1733 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَال أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي حَبِيبٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ أَبَا الخَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلى بَيْتِ اللهِ وَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لهَا النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَال صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ لتَمْشِ وَلتَرْكَبْ قَال وَكَانَ أَبُو الخَيْرِ لا يُفَارِقُ عُقْبَةَ .
قَال أبو عَبْد اللهِ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَيُّوبَ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي الخَيْرِ عَنْ عُقْبَةَ فَذَكَرَ الحَدِيثَ(1)
بِسْمِ اللهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحِيم
كِتَابُ فَضَائِل المَدِينَةِ
1 ـ بَاب حَرَمِ المَدِينَةِ
__________
(1) الشاهد من هذا الحديث ( فلتمشي وتركب ) يعني تمشي حتى تتعب ثم تركب ، ولم يذكر عليها الكفارة ، وهذا مطابق للقاعدة العامة (اتقوا الله ما استطعتم) أما من ترك المشي نهائياً فعلى الحديث الأول يُكفر كفارة يمين ، وأما إذا كان يمشي كلما تعب ركب ، كلما تليَّن نزل ومشى فهذا أتى بما يقدر عليه .
سؤال : إن نذر رجل معصية وهو يعلم أن الوفاء بها محرم ثم تاب بعد ذلك هل يلزمه كفارة ؟
الجواب : نعم يلزمه كفارة يمين .(246/40)
1734 حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا ثَابِتُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ الأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ رَضِي الله عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال المَدِينَةُ حَرَمٌ مِنْ كَذَا إِلى كَذَا لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا وَلا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ(1)
__________
(1) المدينة هي مهاجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وهي أطهر البقاع بعد مكة ، وهي مثوى الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومكة مولده ، فولد في مكة ودُفن في المدينة . ولها فضائل عظيمة منها :
سماها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم طيبة وطابا ، ولها أسماء وتُسمى المدينة النبوية ، هكذا وصفها في الكتب السابقة ، ثم طرأ هذا اللفظ الأخير المدينة المنورة ، والظاهر أنه وجد في زمن الخلافة العثمانية ، ولكن هذا غلط لأن وصفها بالنبوية أخص من وصفها بالمنورة إذ أن كل مدينة دخلها الإسلام فقد استنارت بالإسلام ، كما قال عز وجل : { وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً } فمن استنار بالقرآن ......... ، لكن النبوية لا يمكن أن يشاركها أحد في هذا الوصف . ولهذا بدء والحمد لله كثير من الناس اليوم يقول المدينة النبوية ، وهذا هو الأفضل بلا شك .
المدينة ـ يقول في هذا الحديث ـ ( حرم من كذا إلى كذا ) لكن هذه الحرمة أقل بكثير من حرمة حرم مكة حتى إن بعض العلماء قال ليس لها حرم ، ولكن الصواب أن لها حرماً ولكن حرمته أقل من حرم مكة ، وقوله : ( من كذا إلى كذا ) هذا الإبهام من الراوي وإلا النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لابد أن يُعين ؛ لأن عليه صلى الله عليه وسلم ومنه صلى الله عليه وسلم البلاغ المبين . و( من كذا إلى كذا ) ما هي بيان ، لكن كأن الراوي نسي وقال من كذا إلى كذا . ولا حرج على الإنسان إذا نسي أن يُكني عن ما نسيه بكذا وكذا .
ثم ذكر المحرمية فقال : ( لا يُقْطَعُ شَجَرُهَا ) لكن يستثنى منه ما كان الناس محتاجون إليه لأجل الفلاحة ، كالذي بالأعضاء والخشب وما أشبه ذلك فإنه جائز ، ثم هل في قطعه فدية ؟ الجواب : لا .. ليس في قطعه فدية بخلاف قطع الشجر في مكة فإن كثيراً من العلماء يقول إن فيه فدية ، ولكن السنة لم تأت بهذا لا في مكة ولا في المدينة . ولكن أيهما أعظم قطع الشجر في مكة أو في المدينة ؟ في مكة .
ثم قال : ( وَلا يُحْدَثُ فِيهَا حَدَثٌ ) المراد بالحدث هنا حدث الدين ، لا يُحدث فيها حدث لأنها مقر النبوة ومهاجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكيف يُحدث فيها حدث ؟ ولهذا كان إظهار البدع في المدينة أعظم من إظهاره في غيرها ، ولعل الحدث يشمل ما هو أشد مثل انتهاك حرمتها بقتل رجالها أو نسائها أو الذي بداخلها ، يعني يشمل هذا وهذا . يقول : ( فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) هذا خبر من عند النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أن الله يلعنه والملائكة والناس أجمعين ، فكل من سمع بفعله سوف يلعنه .(246/41)
1735 حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُالوَارِثِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ رَضِي الله عَنْه قَدِمَ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ المَدِينَةَ وَأَمَرَ بِبِنَاءِ المَسْجِدِ فَقَال يَا بَنِي النَّجَّارِ ثَامِنُونِي فَقَالُوا لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا إِلى اللهِ فَأَمَرَ بِقُبُورِ المُشْرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالخِرَبِ فَسُوِّيَتْ وَبِالنَّخْل فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْل قِبْلةَ المَسْجِدِ(1)
__________
(1) هذا فيه أيضاً من الفوائد أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أول ما بدأ ببناء المسجد ، فيؤخذ منه أنه يجب على الذين يخططون المساكن في بلاد الإسلام أن يضعوا المكان للمسجد قبل كل شيء ، وبهذا نعرف ضلال من يخططون المدن الإسلامية ثم تأتي الحي كاملاً ليس فيه مسجد ؛ لأن هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولأنه يؤدي إلى ضياع صلاة الجماعة ؛ لأنه إذا كان الحي خالياً من المساجد فإن الناس لن يذهبوا إلى أحياء بعيدة .
