو حدوث تخيل لا يستمر بل يزول ويبطل الله كيد الشياطين.
واستدل ابن القصار على أن الذي أصابه كان من جنس المرض بقوله في آخر الحديث: ((أما أنا فقد شفاني الله)) . وفي الاستدلال بذلك نظر، لكن يؤيد المدعى أن في رواية عمرة عن عائشة عند البيهقي في "الدلائل" فكان يدور ولا يدري ما وجعه، وفي حديث ابن عباس عند ابن سعد: مرض النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأخذ عن النّساء والطّعام والشّراب فهبط عليه ملكان. الحديث.
4- قال عبدالرحمن المعلمي في "الأنوار الكاشفة" ص(249): وذكر (يعني أبا رية) كلامًا للشيخ محمد عبده في حديث: أنّ يهوديًا سحر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أقول: النظر في هذا في مقامات:
المقام الأول: ملخص الحديث أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في فترة من عمره ناله مرض خفيف، ذكرت عائشة أشد أعراضه بقولها: (حتى كان يرى أنه يأتي أهله ولا يأتيهم) وفي رواية: (حتى كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن).
وفي أخرى: (يخيل إليه كان يفعل الشيء وما فعله). والرواية الأولى فيما يظهر أصح الروايات، فالأخريان محمولتان عليها.
وفي "فتح الباري" (ج10 ص193): قال بعض العلماء: (لا يلزم من أنه يظن أنه فعل الشيء و لم يكن فعله، أن يجزم بفعله ذلك وإنما يكون ذلك من جنس الخاطر يخطر ولا يثبت).
أقول: وفي سياق الحديث ما يشهد لهذا، فإن فيه شعوره صلى الله عليه وعلى آله وسلم بذلك المرض ودعاءه ربه أن يشفيه.
فالذي يتحقق دلالة الخبر عليه أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان في تلك الفترة يعرض له خاطر أنه قد جاء إلى عائشة وهو صلى الله عليه وعلى آله وسلم عالم أنه لم يجئها، ولكنه كان يعاوده ذاك الخاطر على خلاف عادته، فتأذّى صلى الله عليه وعلى آله وسلم من ذلك، وليس في حمل الحديث على هذا تعسف ولا تكلف.
المقام الثاني: في الحديث عن عائشة: حتّى إذا كان ذات يوم وهو عندي، لكنّه دعا ودعا، ثمّ قال: ((يا عائشة أشعرت أنّ الله أفتاني فيما استفتيته فيه، أتاني رجلان)).(أي: ملكان -كما في رواية أخرى- في صورة رجلين)... فقال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرّجل؟ فقال: مطبوب، قال: من طبّه؟ قال: لبيد بن الأعصم، قال: في أيّ شيء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلع نخلة ذكر، قال: وأين هو؟ قال: في بئر ذروان)) فأتاها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ناس من أصحابه، فجاء، قلت: يا رسول الله أفلا استخرجته؟ قال: ((قد عافاني الله، فكرهت أن أثير على النّاس شرًّا فأمرت بها فدفنت)).
ومحصل هذا أن لبيد أراد إلحاق ضرر بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فعمل عملاً في مشط ومشاطة، الخ. فهل من شأن ذلك أن يؤثر، قد يقال: لا ولكن إذا شاء الله تعالى خلق الأثر عقبه والأقرب أن يقال: نعم بإذن الله، والإذن هنا خاص. وبيانه أن الأفعال التى من شأنها أن تؤثر ضربان: الأول: ما أذن الله تعالى بتأثيره إذنًا مطلقًا ثم إذا شاء منعه، وذلك كالاتصال بالنار مأذون فيه بالإحراق إذنًا مطلقًا قلما أراد الله تعالى منعه، قال: {يانار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم}.
الضرب الثاني: ما هو ممنوع من التأثير منعًا مطلقًا، فإذا اقتضت الحكمة أن يمكّن من التأثير رفع المنع فيؤثر، وقوله تعالى في السحر: {وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله} يدل أنه من الضرب الثاني وأن المراد بالإذن، الإذن الخاص، والحكمة في مصلحة الناس تقتضى هذا، والواقع في شئونهم يشهد له، وإذا كان هذا حاله فلا غرابة في خفاء وجه التأثير علينا.
المقام الثالث: النظر في كلام الشيخ محمد عبده وفيه ثلاث قضايا: القضية الأولى: قال: (فعلى صحته هو آحاد والآحاد لا يؤخذ بها في باب العقائد).
أقول: أما صحته فثابتة بإثبات أئمة الحديث لها فإن أراد الصحة فى نفس الأمر فهب أنا لا نقطع بها ولكنا نظنها ظنًا غالبًا، وعلى كلا الحالتين فواضعو تلك القاعدة لا ينكرون أنه يفيد الظن، ومن أنكر ذلك فهو مكابر، وإذا أفاد الظن فلا مفر من الظن وما يترتب على الظن، فلم يبق إلا أنه لا يفيد القطع، وهذا حق في كل دليل لا يفيد إلا الظن.
القضية الثانية: أنّه مناف للعصمة في التبليغ، قال: فإنه قد خالط عقله وإدراكه في زعمهم، فإنه إذا خولط في عقله كما زعموا جاز عليه أن يظن أنه بلغ شيئًا وهو لم يبلغه أو أنّ شيئًا ينْزل عليه وهو لم ينْزل عليه.أقول: أما المتحقق من معنى الحديث كما قدمنا في المقام الأول، فليس فيه ما يصح أن يعبر عنه بقولك: خولط في عقله. وإنما ذاك خاطر عابر ولو فرض أنه بلغ الظن فهو في أمر خاص من أمور الدنيا، لم يتعده إلى سائر أمور الدنيا فضلاً عن أمور الدين، ولا يلزم من حدوثه في ذاك الأمر جوازه في ما يتعلق بالتبليغ بل سبيله سبيل ظنه أن النخل لا يحتاج إلى التأبير، وظنه بعد أن صلى ركعتين أنه صلى أربعًا وغير ذلك من قضايا السهو في الصلاة، وراجع ص(18-19) وفي القرآن ذكر غضب موسى على أخيه هارون وأخذه برأسه لظنه أنه قصر، مع أنه لم يقصر، وفيه قول يعقوب لبنيه لما ذكروا له ما جرى لابنه الثاني: { بل سوّلت لكم أنفسكم أمرًا} يتهمهم بتدبير مكيدة مع أنّهم كانوا حينئذ أبرياء صادقين. وقد يكون من هذا بعض كلمات موسى للخضر. وانظر قوله تعالى في يونس: {فظنّ أن لن نقدر عليه}.
القضية الثالثة: الحديث مخالف للقرآن في نفيه السحر عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وعده من افتراء المشركين عليه، مع أن الذي قصده المشركون ظاهر لأنّهم كانوا يقولون: إن الشيطان يلابسه عليه السلام، وملابسة الشيطان تعرف بالسحر عندهم، وضرب من ضروبه، وهو بعينه أثر السحر الذي ينسب إلى لبيد... وقد جاء بنفي السحر عنه عليه السلام، حيث نسب القول بإثبات حصول السحر له إلى المشركين أعدائه، ووبّخهم على زعمهم هذا، فإذًا هو ليس بمسحور قطعًا.
أقول: كان المشركون يعلمون أنه لا مساغ لأن يزعموا أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفتري -أي: يتعمّد- الكذب على الله عز وجل فيما يخبر به عنه، ولا لأنه يكذب في ذلك مع كثرته غير عامد فلجأوا إلى محاولة تقريب هذا الثاني بزعم أنه له اتصال بالجن، وأن الجن يلقون إليه ما يلقون فيصدقهم ويخبر الناس بما ألقوه إليه، هذا مدار شبهتهم وهو مرادهم بقولهم: به جنّة. مجنون، كاهن، ساحر، مسحور، شاعر، كانوا يزعمون أنّ للشعراء قرناء من الجن تلقي إليهم الشعر، فزعموا أنه شاعر، أي: أنّ الجن تلقي إليه كما تلقي إلى الشعراء ولم يقصدوا أنه يقول الشعر، أو أنّ القرآن شعر.
إذا عرف هذا فالمشركون أرادوا بقولهم: {إن تتّبعون إلاّ رجلاً مسحورًا} أنّ أمر النبوة كله سحر، وأن ذلك ناشئ عن الشياطين استولوا عليه -بزعمهم- يلقون إليه القرآن ويأمرونه وينهونه، فيصدقهم في ذلك كله ظانًا أنه أنما يتلقى من الله وملائكته، ولا ريب أن الحال التي ذكر في الحديث عروضها له صلى الله عليه وعلى آله وسلم لفترة خاصة ليست هي هذه التي زعمها المشركون ولا هي من قبيلها في شيء من الأوصاف المذكورة، إذن تكذيب القرآن وما زعمه المشركون لا يصح أن يؤخذ منه نفيه لما في الحديث.
فإن قيل: قد أطلق على تلك الحالة أنه سحر ففي الحديث عن عائشة سحر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم رجل... والسحر من الشياطين، وقد قال الله تعالى للشيطان: {إنّ عبادي ليس لك عليهم سلطان}.
قلت: أما الذى أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن الملك فإنما سماها طبًا كما مر في الحديث، وقد أنشد ابن فارس في "معجم مقاييس اللغة" (ج3 ص408):
فإن كنت مطبوبًا فلا زلت هكذا
وإن كنت مسحورًا فلا برأ للسحر
وأقل ما يدل عليه هذا أن الطب أخص من السحر، وأنّ من الأنواع التي يصاب بها الإنسان ويطلق عليها سحرًا ما يقال له: طب. وما لا يقال طب، وعلى كل حال فالذي ذكر في الحديث ليس من نوع ما زعمه المشركون ولا هو من ملابسة الشيطان، وإنما هو أثر نفس الساحر وفعله، وقد قدمت أن وقوع أثر ذلك نادر، فلا غرابة في خفاء تفسيره وهذا يغني عما تقدم. اهـ
5- ابن مفلح في "الآداب الشرعية" كما تقدم.
6- والخطابي كما تقدم وكما في "شرح السنة للبغوي" (ج6 ص279).
$ $ $
وللشيخ الفاضل أحمد شاكر رحمه الله كلام حسن في توجعه من بعض معاصريه في تهجّمه على كتب السنة بالهوى، قال رحمه الله في الكلام على حديث أبي هريرة: ((إذا وقع الذباب في إناء أحدكم)) (ج12 ص124) من تحقيق المسند: وهذا الحديث مما لعب فيه بعض معاصرينا ممن علم وأخطأ وممن علم وعمد إلى عداء السنة وممن جهل وتجرّأ.
فمنهم من حمل على أبي هريرة وطعن في روايته وحفظه، بل منهم من جرؤ على الطعن في صدقه فيما يروي حتى غلا بعضهم فزعم أن في الصحيحين أحاديث غير صحيحة، إن لم يزعم أنّها لا أصل لها، بما رأوا من شبهات في نقد بعض الأئمة لأسانيد قليلة فيهما، فلم يفهموا اعتراض أولئك المتقدمين الذين أرادوا بنقدهم أنّ بعض أسانيدهما خارجة عن الدرجة العليا من الصحة التى التزمها الشيخان لم يريدوا أنّها أحاديث ضعيفة قط.
ومن الغريب أن هذا الحديث بعينه -حديث الذباب- لم يكن مما إستدركه أحد من أئمة الحديث على البخاري، بل هو عندهم جميعًا مما جاء على شرطه في أعلى درجات الصحة.
ومن الغريب أيضًا أنّ هؤلاء الذين حملوا على أبي هريرة على علم كثير منهم بالسنة وسعة اطلاعهم رحمهم الله، غفلوا أو تغافلوا عن أنّ أبا هريرة رضى الله عنه لم ينفرد بروايته بل رواه أبوسعيد الخدري أيضًا عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عند أحمد في "المسند" (11207،11666) والنسائي (ج2 ص193) وابن ماجة (ج2 ص185) والبيهقي (ج1 ص253) بأسانيد صحاح، ورواه أنس بن مالك أيضًا، كما ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج5 ص 38) وقال: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في "الأوسط" وذكره الحافظ في "الفتح" (ج10 ص213) وقال: أخرجه البزار ورجاله ثقات.
فأبوهريرة لم ينفرد برواية هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولكنه انفرد بالحمل عليه منهم بما غفلوا أنه رواه اثنان غيره من الصحابة.
والحق أنه لم يعجبهم هذا الحديث لما وقر في نفوسهم من أنه ينافي المكتشفات الحديثة من المكروبات ونحوها، وعصمهم إيمانهم عن أن يجرؤا على المقام الأسمى فاستضعفوا أباهريرة.
والحق أيضًا أنّهم آمنوا بهذه المكتشفات الحديثة أكثر من إيمانهم بالغيب ولكنهم لا يصرحون ثم اختطوا لأنفسهم خطةً عجيبةً: أن يقدموها على كل شيء وأن يؤلوا القرآن بما يخرجه عن معنى الكلام العربي إذا ما خالف ما يسمونه (الحقائق العلمية) وأن يردوا من السنة الصحيحة ما يظنون أنه يخالف حقائقهم هذه، افتراءً على الله وحبًا في التجديد، بل إن منهم لمن يؤمن ببعض خرافات الأوربيين، وينكر حقائق الإسلام أو يتأولها، فمنهم من يؤمن بخرافات استحضار الأرواح، وينكر وجود الملائكة والجن بالتأول العصري الحديث، ومنهم من يؤمن بأساطير القدماء وما ينسب إلى القديسين والقديسات، ثم ينكر معجزات رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلها، ويتأول ما ورد في الكتاب والسنة من معجزات الأنبياء السابقين يخرجونها عن معنى الإعجاز كله وهكذا وهكذا.. وفي عصرنا هذا صديق لنا كاتب قدير أديب جيد الأداء، واسع الأطلاع، كنا نعجب بقلمه وعلمه واطلاعه، ثم بدت منه هنات وهنات على صفحات الجرائد والمجلات في الطعن على السنة والازراء برواتها من الصحابة فمن بعدهم، يستمسك بكلمات للمتقدمين فى أسانيد معينة يجعلها -كما يصنع المستشرقون- قواعد عامة يوسع من مداها ويخرج بها عن حدها الذي أراده قائلوها، وكانت بيننا في ذلك مساجلات شفوية ومكاتبات خاصة، حرصًا مني على دينه وعلى عقيدته.
ثم كتب في إحدى المجلات -منذ أكثر من عامين- كلمةً على طريقته التي ازداد فيها إمعانًا وغلوًا، فكتبت له كتابًا طويلاً في شهر جمادى الأولى سنة (1370) كان مما قلت له فيه من غير أن أسميه هنا، أو أسمي المجلة التى كتب فيها قلت له: وقد قرأت لك منذ أسبوعين تقريبًا كلمة في مجلة... لم تدع فيها ما وقر في قلبك من الطعن في روايات الحديث الصحيحة، ولست أزعم أني أستطيع إقناعك أو أرضي إحراجك بالإقلاع عما أنت فيه.
وليتك -يا أخي- درست علوم الحديث وطرق روايته، دراسةً وافيةً غير متأثر بسخافات (فلان) رحمه الله وأمثاله، ممن قلدهم وممن قلدوه، فأنت تبحث وتنقّب على ضوء شيء استقر في قلبك من قبل، لا بحثًا حرًا خاليًا من الهوى، وثق أني لك ناصح أمين، لا يهمني ولا يغضبني أن تقول في السنة ما تشاء فقد قرأت من مثل كلامك أضعاف ما قرأت، ولكنك تضرب الكلام بعضه ببعض، وثق -يا أخي- أن المستشرقين فعلوا مثل ذلك في السنة، فقلت مثل قولهم وأعجبك رأيهم، إذ صادف منك هوىً، ولكنك نسيت أنّهم فعلوا مثل ذلك وأكثر منه في القرآن نفسه، فما ضار القرآن ولا السنة شيء مما فعلوا، وقبلهم قام المعتزلة وكثير من أهل الرأي والأهواء، ففعلوا بعض هذا أو كله، فما زادت السنة إلا ثبوتًا كثبوت الجبال، وأتعب هؤلاء رؤوسهم وحدها وأوهموها، بل لم نر فيمن تقدّمنا من أهل العلم من اجترأ على ادعاء أن في الصحيحين أحاديث موضوعة فضلاً عن الإيهام والتشنيع الذى يطويه كلامك، فيوهم الأغرار أن أكثر ما في السنة موضوع، هذا كلام المستشرقين، غاية ما تكلم فيه العلماء نقد أحاديث فيهما بأعيانها لا بادّعاء وضعها والعياذ بالله، ولا بادّعاء ضعفها، إنما نقدوا عليهما أحاديث ظنوا أنّها لا تبلغ في الصحة الذروة العليا التي التزمها كل منهما.
وهذا مما أخطاء فيه كثير من الناس، ومنهم أستاذنا السيد رشيد رضا رحمه الله، على علمه بالسنة وفقهه، ولم يستطع قط أن يقيم حجته على ما يرى، وأفلتت منه كلمات يسمو على علمه أن يقع فيها، ولكنه كان متأثرًا أشد الأثر بجمال الدين ومحمد عبده وهما لا يعرفان في الحديث شيئًا، بل كان هو بعد ذلك أعلم منهما وأعلى قدمًا وأثبت رأيًا، لولا الأثر الباقي في دخيلة نفسه، والله يغفر لنا وله.
وما أفضت لك في هذا إلا خشيةً عليك من حساب الله، أما الناس في هذا العصر فلا حساب لهم، ولا يقدّمون في ذلك ولا يؤخرون، فإن التربية الإفرنجية الملعونة جعلتهم لا يرضون القرآن إلا على مضض، فمنهم من يصرح، ومنهمم من يتأول القرآن والسنة ليرضي عقله الملتوي، لا ليحفظهما من طعن الطاعنين فهم على الحقيقة لا يؤمنون ويخشون أن يصرحوا فيلتوون وهكذا هم، حتى يأتي الله بأمره، فاحذر لنفسك من حساب الله يوم القيامة، وقد نصحتك وما آلوت والحمد لله.
وأما الجاهلون الأجرياء فإنّهم كثر في هذا العصر، ومن أعجب ما رأيت من سخافاتهم وجرأتهم أن يكتب طبيب في إحدى المجلات الطبية فلا يرى إلا أن هذا الحديث لم يعجبه، وأنه ينافي علمه، وأنه رواه مؤلف اسمه البخاري، فلا يجد مجالاً إلا الطعن في هذا البخاري ورميه بالافتراء والكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم . وهو لا يعرف عن البخاري هذا شيئًا، بل لا أظنه يعرف اسمه ولا عصره ولا كتابه، إلا أنه روى شيئًا يراه هو بعلمه الواسع غير صحيح فافترى عليه ما شاء، مما سيحاسب عليه بين يدي الله حسابًا عسيرًا.
ولم يكن هؤلاء المعترضون المجترئون أول من تكلم في هذا، بل سبقهم من أمثالهم الأقدمون، ولكن أولئك كانوا أكثر أدبًا من هؤلاء. فقال الخطابي في "معالم السنن" رقم(3695) من "تهذيب السنن": وقد تكلم في هذا الحديث بعض من لا خلاق له. وقال: كيف يكون هذا ؟ وكيف يجتمع الداء والشفاء في جناحي الذبابة، وكيف تعلم ذلك من نفسها حتى تقدم جناح الداء وتؤخر جناح الشفاء وما أربها في ذلك.
قلت: (القائل الخطابي): وهذا سؤال جاهل أو متجاهل، وإن الذى يجد نفسه ونفوس عامة الحيوان قد جمع فيها بين الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة وهي أشياء متضادة إذا تلاقت تفاسدت، ثم يرى أن الله سبحانه قد ألّف بينها وقهرها على الاجتماع، وجعل منها قوى الحيوان التى بها بقاؤها وصلاحها لجدير أن لا ينكر اجتماع الداء والشفاء في جزءين من حيوان واحد، وأن الذى ألهم النحلة أن تتخذ البيت العجيب الصنعة وأن تعسل فيه وألهم الذرة أن تكتسب قوتها وتدخره لأوان حاجتها إليه، هو الذي خلق الذبابة وجعل لها الهداية إلى أن تقدم جناحًا وتؤخر جناحًا لما أراد الله من الابتلاء الذي هو مدرجة التعبد، والامتحان الذي هو مضمار التكليف، وفي كل شيء عبرة وحكمة وما يذّكر إلا أولوا الألباب.
وأما المعنى الطبي فقال ابن القيم -في شأن الطب القديم- في "زاد المعاد" (ج3 ص210-211): واعلم أن في الذباب قوة سمية، يدل عليها الورم والحكة العارضة من لسعه، وهى بمنْزلة السلاح فإذا سقط فيما يؤذية اتقاه بسلاحه فأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يقابل تلك السمية بما أودعه الله في جناحه الآخر من الشفاء، فيغمس كله في الماء والطعام، فيقابل المادة السمية بالمادة النافعة، فيزول ضررها، وهذا طب لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارج من مشكاة النبوة، ومع هذا فالطبيب العالم العارف الموفق يخضع لهذا إلعلاج ويقر لمن جاء به بأنه أكمل الخلق على الإطلاق، وأنه مؤيد بوحي إلهي خارج عن القوى البشرية.
وأقول -في شأن الطب الحديث- إن الناس كانوا ولا يزالون تقذر أنفسهم الذباب، وتنفر مما وقع فيه من طعام أو شراب، ولا يكادون يرضون قربانه، وفي هذا من الإسراف -إذا غلا الناس فيه- شيء كثير ولا يزال الذباب يلح على الناس في طعامهم وشرابهم، وفي نومهم ويقظتهم، وفي شأنهم كله، وقد كشف الأطباء والباحثون عن المكروبات الضارة والنافعة وغلو غلوًا شديدًا في بيان ما يحمل الذباب من مكروبات ضارة، حتى لقد كادوا يفسدون على الناس حياتهم لو أطاعوهم طاعة حرفيّة تامة، وإنا لنرى بالعيان أن أكثر الناس تأكل مما سقط عليه الذباب، وتشرب فلا يصيبهم شيء إلا في القليل النادر، ومن كابر في هذا فإنما يخدع الناس ويخدع نفسه، وإنا لنرى أيضًا أن ضرر الذباب شديد حين يقع الوباء العام لا يماري في ذلك أحد، فهناك إذن حالان ظاهرتان بينهما فروق كبيرة، أما حال الوباء فمما لاشك فيه أن الاحتياط فيها يدعو إلى التحرز من الذباب وأضرابه مما ينقل المكروب أشد التحرز، وأما إذا عدم الوباء وكانت الحياة تجري على سننها فلا معنى لهذا التحرز، والمشاهدة تنفي ما غلا فيه من إفساد كل طعام أو شراب وقع عليه الذباب، ومن كابر في هذا فانما يجادل بالقول لا بالعمل، ويطيع داعي الترف والتأنّق وما أظنه يطبّق ما يدعو إليه تطبيقًا دقيقًا، وكثير منهم يقولون ما لا يفعلون.اهـ
مسألة
وتعلم السحر كفر قال الله تعالى: {واتّبعوا ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكنّ الشّياطين كفروا يعلّمون النّاس السّحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلّمان من أحد حتّى يقولا إنّما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلّمون منهما ما يفرّقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارّين به من أحد إلاّ بإذن الله ويتعلّمون ما يضرّهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون}.
وقال البخاري رحمه الله (ج5 ص393): حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله قال حدثنا سليمان بن بلال عن ثور بن زيد المدني عن أبي الغيث عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((اجتنبوا السّبْع الموبقات)) قالوا: يا رسول الله وما هنّ؟ قال: ((الشّرك بالله، والسّحر، وقتل النّفس الّتي حرّم الله إلا بالحقّ، وأكل الرّبا، وأكل مال اليتيم، والتّولّي يوم الزّحْف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)). والحديث ليس صريحًا في أنّ متعلّم السحر كافر، وتكفي الآية، ويستأنس بالحديث معها. والله أعلم.
الخاتمة
قد عرضت عليك بعض ردود أهل العلم على الطاعنين في حديث السحر، وعرضت بعض آراء محمد رشيد رضا المنحرفة، وكشفت لك عن تلبيس تستّره بالسلفية، وما لم أذكره أكثر، فهو يشكّك في حديث رجوع الشمس من مغربها، وهو يقول: إن ذكر القرآن بعض الخوارق، هو الذي صد أحرار الإفرنج عن الإسلام. ذكر هذا صاحب "منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير" فواحدة مما ذكرت توجب ضلاله وانحرافه، نعوذ بالله من عمى البصيرة.
وإن تشهيرنا بضلال محمد رشيد رضا المتستّر بالسلفيّة، ليدل على أن أهل السنة ليس لديهم محاباة، وهذا بخلاف جهلة الإخوإن المسلمين الذين يدندنون بقول من قال: نتعاون فيما اتفقنا عليه وليعذر بعضنا بعضًا فيما أختلفنا فيه. وقوله: وليعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه، باطل، لأنّ من المختلف ما لا يجوز أن يعذر عليه صاحبه، كما هو معلوم من الشرع.
وبخلاف أيضًا الحزب الشيوعي والبعثي، فإنّ من تظاهر بالكفر والإلحاد والطعن في الإسلام، رفعوا شأنه، وتحدثت عنه وسائل الإعلام، وإن كان لا يساوي بعرة، ولكن يأبى الله إلا أن يهين أعداءه ويذلهم {ومن يهن الله فما له من مكرم}.
والحمد لله قد باء أعداء السنة بالفشل، وباء الملاحدة بالخزي والذل، وأصبحت السنة هي السائدة فى اليمن، والفضل في هذا لله وحده.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.(/)
كتاب الشفاعة
مقدمة الطبعة الثالثة
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيّبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فمما منّ الله به عليّ ويسّر لي تأليف "الشّفاعة"، فقرّت بها أعين إخواننا أهل السّنة، وغص بها المبتدعة، وقد وفقني الله لذكر الأحاديث بأسانيدها والفضل في هذا لله، فإنّ الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، كما قال عبدالله بن المبارك رحمه الله ورضي عنه.
والكتاب يعدّ ردًّا على المبتدعة ففي المقدمة الجمع بين الآيات وبيان الشفاعة المقبولة والشفاعة غير المقبولة، وفي أثناء الكتاب أيضًا رد على الذين يطلبون الشفاعة من غير من يملكها كالصوفية والغلاة من الشيعة والرافضة من أهل البيت وغيرهم.
وقد يسّر الله قراءة "الشفاعة" في (دار الحديث) بدمّاج، فأبدى إخواننا الأفاضل -وأخص بالذكر منهم مدرّسهم الشيخ يحيى بن علي الحجوري- ملاحظاتهم وفوائدهم القيّمة، فأضيفت إلى الكتاب، فجزاهم الله خيرًا.
والله أسأل أن يجزي الأخوين الفاضلين: سعيد بن عمر حبيشان وحسين ابن محمد مناع اللذين قاما برص الكتاب، وكذا الأخ الفاضل محمد بن عبدالله السّيّاغي خيرًا، وأن يدفع عنّا وعنهم كل سوء ومكروه وأن يعيذنا وإياهم من الحزبية المسّاخة... إنه على كل شيء قدير.
أبوعبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي
تنبيه:
قد أذن لنا الشيخ في تقديم وتأخير بعض الأحاديث إلى مواضعها الأليق بها في هذه الطبعة، وكتبنا هذا التنبيه لئلا يظنّ أن هناك سقطًا في الكتاب.
تقديم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}
{ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفْس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا}
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولاً سديدًا، يصلحْ لكم أعْمالكم ويغفرْ لكم ذنوبكم ومنْ يطع الله ورسوله فقدْ فاز فوزًا عظيمًا}
أما بعد:
فإن ضلال الصوفية وأتباعهم من الجهلة يتّهمون أهل السّنة بعدم حبّهم لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لكون أهل السّنة يثبتون على سنة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولا يوافقونهم على غلوهم في رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهم يدّعون حبّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بألسنتهم، ويخالفون طريقته في اعتقادهم وسلوكهم، حتى وصل بغلاتهم إلى دعاء رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، والاستغاثة به، واتّخاذه واسطة بينهم وبين الله عزّ وجلّ فيما يطلبونه من الله عزّ وجلّ، وهذا هو الشرك الذي كان عليه أهل الجاهلية الأولى، قال الله عزّ وجلّ: {والّذين اتّخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى إنّ الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إنّ الله لا يهدي من هو كاذب كفّار}.
وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قلْ أتنبّئون الله بما لا يعلم في السّموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون} ومع ذلك فهم يدّعون حبّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وكذلك غيرهم من أهل البدع يخرجون عن هدي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويدّعون حبّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ومما ضل فيه أهل البدع شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فكثير من أهل البدع ينكرون بعض أنواع شفاعة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالخوارج ينكرون شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأهل الكبائر من أمته في خروجهم من النّار، لأنّهم يرون أنّ مرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار لذلك فهم يجدون أن إثبات هذه الشفاعة يخالف معتقدهم الفاسد، فهم ينكرونها.
وكذلك المعتزلة تابعوا الخوارج على القول بتخليد أهل الكبائر من الموحدين في النار، وتابعهم الشيعة على ذلك أيضًا.
وإثبات هذه الشفاعة فيه ردّ على المرجئة أيضًا، لأن غلاة المرجئة يقولون: إنه لا يضرّ مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. وهذه الفرق المذكورة وغيرها موجودة في أيامنا هذه، فالشيعة موجودون بكثرة لا كثّرهم الله، وهذه دولتهم إيران التي تدّعي أنّها (الجمهورية الإسلامية) تعلن أن مذهبها هو المذهب الإثنا عشري الجعفري، فهم رافضة من غلاة الشيعة، وقد أخذوا كثيرًا من مذاهب المعتزلة.
وكذلك الخوارج لهم أفراخ موجودون وهم الذين يكفرون عصاة المسلمين، وإن كانت شوكتهم قد انكسرت، وكثير منهم قد تراجعوا ورجعوا إلى الحق، إلا أنه لا يزال منهم من هو عاضّ على هذه العقائد الضّالة، ويظنون أن هذه الجموع التي قد تراجعت قد فتنوا، وأنّهم هم القابضون على الجمر وهم الطّائفة المنصورة! ومع أن هؤلاء كما قلنا قد أصبحوا قلة قليلة لا يقدرون على مواجهة صغار طلبة العلم الذين قد تعلموا شيئًا من عقائد السلف، إلا أننا لا نأمن أن يظهروا مرة أخرى هنا أو هناك.
وأمّا المرجئة فكثير من عوام المسلمين عقيدتهم هي عقيدة المرجئة فهم يظنون أنّهم لمجرد انتسابهم للإسلام سوف يدخلون الجنة من أوسع أبوابها، ولا يعملون للعمل والطاعات حسابًا؛ حتى أهم الأعمال وهي الصلاة كثير منهم يتركونها، ومع ذلك فهم أهل الجنة وهم أبعد الناس عن النار! أين هؤلاء مما حكاه ابن أبي مليكة حيث يقول: أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلهم يخشى على نفسه النفاق. فما أبعد هؤلاء عن فهم سلفنا واعتقادهم، وما أقربهم من المرجئة المبتدعة واعتقادهم.
لذلك فدراسة عقيدة أهل السنة والجماعة ومعرفة عقائد الفرق الضّالة من أهمّ ما يكون، بل هو أهمّ شيء في دين الله عزّ وجلّ، نقول هذا ونحن نعلم أن هناك ممن ينتسب إلى الدعوة إلى الله من يقول: إن هذا من فضول القول، وإن هذه الفرق قد عفا عليها الدهر، فلا داعي لإضاعة الأوقات في معرفتها ودراسة مناهجها ومعتقداتها. ونقول: إن هؤلاء ما قالوا ذلك إلا بسبب جهلهم وبعدهم عن العلم النّافع، فنجد كثيرًا من هؤلاء يعتبرون إيران الدولة المسلمة الوحيدة على وجه الأرض، ولايدري هؤلاء أن بها مدينة (قم) المقدسة عندهم! ولماذا هي مقدسة عندهم؟ لأن بها المشاهد التي يعبدونها، وكذلك فهم يكفّرون الصحابة إلا نفرًا يسيرًا وغير ذلك من عقائدهم الفاسدة. ولكن القوم لا يعنيهم أمر العقيدة فالشيء المهم أن يسير المرء معهم ويوافقهم على الاشتغال بالسياسة، وأن يلبس كلّ شيء ثوب الإسلام: سينما إسلامية، مسرح إسلامي، فن إسلامي، وهكذا. أما تعلّم العقيدة الإسلامية الصحيحة عقيدة السلف الصالح، وتعلّم العلوم الشرعية فهذا عندهم من إضاعة الأوقات، نسأل الله السلامة والعافية.
وكما قلنا إن الشفاعة والإيمان بها من أهم معتقدات أهل السنة والجماعة، وفي معرفتها والإيمان بها ردّ على كثير من الفرق الضالة كما بيّنا وتصحيح لعقائد المسلمين.
وقد قام شيخنا مقبل حفظه الله بجمع كل ما يتعلق بالشفاعة، سواء كانت الشفاعة العظمى، أو الشفاعة لأهل الكبائر، وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض، وما يجوز من الشفاعة وما لا يجوز، وقد بيّن الصحيح من الأحاديث في ذلك من الضعيف مع بيان سبب الضعف، فهو مفيد جامع في بابه لا يستغني عنه عالم ولا طالب علم ولا عامّي، فلا نكون مبالغين -إن شاء الله- إذا قلنا: ينبغي ألا يخلو منه بيت.
وشيخنا مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله غني عن التعريف، فكتبه وعلمه منتشران في كل مكان، وإن كنت أرى أنه لم يأخذ حظه كأقرانه أو من هم دونه من أهل العلم، فإن اليمن تعتبر بلدًا معزولة إلى حدّ كبير، ومع هذا فقد نفع الله عز وجل به أناسًا كثيرين في جميع البلدان وأما في اليمن فهو حفظه الله يعتبر مجددًا للدين في اليمن وناصرًا للسنة، فقد نشر الله عز وجل به السنة وقمع به البدعة. وأصبح غلاة الشيعة مدحورين، أمرهم إلى زوال إن شاء الله تعالى، بعد أن كانت اليمن معقلاً كبيرًا من معاقل الشيعة في العالم. ومنطقته التي يحل بها (صعْدة) تعتبر أكثر شيعة اليمن غلوًا وتعصبًا لأن بها مسجد (الهادي) الذي يعتبر مركز الشيعة باليمن.
ولذلك فقد تعرّض الشيخ حفظه الله لبلاء كثير في التمسك بالسنة والدعوة إليها وسط هؤلاء. كما سمعنا من أقربائه عندما كنا هناك وكما حكى هو في ترجمته التي قمنا بطباعتها، وعلى سبيل المثال لما لاقاه الشيخ من المعاناة في مواجهة الشيعة المبتدعة، في أول نزوله لليمن ذهب إلى مسجد الهادي بصعدة ليدعوهم إلى الله فقاموا عليه، وأرادوا قتله في المسجد فأسند ظهره للجدار فقام رجال من قبيلته ودافعوا عنه، ثم جاء آخرون ممن كانوا خارج المسجد فاجتمعوا حوله وخلّصوه من أيديهم.
ونحن قد رأينا مدى تعصب هؤلاء القوم بأنفسنا عندما ذهبنا إلى بعض المناطق النائية من (لواء صعدة) التي لم تكن الدعوة مألوفة عند أهلها في تلك الأيام من نحو أكثر من اثني عشر عامًا، عندما دخلنا مسجدًا من مساجد القوم في صلاة المغرب، فلما قرأ الإمام الفاتحة فأمّنّا جهرًا. فحدثت فوضى في مؤخر المسجد وخرج بعضهم من الصلاة، وبعد انتهاء الصلاة قام أحد إخواننا ليتكلم فقطعوا التيار الكهربائي، وحدثت فوضى كبيرة، وكادت تحدث مضاربة في المسجد فخرجنا وانصرفنا من تلك القرية.
حدث هذا معنا مع أننا غرباء ويعلمون أن مذهبنا يخالف مذهبهم، فما بالك بمن هو منهم وترك مذهبهم وانتحل مذهب أهل السنة والجماعة، لا شك أنّهم سيكونون له أشدّ عداوةً وحربًا، فتحمّل شيخنا كل هذه الصعاب والمحن من غير إثارة فتنة ولا قلاقل حتى انتشرت السنة وقمعت البدعة بفضل الله عزّ وجلّ، فجزاه الله خيرًا.
فمن أراده بسوء فلا وفّقه الله، ومن أعانه بخير فجزاه الله خيرًا، وأسأل الله عزّ وجلّ أن يمدّ في عمر شيخنا وأن ينفع به الإسلام والمسلمين، وأن يغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنّا وما هو أعلم به منا، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
أبوعبدالله أحمد بن إبراهيم بن أبي العينين
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
{ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون}
{ياأيّها النّاس اتّقوا ربّكم الّذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبثّ منهما رجالاً كثيرًا ونساءً واتّقوا الله الّذي تساءلون به والأرحام إنّ الله كان عليكم رقيبًا}
{ ياأيّها الّذين آمنوا اتّقوا الله وقولوا قولاً سديدًا، يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا}
أما بعد:
فلما كان موضوع الشّفاعة من المواضيع التي يزداد المؤمن بقراءتها حبًّا لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، رأيت أن أكتب ما عثرت عليه من الأحاديث مبيّنًا بعون الله صحيحها من سقيمها، ومعلولها من سليمها، بحسب الاستطاعة حتى يستفيد مما أكتبه طلبة العلم وغيرهم، فربّ حديث قد شاع وذاع واشتهر على ألسنة العامّة، وهو لا يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، ولست أعني أني آت بما لا تستطيع الأوائل، ولكني أستفيد من كتبهم، وأحذو حذوهم، فهم رحمهم الله قد قاموا بجهود ليس لها نظير في خدمة السّنة المطهرة، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
وإن مما دفعني على اختيار الكتابة في هذا الموضوع، أن هناك بعض مقامات الشّفاعة قد أنكرها بعض ذوي الأهواء، فمن ثمّ أدرج الشّفاعة أهل السّنة رحمهم الله في كتب العقيدة، فقلّ أن تجد مؤلفًا يؤلف في العقيدة إلا وقد عقد كتابًا أو فصلاً في كتابه للشّفاعة، بيانًا للحق، وقمعًا للباطل، ونصرةً للعقيدة الحقّة، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
وهؤلاء المنكرون لبعض مقامات الشّفاعة وهي الشّفاعة لأهل الكبائر، والشّفاعة في خروج الموحدين من النار، قد أخبر عنهم عمر رضي الله عنه، وهو المحدّث[1]، فقد روى الإمام أحمد في "مسنده" (ج1 ص23) من طريق علي بن زيد[2] عن يوسف بن مهران عن ابن عبّاس قال: خطب عمر رضي الله عنه ... -وفي الخطبة-: وإنّه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرّجم وبالدّجال وبالشّفاعة وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النّار بعد ما امتحشوا.
ولمّا كان من أعظم شبههم الباطلة أن أحاديث الشّفاعة أخبار آحاد، وأنه لا يؤخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة جمعت ما استطعت الوقوف عليه حتى تبطل شبهتهم، ويعلموا أن أحاديث الشّفاعة متواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، على أنّي أعلم أن شبهة كون أخبار الآحاد لا يؤخذ بها في العقيدة دسيسة من قبل أعداء السّنة حتى يبطلوا سنّة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وقد أحسن الردّ عليهم الإمام الشافعي رحمه الله في "الرّسالة"، والإمام البخاري في "صحيحه"، وعقد كتابًا في صحيحه أسماه: (كتاب أخبار الآحاد)، وممن تولى الردّ عليهم ابن حزم في "الأحكام"، وابن القيم في "الصواعق المرسلة"، ولو لم يكن إلا عموم {وما آتاكم الرّسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} [3] وعموم قوله تعالى: {فليحذر الّذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم}[4] والنبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يرسل الرسول ويأمره أن يعلم الناس العقائد والعبادات وما يحتاجون إليه كما هو معلوم من سيرته، ومما أستحضره الآن الحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال لمعاذ بن جبل: ((إنّك ستأتي قومًا من أهْل الكتاب فليكن أوّل ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمدًا رسول الله ...)) الحديث، وقال عمر رضي الله عنه: إنّي لم أرسل عمالي إليكم ليأخذوا أموالكم، ولا ليضربوا أبشاركم، ولكن ليعلموكم دينكم. رواه أحمد في "مسنده"[5].
أولئك المنكرون لبعض مقامات الشفاعات في جانب، وبعض الجهلة من المسلمين في جانب آخر، وهم الذين يظنون أن لرسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وللصالحين أن يدخلوا الجنة من شاءوا، ويخرجوا من النار من شاءوا، وهكذا يظنون أن لهم التصرف المطلق في الدنيا، وكلتا الطائفتين مجانبة للصواب، والحقّ وسط أنّ الرسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم والصالحين سيشفعون في الآخرة لكن بشروط ستأتي في الجمع بين الآيات المثبتة للشّفاعة والآيات النّافية، وهكذا لهم في حياتهم أن يشفعوا عند الله لكن فيما يقدرون عليه، وقد شفع النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم للمشركين عند الله أن يسقوا كما في "الصحيحين" من حديث ابن مسعود رضى الله عنه.
فمذهب أهل السّنة رحمهم الله وسط بين الغالي والجافي، لأنّهم رحمهم الله يجمعون بين الأدلة، وبقية الطوائف تأخذ بجانب من الأدلة وتترك الجانب الآخر، فمن ثمّ تخبّطوا وتعسّفوا في دحض الأدلّة التي لا توافق أهواءهم، فتارة يتجرأون ويطعنون في الصحابي الراوي للسّنة، وتارة يقولون: أخبار آحاد. وتارة يؤولون الأدلة بحيث يعطلونها عمّا تدلّ عليه، ويأبى الله إلا أن يتمّ نوره، ويظهر حجته، فلم يزل بحمد الله في كل بلد من بلاد المسلمين من يقيم عليهم الحجة، وصدق رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إذ يقول: ((لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتّى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك)) متفق عليه بهذا المعنى.
وإنّ من أحسن الكتب فيما اطلعت عليه في تزييف أباطيلهم كتاب "تأويل مختلف الحديث" لابن قتيبة رحمه الله، فقد أبطل رحمه الله جلّ شبهاتهم حول سنة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فجزاه الله خيرًا.
الشّفاعة في اللغة:
قال ابن الأثير في "النهاية": قد تكرر ذكر الشّفاعة في الحديث فيما يتعلق بأمور الدنيا والآخرة، وهي: السؤال في التجاوز عن الذنوب والجرائم بينهم، يقال: شفع يشفع شفاعةً فهو شافع وشفيع، والمشفّع: الّذي يقبل الشّفاعة، والمشفّع: الّذي تقبل شفاعته. اهـ
وفي "القاموس" و"تاج العروس": والشّفيع: صاحب الشّفاعة، والجمع: شفعاء، وهو: الطالب لغيره يتشفّع به إلى المطلوب.
وفيهما أيضًا: وشفّعته فيه تشفيعًا حين شفع -كمنع- شفاعةً، أي قبلت شفاعته كما في "العباب"، قال حاتم يخاطب النعمان:
فككت عديًّا كلّها من إسارها فأفضلْ وشفّعني بقيس بن جحْدر
وفي حديث الحدود: (( إذا بلغ الحدّ السلطان فلعن الله الشافع والمشفّع))[6].
وفي حديث ابن مسعود: ((القرآن شافع مشفّع، وماحل[7] مصدّق )) [8].
أي من اتبعه وعمل بما فيه فهو شافع مقبول الشّفاعة من العفو عن فرطاته، ومن ترك العمل به تمّ على إساءته، وصدّق عليه فيما يرفع من مساويه، فالمشفّع: الذي يقبل الشّفاعة، والمشفّع: الذي تقبل شفاعته، ومنه حديث: ((اشْفع تشفّع))، واستشفعه إلى فلان: أي سأله أن يشفع له إليه، وأنشد الصغاني للأعشى:
تقول بنتي وقدْ قرّبت مرتحلاً يا ربّ جنّبْ أبي الأوصاب والوجعا
واستشفعتْ من سراة الحيّ ذا شرف[9] فقدْ عصاها أبوها والّذي شفعا
يريد: والذي أعان وطلب الشّفاعة فيها، وأنشد أبوليلى:
زعمتْ معاشر أنّني مستشفع لمّا خرجت أزوره أقلامها
قال: زعموا أني أستشفع أقلامهم في الممدوح أي بكتبهم. اهـ مختصرًا.
وذكر الزمخشري في "أساس البلاغة" بعض ما تقدم، ثم قال: وقال آخر:
مضى زمن والنّاس يستشفعون بي فهل لي إلى ليلى الغداة شفيع
والمعاني الشرعية موافقة للمعاني اللغوية. فمن الشّفعاء من يشفع ابتداءً، ومنهم من يشفع بعد الطلب، كما سيأتي إن شاء الله بيانه في الأحاديث.
فصل الآيات الواردة في الشّفاعة والجمع بينها
وبما أنّها قد وردت آيات تنفي الشّفاعة والشفيع، وآيات تثبتهما رأيت أن أذكر الآيات التي تنفي الشّفاعة والشّفيع، والآيات التي تثبتهما ثم أذكر الجمع بين هذه الآيات حسبما جمع بينها أهل العلم رحمهم الله.
الآيات الواردة في نفي الشّفاعة والشفيع:
قال الله تعالى: {واتّقوا يومًا لا تجْزي نفس عن نفس شيئًا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل[10] ولا هم ينصرون}[11].
وقال تعالى:{ياأيها الّذين آمنوا أنفقوا ممّا رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلّة[12] ولا شفاعة والكافرون هم الظّالمون}[13].
وقال تعالى حاكيًا عن بعض الصالحين:{أأتّخذ من دونه آلهةً إن يردن الرّحمن بضرّ لا تغن عنّي شفاعتهم شيئًا ولا ينقذون}[14].
في هذه الآيات نفي الشّفاعة.
وقال تعالى:{وأنذر به الّذين يخافون أن يحشروا إلى ربّهم ليس لهم من دونه وليّ ولا شفيع لعلّهم يتّقون}[15].
وقال تعالى:{وذر الّذين اتّخذوا دينهم لعبًا ولهوًا وغرّتْهم الحياة الدّنيا وذكّر به أن تبسل[16] نفس بما كسبت ليس لها من دون الله وليّ ولا شفيع وإن تعدل كلّ عدل لا يؤخذ منها أولئك الّذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون}[17].
وقال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبّئون الله بما لا يعلم[18] في السّموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون}[19].
وقال تعالى حاكيًا عن أهل النار:{فما لنا من شافعين[20]، ولا صديق حميم، فلو أنّ لنا كرّةً فنكون من المؤمنين}[21].
ومعنى حميم : قريب، وكرّة: رجعة إلى الدنيا.
وقال تعالى: {الله الّذي خلق السّموات والأرض وما بينهما في ستّة أيّام ثمّ استوى على العرش [22] ما لكم من دونه من وليّ ولا شفيع أفلا تتذكّرون}[23].
وقال تعالى: {أم اتّخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئًا ولا يعقلون، قل لله الشّفاعة جميعًا له ملك السّموات والأرض ثمّ إليه ترجعون}[24].
وقال تعالى: {وأنذرهم يوم الآزفة[25] إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظّالمين من حميم ولا شفيع يطاع}[26].
في هذه الآيات نفي الشفيع.
الآيات في إثبات الشّفاعة والشفيع:
قال الله تعالى:{من ذا الّذي يشفع عنده إلا بإذنه}[27].
وقال تعالى:{ما من شفيع إلا من بعد إذنه}[28].
وقال تعالى:{وقالوا اتّخذ الرّحمن ولدًا سبحانه بل عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون[29]}[30].
فهي هذه الآيات إثبات الشفيع بشروط وستأتي إن شاء الله.
وقال الله تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربّي نسفًا، فيذرها قاعًا صفصفًا[31]، لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، يومئذ يتّبعون الدّاعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرّحمن فلا تسمع إلا همسًا[32]، يومئذ لا تنفع الشّفاعة إلا من أذن له الرّحمن ورضي له قولاً}[33].
وقال تعالى: {ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشّفاعة إلا من شهد بالحقّ وهم يعلمون}[34].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: {ولا يملك الّذين يدعون من دونه} أي: من الأصنام والأوثان {الشّفاعة} أي: لا يقدرون على الشّفاعة لهم {إلا من شهد بالحقّ وهم يعلمون} هذا استثناء منقطع، أي: لكن من شهد بالحقّ على بصيرة وعلم فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له. اهـ
وقال تعالى:{وكم من ملك في السّموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى}[35].
هذه الآيات تدل على الشّفاعة المثبتة بشروط ستأتي إن شاء الله.
الجمع بين الآيات المثبتة والآيات النافية:
يتحصل من هذا أن النفي مقصود به الشّفاعة التي تطلب من غير الله، كما قال تعالى: {قل لله الشّفاعة جميعًا} [36] والشّفاعة المثبتة لا تقبل إلا بشروط:
1- قدرة الشافع على الشّفاعة كما قال تعالى في حق الشافع الذي يطلب منه وهو غير قادر على الشّفاعة: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرّهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبّئون الله بما لا يعلم في السّموات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عمّا يشركون} [37]، وقال تعالى: {ولا يملك الّذين يدعون من دونه الشّفاعة إلا من شهد بالحقّ وهم يعلمون} [38] فعلم من هذا أن طلب الشّفاعة من الأموات طلب ممن لا يملكها، قال تعالى: {والّذين تدعون من دونه ما يملكون من قطمير، إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم ولو سمعوا ما استجابوا لكم ويوم القيامة يكفرون بشرككم ولا ينبّئك مثل خبير} [39] وقال تعالى: {قل ادعوا الّذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرّة في السّموات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير، ولا تنفع الشّفاعة عنده إلا لمن أذن له}[40].
2- إسلام المشفوع له، قال الله تعالى : {ما للظّالمين من حميم ولا شفيع يطاع} [41]، والمراد بالظالمين هنا: الكافرون، بدليل الأحاديث المتواترة في الشّفاعة لأهل الكبائر، وستأتي إن شاء الله في موضعها. قال الحافظ البيهقي رحمه الله في "الشعب" (ج1 ص205): فالظالمون هاهنا هم الكافرون، ويشهد لذلك مفتتح الآية إذ هي في ذكر الكافرين. اهـ
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير الآية: أي ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع فيهم، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير. اهـ
ويستثنى من المشركين أبوطالب، فإن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يشفع له حتى يصير في ضحضاح من نار كما سيأتي في الأحاديث في مواضعها إن شاء الله.
3- الإذن للشافع، كما قال تعالى: {من ذا الّذي يشفع عنده إلا بإذنه}[42].
4- الرّضا عن المشفوع له كما قال تعالى: {وكم من ملك في السّموات لا تغني شفاعتهم شيئًا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى} [43] وقال تعالى:{ولا يشفعون إلا لمن ارتضى}[44].
وبهذا تنتهي المقدمة، ونستعين بالله في الشروع في ذكر الأحاديث بأسانيدها مع العزو إلى بقيّة المخرجين بحسب الاستطاعة، فإن في ذكر الحديث بسنده طمأنينةً لطالب علم الحديث، وحذف الأسانيد خسارة كبيرة، إذ الإسناد من الدين، وما كان سلفنا رحمهم الله يقبلون من محدث حديثًا حتى يسنده، وينظروا في رجاله رجلاً رجلاً، كما هو معروف من سيرهم رحمهم الله.
وأما التخريج فهو يعين طالب العلم على جمع طرق الحديث، والحديث كلما كثرت طرقه ازداد قوة، والتخريج أيضًا يعين طالب العلم على الوقوف على شروح الحديث، في الكتب التي قد شرحت، فربّ حديث يكون عامًا قد خصّص، أو يكون منسوخًا، أو يكون مطلقًا قد قيّد، من أجل هذا فإنه لا غنى لنا عن الرجوع إلى الشروح غير مقلدين لأصحابها، ولكن مستفيدين من جهودهم التي بذلوها في خدمة السنة، فجزاهم الله عن الإسلام خيرًا.
هذا ويستفاد من التخريج وجمع الطرق أنّ الحديث ربّما يكون ظاهره الصحة، وبجمع الطرق تظهر فيه علّة من اضطراب أو انقطاع أو إرسال أو وقف أو غيرها مما يعلّ بها الحديث. فمن ثمّ يقول علي بن المديني: إن الباب إذا لم تجمع طرقه لم يتبيّن خطؤه. وإليك مثالاً على ذلك: حديث جابر في "صحيح البخاري" فيمن يقول مثل ما يقول المؤذن، ثم يقول: ((اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة، والصّلاة القائمة، آت محمّدًا [ وفي "معاني الآثار" للطحاوي: آت سيّدنا محمدًا] الوسيلة والفضيلة، وابعثْه مقامًا محمودًا الذي وعدته))، وفي "سنن البيهقي" زيادة: ((إنّك لا تخلف الميعاد))، فبسبب جمع الطرق علم أنّ هاتين الزيادتين شاذتان كما سيأتي إن شاء الله، في (أسباب الشّفاعة).
هذا وقد أذكر بعض الأحاديث الشديدة الضعف والموضوعة لبيان حالها لا للاحتجاج بها، فإنّ بعض الأحاديث الموضوعة تستغلها بعض الطوائف المنحرفة لترويج باطلها، وإليك مثالاً على ذلك وهو ما قرأناه في "العقد الثمين في معرفة رب العالمين"[45] ونحن بصعدة[46]: ((ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)) فهذا حديث ليس له أصل، إنّما هو من أباطيل المعتزلة، كما في "أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب".
مثال آخر: حديث ((ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إليه، والمحبّ لهم بقلبه ولسانه)) ولا يخفى على القارئ ما هو مقصد[47] واضع هذا الحديث، وسيأتي إن شاء الله الكلام على هذا الحديث الباطل في (أعمال متفرقة من أسباب الشّفاعة).
تنبيه:
قاعدتي في الحكم على الحديث أنّني أبحث في كتب المحدثين، فإن وجدت حكمًا لمحدث نقلته، ثم نظرت في رجال السّند فإن ظهر لي خلاف ذلك الحكم من تصحيح أو تضعيف عقّبت به على حكمه، وإلا أقررته كما هو، وأعتقد أنّ هذه الطريقة أسلم، فقد يظن الباحث أنّ السند صحيح ويكون قد اطلع العلماء على علّة فيه، وقد يصححه متساهل، فيتناقله من بعده معتمدين على تصحيحه، من أجل هذا ألزمت نفسي بالجمع بين البحث عمّا قاله العلماء، والنظر في السند، وأيضًا النّاس يطمئنون إلى تصحيح المتقدمين لعلمهم أنّهم أوسع علمًا من المتأخرين. فإذا لم أجد لهم كلامًا حكمت على الحديث بظاهر السّند. والله المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
اعتذار:
اطلعت على أحاديث في "كنْز العمّال" وفي "مجمع الزوائد" و"المطالب العالية" تعزى إلى مصادر ليست في متناولي فتركتها ولم تطمئن النفس إلى نقلها بدون أسانيد، وقد أخرجت في الغالب ما يغني عنها، وهكذا في الرجال فقد أبحث عن بعضهم فلا أجد له ترجمة في المصادر لديّ، فأتوقف في الحكم على الحديث خشية أن يكون الراوي موثقًا في مصدر لم أطلع عليه، أو يكون تصحّف فما أكثر التصحيف في الكتب المطبوعة التي لم يشرف عليها من هو أهل للإشراف.
هذا، وقد أعرضت عن جدل أهل البدع وذكر أقوالهم والردّ عليها، وسقت الأحاديث كما هي، ففي الأدلة غنية عن فلسفة أهل علم الكلام، وفي الأدلة قمع لبدعهم[48] فعسى الله أن يوفق المسلمين إلى الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسول الله اللّذين هما أمان من الضلال والزّيغ، وهما عصمة من الاختلاف الذي مزّق الأمّة الإسلامية وجعلهم شيعًا وأحزابًا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
((اللّهمّ ربّ جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السّموات والأرض، عالم الغيب والشّهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحقّ بإذنك إنّك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم))[49].
الشّفاعة العظمى
1- قال البخاري رحمه الله (ج8 ص395): حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبدالله[50] أخبرنا أبوحيان التيمي عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة رضى الله عنه قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم بلحم، فرفع إليه الذراع، وكانت تعجبه فنهس منها نهسةً ثم قال: ((أنا سيّد النّاس يوم القيامة، وهل تدرون ممّ ذلك؟ يجمع الله النّاس الأوّلين والآخرين في صعيد واحد يسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر، وتدنو الشّمس، فيبلغ النّاس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول النّاس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربّكم؟ فيقول بعض النّاس لبعض: عليكم بآدم. فيأتون آدم عليه السّلام فيقولون له: أنت أبوالبشر، خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه قد نهاني عن الشّجرة فعصيته، نفسي نفسي نفسي اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح. فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح إنّك أنت أوّل الرّسل إلى أهل الأرض[51]، وقد سمّاك الله عبدًا شكورًا، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي عزّ وجلّ قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّه قد كانت لي دعوة دعوتها على قومي، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم أنت نبيّ الله وخليله من أهل الأرض، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول لهم: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قد كنت كذبت ثلاث كذبات- فذكرهنّ أبوحيان في الحديث- نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى. فيأتون موسى فيقولون: يا موسى أنت رسول الله، فضّلك الله برسالته وبكلامه على النّاس، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فيقول: إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنّي قد قتلت نفسًا لم أومر بقتلها، نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وكلّمت النّاس في المهد صبيًّا" اشفع لنا إلى ربّك ألا ترى إلى ما نحن فيه فيقول عيسى إنّ ربّي قد غضب اليوم غضبًا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله -ولم يذكر ذنبًا- نفسي نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. فيأتون محمّدًا، فيقولون: يا محمّد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء، وقد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، اشفع لنا إلى ربّك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدًا لربّي عزّ وجلّ، ثمّ يفتح الله عليّ من محامده وحسن الثّناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثمّ يقال: يا محمّد ارفع رأسك، سل تعطه، واشفعْ تشفّعْ. فأرفع رأسي فأقول: أمّتي يا ربّ، أمّتي يا ربّ[52]. فيقال: يا محمّد أدخل من أمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنّة، وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب. -ثم قال- والّذي نفسي بيده إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة كما بين مكّة وحمير، أو كما بين مكّة وبصرى )).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص184)، والترمذي (ج4 ص43)، وأحمد (ج2 ص435)، وابن خزيمة[53] ص(242)، وأبوعوانة (ج1 ص171)، وعندهم كلهم إلا البخاري وأبا عوانة: ((ما بين مكّة وهجر)).
2- قال البخاري رحمه الله (ج13 ص392): حدثني معاذ بن فضالة حدثنا هشام[54]عن قتادة عن أنس أن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يجمع الله المؤمنين[55] يوم القيامة كذلك، فيقولون: لو استشفعنا إلى ربّنا حتّى يريحنا من مكاننا هذا. فيأتون آدم، فيقولون: يا آدم أما ترى النّاس؟ خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، وعلّمك أسماء كلّ شيء، اشفع لنا إلى ربّك، حتّى يريحنا من مكاننا هذا. فيقول: لست هناكم -ويذكر لهم خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا نوحًا فإنّه أوّل رسول بعثه الله إلى أهل الأرض. فيأتون نوحًا، فيقول: لست هناك -ويذكر خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرّحمن. فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم -ويذكر لهم خطاياه التي أصابها- ولكن ائتوا موسى عبدًا آتاه الله التّوراة، وكلّمه تكليمًا. فيأتون موسى، فيقول: لست هناكم -ويذكر لهم خطيئته التي أصاب- ولكن ائتوا عيسى عبد الله ورسوله وكلمته وروحه. فيأتون عيسى، فيقول: لست هناكم، ولكن ائتوا محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم عبدًا غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. فيأتونني فأنطلق فأستأذن على ربّي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربّي[56] وقعت له ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال لي: ارفع محمّد، قل يسمعْ، وسل تعطه، واشفعْ تشفّعْ. فأحمد ربّي بمحامد علّمنيها، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أرجع فإذا رأيت ربّي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال: ارفع محمّد، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فأحمد ربّي بمحامد علّمنيها، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أرجع فإذا رأيت ربّي وقعت ساجدًا، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال: ارفع محمّد، قل يستمع، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فأحمد ربّي بمحامد علّمنيها، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدًّا فأدخلهم الجنّة، ثمّ أرجع فأقول: يا ربّ ما بقي في النّار إلا من حبسه القرآن ووجب عليه الخلود[57])).
فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يخرج من النّار من قال لا إله إلاّ الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثمّ يخرج من النّار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن برّةً، ثمّ يخرج من النّار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه ما يزن من الخير ذرّةً)).
الحديث أعاده البخاري ص(422)، وأخرجه مسلم (ج1 ص180)، وأبوعوانة (ج1 ص178-179) وابن ماجة (ج2 ص1442)، وأحمد (ج3 ص116، 244، 247)، والطيالسي (ج2 ص227) من "ترتيب المسند" من رواية همام عن قتادة به.
3- قال البخاري رحمه الله (ج13 ص473): حدثنا سليمان بن حرب حدثنا حماد بن زيد حدثنا معبد بن هلال العنزي قال: اجتمعنا ناس من أهل البصرة، فذهبنا إلى أنس بن مالك، وذهبنا معنا بثابت البناني إليه يسأله لنا عن حديث الشّفاعة، فإذا هو في قصره، فوافقناه يصلي الضحى فاستأذنا فأذن لنا وهو قاعد على فراشه. فقلنا لثابت: لا تسأله عن شيء أوّل من حديث الشّفاعة. فقال: يا أبا حمزة هؤلاء إخوانك من أهل البصرة جاءوك يسألونك عن حديث الشّفاعة. فقال: حدثنا محمّد صلى الله عليه وعلى آله قال: ((إذا كان يوم القيامة ماج النّاس في بعض، فيأتون آدم فيقولون: اشفع لنا إلى ربّك. فيقول: لست لها، ولكن عليكم بإبراهيم[58] فإنّه خليل الرّحمن. فيأتون إبراهيم، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى فإنّه كليم الله. فيأتون موسى، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بعيسى فإنّه روح الله وكلمته. فيأتون عيسى، فيقول: لست لها ولكن عليكم بمحمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. فيأتوني فأقول: أنا لها فأستأذن على ربّي فيؤذن لي، ويلهمني محامد أحمده بها لا تحضرني الآن فأحمده بتلك المحامد وأخرّ له ساجدًا، فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسك وقلْ يسمعْ لك، وسلْ تعط، واشفعْ تشفّعْ. فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. فأنطلق فأفعل ثمّ أعود فأحمده بتلك المحامد ثمّ أخرّ له ساجدًا، فيقال: يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمع لك وسل تعط، واشفع تشفّع. فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرّة أو خردلة من إيمان. فأنطلق فأفعل، ثمّ أعود فأحمده بتلك المحامد ثمّ أخرّ له ساجدًا، فيقال: يا محمّد ارفع رأسك، وقلْ يسمعْ لك، وسل تعط، واشفعْ تشفّعْ. فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقول: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال حبّة خردل من إيمان فأخرجه من النّار من النّار من النّار. فأنطلق فأفعل)).
فلما خرجنا من عند أنس، قلت لبعض أصحابنا: لو مررنا بالحسن وهو متوار في منزل أبي خليفة فحدّثنا بما حدّثنا أنس بن مالك. فأتيناه فسلّمنا عليه، فأذن لنا فقلنا له: يا أبا سعيد جئناك من عند أخيك أنس بن مالك، فلم نر مثل ما حدّثنا في الشّفاعة. فقال: هيه. فحدّثْناه بالحديث فانتهى إلى هذا الموضع، فقال: هيه. فقلنا: لم يزدْ لنا على هذا. فقال: لقد حدّثني وهو جميع[59] منذ عشرين سنة، فلا أدرى أنسي أم كره أن تتكلوا. فقلنا: يا أبا سعيد فحدّثْناه. فضحك وقال: خلق الإنسان عجولاً، ما ذكرته إلاّ وأنا أريد أحدّثكم، حدّثني كما حدثكم به، قال: ((ثمّ أعود الرّابعة فأحمده بتلك المحامد ثمّ أخرّ له ساجدًا، فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسك وقلْ يسمعْ وسلْ تعط واشفع تشفّع. فأقول: يا ربّ ائذن لي فيمن قال لا إله إلاّ الله. فيقول: وعزّتي وجلالي وكبريائي وعظمتي لأخرجنّ منها من قال: لا إله إلاّ الله)).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص182) وفيه قال -أي معبد بن هلال-: فأشهد على الحسن أنه حدّثنا أنه سمع أنس بن مالك أراه قبل عشرين سنة وهو جميع. وأخرجه أبوعوانة (ج1 ص183-184) مختصرًا.
4- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص186): حدثنا محمد بن طريف بن خليفة البجلي حدثنا محمد بن فضيل حدثنا أبومالك الأشجعي[60] عن أبي حازم عن أبي هريرة، وأبومالك عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يجمع الله تبارك وتعالى النّاس فيقوم المؤمنون حتّى تزلف لهم الجنّة، فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استفتح لنا الجنّة. فيقول: وهل أخرجكم من الجنّة إلاّ خطيئة أبيكم آدم؟ لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله. قال: فيقول إبراهيم: لست بصاحب ذلك إنّما كنت خليلاً من وراء وراء، اعمدوا إلى موسى صلّى الله عليه وسلّم الّذي كلّمه الله تكليمًا. فيأتون موسى صلّى الله عليه وسلّم، فيقول: لست بصاحب ذلك، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه فيقول عيسى صلّى الله عليه وسلّم: لست بصاحب ذلك. فيأتون محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فيقوم فيؤذن له، وترسل الأمانة والرّحم فتقومان جنبتي الصّراط يمينًا وشمالاً، فيمرّ أوّلكم كالبرق)). قال: قلت: بأبي أنت وأمّي أيّ شيء كمرّ البرق؟ قال: ((ألم تروا إلى البرق كيف يمرّ ويرجع في طرفة عين؟ ثمّ كمرّ الرّيح، ثمّ كمرّ الطّير، وشدّ الرّجال[61]، تجري بهم أعمالهم، ونبيّكم قائم على الصّراط يقول: ربّ سلّم سلّم. حتّى تعجز أعمال العباد، حتّى يجيء الرّجل فلا يستطيع السّير إلاّ زحفًا، قال وفي حافتي الصّراط كلاليب معلّقة مأمورة بأخذ من أمرتْ به، فمخدوش ناج، ومكدوس في النّار)) والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنّم لسبعون خريفًا.
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(245)، وأبوعوانة (ج1 ص174-175) مختصرًا، والحاكم (ج4 ص589) وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، كذا قال، وقد أخرجه مسلم. وسعد بن طارق أبومالك الأشجعي من رجال مسلم، وروى له البخاري تعليقًا، فالحديث على شرط مسلم، لكنه قد أخرجه فلا معنى لاستدراكه.
5- قال الإمام أحمد رحمه الله(ج1 ص4): ثنا إبراهيم بن إسحاق الطالقاني قال: حدثني النضر بن شميل المازني قال: حدثني أبونعامة[62] قال: حدثني أبوهنيدة البراء بن نوفل عن والان العدوي عن حذيفة عن أبي بكر الصديق رضى الله عنه قال: أصبح رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ذات يوم فصلّى الغداة، ثم جلس حتى إذا كان من الضّحى ضحك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم جلس مكانه حتى صلّى الأولى والعصر والمغرب، كل ذلك لا يتكلم حتى صلّى العشاء الآخرة ثم قام إلى أهله، فقال النّاس لأبي بكر: ألا[63] تسألْ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم ما شأنه، صنع اليوم شيئًا لم يصنعه قط. قال: فسأله، فقال: ((نعم، عرض عليّ ما هو كائن من أمر الدّنيا وأمر الآخرة، فجمع الأوّلون والآخرون بصعيد واحد، ففظع النّاس بذلك حتّى انطلقوا إلى آدم عليه السّلام، والعرق يكاد يلجمهم، فقالوا: يا آدم أنت أبو البشر وأنت اصطفاك الله عزّ وجلّ، اشفع لنا إلى ربّك. قال: لقد لقيت مثل الّذي لقيتم، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم إلى نوح {إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين} قال: فينطلقون إلى نوح عليه السّلام فيقولون: اشفع لنا إلى ربّك، فأنت اصطفاك الله واستجاب لك في دعائك ولم يدعْ على الأرض من الكافرين ديّارًا. فيقول: ليس ذاكم عندي انطلقوا إلى إبراهيم عليه السّلام فإنّ الله عزّ وجلّ اتّخذه خليلاً، فينطلقون إلى إبراهيم فيقول ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى موسى عليه السّلام، فإنّ الله عزّ وجلّ كلّمه تكليمًا. فيقول موسى عليه السّلام: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى عيسى ابن مريم، فإنّه يبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى[64]. فيقول عيسى: ليس ذاكم عندي، ولكن انطلقوا إلى سيّد ولد آدم، فإنّه أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة، انطلقوا إلى محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فيشفع لكم إلى ربّكم عزّ وجلّ. قال: فينطلق فيأتي جبريل عليه السّلام ربّه فيقول الله عزّ وجلّ: ائذن له وبشّره بالجنّة. قال: فينطلق به جبريل فيخرّ ساجدًا قدر جمعة، ويقول الله عزّ وجلّ: ارفعْ رأسك يا محمّد، وقلْ يسمعْ واشفعْ تشفّعْ. قال: فيرفع رأسه فإذا نظر إلى ربّه عزّ وجلّ خرّ ساجدًا قدر جمعة أخرى، فيقول الله عزّ وجلّ: ارفعْ رأسك وقلْ يسمعْ واشفعْ تشفّعْ. قال: فيذهب ليقع ساجدًا فيأخذ جبريل عليه السّلام بضبعيه، فيفتح الله عزّ وجلّ عليه من الدّعاء شيئًا لم يفتحه على بشر قطّ، فيقول: أي ربّ خلقتني سيّد ولد آدم ولا فخر، وأوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر. حتّى إنّه ليرد عليّ الحوض أكثر ممّا بين صنعاء وأيلة، ثمّ يقال: ادعوا الصّدّيقين فيشفعون. ثمّ يقال: ادعوا الأنبياء. قال: فيجيء النّبيّ ومعه العصابة، والنّبيّ ومعه الخمسة والسّتّة، والنّبيّ وليس معه أحد، ثمّ يقال: ادعوا الشّهداء فيشفعون لمن أرادوا. وقال: فإذا فعلت الشّهداء ذلك، قال: يقول الله عزّ وجلّ: أنا أرحم الرّاحمين، أدخلوا جنّتي من كان لا يشرك بي شيئًا. قال: فيدخلون الجنّة. قال: ثمّ يقول الله عزّ وجلّ: انظروا في النّار، هل تلقون من أحد عمل خيرًا قطّ. قال: فيجدون في النّار رجلاً، فيقول له: هل عملت خيرًا قطّ؟ فيقول: لا غير أنّي كنت أسامح النّاس في البيع والشّراء. فيقول الله عزّ وجلّ: أسمحوا لعبدي كإسماحه إلى عبيدي. ثمّ يخرجون من النّار رجلاً فيقول له: هل عملت خيرًا قطّ؟ فيقول: لا غير أنّي قد أمرت ولدي إذا متّ فأحرقوني بالنّار ثمّ اطحنوني حتّى إذا كنت مثل الكحل فاذهبوا بي إلى البحر، فاذروني في الرّيح، فوالله لا يقدر عليّ ربّ العالمين أبدًا. فقال الله عزّ وجلّ: لم فعلت ذلك؟ قال: من مخافتك. قال: فيقول الله عزّ وجلّ: انظر إلى ملْك أعظم ملك فإنّ لك مثله وعشرة أمثاله. قال: فيقول: لم تسخر بي وأنت الملك؟ قال: وذاك الّذي ضحكت منه من الضّحى)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(310)، وأبوعوانة (ج1 ص175)، وابن حبان كما في "موارد الظمآن" ص(642) وأبوبكر أحمد بن علي الأموي في "مسند الصديق" ص(48)، وأشار إليه البخاري في "التاريخ" (ج8 ص185)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج10 ص375): رواه أحمد وأبويعلى بنحوه والبزّار ورجالهم ثقات. ورمز الهندي في "كنْز العمال" (ج14 ص631) لضعفه، وقال الدارقطني في "العلل": (والان) مجهول. والحديث غير ثابت كما في "الكنْز".
قال أبوعبدالرحمن: (والان) وثّقه ابن معين كما في "تعجيل المنفعة"، وروى عنه اثنان كما في "التوحيد" لابن خزيمة ص(312) فحديثه يصلح في الشواهد والمتابعات، وما انفرد به توقف فيه، وقد انفرد هنا بالسجود مرتين قدر جمعة، وبقوله: ((ادعوا الصّدّيقين))، وتقديمهم على الأنبياء، وبقصة الذي أوصى بأن يحرق، وقصة الوصية بالإحراق في "الصحيحين" في غير حديث الشّفاعة ومن غير هذه الطريق، والله أعلم.
6- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص281): ثنا عفّان ثنا حمّاد بن سلمة عن علي بن زيد عن أبي نضرة[65] قال: خطبنا ابن عباس على منبر البصرة فقال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّه لم يكن نبيّ إلاّ له دعوة قد تنجّزها في الدّنيا، وإنّي قد اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي، وأنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، آدم فمن دونه تحت لوائي ولا فخر، ويطول يوم القيامة على النّاس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر، فليشفع لنا إلى ربّنا عزّ وجلّ، فليقض بيننا. فيأتون آدم صلّى الله عليه وسلّم فيقولون: يا آدم أنت الّذي خلقك الله بيده وأسكنك جنّته وأسجد لك ملائكته، اشفع لنا إلى ربّنا فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، إنّي قد أخرجْت من الجنّة بخطيئتي، وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن ائتوا نوحًا رأس النّبيّين. فيأتون نوحًا فيقولون: يا نوح اشفع لنا إلى ربّنا فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، إنّي دعوت بدعوة أغرقت أهل الأرض، وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الله. فيأتون إبراهيم عليه السّلام فيقولون: يا إبراهيم اشفع لنا إلى ربّنا فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، إنّي كذبت في الإسلام ثلاث كذبات. -[ والله إن حاول بهنّ إلاّ عن دين الله][66] قوله:{إنّي سقيم} وقوله:{بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} وقوله لامرأته حين أتى على الملك: أختي.[67] - وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن ائتوا موسى عليه السّلام الّذي اصطفاه الله برسالته وكلامه. فيأتونه فيقولون: يا موسى أنت الّذي اصطفاك الله برسالته وكلّمك، فاشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: لست هناكم إنّي قتلت نفسًا بغير نفس، وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم إنّي اتّخذت إلهًا من دون الله، وإنّه لا يهمّني اليوم إلاّ نفسي، ولكن أرأيتم لو كان متاع في وعاء مختوم عليه أكان يقدر على ما في جوفه حتّى يفضّ الخاتم؟ قال: فيقولون: لا. قال: فيقول: إنّ محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خاتم النّبيّين، وقد حضر اليوم وقد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: فيأتوني فيقولون: يا محمّد اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فأقول: أنا لها. حتّى يأذن الله عزّ وجلّ لمن شاء ويرضى، فإذا أراد الله تبارك وتعالى أن يصدع بين خلقه نادى مناد: أين أحمد وأمّته؟ فنحن الآخرون الأوّلون، نحن آخر الأمم وأوّل من يحاسب، فتفرج لنا الأمم عن طريقنا فنمضي غرًّا محجّلين من أثر الطّهور، فتقول الأمم: كادت هذه الأمّة أن تكون أنبياء كلّها. فنأتي باب الجنّة فآخذ بحلقة الباب فأقرع الباب، فيقال: من أنت؟ فأقول: أنا محمّد. فيفتح لي فآتي ربّي عزّ وجلّ على كرسيّه أو سريره -شكّ حماد- فأخرّ له ساجدًا فأحمده بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي وليس يحمده بها أحد بعدي، فيقال: يا محمّد ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفّع. فأقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقول: أخرج من كان في قلبه مثقال كذا وكذا. -لم يحفظ حمّاد- ثمّ أعيد فأسجد فأقول ما قلت، فيقال: ارفع رأسك وقلْ تسمعْ واشفعْ تشفّعْ. فأقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقول: أخرجْ من كان في قلبه مثقال كذا وكذا دون الأوّل. ثمّ أعيد فأسجد فأقول مثل ذلك فيقال لي: ارفعْ رأسك وقلْ تسمعْ وسلْ تعطه واشفعْ تشفّعْ. فأقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال كذا وكذا دون ذلك)).
الحديث أعاده ص(295) فقال: ثنا حسن[68] ثنا حماد بن سلمة به. وأخرجه أبوداود الطيالسي (ج2 ص226) من "ترتيب المسند"، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج1 ص373): رواه أبويعلى وأحمد وفيه علي ابن زيد وقد وثّق على ضعفه، وبقية رجالهما رجال الصحيح.
قال أبوعبدالرحمن: علي بن زيد صالح في الشواهد والمتابعات، وهو هنا في الشواهد، ويستنكر في هذا الحديث قول عيسى: ((إنّي اتّخذت إلهًا من دون الله)) ففي الصحيح أنه لم يذكر ذنبًا، على أن هذا لا يعدّ ذنبًا لعيسى والله أعلم[69].
7- قال الإمام عبدالله بن عبدالرحمن الدارمي رحمه الله في "سننه" (ج2 ص327): حدثنا عبدالله بن يزيد حدثنا عبدالرحمن بن زياد ثنا دخين الحجري عن عقبة بن عامر الجهني قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إذا جمع الله الأوّلين والآخرين فقضى بينهم وفرغ من القضاء، قال المؤمنون: قد قضى بيننا ربّنا فمن يشفع لنا إلى ربّنا؟ فيقولون: انطلقوا إلى آدم فإنّ الله خلقه بيده وكلّمه. فيأتونه فيقولون: قمْ فاشفعْ لنا إلى ربّنا. فيقول آدم: عليكم بنوح. فيأتون نوحًا فيدلّهم على إبراهيم، فيأتون إبراهيم فيدلّهم على موسى، فيأتون موسى فيدلّهم على عيسى، فيأتون عيسى فيقول: أدلّكم على النّبيّ الأمّيّ. قال: فيأتوني فيأذن تعالى لي أن أقوم إليه، فيثور مجلسي أطيب ريح شمّها أحد قطّ حتّى آتي ربّي فيشفّعني ويجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى ظفر قدمي، فيقول الكافرون عند ذلك لإبليس: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا إلى ربّك فإنّك أنت أضللتنا. قال: فيقوم فيثور مجلسه أنتن ريح شمّها أحد قطّ ثمّ يعظم[70] لجهنّم، فيقول عند ذلك: {وقال الشّيطان لمّا قضي الأمر إنّ الله وعدكم وعد الحقّ ووعدتكم فأخلفتكم} إلى آخر الآية.
الحديث أخرجه ابن جرير(ج13 ص201) مختصرًا، وقال الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص376): رواه الطبراني وفيه عبدالرحمن بن زياد بن أنعم وهو ضعيف. قلت: لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات. والألفاظ التي لا شواهد لها ((يجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى قدميّ))، وقول إبليس.
8- قال البخاري رحمه الله (ج8 ص399): حدثنا إسماعيل بن أبان[71] حدثنا أبوالأحوص عن آدم بن علي قال: سمعت ابن عمر رضى الله عنهما يقول: إنّ النّاس يصيرون يوم القيامة جثًا كلّ أمّة تتبع نبيّها يقولون: يا فلان اشفع يا فلان اشفع. حتّى تنتهي الشّفاعة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
هذا الحديث موقوف، لكنه قد جاء رفعه عند ابن جرير (ج15 ص146) من حديث محمد بن عبدالله بن عبدالحكم قال: ثنا شعيب بن الليث قال: ثني الليث عن عبيدالله بن أبي جعفر أنه قال: سمعت حمزة بن عبدالله يقول: سمعت عبدالله بن عمر يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكر الحديث. الحديث رجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج10 ص371) بعد أن ذكر الحديث: هو في الصحيح باختصار من قوله: فيقضي الله بين الخلق إلى آخره. رواه الطبراني في الأوسط عن مطلب بن شعيب عن عبدالله بن صالح وكلاهما قد وثّق على ضعف فيه، وبقية رجاله رجال الصحيح.
9- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج4 ص1782): حدثني الحكم بن موسى أبوصالح حدثنا هقل يعني ابن زياد عن الأوزاعي حدثني أبوعمار[72] حدثني عبدالله بن فروخ حدثني أبوهريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأوّل من ينشقّ عنه القبر، وأوّل شافع وأوّل مشفّع)).
الحديث أخرجه أبوداود (ج5 ص54)، وأحمد (ج2 ص540).
10- قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص365): حدثنا أبوكريب[73] حدثنا وكيع عن داود بن يزيد الزعافري عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في قوله {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} سئل عنها قال: ((هي الشّفاعة)).
هذا حديث حسن، وداود الزعافري هو داود الأودي ابن يزيد بن عبدالرحمن، وهو عم عبدالله بن إدريس.
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص441، 444، 528)، وابن جرير (ج15 ص145)، وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص372)، وفي "أخبار أصبهان" (ج2 ص368)، والبيهقي في "شعب الإيمان" (ج1 ص207-208).
والحديث حسّنه الترمذي، وهو حسن لغيره لأن داود بن يزيد ضعيف كما في التقريب، ووالده يزيد مجهول الحال فقد قال الحافظ في التقريب: مقبول. يعني إذا توبع وإلا فليّن.
11- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص2): ثنا هشيم ثنا علي بن زيد عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع يوم القيامة ولا فخر)).
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج2 ص1440) وزاد فيه: ((ولواء الحمد بيدي يوم القيامة ولا فخر))، ورواه الترمذي مختصرًا، وقال: وفي الحديث قصة وهذا حديث حسن.
قلت: وهو حسن لغيره لأنّ الراجح هو ضعف علي بن زيد.
12- قال أبونعيم أحمد بن عبدالله الأصبهاني رحمه الله في "دلائل النبوة" (ج1 ص13): حدثنا عبدالله بن جعفر قال: حدثني الحسن بن علي الطوسي قال: ثنا محمد بن يحيى بن ميمون العتكي قال: ثنا عبدالأعلى قال: ثنا سعيد عن قتادة عن أنس أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة، وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض، وأوّل شافع، لواء الحمد معي وتحته آدم ومن دونه ومن بعده من المؤمنين)).
رجال الإسناد:
عبدالله بن جعفر بن أحمد بن فارس: ترجم له أبونعيم في "تاريخ أصبهان"، وذكره الذهبي في "تذكرة الحفاظ" ص(862) في المتوفين سنة ست وأربعين وثلاثمائة، فقال: ومسند بلاد العجم أبومحمد عبدالله بن جعفر ابن فارس الأصبهاني وذكره أيضًا في "العبر" (ج2 ص272).
والحسن بن علي الطوسي ترجمته في "لسان الميزان" (ج2 ص232) وهو حافظ تكلّم فيه ودافع عنه الحاكم وترجم له أبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص262) فقال: كان صاحب أصول، سمع "الأنساب"[74] من الزبير بن بكار والقرآن عن أبي حاتم، و"مسائل أحمد بن حنبل وإسحاق" عن إسحاق الكوسج.
وعبدالأعلى هو ابن عبدالأعلى السامي من رجال الجماعة.
وبقية السند معروفون مشهورون إلاّ محمد بن يحيى بن ميمون العتكي فلم أجد له ترجمة. وقد قال الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص308): لم أعرفه.
13- قال الترمذي رحمه الله (ج5 ص248): حدثنا علي بن نصر بن علي أخبرنا عبيدالله بن عبدالمجيد حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: جلس ناس من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ينتظرونه، قال: فخرج حتّى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم، فقال بعضهم: عجبًا إنّ الله عزّ وجلّ اتّخذ من خلقه خليلاً اتّخذ إبراهيم خليلاً. وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلّمه تكليمًا؟ وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر: آدم اصطفاه الله. فخرج عليهم فسلّم، وقال: ((قد سمعت كلامكم وعجبكم، إنّ إبراهيم خليل الله وهو كذلك، وموسى نجيّ الله وهو كذلك، وعيسى روح الله وكلمته وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله وهو كذلك، ألا وأنا حبيب الله ولا فخر، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفّع يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من يحرّك حلق الجنّة فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر، وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ولا فخر)).
هذا حديث غريب.
الحديث أخرجه الدارمي (ج1 ص26)، وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في "التفسير" (ج1 ص560): وهذا حديث غريب من هذا الوجه ولبعضه شواهد في الصحاح.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده زمعة بن صالح وهو ضعيف كما في "التقريب"، وسلمة بن وهرام: وقد قال أحمد: روى أحاديث مناكير أخشى أن يكون ضعيفًا. وقال أبوداود: ضعيف. وسرد له ابن عدي عدة أحاديث ثم قال: أرجو أنه لا بأس به، وقد وثّقه ابن معين في رواية الكوسج، وأبوزرعة. اهـ مختصرًا من "الميزان".
ومما يدل على ضعف هذا الحديث أنّ في الصحيح: ((إنّ الله قد اتّخذني خليلاً كما اتّخذ إبراهيم خليلاً)).
14- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص561): حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير حدثنا أبي حدثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبدالله بن عيسى بن عبدالرحمن ابن أبي ليلى عن جده عن أبيّ بن كعب قال: كنت في المسجد فدخل رجل يصلّي فقرأ قراءةً أنكرتها عليه، ثمّ دخل آخر فقرأ قراءةً سوى قراءة صاحبه، فلمّا قضينا الصّلاة دخلْنا جميعًا على رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فقلت: إنّ هذا قرأ قراءةً أنكرتها عليه ودخل آخر فقرأ سوى قراءة صاحبه. فأمرهما رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقرآ، فحسّن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم شأنهما، فسقط في نفسي من التّكذيب ولا إذْ كنت في الجاهليّة، فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ما قد غشيني ضرب في صدري ففضْت عرقًا، وكأنّما أنظر إلى الله عزّ وجلّ فرقًا، فقال لي: ((يا أبيّ أرسل إليّ: أن اقرأ القرآن على حرف. فرددْت إليه: أن هوّن على أمّتي. فردّ إليّ الثّانية: اقرأْه على حرفين. فرددْت إليه: أن هوّنْ على أمّتي. فردّ إليّ الثّالثة: اقرأْه على سبعة أحرف، فلك بكلّ ردّة رددْتها مسألة تسألنيها. فقلت: اللهمّ اغفر لأمّتي اللّهمّ اغفر لأمّتي. وأخّرت الثّالثة ليوم يرغب إليّ الخلق كلّهم حتّى إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم)).
الحديث أخرجه أحمد (ج5 ص127، 129)، وابن حبان (ج2 ص83-84) من "ترتيب الصحيح"، وابن جرير (ج1 ص27، 38، 41) بتخريج أحمد شاكر، وفيه: ((واختبأت الثّالثة شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
قال الحافظ ابن كثير في "فضائل القرآن" ص(17) بعد أن ساق الحديث بسند ابن جرير: إسناد صحيح.
15- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص137): ثنا أبوعامر ثنا زهير يعني ابن محمد عن عبدالله بن محمد عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيه عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيّين وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر)).
قال: وسمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار، ولو سلك النّاس واديًا أو شعبًا لكنت مع الأنصار)).
وقال رحمه الله: ثنا أبوأحمد الزبيري[75] ثنا شريك عن عبدالله بن محمد ابن عقيل عن الطفيل بن أبيّ بن كعب عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا كان يوم القيامة كنت إمام النّاس وخطيبهم وصاحب شفاعتهم ولا فخر)).
الحديث أخرجه عبدالله بن أحمد في "زوائد المسند" (ج5 ص138) فقال: ثنا هاشم بن الحارث ثنا عبيدالله بن عمرو عن عبدالله بن محمد بن عقيل به.
وقال عبدالله أيضًا: حدثنا عبيدالله بن عمر القواريري حدثنا محمد بن عبدالله بن الزبير ثنا شريك عن عبدالله بن محمد بن عقيل به.
وقال الإمام أحمد ص(138): ثنا زكريا بن عدي وأحمد بن عبدالملك الحراني ثنا عبيدالله بن عمرو عن عبدالله بن محمد بن عقيل به.
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص247) وقال: حسن صحيح غريب، وابن ماجة (ج2 ص1443) وابن صاعد في "زوائد الزهد لابن المبارك" ص(562)، والحاكم (ج1 ص71) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه لتفرد عبدالله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب، ولما نسب إليه من سوء الحفظ، وهو عند المتقدمين من أئمتنا ثقة مأمون. وأخرجه أيضًا (ج4 ص87) وقال: صحيح الإسناد.
16- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص199): ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن جبير عن أبي الدرداء قال: قال رسول صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّل من يؤذن له بالسّجود يوم القيامة، وأنا أوّل من يؤذن له أن يرفع رأسه فأنظر إلى بين يديّ فأعرف أمّتي من بين الأمم، ومن خلفي مثل ذلك، وعن يميني مثل ذلك، وعن شمالي مثل ذلك)) فقال له رجل: يا رسول الله كيف تعرف أمّتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمّتك؟ قال: ((هم غرّ محجّلون من أثر الوضوء ليس أحد كذلك غيرهم، وأعرفهم أنّهم يؤتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم يسعى بين أيديهم ذرّيّتهم)).
وقال: حدثنا يعمر[76] ثنا عبدالله أنبأنا ابن لهيعة حدثني يزيد بن أبي حبيب عن عبدالرحمن بن جبير بن نفير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّل من يؤذن له في السّجود)) فذكر معناه.
الحديث ضعيف بهذا السند لأنه من رواية ابن لهيعة، وكون الراوي عنه في الرواية الثانية عبدالله وهو ابن المبارك فليس قولاً واحدًا للمحدثين: أنه إذا روى عنه أحد العبادلة وهم: عبدالله بن المبارك، وعبدالله بن وهب، وعبدالله بن يزيد المقرئ. ليس قولاً واحدًا أنه يكون مقبولاً، فهذا ابن خزيمة وقد روى حديثًا في "كتاب التوحيد" ص(291) من طريقه والراوي عنه ابن وهب، يقول: وأنا أبرأ إلى الله من عهدته. ويقول: ليس ابن لهيعة رحمه الله من شرطنا ممن يحتج به، وفي "الميزان": قال ابن معين: هو ضعيف قبل أن تحترق كتبه وبعد احتراقها.
وقال أبوحاتم وأبوزرعة: أمره مضطرب يكتب حديثه للاعتبار، انتهى المراد من "الميزان". فعلى هذا فهذا الحديث حسن لغيره لكثرة شواهده.
17- قال الدارمي رحمه الله (ج1 ص26): حدثنا سعيد بن سفيان عن منصور بن أبي الأسود عن ليث عن الربيع بن أنس عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّلهم خروجًا وأنا قائدهم إذا وفدوا، وأنا خطيبهم إذا أنصتوا وأنا مشفّعهم إذا حبسوا، وأنا مبشّرهم إذا أيسوا، الكرامة والمفاتيح يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي، يطوف عليّ ألف خادم كأنّهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص245)، وأبونعيم في "دلائل النبوة" (ج1 ص13)، وسنده ضعيف من أجل ليث بن أبي سليم، لكنه يستشهد به كما في مقدمة "صحيح مسلم".
18- قال الدارمي رحمه الله (ج1 ص27): أخبرنا عبدالله بن عبدالحكم ثنا بكر بن مضر عن جعفر بن ربيعة عن صالح -هو ابن عطاء بن خباب مولى بني الدّئل- عن عطاء بن أبي رباح[77] عن جابر بن عبدالله أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أنا قائد المرسلين ولا فخر، وأنا خاتم النّبيّين ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفّع ولا فخر)).
قال المناوي في "فيض القدير": قال الصدر المناوي: رجاله وثقهم الجمهور.
قال أبوعبدالرحمن: صالح بن عطاء مجهول، ذكره البخاري في "تاريخه" (ج4 ص284)، وذكر الحديث ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وأفاد المعلق على "التاريخ"، أن ابن حبان ذكره في "الثقات".
19- قال البخاري رحمه الله (ج1 ص435): حدثنا محمد بن سنان قال حدثنا هشيم (ح) قال: وحدثني سعيد بن النضر قال: أخبرنا هشيم قال: أخبرنا سيار قال: حدثنا يزيد -هو ابن صهيب الفقير- قال أخبرنا جابر بن عبدالله أن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي: نصرت بالرّعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأيّما رجل من أمّتي أدركته الصّلاة فليصلّ، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة[78]، وكان النّبيّ يبعث إلى قومه خاصّةً وبعثت إلى النّاس عامّةً)).
الحديث أعاده البخاري ص(533)، وأخرجه مسلم (ج1 ص370)، والنسائي (ج1 ص172)، والدارمي (ج1 ص322-323)، وأبونعيم في "الحلية" (ج8 ص316).
20- قال الحميدي رحمه الله في "مسنده" (ج2 ص421): ثنا سفيان قال: ثنا الزهري عمن سمع أبا هريرة إما سعيد وإما أبوسلمة، وأكثر ذلك يقوله عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي: جعلت لي الأرض كلّها مسجدًا وطهورًا، ونصرت بالرّعب، وأحلّت لي المغانم، و أرسلت إلى الأحمر و الأسود، وأعطيت الشّفاعة)).
الحديث رجاله رجال الصحيح، ولا يضره تردد الزهري في شيخه أهو سعيد أم أبوسلمة لأن كليهما ثقة.
21- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص456): ثنا يزيد بن عبدربه قال: حدثني محمد بن حرب قال: حدثني الزبيدي[79] عن الزهري عن عبدالرحمن ابن عبدالله بن كعب بن مالك عن كعب بن مالك أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يبعث النّاس يوم القيامة فأكون أنا وأمّتي على تلّ[80]، ويكسوني ربّي تبارك وتعالى حلّةً خضراء، ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول، فذاك المقام المحمود)).
الحديث أخرجه ابن جرير (ج15 ص146-147)، والحاكم (ج2 ص363) وقال: صحيح على شرط الشيخين وسكت عليه الذهبي، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج10 ص377): رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وأحد إسنادي "الكبير" رجاله رجال الصحيح.
قال أبوعبدالرحمن: قد اختلف في سماع عبدالرحمن من جده كعب، ولا يضر هنا لأنه في الشواهد وللحديث شاهد موقوف:
قال ابن جرير رحمه الله (ج15 ص146): حدثنا ابن بشار قال: ثنا أبوعامر قال: ثنا إبراهيم بن طهمان عن آدم بن[81] علي قال: سمعت ابن عمر يقول: إنّ الناس يحشرون يوم القيامة، فيجيء مع كلّ نبيّ أمّته، ثمّ يجيء رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في آخر الأمم هو وأمّته، فيرقى هو وأمّته على كوم فوق النّاس، فيقول: يا فلان اشفع، ويا فلان اشفعْ. فما زال يردّها بعضهم على بعض، يرجع ذلك إليه، وهو المقام المحمود الّذي وعده الله إيّاه.
الحديث رجاله رجال الصحيح.
22- قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص370): حدثنا ابن أبي عمر[82] أخبرنا سفيان عن علي بن زيد بن جدعان عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبيّ يومئذ آدم فمن سواه إلاّ تحت لوائي، وأنا أوّل من تنشقّ عنه الأرض ولا فخر، قال: فيفزع النّاس ثلاث فزعات، فيأتون آدم فيقولون: أنت أبونا آدم فاشفع لنا إلى ربّك. فيقول: إنّي أذنبت ذنبًا أهبطت منه إلى الأرض، ولكن ائتوا نوحًا. فيأتون نوحًا فيقول: إنّي دعوت على أهل الأرض دعوةً فأهلكوا، ولكن اذهبوا إلى إبراهيم. فيأتون إبراهيم فيقول: إنّي كذبت ثلاث كذبات -ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ما منها كذبة إلاّ ما حلّ بها عن دين الله- ولكن ائتوا موسى. فيأتون موسى فيقول: إنّي قد قتلت نفسًا، ولكن ائتوا عيسى. فيأتوا عيسى فيقول: إنّي عبدت من دون الله[83] ولكن ائتوا محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. قال: فيأتونني فأنطلق معهم)) قال ابن جدعان: قال أنس: فكأنّي أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((فآخذ بحلقة باب الجنّة فأقعقعها فيقال: من هذا؟ فيقال: محمّد. فيفتحون لي ويرحّبون، فيقولون: مرحبًا. فأخرّ ساجدًا فيلهمني الله من الثّناء والحمد، فيقال لي: ارفعْ رأسك، وسلْ تعط، واشفع تشفّعْ، وقلْ يسمعْ لقولك. وهو المقام المحمود الّذي قال الله: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا ))}
قال سفيان ليس عن أنس إلاّ هذه الكلمة: ((فآخذ بحلقة باب الجنّة فأقعقعها[84])).
هذا حديث حسن، وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أبي نضرة عن ابن عباس، الحديث بطوله.
الحديث تقدم تخريجه مختصرًا في الحديث الحادي عشر. وأما حديث ابن عباس الذي أشار إليه الترمذي فقد تقدم أيضًا رقم (6).
23- قال ابن جرير رحمه الله (ج15 ص144): حدثنا محمد بن بشار قال: ثنا عبدالرحمن قال: ثنا سفيان عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: يجمع النّاس في صعيد واحد، فيسمعهم الدّاعي وينفذهم البصر حفاة عراةً كما خلقوا قيامًا، لا تكلّم نفس إلاّ بإذنه، ينادى: يا محمّد، فيقول: لبّيك وسعديك، والخير في يديك، والشّرّ ليس إليك، والمهديّ من هديت، عبدك بين يديك، وبك وإليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، تباركْت وتعاليت، سبحانك ربّ البيت. فهذا المقام المحمود الّذي ذكره الله تعالى.
حدثنا محمد بن المثنى قال ثنا محمد بن جعفر قال ثنا شعبة عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: يجمع النّاس في صعيد واحد فلا تكلّم نفس، فأوّل ما يدعو محمّدًا[85] النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فيقول محمّد النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: لبّيك. ثم ذكر مثله.
وذكره ص(145) من طريق أبي إسحاق به.
الحديث رواه الطيالسي (ج2 ص21) من "ترتيب المسند"، والحاكم (ج2 ص363) وقال: صحيح على شرط الشيخين. وسكت عنه الذهبي، وأبونعيم في "الحلية" (ج1 ص278) وقال: رفعه عن أبي إسحاق جماعة، وقال الهيثمي (ج10 ص377): رواه البزّار موقوفًا ورجاله رجال الصحيح.
- قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج4 ص349): حدثنا محمد بن أحمد بن الحسن وأحمد بن السندي قالا: حدثنا أبوشعيب الحراني[86] قال: حدثنا جدي أحمد بن أبي شعيب قال: ثنا موسى بن أعين عن ليث عن أبي إسحاق عن صلة بن زفر عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّي سيّد النّاس يوم القيامة يدعوني ربّي فأقول: لبّيك وسعديك، والخير بيديك، تباركْت وتعاليت، لبّيك وحنانيك والهادي من هديت، عبدك بين يديك، لا منجا منك إلا إليك، تباركْت وتعاليت -وقال:- إنّ قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة)).
غريب من حديث أبي إسحاق عن صلة تفرد به موسى عن ليث.
وقال الهيثمي (ج10 ص377): رواه الطبراني في "الأوسط" وفيه ليث ابن أبي سليم وهو مدلس.
قال أبوعبدالرحمن: ومختلط كما في الميزان، فالأشبه أنه موقوف والله أعلم. وقد تابع ليث بن سليم عبدالله المختار كما في كتاب اللالكائي (ج6 ص1113) ولكن الوقف أصحّ. والله أعلم.
24- قال ابن جرير رحمه الله (ج15 ص144): حدثنا سليمان بن عمر[87] ابن خالد الرقي قال: ثنا عيسى بن يونس عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس: قوله { عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} قال: المقام المحمود مقام الشّفاعة.
الحديث في سنده رشدين بن كريب، قال أحمد: منكر الحديث، وقال ابن المديني وجماعة: ضعيف، وقال البخاري: منكر الحديث وأخوه محمد فيه نظر. اهـ من "الميزان". وسليمان بن عمر ذكره ابن أبي حاتم ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكر أنه روى عن جماعة، وأنّ أباه كتب عنه.
25- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(385): حدثنا عبدالله بن محمد الزهري قال: ثنا سفيان قال: حدثني معمر عن ابن طاوس عن أبيه قال: سمعت ابن عباس يقول: اللّهم تقبّلْ شفاعة محمّد الكبرى، وارفعْ درجته العليا، وأعطه سؤله في الآخرة والأولى كما آتيت إبراهيم وموسى.
الأثر أخرجه إسماعيل القاضي في "فضل الصلاة على النبي" ص(52) وعبدالرزاق (ج2 ص211)، وقال السخاوي في "القول البديع" ص(46): رواه عبد بن حميد في "مسنده" وعبدالرزاق وإسماعيل القاضي وإسناده جيد قوي صحيح. وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج3 ص513): إسناده جيد قوي صحيح.
قال أبوعبدالرحمن : هو على شرط الشيخين.
26- قال ابن أبي شيبة في "كتاب الإيمان" ص(12): حدثنا أبومعاوية عن عاصم[88] عن أبي عثمان عن سلمان قال: يقال له: سلْ تعطه -يعني النبي صلى اله عليه وعلى آله وسلم- واشفعْ تشفّع، وادع تجبْ. قال: فيرفع رأسه فيقول: ربّ أمّتي أمّتي مرتين أو ثلاثًا -قال سلمان:- فيشفع في كلّ من كان في قلبه مثقال حبة حنطة من إيمان -أو قال: مثقال شعيرة من إيمان، أو قال: مثقال حبة خردل من إيمان- فقال سلمان: فذلكم المقام المحمود.
الأثر أخرجه ابن جرير (ج15 ص144)، وهو على شرط الشيخين وسيأتي إن شاء الله أطول من هذا رقم (35).
27- قال ابن حبان رحمه الله كما في "الموارد" ص(523): أنبأنا أحمد بن علي بن المثني حدثنا عمرو بن محمد الناقد حدثنا عمرو بن عثمان الكلاعي[89] حدثنا موسى بن أعين عن معمر بن راشد عن محمد بن عبدالله ابن أبي يعقوب عن بشر بن شغاف عن عبدالله -يعني ابن سلام- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأوّل من تنشق عنه الأرض، وأوّل شافع بيدي لواء الحمد، تحته آدم فمن دونه)).
الحديث في سنده عمرو بن عثمان الكلابي وقد تركه النسائي وليّنه العقيلي، وقال أبوحاتم: يتكلمون فيه يحدث من حفظه بمناكير، وقال ابن عدي: روى عنه ثقات وهو ممن يكتب حديثه. اهـ من "ميزان الاعتدال".
فالحديث حسن لغيره لكثرة شواهده.
28- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص398): ثنا عارم بن الفضل[90] ثنا أبوسعيد ثنا ابن زيد ثنا علي بن الحكم البناني عن عثمان عن إبراهيم عن علقمة والأسود عن ابن مسعود قال: جاء ابنا مليكة إلى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقالا: إنّ أمّنا كانت تكرم الزّوج، وتعطف على الولد -قال: وذكر الضّيف- غير أنّها كانت وأدت في الجاهليّة. قال: ((أمّكما في النّار)) فأدبرا والشّرّ يرى في وجوههما، فأمر بهما فردّا فرجعا والسّرور يرى في وجوههما، رجيا أن يكون قد حدث شيء، فقال: ((أمّي مع أمّكما)) فقال رجل من المنافقين: وما يغني هذا عن أمّه شيئًا ونحن نطأ عقبيه. فقال رجل من الأنصار -ولم أر رجلاً قطّ أكثر سؤالاً منه-: يا رسول الله هل وعدك ربّك فيها أو فيهما؟ قال: فظنّ أنّه من شيء قد سمعه، فقال: ((ما سألته ربّي وما أطمعني فيه، وإنّي لأقوم المقام المحمود يوم القيامة)) فقال الأنصاريّ: وما ذاك المقام المحمود؟ قال: ((ذاك إذا جيء بكم عراةً حفاةً غرلاً، فيكون أوّل من يكسى إبراهيم عليه السّلام، يقول: اكسوا خليلي. فيؤتى بريطتين بيضاوين فيلبسهما، ثمّ يقعد فيستقبل العرش، ثمّ أوتى بكسوتي فألبسها فأقوم عن يمينه مقامًا لا يقومه أحد غيري، يغبطني به الأوّلون والآخرون، قال: ويفتح نهر من الكوثر إلى الحوض))، فقال المنافقون: فإنّه ما جرى ماء قطّ إلاّ على حال أو رضراض. قال: يا رسول الله على حال أو رضراض؟ قال: ((حاله المسك ورضراضه التّوم))، قال المنافق: لم أسمع كاليوم قلّما جرى ماء قطّ على حال أو رضراض إلاّ كان له نبتة. فقال الأنصاريّ: يا رسول الله هل له نبت؟ قال: ((نعم قضبان الذّهب))، قال المنافق: لم أسمع كاليوم، فإنّه قلّما نبت قضيب إلاّ أورق، وإلاّ كان له ثمر. قال الأنصاريّ: يا رسول الله هل من ثمر؟ قال: ((نعم ألوان الجوهر وماؤه أشدّ بياضًا من اللّبن وأحلى من العسل، إنّ من شرب منه مشربًا لم يظمأ بعده، وإن حرمه لم يرو بعده)).
الحديث أخرجه الدارمي (ج2 ص325)، وابن جرير (ج15 ص146)، والطبراني في "الكبير" (ج10 ص98)، والحاكم (ج2 ص364) وقال: صحيح الإسناد، وعثمان بن عمير هو ابن[91] اليقظان، فتعقبه الذهبي فقال: لا والله، فعثمان ضعفه الدارقطني، والباقون ثقات.
وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص24): تفرد به أحمد وهو غريب جدًا. وقال الهيثمي في "المجمع" (ج1 ص362): رواه أحمد والبزار والطبراني وفي أسانيدهم كلهم عثمان بن عمير وهو ضعيف.
قال أبوعبدالرحمن: عثمان بن عمير رديء المذهب كان يؤمن بالرجعة[92] كما في "الميزان" و"تهذيب التهذيب"، فمثل هذا لا يصلح في الشواهد والمتابعات لاسيما وقد قال الدارقطني: متروك.
29- قال الحاكم رحمه الله (ج4 ص570): أخبرنا إسماعيل بن محمد بن الفضل الشعراني[93] ثنا جدي ثنا إبراهيم بن حمزة الزبيري ثنا إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب عن علي بن حسين عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((تمدّ الأرض يوم القيامة مدًّا لعظمة الرّحمن، ثم لا يكون لبشر من بني آدم إلاّ موضع قدميه، ثم أدعى أوّل النّاس فأخرّ ساجدًا ثم يؤذن لي فأقوم فأقول: يا ربّ أخبرني هذا، لجبريل وهو عن يمين الرّحمن، والله ما رآه جبريل قبلها قطّ، إنّك أرسلته إليّ. قال: وجبريل ساكت لا يتكلّم حتّى يقول الله: صدق، ثمّ يؤذن لي في الشّفاعة فأقول: يا ربّ عبادك عبدوك في أطراف الأرض فذلك المقام المحمود)).
هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد أرسله يونس بن يزيد ومعمر بن راشد عن الزهري. ثم ذكره الحاكم رحمه الله مرسلاً من حديث يونس عن الزهري عن علي بن الحسين أن رجلاً من أهل العلم، ولم يسمّه، ومن حديث معمر عن الزهري عن علي بن الحسين قال: قال رسول الله.
الحديث أخرجه البيهقي في "الشعب" (ج1 ص208) عن علي بن الحسين حدثني رجل من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم به، وفي سنده الكديمي، هو محمد بن يونس كذّاب، لكن قال البيهقي: رواه جماعة عن إبراهيم بن سعد. وأخرجه ابن جرير (ج15 ص146) من حديث معمر عن الزهري عن علي بن الحسين مرسلاً.
وقال الحافظ في "الفتح" (ج11 ص427): وعن جابر عند الحاكم من رواية الزهري عن علي بن الحسين عنه، واختلف فيه على الزهري، فالمشهور عنه أنه من مرسل علي بن الحسين، كذا أخرجه عبدالرزاق عن معمر، وقال إبراهيم بن سعد عن الزهري عن علي عن رجال من أهل العلم، أخرجه ابن أبي حاتم، وحديث جابر في ذلك عند مسلم من وجه آخر عنه . اهـ
ثم وجدت الحديث في "الحلية" (ج3 ص145)، قال أبونعيم رحمه الله: حدثنا أبوبكر بن خلاد ثنا الحارث بن محمد ثنا محمد بن جعفر الوركاني ثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن علي بن الحسين أخبرني رجل من أهل العلم أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال، وذكر الحديث، ثم قال أبونعيم: صحيح، تفرد بهذه الألفاظ علي بن الحسين، لم يروه عنه إلا الزهري، ولا عنه إلا إبراهيم بن سعد، وعلي بن الحسين هو أفضل وأتقى من أن يروه عن رجل لا يعتمده فينسبه إلى العلم، ويطلق القول به. اهـ
أقول: نسبته إلى العلم لا تكفي كما هو معروف في المصطلح من شروط الصحيح.
فصل في أثر موقوف عن ابن مسعود يخالف ما تقدم في أن نبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول شافع
30- قال الحاكم رحمه الله (ج4 ص496): أخبرنا أبوعبدالله محمد بن عبدالله الزاهد الأصبهاني ثنا الحسين بن حفص ثنا سفيان عن سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء قال: كنا عند عبدالله بن مسعود رضي الله عنه -وذكر حديثا طويلاً، وفيه ص(498)-: فيكون أوّل شافع روح القدس جبريل عليه الصّلاة والسّلام، ثمّ إبراهيم خليل الله، ثمّ موسى ثمّ عيسى عليهما الصّلاة والسّلام، قال: ثمّ يقوم نبيّكم رابعًا لا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه، وهو المقام المحمود الّذي ذكره الله تبارك وتعالى: {عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} الحديث.
وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ثم أعاده الحاكم ص(598)، وقال صحيح على شرط الشيخين، وسكت عنه الذهبي في الموضع الأول، وتعقبه في الثاني فقال: قلت: ما احتجا بأبي الزعراء. اهـ
وقال المناوي في "فيض القدير" (ج3 ص42): إن البخاري ضعّف هذا الحديث.
وقال البخاري في ترجمة أبي الزعراء: عبدالله بن هانئ، روى عن ابن مسعود، وذكر الحديث ثم قال: والمعروف عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أنا أوّل شافع)) ولا يتابع في حديثه.
وقال الهيثمي (ج10 ص330): رواه الطبراني[94]وهو موقوف مخالف للحديث الصحيح، وقول النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((أنا أوّل شافع)).
فصل في شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأمته في دخول الجنة وكونه أول شفيع
تقدم في الحديث الأول أنه يقال : ((يا محمّد أدخل من أمّتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاء النّاس فيما سوى ذلك من الأبواب)).
وتقدم في الحديث الثاني أنّه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يشفع، فيشفعه الله ويحد له حدًا فيدخلهم الجنة.
وفي الحديث السادس أنه يقرع باب الجنة فيقال: من أنت؟ فأقول: ((أنا محمّد)).
31- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص188): حدثنا قتيبة بن سعيد وإسحاق ابن إبراهيم، قال قتيبة: حدثنا جرير عن المختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّل النّاس يشفع في الجنّة وأنا أكثر الأنبياء تبعًا)).
- وحدثنا أبوكريب محمد بن العلاء حدثنا معاوية بن هشام عن سفيان عن مختار بن فلفل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أكثر الأنبياء تبعًا يوم القيامة وأنا أوّل من يقرع باب الجنّة)).
- وحدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا حسين بن علي عن زائدة عن المختار بن فلفل قال: قال أنس بن مالك: قال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أنا أوّل شفيع في الجنّة، لم يصدّق نبيّ من الأنبياء ما صدّقت وإنّ من الأنبياء نبيًّا ما يصدّقه من أمّته إلاّ رجل واحد)).
وأخرجه ابن خزيمة في "كتاب التوحيد" ص(255)، والدارمي (ج1 ص27) الجملة الأولى.
- وقال مسلم رحمه الله: وحدثني عمرو الناقد وزهير بن حرب قالا: حدثنا هاشم بن القاسم حدثنا سليمان بن المغيرة عن ثابت عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((آتي باب الجنّة يوم القيامة فأستفتح، فيقول الخازن: من أنت؟ فأقول: محمّد. فيقول: بك أمرت لا أفتح لأحد قبلك)).
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص36).
32- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص247): ثنا عفان ثنا حماد بن سلمة ثنا ثابت عن أنس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يطول يوم القيامة على النّاس، فيقول بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى آدم أبي البشر، فيشفع لنا إلى ربّنا عزّ وجلّ، فليقض بيننا. فيأتون آدم فيقولون: يا آدم أنت الّذي خلقك الله بيده وأسكنك جنّته، فاشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا نوحًا رأس النّبيّين. فيأتونه فيقولون: يا نوح اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا إبراهيم خليل الله عزّ وجلّ. فيأتونه فيقولون: يا إبراهيم اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا موسى الّذي اصطفاه الله عزّ وجلّ برسالاته وبكلامه: قال فيأتونه فيقولون: يا موسى اشفع لنا إلى ربّك عزّ وجلّ فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته. فيأتون عيسى فيقولون: يا عيسى اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. فيقول: إنّي لست هناكم، ولكن ائتوا محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فإنّه خاتم النّبيّين فإنّه قد حضر اليوم، وقد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر. فيقول عيسى: أرأيتم لو كان متاع في وعاء قد ختم عليه، هل كان يقدر على ما في الوعاء حتّى يفضّ الخاتم؟ فيقولون: لا. قال: فإنّ محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خاتم النّبيّين. قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: فيأتوني فيقولون: يا محمّد اشفع لنا إلى ربّك فليقض بيننا. قال: فأقول: نعم. فآتي باب الجنّة فآخذ بحلقة الباب فأستفتح، فيقال: من أنت؟ فأقول: محمّد. فيفتح لي فأخرّ ساجدًا، فأحمد ربّي عزّ وجلّ بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ولا يحمده بها أحد كان بعدي، فيقول: ارفع رأسك، وقل يسمع منك، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ. فيقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال شعيرة من إيمان. قال: فأخرجهم ثمّ أخرّ ساجدًا، فأحمده بمحامد لم يحمده بها أحد كان قبلي ولا يحمده بها أحد كان بعدي، فيقال لي: ارفعْ رأسك، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ. فأقول: أي ربّ أمّتي أمّتي. فيقال: أخرج من كان في قلبه مثقال برّة من إيمان. قال: فأخرجهم، قال: ثمّ أخرّ ساجدًا فأقول مثل ذلك، فيقال[95]: من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان. قال: فأخرجهم)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(253) من حديث الحسن بن محمد الزعفراني ثنا عفان بن مسلم به، و ص(300) من حديث حميد الطويل عن أنس نحوه، وسيأتي إن شاء الله رقم (104).
33- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(245): حدثنا أبوزرعة عبيدالله بن عبدالكريم قال: ثنا سعيد بن محمد الجرمي قال ثنا عبدالواحد بن واصل، قال: ثنا محمد بن ثابت البناني عن عبدالله بن عبدالله بن الحارث بن نوفل عن أبيه عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((للأنبياء منابر من ذهب فيجلسون عليها، قال: ويبقى منبري لا أجلس عليه ولا أقعد عليه، قائم بين يدي الله ربّي مخافة أنْ يبعث بي إلى الجنّة، وتبقى أمّتي بعدي، فأقول: يا ربّ أمّتي أمّتي. فيقول الله عزّ وجلّ: يا محمّد ما تريد أن نصنع بأمّتك؟ فيقول: يا ربّ عجّل حسابهم. فيدعى بهم فيحاسبون، فمنهم من يدخل الجنّة برحمة الله، ومنهم من يدخل الجنّة بشفاعتي، فما أزال أشفع حتّى أعطى صكاكًا برجال قد بعث بهم إلى النّار، وحتّى أنّ مالكًا خازن النّار يقول: يا محمّد ما تركت للنّار لغضب ربّك في أمّتك من نقمة)).
الحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص65-66) وقال: صحيح الإسناد غير أن الشيخين لم يحتجا بمحمد بن ثابت البناني وهو قليل الحديث يجمع حديثه والحديث غريب في أخبار الشفاعة. فتعقبه الذهبي فقال: قلت: ضعفه غير واحد، والحديث منكر.
وقال الهيثمي (ج10 ص380): رواه الطبراني في "الكبير" و"الأوسط"، وفيه محمد بن ثابت البناني وهو ضعيف.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث منكر كما قال الذهبي، فقد قال البخاري: في محمد بن ثابت نظر. وقال ابن معين: ليس بشيء، وقال النّسائي: ضعيف. اهـ من "الميزان".
34- قال الحميدي رحمه الله (ج2 ص206): ثنا سفيان قال ثنا ابن جدعان عن أنس بن مالك أنّه ذكر عند النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم الشّفاعة، فقال: قال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((فآخذ بحلقة الجنّة فأقعقعها)).
الحديث في سنده علي بن زيد بن جدعان لكنه في الشواهد، وقد تقدم.
35- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(294): حدثنا يوسف بن موسى قال: ثنا أبومعاوية قال: ثنا عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي عن سلمان الفارسي قال: يأتون النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فيقولون: يا نبيّ الله أنت الّذي فتح الله بك وختم بك، وغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر، فاشفع لنا إلى ربّك، فيقول: ((نعم، أنا صاحبكم)) فيخرج يحوش النّار[96] حتّى ينتهي إلى باب الجنّة، فيأخذ بحلقة في الباب من ذهب، فيقرع الباب، فيقال: من هذا؟ فيقال: محمد. قال: فيفتح له. قال: فيجيء حتى يقوم بين يدي الله فيستأذن في السّجود فيؤذن له، قال: فيفتح الله له من الثّناء والتّحميد والتّمجيد ما لم يفتحْه لأحد من الخلائق، فينادى: يا محمّد ارفعْ رأسك، وسلْ تعطه، وادع يجبْ. قال: فيرفع رأسه، فيقول: ((ربّ أمّتي أمّتي ))ثمّ يستأذن في السّجود فيؤذن له، فيفتح له من الثّناء والتّحميد والتّمجيد ما لم يفتحْ لأحد من الخلائق، فينادى: يا محمّد، ارفعْ رأسك، سلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ، وادع تجب، قال: يفعل ذلك مرتين أو ثلاثًا، فيشفع لمن كان في قلبه حبّة من حنطة، أو مثقال شعيرة، أو مثقال حبّة من خرذل من إيمان. قال سلمان: فذاك المقام المحمود.
تقدم رقم (26) أنه أخرجه ابن أبي شيبة وابن جرير، وقال الهيثمي (ج10 ص372): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، وقال الحافظ في "المطالب العالية" (ج4 ص388): صحيح موقوف. وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج4 ص43): رواه الطبراني بإسناد صحيح.
36- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(296): أخبرني محمد بن عبدالله بن عبدالحكم أن أباه وشعيب بن الليث أخبراه قالا: أخبرنا الليث عن ابن الهاد[97] عن عمرو وهو ابن أبي عمرو عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((إنّي لأوّل النّاس تنشقّ الأرض عن جمجمته يوم القيامة ولا فخر، وأعطى لواء الحمد ولا فخر، وأنا سيّد النّبيين يوم القيامة ولا فخر، وأنا أوّل من يدخل الجنّة يوم القيامة ولا فخر، سآتي باب الجنّة فيفتحون لي، فأسجد لله تعالى فيقول: ارفع رأسك يا محمّد وتكلّمْ يسمعْ لك، وقلْ يقبلْ منك، واشفعْ تشفّعْ. فأرفع فأقول: أمّتي أمّتي يا ربّ، فيقول: اذهب إلى أمّتك فمن وجدْت في قلبه مثقال حبة من شعيرة من إيمان فأدخله الجنّة، فأقبل بمن وجدْت في قلبه ذلك فأدخلهم الجنّة، وآتي الجبّار فأسجد له فيقول: ارفع رأسك يا محمّد، وتكلّم يسمعْ منك وقلْ يقبلْ قولك، واشفعْ تشفّعْ. فأقول: أمّتي أمّتي. فيقول: اذهبْ إلى أمّتك فمن وجدْت في قلبه مثقال نصف حبّة من شعير من الإيمان فأدخلْه الجنّة. فأذهب فمن وجدْت في قلبه مثقال ذلك فأدخله الجنّة، قال: فآتي الجبّار فأسجد له، فيقول: ارفعْ رأسك يا محمّد، وتكلّم يسمعْ منك، واشفعْ تشفّعْ، فأرفع رأسي، فأقول: أمّتي أمّتي أي ربّ. فيقول: اذهبْ فمن وجدْت في قلبه مثقال حبّة من خرذل من إيمان، فأدخلْه الجنّة. فأذهب فمن وجدت في قلبه مثقال ذلك فأدخلهم، وفرغ من الحساب، حساب النّاس)). وذكر الحديث.
تمام الحديث كما في "مسند أحمد" (ج3 ص144): ((وأدخل من بقي من أمّتي النّار مع أهل النّار، فيقول أهل النّار: ما أغنى عنكم أنّكم كنتم تعبدون الله عزّ وجلّ لا تشركون به شيئًا، فيقول الجبّار عزّ وجلّ: فبعزّتي لأعتقنّهم من النّار. فيرسل إليهم فيخرجون وقد امتحشوا فيدخلون في نهر الحياة فينبتون فيه كما تنبت الحبّة في غثاء السّيل، ويكتب بين أعينهم: هؤلاء عتقاء الله عزّ وجلّ، فيذهب بهم فيدخلون الجنّة، فيقول لهم أهل الجنّة: هؤلاء الجهنّميون. فيقول الجبّار: بل هؤلاء عتقاء الجبّار عزّ وجلّ)).
الحديث رجاله رجال الصحيح، وأخرجه الدارمي (ج1 ص27-28).
37- قال أبونعيم في "دلائل النبوة" (ج1 ص13): حدثنا أحمد بن إسحاق ثنا أحمد بن محمد بن سليمان[98] قال: ثنا إسحاق بن إبراهيم الصواف قال: حدثنا بدل بن المحبر قال: حدثنا عبدالسلام بن عجلان قال: سمعت أبا يزيد المدني يحدث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أنا أوّل من يدخل الجنّة ولا فخر، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفّع، وأنا بيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر، وأنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وأوّل شخص يدخل عليّ الجنّة فاطمة بنت محمد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، ومثلها في هذه الأمّة مثل مريم في بني إسرائيل)).
الحديث في سنده عبدالسلام بن عجلان، قال الحافظ الذهبي في "الميزان": وقال أبوحاتم: يكتب حديثه. وتوقف غيره في الاحتجاج به عن بدل بن المحبر عن عبدالسلام بن عجلان عن أبي يزيد المدني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوّل شخص يدخل الجنّة فاطمة[99])). أخرجه أبوصالح المؤذن في "مناقب فاطمة". اهـ
زاد الحافظ في "اللسان": وذكره ابن حبان في "الثقات" فقال: يروي عن أبي عثمان وعبيدة الهجيمي، ثم قال: يخطئ ويخالف. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: هذه الزيادة منكرة وهي من قوله: ((أوّل شخص... الخ)) لتفرد عبدالسلام بها، ويؤيد بطلان هذه الزيادة أن مسلمًا قد أخرجه (ج4 ص1782)، وأبا داود (ج5 ص45)، وأحمد (ج2 ص540) من حديث أبي هريرة[100]، وليست فيه هذه الزيادة. والله أعلم.
38- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص393): ثنا حسن ثنا ابن لهيعة ثنا ابن هبيرة[101] أنه سمع أبا تميم الجيشاني يقول: أخبرني سعيد أنه سمع حذيفة ابن اليمان يقول: غاب عنّا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يومًا، فلم يخرج حتّى ظننّا أنّه لن يخرج، فلمّا خرج سجد سجدة فظننّا أنّ نفسه قد قبضت فيها، فلمّا رفع رأسه قال: ((إنّ ربّي تبارك وتعالى استشارني في أمّتي ماذا أفعل بهم، فقلت: ما شئت أي ربّ هم خلقك وعبادك. فاستشارني الثّانية فقلت له كذلك، فقال: لا أحزنك[102] في أمّتك يا محمّد. وبشّرني أنّ أوّل من يدخل الجنّة من أمّتي سبعون ألفًا، مع كلّ ألف سبعون ألفًا ليس عليهم حساب، ثمّ أرسل إليّ فقال: ادع تجب، وسلْ تعط. فقلت لرسوله: أو معطيّ ربّي سؤلي؟ فقال: ما أرسلني إليك إلاّ ليعطيك. ولقد أعطاني ربّي عزّ وجلّ ولا فخر، وغفر لي ما تقدّم من ذنبي وما تأخّر وأنا أمشي حيًّا صحيحًا، وأعطاني أن لا تجوع أمّتي ولا تغلب، وأعطاني الكوثر فهو نهر من الجنّة يسيل في حوضي، وأعطاني العزّ والنّصر والرّعب يسعى بين يدي أمّتي شهرًا، وأعطاني أنّي أوّل الأنبياء أدخل الجنّة، وطيّب لي ولأمّتي الغنيمة، وأحلّ لنا كثيرًا ممّا شدّد على من قبلنا، ولم يجعل علينا من حرج)).
الحديث في سنده ابن لهيعة وهو ضعيف.
الشّفاعة لأهل الكبائر
تقدمت أحاديث تدل على الشّفاعة لأهل الكبائر منها: حديث أنس وهو الحديث الثاني: ((يخرج من النّار من قال لا إله إلاّ الله ... إلى آخره)) وهكذا الحديث الثالث، وكذا حديث ابن عباس وهو الحديث السادس ففيه: ((أخرجْ من كان في قلبه كذا وكذا))، وحديث أنس وهو الحديث الثاني والثلاثون وفيه: ((من كان في قلبه مثقال ذرّة من إيمان، قال: فأخرجهم)) وكذا حديث سلمان رقم (35).
39- قال البخاري رحمه الله (ج1 ص193): حدثنا عبدالعزيز بن عبدالله قال: حدثني سليمان[103] عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه قال: قيل: يا رسول الله من أسعد النّاس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لقد ظننت يا أبا هريرة ألاّ يسألني عن هذا الحديث أحد أوّل منك، لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد النّاس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلاّ الله خالصًا من قلبه أو نفسه)).
وأخرجه البخاري (ج11 ص418)، وأحمد (ج2 ص373)، والآجري في "الشريعة" ص(430).
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص307): ثنا هاشم[104] والخزاعي يعني أبا سلمة قالا: حدثنا ليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن معاوية بن مغيث الهذلي عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: سألت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ماذا ردّ إليك ربّك في الشّفاعة؟ فقال: ((والّذي نفس محمّد بيده لقد ظننت أنّك أوّل من يسألني عن ذلك من أمّتي، لما رأيت من حرصك على العلم، والّذي نفس محمّد بيده ما يهمّني من انقصافهم على أبواب الجنّة أهمّ عندي من تمام شفاعتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلاّ الله مخلصًا يصدّق قلبه لسانه ولسانه قلبه)).
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص518)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج4 ص111)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(645)، والحاكم (ج1 ص70) وقال: صحيح الإسناد وسكت عليه الذهبي.
الحديث من طريق معاوية بن معتب أو مغيث وهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
هذا الحديث وأمثاله من الأحاديث التي ليس فيها التصريح بالشّفاعة لأهل الكبائر، فمن قال لا إله إلا الله يشمل أهل الكبائر وغيرهم ممن لا يشرك بالله شيئا.
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص454): ثنا حجاج[105] قال: أنا ابن جريج قال: حدثني العلاء بن عبدالرحمن بن يعقوب عن ابن دارة مولى عثمان قال: إنّا لبالبقيع مع أبي هريرة إذ سمعناه يقول: أنا أعلم النّاس بشفاعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يوم القيامة. قال: فتداكّ النّاس عليه، فقالوا: إيه يرحمك الله؟ قال: يقول[106]: ((اللّهمّ اغفر لكلّ عبد مسلم لقيك مؤمن بي لا يشرك بك)).
الحديث أخرجه أيضًا ص(499) وفي سنده ابن دارة، وترجمته في "تعجيل المنفعة" ص(349) وهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
40- قال البخاري رحمه الله (ج11 ص96): حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ دعوة مستجابة يدعو بها، وأريد أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمّتي في الآخرة)).
الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" ص(214)، وابن خزيمة ص(257) وأحمد (ج2 ص486).
- قال البخاري رحمه الله (ج13 ص446): حدثنا أبواليمان أخبرنا شعيب عن الزهري حدثني أبوسلمة بن عبدالرحمن أن أبا هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ دعوة، فأريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص188-189)، والدارمي (ج2 ص328)، وأحمد (ج2 ص381 و ص396)، والآجري في "الشريعة" ص(341).
- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص189): وحدثني حرملة بن يحيى أخبرنا ابن وهب أخبرني يونس عن ابن شهاب أن عمرو بن أبي سفيان بن أسيد ابن جارية الثقفي أخبره أن أبا هريرة قال لكعب الأحبار: إنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ دعوة يدعوها فأنا أريد إن شاء الله أن أختبئ دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة))، فقال كعب لأبي هريرة: أنت سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ قال أبوهريرة: نعم.
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(285)، والدارمي (ج2 ص328)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج1 ص400)، والآجري في "الشريعة" ص(341).
- وقال مسلم رحمه الله: حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة وأبوكريب واللفظ لأبي كريب قالا: حدثنا أبومعاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة مستجابة فتعجّل كلّ نبيّ دعوته، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات من أمّتي لا يشرك بالله شيئًا)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص238) وابن ماجه (ج2 ص1440)، وأحمد (ج2 ص426)، وابن خزيمة ص(258) و ص(260)، والآجري في "الشريعة" ص(340).
- وقال مسلم رحمه الله: حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا جرير عن عمارة وهو ابن القعقاع عن أبي زرعة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة مستجابة يدعو بها فيستجاب له فيؤتاها وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ص(257).
- وقال مسلم رحمه الله: حدثنا عبيدالله بن معاذ العنبري حدثنا أبي حدثنا شعبة عن محمد وهو ابن زياد قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة دعا بها في أمّته فاستجيب له، وإنّي أريد إن شاء الله أن أؤخّر دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص409)، وابن خزيمة ص(260،261).
- وقال الإمام أحمد (ج2 ص312): حدثنا عبدالرزاق بن همام ثنا معمر عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا به أبوهريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلم وذكر أحاديث، وفي ص(313): وقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة تستجاب له، وأريد إن شاء الله أن أؤخّر دعوتي شفاعةً لأمّتي إلى يوم القيامة)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(259)، وعبدالرزاق (ج11 ص413)، وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص208): هذا إسناد على شرطهما ولم يخرجوه.
- قال الآجري في "الشريعة" ص(341): أخبرنا أبوجعفر محمد بن صالح بن ذريح[107] قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا عبدة يعني ابن سلمان عن محمد بن إسحاق عن موسى بن يسار[108] عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة دعا بها، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
محمد بن إسحاق مدلس ولم يصرح بالتحديث، لكن الحديث في الشواهد والمتابعات فلا يضر.
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص275): ثنا عبدالرزاق ثنا معمر عن الزهري قال: أخبرني القاسم بن محمد قال: اجتمع أبوهريرة وكعب فجعل أبوهريرة يحدّث كعبًا عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وكعب يحدّث أبا هريرة عن الكتب، قال أبوهريرة: قال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة مستجابة وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث قال الحافظ ابن كثير في "التفسير" (ج4 ص15): رواه عبدالرزاق. وقال في "النهاية" (ج2ص207): تفرد به أحمد وإسناده صحيح على شرطهما ولم يخرجه أحد من أصحاب الكتب الستة من هذا الوجه.
41- قال البخاري رحمه الله (ج11 ص96): وقال لي خليفة[109]: قال معتمر: سمعت أبي عن أنس عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ سأل سؤلاً -أو قال:- لكلّ نبيّ دعوة قد دعا بها فاستجيب، فجعلت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص190)، وأحمد (ج3 ص219)، وابن خزيمة ص(260-261).
- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص190): حدثني أبوغسان[110] المسمعي، ومحمد بن المثنى وابن بشار حدثانا -واللفظ لأبي غسان- قالوا: حدثنا معاذ (يعنون ابن هشام) قال: حدثني أبي عن قتادة حدثنا أنس بن مالك أنّ نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لكلّ نبيّ دعوة دعاها لأمّته، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص92) وابن خزيمة ص(259،261).
وأخرجه أحمد (ج3 ص134، 258) من حديث همام عن قتادة به.
وأخرجه ص(208، 276)، والآجري ص(343)، من حديث شعبة عن قتادة به.
وأخرجه أحمد (ج3 ص118)، وابن خزيمة ص(262)، وأبونعيم (ج7 ص259) من حديث مسعر عن قتادة به.
42- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص190): وحدثني محمد بن أحمد بن أبي خلف حدثنا روح حدثنا ابن جريج قال: أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يقول: عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لكلّ نبيّ دعوة قد دعا بها في أمّته، وخبّأت دعوتي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص84)، وابن خزيمة ص(260).
وأخرجه أحمد (ج3 ص396)، وابن خزيمة من حديث الحسن عن جابر، والحسن لم يسمع من جابر كما في "تهذيب التهذيب" عن علي بن المديني وبهز بن أسد وأبي حاتم.
43- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(269): حدثنا محمد بن عمرو بن عثمان ابن أبي صفوان الثقفي قال: ثنا سليمان بن داود قال: ثنا علي بن البريد[111] قال : ثنا عبدالجبار بن العباس الشيباني[112] عن عون بن أبي جحيفة السوائي عن عبدالرحمن بن علقمة الثقفي عن عبدالرحمن بن أبي عقيل الثقفي قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في وفد ثقيف فعلقنا طريقًا من طرق المدينة حتى أنخنا بالباب، وما في النّاس رجل أبغض إلينا من رجل يولج عليه منه، فدخلنا وسلّمنا وبايعنا فما خرجنا من عنده حتى ما في الناس رجل أحبّ إلينا من رجل خرجنا من عنده، فقلت له: يا رسول الله، ألا سألت ربّك ملكًا كملك سليمان. فضحك وقال: (( فلعلّ لصاحبكم عند الله أفضل من ملك سليمان، إنّ الله لم يبعثْ نبيًّا إلاّ أعطاه الله دعوةً، فمنهم من اتّخذ بها دنيا فأعطيها، ومنهم من دعا بها على قومه فأهلكوا بها، وإنّ الله تعالى أعطاني دعوةً فاختبأتها عند ربّي شفاعةً لأمّتي يوم القيامة)).
الحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص67-68)، والفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج1 ص288)، وقال الحاكم: وقد احتج مسلم بعلي بن هاشم، وعبدالرحمن بن أبي عقيل صحابي قد احتج به أئمتنا في مسانيدهم، وأما عبدالجبار بن العباس فإنه ممن يجمع حديثه ويعد مسانيده في الكوفيين. اهـ
وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص199): إسناد غريب قوي، وحديث غريب.
وقال الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص371): رواه الطبراني والبزار ورجالهما ثقات.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده عبدالجبار بن العباس وهو الشبامي، قال أبونعيم: لم يكن بالكوفة أكذب منه. وقال العقيلي: لا يتابع على حديثه وكان يتشيّع. وقال أحمد بن حنبل: أرجو ألا يكون به بأس حدثنا عنه وكيع وأبونعيم، لكن كان يتشيّع. وقال أبوحاتم: ثقة. وقال الجوزجاني: كان غاليًا في سوء مذهبه، يعني في التشيع. اهـ
فالرجل تالف إذ جرج مفسرًا، لكن الحديث له طريق أخرى.
قال البخاري في "التاريخ" (ج5 ص249): قال أحمد بن يونس: حدثنا زهير[113] حدثنا أبوخالد الأسدي[114] قال: ح[115] عون بن أبي جحيفة به.
الحديث في سنده أبوخالد الأسدي وهو صالح في الشواهد والمتابعات.
44- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص75): ثنا معمر بن سليمان الرقي أبوعبدالله ثنا زياد بن خيثمة عن علي بن النعمان بن قراد عن رجل عن عبدالله بن عمر عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((خيّرت بين الشّفاعة أو يدخل نصف أمّتي الجنّة، فاخترت الشّفاعة لأنّها أعمّ وأكفى، أترونها للمتقّين؟ لا ولكنّها للمتلوّثين الخطّاؤون)).
قال زياد: أما إنها لحْن، ولكن هكذا حدثنا الّذي حدثنا.
الحديث في سنده مبهم، لكن قال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج4 ص448): رواه أحمد والطبراني واللفظ له وإسناده جيد. و قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج1 ص378): رواه أحمد والطبراني ... ورجال الطبراني رجال الصحيح غير النعمان بن قراد وهو ثقة.
قال أبوعبدالرحمن: قد اعتمد هذان الحافظان على توثيق ابن حبان للنعمان بن قراد وهو مجهول، فقد ذكره ابن أبي حاتم (ج8 ص446) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، ولم يذكر عنه الحافظ راويًا سوى زياد بن خيثمة فهو مجهول العين، وأما ابن حبان فإنه يوثّق المجهولين كما ذكره الحافظ في مقدمة "لسان الميزان".
45- قال ابن ماجة رحمه الله (ج2 ص1441): حدثنا إسماعيل بن أسد ثنا أبوبدر[116] ثنا زياد بن خيثمة عن نعيم بن أبي هند عن ربعي بن حراش عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((خيّرت بين الشّفاعة وبين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة فاخترت الشّفاعة لأنّها أعمّ وأكفى، أترونها للمتّقين؟ لا ولكنّها للمذنبين الخطّائين المتلوّثين)).
قال المعلق في "الزوائد": إسناده صحيح ورجاله ثقات.
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص404): ثنا عفان ثنا حماد يعني ابن سلمة أنا عاصم[117] عن أبي بردة عن أبي موسى أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كان يحرسه أصحابه، فقمت ذات ليلة فلم أره في منامه، فأخذني ما قدم وما حدث، فذهبت أنظر فإذا أنا بمعاذ قد لقي الّذي لقيت، فسمعنا صوتًا مثل هزيز الرّحا فوقفا على مكانهما، فجاء النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من قبل الصّوت فقال: ((هل تدرون أين كنت؟ وفيم كنت؟ أتاني آت من ربّي عزّ وجلّ فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة فاخترت الشّفاعة)). فقالا: يا رسول الله ادع الله عزّ وجلّ أن يجعلنا في شفاعتك. فقال: ((أنتم ومن مات لا يشرك بالله شيئًا في شفاعتي)).
الحديث أعاده الإمام أحمد ص(415) فقال: ثنا حسن بن موسى يعني الأشيب، قال: ثنا سكين بن عبدالعزيز قال: أخبرنا يزيد الأعرج -قال عبدالله[118]: يعني أظنه الشّني- قال: ثنا حمزة بن علي بن مخفر[119] عن أبي بردة به.
وأخرجه الطبراني في "الصغير" (ج2 ص8) فقال: حدثنا محمد بن أحمد ابن هارون الحلبي المصيصي بالمصيصة حدثنا عبدالله بن محمد المسندي حدثنا سهل بن أسلم العدوي حدثنا يونس بن عبيد عن حميد بن هلال عن أبي بردة به.
الحديث بأول سند رجاله رجال الصحيح.
46- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج6 ص28): ثنا بهز قال: ثنا أبوعوانة قال: ثنا قتادة عن أبي مليح[120] عن عوف بن مالك الأشجعي قال: عرّس رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ذات ليلة، فافترش كلّ رجل منّا ذراع راحلته، قال: فانتهيت إلى بعض الليل، فإذا ناقة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ليس قدّامها أحد، قال: فانطلقت أطلب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فإذا معاذ بن جبل وعبدالله بن قيس قائمان، قلت: أين رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ قالا: ما ندري غير أنّا سمعنا صوتًا بأعلى الوادي. فإذا مثل هزيز الرّحل قال: امكثوا يسيرًا. ثمّ جاءنا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: ((إنّه أتاني اللّيلة آت من ربّي فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة، فاخترت الشّفاعة)) فقلنا: ننشدك الله والصّحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك. قال: ((فإنّكم من أهل شفاعتي)) قال: فأقبلنا معانيق[121] إلى النّاس فإذا هم قد فزعوا وفقدوا نبيّهم، وقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّه أتاني اللّيلة من ربّي آت فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة، وإنّي اخترت الشّفاعة)) قالوا: يا رسول الله ننشدك الله والصّحبة لما جعلتنا من أهل شفاعتك. قال: فلمّا أضبّوا[122] عليه قال: ((فأنا أشهدكم أنّ شفاعتي لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمّتي)).
الحديث رواه الترمذي (ج4 ص47)، والطيالسي (ج2 ص229)، وابن خزيمة ص(264، 265)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(644، 645) والآجري في "الشريعة" ص(342)، والحاكم (ج1 ص67) وقال: حديث قتادة هذا صحيح على شرطهما ولم يخرجاه. وقال الهيثمي (ج10 ص370): رواه الطبراني بأسانيد وبعض رجالها ثقات.
- قال ابن ماجة رحمه الله (ج2 ص1444): حدثنا هشام بن عمار ثنا صدقة بن خالد ثنا ابن جابر[123] قال : سمعت سليم بن عامر يقول: سمعت عوف بن مالك الأشجعي، يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أتدرون ما خيّرني ربّي اللّيلة)) قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: ((فإنّه خيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة، فاخترت الشّفاعة)) قلنا: يا رسول الله ادع الله أن يجعلنا من أهلها. قال: ((هي لكلّ مسلم)).
الحديث أخرجه الآجري في "الشريعة" ص(343)، والحاكم (ج1 ص14) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ورواته كلهم ثقات على شرطهما جميعًا وليس له علّة، وليس في أخبار[124] الشّفاعة: ((وهي لكلّ مسلم)).
وأخرجه أيضًا ص(66) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم فقد احتج بسليم بن عامر، وأما سائر رواته فمتفق عليهم ولم يخرجاه.
قال أبوعبدالرحمن: وقول الحاكم الأخير أنه على شرط مسلم أصحّ لأن سليم بن عامر من رجال مسلم وليس من رجال البخاري.
وأخرجه ابن خزيمة ص(263)، وقال ص(264): أخاف أن يكون قوله: (سمعت عوف بن مالك). وهْمًا وأنّ بينهما معدي كرب فإن أحمد ابن عبدالرحمن بن وهب قال: ثنا حجاج بن رشدين قال: حدثنا معاوية وهو ابن صالح عن أبي يحيى سليم بن عامر عن معدي كرب عن عوف بن مالك. فذكر نحو الحديث السابق غير أنه قال:((إنّ ربّي استشارني في أمّتي فقال: أتحبّ أن أعطيك مسألتك اليوم أم أشفّعك في أمّتك. قال: فقلت: بل اجعلْها شفاعةً لأمّتي)) قال عوف: فقلنا: يا رسول الله اجعلنا في أوّل من تشفع له الشّفاعة. قال: ((بل أجعلها لكلّ مسلم)).
قال أبوعبدالرحمن: حجاج بن رشدين ترجمته في "الجرح والتعديل" (ج3 ص160)، ذكر من مشايخه معاوية بن صالح. ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقال الحافظ الذهبي في "الميزان": ضعّفه ابن عدي.
وشيخ ابن خزيمة أحمد بن عبدالرحمن إلى الضعف أقرب فيما تفرد به عن عمه.
لكن المعتمد في انقطاع الحديث على ما في "تهذيب التهذيب" في ترجمة سليم بن عامر، وقال ابن أبي حاتم في "المراسيل": روى عن عوف بن مالك مرسلاً ولم يلقه. اهـ وذكره العلائي في "جامع التحصيل" مقرًا له، ثم رأيت ما يؤيد ما خافه ابن خزيمة رحمه الله، قال يعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص337): حدثنا الوحاظي[125] قال: حدثنا جابر بن غانم[126] عن سليم بن عامر عن معد يكرب بن عبدكلال عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((أتاني جبريل، وإنّ ربّي خيّرني بين خصلتين: أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة لأمّتي فاخترت الشّفاعة)).
وقال ابن أبي حاتم في "العلل" (ج2 ص213) عن أبيه: لم يسمعْ سليم ابن عامر من عوف بن مالك شيئًا بينه وبين عوف نفسان، فذكره.
- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(267): حدثنا أبوبشر الواسطي[127] قال: ثنا خالد -يعني ابن عبدالله- عن خالد يعني الحذّاء عن أبي قلابة عن عوف ابن مالك قال: كنّا مع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في بعض مغازيه، فانتهينا ذات ليلة فلم نر رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في مكانه وإذا أصحابنا كأنّ على رؤوسهم الصّخر، وإذا الإبل قد وضعت جرانها -يعني أذقانها- فإذا أنا بخيال فإذا هو أبوموسى الأشعري فتصدى لي وتصديت له، قال خالد: فحدّثني حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى عن عوف بن مالك قال: سمعت خلف أبي موسى هزيزًا كهزيز الرّحل، فقلت: أين رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ قال: ورائي قد أقبل، فإذا أنا برسول الله، فقلت: يا رسول الله إنّ النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إذا كان بأرض العدوّ كان عليه جالسًا[128]. فقال النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّه أتاني آت من ربّي آنفًا فخيّرني بين أن يدخل نصف أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة فاخترت الشّفاعة)).
الحديث أخرجه عبدالرزاق (ج11 ص413) من طريق قتادة وأبي قلابة كلاهما عن عوف بن مالك، وابن حبان كما في "الموارد" ص(644)، والحاكم (ج1 ص67) وقال: هذا صحيح من حديث أبي قلابة على شرط الشيخين.
قال أبوعبدالرحمن: ينظر أسمع قتادة وأبوقلابة من عوف بن مالك فإنهما مدلّسان، وأبوقلابة يدلس عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم كما في "الميزان"، لكن الحديث من طريق خالد عن حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى عن عوف بن مالك به صحيح.
- قال الحاكم رحمه الله (ج1 ص67): وقد روي هذا الحديث عن أبي موسى الأشعري عن عوف بن مالك بإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه: حدثنا أبوعلي الحسين بن علي الحافظ أنبأ الحسين بن عبدالله بن يزيد القطان الرّقي بالرّقة، ثنا محمد بن عبدالرحمن بن حماد أبوبكر الواسطي ثنا خالد بن عبدالله بن خالد الواسطي عن حميد بن هلال عن أبي بردة عن أبي موسى عن عوف بن مالك أنّهم كانوا مع النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في بعض مغازيه، قال عوف: فسمعت خلفي هزيزًا كهزيز الرّحا، فإذا أنا بالنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فقلت: إنّ النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إذا كان في أرض العدوّ كان عليه الحرّاس. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أتاني آت من ربّي يخيّرني بين أن يدخل شطر أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة، فاخترت الشّفاعة)) فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله قد عرفت قوائي فاجعلْني منهم. قال: ((أنت منهم)) قال عوف بن مالك: يا رسول الله قد عرفْت أنّا تركنا قومنا وأموالنا راغبًا[129] لله ورسوله فاجعلنا منهم. قال: ((أنت منهم)) فانتهينا إلى القوم وقد ثاروا، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((اقعدوا)) فقعدوا كأنّهم لم يقم أحد منهم، قال: ((أتاني آت من ربّي فخيّرني بين أن يدخل شطر أمّتي الجنّة وبين الشّفاعة فاخترت الشّفاعة)) فقالوا: يا رسول الله اجعلْنا منهم. فقال: ((هي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا)).
سكت الذهبي عن قول الحاكم: أنّه على شرط الشيخين. وفي السند من ينظر في حاله، وهو بسند ابن خزيمة المتقدم صحيح.
47- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص232): ثنا أسود بن عامر أخبرني أبوبكر بن عياش عن عاصم عن أبي بردة عن أبي مليح الهذلي عن معاذ بن جبل وعن أبي موسى قالا: كان رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: إذا نزل منْزلاً كان الّذي يليه المهاجرون، قال فنزلنا منْزلاً فقام[130] النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ونحن حوله، قال: فتعاررْت من اللّيل أنا ومعاذ، فنظرنا[131]، قال: فخرجنا نطلبه إذ سمعنا هزيزًا كهزيز الأرحاء إذ أقبل، فلمّا أقبل نظر قال: ((ما شأنكم؟)) قالوا: انتبهنا فلم نرك حيث كنت، خشينا أن يكون أصابك شيء جئنا نطلبك. قال: ((أتاني آت في منامي فخيّرني بين أن يدخل الجنّة نصف أمّتي أو شفاعةً، فاخترت لهم الشّفاعة)) فقلنا: فإنّا نسألك بحقّ الإسلام وبحقّ الصّحبة لما أدخلتنا الجنّة. قال: فاجتمع عليه النّاس فقالوا له مثل مقالتنا، وكثر النّاس، فقال: ((إنّي أجعل شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا)).
حدثنا روح حدثنا حماد يعني ابن سلمة ثنا عاصم بن بهدلة عن أبي بردة عن أبي موسى[132] أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم كان يحرسه أصحابه.
الحديث قال الهيثمي (ج10 ص368): رواه أحمد والطبراني بنحوه، وفي رواية لأحمد... ورجالها رجال الصحيح غير عاصم بن أبي النجود وقد وثّق وفيه ضعف، ولكنّ أبا المليح وأبا بردة لم يدركا معاذ بن جبل. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: الحديث من حديث معاذ، ومن حديث أبي موسى، فحديث معاذ منقطع وحديث أبي موسى متصل.
48- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص413): ثنا حسن بن موسى ثنا عبدالله بن لهيعة ثنا أبوقبيل[133] عن عبدالله[134] بن ناشر من بني سريع قال: سمعت أبا رهم[135] قاصّ أهل الشام يقول: سمعت أبا أيوب الأنصاري يقول: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خرج ذات يوم إليهم فقال لهم: ((إنّ ربّكم عزّ وجلّ خيّرني بين سبعين ألفًا يدخلون الجنّة عفوًا بغير حساب، وبين الخبيئة عنده لأمّتي)) فقال له بعض أصحابه: يا رسول الله أيخبّئ ذلك ربّك عزّ وجلّ؟ فدخل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ثمّ خرج وهو يكبّر فقال: ((إنّ ربّي عزّ وجلّ زادني مع كلّ ألف سبعين ألفًا والخبيئة عنده)).
قال أبورهم: يا أبا أيّوب وما تظنّ خبيئة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فأكله النّاس بأفواههم فقالوا: وما أنت وخبيئة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فقال أبوأيّوب: دعوا الرّجل عنكم، أخبرْكم عن خبيئة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كما أظنّ بل كالمستيقن إنّ خبيئة رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أن يقول: ((ربّ من شهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدًا عبده ورسوله مصدّقًا لسانه قلبه أدخله الجنّة)).
الحديث أخرجه أبونعيم في الحلية (ج1 ص362)، وقال الهيثمي (ج1 ص375): رواه أحمد والطبراني وفيه عباد بن ناشزة[136] من بني سريع ولم أعرفه، وابن لهيعة ضعفه الجمهور.
قال أبوعبدالرحمن: عبدالله بن ناشر قد روى عنه أبوقبيل كما هنا ويحيى ابن أبي عمرو السّيباني[137] فهو مستور الحال يصلح في الشواهد والمتابعات، وكذا ابن لهيعة يصلح في الشواهد والمتابعات.
49- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص222): ثنا قتيبة بن سعيد ثنا بكر ابن مضر عن ابن الهاد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم عام غزوة تبوك قام من اللّيل يصلّي فاجتمع وراءه رجال من أصحابه يحرسونه حتّى إذا صلّى وانصرف إليهم فقال لهم: ((لقد أعطيت اللّيلة خمسًا ما أعطيهنّ أحد قبلي أمّا أنا فأرسلت إلى النّاس كلّهم عامّةً، وكان من قبلي إنّما يرسل إلى قومه، ونصرت على العدوّ بالرّعب ولو كان بيني وبينه مسيرة شهر لملئ منه رعبًا، وأحلّت لي الغنائم آكلها، وكان من قبلي يعظّمون أكلها كانوا يحرقونها، وجعلت لي الأرض مساجد وطهورًا أينما أدركتني الصّلاة تمسّحت وصلّيت، وكان من قبلي يعظّمون ذلك إنّما كانوا يصلّون في كنائسهم وبيعهم، والخامسة هي ما هي، قيل: لي سلْ فإنّ كلّ نبيّ قد سأل. فأخّرت مسألتي إلى يوم القيامة، فهي لكم ولمن شهد أن لا إله إلاّ الله)).
الحديث قال البيهقي (ج1 ص367): رواه أحمد ورجاله ثقات. وقال المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج4 ص433): رواه أحمد بإسناد صحيح. وقال الحافظ ابن كثير في "التفسير" (ج2 ص255): إسناد جيد قوي ولم يخرجوه.
قال أبوعبدالرحمن: هذا الحديث بهذا السند صحيح لغيره، فإن عمرو بن شعيب إذا صح السند إليه فحديثه حسن كما أفاده الحافظ الذهبي في "الميزان".
50- قال ابن حبّان رحمه الله كما في "موارد الظمآن" ص(523): أنبأنا أبويعلى حدثنا هارون بن عبدالله الحمال حدثنا ابن أبي فديك عن عبيدالله ابن عبدالرحمن بن موهب عن عباس بن عبدالرحمن بن ميناء الأشجعي عن عوف بن مالك عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أعطيت أربعًا لم يعطهنّ أحد كان قبلنا، وسألت ربّي الخامسة فأعطانيها: كان النّبيّ يبعث إلى قومه ولا يعدوها وبعثت إلى النّاس، وأهيب منّا عدوّنا مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض طهورًا ومساجد، وأحلّ لنا الخمس ولم يحلّ لأحد كان قبلنا، وسألت ربّي الخامسة سألته ألاّ يلقاه عبد من أمّتي يوحّده إلاّ أدخله الجنّة فأعطانيها)).
الحديث في سنده عبيدالله بن عبدالرحمن بن موهب، قال الحافظ في "التقريب": ليس بالقوي. وفيه أيضًا عباس بن عبدالرحمن بن ميناء وقد قال الحافظ في "التقريب": مقبول. يعني إذا توبع وإلاّ فليّن، وما أرى عباسًا سمع من عوف بن مالك، فالحديث منقطع.
51- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص145): ثنا يعقوب[138] ثنا أبي عن ابن إسحاق حدثني سليمان الأعمش عن مجاهد بن جبر أبي الحجاج عن عبيد بن عمير الليثي عن أبي ذرّ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوتيت خمسًا لم يؤتهنّ نبيّ كان قبلي: نصرت بالرّعب فيرعب منّي العدوّ عن مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد كان قبلي، وبعثت إلى الأحمر والأسود، وقيل لي: سل تعطه. فاختبأتها شفاعةً لأمّتي وهي نائلة منكم إن شاء الله من لقي الله عزّ وجلّ لا يشرك به شيئًا)). قال الأعمش: فكان مجاهد يرى أنّ الأحمر الإنس، والأسود الجنّ.
الحديث أعاده أحمد ص(148)، وأخرجه أبوداود الطيالسي من طريق شعبة عن واصل عن مجاهد عن أبي ذر به، ومن طريق جرير[139] عن الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر به.
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" (ج5 ص455) من طريق أبي عوانة عن سليمان وهو الأعمش عن مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر رضي الله عنه به، ومن طريق شعبة عن واصل الأحدب عن مجاهد عن أبي ذرّ به.
وأخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج3 ص277)، وقال: متن هذا الحديث في خصائص النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ثابت مشهور متفق عليه من حديث يزيد الفقير عن جابر بن عبدالله وغيره، وحديث عبيد بن عمير عن أبي ذر مختلف في سنده، فمنهم من يرويه عن الأعمش عن مجاهد عن أبي ذر، وتفرد جرير بإدخال عبيد بين مجاهد وأبي ذر عن الأعمش.
وأخرجه أبونعيم (ج5 ص117) عن مجاهد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم .. وسقطت منه جملة: ((وأعطيت الشّفاعة)).
فالحاصل أن الحديث قد جاء على ثلاثة أوجه: متصلاً ومنقطعًا ومرسلاً، وأرجحها الوصل إذ قد وصله ابن إسحاق وجرير وأبوعوانة وزهير بن معاوية[140]، ولم يخالفهم من هو أرجح منهم، فالوصل زيادة يجب قبولها، وقول أبي نعيم رحمه الله: إنه تفرد جرير بإدخال عبيد بين مجاهد وأبي ذر. ليس بصحيح، فقد تابعه ابن إسحاق وأبوعوانة وزهير بن معاوية كما رأيت.
52- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص250): ثنا علي بن عاصم عن يزيد ابن أبي زياد عن مقسم ومجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد قبلي، ولا أقوله فخرًا: بعثت إلى كلّ أحمر وأسود فليس من أحمر ولا أسود يدخل في أمّتي إلاّ كان منهم، وجعلت لي الأرض مسجدًا)) بقيّة الخمس كما في المسند (ج1 ص301): ((ونصرت بالرّعب مسيرة شهر وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لأحد قبلي، وأعطيت الشّفاعة فأخّرتها لأمّتي، فهي لمن لا يشرك بالله شيئًا)).
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج2 ص255): إسناد جيد ولم يخرجوه.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده يزيد بن أبي زياد وهو القرشي الهاشمي مولاهم وهو ضعيف، والظاهر أن الإمام البخاري أشار في "تاريخه" (ج5 ص455) إلى أن لهذا الحديث علة حيث ذكر أن من الرواة من يرويه عن مجاهد عن عبيد بن عمير، ومنهم من يرويه عن مجاهد عن أبي ذر، ومنهم من يرويه عن مجاهد عن ابن عباس، وقد تقدم أن أرجحها مجاهد عن عبيد بن عمير عن أبي ذر، وهذه الرواية تعتبر منكرة لتفرد يزيد بن أبي زياد بذلك ومخالفته الثقات، والله أعلم.
53- قال البّزار رحمه الله كما في "كشف الأستار" (ج1 ص157): حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن سلمة بن كهيل[141] ثنا أبي عن أبيه عن سلمة بن كهيل عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت خمسًا لم يعطهنّ نبيّ قبلي، بعثت إلى النّاس كافةً الأحمر والأسود، ونصرت بالرّعب يرعب منّي عدوّي على مسيرة شهر، وأطعمت المغنم، وجعلتْ لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشّفاعة فأخّرتها لأمّتي يوم القيامة)).
قال البزار: لا نعلمه يروى عن ابن عمر إلا بهذا الإسناد.
وقد رواه يزيد بن أبي زياد عن مجاهد ومقسم عن ابن عباس.
قال الهيثمي (ج1 ص261): رواه البزار والطبراني، وفيه إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى بن كهيل وهو ضعيف، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: في روايته عن أبيه بعض المناكير.
54- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص416): ثنا حسين بن محمد[142] ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت خمسًا: بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وأحلّت لي الغنائم ولم تحلّ لمن كان قبلي، ونصرت بالرّعب شهرًا، وأعطيت الشّفاعة وليس من نبيّ إلاّ وقد سأل شفاعةً وإنّي أخبأت شفاعتي ثمّ جعلتها لمن مات من أمّتي لم يشرك بالله شيئًا)).
الحديث قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص411): تفرد به أحمد، وقال (ج2 ص255): وهذا إسناد صحيح ولم أرهم خرجوه.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث على شرط الشيخين.
55- قال الطبراني في "الأوسط" (ج8 رقم7435): حدثنا محمد بن أبان[143] قال: حدثنا إبراهيم بن سويد الجذوعي قال: حدثنا أبوعامر[144] بن مدرك قال: حدثنا فضيل بن مرزوق عن عطية عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت خمسًا لم يعطها نبيّ قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، وإنّما كان النبيّ يبعث إلى قومه، ونصرت بالرّعب مسيرة شهر، وأطعمت المغنم ولم يطعمْها[145] أحد كان قبلي، وجعلت لي الأرض طهورًا ومسجدًا، وليس من نبيّ إلاّ وقد أعطي دعوةً فتعجّلها، وإنّي أخّرت دعوتي شفاعةً لأمّتي، وهي بالغة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئًا)).
لم يرو هذا الحديث عن فضيل إلا عامر بن مدرك. اهـ
قال الهيثمي في "المجمع": رواه الطبراني في "الأوسط" وإسناده حسن. اهـ
عامر بن مدرك بن أبي الصفيراء ليّن الحديث، وعطية العوفي ضعيف ومدلس ولم يصرح بأن شيخه أبا سعيد هو الخدري، فالحديث ضعيف.
56- قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص45): حدثنا العباس العنبري أخبرنا عبدالرزاق عن معمر عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
وفي الباب عن جابر،وهذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
الحديث رواه ابن خزيمة ص(270)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(645)، والحاكم (ج1 ص69) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا اللفظ، إنما أخرجا حديث قتادة عن أنس بطوله، ومن توهم أن هذه لفظة من الحديث فقد وهم، فإنّ هذه الشّفاعة فيها قمع المبتدعة المفرقة بين الشّفاعة لأهل الصغائر والكبائر. اهـ
وقال العجلوني في "كشف الخفاء": إن البيهقي قال: إن سنده صحيح. اهـ
وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص487): إسناده صحيح على شرط الشيخين. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: الحديث من رواية معمر عن ثابت، وفي "تهذيب التهذيب" عن ابن معين: معمر عن ثابت ضعيف، وفيه أيضًا قال يحيى: وحديث معمر عن ثابت وعاصم بن أبي النجود وهشام بن عروة وهذا الضّرب كثير الأوهام.
وقال الحافظ في ترجمة (معمر) من "مقدمة الفتح" ص(444): قلت: أخرج البخاري من روايته عن الزهري وابن طاوس، إلى أن قال: ولم يخرج من روايته عن قتادة ولا ثابت البناني إلا تعليقًا، ولا من روايته عن الأعمش شيئًا، ولم يخرج له من رواية أهل البصرة شيئًا إلا ما توبعوا عليه واحتج به الأئمة كلهم. اهـ
فعلى هذا فالحديث بهذا السند ضعيف، وليس على شرط الشيخين كما قال الحاكم وابن كثير.
ثم وجدت متابعًا لمعمر عن ثابت، قال ابن خزيمة رحمه الله ص(271): حدثنا محمد بن رافع قال: ثنا سليمان بن داود الطيالسي عن الحكم بن خزرج. وثنا علي بن مسلم قال: ثنا أبوداود قال: ثنا الحكم بن خزرج قال: ثنا ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شّفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث أخرجه الخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص56) ورجاله بهذا السند رجال الصحيح إلا الحكم بن خزرج وقد وثقه ابن معين كما في "الجرح والتعديل" (ج3 ص116).
ومتابعين آخرين أحدهما: الخزرج بن عثمان عند البزار كما في "النهاية" لابن كثير (ج2 ص186)، وقال الهيثمي (ج10 ص378): رواه البزار والطبراني في "الصغير" و"الأوسط"، وفيه الخزرج بن عثمان وقد وثقه ابن حبان، وضعفه غير واحد. اهـ
قلت: وفي "الميزان": قال الدارقطني: يترك.
والثاني: محمد بن عبيدالله العصري كما في "تاريخ البخاري" (ج1 ص170)، وقد ذكره البخاري ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً[146].
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص213): ثنا سليمان بن حرب ثنا بسطام بن حريث عن أشعث الحدّاني[147] عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث أخرجه أبوداود (ج5 ص106)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج2 ص126)، وابن خزيمة ص(271)، والآجري في "الشريعة" ص(338) وعنده سقط بين سليمان بن حرب وأشعث: بسطام بن حريث، والحاكم (ج1 ص69).
والحديث حسن بهذا الإسناد.
- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(271): حدثنا محمد بن يحيى قال: ثنا الخليل بن عمر.
وثنا يحيى بن السكن[148] قال : ثنا الخليل بن عمر قال: قال عمر الأبح[149] وهو عمر بن سعيد عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((الشّفاعة لأهل الكبائر من أمّتي)) قال محمد بن يحيى[150]: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص69)، وهو ضعيف بهذا الإسناد لأن عمر بن سعيد قال فيه أبوحاتم: ليس بقوي. كما في "الجرح والتعديل". وقال البخاري: منكر الحديث. كما في "الميزان".
- قال الإمام أبوبكر محمد بن الحسين الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص(338): حدثنا أبوجعفر محمد بن صالح بن ذريح العكبري قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا حفص بن غياث عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّما الشّفاعة لأهل الكبائر)).
وقال ص(339): أخبرنا أبوزكريا يحيى بن محمد الجبائي[151] قال: حدثنا شيبان بن فروخ قال: حدثنا أبوأمية الحبطي عن يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث في سنده يزيد وهو ابن أبان الرقاشي وقد تركه شعبة، وقال النسائي: إنه متروك، وقال أحمد: إنه منكر الحديث، وقال ابن معين في حديثه ضعف. اهـ مختصرًا من "الميزان".
وفيه أيضًا في السند الثاني أبوأمية الحبطي وهو أيوب بن خوط قال البخاري: تركه ابن المبارك وغيره، وروى عباس عن يحيى: لا يكتب حديثه، وقال النسائي والدارقطني وجماعة: متروك، وقال الأزدي: كذّاب. اهـ مختصرًا من الميزان.
هذا وقد جاء الحديث من طريقين آخرين إلى أنس: أحدهما: من حديث عاصم الأحول عنه كما في "المعجم الصغير" للطبراني (ج1 ص160) والسند إليه صالح، إلا شيخ الطبراني خير بن عرفة فينظر في حاله.
والثاني: عن يزيد الرّشْك عنه عند الطبراني في "الصغير" أيضًا (ج2 ص119)، وفيها روح بن المسيب، قال ابن عدي: أحاديثه غير محفوظة. وقال ابن معين: صويلح. وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الثقات، لا تحل الرواية عنه. اهـ من "الميزان". وشيخ الطبراني مورع بن عبدالله، وشيخه الحسن بن عيسي ينظر في حالهما.
57- قال الحكيم الترمذي[152] في "نوادر الأصول" كما في "الحاوي للفتاوي" للسيوطي: حدثنا صالح بن أحمد بن أبي محمد حدثنا يعلى بن هلال عن ليث عن مجاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إنّما الشّفاعة يوم القيامة لمن عمل الكبائر من أمّتي ثمّ ماتوا عليها وهم في البّاب الأوّل من جهنّم، لا تسودّ وجوههم)) الحديث.
هذا حديث باطل لأن في آخره توقيت عمر الدنيا[153]، وفي السند ليث ابن أبي سليم وهو مختلط، ومؤلف "النوادر" هو محمد بن علي، حافظ، كما في "تذكرة الحفاظ" للذهبي، وقد حمل عليه ابن العديم، وقال: إنه لم يكن من أهل الحديث، ولا رواية له، ولا علم له بطرقه وصناعته -إلى أن قال:- وملأ كتبه الفظيعة بالأحاديث الموضوعة، إلى آخر كلامه رحمه الله. وفي "أسنى المطالب" ص(269): وكذلك كتب الترمذي الحكيم فيها من جملة الموضوع، فلا يعتمد على ما انفرد به، قال ابن أبي جمرة وابن القيّم: إن الترمذي الحكيم شحن كتبه من الموضوع. هذا وأما شيخ الترمذي وشيخ شيخه فلم أجد ترجمتهما.
58- قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص45): حدثنا محمد بن بشار أخبرنا أبوداود الطيالسي عن محمد بن ثابت البناني عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)) قال محمد بن علي: فقال لي جابر: يا محمد من لم يكن من أهل الكبائر فما له وللشّفاعة.
هذا حديث غريب من هذا الوجه.
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(271)، وأبوداود الطيالسي (ج2 ص228) من "ترتيب المسند"، والآجري في "الشريعة" ص(338)، والحاكم (ج1 ص69)، وأبونعيم في "الحلية" (ج3 ص201) وقال: هذا حديث غريب من حديث جعفر ومحمد بن ثابت لم يروه عنه إلا أبوداود، رواه عن أبي داود عمرو بن علي والمتقدمون من طبقته.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده محمد بن ثابت البناني، وقد قال البخاري: فيه نظر. وقال ابن معين: ليس بشيء. وقال النسائي: ضعيف. اهـ من الميزان.
- قال ابن خزيمة رحمه الله تعالى ص(271): حدثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: ثنا عمرو بن أبي سلمة عن زهير وهو ابن محمد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج2 ص1441): قال حدثني عبدالرحمن بن إبراهيم الدمشقي ثنا الوليد بن مسلم ثنا زهير بن محمد به.
وأخرجه الحاكم (ج1 ص69) وقال: وله شاهد على شرط مسلم ثم ذكر الحديث، وقال: قد احتجا جميعًا بزهير بن محمد العنبري.
أخرجه أيضًا (ج2 ص382) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. وأشار الذهبي إلى أنّه على شرط مسلم، وهو كما قال الذهبي فإن جعفر بن محمد ليس من رجال البخاري، وقد قال الحاكم (ج1 ص69) إنه على شرط مسلم.
والحديث في سنده زهير بن محمد، والراوي له عند ابن خزيمة والحاكم (ج1 ص69) عمرو بن أبي سلمة، وقد قال الإمام أحمد: إن روايته عن زهير بواطيل. كما في "مقدمة الفتح" ص(43). والراوي له عن زهير عند ابن ماجة والحاكم (ج2 ص382) الوليد بن مسلم، والوليد شامي، ورواية الشاميين عن زهير ضعيفة كما في "تهذيب التهذيب"، فالحديث ضعيف بهذا السند، لكنه يصلح في الشواهد والمتابعات.
59- قال البزار رحمه الله كما في "تفسير ابن كثير" (ج1 ص511): حدثنا محمد بن عبدالرحمن[154] ثنا شيبان بن أبي شيبة حدثنا حرب بن سريج عن أيوب عن نافع عن ابن عمر قال : كنّا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا نبينا محمدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقرأ {إنّ الله لا يغفر أنْ يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} وقال: ((أخّرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي يوم القيامة)).
قال الهيثمي (ج7 ص5): رواه أبويعلى ورجاله رجال الصحيح غير حرب بن سريج وهو ثقة. اهـ. كذا أطلق الهيثمي رحمه الله توثيق حرب، وفي "الميزان": وثّقه ابن معين وليّنه غيره، قال ابن حبان: يخطئ كثيرًا حتّى خرج عن حدّ الاحتجاج به إذا انفرد. وقال البخاري: روى عنه ابن المبارك، فيه نظر. ثم ذكر له الذهبي هذا الحديث.
- قال الخطيب رحمه الله في "التاريخ" (ج8 ص11): قرأت في كتاب علي بن محمد النعيمي بخطه: حدثني القاضي أبوعبدالله الحسين بن أحمد بن سلمة الأسدي المالكي ببغداد حدثنا أبوالحسين أحمد بن عبدالله بن محمد الزيني البصري -بجيلان من كورة اسفيجاب- حدثنا الصديق بن سعيد الصوناخي -بصوناخ من كورة اسفيجاب- حدثنا محمد بن نصر المروزي المقيم بسمرقند عن يحيى بن يحيى عن مالك عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي يوم القيامة لأهل الكبائر من أمّتي)).
في "فيض القدير": قال الترمذي في "العلل": سألت محمدًا -يعني البخاري- عن هذا الحديث فلم يعرفه. وفي "الميزان": رواه عن صديق من يجهل حاله أحمد بن عبدالله الزيني فما أدري من وضعه. وأعاده في محل آخر وقال: هذا خبر منكر. اهـ
60- قال الإمام محمد بن الحسين الآجري رحمه الله ص(338): وحدثنا أبوالعباس حامد بن شعيب البلخي[155] قال: حدثنا محمد بن بكار[156] قال: حدثنا عنبسة بن عبدالواحد القرشي[157] عن واصل[158] عن أبي عبدالرحمن[159] عن الشعبي عن كعب بن عجرة قال: قلت: يا رسول الله الشّفاعة؟ فقال: ((الشفاعة لأهل الكبائر من أمّتي)).
الحديث رواه الخطيب (ج3 ص40) وقال: قال علي بن عمر: هذا حديث غريب من حديث الشعبي عن كعب بن عجرة تفرد به أميّ بن ربيعة الصيرفي عنه، وتفرد به واصل بن حيان عن أمي، ولا يعلم حدث به عنه غير عنبسة بن عبدالواحد. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: رجال الإسناد معروفون، وقد اختلف في واصل أهو ابن حيان أم هو واصل مولى أبي عيينة، وكلاهما محتج به فلا يضر هذا الاختلاف، والله أعلم.
61- قال أبوالقاسم الطبراني رحمه الله في "المعجم الكبير" (ج11 ص189): حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح وعبدالرحمن بن معاوية العتبي قالا: ثنا أبوالطاهر بن السرح قال ثنا موسى بن عبدالرحمن الصنعاني حدثني ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال ذات يوم: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي)) قال ابن عباس: السابق بالخيرات يدخل الجنّة بغير حساب، والمقتصد يدخل الجنّة برحمة الله، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنّة بشفاعة محمّد.
الحديث في سنده موسى بن عبدالرحمن الصنعاني قال الحافظ الذهبي في "الميزان": معروف ليس بثقة، فإن ابن حبان قال فيه: دجّال وضع على ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس كتابًا في التفسير، ثم ذكر الذهبي أنّ ابن عدي ذكر في ترجمته ثلاثة أحاديث، هذا أحدها، ثم قال: قال ابن عدي: هذه بواطيل.
62- قال الخطيب رحمه الله في "التاريخ" (ج1 ص416): أخبرنا الأزهري والقاضي أبوالعلاء محمد بن علي قالا: أنبأنا أبوالفتح محمد بن إبراهيم بن محمد بن يزيد الطرسوسي قال: نبأنا الحسن بن عبدالرحمن بن زريق بحمص قال: نبأنا محمد بن سنان الشيرازي قال: نبأنا إبراهيم بن حيان بن طلحة قال : نبأنا شعبة عن الحكم عن عبدالرحمن بن أبي ليلي عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأهل الذنوب من أمّتي)) قال أبوالدرداء: وإن زنى وإن سرق؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((نعم وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي الدرداء)).
قال لي الأزهري: سمعت من أبي الفتح في سنة ست وسبعين وثلاثمائة سألت الأزهري عنه، فقال: ثقة. اهـ
الحديث في سنده محمد بن إبراهيم الطرسوسي قال الحاكم: كثير الوهم. ومحمد بن سنان الشيرازي، قال الذهبي في "الذيل": صاحب مناكير. اهـ "فيض القدير".
63- قال الخطيب رحمه الله في "التاريخ" (ج2 ص146): أخبرنا أبومعاذ عبدالغالب بن جعفر الضراب قال: نبأنا محمد بن إسماعيل الوراق قال: حدثني محمد بن جعفر بن محمد بن الحسن بن جعفر العلوي قال: أنبأنا سليمان بن علي الكاتب قال: حدثني القاسم بن جعفر بن محمد بن عبدالله ابن عمر بن علي بن أبي طالب قال: حدثني أبي عن أبيه عن جده محمد بن عمر عن أبيه عمر بن علي عن أبيه علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((شفاعتي لأمّتي من أحبّ أهل بيتي وهم شيعتي)).
الحديث في سنده القاسم بن جعفر، قال الذهبي في "الميزان": روى عن آبائه نسخة أكثرها مناكير، قاله الخطيب. اهـ
64- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(272): حدثنا بمسألة النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم للذي ذكرت علي بن سعيد النسائي قال: ثنا أبواليمان قال: ثنا شعيب وهو ابن أبي حمزة عن الزهري قال: ثنا أنس بن مالك عن أم حبيبة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلم أنّه قال: ((أريت ما تلقى أمّتي بعدي، وسفك بعضهم دماء بعض، وسبق ذلك من الله كما سبق على الأمم قبلهم، فسألته أن يوليني شفاعةً يوم القيامة فيهم، ففعل)).
قال أبوبكر: قد اختلف عن أبي اليمان في هذا الإسناد فروى بعضهم هذا الخبر عن أبي اليمان عن شعيب عن عبدالله بن عبدالرحمن بن أبي حسين، وقال بعضهم: عن الزهري.
الحديث أخرجه الحاكم (ج1 ص68) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والعلّة عندهما فيه أن أبا اليمان حدّث مرتين، فقال مرّةً: عن شعيب عن الزهري عن أنس، وقال مرّةً: عن شعيب عن ابن أبي حسين عن أنس، وقد قدمنا القول في مثل هذا أنه لا ينكر أن يكون الحديث عند إمام من الأئمة عن شيخين فمرة يحدث به عن هذا ومرة عن ذاك، وقد حدثني أبوالحسن علي بن محمد بن عمر[160] ثنا يحيى ابن محمد بن صاعد ثنا إبراهيم بن هانئ النيسابوري قال: قال لنا أبواليمان الحديث حديث الزهري، والذي حدثتكم عن ابن أبي الحسين غلطت فيه بورقة قلبْتها. قال الحاكم: هذا كالأخذ باليد فإن إبراهيم بن هانئ ثقة مأمون. اهـ وسكت عنه الذهبي.
وأخرجه الإمام أحمد (ج6 ص427-428) من حديث أبي اليمان أنا شعيب بن أبي حمزة عن ابن أبي حسين، وقال: أنا أنس بن مالك عن أم حبيبة، الحديث.
قال عبدالله -وهو ابن أحمد راوي "المسند" عن أبيه- فقلت لأبي ههنا قوم يحدثون به عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري، قال: ليس هذا من حديث الزهري إنما هو من حديث ابن أبي حسين.
قال أبوعبدالرحمن: الظاهر ترجيح طريق الزهري عن أنس لأن أبا اليمان اعترف أنه غلط كما رواه الحاكم عنه، وقد ساقه الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص209) من رواية البيهقي من طريق الزهري عن أنس ثم قال: قال البيهقي: هذا إسناد صحيح. وقال الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج4 ص432): رواه البيهقي في "البعث" وصحّح إسناده.
قال أبوعبدالرحمن: ثم تراجعت عن ترجيح طريق الزهري لما اطلعت على كلام الذهبي في "السير" (ج10 ص323) حيث قال: تعين أن الحديث وهم فيه أبواليمان، وصمّم على الوهم لأن الكبار حكموا بأن الحديث ما هو عند الزهري، والله أعلم.
65- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص347): ثنا الأسود بن عامر أنا أبوإسرائيل عن حارث بن حصيرة عن ابن بريدة عن أبيه قال: دخل عليّ معاوية فإذا رجل يتكلّم، فقال بريدة: يا معاوية فائذن لي في الكلام. فقال: نعم. وهو يرى أنّه سيتكلم بمثل ما قال الآخر، فقال بريدة: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إنّي لأرجو أن أشفع يوم القيامة عدد ما على الأرض من شجرة ومدرة)) قال: أفترجوها أنت يا معاوية ولا يرجوها عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا كما في "النهاية" لابن كثير (ج2 ص192)، وقال الهيثمي (ج10 ص378): رواه أحمد ورجاله وثّقوا على ضعف كثير في أبي إسرائيل الملائي. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: أبوإسرائيل قال الحافظ الذهبي في "الميزان": ضعفوه، وقد كان شيعيًا بغيضًا من الغلاة الذين يكفرون عثمان رضي الله عنه. اهـ المراد من "الميزان".
وشيخه الحارث بن حصيرة قال الذهبي في "الميزان": قال أبوأحمد الزبيري: كان يؤمن بالرجعة[161]. وقال يحيى بن معين: ثقة خشبي، ينسب إلى خشبة زيد بن علي لما صلب عليها. وقال النسائي: ثقة وهو من المنحرفين بالكوفة في التشيع. وقال زنيج[162]: سألت جريرًا: أرأيت الحارث بن حصيرة؟ قال: نعم، رأيته شيخًا كبيرًا طويل السكوت يصرّ على أمر عظيم[163]. اهـ المراد من "الميزان". فبما أن هذين الراويين غاليان في التشيع والحديث موافق لمذهبهما فالحديث ضعيف.
66- قال الإمام أبوداود رحمه الله (ج3 ص217): حدثنا أحمد بن صالح حدثنا ابن أبي فديك حدثني موسى بن يعقوب عن ابن عثمان -قال أبوداود: وهو يحيى بن الحسن بن عثمان- عن الأشعث بن إسحاق بن سعد عن عامر بن سعد عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من مكّة نريد المدينة، فلمّا كنّا قريبًا من عزور[164] نزل ثمّ رفع يديه فدعا الله ساعةً، ثمّ خرّ ساجدًا فمكث طويلاً ثمّ قام فرفع يديه فدعا الله ساعةً، ثمّ خرّ ساجدًا فمكث طويلاً، ثمّ قام فرفع يديه ساعةً ثمّ خرّ ساجدًا -ذكره أحمد ثلاثًا- قال: ((إنّي سألت ربّي وشفعت لأمّتي فأعطاني ثلث أمّتي، فخررت ساجدًا شكرًا لربّي، ثمّ رفعت رأسي فسألت ربّي لأمّتي فأعطاني ثلث أمّتي، فخررت ساجدًا لربّي شكرًا ثمّ رفعت رأسي فسألت ربّي لأمّتي، فأعطاني الثّلث الآخر فخررت ساجدًا لربّي)).
قال أبوداود: أشعث بن إسحاق أسقطه أحمد بن صالح حين حدثنا به، فحدثني به عنه موسى بن سهل الرملي.
قال الحافظ المنذري في "مختصر السنن" (ج4 ص86): في إسناده موسى ابن يعقوب الزمعي وفيه مقال.
وأقول: الحديث في سنده يحيى بن الحسن بن عثمان الزهري، قال الخزرجي في الخلاصة: عن أشعث بن إسحاق، وعنه موسى بن يعقوب الزمعي وثّقه ابن حبان. اهـ وابن حبان يوثّق المجهولين، ومن ثمّ يقول الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال": لا يكاد يعرف حاله. ويقول في "الكاشف": وثّق. ولعله يعني توثيق ابن حبان.
67- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(279): حدثنا محمد بن أحمد بن زيد بعبّادان قال: ثنا عمرو بن عاصم قال: ثنا حرب بن سريج البزار قال: قلت لأبي جعفر محمد بن على بن الحسين: جعلت فداك أرأيت هذه الشّفاعة التي يتحدث بها أهل العراق أحقّ هي؟ قال: شفاعة ماذا؟ قال: شفاعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم. قال: حقّ والله، إي والله لحدثني عمّي محمّد ابن علي ابن الحنفية عن علي بن أبي طالب أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أشفع لأمّتي حتّى يناديني ربّي، فيقول: أرضيت يا محمّد)) ثمّ أقبل عليّ فقال: إنّكم تقولون معشر أهل العراق: أرجى آية في كتاب الله سبحانه وتعالى عزّ وجلّ: {قل يا عبادي الّذين أسرفوا على أنفسهم -قرأ إلى قوله- جميعًا} قلت: إنّا لنقول ذلك. قال: ولكنّا أهل البيت نقول: إنّ أرجى آية في كتاب الله تعالى: {ولسوف يعطيك ربّك فترضى}.
الحديث أخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج3 ص179) وقال: هذا حديث لم نكتبه إلا من حديث حرب بن سريج[165]، ولا رواه عنه إلا عمرو بن عاصم وهو بصري ثقة.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده حرب بن سريج، قال الحافظ الذهبي في "الميزان": وثقه ابن معين وليّنه غيره، وقال ابن حبان: يخطئ كثيرًا حتى خرج عن حدّ الاحتجاج إذا انفرد. وقال البخاري: روى عنه ابن المبارك وفيه نظر. -إلى أن قال:- قال ابن عدي: في حديثه غرائب وإفرادات وأرجو أنه لا بأس به. اهـ
وقول البخاري: (فيه نظر) من أردى عبارات التجريح كما في "فتح المغيث" (ج1 ص344)، فعلى هذا فالحديث ضعيف جدًا.
وأما شيخ ابن خزيمة فيبحث عنه إن شاء الله، وهو في "الحلية" محمد بن أحمد بن يزيد وفي "النهاية" لابن كثير (ج2 ص199) بسند البزار: محمد ابن يزيد المداري، فلعله سقط اسم أبيه أو نسب إلى جده، والله أعلم.
68- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص178): ثنا يونس بن محمد ثنا حرب بن ميمون أبوالخطاب الأنصاري عن النضر بن أنس عن أنس قال حدّثني نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّي لقائم أنتظر أمّتي تعبر على الصّراط إذ جاءني عيسى فقال: هذه الأنبياء قد جاءتك يا محمّد يشتكون -أو قال: يجتمعون- إليك ويدعون الله عزّ وجلّ أن يفرّق جمع الأمم إلى حيث يشاء الله لغمّ ما هم فيه، والخلق ملجمون في العرق وأمّا المؤمن فهو عليه كالزّكمة، وأمّا الكافر فيتغشّاه الموت، قال: قال: عيسى[166] انتظر حتّى أرجع إليك. قال: فذهب نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم حتّى قام تحت العرش، فلقي ما لم يلق ملك مصطفًى ولا نبيّ مرسل فأوحى الله عزّ وجلّ إلى جبريل: اذهب إلى محمّد، فقل: له ارفعْ رأسك سلْ تعط، واشفعْ تشفّع. قال: فشفّعت في أمّتي[167] أن أخرج من كلّ تسعة وتسعين إنسانًا واحدًا. قال: فما زلت أتردّد على ربّي عزّ وجلّ فلا أقوم مقامًا إلاّ شفّعت، حتّى أعطاني الله عزّ وجلّ من ذلك أن قال: يا محمّد أدخل من أمّتك من خلق الله عزّ وجلّ من شهد أنّه لا إله إلاّ الله يومًا واحدًا مخلصًا ومات على ذلك)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(254)، وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص191): وقد حكم الترمذي بالحسن لهذا الإسناد. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: هو حديث حسن لأنّ حرب بن ميمون صدوق كما في "التقريب"، وبقية رجاله رجال الصحيح.
69- قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2301): حدثنا هارون بن معروف ومحمد بن عباد -وتقاربا في لفظ الحديث والسياق لهارون- قالا: حدثنا حاتم بن إسماعيل عن يعقوب بن مجاهد أبي حزرة عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت قال: خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحيّ من الأنصار قبل أن يهلكوا، فكان أوّل من لقينا أبا اليسر صاحب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، إلى أن قال ص(2303): ثمّ مضينا حتّى أتينا جابر بن عبدالله في مسجده، إلى أن قال ص(2307): قال جابر فقمت فأخذت حجرًا فكسرته وحسرته فانذلق لي، فأتيت الشّجرتين فقطعت من كلّ واحدة منهما غصنًا ثمّ أقبلت أجرّهما حتّى قمت مقام رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، أرسلت غصنًا عن يميني وغصنًا عن يساري ثمّ لحقته، فقلت: قد فعلت يا رسول الله فعمّ ذاك؟ قال: ((إنّي مررت بقبرين يعذّبان فأحببت بشفاعتي أن يرفّه عنهما ما دام الغصنان رطبين)).
هذا الحديث يصلح دليلاً على الشّفاعة لأهل الكبائر لو كان هو وحديث ابن عباس المتفق عليه قصة واحدة، إذ في حديث ابن عباس: ((إنّهما ليعذّبان في كبير، أمّا أحدهما فكان يمشي بالنّميمة، وأمّا الآخر فكان لا يستتر من بوله))، لكن قال الحافظ في "الفتح" (ج1 ص319): وأما ما رواه مسلم في حديث جابر الطويل المذكور في أواخر الكتاب أنه الذي قطع الغصنين فهو في قصة أخرى غير هذه (يعني القصة التي ذكرت في حديث ابن عباس) فالمغايرة بينهما من أوجه، منها: أن هذه كانت في المدينة وكان معه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم جماعة، وقصة جابر كانت في السفر، وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده، ومنها: أن في هذه القصة أنه صلى الله عليه وعلى آله وسلّم غرس الجريدة بعد أن شقها نصفين كما في الباب الذي بعد هذا من رواية الأعمش، وفي حديث جابر أنه صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أمر جابرًا بقطع غصنين من شجرتين كان النّبي صلى الله عليه وعلى آله وسلّم استتر بهما عند قضاء حاجته، ثم أمر جابرًا فألقى الغصنين عن يمينه وعن يساره حيث كان النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم جالسًا، وأن جابرًا سأله عن ذلك فقال: ((إنّي مررت بقبرين يعذبان، فأحببت بشفاعتي أنْ يرفع[168] عنهما ما دام الغصنان رطبين))، ولم يذكر في قصة جابر أيضا السبب الذي كانا يعذبان به، ولا الترجي الآتي في قوله: ((لعله)) فبان تغاير حديث ابن عباس وحديث جابر، وأنّهما كانا في قصتين مختلفتين، ولا يبعد تعدد ذلك. اهـ
70- قال الطبراني رحمه الله في "المعجم الصغير" (ج2 ص95 رقم1011): حدثنا محمد بن عون السيرافي بالبصرة حدثنا أبوالأشعث أحمد بن المقدام حدثنا أصرم بن حوشب حدثنا قرة بن خالد عن أبي جعفر محمد بن علي ابن الحسين قال: قلت لعبدالله بن جعفر بن أبي طالب: حدثْنا شيئًا سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم -فذكر الحديث وفيه- قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّكم بحبي، أترجون أنْ تدخلوا[169] الجنّة بشفاعتي، ولا يدخلها بنو عبدالمطّلب)).
لم يروه عن قرة إلا أصرم، تفرد به أبوالأشعث.
الحديث أخرجه الحاكم (ج3 ص568)، وقال الذهبي في "التلخيص": أظنّه موضوعًا، فإسحاق متروك، وأصرم متهم بالكذب. اهـ وإسحاق هو شيخ أصرم عند الحاكم.
وقال في ترجمة أصرم في الميزان: هالك، وقال يحيى: كذّاب خبيث. وقال البخاري ومسلم والنسائي: متروك. إلى آخر أقوال الأئمة فيه. وإنما ذكرت الحديث لأبيّن حاله.
71- قال ابن أبي حاتم كما في "تفسير ابن كثير" (ج4 ص16): حدثنا أبي حدثنا محمد بن الوزير الدمشقي حدثنا الوليد بن مسلم حدثنا عبدالرحمن ابن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ الله تبارك وتعالى خيّرني بين أنْ يغفر لنصف أمّتي وبين أن يجيب شفاعتي، فاخترت شفاعتي، ورجوت أن تكفّر الجمّ لأمّتي، ولولا الّذي سبقني إليه العبد الصّالح لتعجّلت فيها دعوتي، إنّ الله تعالى لمّا فرّج عن إسحاق كرب الذّبح، قيل له: يا إسحاق سلْ تعط. فقال: أما والّذي نفسي بيده لأتعجّلنّها قبل نزعات الشّيطان، اللّهم من مات لا يشرك بك شيئًا فاغفرْ له وأدخله الجنّة)).
قال الحافظ ابن كثير: هذا حديث غريب منكر، وعبدالرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف الحديث، وأخشى أنْ يكون في الحديث زيادة مدرجة، وهي قوله: ((إنّ الله تعالى لمّا فرّج عن إسحاق .. إلى آخره))، والله أعلم. اهـ
وهذا الحديث أيضًا كتبته لبيان ضعفه لا للاحتجاج به.
72- قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج1 ص219): حدثنا أبومحمد بن حيان حدثنا محمد بن الحسن الصوفي ثنا محمد بن منصور الطوسي ثنا حمزة ابن زياد الطوسي ثنا ثويب أبوحامد -قال: سألت عنه بقية فقال: هذا مرابط منذ ستين سنة- عن خالد بن معدان عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((نعْم الرّجل أنا لشرار أمّتي)) فقالوا: فكيف أنت لخيارهم؟ قال: ((أمّا خيارهم فيدخلون الجنّة بصلاحهم، وأمّا شرارهم فيدخلون الجنّة بشفاعتي)).
الحديث أعاده أبونعيم (ج10 ص219) سندًا ومتنًا، وأخرجه الطبراني في "الكبير" (ج8 ص115)، وقال الهيثمي (ج10 ص377): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه جميع بن ثوب[170] الرجبي -وهو بفتح الجيم وكسر الميم على المشهور، وقيل بالتصغير- قال فيه البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث. وقال ابن عدي: رواياته تدل على أنّه ضعيف. وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ
والحديث بسند أبي نعيم فيه أيضًا حمزة بن زياد الطوسي، قال الذهبي: تركه أحمد وغيره، وقال ابن معين: ليس به بأس. قال مهنّأ: سألت أحمد عن حمزة الطوسي، فقال: لا يكتب عن الخبيث. اهـ المراد من "الميزان" وليس هو عند الطبراني من طريقه.
73- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(289): حدثنا أبوحفص عمرو بن علي والعباس بن عبدالعظيم العنبري وعمر بن حفص الشيباني وأبوالأزهر حوثرة ابن محمد قالوا: ثنا حماد بن سلمة قال: ثنا عمران العمي عن الحسن عن أنس بن مالك عن النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال:((ما زلت اشفع إلى ربّي ويشفّعني حتّى قلت: أي ربّي شفّعْني فيمن قال: لا إله إلاّ الله. فقال: يا محمّد هذه ليستْ لك ولا لأحد، وعزّتي وجلالي ورحمتي لا أدع في النّار أحدًا قال: لا إله إلاّ الله)) هذا حديث عمرو بن علي، وقال عمر بن حفص: ((فقال إنّما ذلك لي، وعزّتي وجلالي ورحمتي لا أدع في النّار عبدًا قال: لا إله إلاّ الله)) وقال أبوالأزهر عن عمران العمي: وقال: ((ولا لأحد، هي لي فلا يبقى في النّار أحد قال: لا إله إلاّ الله إلاّ خرج منها)).
الحديث أخرجه البزار كما في "تفسير ابن كثير" (ج2 ص191)، وقال البزار: لا نعلمه يروى إلاّ بهذا الإسناد. قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ورواه ابن أبي الدنيا عن أبي حفص الصيرفي[171] عن حماد بن مسعدة به. اهـ ورواه أبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص234).
والحديث ضعيف بهذا السند لأن في سنده عمران وهو ابن داور ولكنه يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
تنبيه: في "كتاب التوحيد": حماد بن سلمة. وفي "البزار" كما في "تفسير ابن كثير": عمرو بن مسعدة. وفي "تفسير ابن كثير" وعزاه لابن أبي الدنيا: حماد بن مسعدة، وكذا في "أخبار أصبهان"، والظاهر أنه حماد بن مسعدة. والله أعلم.
74- في "زوائد الزهد لابن المبارك" ص(563): حدثنا الحسين[172] أخبرنا أبومعاوية أخبرنا موسى بن عبيدة عن ابن عبدالرحمن عن ابن عياش[173] الزرقي عن أنس بن مالك عن أم سلمة زوج النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم:(( أريت ما تعمل أمّتي بعدي، فأخّرت[174] لهم الشّفاعة إلى يوم القيامة)).
الحديث في سنده موسى بن عبيدة وهو الربذي ضعيف جدًا، قال أحمد: لا يكتب حديثه. وأما ابن أبي عياش فهو النعمان بن أبي عياش الزرقي، وابن عبدالرحمن هو محمد بن عبدالرحمن أبوالأسود الملقب بيتيم عروة، والله أعلم.
75- قال ابن عبدالبر رحمه الله في "التمهيد" (ج1 ص123): حدثنا أبوعثمان سعيد بن سيد قال: حدثنا أبوعيسى يحيى بن عبيدالله بن أبي عيسى قال: حدثنا أبوعثمان سعيد بن فحلون[175] قال: حدثنا عبدالرحمن بن عبيد البصري قال: حدثنا ابن أبي الشوارب القرشي الأموي قال: أخبرنا عبدالقاهر بن السري السلمي قال: حدثنا ابن لكنانة[176] بن عباس بن مرداس السلمي عن أبيه عن جده أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم دعا لأمّته عشية عرفة بالمغفرة فأجابه الله: إنّي قد فعلت، إلاّ ظلم بعضهم بعضًا. فلما كان غداة المزدلفة أعاد الدّعاء فقال: ((يا ربّ إنّك قادر أنْ تثيب المظلوم خيرًا من مظلمته، وتعفو عن الظّالم)) فأجابه: إنّي قد فعلْت، ثم التفت إلينا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم متبسمًا، فقلنا: يا رسول الله ما الّذي أضحكك؟ قال: ((إنّ إبليس عدوّ الله لمّا علم أنّ الله عزّ وجلّ قد شفّعني في أمّتي، أهوى يدعو بالويل والثبور، ويحثو التّراب على رأسه)).
الحديث أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج2 ص214) وقال ص(216): قال ابن حبان: كان[177] منكرًا فلا أدري التخليط منه أو من ابنه، ومن أيّهما كان فقد سقط الاحتجاج به. اهـ
وقال الحافظ الذهبي في "الميزان": عبدالله بن كنانة بن العباس بن مرداس الأسلمي[178] عن أبيه عن جده في الدّعاء عشية عرفة لأمته، وعنه عبدالقاهر ابن السري فقط، قال البخاري: لم يصحّ حديثه. اهـ
وحكم الحافظ في "التقريب" على عبدالله بن كنانة وأبيه أنّهما مجهولان.
76- قال ابن عدي في "الكامل" (ج5 ص1801): حدثنا محمد بن أحمد ابن هارون ثنا أحمد بن الهيثم ثنا أبوقتادة عمرو بن مخرّم ثنا ابن عيينة عن يونس بن عبيد عن الحسن عن أمه عن أم سلمة قالت: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يا أمّ سلمة اعملي ولا تتكلي فإنّ شفاعتي للهالكين من أمّتي)).
ثم أخرجه أيضًا من طريق أبي عروبة ثنا أبورفاعة ثنا أيوب بن سليمان بوادي القرى ثنا محمد بن دينار عن يونس عن الحسن به.
وقال: وهذا الإسناد عن ابن عيينة عن يونس بن عبيد باطل لا يرويه إلا عمرو بن المخرم هذا، وهذا الإسناد الثاني أيضًا وبهذا الحديث غير محفوظ أيضًا. اهـ من ترجمة (عمرو بن المخرم). والحديث ذكره الذهبي في "الميزان" في ترجمته.
قال أبوعبدالرحمن: وقال ابن عدي في "الكامل" عند ترجمة (عمرو بن المخرم): روى عن ابن عيينة وغيره بواطيل يكنى أبا قتادة. اهـ
خاتمة الفصل
قد يقدح بعض المتعصبة من ذوي الأهواء في هذه الأحاديث، ولو رجعوا إلى كتب أئمتهم لوجدوا فيها ما يؤيد ما في كتب السنة، ففي "أمالي أبي طالب" ص(443) وهو من أئمة الشيعة المبتدعة حديث أنس بسنده: ((لكلّ نبيّ دعوة وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لأمّتي يوم القيامة)).
وفيها أيضًا من حديث ابن عباس أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((ما من عبد مؤمن يسأل الله لي الوسيلة في الدّنيا إلاّ كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)) في سنده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف.
وفيها أيضًا من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من قال حين يسمع النّداء: اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامة والصّلاة القائمة، آت محمّدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الّذي وعدته، حلّت له الشّفاعة)).
فهذه الأحاديث بعمومها تشمل أهل الكبائر وغيرهم من المسلمين، وأما حديث: ((ليستْ شفاعتي لأهل الكبائرمن أمّتي)) الذي في "العقد الثمين"، ويلقن به أبناء الشيعة العقيدة المعتزلية، فهو حديث موضوع باطل، وفي "أسنى المطالب في أحاديث مختلفة المراتب" ص(122): أنه من أكاذيب المعتزلة.
فصل في شفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأناس قد أمر بهم إلى النار
77- قال الحافظ أبوبكر بن أبي الدنيا في "كتاب الأهوال" كما في "النهاية" لابن كثير (ج2 ص181): وثنا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة حدثني محمد ابن سلمة عن أبي عبدالرحيم[179] حدثني زيد بن أبي أنيسة عن المنهال بن عمرو عن عبدالله بن الحارث عن أبي هريرة وذكر حديثًا عن أبي هريرة، ثم قال زيد بن أبي أنيسة كما في ص(182): ثم قال المنهال: حدثني عبدالله بن الحارث أيضًا أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((أمرّ بقوم من أمّتي قد أمر بهم إلى النّار، قال: فيقولون: يا محمّد ننشدك الشّفاعة، قال: فآمر الملائكة أن يقفوا بهم، قال: فأنطلق وأستاذن على الربّ عزّ وجلّ فيأذن لي فأسجد وأقول: يا ربّ قوم من أمّتي قد أمر بهم إلى النّار. قال: فيقول لي: انطلقْ فأخرجْ منهم. قال: فأنطلق وأخرج منهم من شاء الله أن أخرج، ثمّ ينادي الباقون: يا محمّد ننشدك الشّفاعة فأرجع إلى الرّبّ فأستأذن. فيؤذن لي فأسجد، فيقال لي: ارفع رأسك وسلْ تعطه واشفعْ تشفّعْ. فأثني على الله بثناء لم يثن عليه أحد، أقول: ثمّ قوم من أمّتي قد أمر بهم إلى النّار. فيقول: انطلق فأخرجْ منهم. قال: فأقول: يا ربّ أخرج منهم من قال: لا إله إلاّ الله، ومن كان في قلبه حبّة من إيمان؟ قال: فيقول: يا محمّد ليستْ تلك لك، تلك لي. قال: فأنطلق وأخرج من شاء الله أن أخرج، قال: ويبقى قوم فيدخلون النّار فيعيّرهم أهل النّار، فيقولون: أنتم كنتم تعبدون الله ولا تشركون به أدخلكم النّار، قال: فيحزنون لذلك، قال: فيبعث الله ملكًا بكفّ من ماء فينضح بها في النّار، ويغبطهم أهل النّار، ثمّ يخرجون ويدخلون الجنّة فيقال: انطلقوا فتضيّفوا النّاس. فلو أنّهم جميعهم نزلوا برجل واحد كان لهم عنده سعة ويسمّون المحرّرين)).
قال الحافظ ابن كثير: وهذا يقتضي تعداد هذه الشفاعة فيمن أمر بهم إلى النّار ثلاث مرات ألاّ يدخلوها، ويكون معنى قوله: ((أخرجْ)) أي أنقذ، بدليل قوله بعد ذلك: ((ويبقى قوم فيدخلون النّار))، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. اهـ
الحديث رجاله رجال الصحيح إلا إسماعيل بن عبيد بن أبي كريمة وقد وثّقه الدارقطني، وقال الجعابي: يحدث عن ابن سلمة بعجائب. كما في "التهذيب" و"الميزان"، ويخشى أيضًا من إرساله، فيحتمل أن يكون عبدالله ابن الحارث سمعه من أبي هريرة، ويحتمل أن يكون أرسله، والله أعلم.
78- قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج4 ص108): حدثنا محمد بن المظفر بن موسى الحافظ ثنا أبوحفص أحمد بن محمد بن عمر بن حفص الأوصابي ثنا أبي ثنا ابن حمير ثنا الثوري ثنا الأعمش عن شقيق عن عبدالله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: {ليوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله} قال: ((أجورهم: يدخلهم الجنّة، ويزيدهم من فضله: الشّفاعة لمن وجبتْ له النّار ممن صنع إليهم المعروف في الدّنيا)).
غريب من حديث الأعمش، عزيز عجيب من حديث الثوري، تفرد به إسماعيل بن عبيد الكندي عن الأعمش، وعن إسماعيل بقية بن الوليد وحديث الثوري لم نكتبه إلاّ عن هذا الشيخ.
أما رجال الإسناد: فمحمد بن المظفر: حافظ كما وصفه أبونعيم، وله ترجمة في "تذكرة الحفاظ" (ج2 ص980)، وفي "تاريخ بغداد" (ج3 ص262).
وأحمد بن محمد: لم أقفْ على ترجمته، وقوله: ثنا أبي، الظاهر أنه يعني جده، فقد ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" في ترجمة عمر بن حفص أنه روى عن محمد بن حمير.
وعمر: مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
وبقية رجال الإسناد من محمد بن حمير إلى عبدالله وهو ابن مسعود رضي الله عنه رجال الصحيح.
وسيأتي قول الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا إسناد لا يثبت. وسيأتي هذا الحديث برقم (212).
فصل في شفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم لأناس يدخلون الجنة بغير حساب
79- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص6): ثنا هاشم بن القاسم قال: ثنا المسعودي قال: ثني بكير بن الأخنس عن رجل عن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أعطيت سبعين ألفًا يدخلون الجنّة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر وقلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربّي عزّ وجلّ فزادني مع كلّ واحد سبعين ألفًا)) قال أبوبكر رضي الله عنه: فرأيت أنّ ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافّات البوادي.
الحديث ضعيف لأن في سنده مبهمًا. والمسعودي وهو عبدالرحمن بن عبدالله مختلط، وسماع أبي النضر هاشم بن القاسم منه بعد ما اختلط كما في "تهذيب التهذيب"[180].
80- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص197): ثنا عبدالله بن بكر السهمي ثنا هشام بن حسان عن القاسم بن مهران عن موسى بن عبيد عن ميمون ابن مهران عن عبدالرحمن بن أبي بكر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ ربّي أعطاني سبعين ألفًا من أمّتي يدخلون الجنّة بغير حساب)) فقال عمر: يا رسول الله فهلاّ استزدته. قال: ((قد استزدته فأعطاني مع كلّ رجل سبعين ألفًا)) قال عمر: فهلاّ استزدته. قال: ((قد استزدته فأعطاني هكذا)) وفرّج عبدالله بن بكر بين يديه، وقال عبدالله: وبسط باعيه وحثا عبدالله، و قال هشام: وهذا من الله لا يدرى ما عدده.
الحديث في سنده موسى بن عبيد وهو مجهول الحال يصلح في الشواهد والمتابعات، وبقية رجاله رجال الصحيح.
81- قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص540): حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا إسماعيل بن عياش عن محمد بن زياد الألهاني قال: سمعت أبا أمامة يقول: سمعْت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((وعدني ربّي أنْ يدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب مع كلّ ألف سبعون ألفًا وثلاث حثيات من حثياته)).
هذا حديث حسن غريب.
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج2 ص1433)، وأحمد (ج5 ص268)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص(329).
وهو حديث حسن كما قال الترمذي لأن شيخ إسماعيل بن عياش حمصي، ورواية إسماعيل عن أهل الشام مقبولة. وقال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص394): وهذا إسناد جيد.
وقال الحافظ ابن القيم في "حادي الأرواح" ص(100): وإسماعيل بن عياش إنما يخاف من تدليسه وضعفه، فأما تدليسه فقد قال الطبراني حدثنا أحمد بن المعلى الدمشقي والحسين بن إسحاق التسْتري قالا: حدثنا هشام ابن عمار قال: حدثنا إسماعيل بن عياش قال: أخبرني محمد بن زياد الألهاني قال: سمعت أبا أمامة فذكره.
وأما ضعفه فإنما هو في غير حديث الشاميين، وهذا من روايته عن الشاميين، وأيضًا فقد جاء من غير طريقه، ثم ذكره من طريق أبي اليمان الهوزني الآتي:
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص250): ثنا عصام بن خالد حدثني صفوان بن عمرو عن سليم بن عامر الخبائري[181] وأبي اليمان الهوزني عن أبي أمامة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ الله عزّ وجلّ وعدني أن يدخل من أمّتي الجنّة سبعين ألفًا بغير حساب)) فقال يزيد بن الأخنس السّلميّ: والله ما أولئك في أمّتك إلاّ كالذباب الأصهب في الذّبّان. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((كان ربّي عزّ وجلّ قد وعدني سبعين ألفًا مع كلّ ألف سبعون ألفًا، وزادني ثلاث حثيات)) قال: فما سعة حوضك يا نبيّ الله؟ قال: ((كما بين عدن إلى عمان وأوسع وأوسع -يشير بيده- قال: فيه مثعبان[182] من ذهب وفضّة)) قال: فما حوضك يا نبيّ الله؟ قال: ((أشدّ بياضًا من اللّبن وأحلى مذاقةً من العسل وأطيب رائحةً من المسك، من شرب منه لم يظمأ بعدها ولم يسودّ وجهه أبدًا)).
قال عبدالله: وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده وقد ضرب عليه، فظننت أنه قد ضرب عليه لأنه خطأ، إنما هو عن زيد عن أبي سلام عن أبي أمامة.
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": وهذا أيضًا إسناد حسن. وقال الحافظ الهيثمي (ج10 ص363): رواه أحمد والطبراني، ورجال أحمد وبعض أسانيد الطبراني رجال الصحيح.
فائدة: أبواليمان الهوزني، لم يذكر الحافظ في "تعجيل المنفعة" راويًا عنه سوى صفوان بن عمرو، وقال الحافظ الذهبي في "الميزان": عامر بن عبدالله ابن يحيي أبواليمان الهوزني عن أبي أمامة، ما علمت له راويًا سوى صفوان ابن عمرو، وثقه ابن حبان. اهـ
أقول: وقاعدة ابن حبان معروفة أنه يوثق المجهولين كما ذكره الحافظ في مقدمة "لسان الميزان"، والحافظ ابن عبدالهادي في "الصارم المنكي" ص(84 -85)، وذكر أمثلة لمن يوثقه ابن حبان ثم يقول: لا أدري من هو.
ولا تضر الحديث جهالة أبي اليمان لأنه مقرون ومتابع كما في "مسند أحمد". وأخرجه الطبراني في "الكبير" (ج8 ص181) فقال: حدثنا بكر بن سهل ثنا عبدالله بن صالح حدثني معاوية بن صالح عن سليم بن عامر عن أبي أمامة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وذكر الحديث.
82- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص16): ثنا إسماعيل بن إبراهيم حدثنا هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء ابن يسار عن رفاعة الجهني قال: أقبلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم حتّى إذا كنّا بالكديد -أو قال: بقديد- فجعل رجال منّا يستأذنون إلى أهليهم فيأذن لهم، فقام رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: ((ما بال رجال يكون شقّ الشّجرة الّتي تلي رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أبغض إليهم من الشّقّ الآخر فلم نر عند ذلك من القوم إلاّ باكيًا)) فقال رجل[183]: إنّ الّذي يستأذنك بعد هذا لسفيه. فحمد الله وقال حينئذ: ((أشهد عند الله لا يموت عبد يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّي رسول الله صدقًا من قلبه، ثمّ يسدّد إلاّ سلك في الجنّة)). قال: ((وقد وعدني ربّي عزّ وجلّ أن يدخل من أمّتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا عذاب، وإنّي لأرجو أن لا يدخلوها حتّى تبوّءوا أنتم ومن صلح من آبائكم وأزواجكم وذرّيّاتكم مساكن في الجنّة)). وقال: ((إذا مضى نصف اللّيل -أو قال: ثلثا اللّيل- ينْزل[184] الله عزّ وجلّ إلى السّماء الدّنيا فيقول: لا أسأل عن عبادي أحدًا غيري، من ذا يستغفرني فأغفر له؟ من الّذي يدعوني أستجيب له؟ من ذا الّذي يسألني أعطيه؟ حتّى ينفجر الصّبح)).
الحديث أخرجه الطيالسي (ج1 ص27) من "ترتيب المسند"، وابن خزيمة ص(132)، وابن المبارك في "الزهد" ص(548)، ويعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج1 ص318)، وابن حبان (ج1 ص253) من "ترتيب الصحيح"، والطبراني في "الكبير" (ج5 ص43).
والحديث على شرط الشيخين، ويحيى بن أبي كثير وإن كان مدلسًا فقد صرّح بالتحديث عند أحمد في بعض الطرق، وعند ابن خزيمة، ويعقوب الفسوي، وهذا الحديث من الأحاديث التي ألزم الدارقطنيّ البخاريّ ومسلمًا أن يخرجاها.
وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص108): قال الحافظ الضياء: هذا عندي على شرط الصحيح.
83- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص359): حدثنا يحيى بن أبي بكير ثنا زهير بن محمد عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: ((سألت ربّي عزّ وجلّ فوعدني أن يدخل من أمّتي سبعين ألفًا على صورة القمر ليلة البدر، فاستزدت فزادني مع كلّ ألف سبعين ألفًا، فقلت: أي ربّ إن لم يكن هؤلاء مهاجري أمّتي. قال: إذن أكملهم لك من الأعراب)).
الحديث رجاله رجال الصحيح، وفي زهير بن محمد كلام إذا روى عنه أهل الشام، ويحيى بن أبي بكير كوفي ليس بشامي.
وقد رمز السيوطي في "الجامع الصغير" لحسنه، وقال المناوي: قال ابن حجر: سنده جيد.
- قال الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص(343): أخبرنا أبوجعفر محمد بن صالح بن ذريح قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا أبومعاوية عن إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((سألت الله عزّ وجلّ الشّفاعة لأمّتي، فقال: لك سبعون ألفًا يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب. قال: قلت: ربّ زدني. قال: فحثا[185] بين يديه وعن يمينه وعن شماله)) فقال أبوبكر رضي الله عنه: حسبنا يا رسول الله. فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر دعْ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يكثر لنا كما أكثر الله عزّ وجلّ. فقال أبوبكر: إنّما نحن حفنة من حفنات الله عزّ وجلّ. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صدق أبوبكر)).
الحديث في سنده إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، وقد قال البخاري: تركوه. ونهى أحمد عن حديثه، وقال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحلّ الرواية عندي عن إسحاق بن أبي فروة. وقال أبوزرعة وغيره: متروك. اهـ من "الميزان".
فالحديث بهذا السند ضعيف جدًا.
84- قال الطبراني رحمه الله في "المعجم الكبير" (ج2 ص87 رقم1413): حدثنا عمرو بن إسحاق بن زبريق الحمصي ثنا محمد بن إسماعيل الحمصي حدثني أبي عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إنّ ربّي عزّ وجلّ وعدني من أمّتي سبعين ألفًا لا يحاسبون مع كلّ ألف سبعون[186] ألفًا)).
الحديث في سنده محمد بن إسماعيل بن عيّاش وقد قال الحافظ في "التقريب": عابوا عليه أنّه حدث عن أبيه بغير سماع، وعمرو بن إسحاق بن زبريق لم أطلع على ترجمته بعد البحث في المصادر لديّ ولكن لا يضر الحديث محمد بن إسماعيل، وجهالتي لعمرو بن إسحاق لأنّه قد رواه أحمد (ج5 ص280) من طريق أبي اليمان ثنا إسماعيل بن عياش به، إلا أنه لم يذكر فيه شيخ شريح وهو أبوأسماء، وقد قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره" (ج1 ص392): لعل ذكر أبي أسماء هو المحفوظ، والله أعلم. اهـ
والحديث لم يتكلم عليه الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص407) بشيء ولم يزد على أن عزاه لأحمد والطبراني.
85- قال الإمام أحمد بن عبدالله أبونعيم الأصبهاني رحمه الله تعالى في "الحلية" (ج2 ص344): حدثنا محمد بن أحمد بن مخلد قال: ثنا إبراهيم بن الهيثم البلدي[187] قال: ثنا سليمان بن حرب قال: ثنا أبوهلال عن قتادة عن أنس عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((وعدني ربّي عزّ وجلّ أن يدخل من أمّتي الجنّة مائة ألف)) فقال أبوبكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله زدْنا. قال: ((وهكذا)) -وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك- قال: يا رسول الله زدْنا. فقال عمر: إنّ الله عزّ وجلّ قادر أنْ يدخل النّاس الجنّة بحفنة واحدة. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صدق عمر)).
هذا حديث غريب من حديث قتادة عن أنس رضي الله تعالى عنه، تفرد به أبوهلال، واسمه محمد بن سليم الراسبي ثقة[188] بصري.
أما رجال الإسناد: فشيخ أبي نعيم الظاهر أنّه وقع فيه تصحيف، وأنه محمد بن أحمد بن مخزوم، فقد ذكروا من شيوخه إبراهيم بن الهيثم، وقد ضعّف، وقيل: كان يكذب، كما في "الميزان".
وإبراهيم بن الهيثم: ثقة تكلم فيه بكلام غير مؤثر كما في "الميزان" و"اللسان".
وبقية رجال السند من رجال "التقريب".
ثم وجدت الحديث في "مسند أحمد" (ج3 ص193) من حديث بهز وهو ابن أسد عن أبي هلال عن قتادة عن أنس، فالحديث حسن لغيره، والحمد لله.
- قال الإمام أبوبكر أحمد بن الحسين البيهقي في "الأسماء والصفات" ص(329): أخبرنا أبوالحسين بن بشران أنا إسماعيل بن محمد الصفار ثنا أحمد بن منصور الرمادي ثنا عبدالرزاق أنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ الله عزّ وجلّ وعدني أنْ يدخل الجنّة من أمّتي أربعمائة ألف)) فقال أبوبكر: زدْنا يا رسول الله. قال: ((وهكذا -وجمع يديه-)) قال: زدنا يا رسول الله. قال: ((وهكذا)) فقال عمر رضي الله عنه: حسبك. فقال أبوبكر رضي الله عنه: دعْني يا عمر وما عليك أنْ يدخلنا الجنّة كلّنا؟ فقال عمر رضي الله عنه: إن شاء أدخل خلقه الجنّة بكف واحدة. فقال صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صدق عمر)).
ورواه خلف بن هشام عن عبدالرزاق عن معمر عن قتادة عن أنس أو عن النضر بن أنس عن أنس رضي الله عنه بالشك، أخبرناه أبوعبدالله الحافظ ثنا أبوالعباس محمد بن يعقوب ثنا محمد بن إسحاق ثنا خلف ثنا عبدالرزاق فذكره.
ورواه معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة، مرّةً عن أبي بكر بن عمير عن أبيه ومرةً عن أبي بكر بن أنس عن أبي بكر بن عمير عن أبي عمير وقال: فقال عمر رضي الله عنه: إنّ الله تبارك وتعالى إن شاء أدخل النّاس الجنّة جملةً واحدةً. وقال في ابتدائه فقال: عمير، بدل: أبي بكر.
الحديث قال الحافظ ابن كثير (ج1 ص394): قال عبدالرزاق: أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس، وذكر الحديث، ثم قال: هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبدالرزاق.
قلت: وهو على شرط الشيخين.
وقد أخرجه أحمد في "مسنده" (ج3 ص165) بهذا السند، وفيه الشك كما في حديث خلف عند البيهقي، أهو عن معمر عن قتادة عن أنس -أو عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس- ولا يضر هذا الاختلاف لأن قتادة قد سمع من أنس، وإن كان مدلّسًا فالحديث في الشواهد والمتابعات. وأما رواية معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة فسيأتي الكلام عليها إن شاء الله.
86- قال الطبراني رحمه الله في الكبير(ج17 ص64): حدثنا محمد بن صالح ابن الوليد النرسي ومحمد بن يحيى بن مندة الأصبهاني قالا: ثنا أبوحفص بن علي[189] ثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن أبي بكر بن عمير عن أبيه عن النّبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ الله تعالى وعدني أنّ يدخل من أمّتي ثلاثمائة ألف الجنّة)) فقال عمير: يا نبيّ الله زدْنا. فقال عمر: حسبك يا عمير. فقال: ما لنا ولك يا ابن الخطّاب، وما عليك أن يدخلنا الله الجنّة؟ فقال عمر: إنّ الله جلّ وعزّ إنْ شاء أدخل النّاس الجنّة بحفنة أو بحثية واحدة. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صدق عمر)).
الحديث ضعيف لأن في سنده أبا بكر بن عمير، قال الحافظ في "الإصابة" (ج3 ص38): لا أعرف من وثّقه.
قال أبوعبدالرحمن: وقد ذكره البخاريّ في "التاريخ الكبير" في (الكنى) وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، ولم يذكرا راويًا عنه سوى أبي بكر بن أنس، ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً فهو مجهول العين، ثم إن الحافظ في "الإصابة" ذكر أن معمرًا قد خالف هشام بن أبي عبدالله الدستوائي فرواه معمر عن قتادة عن النضر بن أنس عن أنس كما في "الإصابة"، وأيضًا معاذ ابن هشام كان لا يذكر في أول أمره أبا بكر بن أنس، وفي آخر أمره كان يزيده. اهـ مختصرًا من "الإصابة" بتصرف.
والحاصل أن هذا الحديث ضعيف لجهالة أبي بكر بن عمير، والله أعلم.
فصل في شفاعته صلى الله عليه وعلى آله وسلم في رفع درجات بعض من يدخل الجنة فوق ما كان يقتضيه عمله
87- قال البخاري رحمه الله (ج8 ص41): حدثنا محمد بن العلاء حدثنا أبوأسامة عن بريد بن عبدالله عن أبي بردة عن أبي موسى رضي الله عنه قال: لمّا فرغ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم من حنين بعث أبا عامر على جيش إلى أوطاس فلقي دريد بن الصّمّة، فقتل دريد وهزم الله أصحابه، قال أبوموسى: وبعثني مع أبي عامر فرمي أبوعامر في ركبته رماه جشميّ بسهم فأثبته في ركبته، فانتهيت إليه فقلت: يا عمّ من رماك. فأشار إلى أبي موسى فقال: ذاك قاتلي الّذي رماني. فقصدت له فلحقته فلمّا رآني ولّى فاتّبعته وجعلت أقول له: ألا تستحيي ألا تثبت. فكفّ فاختلفنا ضربتين بالسّيف فقتلته، ثمّ قلت لأبي عامر: قتل الله صاحبك. قال: فانزعْ هذا السّهم. فنزعته فنزا[190] منه الماء قال: يا ابن أخي أقرئ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم السّلام وقل له: استغفر لي. واستخلفني أبوعامر على النّاس فمكث يسيرًا ثمّ مات، فرجعت فدخلت على النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم في بيته على سرير مرمّل[191]، وعليه فراش قد أثّر رمال السّرير بظهره وجنبه، فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر وقال: قل له: استغفر لي. فدعا بماء فتوضّأ ثمّ رفع يديه فقال: ((اللّهمّ اغفر لعبيد أبي عامر)) ورأيت بياض إبطيه ثمّ قال: ((اللّهمّ اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من النّاس)) فقلت: ولي فاستغفر. فقال: ((اللهمّ اغفر لعبدالله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريمًا)) قال أبوبردة: إحداهما لأبي عامر والأخرى لأبي موسى.
الحديث أخرجه مسلم.
88- قال مسلم رحمه الله (ج2 ص634): حدثني زهير بن حرب حدثنا معاوية بن عمرو حدثنا أبوإسحاق الفزاري[192] عن خالد الحذّاء عن أبي قلابة عن قبيصة بن ذؤيب عن أم سلمة قالت: دخل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم على أبي سلمة وقد شقّ بصره فأغمضه ثمّ قال: ((إنّ الرّوح إذا قبض تبعه البصر)) فضجّ ناس من أهله فقال: ((لا تدعوا على أنفسكم إلاّ بخير فإنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون)) ثمّ قال: ((اللّهمّ اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديّين، واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر لنا وله يا ربّ العالمين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه)).
الحديث أخرجه أحمد (ج6 ص297).
فصل في شفاعة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه
89- قال البخاري رحمه الله (ج7 ص193): حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثنا عبدالملك حدثنا عبدالله بن الحارث حدثنا العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه قال للنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ما أغنيت عن عمّك فإنّه كان يحوطك ويغضب لك؟ قال: ((هو في ضحضاح[193] من نار، ولولا أنا لكان في الدّرك الأسفل من النّار)).
الحديث أخرجه البخاري (ج10 ص592) و(ج11 ص419)، ومسلم (ج1 ص194-195)، وأحمد (ج1 ص206، 207، 210).
90- قال البخاري رحمه الله (ج7 ص193): حدثنا عبدالله بن يوسف حدثنا الليث حدثني ابن الهاد عن عبدالله بن خباب عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وذكر عنده عمّه فقال: ((لعلّه تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النّار يبلغ كعبيه يغلي منه دماغه)).
الحديث أخرجه البخاري أيضًا (ج11 ص417)، ومسلم (ج1 ص195)، وأحمد (ج3 ص8-9).
هذان الحديثان يدلان على أنّ أبا طالب مات كافرًا، إذ لو كان مسلمًا لخرج من النّار مع الموحدين كما تواترت الأحاديث بخروج الموحدين من النار، وسيأتي إن شاء الله بعض الأحاديث في ذلك.
ويؤيد دلالة هذين الحديثين على عدم إسلام أبي طالب ما رواه البخاري في "صحيحه" (ج3 ص465) -طبعة حلبية مع "الفتح"- فقال البخاري رحمه الله: حدثنا إسحاق أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثني أبي عن صالح عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب عن أبيه أنّه أخبره أنّه لمّا حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبدالله بن أبي أميّة بن المغيرة، قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لأبي طالب: ((يا عمّ قل: لا إله إلاّ الله كلمةً أشهد لك بها عند الله)) فقال أبوجهل وعبدالله بن أبي أميّة: يا أبا طالب أترغب عن ملّة عبدالمطّلب. فلم يزل رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يعرضها عليه ويعودان بتلك المقالة حتّى قال أبوطالب آخر ما كلّمهم: هو على ملّة عبدالمطّلب. وأبى أن يقول: لا إله إلاّ الله. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك)) فأنزل الله تعالى فيه: {ما كان للنّبيّ} الآية.
الحديث أخرجه في مواضع في "صحيحه" منها (ج8 ص194) وفيه: فنزلتْ: {ما كان للنّبيّ والّذين آمنوا أنْ يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبيّن لهم أنّهم أصحاب الجحيم}، ونزلت: {إنّك لا تهدي من أحببْت}، و(ج9 ص411) و(ج10 ص124)، وأخرجه مسلم (ج1 ص214)، والنسائي (ج4 ص74)، وأحمد (ج5 ص433)، وابن جرير (ج11 ص41).
وما أخرجه مسلم في "صحيحه" (ج1 ص216) مع النووي، فقال رحمه الله: حدثنا محمد بن عباد وابن أبي عمر قالا: حدثنا مروان عن يزيد وهو ابن كيسان عن أبي حازم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لعمّه عند الموت: ((قل لا إله إلاّ الله أشهد لك بها يوم القيامة)) فأبى فأنزل الله {إنّك لا تهدي من أحببت} الآية.
وأخرجه من طريق آخر ينتهي إلى يزيد بن كيسان، وفيه قال: لولا أنْ تعيرني قريش يقولون: إنّما حمله على ذلك الجزع، لأقررت بها عينك، فأنزل الله الآية.
الحديث أخرجه الترمذي (ج4 ص159) مع "التحفة" طبعة هندية، وأحمد (ج2 ص441)، وابن جرير (ج20 ص91)، والبيهقي في "شعب الإيمان" ص(54)، وقال الترمذي: حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن كيسان.
وما أخرجه أبوداود في "سننه" (ج3 ص547) فقال رحمه الله: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني أبوإسحاق عن ناجية بن كعب عن علي عليه السّلام قال: قلت للنّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: إنّ عمّك الشّيخ الضّالّ قد مات. قال: ((اذهب فوار أباك ثمّ لا تحدثنّ شيئًا حتّى تأتيني)) فذهبت فواريته وجئته فأمرني فاغتسلت ودعا لي.
الحديث أخرجه النسائي (ج1 ص92) و(ج4 ص65)، وابن أبي شيبة (ج3 ص269)، وابن الجارود ص(192)، وأحمد (ج1 ص97)، والبيهقي (ج3 ص398). وفيه عند النسائي (ج1 ص92)، وأحمد (ج1 ص97) وابن الجارود: أنّه مات مشركًا.
الحديث رجاله رجال الصحيح إلا ناجية بن كعب، وقد قال الحافظ الذهبي في "الميزان": توقف ابن حبّان في توثيقه وقوّاه غيره، وذكره يحيى ابن معين فقال: صالح الحديث، وقال ابن المديني : لا أعلم أحدًا حدّث عن ناجية بن كعب سوى ابن[194] إسحاق.
قال الذهبي رحمه الله متعقبًا كلام ابن المديني: قلت: بلى، وولده يونس ابن أبي إسحاق. وقال الجوزجاني في "الضعفاء": مذموم. وقال أبوحاتم: شيخ. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: الظاهر أن حديثه لا ينْزل عن الحسن، وأما الحافظ إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني فهو شديد التحامل على أصحاب علي رضي الله عنه.
وللحديث طريق آخر يرتقي به إلى الصحة.
قال الإمام أحمد رحمه الله (ج1 ص103): ثنا إبراهيم بن أبي العباس ثنا الحسن بن يزيد الأصم قال: سمعت السّدي إسماعيل يذكره عن أبي عبدالرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه، وذكر الحديث.
وقال عبدالله بن أحمد رحمه الله في "زوائد المسند" (ج1 ص129): ثنا زكريا بن يحيى زحمويه وثنا محمد بن بكار، وثنا إسماعيل أبومعمر وسريج ابن يونس قالوا: ثنا الحسن بن يزيد[195] الأصم به.
وقال البخاري رحمه الله (ج3 ص450): حدثنا أصبغ قال: أخبرني ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن علي بن حسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنّه قال: يا رسول الله أين[196] تنْزل في دارك بمكّة؟ فقال: ((وهل ترك عقيل من رباع أو دور؟)) وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا عليّ رضي الله عنهما شيئًا لأنّهما كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين.
الحديث أخرجه مسلم (ج2 ص984).
وجه الاستدلال بهذا الحديث أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((لا يرث المسلم الكافر، ولا يرث الكافر المسلم)) أخرجه الستة من حديث أسامة بن زيد، فعليّ وجعفر لكونهما مسلمين لم يرثا أبا طالب لأنه مات كافرًا، ولا يرث المسلم الكافر، والله أعلم.
وإن كنت تريد المزيد من الردود على شبهات الشيعة حول إسلام أبي طالب، فراجع "الإصابة" (ج4 ص115)، و"المواهب في الرد على من يقول بإسلام أبي طالب" لأخينا الفاضل الشيخ أبي عبدالله قاسم التعزي فإنه أجاد وأفاد حفظه الله.
91- قال الإمام الخطيب في "التاريخ" (ج3 ص380): أنبأنا أبونعيم حدثنا محمد بن فارس قال حدثني خطاب بن عبدالدائم الأرسوفي بها حدثنا يحيى ابن المبارك عن شريك عن منصور عن ليث عن مجاهد عن ابن عباس قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((شفّعت في هؤلاء النّفر: في أبي وعمّي أبي طالب وأخي من الرّضاعة -يعني ابن السّعدية- ليكونوا من بعد البعث هباءً)).
ثم ذكر أنه باطل بهذا الإسناد.
خطّاب: هو ابن عبدالدائم وهو ضعيف يعرف برواية المناكير عن يحيى ابن المبارك الشامي الصنعاني وهو مجهول. ثم قال: وقال فيه: عن منصور عن ليث ومنصور بن المعتمر لا يروي عن ليث بن أبي سليم[197]. اهـ
وفيه أيضًا محمد بن فارس رافضي غال ضعيف الحديث. فالحديث ضعيف وهو موافق لبدعته أيضًا.
فصل
92- قال الخطيب البغدادي في "التاريخ" (ج2 ص412): أخبرنا علي بن أبي علي البصري أخبرنا محمد بن المظفر الحافظ -لفظًا- حدثنا أبوجعفر محمد بن سهل بن محمد بن أحمد بن سعيد الجمال حدثنا أبوالحسن محمد بن معاذ بن عيسى بن ضرار بن أسلم بن عبدالله بن جبير بن أسد بن هاشم بن عبدمناف حدثني أبي حدثنا إبراهيم بن هراسة عن سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن مسروق عن عائشة قالت: أتى العبّاس بن عبدالمطلب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: يا رسول الله إنّا لنعرف الضّغائن في أناس من قومنا من وقائع أوقعناها. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أما والله إنّهم لا يبلغون خيرًا حتى يحبّوكم لقرابتي))، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ترجو سلهب شفاعتي ولا يرجوها بنو عبدالمطّلب؟)).
لا أعلم ذكر فيه عائشة ومسروقًا عن الثوري غير ابن هراسة والمحفوظ عن أبي الضحى عن ابن عباس.
كذلك أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق أخبرنا أبوسهل أحمد بن محمد بن عبدالله القطان حدثنا محمد بن غالب بن حرب حدثنا أبوحذيفة حدثنا سفيان الثوري عن أبيه عن أبي الضحى عن ابن عباس قال: جاء العبّاس إلى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: إنّك قد تركت فينا ضغائن منذ صنعت الّذي صنعت. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لا يبلغوا الخير -أو قال: الإيمان- حتّى يحبّوكم لله ولقرابتي، أترجو سلهم -حيّ من مراد- شفاعتي ولا يرجو بنو عبدالمطّلب شفاعتي؟)).
رواه أبونعيم عن الثوري فأرسله ولم يذكر فيه ابن عباس. اهـ كلام الخطيب.
قال أبوعبدالرحمن: الراوي له في الطريق الأولى عن الثوري إبراهيم بن هراسة وهو متروك كما في "اللسان".
والراجح فيه الإرسال.
فصل في الشفاعة في خروج الموحدين من النار
الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النّار متواترة، وقد تقدم بعض الأحاديث الدالة على ذلك، منها: حديث أنس بن مالك رقم (2)، وحديثه أيضًا رقم (3)، وحديث أبي بكر رقم (5)، وحديث ابن عباس رقم (6)، وحديث أنس رقم (32)، وحديث ابن عباس رقم (33)، وأحاديث أخر، والأحاديث الآتية إن شاء الله.
93- قال البخاري رحمه الله (ج2 ص292): حدثنا أبواليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري قال: أخبرني سعيد بن المسيب وعطاء بن يزيد الليثي أن أبا هريرة أخبرهما أنّ النّاس قالوا: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: ((هل تمارون في القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟)) قالوا: لا يا رسول الله. قال: ((فهل تمارون في الشّمس ليس دونها سحاب؟)) قالوا: لا. قال: ((فإنّكم ترونه كذلك، يحشر النّاس يوم القيامة فيقول: من كان يعبد شيئًا فليتّبع. فمنهم من يتّبع الشّمس، ومنهم من يتّبع القمر، ومنهم من يتّبع الطّواغيت، وتبقى هذه الأمّة فيها منافقوها، فيأتيهم الله فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: هذا مكاننا حتّى يأتينا ربّنا، فإذا جاء ربّنا عرفْناه. فيأتيهم الله فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: أنت ربّنا. فيدعوهم فيضرب الصّراط بين ظهراني جهنّم، فأكون أوّل من يجوز من الرّسل بأمّته، ولا يتكلّم يومئذ أحد إلاّ الرّسل، وكلام الرّسل يومئذ: اللّهمّ سلّم سلّم. وفي جهنّم كلاليب مثل شوك السّعدان، هل رأيتم شوك السّعدان؟)) قالوا: نعم. قال: ((فإنّها مثل شوك السّعدان غير أنّه لا يعلم قدر عظمها إلاّ الله، تخطف النّاس بأعمالهم، فمنهم من يوبق بعمله ومنهم من يخردل ثمّ ينجو، حتّى إذا أراد الله رحمة من أراد من أهل النّار أمر الله الملائكة أن يخرجوا من كان يعبد الله فيخرجونهم ويعرفونهم بآثار السّجود، وحرّم الله على النّار أن تأكل أثر السّجود[198]، فيخرجون من النّار، فكلّ ابن آدم تأكله النّار إلاّ أثر السّجود، فيخرجون من النّار قد امتحشوا[199] فيصبّ عليهم ماء الحياة فينبتون كما تنبت الحبّة في حميل السّيل، ثمّ يفرغ الله من القضاء بين العباد، ويبقى رجل بين الجنّة والنّار وهو آخر أهل النّار دخولاً الجنّة مقبل بوجهه قبل النّار، فيقول: يا ربّ اصرفْ وجهي عن النّار قد قشبني ريحها وأحرقني ذكاؤها. فيقول: هل عسيت إن فعل ذلك بك أن تسأل غير ذلك؟ فيقول: لا وعزّتك. فيعطي الله ما يشاء من عهد وميثاق فيصرف الله وجهه عن النّار، فإذا أقبل به على الجنّة رأى بهجتها سكت ما شاء الله أن يسكت، ثمّ قال: يا ربّ قدّمني عند باب الجنّة. فيقول الله له: أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الّذي كنت سألت؟ فيقول: يا ربّ لا أكون أشقى خلقك. فيقول: فما عسيت إن أعطيت ذلك أن لا تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزّتك لا أسأل غير ذلك. فيعطي ربّه ما شاء من عهد وميثاق فيقدّمه إلى باب الجنّة، فإذا بلغ بابها فرأى زهرتها وما فيها من النّضرة والسّرور، فيسكت ما شاء الله أن يسكت فيقول: يا ربّ أدخلني الجنّة. فيقول الله: ويحك يا ابن آدم ما أغدرك أليس قد أعطيت العهود والميثاق أن لا تسأل غير الّذي أعطيت. فيقول: يا ربّ لا تجعلني أشقى خلقك. فيضحك الله عزّ وجلّ منه، ثمّ يأذن له في دخول الجنّة فيقول: تمنّ. فيتمنّى حتّى إذا انقطع أمنيّته قال الله عزّ وجلّ: من كذا وكذا. أقبل يذكّره ربّه، حتّى إذا انتهت به الأمانيّ قال الله تعالى: لك ذلك ومثله معه)) قال أبوسعيد الخدريّ لأبي هريرة رضي الله عنهما: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((قال الله لك ذلك وعشرة أمثاله)) قال أبوهريرة: لم أحفظ من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إلاّ قوله: ((لك ذلك ومثله معه)). قال أبوسعيد: إنّي سمعته يقول: ((ذلك لك وعشرة أمثاله)).
الحديث أخرجه البخاري أيضًا (ج11 ص444) و(ج13 ص419)، ومسلم (ج1 ص163-164)، والنسائي (ج2 ص181) مختصرًا، وأحمد (ج2 ص275، 293)، وأبوعوانة (ج1 ص159-160)، وعبدالرزاق (ج11 ص407).