ومنها اهتمام النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالمساجد ، ومنها جواز نبش قبور المشركين ونقلها لمكان آخر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بالقبور فنُبشت ، ومنها أنه لا تجوز الصلاة في محل القبور ، لماذا ؟ قال بعض العلماء : لأنه يُخشى أن يكون التراب قد اختلط بصديد الموتى . فنقول : سبحان الله ، إذا كان الميت مدفوناً في تراب والقبر عميق كيف يكون ؟ فقال بعضهم منفصلاً عن هذا الذي قال المراد المقبرة التي قد نُبشت ثم أعيد الدفن فيها لأنها إذا نُبشت ربما أخرجوا التراب الذي في الأسفل الذي يباشر الميت ويكون متلوثاً بالصديد . فنقول لهذا : كلامك هذا خلاف النص، ثم هل صديد الميت نجس ؟ الجواب ؟ لا .. ليس بنجس، المؤمن لا ينجس حياً ولا ميتاً . ولهذا كان القول الراجح أن دم الإنسان الذي لا يخرج من القبل أو الدبر طاهر ، لا يجب غسله ولا التنزه منه إلا على سبيل النظافة فيُندب للإنسان أن لا يبقى الدم على جسده أو ثوبه أو ما أشبه ذلك لأن الوجوه تتقزز من هذا . ولهذا قامت فاطمة رضي الله عنها تغسل وجه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم أحد حين شُج في وجهه وجعل الدم يسيل فجعلت تغسله ، تنظيفاً وإلا فالمؤمن لا ينجس . وإذا كان العضو إذا قُطع من الإنسان فهو طاهر فكيف بالدم ؟ الدم أهون ، وليس هناك إجماع ـ كما ادعاه بعضهم ـ على نجاسة دم الآدمي .
إذاً ما هي العلة في المنع منالصلاة في المقبرة ؟ العلة خوف الإشراك، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، بل على أن الشريعة الإسلامية سدت كل باب يمكن أن يوصل على الشرك . حتى الصور كما سمعتم ، وذلك لعظم الشرك وكونه يجعل الإنسان معدوماً في الواقع ، فكل طريق يؤدي إلى الشرك فإنه ممنوع شرعاً .
وفيه أيضاً أنه ينبغي أن تُسور أرض المسجد حتى يمكن أن يستقر الناس على الأرض في السجود والجلوس ، ومنها أيضاً قطع النخل إذا كانت في المسجد ، يعني مثلاً لو أننا اشترينا أرضاً فيها نخل لنبنيها مسجداً لابد من قطع النخل .
سؤال : الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بنبش قبور المشركين في أرض المسجد فهل يدل أنه كان يشارك المسلمين قبور المشركين ؟
الجواب : ما ندري الله أعلم ، لكن هي قبور للمشركين .
السائل : إذا كان يوجد في الأرض قبور مسلمين ، تُنبش ؟
الجواب : لا .. قبور المسلمين لا يمكن تُنبش لأن الإنسان إذا دُفن فقد ملك الأرض التي دُفن فيها ولا يمكن أن يتعدى عليه أحد .
سؤال : جزاك الله خيراً يا شيخ ، في بلاد عندنا الأموات ، عندهم إيجار الأرض ما يملكون الأرض الأموات إلا بالأجرة ؟
الجواب : إلى متى ؟
السائل : إلى مثلاً مدة عشر سنوات أو ثلاث سنوات ؟
الجواب : المهم ما بعد العشر سنوات .
السائل : على كل حال هناك عندهم الأجرة إذا ما سدد بعد عشر سنوات يطلعوه ؟
الجواب : على كل حال إذا أمكن أن يُجعل للمسلمين مقبرة خاصة يُدفن فيها الأموات ويبقون فيها إلى .......
السائل : في مقبرة خاصة بالمسلمين ، إنما القانون ما يفرقون بين الكفار والمسلمين ؟
الجواب : ما هي الأرض مملوكة للمسلمين ؟
السائل : لا .. خاص بالبلدية .
الجواب : اللهم عافينا ، الكفر أعظم من هذا .
سؤال : إذا وجد قبر في أحد الأحياء وهو مكان أرض هل الأفضل أن يُنبش هذا القبر وأن يُنقل إلى المقبرة أو يُسور عليه سور ؟
الجواب : لا .. ما يُسور عليه ، وأما إذا كانت الأرض احتاج الناس لها طريق أو ما أشبه ذلك يُنبش ويُدفن في المقابر ، أما لو بُني عليه لأتى الناس تعظيماً له ، وربما يعيد في زمن المستقبل .(246/42)
1736 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِاللهِ قَال حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُليْمَانَ عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال حُرِّمَ مَا بَيْنَ لابَتَيِ المَدِينَةِ عَلى لسَانِي قَال وَأَتَى النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ بَنِي حَارِثَةَ فَقَال أَرَاكُمْ يَا بَنِي حَارِثَةَ قَدْ خَرَجْتُمْ مِنَ الحَرَمِ ثُمَّ التَفَتَ فَقَال بَل أَنْتُمْ فِيهِ(1)
__________
(1) ما بين لابتيها ) ما بين الحرتين هذا الحرم ، حرم المدينة من الشرق على الغرب ما بين الحرتين ، ومن الشمال إلى الجنوب ما بين عير ثور وهما معروفان ، قال العلماء : والمسافة بريد في بريد ، يعني من الشرق إلى الغرب بريد ، والشمال إلى الجنوب بريد ، والبريد كم فرسخ ؟ أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال . على كل حال عندنا الآن حكومتنا وفقها الله قد جعلت رجالاً وتتبعوا الأماكن التي هي حد الحرم وحددوها والحمد لله فصار واضحاً . وفائدة التحديد هو احترام الأشجار وما أشبه ذلك وإلا فإنه لا يُحْرِم داخل المدينة من أحرم عند دخولها فقد ابتدع ولا يحل له ذلك.(246/43)
1737 حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَليٍّ رَضِي الله عَنْه قَال مَا عِنْدَنَا شَيْءٌ إِلا كِتَابُ اللهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلى كَذَا مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ وَقَال ذِمَّةُ المُسْلمِينَ وَاحِدَةٌ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلمًا فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ وَمَنْ تَوَلى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَاليهِ فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ قَال أبو عَبْد اللهِ عَدْلٌ فِدَاءٌ(1)
__________
(1) هذا حديث عظيم وذلك أنه في عهد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لم يعهد إلى علي بالخلافة وقال أنت الخليفة ، فكان الناس يأتون علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويقولون هل أفضى إليكم النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بشيء هل خصكم بشيء ؟ فيقول: لا ، ولقد أقسم مرة فقال : لا .. والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما خصني بشيء إلا ما في هذه الصحيفة . ويقرأ .
وأما قول الرافضة إنه عهد إليه بالخلافة وأن أبا بكر وعمر خانا وغدرا وغصبا وظلما . فقولهم باطل ، هذا الواقع ، علي بن أبي طالب بايع عمر وبايع عثمان ، قال الإمام أحمد : من طعن في خلافة أحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله . ولهذا أجمع المسلمون على أن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي .
ذكر في الحديث : ( إِلا كِتَابُ اللهِ عز وجل ) القرآن ، الذي أجمع المسلمون عليه صاغراً عن كابر . قال العلماء : ومن أنكر حرفاً من القرآن مما اتفق عليه القراء فهو كافر . أما ما اختلف فيه القراء فإنه لا يكفر لإمكان التأويل ؛ لأنه في بعض الأحيان يكون فيه قراءة بالواو وقراءة بإسقاط الواو مثلاً . مثل في البقرة قال : { قالوا اتخذ الله ولداً } أضافوا واو { وقالوا اتخذ الله ولداً } وله نظائر . لكن الذي أجمع عليه المسلمون إذا أنكر الإنسان حرفاً واحداً كفر فكيف إذا أنكر كلمة ؟ فكيف إذا أنكر سورة ؟ فكيف إذا أنكر سورة في القرآن كما تقول الرافضة ، يقول بعضهم : إن ثلث القرآن مكتوب ـ والعياذ بالله ـ لكن هذا لا أظنه إجماعاً منهم .
( الصحيفة ) يقول : ( عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ المَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَائِرٍ إِلى كَذَا ) عائر هو عير ، وإلى كذا فُسرت في أحاديث الفقهاء بأنها ثور ، والمسافة بينهما بريد . ( مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) أحدث : بنفسه ، آوى محدثاً : يعني تكتم عليه وتستر عليه وإن كان هذا المحدث قد قدم من غير المدينة فإذا استقبله وآواه وكتمه دخل في اللعن ـ والعياذ بالله ـ وهذه المسألة فرد من أفراد أن من أعان على شيء فله مثل من أعان عليه أو عقوبته ، فالذي يُؤوي المُحدث كاتم كأنه هو الذي أحدث ؛ لأنه أعانه على الإثم والعدوان .
ش21 ـ وجه أ :
( لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ ) صرف يعني صرف العذاب عنه بدون مقابل ، ولا عدل أي بمقابل ، يعني لو طلب أن يُشفع له ويُرفع عنه العذاب لا يُقبل ، لو طلب أن يُسلم فداءً لا يُقبل ، نسأل الله العافية .
وَقَال عليه الصلاة والسلام : ( ذِمَّةُ المُسْلمِينَ وَاحِدَةٌ فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلمًا فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) ذمة يعني عهد ، بمعنى أنه إذا عاهد أحد المسلمين رجلاً من الكفار فهو ماضٍ على الجميع كما قال في حديث آخر : (( ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم )) فلا يحل لأحد أن يغدر بهذا المعاهد أو يقتله حتى ولو كان كافر ، ما دام دخل بأمان رجل من المسلمين فهو محفوظ محترم ، فكيف إذا دخل بأمان ولاة الأمر يكون محترماً أو لا ؟ أشد وأقوى ، ولهذا من الخبل والسفه والجهل الذين يعتدون على السواح في البلاد الأخرى يقتلونهم أو يعتدون عليهم ، هذا إخفار للذمة وذمة المسلمين واحدة ، حتى لو رأيت مع مسلم كافراً فإنه محروس . لكن إذا منعه ولاة الأمور الذمم إلا من خلال الحكومة ، فماذا يكون ؟ يكون هذا الذي أعطاه الذمة معتدياً لا حرمة له . وهذا ـ أعني لزوم ما يقرره ولي الأمر في عدم إعطاء الذمة لأحد ـ هذا هو المتعين في الوقت الحاضر . لماذا ؟ لأن أي واحد يشوف كافر ملحد على الحدود يقول تعال أنا أُعطيك الذمة والعهد ، ثم يدخل ويقول لا أحد يؤذيه ! ما يصير .
مثال لهذا : الآن من دخلوا بإذن ولي الأمر فلهم الذمة لا يجوز إخفارهم ، من دخل بذمة ولي غير ولي الأمر فإنه محروس إلا إذا علمنا أن نظام الدولة لا يسمح بإدخال كافر وتأمينه إلا من قِبل الدولة فهنا لو أن أحداً أعطاه الذمة فعطيته إياه لا تُقبل ولا يُعتد بها .
( فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلمًا فَعَليْهِ لعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلا عَدْلٌ ) ذكرنا هنا بحثاً مهما : إذا كان هذا فيمن أخفر مسلماً فيمن عاهده فكيف بمن أخفر ذمة ولي الأمر؟ يكون أشد لما فيه من العدوان وإخفار الذمة ولكونه أمن . معاهدة الواحد من الناس ممنوعة نظاماً والشرع يقتضي ذلك ؛ لأنه لو فُتح المجال لكل إنسان أن يدخل ، يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً بعهد لحصل شر كثير ، فانتبهوا لمثل هذا .
( وَمَنْ تَوَلى قَوْمًا بِغَيْرِ إِذْنِ مَوَاليهِ ) يعني كعتيق أعتقه آل فلان فتولى إياه أخذه بغير إذن مواليه فعليه هذا الوعيد . ومفهوم قوله ( بغير إذن مواليه ) أنه إذا كان بإذن مواليه فلا بأس ، وفي هذا إشكال لأن الولاء لحمة كلحمة النسب لا يوهب ولا يُورث ولا يُباع ، فهذا فيه إشكال ولهذا الشارح يحله إن شاء الله .
تعليق من فتح الباري ج: 4 ص: 86
قوله : ( ومن يتولى قوما بغير إذن مواليه ) لم يجعل الإذن شرطا لجواز الادعاء وإنما هو لتأكيد التحريم ؛ لأنه إذا استأذنهم في ذلك منعوه وحالوا بينه وبين ذلك ، قاله الخطابي وغيره ، ويحتمل أن يكون كنى بذلك عن بيعه فإذا وقع بيعه جاز له الانتماء إلى مولاه الثاني ، وهو غير مولاه الأول ، أو المراد موالاة الحلف ، فإذا أراد الانتقال عنه لا ينتقل إلا بإذن .
وقال البيضاوي : الظاهر أنه أراد به ولاء العتق لعطفه على قوله من ادعى إلى غير أبيه ، والجمع بينهما بالوعيد فإن العتق من حيث أنه لحمة كلحمة النسب فإذا نُسب من هو له كان كالدعى الذي تبرا عمن هو منه وألحق نفسه بغيره فيستحق به الدعاء عليه بالطرد والإبعاد عن الرحمة . ثم أجاب عن الإذن بنحو ما تقدم وقال : ليس هو التقييد وإنما هو للتنبيه على ما هو المانع وهو إبطال حق مواليه . فأورد الكلام على ما هو الغالب وسيأتى البحث في ذلك في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى .
الشيخ : أولاً السياق الذي معنا ليس فيه ( من ادعى إلى غير أبيه ) ليس فيه هذا . لكن حمله على ولاية العهد هو أقرب شيء لأنه في سياق المعاهدة فهو أقرب شيء فيكون إذا انتقل إلى ولاية معاهدة مع قوم : ( بغير إذن مواليه ) استحق هذا الواجب .
سؤال : ما اتضح هذا عندي ؟
الجواب : مايحتاج يعني مثلاً فيما سبق يكون بين الإنسان وبين قبيلة من القبائل معاهدة يدخلون في عهده ، دخل في عهده ، كما فعل خزاعة مع النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الحديبية . فإذا دخل في عهدهم فإنه لا يحل أن ينتقل إلى ولاء آخرين إلا بإذن هؤلاء وحينئذٍ لا إشكال .
سؤال : مر معنا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم لمسجده في المدينة ، هناك سؤال يتعلق ببناء المساجد في بلاد الكفار أن بعض الهيئات الحكومية والخاصة تتبرع للمسلمين بترميم المساجد أو حتى في بنائها ، فهل يجوز للمسلمين أن يأخذوا هذه التبرعات بدون قيد أو شرط؟
الجواب : يعني معناه صندوق وضع للتبرع لبناء المساجد في بلاد الكفار؟
السائل : الصورة كما يلي يا شيخ : في مسجد الآن المدرسون في الجامعة استحسنوا تصرفات المسلمين ورغبوا أن يساعدوا المسلمين في إعادة ترميم المسجد ، فهذه هي القضية .
الجواب : أنا لا أرى مانعاً أن يقوم كافر ببناء مسجد أو المساعدة فيه بشرط أن لا يكون بذلك إلا للمسلمين ، بمعنى أنه يمن عليهم كلما صار شيء قال أنا فعلت أنا فعلت . لأن هذا عمل طيب ، ولكن هل لهذا الكافر أجره ؟ الجواب : إن أسلم جُزئ عليه ، أُثيب ، لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( أسلمت على ما أسلفت من الخير )) . وأما إن مات على الكفر تجده قد يثاب عليه في الدنيا في زيادة المال أو الأولاد أو ما أشبه ذلك ، وقد لا يثاب عليه .
سؤال : يا شيخ الله يحفظكم ، كيف نستأمن الكفار على أمر من أمور الدين ولا يؤمن يا شيخ مكرهم ، ثم إن المنافقين ـ مسجد الضرار مثلاً ـ حينما كانوا أرادوا أن يفتكون بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم يا شيخ في جدة الآن أحد المساجد نصارى بنوه رسموا صوراً يا شيخ ، ثم أحدهم أسلم وكنا لا نعرف هذه الصور فبين والحمد لله الصور ؟
الجواب : إذا فيه هذا الشيء مباح ليس معناه يباح في كل حال ، إذا اقترن به ما أرادوا البيع والشراء ، مباح أو حرام ؟
السائل : مباح .
الجواب : مباح ؟ ما الدليل ؟
السائل : أحل الله البيع وحرم الربا .
الجواب : أحله الله ، طيب .. إذا لزم من هذا البيع الوقوع في إثم مثل أن نبيع السلاح على قطاع الطريق ، يجوز أو لا ؟ ما يجوز . انتبهوا لهذه القاعدة يا إخوان : إذا قيل الشيئ مباح ليس معناه على كل حال ، المباح خاصة تجري فيه الأحكام الخمسة: واجب ، وحرام ، ومكروه ، ومستحب . فإذا قلنا يجوز أن يشارك النصارى في بناء المساجد أو إعمار المساجد ، ليس معنى ذلك أن نقول يجوز أن يضعوا صورة مريم وصورة عيسى في المسجد أو أن يبنوه على صورة كنيسة ، لا .. الذي يتولى بناءه المسلمون .
سؤال : الآن يوجد في بعض بلاد المسلمين نصارى يبنون مدارس لتحفيظ القرآن الكريم ، الآن الشعوب يرون أنهم يفعلون خيراً المسلمون ما بنوا ، هؤلاء جاءوا وبنوا مدارس لتحفيظ القرآن ........؟
الجواب : هذا طيب إلا إذا دخلوا دينهم قد يدسون فيه السم ، قد يدسون في هذه المدارس عقائد النصارى .
السائل: يأتون بالقرآن فقط لكن خائفين أن يكون وراءهم كل شيء .
الجواب : الحمد لله إذا صار شيء منعناهم .
السائل : ما نمنعهم الآن ؟
الجواب : لا نمنعهم إذا كانوا يفعلون الخير وليس فيه أدنى شبهة .(246/44)
2 ـ بَاب فَضْل المَدِينَةِ وَأَنَّهَا تَنْفِي النَّاسَ
1738 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَال سَمِعْتُ أَبَا الحُبَابِ سَعِيدَ بْنَ يَسَارٍ يَقُولُ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه يَقُولُ قَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرَى يَقُولُونَ يَثْرِبُ وَهِيَ المَدِينَةُ تَنْفِي النَّاسَ كَمَا يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ(1)
__________
(1) الله أكبر ، ( أُمرت بقرية ) يعني أن أسكنها ( تأكل القرى ) يعني أن أهلها يجاهدون في سبيل الله فيفتحون القرى وتكون كأنها تأكل القرى ، وهذا هو الواقع فإن جيوش الإسلام إنما انطلقت من المدينة.
( يقولون يثرب ) أي أنها يسمونها يثرب ، ولكن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنكر هذا ، قال في سيقا آخر : ( يقولون يثرب وهي طيبة ) ولهذا نرى أولئك الكتاب المساكين الذين يكتبون التاريخ أو يتكلمون عن هذا يقولون يثرب كأنهم يفتخرون بهذا الاسم ، كما يفتخر بعضهم باللغة الإنجليزية إذا نطق بها يرى أنه متقدم ، يكون هذا من ضعف الشخصية من وجه ومن الجهل .
ولهذا كره الإمام مالك رحمه الله وغيره من أهل العلم أن يسمي أحد المدينة يثرب ؛ لأن هذا صفة نقص . فإذا قال قائل : أليس الله تعالى قد قال في القرآن الكريم : { وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا } ؟ فالجواب : من قائل هذا ؟ { وإذا قالت طائفة منهم يا أهل يثرب } الله تعالى يذكر كلامهم ، من ؟ المنافقون ، والمنافقون يرجون أن ....... المدينة .