94- قال البخاري رحمه الله (ج13 ص420): حدثنا يحيى بن بكير حدثنا الليث بن سعد عن خالد بن يزيد عن سعيد بن أبي هلال عن زيد[200] عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: قلنا: يا رسول الله هل نرى ربّنا يوم القيامة؟ قال: ((هل تضارون في رؤية الشّمس والقمر إذا كانت صحوًا؟)) قلنا: لا. قال: ((فإنّكم لا تضارون في رؤية ربّكم يومئذ إلاّ كما تضارون في رؤيتهما، -ثمّ قال:- ينادي مناد: ليذهب كلّ قوم إلى ما كانوا يعبدون. فيذهب أصحاب الصّليب مع صليبهم، وأصحاب الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كلّ آلهة مع آلهتهم، حتّى يبقى من كان يعبد الله من برّ أو فاجر وغبّرات من أهل الكتاب، ثمّ يؤتى بجهنّم تعرض كأنّها سراب فيقال لليهود: ما كنتم تعبدون؟ قالوا: كنّا نعبد عزيرًا ابن الله. فيقال: كذبتم لم يكنْ لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا. فيقال: اشربوا. فيتساقطون في جهنّم، ثمّ يقال للنّصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنّا نعبد المسيح ابن الله. فيقال: كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد، فما تريدون؟ فيقولون: نريد أن تسقينا. فيقال: اشربوا. فيتساقطون في جهنّم، حتّى يبقى من كان يعبد الله من برّ أو فاجر فيقال: لهم ما يحبسكم وقد ذهب النّاس؟ فيقولون: فارقناهم ونحن أحوج منّا إليه[201] اليوم، وإنّا سمعنا مناديًا ينادي: ليلحق كلّ قوم بما كانوا يعبدون، وإنّما ننتظر ربّنا. قال: فيأتيهم الجبّار في صورة غير صورته الّتي رأوه فيها أوّل مرّة. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: أنت ربّنا. فلا يكلّمه إلاّ الأنبياء، فيقول: هل بينكم وبينه آية تعرفونه؟ فيقولون: السّاق. فيكشف عن ساقه فيسجد له كلّ مؤمن، ويبقى من كان يسجد لله رياءً وسمعةً فيذهب كيما يسجد فيعود ظهره طبقًا واحدًا، ثمّ يؤتى بالجسر فيجعل بين ظهري جهنّم)) قلنا: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: ((مدحضة مزلّة عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة[202] لها شوكة عقيفاء تكون بنجد يقال لها السّعدان، المؤمن عليها كالطّرف وكالبرق وكالرّيح وكأجاويد الخيل والرّكاب فناج مسلّم، وناج مخدوش، ومكدوس في نار جهنّم، حتّى يمرّ آخرهم يسحب سحبًا، فما أنتم بأشدّ لي مناشدةً في الحقّ قد تبيّن لكم من المؤمن يومئذ للجبّار، وإذا رأوا أنّهم قد نجوا[203] في إخوانهم يقولون: ربّنا إخواننا الّذين كانوا يصلّون معنا، ويصومون معنا ويعملون معنا. فيقول الله تعالى: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيْمان فأخرجوه. ويحرّم الله صورهم على النّار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النّار إلى قدمه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من عرفوا ثمّ يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار فأخرجوه. فيخرجون من عرفوا ثمّ يعودون، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرّة من إيمان فأخرجوه. فيخرجون من عرفوا)).
قال أبوسعيد: فإن لم تصدّقوني فاقرءوا { إنّ الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تك حسنةً يضاعفها}.
((فيشفع النّبيّون والملائكة والمؤمنون، فيقول الجبّار: بقيت شفاعتي. فيقبض قبضةً من النّار فيخرج أقوامًا قد امتحشوا، فيلقون في نهر بأفواه الجنّة يقال له ماء الحياة، فينبتون في حافتيه كما تنبت الحبّة في حميل السّيل قد رأيتموها إلى جانب الصّخرة، وإلى جانب الشّجرة، فما كان إلى الشّمس منها كان أخضر، وما كان منها إلى الظّلّ كان أبيض، فيخرجون كأنّهم اللّؤلؤ فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنّة، فيقول أهل الجنّة: هؤلاء عتقاء الرّحمن، أدخلهم الجنّة بغير عمل عملوه ولا خير قدّموه. فيقال لهم: لكم ما رأيتم ومثله معه)).
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص167)، وأحمد (ج3 ص16)، وأبوعوانة (ج1 ص166، 181-182)، وابن خزيمة ص(307-308)، والطيالسي (ج2 ص222) من "ترتيب المسند".
95- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص172): وحدثني نصر بن علي الجهضمي حدثنا بشر -يعني ابن المفضل- عن أبي مسلمة[204] عن أبي نضرة عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النّار بذنوبهم -أو قال: بخطاياهم- فأماتهم الله إماتةً، حتّى إذا كانوا فحمًا أذن بالشّفاعة فجيء بهم ضبائر[205] فبثّوا على أنْهار الجنّة، ثمّ قيل: يا أهل الجنّة أفيضوا عليهم. فينبتون نبات الحبّة تكون في حميل السّيل)) فقال رجل من القوم: كأنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قد كان بالبادية.
الحديث أخرجه ابن ماجة (ج2 ص1441)، وأحمد(ج3 ص78-79)، وابن خزيمة ص(279-280، 282، 283، 286)، والدارمي (ج2 ص331-332)، وأبوعوانة (ج1 ص186)، والآجري في "الشريعة" ص(145)، وحسين المروزي في "زوائد زهد ابن المبارك" ص(449).
- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(283): حدثنا عبدالوارث بن عبدالصمد قال: حدثني أبي قال: ثنا حبان -يعني ابن علي- وقال: ثنا سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خطب فأتى على هذه الآية: { منْ يأت ربّه مجرمًا فإنّ له جهنّم لا يموت فيها ولا يحيى، ومن يأته مؤمنًا قد عمل الصّالحات} يريد الآية كلّها، فقال النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أمّا أهلها الّذين هم أهلها فإنّهم لا يموتون ولا يحيون، وأمّا الّذين ليسوا من أهلها فإنّ النّار تميتهم إماتةً، ثمّ يقوم الشّفعاء فيشفعون، فيحصل ضبائر، فيؤتى بهم نهر[206] يقال له: الحياة، أو الحيوان، فينبتون فيه كما تنبت الغثاء في حميل السّيل)).
الحديث رجاله رجال الصحيح إلا حبان بن علي وفيه كلام حاصله أنه يصلح في الشواهد والمتابعات، وهو هنا متابع تابعه معتمر بن سليمان وابن أبي عدي كما في "التوحيد" لابن خزيمة.
- قال ابن خزيمة ص(282): حدثنا محمد بن بشار قال: ثنا ابن أبي عدي عن سليمان التيمي عن أبي نضرة عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها فلا يموتون ولا يحيون، وأمّا من يريد الله بهم الرّحمة، فتميتهم النّار فيدخل عليهم الشّفعاء، فيأخذ الرّجل الضبارة[207] فيبثهم على نهر الحياة -أو الحيوان أو الحيا، أو قال: نهر الجنّة- فينبتون نبات الحبّة في حميل السّيل))، فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أو ما ترون الشّجرة تكون خضراء ثمّ تكون صفراء -أو قال: تكون صفراء ثمّ تكون خضراء)) فقال رجل: كأنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كان من أهل البادية.
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص5)، ورجاله رجال الصحيح.
- وقال ابن خزيمة أيضًا ص(283): حدثنا محمد بن عبدالأعلى قال: ثنا المعتمر عن أبيه قال: ثنا أبونضرة عن أبي سعيد الخدري قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم خطبةً أراه ذكر طولها، قال: ((أمّا أهل النّار الّذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيون، وأمّا ناس يريد الله بهم الرّحمة فيميتهم فيدخل عليهم الشّفعاء فيحمل الرّجل منهم الضبارة فيبثهم -أو قال: فيبثّون- على نهر الحياة -أو قال: الحيوان أو نهر الحيا- فينبتون نبات الحبّة في حميل السّيل)) قال: فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ألم تروا إلى الشّجرة تكون خضراء، ثمّ تكون صفراء، ثمّ تكون خضراء)) قال: يقول القوم: كأنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم كان بالبادية.
الحديث أيضًا رجاله رجال الصحيح.
- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص11): ثنا إسماعيل بن إبراهيم ثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني عبيدالله[208] بن المغيرة بن معيقيب عن سليمان ابن عمرو بن عبد العتواري أحد بني[209] ليث -وكان يتيمًا في حجر أبي سعيد- قال أبوعبدالرحمن: قال أبي: سليمان بن عمرو هو أبوالهيثم الذي يروي عن أبي سعيد قال: سمعت أبا سعيد يقول: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((يوضع الصّراط بين ظهري[210] جهنّم عليه حسك كحسك السّعدان، ثمّ يستجيز النّاس فناج مسلّم، ومجدوح به، ثمّ ناج ومحتبس به منكوس فيها، فإذا فرغ الله عزّ وجلّ من القضاء بين العباد يفقد المؤمنون رجالاً كانوا معهم في الدّنيا، يصلّون بصلاتهم ويزكّون بزكاتهم، ويصومون صيامهم، ويحجّون حجّهم، ويغزون غزوهم، فيقولون: أي ربّنا عباد من عبادك كانوا معنا في الدّنيا يصلّون صلاتنا، ويزكّون زكاتنا، ويصومون صيامنا، ويحجّون حجّنا، ويغزون غزونا، لا نراهم. فيقول: اذهبوا إلى النّار فمن وجدتم فيها منهم فأخرجوه. قال: فيجدونهم قد أخذتْهم النّار على قدر أعمالهم فمنهم من أخذته إلى قدميه، ومنهم من أخذته إلى نصف ساقيه، ومنهم من أخذته إلى ركبتيه، ومنهم من أزرته، ومنهم من أخذته إلى ثدييه، ومنهم من أخذته إلى عنقه ولم تغش الوجوه، فيستخرجونهم منها فيطرحون في ماء الحياة)) قيل: يا رسول الله وما الحياة؟ قال: ((غسل أهل الجنّة فينبتون نبات الزّرعة -وقال مرّة فيه: كما تنبت الزّرعة- في غثاء السّيل ثمّ يشفع الأنبياء في كلّ من كان يشهد أن لا إله إلاّ الله مخلصًا، فيخرجونهم منها، قال: ثمّ يتحنّن الله برحمته على من فيها، فما يترك فيها عبدًا في قلبه مثقال حبّة من إيمان إلاّ أخرجه منها)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(325)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص116)، وحسين المروزي في "زوائد الزهد لابن المبارك" ص(448)، والحاكم (ج4 ص585) وقال: صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
كذا قال ولم يتعقبه الذهبي والحديث ليس على شرط مسلم فأبوالهيثم وعبيدالله بن المغيرة وابن إسحاق ثلاثتهم ليسوا من رجال مسلم، وما روى مسلم لابن إسحاق إلا قدر خمسة أحاديث في الشواهد والمتابعات، كما في "الميزان". والحديث بهذا السند حسن.
96- قال ابن حبان رحمه الله كما في "موارد الظمآن" ص(646): أخبرنا محمد بن الحسين[211] بن مكرم حدثنا عبدالله بن عمر بن محمد بن أبان بن صالح حدثنا أبوأسامة عن أبي روق حدثنا صالح بن أبي طريف، قال: قلت لأبي سعيد الخدري: أسمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول في هذه الآية: {ربما يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسْلمين}؟ فقال: نعم، سمعته يقول: ((يخرج الله أناسًا من المؤمنين من النّار بعد ما يأخذ نقمته منهم، قال: لمّا أدخلهم الله النّار مع المشركين قال المشركون: أليس كنتم تزعمون في الدّنيا أنّكم أولياؤه؟ فما لكم معنا في النّار؟ فإذا سمع الله ذلك منهم أذن في الشّفاعة فتشفع لهم الملائكة والنّبيون حتّى يخرجوا بإذن الله، فلمّا أخرجوا قالوا: يا ليتنا كنّا مثلهم فتدركنا الشّفاعة فنخرج من النّار. فذلك قول الله: {ربما يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسْلمين} قال: فيسمّون الجهنّميين من أجل سواد في وجوههم، فيقولون: ربّنا أذهبْ عنّا هذا الاسم، فيغتسلون في نهر في الجنّة، فيذهب ذلك منهم[212])).
الحديث أخرجه الطبراني كما في "تفسير ابن كثير" (ج2 ص546)، وفي "موارد الظمآن": صالح بن أبي طريف، وفي "تفسير ابن كثير": صالح ابن أبي شريف، وكلاهما لم أقف له على ترجمة[213].
97- قال البخاري رحمه الله (ج11 ص416): حدثنا أبوالنعمان[214] حدثنا حماد عن عمرو عن جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يخرج من النّار بالشّفاعة كأنّهم الثّعارير[215])) قلت: ما الثّعارير؟ قال: الضّغابيس. وكان قد سقط فمه. فقلت لعمرو بن دينار: أبا محمّد سمعت جابر بن عبدالله يقول: سمعت النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((يخرج بالشّفاعة من النّار))؟ قال: نعم.
الحديث أخرجه مسلم (ج1 ص178)، ويعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص212-213)، والطيالسي في "المسند" (ج2 ص229) من "ترتيب المسند".
98- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص177): حدثني عبيدالله بن سعيد وإسحاق بن منصور كلاهما عن روح قال عبيدالله: حدثنا روح بن عبادة القيسي حدثنا ابن جريج قال: أخبرني أبوالزبير أنه سمع جابر بن عبدالله يسأل عن الورود، فقال: نجيء نحن يوم القيامة عن (كذا وكذا انظر أيّ ذلك فوق النّاس)[216] قال: فتدعى الأمم بأوثانها وما كانت تعبد الأوّل فالأوّل ثمّ يأتينا ربّنا بعد ذلك، فيقول: من تنظرون؟ فيقولون: ننظر ربّنا. فيقول: أنا ربّكم. فيقولون: حتّى ننظر إليك. فيتجلّى لهم يضحك، قال: فينطلق بهم ويتّبعونه، ويعطى كلّ إنسان منهم منافق أو مؤمن نورًا، ثمّ يتّبعونه وعلى جسر جهنّم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله، ثمّ يطفأ نور المنافقين، ثمّ ينجو المؤمنون، فتنجو أوّل زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر سبعون ألفًا لا يحاسبون، ثمّ الّذين يلونهم كأضوإ نجم في السّماء، ثمّ كذلك، ثمّ تحلّ الشّفاعة ويشفعون حتّى يخرج من النّار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرةً، فيجعلون بفناء الجنّة ويجعل أهل الجنّة يرشّون عليهم الماء، حتّى ينبتوا نبات الشّيء في السّيل، ويذهب حراقه ثمّ يسأل حتّى تجعل له الدّنيا وعشرة أمثالها معها.
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص283).
99- وقال مسلم رحمه الله (ج1 ص179): وحدثنا حجاج بن الشّاعر حدثنا الفضل بن دكين حدثنا أبوعاصم -يعني محمد بن أبي أيوب- قال: حدثني يزيد الفقير قال: كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج، فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحجّ، ثم نخرج على النّاس، قال: فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبدالله يحدّث القوم جالس إلى سارية عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: فإذا هو قد ذكر الجهنّميّين، قال: فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الّذي تحدّثون والله يقول: {إنّك من تدخل النّار فقد أخزيته} و{كلّما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا} فما هذا الّذي تقولون؟ قال: فقال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فهل سمعت بمقام محمّد عليه السّلام -يعني الّذي يبعثه الله فيه-؟ قلت: نعم. قال: فإنّه مقام محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم المحمود الّذي يخرج الله به من يخرج. قال: ثمّ نعت وضع الصّراط ومرّ النّاس عليه، قال: وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك، قال: غير أنّه قد زعم أنّ قومًا يخرجون من النّار بعد أن يكونوا فيها، قال: يعني فيخرجون كأنّهم عيدان السّماسم، قال: فيدخلون نهرًا من أنْهار الجنّة، فيغتسلون فيه، فيخرجون كأنّهم القراطيس، فرجعنا قلنا: ويحكم أترون الشّيخ يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فرجعنا فلا والله ما خرج منّا غير رجل واحد -أو كما قال أبونعيم-.
الحديث أخرجه أبوعوانة (ج1 ص180)، وفي آخره: وقال عبدالواحد ابن سليم (وهو أحد رجال السند عند أبي عوانة) في آخر حديثه: قال جابر: الشّفاعة بيّنة في كتاب الله {ما سلككم في سقر، قالوا لم نك من المصلّين، ولم نك نطعم المسكين، وكنّا نخوض مع الخائضين، وكنّا نكذّب بيوم الدّين، حتّى أتانا اليقين، فما تنفعهم شفاعة الشّافعين}.
- قال الإمام البخاري رحمه الله في "الأدب المفرد" ص(285): حدثنا موسى قال: حدثنا القاسم بن الفضل عن سعيد بن المهلب عن طلق بن حبيب قال: كنت أشدّ النّاس تكذيبًا بالشّفاعة فسألت جابرًا فقال: يا طليق سمعت النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((يخرجون من النّار بعد دخول)) ونحن نقرأ الّذي تقرأ.
الحديث أخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج2 ص66)، وابن مردويه كما في "تفسير ابن كثير" (ج2 ص54)، وفي "النهاية" (ج2 ص194).
والحديث حسن لغيره لأنّ فيه سعيد بن المهلب، وقد قال فيه الذهبي: لا يعرف، وثّق. اهـ وذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" عنه راويين، وأنّه وثّقه ابن حبان. اهـ فهو صالح في الشواهد والمتابعات.
وأخرجه عبدالرزاق (ج11 ص412) عن معمر عن رجل عن طلق بن حبيب قال: قلت لجابر بن عبدالله: أرأيت هذه الآية {يريدون أن يخرجوا من النّار وما هم بخارجين منها} وأنت تزعم أنّ قومًا يخرجون من النّار؟ قال: أشهد أن هذه الآية نزلتْ على رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فآمنّا بها قبل أن تؤمن بها، وصدّقْنا بها قبل أن تصدّق بها، وأشهد أني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول ما أخبرك: ((إنّ قومًا يخرجون من النّار)) فقال طلق: لا جرم والله لا أجادلك أبدًا.
الحديث في سنده مبهم، ولكنه لا يضر لما تقدم له من المتابعات.
وأخرجه البيهقي في "شعب الإيمان" (ج1 ص219) فقال: أخبرنا علي ابن أحمد بن عبدان ثنا أحمد بن عبيد الصفار ثنا سعيد بن عثمان الأهوازي[217] ثنا عاصم بن علي ثنا أيوب بن عتبة عن قيس بن[218] طلق بن علي عن أبيه قال: كنت من أشدّ النّاس تكذيبًا بالشّفاعة، حتّى أتيت جابر ابن عبدالله، فقرأت عليه كلّ آية أقدر عليها في ذكر خلود أهل النّار، فقال لي: يا طلق أنت أعلم بكتاب الله منّي؟ وأعلم بسنة النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم منّي؟ إنّ الّذي قرأت لهم أهلها، ولكن هؤلاء أصابوا ذنوبًا فعذّبوا ثمّ أخرجوا منها ونحن نقرأ كما قرأت.
الحديث في سنده أيوب بن عتبة يحدث من حفظه فيغلط، ولكنه لا يضر لأنه في الشواهد.
100- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص325): ثنا أبوالنضر ثنا زهير[219] ثنا أبوالزبير عن جابر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا ميّز أهل الجنّة وأهل النّار فدخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، قامت الرّسل فشفعوا فيقول: انطلقوا أو اذهبوا فمن عرفتم فأخرجوه. فيخرجونهم قد امتحشوا فيلقونهم في نهر أو على نهر يقال له الحياة قال: فتسقط محاشّهم على حافة النّهر ويخرجون بيضًا مثل الثّعارير، ثمّ يشفعون فيقول: اذهبوا أو انطلقوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قيراط من إيمان فأخرجوهم. قال: فيخرجون بشرًا ثمّ يشفعون، فيقول: اذهبوا أو انطلقوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبّة من خردلة من إيمان فأخرجوه. ثمّ يقول الله عزّ وجلّ: أنا الآن أخرج بعلمي ورحمتي. قال: فيخرج أضعاف ما أخرجوا وأضعافه فيكتب في رقابهم عتقاء الله عزّ وجلّ، ثمّ يدخلون الجنّة فيسمّون فيها الجهنّميّين)).
الحديث حسن لغيره لأن فيه أبا الزبير وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث.
101- قال البخاري رحمه الله (ج11 ص418): حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الحسن[220] بن ذكوان حدثنا أبورجاء حدثنا عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يخرج قوم من النّار بشفاعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فيدخلون الجنّة يسمّون الجهنّميّين)).
الحديث رواه أبوداود (ج5 ص107)، والترمذي (ج4 ص114)، وابن ماجه (ج2 ص1443)، وأحمد (ج4 ص434)، وابن خزيمة ص(276)، والآجري في "الشريعة" ص(344)، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وأبورجاء العطاردي اسمه: عمران بن تيم، ويقال: ابن ملحان.
فائدة: هذا الحديث يدور على الحسن بن ذكوان وقد ضعفه أحمد وابن معين وأبوحاتم والنسائي وابن المديني كما في "مقدمة الفتح".
قال الحافظ في "مقدمة الفتح": روى له البخاري حديثًا واحدًا في كتاب الرقاق، وذكر له هذا الحديث بهذا السند، ثم قال: ولهذا الحديث شواهد كثيرة. اهـ المراد من "المقدمة".
102- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص400): حدثنا سليمان بن داود ثنا عبدالرحمن بن أبي الزناد[221] قال: أخبرني صالح بن أبي صالح مولى التوءمة قال أخبرني أبوهريرة قال: قال: رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ليتحمّدنّ الله يوم القيامة على أناس ما عملوا من خير قطّ فيخرجهم من النّار بعدما احترقوا، فيدخلهم الجنّة برحمته بعد شفاعة من يشفع)).
الحديث ضعيف لأن في سنده صالح بن أبي صالح مولى التوءمة، وهو صالح بن نبهان مختلط.
103- قال الطبراني رحمه الله في "المعجم الصغير" (ج1 ص40-41): حدثنا أحمد بن محمد بن مقاتل الرازي ببغداد حدثنا الحسين بن عيسى بن ميسرة حدثنا أبوزهير عبدالرحمن بن مغراء حدثنا عيسى الجهني عن عبدالملك بن ميسرة الزراد عن مجاهد أنه سمع عبدالله بن عمرو[222] يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يدخل من أهل هذه القبلة النّار من لا يحصي عددهم إلاّ الله بما عصوا الله، واجترءوا على معصيته، وخالفوا طاعته، فيؤذن لي في الشّفاعة فأثني على الله جلّ ذكره ساجدًا كما أثني عليه قائمًا)) وذكر الحديث. اهـ
تمام الحديث كما في "الترغيب والترهيب" (ج2 ص436-437): ((فيقال لي: ارفعْ رأسك، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ)).
رجال الإسناد غير المشهورين:
1- أحمد بن محمد بن مقاتل: ترجم له الخطيب في "تاريخ بغداد" (ج5 ص98)، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وقال: إنّه حدّث ببغداد عن أبيه والحسين بن عيسى بن ميسرة وأحمد بن بكر بن سيف، روى عنه عبدالباقي ابن قانع وأبوالقاسم الطبراني والحسين بن مهدي المروزي.
2- الحسين بن عيسي بن ميسرة: صدوق كما في "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم.
3- أما عيسى الجهني فهو تصحيف، وصوابه: موسى وهو ابن عبدالله وقيل ابن عبدالرحمن، ثقة عابد وهو يروي عن عبدالملك بن ميسرة وعنه أبوزهير هذا كما في "تهذيب الكمال".
وقد حسّن الحديث المنذري رقم (5325)، والهيثمي في "مجمع الزوائد" (ج10 ص376) والله اعلم.
104- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(300): حدثنا الحسين بن الحسن قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: ((يلقى النّاس يوم القيامة من الحبس ما شاء الله أن يلقوه، فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم. فينطلقون إلى آدم فيقولون: يا آدم اشفعْ لنا إلى ربّك. فيقول: لست هناك، ولكن انطلقوا إلى خليل الله إبراهيم. فينطلقون إلى إبراهيم فيقولون: يا إبراهيم اشفعْ لنا إلى ربّك. فيقول: لست هناك، ولكن انطلقوا إلى من اصطفاه الله برسالاته. فينطلقون إلى موسى، فيقولون: يا موسى اشفعْ لنا إلى ربّك. فيقول: لست هناك، ولكن انطلقوا[223] إلى من جاء اليوم مغفورًا له، ليس عليه ذنب. فينطلقون إلى محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فيقولون: يا محمّد اشفعْ لنا إلى ربّك. فيقول: أنا لها، وأنا صاحبها. قال: فأنطلق حتّى أستفتح باب الجنّة، قال: فيفتح فأدخل، وربّي عزّ وجلّ على عرشه فأخرّ ساجدًا، وأحمده بمحامد لم يحمدْه بها أحد قبلي -وأحسبه قال: ولا أحد بعدي-، فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسك، وقلْ يسمع، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفّعْ، فأقول: يا ربّ يا ربّ. فيقول: أخرجْ من كان في قلبه مثقال شعيرة[224] من الإيمان. قال: فأخرّ ساجدًا وأحمده بمحامد لم يحمدْه بها أحد قبلي -وأحسبه قال: ولا أحد بعدي-، فيقال: يا محمّد ارفع رأسك وقل يسمعْ، وسلْ تعطه، واشفعْ تشفعْ. فأقول: يا ربّ يا ربّ. فيقول: أخرجْ من النّار من كان في قلبه مثقال شعيرة من الإيمان. قال: فأخرّ ساجدًا، وأحمد بمحامد لم يحمدْه بها أحد قبلي -وأحسبه قال: ولا أحد بعدي- فيقال: يا محمّد ارفعْ رأسك قلْ يسمعْ، وسلْ تعط، واشفعْ تشفّع. فأقول: يا ربّ. فيقول: أخرجْ من كان في قلبه أدنى شيء فيخرج ناس من النّار يقال لهم الجهنّميون، وإنه لفي الجنّة))
فقال له رجل يا أبا حمزة: أسمعت هذا من رسول الله صلّى عليه وعلى آله وسلّم قال: فتغيّر وجهه، واشتدّ عليه وقال: ليس كل ما نحدّث سمعناه من رسول الله صلّى عليه وعلى آله وسلّم ولكن لم يكن يكذّب بعضنا بعضًا.
الحديث رجاله رجال الصحيح إلا الحسين بن الحسن وهو ابن حرب السلمي. وقد قال أبوحاتم: إنه صدوق، ووثّقه ابن حبان ومسلمة كما في "تهذيب التهذيب". وحميد الطويل مدلس ولم يصرح بالتحديث، وقد قال شعبة: لم يسمع حميد من أنس إلا أربعة وعشرين حديثًا والباقي سمعها من ثابت، أو ثبّته فيها ثابت. وقال حماد: عامة ما يرويه حميد عن أنس سمعه من ثابت. كما في "تهذيب التهذيب".
لكن لا يضر الحديث هنا لأنه في الشواهد والمتابعات.
- وقال ابن خزيمة رحمه الله ص(303): حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن رافع -وهذا حديث بندار قال: حدثنا حماد بن مسعدة قال: ثنا ابن عجلان عن حوثة[225] بن عبيد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يؤتى آدم عليه السّلام يوم القيامة فيقال: اشفعْ لذرّيتك. فيقول: لست بصاحب ذلك، ائتوا نوحًا فإنّه أوّل الأنبياء وأكبرهم. فيؤتي نوح فيقول: لست بصاحبه، عليكم بإبراهيم فإنّ الله اتخذه خليلاً. فيؤتي إبراهيم فيقول: لست بصاحبه عليكم بموسى فإنّ الله كلّمه تكليمًا. قال: فيؤتى موسى فيقول: لست بصاحبه، عليكم بعيسى فإنّه روح الله وكلمته. فيؤتى عيسى، فيقول: لست بصاحب هذا، ولكن أدلكم على صاحبه ولكن ائتوا محمّدًا صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وعلى جميع الأنبياء. قال: فأوتى، فاستفتح فإذا نظرت إلى الرّحمن وقعْت له ساجدًا، فيقال لي: ارفعْ رأسك يا محمّد، وقل يسمعْ، واشفعْ تشفّعْ، وسل تعطه. فأقول: يا ربّ أمّتي. قال: فيقال: اذهبوا فلا تدعوا في النّار أحدًا في قلبه مثقال دينار إيمان إلاّ أخرجتموه. ويخرج ما شاء الله، ثمّ أقع الثّانية ساجدًا، قال: فيقال: ارفع يا محمّد، فقل يسمعْ، واشفعْ تشفّعْ، وسل تعطه. فأقول: أي ربّ أمّتي. قال: فيقال: اذهبوا فلا تدعوا في النّار أحدًا في قلبه نصف دينار إيمان إلاّ أخرجتموه. قال: فيخرج بذلك ما شاء الله، قال: ثمّ أقع الثّالثة ساجدًا، قال: فيقال: ارفعْ رأسك يا محمّد، وقل يسمع لك، واشفع تشفّعْ، وسلْ تعطه. قال: فأقول: يا ربّ أمّتي، فيقول: اذهبوا فلا تدعوا في النّار أحدًا في قلبه مثقال ذرّة إيمان إلاّ أخرجتموه. فلا يبقى إلاّ من لا خير فيه)).
جوثة بن عبيد ترجمه البخاري في "التاريخ الكبير" (ج2 ص253)، وابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (ج2 ص549)، وابن ماكولا في "الإكمال" (ج2 ص196)، ولم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلاً، لكنّهم ذكروا جماعة من الرواة عنه فهو مستور الحال يصلح حديثه في الشّواهد والمتابعات، وينظر في قوله في الحديث: ((إنّ نوحًا أوّل الأنبياء)) هل توبع عليها فإن المعروف أن أول الأنبياء آدم، وأول الرسل نوح[226] والله أعلم.
فائدة: في "تاريخ البخاري" من الرواة عن (جوثة): (عياش) مهمل -أي: غير منسوب-، وفي "الجرح والتعديل" و"الإكمال" لابن ماكولا و"الثقات" لابن حبان: (عياش بن عباس)، وفي "التوحيد" لابن خزيمة ص(305): (عياش بن عقبة)، وترجمتهما في "تهذيب التهذيب"، فهل رويا عنه كلاهما، أم الصواب أحدهما، أما عياش بن عقبة فقد ذكر الحافظ في "تهذيب التهذيب" من شيوخه جوثة بن عبيد، وليس هناك ما يمنع من أن يكونا قد رويا عنه فهما متقاربا الطبقة مصريان وجوثة مصري، والله أعلم.
105- قال الإمام أحمد (ج5 ص43): ثنا عفان ثنا سعيد بن زيد[227] قال: سمعت أبا سليمان العصري[228] حدثني عقبة بن صهبان قال: سمعت أبا بكرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يحمل النّاس على الصّراط يوم القيامة، فتقادع بهم جنبة الصّراط تقادع الفراش في النّار، قال: فينجي الله تبارك وتعالى برحمته من يشاء، قال: ثمّ يؤذن للملائكة والنّبيّين والشّهداء أن يشفعوا فيشفعون ويخرجون، ويشفعون ويخرجون، ويشفعون ويخرجون -وزاد عفّان مرّة فقال أيضًا: ويشفعون ويخرجون- من كان في قلبه ما يزن ذرّةً من إيمان)).
الحديث أخرجه البخاري في "التاريخ" (ج9 ص37)، والطبراني في "الصغير" (ج2 ص57)، وقال الهيثمي (ج10 ص359): رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح، ورواه الطبراني في "الصغير" و"الكبير" بنحوه، ورواه البزار أيضًا ورجاله رجال الصحيح.
106- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص325): ثنا الحكم بن نافع ثنا إسماعيل بن عياش عن راشد بن داود الصنعاني عن عبدالرحمن بن حسان عن روح بن زنباع عن عبادة بن الصامت قال: فقد النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ليلةً أصحابه، وكانوا إذا نزلوا أنزلوه أوسطهم، ففزعوا وظنّوا أنّ الله تبارك وتعالى اختار له أصحابًا غيرهم، فإذا هم بخيال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فكبّروا حين رأوه، وقالوا: يا رسول الله أشفقنا أن يكون الله تبارك وتعالى اختار لك أصحابًا غيرنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لا، بل أنتم أصحابي في الدّنيا والآخرة، إنّ الله تعالى أيقظني فقال: يا محمّد إنّي لم أبعث نبيًّا ولا رسولاً إلاّ وقد سألني مسألةً أعطيتها إيّاه، فاسأل يا محمّد تعط. فقلت: مسألتي شفاعتي لأمّتي يوم القيامة)). فقال أبوبكر: يا رسول الله وما الشّفاعة؟ قال: ((أقول يا ربّ شفاعتي الّتي اختبأت عندك. فيقول الرّبّ تبارك وتعالى: نعم. فيخرج ربّي تبارك وتعالى بقيّة أمّتي من النّار فينبذهم في الجنّة)).
قال الهيثمي (ج10 ص368): رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد ثقات على ضعف في بعضهم.
وقال الحافظ ابن كثير في "النهاية" (ج2 ص194): تفرد به أحمد.
وأقول: هذا الحديث في سنده راشد بن داود وقد وثّقه ابن معين ودحيم، وقال البخاري: فيه نظر. وقال الدارقطني: ضعيف لا يعتبر به.
فالحديث ضعيف جدًا، لأن قول البخاري (فيه نظر) من أردى عبارات التجريح كما في "فتح المغيث" (ج1 ص344).
وفي الحديث أيضًا إسماعيل بن عياش، ولكن شيخه شامي فلا يضره إذ رواية إسماعيل عن الشاميين مقبولة.
107- قال الطبراني رحمه الله في "الكبير" (ج10 ص215): حدثنا إبراهيم بن نائلة الأصبهاني ثنا كثير بن يحيى صاحب البصري ثنا أبوعوانة عن الأعمش عن إبراهيم عن الحارث بن سويد عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا تزال الشّفاعة بالنّاس وهم يخرجون من النّار، حتى إنّ إبليس الأبالس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه.
قال الهيثمي في "المجمع" (ج10 ص380): رواه الطبراني موقوفًا وفيه كثير بن يحيى صاحب البصري وهو ضعيف[229].
108- وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص402): ثنا محمد بن جعفر وحجاج قالا: ثنا شعبة عن جابر عن ربعي عن حذيفة -قال شعبة: رفعه مرةً إلى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم- قال: ((يخرج الله قومًا منتنين قد محشتهم النّار بشفاعة الشّافعين فيدخلهم الجنّة فيسمّون الجهنّميّون -قال حجّاج: الجهنّميّين-)).
الحديث أخرجه ابن خزيمة ص(275-276)، والآجري في "الشريعة" ص(346) كما عند أحمد، والحسين بن الحسن المروزي في "زوائد زهد ابن المبارك" ص(447) موقوفًا.
وقال الهيثمي (ج10 ص380): رواه أحمد من طريقين ورجالهما رجال الصحيح.
وقال الحافظ في "المطالب العالية" (ج4 ص382) بعد عزوه لأبي بكر ابن أبي شيبة: حسن صحيح.
109- قال الإمام أبوحاتم محمد بن حبان البستي رحمه الله كما في "الموارد" ص(645): أخبرنا محمد بن الحسين[230] بن مكرم حدثنا سريج بن يونس حدثنا مروان بن معاوية حدثنا أبومالك الأشجعي عن ربعي عن حذيفة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يقول إبراهيم يوم القيامة: يا ربّاه. فيقول الله جلّ وعلا: يا لبّيكاه. فيقول إبراهيم: يا ربّ حرّقت بنيّ. فيقول: أخرجوا من النّار من كان في قلبه ذرّة أو شعيرة من إيمان)).
الحديث رجاله رجال الصحيح[231]، وشيخ ابن حبان محمد بن الحسين بن مكرم، قال الدارقطني: ثقة، كما في "تذكرة الحفاظ".
110- قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج7 ص253): حدثنا عبدالله بن الحسين بن بالويه الصوفي ثنا محمد بن محمد بن علي ثنا محمد بن عبدك ثنا مصعب بن خارجة ثنا أبي[232] ثنا مسعر عن عطية عن أبي سعيد قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: {((عسى أن يبعثك ربّك مقامًا محمودًا} قال: يخرج الله قومًا من النّار من أهل الإيمان والقبلة بشفاعة محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فذلك المقام المحمود، فيؤتى بهم إلى نهر يقال له: الحيوان، فيلقون فيه فينبتون كما ينبت الثعارير، ويخرجون فيدخلون الجنّة فيسمّون: الجهنّميّين، فيطلبون إلى الله أن يذهب عنهم ذلك الاسم فيذهب عنهم)).
غريب من حديث مسعر لم نكتبه إلا من حديث مصعب عن أبيه.
الحديث في سنده عطية بن سعد العوفي، وخارجة بن مصعب ومصعب ابن خارجة.
أما عطية فضعيف وشيعي ومدلس. قال الحافظ الذهبي في "الميزان": وقال أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير، وكان يكنيه[233] بأبي سعيد: فيقول: قال أبوسعيد. قال الحافظ الذهبي: قلت: يوهم أنه أبوسعيد الخدري. اهـ
وأما خارجة بن مصعب فقال الحافظ الذهبي في "الميزان": وهّاه أحمد، وقال ابن معين: ليس بثقة، وقال أيضًا كذّاب. وقال البخاري: تركه ابن المبارك ووكيع. وقال الدارقطني وغيره: ضعيف، وقال ابن عدي: هو ممن يكتب حديثه. اهـ
وأما ولده مصعب بن خارجة فقال الحافظ الذهبي في "الميزان": مجهول. اهـ
فالحديث بهذا السند ضعيف جدًا.
111- قال الآجري رحمه الله في "الشريعة" ص(346): أخبرنا ابن[234] ذريح العكبري قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا أبومعاوية عن إسحاق بن عبدالله عن سعيد بن أبي سعيد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لقد بلغت الشّفاعة يوم القيامة حتى أنّ الله عزّ وجلّ ليقول للملائكة: أخرجوا برحمتي من كان في قلبه مثقال حبّة من خردل من إيمان. قال: ثمّ يخرجهم حفنات بيده بعد ذلك.
هذا الأثر في سنده إسحاق بن عبدالله بن أبي فروة، قال الحافظ الذهبي في "الميزان": قال البخاري: تركوه. ونهى أحمد عن حديثه، وقال الجوزجاني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: لا تحل الرواية عندي عن إسحاق ابن أبي فروة. وقال أبوزرعة وغيره: متروك. اهـ
112- قال الإمام ابن عدي في "الكامل" (ج3 ص1178): ثنا أبويعلى ثنا أبوالربيع الزهراني عن سلمة بن صالح ثنا سلمة بن كهيل عن أبي الزعراء عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ليدخلنّ الجنّة قوم من المسلمين قد عذبوا في النّار برحمة الله وشفاعة الشّافعين)).
الحديث منكر فيه سلمة بن صالح ضعيف جدًا.
وأبوالزعراء ترجمه الذهبي في "الميزان" فقال: عبدالله بن هانئ أبوالزعراء صاحب ابن مسعود، قال البخاري: لا يتابع على حديثه، سمع منه سلمة بن كهيل حديثه عن ابن مسعود في الشفاعة: ثمّ يقوم نبيكم صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم رابعًا[235].
والمعروف أنه عليه الصلاة والسلام أول شافع. قاله البخاري. وقد أخرج النسائي الحديث مختصرًا. اهـ
فصل ذكر خبر ظاهره يخالف ما تقدم من الأحاديث الدالة على خروج الموحدين من النار وتوجيهه
113- قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص95): حدثنا قتيبة حدثنا عبدالعزيز بن محمد عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يجمع الله النّاس يوم القيامة في صعيد واحد، ثمّ يطّلع عليهم ربّ العالمين فيقول: ألا يتبع كلّ إنسان ما كانوا يعبدونه، فيمثّل لصاحب الصّليب صليبه، ولصاحب التّصاوير تصاويره، ولصاحب النّار ناره، فيتبعون ما كانوا يعبدون، ويبقى المسلمون فيطّلع عليهم ربّ العالمين فيقول: ألا تتّبعون النّاس. فيقولون: نعوذ بالله منك، نعوذ بالله منك، الله ربّنا هذا مكاننا حتّى نرى ربّنا. وهو يأمرهم ويثبّتهم ثمّ يتوارى ثمّ يطّلع فيقول: ألا تتّبعون النّاس. فيقولون: نعوذ بالله منك، نعوذ بالله منك، الله ربّنا وهذا مكاننا حتّى نرى ربّنا. وهو يأمرهم ويثبّتهم)) قالوا: وهل نراه يا رسول الله؟ قال: ((وهل تضارّون في رؤية القمر ليلة البدر؟)) قالوا: لا يا رسول الله. قال: ((فإنّكم لا تضارّون في رؤيته تلك السّاعة، ثمّ يتوارى ثمّ يطّلع فيعرّفهم نفسه، ثمّ يقول: أنا ربّكم فاتّبعوني. فيقوم المسلمون ويوضع الصّراط، فيمرّون عليه مثل جياد الخيل والرّكاب، وقولهم عليه سلّم سلّم، ويبقى أهل النّار فيطرح منهم فيها فوج، ثمّ يقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ ثمّ يطرح فيها فوج، فيقال: هل امتلأت؟ فتقول: هل من مزيد؟ حتّى إذا أوعبوا فيها وضع الرّحمن قدمه فيها، وأزوى بعضها إلى بعض، ثمّ قال: قطْ. قالت: قطْ قطْ. فإذا أدخل الله أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، قال: أتي بالموت ملبّبًا، فيوقف على السّور الّذي بين أهل الجنّة وأهل النّار، ثمّ يقال: يا أهل الجنّة. فيطّلعون خائفين، ثمّ يقال: يا أهل النّار. فيطّلعون مستبشرين يرجون الشّفاعة، فيقال لأهل الجنّة وأهل النّار: هل تعرفون هذا؟ فيقولون هؤلاء وهؤلاء: قد عرفناه هو الموت الّذي وكّل بنا. فيضجع فيذبح ذبحًا على السّور الّذي بين الجنّة والنّار، ثمّ يقال: يا أهل الجنّة خلود لا موت، ويا أهل النّار خلود لا موت)).
هذا حديث حسن صحيح.
الحديث رواه أحمد (ج2 ص368-369) وعنده متابعة حفص بن ميسرة لعبدالعزيز بن محمد وهو الدراوردي.
قال أبوعبدالرحمن: وذبْح الموت يكون بعد الشّفاعات، ومن يخرج من النار من الموحدين كما في "مسند أحمد" (ج2 ص344)، قال الإمام أحمد رحمه الله: ثنا موسى بن داود ثنا ليث[236] عن محمد بن عجلان عن أبي الزناد[237] عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: ((إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، وأهل النّار النّار، نادى مناد: يا أهل الجنّة خلودًا فلا موت فيه، ويا أهل النّار خلودًا فلا موت فيه)).
قال: وذكر لي خالد بن زيد[238] أنه سمع أبا الزبير يذكر مثله عن جابر وعبيد بن عمير، إلا أنه يحدث عنهما أن ذلك بعد الشّفاعات ومن يخرج من النّار.
فائدتان:
الأولى: عقّب الترمذي هذا الحديث بحديث بعده يدل على ذبح الموت ثم قال: وقد روي عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم روايات كثيرة، مثل ذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس يرون ربّهم، وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء، والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل: سفيان الثوري ومالك بن أنس وسفيان بن عيينة وابن المبارك ووكيع وغيرهم أنّهم رووا هذه الأشياء وقالوا: تروى هذه الأحاديث ويؤمن بها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن يرووا هذه الأشياء كما جاءت ويؤمن بها ولا تفسّر ولا يتوهّم، ولا يقال: كيف؟ وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه، ومعنى قوله في الحديث ((فيعرّفهم نفسه)) يعني: يتجلى لهم. اهـ
الثانية: إذا قرئت هذه الأحاديث على بعض المتعصبة طعنوا فيها ولو رجعوا إلى كتب أئمتهم لوجدوا فيها ما يلزمهم بقبولها، ففي "أمالي المرشد بالله" (ج1 ص28) حديث أنس بسنده: ((يخرج من النّار من قال: لا إله إلاّ الله، وفي قلبه وزن ذرّة من الخير)).
وقبل هذا الحديث حديث أبي هريرة: ((من قال: لا إله إلاّ الله، نفعه من دهره ولو بعد ما يصيبه العذاب)).
وفي سند حديث أبي هريرة حفص الغاضري، وهو حفص بن سليمان المقرئ كما في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص48) و"ميزان الاعتدال"، وقد قال الحافظ الذهبي في "الميزان": كان ثبتًا في القراءة، واهيًا في الحديث.
فصل في أول من يشفع له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم
114- قال الحافظ الخطيب رحمه الله في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص48): أخبرنا محمد بن علي بن الفتح أخبرنا أبوالحسن علي بن عمر الدارقطني حدثنا أبوالقاسم عبدالله بن محمد بن عبدالعزيز البغوي حدثنا أبوالربيع الزهراني حدثنا حفص بن أبي داود عن ليث عن مجاهد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوّل من أشفع له من أمّتي أهل بيتي، ثمّ الأقرب فالأقرب، ثمّ الأنصار، ثمّ من آمن بي واتّبعني من اليمن، ثمّ سائر العرب، ثمّ الأعاجم ومن أشفع له أوّلاً أفضل)).
قال أبوالحسن: غريب من حديث ليث عن مجاهد تفرد به حفص بن أبي داود عنه، وهو حفص بن سليمان بن المغيرة أبوعمر المقرئ صاحب عاصم ابن أبي النجود في القراءة. اهـ
الحديث ذكره ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج3 ص250) وقال: أما ليث فغاية في الضعف عندهم إلا أن المتّهم بهذا حفص، قال أحمد ومسلم والنسائي: هو متروك. وقال عبدالرحمن بن يوسف بن سعيد بن خراش: متروك يضع. اهـ
وأقره السيوطي في "اللآلئ" (ج2 ص450).
115- قال البخاري في "التاريخ" (ج5 ص404): عبدالله قال: ح[239] حرمي ابن عمارة حدثنا سعيد بن السائب الطائفي حدثنا عبدالملك بن أبي زهير ابن عبدالرحمن الطائفي أن حمزة بن عبدالله بن أبي تيماء الثقفي أخبره أن القاسم بن جبير أخبره أن عبدالملك بن عباد بن جعفر أخبره[240] سمع النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوّل من أشفع له أهل المدينة)).
تمام الحديث كما في "أسد الغابة" (ج3 ص510)، و"مجمع الزوائد" (ج10 ص381): ((وأهل مكّة وأهل الطائف))، وكذا في "الجامع الصغير"، وفي "الإصابة" (ج2 ص423): ((ثمّ أهل مكّة، ثمّ أهل الطائف)).
الحديث قال الهيثمي: رواه الطبراني وفيه جماعة لم أعرفهم.
قال أبوعبدالرحمن: أما عبدالله: فهو ابن محمد المسندي من أشهر مشايخ البخاري.
وحرمي بن عمارة: من رجال الصحيح.
وسعيد بن السائب الطائفي: ترجمته في "تهذيب التهذيب" وثّقه ابن معين وغيره.
وأما عبدالملك بن أبي زهير فذكره البخاري في "التاريخ الكبير" (ج5 ص414) وذكر الحديث في ترجمته ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، وذكره ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل" (ج5 ص351) وذكر أنه روى عنه سعيد بن السائب الطائفي وأبوأمية بن يعلى ومحمد بن مسلم الطائفي، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً فهو مستور الحال، ولذلك قال الإمام الذهبي في "الميزان": لا يكاد يعرف.
وأما حمزة بن عبدالله بن أبي تيماء الثقفي فذكره البخاري (ج3 ص49) وما ذكر عنه راويًا سوى عبدالملك بن أبي زهير، ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وهكذا ابن أبي حاتم (ج3 ص213) لم يذكر عنه راويًا سوى عبدالملك فهو مجهول العين.
وأما القاسم بن جبير فذكره البخاري (ج7 ص169) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، ورجّح المعلق على "التاريخ" (ج5 ص404) أنه القاسم ابن حبيب بن جبير، ينسب تارة إلى أبيه وتارة إلى جده.
والحديث بهذا السند ضعيف لأن أغلب رواته مجهولون، والله أعلم.
116- قال ابن عدي في "الكامل" (ج5 ص2005): حدثنا إبراهيم بن أسباط ثنا أبوالأشعث ثنا زهير بن العلاء ثنا عطاء بن أبي ميمونة عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أوّل من أشفع له من أمّتي العرب الّذين رأوني وآمنوا بي وصدّقوني ثمّ أشفع للعرب الّذين لم يروني وأحبّوني وأحبّوا رؤيتي))[241].
شيخ ابن عدي لم أجد ترجمته.
وأبوالأشعث: هو أحمد بن المقدام العجلي ثقة ثبت.
وزهير بن العلاء قال أبوحاتم: أحاديثه موضوعة. اهـ من "الميزان".
فصل في طلب الشفاعة من المخلوق فيما يقدر عليه
117- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص138): ثنا عثمان بن عمر أنا شعبة عن أبي جعفر قال: سمعت عمارة بن خزيمة يحدث عن عثمان بن حنيف أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: ادع الله أن يعافيني. قال: ((إن شئت دعوت لك وإن شئت أخّرت ذاك فهو خير)) فقال: ادعه. فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه فيصلّي ركعتين ويدعو بهذا الدّعاء: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرّحمة، يا محمّد إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي هذه فتقضي لي، اللهمّ شفّعه فيّ.
ثنا روح[242] قال: ثنا شعبة عن أبي جعفر المديني قال: سمعت عمارة بن خزيمة بن ثابت يحدّث عن عثمان بن حنيف أنّ رجلاً ضريرًا أتى النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: يا نبيّ الله ادع الله أن يعافيني. فقال: ((إن شئت أخّرت ذلك فهو أفضل لآخرتك، وإن شئت دعوت لك)) قال: لا بل ادع الله لي. فأمره أن يتوضّأ وأن يصلّي ركعتين وأن يدعو بهذا الدّعاء: ((اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم نبيّ الرّحمة، يا محمّد إنّي أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي هذه فتقضى، وتشفّعني فيه وتشفّعه فيّ.
قال: فكان يقول هذا مرارًا، ثمّ قال بعد -أحسب أنّ فيها: أن تشفّعني فيه- قال: ففعل الرّجل فبرأ.
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص226) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر، وهو غير الخطمي.
وأخرجه ابن ماجه (ج1 ص441)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج6 ص209-210) وذكر ما فيه من الاختلاف على أبي جعفر، فتارة يرويه عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن عثمان بن حنيف، وتارة عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف عن عمه (وهو عثمان بن حنيف).
وأخرجه ابن السني ص(234)، والحاكم (ج1 ص313) وقال: صحيح على شرطهما. وص(519) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وص(562) من طريق روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي عن أبي أمامة ابن سهل بن حنيف عن عمه عثمان بن حنيف، وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه وسكت عليه الذهبي في الثلاثة المواضع.
قال أبوعبدالرحمن: وقوله في ص(313): على شرطهما ليس كما قال فإن عمارة بن خزيمة: ليس من رجال الشيخين، وإنما هو من رجال أصحاب "السنن"، فالأولى التعبير بـ(صحيح) كما حكم عليه ص(519).
- قال الطبراني رحمه الله في "المعجم الصغير" (ج1 ص183): حدثنا طاهر بن عيسى بن قيرس المقري المصري التميمي حدثنا أصبغ بن الفرج حدثنا عبدالله بن وهب عن شبيب بن سعيد المكي عن روح بن القاسم عن أبي جعفر الخطمي المدني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عمه عثمان ابن حنيف أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له، فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكا ذلك إليه، فقال له عثمان بن حنيف: ائت الميضأة فتوضأ، ثمّ ائت المسجد فصل فيه ركعتين ثمّ قل: اللّهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم نبيّ الرّحمة، يا محمّد إني أتوجّه بك إلى ربي عزّ وجلّ ليقضي لي حاجتي، وتذكر حاجتك، ورحْ إليّ حتّى أروح معك. فانطلق الرّجل فصنع ما قال عثمان له، ثمّ أتى باب عثمان بن عفّان فجاء البواب حتى أخذ بيده فأدخله على عثمان بن عفّان فأجلسه معه على الطّنفسة، وقال: ما حاجتك؟ فذكر حاجته فقضاها له، ثمّ قال له: ما ذكرت حاجتك حتّى كانت هذه السّاعة. وقال له: ما كان لك من حاجة فائتنا، ثمّ إنّ الرّجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرًا، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت حتى كلّمته فيّ، فقال عثمان ابن حنيف: والله ما كلّمته ولكن شهدت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم وأتاه ضرير فشكا عليه ذهاب بصره فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أو تصبر؟)) فقال: يا رسول الله إنّه ليس لي قائد وقد شقّ عليّ. فقال له النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ايت الميضاة فتوضأ، ثمّ صل ركعتين، ثمّ ادع بهذه الدّعوات)). قال عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرّجل كأنّه لم يكن به ضرر قط.
لم يروه عن روح بن القاسم إلا شبيب بن سعيد أبوسعيد المكي وهو ثقة، وهو الذي يحدث عنه ابنه أحمد بن شبيب عن أبيه عن يونس بن يزيد الأيلي، وقد روى هذا الحديث شعبة عن أبي جعفر الخطمي، واسمه عمير ابن يزيد وهو ثقة تفرد به عثمان بن عمر بن فارس عن شعبة، والحديث صحيح.
فوائد تتعلق بهذا الحديث:
الأولى: قول الترمذي رحمه الله: (إن أبا جعفر ليس بالخطمي) ليس بصحيح، قال شيخ الإسلام في "التوسل والوسيلة" ص(102): هكذا قال الترمذي، وسائر العلماء قالوا: هو أبوجعفر الخطمي وهو الصواب. اهـ
فعلى هذا فقول صاحب "صيانة الإنسان" ص(376): (إن الحديث ضعيف لأن في سنده عيسى بن أبي عيسى أبا جعفر الرازي التميمي) ليس بصحيح، بل الذي في السند: الخطمي، وهو عمير بن يزيد وهو ثقة كما تقدم عن الطبراني.
وقد اغتر صاحب "تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد" بقول الترمذي، وقال ص(244): إن في ثبوته نظرًا لأن أبا جعفر لا يعرف. اهـ مختصرًا.
وكذا الحافظ في "تهذيب التهذيب" في (الكنى) فقال: أبوجعفر عن عمارة بن خزيمة، وعنه شعبة، قال الترمذي: ليس هو الخطمي. وكذا في "التقريب"، فقال: أبوجعفر عن عمارة بن خزيمة، قال الترمذي: ليس هو الخطمي، فلعله الذي بعده.
وقد عرفت أنه الخطمي وأنه ثقة معروف.
الثانية: قول صاحب "صيانة الإنسان" ص(377): (إن في سند هذه الزيادة التي عند الطبراني روح بن صلاح وهو ضعيف، فمن أجل ذلك تضعّف هذه الزيادة) ليس بصحيح، بل الذي في سندها روح بن القاسم كما جاء مصرحًا به في "المعجم الصغير" للطبراني، ولكن تضعيف هذه الزيادة من حيث كونها تدور على شبيب بن سعيد، وحاصل كلام الذهبي في "الميزان" نقلاً عن ابن عدي، وكلام الحافظ في "مقدمة الفتح" أن حديثه لا يصح إلا إذا كان من رواية ابنه أحمد عنه عن يونس بن يزيد الأيلي، وهذا ليس من روايته عن يونس[243] فمن أجل ذلك تضعّف هذه الزيادة وتكون منكرة، والله أعلم.
الثالثة: هذا الحديث ليس فيه حجة للذين يدعون غير الله، لأن الأعمى إنما طلب من النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم الدعاء والشّفاعة، وقوله: (يا محمد) نداء لحاضر فيما يقدر عليه وهو الدعاء والشفاعة، وإن كنت تريد المزيد راجعت "التّوسل والوسيلة" لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فقد جمع طرقه وتكلم عليه بما فيه كفاية، فجزاه الله خيرًا.
118- قال أبوداود (ج5 ص94): حدثنا عبدالأعلى بن حماد ومحمد بن المثنى ومحمد بن بشار وأحمد بن سعيد الرياطي قالوا: حدثنا وهب بن جرير -قال أحمد: كتبناه من نسخته، وهذا لفظه- قال: حدثنا أبي قال: سمعت محمد ابن إسحاق يحدث عن يعقوب بن عتبة عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أعرابيّ فقال: يا رسول الله جهدت الأنفس، وضاعت العيال ونهكت الأموال، وهلكت الأنعام، فاستسق الله لنا، فإنّا نستشفع بك على الله ونستشفع بالله عليك. قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ويحك أتدري ما تقول؟)) وسبّح رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، فما زال يسبّح حتّى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثمّ قال: ((ويحك إنّه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك أتدري ما الله؟ إنّ عرشه على سمواته لهكذا -وقال بأصبعه مثل القبّة- عليه وإنّه ليئطّ[244] به أطيط الرّحل بالرّاكب)).
قال ابن بشّار في حديثه: ((إنّ الله فوق عرشه، وعرشه فوق سمواته)) وساق الحديث.
وقال عبدالأعلى وابن المثنّى وابن بشار عن يعقوب بن عتبة وجبير بن محمد بن جبير عن أبيه عن جده، والحديث بإسناد أحمد بن سعيد هو الصحيح، وافقه عليه جماعة منهم: يحيى بن معين وعلي بن المديني، ورواه جماعة عن ابن إسحاق كما قال أحمد أيضًا، وكان سماع عبدالأعلى وابن المثنى وابن بشار من نسخة واحدة فيما بلغني.
الحديث أخرجه عثمان بن سعيد الدارمي في "الرّد على الجهمية" ص(19)، وابن خزيمة ص(103)، والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج2 ص224)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص(417) وقال ص(418): وهذا الحديث ينفرد به محمد بن إسحاق بن يسار عن يعقوب بن عتبة، وصاحبا الصحيح لم يحتجا به إنما استشهد مسلم بن الحجاج بمحمد بن إسحاق في أحاديث معدودة أظنهن قد رواهن غيره، وذكره البخاري في الشواهد ذكرًا من غير رواية، وكان مالك بن أنس لا يرضاه، ويحيى بن سعيد القطان لا يروي عنه، ويحيى بن معين يقول: ليس هو بحجة. وأحمد ابن حنبل يقول: يكتب عنه هذه الأحاديث -يعني المغازي ونحوها- فإذا جاء الحرام والحلال أردنا قومًا هكذا -يريد أقوى منه-. فإذا كان لا يحتج به في الحلال والحرام فأولى ألاّ يحتج به في صفات الله سبحانه وتعالى، وإنما نقموا عليه في روايته عن أهل الكتاب، ثم عن ضعفاء الناس وتدليسه أساميهم، فإذا روى عن ثقة وبيّن سماعه منهم فجماعة من الأئمة لم يروا به بأسًا. وهو إنما روى هذا الحديث عن يعقوب بن عتبة، وبعضهم يقول: عنه وعن جبير بن محمد ولم يبيّن سماعه منهما، واختلف عليه في لفظه كما ترى اهـ المراد من "الأسماء والصفات".
وقال الحافظ الذهبي في "العلوّ" ص(39): هذا حديث غريب جدًا فرد وابن إسحاق حجة في المغازي إذا أسند وله مناكير وعجائب، فالله أعلم أقال النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم هذا أم لا؟ وأما الله عزّ وجل فليس كمثله شيء جلّ جلاله، وتقدّست أسماؤه ولا إله غيره.
إلى أن قال: ثم لفظ الأطيط لم يأت به نصّ ثابت. اهـ المراد من "العلوّ".
فكلام هذين الحافظين يدل على ضعف هذا الحديث، والله أعلم.
119- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص178): ثنا يونس بن محمد ثنا حرب بن ميمون عن النضر بن أنس عن أنس قال: سألت نبيّ الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أن يشفع لي يوم القيامة، قال: قال[245]: ((أنا فاعل بهم)) قال: فأين أطلبك يوم القيامة يا نبيّ الله؟ قال: ((اطلبني أوّل ما تطلبني على الصّراط)) قال: قلت: فإذا لم ألقك على الصّراط؟ قال: ((فأنا عند الميزان)) قال: قلت: فإن لم ألقك عند الميزان؟ قال: ((فأنا عند الحوض، لا أخطئ هذه الثّلاث مواطن يوم القيامة)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج4 ص42) وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
فائدة: ذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله في "النهاية" (ج2 ص36) أن الحوض قبل الصراط، قال: وظاهر هذا الحديث يقتضي أن الحوض بعد الصراط، وكذلك الميزان، وهذا لا أعلم به قائلاً، اللهم إلا أن يكون يراد بهذا الحوض حوضًا آخر يكون بعد الجواز على الصراط كما جاء في بعض الأحاديث، ويكون ذلك حوضًا ثانيًا لا يذاد عنه أحد. والله سبحانه وتعالى أعلم. اهـ
فصل
120- قال الإمام الذهبي في "الميزان" في ترجمة يزيد بن أبان الرقاشي البصري: موسى بن إسماعيل حدثنا نوح بن قيس عن يزيد الرقاشي عن أنس -مرفوعًا-: ((يشفّع الله آدم في مائة ألف ألف وعشرة آلاف ألف)).
ثم قال: لا يعرف هذا إلا عند التبوذكي. اهـ
يزيد بن أبان الرقاشي، قال الحافظ في التقريب: زاهد ضعيف.
فصل في شفاعة المؤمنين
قد تقدمت أحاديث في شفاعة الأنبياء والملائكة والمؤمنين، وهذه بقية الأحاديث الواردة في شفاعة المؤمنين.
121- قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص46): حدثنا أبوعمار الحسين بن حريث أخبرنا الفضل بن موسى عن زكريا بن أبي زائدة عن عطية عن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ من أمّتي من يشفع للفئام[246]، ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعصبة، ومنهم من يشفع للرّجل حتّى يدخلوا الجنّة)).
هذا حديث حسن.
الحديث أخرجه أحمد (ج3 ص20، 63) وفيه عطية العوفي وهو ضعيف ومدلس، قال الذهبي في "الميزان": قال أحمد: بلغني أن عطية كان يأتي الكلبي فيأخذ عنه التفسير وكان يكنيه بأبي سعيد، فيقول: قال أبوسعيد. قلت: يعني يوهم أنه الخدري. وقال النسائي وجماعة: ضعيف. اهـ
والتصريح بأنه الخدري عند أحمد يحتمل أنه من الرواة عنه، والله أعلم.
122- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص212): ثنا حسن بن موسى ثنا حماد بن سلمة عن داود بن أبي هند عن عبدالله بن قيس قال: سمعت الحارث بن أقيش يحدث أن أبا برزة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إنّ من أمّتي لمن يشفع لأكثر من ربيعة ومضر، وإنّ من أمّتي لمن يعظم للنّار حتّى يكون ركنًا من أركانها)).
ثنا محمد بن أبي عدي عن داود عن عبدالله بن قيس عن الحارث بن أقيش قال: كنا عند أبي برزة ليلةً فحدّث ليلتئذ عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه قال: ((ما من مسلمين يموت لهما أربعة أفراط إلاّ أدخلهما الله الجنّة بفضل رحمته)) قالوا: يا رسول الله وثلاثة؟ قال: ((وثلاثة)) قالوا: واثنان[247]؟ ((وإنّ من أمّتي لمن يدخل الجنّة بشفاعته مثل مضر)) قال: ((واثنان -قال:- وإنّ من أمّتي لمن يعظم للنّار حتّى يكون أحد زواياها[248])).
الحديث أخرجه أيضًا أحمد (ج5 ص312) من حديث الحارث بن أقيش عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وابن خزيمة ص(313-314)، وابن ماجه (ج2 ص1446)، والطبراني في "الكبير" (ج3 ص301)، والحاكم (ج1 ص71 وج4 ص593) وقال في الموضعين: صحيح على شرط مسلم، وسكت عنه الذهبي.
وقال الحافظ في "الإصابة" في ترجمة الحارث بن أقيش: أخرج ابن ماجة حديثه في الشفاعة بسند صحيح، وله حديث آخر فيمن مات له ثلاثة من الولد، وقد أخرجه ابن خزيمة مجموعًا إلى الحديث الآخر، ووقع عند البغوي تصريحه بسماعه من النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم.
تنبيهان:
الأول: الحديث في "مسند أحمد" (ج4 ص212) من حديث أبي بزة، وقد قال الهيثمي في "المجمع" (ج3 ص8 وج10 ص381): رواه أحمد ورجاله ثقات.
فينظر في سند البغوي الذي فيه تصريح الحارث بن أقيش بالسماع.
الثاني: الحديث من جميع طرقه، سواء أكان من مسند أبي برزة أم من مسند الحارث بن أقيش، يدور على عبدالله بن قيس النخعي وهو مجهول كما في "التقريب". وقال علي بن المديني كما في "تهذيب التهذيب": عبدالله بن قيس الذي روى عنه داود بن أبي هند سمع الحارث بن وقيش[249]، وعنه داود بن أبي هند مجهول لم يرو عنه غير داود ليس إسناده بالصافي. اهـ
فعلى هذا فقول الحاكم: (صحيح على شرط مسلم) في الموضعين وقول الحافظ في "الإصابة": (إن سنده صحيح) ليس بصحيح، بل هو حديث ضعيف والله أعلم.
123- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص257): ثنا يزيد قال: ثنا حريز بن عثمان عن عبدالرحمن بن ميسرة عن أبي أمامة أنّه سمع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((ليدخلنّ الجنّة بشفاعة رجل ليس بنبيّ مثل الحيّين أو مثل أحد الحيّين ربيعة ومضر)) فقال رجل: يا رسول الله أو ما ربيعة من مضر؟ فقال: ((إنّما أقول ما أقوّل)).
الحديث أخرجه أيضًا ص(261) وص(267)، والآجري في "الشريعة" ص(351) والطبراني (ج8 ص169).
والحديث رجاله رجال الصحيح إلا عبدالرحمن بن ميسرة أبا سلمة الحمصي فقد قال ابن المديني : إنه مجهول، ولكنه قد روى عنه ثلاثة، ووثّقه العجلي كما في "تهذيب التهذيب"، وقال الحافظ في "التقريب": مقبول، يعني إذا توبع وإلا فليّن، وقد تابعه أبوغالب حزوّر عند أبي نعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص287)، والطبراني في "الكبير" (ج8 ص330) وفي السند إليه مبارك بن فضالة[250] وهو مدلس شديد التدليس، ولم يصرح بالتحديث.
والطريقان يكفيان في ثبوت الحديث، ولذا يقول المناوي في "فيض القدير" (ج4 ص130): قال العراقي: إسناده حسن. ثم وجدت له متابعًا آخر وهو القاسم بن عبدالرحمن عند الطبراني في "الكبير" (ج8 ص280).
124- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج3 ص469): ثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: ثنا خالد[251] عن عبدالله بن شقيق قال: جلست إلى رهط أنا رابعهم بإيلياء، فقال أحدهم: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((ليدخلنّ الجنّة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من بني تميم)) قلنا: سواك يا رسول الله؟ قال: ((سواي)) قلت: أنت سمعته؟ قال: نعم. فلمّا قام قلت: من هذا؟ قالوا: ابن أبي الجدعاء.
ثنا عفان ثنا وهيب قال: ثنا خالد عن عبدالله بن شقيق به.
الحديث أخرجه الإمام أحمد (ج5 ص366)، والترمذي (ج4 ص46) وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، وابن أبي الجدعاء هو عبدالله، وإنما يعرف له هذا الحديث الواحد. وابن ماجه (ج2 ص1444)، والدارمي (ج2 ص328)، والطيالسي (ج2 ص229) من "ترتيب المسند"، والبخاري في "التاريخ" (ج2 ص27)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(646)، والحاكم (ج1 ص70-71) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح قد احتجا برواته، وعبدالله بن شقيق تابعيّ محتجّ به، وإنما تركاه لما تقدم ذكره من تفرد التابعي عن الصحابي[252].
قال أبوعبدالرحمن: والحديث على شرط مسلم.
125- قال ابن ماجة رحمه الله (ج2 ص1215): حدثنا محمد بن عبدالله بن نمير وعلي بن محمد قالا: ثنا وكيع عن الأعمش عن يزيد الرقاشي عن أنس ابن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يصفّ النّاس يوم القيامة صفوفًا -وقال ابن نمير: أهل الجنّة- فيمرّ الرّجل من أهل النّار على الرّجل فيقول: يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربةً؟ قال: فيشفع له ويمرّ الرّجل فيقول: أما تذكر يوم ناولتك طهورًا؟ فيشفع له)).
قال ابن نمير: ((ويقول: يا فلان أما تذكر يوم بعثتني في حاجة كذا وكذا فذهبت لك؟ فيشفع له)).
الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في "قضاء الحوائج" ص(99) من مجموعة كتب له.
والحديث ضعيف لأن في سنده يزيد بن أبان الرقاشي وهو ضعيف وقال النسائي وغيره: متروك كما في "الميزان".
126- قال الترمذي (ج4 ص46): حدثنا أبوهشام الرفاعي عن عمر بن يزيد الكوفي: حدثني يحيى بن اليمان عن جسر أبي جعفر[253] عن الحسن البصري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يشفع عثمان بن عفّان رضي الله عنه يوم القيامة في مثل ربيعة ومضر)).
الحديث أخرجه الآجري في "الشريعة" ص(299)، وهو حديث ضعيف لإرساله لا سيما وهو من مراسيل الحسن، وقد قال العراقي: إن مراسيل الحسن عندهم كالريح، قاله السيوطي في "تدريب الراوي" ص(124).
والحديث مسلسل بمن يغلب عليه الضعف:
1- جسر أبوجعفر: قال البخاري في "التاريخ الكبير": ليس بذلك، وقال ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل": نا علي بن الحسن الهسنجاني قال: قال يحيى بن المغيرة: قدم جسر الري فنهاني جرير أن أكتب عنه. وذكر ابن أبي حاتم توثيقه عن سعيد بن عامر، وذكر أيضًا أن ابن معين قال: لا شيء. وذكر أيضًا أن أباه قال: ليس بالقوي، وكان رجلاً صالحًا.
2- يحيى بن يمان: قال الحافظ في "التقريب": صدوق يخطئ كثيرًا وقد تغير.
3- محمد بن يزيد الرفاعي: وثّقه الدارقطني، وقال أحمد والعجلي: لا بأس به. وقال البخاري: رأيتهم مجمعين على ضعفه. وقال ابن نمير: كان يسرق الحديث. اهـ مختصرًا من "الميزان".
ثم وجدت للحديث طريقًا أخرى صحيحة إلى الحسن، قال الإمام أحمد رحمه الله في "الزهد" ص(343): حدثنا حسين[254] حدثنا حماد بن مسلمة عن يونس عن الحسن أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((ليخرجنّ من النّار بشفاعة رجل ما هو نبيّ أكثر من ربيعة ومضر)). قال الحسن: وكانوا يرون أنه عثمان رضي الله عنه، أو أويس رضي الله عنه.
وقال عبدالله بن أحمد في "زوائد الزهد" ص(344): حدثني أحمد بن إبراهيم حدثنا أحمد بن عبدالله بن يونس حدثنا أبوبكر بن عياش عن هشام عن الحسن قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يدخل الجنّة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من ربيعة ومضر)).
قال هشام: فأخبرني حوشب عن الحسن قال: هو أويس القرني. قال أبوبكر: قلت لرجل من قوم أويس: بأيّ شيء بلغ هذا؟ قال: ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال أبوبكر: ومات أويس بسجستان. قال: فوجد معه أكفان لم تكن معه. اهـ
الحديث أخرجه الحاكم في "المستدرك" (ج3 ص405) وهو مرسل من الثلاث الطرق إلى الحسن.
وقد جاء هذا الحديث من حديث مالك عن نافع عن ابن عمر مرفوعًا. ذكره ابن حبان في "الضعفاء" (ج2 ص292) وقال: لا أصل له. يعني من حديث ابن عمر.
127- قال الحاكم رحمه الله (ج3 ص103): حدثنا أحمد بن كامل القاضي ثنا أحمد بن محمد بن عبدالحميد الجعفي ثنا الفضل بن جبير الوراق ثنا خالد ابن عبدالله الطحان المزني عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كنت قاعدًا عند النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم إذ أقبل عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلمّا دنا منه قال: ((يا عثمان تقتل وأنت تقرأ سورة البقرة، فتقع قطرة من دمك على {فسيكفيكم الله وهو السّميع العليم} وتبعث يوم القيامة أميرًا على كل مخذول، يغبطك أهل المشرق والمغرب، وتشفّع في عدد ربيعة ومضر)).
قال الحافظ الذهبي في "التلخيص": كذب بحت، وفي الإسناد أحمد بن محمد بن عبدالحميد الجعفي وهو المتهم به. اهـ
قلت: وفيه الفضل بن جبير الوراق قال العقيلي: لا يتابع على حديثه كما في "الميزان" و"اللسان".
128- قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج10 ص304): حدثنا محمد بن علي بن حبيش[255] ثنا أبوالعباس بن عطاء الصوفي ثنا يوسف بن موسى القطان ثنا الحسن بن بشر البلخي ثنا الحكم بن عبدالملك عن قتادة عن أبي مليح عن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يدخل الجنّة بشفاعة رجل من أمّتي أكثر من بني تميم)).
الحديث أخرجه الخطيب (ج5 ص26) في ترجمة أحمد بن محمد بن سهل بن عطاء أبي العباس.
والحديث في سنده:
قتادة: وهو مدلس ولم يصرح بالتحديث.
والحكم بن عبدالملك: ضعفه ابن معين، وقال النسائي: ليس بالقوي. وقال أبوداود: منكر الحديث. كما في "الميزان".
وفيه أيضا أبوالعباس بن عطاء: وهو أحمد بن محمد بن عطاء الأدمي ترجم له أبونعيم في "الحلية" (ج10 ص302)، والخطيب (ج5 ص26)، والذهبي في "العبر" (ج2 ص144)، وأبوعبدالرحمن السلمي في "طبقات الصوفية" ص(265)، وابن العماد في "شذرات الذهب" (ج2 ص257)، وكلهم لم يذكروا فيه جرحًا ولا تعديلاً، بل يثنون عليه في عبادته وزهده، وهذا لا يكفي بل لا بد من شروط القبول في ثبوت الحديث.
أما الحافظ ابن كثير فقد قال في "البداية والنهاية" (ج11 ص144): كان موافقًا للحلاج في بعض اعتقاده على ضلاله. اهـ المراد من "البداية".
129- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(314): حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: ثنا يحيى بن يمان عن سفيان[256] عن آدم بن علي عن ابن عمر قال: يقول النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم للرّجل: ((يا فلان، قم فاشفعْ)) فيقوم الرّجل فيشفع للقبيلة ولأهل البيت وللرّجل وللرّجلين على قدر عمله.
الحديث أخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج7 ص105) وفي سنده يحيى بن يمان، قال الحافظ في "التقريب": صدوق يخطئ كثيرًا وقد تغيّر.
وفي "تهذيب التهذيب": قال زكريا الساجي: ضعفه أحمد، وقال: حدث عن الثوري بعجائب.
وقال وكيع: هذه الأحاديث التي يحدث بها يحيى بن يمان ليست من أحاديث الثوري. اهـ المراد منه.
قال أبوعبدالرحمن: وهذا من روايته عن الثوري كما ترى.
130- قال ابن ماجه رحمه الله (ج2 ص1443): حدثنا سعيد بن مروان ثنا أحمد بن يونس ثنا عنبسة بن عبدالرحمن عن علاق بن أبي مسلم عن أبان ابن عثمان عن عثمان بن عفان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثمّ العلماء ثمّ الشّهداء)).
الحديث أخرجه الآجري في "الشريعة" ص(350)، وابن عبدالبر في "جامع بيان العلم وفضله" (ج1 ص37).
والحديث ضعيف جدًا لأن في سنده علاق بن أبي مسلم، قال الذهبي في "الميزان": وهّاه الأزدي وما ليّنه القدماء. اهـ
وفيه عنبسة بن عبدالرحمن: قال الذهبي في "الميزان": قال البخاري: تركوه. وروى الترمذي عن البخاري: ذاهب الحديث. وقال أبوحاتم: كان يضع الحديث. اهـ
ولعل آفة الحديث هو عنبسة والله أعلم.
131- قال ابن عبدالبر رحمه الله في "جامع بيان العلم وفضله" (ج1 ص25): حدثني خلف بن القاسم[257] قال: حدثنا علي بن أحمد بن سعيد بن زكير قال: حدثنا علي بن يعقوب قال: حدثنا عبيدالله بن محمد بن أبي المدور قال: أخبرنا حبيب بن إبراهيم قال: حدثنا شبل بن العلاء عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يبعث الله العالم والعابد، فيقال للعابد: ادخل الجنّة. ويقال للعالم: اشفعْ للنّاس كما أحسنت أدبهم)) قال شبل: يعني تعليمهم.
الحديث في سنده شبل بن العلاء: قال ابن عدي: روى أحاديث مناكير ليست أحاديثه محفوظة. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: روى عنه ابن أبي فديك نسخة مستقيمة. اهـ المراد من "لسان الميزان".
وفيه أيضًا حبيب بن إبراهيم شيخ مجهول لقيه قتيبة بن سعيد بالإسكندرية فزعم أنه سمع من أنس بن مالك فحدّثه بنسخة رواها عن قتيبة الحسن بن الطيب البلخي وفيها مناكير كثيرة. اهـ من "لسان الميزان".
وقد صدره الحافظ المنذري رحمه الله في "الترغيب والترهيب" (ج1 ص102) بـ(روي) التي هي علامة الضعف كما نبّه على ذلك في المقدمة.
132- قال الخطيب البغدادي في "الفقيه والمتفقه" (ج1 ص20): أنا عبدالغفار بن محمد بن جعفر أنا عمر بن أحمد الواعظ نا عبدالله بن عمر بن سعيد الطالقاني نا عمار بن عبدالمجيد نا محمد بن مقاتل الرازي عن أبي العباس جعفر بن هارون الواسطي عن سمعان بن مهدي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا كان يوم القيامة يقول تعالى للعابد: ادخل الجنّة فإنّما كانتْ منفعتك لنفسك. ويقال للعالم: اشفعْ تشفّع فإنّما كانت منفعتك للنّاس)).
الحديث موضوع، فقد قال الذهبي في سمعان: حيوان لا يعرف، ألصقت به نسخة مكذوبة قبّح الله من وضعها. اهـ من "الميزان".
133- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص57): حدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن ابن عجلان عن محمد بن يحيى بن حبان عن ابن محيريز عن الصنابحي[258] عن عبادة بن الصامت أنه قال: دخلت عليه وهو في الموت فبكيت فقال: مهلاً لم تبكي؟ فوالله لئن استشهدت لأشهدنّ لك، ولئن شفّعت لأشفعنّ لك، ولئن استطعت لأنفعنّك، ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لكم فيه خير إلاّ حدثْتكموه إلاّ حديثًا واحدًا وسوف أحدّثكموه اليوم، وقد أحيط بنفسي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من شهد أن لا إله إلاّ الله، وأنّ محمّدًا رسول الله حرّم الله عليه النّار)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج4 ص132)، وأحمد (ج6 ص318)، وابن خزيمة ص(340)، ويعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص362)، وابن حبان في "صحيحه" (ج1 ص245) من "ترتيب الصحيح"، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص(99-100) وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه.
134- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص357): ثنا عفان ثنا أبوعوانة ثنا زياد بن علاقة قال: سمعت جرير بن عبدالله قام يخطب يوم توفي المغيرة بن شعبة فقال: عليكم باتّقاء الله عزّ وجلّ والوقار والسّكينة حتّى يأتيكم أمير، فإنّما يأتيكم الآن، ثمّ قال: اشفعوا لأميركم فإنّه كان يحبّ العفو، وقال: أمّا بعد فإنّي أتيت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقلت: أبايعك على الإسلام. فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم واشترط عليّ النّصح لكلّ مسلم، فبايعته على هذا، وربّ هذا المسجد إنّي لكم لناصح جميعًا، ثمّ استغفر ونزل.
الحديث رجاله رجال الصحيح، وأصله في الصحيحين إلا أنّه في الصحيحين قال: (استعفوا لأميركم). أي اطلبوا له العفو، وهو المناسب لقوله: (فإنه كان يحب العفو). لأن الجزاء من جنس العمل، قال الحافظ في "الفتح" (ج1 ص139): قوله: (استعفوا لأميركم) كذا في معظم الروايات بالعين المهملة، وفي رواية ابن عساكر: (استغفروا) بغين معجمة وزيادة راء، وهي رواية الإسماعيلي في "المستخرج". اهـ
قال أبوعبدالرحمن: بما أن مخرج الحديث واحد، والخطبة واحدة، فالظاهر أن ما في "مسند أحمد" تصحيف، أو شذ بها بعض الرواة، على أنه قد جاء في "المسند" (ج4 ص361): (استغفروا).
135- قال الطبراني رحمه الله كما في "الكبير" (ج22 ص304): حدثنا أحمد ابن خليد الحلبي ثنا أبوتوبة الربيع بن نافع ثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني عبدالله بن عامر أن قيس بن الحارث الكندي حدّث الوليد أن أبا سعد الأنصاري حدثه أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ ربّي وعدني أن يدخل الجنّة من أمّتي سبعين ألفًا بغير حساب، ويشفع كلّ ألف لسبعين ألفًا، ثم يحثي ربي ثلاث حثيات بكفّيه)) قال قيس: فقلت لأبي سعد: أنت سمعت هذا من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم؟ فقال: نعم، بأذني ووعاه قلبي. قال أبوسعد: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((وذاك إن شاء الله مستوعب مهاجري أمّتي ويوفي الله من أعرابنا)).
وقد روى هذا الحديث أبوسهل بن عسكر عن أبي توبة الربيع بن نافع بإسناد مثله وزاد: قال أبوسعيد : فحسب ذلك عند رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فبلغ أربعمائة ألف ألف وتسعين ألفًا.
الحديث قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الإصابة" في ترجمة أبي سعيد الأنماري: وقال أبوأحمد: لست أحفظ له اسمًا ولا نسبًا، وحديثه في أهل الشام. ثم أورد من طريق مروان بن محمد عن معاوية بن سلام أخي زيد بن سلام أنه سمع جده أبا سلام الحبشي[259] قال: حدثني عبدالله بن عامر اليحصبي سمعت قيس بن حجر يحدث عن عبدالملك بن مروان قال: حدثني أبوسعيد الأنماري أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول:... وذكر الحديث. ثم قال الحافظ: سنده صحيح، وكلهم من رجال الصحيح إلا قيس بن حجر وهو شامي ثقة، ولكن أخرجه الحاكم أبوأحمد أيضًا من طريق أبي توبة عن معاوية بن سلام فقال: إن قيس بن حجر الكندي حدث الوليد بن عبدالملك أن أبا سعيد الخير حدثه.
وأخرجه الطبراني من طريق أبي توبة فقال: إن أبا سعيد الأنماري[260]، وقال: قيس بن الحارث.
وأخرجه أيضًا من وجه آخر عن الزبيدي عن عبدالله بن عامر فقال: عن قيس بن الحارث أن أبا سعد الخير الأنصاري حدثه، فذكر طرفًا منه.
فمن هذا الاختلاف يتوقف في الجزم بصحة هذا السند. اهـ المراد من "الإصابة".
136- قال أبونعيم رحمه الله تعالى في "أخبار أصبهان" (ج1 ص148): حدثنا محمد بن عبدالرحمن بن مخلد[261] حدثني أحمد بن الزبير بن هارون المديني ثنا همام بن محمد بن النعمان ثنا إسحاق بن بشر الكاهلي ثنا أبومعشر عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا كان عشيّة يوم عرفة أشرف الرّبّ عزّ وجلّ من عرشه إلى عباده فيقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا قد أقبلوا يضربون إليّ من كلّ فج عميق، أشهدكم أنّي قد شفّعت محسنهم في مسيئهم، وأنّي قد غفرت لهم جميع ذنوبهم إلا التبعات الّتي بينهم وبين خلقي. قال: فإذا أتوا المزدلفة، وشهدوا جمعًا، ثم أتوا منًى فرموا الجمار وذبحوا وحلقوا، ثمّ زاروا البيت، قال: يا ملائكتي أشهدكم أنّي قد شفّعت محسنهم في مسيئهم، وأنّي قد غفرت لهم جميع ذنوبهم، وأنّي قد خلفتهم في عيالاتهم، وأنّي قد استجبت لهم جميع ما دعوا به، وأنّي قد غفرت لهم التبعات الّتي بينهم وبين خلقي، وعليّ رضاء عبادي)).
الحديث أعاده أبونعيم في "أخبار أصبهان" في ترجمة همام بن محمد بن النعمان (ج2 ص341).
وهو حديث موضوع لأن في سنده إسحاق بن بشر الكاهلي وهو كذّاب كما في "الميزان"، وأبومعشر السندي الأكثرون[262] على تضعيفه كما في "الميزان".
وأحمد بن الزبير وهمام بن محمد ترجم لهما أبونعيم في "أخبار أصبهان"، ولم يذكر فيهما جرحًا ولا تعديلاً.
137- قال الأزرقي رحمه الله في "أخبار مكة" (ج2 ص4): حدثني يحيى بن سعيد عن أخيه علي بن سعيد عن سعيد بن سالم أخبرنا إسماعيل بن عياش عن مغيرة بن قيس التميمي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: من توضّأ وأسبغ الوضوء، ثمّ أتى الرّكن يستلمه خاض في الرّحمة، فإن استلمه فقال: بسم الله، والله أكبر، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله غمرته الرّحمة، فإذا طاف بالبيت كتب الله عزّ وجلّ له بكلّ قدم سبعين ألف حسنة، وحطّ عنه سبعين ألف سيئة، ورفع له سبعين ألف درجة، وشفّع في سبعين من أهل بيته، فإذا أتى مقام إبراهيم عليه السّلام فصلّى عنده ركعتين إيمانًا واحتسابًا كتب الله له كعتق أربعة عشر محررًا من ولد إسماعيل، وخرج من خطيئته كيوم ولدته أمّه.
قال القداح: وزاد فيه آخر: وأتاه ملك قال له: اعمل لما بقي فقد كفيت ما مضى.
حدثني يحيى بن سعيد بن سالم القداح حدثنا خلف بن ياسين عن أبي الفضل الفراء عن المغيرة بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا خرج المرء يريد الطّواف بالبيت أقبل يخوض في الرّحمة، فإذا دخله غمرته، ثمّ لا يرفع قدمًا ولا يضع قدمًا إلاّ كتب الله عزّ وجلّ له بكلّ قدم خمسمائة حسنة وحطّ عنه خمسمائة سيئة -أو قال: خطيئة- ورفعت له خمسمائة درجة، فإذا فرغ من طوافه فصلّى ركعتين دبر المقام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه وكتب له أجر عتق عشر رقاب من ولد إسماعيل، واستقبله ملك على الرّكن فقال له: استأنف العمل فيما بقي فقد كفيت ما مضى، وشفّع في سبعين من أهل بيته)).
الحديث بالسند الأول موقوف على عبدالله بن عمرو، وعبدالله بن عمرو يحدث عن كتب أهل الكتاب فقد ظفر بزاملتين يوم اليرموك من كتب أهل الكتاب فصار يحدّث منهما، على أن في السند إليه من لا تقوم به حجة:
1- مغيرة بن قيس: قال أبوحاتم: منكر الحديث. كما في "الميزان".
2- إسماعيل بن عياش: روايته عن غير أهل بلده ضعيفة، ومغيرة بصري كما في "الميزان".
3- يحيى بن سعيد القداح: قال الذهبي في "الميزان": له مناكير.
أما علي بن سعيد بن سالم القداح فلم أجد له ترجمة.
وأما السند الثاني ففيه خلف بن ياسين، قال الذهبي في "الميزان": خلف ابن ياسين بن معاذ الزيات عن المغيرة بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: من خرج يريد الطّواف خاض في الرحمة، فإذا دخله غمرته ... -وذكر الحديث إلى قوله:- وشفع في سبعين من أهل بيته. ثم ذكر له حديثًا آخر وقال بعده: هذا موضوع، وهو كما ترى متناقض. اهـ
وكلام العقيلي كما في "لسان الميزان" يفيد أن خلفًا مجهول.
وفي السند أيضًا يحيى بن سعيد القداح وقد تقدم ما قيل فيه.
أما المغيرة بن سعيد فلم أجد له ترجمة وليس بالمغيرة بن سعيد الرافضي الكذاب فالرافضي أعلى منه طبقةً.
وكذا أبوالفضل الفراء ما وجدت له ترجمة، وأظنه زيد في "أخبار مكة" إذ الحديث في "الميزان" عن خلف عن مغيرة بدون واسطة، والله أعلم.
138- قال عبدالرزاق (ج5 ص17) من "المصنف": عمن سمع قتادة يقول: حدثنا خلاس بن عمرو عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يوم عرفة: ((أيّها النّاس إنّ الله تطوّل عليكم في هذا اليوم فيغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، اندفعوا بسم الله، فإذا كان بجمع قال: إنّ الله قد غفر لصالحكم، وشفّع صالحكم في طالحكم، تنْزل المغفرة فتعمّهم، ثمّ تفرّق المغفرة في الأرضين، فتقع على كلّ تائب ممن حفظ لسانه ويده، وإبليس وجنوده على جبال عرفات ينظرون ما يصنع الله بهم، فإذا نزلت المغفرة دعا هو وجنوده بالويل يقول: كنت أستفزهم حقبًا من الدّهر ثمّ جاءت المغفرة فغشيتهم فيتفرقون وهم يدعون بالويل والثبور)).
الحديث قال الهيثمي (ج3 ص257): رواه الطبراني في "الكبير" وفيه راو لم يسمّ وبقية رجاله رجال الصحيح. اهـ
وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج2 ص216) وقال: راويه عن قتادة مجهول، وخلاس ليس بشيء كان مغيرة لا يعبأ به، وقال أيوب: لا ترو عنه فإنه صحفي. اهـ
قال أبوعبدالرحمن: في كلام أبي الفرج تحامل على خلاس، وقد اختلف فيه، والموثقون له أكثر، والجرح فيه غير مفسر إلا أنه صحفي، فالظاهر أن ضعف الحديث من أجل المبهم، وينظر هل سمع خلاس من عبادة أم لا؟ فإنه يروي عن من لم يسمع منه كما في "تهذيب التهذيب" و"جامع التحصيل".
139- قال أبونعيم في "الحلية" (ج7 ص235): حدثنا أبوالطيب عبدالواحد ابن الحسن المقرئ الكوفي ثنا الحسن بن محمد بن شريح ثنا أبويزيد بن طريف ثنا زكرياء بن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة ثنا إسماعيل بن يحيى عن مسعر عن حماد عن إبراهيم عن علقمة عن عبدالله قال: سمعت النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من خرج حاجًا يريد وجه الله فقد غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وشفع فيمن دعا له)).
غريب من حديث مسعر لم نكتبه إلا من هذا الوجه.
الحديث في سنده إسماعيل بن يحيى التيمي، قال الذهبي في "الميزان": روى عن أبي سنان الشيباني وابن جريج ومسعر الأباطيل، وقال صالح بن محمد جزرة: كان يضع الحديث. وقال الأزدي: ركن من أركان الكذب لا تحل الرواية عنه. وقال أبوعلي النيسابوري الحافظ والدارقطني والحاكم: كذاب. قال الذهبي: قلت: مجمع على تركه. اهـ مختصرًا من "الميزان".
140- قال الإمام أحمد رحمه الله في "المسند" (ج3 ص217): ثنا أنس بن عياض حدثني يوسف بن أبي بردة الأنصاري عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((ما من معمّر يعمّر في الإسلام أربعين سنةً إلاّ صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنةً ليّن الله عليه الحساب، فإذا بلغ ستّين رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ، فإذا بلغ سبعين سنةً أحبّه الله وأحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ الثّمانين قبل الله حسناته وتجاوز عن سيّئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وسمّي أسير الله في أرضه وشفع لأهل بيته)).
الحديث أخرجه ابن حبان في "الضعفاء" (ج3 ص132) في ترجمة يوسف بن أبي بردة وقال: لا يجوز الاحتجاج به بحال.
- وقال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص89): ثنا أبوالنضر ثنا الفرج ثنا محمد بن عامر عن محمد بن عبيدالله عن عمرو بن جعفر عن أنس بن مالك قال: إذا بلغ الرّجل المسلم أربعين سنةً آمنه الله من أنواع البلايا: من الجنون والبرص والجذام، وإذا بلغ الخمسين ليّن الله عزّ وجلّ عليه حسابه، وإذا بلغ السّتّين رزقه الله إنابةً يحبّه عليها، وإذا بلغ السّبعين أحبّه الله وأحبّه أهل السّماء، وإذا بلغ الثّمانين تقبّل الله منه حسناته ومحا عنه سيّئاته، وإذا بلغ التّسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر وسمّي أسير الله في الأرض وشفّع في أهله.
ثنا هاشم ثنا الفرج حدثني محمد بن عبدالله العامري عن محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان عن عبدالله بن عمر بن الخطاب عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم مثله.
- وقال أحمد بن منيع في "مسنده" كما في "اللآلي المصنوعة" (ج1 ص138): حدثنا عباد بن عباد المهلبي عن عبدالواحد بن راشد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا بلغ العبد أربعين آمنه الله تعالى من البلايا الثلاث: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين خفّف الله عنه الحساب، وإذا بلغ ستّين رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين أحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ االثّمانين أثبت الله تعالى له الحسنات ومحا عنه السّيّئات، فإذا بلغ التّسعين غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، وسماه أهل السّماء أسير الله في الأرض)) اهـ
وفي "الموضوعات" لابن الجوزي: ((وشفّع في أهل بيته)).
-[263] وقال أبونعيم رحمه الله في "أخبار أصبهان" (ج1 ص346): حدثنا عبدالله بن محمد بن جعفر ثنا أحمد بن محمود بن صبيح ثنا الحجاج بن يوسف بن قتيبة ثنا الصباح بن عاصم الأصبهاني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((صاحب الأربعين يصرف عنه أنواع البلاء والأمراض والجذام والبرص وما أشبهه، وصاحب الخمسين يرزق الإنابة، وصاحب السّتّين يخفّف عنه الحساب، وصاحب السّبعين يحبّه الله والملائكة في السّماء، وصاحب الثّمانين تكتب حسناته ولا تكتب سيّئاته، وصاحب التّسعين أسير الله في الأرض يشفع في نفسه وفي أهل بيته)).
- وقال الحافظ أبويعلى (ج6 ص351): حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثني خالد الزيات حدثني داود بن سليمان عن عبدالله بن عبدالرحمن بن معمر بن حزم الأنصاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه -رفع الحديث- قال: ((المولود حتى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالده أو لوالديه وما عمل من سيّئة لم تكتب عليه ولا على والديه، فإذا بلغ الحنث جرى عليه القلم أمر الملكان الّلذان معه أن يحفظا وأن يشددا فإذا بلغ أربعين سنةً في الإسلام آمنه الله من البلايا الثلاثة: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ الخمسين خفّف الله من حسابه، فإذا بلغ السّتين رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ، فإذا بلغ السّبعين أحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ الثّمانين كتب الله له حسناته وتجاوز عن سيّئاته. فإذا بلغ التّسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وشفّعه في أهل بيته، وكان أسير الله في أرضه، فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئًا كتب الله له مثل ما كان يعمل في صحّته من الخير، فإذا عمل سيّئةً لم تكتب عليه)).
قال الحافظ ابن كثير في "تفسيره": هذا حديث غريب جدًا وفيه نكارة شديدة[264]، ومع هذا فقد رواه الإمام أحمد، ثم ذكر الحديثين المتقدمين من "المسند".
- وقال البزار رحمه الله كما في "تفسير ابن كثير" رحمه الله (ج3 ص208) : عن عبدالله بن شبيب[265] عن أبي شيبة عن عبدالله بن عبدالملك عن أبي قتادة العدوي عن ابن أخي الزهري عن عمه عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ما من عبد يعمّر في الإسلام أربعين سنةً إلاّ صرف الله عنه أنواعًا من البلاء: الجنون والجذام والبرص، فإذا بلغ خمسين سنةً ليّن الله له الحساب، فإذا بلغ ستين سنةً رزقه الله الإنابة إليه بما يحبّ، فإذا بلغ سبعين سنةً غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر[266]، وسمّي أسير الله وأحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ الثّمانين تقبّل الله منه حسناته وتجاوز عن سيّئاته، فإذا بلغ التّسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وسمّي أسير الله في أرضه، وشفّع في أهل بيته)).
- وقال البيهقي في "الزهد" كما في "اللآلي المصنوعة" (ج1 ص144): حدثنا أبوعبدالله الحافظ وغيره قالوا: حدثنا أبوالعباس[267] محمد بن يعقوب حدثنا بكر بن سهل حدثنا عبدالله بن محمد بن رمح بن المهاجر أنبأنا ابن وهب عن حفص بن ميسرة عن زيد بن أسلم عن أنس به.
قال السيوطي نقلاً عن الحافظ: وهذا أمثل طرق الحديث فإن رجاله ثقات، وبكر بن سهل وإن كان النسائي تكلّم فيه فقد توبع عليه، قال إسماعيل بن الفضل الاخشيد في "فوائده": حدثنا أبوطاهر بن عبدالرحيم حدثنا أبوبكر بن المقري حدثنا أبوعروبة الحراني حدثنا مخلد بن مالك حدثنا الصنعاني، هو حفص بن ميسرة به.
قال الحافظ كما في "اللآلي" (ج1 ص140): ومخلد بن مالك وثّقه أبوزرعة ولا أعلم فيه جرحًا، وباقي الإسناد أثبات، فلو لم يكن لهذا الحديث سوى هذا لكان كافيًا في الرّدّ على من حكم بوضعه فضلاً عن أن يكون له أسانيد أخرى. اهـ المراد من "اللآلي المصنوعة".
141- قال الحاكم رحمه الله في "المستدرك" (ج3 ص478): حدثنا عبدالله بن إسحاق الخراساني العدل ببغداد ثنا جعفر بن محمد بن شاكر ثنا عثمان بن الهيثم ثنا الهيثم بن الأشعث عن محمد بن عمارة الأنصاري عن جهم بن عثمان السلمي عن محمد بن عبدالله[268] بن عمرو بن عثمان عن عبدالله بن أبي بكر الصديق قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إذا بلغ المرء المسلم أربعين سنةً صرف الله عنه ثلاثة أنواع من البلاء: الجنون والجذام والبرص، وإذا بلغ خمسين سنةً غفر له ذنبه ما تقدّم منه وما تأخّر، وكان أسير الله في الأرض، والشّفيع في أهل بيته يوم القيامة)).
قال الحافظ السيوطي في "اللآلئ المصنوعة" (ج1 ص141): في إسناده ضعف وإرسال، قال الحافظ ابن حجر: وفي رواته من لا يعرف حاله، ثم هو منقطع بين محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان وبين عبدالله بن أبي بكر فإن وفاة عبدالله قبل وجود[269] محمد. اهـ
وذكر الحافظ نحو ذلك في "الإصابة"، وقال في آخره: قال الدارقطني: في إسناده نظر تفرّد به عثمان بن الهيثم المؤذن عن رجال ضعفاء. اهـ المراد من "الإصابة".
142- قال البغوي في "معجمه" وأبويعلى في "مسنده" كما في "اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (ج1 ص139): حدثنا عبيدالله بن عمر القواريري حدثنا عزرة بن قيس الأزدي حدثنا أبوالحسن الكوفي عن عمرو ابن أوس قال: قال محمد بن عمرو بن عثمان عن عثمان بن عفان عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إذا بلغ العبد الأربعين خفّف الله تعالى عنه حسابه، فإذا بلغ الخمسين ليّن الله عليه الحساب، فإذا بلغ السّتين رزقه الله الإنابة إليه، فإذا بلغ سبعين أحبّه أهل السّماء، فإذا بلغ الثّمانين أثبتتْ حسناته، ومحيتْ سيّئاته، فإذا بلغ تسعين غفر الله له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر، وشفّعه في أهل بيته، وكتب في أهل السّماء أسير الله في أرضه)).
قال أبوعبدالرحمن: غالب أسانيد هذه الأحاديث تدور على مجروحين ومجاهيل إلا الحديث الذي رواه البيهقي في "الزهد" مع متابعة بكر بن سهل، فالذي يظهر لي أن الحديث بمجموع طرقه صالح للحجية. والله أعلم.
وإن كنت تريد المزيد راجعت "القول المسدد في الذبّ عن مسند أحمد" ص(29) -إلى آخر البحث حول الحديث-، و"اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة" (ج1 ص138) -إلى آخر البحث حول الحديث-، و"الخصال المكفرة" للحافظ ابن حجر (ج1 ص264) -من الرسائل المنيرية- و"مجمع الزوائد" (ج10 ص205-206)، فقد قال في بعض طرق حديث أنس: رواه البزار بإسنادين، ورجال أحدهما ثقات.
143- قال ابن حبان في "الضعفاء" (ج1 ص276): وقد روى حمزة بن أبي حمزة عن عطاء بن أبي رباح ونافع عن ابن عمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم صلى على مقبرة فقيل له: يا رسول الله، أيّ مقبرة هذه؟ قال: ((هي مقبرة بأرض العدوّ يقال لها: عسقلان، يفتحها ناس من أمّتي يبعث الله منها سبعين ألف شهيد، يشفع الرّجل منهم في مثل ربيعة ومضر، ولكلّ عروس في الجنّة، وعروس الجنّة عسقلان)).
أنبأه الحسن بن سفيان ثنا سويد بن سعيد ثنا حفص بن ميسرة ثنا حمزة ابن أبي حمزة. اهـ
قال ابن حبان: ينفرد -أي حمزة بن أبي حمزة- بالأشياء الموضوعات كأنه كان المتعمد لها، لا تحل الرواية عنه.
الحديث أورده ابن الجوزي في "الموضوعات" (ج2 ص52)، وقال ص(54): في سنده حمزة بن أبي حمزة، قال أحمد بن حنبل: هو مطروح الحديث. وقال يحيى: ليس بشيء لا يساوي فلسًا. وقال النسائي والدارقطني: متروك الحديث. وقال ابن عدي: يضع الحديث. ثم ذكر قول ابن حبان المتقدم.
وفي سند الحديث سويد بن سعيد، وقد كان ابن معين يحمل عليه، وقال صالح جزرة: سويد صدوق إلا أنه عمي فكان يلقّن ما ليس من حديثه. اهـ من "الميزان".
وقد ذكر السيوطي في "اللآلئ" (ج1 ص461) لهذا الحديث شاهدًا لكنّه من طريق العباس بن الوليد، وقد قال أبوحاتم: يكتب حديثه، شيخ. وقال الآجري: سألت أبا داود عنه فقال: كان عالمًا بالرّجال والأخبار لا أحدث عنه. اهـ
وقال عبدالرحمن المعلمي رحمه الله في تعليقه على "الفوائد المجموعة" ص(431): رواه الدولابي في "الكنى" (ج2 ص63)، وقال: منكر جدًا وهو شبه حديث الكذابين.
ثم قال المعلمي: وفي سنده الهذيل بن مسعر الأنصاري لم أجده، وليس هو بهزيل أو هذيل بن مسعدة الذي ذكره البخاري وابن أبي حاتم فإنّهما وصفاه بأنه أخو علي بن مسعدة وعلي باهلي. اهـ
144- قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج2 ص241): حدثنا عبدالله بن محمد بن جعفر قال: ثنا علي بن إسحاق قال: ثنا الحسين بن الحسن قال: ثنا عبدالله بن المبارك[270] عن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر قال: بلغنا أن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((يكون في أمّتي رجل يقال له: صلة، يدخل الجنّة بشفاعته كذا وكذا)).
الحديث أخرجه ابن المبارك في "الزهد" ص(297)، وهو حديث معضل فإن عبدالرحمن بن يزيد بن جابر يروي عن التابعين.
145- قال ابن خزيمة رحمه الله ص(315): حدثنا إسحاق بن منصور قال: ثنا عبدالرزاق عن معمر قال: أخبرني ثابت البناني أنه سمع أنس بن مالك يقول: قال النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ الرّجل يشفع للرّجلين وللثّلاثة، والرّجل للرّجل)).
الحديث رجاله رجال الصحيح، وفي رواية معمر عن ثابت ضعف لكنها تصلح في الشواهد والمتابعات.
146- قال الحاكم رحمه الله (ج3 ص399): حدثني أبوعمرو محمد بن جعفر ابن محمد بن مطر العدل الزاهد وأنا سألته ثنا أبوحبيب العباس بن أحمد بن محمد بن عيسي القاضي ثنا أبوبكر عبدالله بن عبيدالله الطلحي ثنا عبدالله ابن محمد بن إسحاق بن موسى بن طلحة بن عبيدالله حدثني أبوحذيفة الحصين بن حذيفة بن صيفي بن صهيب عن أبيه عن جده عن صهيب قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول في المهاجرين الأوّلين: ((هم السّابقون الشّافعون المدلّون على ربّهم تبارك وتعالى، والّذي نفسي بيده إنّهم ليأتون يوم القيامة وعلى عواتقهم السّلاح فيقرعون باب الجنّة، فتقول لهم الخزنة: من أنتم؟ فيقولون: نحن المهاجرون. فتقول لهم الخزنة: هل حوسبتم؟ فيجثون على ركبهم، وينثرون ما في جعابهم ويرفعون أيديهم إلى السّماء فيقولون: أي ربّ، وماذا نحاسب؟ فقد خرجْنا وتركْنا الأهل والمال والولد فيمثّل الله لهم أجنحةً من ذهب مخوّصةً بالزبرجد والياقوت، فيطيرون حتّى يدخلوا الجنّة فذلك قوله {وقالوا الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن} الآية إلى {لغوب}))
قال أبوحذيفة: قال حذيفة: قال صيفي: قال صهيب قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((فلهم بمنازلهم في الجنّة أعرف منهم بمنازلهم في الدّنيا)).
غريب الإسناد والمتن، ذكرته في (مناقب صهيب) لأنه من المهاجرين الأولين، والراوي للحديث أعقابه، والحديث لأصحابه، ولم نكتبه إلا عن شيخنا الزاهد أبي عمرو رحمه الله.
الحديث أخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج1 ص156).
وقال الذهبي رحمه الله متعقبًا الحاكم: قلت: بل كذب، وإسناده مظلم.
147- قال أبوداود رحمه الله (ج3 ص34): حدثنا أحمد بن صالح حدثنا يحيى ابن حسان حدثنا الوليد بن رباح الذماري حدثني عمي نمران بن عتبة الذماري قال: دخلنا على أمّ الدّرداء ونحن أيتام، فقالت: أبشروا فإنّي سمعت أبا الدّرداء يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((يشفّع الشّهيد في سبعين من أهل بيته)).
قال أبوداود: صوابه: رباح بن الوليد.
الحديث أخرجه ابن حبان كما في "الموارد" ص(388)، والآجري في "الشريعة" ص(350)، والبيهقي (ج1 ص164).
والحديث يدور على نمران بن عتبة، وقد قال الذهبي في "الميزان": لا يدرى من هو؟.
148- قال الترمذي رحمه الله (ج3 ص106): حدثنا عبدالله بن عبدالرحمن حدثنا نعيم بن حماد حدثنا بقية بن الوليد عن بحير بن سعد عن خالد بن معدان عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((للشّهيد عند الله ستّ خصال: يغفر له في أوّل دفعة، ويرى مقعده من الجنّة، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار، الياقوتة منها خير من الدّنيا وما فيها، ويزوّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور العين، ويشفّع في سبعين من أقاربه)).
هذا حديث حسن صحيح غريب.
الحديث أخرجه ابن ماجه (ج2 ص935) فقال: حدثنا هشام بن عمار ثنا إسماعيل بن عياش حدثني بحير بن سعيد به.
وأخرجه أحمد (ج3 ص131)، والآجري في "الشريعة" ص(349).
والحديث يدور علي بحير بن سعيد وهو ثقة، يرويه عن خالد بن معدان وخالد ثقة لكنه يرسل كثيرًا ولم يصرح بالتحديث من المقدام، وقد قال الإسماعيلي كما في "تهذيب التهذيب": بينه وبين المقدام بن معد يكرب جبير بن نفير، قال الحافظ: وحديثه عن المقدام في "صحيح البخاري". اهـ
وكون حديثه عنه في "صحيح البخاري" لا يلزم أنه لا يرسل عنه لكن الحديث في الشواهد فلا يضر.
149- قال البزار رحمه الله كما في "كشف الأستار" (ج2 ص283): حدثنا سلمة بن شبيب -فيما أحسب- ثنا محمد بن معاوية ثنا مسلم بن خالد عن شريك بن أبي نمر عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم، وذكر الحديث في فضل الشّهداء، وفيه: ((ولا يسألون شيئًا إلاّ أعطوه، ولا يشفعون في شيء إلاّ شفّعوا فيه، ويعطون في الجنّة ما أحبّوا ويتبوؤن من الجنّة حيث أحبّوا)).
قال البزار: لا نعلمه عن أنس إلا بهذا الطريق، ومحمد بن معاوية قد حدث بأحاديث لم يتابع عليها، وأحسب هذا أتى منه، لأن مسلم بن خالد لم يكن بالحافظ.
الحديث -كما يقول البزار رحمه الله- في سنده محمد بن معاوية وهو النيسابوري، لأن سلمة بن شبيب كان مستمليه كما في "الميزان"، وقد كذبه ابن معين والدارقطني وغيرهما، كما في "الميزان" و"تهذيب التهذيب".
150- قال البزار رحمه الله كما في "كشف الأستار" (ج2 ص8): حدثنا محمد بن عمر بن هياج ثنا يحيى بن عبدالرحمن[271] الأرحبي ثنا عبيدة بن الأسود عن سنان بن الحارث عن طلحة بن مصرف عن مجاهد عن ابن عمر قال: كنت جالسًا مع النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم -فذكر الحديث في فضل الحج وفيه- ((إنّ الله يقول لهم عند وقوفهم بعرفة: أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له)) الحديث.
قال البزار: قد روي هذا الحديث من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق.
وقال الهيثمي في "المجمع" (ج4 ص275): رواه البزار ورجاله موثقون.
قال أبوعبدالرحمن: سنان بن الحارث ذكره ابن أبي حاتم، وذكر أنه روى عنه ثلاثة ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، فهو مستور الحال، وعبيدة ابن الأسود قال أبوحاتم: ما بحديثه بأس. وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: يعتبر حديثه إذا بيّن السّماع وكان فوقه ودونه ثقات. اهـ من "تهذيب التهذيب".
ويحيى بن عبدالرحمن الأرحبي: قال الذهبي في "الميزان": صويلح، وقال الدارقطني: صالح يعتبر به. ومحمد بن عمر بن هياج: قال النسائي: لا بأس به. وقال محمد بن عبدالله الحضرمي: كان ثقة. فعلى هذا فالحديث صالح في الشواهد والمتابعات.
151- قال البزار رحمه الله كما في "كشف الأستار" (ج2 ص9): حدثنا ابن سنجر ثنا الحسن بن الربيع ثنا العطاف بن خالد المخزومي عن إسماعيل بن رافع عن أنس بن مالك قال: كنت قاعدًا مع رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم -فذكر الحديث في فضل الحج وفيه:- ((وأمّا وقوفك عشيّة عرفة فإنّ الله تبارك وتعالى يهبط إلى السّماء الدّنيا فيباهي بكم الملائكة، يقول: هؤلاء عبادي جاءوا شعثًا شفعاء من كلّ فجّ عميق يرجون رحمتي ومغفرتي، فلو كانت ذنوبكم كعدد الرّمل، وكعدد القطر، وكزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورًا لكم ولمن شفعتم له)).
الحديث قال الهيثمي في "المجمع" (ج3 ص276): رواه البزار وفيه إسماعيل بن رافع وهو ضعيف.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث فيه انقطاع، فإنّهم لم يذكروا من مشايخ إسماعيل بن رافع أنسًا، كما في "الميزان" و"تهذيب التهذيب".
وإسماعيل بن رافع قال فيه النسائي: ليس بثقة. كما في "تهذيب التهذيب"، فعلى هذا فالحديث لا يثبت بهذا السند. والله أعلم.
152- قال الإمام الخطيب أبوبكر أحمد بن علي في "التاريخ" (ج3 ص123): وسمعته يقول -يعني محمد بن العباس أبا بكر القاص- حدثنا أبوبكر محمد ابن أحمد المفيد حدثنا الحسن بن علي بن زيد حدثنا حاجب ابن سليمان حدثنا وكيع بن الجراح حدثنا سفيان بن سعيد الثوري قال: حدثني سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله قال: كنا عند النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال: ((يطلع عليكم رجل لم يخلق الله بعدي أحدًا هو خير منه ولا أفضل، وله شفاعة مثل شفاعة النبيّين)) فما برحنا حتى طلع أبوبكر الصّدّيق، فقام النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقبّله والتزمه.
قال أبوعبدالرحمن: ذكر هذا في ترجمة محمد بن العباس أبي بكر القاص وهو تالف.
153- قال الإمام ابن عدي في "الكامل" (ج1 ص375): حدثنا الحسين بن عبدالغفار الأزدي بمصر حدثنا سعيد بن كثير بن عفير ثنا الفضل بن المختار عن أبان عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لأبي بكر رضي الله عنه: ((ما أطيب مالك، منه بلال مؤذّني وناقتي الّتي هاجرت عليها، وزوجتي ابنتك وواسيتني بنفسك ومالك كأني أنظر إليك على باب الجنّة تشفع لأمّتي)).
الحديث ضعيف جدًا ففيه الحسين بن عبدالغفار، قال الدارقطني: متروك. وقال ابن عدي: حدثنا عن جماعة لم يحتمل سنّه لقاءهم وله مناكير. اهـ "الميزان".
وفيه أيضًا أبان بن أبي عياش ضعيف جدًا، والحديث ذكره الذهبي في "الميزان" في ترجمته.
وفيه أيضًا الفضل بن المختار ضعيف جدًا يحدّث بالأباطيل، ينظر "الميزان" و"الكامل" لابن عدي.
فصل في شفاعة الأولاد لآبائهم
154- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص509): ثنا يزيد أنا حماد بن سلمة عن عاصم بن أبي النجود عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ الله عزّ وجلّ ليرفع الدّرجة للعبد الصّالح في الجنّة، فيقول: يا ربّ أنّى لي هذه؟ فيقال: باستغفار ولدك لك)).
الحديث رجاله رجال الصحيح.
155- قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2029): حدثنا سويد بن سعيد ومحمد ابن عبدالأعلى -وتقاربا في اللفظ- قالا: حدثنا المعتمر عن أبيه عن أبي السليل[272] عن أبي حسان قال: قلت لأبي هريرة: إنّه قد مات لي ابنان، فما أنت محدّثي عن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم بحديث تطيّب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: قال: نعم، ((صغارهم دعاميص الجنّة يتلقّى أحدهم أباه -أو قال: أبويه- فيأخذ بثوبه -أو قال: بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا فلا يتناهى -أو قال فلا ينتهي- حتّى يدخله الله وأباه الجنّة)).
وفي رواية سويد قال: حدثنا أبوالسليل، ثم قال مسلم: وحدثنيه عبيدالله ابن سعيد حدثنا يحيى -يعني ابن سعيد- عن التيمي بهذا الإسناد، وقال: فهل سمعت من رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم شيئًا تطيب به أنفسنا عن موتانا؟ قال: نعم.
الحديث أخرجه أحمد (ج2 ص488 وص510)، والبخاري في "الأدب" ص(63)، والبيهقي (ج4 ص67-68).
156- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص510): ثنا إسحاق[273] أنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحنث إلاّ أدخلهما الله وإيّاهم بفضل رحمته الجنّة، وقال: يقال: لهم ادخلوا الجنّة. قال: فيقولون حتّى يجيء أبوانا. قال: ثلاث مرّات، فيقولون مثل ذلك فيقال: لهم ادخلوا الجنّة أنتم وأبواكم)).
الحديث رواه النسائي (ج4 ص22)، والبيهقي (ج4 ص68)، وهو على شرط الشيخين.
157- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج4 ص105): ثنا أبوالمغيرة[274] ثنا حريز قال: ثنا شرحبيل بن شفعة عن بعض أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم أنّه سمع النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((يقال للولدان يوم القيامة: ادخلوا الجنّة. قال: فيقولون: يا ربّ حتّى يدخل آباؤنا وأمّهاتنا. قال: فيأتون، قال: فيقول الله عزّ وجلّ: ما لي أراهم محبنطئين[275]، ادخلوا الجنّة. قال: فيقولون: يا ربّ آباؤنا وأمّهاتنا. قال: فيقول: ادخلوا الجنّة أنتم وآباؤكم)).
الحديث رواه يعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص343) وسمى الصحابي عتبة بن عبد السلمي، وقال الهيثمي (ج3 ص11): رواه أحمد ورجاله ثقات.
وأقول: الحديث في سنده شرحبيل بن شفعة لم يرو عنه إلا حريز، ولم يوثّقه إلا ابن حبان، فهو مجهول العين، وأما ابن حبان فهو يوثّق المجهولين كما في مقدمة "لسان الميزان" و"فتح المغيث".
وأما قول أبي داود: إن مشايخ حريز ثقات ففيه نظر، فإن من مشايخ حريز: عبدالرحمن بن ميسرة كما في ترجمة حريز من "تهذيب التهذيب"، وقد قال ابن المديني : إنه مجهول ووثقه العجلي كما في "الميزان"، والعجلي قريب من ابن حبان في توثيق المجهولين.
ومن مشايخ حريز القاسم بن عبدالرحمن الشامي: وقد قال الإمام أحمد: روى عنه علي بن يزيد أعاجيب، وما أراها إلا من قبل القاسم، وإن كان القاسم قد وثّق إلا أنّ الجرح فيه مفسّر من الإمام أحمد ومن ابن حبان.
وقد اشتهر أن جماعة كانوا لا يروون إلا عن ثقة في الغالب كما في "فتح المغيث" (ج1 ص293)، منهم الإمام أحمد: وقد روى عن عامر بن صالح وغيره من الضعفاء كما في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" ص(18-19)، ومنهم مالك: وقد روى عن عبدالكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف، ومنهم شعبة: وقد قال: لو لم أحدثكم إلا عن ثقة لم أحدثكم عن ثلاثة -وفي نسخة: ثلاثين-. قال السخاوي: وذلك اعتراف منه بأنه يروي عن الثقة وغيره.
هذا وقد جاء الحديث من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، ذكره ابن حبان في "الضعفاء" (ج2 ص108) في ترجمة علي بن الربيع وذكره الذهبي في ترجمته، وفي ترجمة علي بن نافع، وقال ابن حبان: هذا حديث منكر لا أصل له من حديث بهز بن حكيم، وعلي هذا يروي المناكير، فلما كثر في روايته المناكير بطل الاحتجاج به.
158- قال الإمام الحافظ يعقوب الفسوي في "المعرفة والتاريخ" (ج2 ص341): حدثني أبوتوبة قال: حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام قال: حدثني عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي يقول: جاء أعرابيّ إلى رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال له: ما حوضك الّذي تحدّث عنه؟ قال: ((هو كما بين البيضاء إلى بصرى، ثم يمدّني الله عزّ وجلّ فيه بكراع فلا يدري بشر ممن خلق أين طرفاه)) قال: فكبّر عمر بن الخطّاب، فقال: ((أمّا الحوض فيزدحم عليه فقراء المهاجرين الّذين يقتلون في سبيل الله، ويموتون في سبيل الله عزّ وجلّ)) وأرجو أن يوردني الله عزّ وجلّ الكراع فأشرب منه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ ربّي عزّ وجلّ وعدني أن يدخل الجنّة من[276] أمّتي سبعين ألفًا بغير حساب، ثمّ يشفّع كل ألف بسبعين ألفًا، ثمّ يحثي لي بكفّيه ثلاث حثيات)) وكبّر عمر، فقال: ((إنّ السّبعين الألف الأوّلين يشفّعهم الله عزّ وجلّ في آبائهم وأبنائهم وعشائرهم)) وأرجو[277] أن يجعلني الله عزّ وجلّ في إحدى الحثيات الأواخر، وقال الأعرابي: يا رسول الله أفيها فاكهة؟ قال: ((نعم، إنّ فيها شجرة تدعى طوبى، هي تطابق الفردوس)) قال: أيّ شجر أرضنا تشبه؟ قال: ((ليس شبه شيء من شجر أرضكم، ولكن أتيت الشّام؟)) فقال: لا يا رسول الله. قال: ((فإنّها تشبه شجرةً بالشّام تدعى: جوز، تنبت على ساق واحد وينتشر أعلاها)) قال: ما عظم أصلها؟ قال: ((لو ارتحلتْ جذعة من إبل أهلك ما أحاطتْ بأصلها حتّى ينكسر ترقواها هرمًا)) قال: فيها عنب؟ قال: ((نعم)) قال: وما عظم العنقود فيها؟ قال: ((مسيرة شهر للغراب، لا يقع ولا يني ولا يقرّ)) قال: ما عظم الحبّة منها؟ قال: ((هل ذبح أبوكم تيسًا قطّ من غنمه قطّ عظيمًا؟)) قال: نعم. قال: ((فسلخ إهابها فأعطاها أمّك، فقال: ادبغي لنا هذه، ثمّ افري لنا منه دلوًا نروي به ماشيتنا؟)) قال: نعم. قال: ((فإنّ تلك تسعني وأهل بيتي؟)) قال: نعم، وعامة عشيرتك.
الحديث أخرجه الطبراني كما في "تفسير ابن كثير" (ج1 ص394) وقال الحافظ ابن كثير: قال الحافظ الضياء أبوعبدالله المقدسي في كتابه "صفة الجنة": لا أعلم لهذا الإسناد علة.
قال أبوعبدالرحمن: الحديث في سنده عامر بن زيد البكالي، وقد روى عنه أبوسلام كما في هذا السند، وفي "موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان" ص(647)، وروى عنه أيضًا يحيى بن أبي كثير كما في "المسند" (ج4 ص183)، فهو مستور الحال يصلح حديثه في الشواهد والمتابعات.
159- قال أبونعيم رحمه الله في "أخبار أصبهان" (ج2 ص15): حدثنا الحسين بن علي بن بكر ثنا علي بن الحسن بن علي[278] ثنا محمد بن غالب ثنا عبدالصمد بن النعمان ثنا ركن أبوعبدالله عن مكحول عن أبي أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ ذراري المسلمين يوم القيامة تحت العرش شافع مشفّع، ما لم يبلغوا اثنتي عشرة سنةً فعليه وله)).
الحديث في سنده انقطاع لأن مكحولاً لم يثبت سماعه من أبي أمامة كما في "تهذيب التهذيب"، وقد ذكر الحافظ في "التقريب" أنه ثقة فقيه كثير الإرسال.
وفي سنده أيضًا ركن الشامي، قال الذهبي في "الميزان": ركن الشامي عن مكحول وغيره، وهّاه ابن المبارك، وقال يحيى: ليس بشيء. وقال الدارقطني والنسائي: متروك. ثم ذكر حديثين تفرد بهما، هذا أحدهما.
160- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج5 ص35): ثنا وكيع ثنا شعبة عن معاوية ابن قرة عن أبيه قال: إنّ رجلاً كان يأتي النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم ومعه ابن له، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((أتحبّه؟)) فقال: يا رسول الله أحبّك الله كما أحبّه. ففقده النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فقال لي: ((ما فعل ابن فلان؟)) قالوا: يا رسول الله مات. فقال النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم لأبيه: ((أما تحبّ أن لا تأتي بابًا من أبواب الجنّة إلاّ وجدته ينتظرك؟)) فقال الرّجل[279]: يا رسول الله أله خاصّةً؟ أو لكلّنا؟ قال: ((بل لكلّكم)).
ثنا محمد بن جعفر أنا شعبة قال: سمعت معاوية بن قرة يحدث عن أبيه أن رجلاً كان يأتي النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم فذكر مثله.
فصل المسلم الذي لا تقبل شفاعته
161- قال مسلم رحمه الله (ج4 ص2006): حدثنا أبوبكر بن أبي شيبة حدثنا معاوية بن هشام عن هشام بن سعد عن زيد بن أسلم وأبي حازم عن أم الدرداء عن أبي الدّرداء سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((إنّ اللّعّانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة)).
الحديث أخرجه أبوداود (ج5 ص212)، وأحمد (ج6 ص448)، والبخاري في "الأدب المفرد" ص(117) وفي "التاريخ الكبير" (ج2 ص22)، وأبونعيم في "الحلية" (ج3 ص259)، والحاكم في "المستدرك" (ج1 ص48)، وقال: وقد خرجه مسلم بهذا اللفظ.
أسباب الشفاعة
شفاعة القرآن
162- قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص345): حدثنا علي بن حجر أخبرنا حفص بن سليمان عن كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((من قرأ القرآن واستظهره فأحلّ حلاله وحرّم حرامه، أدخله الله به الجنّة، وشفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم وجبت له النّار)).
هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وليس إسناده بصحيح، وحفص بن سليمان أبوعمر بزاز كوفي يضعّف في الحديث.
الحديث أخرجه أحمد (ج1 ص148-149)، والآجري في "الشريعة" ص(350)، وأبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص255)، والخطيب في "موضح أوهام الجمع والتفريق" (ج2 ص331).
والحديث ضعيف جدًا، ففي "الميزان": كثير بن زاذان عن عاصم بن ضمرة له حديث منكر. قال أبوزرعة وأبوحاتم: مجهول. ثم قال الذهبي: قلت: روى عنه حفص بن سليمان الغاضري وحماد بن واقد وعنبسة قاضي الري. وقال ابن معين: لا أعرفه. اهـ
وفي سند الحديث أيضًا حفص بن سليمان المقرئ وقد قال ابن معين: ليس بثقة. وقال البخاري: تركوه. وقال أبوحاتم: متروك لا يصدق. اهـ من "الميزان".
وأما في القراءة فمتقن، أحد القراء السبعة المعتمد على قراءتهم.
وللحديث طريق أخرى من حديث عائشة ذكرها الذهبي في "الميزان" في ترجمة أحمد بن محمد بن حسين السقطي، وقال: ذكروا أن أحمد بن محمد ابن حسين السقطي وضعه على يحيى.
وذكره ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (ج1 ص107) من طريق أحمد ابن محمد السقطي به.
163- قال الترمذي رحمه الله (ج4 ص238): حدثنا محمد بن بشار أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبة عن قتادة عن عباس الجشمي عن أبي هريرة عن النّبيّ صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((إنّ سورةً من القرآن ثلاثون آيةً شفعت لرجل حتّى غفر له وهي سورة {تبارك الّذي بيده الملك))}.
هذا حديث حسن.
الحديث أخرجه أبوداود (ج2 ص119)، وابن ماجة (ج2 ص1244)، وأحمد (ج2 ص321)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(321)، والحاكم (ج1 ص565) وقال: صحيح الإسناد، وسكت عليه الذهبي.
وقال الحافظ المنذري في "مختصر السنن" (ج2 ص116): وقد ذكره البخاري في "التاريخ الكبير" من رواية عباس الجشمي عن أبي هريرة كما أخرجه أبوداود، ومن ذكره معه، قال: لم[280] يذكرْ سماعًا من أبي هريرة. يريد أنّ عباسًا الجشمي روى هذا الحديث عن أبي هريرة ولم يذكر فيه أنه سمعه من أبي هريرة.
وقال الحافظ في "التقريب" في ترجمة عباس: إنه مقبول، فعلى هذا فالحديث ضعيف بهذا السند، والله أعلم.
164- قال الحاكم رحمه الله (ج1 ص568): وأخبرنا بكر بن محمد ثنا عبدالصمد بن الفضل ثنا مكي بن إبراهيم ثنا عبيدالله بن أبي حميد عن أبي المليح عن معقل بن يسار رضى الله عنه: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((اعملوا بالقرآن، أحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه، واقتدوا به، ولا تكفروا بشيء منه، وما تشابه عليكم منه فردّوه إلى الله وإلى أولي الأمر من بعدي، كيما يخبروكم، وآمنوا بالتّوراة والإنجيل والزّبور، وما أوتي النّبيّون من ربّهم، وليسعكم القرآن وما فيه من البيان فإنّه لشافع مشفّع، وماحل مصدّق، ألا ولكلّ آية نور يوم القيامة، وإني أعطيت سورةً البقرة من الذكر الأوّل، وأعطيت طه وطواسين والحواميم من ألواح موسى، وأعطيت فاتحة الكتاب من تحت العرش)).
هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
وتعقبه الذهبي فقال: عبيدالله، قال أحمد: تركوه.
الحديث ذكره ابن حبان في "الضعفاء" (ج2 ص65) في ترجمة عبيدالله ابن أبي حميد وذكر ما فيه من القدح.
- وقال الحاكم رحمه الله (ج3 ص578): حدثنا أبوالنضر الفقيه ثنا عثمان بن سعيد الدارمي وعلي بن عبدالعزيز قالا: ثنا عبدالله بن رجاء أنبأ عمران القطان[281] عن عبيدالله بن معقل بن يسار المزني عن أبيه رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((اعملوا بكتاب الله، ولا تكذّبوا بشيء منه، فما اشتبه عليكم منه فاسألوا عنه أهل العلم يخبروكم، آمنوا بالتّوراة والإنجيل، وآمنوا بالفرقان فإنّ فيه البيان، وهو الشّافع وهو المشفّع والماحل والمصدّق)) اهـ
عبيدالله بن معقل بن يسار ما وجدت له ترجمة.
165- قال أبونعيم رحمه الله في "الحلية" (ج4 ص108): حدثنا أبوإسحاق ابن حمزة ثنا محمد بن سليمان (ح) وحدثنا محمد بن حميد ثنا عبدان بن أحمد قالا: ثنا هشام بن عمار ثنا الربيع بن بدر عن الأعمش عن أبي وائل عن عبدالله رضى الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((القرآن شافع مشفّع، وماحل مصدّق، من جعله أمامه، قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النّار)).
غريب من حديث الأعمش تفرد به عنه الربيع.
الحديث أخرجه الطبراني في "الكبير" (ج10 ص244).
والحديث ضعيف جدًا لأن في سنده الربيع بن بدر، قال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبوداود وغيره: ضعيف. وقال النسائي: متروك. وقال ابن عدي: عامة رواياته لا يتابع عليها.
ثم ذكر له الذهبي بعد هذا أحاديث منكرة، منها هذا، ولعل الصواب وقفه، فقد رواه الدارمي رحمه الله في "سننه" (ج2 ص433) موقوفًا، فقال: حدثنا يزيد بن هارون أنا همام عن عاصم بن أبي النجود عن الشعبي أن ابن مسعود كان يقول: يجيء القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبه فيكون له قائدًا إلى الجنّة، ويشهد عليه ويكون سائقًا به إلى النّار.
الحديث فيه انقطاع، لأن رواية الشعبي وهو عامر بن شراحيل عن ابن مسعود مرسلة كما في "تهذيب التهذيب"، لكن رواه عبدالرزاق (ج3 ص373)، والطبراني في "الكبير" (ج9 ص141) بسند صحيح موقوفًا على ابن مسعود.
ولحديث ابن مسعود طريق أخرى كما في "كشف الأستار" (ج1 ص77) قال البزار رحمه الله: حدثنا أبوكريب محمد بن العلاء ثنا عبدالله بن الأجلح عن الأعمش عن المعلى الكندي عن عبدالله بن مسعود قال: إنّ هذا القرآن شافع مشفّع، من اتبعه قاده إلى الجنّة، ومن تركه -أو أعرض عنه أو كلمةً نحوها- زخّ في قفاه إلى النّار.
وحدثنا أبوكريب ثنا عبدالله بن الأجلح عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال بنحوه. اهـ
أما أثر ابن مسعود فضعيف، إذ المعلى الكندي ترجم له البخاري في "التاريخ الكبير" فقال: معلى الكندي عن محمد بن عبدالرحمن، روى عنه الأعمش، يعدّ في الكوفيين، منقطع.
وترجم له ابن أبي حاتم في "الجرح والتعديل"، وذكر نحو قول البخاري إلا أنه قال: محمد بن عبدالرحمن بن يزيد.
وإذا كان منقطعًا في روايته عن محمد بن عبدالرحمن الذي هو ليس بصحابي، فبالأولى عن عبدالله بن مسعود، ثم المعلى مجهول فقد ذكره البخاري وابن أبى حاتم ولم يذكرا فيه جرحًا ولا تعديلاً.
166- أما حديث جابر الذي تقدمت الإشارة إليه، فقال ابن حبان رحمه الله في "الموارد" ص(443): أخبرنا الحسين بن أبي معشر[282] بحرّان حدثنا محمد ابن العلاء بن كريب حدثنا عبدالله بن الأجلح عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((القرآن شافع مشفّع، وماحل مصدّق، من جعله أمامه، قاده إلى الجنّة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النّار)).
الحديث حسن.
167- قال مسلم رحمه الله (ج1 ص553): حدثني حسن بن علي الحلواني حدثنا أبوتوبة وهو الربيع بن نافع حدثنا معاوية -يعني ابن سلام- عن زيد أنه سمع أبا سلام يقول: حدثني أبوأمامة الباهلي قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((اقرءوا القرآن فإنّه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرءوا الزّهراوين البقرة وسورة آل عمران فإنّهما تأتيان يوم القيامة كأنّهما غمامتان -أو كأنّهما غيايتان أو كأنّهما فرقان- من طير صوافّ تحاجّان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة فإنّ أخذها بركة وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة)).
الحديث أخرجه أحمد (ج5 ص249 وص255-257)، وابن حبان (ج1 ص183) من "ترتيب الصحيح"، والحاكم (ج1 ص564)، والطبراني في "الكبير" (ج8 ص138).
168- قال الإمام عبدالله بن عبدالرحمن أبومحمد الدارمي (ج2 ص430): حدثنا موسى بن خالد ثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن سفيان عن عاصم عن مجاهد عن ابن عمر قال: يجيء القرآن يشفع لصاحبه يقول: يا ربّ لكلّ عامل عمالة من عمله، وإنّي كنت أمنعه اللّذة والنّوم فأكرمه. فيقال: ابسط يمينك. فيملأ من رضوان الله، ثمّ يقال: ابسط شمالك. فيملأ من رضوان الله، ويكسى كسوة الكرامة ويحلّى بحلية الكرامة، ويلبس تاج الكرامة.
الحديث موقوف ورجاله رجال الصحيح إلا عاصمًا وهو ابن أبي النجود، وقد رويا له مقرونًا، وحديثه حسن كما في "الميزان".
169- قال الدارمي رحمه الله (ج2 ص455): حدثنا عبدالله بن صالح حدثني معاوية بن صالح أنه سمع أبا خالد عامر بن جشيب[283] وبحير بن سعد يحدثان أن خالد بن معدان قال: إنّ {ألم تنْزيل} تجادل عن صاحبها في القبر تقول: اللّهمّ إن كنت من كتابك فشفّعني فيه، وإن لم أكن من كتابك فامحني عنه، وإنّها تكون كالطّير تجعل جناحها عليه فيشفع له، فتمنعه من عذاب القبر، وفي {تبارك} مثله.
فكان خالد لا يبيت حتى يقرأ بهما.
هذا أثر مقطوع، وعبدالله بن صالح شيخ الدارمي ضعيف.
170- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج2 ص174): ثنا موسى بن داود ثنا ابن لهيعة عن حييّ بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن الحبلي عن عبدالله بن عمرو أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((الصّيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصّيام: أي ربّ منعته الطّعام والشّهوات بالنّهار فشفّعني فيه. ويقول القرآن: منعته النّوم باللّيل فشفّعني فيه. قال: فيشفّعان)).
الحديث أخرجه محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" ص(25)، والحاكم (ج1 ص554) كلاهما من طريق عبدالله بن وهب عن حيي بن عبدالله به.
وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
وأخرجه أبونعيم في "الحلية" (ج8 ص161) فقال: حدثني أبي ومحمد ابن جعفر بن يوسف قالا: ثنا محمد بن جعفر ثنا إسماعيل بن يزيد ثنا إبراهيم بن الأشعث ثنا وهيب ثنا رشدين عن حسين بن عبدالله عن أبي عبدالرحمن الحبلي به.
ثم قال أبونعيم عقبه: غريب من حديث وهيب ورشدين، لم نكتبه إلا من حديث إبراهيم بن الأشعث. اهـ
الحديث من رواية أحمد ومحمد بن نصر والحاكم من طريق حيي بن عبدالله، وقد قال البخاري: فيه نظر. وهذا عند البخاري من أردى عبارات الجرح كما في "فتح المغيث"، وتوثيق من وثّقه معارض بهذا التجريح المفسر عند البخاري.
وحديث أبي نعيم في سنده حسين بن عبدالله بن عبيدالله بن عباس الهاشمي المدني وهو ضعيف، وقال النسائي: متروك، وقال في موضع آخر: ليس بثقة. كما في "تهذيب التهذيب"، يرويه عنه رشدين بن سعد وهو ضعيف أيضًا.
وفيه أيضًا إبراهيم بن الأشعث خادم الفضيل: وقد اتّهمه أبوحاتم كما في "الميزان".
وفيه أيضًا إسماعيل بن يزيد: ترجمه أبونعيم في "أخبار أصبهان" والحافظ في "لسان الميزان"، اختلط عليه بعض حديثه في آخر أيامه، يذكر بالزهد والعبادة، حسن الحديث، كثير الغرائب.
ثم إنه قد اختلف فيه على رشدين فتارةً يرويه عن حسين بن عبدالله كما تقدم، وتارةً يرويه عن حيي عن أبي عبدالرحمن الحبلي كما في "النهاية" لابن كثير (ج2 ص216).
فتحصل من هذا أن الحديث ضعيف.
وأما قول الحاكم إنه على شرط مسلم، وكذا قول الحافظ المنذري في "الترغيب والترهيب" (ج2 ص84): إن رجاله محتج بهم في الصحيح فهو، غير صحيح، لأن حيي بن عبدالله ليس من رجال الصحيح، كما في "تهذيب التهذيب" و"الميزان".
171- قال الدارمي رحمه الله (ج2 ص430): حدثنا عبدالله بن جعفر الرقي عن عبيدالله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عاصم عن أبي صالح قال: سمعت أبا هريرة يقول: اقرءوا القرآن، فإنّه نعم الشّفيع يوم القيامة، إنّه يقول يوم القيامة: يا ربّ حلّه حلية الكرامة. فيحلّى حلية الكرامة، يا ربّ اكسه كسوة الكرامة. فيكسى كسوة الكرامة، يا ربّ ألبسه تاج الكرامة يا ربّ ارض عنه فليس بعد رضاك شيء.
الحديث أخرجه الترمذي (ج4 ص249) من حديث محمد بن بشار أخبرنا محمد بن جعفر أخبرنا شعبة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة نحوه، ثم قال الترمذي: وهذا أصح عندنا من حديث عبدالصمد عن شعبة. اهـ
يعنى أن هذا الأثر الموقوف أصح من المرفوع الآتي.
الأثر رجاله رجال الصحيح إلا عاصمًا، وهو ابن أبي النجود، فقد رويا له مقرونًا وهو حسن الحديث.
وقد رواه أبونعيم رحمه الله مرفوعًا، فقال رحمه الله (ج7 ص206): حدثنا عمر بن أحمد بن عمر ثنا علي بن العباس العجلي ثنا محمد بن خلد[284] ثنا سلم[285] بن قتيبة ثنا شعبة عن عاصم بن بهدلة عن أبي صالح عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((نعم الشّفيع القرآن لصاحبه يوم القيامة، يقول: يا ربّ أكرمه. فيلبس تاج الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ زده، ارض عنه فليس بعد رضى الله شيء)).
غريب من حديث شعبة، تفرد به سلم، وتابعه عبدالصمد عليه في بعض ألفاظه.
الحديث رواه الترمذي (ج4 ص248) وقال: هذا حديث حسن صحيح. والحاكم (ج1 ص552) وقال: صحيح الإسناد. وسكت عليه الذهبي. وليس عند الترمذي والحاكم: ((نعم الشّفيع القرآن)).
أما رجال السند: فعمر بن أحمد بن عمر: ترجمه أبونعيم في "أخبار أصبهان" (ج1 ص358) ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً. وعلي بن العباس ترجمته في "تاريخ بغداد" (ج12 ص22)، ثقة، ونسبه (النسائيّ) فلعل له نسبتين إلى القبيلة وإلى البلدة.
هذا وقد جاء الحديث مقطوعًا من قول أبي صالح:
قال الدارمي رحمه الله (ج2 ص431): أخبرنا موسى بن خالد ثنا إبراهيم بن محمد الفزاري عن الحسن بن عبيدالله[286] عن المسيب بن رافع عن أبي صالح قال: القرآن يشفع لصاحبه، فيكسى حلّة الكرامة، ثمّ يقول: يا ربّ زده. فيكسى تاج الكرامة، قال: فيقول: ربّ زده فآته، فآته، يقول: رضائي.
فالظاهر أن أبا صالح تارةً يرويه مرفوعًا، وتارةً يرويه موقوفًا، وتارةً يحدث به من قوله، وأن الكلّ صحيح، والله أعلم.
172- قل ابن السني رحمه الله ص(56): حدثنا أبوجعفر بن بكر حدثنا محمد ابن زنبور المكي حدثنا الحارث بن عمير عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((إنّ فاتحة الكتاب وآية الكرسي والآيتين من آل عمران {شهد الله أنّه لا إله إلاّ هو} و{قل اللّهمّ مالك الملك -إلى قوله- وترزق من تشاء بغير حساب} معلّقات، ما بينهنّ وبين الله عزّ وجلّ حجاب، لمّا أراد الله أنْ ينْزلن تعلّقن بالعرش، قلن: ربّنا تهبطنا إلى أرضك، وإلى من يعصيك؟ فقال الله عزّ وجلّ: بي حلفت لا يقرؤكنّ أحد من عبادي دبر كلّ صلاة إلاّ جعلت الجنّة مثواه على ما كان منه، وإلاّ أسكنته حظيرة القدس، وإلاّ نظرت إليه بعيني المكنونة كلّ يوم سبعين نظرةً، وإلاّ قضيت له كلّ يوم سبعين حاجةً أدناها المغفرة، وإلا أعذته من كلّ عدوّ، ونصرته منه، ولا يمنعه من دخول الجنّة إلاّ الموت)).
قال ابن الجوزي رحمه الله في "الموضوعات"(ج1 ص245): هذا حديث موضوع تفرد به الحارث بن عمير، قال أبوحاتم بن حبان: كان الحارث ممن يروي عن الأثبات الموضوعات، روى هذا الحديث، ولا أصل له.
وقال أبوبكر محمد بن إسحاق بن خزيمة: الحارث كذاب، ولا أصل لهذا الحديث.
قال ابن الجوزي رحمه الله: قد كنت سمعت هذا الحديث في زمن الصبا، فاستعملته نحوًا من ثلاثين سنة لحسن ظني بالرواة، فلما علمت أنه موضوع تركته، فقال قائل: أليس هو استعمال خير؟ قلت: استعمال الخير ينبغي أن يكون مشروعًا، فإذا علمنا أنه كذب، خرج عن ا لمشروعية.
والحديث ذكره الحافظ الذهبي في "الميزان" في ترجمة الحارث بن عمير وأقر ابن حبان على الحكم بوضعه.
سكنى المدينة والموت بها
173- قال الإمام مسلم رحمه الله (ج2 ص1002): وحدثنا قتيبة بن سعيد حدثنا ليث عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سعيد مولى المهريّ أنّه جاء أبا سعيد الخدريّ ليالي الحرّة فاستشاره في الجلاء من المدينة، وشكا إليه أسعارها وكثرة عياله، وأخبره أن لا صبر له على جهد المدينة ولأوائها، فقال له: ويحك لا آمرك بذلك، إنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلاّ كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة إذا كان مسلمًا)).
الحديث أخرجه الإمام أحمد (ج3 ص29، 58، 69).
174- وقال مسلم رحمه الله (ج2 ص1004): حدثني زهير بن حرب حدثنا عثمان بن عمر أخبرنا عيسى بن حفص بن عاصم حدثنا نافع عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من صبر على لأوائها كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)).
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص377)، وأحمد (ج2 ص155)، وابن حبان كما في "الموارد" ص(255)، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب.
- وقال مسلم رحمه الله (ج2 ص1004): حدثنا يحيى بن يحيى قال: قرأت على مالك عن قطن بن وهب بن عويمر بن الأجدع عن يحنس مولى الزبير أخبره أنه كان جالسًا عند عبدالله بن عمر في الفتنة[287]، فأتته مولاة له تسلّم عليه، فقالت: إنّي أردت الخروج يا أبا عبدالرحمن اشتدّ علينا الزّمان. فقال لها عبدالله: اقعدي لكاع، فإنّي سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((لا يصبر على لأوائها وشدّتها أحد إلاّ كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)).
وحدثنا محمد بن رافع حدثنا ابن أبي فديك أخبرنا الضحّاك عن قطن الخزاعي عن يحنس مولى مصعب عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((من صبر على لأوائها وشدّتها كنت له شهيدًا أو شفيعًا يوم القيامة)) يعني المدينة.
الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" (ج3 ص83) وأحمد (ج2 ص113، 119، 133).
175- قال مسلم رحمه الله (ج2 ص1004): وحدثنا يحيى بن أيوب وقتيبة وابن حجر جميعًا عن إسماعيل بن جعفر عن العلاء بن عبدالرحمن عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قال: ((لا يصبر على لأواء المدينة وشدّتها أحد من أمّتي إلاّ كنت له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا))
وحدّثنا ابن أبي عمر حدّثنا سفيان عن أبي هارون موسى بن أبي عيسى أنّه سمع أبا عبدالله القرّاظ يقول: سمعت أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم بمثله.
وحدّثنا يوسف بن عيسى حدّثنا الفضل بن موسى أخبرنا هشام بن عروة عن صالح بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((لا يصبر أحد على لأواء المدينة...)) بمثله.
الحديث أخرجه الترمذي (ج5 ص379)، وأحمد (ج2 ص288، 388، 343، 397،439، 447)، والحميدي (ج2 ص492) والبخاري في "التاريخ الكبير" (ج4 ص283، 284).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، وصالح بن أبي صالح أخو سهيل بن أبي صالح.
176- قال الإمام أحمد رحمه الله (ج6 ص369): ثنا يعقوب قال: حدثني أبي عن الوليد بن كثير قال حدثني عبدالله بن مسلم الطويل صاحب المصاحف أن كلاب بن تليد أخا بني سعد بن ليث أنه بينا هو جالس مع سعيد بن المسيّب جاءه رسول نافع بن جبير بن مطعم بن عدي يقول: إنّ ابن خالتك يقرأ عليك السّلام ويقول: أخبرني كيف الحديث الذي كنت حدثتني عن أسماء بنت عميس، فقال سعيد بن المسيب: أخبره أنّ أسماء بنت عميس أخبرتني أنّها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يقول: ((لا يصبر على لأواء المدينة وشدّتها أحد إلاّ كنت له شفيعًا أو شهيدًا يوم القيامة)).
الحديث في سنده كلاب بن تليد: قال الذهبي في "الميزان": روى عن سعيد بن المسيب لا يكاد يعرف، وقد وثّق، تفرد عنه عبدالله بن مسلم. اهـ
ولعله يعنى بقوله: (وثّق) أنّه وثّقه ابن حبان كما في "تهذيب التهذيب"، وابن حبان معروف بتوثيق المجاهيل، كما في مقدمة "لسان الميزان".
وفيه أيضًا عبدالله بن مسلم: قال الذهبي في "الميزان": ما روى عنه سوى الوليد بن كثير في الصبر على لأواء المدينة.
فعلى هذا فالحديث ضعيف من أجل هذين الراويين، والله أعلم.(/)
أرجو أن ينفع الله بالجميع، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
حول العلم وفوائد في علم الحديث
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد الأمين وعلى آله وأصحابه أجمعين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فإن الموضوع الذي تم اختياره هو موضوع العلم. والعلم يعتبر علاجًا لجميع أمراضنا، ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يأمره ربه أن يطلب الزيادة من العلم، فقال سبحانه وتعالى: {وقل ربّ زدني علمًا(1)} ورب العزة يبين حالة العالم وحالة الجاهل، فقال: {أفمن يعلم أنّما أنزل إليك من ربّك الحقّ كمن هو أعمى إنّما يتذكّر أولو الألباب(2)}.
ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول فيما رواه البخاري ومسلم في "صحيحيهما" من حديث معاوية رضي الله عنه: ((من يرد الله به خيرًا يفقّهه في الدّين)).
ورب العزة يعلّل كثيرًا من مخلوقاته، فيقول في آية من كتابه: {إنّ في ذلك لآيات للعالمين(3)}. وقال تعالى: {وما يعقلها إلاّ العالمون(4)}.
ورب العزة يفضّل الكلب المعلم على غير الكلب المعلم، فيحلّ صيد الكلب المعلم مع ذكر اسم الله تعالى، فيقول سبحانه وتعالى: {يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطّيّبات وما علّمتم من الجوارح مكلّبين تعلّمونهنّ ممّا علّمكم الله(5)}.
بل يخبرنا الله سبحانه وتعالى أن الهدهد صال بحجته على سليمان فقال: {أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبإ بنبإ يقين(6)}.
__________
(1) ? ... طه، الآية:114.
(2) ? ... الرعد، الآية:19.
(3) ? ... الروم، الآية:22.
(4) ? ... العنكبوت، الآية:43.
(5) ? ... المائدة، الآية:4.
(6) ? ... النمل، الآية:22.(1/2)
ونبينا محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم يرغّب أمته في العلم، ويرغّب أمته في أشرف العلوم، ألا وهو حفظ كتاب الله، فإن أفضل العلوم هو القرآن الكريم، بخلاف ما يقول أهل علم الكلام. أهل علم الكلام يقولون: إن أفضل العلوم هو علم الكلام لأنه يتكلم عن الله وصفاته. وهذا جهل منهم بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقد كان الإمام الشافعي رحمه الله تعالى يقول: (حكمي على أهل علم الكلام، أن يدار بهم في الأسواق ويضربوا بالسياط, ويقال: هذا جزاء من استبدل بكتاب الله أو من أعرض عن كتاب الله).
فأفضل العلوم هو تعلم كتاب الله وتعلم سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم {يرفع الله الّذين ءامنوا منكم والّذين أوتوا العلم درجات(1)}، {إنّما يخشى الله من عباده العلماء(2)}.
والعلم أفضله هو حفظ القرآن الكريم, فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول -كما في "صحيح البخاري" من حديث عثمان رضي الله عنه: ((خيركم من تعلّم القرآن وعلّمه))، ويقول كما في "صحيح مسلم" من حديث عمر رضي الله عنه: ((إنّ الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع به آخرين?)).
وكان علماؤنا المتقدمون رحمهم الله تعالى, منهم من يتخصص للقرآن, ومنهم من يتخصص لسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, ومنهم من يتخصص في اللغة العربية. وفي الغالب أن المتخصص منهم يكون ملمًا ببقية العلوم, لكن قد وجد من القراء كحفص بن سليمان إمام?في?القراءة -وهو أحد القراء السبعة- لكنه متروك في الحديث, ووجد أيضًا من هو إمام في الحديث, وربما يلحن في الأمور السهلة، وذلكم كعثمان بن أبي شيبة أخي أبي بكر بن أبي شيبة وأخي القاسم أيضًا، فإنه كان إمامًا في الحديث, لكنه يصحّف في القرآن, وإن كان الحافظ ابن كثير ينكر هذا ?في?كتابه "مختصر علوم الحديث".
__________
(1) ? ... المجادلة، الآية:11.
(2) ? ... فاطر، الآية:28.(1/3)
ومن علمائنا المتقدمين من كان يتخصص?في?اللغة العربية، بل العربية تنقسم إلى أقسام، فمنهم من يتخصص?في?النحو، ومنهم من يتخصص في الصرف إلى غير ذلك، ومنهم من يجمع بين هذا وذاك, فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى كان إمامًا?في?اللغة، وربما احتجّ بعربيته, وكان إمامًا في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إنه لقّب بناصر السنة، وكتاباه "مختلف الحديث" و"الرسالة" ينبئان بأنه يستحق أن يلقب بناصر السنة, لأنه رد على أصحاب الرأي، ورد أيضًا على المعتزلة، وعلى من يطعن في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والعلم منْزلته رفيعة، من أجل هذا, فقّل أن تجد مؤلّفًا إلا وقد عقد كتابًا?في?العلم, ففي "البخاري" (كتاب العلم), وفي "صحيح مسلم" (كتاب العلم)، وفي "الترمذي" { كتاب العلم)، بل من أهل العلم من أفرد العلم بالتأليف كالحافظ ابن عبدالبر يوسف بن عبدالله، فإنه ألف كتابًا قيّمًا يساوي الدنيا، اسمه "جامع بيان العلم وفضله"(1) فذكر فيه فضل العلماء، وذكر فضل العلم, وذكر التقليد, وأن التقليد ليس بعلم.
يقول بعضهم: أجمع العلماء على أن المقلد لا ينبغي أن يعدّ من أهل العلم, ورب العزة يقول?في?كتابه الكريم: {اتّبعوا ما أنزل إليكم من ربّكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكّرون(2)}.
فذلك الكتاب القيم بدأه بفرض العلم، ثم أتى بحديث: ((طلب العلم فريضة على كلّ مسلم?)) وأشار إلى تضعيفه رحمه الله تعالى، لكن الإمام السيوطي رحمه الله تعالى يقول: إنه وجد له قدر خمسين طريقًا، ومن ثمّ حكم بصحته.
وما هو العلم الذي يعد فريضة؟.
__________
(1) ? ... عبد الله الوادعية كتاب قيّم لا أعلم له نظيرا "العلم والعلماء".
(2) ? ... الأعراف، الآية:3.(1/4)
العلم الذي أوجبه الله عليك هو الذي يعد فريضة. فالعقيدة (التوحيد) واجب على كل مسلم أن يتعلمها،?كما?جاءت?في?الكتاب والسنة. ويحرم الجهل بالعقيدة سواء أكانت?في?أسماء الله أو صفاته، ويجب الإيمان بالعقيدة?في?أسماء الله وصفاته، كما وردت?في?كتاب الله، وكما وردت في سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فتلكم الجارية التي هي راعية غنم كما في حديث معاوية بن الحكم السّلمى رضي الله عنه: أنه أتى بجارية ليعتقها. فقال: يا رسول الله إني أريد أن أعتقها. فقال لها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((يا جارية أين الله؟)) قالت: في السماء. قال: ((أعتقها فإنّها مؤمنة)).
يجب على كل مسلم أن يؤمن أن الله في السماء، وأن الله سبحانه وتعالى بعلمه مع كل أحد، وبحفظه وكلاءته ونصره مع المؤمنين يجب أن نؤمن بهذا: {ءأمنتم من في السّماء أن يخسف بكم الأرض(1)}، {الرّحمن على العرش استوى(2)}.
وهناك كتاب قيم في هذا الموضوع أنصح إخواني في الله بقراءته, ذلك الكتاب القيم هو "العلو للعلي الغفار" للحافط الذهبي رحمه الله تعالى، وقد اختصره الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى, فمن كان من طلبة العلم المحققين فينبغي أن يقتني الأصل, ومن كان لا يستطيع التحقيق فيقتني اختصار الشيخ، وإن جمع بين الكتابين فحسن، فإن أحدهما لا يغني عن الآخر.
والعلم قيض الله له علماء حفظوا لنا هذا الدين، حفظوا كتاب الله، وتلقاه الآخر عن الأول، وحفظوا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ونفوا عنها الكذب والأباطيل، نفوا ووقفوا?في?وجوه الكذّابين، ونخلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نخلاً، لأنّهم كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم.
__________
(1) ? ... الملك، الآية:16.
(2) ? ... طه، الآية:5.(1/5)
يقول الإمام الشافعي: (من روى عن البياضي بيّض الله عيونه). يدعو على من روى عن البياضي لأن البياضي مجروح. ويقول: الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (الرواية عن حرام بن عثمان حرام). فهذا قول الإمام الشافعي في هذين المحدثين.
ولقد كان العلماء رحمهم الله تعالى ينخلون السنة نخلاً، حتى إنه قدّم زنديق لتضرب عنقه في عصر الرشيد فقال: كيف تقتلونني وقد وضعت?في?دينكم أربعة آلاف حديث أحرّم فيها الحلال وأحلّ فيها الحرام. فقال له الرشيد: يا خبيث، إن أبا إسحاق الفزاري وعبدالله ابن المبارك سينخلانها نخلاً.
وكانت لديهم غيرة على سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إن يحيى بن معين رحمه الله تعالى عند أن حدّث سويد بن سعيد: ((من عشق فعفّ فمات مات شهيدًا)). قال يحيى بن معين: لو أنّ لي فرسًا ورمحًا لغزوت سويدًا، لأنه تجرأ في رواية الأحاديث الضعيفة.
ورئي شعبة بن الحجاج رحمه الله تعالى ذات يوم متقنعًا في نصف النهار، فقيل له: إلى أين يا أبا بسطام؟ قال: أريد أن أعتدي على جعفر بن الزبير, فإنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن لم يكن من المحدثين فلا بد أن يتخبط في عبادته، وفي?وعظه، وفي معاملته، وفي جميع شئونه. لأنّه لا يؤمن أن يحدث بحديث ضعيف. وأنا آتيكم بمثال أو بأمثلة:
من الأمثلة على هذا حديث قد شاع وذاع: ((حبّ الوطن من الإيمان)) هذا الحديث لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن الأمثلة على هذا أيضًا حديث: ((اختلاف أمّتي رحمة)) حديث لا يوجد له سند، ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن الأمثلة على هذا أيضًا حديث: ((الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله الأماني))، هذا حديث معناه صحيح. لكنه بهذا اللفظ ضعيف، لأنه من طريق أبي بكر بن أبي مريم، وقد اختلط بسبب حليّ سرقت عليه.(1/6)
ومن الأمثلة: قصة يحدّث بها في الحرمين ويحدّث بها في الإذاعات، قصة ثعلبة، التي فيها أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يسأل الله أن يرزقه مالاً، وأنه قيل له: ((يا ثعلبة قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه))، وذكرت في "الجلالين"، وقلّ أن تجد تفسيرًا إلاّ وقد ذكرت فيه.
هذه القصة استفدنا تضعيفها في أول الأمر من أبي محمد بن حزم رحمه الله تعالى، قال: إن في سندها معان بن رفاعة، وعلي بن يزيد الألهاني، والقاسم بن عبدالرحمن، وثلاثتهم ضعفاء. ثم روجع "مجمع الزوائد" فإذا هو يقول: في سندها علي بن يزيد الألهاني وهو متروك. ثم روجع "تخريج الكشاف" للحافظ ابن حجر فإذا هو يقول: في سندها علي بن يزيد الألهاني وهو واه، ثم روجع "تخريج الإحياء" فإذا الحافظ العراقي يقول: إن في سندها ضعفًا. وناهيك بالسيوطي تساهلاً فإنه ذكرها في "لباب النقول من أسباب النّزول".
هذه القصة كان بعض علماء الحرم يحدث بها فقيل له: يا شيخ إنّها ضعيفة. قال: نريد أن نرقّق بها قلوب العامة.