على كل حال افهموا هذا أن المدينة لا تُسمى يثرب وإنما تُسمى المدينة أو تُسمى طيبة ، ولهذا يقولون ، يقول النحويون : إن أل في مدينة للعهد الذهني كأل في الكتاب إذا تكلم به النحويون ، النحويون إذا قالوا : الكتاب . يعنون به كتاب سيبويه . المدينة إذا أُطلقت فالمراد المدينة النبوية. وقوله صلى الله عليه وسلم : ( تنفي الناس كما ينفي الكير خبث الحديد ) المراد بالناس من ؟ أهل الفسق والفجور لأنه شبهها بنفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة ، يعني أهل الفسق والفجور تضيق صدورهم في المدينة وتنفيهم ، ولا يَرِد على هذا أنه يوجد في المدينة من هو فاسق فاجر ؛ لأنا نقول : هؤلاء إنما سكنوها باعتبار من هم لهم ملجأ من أقارب ونحوهم وإلا لفروا منها . ثم هي أيضاً تنفي هذا حقيقة إذا جاء الدجال في آخر الدنيا ، يأتي الدجال ولكن ما يستطيع أن يدخل المدينة لأن عليها ملائكة يحفظونها . ( فترجف المدينة بأهلها المدينة فيخرج منها كل منافق ) ـ سبحان الله ـ ما يستطيع البقاء ، يخرج منها وحينئذٍ تكون نفت الناس .
سؤال : عفا الله عنك يا شيخ ، يؤخذ من هذا الحديث يا شيخ أن الفاسق إذا أراد أن يجلس في المدينة يترك يجلس بها ؟
الجواب : لا .. نقول للفاسق تُب حتى تكون ممن يستحقوا سكناها .
سؤال : إذا لاقينا واحد يكون يعمل في المدينة عمل بدعة نقول له الله يلعنك ، أو كيف ؟
الجواب : إي بس ما نعينه ، نقول لعن الله من أحدث فيها حدثاً على سبيل العموم ، يعني قولك : لعنك الله تفسد الجميع .
سؤال : يا شيخ لو رأينا شخصاً فاسقاً يريد سكنى المدينة فهل نمنعه من ذلك ؟
الجواب : لا .. لكن نقول لعل الله يهديه .(246/45)
3 ـ بَاب المَدِينَةُ طَابَةٌ
1739 حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلدٍ حَدَّثَنَا سُليْمَانُ قَال حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ عَبَّاسِ بْنِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ رَضِي الله عَنْه أَقْبَلنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ مِنْ تَبُوكَ حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلى المَدِينَةِ فَقَال هَذِهِ طَابَةٌ(1)
__________
(1) هذا من محبته لها واشتياقه إليها ، كأنها شيء ضائع دله كما لو ضاع من الإنسان بعير ثم وجده فقال هذه بعيري ، وحُق لها أن تكون محبوبة لأنها مهاجر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومبعثه يوم القيامة حيث يُبعث من هذا المكان .
سؤال : يا شخ بارك الله فيكم ، بعض الناس يقولون إن المدينة تُضاعف فيها الحسنات دون السيئات ومكة تُضاعف فيها الحسنات والسيئات ، وينسبون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : اللهم أعط المدينة ضعف البركة التي في مكة ؟
الجواب : هذا في الطعام .
السائل : وقولهم هذا صحيح يا شيخ ؟
الجواب : ما هو بصحيح ، الصحيح أن السيئات والحسنات تُضاعف في كل مكان فاضل ، لكن السيئة لا تُضاعف كمياً بل في الكيفية ، يعني لا نقول السيئة في مكة عن عشر سيئات ، ما يجوز ؛ لأن الله قال في سورة الأنعام وهي مكية : { من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يُجزى إلا مثلها } وهي مكية . لكن في الكيفية . أتدري ما الكيفية ؟
السائل : لا يا شيخ .
الجواب: ما تدري، ومثل له الشيخ رحمه الله بالضرب الخفيف والثقيل
سؤال : بعض الناس من البلاد البعيدة يقصدون إلى المدينة يقولون : نذهب إلى المدينة نمكث فيها ونموت فيه ونُدفن في مقابر البقيع . هذا هو قصدهم ويمكثون ، ما هو فعلهم الآن ؟
الجواب : ما هو السؤال ؟
السائل : السؤال يعني ما هو فعلهم هل صحيح ؟
الجواب : هذا غلط لأنه ينبغي لمن قصد المدينة أن ينوي زيارة المسجد النبوي ، ثم يأتي بعد ذلك تبعاً زيارة قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقبر صاحبيه ثم بقية القبور .
سؤال : يا شيخ أحسن الله إليك ، في الحديث ( يثرب ) كأن النبي صلى الله عليه وسلم يشير إلى أن هذا معنى قبيح ؟
الجواب : إي ما في شك .
السائل : ما معناها ؟
الجواب : الرسول ما بينه أصلاً التثريب ويثرب كلها تدور حول اللوم والتوبيخ وما أشبه ذلك كما قال يوسف لإخوانه { لا تثريب عليكم اليوم } .(246/46)
4 ـ بَاب لابَتَيِ المَدِينَةِ
1740 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ بِالمَدِينَةِ تَرْتَعُ مَا ذَعَرْتُهَا قَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ مَا بَيْنَ لابَتَيْهَا حَرَامٌ(1)
5 ـ بَاب مَنْ رَغِبَ عَنِ المَدِينَةِ
__________
(1) المدينة صيدها حرام لا يحل للإنسان تنفيره ، لكن من قدم بالصيد من خارج المدينة جاز أن يبقى ملكه عليه ، وعلى هذا قول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم للطفل الصغير : (( يا أبا عمير ما فعل النغير )) كنية لهذا الطفل الصغير كان معه طائر يسمى النغير يلعب به فرح به كما هي العادة الآن إذا أخذ الصبي طائر صغير يفرح به ويلعب به . مات الطائر فاغتم الطفل ، فلاطفه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقال : (( يا أبا عمير ماذا فعل النغير )) .