يا سبحان الله!! أما في كتاب الله، ولا في صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يرقق قلوب العامّة!! {فبأيّ حديث بعد الله وءاياته يؤمنون}.
ومن الأمثلة على هذا حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعًا لما جئت به)) وما أكثر ما قد حدثْنا بهذا الحديث! يقول الحافظ ابن رجب في كتابه "جامع العلوم والحكم": إنه من طريق نعيم بن حماد، وهو ضعيف. هذه علة.
والعلة الثانية: أنه اختلف على نعيم في شيخه. والعلة الثالثة: أنه لا يدرى أسمع عقبة بن أوس من عبدالله بن عمرو أم لم يسمع؟
ومن الأمثلة على هذا: ((من تعلّم لغة قوم أمن مكرهم)) هذا الحديث بحث عنه الباحثون فلم يجدوا له أصلاً، وإن كان معناه صحيحًا، لكن لا يجوز لنا أن نضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلا ما ثبت عنه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(1/7)
ومن الأمثلة على هذا: أنكم تجدون بعض الأئمة عند تسوية الصفوف يقول: ((استووا فإنّ الله لا ينظر إلى الصّفّ الأعوج))، وهذا لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ويكفي أن تقول: استووا، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((لتسوّنّ صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم)).
من الأمثلة على هذا -أي على الأحاديث الموضوعة- أنّهم رووا حديثًا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: ((من قال حين يسمع المؤذّن يقول: أشهد أنّ محمدًا رسول الله، ثمّ ينفث في ظفري إبْهاميه ويمسح بهما عينيه ثمّ يقول: مرحبًا بحبيبي وقرّة عيني. قال: فمن قالها فإنّه لا يرمد)) الحديث ذكره الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الضعيفة والموضوعة".
ومن الأمثلة على هذا حديث: ((أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن يرد المدينة فليأت الباب)). فيه عبدالسلام بن صالح أبوالصلت الهروي وهو متروك.
والصحيح كاف. يكفي ما صح عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ويكفي كتاب الله، فإن نبينا محمدًا صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار)). هذا مرويّ عن علي بن أبي طالب، وعن المغيرة بن شعبة، وعن الزبير بن العوام وعن قدر ستين صحابيًا.
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من حدّث عنّي حديثًا وهو يرى أنّه كذب فهو أحد الكاذبين?)).
قد يقول قائل: إن من أهل العلم من أجاز أن يحدث بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال!
نعم، أجازه عبدالرحمن بن مهدي، والإمام أحمد، والإمام البيهقي، وجمع من العلماء لكنهم يعنون الحسن، بدليل أنّهم مثلوا بمحمد بن عمرو بن علقمة وأمثاله, وجعلوا حديثه ضعيفًا، والمتأخرون يحسنون حديثه. فهم يريدون الحسن.
ومن أجاز التحديث بالحديث الضعيف, فإنما يجيزه بثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن لا يشتد ضعفه.
الشرط الثاني: أن يكون مندرجًا تحت أصل من الأصول.(1/8)
الشرط الثالث: أن لا يشتهر العمل به، وأن لا يعتقد ثبوته.
أما الإمام الشوكاني رحمه الله تعالى فإنه يقول في كتابه "الفوائد المجموعة": وهو شرع ومن ادعى التفصيل فعليه البرهان.
قد يقول قائل أو يظن ظانّ أن المشتغل بتصحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يشغله عن الدعوة، لا، بل يقويك على الدعوة، وتصبح حاكمًا، تستطيع أن تحكم على الخطيب، وعلى الصحفي، وعلى المؤلف, فكم من حديث ضعيف يختلف الناس فيه، وهو حديث ضعيف. منهم من يقول به، ومنهم من لا يقول به.
ومن الأمثلة على هذا: حديث أن جماعةً من الصحابة ضحكوا في الصلاة، ثم أمرهم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن يعيدوا الصلاة، وأن يعيدوا الوضوء.
هذا حديث من طريق أبي العالية الرياحي، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: حديث أبي العالية رياح. يعني لا يثبت هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن الأمثلة على هذا أي على الأحاديث الضعيفة والموضوعة: ما جاء في "فيض القدير" وفي "المجموع" المنسوب لزيد بن علي: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى رجلاً يعبث بلحيته، وهو في الصلاة، فقال: ((لو خشع قلب هذا لسكنتْ جوارحه)). هذا الحديث يحدث به كثير من الناس، مع أنه لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن الأمثلة على هذا: ((صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحتْ أمّتي وإذا فسدا فسدتْ أمّتي: العلماء والأمراء)). الحديث معناه صحيح، لكن لا يجوز لك أن تقول: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم, لأنّه ما كلّ ما يصحّ معناه يجوز لك أن تضيفه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
فالأحاديث الضعيفة كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه "رفع الملام عن الأئمة الأعلام" سبب من أسباب الفرقة، تجد الرجل قد استدل بحديث، فيأتي آخر ويضعفه، وليس معنى هذا أنه لا سبيل إلى أن تعرف الحقيقة.(1/9)
ومن أهل الخير، ومن الناس الطيبين من يحب علم الحديث، ويحب أهل الحديث, لكنه يرى أن الأئمة قد اختلفوا في التجريح والتعديل، واختلفوا في التصحيح والتضعيف، فيظن أنه لا سبيل إلى ذلك، لأن الأئمة رضوان الله عليهم وضعوا قواعد، فأنت إذا قال لك رجل: فلان ثقة. وقال لك آخر: أنا سمعته يعكف على آلات اللهو والطرب أو رأيته على آلات اللهو والطرب. فبأي القولين تأخذ؟ ويقول لك رجل: فلان ثقة يصلي معنا، وحسن المعاملة. وآخر يقول: أنا رأيته عاكفًا على آلات اللهو والطرب. فبأي القولين تأخذ؟ الجرح المفسّر مقدّم على التعديل، والجارح اطلع على مالم يطلع عليه المعدل.
والعلماء يتفاوتون في هذا المضمار من أجل هذا يحصل الاختلاف. وقد ذكر ابن أبي حاتم في كتابه "مناقب الشافعي" والبيهقي أيضًا في كتابه "مناقب الشافعي" أنه اختلف الشافعي ومحمد ابن الحسن أي العالمين أعلم، مالك أم أبوحنيفة؟ وكان الشافعي يحب مالكًا، والشافعي تلميذ مالك. ومحمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة. فقال الإمام الشافعي لمحمد بن الحسن: أنشدك الله، أصاحبنا أعلم بكتاب الله أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم -يعني مالكًا-. قال: أنشدك الله، أصاحبنا أعلم بسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أم صاحبكم؟ قال: صاحبكم -يعني مالكًا-. قال: فلم يبق إلا القياس فالذي ليس لديه أصول فعلى أي شيء يقيس. هذه القصة ذكرها ابن أبي حاتم والبيهقي بسند صحيح.
شاهدنا من هذا أن العلماء يتفاوتون فمنهم إمام في الفقه، وهو ضعيف في الحديث، ومنهم إمام في الحديث، لا يستطيع أن يستنبط أحكامًا كما يستطيع أن يستنبطها الفقيه.
والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((ربّ حامل فقه إلى من هو أفقه منه)) ويقول: ((ربّ مبلّغ أوعى من سامع)).
وعلم الحديث الذي زهد فيه كثير من الناس، وأصبحوا يزهّدون فيه, إن لم يكن الفقيه محدثًا فلا بد أن يتخبط، كما ذكره الشوكاني رحمه الله تعالى في كتابه "نيل الأوطار".(1/10)
وهكذا أيضًا لأن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم كثيرة ولا بد من النظر فيها، فماذا يفعل علماؤنا رحمهم الله تعالى؟ العلماء رحمهم الله تعالى إذا أرادوا أن يستدلوا بحديث؟ فإن كان في"الصحيحين" فقد أجمع أهل الحق على تلقي ما في "الصحيحين" بالقبول إلا أحاديث يسيرة انتقدها الحفاظ كالدارقطني وغيره. وإن كان في غير "الصحيحين" فإما أن يصححه حافظ من الحفاظ، كالحافظ ابن حجر والحافظ العراقي وغيرهما من العلماء الذين تصدوا للتصحيح والتضعيف، وإما أن تبحث أنت عن سنده لابد من هذا وإلا فلا يحل لك أن تستدل، لأن العلماء رحمهم الله تعالى مثل أبي داود رحمه الله تعالى يقول في "سننه": ذكرت الصحيح وما يقاربه وما يشابهه، وما كان فيه وهن شديد بينته وما لم أذكر فيه شيئًا فهو صالح.
وهكذا الترمذي ذكر الأحاديث الصحيحة، ورب حديث يذكره الترمذي ويقول: إنه ضعيف، ويقول: إنه منقطع، ويقول: إنه غريب. والغالب على ما قال فيه الترمذي: (غريب) فقط الضعف.
إذًا فسنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يجب على المدرس وعلى الواعظ أن يتعلمها وما أكثر التخبطات في كلام كثير من الواعظين، وذلكم من زمن قديم حتى إن من العلماء من ألّف كتابًا بعنوان "القصّاص" وآخر يؤلف كتابًا بعنوان "تحذير الخواص من أحاديث القصاص"، وكثير من الواعظين يعظون الناس بأحاديث ضعيفة وموضوعة، خصوصًا الأحاديث التي يتلقاها بعضهم من بعض. فأنصح إخواني في الله من أراد أن يعظ فليقتن "رياض الصالحين" وليقتن "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان" وليقتن الكتب التي قد خدمت.(1/11)
أما أن تقرأ في "تنبيه الغافلين" لأبي الليث السمرقندي، أو تقرأ في "نزهة المجالس" أو تقرأ في "بدائع الزهوروكثير من الكتّاب العصريين يكتفون بقولهم: رواه الترمذي، رواه ابن ماجه، رواه أبوداود، رواه الطبراني. وهذا لا يكفى لأن هؤلاء لم يشترطوا الصحة, بل لابد أن يقول رواه الطبراني وهو حديث صحيح أو حسن أو ضعيف إلى غير ذلك.
لا يكفى أن يعزو الحديث، ثم بعد ذلك أنت تقرأ وتظن أنه قد طبع في المطابع ولو لم يكن صحيحًا لما طبع في المطابع، لا، فكتب السحر والدجل والشعوذة طبعت في المطابع، فإن المطابع الآن أصبحت آلة ارتزاق، يهمهم أن يطبعوا الكتاب الذي ينفق لهم في الأسواق.
فلا بد أن تسأل العلماء، وأن ترحل إلى العلماء، كما كان العلماء السابقون يرحلون. فربما رحلوا من أجل حديث واحد، ونحن الآن معشر المسلمين يتغرب أحدنا عشر سنين، أو خمس سنين، أو سنتين من أجل الدنيا، أولئكم كانوا يتغربون، وكانوا يرحلون من أجل العلم, لعلمهم أنه لا قوام للأمة الإسلامية إلا بالعلم, لاسيما وبلدنا معشر اليمنيين فقيرة من العلم نحن محتاجون إلى شباب يدرسون كتاب الله ويحفظون كتاب الله، وإلى شباب يحفظون سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم والأمر سهل جدًا لو تغرب طالب العلم مدة يسيرة استطاع أن يحفظ القرآن ومدةً يسيرة يستطيع أن يعرف كيف يستفيد من الكتب العلمية يستطيع أن يستفيد في مدة يسيرة. يسر الله ذلك إنه على كل شيء قدير(1).
__________
(1) ? ... المحاضرة ألقيت في إب قبل أن ينسلخ محمد المهدي من السنة، وأما الآن فيخشى عليه أن ينسلخ من الدين فقد تعلق بالسياسة الكذابة، فقد حصل خصام بين أهل قريتين، فأحيلت المسألة إلى محمد المهدي ومدير الناحية وشخص يقال له: عبدالكريم، فألزم المحكمون أحد الطرفين أن يذبح أربعة أثوار، فانظر إلى هذه الانتكاسة كيف يأمرون بالذبح لغير الله فنعوذ بالله من أن نرد على أعقابنا، وحسبنا الله ونعم الوكيل.(1/12)
أسئلة في المصطلح من أبي الحسن حفظه الله تعالى
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وبعد:
فهذه عدة أسئلة نطرحها على شيخنا أبي عبدالرحمن مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى، بحضور إخواننا طلبة العلم. ونسأل الله أن ينفعنا وأياهم، وأن يعلّمنا ما جهلنا.
في كتب المصطلح ذكروا: أن الرجل المشهور بالطلب ولم يثبتْ فيه جرح ولا تعديل، نص بعضهم مثل المزي، والذهبي، وابن القطان، وابن حجر، وغيرهم على قبول روايته، حتى يثبت جرح فيه، وأن أمره محمول على العدالة، وكان هذا منهم مصيّرًا على مذهب ابن عبدالبر، في الحديث الذي ذكروه(1)، واعترضه ابن الصلاح. بعضهم قال: إن هذا متعين في زمننا، وهذا الذي عليه العمل. فنريد أن نعرف: أن الرجل إذا لم يثبت فيه جرح ولا تعديل لكنه معروف عند أهل العلم، هل حديثه محمول على الاحتجاج به؟ أم ماذا؟
__________
(1) ? ... حديث: ((يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين)) وهو حديث إما مرسل أو معضل، وجاء من حديث أبي أمامة، وعلي ابن أبي طالب، وأبي هريرة، وغيرهم، وكلها ضعيفة لايثبت منها شيء، وليس فيها شيء يقوي المرسل المذكور. قاله العراقي في "التقييد والإيضاح".(1/13)
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. أما بعد: فالسؤال عن الرجل المحدّث المشهور بالطّلب، ولم يذكر فيه جرح ولا تعديل، ذكر صاحب "فتح المغيث" أن الرجل إذا كان مشهورًا بالطلب، ولم يأت فيه جرح ولا تعديل أنّهم يقبلونه، وهكذا الإمام الذهبي رحمه الله تعالى، لكن صاحب "فتح المغيث" مثّل بالإمام مالك رحمه الله تعالى، فالإمام مالك مشهور بالطلب وقد وثّق فإذا حصل من هذا النوع وكان مشهورًا بالطلب وتتلمذ له معاصروه مثل: يحيى بن سعيد القطان، أو يحيى بن معين، أو الأئمة من أمثالهما فيقبل، وإن لم يأت فيه جرح ولا تعديل، لأنه لو كان ضعيفًا لضعّف، والأصل في المسلمين هو العدالة، ولكنه يضاف إلى العدالة الحفظ -لا بد من معرفة الحفظ- إلا أنه لو كان مخلّطًا لصاحوا به، فهذا مستقيم إن شاء الله تعالى، ولا يقدح فيه أنّهم يشترطون العدالة ويشترطون الضبط، لو لم يكن عدلاً لما تتلمذ له، لا أقول: إنه لو لم يكن عدلاً لما تتلمذ له مثل يحيى وغيره، فإنّهم قد تتلمذوا للعدل ولغيره، فقد قال بعضهم: إننا نسمع الحديث للفائدة ونسمعه للنظر في حال صاحبه، لكن أقول: لو كان مخلطًا أو كان ليس بثقة لصاح به مثل يحيى بن معين، ومثل يحيى بن سعيد القطان، وهكذا الإمام أحمد والبخاري، والله أعلم.(1/14)
استطراد: بارك الله فيك، المسألة على طرف آخر، فإن ابن الصلاح وغيره من الأئمة الذين تكلموا في المصطلح ذكروا: أن العدالة تثبت إما بالشهرة مثل الذين ذكرتهم -يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل وغيرهم- وإما بالتنصيص على ذلك من واحد من العدول، لكن مسألتنا في جانب آخر: رجل لم يكن مشهورًا عند أئمة الجرح بالتوثيق، لأن مثل الإمام مالك رحمه الله تعالى أمره مستفيض وأمره مشهور بالعدالة، فشهرة هؤلاء أقوى من أن يعدلهم أحد الناس لكن مسألتنا مثل ما قالوا هنا في غير هؤلاء المشاهير، رجل قالوا: إنه (معروف). أو على سبيل المثال قالوا: إنه (حافظ) أو (ضابط).
هذا أمر آخر: قالوا (معروف) لا تكفي، (حافظ) أو (ضابط) أو كذا يقبل منهم لأنه مثل أئمة الجرح والتعديل إذا أطلقوا مثل هذه العبارات على المحدث، فلو كان به جرح لصاحوا به مثل: أبي حاتم الرازي، ومثل أبي زرعة، ومن تقدّم ذكرهم، لو سمعوا عنه ووجدوه مجروحًا، لا يتركونه. فتتلمذهم له، وشهرته، ولا بد أن يكون مشهورًا بالطلب، وتتلمذ له أئمة من أئمة الجرح والتعديل، فلو كان ضعيفًا لصاحوا به.
هل الحديث الذي تلقاه الناس بالقبول يحكم بصحته وإن لم يصح سنده، كما ذكر صاحب "التدريب" عن البخاري رحمه الله تعالى بحديث ((هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته)) قال: لا أعلم له إسنادًا يصح غير أن الناس تلقوه بالقبول؟(1/15)
لا بد من النظر في أسانيده، وقد ذكر هذا الصنعاني في كتابه "توضيح الأفكار" وقد قال ابن عبدالبر في بعض الأحاديث مثل حديث: ((لايمسّ القرآن إلاّ طاهر)) قال: إن الأمة تلقته بالقبول، وادعى بعضهم في حديث: ((اختلاف أمّتي رحمة)) أن الأمة تلقته بالقبول، وهذا ليس بصحيح، لا ذا ولا ذاك، وأما حديث: (( هو الطّهور ماؤه، الحلّ ميتته)) في ماء البحر فهو وإن لم يصح له سند بمفرده فهو بمجموع طرقه صالح للحجية، وإلا فلا بد من النظر في سنده، وما أكثر الأحاديث التي اشتهرت عند المحدثين، ومع هذا فهم ينظرون إلى أسانيدها، وما أكثر الأحاديث التي يسأل بعضهم بعضًا عن أسانيدها، فلا بد من النظر في السند والنظر في المتن، لا يكون المتن شاذًا ولا يكون معلاً، إلى غير ذلك، ذكر هذا الصنعاني في كتابه "توضيح الأفكار" ثم رب حديث يكون قد تلقاه طائفة من الناس بالقبول مثل حديث: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما أرسل معاذًا إلى اليمن قال: ((بم تقضي فيهم)) قال: بكتاب الله تعالى. قال: ((فإن لم تجد))؟ قال: فبسنّة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم. قال: ((فإن لم تجد))؟ قال: أجتهد رأيي ولا آلو.
يقولون: إن الفقهاء تلقوه بالقبول، أبومحمد بن حزم رحمه الله يقول: إنه نفق عليهم الحديث وتناقلوه من كتاب إلى كتاب، حتى ظنوه أنه متلقى بالقبول، مع أنه يدور على الحارث بن عمرو بن أخي المغيرة، وهو مجهول العين. وقد قال البخاري: إن حديثه لايصح. وله طرق أخرى ذكرها الشيخ ناصر الدين الألباني حفطه الله تعالى، ذكره في "سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة" وبيّن طرقه، وما فيها من الضعف.(1/16)
في تعارض الجرح والتعديل ذكر الجمهور أن الجرح مقدم، لأن الجارح لا يكذب المعدلين، ولكن يوافقهم ويقول: اطلعت على ما لم تطلعوا عليه. والحافظ ابن حجر له في ذلك مذهب كما تعلمون: أن الرجل إذا ثبتت له مرتبة سنيّة فلا يزحزح عنها إلا بأمر جلي. وأنا ليس سؤالي في الجرح أو التعديل ولكن سؤالي فيما إذا تعارضت مرتبة، كأن يقول في رجل: ثقة، وآخر يقول فيه: صالح الحديث، أو حسن الحديث، أو شيخ، وأحد العلماء يجعله في مرتبة الاحتجاج، وآخر يجعله في مرتبة الاستشهاد، واللذان تعارض كلامهما من أئمة الشأن ليس لأحد منهم فضل على الآخر حتى أرجّح كلامه على الآخر، فلا أدري: هل أبقيه على مرتبة الثقة ولا أنزله إلى مرتبة الاستشهاد؟ أم ماذا؟
مثل هذا الحافظ ابن حجر في "تقريب التهذيب" يأخذ مرتبة وسطى، ويجعله صدوقًا، وهذا حسن، والمسألة اجتهادية.
رجل وصف بأنه (عابد) أو (مقلّ)، ليس في وصفه إلا هكذا، فهل يعتبر بحديثه، ويستشهد به؟
يستشهد به، ولا يحتج به، لأن العبادة تحتاج إلى حفظ، فما أكثر المحدثين العابدين الذين ضعّفوا مثل: أبان بن أبي عياش، وعبدالله بن عمر العمري، وجمع كثير من العباد الذين ضعّفوا، حتى قال يحيى بن سعيد رحمه الله تعالى: لم نر الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث. أو بهذا المعنى، يقول مسلم: بمعنى أن الكذب يجري على ألسنتهم ولا يتعمدونه. فهذه العبارة لفظة (عابد) أو ما يجري مجراها لا تدل على أنه يقبل الحديث، لأنه يشترط في الحديث أمر آخر وهو: الضبط. والله المستعان.
لو أن أحدنا مثلاً قال: إنه معروف من الصالحين أنّهم مغفلون في الحديث ويفحشون في الخطأ، وقال: إن الذي يوصف بعابد لا أستشهد بحديثه، فكم جرب على عابد أنه لا يحتج بحديثه ولا يستشهد به، ونزله منْزلة المردود، نعم هو عابد في دينه، أما من حيث حفظه فإنه ليس بشيء، لو أن أحد الناس قال: الذي يوصف بعابد لا يحتج به، ولا يستشهد به، بم نجيب عليه؟(1/17)
كم روى عنه؟ نرجع إلى القاعدة: إذا روى عنه اثنان فأكثر، ولم يوثقه معتبر ولم يجرح، يصلح في الشواهد والمتابعات.
ذكرتنا بكم الرواة عنه قالوا: إن الراوي عنه يكون عدلاً، لو أنّ -مثلاً- رجلاً شيخًا، في ترجمته أنه شيخ من مراتب الاستشهاد وليس من مراتب الاحتجاج، وكان من الرواة عنه أناس هم من مراتب الاستشهاد، هل يرفعون جهالته؟
الظاهر أن جهالته ترتفع، إلا إذا كان الراوي عنه كذابًا، فربما أن الكذاب يروي عمن لم يوجد ولم يخلق.
وإذا قالوا في الرجل: (يروي عن الثقات ما ليس من حديثهم)، هل هذا الكلام يفهم منه أنه كذاب أو أنه منكر الحديث؟
ينبغي أن ينظر في قائل هذه الكلمة، فإن مثل هذه الكلمة يقولها ابن حبان في بعض الحفاظ الكبار، من رجال البخاري ومسلم، فإذا قالها الإمام أحمد، أو يحيى بن معين، أو من جرى مجراهما، فمثل هؤلاء ينظر فيما قاله غير القائل، ينظر أوثّقه غير القائل؟ أو قال: إنه صدوق غير القائل. أما إذا لم ترد إلا هذه العبارة فهي تعتبر جرحًا، وهي محتملة أنه يكذب، وأنه يهم. محتملة لهذا وهذا، فنحن نتوقف في أمره، لا نحكم عليه بأنه كذاب، ولا نحكم عليه بأنه صالح للشواهد والمتابعات، ولكن إن وردت عبارات أخرى لبعض أهل العلم يحمل عليها هذا القول، بمعنى أنه يهم، وينظر أذلك الحديث من أوهامه، أم ليس من أوهامه؟ فإذا لم ترد إلا هذه العبارة توقفنا في أمره ولا نحتج به، لكن ربما يصلح للشواهد والمتابعات، وينظر فيمن روى عنه أهم من الثقات الأثبات أم ماذا؟
قولهم في الرجل: (يروي المعضلات) هل المقصود بذلك العجائب والمشكلات، أو الأوابد -كما يقولون-، أم المعضلات بالمعنى الاصطلاحي؟ وإذا كان المقصود المعنى الاصطلاحي فما وجه القدح؟(1/18)
ذلك بمعنى الأوابد، وبمعنى الأمور التي لم تثبت عنهم، لكن هذه العبارة -كما تقدم- ينبغي أن ينظر في قائلها، فيخشى أن تكون من ابن حبان رحمه الله تعالى، فكثيرًا ما يقول: يروي المعضلات عن الأثبات فاستحق الترك. فابن حبان هو شديد التجريح، كما أنه متساهل في توثيق المجهولين، فهو يطلق هذه العبارة على بعض رجال الشيخين، فيتوقف في كلامه، وربما اعترض عليه الحافظ الذهبي وقال: إنه لا يدري ما يخرج من رأسه.
بارك الله فيكم. ومثلها قولهم (يروي المرسلات والمنقطعات والمقطوعات)، ماوجه القدح فيها؟
الظاهر أنّهم يعنون بهذا أنه يصل المرسلات، لعلهم يعنون هذا، يصل المرسل ويرفع الموقوف... الخ، هذا بمعنى أنه يخالف الناس في هذا، فإذا كان ثقةً أو قيل فيه: صدوق، بقي علينا أن ننظر في كتاب "ميزان الاعتدال" وفي كتاب "الكامل" لابن عدي، وفي غير هذين الكتابين، أهذا الحديث مما تفرد هو برفعه والناس يروونه موقوفًا، أو تفرد بوصله والناس يروونه مرسلاً؟ فينبغي أن تراجع ترجمته، وإذا قد وثقه العلماء الأثبات -وبعضهم قال هذا-، بقي علينا أن ننظر في ترجمته، أهذا الحديث مما أخطأ فيه؟ فيترك خطؤه، وهكذا إذا قالوا: صدوق يهم، صدوق يخطيء، وهنا أمر أنصح به طلبة العلم وهو: أن يعرضوا ما كتبوه على كتب العلل، فربّ حديث نغترّ به ونقول: إن رجاله رجال الشيخين، ثم بعد هذا نجد أن الحديث معل، وقد حكم عليه بالوضع، وربّ حديث قد حدّثْنا به وهززْنا به رؤوسنا وفي النهاية فإذا الحديث معل، وقد قال أبوحاتم أو الدارقطني رحمهما الله تعالى: إن هذا معل، فالذي أنصح به إخواني في الله أن يعرضوا ما كتبوه على كتب العلل، والحمد لله كتب العلل تغربل الأحاديث غربلة، وقد قال علي بن المديني -وهو كما يقول الحافظ ابن حجر: أعلم أهل عصره بعلل الحديث- يقول: الحديث إذا لم تجمع طرقه، لم يتبين خطؤه. والله المستعان.(1/19)
إذا قال أحد من أئمة الحديث: إن الحديث معلول. فهل لا بد من أن يبين السبب ويظهره لنا كطلبة علم، أو لا يقبل منه هذا القول، أو يقبل منه من غير بيان؟
أنا وأنت في هذا الأمر ننظر إلى القائل، فإذا قاله أبوحاتم، أو أبوزرعة، أو البخاري، أو أحمد بن حنبل، أو علي بن المديني، ومن جرى مجراهم، نقبل منه هذا القول، وقد قال أبوزرعة كما في "علوم الحديث للحاكم" ص (113) عند جاء إليه رجل وقال: ما الحجة في تعليلكم الحديث؟ قال: الحجة -إذا أردت أن تعرف صدقنا من عدمه، أنحن نقول بتثبت أم نقول بمجرد الظن والتخمين؟- أن تسألني عن حديث له علة فأذكر علته، ثم تقصد ابن وارة -يعني محمد بن مسلم بن وارة- وتسأله عنه ولا تخبره بأنك قد سألتني عنه فيذكر علته، ثم تقصد أبا حاتم فيعلله ثم تميز كلام كل منا على ذلك الحديث، فإن وجدت بيننا خلاف فاعلم أن كلاً منا تكلم على مراده، وإن وجدت الكلمة متفقة فاعلم حقيقة هذا العلم. ففعل الرجل فاتفقت كلمتهم عليه فقال أشهد أن هذا العلم إلهام.
وقد قال عبدالرحمن بن مهدي كما في "العلل" لابن أبي حاتم (ج1 ص10): إن كلامنا في هذا الفن يعتبر كهانة عند الجهال.
وإذا صدر من حافظ من المتأخرين، حتى من الحافظ ابن حجر ففي النفس شيء، لكننا لا نستطيع أن نخطّئه، وقد مرّ بي حديث في "بلوغ المرام" قال الحافظ: إنه معلول. ونظرت في كلام المتقدمين، فما وجدت كلامًا في تصحيح الحديث ولا تضعيفه، ولا وجدت علةً، فتوقفت فيه.
ففهمنا من هذا، أنه إذا قاله العلماء المتقدمون ولم يختلفوا، أخذنا به عن طيبة نفس واقتناع، وإذا قاله حافظ من معاصري الحافظ ابن حجر نتوقف فيه.(1/20)
ذكرتم في من قيل فيه: (صدوق يخطئ)، أو (صدوق يهم): أننا نرجع "للميزان" للذهبي أو "الكامل" لابن عدي للنظر، هل هذا الحديث من أوهامه وأخطائه، أم لا؟ وأحيانًا أرجع إلى ترجمة بعض الرواة الذين قيل فيهم هذه المقالة، فأجدهم يقولون: ومن أوهامه، لا يسوقون هذا مساق الحصر، ولكن مساق التمثيل، يمثّلون بأوهامه، ولم يذكروا الحديث الذي بين يدي، لكنهم ما قالوا: إن هذه كل أوهامه، وإنما ذكروها على سبيل المثال، فكيف بالحديث الذي بين يدي؟
سؤال حسن، إن كان الحديث من أحاديث الأحكام، فأحاديث الأحكام قد نخلت نخلاً، لأن هناك فقهاء محدثين، مثل الإمام النووي، ومثل الإمام الحافظ ابن حجر، ومثل العراقي، ومثل الزيلعي في "نصب الراية"، ومثل من تقدمهم، كالبيهقي، ومثل الطحاوي، فمثل هذه الأحاديث يتكلمون عليها إذا استدل شافعيّ بالحديث، والحنفي يعلم به علة، يبيّن أنه معلّ، وهكذا على العكس رجعت إلى كتب الأحكام مثل: "نيل الأوطار" وغيره من الكتب، ومن أحسن المراجع في هذا هو "التلخيص الحبير" للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، لكن إذا كان الحديث يتعلق بالتفسير، أو بالسير، فأنت تنظر أذكر في أوهامه أم انتقد عليه؟ وإلا حكمت عليه بما يقتضيه ظاهر السند، والله تعالى أعلم.
الشيخ الألباني-حفظه الله تعالى- يحسّن حديث من هذا حاله، فهل يحمل تحسينه على ما ذكرت أنت من التفصيل؟ أم أن هذه قاعدة عنده أن (صدوق يخطئ) حديثه حسن، وذكره غير مرة في كتابه "السلسلة"؟
الذي يظهر أن هذه قاعدة عنده، وقد سألناه بمدينة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال حفظه الله تعالى: إنّ من مارس أعمالهم في كتب الحديث يرى أنّهم يحسّنون لمحمد بن عمرو بن علقمة ومن جرى مجراه، فالظاهر أن هذه قاعدة عنده وهي قاعدة مقبولة لا غبار عليها، لكن من أحب أن يتثبّت وينظر في ترجمته وفي العلل فهو الأحوط لدينه.(1/21)
ذكر ابن الوزير رحمه الله تعالى أنّ مدلس تدليس التسوية لا بد أن يصرّح بالتحديث من أول السند إلى آخره، ولا ينفعه أن يصرح بالتحديث بينه وبين شيخه، فماذا تقولون؟
هذا هو المعروف، لأن تدليس التسوية هو: إسقاط ضعيف بين ثقتين، وزاد بعضهم: قد سمع أحدهما من الآخر، فهذا هو المعروف والمعتبر، وهذا هو الذي عليه العمل: أنه إذا وجد مدلس تدليس التسوية مثل: بقية بن الوليد، أو الوليد بن مسلم، فإنه لا بد أن يصرّح بالتحديث في السند كله(1)، لكن ينبغي أن يعلم أنه يحتاج إلى أن تجمع الطرق، فربما لا يصرّح في "صحيح البخاري" ويصرح في "مسند أحمد"، أو يصرّح في "معجم الطبراني".
وقد قيل للوليد بن مسلم -وهو كثير الرواية عن الأوزاعي-: مالك تحذف شيوخ الأوزاعي الضعفاء؟ قال: أجلّه عن أن يروي عنهم، قيل له: إذا حذفت شيوخ الأوزاعي الضعفاء، ضعّف الأوزاعي، وأبى الوليد بن مسلم إلا أن يستمر على ما هو عليه.
فلا بد من التصريح، فمثلاً الوليد بن مسلم يروي عن الأوزاعي، والأوزاعي يروي عن الزهري، والزهري يروي عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن المسيب يروي عن أبي هريرة، لا بد أن يكون فيه: حدثنا الأوزاعي، أو سمعت، أو ما يؤدي هذا، وهكذا الأوزاعي عن الزهري، حدثنا الزهري والزهري عن سعيد بن المسيب، حدثنا سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.
الهيثم بن خارجة لما سأل الوليد بن مسلم في القصة التي ذكرتها قال: أنت إذا فعلت ذلك وحذفت ما بين الأوزاعي والزهري، أو مابين الأوزاعي وغيره من المشايخ، ضعّف الأوزاعي، فلو أن الأوزاعي ثبت لقاؤه للشيخ هذا، ويقينًا تحمل عنه الأوزاعي، ومع ذلك عنعن، فما وجه ضعف الأوزاعي؟ هل وجه ضعفه أن الحديث منكر؟
__________
(1) ? ... قلت، ثم رأيت الحفاظ يكتفون بتصريح المدلس تدليس التسوية من شيخه وشيخ شيخه، فعملهم هو الصواب أنه يكتفي بتصريحه بالتحديث من شيخه وشيخ شيخه.(1/22)
إذا عنعن والراوي عنه الوليد بن مسلم (نعم)، فقط خاف أن يضعّف، وإلا فالأوزاعي قد عرفت إمامته، وعرفت ثقته، فخاف أن الناس يظنون أن الأوزاعي هو الذي وضع هذا الحديث الضعيف، أو هذا الحديث المنكر، فخاف من هذا، والحمد لله لم يحصل -أي لم يضعف الأوزاعي- لأنه قد عرف أن الوليد بن مسلم يدلس تدليس التسوية؟
إذا كان الحديث في "الصحيحين" وقد عنعن المدلس فماذا؟
من أهل العلم من يقول: إنه يحمل على السماع، قال ابن دقيق العيد –كما في "فتح المغيث"-: إن في النفس شيئًا. فهو محمول على السماع، لأن مثل الإمام البخاري لا يخفى عليه هذا، وهو الأحوط، حتى لا يتجرأ على تضعيف أحاديث في "الصحيحين"، ما ضعفها أحد من المتقدمين، والله أعلم.
مثل كتب "المستخرجات"، ذكروا أن الذي يخرج كتابًا على كتاب، أنه يجب عليه أن يلتزم بشرط صاحب الكتاب الأول، ومن هنا تكلّم الحافظ ابن حجر على فوائد "المستخرجات"، فقال: إنّ الرجال الجدد الذين يذكرهم صاحب "المستخرج" لهم حكم العدالة مالم يثبت فيهم جرح أو تعديل، لأن الرجل التزم بشرط الصحيح، فمن هنا قال: يستفاد من "المستخرجات": توثيق الرجال الجدد الذين لم يثبت فيهم جرح ولا تعديل، وحديثهم الذي في غير "المستخرج" محمول على العدالة، لأن صاحب "المستخرج" قد ذكرهم، لكنه قال بعد ذلك: إنه لا يحكم لهم بالعدالة، قال: والسبب في ذلك: أنّ الحافظ منهم، همّه العلو، فكيف الجمع بين الكلام الأول والأخير؟
الأخير هو المعتبر، لا بد من نظر في رجال السند من المؤلف إلى أن يلتقي مع من استخرج عليه، فالمعتبر هو الأخير.(1/23)
قول ابن الصلاح: إن الأمة تلقت "الصحيحين" بالقبول، هل هذا عليه العمل؟ وإذا كان هذا عليه العمل، فهل لي أنا أو لغيري من طلبة العلم إذا اتضح له حديث فيه علة ولم يتكلم عليه الأئمة الأولون هل لي أن أتكلم فيه، لأني سمعت أن بعض الإخوة يضعف حديثًا في البخاري ما ذكره الدارقطني، ولا غيره من الأئمة، فهل هذا الأخ أو الذي يقول هذه المقالة يدفع بأن الأمة تلقت هذين "الصحيحين" بالقبول إلا الأحرف اليسيرة؟ أم يقول الأمر أمر اجتهاد، وأسير كما سار الدارقطني، وأنا صاحب شوكة وصاحب أهلية...الخ؟
الذي يظهر أن "الصحيحين" قد تلقتهما الأمة بالقبول-كما يقول ابن الصلاح- إلا أحاديث يسيرة انتقدها الحفاظ كالدارقطني وغيره، وأنه لا ينبغي أن يفتح الباب لزعزعة الثقة بما في "الصحيحين"، وربّ حديث يكون قد تحقق للعلماء أنه صحيح مثل البخاري، أقصد أن مثل الإمام البخاري، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وعلي بن المديني، ومن جرى مجراهم، يعرفون الراوي وما روى عن ذلك الشيخ، وإذا روى حديثًا ليس من حديثه يقولون: هذا ليس من حديث فلان، دليل على أنّهم يحفظون حديث كل محدث، وربما يروون له عن أناس مخصوصين، فهم قد اطلعوا على مالم نطلع عليه، ونحن ما بلغْنا منْزلتهم، والصحيح أنّ مثلنا مثل الذي يعشي-وأنا أتحدث عن نفسي أولاً- فالذي يعشي يمشي في الليل وعنده نور قليل فهو يتخبط، فنحن نفتش الورق ونقرأ ونبحث، فينبغي أن يعلم أنّهم حفاظ، ونحن لسنا بحفاظ، وربما نغترّ بظاهر السند هو كالشمس في نظرنا، وهو معلّ عندهم، وربما يكون في السند ابن لهيعة، وهم يعلمون أنّ هذا الحديث من صحيح حديث ابن لهيعة، فإذا صححه الحافظ الكبير ولم يقدح فيه حافظ معتبر مثله فهو مقبول لأنّهم قد نخلوا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم نخلاً، ولو كان ضعيفًا لصاحوا به.(1/24)
بعض الرواة يكون ثقةً إذا روى عن أهل بلد وضعيفًا إذا روى عن أهل بلد أخرى، مثل: إسماعيل بن عياش في روايته عن الشاميين والحجازيين، ومثل: بقية. والسؤال: إذا روى عن غير أهل هذين البلدين، مثلاً إسماعيل بن عيّاش يروي عن المصريين، ما حكم روايته؟
يصلح في الشواهد والمتابعات. إذا روى عن الشاميين تقبل روايته، وإذا روى عن المصريين أو المدنيين يصلح في الشواهد والمتابعات.
إن كان الأئمة قد ضعفوا حديثًا بعينه، ثم جاء المتأخرون فصححوه، وقد ذكر الأئمة في السابق أن له طرقاً بعضها ضعيفة، وبعضها كذا، إلا أن الرجل المتأخر رد هذه العلة، مرةً يرد هذه العلة، ومرةً يقول: أنا بحثت عن الحديث فوجدت له سندًا لم يطلع عليه الحفاظ الأولون، فماذا تقول؟(1/25)
سؤال حسن ومهم جدًا -جزاكم الله خيرًا- العلماء المتقدمون مقدّمون في هذا، لأنّهم كما قلنا قد عرفوا هذه الطرق، ومن الأمثلة على هذا: ما جاء أن الحافظ رحمه الله يقول في حديث المسح على الوجه بعد الدعاء: أنه بمجموع طرقه حسن، والإمام أحمد يقول: إنه حديث لا يثبت، وهكذا إذا حصل من الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى هذا؛ نحن نأخذ بقول المتقدمين ونتوقف في كلام الشيخ ناصر الدين الألباني، فهناك كتب ما وضعت للتصحيح والتضعيف، وضعت لبيان أحوال الرجال مثل: "الكامل" لابن عدي و"الضعفاء" للعقيلي، وهم وإن تعرضوا للتضعيف، فهي موضوعة لبيان أحوال الرجال، وليست بكتب علل، فنحن الذي تطمئن إليه نفوسنا أننا نأخذ بكلام المتقدمين، لأن الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى ما بلغ في الحديث مبلغ الإمام أحمد بن حنبل، ولا مبلغ البخاري، ومن جرى مجراهما. ونحن ما نظن أن المتأخرين يعثرون على مالم يعثر عليه المتقدمون اللهم إلا في النادر، فالقصد أن هذا الحديث إذا ضعفه العلماء المتقدمون الذين هم حفاظ، ويعرفون كم لكل حديث من طريق، فأحسن واحد في هذا الزمن هو الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى، فهو يعتبر باحثًا، ولا يعتبر حافظًا، وقد أعطاه الله من البصيرة في هذا الزمن ما لم يعط غيره، حسبه أن يكون الوحيد في هذا المجال، لكن ما بلغ مبلغ المتقدمين.
الشيخ الألباني-جزاه الله خيرًا- قد يأتي بحديث في نفس هذه المسألة، فإن بحثت في كتب الفقه المتقدمة وجدت الحديث ضعيفًا، ووجدت العمل ليس عليه عند الفقهاء المتقدمين، والشيخ ناصر يصحح الحديث، فيحتج بعض طلبة العلم ويقولون: لماذا تضعّفون هذا والحديث في "صحيح الجامع" للألباني، فيحرج الإنسان، فما تقولون في ذلك؟(1/26)
سؤال حسن أيضًا، الشيخ ناصر الدين الألباني- حفظه الله تعالى- هو عندنا ثقة، فالباحث الذي يستطيع أن يبحث لنفسه فما راء كمن سمع، وليس الخبر كالمعاينة، والذي لا يستطيع أن يبحث وأخذ بقول الشيخ الألباني في التصحيح والتضعيف، فهذا لا شيء عليه إن شاء الله، لأن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه الكريم:{ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين(1)} فالشيخ ناصر هو عندنا ثقة، والذي يأخذ بتصحيحه وتضعيفه لا ننكر عليه بحال من الأحوال وإن خالفنا، لكن يبحث وهو الأحوط والأولى، وهو الذي يرجى أن ينفع الله به الإسلام والمسلمين.
أما إذا قال لك قائل: هذا صححه الشيخ ووجدته ليس أهلاً للبحث فاترك صاحبك هذا، ولا تختلف أنت وهو، اتركه وابحث الحديث واعمل بما تراه حقًا، ولست بأول شخص أنت وصاحبك ممن اختلف في تصحيح الحديث وتضعيفه، أو في توثيق الرجل وتضعيفه، ولا ينبغي أن يكون هذا سببًا لفرقة ولا اختلاف ولا تنافر.
ونحن لا نطالب الناس بأن يكونوا كلهم محدثين، فمن أخذ بما صححه الشيخ أو ضعفه، لا نستطيع أن ننكر عليه، ولا نقول شيئًا، حتى وإن خالف ما نرى، سواء
أكان الشيخ أم غيره، كالأخ محمد ابن عبدالوهاب عندنا، وكذلك الأخ أبي الحسن أو غيرهما، القصد أن العلماء الأولين اختلفوا في التصحيح والتضعيف، واختلفوا أيضًا في التوثيق والتجريح، فالأمر سهل إن شاء الله في هذا.
بعض الإخوة المصريين الذين يبحثون في علم الحديث يحكم على أحاديث الشيخ الألباني عامةً التي يحسّنها وهي من قبل مضعفة، يقول: الشيخ متساهل في التحسين فماذا تقول؟
__________
(1) ? ... الحجرات، الآية:6.(1/27)
على العموم نحن لا نستطيع أن نحكم على الشيخ أنه متساهل في التحسين، ولا أنه متساهل في التصحيح، طالب العلم ينبغي أن يبحث، نحن مع الشيخ في هذا الأمر، وفي مواضع لا نأخذ بقول الشيخ، وفي مواضع نرجع بعد سنة أو سنتين إلى قول الشيخ، إذا لم يكن الشخص صاحب هوى من إخوانك المصريين، فلا بأس، وإن قال: إن الشيخ متساهل. لا ينكر عليه، لكن لا نستطيع أن نقول: إن الشيخ حفظه الله متساهل على العموم، لكن كما قلنا هذه مسألة اجتهادية، والباحث متعبّد بما أدى إليه اجتهاده، فالذي يبحث ويأخذ بما أدى إليه اجتهاده، فهذا هو الأحوط لدينه، والذي يأخذ بتحسين الشيخ أو تضعيفه فقد أخذ إن شاء الله بما ينجيه عند الله سبحانه وتعالى.
قولهم في الرجل: (مجروح)، هل هذه فيها تهمة بالكذب وما وثّق؟
نتوقف في أمره، أقل حاله أن يكون ضعيفًا.
لأن هذه تجرني إلى كلمة أخرى، الدارقطني رحمه الله تعالى قال: تجنب تدليس ابن جريج، فإنه لا يدلس إلا فيما سمعه من مجروح؟
معنى كلامه: أن ابن جريج إذا عنعن توقفت فيه، ولفظة (مجروح) الجرح يتفاوت، فهى محتملة لأن يكون ضعيفًا، أو شيخًا أو يكون أكذب الناس، كل هؤلاء مجروحون، فهي عبارة محتملة، نتوقف فيما عنعن فيه ابن جريج رحمه الله تعالى.
الذي قيل فيه: (مجروح) ولا ندري أهو مجروح من كذب أم من سوء حفظ، وما ذكر فيه إلا هذه العبارة هل يستشهد به؟
الظاهر أنه يستشهد به، لو كان كذابًا لقالوا: إنه كذاب.
ذكروا أن: من قيل فيه: (لا بأس به)، فهو من مراتب الاحتجاج في الحديث الحسن وأن من قيل: (صالح الحديث) يستشهد به، فكيف لو جمع عالم من العلماء قال فلان: (صالح لا بأس به)، هل لا بأس به في دينه وصالح في حديثه، بمعنى أن يستشهد به أم ماذا؟
الذي يظهر لي أنّهم يحسّنون لمن قيل فيه: (صالح لا بأس به).(1/28)
ذكر الذهبي تعقيبًا على كلام ابن القطان، أن مجهول الحال الذي لم يوثقه معاصر، أو ينقل توثيقه عن معاصر، وأنا أسأل: هل هناك طريقة أخرى في توثيق الرجل غير قول المعاصر فيه، مثل سبر أحاديثه والنظر هل وافق الثقات أم خالفهم، ولم يتكلم فيه أحد ممن عاصره، هل عند العلماء أنّهم يجمعون حديثه وينظرون، هل وافق الثقات أم خالفهم، وبهذا يجعلون له حكمًا وإن لم يوثقه معاصر؟
نعم هذه هي الطريقة: إن كان معاصرًا نظروا في حديثه وفي أمره، وإذا كان غير معاصر نظروا في حديثه فإذا لم يخالف الثقات علموا أنه حافظ، وقد أتقن حديثه، وقد ذكر هذا مسلم في مقدمة "صحيحه" وذكره غير مسلم رحمه الله تعالى، وذكر المعلمي في "التنكيل عما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" أن يحيى بن معين ربما يوثّق الشخص الذي لم يوثّق، ويستحق أن يكون مجهولاً لأن يحيى ينظر في حديثه فلا يجده مخالفًا للثقات فيوثقه، فهاتان طريقتان في هذا الأمر.
السند الذي فيه انقطاع ظاهر ليس بالإرسال الخفي ولا بالانقطاع الخفي، وجاء من طريق أخرى فيها أيضًا انقطاع، فهل ينجبر الحديث؟
الذي يظهر أنه لا ينجبر، لأنه يحتمل أن يكون المحذوف ثقة، وأن يكون كذابًا، وهكذا أيضًا كذاب عن كذاب لا ينجبر، لكن لو تعددت الأحاديث المنقطعات ربما ترتقي إلى الحسن والله أعلم.
أنظر إلى قولهم: هو (مظلم الأمر)، فأجدها غالبًا ما تقال في المجهول وليس بالمشهور، لكن جاء عند ابن عدي في ترجمة سعيد بن ميسرة البصري أبي عمران، قال: هو منكر، وعنده مناكير، وساق له أحاديث، وقال: هو مظلم الأمر. هل مظلم هنا بمعنى النكارة؟
الظاهر أنه بمعنى النكارة، ويحتمل أن المراد لم يتضح لي أمره.
إذا أتى في السند أكثر من مجهول (أي مجهول حال) فهل يصلح في الشواهد والمتابعات؟
يصلح في الشواهد والمتابعات، ولو وجد فيه أكثر من مجهول.(1/29)
الذهبي رحمه الله أحيانًا يذكر في ترجمة الرجل أقوال المتقدمين بالتعديل، ثم يعقّب ذلك بقوله: (لا يعرف) كما في شبيب بن عبدالملك التميمي، قال أبوزرعة: صدوق، وقال أبوحاتم: شيخ بصري ليس به بأس لا أعلم أحدًا حدث عنه غير معتمر بن سليمان -وهو أكبر منه- قال الذهبي: قلت: لا يعرف. فما وجه قول الذهبي وقد وثقه غيره؟
نحن نأخذ بأقوال العلماء المتقدمين، وقول الإمام الذهبي في هذا إذا كان لا يعرفه هو فقد عرفه غيره، وكثيرًا ما يتعقب عليه الحافظ ابن حجر.
وقد مرت بي في أيام قريبة قال في ترجمة راو: (لا يعرف) فتعقبه الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" فقال: عجبًا، إنه لعجب، قد عرفه يحيى بن معين فكيف يقال فيه: (لا يعرف). فنأخذ بأقوال العلماء المتقدمين.
وفي المقابل أيضًا الحافظ ابن حجر ذكر ترجمة رجل وقال: وقرأت بخط الذهبي أنه صدوق، وترجم له في "التقريب" قال: (مجهول)؟
لا بد أن ينظر ماذا قال العلماء المتقدمون وترجع إلى "تهذيب التهذيب" فإذا قال حافظ من الحفاظ المتقدمين الذين هم من معاصري يحيى بن معين: إنه صدوق فيكون صدوقًا، وأما إذا لم يوثّق، ثم يأتي الحافظ الذهبي ويقول: إنه ثقة، أو صدوق فنحن نتوقف في كلام الحافظ الذهبي، وكثيرًا ما يذكر في كتابه "الكاشف" ويقول: فلان وثّق، فنرجع فإذا هو قد اعتمد على توثيق ابن حبان، أو توثيق العجلي، أو توثيقهما، فالمعتبر في هذا هو الرجوع إلى كلام المتقدمين رحمهم الله، أما الإمام الذهبي ففي قوله: (صدوق) أو كذا، فبينه وبين ذلك الرجل مراحل.
بالنسبة لتوثيق العجلي، ذكر الشيخ الألباني حفظه الله تعالى أن العجلي والحاكم متساهلان في التوثيق، ومع ذلك أجد الحافظ ابن حجر إذا لم يكن في ترجمة الرجل إلا قول العجلى: (كوفي ثقة) أو (مدنيّ تابعيّ ثقة) يقول في "التقريب": ثقة، فما وجه تساهل العجلي؟(1/30)
قد عرف بالاستقراء، من تفرده -مع ابن حبان- بتوثيق بعض الرواة الذين لم يوثقهم غيرهما، فهذا عرف بالاستقراء، وإلا فلا أعلم أحدًا من الحفاظ نص على هذا، والذى لا يوثقه إلا العجلي، والذي يوثقه أحدهما أو كلاهما فقد لا يكون بمنْزلة صدوق، ويصلح في الشواهد والمتابعات، وإن كان العجلي يعتبر أرفع في هذا الشأن فهما متقاربان و"التقريب" محتاج إلى إعادة نظر، فربما يقول فيه: مقبول، وتجد ابن معين قد وثّقه أو على العكس يقول: ثقة، ولا تجد إلا العجلي أو ابن حبان، وقد أعطانا الشيخ محمد الأمين المصري رحمه الله تعالى عشرة عشرة، كل واحد عشرة ممن قيل فيه: (مقبول) فالذي تحصل لي أن "التقريب" يحتاج إلى نظر، ونحن لا نرجع إلى "التقريب" إلا إذا رأينا للعلماء المتقدمين عبارات مختلفة لا نستطيع التوفيق بين عباراتهم، فنرجع إلى "التقريب" ونأخذ عبارة صاحب "التقريب".
ذكروا في مراتب الاستشهاد قولهم: (واه) يقال في الرجل: (واه). قالوا إن هذا يستشهد به، وقالوا: (واهي الحديث) في مراتب الرد، وكثيرًا ما يقول الحافظ الذهبي وغيره: هذا الرجل وهّاه فلان فقال: كذاب. وأحيانًا يقول الحافظ الذهبي أيضًا: فلان واه. ويسوق الترجمة بالترك وبالكذب، فالقول الأخير في قولهم في الرجل (واه) هل هذا يستشهد به؟
الذي أعرفه أن من قيل فيه: (واه) لا يصلح في الشواهد والمتابعات.
ابن حبان معروف أنه يوثق المجاهيل، فإن كان الراوي غير مجهول وقد روى عنه أكثر من واحد، وقال ابن حبان: هذا مستقيم الحديث، أو قال: هذا ثقة، هل نتوقف في توثيقه أم نعتبره؟
من أهل العلم كما في "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" من قال فيه: إنه يقبل. وهو اختيار المعلمي، أما (ثقة) فالغالب أنه قد عرف هو نفسه بالتساهل، فيتوقف لأنه قد عرف هو بالتساهل في ثوثيق المجاهيل، فإذا وثّق غير مجهول يقبل منه، أما المجهولون فقد عرف منه التساهل في هذا.(1/31)
أحيانًا يذكر في كتابه "الثقات" يقول: روى عنه فلان وفلان وفلان وهو مستقيم الحديث، أو يقول: هو في حفظه كالأثبات أو يتقن حديثه، هو نفسه ينص على ثوثيقه، ولذا أجد الحافظ ابن حجر في مثل هذه المقالة يترجم له بالتوثيق أو على حسب مقالة ابن حبان وما وثقه إلا هو، وليس فيه إلا هذه العبارة!
الذي يظهر أنه يتوقف في أمره، أما المعلمي في "التنكيل" فيقول: مثل هذا يقبل ويأخذ توثيقه عن ابن حبان.
ابن معين سئل عمن يقول فيه (ضعيف) فقال: ليس بثقة ولا يكتب حديثه. هل الأمر كذلك إذا قال في الرجل: (يضعفونه)؟
الذي يقول فيه: (ضعيف) يكون غير ثقة، والذي يقول فيه: (يضعفونه) لا يكون غير ثقة، بل يكون ضعيفًا، لأن الأول قوله، والثاني حكاية عن غيره.
هل هناك فرق بين قولهم: فلان (منكر الحديث)، وفلان (يروي الأشياء المنكرة)؟
(منكر الحديث) صيغة تقتضي الديمومة، وأما (يروي الأشياء المنكرة)، فهو يحتمل أنه يرويها كغيره من العلماء الذين يجمعون كما قيل: (إذا كتبت فقمش، وإذا حدثت ففتش)، فيحتمل هذا. وينظر أهذا الحديث من مناكيره أم ليس من مناكيره.
قال الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة علي بن المديني: إن الثقة إذا تفرد برواية فهي صحيحة غريبة، أما الصدوق فإذا انفرد فهي منكرة، هل هذا قول صحيح؟
من أهل العلم من لا يقبل الصدوق، مثل أبي حاتم رحمه الله تعالى فلعله جرى على مثل ما جرى عليه أبوحاتم. أما ابن الصلاح وكثير من أهل العلم فيعتبرون الصدوق إذا انفرد حسن الحديث، ورب كلمة تنفق على المؤلف من غير أن ينظر فيها ويفحصها مثل: زيادة الثقة، وقد زلت قدم الخطيب في بعض كتبه، وفي "الكفاية" ثم تبعه على هذا ابن الصلاح، فالراجح في هذا أنه يحسّن حديثه.
هل هناك فرق بين قولهم: فلان (سيء الحفظ)، وفلان (رديء الحفظ)، وفلان (يخطئ كثيرًا) أو (كثير الخطأ)، هل هناك فرق بين هذه العبارات؟
الذي يظهر أنّها مترادفة، والله أعلم.(1/32)
هل قول البخاري في حديث من الأحاديث: (فيه نظر)، معناه: أن هذا الحديث لا يستشهد به، كقوله في الرجل: (فيه نظر)؟
الذي يظهر هو هذا، أنه لا يستشهد به، كقوله في الرجل: (فيه نظر).
سئل ابن المبارك عن نوح بن أبي مريم فقال: هو يقول: (لا إله إلا الله)، وسئل ابن معين عن رجل فقال: (هو مسلم)، ففي أي المراتب؟
الذي يظهر أن هذا من باب الهروب عن الإجابة، وأمْر نوح بن أبي مريم معروف أنه كذاب، من رؤوس الكذابين، وكذلك قول عبدالله بن المبارك، فالذي يظهر أن الرجل مجروح شديد الجرح، وبعض الأوقات يقتضى المقام أن لا يصرحوا لأمر ما، إما أنه يخاف على نفسه، وإما لأن للمضعف عليه نعمة أو غير ذلك.
الذهبي في ترجمة محمد بن إسحاق بن يسار صاحب "السيرة" قال: إنه (صالح الحديث)، وقال: (حسن الحديث)، وقال: (صالح الحال)، وقال: (صدوق، وما انفرد به ففيه نكارة)، ثم ذكره مرةً أخرى في ترجمة هشام بن حسان فقال: والجمهور على أنه لا يحتج به، فماذا تقولون في محمد بن إسحاق، آخر قول فيه؟
ابن إسحاق إذا صرح بالتحديث ولم يكن حديثه منكرًا، فيقبل ويحسّن حديثه، وإذا تفرّد بحديث ظاهره النكارة مثل: إثبات صفة الأطيط للعرش، فهذا من طريق ابن إسحاق، والحافظ البيهقي والحافظ الذهبي كلاهما يقدح في الحديث ويقولون: إن ابن إسحاق ليس بعمدة في أحاديث الأحكام، فضلاً عن أحاديث الأسماء بالنكارة لأمر خارج، وإلا فيكون حديثًا مستقلاً ويقبل حديثه إذا صرح بالتحديث.
في ترجمة يحيى بن نصر بن حاجب القرشي، عن عاصم الأحول، وهلال بن خباب، وثور بن يزيد، وعنه إبراهيم بن سعيد الجوهري، وأحمد بن سيار وجماعة، قال أبوزرعة: (ليس بشيء)، وقال أحمد: (كان جهميًّا). وقال أبوحاتم: يلينه عندي قدم رجاله)، هل قول أبي حاتم يشير إلى أنه متهم، ويحدث عمن لم يلقه أم ماذا؟
هو يعني هذا، أنه يحدث عن أناس لم يلقهم.(1/33)
قولهم في الرجل: (وثّقوه)، أليس دون قولهم في الرجل: (ثقة)؟ وكذلك (ضعّفوه) و (ضعيف)؟
نعم هو كذلك.
العالم إذا سئل عن حديث إما إسنادًا أو متنًا وصححه، هل يكون ذلك ثوثيقًا منه لرواة ذلك الحديث؟ أم أنه يحتمل أنه صححه لقرينة أخرى؟ وقد أردت أن أستقرئ فيها صنيع الحافظ الذهبي فوجدته أحيانًا يعتبر هذا، ويوثق الرجل، وأحيانًا لا يعتبره، وذكرت بعض الأسماء، ففي ترجمة إسماعيل بن سعيد ابن عبدالله بن جبير بن حية، لم يذكر من روى عنه إلا أن أبا حاتم تركه، والترمذي روى له حديثًا واحدًا فصححه، وذكره ابن حبان في "الثقات" فقال عنه ابن حجر في "التقريب": (صدوق)، هذه الحالة التي اعتبر فيها توثيق الترمذي، وخالف ذلك في جعفر بن أبي ثور، وقد صحح حديثه جماعة: مسلم، وابن خزيمة، وابن حبان، وابن مندة، والبيهقي وغيرهم، روى عنه أربعة وذكره ابن حبان في "الثقات" ومع ذلك قال: مقبول؟
لا بد من نظر في توثيق الراوي: أوثقه معتبر أم لم يوثقه معتبر؟ وبالنسبة للحديث فيحتمل أن يكون صححه لطريق أخرى وتصحيح الحديث لا يدل على أن رجاله ثقات.
قول الحافظ في ترجمة: أحمد بن بكّار أبي ميمونة قال: (صدوق كان له حفظ)، فهل هذا يرفعه إلى درجة ثقة؟
يبقى حسن الحديث، ولا يرتفع إلى درجة الثقة، لأن الصدوق له حفظ، ولو لم يكن له حفظ لكان من الضعفاء.
الشافعي رحمه الله تعالى معلوم كلامه في المرسل إذا اعتضد بقرائن، لكن خص ذلك بمرسل كبار التابعين، الذي عليه العمل: هل هو مطلق التابعي، أم أنه كما قال الشافعي رحمه الله تعالى؟(1/34)
الذي يظهر أنه من مطلق المرسل، إلا الذين عرف بأن مراسيلهم شديدة الضعف مثل: قتادة، ويحيى بن أبي كثير، والزهري، والحسن البصري، فمثل هؤلاء عرف أن مراسيلهم شديدة الضعف، لا تصلح في الشواهد ولا المتابعات، أما المرسل وإن كان من أوساط التابعين أو من صغارهم فينطبق عليه، وهذه مسألة اجتهادية، فإن الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى- يقول: مع هذا فليس في رتبة الحديث المتصل.
هل قول البخاري في الرجل: (حديثه ليس بالمعروف) مثل قوله: (منكر الحديث) كما قالوا: إن المنكر عكسه المعروف؟
الذي يظهر أنه ليس كقوله: (منكر الحديث)، أما (المعروف) فهو عندهم يقابل (المنكر)، كما أن (المحفوظ) يقابل (الشاذ)، لكن هذه العبارة لا يظهر منها أنّها مثل: (منكر الحديث)، وإلا فما يمنع البخاري رحمه الله تعالى من قول: (منكر الحديث)، وما أكثر ما يقول هذا. فالذي يظهر أنّها أحسن حالاً، والله أعلم.
قالوا: إن الرافضة لا يكتب عنهم ولا كرامة، فكيف بجابر الجعفي، وكان يؤمن بالرجعة؟
جابر بن يزيد الجعفي وثقه بعضهم، وهو يعتبر رافضيًّا، وقد كذبه أبوحنيفة فقال: ما رأيت أكذب منه، وكذبه غير أبي حنيفة، فجابر بن يزيد الجعفي ومن جرى مجراه لا يحتاج إليه، وقد ذكر الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في "الميزان" في ترجمة أبان بن تغلب ذكر: أن الشيعي إذا كان صدوق اللسان فإنه يؤخذ عنه، وأما الرافضة -الذين يسبون أبا بكر وعمر- قال: فلا يحتاج إليهم، قال: على أنني لا أعرف من هذا النوع أحدًا يحتاج إليه، بل الكذب شعارهم والتقية دثارهم، أو بهذا المعنى.
فالرافضة ليس هناك أحد منهم يحتاج إليه، حتى قال الأعمش رحمه الله تعالى: ما كنا نسميهم إلا الكذابين. وذكر نحو هذا شريك ابن عبدالله النخعي، فلعل من روى لجابر يقصد أنه يعتبر بحديثه، فعلى كل فروايته لا تصلح في الشواهد والمتابعات.(1/35)
قول الحافظ في جهضم بن عبدالله بن أبي الطفيل: (صدوق يكثر عن المجاهيل)، ما حكم ذلك في مراتب الجرح والتعديل؟ ومتى تعد كثرة الرواية عن الضعفاء والمجاهيل قدحًا؟ ولماذا؟
ينبغي أن ينظر في شيخه، فإن كان مجهولاً دخلت علينا الريبة من هذا، ثم إن كتاب الحافظ هو تقريب كاسمه، فينبغي أن يرجع إلى "تهذيب التهذيب" و"ميزان الإعتدال" وغيرهما من الكتب التي تتكلم وتبسط الكلام على الراوي، وعلى كل فأنت ترجع إلى شيخه، فإذا وجدته مجهولاً دخلت الريبة علينا، وإذا لم تجده مجهولا فيقبل حديثه ويحسن، والله أعلم.
لم يخصصون هذه المسألة: (يكثر عن المجاهيل)؟
إكثاره عن المجاهيل جعل في القلب ريبةً من روايته لكن إذا لم يكن شيخه مجهولاً، وكان ممن يقبل حديثه قبل. والله أعلم.
الإمام أحمد رحمه الله تعالى في ترجمة حجاج بن أرطأة قال: (كان من الحفاظ)، قيل: فلم؟ أليس هو عند الناس بذاك؟ قال: لأن في حديثه زيادة على حديث الناس، لا يكاد له حديث إلا فيه زيادة. فكيف الجمع بين قوله: حافظ وقوله: في حديثه زيادة على حديث الناس، هل يعني أنه مكثر أو معه علم كثير أم أنه حافظ ضابط كما هو معلوم؟
ضابط ويأتي بزيادات لا يعتمد عليها، ثم إن حجاج بن أرطأة أيضًا به جرح آخر وهو: أنه ذكر الحافظ في ترجمته في "ميزان الاعتدال" قال: إن فيه تيهًا، وذكر عنه أنه قال: إنّها لا تكمل مروءة الشخص حتى يترك الصلاة مع الجماعة. يقصد أنه بمخالطته للناس لا يهابونه، وهو أيضًا مدلس، فلا يمنع أن يكون حافظًا، وأن يكون مدلسًا، وأن تكون لديه زيادات، فالزيادات التي يزيدها على غيره، ينبغي أن تجتنب حتى ولو زادها على من يماثله، نستفيد هذا من التعبير الذي قاله الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
حسان بن عطية المحاربي كان الأوزاعي يثني عليه جدًا، قال خالد بن نزار: قلت للأوزاعي: حسان بن عطية عمن؟ فقال لي: حسان ما كنا نقول عمن؟ فما معنى كلمة الأوزاعي هنا؟(1/36)
حسان بن عطية هو شامي والأوزاعي شامي، والأوزاعي يعتبر من أعرف الناس بالشاميين، فمعناه أنه واثق برواية حسان بن عطية، ومعناه أيضًا أن حسان بن عطية مهاب، إذا حدثهم لا يستطيعون أن يستفسروا منه، لكن ينبغي أن يستفسر وينبغي أن يعرف مشايخه كغيره من العلماء. القصد أن قول الأوزاعي يفيد أحد أمرين أو الأمرين معًا: وثوقهم برواية حسان أو مهابتهم له، فإن بعض الرواة يكون مهابًا في نفوس الناس.
في مسألة لما ذكروها في قولهم: (حدثني الثقة)، وقال: هذا تعديل للمبهم، تكلم الحافظ ابن حجر وغيره قالوا: إن مالكًا إذا قال: حدثني فلان، أو حدثني الثقة عن فلان فهو يعني به فلانًا، والشافعي إذا قال: حدثني الثقة عن فلان. فهو يعني به فلانًا، الإمام الصنعاني رحمه الله تعالى قال: هذا كله تخمين، يعنى لايوجد جزم لأن هذه مسألة استقراء تصيب وتخطئ.
مسألة (حدثني الثقة)، لا بد أن يبيّن شيخه، والإمام مالك رحمه الله تعالى قد روى عن ضعيفين: عن عبدالكريم بن أبي المخارق وعن عاصم بن عبيدالله، فلا بد كما ذكروا في المصطلح من أن يبين شيخه، ذكره صاحب "فتح المغيث"، الإمام أحمد أيضًا من الذين لا يحدثون إلا عن ثقات، روى عن عامر بن صالح الزبيري حتى قال الإمام يحيى بن معين عند أن بلغه هذا: جنّ أحمد.
وشعبة من الذين اشتهروا أنّهم لا يحدثون إلا عن ثقات، وفي مرة يقول: لو لم أحدثكم إلا عن ثقة ما حدثتكم إلا عن ثلاثين، وفي رواية: ما حدثتكم إلا عن ثلاثة، فالتوثيق لا بد أن ينظر، ويسمى رجاله.
وهكذا الحسن، فالعلماء سبروا مراسيله فوجدوها شديدة الضعف، لأن الحسن رحمه الله تعالى يأخذ عمن أقبل وأدبر، أو بهذا المعنى، ذكروا: أنه قد يكون ثقةً عنده، ويكون ضعيفًا عند غيره.(1/37)
الشافعي رحمه الله تعالى إذا قال: (حدثني الثقة)، جاء من بعده الربيع بن سليمان فقال: إذا قال الشافعي: حدثني الثقة فهو يعني يحيى بن حسان التنيسي وهو ثقة. فإذا قال الشافعي: (حدثني الثقة) هل نحملها على هذا مطلقًا؟
لا نحمله على هذا، وهم قد اختلفوا، فليس هذا القول متفقًا عليه كما في "فتح المغيث" وفي غيره من المراجع، حتى ولو قال الشافعي ذلك فقد روى الشافعي رحمه الله تعالى عن إبراهيم بن أبي يحيى وقد قال الإمام أحمد فيه: إنه قدري معتزلي رافضي جهمي كل بلاء فيه. وأيضًا الإمام النسائي يقول: الكذابون أربعة: وذكر منهم إبراهيم بن أبي يحيى بالمدينة. فلا بد من التسمية.
الحافظ رحمه الله تعالى في بعض التراجم في "التقريب" لا يذكر أنه ثقة أو ضعيف، يقول: وثقة فلان، وثقه النسائي، وثقه الدارقطني، وثقه العجلي، أو ضعفه فلان، يعزو الأمر إلى غيره، كأنه في ذلك والله أعلم لا يريد أن يقطع في هذا الأمر بشيء، ماذا ترى في هذا؟
ما أرى إلا ما رأيت.(1/38)
قولهم في الرجل: (ثقة له أوهام)، أو (ثقة يخطئ)، أو (له مناكير)، فإذا لم يتضح لي أي شيوخه يهم فيه أو أي أحاديثه وهم فيها، كنت أظن أنه يحتاج إلى متابع كما في مسألة: صدوق يخطئ، أو صدوق يهم، حتى وقفت على كلام لابن حبان في ترجمة أبي بكر بن عياش في كتابه "الثقات" قال: كان أبوبكر من الحفاظ المتقنين وكان يحيى القطان وابن المديني يسيئان الرأي فيه، وذلك أنه لما كبر سنه ساء حفظه، فكان يهم إذا روى، والخطأ والوهم شيئان لا يخلو منهما البشر، فلو كثر الخطأ حتى صار غالبًا على صوابه لاستحق مجانبة روايته، فأما هذا فلا يستحق ترك حديثه بعد تقدم عدالته وصحة سماعه، والصواب في أمره، مجانبة ما علم أنه أخطأ فيه والاحتجاج بما يروي سواءً وافق الثقات أم لا، لأنه دخل في جملة أهل العدالة ومن صحت عدالته لم يستحق الترك ولا الجرح إلا بعد زوال العدالة عنه بأحد أسباب الجرح، وهذا حكم كل محدث ثقة صحت عدالته وتيقن خطؤه، ومثل هذا قاله أيضًا الحافظ الذهبي قال: إذا خالفه غيره فيكون أقوى منه، أما أنه يحتاج إلى متابع فلا، فماذا ترى؟
هذا كلام طيب، وذكر الإمام ابن حبان رحمه الله تعالى في مقدمة "صحيحه" نحو هذا الكلام على حماد بن سلمة، ويقول: ومن الذي لايغلط ومن الذي لا يهم؟ ولو رددنا هذا الضرب لرددنا أحاديث صحابة، حتى ذكر أبا بكر وعمر. وينظر أهذا الحديث من أوهامه التي وهم فيها أم لا، وإلا فيحكم على حديثه بالصحة.
قولهم في الرجل: (ثقة إن شاء الله)، وليس في ترجمته إلا هذه العبارة هل هذا ينْزله إلى صدوق؟
لاينْزله، لكن ليس مثل الإطلاق.(1/39)
قولهم في الرجل: فلان (قاصّ) أو (صاحب سمر)، كنت أظن أنه صاحب حكايات وروايات، أما ضبط الحديث فلا، أو أنه مثلاً قد يأكل بالحديث، حتى إني وجدتّهم قالوا: فلان (قاص)، في ترجمة سلمة بن دينار أبي حازم، وكذا في صالح بن بشير المعروف بالمري، وهو ضعيف الحفظ مشهور بالعبادة، فهل في قولهم: فلان (قاصّ). شيء من ناحية الحفظ؟ أو فيها شيء من ناحية العدالة؟
فيها شيء من عدم التثبت، لأن الغالب على القصّاصين أنّهم لا يتثبتون، وإن كان عطاء بن يسار قد لقّب بأنه قاصّ، لكن هو من أثبت الناس، والغالب على القصاصين أنّهم لا يتثبتون، حتى قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى: ما أحوج الناس إلى قصّاص صدوق. فإذا أطلقوا هذه العبارة وحدها، ولم يزيدوا عليها شيئًا، فهذه توقع الريبة في القلب ولا يعتمد عليه، لأن الأصل في القصاصين عدم التثبت.
معلوم أن ابن حبان يوثّق المجاهيل، والمجاهيل عند العلماء لهم حدّ، فلا ترتفع جهالة العين إلا برواية عدلين، ولا ترتفع جهالة الحال إلا بنص أو شهرة بالطلب كما هو معلوم، غير أني أجد الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى يقول: صدوق أو مقبول، في راو لم يرو عنه إلا واحد، وذكره ابن حبان في "الثقات"، فهل يصلح أن يكون وجه ذلك عند الحافظ ابن حجر أن ابن حبان نصّ على قاعدته في التوثيق: أن الرجل إذا لم يجرح، وروى عنه واحد وكان حديثه ليس منكرًا فهذه قاعدته أو الأسس التي بني عليها توثيقه، فالرجل إذا لم يجرح وذكره ابن حبان في "الثقات" وليس حديثه منكرًا، هل القول فيه: إنه مقبول صحيح؟
(مقبول) عند الحافظ، يعني بها أنه يحتاج إلى متابع، فإذا قال فيه: إنه مقبول فقول في موضعه، لكن تقدم لنا الكلام على "التقريب" أنه محتاج إلى إعادة نظر في كثير من التراجم، ونحن لا نرجع إلى "التقريب" إلا عند العجز، وإذا اختلفت عبارات المحدثين ولم نستطع التوفيق بينها، رجعنا إلى "التقريب"، والله المستعان.(1/40)
الرجل إذا قيل فيه: (صدوق تغير بآخره، هل يحتاج إلى متابع؟ الشيخ الألباني قال في "السلسلة الصحيحة"، يحتج به ما لم يخالف؟ وهل هنا فرق بين قولهم: تغير، وبين قولهم: اختلط؟
الذي يظهر هو قول الشيخ الألباني، لأن التغيّر ليس بمنْزلة الإختلاط، ذكر هذا الحافظ الذهبي في ترجمة هشام بن عروة عند أن قال ابن القطّان: إنه تغير أو هكذا اختلط بعد ما نزل إلى العراق. فأنكر عليه وقال: إنه ضعف حفظه -أي هشام- ولم يبلغ إلى حد الاختلاط، ثم قال: وهشام شيخ الإسلام، ولكن أحسن الله عزاءنا فيك يا ابن القطّان. فهذا الذي قاله الشيخ ناصر الدين الألباني حفظه الله تعالى هو الصواب إن شاء الله، ثم بعد ذلك لا ينبغي أن ننسى ما تقدم لنا: أن أهل العلم قد نخلوا السنة نخلاً خصوصًا ما يتعلق بالأحكام، فينبغي أن يرجع إلى شروح الحديث، وإلى كتب التخاريج مثل "التلخيص الحبير" وغيره، فربما ذكروا أن هذا الحديث مما حدث به بعد تغيره.
قولهم في الراوي: إذا روى عنه ثقة، أو يقولون بعبارة أخرى: إذا كان فوقه ثقة، ودونه ثقة، فهو مستقيم، ومعلوم من حال الثقات جميعًا أن الحديث يكون مستقيمًا إذا كان السند كله مستقيم الرجال، فما وجه هذا التخصيص؟
الذي يظهر أنه نفسه لا يكون متحريًا، فربما ينفق عليه ما ليس بثابت إذا كان شيخه ضعيفًا أو كذابًا أو مجهولاً، وهكذا إذا روى يمكن أن أصوله صحيحة، لكن المحدث إذا حدث عنه وليس أهلا للرواية -الذي هو الراوي عنه- فربما يحصل تخليط من عدم تحريه هو نفسه، في الأخذ والتحديث.
الرواي إذا قيل فيه: مجهول، راو من الرواة قال أحد علماء الجرح والتعديل فيه: مجهول، وقال آخر: ضعيف، هل نرجع بذلك إلى من روى عنه؟ وإذا كان روى عنه جماعة فالقول قول من قال: ضعيف، أم أنه إذا روى عنه أقل فالقول قول من قال فيه: مجهول، لأن (مجهول) لا يستشهد به، و(ضعيف) يستشهد به، فتعارض القولان، فالمرجع في ذلك إلى من روى عنه أم ماذا؟(1/41)
هذا الذي قال: إنه مجهول قال بحسب علمه، وذاك عرف عنه شيئًا زائدًا، فيصار إلى أنه ضعيف.
من قيل فيه: (صدوق صحيح الكتاب)، وأنا لا أدري هل حدث من كتابه أم من حفظه؟ فهل يحمل على أنه صدوق؟ وإذا علمت أنه حدث من كتابه هل يرتقي إلى مرتبة ثقة؟
يحكم على الحديث بأنه حسن في الحالتين، وإذا حدث من غير كتابه فربما ينْزل عن مرتبة الحسن، وهذا يحتاج إلى تنصيص أنه حدث هذا الحديث من غير كتابه، ومثل هذا ينبغي -كما قلنا- الرجوع إلى كتب العلل وشروح الحديث.
في ترجمة سلم بن زرير قال فيه ابن عدي: أحاديثه قليلة، وليس في مقدارها أن يعتبر ضعفها، هل معنى ذلك أنه لقلة حديثه لا يحتمل الضعف الذي فيها كما يحتمل للثقات أصحاب الحديث، لأنه ما من ثقة إلا وتفرد وخالف، ويكون معنى ذلك أنه ليس بالقوي أم ماذا؟
الذي يظهر أن معناه أنه ملتبس أمره على الحافظ ابن عدي، لأنه ما استطاع أن يحكم عليه بسبب قلة أحاديثه، والله أعلم، فنحن نتوقف في حديثه.
قولهم في الرجل: (صدوق وسط)، هل معناه أنه من مراتب الاستشهاد؟
من مراتب الحسن، و(صدوق) هو وسط بين الثقات والضعفاء، فكلمة (وسط) إن شاء الله من باب التأكيد.
قول ابن المديني في كثير من الرواة أحيانًا في تراجم "التهذيب" يقول: وقال ابن المديني: إنه من الطبقة الثانية، أو الثالثة، من أصحاب نافع. هل أصحاب نافع لهم شرط خاص؟
أصحاب نافع، وأصحاب الزهري، وأصحاب قتادة، وأصحاب الحفاظ المشاهير، كلهم طبقات، الطبقة الأولى هى أرفع طبقة، والطبقة الثانية، إلى الطبقة الخامسة والسادسة والسابعة، هكذا أصحاب الزهري، ومن أحسن المراجع الموجودة هى "شرح علل الترمذي" لابن رجب المجلد الثاني، فقد ذكر ابن رجب أصحاب نافع وطبقاتهم، وأصحاب الزهري وطبقاتهم، وأصحاب علقمة وطبقاتهم، حتى طبقات ابن مسعود.
مسألة الطبقات: هل اتفق العلماء على اصطلاح واحد في الطبقات؟(1/42)
ليس متفقًا عليها، حتى في الصحابة أنفسهم منهم، من يجعل البدريين طبقة، والسابقين طبقة، وأهل بيعة الرضوان طبقة، وهكذا، فليس متفقًا عليها، لكن المؤلف يعرف اصطلاحه من مقدمة كتابه.
هل ترتيب الطبقات على حسب العمر أم على حسب التوثيق؟
أما طبقات أصحاب الزهري فعلى حسب التوثيق، وكذلك أصحاب نافع وأصحاب قتادة، وغيرهم، أما الطبقات التي سأل عنها أخونا عبدالمحسن فعلى حسب العمر، فينبغي أن يعرف هذا. على أنّهم ليست لهم قاعدة مطردة في الطبقات، فمنهم من يجعل الصحابة طبقات، ومنهم من يجعلهم طبقةً واحدة ولا مشاحة في الإصطلاح.
شعيب بن أيوب بن زريق (صدوق يدلس) كما في "التقريب"، قال فيه أبوداود: (إني لأخاف الله في الرواية عن شعيب)، وأنا أسأل لو أن هذه المقالة بمفردها على أي اتجاه أضعها؟
هذه العبارة بمفردها معناها تضعيف الراوي (التي هي عبارة أبي داود) والظاهر أنّها بمنْزلة (متروك) عند أبي داود.
قول أبي حاتم في بعض الرواة: من (عتّق الشيعة)، ماذا يقصد؟
يقصد أنه من متشدديهم، كما يقولون: (شيعيّ جلد).
إذا ذكر ابن حبان الرجل في كتابه "الثقات" وذكر من روى عنهم، ومن رووا عنه، وقال: (وهو مستقيم الحديث)، أو قال: (وهو في الحفظ كالأثبات)، هل هذه العبارات يعمل بها كتوثيق؟ وقد وجدت الحافظ في "التقريب" يعمل بها؟
وهكذا عبدالرحمن المعلمي في كتابه "التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل"، هو أيضًا يعمل بها، والذي يظهر أنه إذا تفرد ابن حبان، أنّ في النفس شيئًا، أما المعلمي فيقول: يكون في النفس شيء فقط إذا ذكر الرجل في كتابه "الثقات" يذكر الرجل فيقول: فلان بن فلان، فيقول العلماء: وذكره ابن حبان في "الثقات"، أما إذا قال: (مستقيم الحديث)، أو قال: (ثقة)، أو كذا، فهذا يقول: يعض عليه بالنواجذ، ويقول: وهو ليس بدون غيره في هذا. لكن ينظر في هذا.(1/43)
ابن المديني رحمه الله تعالى قال في طلحة بن أبي سعيد الاسكندراني: (معروف)، فهل لذلك معنى فوق رفع الجهالة؟
فيها معنى رفع الجهالة، ويحتمل أن يكون معروفًا ثقة، أو مخلطًا أو معروفًا كذابًا، فالعبارة فيها رفع الجهالة، ولا يرتفع إلى مرتبة الاحتجاج، ويعتبر به.
في ترجمة عبدالله بن داود بن عامر الهمداني، قال ابن عيينة: (ذاك أحد الأحدين)، و(ذاك شيخنا القديم)، ففي أي المراتب قوله الأول؟ أفي معنى: ثقة ثبت، أم في معنى: ثقة؟
الظاهر أنّها توثيق، لكن رتبتها الله أعلم.
قولهم في الرجل: (ليس بثقة في حديثه)، هل هو مثل قولهم: (ليس بثقة)؟ وأن (ليس بثقة)، تعني في دينه، و(ليس بثقة في حديثه)، تعني في حفظه؟
الذي يظهر أن: (ليس بثقة في حديثه) أنه يدخل عليه الخطأ، وهو لا يدري: كما تقدم لنا أن يحيى بن سعيد القطان يقول: ما رأيت الصالحين في شيء أكذب منهم في الحديث.
قولهم في الرجل: (حسن الحديث)، هذه المسألة كنت أردت أن أستفسر فيها أكثر، فهم قد ذكروا في كتب المصطلح: أن قول العلماء في الرجل: (حسن الحديث)، و(صالح الحديث) أن هذا من مراتب الاستشهاد، وأنت في مقدمة الكلام قلت: إن هذا يحتج به، وأنا أجد كثيرًا من قول أبي حاتم وغيره: فلان (صالح)، قيل: يحتج به؟ قال: لا، يكتب عنه ولا يحتج به. وكذلك غير أبي حاتم؟
الذي يظهر لي أن من قيل فيه: (حسن الحديث) يحسّن حديثه، وأما من قيل فيه (صالح)، فيصلح في الشواهد والمتابعات، كما في "تدريب الراوي" وقد تقدم أن أبا حاتم لا يرى الحسن حجة.
عبدالله بن عثمان بن أبي مسلم الخراساني، روى عنه جماعة، وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال: (يعتبر حديثه إذا روى عن غير الضعفاء)، فلماذا يخصص هذا؟
معناه: أنه لا يتحرى في الأخذ.
قولهم في الرجل: (يستضعف)، هل هو في مرتبة (لين الحديث)؟
الذي يظهر أنه في مرتبة (لين الحديث)، وكلمة: (يستضعف)، أحسن حالاً من كلمة: (ضعيف). والله أعلم.(1/44)
أبوداود يشترط أن يروي عن ثقة عنده، كما ذكره الآجري وغيره، هل ذلك في "السنن" خاصة أم في السنن كلها؟ فقد كنت أظن أنه في "السنن" خاصة، حتى قال الحافظ ابن حجر في ترجمة عبدالله بن محمد بن يحيى الخشاب الرملي: (مقبول)، ولم يوثقه أحد، غير أن أبا داود وجماعة رووا عنه، وقال ابن القطان وغيره: (مجهول الحال)، والرجل روى له أبوداود في "المراسيل"؟
أما من حيث الواقع فالذي وجد في "سنن أبي داود" أن فيها روايات عن مجاهيل وعن ضعفاء، بل روى أبوداود في "سننه" حديثًا من أحاديث جابر بن يزيد الجعفي-الظاهر أنه في سجود السهو(1)- وقال: ليس لجابر في كتابي غير هذا، فأبوداود إذا قال بهذا فهو لم يوف بشرطه، فقد قال أبوداود: وما سكتّ عنه فهو صالح. ووجدناه سكت عن أشياء، وجاء الحافظ المنذري وبيّن ضعفها، ثم جاء الحافظ ابن القيم وبيّن ما لم يبينه أبوداود ولا المنذري، ولا يزال المجال مفتوحًا للباحثين في "سنن أبي داود"، وكذلك رواية أبي داود مباشرة عن الشخص لا تكفي، فكم من محدث قيل عنه: إنه لا يروي إلا عن ثقة، ثم تجده قد روى عن ضعيف، وعن مجهول، كما في "الصارم المنكي في الرد على السبكي".
هل يعني أبوداود في كلمته (صالح) أنه صالح للاحتجاج، أم أنه صالح للشواهد والمتابعات؟
الظاهر أنه عنى هذا وهذا، فمنه ما هو صالح للحجية ومنه ما هو صالح للشواهد والمتابعات، وقد وجدناه سكت عن أحاديث في "الصحيحين"، وأحاديث تصلح في الشواهد والمتابعات، وأحاديث ضعيفة.
أبوداود إذا وثق مشايخه هل يقبل منه؟
أبوداود كغيره، الراوي إذا وثّق شيخه أيقبل منه أم لا يقبل؟ لا يقبل، لأنه يجوز أن يكون ثقةً عنده، وغير ثقة عند غيره، كما ذكر في "فتح المغيث" عن الأئمة رحمهم الله تعالى، ومنهم من قبل هذا. والصحيح أنه لا يقبل.
__________
(1) ? ... كتاب "السنن" برقم (1036).(1/45)
الإمام العراقي عقد مقارنةً بين قول المحدث: (حدثني الثقة)، وبين قوله: (أنا أشترط أن أروي عن ثقة)، فالحافظ العراقي رجح أن الاشتراط، أرجح من قوله: حدثني الثقة، فتعقبه السخاوي رحمه الله تعالى وقال: أبدًا الصورة الثانية أولى، لسبب وهو احتمال أنه اشترط هذا الشرط مؤخرًا، ولم يتميز لنا مشايخه الأولون من المتأخرين، أو يذهل عن القاعدة، ومن هنا رجح أن من قيل فيه: (حدثني الثقة) أولى من الذي يشترط، والحافظ يترجم لمثل هذه المسائل -خاصة الثانية- بمقبول؟
لا أعلم إلا هذا –أي-: أنه مقبول يصلح في الشواهد والمتابعات، ولا يكفي سواءً قال حدثني الثقة، أم قال: أنا لا أروي إلا عن ثقة، فلا بد من البحث عما قال غيره، لأنه يجوز أن يكون ثقةً عنده، ضعيفًا عند غيره كما تقدم.
إذا قال عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيه في رجل: سألت أبي عنه فقال: (ثقة)، جاء أبوطالب فقال: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: (ضعيف)، هل أرجح رواية ابنه عنه على رواية الآخر لأن ابنه ملازم له، لوجوه الترجيح المعروفة؟ أم أجمع بينهما وأقول: صدوق؟ وأريد أن يكون السؤال أعم من هذا مع بقية العلماء، مثلاً في ابن معين، لو تعارض مثلاً إسحاق بن منصور مع غيره وفلان بن فلان، فإذا كان في هذه المسألة فائدة، فأفدنا بارك الله فيك؟(1/46)
هذه المسألة ذكرها صاحب "فتح المغيث" ويقول: إنّها تحتمل أمرين: إما أن يكون سئل عنه مقرونًا بحافظ كبير فقال: (ليس بشيء)، أي بالنظر إلى ذلك الحافظ الكبير، وإما أن يكون تغير اجتهاده في الشخص، يقول السخاوي: فينبغي أن ينظر في هذا، وذكر أمثلة لهذا، لرواة سئل عنهم يحيى بن معين مقرونين فضعفهم بالنسبة إلى الحافظ الكبير، وسئل عنهم بمفردهم فوثقهم، هذا، وفي غير النسبي، إما أن يكون تغير اجتهاده، وإما أن يكون بالنسبة إلى غيره، ولا بد أن نعرف حال الثاني، نحن الآن نعرف عبدالله بن أحمد وملازمته لأبيه، فلا بد من معرفة حال الثاني، فقد يكون أوثق ولو لم يلازمه، فالأولى التوقف في هذا الراوي.
ذكروا قاعدة ابن خزيمة وتلميذه ابن حبان في توثيق المجاهيل، وألحق السخاوي رحمه الله تعالى الدارقطني والبزار أنه يوثق الرجل إذا روى عنه اثنان، فهل الترجمة التي ليس فيها إلا توثيق البزار وتوثيق الدارقطني -وهذا أمر رأيته في "التقريب" ولكن لا أذكر صاحب الترجمة- الرجل وثقة الدارقطني، ومع ذلك الحافظ اعتبره وقال عنه: (مقبول)، فأنا كنت قد كتبت في الحاشية قلت: كيف وقد وثقه الدارقطني؟! ثم لما رجعت وقرأت كلام السخاوي جعل الدارقطني ممن يقول بمقالة ابن حبان وابن خزيمة، فماذا ترى؟
أما البزار فقد عرف تساهله، وأما الدارقطني فيحتاج إلى دراسة والله أعلم. والحاكم متساهل في تصحيح أحاديث المجهولين فقد ذكر في "المستدرك" بعد حديث أبي هريرة: ((من لا يدعو الله يغضب عليه)) قال: هذا حديث صحيح الإسناد، فإنّ أبا صالح الخوزي، وأبا المليح الفارسي، لم يذكرا بالجرح، إنما هما في عداد المجهولين.
قولهم في الراوي: (ثقة صحيح الكتاب إلا أن في حفظه لينًا)، ثم وقفت على حديث لم أدر أهو من حفظه أم من كتابه، هل يكون مثل: (ثقة له أوهام)، ويحتج به ما لم يخالف أم ماذا؟(1/47)
نتوقف إذا كنا لاندري أحدث به من حفظه، أم حدث به من كتابه، وبعض الرواة يذكرون أنه حدثه من كتابه، وإلا فنتوقف فيه، لكن إذا حدث وصححه غيره من المعتبرين ولم ينتقد فهذ يدل على أنه حدث بهذا الحديث من كتابه، والله أعلم.
في ترجمة عبدالله بن يزيد المخزومي المقرئ، قال ابن أبي حاتم: سئل أبي عنه فقال: ثقة، فقيل له: حجة؟ قال: إذا روى عنه مالك، ويحيى بن أبي كثير، وأسامة فهو حجة، والرجل قد روى عنه غير من ذكر، والسؤال: هل رواية من سماهم أبوحاتم مقدمة عمن دونهم لأنّهم تحملوا عنه زمن الاستقامة؟ غير أنني لم أقف على قول لأحد بأن عبدالله بن يزيد قد اختلط، كونه لم يتكلم فيه أحد باختلاط، والحافظ أبوحاتم يقول: إذا روى عنه فلان وفلان وفلان أحاديثه مستقيمة، ما معنى ذلك؟
معناه: أنّهم ينتقون من أحاديثه ما يظهر لهم ثبوته، والله أعلم.
الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى أحيانًا إذا روى عن الرجل واحد ثقة أو أكثر، نقول مثلاً: ثلاث ثقات، وذكره ابن حبان في "الثقات" لم يزد، لم يقل: (مستقيم الحديث) أو نحوه، قال: وذكره ابن حبان في "الثقات"، أحيانًا يترجم لهذا الرجل بـ (مقبول) وأحيانًا يترجم له بـ (مستور) أما إذا روى عنه واحد فأحيانًا يترجم لمن هذا حاله بـ (مجهول) وأحيانًا يقول: (مقبول)، فأنا من خلال استقرائي للكلام نظرت ووجدت أن الحافظ يقول للرجل الذي روى عنه واحد وذكره ابن حبان في "الثقات" وقال عنه: (مقبول)، وجدت أن الرجل الذي روى عنه هذا الراوي أنه من المشاهير، ووجدت أن الذي يقول فيه: (مجهول)، أن الرجل عدل وليس من المشاهير -أي الذي روى عنه- ومثلها في الذي يقول في: (مستور) و(مقبول) فالذي يقول فيه: (مستور) الرواة عنه مشاهير؟(1/48)
الحافظ نفسه رحمه الله تعالى -كما تقدم- يحتاج في العبارات إلى تتبع في كتابه "تقريب التهذيب" وقد تتبعنا -كما تقدم- عشرة عشرة من بعض الحروف. ونحن قدر تسعة نفر أو عشرة نفر، وأمر كل واحد منا أن يتتبع عشرة ممن قال فيهم الحافظ: (مقبول) فوجدنا بعضهم يستحق رتبة (ثقة)، وبعضهم يستحق رتبة (صدوق) وبعضهم يستحق (مقبولاً) -على اصطلاح الحافظ- وبعضهم يستحق (مجهول الحال)، فلا بد من رجوع إلى "تهذيب التهذيب" و"ميزان الإعتدال" وغيرهما من كتب الرجال ويحكم عليه بما يستحقه.
أليست رواية المشاهير ترفع من شأن الرجل عن رواية الآخرين، وإن كانوا عدولاً وليسوا بالمشاهير؟
ترفع من شأنه، لكن الحافظ في "التقريب" يحتاج إلى تتبع، فلا يرجع إليه إلا عند العجز.
قولهم في الرجل: (ثقة)، وقولهم في الرجل: (يحتج به)، أرى أن قولهم (ثقة) أعلى من قولهم: يحتج به، لأنّها تخصيص درجة عليا؟
تختلف عباراتهم، وقد سئل عبدالرحمن بن مهدي عن أبي خلدة وقد حدث عنه، فقيل له: أكان ثقةً؟ فقال: كان صدوقاً وكان مأمونًا، الثقة شعبة وسفيان. كما في مقدمة "الجرح والتعديل".
والذي يظهر أن الحجة أرفع من ثقة، وينظر في القائل: بعضهم يطلق الثقة على أنزل من حجة.
وأما (يحتج به) فالظاهر أن ما قلته صحيح، أن (الثقة) أرفع من قولهم: يحتج به لأنه قد يحتج بالثقة وقد يحتج بالصدوق.
عند تعارض كلام أهل الجرح والتعديل في رجل، فنرجع إلى الجمع والترجيح، فمثلاً من وجوه الترجيح أن أحد الأئمة يكون له المرجع في الكلام على أهل بلد ما، كابن يونس في أهل مصر والمغرب، كما قال الحافظ في ترجمة عبدالرحمن بن عبدالله الغافقي، والمطلوب منكم -بارك الله فيكم- أن توضحوا لي من كان بهذا السبيل في بقية البلدان؟(1/49)
يقولون: إن بلدي الشخص أعرف به وبحاله، ويقدمونه على غيره، بل الغريب إذا أتى إلى بلد ربما يتزين له المحدث ويحدثه بأحاديث صحاح، فيحكم عليه من ضمنها، كما ذكروا هذا في بعض من يوثقه يحيى بن معين ويضعفه أهل بلده، ويقولون أهل بلده أعرف به، ربما تزين ليحيى بأحاديث وحدثه بها فوثقه يحيى. ومما أذكره الآن دحيم في أهل الشام.
قال الجريري في عبدالله بن واقد أبي قتادة الحراني قال: (غيره أوثق منه). قال الحافظ: وهذه العبارة يقولها الجريري في الذي يكون شديد الضعف، وأحيانًا أجد غير الجريري يقولها، كما قالها الحربي في عبدالرحمن بن زياد بن أنعم، فهل له نفس الحكم أم أنه اصطلاح خاص بالجريري لتصريح الحافظ بذلك؟
الذي يظهر أنه اصطلاح خاص بالجريري.
هل هناك فرق بين قولهم: فلان (يعتبر حديثه)، وفلان (يعتبر بحديثه)؟
فلان (يعتبر حديثه) أي: ينظر فيه، وفلان (يعتبر بحديثه) أي: يصلح في الشواهد والمتابعات.
في كثير من التراجم أجد أن الحافظ ابن حجر لا يبني على ما يذكره ابن خلفون، وابن شاهين في "الثقات" كبير حكم. يقول: ذكره ابن شاهين في "الثقات"، أو ذكره ابن خلفون في "الثقات"، ومع ذلك إذا جاء يترجم له في "التقريب" مثلاً قال: مقبول، فهل هناك في توثيق هؤلاء شيء؟
ابن شاهين أعرف أنه هو نفسه من المتساهلين. وأما ابن خلفون فلا أذكر شيئا، ولكن صنيع الحافظ الذى ذكرته دليل على أنه من المتساهلين.
قولهم في الرجل: (كان طلابة)، كما قال عيسى بن يونس في عبدالرحمن بن مغرا، هل في منْزلة قولهم: (شيخ) أم بمنْزلة قولهم: (صدوق)؟
الذى يظهر أنّها أرفع من قولهم: (شيخ)، ومعناها أنه كثير الطلب، ونرجع إلى ما تقدم قبل، أنه إذا اشتهر بالطلب وما جرح فإن حديثه يقبل.
قول يعقوب بن شيبة في عبدالعزيز بن رفيْع: (يقوم حديثه مقام الحجة)، الراجح أنه بمنْزلة صدوق فماذا ترون؟(1/50)
الذي يظهر أن هذه العبارة تدل على أن المترجم له ثقة، أو أرفع، وعبدالعزيز بن رفيع هو ثقة أو أرفع من ثقة.
عبدالمتعال بن طالب الأنصاري وثقه ابن معين وغيره، وذكر ابن عدي في "الكامل" أن عثمان الدارمي سأل ابن معين عن حديث عبدالمتعال هذا عن ابن وهب فقال: ليس هذا بشيء، فأجاب الحافظ في "التهذيب" بقوله: وهذا أمر محتمل لا يوجب تضعيف الرجل، وجْه سؤالي: ألا يوجب تضعيفه في هذا الحديث لمّا قال: ليس بشيء؟
الذي يظهر أنه يؤخذ قوله كما هو إذا روى عن ابن وهب ضعّف، وإذا روى عن غيره قبل.
ما الفرق بين قولهم: فلان (رحّال)، أو (جوّال)، وبين قولهم: (فلان معروف) هل لفظة (رحّال) أو (جوّال) دلالة على الشهرة بالطلب أما العدالة في الدين فمسكوت عنها، وقولهم: (معروف)، أي أنه معروف في دينه، أما في حديثه فلا يعرف، أم أن الجميع بمعنى؟
(رحّال) يكون أشهر، وكذلك (جوال)، وهو يحتاج إلى معرفة العدالة والضبط، و(معروف)، تقدم أنه يصلح في الشواهد والمتابعات إذا لم يوثق. والله أعلم.
الحافظ ابن حجر ذكر في مقدمة "لسان الميزان" أن الذهبي قال -هو عزاه إلى ترجمة أبان بن يزيد العطار، لكن النسخة التي عندنا ليس فيها هذه الكلمة-: (إذا وضعت علامة صح أمام الترجمة دلالة على أن العمل على توثيقه)، لكن يوجد بعض الناس أصلاً وقع فيهم كلام شديد من العلماء: هذا متروك، هذا يسرق الحديث، هذا كذا، فهل يعتمد على كلمة (صح) هذه أن العمل على توثيقه، أم تحتاج إلى بحث؟
لا بد من نظر، لأن (صح) فيها اجتهاد الحافظ الذهبي رحمه الله، ثم إن هذه النسخ التي بين أيدينا يدخلها التحريف.
قولهم: فلان (غمزوه)، أو: فلان (مغموز)، هل فيها شيء من الاتّهام؟
الذي يظهر أنه سقط حديثه عن الحجيّة، يستشهد به. مثل ما تقدم لنا: إن شهرًا نزكوه، إن شهرًا نزكوه، إن شهرًا نزكوه، أي: تكلموا فيه.
قولهم في الرجل: فلان (محله محل الأعراب)، ما معناه؟
معناه أنه ليس من أهل الحديث.(1/51)
لكن في ترجمة بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قالوا: (إسناد أعرابي) فماذا يعنون؟
يعنون أن حديثهم ليس بالعمدة، على أنه قد اختلف في هذه السلسلة، فمنهم من يحسّنها. ومنهم من يراها أنزل من الحسن، على أن بهزًا قد توبع على أكثر أحاديثه كما في "المسند" وقد اخترت في "الصحيح المسند" و"الجامع الصحيح" طريقاً إلى هذه الصحيفة من غير طريق بهز.
قول يحيى بن سعيد في الحسن بن صالح بن صالح ابن حي الفقيه قال: (لم يكن بالسّكة)، كان يخرج على الولاة، وقوله أيضًا: (لم يكن بالسّكة مثله)، ما معنى كل منهما، وما الفرق بينهما؟
السّكة كلمة تطلق على الطريق وتطلق على العملة، فالظاهر أنه ما كان خالصًا، لأن به شيئًا من البدعة وهى: الخروج على الأمراء، وأيضًا ترك الجمعة. فمن وثّقه فلصدق لسانه، ومن جرحه فلبدعته. وقوله: (ليس في السكة مثله) أي: ليس يعتمد عليه، والصحيح أنه صدوق اللسان، صاحب بدعة فتقبل روايته التي لم تكن موافقةً لبدعته، وتجتنب بدعته وهو من رجال مسلم.
قولهم في الرجل: فلان (ليس بمحمود)، هل هو في مرتبة الشواهد والمتابعات أم في مرتبة الرد؟
الذي يظهر من هذه العبارة أنه يصلح في الشواهد والمتابعات. على أنه قول مبهم، فيحتمل أنه مبتدع ويحتمل أنه سيء الحفظ. والله أعلم.
قول أبي داود في حماد بن يحيى الأبحّ: (يخطئ كما يخطئ الناس)، هل هو بمنْزلة صدوق، ويكون خطؤه محتملاً لروايته الأخرى أو لغير ذلك، ويكون قول أبي داود رافعًا له، أم أنه بمنْزلة (صدوق يخطئ)؟
الذي يظهر أن حديثه ما ينْزل عن الحسن، إلا أن يكون الحديث من أخطائه مثل حديث: ((مثل أمّتى كمثل المطر لا يدرى أوّلها خير أم آخرها))، فهذا الحديث جاء من حديثه وهو من جملة أوهامه، لكن الحديث له طرق أخرى يرتقى بها إلى الحجية.(1/52)
في حديث ذكره الحافظ الذهبي في "الميزان" وهو في الصحيح: ((من عادى لي وليًّا)) الحديث، من طريق خالد بن مخلد القطواني، يقول الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في "النهاية": فهذا حديث غريب جدًا، لولا هيبة "الجامع الصحيح" لعدّوه في منكرات خالد بن مخلد وذلك لغرابة لفظه، ولأنه مما ينفرد به شريك وليس بالحافظ، ولم يرو هذا المتن إلا بهذا الإسناد، ولا خرّجه من عدا البخاري، ولا أظنه في "مسند أحمد"، وقد اختلف في عطاء فقيل: هو ابن أبي رباح، والصحيح أنه عطاء بن يسار، فماذا تقولون في هذا الحديث؟
الحديث الظاهر أنه صالح للحجيّة، ونقول فيه ما قاله الحافظ الذهبي، وقد ذكر له الحافظ شواهد، وكذلك الشيخ ناصر الدين الألباني.
قول الحاكم وابن أبي زرعة في خلف بن محمد الخيام قالا: (كتبْنا عنه ونبرأ من عهدته، وإنما كتبنا عنه للاعتبار). فهل في قولهم: (نبرأ من عهدته) شيء من الاتّهام؟ أم أنه في مراتب الاستشهاد كما قالوا: وإنما كتبنا عنه للاعتبار؟
الذي يظهر أنّهما كتبا عنه وليسا متأكدين من ثقته أو جرحه، ولم يعتمدا عليه، وقد أطلقا مثل هذه العبارة، فقد كان ابن خزيمة يقول في عبّاد بن يعقوب الرواجني: حدثني عبّاد بن يعقوب الصدوق في روايته، المتهم في دينه. ثم ترك الرواية عنه، وكذا القاسم السيّاري كان يروي عن محمد بن موسى بن حاتم القاشاني ويقول: (أنا أبرأ إلى الله من عهدته)، فالذي يظهر أن معنى كلامهم: نحن لا نعتمد عليه وكتبنا عنه للنظر في حديثه.
في ترجمة الربيع بن حبيب المصرى وثقه أحمد وابن معين وابن المديني. وقال الدارقطني: (لا يترك)، قال الذهبي: فقول الدارقطني ليس بتجريح له. أي ليس فيه تجريح له، ومعلوم أن الرجل –أصلاً- إذا قيل فيه: لا يترك ليس معنى ذلك أنه يكون حجة، فأنا أسأل هل هذه العبارة من الدارقطني تعني (ثقة)، أم أنّها بالمعنى المعروف؟
فيها شيء من التجريح وليس تجريحًا مطلقًا -أي عبارة الدارقطني-.(1/53)
قولهم في الرجل: (ذهب حديثه)، أجدها غالبًا تقال في المتروك أو المتهم، بمعنى: أنّ الراوي إذا كان كذلك تركه الناس، وتركهم له يؤدي إلى ذهاب حديثه، لكن وقفت على قول ابن المديني في روح بن أسلم الباهلي قال: (ذهب حديثه)، وفسره محمد بن عثمان بن أبي شيبة بأنه ضاع، فهل يحمل قول ابن أبي شيبة على ما سبق، وأن سبب ضياعه سكوت الناس عنه؟ أم أنّها ليست عبارة تجريح؟
المعنى: أنه ترك حديثه إلا أن يفسر بأنه ضاع.
قولهم في الرجل: (جائز الحديث) أيستشهد به؟
الظاهر أنه يصلح في الشواهد والمتابعات.
قولهم: (فلان يستدل به)، كنت أظن أن أقل أحواله (صدوق) حتى قال أحمد بن حنبل في صالح بن أبي الأخضر: (يستدل به، يعتبر به)، قال ذلك جوابًا عن سؤال: أيحتج به؟
نخشى أن يكون معناها عند قائلها غير معناها عند الإمام أحمد، وإذا أطلقت فالظاهر أنّها بمعنى يصلح للاستدلال بحديثه، أي يكون مقبولاً وهذا عند غير الإمام أحمد، أما هو فقد فسّر قصده أنه يصلح للاعتبار.
في ترجمة العباس بن الحسن الخضرمي قال أبوعروبة: (كان في رجله خيط)، فما معنى ذلك؟
بعض العبارات لا تعد جرحًا، وهذه العبارة لا أعلم معناها، فقد يكون المجيب متشددًا مثل شعبة عندما سئل عن شخص فقال: رأيته يركض على برذون. ومثل حماد بن سلمة إذ ذكر عنده راو، فامتخط فعدّه من رأوه جرحًا، ويجوز أنّ حمادًا امتخط لأن به مخاطًا. ويجوز أن يكون قول أبي عروبة هروبًا من الجواب -أي حاد عن الجواب-.
هل هناك فرق بين قولهم: (فلان لا يحتج به)، وقولهم: (فلان لا يجوز الاحتجاج به)؟ لأن الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى قال في ترجمة علي بن محمد بن عيسى الخياط: واتّهمه ابن يونس فقال: لا يجوز الاحتجاج به. فهل تحمل الثانية على التهمة؟(1/54)
الظاهر من التعبير فقط أن قولهم: لا يجوز الاحتجاج به أبلغ في تضعيفه، وأن قائلها متثبت، أكثر من قولهم: (لا يحتج به)، ولا نستطيع أن نحكم على هذه اللفظة أنّها تؤدي إلى معنى (متهم) لأننا لم نطلع على كلام ابن يونس وهو في "تاريخ مصر"، والله أعلم.
قولهم: (فلان آية من الآيات) أو (فلان آية)، أراهم يطلقونها غالبًا في الحافظ، فهل لها معنًى غير ذلك؟
لا أعلم إلا أنّها تدل على تثبته وعلى منْزلتة الرفيعة.
في ترجمة القاسم بن داود البغدادي قالوا عنه: (طير غريب) أو (لا وجود له)، انفرد عنه أبوبكر النقاش ذاك التالف، كذا قال في "الميزان"، فهل معنى (طير غريب) أنه مجهول؟
معناه أنه ليس بمعروف، ثم بعد ذلك إما أن يكون ليس بمعروف، أو أنه لا وجود له لأن أبا بكر النقاش هو متكلّم فيه واسمه محمد بن الحسن، وله تفسير اسمه "شفاء الصدور" يقول اللالكائي: ينبغي أن يسمى (شقاء الصدور) بالقاف بدلاً من الفاء -وليس "شفاء الصدور".
في ترجمة محمد بن السائب الكلبي المفسر النساب الأخباري: قال الثوري: اتقوا الكلبي. قالوا: إنك تحدث عنه. فقال: أنا أعرف صدقه من كذبه. والسؤال هنا: هل رواية الثوري عنه معتمدة؟ وإذا كانت معتمدة فكيف الجمع بين هذا وبين قولهم: ومن كذب في الرواية مرة فترد رواياته كلها حتى وإن تاب؟
الرواية، هم يروون عن الراوي لأحد أمور ثلاثة: إما للاحتجاج به، وإما لبيان حاله وهو تالف، وإما للنظر في حديثه، فرواية الثوري لا تدل على أن الكلبي ثقة أو أنه يجوز الاحتجاج به، والكلبي أيضًا كذاب لا يجوز الاحتجاج به.
يجرنا هذا إلى ما ذكروه في إسماعيل بن عبدالله بن عبدالله بن أويس من أنه يكذب -كما في ترجمته من "التهذيب"- ولم يدفع ذلك الحافظ، ولكن حمله على أن ذلك كان في شبيبته، قال: ولعله قد تاب، وهذا يخالف ما ذكرته من أن الذي يكذب في الحديث ترد رواياته كلها، وإن تاب، فكيف الجمع؟(1/55)
أما إسماعيل بن أبي أويس فالظاهر أنه لم يثبت كذبه، وهو ضعيف، والدليل على أنه لم يثبت كذبه أن البخاري -رحمه الله تعالى- انتقى من حديثه. وقد قيل للبخاري: لم رويت عنه؟ قال أخرج إليّ كتابه فانتقيت منه، وكان إسماعيل بن أبي أويس يفتخر ويقول: هذه الأحاديث انتقاها محمد بن إسماعيل البخاري. يقول الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في ترجمته في "الفتح": فعلى هذا لا يحتج بإسماعيل خارج "صحيح البخاري". ولو كان كذابًا ما جاز للبخاري أن ينتقي من أحاديثه، وأما الضعف فهو ضعيف، والدليل على هذا قول البخاري حيث قيل له: لم رويت عنه؟ فقال: إنني انتقيت من حديثه. وذكرت شيئًا: يقول يحيى بن معين: آل أبي أويس كلهم ضعفاء. فانتقد على يحيى بن معين، حيث إن عبدالحميد بن عبدالله بن أويس أبا بكر هو ثقة، وقد وثّقه يحيى بن معين نفسه، وإسماعيل ضعيف ووالده عبدالله ضعيف، لكنْ أخو إسماعيل عبدالحميد ليس بضعيف بل هو ثقة أو صدوق.
في ترجمة ابن عائذ الدمشقي قال أبوداود: (هو كما شاء الله)، ففي أي المراتب؟
هذا تليين فيه، ولكن الله أعلم في أي المراتب.
قولهم في الرجل: (فلان لا يتعمّد الكذب)، وقولهم: (فلان أظرف من أن يكذب)، أرى أن قولهم: (أظرف من أن يكذب) أرفع من قولهم: (لا يتعمّد الكذب)، فماذا ترى؟
الأمر كما قلت، (لا يتعمّد الكذب) معناه أن الكذب يجري على لسانه من غير تعمّد. وبسبب ضعفه في الحديث، وعدم إتقانه لعلم الحديث يجري على لسانه الكذب، أما ذلك الآخر الذي هو: (أظرف من أن يكذب) فليس فيه إثبات الكذب عليه.
قولهم: (حدّثونا عنه)، هذه عبارة كثيرًا ما يذكرونها، ومن خلال استقرائي لها وجدتّهم يقولونها في: (المتروك) أو (المتهم). يقولون: (حدثونا عنه)، والرجل كل الأقوال فيه سيئة؟
يستفاد تضعيفه من العبارات الأخرى التي ذكرتها، وأما قولهم: (حدثونا عنه) فهي لا تفيد تضعيفه، ولا توثيقه، بل هي إلى تليين أمره أقرب والله أعلم.(1/56)
قولهم في الرجل: فلان (كان من الناس)، ما معنى هذا القول؟
الظاهر أن هذه من تلك العبارات التي تقدمت، مثل: (رأيت برجله خيطًا) و(هو مسلم)، وسئل عن آخر فقال: (هو مسلم) أو (ممن يقول: لا إله إلا الله)، فالظاهر أن المسئول يحيد، لأنه قد يحتاج في بعض الأوقات إلى الحيدة، قد يسألون عن شخص يخافون من ضرره أو عن شخص يلتبس أمره، أو غير ذلك، فيقولون مثل هذه العبارات، كعبارة الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- في أبي حنيفة، يقول: (فقيه مشهور) وهذه عبارة ما ذكرها الحافظ ابن حجر في مقدمة "تقريبه"، فما هو إلا من باب الحيدة، لأن الحنفية كان أمرهم قويًّا، فلم يستطع الحافظ أن يتكلم بما يرى أنه الحقّ، وقبل هذا كان الحنفية في الغالب يأخذون القضاء. ويستطيعون أن ينفّذوا ما يريدون. فالحافظ يقول فيه: (فقيه مشهور)، والله المستعان.
ولنا بحمد الله كتاب مطبوع بعنوان "نشر الصحيفة في كلام أئمة الجرح والتعديل في أبي حنيفة".
قولهم: (فلان كان من العوام) أو (فلان من العوام) أهي مثل قولهم: (كان من الناس)؟
قولهم: (من العوام)، يدل على أنه ليس من أهل العلم، ولا من أهل الضبط.
قولهم: (فلان يأخذ من كل أحد)، وأيضًا: (فلان حاطب ليل)، هل بين هذين القولين فرق؟ وما معنى قول مطين في محمد بن أبي شيبة: (عصا موسى تلقف ما يأفكون)؟
الظاهر أنّها بمعنى واحد، وقول مطين في محمد تحمل على الجرح لأنه يتكلم على محمد بن أبي شيبة، ومحمد يتكلم في مطين، ولا يقبل كلامهما في بعضهما لأنه من كلام الأقران.
فائدة حول رواية الأقران:
جرح الأقران أثبت من غيرهم، لأنّهم أعرف بقرنائهم، فهي مقبولة إلا إذا علم أن بينهما تنافسًا وعداوةً سواء لأجل دنيا، أو مناصب، أو خطأ في فهم، ويريد أن يلزم الآخر بخطأ فهمه.
فينبغي أن تعلم هذا ولا تصغ لقول المبتدعة والحزبيين والديمقراطيين: أن كلام الأقران ليس مقبولاً على الإطلاق.(1/57)
أنا لا أعني قول مطين فيه، هل ثابت فيه أم لا، ولكني أريد أن أعرف معنى الكلمة، التي هي: (عصا موسى، تلقف ما يأفكون)؟
معنى الكلمة تؤدي إلى تضعيفه وأنه لا يحتج به وفيها إشارة أيضًا إلى الاتّهام وهي شبيهة بقولهم: (حاطب ليل).
الأخذ عن كل أحد متى يكون في الرجل عيبًا؟ ومعلوم أن الثوري من الذين يأخذون عن كل أحد؟
إذا كان لا يميّز يكون عيبًا، والثوري ليس متفقًا عليه أنه كان يأخذ عن كل أحد، بل بعضهم يقول: إنه حتى التدليس لا يكثر منه، وإنه متثبت، فهو يعرف ما يكتب. وعليه فإذا كان الشخص يأخذ عن كل أحد ويعرف ما يكتب فلا يضر هذا، لأنه كما تقدم أن قلنا: إنّهم يكتبون عن الشخص لثلاثة أمور: للاحتجاج بحديثه، ولبيان حاله، وللاستشهاد به.
مسألة زيادة الثقة، أو ما أرسله أحدهم ووصله آخر، فيها بعض الأمور نحتاج إلى تفصيلها، إذا تعارضت الكثرة مع الحفظ فأيهما يرجّح؟ ومنها إذا كان الذي أرسله ثقة، والذي وصله اثنان كل منهما صدوق، هل تقدم الزيادة هنا أم ماذا؟ ومنها: أن الذي أرسل إمام مشهور، لكن الذي وصل إن كان دون الأول في التثبت إلا أن معه قرائن أخرى كملازمته للشيخ أو أنه من أهله، أو أنه صحيح الكتاب وغيرها من المرجحات الأخرى؟(1/58)
زيادة الثقة من الأمور التي اختلف فيها العلماء ولحذاق الحديث فيها مجال واختلاف، من حيث إن منهم من يقبل زيادة الثقة ويقول: إنه علم ما لم يعلم غيره وحفظ ما لم يحفظ غيره، ومنهم من يردّها، ومنهم من يتوسط فيقبلها إذا لم يخالف من هو أرجح منه، أما إذا خالف من هو أرجح منه فيعد شاذًا، ومن هو أرجح منه سواءً أكان في العدد، أم كان في الضبط، أم غير ذلك، فنأتي بمثال من الأحاديث: حديث: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان جالسًا في المسْجد فجاء ذلكم الرجل الذي أساء صلاته فقال: السّلام عليك يا رسول الله. قال: ((وعليك السّلام ارجع فصلّ فإنّك لم تصلّ)) هذا الحديث يرويه يحيى بن سعيد القطان، عن عبيدالله، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة، فجاء آخرون جمع كثير جدًا وخالفوا يحيى فرووه عن عبيدالله عن سعيد عن أبي هريرة فلم يذكروا أباه، خالف يحيى جمع كثير، وأراد الدارقطني أن ينتقده ثم هاب أن يوهّم يحيى بن سعيد القطان فقال: لعل الحديث روي على الوجهين.
فهذه المسألة مسألة اجتهادية، تنظر إلى صفات الرواة وإلى ضبطهم وإلى كثرتهم، فلو تعارض صدوق وصدوق، وثقة وثقة، فإذا لم يحصل لك ترجيح حملت الحديث على الوجهين أنه روي هكذا وهكذا، مثلاً: جاء مرسلاً ومتصلاً تحمله على أن الراوي رواه مرسلاً ومتصلاً، والمرسل صحيح، والمتصل صحيح، أو رواه مرفوعًا وموقوفًا، تحمله على هذا وهذا، إذا لم يظهر الترجيح، وإذا تعارض ثقة وصدوق مع ثقة مثلاً: الثقة أرسل، والثقة والصدوق وصلا الحديث، فيرجّح الثقة والصدوق.
بقي علينا لو اختلف ثقة حافظ وثقة وصدوق، يعني: هذا في جانب، وهذان في جانب، أيهما يرجّح؟ الظاهر أنه يحمل على الوجهين.
والمسألة اجتهادية ليس فيها حكم مطّرد، هكذا يقول الحافظ في مقدمة "الفتح" فإن لحذّاق الحديث نظرات إلى زيادة الثقة، فرب زيادة يقبلونها، ورب زيادة يتوقفون فيها أو يردونها.(1/59)
الحافظ في بعض التراجم التي يسوقها في "التهذيب" لا يذكر فيها أي قول من التجريح أو التعديل ويترجم لها في "التقريب": صدوق، فهل وقف على أقوال أخرى ولا سيّما أنه يذكر هذا فيمن يشير إليه بتمييز، هل شرطه في التمييز أن يختصر ترجمته في "التهذيب" ووقف على أقوال أخرى في الرجل فذكرها في "التقريب"؟
يحمل هذا على أنه اعتمد على توثيق ابن حبان أو رواية، مثلاً الراوي عنه: حريز بن عثمان، أو الراوي عنه مالك ممن قيل إنه لا يروي إلا عن ثقة، فينظر في الرجال الذين رووا عنه، فلعله اعتمد على شيء من هذا.
إذا أرسل إمام حافظ مثل: اختلاف شعبة والثوري وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق عن أبي إسحاق في حديث: ((لا نكاح إلاّ بوليّ))، رجّحوا رواية إسرائيل قالوا في ذلك: إن شعبة تحمّل الحديث هو والثوري في مجلس واحد، والقصة تعرفونها، لكني أسأل لو أن شعبة خالف إسرائيل في حديث ما في أبي إسحاق، شعبة معلوم، وإسرائيل له مزية في أبي إسحاق؟
إذا لم يظهر الترجيح حمل الحديث على الوجهين، شعبة حافظ متقن ويتثبت، وأبوإسحاق مدلس، وذاك -إسرائيل- أعلم بحديث جده، فإذا لم يظهر الترجيح حمل الحديث على الوجهين.
الذي أردت أن أقوله: إنّهم لم يرجحوا رواية إسرائيل على سفيان وشعبة، لكون إسرائيل أرجح منهما، رجحوه لترجيحات عدة منها: أن رواية شعبة وسفيان كانت في مجلس واحد، وكانت من باب العرض، هما عرضا على أبي إسحاق: أحدثك أبوبردة كذا وكذا؟ قال: نعم، ومنها أن إسرائيل توبع، تابعه خلق كما ذكره الحاكم -رحمه الله تعالى- في "المستدرك" وكما ذكره الحافظ أيضًا في "النكت على ابن الصلاح".
معلوم أن من قيل فيه: (ضعيف) أن هذا من جهة حفظه، أما دينه فهو صدوق فيه. فكيف إذا قالوا: (فلان صدوق ضعيف الحفظ) هل يكون في منْزلة (ضعيف) أم في منْزلة: (صدوق سيء الحفظ)؟
يكون في منْزلة وسطى بين (الصدوق) وبين (الضعيف)، ويصلح في الشواهد والمتابعات.(1/60)
لو أن رجلاً قيل فيه: ضابط أو حافظ، ذكر السخاوي -رحمه الله تعالى- أن ذلك ليس فيه تعرّض للعدالة، وأننا نحتاح إلى بيان العدالة، هل معنى ذلك أني لا أحتج بحديث رجل هذا وصفه حتى أبحث عن عدالته أو متابع له، على أن عبدالوهاب بن عبداللطيف صاحب الحاشية التي على "التقريب" لما ذكر الحافظ ابن حجر في ترجمة إبراهيم بن محمد بن الحارث أنه ثقة حافظ، قال المعلق: يطلق الحافظ عند المتأخرين في باب التعديل على الصدوق غالبًا، قال هذا في "التقريب" (ج1 ص41)؟
الذي أعرفه أن المعلق ليس من المتمكنين في علم الحديث، فنحن نستريح من قوله، لكنه قد وجد حفاظ وهم متهمون مثل محمد بن حميد الرازي فهو حافظ وقد كذّب، وسليمان بن داود الشاذكوني حافظ وقد كذّب، وأبوالفتح الأزدي محمد بن الحسين حافظ كبير وقد اتّهم -وهو صاحب الكلام في الجرح والتعديل- فلفظة: حافظ لا تؤدي بأنه عدل، وهو الصحيح، فيحتاج في من قيل فيه: حافظ إلى إثبات عدالته، العدالة لا تكفي كما تقدم، والحفظ وحده لا يكفي.
قولهم في الرجل: (فلان ليس كأقوى ما يكون)، ففي أي منْزلة؟
الظاهر أنه يكون بمنْزلة (ثقة) أو (صدوق) المهم أنه يقبل حديثه.
الشيخ الألباني حفظه الله تعالى في قولهم في الرجل: فلان (ليس بثقة)، وفلان (ليس بالثقة)، وفلان (ليس بقويّ)، وفلان (ليس بالقوى)، يفرّق بين هذه العبارات؟
نعم هناك فرق بين هذه العبارات، فهي تتفاوت، (ليس بالثقة) أي: الثقة العالي الرفيع، و(ليس بالقوي) كذلك، و(ليس بالثقة) و(ليس بالقوي) أعلى و(ليس بثقة) و(ليس بقويّ) أدنى، والذي يظهر من قولهم: (ليس بالثقة) أنه يكون مردودًا، لكن ليس بمنْزلة (ليس بثقة)، و(ليس بالقوي) و(ليس بقويّ) الظاهر أن كليهما يصلح في الشواهد والمتابعات، لكن (ليس بالقوي) أرفع، فالضعف يتفاوت كما أن التعديل يتفاوت.
قولهم في الرجل: فلان (ثقيل البدن)، يقصدون بذلك العبادة أم ماذا؟
الله أعلم.(1/61)
لو قال البخاري في رجل: (حديثه ليس بالمعروف)، هل يكون بمنْزلة قوله: (منكر الحديث) لأنه قال في ترجمة أيوب بن واقد الكوفي: (حديثه ليس بالمعروف، منكر الحديث)؟
هذا مفسّر له، وإلا فالذي يظهر أن: (ليس بالمعروف) أرفع قليلاً من منكر. والله أعلم.(1)
قولهم: فلان (على شرط الصحيح)، يكون من باب ثقة ثبت أم من باب ثقة؟ لأنه كما هو معلوم في شروط الصحيح مع توثيق رجاله، سلامته من الشذوذ والعلة، والسلامة من الشذوذ والعلة تحتاج إلى مزيد ضبط، فماذا ترون؟
الظاهر أنّهم يعنون: أنه ثقة يصح حديثه. والله أعلم.
قولهم في الرجل: فلان (ثقة وليس من الأثبات)، أيكون بمنْزلة صدوق أم دونها؟
التوثيق نفسه يتفاوت، فالذي يظهر أنه يصح حديثه لأنه ممكن أن يقال فيه: ثقة ثبت، أو ثقة حافظ، أو أوثق الناس. فيكون هذا في رتبة ثقة وأرفع من صدوق.
قولهم في الرجل: (أحاديثه مستقيمة) أو (مستوية)، وأحيانًا يقولون: فلان (حديثه متماسك)، وفلان (حديثه قائم) فهل بين هذه العبارات من فرق؟
الذي يظهر أن مستقيمة تقبل وكذلك مستوية، أما متماسك فهو إلى الضعف أقرب، وكذلك قائم. والله أعلم.
إذا ذكروا إسنادًا وقالوا: وسوّاه فلان، ماذا يعنون؟
يقولون: وسوّاه فلان، وجوّده فلان، بمعنى: أن ظاهره قبل أن يرويه به علة، إما من أجل الانقطاع، أو غيره، ثم إنه أزال تلك العلة وهو أيضًا يحتاج إلى نظر، فإذا قالوا: سوّاه فلان وجوّده فلان فهو إلى الريبة أقرب، فينبغي أن تنظر فيه.
إذا أردت أن أبحث عن حديث لأعرف صحته من ضعفه، فنجد الشيخ الألباني في بعض التحقيقات يقول: وقد وقعت على إسناد في المخطوط الفلاني في المكتب الفلاني، فإذا أردت أن أصحح حديثًا أو أبحث عنه وليس في يدي شيء من المخطوطات فكيف أبحث؟
__________
(1) ? ... هذا السؤال والجواب عليه كما في السؤال 48 ص(61).(1/62)
تقدم أن قلنا: إذا استطعت أن تقف على المراجع وتقف على الحقيقة بنفسك، فما راء كمن سمع، وليس الخبر كالمعاينة. وإذا لم تستطع نقلت من كتاب الشيخ -حفظه الله تعالى- وعزوته إليه.
سؤال أخينا في غير النقطة التي تكلمنا فيها سابقًا، أخونا يقصد مثلاً: لو أني أحقق الآن كتابًا والمراجع عندي محدودة، الألباني حفظه الله تعالى عنده من المخطوطات وعنده من القدرة، يعني يده طويلة تستطيع أن تلقى كتبًا كثيرة، مثلا أخونا يحقق في "مسند الشافعي" في مكتبتنا هذه على هيئتها التي تراها، هل له أن يفعل ذلك أم نقول له: هناك طرق أنت لا تطلع عليها فيجب عليك أن تقف؟
أنت تحكم على السند بموجب ما عندك، وإذا رأيت كلامًا للشيخ ناصر الدين الألباني، ونقل من مراجع ليست بمتناولك لك أن تنقل من كتابه وتعزو الكلام إليه.
فإذا صبر طالب العلم وإن كانت مكتبته صغيرة وتجلد ونظر إن كان الحديث يتعلق بالأحكام، رجع إلى كتب الأحكام، وإن كان يتعلق بالعقيدة، رجع إلى كتب العقيدة، وإذا كان يتعلق بالترغيب والترهيب، رجع إلى كتب الترغيب والترهيب الموجودة في مكتبته، فربما يجد هذه الطرق في مكتبته، وإذا كانت المكتبة صغيرة فهي تحتاج إلى جهد أكثر، ومراجعة لمظان الحديث، لكن إذا كانت المكتبة كبيرة، فرب حديث قد استوعب العلماء المتقدمون طرقه، فيسهل بل ربما أفردوه بالتأليف.
هل يمكن للشخص خاصة إذا قرأ في المصطلح "الباعث" و"التدريب" مثلاً، هل له أن يدرب نفسه على تحقيق كتاب، وإذا انتهى من تحقيقه يرسله مثلاً إليكم؟(1/63)
هذا يفعله إخواننا، ويمكن أن تدربوا أنفسكم على هذا فيستشار في أي شيء يكتب، فالكاتب لا بد أن يعرف في أي شيء يكتب. هم يقولون: المؤلف لا بد أن ينظر المسألة التي سيؤلف فيها، فربما تكتب كتابًا وتجد بعد أيام عالمًا من العلماء الكبار قد سبقك وجمع أضعاف ما جمعت، إذًا أتعبت نفسك، ولا يلتفت إلى كتابك إلا أنك تستفيد من التمرين، فلا بد من أن يستشير الشخص إخوانه في أي شيء يكتب، ثم إذا كان قد كتب، وقد أتعب نفسه، يستمر حتى ولو قالوا له: فلان قد كتب في هذا الموضوع ينبغي أن يكون لديه إقدام.
في ترجمة ثور بن يزيد بن زياد الكلاعي، قالوا في ترجمته: (ثقة، ثبت، رمي بالقدر)، قال ابن القطان: كان ثور إذا حدثني عن رجل قلت له: أنت أكبر أم هو؟ فإذا قال: هو أكبر كتبت عنه، وإذا قال: أنا أكبر لم أكتب عنه، لم يظهر لي وجه كلام ابن القطان؟
الأمر فيه سهل، معناه: أنه إذا روى عن أصغر منه كأنه يستنكف أن يروي عن أصغر منه، فربما يكون بينه وبينه واسطة، فحذف الواسطة، لكن إذا روى عن أكبر منه فهو لا يروي عن أكبر منه إلا إذا قد سمعه منه، وهناك احتمال آخر بالنسبة للأصغر إضافة إلى احتمال أن يكون بينهما واسطة وهو: أنه ما أتقن حديثه.
قولهم في الرجل: فلان (لو لم يحدث لكان خيرًا له) هل هذا فيه تهمة؟
مثل قول بعضهم في: أسد بن موسى: لو لم يؤلف لكان خيرًا له، وكذلك أيضًا قولهم: لو لم يحدث لكان خيرًا له، يدل على أنه حصل منه تخليط.
كلمة قالها ابن المديني في خليفة بن خياط الملقب بشباب، قال: (في دار شباب ابن خياط شجر يحمل الحديث)، هل معنى ذلك أنه مغفل لا يدري ما الحديث؟ أم ماذا يعني ابن المديني بذلك؟
الله أعلم.
قول البخاري في درست بن زياد العنبري: (حديثه ليس بالقديم)، هل معنى ذلك أنه ألحق في حديثه ما لم يسمعه أم أنّها تصحيف من قولهم: فلان (ليس حديثه بالقائم)؟ وهل معنى قولهم: (حديثه ليس بالقائم) أنه مضطرب غير متماسك؟(1/64)
يحتمل أحد أمرين: إما أن يكون معناه: ليس بالقديم، أي: أنه حدث بما لم يسمع، أو أنه يروي عمن هو أنزل منه، أو أن يلحق في كتبه ما لم يسمع. وقولهم: فلان (حديثه ليس بالقائم) الظاهر، أنّها مثل قولهم: فلان حديثه غير متماسك، والله أعلم.
قول غير الحافظ ابن حجر مثل ما قاله الطحاوي ومثل ما قاله البيهقي في بعض الرواة: فلان (مقبول) هل يكون بمعنى صدوق؟
الظاهر أن معناه أنه يحتج به، وهو أعم من الثقة والصدوق.
قولهم في الرجل: (كأن أحاديثه فوائد)، هل ذلك لعزّتها وقلتها، أم لجودتها وقوتها؟
الظاهر أنه لجودتها وقوتها، والله أعلم.
ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى: أن العنعنة التي لم تأت لها طرق أخرى مصرحة بالسماع، تكون في الشواهد لا الاحتجاج، فما مدى الصواب في ذلك؟
العنعنة في "الصحيحين" محمولة على السماع، لماذا؟ لأن صاحبي "الصحيح" حافظان كبيران يعرفان ما سمعه المحدث من شيخه وما دلس فيه ولم يسمعه، وهذا هو قول جمهور أهل العلم، وقال ابن دقيق العيد بعد أن ذكر قولهم هذا -كما في "فتح المغيث"-: وفي النفس منه شيء. وقال الحافظ الذهبي -رحمه الله تعالى- في ترجمة أبي الزبير محمد بن مسلم بن تدرس بعد أن ذكر جملةً من الأحاديث وقد عنعن فيها وهي في "صحيح مسلم" قال: وله غير ذلك، وفي النفس منها شيء.
فمن تردد فيما عنعن فيه المدلس -وأعني بالمدلس الذي هو من الطبقة الثالثة، والطبقة الرابعة، وهكذا الطبقة الخامسة، وإن كانت الخامسة اجتمع مع التدليس ضعف، أما الطبقة الأولى والثانية فإن العلماء تسامحوا في عنعنتهما، والذي ينبغي أن يصار إليه أنّها محمولة على السماع، إلا إذا ظهر أو أقام برهانًا حافظ من الحفاظ أنه لم يسمع ذلك الحديث، فيصار إليه. والله أعلم. وكذلك فعنعنة غير المدلس عمن قد سمع منه محمولة على السماع.
"طبقات المدلسين" للحافظ ابن حجر، هل يعمل بها؟(1/65)
طبقات المدلسين للحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- اجتهاد منه، وفي الغالب أن اجتهادات الحافظ ابن حجر، واجتهادات غيره من الحفاظ أسدّ من اجتهاداتنا، فلست ملزما بها، لكن إذا عجز الشخص ولم يستطع أن يميز بين أقوال أهل العلم، فلا بأس أن يأخذ بها، وقد نوع الحافظ ابن حجر في بعضهم، فالزهري عدّه من الطبقة الثالثة، وهي من الطبقات التي تضر عنعنتها، ونازعه الصنعاني في "توضيح الأفكار" وقال: ينبغي أن يعدّ من الطبقة الثانية. فهذا اجتهاد من الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-، وإذا رأيت خلاف هذا عن اجتهاد وفهم فلا بأس بذلك.
بقية المسألة التي سألت من أجلها: أن ابن حجر يقول هذا في الشواهد، ويقول: إذا بحثت عن عنعنة ولم تجد لها تصريحًا من طريق أخرى فهذا في الشواهد، لا يوجد في الاحتجاج، أو في الأصول، هل هذا الكلام صحيح؟
الظاهر أنه ليس مطردًا، والحافظ ابن حجر في كتابه "فتح الباري" يحرص كل الحرص إذا مر الحديث من طريق مدلس أن يلتمس فيه طريقًا أخرى قد صرح فيها بالتحديث، ومما أذكره الآن سبب نزول قوله تعالى: {قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينك قبلةً ترضاها(1)} فإنه من طريق أبي إسحاق عن البراء، وأبوإسحاق مدلس، قال الحافظ -رحمه الله تعالى-: وقد صرح أبوإسحاق بالتحديث في التفسير فأمنا من تدليسه، فهو يحرص على بيان سماع المدلس وربما لا يجد، فهذا ليس مطردًا والله أعلم.
وقد تقدم أن عنعنة غير المدلس عمن قد سمع منه محمولة على السماع.
__________
(1) ? ... البقرة، الآية:166.(1/66)
قولهم في تعارض الجرح والتعديل: لا بد أن يكون الجرح مفسّرًا كما قال الحافظ ابن حجر، أريد أن أقف على بعض الألفاظ التي تكون مفسرة، مثلا قولهم: (ليس بقويّ) و(لا يحتج به)، و(صدوق يهم)، و(منكر الحديث)، و(مضطرب)، أهذا جرح مفسر أم يحتاج مثلاً (صدوق يهم) أن يقال: وهم في حديث فلان أو في شيخ فلان، واختلف على فلان واختلف عليه فلان، لا بد من التصريح بهذا أم يكفي مثلاً: صدوق يهم، ويكون هذا الكلام جرحًا مفسرًا؟
(صدوق يهم) جرح مفسر، و(ليس بالقوي) جرح غير مفسر، و(ضعيف) جرح ليس مفسرًا، و(سيء الحفظ) جرح مفسر، و(منكر الحديث) جرح مفسر، و(مضطرب الحديث) كذلك جرح مفسر.
قولهم: فلان (عالي الإسناد) تحتمل عندي أن الرجل إذا كان مشهورًا بالعدالة فهو مدح دال على الرحلة والطلب، وإن كان في غير ذلك فهو دال على التدليس أو الكذب أو السرقة، فماذا ترى؟(1/67)
الذي يظهر أنّها بمعنى: أنه عمّر، وأنه أدرك من المتقدمين ما لم يدركه غيره، وبمعنى أنه بكر بالطلب وسمع من مشايخ لم يسمع منهم غيره من معاصريه، ومن أمثلة ذلك أن الدارمي وهو: عبدالله بن عبدالرحمن أبو محمد هو معاصر للبخاري، فسمع من يزيد بن هارون يقول الحافظ: ولو بكّر البخاري في الطلب لسمع من يزيد بن هارون، وإن بعض معاصري الإمام البخاري من مشايخ الإمام البخاري كالإمام أحمد سمع من عبدالرزاق، يقول الإمام الحافظ ابن حجر: ولو بكر الإمام البخاري في الرحلة لسمع من عبدالرزاق، بل يذكر الخطيب البغدادي أن محدثًا سمع منه البخاري عن عبدالرزاق، فأراد البخاري أن يرحل إلى عبدالرزاق فتحايل ذلكم الرجل على البخاري وقال: إن عبدالرزاق قد مات ولم يمت عبدالرزاق، من أجل أن يسمع البخاري منه فإنه يعدّ شرفًا له إذا سمع منه البخاري عن عبدالرزاق وهو أيضًا يعدّ كذّابًا، فمن بكر في الطلب سمع من شيوخ لم يسمع منهم بعض معاصريه. فالذي يظهر أنّهم يتنافسون في العلو ويجعلونه منقبة، بل الإمام أحمد يقول: طلب العلو سنة، ويحيى بن معين عند أن حضرته الوفاة كما في "مختصر مقدمة ابن الصلاح لابن كثير" قيل له: أي شيء أحب إليك؟ قال: بيت خال وسند عال، فهم يتنافسون في العلو.
حول زيادة الثقة جعلوا محل النّزاع من دون الصحابة، لما تكلموا في زيادة الثقة ومتى تكون شاذة ومتى لا تكون؟ قالوا: هذا في التابعي ومن دونه، أما في الصحابي فحتى لو اختلفوا، وقال السخاوي: زياداتهم مقبولة بالاتفاق، وكذا قال الصنعاني -رحمه الله تعالى- ولست أدري ما وجه الفرق، على أن ابن الوزير رحمه الله تعالى لما أراد أن يستدل على شذوذ رواية من خالف الجماعة استدل بحديث ذي اليدين وهو صحابي، وإن كانوا رضي الله عنهم كلّهم عدولاً إلا أنّهم ليسوا سواء إن لم يكن في العدالة ففي الملازمة وطول الصحبة والفقه، وغير ذلك من المرجّحات، فماذا تقولون؟(1/68)
أما هذا فله مسوغ، قبول زيادة الصحابي لها مسوغ، الدليل على هذا ما جاء من حديث جابر بن سمرة أن النبيصلى الله عليه وعلى آله وسلم? أخبر أنه سيكون اثنا عشرة خليفةً، قال: فقال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كلمة خفيفة لم أسمعها فاستفهمت من أبي، يعني فقد يكون الشخص في المجلس وهذا يسمع الكلام، وذاك لا يسمعه، وهذا أمر معروف حتى في مجالس طلبة العلم وغيرهم، وربما ينقطع به المجلس، فقد جاء في "الصحيح" عن عمران بن حصين -رضي الله عنه- أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كان الله على العرش ولم يكن قبله شيء)) أو بهذا المعنى، قال: فقيل لي: يا عمران أدرك ناقتك، قال: فنظرت فإذا هي يقطع دونها السراب، قال ووددت أني تركتها، فكان النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديثه وعمران بن حصين قام لحاجته، وما ود أنه تركها إلا من أجل أن لا يفوته بقية حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
حديث ثالث: أن عقبة بن عامر -رضي الله عنه- سمع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من قال: لا إله إلا الله فله من الأجر كذا وكذا)) فقال: فقلت: بخ بخ -أو بهذا المعنى، والحديث في مسلم - فقال عمر: الذى فاتك أعجب، قال ما هو؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، فتحت له أبواب الجنّة الثّمانية يدخل من أيّها شاء)).
والأدلة على هذا متكاثرة أن الشخص ربما يسمع الكلمة، وربما يقوم من المجلس، وربما يروي شيئاً مستقلاً، والله المستعان.(1/69)
هذه الأدلة التي استدل بها الخطيب على قبول زيادة الثقة من التابعي ومن غير التابعي كما في "الكفاية" لكن أنا أسأل: لم خصص الصحابي بأن زيادته مقبولة حتى وإن خالف الجماعة، ومعروف حديث ذي اليدين لما قال: يا رسول الله أقصرت الصّلاة أم نسيت؟ فقال: ((لم تقصر، ولم أنس)) قال: فإنّما صلّيت ركعتين فقال: ((أكما يقول ذو اليدين))؟ فقالوا: نعم. فمن هذا استدل ابن الوزير على أنه حتى الصحابي، هو ما صرح بهذا لكنه نفس دليلي في الصحابي؟
ينضم إلى ما ذكر عدالة الصحابة، وأيضًا ممكن أن الصحابي يسمع ما لم يسمع غيره. أما فيما بعد فقد كانوا حريصين، ذاك يكتب وذاك كذا، وإذا لم يفهم الكلمة استفهم غيره، والله المستعان، والذي يظهر لأجل التحري بهذا، ولأجل هذه الأدلة والله المستعان.
في تفصيل زيادة الثقة ذكر ابن حجر -رحمه الله تعالى- وابن الصلاح وغيرهما أن زيادة الثقة على ثلاث مراتب، وقال: ننظر إذا وقعت ما هي فيه أو أنّها مخالفة لما هي فيه أو أنّها لم تخالف لكن خالفت غير الذي سيقت فيه، ساق على هذا تفصيلاً ذكره الأرناؤوط في تحقيقه "لجامع الأصول"، يقول: إذا كان يمكن الجمع بين الزيادة وبين الأصل عن طريق الجمع المعروف بالأصول: المطلق والمقيد والعموم والخصوص، فلا مانع، وبهذا يمكن أن يجمع بين كثير من الزيادات، ولا يدّعى الشذوذ؟
هم يشترطون في رد الزيادة أن تكون منافية، لكن الذي يظهر أن الزيادة نفسها -كون أنّها زيادة- تنافي، من الأمثلة على هذا الحديث الذي رواه مسلم من حديث أبي موسى وفيه زيادة في بيان كيفية الصلاة: ((إذا قرأ فأنصتوا)) فالإمام الدارقطني ينتقد هذه الزيادة ويقول: إنه تفرد بها سليمان التيمي، ويوافقه النووي رحمه الله تعالى على هذا ويقول: إن الحفاظ -إشارة إلى جمع، إضافة إلى الدارقطني- ضعفوا هذه الزيادة. فالذي يظهر أن الزيادة بمجردها تعتبر منافاة.(1/70)
قول ابن معين -رحمه الله تعالى- في سهيل بن عبدالعزيز قال: (لا يجوز في الضحايا)، والذي يظهر لي أن ذلك العيب فيه كما أن الأضحية إذا كانت معيبةً لا يضحّى بها، لكن العيوب متفاوتة، فهل يكون قوله هنا بمعنى (ضعيف) أم بمعنى (ليس بشيء)؟ مع العلم أن هذه الأقوال الثلاثة قالها ابن معين نفسه في هذا الرجل؟
يحمل (ليس بشيء) على (ضعيف)، و(ضعيف) عند ابن معين معناه: ليس بثقة، وقوله: (لا يجوز في الضحايا) تحمل على أنه ليس بثقة.
بالنسبة لموافقة النووي والبيهقي أيضًا للدارقطني في نقد زيادة أبي موسى، البعض يقول: النووي شافعي المذهب فما وافق الدارقطني إلا لأنّها لا تخالف مذهبه، فهل وجدته أنه كثيرًا ما يغلب عليه التمذهب أو يقول باصطلاح المذهب؟
البيهقي والنووي محدثان شافعيان، فإذا رجحا شيئًا يوافق المذهب الشافعي نظرت، هما محدثان لا يتعصبان للمذهب، لكن ربما أن الألفة والعادة والذي استمر عليه الشخص ينْزلق بسببه، فإذا وجدته يدافع عن مذهب شافعي فتثبت منه، ومثال لميلان النووي إلى المذهب: بوّب النووي في "صحيح مسلم": باب وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت الصدر، ثم قال: هذا مذهبنا المشهور، وبه قال الجمهور.
قوله: (تحت الصدر) مخالف لظاهر الحديث، فإن الحديث هو (على الصدر) كما رواه ابن خزيمة. وليس بالمفهوم ولا بالمنطوق في "صحيح مسلم" الذي بوب عليه؛ أنّها تكون تحت الصدر، بل في "صحيح مسلم" عن وائل: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يصلّي واضعًا يده اليمنى على يده اليسرى) ولم يحدد محلها، فحددها الإمام النووي.
قال ابن جريج إذا قلت: (قال عطاء)، فهو محمول على السماع كما في ترجمته، واختلف في قوله: (عن عطاء) وما جرى مجراها، قال: الظاهر عندي أن (عن) تأخذ حكم (قال) بأنّها تحمل على الاتصال. ابن جريج إذا قال: عن عطاء تحمل على الاتصال كما لو قال: (قال عطاء)، هل هذا عليه العمل؟(1/71)
الظاهر هو هذا، أنه إذا حدث عن عطاء بأي صيغة تكون محمولة على السماع. والله أعلم.
الألباني في "السلسلة الصحيحة" في حديث: ((إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق?)) ذكر له طرقًا وحسن الإسناد، وله طريق حسن الإسناد، وله شاهد مرسل حسن، قال: فالحديث صحيح. فهل القول بصحة ما هذا سبيله صواب؟
يحتمل أن يكون صحيحًا لغيره، وأن يكون جيدًا، و(جيد) هي رتبة بين الصحة وبين الحسن.
وأيضًا في حديث آخر قال رجل: (حدثنا أصحاب لنا)، فهل هذا الجمع يجبر الجهالة إلى درجة الحكم بالصحة أم بالحسن؟
الذي يظهر أنه لا بد أن يبين، فإذا قال: (أصحاب لنا) فإنه يحتمل أن يكونوا ثقات، وأن يكونوا غير ثقات. والله أعلم.
وإن كانوا غير ثقات بمعنى أنّهم ضعفاء في حفظهم أليس ينجبر بالجمع؟
إذا كانوا هكذا، ينجبر، لكن يحتمل أن يكون فيهم ضعفاء، وأن يكون فيهم كذابون، وأن يكونوا مجاهيل. فيتوقف فيه. وأنا لا أعلم حديثًا في "الصحيحين" فيه: (حدثنا أصحاب لنا) سواء كان في وسط السند أم في أوله، فينظر هذا، اللهم إلا أن يكون معلقاً على أنه قد جاء في البخاري أشعث بن غرقدة قال سمعت الحي يتحدثون عن عروة البارقي أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أعطاه دينارًا ليشتري له شاةً. الحديث
ذكر الألباني حفظه الله في الحديث رقم (207) أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يغيّر الاسم القبيح إلى الحسن، وذكر أنه من طريق عمر بن علي المقدمي، وعمر هذا هو في نفسه ثقة، لكنه كان يدلس تدليسًا سيئًا جدًا -ورجعت إلى "?التهذيب" فوجدت أن تدليسه تدليس السكوت- قال الشيخ الألباني: لا يعتد بحديثه حتى ولو صرح بالتحديث. ثم ساق للحديث طرقًا أخرى، فهل من يدلس تدليس القطع، أو تدليس السكوت، لا يقبل حديثه وإن صرح بالتحديث؟(1/72)
يتوقف في حديثه إلا أن يقبله الحفاظ(1)، أو صحح حديثه حافظ من الحفاظ، وإلا فيتوقف فيه، هذا مع تصريحه بالتحديث.
ذكر الشيخ الألباني حفظه الله تعالى أن مستوري التابعين الذين روى عنهم جماعة من الثقات يحتج بحديثهم ما لم يظهر خطؤهم، قال هذا في الحديث رقم (253) في "السلسلة"، وسبقه ابن الصلاح فقال: إن الذين تقادم العهد بهم و لم يذكرهم أحد بجرح أو تعديل يجب أن يكون العمل على الاحتجاج بحديثهم. فما صحة ذلك مع مراعاة الشروط التي وضعها العلماء لما يحتج به من الأحاديث؟
الظاهر أن هذا اختيار ابن كثير والذهبي، وقد استدلوا بحديث: ((خير النّاس قرني ثمّ الّذين يلونهم ثمّ الّذين يلونهم?)) والحديث لا شاهد فيه، لأنه لو قيل به فالتابعون وتابعو التابعين يشملهم هذا فمن بعدهم، إلى عصر الإمام البخاري رحمه الله تعالى، فهذا كلام لا تطمئن إليه النفس، والله أعلم.
الرجل إذا لم يكن فيه إلا قولهم: (كان أعقل أهل زمانه) كما قال أبوداود في خالد بن عبدالله بن حسين: (كان أعقل أهل زمانه) ففي أي المراتب؟
هذه اللفظة بمفردها لا تدل على أنه ثقة، ويستأنس بحديثه، فيحيى بن أكثم كان من أعقل أهل زمانه، وكان داهيةً ومع هذا فهو متكلم فيه، فهي نفسها لا تدل على أنه ثقة.
في "السلسلة الصحيحة" الحديث رقم (401) ((إذا قمت إلى صلاتك فصلّ صلاة مودّع)) نقل الشيخ الألباني عن السندي قوله: لكن كون الحديث من أوجز الكلمات، وأجمعها للحكمة، يدل على قربه للثبوت. فهل كون الكلام بليغًا ومثل هذه الأمور يجعل حافظًا أو عالمًا من علماء الجرح والتعديل أو النقد أو التحقيق يحكم على الحديث بالثبوت أم أن هذه قرينة من قرائن الترجيح في مثل هذه المسائل؟
__________
(1) ? ... وهو من رجال الصحيح فيكونون قد علموا أنه لم يدلس في هذا -أقصد قبله الحفاظ أي: في "الصحيحين" لأنّهما التزما الصحة-.(1/73)
هو لا يدل، هذه الألفاظ ربما تكون حكمًا أو من كلام أهل العلم، والعلماء أنفسهم ربما يشمّون منه رائحة الثبوت، مثل حديث: ((ازهد في الدّنيا يحبّك الله، وازهد عمّا في أيدي النّاس يحبّك النّاس?))يقول بعضهم: عليه نور النبوة، مع أنه ضعيف وإن حسّنه الشيخ حفظه الله تعالى، وعلى كل فلا بد من السند المستجمع لشروط القبول.
الحديث رقم (468) أيضًا في "السلسلة الصحيحة": ((أكثروا من شهادة أن لا إله إلاّ الله)) -نسأل الله أن يجعلنا من أهلها- قال الشيخ الألباني: رمز المناوي رحمه الله تعالى لضعفه، وتقدمه العراقي مبيّنًا لعلته، قال: فيه موسى بن وردان مختلف فيه، قال الشيخ الألباني: وفي هذا الكلام نظر من وجوه: أولاً: أن العراقي قال في ابن وردان: مختلف فيه، ليس نصًا في تضعيفه، بل هو إلى تقويته أقرب منه إلى تضعيفه، لأن المعهود في استعمالهم لهذه العبارة: (مختلف فيه) أنّهم لا يريدون به التضعيف، بل يشيرون بذلك إلى أن حديثه حسن، أو على الأقل قريب من الحسن، ولا يريدون تضعيفه مطلقًا، لأن من طبيعة الحديث الحسن أن يكون في راويه اختلاف وإلا كان صحيحًا. والسؤال مني ليس في نفيه الضعف المطلق، ولكن في جعْل هذه العبارة إشارةً إلى حسن حديثه، وهي مذكورة في مراتب التجريح المعتبرة في الشواهد، وكون رجال الحسن فيهم اختلاف لكن يعبرون عنه بقولهم: (صدوق أو لا بأس به) لا بقولهم: (مختلف فيه) فما هو الصواب؟(1/74)
الأمر كما قلت، فالذي فهمته أنت هو الذي فهمته أنا، أنّ قول المحدث: (مختلف فيه) بمعنى أن منهم من يوثّقه، ومنهم من يضعّفه، ويحتاج إلى نظر في كلام من وثقه أهو أرجح، أم من ضعّفه أرجح، فما يوحي بأنه حسن، ولا بأنه أنزل من حسن، و(مختلف فيه) و(متكلم فيه) محتاج إلى أن يقف الشخص على كلامهم، فينظر الشخص هل الراجح قبوله أم الراجح ضعفه؟ فلا بد من الوقوف على عباراتهم فإن لم يتيسر الوقوف على عباراتهم توقف، والشيخ حفظه الله تعالى يقول في شهر بن حوشب، وأبي جعفر الرازي وغيرهما مختلف فيه والراجح ضعفه.
بالأمس ونحن نسأل قلت: إن هناك فرقًا بين قولهم في الرجل: (تغير في آخره) أو (اختلط)، لكن قلت: إن الذي يقال فيه: (تغير بآخره) أنه يحتج به، وأنه من باب الحسن لذاته، وهذا الشيخ الألباني في الحديث رقم (518) من "السلسلة الصحيحة" قال في حديث: ((إنّ الله عزّ وجلّ لم ينْزل داءً إلاّ أنزل له شفاءً)) الحديث، قال: فيه أبوقلابة عبدالملك بن محمد الرقاشي، قال عنه الحافظ: صدوق يخطئ، تغير حفظه، فقال الشيخ الألباني فمثله يحتج به إذا وافق غيره، أما إذا خالف أو تفرد، فلا.
الذي أعرفه أنه إذا كان مما أخطأ فيه ينظر، لأن الحافظ الذهبي ذكر في "ميزان الاعتدال" في ترجمة هشام بن عروة أنه تغير بآخره قال: أي خفّ حفظه وضبطه، ثم ذكر أن ابن القطان قال: (اختلط)، وأنكر غاية الإنكار على قوله بأنه (اختلط)، فالذي يظهر أنه إذا قالوا: (تغير) ينظر أهذا الحديث مما حدث به في حال تغيره، أو مما وهم فيه بسبب تغيره، وإلا قبل.
قولهم في الرجل: فلان (على شرط الستة)، ماذا يعنون؟
إذا كان من المتأخرين فيظهر أنه يعني أصحاب الأمهات الست، وإن كان من المتقدمين فلا أعرف، وشرط أصحاب الأمهات الست مختلف.(1/75)
عند أن سألتك عن المدلس تدليس السكوت وقلت: نرجع إلى ترجمة عمر بن علي المقدمي، فننظر من الذي قال هذه المقالة, فبعض الأئمة لا يفوت عليهم التدليس مثل القطان وغيره، فنرجو أن توضح هذه الفائدة.
بعض الأئمة لا ينفق عليه التدليس، فسفيان الثوري أراد أن يدلس على يحيى بن سعيد القطان، وقال ذات مرة: حدثني أبوسهل فقال يحيى بن سعيد القطان: محمد بن سالم، فضحك سفيان الثوري وقال: لا يفوتك شيء يا يحيى.
الكلام الذي ذكره الحافظ الذهبي في ترجمة أبان بن تغلب رغم العدالة. قال: هم اشترطوا العدالة، ولسائل أن يسأل: إذا كنتم تقبلون حديث الداعية المبتدع فلم اشترطتم في العدالة أن يجتمع كذا وكذا؟ فأنا أسأل هم قالوا العدالة: أن يكون سالماً من أسباب الفسق، وخوارم المروءة، ولا شك أن المبتدع حتى وإن كان عاميًّا أو المبتدع الداعية الذي حتى وإن كان متحرّجًا من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أليس هذا من خوارم المروءة؟
هو من أسباب الفسق، والذي حملهم على قبول رواية المبتدع أنّها وجدت بدع في كبار المحدثين مثل: الأعمش بالتشيع، وأبي إسحاق بالتشيع، وقتادة بالقدر، فوجد في كبار المحدثين بحيث لو ردّت أحاديثهم لردّت سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحملهم على أن يقبلوا حديثهم، وهو أمر ضروريّ، حتى أبوإسحاق الجوزجاني بعد أن ذكر جماعةً من الشيعة قال: لو رددنا حديث هذا الضرب لرددنا الكثير من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
في الحديث الشاذ، ذكروا أن من شروط الصحيح أن لا يكون شاذًا، وكنت أعرف من ذلك أن الشاذ من جملة الضعيف حسب ترتيب ابن الصلاح لأقسام الضعيف، فلما انتهى من الشاذ وذكر هذه الأشياء أنّها من جملة الضعيف قال: هناك فوائد، ولكن الحافظ ابن حجر قال في بعض أقواله: إنه لا يسمي ضعيفًا ولكن مرجوحاً، وكم من صحيح لا يعمل به وهو من جملة الصحيح لمعارض أقوى أو لمرجّح؟(1/76)
الأمر سهل في هذا، فمؤداه مؤدى الضعيف، فإذا قيل فيه: إنه صحيح لأن سنده ثقات، فصحيح باعتبار سنده، ضعيف باعتبار آخر، إما باعتبار سنده الشاذ، وإما بسبب متنه والله أعلم.