الصيد إذا أُتي به من الحل إلى حرم المدينة جائز وسبق في مكة أن في ذلك خلافاً وأن الصواب أنه باق على ملك صاحبه وأنه لا يجب عليه أن يطلقه . العلماء صاروا في هذه المسألة يختلفون في وجه آخر : الصيد في مكة فيه الجزاء وفيه المدينة لا جزاء عليه وهذا فرق بيِّن . يعني مثلاً لو أن أحداً قتل صيداً في المدينة فإنه ليس عليه الجزاء ولكن هل يحل أو لا يحل؟ الجواب : لا يحل لأن قتله غير مأذون فيه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) أي مردود .(246/47)
1741 حَدَّثَنَا أَبُو اليَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَال أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَال سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ تَتْرُكُونَ المَدِينَةَ عَلى خَيْرِ مَا كَانَتْ لا يَغْشَاهَا إِلا العَوَافِ يُرِيدُ عَوَافِيَ السِّبَاعِ وَالطَّيْرِ وَآخِرُ مَنْ يُحْشَرُ رَاعِيَانِ مِنْ مُزَيْنَةَ يُرِيدَانِ المَدِينَةَ يَنْعِقَانِ بِغَنَمِهِمَا فَيَجِدَانِهَا وَحْشًا حَتَّى إِذَا بَلغَا ثَنِيَّةَ الوَدَاعِ خَرَّا عَلى وُجُوهِهِمَا(1)
__________
(1) شوف الترجمة في الشرح .
تعليق من فتح الباري ج: 4 ص: 90 :
قوله : ( باب من رغب عن المدينة ) أي فهو مذموم أو باب حكم من رغب عنها . قوله : ( تتركون المدينة ) كذا للأكثر بتاء الخطاب والمراد المخاطبين لكنهم من أهل البلد أو من نسل المخاطبين أو من نوعهم ، وروي يتركون بتحتانية ورجحه القرطبي . قوله : ( على خير ما كانت ) أي على أحسن حال كانت عليه من قبل . وقال القرطبي تبعا لعياض وقد وُجد ذلك حيث صارت معدن الخلافة ومقصد الناس وملجأهم ، وحُملت إليها خيرات الأرض وصارت من أعمر البلاد ، فلما انتقلت الخلافة عنها إلى الشام ثم إلى العراق وتغلبت عليها الأعراب تعاورتها الفتن وخلت من أهلها فقصدتها عوافى الطير والسباع .
ش21 ـ وجه ب :
والعوافي جمع عافية وهي التي تطلب أقواتها ، ويقال للذكر عاف . قال ابن الجوزي : اجتمع في العوافى شيئان أحدهما أنها طالبة لأقواتها من قولك عفوت فلانا أعفوه فأنا عاف والجمع عفاة أي أتيت أطلب معروفه، والثاني من العفاء وهو الموضع الخالي الذي لا أنيس به فإن الطير والوحش تقصده لأمنها على نفسها فيه . وقال النووي المختار أن هذا الترك يكون في آخر الزمان عند قيام الساعة ، ويؤيده قصة الراعيين فقد وقع عند مسلم بلفظ : ( ثم يُحشر راعيان ) وفي البخاري أنهما آخر من يُحشر .
قلت : ويؤيده ما روى مالك عن بن حماس بمهملتين وتخفيف عن عمه عن أبي هريرة رفعه : ( لتتركن المدينة على أحسن ما كانت حتى يدخل الذئب فيعوي على بعض سواري المسجد أو على المنبر قالوا فلمن تكون ثمارها قال لعوافى الطير والسباع ) أخرجه معن بن عيسى في الموطأ عن مالك ورواه جماعة من الثقات خارج الموطأ . ويشهد له أيضا ما روى أحمد والحاكم وغيرهما من حديث محجن بن الأدرع الأسلمي قال : ( بعثني النبي صلى الله عليه وسلم لحاجة ثم لقيني وأنا خارج من بعض طرق المدينة فأخذ بيدي حتى أتينا أحدا ثم أقبل على المدينة فقال ويل أمها قرية يوم يدعها أهلها كأينع ما يكون قلت يا رسول الله من يأكل ثمرها قال عافية الطير والسباع ) . وروى عمر بن شبة بإسناد صحيح عن عوف بن مالك قال : ( دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ثم نظر إلينا فقال أما والله ليدعنها أهلها مذللة أربعين عاما للعوافي أتدرون ما العوافى الطير والسباع ) .
قلت : وهذا لم يقع قطعا ، وقال المهلب في هذا الحديث إن المدينة تُسكن إلى يوم القيامة وإن خلت في بعض الأوقات لقصد الراعيين بغنمهما إلى المدينة .
الشيخ : هذا الظاهر أنه ـ والله أعلم ـ في آخر الزمان لأنه لم يقع هذا فيما مضى ، فيُحمل على أنه في آخر الزمان . ويبقى الإشكال في قوله : ( تتركون ) والجواب عنه من أحد وجهين : إما أنا يقال إن الصواب يتركون كما هي رواية وحينئذٍ لا إشكال ، أو تتركون المراد الجنس أي تتركونها يا بني آدم ، فيكون المراد هنا ليس مخاطبتهم بأعيانهم ولكن المراد الجنس . وسيقع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن عاجلاً وإن آجلاً .(246/48)
1742 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ رَضِي الله عَنْه أَنَّهُ قَال سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ تُفْتَحُ اليَمَنُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالمَدِينَةُ خَيْرٌ لهُمْ لوْ كَانُوا يَعْلمُونَ وَتُفْتَحُ الشَّامُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالمَدِينَةُ خَيْرٌ لهُمْ لوْ كَانُوا يَعْلمُونَ وَتُفْتَحُ العِرَاقُ فَيَأْتِي قَوْمٌ يُبِسُّونَ فَيَتَحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أَطَاعَهُمْ وَالمَدِينَةُ خَيْرٌ لهُمْ لوْ كَانُوا يَعْلمُونَ (1)
__________
(1) هذا الحديث فيه آية من آيات النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم حيث ذكر أن هذه الأقاليم الثلاثة تُفتح اليمن والشام والعراق ، وأن من أهل المدينة من يبسون أن ينصرفون عنها بأهليهم ويسكنون هذه البلاد ، قال : (والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) وهذا في غير من ذهب إلى جهاد أو نشر العلم أو ما أشبه ذلك فذهابه خير . ولهذا ذهب كبار الصحابة رضي الله عنهم إلى الشام ومصر والعراق واليمن من أجل نشر الدعوة الإسلامية إذ لو بقوا في المدينة فمن يدعو الناس ؟ لو بقوا في المدينة من يجاهد الناس؟ تكلم على هذا الشارح ؟
تعليق من فتح الباري ج: 4 ص: 92
قوله : ( تُفتح اليمن ) قال ابن عبد البر وغيره افتتحت اليمن في أيام النبي صلى الله عليه وسلم وفي أيام أبي بكر وافتتحت الشام بعدها والعراق بعدها ، وفي هذا الحديث علم من أعلام النبوة فقد وقع على وفق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وعلى ترتيبه ، ووقع تفرق الناس في البلاد لما فيها من السعة والرخاء ولو صبروا على الإقامة بالمدينة لكان خيرا لهم .