في حديث قد صححه إمام من الأئمة: مثل ابن حنبل أو الترمذي، أو مثل أبي داود، أو مثل الحافظ ابن حجر، أو الشيخ الألباني، أو الشيخ مقبل، وأنا أستطيع أن أبحث، ولكن ليس عندي الوقت أو من النشاط ما يجعلني أراجع وأقف على مقال، فأعتقد في حديث وقلت: هذا الحديث صحيح أخذًا ومعتقدًا في ذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد حثنا على قبول قول أهل العلم، فبعض الإخوة يقول: إن هذا من باب التقليد، لأنك أخذت بقوله دون أن تبحث ما ورائه، فقلت له: إن قول الإمام من الأئمة: هذا حديث صحيح هو كما قال الصنعاني: اختصار لكلام كثير، إن هذا الرجل عدل، أو هذا الحديث رجاله عدول، وحتى لو قال رجاله عدول، فالعدالة أصلاً مختلف فيها، عدول ينتهون من كذا، ويفعلون كذا، وضابطون ومعنى الضبط، وهذا كلام يطول جدًا. فقوله: صحيح يكفينى، لأنه من أئمة الشأن ويعرف معنى كلمة صحيح وعلى أي شيء تقع، ويعرف الاسم ومسماه، ويقول له الإخوة: إن هذا من باب التقليد لأنك أخذت هذا من غير حجة، وبعض الإخوة يقول: إن هذا من باب الاتباع، فماذ ترون؟
هذا ليس من باب التقليد كما ذكره الصنعاني في رسالة "إرشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد"، إذا عرف من الرجل التحري وأنه لا يصحح إلا ما كان صحيحًا، ولا زال أهل العلم يستعملون هذا، فهذا لا يعتبر إن شاء الله من باب التقليد، والله سبحانه وتعالى يقول: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا(1)} مفهومه إذا جاء العدل تقبل.
إذا قالوا في الرجل: (عالي الإسناد)، قلت: يحتمل أن يكون مدلسًا؟
__________
(1) ? ... سورةالحجرات، الآية:6.(1/77)
الأقرب والمتبادر إلى الذهن أنه بمعنى أنه بكر في الطلب فأدرك شيوخًا لم يدركهم غيره، لكن الأخ أبا الحسن أتى بمعنى أنه يحدث عن أناس لم يدركهم، فيكون محتملاً لهذا، ومحتملاً لهذا. والله أعلم.
الشيخ المعلمي رحمه الله ذكر في مقدمة "الفوائد المجموعة" عند أن تكلم على الأحاديث الموضوعة، ذكر عدة فوائد يقف عليها طالب العلم وقال: ينتفع بها، منها: فائدة أردت أن أذكرها ليتضح لي الخوض فيها، قال: إذا استنكر الأئمة المحققون المتن، وكان ظاهر السند الصحة، فإنّهم يتطلبون له علة، إذا لم يجدوا علة قادحة مطلقًا حيث وقعت، أعلوه بعلة ليست بقادحة مطلقًا، ولكنهم يرونها كافية للقدح في ذلك المنكر، فمن ذلك إعلالهم أن راويه لم يصرّح بالسماع، هذا مع أن الراوي غير مدلس، أعل البخاري بذلك خبرًا رواه عمرو بن أبي عمرو مولى المطلب عن عكرمة تراه في ترجمة عمرو من "التهذيب"، ونحو ذلك كلامه في حديث عمرو بن دينار في القضاء بالشاهد واليمين، ونحوه أيضًا كلام شيخه علي بن المديني في حديث:((خلق الله التّربة يوم السّبت)) إلخ، كما تراه في "الأسماء والصفات" للبيهقي، وكذلك أعلّ أبوحاتم خبرًا رواه الليث بن سعد عن سعيد المقبري كما تراه في "علل أبي حاتم "(ج2 ص353) ومن ذلك إشارة البخاري إلى إعلال حديث الجمع بين الصلاتين، بأن قتيبة لما كتبه عن الليث كان معه خالد المدائني، وكان خالد يدخل على الشيوخ، فليراجع هذا في "معرفة علوم الحديث" للحاكم ص(120)، ومن ذلك الإعلال بالحمل على الخطأ، وإن لم يتبين وجهه، كإعلالهم حديث عبدالملك بن أبي سليمان في الشفعة، ومن ذلك إعلالهم بظن أن الحديث أدخل على الشيخ كما ترى في "لسان الميزان" في ترجمة الفضل بن الحباب، وغيرها، وحجتهم في هذا، بأن عدم القدح في العلة مطلقًا إنما بني على أن دخول الخلل من جهتها نادر، فإذا اتفق أن يكون المتن منكرًا يغلب على ظن الناقد بطلانه، فقد يحقق وجود الخلل، وإذا لم يوجد سبب(1/78)
له إلا تلك العلة فالظاهر أنّها هي السبب، وأن هذا من ذاك النادر الذي يجيء الخلل فيه من جهتها، وبهذا يتبين أن ما يقع ممن دونهم من التعقب بأن تلك العلة غير قادحة، وأنّهم قد صححوا ما لا يحصى من الأحاديث مع وجودها فيها، إنما هو غفلة عما تقدم من الفرق، اللهم إلا أن يثبت المتعقب أن الخبر غير منكر، هذه فائدة قرأتها؟
هذه فائدة تساوي الدنيا، وربما أعلوا الحديث ولم يستطيعوا أن يعبروا عن العلة، والفائدة لن أجيب عليها. فلا مزيد عليها.
فالأمر كما قال، بل أعظم من هذا: أنّهم ربما يعلون الحديث ولا يستطيعون إبراز العلة، ويلزم المتأخر أن يأخذ بقولهم، لأنه ما بلغ مبلغهم في الحفظ ومعرفة الرجال، وحفظ كل طرق الحديث، وكل راو وما روى، يعنى كم له من تلاميذ، وكم روى كل تلميذ عنه، فهم يعتبرون آيةً من آيات الله.
ذكر السخاوي -رحمه الله تعالى- في "فتح المغيث" (ج2 ص12) أن البزار في "مسنده" وابن القطان في "الوهم والإيهام" ذهبا أن العدالة تثبت برواية جماعة من المشاهير عن الراوي، حتى قال الذهبي في ترجمة مالك ابن الخير الزبادي وقد نقل عن ابن القطان أنه ممن لم تثبت عدالته، ويريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة، قال: وفي رواة "الصحيحين" عدد كثير ما علمنا أن أحدًا نص على توثيقهم. والجمهور على أن من كان من المشايخ قد روى عنه جماعة ولم يأت بما ينكر عليه أن حديثه صحيح، لكن تعقبه الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى فقال: ما نسبه للجمهور لم يصرّح به أحد من أئمة النقد إلا ابن حبان، هو حق فيمن كان مشهورًا بالطلب والانتساب إلى الحديث. والسؤال: إذا كان مذهب البزار وابن القطان مرجوحًا فإذا وجدنا راويًا لم يوثقه غيرهما أو أحدهما، أليس من التواضع أن يكون حكمه مقبولاً حيث يتابع كما يفعل الحافظ في كثير من التراجم أم ماذا تقولون؟(1/79)
إذا وثقا فهما معتبران، إذا رأينا حديثًا في كتابيهما أو في كتبهما من طريق راو روى عنه جماعة، لم يوثقه معتبر، وليس مشهورًا بالطلب. أو رأيناهما صححا هذا الحديث فيتوقف فيه، يعني عرفت قاعدتهما بحسب ما قرأته في التصحيح لا في التوثيق نفسه، فإذا وجدناهم قد صححا حديثًا فيه راو روى عنه جماعة ولم يوثقه معتبر ولم يشتهر بالطلب توقفنا في تصحيحه. ثم إنه قد علم تساهل البزار في التوثيق وكذا في التصحيح.
فائدة: قال السخاوي رحمه الله تعالى في "فتح المغيث" (ج2 ص12): وذهب بعضهم إلى أن مما تثبت به العدالة رواية الجماعة من الجلة عن الراوي وهذه طريقة البراز في "مسنده" وجنح إليها ابن القطان في الكلام على حديث قطع السدر من كتابه الوهم والإيهام.
قلت: ابن القطان ليس له قاعدة مطردة في هذا، فيحتمل أنه حسن حديث السدر لرواية الجماعة عن سعيد بن محمد بن جبير أو أنه ممن عرفت بيته ونسبه أو للأمرين جميعاً.
وهذا نص كلامه: (...وأما ابن عمه سعيد بن محمد بن جبير بن مطعم فلا تعرف له حال، وإن كان قد روى عنه جماعة منهم: عثمان المذكور، وعبيدالله بن موهب، وابن أبي ذئب، وعبدالله بن جعفر، وغيرهم كلهم أخذ عنه هذا الحديث، ولا أعرف له من العلم غيره وإن كان معروف البيت والنسب.
وله أخ أسمه عمر، وأخ ثان اسمه الحارث، يروي أيضًا عن أبيه، وثالث اسمه جبير بن محمد، يروي أيضًا عن أبيه فهم أربعة: سعيد وعمر والحارث وجبير، فالحديث من أجله حسن.(1/80)
وإلا فقد حصل بينه وبين الإمام الذهبي خصام في بعض الرواة من هذا الضرب ففي ترجمة حفص بن بغيل من "الميزان": روى عن زائدة وجماعة، وعنه أبوكريب وأحمد بن بديل، قال ابن القطان: لا يعرف له حال، ولا يعرف. قال الذهبي: لم أذكر هذا النوع في كتابي فإن ابن القطان يتكلم في كل من لم يقل فيه إمام عاصر ذاك الرجل أو أخذ عمن عاصره ما يدل على عدالته، وهذا شيء كثير، ففي "الصحيحين" من هذا النمط خلق كثير مستورون، ما ضعّفهم أحد ولا هم بمجاهيل. وزاد صاحب "تهذيب التهذيب" ممن روى عنه عبدالرحمن بن صالح الأزدي، وأبا الوليد الكلبي. قال ابن حزم: مجهول.
وفي ترجمة مالك بن الخير الزبادي نسبه إلى موضع في المغرب يقال: (زباد) بالباء الموحدة قال ابن القطان: وهو ممن لم تثبت عدالته فرد عليه الذهبي قائلاً: (يريد أنه ما نص أحد على أنه ثقة) وفي رواة "الصحيحين" عدد كثير ما علمنا أن أحداً نص على توثيقهم.
وقد قال فيه الذهبي: (محله الصدق) يروي عن أبي قبيل.. روى عنه حيوة بن شريح، وهو من طبقته، وابن وهب، وزيد بن الحباب، ورشدين. اهـ
وفي "تاريخ أبي زرعة الدمشقي" (ج1 ص442) أنه سأل عنه أحمد بن صالح: ما تقول في مالك بن الخير الزبادي؟ قال: ثقة. اهـ
وفي "تهذيب التهذيب" كثير ممن يروي عنه جماعة فيقول: مجهول الحال، فعلى هذا فلا ينبغي أن يعزى توثيق المجاهيل لابن القطان.
ماذا تقولون في قول الذهبي -رحمه الله تعالى-: لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة، وكثير من التراجم يختلف فيها ابن معين، وأحمد بن حنبل، وأبوحاتم، وأبوزرعة، بعضهم يقول: ضعيف، والآخر يقول: ثقة، فهو قال: لم يجتمع اثنان من علماء هذا الشأن قط على توثيق ضعيف، ولا على تضعيف ثقة، ذكر هذا السيوطي؟
هذه العبارة مفسّرة بتفسير لا أذكره الآن، ولعل المراد لا يجتمع اثنان على توثيق ضعيف لا يخالفهما أحد، أو على تضعيف ثقة لا يخالفهما أحد، والله أعلم.(1/81)
في رواية الفرع -وهو ثقة- للحديث ويجحده الأصل ذكروا لذلك تفصيلات كما هو معلوم. وأنا أسأل: إذا جحد الأصل مكذّبًا للفرع وليس شاكًا وقال: أنا ما حدثتك بهذا الحديث. وقال الفرع: أنت حدثتني بهذا الحديث، فهم رجّحوا كلام الأصل قائلين: إنه أعلم بفعل نفسه، والثاني -الفرع- أعلم بسماع نفسه، فهل يترك هذا الحديث من أجل هذا؟
هذه المسألة الذي يظهر أن الراجح فيها، والله أعلم هو: إذا كذبه فيتوقف في ذلك الحديث نفسه، ولا يقدح فيهما في هذا ولا هذا، وأما أبومحمد بن حزم -رحمه الله تعالى- فيقول: وإن كذبه فهو ثقة، والنسيان يطرأ على الشخص، هذا إذا كان قد جحده من دون مسوغ، أما إذا وجد مسوغ لجحوده -كأن يكون في الحديث مضرّة عليه وقال: أنا ما حدثت فلانًا بهذا- فيحمل عليه لكن من دون ما يسوغ له الجحود فيتوقف فيه، وإلا فيقبل، فقد جاء في حديث: ((ما كنّا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلاّ بالتّكبير)) جاء في هذا الحديث أن عمرو بن دينار سأل شيخه فأنكر أنه حدثه بهذا، فالإمام البخاري ذكره ولم يذكر ترددًا، قال فسألته فقال: ما حدثته بهذا -يعنى لا أذكر هذا- ومع هذا فأورده البخاري في "صحيحه" ولم يورد هذا التردد، وأورده الإمام مسلم في "صحيحه" وأورد هذا التردد، فإذا كان مجرد تردد فلا بأس إن شاء الله وإن جحد الأصل فيتوقف فيه، لأنه يكون محل ريبة. وهذه مسألة اجتهادية.
وأيضًا ذكروا فيمن ترد روايته: من خالف ثم أصر ولم يرجع -أي خالف في حديثه وخالف من هو أوثق منه أو أكثر منه، ومع ذلك راجعوه فلم يرجع- وقالوا هذا ترد روايته، لكن معلوم أن الإمام مالكًا رحمه الله له في ذلك قصة في مخالفته للثقات، في روايته عن الزهري عن علي بن الحسين عن عمر بن عثمان عن أسامة مرفوعًا ((لا يرث المسلم الكافر)) وغيره من أصحاب الزهري، رووه عن عمرو بن عثمان -بفتح العين- ومع ذلك لم يرجع الإمام مالك؟(1/82)
نعم هم جعلوا ذلك من القوادح، لكنه محمول على إذا لم يرجع عنادًا وتكبرًا، أما إذا كان واثقًا بنفسه فلا، والإمام الطبراني رحمه الله تعالى أيضًا وهم في اسم شيخ من شيوخه فقيل له في ذلك، فلم يرجع، وقد ذكروا في ترجمة غير راو أنه لم يرجع لوثوقه بعلمه، والله أعلم.
قولهم في الرجل: (لا نعلم إلا خيرًا)، يترجم له الحافظ رحمه الله تعالى في "التقريب" بقوله: (مقبول) إذا لم يكن في الرجل إلا كلمة أبي زرعة أو غيره: (فلان لا نعلم إلا خيرًا) قال عنه في "التقريب": (مقبول) إلا أن أبا زرعة سأل دحيمًا: ما تقول في علي بن حوشب الفزاري؟ فقال: لا بأس به. قال أبوزرعة: ولم لا تقول: (ثقة ولا نعلم إلا خيرًا)، قال: قد قلت لك: إنه ثقة. الشاهد في قول أبي زرعة: ولم لا تقول: ثقة ولا نعلم إلا خيرًا، هل هذه العبارة تعني أنه أرفع من أن يترجم له بمقبول؟
العلماء تختلف عباراتهم حتى في الألفاظ، قد يكون اللفظ واحدًا وله معنى عند يحيى بن معين، غير معناه عند البخاري، من أجل هذا كما تقدم قد ألف اللكنوي كتابه "الرفع والتكميل في الجرح والتعديل" وكان الحافظ ابن حجر كما ذكره تلميذه السخاوي يقول: (يا حبذا لو جمعت ألفاظ الجرح والتعديل وفسرت) وقد وفق الله اللكنوي فجمعها، فلا بد أن تحمل على المعنى اللائق بها، فقوله -من حيث المعنى اللغوي-: (لا أعلم إلا خيرًا) الظاهر إذا سئل عنه: أهو ثقة، أم ليس بثقة؟ أنه يقبل، هذا من حيث مؤداها، وهو محتمل أيضًا: أنه لا يعلم إلا خيرًا في الصلاح، وبقي الضبط، (لا أعلم إلا خيرًا) ويكون مستور الحال، لا أعلم إلا خيرًا في الصلاح، لكن إذا سئل مثل يحيى بن معين، ويحيى بن سعيد القطان، وكذا الإمام أحمد وغيره وليس هناك مانع أنه يأتي بكلام فيه معاريض فيحمل على أنه مقبول -وأعني- أنه ثقة يقبل حديثه، وليس مقبولاً على اصطلاح الحافظ.(1/83)
في قولهم في كثير من الرجال: (فلان طويل اللحية) هل يحمل على أنه يرفع المراسيل، ويصل المنقطعات، وإلا فما وجه قولهم؟
عند بعض الأدباء الذين لا خير فيهم أن طول اللحية دليل على خفة العقل، فنحن إن شاء الله ما نحمل كلام المحدثين على هذا النحو السخيف، فالله أعلم بمرادهم، ولعله أيضًا من باب الحيدة عن الجواب الصحيح.
الشيخ الألباني حفظه الله تعالى في حديث: "الأذنان من الرّأس" ساق إسنادًا من "الفوائد المنتقاه" ثم قال: وهذا سند حسن عندي، فإن رجاله كلهم ثقات معروفون غير يحيى بن العريان الهروي، وقد ترجمه الخطيب ولم يذكر فيه جرحًا ولا تعديلاً، غير أنه وصفه بأنه كان محدثًا، فهل هذا يحسن حديثه لذاته؟
لا يحسن، ولكن يستأنس به، فلفظة كونه محدثًا لا تدل على أن حديثه مقبول، فيجوز أنه محدث وهو ضعيف، محدث وهو كذاب، محدث وهو ثقة، والله أعلم.
بعضهم يقول: فلان من المحدثين، وفلان من الشيوخ، أيعني أنه من الشيوخ الفقهاء أم ماذا؟
يعني أنه من الشيوخ الذين ليسوا بأثبات. والله أعلم.
أسئلة شباب لودر
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم أجمعين.
وبعد: فهذه أسئلة من شباب (لودر) نقدّمها إلى شيخنا العلامة المحدث الشيخ مقبل بن هادي الوادعي حفظه الله تعالى.
فضيلة الشيخ: ماهو القول في قول شعبة بن الحجاج ومسعر بن كدام في أهل الحديث: (يا أهل الحديث إن هذا الحديث يشغلكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون)، وكيف نجمع بين هذا وبين قول الإمام أحمد لما سمع أحدهم يتكلم في أصحاب الحديث، فنفض ثوبه وقال: زنديق؟
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.(1/84)
أما بعد: فالجمع بين القولين -على أنه لا يوجد تعارض- أن القول الأول: لا يشغلنكم الحديث عن ذكر الله، فإن من المحدثين من ربما ينهمك في الحديث ويشغل به عن الذكر، ويشغل به عن بعض النوافل، وربما يزدحم المحدثون على الشخص ويقلقونه ويضجرونه، فيضجر ويقول عند ضجره مثل هذا الكلام، مثل ما كان يفعل سفيان الثوري فقد كان يطرد المحدثين من عنده ثم يقول بعد ذلك: لو لم يأتوني لأتيتهم وما أستطيع أن أصبر عنهم.
وكما جاء عن الأعمش عند أن مات كلبه فأزدحم المحدثون على بابه وعليه وأضجروه حتى قال: مات الذي كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر -يقصد كلبه-. وألحّ بعض المحدثين على أبي معاوية فقال لأبي معاوية: الأعمش عمن؟ فقال أبومعاوية: عن إبليس.
أما قول الإمام أحمد: إنه من تكلّم في أهل الحديث أنه زنديق، ونفض ثوبه وقام، على أن القصة فيها كلام، فنعم، فإن الذي يطعن في أهل الحديث يعتبر طاعنًا في دين الله، فهم نقلة الدين وحماته، كما قال الحافظ الصوري -رحمه الله تعالى- في شأن المحدثين:
ڑٹ?0قل لمن عاند الحديث وأضحى أبعلم تقول هذا أبن لي
أيعاب الذين هم حفظوا الدين وإلى قولهم وما قد رووهڑ
ڑ
عائباً أهله ومن يدّعيه
أم بجهل فالجهل خلق السّفيه
من الترهات والتمويه
راجع كلّ عالم وفقيه?ٹڑ
بالنسبة للحديث الضعيف إذا كان الضعف راجعًا إلى سوء الحفظ، وتكون له طرق كثيرة فهل يرتقي إلى الصحيح لغيره؟(1/85)
نعم، إذا لم يشتد ضعفه، فممكن أن يرتقي إلى الحسن لغيره، وإلى الصحيح لغيره إذا جاء من نحو سبع طرق أوست، سيء الحفظ مع سيء الحفظ مع سيء الحفظ، ولكن بشرط ألا يكون ذلك الذي قيل فيه سيء الحفظ قد خالف، وقد ذكر الحديث في ترجمته من "الكامل" لابن عدي، أو ذكر في ترجمته في "ميزان الإعتدال"، أو ذكر في ترجمته من "لسان الميزان" أو في كتب العلل أن هذا الحديث منكر، فمثل هذه الطريق لا تصلح في الشواهد والمتابعات لأنه إذا خالف الثقات المتكاثرين فحديثه منكر والمنكر لا يصلح في الشواهد والمتابعات، فلا بد من اعتبار هذه الشروط. والله المستعان.
ما هو القول الفصل فيمن قيل فيه من المحدثين: إنه متساهل كالحاكم، وابن حبان، والترمذي، هل هو الحكم على الحديث الحسن بالصحة أم غير ذلك؟
أما ابن حبان فتساهله فيما يختص بالمجهولين، وقاعدته وقاعدة شيخه ابن خزيمة معروفة كما في مقدمة "لسان الميزان" للحافظ ابن حجر: أنّهما يوثقان المجهول، وعلى هذا بنيا عملهما في صحيحيهما.
أما في بقية الأمور فربما يحصل منه بعض التساهل، مثل: تصحيح حديث درّاج عن أبي الهيثم أو غيره، ولكن "صحيح ابن حبان" يعتبر مرجعًا من المراجع الكبيرة المفيدة، وأخطاؤه في مسألة توثيق المجهول وتصحيح حديث المجهول لا ينبغي أن يتابع عليها، وتساهله في بعض الأحاديث التي من طرق بعض الرجال لا يتابع عليها أيضًا.
والترمذي كذلك، مع أن الترمذي أكثر تساهلاً من ابن حبان، فالحافظ الذهبي قال في ترجمة كثير بن عبدالله بن عمرو بن عوف وقد ذكر حديث: ((المسلمون على شروطهم))، قال: وأما الترمذي فصحح حديثه، ولهذا لا يعتمد العلماء على تصحيحه. لأنه قد كان ذكر في ترجمة كثير بن عبدالله عن الإمام الشافعي وأبي داود، أنه ركن من أركان الكذب.(1/86)
وقال في ترجمة يحيى بن يمان: وقد ذكر في ترجمته حديثًا وهو أنّ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم رأى ناراً في المقبرة، وذهب فإذا هم يحفرون بالليل ودفن في الليل، والدفن جائز في الليل لأدلة أخرى ليس الكلام على هذا فقال الترمذي: حسن، فقال الذهبي: حسّنه الترمذي، وفي سنده ثلاثة ضعفاء، فعند المحاققه غالب تحسينات الترمذي ضعاف.
وروى الترمذي في "جامعه" لمحمد بن سعيد المصلوب، ومحمد بن السائب الكلبي ولبعض الهلكى، من أجل هذا نزلت رتبته عن "سنن أبي داود" وعن "سنن النسائي"، وأما الحاكم فهو أكثر الثلاثة تساهلاً فربما يصحح حديثًا من طريق أبي حذيفة إسحاق بن بشر البخاري، أو من طريق إسحاق بن بشر الكاهلي، وربما يصحح حديثًا منقطعًا أو شديد الضعف، وقد تتبع الذهبي -رحمه الله- بعض ما تيسر له، وتتبعنا بحمد الله بعض ما سكت عليه الحافظ الذهبي، في هوامش المستدرك، وقد خرج الكتاب والحمد لله وهو بعنوان "تتبع أوهام الحاكم التي سكت عليها الذهبي".
والإمام الذهبي رحمه الله يقول في ترجمة الحاكم في شأن "المستدرك": وياليته لم يؤلّفه.
ويقول أيضًا: إنه محتاج إلى نظر فيه -أي "المستدرك"- لماذا؟ لأن كتاب الذهبي مجرد تلخيص "للمستدرك"، فإذا جاء منه تنبيه على حديث ضعيف فهو عفو وفضل منه -رحمه الله- والعلماء منهم من أسرف في شأن "المستدرك"، فأبوسعد الماليني يقول: ليس في "المستدرك" حديث صحيح على شرطهما. قالوا: وهذا إسراف وغلو.
والحافظ الذهبي يقول: فيه النصف صحيح، وقدر الربع صالح، والباقي عجائب وغرائب. وقد جمع الحافظ الذهبي نحو مائة حديث من "المستدرك" التي هي موضوعة.
وأعدل شيء في "المستدرك" هو قول الإمام الذهبي فيه، ولا تطمئن النفس إلى ما تفرد به حتى ينظر من أخرجه، لكثرة أوهامه في هذا الكتاب.
أما "صحيح ابن حبان" فهو كتاب عظيم يستفاد منه.(1/87)
وأما "جامع الترمذي" فقد كان أبوالحسن المقدسي ينصح طلبة العلم بالبدء قبل البخاري ومسلم لسهولته، فإنه يذكر الحديث ويذكر الحكم عليه، ويذكر ما يستنبط منه، ومن قال به من الفقهاء، وإذا ذكر الاسم ذكر الكنية أو النسبة بعد الحديث، وإذا ذكر الكنية ذكر الاسم بعد الحديث، فكتاب الترمذي كتاب عظيم على تساهله هو وابن حبان.
يقال إن تساهل الحاكم راجع إلى مافي آخر"المستدرك" لأنه قد حرر أوله ولم يحرر آخره، فما مدى صحة هذا القول؟
لعل الأكثر في آخره، وإلا فأوائله وأواخره سواء، ومن أوائل الأحاديث التي في "المستدرك" في كتاب الإيمان يقول: في سنده أبوبلج يحيى بن سليم، أو يحيى بن أبي سليم فهو متساهل في هذا من أوله إلى نهايته، إلا أن التساهل في آخره أكثر.
والحافظ يقول: إن الحاكم كان في أول "المستدرك" يمليه املاءً فكان التساهل فيه أقل، وفي آخره لا يمليه.
فعلى هذا فهو إلى نحو نصف المجلد الثالث وهو يمر بنا الإملاء وليس كما يقول الحافظ إنه في أوائله أو في نحو الربع أو النصف.
يكثر الإمام النووي -رحمه الله- في "شرحه للمهذب" من القول في بعض الأحاديث: (وهذا الحديث قد اتفق الحفاظ على ضعفه)، فهل يقبل منه ذلك، وهل هذا الأمر ممكن أصلاً؟
هو كغيره، فالحافظ يتعقبه في كثير من الأشياء مثل قوله: اتفق الحفاظ على أن زيادة (وبركاته) في التسليم في الصلاة ضعيفة، أو غير صحيحة، وكذلك في حديث آخر، فلا بد من نظر فقد عرف أنه ربما يقول هذا ويتعقبه الحافظ، فالإمام النووي كغيره من العلماء لابد أن ينظر في الحديث بسنده ويحكم عليه بما يستحقه.
وضع المحدثون قواعد للجرح والتعديل، والحكم على الأحاديث، ومضى عليها من بعدهم فيما ظهر لهم، ولكن بالنظر إلى بعض أحكامهم يجد المحدث أو الباحث أن حكمهم على الحديث بالضعف أو الوضع مخالف لما ظهر له من القواعد، فهل يأخذ بالقواعد التي وضعوها أو يعتمد قولهم في المخالفة؟(1/88)
إذا قال أبوحاتم: هذا حديث ضعيف، أو هذا حديث منكر، أو هذا حديث موضوع، ولم يخالفه أحد من معاصريه، أو ممن بعد معاصريه كالإمام الدارقطني فنأخذ به، إلا إذا قصد حديثًا بهذا السند نفسه، فلا بأس إذا جاء من طريق أخرى، فإنّهم قد يعلّون الحديث بسند واحد كما ذكرنا هذا في مقدمة "أحاديث معلة ظاهرها الصحة" ونقلناه أيضًا من "الإلزامات والتتبع" ونقلناه من "النكت على ابن الصلاح" للحافظ ابن حجر بتحقيق أخينا الفاضل الشيخ ربيع بن هادي -حفظه الله- فإن أراد هذا الحديث بهذا السند ضعيف، وعثرت على سند آخر صحيح فلا بأس بذلك، أما إذا قال: الحديث لا يثبت بحال من الأحوال. أو تريد أنت أن تصححه بذلك السند فقد يحكم أبوحاتم بأن الحديث لا يصح لأنه تفرد به فلان، فيأتي الباحث العصري ويقول: وفلان ثقة، فالحديث صحيح، فيامسكين من أنت بجانب ذلك الإمام، أليس الثقة يخالف الثقات؟ أو ليس الثقة يهم أو يغلط؟، فإذا ضعّفوا الحديث وهذا الباحث يريد أن يصححه بذلك السند فلا نقبل، لأنّهم يعرفون حديث المحدث، وحديث شيوخه، وحديث تلاميذه، وهل هذا من حديث فلان أو ليس من حديث فلان، أما إذا عثرت له على سند صحيح فلا بأس، ولم يجزم الحافظ بأنه لا يصح بوجه من الوجوه من ذلك الزمان كأبي زرعة، وأبي حاتم، والبخاري، ويحيى بن معين، وأحمد بن حنبل، والدارقطني، ومن سلك مسلك هؤلاء من معاصريهم فمن بعدهم من الحفاظ الكبار ولم يخالفهم أحد من معاصريهم فنأخذ به وأنفسنا مطمئنه، ونترك قول المعاصر، فالفرق بينهم وبيننا أن المعاصر لا يعدو أن يكون باحثًا، وهم حفاظ يحفظون حديث المحدث وحديث شيخه، وحديث تلميذه، وهل هذا من حديث فلان أم ليس من حديث فلان.(1/89)
ما هو الفرق في التقليد لقول أحد المحدثين في الحكم على حديث، أو أحد الفقهاء في مسألة فقهية، وقد ذكرتم -حفظكم الله- في "المقترح"(1) أنه لا بأس لطالب العلم أن يقلّد الحافظ في التصحيح والتضعيف في "بلوغ المرام"؟
لا أظن أنني قلت: يقلّد، ولو أعلم أنني قلت تقليدًا لشطبتها من الكتاب، بل لا بأس أن يأخذ ويتبع الحافظ في هذا كما أجاب بهذا محمد بن إسماعيل الأمير في كتابه "ارشاد النقاد إلى تيسير الاجتهاد"، فقال: إن قولهم: هذا حديث صحيح معناه: أنه متصل السند يرويه العدل عن مثله غير معلّ ولا شاذّ، ولكنهم يستطيلون هذا، فهم يختصرونه بقولهم: صحيح، فهذا من باب قبول خبر الثقة، وليس من باب التقليد، فإن الله عز وجل يقول في شأن قبول خبر الثقة: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين(2)}.
مفهوم الآية أنه إذا جاءنا العدل بالخبر نقبله، على أن الذي يبحث ويتتبع الطرق تطمئن نفسه أكثر من غيره، ولكن لك أن تأخذ بتصحيح الحافظ ابن حجر، ولك أن تأخذ بتصحيح الشيخ الألباني، وبتصحيح العراقي، أو غيرهم من العلماء، ولك أن تبحث، وهذا الذي أنصحك به، وأن تقف على الحقيقة بنفسك.
أما التقليد فتذهب إلى العالم ويقول لك: تفعل كذا وكذا، بدون دليل، فتصلي كما صلى مالك، أو تصلي كما صلى ابن حنبل، أو كما صلى الشافعي، أو كما صلى الشيخ المعاصر، والشيخ المعاصر لم يقل: سأصف لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما إذا قال: سأصف لكم صلاة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو مستعد للمناقشة بعد أن ينتهي فلا بأس بذلك ولا يعد تقليدًا، فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم كان يعلّم بالقول والفعل، والتعليم بالفعل يرتسم في الذهن أكثر.
__________
(1) ? ... أي الطبعة الأولى منه، وهذه الأسئلة إنما أضيفت في هذه الطبعة.
(2) ? ... سورة الحجرات، الآية:6.(1/90)
لربما استخرج المستخرج على "الصحيحين" لفظةً ليست عنده، فهل يرجع فيها إلى النظر، أم تترك لاحتمال أنه تركها لعلّة عنده؟
بل لابد من النظر، هل هذه الزيادة التي زيدت في المستخرج هل الذي زادها يماثل من لم يزدها، أو هو أرجح ممن لم يزدها، فتقبل. أما إذا كان مرجوحًا فيتوقف فيها وترد.
إذا أورد ابن حبان رجلاً في "الثقات" فوثقه وأورد رجلاً آخر، ولم يوثقه فهل هما في مرتبة واحدة؟ وهل مراتب ابن حبان في التوثيق واحدة؟ بمعنى أن كل من ذكرهم عنده موثقون في توثيق واحد؟
يلتمس، هل وثّقه غيره ممن يعتد به -غير العجلي فإنه متساهل كما تساهل ابن حبان-؟ فإذا وثقه غير ابن حبان مثل: ابن أبي حاتم، أو البخاري، أو يحيى بن معين، أو غيرهم من الأئمة الذين ألّفوا في الرجال فيقبل مثل: يعقوب بن سفيان، ويعقوب بن شيبة، فمثل هؤلاء يقبل، وإذا تفرد هو بالتوثيق فقول: (ثقة) أرفع من مجرد ذكره في "الثقات"، لأنه قد ذكر في "الثقات" بعض الناس وقيل له من هو؟ فقال: لا أدري من هو ولا ابن من هو؟
ولكن أيحتج به إذا قال: (ثقة) أم نتوقف فيه؟، وإن كان المعلمي له تقسيم في "التنكيل" فقد قسم من وثقه ابن حبان إلى خمسة أقسام، إذا لم يوافقه أحد، أما نحن فنتوقف فيه لما علم من تساهل ابن حبان -رحمه الله- في توثيق المجهولين.
بالنسبة للعنعنة في "الصحيحين" ولم نجد لها التصريح بالسماع يقول فيها المزي -رحمه الله-: لا يسعنا إلا تحسين الظن، بصاحبي "الصحيحين"، فكيف نبني على هذا الظن؟ وما الذي أخرج "الصحيحين" عن قواعد المصطلح والجرح والتعديل؟
أخرجهما شروطهما، فشروطهما ليست كغيرهما، والحديث المدلّس يحتمل أنه قد صرح بالتحديث في مكان آخر، والإمام الدارقطني –رحمه الله- قد أجهد نفسه في التتبع لما أخطأ فيه الشيخان، فما بلغ الخطأ إلا نحو مائتي حديث، وبعضها لم يسلّم للدارقطني -رحمه الله تعالى- بأنّها منتقدة، على أن انتقادات الإمام الدارقطني اعتبرها العلماء.(1/91)
فقال ابن الصلاح في "المصطلح": إن أحاديث "الصحيحين" تفيد العلم اليقيني النظري إلا أحاديث يسيرة انتقدها الحفاظ كالدارقطني وغيره. فهم يعتبرون انتقاداته -رحمه الله-.
الذين هذّبوا كتب الرجال واختصروها هل كان عملهم مجرد الاختصار والتهذيب، أم هو قائم علىالترجيح في ألفاظ الجرح والتعديل بالنسبة للرجل؟
منهم من اختصر مجرد اختصار، وربما يذكر أقوالاً متناقضة ولا يلتفت إلى صحيحها من سقيمها، ومنهم من اختصر مع ملاحظة الأسانيد والمتون كما هو شأن الحافظ ابن حجر، وكذلك الحافظ الذهبي رحمهما الله. فهما يلاحظان متون الكلام الذي قيل عن أئمة الجرح والتعديل ويلاحظان السند فرب قصة يسكت عنها الحافظ الذهبي في "ميزان الاعتدال" ويتكلم عليها في "السير" أو يسكت عنها في "السير" ويتكلم عنها في "ميزان الإعتدال" أو يسكت عنها فيهما ويتكلم عليها في "تذكرة الحفاظ"، فهذا هو شأن بعض أهل العلم الذين اختصروا.
وعلى هذا فلا يقال: أن حذفهم الأسانيد يعتبر مخلاً، لأنّهم أرادوا أن يأتوا بفائدة مختصرة، فربما تمرّ بك في الترجمة الواحدة في "تهذيب التهذيب" أو "تهذيب الكمال" عدة مراجع ويقربون هذا لك بأوجز عبارة، على أنك إذا استطعت أن ترجع إلى الأصول فعلت ذلك، فربما اختصروا كلمةً وحذفوها ولها تعلّق بجرح أو تعديل، وربما ذكروا الكلام بالمعنى، ولو ذكر باللفظ لكان فيه زيادة أو نقص، فهذه هي نصيحة الشيخ عبدالرحمن المعلمي -رحمه الله- في "التنكيل" ونعم ما نصح به.
بالنسبة لكتاب "تقريب التهذيب" هل يستطيع أحد في هذا العصر أن يحققه ويخالف الحافظ ابن حجر فيه، علمًا بأنه ليس هناك حافظ في هذا العصر؟
أما وضع الكتاب فلا يستطيع أحد أن يضع مثله، لأنه جهود حافظ كبير، وإذا أشكلت علينا عبارات أهل العلم ولم نستطع الجمع والترجيح بينها رجعنا إلى عبارة الحافظ في "تقريب التهذيب".(1/92)
وأما الأخطاء التي وقعت للحافظ فلأنه جهد كبير، وبعضها أخطاء كبيرة جدًا حتى أن شيخنا محمد الأمين المصري -رحمه الله- طلب منا ونحن في الجامعة الإسلامية أن يكتب كل واحد منا في عشرة من كل حرف، وكان قد أعطاني مقبولين من حرف الهمزة، فرأيت أن بعضهم يستحق أن يقال فيه: مجهول العين، وبعضهم صدوق، وبعضهم ثقة، وليس لديّ من المراجع في ذلك إلا "تهذيب التهذيب"، فما ظنك لو راجع شخص جميع المصادر التي قد طبعت الآن.
فالانتقادات في موضعها، ومن ذلك الزمان، وأنا أتمنى أن ييسر الله بأخ يقوم بتعقبات للحافظ ابن حجر -رحمه الله- في هذا الكتاب القيم.
وأنا في بحوثي من ذلك الوقت إلى الآن أرجع إلى "تهذيب التهذيب"، ولا أرجع إلى "تقريب التهذيب" إلا إذا لم أستطع الجمع بين أقوالهم، فعندئذ أرجع إلى عبارة "التقريب" وأكتبها.
ما هو القول الفصل فيما رمي به الأئمة مثل: الحاكم، وعبدالرزاق بالتشيع؟ وهل ثبت أن عكرمة قال بالقدر؟
أما عبدالرزاق الصنعاني -رحمه الله- فقد دخل عليه شيء من التشيع، وقد قيل له: من أين لك هذا؟ مع أن أستاذيك أصحاب سنة؟ فقال: أتى إلينا جعفر بن سليمان الضبعي، وكان ذا هدي وسمت حسن فتأثرنا به فدخل علينا شيء من التشيع، ولم يبلغ به الحال إلى أن يتنقص الأئمة والخلفاء الراشدين والصحابة، بل هو سنيّ من أهل السنة.
وقد جاء في ترجمة عبدالرزاق أنه قال في كلام عمر أنه قال: لفاطمة: جئت تطلبين ميراثك من أبيك وقال للعباس: جئت تطلب ميراثك من ولد أخيك. فقال عبدالرزاق: أنظروا إلى هذا الأحمق لم يقل: جئت تطلبين ميراثك من رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.(1/93)
فينظر هل ثبت عن عبدالرزاق أم لم يثبت، فإن ثبت فهو يعتبر خطأ لا يجوز أن يتّبع عليه، وقد قال الإمام الذهبي: أن عمر تكلم بهذا الكلام بناءً على قسمة الفرائض أن شخصًا مات عن ابنة وعن عم، فما لكل واحد منهما؟ ولم يقصد أن يتنقص رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بأنه ليس نبيًا ولا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وأما الحاكم فقد جاء عنه بعض الانزواء وبعض الانحراف عن معاوية رضي الله عنه، وقد قال أبوطاهر عن عبدالله بن محمد الهروي أبي إسماعيل أنه قال: إمام في الحديث لكنه رافضي خبيث.
وقال أيضًا كما في "العلل المتناهية" لابن الجوزي وقد ذكر حديث الطير أو حديثًا غيره وذكر ابن الجوزي ما فيه من الضعف، ثم ساق بسنده إلى أبي طاهر المقدسي وهو محمد بن طاهر عن شيخه قال: لا يخلو الحاكم إما أن يكون جاهلاً فهذا لا يؤخذ عنه العلم وإما أن يكون كذابًا دساسًا، وهذا أيضًا لا يؤخذ عنه العلم.
والحق أنه لا يثبت لا ذا ولا ذاك، فالحاكم ليس بجاهل، عرفنا هذا من ترجمته، وعرف العلماء منْزلته الرفيعة كما في "سير أعلام النبلاء" وفي "تذكرة الحفاظ" وفي "الإرشاد" للخليلي، فهو إمام متفق على جلالته.
فالحاصل أن بهما شيئًا من التشيع لا يخرجهما إلى الرفض كما قال الحافظ الذهبي عند أن ذكر هذا الكلام عن أبي إسماعيل الهروي، قال: إن الله يحب الإنصاف ما الرجل برافضي ولكن به شيء من التشيع.
وقال المعلمي في "التنكيل" عندما ذكر كلام أبي إسماعيل الهروي: إمام في الحديث رافضيّ خبيث، قال المعلمي: لعل السجعة هي التي حملت قائلها إلى أن يقول ما قال. وما أشبهها بما كتب الصاحب بن عباد إلى قاض (بقم) -وهي بلدة كانت سنية ثم أصبحت رافضية- فكتب الصاحب بن عباد:
أيها القاضي بقم قد عزلناك فقم
فلما وصلت إلى القاضي تذكر ذنوبه ماهو الذي فعله؟ فلم يجد أنه أذنب ولا فعل شيئًا، فقال: والله ما عزلتني إلا السجعة.(1/94)
وأما عكرمة فقد رمي برأي الخوارج وليس بالقدر، فإن الذي رمي بالقدر هو قتادة، وقد دافع عن عكرمة الحافظ ابن حجر وبرّأه وذكر في "فتح الباري" في الكلام على سبب نزول قول الله تعالى: {إنّ الّذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنّا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنّم وساءت مصيرًا(1)} أنه قيل لعكرمة وقد سأله شخص: أأخرج مع هؤلاء الذين يخرجون؟ أي: للقتال، والقتال بين مسلمين، فقال له عكرمة: لا تخرج، ثم استدل بهذه الآية أي: لا تكثر سواد أهل الباطل ولا تخرج. قال: في هذا دليل على أن عكرمة لا يرى رأي الخوارج.
ذكر الشيخ عمرو بن عبدالمنعم في كتابه: "لا دفاعًا عن الألباني فحسب بل دفاعًا عن السلفية": أن ابن معين قد يطلق لفظة: (ثقة)، ولا يريد بها إلا إثبات صفة الصدق والعدالة للراوي فما تقولون؟
الأصل في (الثقة) أنّها توضع لمن اجتمع فيه الحفظ والعدالة، فإذا نص ابن معين على ذلك قبل عنه ذلك، وإلا فهذا هو الأصل في هذه اللفظة، إذا قالوا: (ثقة) بمعنى أنه حافظ وعدل، وأن حديثه ينبغي أن يصحح.
ماهو مقصود الحاكم -رحمه الله- بقوله: (على شرطهما) وقوله: (على شرط الشيخين)؟
__________
(1) ? ... سورة النساء، الآية:97.(1/95)
هما بمعنى واحد على شرطهما أو على شرط الشيخين، أي: البخاري ومسلم، والصحيح من أقوال أهل العلم أن المقصود بهذا هو أن رجال هذا السند هم رجال الشيخين، أو قال: على شرط البخاري، أن رجال هذا السند هم رجال البخاري، أو فيهم واحد من رجال البخاري فقط، والباقون متفق عليهما أو على شرط مسلم، كما يقول الحاكم في بعض الأوقات: على شرط مسلم فقد روى لسماك، أو على شرط البخاري فقد روى لعكرمة، أو صحيح فإن البخاري قد أخرج لعكرمة، ومسلم قد أخرج لسماك، وبعضهم يقول: إن معنى على شرطهما، أي: أن هذا الحديث قد توفرت فيه الشروط التي يشترطونها في "صحيح البخاري ومسلم"، وإن لم يكن رجاله رجالهما، وهذا ليس بصحيح فقد ذكرنا أمثلةً بحمد الله في مقدمة "المستدرك" متكاثرة، وذكر الحافظ ابن حجر مثالاً أو مثالين في "النكت"، قال: فإن قلت: إن الحاكم قد يقول: على شرطهما، ويوجد فيه رجل ليس من رجالهما، أو يوجد فيه رجل ضعيف، يقول الحافظ: فنعده من أوهام الحاكم المتكاثرة.
وهذا الذي قاله الحافظ كلام حق، فعرفنا من هذا أن قوله على شرطهما، أو على شرط الشيخين، أي: أن رجال هذا السند رجال الشيخين، كما قد صرح الحاكم بهذا في غير موضع.
قول يحيى بن سعيد القطان: كل من هو عاصم فهو ضعيف، هل هذه القاعدة على إطلاقها، وكيف نفعل بعاصم بن بهدلة؟
وهناك أقوى من عاصم بن بهدلة، عاصم بن سليمان الأحول، فلا تسلّم له هذه القاعدة.
عندنا حديث مرسل قد جاء من طريقين، فهل يقوى بهما أم له شروط؟
هذه مسألة اجتهادية والشافعي -رحمه الله- يقول: إن مرسلاً مع مرسل يرتقي إلى الحجية. ويشترط أيضًا ألا يتحد المخرج فمثل مرسل قتادة مع مرسل سعيد بن المسيب يحتمل أنّهما مرسل واحد، وأن قتادة رواه عن سعيد بن المسيب.
وإذا روى همام بن منبه وروى قتادة فهذا روى مرسلاً، وذاك روى مرسلاً، فهذا عند الإمام الشافعي يرتقي إلى الحجية، لأن همام ابن منبه يمنيّ وقتادة بصريّ، وهذا مجرد مثال.(1/96)
فهذه مسألة اجتهادية وليست بملزمة لأن مسألة التصحيح والتضعيف مبناهما على غلبة الظن.
يقول ابن معين -رحمه الله- في الرجل: ثقة، ثم يقول في موضع آخر: صدوق، فكيف نجمع بينهما؟
إن علم المتقدم من المتأخر من كلام يحيى بن معين فتأخذ بالمتأخر، وإن لم يعلم تنظر أسباب كلامه، فربما قال: ثقة، وقد قورن بضعيف، فهو ثقة بالنسبة إلى هذا الضعيف، وربما قال: صدوق وقد قورن بثقة أرفع منه فقال: صدوق، فتكون الإجابة كما ذكر صاحب "فتح المغيث" بحسب من قورن به، بحيث لو سئل يحيى بن معين عن الرجل بمفرده استقر رأيه على أنه صدوق أو أنه ثقة، فإذا لم يظهر لا هذا ولا ذاك، أخذت رتبة وسطى وهي: جيد، وقلت في حديثه: جيد، أو فلان جيد، فهي رتبة بين الحسن والصحة.
ماذا يقصد الإمام أحمد بلفظة: (منكر) في الحديث أو في الرجل؟
أما إذا قال في الحديث: (منكر) فهو محمول على النكارة وعلى التفرد، فقد يتفرد راو من بين سائر الرواة، وربما أطلق الإمام أحمد النكارة بمعنى التفرد، حتى ولو تفرد به راو ثقة وهو محتج به مثل قوله في محمد بن إبراهيم التيمي: روى مناكير، ومحمد بن إبراهيم التيمي هو حامل لواء حديث ((إنّما الأعمال بالنّيات وإنّما لكلّ أمرئ ما نوى)) فهو يرويه عن علقمة بن وقاص عن عمر بن الخطاب.
فربما يطلقها على الثقة وهو يعني أنه يتفرد بأحاديث، ولا يعني أنّها ترد، وهكذا الإمام النسائي -رحمه الله- وربما يطلقها على النكارة التي هي ضد المعروف، فإذا لم يظهر لا ذا ولا ذاك من تصرفه، حملت على النكارة التي هي ضد المعروف وتوقّف فيه.
لكن مثل قوله في محمد بن إبراهيم التيمي: يروي المناكير، ومن كان على شاكلة محمد بن إبراهيم التيمي فهو يعني أنه يتفرد ببعض الأحاديث، والتفرد لا شيء فيه إذا لم يخالف من هو أرجح منه.
قولهم في الرجل: متروك، هل هو جرح مفسّر؟(1/97)
الصحيح أنه جرح مفسر، لأنّهم يعنون بأنه متّهم بالكذب أو أوهامه أكثر من صوابه، وقد توسع بعضهم في غير المفسر فجعل منه كذابًا وقال: إنه جرح غير مفسر، كما قاله حسين السياغي، وكما نقله عن محمد بن إبراهيم الوزير من "تنقيح الأنظار"، وكما في "تدريب الراوي" (ج1 ص306) نقلاً عن الصيرفي.
ماهو القول الفصل في الحارث الأعور؟
لا يحتج بحديثه، فتلميذه الشعبي يقول: حدثنا الحارث الأعور وكان كذابًا، وأما قول من قال: إن ضعفه من أجل رأيه لا في روايته، فالصحيح أنه لا يحتج به، فهل احتج به البخاري، ومسلم، وابن حبان، وابن خزيمة، فلا يحتج بالحارث الأعور، ولا يصلح في الشواهد والمتابعات، وكذّاب جرح مفسر.
أيهما ترجّح على الآخر ابن خزيمة أم تلميذه ابن حبان لأن السيوطي في "التدريب" قدم ابن خزيمة، وشعيب الأرناؤوط نافح عن ابن حبان وقدمه؟
لا شك أن ابن خزيمة أرجح، وأن ابن حبان توسع في القاعدة وإن كان قد شارك شيخه في توثيق المجهولين.
"فصحيح ابن خزيمة" يعتبر أرجح من "صحيح ابن حبان".
بالنسبة لحديث الآحاد هل يفيد العلم، وهل تقبل قراءة القرآن بخبر الآحاد؟
أما تقسيم الحديث إلى آحاد ومتواتر، فهو تقسيم مبتدع، وأول من ابتدع هذا هو عبدالرحمن بن كيسان الأصم الذي قال فيه بعضهم: وهو عن الحق أصم. وتبعه على ذلك تلميذه إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم الشهير بابن علية، ووالده هو المشهور بابن علية وهو -أي والده إسماعيل- من مشايخ الإمام أحمد ومن رجال الشيخين، أما إبراهيم بن إسماعيل فجهميّ جلد، وأما ما جاء عن الشافعي أنه استعمل في "الرسالة" متواترًا فلعله أخذها عن أهل الكلام.(1/98)
فتقسيم الحديث إلى آحاد ومتواتر يهون من قيمة السنة المطهرة في نفوس كثير من الباحثين، وهو باب للشر قد فتح، فحالق اللحية يحلق لحيته وتريد أن تنصحه فيقول: أحاديث إعفاء اللحية أحاديث آحاد، والمصور يصور فتنصحه، ثم يقول: أحاديث تحريم الصور أحاديث آحاد. فقد فتحوا بابًا من أبواب الشر.
والصحيح أن الحديث إذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وجب قبوله، ونقول يجب قبوله ولا نقول: يجب العمل به، لأن العمل قد يكون واجبًا، وقد يكون محرمًا وقد يكون مكروهًا، وقد يكون مستحبًّا، وقد يكون مباحًا.
ولكننا نقول: يجب قبوله، إذا ثبت سنده، وسلم من العلة والشذوذ، ولا يضرنا أأفاد علمًا أم أفاد ظنًا، فالناس يختلفون في معرفتهم للرجال، ويختلفون في معرفتهم لأوهام الرجال، فقد يهم الحفاظ أمثال: شعبة بن الحجاج، وسفيان الثوري، وغير هذين الحافظين، وإنما مثّلت بهما لكونهما غاية في الإتقان.
فعلى هذا إذا ثبت سند الحديث وسلم من العلة والشذوذ وجب قبوله، سواء أفاد علمًا أم أفاد ظنًا.
وأبومحمد بن حزم يقول: إنه يفيد علمًا، واستدل بقوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} والصنعاني في تعليقه على "المحلى" عند كلام أبي محمد بن حزم المتقدم يقول: إنه يفيد ظنًّا، واستدل بحديث ((لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ بالله عزّ وجلّ)) وليس كل الظن ممقوتًا، لأن ابن حزم -رحمه الله- استدل بقوله تعالى: {إن يتّبعون إلاّ الظّنّ وإنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئًا(1)}.
فقال الصنعاني: إن المراد بالظن ههنا: الذي هو بمعنى الشك، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: (( لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ بالله عزّ وجلّ?)).
ويقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((إذا شكّ أحدكم في صلاته فليتحرّ الصّواب))، أي: مبناها على التحري وهي من أشرف العبادات.
__________
(1) ? ... سورة النجم، الآية:28.(1/99)
ويقول أيضًا في شأن بيان العمل بالظن: ((إنّكم تختصمون إليّ، ولعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فمن قضيت له بحقّ أخيه شيئًا، فإنّما أقطع له قطعةً من النّار)).
شاهدنا من هذا أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قد يحكم بغير العلم، ويحكم بالظن، ويجوز أن يكون في حكمه مصيبًا وأن يكون مخطئًا.
ما حكم من يغلط في ضبط الحديث مثل ما ذكره الخطابي -رحمه الله- في غلط المحدثين في حديث ذي اليدين فقال: سرعان، وسرْعان، وسرْعان الناس، ونحن كطلبة علم ربما قرأنا الحديث فربما أخطأنا فيه فما حكم ذلك؟
الواجب هو التحري أما المعروف والذي رجّحه الخطابي فهو: سرعان.
وهذا لا يدخل في حكم الكذب على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أو الوعيد على الكذب، لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار)).
وقد جاء عن الأصمعي وهو عبدالملك بن قريب أن الذي يلحن يتناوله أو يخشى عليه قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ((من كذب عليّ متعمّدًا فليتبوّأ مقعده من النّار)).
ولكن الصحيح أن الذي يلحن أو يصحّف غير متعمد فلا يشمله الوعيد، لكن الواجب عليه أن يتعلّم وأن يصلح لسانه.
ما حال حديث: ((يحمل هذا العلم من كلّ خلف عدوله))؟
الذي يظهر أنه مرسل من مراسيل إبراهيم العذري، وجاء من طرق أخرى لا ترتقي إلى الحجية، وجاء عن الإمام أحمد أنه يقول: إنه صحيح، وقد خولف الإمام أحمد -رحمه الله-، ثم لو صح فهو على الأمر لا على الإخبار، بمعنى: ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله. قال بهذا بعض أهل العلم.
وقد استدل ابن عبدالبر بهذا الحديث على أن حملة العلم أو المحدثين عدول، وهذا مخالف لما جاء في تراجم المحدثين، فمثلاً سليمان ابن داود الشاذكوني أبوأيوب وكان حافظًا، جاء عنه أنه كان يشرب الخمر، وقال فيه الإمام البخاري: إنه أضعف من كل ضعيف.(1/100)
وكذلك محمد بن عمر الجعابي نقل عنه أنه كان لا يصلي، فالواقع يخالف ما قاله ابن عبدالبر -رحمه الله-: أن حملة علم الحديث كلهم ثقات.
وعندنا بحمد الله "ميزان الاعتدال"، والإمام الشافعي –رحمه الله- يقول: من روى عن البياضي بيض الله عيونه.
ويقول أيضًا في حرام بن عثمان: الرواية عن حرام بن عثمان، حرام.
وما أكثر المحدثين الذين يعتبرون من حملة الحديث ومن حفاظه الكبار، ومع ذلك فهم مضعّفون مثل: أحمد بن محمد بن سعيد الشهير بابن عقدة، فهو حافظ كبير أمثاله قليل في الحفظ من معاصريه، ومع هذا فهو ضعيف.
((أربعة من العرب: هود، وصالح، وشعيب، ونبيّك يا أبا ذرّ))، هل هذا حديث وإن كان حديثًا فما حاله؟
هو حديث، لكنه ضعيف، فيه إبراهيم بن هشام بن يحيى ابن يحيى الغساني وقد كذّبه أبوحاتم، وأبوزرعة، كما في "الميزان".
ما صحة نسبة كتاب "الروح" للإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-؟
هو صحيح، والعلماء يثبتونه، وقد حصلت له أخطاء فيه لا ينبغي أن يتابع عليها، وبعضهم يقول: لعله ألّفه قبل أن يثبت عقيدته.
وآخرون يقولون: لعله ألّفه قبل أن يجالس شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنه ينقل في هذا الكتاب عن شيخ الإسلام ابن تيمية، فهذا دليل على أنه كان يجالسه، وعلى كلّ فيتوقف فيما يرى مخالفًا لأصول الشرع والأحاديث الصحيحة.
أسئلة متفرقة في المصطلح
ما سبب اختلاف العلماء في زيادة الثقة؟ وما الراجح في ذلك؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وبعد:
فسبب اختلاف العلماء، اختلاف تصرف جهابذتهم الكبار، فليس لهم قانون متّبع في زيادة الثقة، فرب زيادة ثقة يقبلونها، ويردون مماثلةً لها في ذلك السند نفسه، أو ما يماثل ذلك السند نفسه.(1/101)
والسبب في هذا أن العلماء المتقدمين حفاظ، يحفظون رواية الشيخ، ورواية طلبته، ورواية شيخه، ولا أقصد الرواية الواحدة، بل يحفظون كم روى الشيخ، وكم روى التلميذ، وكم روى تلميذ التلميذ، فإذا زاد واحد منهم زيادة وهم يعلمون أنّها ليست من حديث ذلك الشيخ حكموا عليها بأنّها غير مقبولة، وإذا تفرد واحد منهم بزيادة وهم قد عرفوا أنّها من رواية ذلك الشيخ فإنّهم يقبلونها، أما إذا اختلف حفاظ الحديث في شأن زيادة الثقة أتقبل أم لا؟ فإنا نرجع إلى الترجيح، وهو أن تقارن بين الرواة، ثم تجعل المرجوح شاذًّا، والراجح محفوظًا، وتأخذ بالمحفوظ، وهكذا إذا وجدت زيادة ثقة ولم تجد للعلماء المتقدمين فيها كلامًا لا تصحيحًا ولا تضعيفًا ترجع إلى تعريف الإمام الشافعي في الشاذ، أن الشاذ: مخالفة الثقة لمن هو أوثق منه، وتقارن بين الصفات وبين العدد، فربّ شخص يعدل خمسة، فلا تقارن بين العدد فقط.
مثل يحيى بن سعيد القطان، أو سفيان بن سعيد الثوري لو خالفه اثنان أو ثلاثة ممكن أن تجعل الحديث مرويًّا على الوجهين، وقد قال الدارقطني في "التتبع" بعد أن ذكر جماعةً خالفوا يحيى بن سعيد القطان يرويه عن عبيدالله عن سعيد المقبري عن أبيه عن أبي هريرة.
وجماعة يروونه عن عبيدالله عن سعيد عن أبي هريرة.
فيحيى بن سعيد تفرد بزيادة عن أبيه. ثم بعد أن ذكر الدارقطني الجمع الكثير الذين يخالفون يحيى بن سعيد قال: ولعل الحديث روي على الوجهين، فقد هاب الدارقطني أن يقول: إن يحيى بن سعيد شاذ.
إذا تساوت الصفتان يحمل على أن الحديث روي على الوجهين وأنصح أن يرجع إلى ما ذكره الحافظ ابن رجب في شرحه "علل الحديث للترمذي" و"توضيح الأفكار" للصنعاني وما كتبته في "الإلزامات والتتبع".
ما الفرق بين الشهادة والرواية؟(1/102)
سيأتي بعض ذلك في كلام الخطيب -رحمه الله- ص (189)، وقد ذكر الإمام الشافعي -رحمه الله- ص (161) إلى (172) ومن جملة ما ذكره: أن الرواية قد يتحرى فيها ما لا يتحرى في الشهادة، بألا يقبل إلا من ثقة حافظ عالم بما يحيل المعنى. اهـ المراد منه.
وقد أتى السيوطي -رحمه الله- بخلاصة ما يجتمعان فيه، وما يختلفان، فقال -رحمه الله تعالى- في "التدريب" ص(222): فائدة ثم ذكرها. وبعضها عليه دليل، وبعضها لا دليل عليه. ومن أجل هذا لم أنقلها.
فأنصح الأخ السائل بمراجعة كتب المحدثين، فإن فيها ما يحتاج إليه الباحث، وإذا ثبتت سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم استسلم لها واتّهم نفسه. وفق الله الجميع لما يحب ويرضى.
إذا قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، هل يكون الرجال هم الذين في البخاري ومسلم؟ أم ليسوا في البخاري ومسلم؟
هذا هو الذي ينبغي أن يفهم منه، أن قوله: على شرط الشيخين، معناه: أن رجاله رجال الشيخين. وقد يهم الحاكم، ويكون في السند من ليس من رجال الشيخين، أو هو من رجال أحدهما، وقد يهم ويكون في السند من هو كذاب أو وضّاع.
وربما يتساهل الحاكم ويقول في حديث من طريق محمد بن إسحاق: صحيح على شرط مسلم، ومن طريق سماك عن عكرمة صحيح على شرط مسلم، مع أن رواية سماك عن عكرمة مضطربة ويأتي بأناس روى لهم البخاري في المتابعات ويقول: صحيح على شرط البخاري، أو روى لهم مسلم في الشواهد والمتابعات، ويقول: صحيح على شرط مسلم، على أن البخاري ومسلم ربما ينتقيان لبعض المشايخ، فمثل هشيم عن الزهري لا يقال: صحيح على شرط البخاري ومسلم، مع أن البخاري ومسلمًا قد رويا لهشيم، ورويا للزهري، لكن لم يرويا بهذه السلسلة، ولعلهما رويا قدر أربعة أحاديث، يقولون: الذي حفظه هشيم عن الزهري قدر أربعة أحاديث.(1/103)
من أجل هذا فنحن ننصح الإخوة في شأن "مستدرك الحاكم" أن ينظروا السند، وأن يبحثوا عنه رجلاً رجلاً، وما أحوجه إلى من يحققه ويخرّج أحاديثه، فإنه لا يزال محتاجًا إلى خدمة.
أما أنا فالذي أعمله هو تتبع مثل هذا الذي تقدم، فربما يقول: صحيح على شرط الشيخين، ويكون قد أخرجه أحدهما، أو يقول: صحيح على شرط البخاري، وفي السند من ليس من رجال البخاري، أو صحيح على شرط مسلم، وفي السند من ليس من رجال مسلم، أو صحيح الإسناد، ويكون من طريق درّاج عن أبي الهيثم، ودرّاج منهم من يضعّف حديثه مطلقًا، ومنهم من يضعّفه في أبي الهيثم، وربما يكون في السند من هو كذّاب فأنا أتتبّع هذا، والله المستعان.
ولكن ينبغي أن يعلم أنني الآن قد كتبت نحو ألفين وما أراها شيئًا بالنسبة إلى ما بقي فيه. فهو محتاج إلى جهود وعناية، يسر الله ذلك إنه على كل شيء قدير.(1)
وسأذكر إن شاء الله في مقدمة "الصحيح المسند مما ليس في الصحيحين" جملة من أوهام الحاكم -رحمه الله- الفاحشة، وإنكار الذهبي عليه، يسر الله ذلك إنه على كل شيء قدير.?
هذا، ومما ينبغي أن يعلم أن سكوت الحافظ الذهبي على بعض الأحاديث التى يصحّحها الحاكم وهي ضعيفة لا يعد تقريرًا للحاكم، بل الذي ينبغي أن يقول الكاتب: صححه الحاكم، وسكت عليه الذهبي. لأمور، منها: أن الذهبي -رحمه الله- لم يذكر في مقدمة تلخيصه (ما سكتّ عليه فأنا مقرّ للحاكم).
ومنها: أنه ذكر في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الحاكم أن كتابه التلخيص محتاج إلى نظر.
ومنها: أن الحاكم قد يقول: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، أو صحيح على شرط أحدهما، أو صحيح ولم يخرجاه، ويكون في سنده من قال الذهبي في "الميزان": إنه كذّاب أو ضعيف وربما يذكر الحديث في ترجمته من "الميزان".
__________
(1) ? ... وقد طبع والحمد لله.(1/104)
فعلى هذا فلا تقل: (صحّحه الحاكم وأقره الذهبي)، بل تقول: (صححه الحاكم وسكت عنه الذهبي)، على أني وقعت في كثير من هذا قبل أن أتنبّه لهذا، والحمد لله، ونسأله المزيد من فضله، إنه على كل شيء قدير.
هل يعمل بالحديث الضعيف؟
الحديث الضعيف لسنا متعبّدين به على الصحيح من أقوال أهل العلم، لأن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {ولا تقف ما ليس لك به علم(1)} فنحن نأخذ ديننا بتثبّت. والعلماء الذين فصلوا بين الحديث الضعيف في فضائل الأعمال وبينه في الأحكام والعقائد، يقول الإمام الشوكاني -رحمه الله تعالى- في كتابه "الفوائد المجموعة": إنه شرع، ومن ادعى التفصيل فعليه البرهان. والأمر كما يقول الشوكاني -رحمه الله تعالى- والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: ((من حدّث عنّي بحديث يرى أنّه كذب، فهو أحد الكاذبين)).
فالحديث الضعيف لا يحتاج إليه، وفي كتاب الله وفي الصحيح من سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ما يغني عن الضعيف. ثم إن هؤلاء الذين يقولون: يعمل به -خصوصًا من العصريين- تجده لا يعرف الحديث الضعيف، ولا يدرى لماذا ضعّف؟ أضعّف لأن في سنده سيء الحفظ؟ أم لأن في سنده كذابًا؟ أم لأن في سنده صدوقاً يخطئ كثيرًا...إلخ؟ فتجده يأخذ الأحاديث الضعيفة ويقول: يعمل به في فضائل الأعمال، والذين أجازوا العمل بالضعيف اشترطوا شروطاً:
لا بد أن يكون مندرجًا تحت أصل، كأن يأتي حديث في فضل ركعتي الضحى ويكون ضعيفًا، وقد وردت أحاديث كثيرة في فضلها وقد ورد القرآن بالترغيب في الصلاة من حيث هي. وأيضًا سنة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: أسألك مرافقتك في الجنّة، قال: ((أو غير ذلك))؟ قلت: هو ذاك، قال: ((فأعنّي على نفسك بكثرة السّجود)).
__________
(1) ? ... سورة الإسراء، الآية:36.(1/105)
ألا يشتد ضعفه، أي: لا يكون في سنده من قيل فيه: ضعيف جدًا، أو قيل فيه: إنه كذاب، أو قيل فيه: إنه متروك، وهذا الشرط لا يعرفه إلا المحدثون.
أن يعمل به في خاصة نفسه.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه. وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد: فقد وصل إليّ سؤال يتضمن طلب الإفادة في قبول المحدثين رواية المرأة، والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممّن ترضون من الشّهداء أن تضلّ إحداهما فتذكّر إحداهما الأخرى(1)}
والله الموفق للخير والصواب: إن هذه المسألة بحمد الله قد بيّن أهل المصطلح رحمهم الله شأنها، فقال الخطيب رحمه الله في "الكفاية" ص (58): باب ذكر ما يستوي فيه المحدث والشاهد، ثم ساق بسنده إلى أبي الطيب -رحمه الله- أنه لا خلاف في قبول خبر من توفرت فيه صفات الشاهد في الحقوق: من الإسلام، والبلوغ، والعقل، والضبط، والصدق، والأمانة، والعدالة، إلى ما شاكل ذلك.
ولا خلاف أيضًا في وجوب اتفاق المخبر والشاهد في العقل، والتيقظ, والذكر.
فأما ما يفترقان فيه: فوجوب كون الشاهد حراً، وغير والد، ولا مولود، ولا قريب قرابة تؤدي إلى ظنّة، وغير صديق ملاطف، وكونه رجلاً إذا كان في بعض الشهادات، وأن يكونا اثنين في بعض الشهادات، وأربعة في بعضها، وكل ذلك غير معتبر في المخبر لأننا نقبل خبر العبد، والمرأة، والصديق، وغيره ثم ذكر حديث: ((لا تكتبوا العلم إلاّ عمّن تجوز شهادته)) ثم ذكر أنه لا يثبت، لأنه من طريق صالح بن حسان، وقد ترك نقاد الحديث الاحتجاج به.
__________
(1) ? ... سورة البقرة، الآية:282.(1/106)
قال أبوعبدالرحمن: ويمكن أن يستدل بما جاء عن عمر, أنه قال في حديث فاطمة بنت قيس الذي فيه: أنّ زوجها طلّقها طلاقًا بائنًا وأنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لها: ((ليس لك نفقة ولا سكنى)) فقال عمر: لا ندع كتاب ربّنا لقول امرأة لعلّها نسيت. ويجاب عنه بأنّها لم تنس، بل عمر رضي الله عنه لم تبلغه هذه السنة.
ثم قال الخطيب رحمه الله ص (162): باب ما جاء في كون المعدّل امرأةً أو عبدًا أو صبيًّا. وذكر سؤال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بريرة عن عائشة: ((هل علمْت على عائشة شيئًا يريبك، أو رأيت شيئًا تكرهينه))؟ قالت: أحمي سمعي وبصري.. عائشة أطيب من طيب الذّهب.
قال أبوعبدالرحمن: هكذا هذه الرواية. وفي "الصحيح": ما رأيت عليها أمرًا قطّ أغمصه، غير أنّها جارية حديثة السّنّ تنام عن عجين أهلها، فتأتي الدّاجن فتأكله. اهـ المراد من "الكفاية".
وهناك أدلة تدل على قبول رواية المرأة التي توفرت فيها شروط القبول من إسلام، وبلوغ، وعدالة، وضبط، كما تقدم في شروط الرجال، منها:
قوله تعالى: {ياأيّها الّذين ءامنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبيّنوا(1)} مفهوم الآية: أنه إذا جاءنا العدل نأخذ به. والعدل يشمل الذكر والأنثى، إذ الأصل عموم التشريع.
يدل على ذلك تصديق موسى، إذ قالت له ابنة الرجل الصالح: {إنّ أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا(2)}.
وتصديق الرجل الصالح، لابنته حيث قالت: {ياأبت استأجره إنّ خير من استأجرت القويّ الأمين(3)}.
قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعائشة: ((مري أبا بكر فليصلّ للنّاس))، ولو كان خبرها غير كاف لأرسل معها من يعززها.
إقراره صلى الله عليه وعلى آله وسلم عائشة، إذ تعلم المرأة كيف تزيل أثر الحيض. والحديثان في "الصحيح".
__________
(1) ? ... سورة الحجرات، الآية:6.
(2) ? ... سورة القصص، الآية:25.
(3) ? ... سورة القصص، الآية:26.(1/107)
ما رواه أبوداود (ج4 ص215) والإمام أحمد (ج6 ص37) عن الشفاء رضي الله عنها قالت: دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأنا عند حفصة فقال لي: ((ألا تعلّمين هذه رقية النّملة(1)، كما علّمتيها الكتابة))؟ سنده حسن.
وأخرجه أحمد (ج6 ص286) من حديث حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها. وسنده صحيح.
في "صحيح مسلم" (ج2 ص779)، أن عمر بن أبي سلمة سأل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن القبلة للصائم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((سل هذه)) لأم سلمة فأخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يفعل ذلك. الحديث.
قال البخاري -رحمه الله تعالى- (ج13 ص243): باب خبر المرأة. حدّثنا محمّد بن الوليد، حدّثنا محمّد بن جعفر، حدّثنا شعبة، عن توبة العنبريّ قال: قال لي الشّعبيّ: أرأيت حديث الحسن عن النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقاعدت ابن عمر قريبًا من سنتين، أو سنة ونصف، فلم أسمعه يحدّث عن صلى الله عليه وعلى آله وسلم غير هذا، قال: كان ناس من أصحاب النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيهم سعد، فذهبوا يأكلون من لحم فنادتْهم امرأة من بعض أزواج النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إنّه لحم ضبّ، فأمسكوا، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كلوا، أو اطعموا، فإنّه حلال -أو قال:- لا بأس به -شكّ فيه- ولكنّه ليس من طعامي)).
حديث عقبة بن الحارث: أنّه تزوّج ابنةً لأبي إهاب بن عزيز، فأتته امرأة فقالت: إنّي قد أرضعت عقبة والّتي تزوّج، فقال لها عقبة: ما أعلم أنّك أرضعتني، ولا أخبرتني، فركب إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمدينة فسأله، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((كيف وقد قيل))، ففارقها عقبة.
__________
(1) ? ... النملة: قروح تخرج في الجنبين. ويقال: إنّها تخرج أيضًا في غير الجنب، ترقى فتذهب بإذن الله.(1/108)
سواء أكان هذا من قبيل الشهادة، أم من قبيل الإخبار، إذ قد قبل رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم خبرها، وأمره بفراق امرأته.
ففي هذه الأدلة دليل على قبول خبر المرأة، ويجب أن تكون من وراء حجاب لحديث: ((المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشّيطان)) رواه الترمذي من حديث ابن مسعود.
ولا يجوز لها أن ترقّق صوتها لقوله تعالى: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الّذي في قلبه مرض(1)}.
وليس هذا من تقديم قول أئمة الجرح والتعديل -رحمهم الله- على كتاب الله، فإنّهم لا يذكرون اصطلاحاتهم في الغالب إلا بأدلة، كما في كتاب العلم من "صحيح البخاري"، ومقدمة "الضعفاء والمجروحين" لابن حبان، وأوائل كتاب "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم، "وإحكام الأحكام" لأبي محمد بن حزم -رحمهم الله-.
ماذا تعرفون عن هذا الحديث: ((لعن الله امرأةً رفعت صوتها ولو بذكر الله))؟
الحديث لا يثبت، ورب العزة يقول في كتابه الكريم: {وقلن قولاً معروفًا} ويقول في كتابه الكريم: {فلا تخضعن بالقول فيطمع الّذي في قلبه مرض} فلو قالت المرأة بصوت خشن: سبحان الله، الله أكبر، وذكرت الله سبحانه وتعالى فلا شيء في هذا إن شاء الله.
عندي كتاب "بلوغ المرام" ومعتمد عليه، فهل هو قويّ أم ضعيف؟
نعم الكتاب، "بلوغ المرام" من أحسن الكتب للحافظ ابن حجر - رحمه الله تعالى - فقد حكم على غالب أسانيده بالصحة، أو الضعف أو الحسن أو النكارة، فهو كتاب قيّم، وليس معنى هذا أنه لا يوجد فيه حديث ضعيف، لكن إذا عملت به فأنت إن شاء الله على خير. وقد اهتم العلماء بالكتاب فقام بشرحه غير واحد ومن أحسنها "سبل السلام".
أخبرونا عن صحة هذه الأحاديث: (1) ((إذا رأيتم الرّجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان)). (2) ((من كنت مولاه فعليّ مولاه))
__________
(1) ? ... سورة الأحزاب، الآية:32.(1/109)
أما ((إذا رأيتم الرّجل يعتاد المسجد، فاشهدوا له بالإيمان)) فرواه الترمذي والحاكم. روياه من طريق درّاج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ودرّاج ضعيف، هذا الحديث صححه الحاكم، وقال: صحيح الإسناد، فتعقبه الذهبي فقال: فيه دراج وهو ذو مناكير، هذا في (كتاب الصلاة)، ثم ذكره الحاكم في (التفسير) في سورة التوبة، وقال: صحيح الإسناد، وسكت الذهبي على هذا، فلا أدري هل اعتمد على ما تقدم أم سها، فدراج لا يعتمد عليه خصوصًا في روايته عن أبي الهيثم.
الحديث الثاني: ((من كنت مولاه فعليّ مولاه)) حديث صحيح، رواه الترمذي وغيره وقد ساق الشيخ ناصر الدين الألباني -حفطه الله تعالى- طرقه المتكاثرة فى "السلسلة الصحيحة" ولكن فهمته الشيعة فهمًا باطلاً، فهموا أنّ عليًا أحق بالخلافة، ونشأ عن هذا تخطئة أبي بكر وعمر وتخطئة الصحابة كلهم.
والإمام الشافعي والإمام الطحاوي وغيرهما يقولون فى هذا الحديث: إنه ولاء الإسلام، بمعنى قول الله عز وجل: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض(1)} هكذا يقول الإمام الشافعي، والإمام الطحاوي وغيرهما، أما صاحب "نصب الراية" وهكذا فيما يظهر شيخ الإسلام ابن تيمية فإنّهما حكما على الحديث بالضعف ولا مجال لتضعيفه فهو مرويّ من طرق كثيرة متكاثرة لا يستطاع أن يحكم عليه بالضعف. والله المستعان.
نرجو أن ترشدونا إلى كتاب فيه أحاديث صحيحة وإلى كتاب فيه معرفة الأحاديث الضعيفة؟
__________
(1) ? ... سورة التوبة، الآية:71.(1/110)
سؤال حسن. كنت أحب أن أعرف المستوى العلمي للسائل، ولكن إذا كان مبتدئًا فأنصحه "برياض الصالحين"، وإن كان قد ارتفع قليلاً كذلك مع "رياض الصالحين": "اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان" فإن كان قد ارتفع قليلاً فننصحه باقتناء "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم" و"تفسير ابن كثير"، ومن الكتب القيمة التى لا يستغني عنها مسلم، كتاب: "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" كتاب "التوحيد" للشيخ محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله تعالى- و"فتح المجيد" لأحد أحفاده.
أنت تأخذ الحق ممن جاءك، النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقر الشيطان على كلمة الحق، لما قال الشيطان لأبي هريرة: ((إنّك إذا قرأت آية الكرسيّ عند نومك لا يقربك شيطان)) قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((لقد صدقك وهو كذوب)) وفى "سنن النسائي" بسند صحيح عن قتيلة امرأة من جهينة أنّ يهوديًّا أتى النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: إنّكم تندّدون، وإنّكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة، فأمرهم النّبيّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: وربّ الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثمّ شئت.
فالمسلم يقبل الحق ممن جاء به. والشيخ محمد بن عبدالوهاب هو عالم من علماء المسلمين يصيب ويخطئ.
الدين ليس فيه محاباة، الآن تحكمت الأهواء في الدين وأصبح اليمني لا يثق إلا باليمني. والنجدي لا يثق إلا بالنجدي، والمصري لا يثق إلا بالمصري. بخلاف ما عليه علماؤنا المتقدمون، فقد رحل العلماء إلى عبدالرزاق الصنعاني من بغداد، ومن نيسابور، ومن مصر، ومن مكة، ومن جميع البلاد الإسلامية، حتى قيل: إنه لم يرحل إلى عالم أكثر مما رحل إلى عبدالرزاق الصنعاني.(1/111)