وفي هذا الحديث فضل المدينة على البلاد المذكورة وهو أمر مجمع عليه ، وفيه دليل على أن بعض البقاع أفضل من بعض ، ولم يختلف العلماء في أن المدينة فضلا على غيرها وإنما اختلفوا في الأفضلية بينها وبين مكة . قوله : ( يبسون ) بفتح الموحدة وبكسرها من بس يبس . قال ابن عبد البر في رواية يحيى بن يحيى بكسر الموحدة وقيل إن ابن القاسم رواه بضمها قال أبو عبيد معناه يسوقون دوابهم . والبس سوق الإبل تقول بس بس عند السوق وإرادة السرعة . وقال الداودي معناه يزجرون دوابهم فيبسون ما يطؤونه من الأرض من شدة السير فيصير غبارا . قال تعالى : { وبست الجبال بسا } أي سالت سيلا ، وقيل معناه سارت سيرا . وقال ابن القاسم : البس المبالغة في الفت ، ومنه قيل للدقيق المصنوع بالدهن بسيس . وأنكر ذلك النووي وقال إنه ضعيف أو باطل . وقال ابن عبد البر وقيل معنى يبسون يسألون عن البلاد ويستقرئون أخبارها ليسيروا إليها ، قال وهذا لا يكاد يعرفه أهل اللغة ، وقيل معناه يزينون لأهلهم البلاد التي تفتح ويدعونهم إلى سكناها فيتحملون بسبب ذلك من المدينة راحلين إليها . ويشهد لهذا حديث أبي هريرة عند مسلم : ( يأتي على الناس زمان يدعو الرجل ابن عمه وقريبه هلم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون . وعلى هذا فالذين يتحملون غيرهم يبسون ، كأن الذي حضر الفتح أعجبه حسن البلد ورخاؤها فدعا قريبه إلى المجيء إليها لذلك فيتحمل المدعو بأهله وأتباعه .
قال ابن عبد البر وروي يبسون بضم أوله وكسر ثانيه من الرباعي من أبس إبساسا ومعناه يزينون لأهلهم البلد التي يقصدونها وأصل الإبساس للتي تُحلب حتى تدر باللبن وهو أن يجري يده على وجهها وصفحة عنقها كأنه يزين لها ذلك ويحسنه لها . وإلى هذا ذهب ابن وهب وكذا رواه ابن حبيب عن مطرف عن مالك يُبسون من الرباعي وفسره بنحو ما ذكرنا . وأنكر الأول غاية الإنكار . وقال النووي الصواب أن معناه الإخبار عمن خرج من المدينة متحملا بأهله بأسا في سيره مسرعا إلى الرخاء والأمصار المفتتحة .
قلت : ويؤيده رواية ابن خزيمة من طريق أبي معاوية عن هشام عن عروة في هذا الحديث بلفظ : ( تُفتح الشام فيخرج الناس من المدينة إليها يبسون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) ويوضح ذلك ما روى أحمد من حديث جابر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ليأتين على أهل المدينة زمان ينطلق الناس منها إلى الأرياف يلتمسون الرخاء فيجدون رخاء ثم يأتون فيتحملون بأهليهم إلى الرخاء والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ) وفي إسناده ابن لهيعة ولا بأس به في المتابعات وهو يوضح ما قلناه والله أعلم .
وروى أحمد في أول حديث سفيان هذا قصة أخرجها من طريق بشر بن سعيد أنه سمع في مجلس الليثيين يذكرون أن سفيان بن أبي زهير أخبرهم أن فرسه أعيت بالعقيق وهو في بعث بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجع إليه يستحمله فخرج معه يبتغى له بعيرا فلم يجده إلا ثم أبي جهم به حذيفة العدوي فسامه له فقال له أبو جهم لا أبيعكها يا رسول الله ولكن خذه فاحمل عليه من شئت ثم خرج حتى إذا بلغ بئر إهاب قال : (يوشك البنيان أن يأتي هذا المكان ويوشك الشام أن تُفتح فيأتيه رجال من أهل هذا البلد فيعجبهم ريعه ورخاؤه والمدينة خير لهم ... ) الحديث .
قوله : ( لو كانوا يعلمون ) أي بفضلها من الصلاة في المسجد النبوي وثواب الإقامة فيها وغير ذلك ، ويحتمل أن تكون لو بمعنى ليت فلا يحتاج إلى تقدير ، وعلى الوجهين ففيه تجهيل لمن فارقها وآثر غيرها . قالوا والمراد به الخارجون من المدينة رغبة عنها كارهين لها ، وأما من خرج لحاجة أو تجارة أو جهاد أو نحو ذلك فليس بداخل في معنى الحديث . قال الطيبي الذي يقتضيه هذا المقام أن يُنزل ( ما لا يعلمون ) منزلة اللازم لتنتفى عنهم المعرفة بالكلية ، ولو ذهب مع ذلك إلى التمنى لكان أبلغ لأن التمنى طلب ما لا يمكن حصوله أي ليتهم كانوا من أهل العلم تغليظا وتشديدا . وقال البيضاوي المعنى أنه تُفتح اليمن فيعجب قوما بلادها وعيش أهلها فيحملهم ذلك على المهاجرة إليها بأنفسهم وأهليهم حتى يخرجوا من المدينة والحال أن الإقامة في المدينة خير لهم ؛ لأنها حرم الرسول وجواره ومهبط الوحي ومنزل البركات لو كانوا يعلمون ما في الإقامة بها من الفوائد الدينية بالعوائد الأخروية التي يستحقر دونها ما يجدونه من الحظوظ الفانية العاجلة بسبب الإقامة في غيرها . وقواه الطيبي لتنكير قوم ووصفهم بكونهم يبسون ثم توكيده بقوله : ( لو كانوا يعلمون ) لأنه يُشعر بأنهم ممن ركن إلى الحظوظ البهيمية والحطام الفاني وأعرضوا عن الإقامة في جوار الرسول ولذلك كرر ( قوما ) ووصفه في كل قرينة بقوله : ( يبسون ) استحضار لتلك الهيئة القبيحة والله أعلم .
الشيخ : الحمد لله ، هذا وافق ما ذكرناه أن من خرج لا راغباً عنها ولكن لمصلحة دينية أو حاجة دينية فلا بأس ، كما كان حال الصحابة رضي الله عنهم يفعلوا هذا .(246/49)
6 ـ بَاب الإِيمَانُ يَأْرِزُ إِلى المَدِينَةِ
1743 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ قَال حَدَّثَنِي عُبَيْدُاللهِ عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ ابْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه أَنَّ رَسُول اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال إِنَّ الإِيمَانَ ليَأْرِزُ إِلى المَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الحَيَّةُ إِلى جُحْرِهَا(1)
7 ـ بَاب إِثْمِ مَنْ كَادَ أَهْل المَدِينَةِ
1744 حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ أَخْبَرَنَا الفَضْلُ عَنْ جُعَيْدٍ عَنْ عَائِشَةَ هِيَ بِنْتُ سَعْدٍ قَالتْ سَمِعْتُ سَعْدًا رَضِي الله عَنْه قَال سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ يَقُولُ لا يَكِيدُ أَهْل المَدِينَةِ أَحَدٌ إِلا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ المِلحُ فِي المَاءِ(2)
8 ـ بَاب آطَامِ المَدِينَةِ
__________
(1) أي يأزر إليها كما تأزر الحية إلى جحرها وهذا لأن رجوع الإيمان إلى المدينة سيرجع إلى مأمن كما ترجع الحية إلى جحرها .
(2) يعني أي إنسان يكيد إلى المدينة فإنه كيده سيكون في نحره ، فيموع كما يموع الملح في الماء .
سؤال : يا شيخ أحسن الله إليك ، كيف توجيه هذا الحديث الذي فيه : إن الإيمان ليأزر إلى المدينة كما تأزر الحية إلى جحرها ، متى يكون ؟
الجواب : في آخر الزمان .
السائل : حتى لو كانوا أهل بدع وأهواء ؟
الجواب : البدع والأهواء تموت لأن المدينة كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( كل بدعة ضلالة ) فهي بعيدة من الإيمان .(246/50)
1745 حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِاللهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ قَال أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ سَمِعْتُ أُسَامَةَ رَضِي الله عَنْه قَال أَشْرَفَ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ عَلى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ المَدِينَةِ فَقَال هَل تَرَوْنَ مَا أَرَى إِنِّي لأَرَى مَوَاقِعَ الفِتَنِ خِلال بُيُوتِكُمْ كَمَوَاقِعِ القَطْرِ تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَسُليْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ(1)
9 ـ بَاب لا يَدْخُلُ الدَّجَّالُ المَدِينَةَ
1746 حَدَّثَنَا عَبْدُالعَزِيزِ بْنُ عَبْدِاللهِ قَال حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِي الله عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال لا يَدْخُلُ المَدِينَةَ رُعْبُ المَسِيحِ الدَّجَّالِ لهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ عَلى كُلِّ بَابٍ مَلكَانِ(2)
__________
(1) وهذا وقع ، فإن في زمن الحرة وقع شر عظيم من الفتن واستحلال المحارم وقتل النفوس في سط المدينة .
(2) المسيح الدجال هذا الذي يأتي في آخر الزمان ويدعي أنه إله ويتبعه من يتبعه من الناس ، وأعطاه الله عز وجل من الآيات التي فيها فتن ما تحصل به الفتن ، كما يأمر السماء فتمطر والأرض تنبت . وهذا الرجل يبقى في الأرض أربعين يوماً ، اليوم الأول كسنة ، والثاني كشهر ، والثالث كأسبوع ، وبقية الأيام كأيامنا .
ولما حدث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بهذا الحديث سأله الصحابة وقالوا يا رسول الله هذا اليوم الذي كسنة هل تكفينا فيه صلاة يوم واحد ؟ قال : (( لا اقدروا له قدره )) وهذا يدل على حرص الصحابة رضي الله عنهم على العلم وعلى تعمقهم فيه وأن كل شيء يمكن أن يحتاجوا إليه يسألوا عنه . .
وفيه أيضاً دليل على أن سير الشمس بيد الله عز وجل ، فإنها تبقى في اليوم الأول سنة كاملة في الأفق ، يعني مدة اثنا عشر شهراً . وفيه أنه يُقدر لهذا اليوم قدره ، لكن كيف نقدر قدره ؟ من المعلوم أن القدر فيما سبق صعب جداً لأن الإنسان لا يدري الزمن بين الصلاتين على وجه التحديد ، ولهذا تجد العلماء رحمهم الله يقولون : إنه يمكن أن نستدل على دخول الوقت بقراءة القرآن ، يكون عادته أن يقرأ ما بين الصلاتين كذا وكذا من القرآن ، أو استماعه يكون عادة الناس يسمع كذا وكذا بين الصلاتين . الآن والحمد لله الأمر ميّسر جداً بواسطة الساعة ما يبقى إشكال، فيُقدر له قدره .
يبقى السؤال في عصرنا الحاضر وقبله أيضاً بقاع من الأرض لا تغيب عنها الشمس إما مدة أربعة أيام أو أسبوع أو شهر أو ستة أشهر فماذا نصنع ؟ نقول : الحمد لله أن الله عز وجل أنطق الصحابة يسألون النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ماذا يصنعون في اليوم الذي كسنة ، فنقول هؤلاء يقدرون له قدره . إذا قدروا قدره فهل يعتبرون أقرب بلاد إليهم فيها يوم وليلة يتعاقبان أو يقدرون قدره بالنصف بالتساوي يعني ، أو يقدرون قدر بالنسبة لمكة لأنها أم القرى ومرجعها ؟ في هذا أقوال ثلاثة ، وأقرب الأقوال من حيث الحكم الجغرافي أن ينظر إلى أقرب البلاد التي فيها يوم وليلة في أربع وعشرين ساعة ، هذا أقرب شيء . وسبحان الله كنت أتصور أن معنى كون النهار ستة أشهر أن الشمس تغيب ستة أشهر ، وقالوا : لا ، إنها تدور هكذا .. محورية ، ما تمر من الشرق إلى الغرب .. لا .. المرور هكذا ... محورية .. سبحان الله .
سؤال : ألا يكون بعد أن يزول العلم وتُرفع الساعات قد تذهب ولا يُعرف الوقت ؟
الجواب : إذا ذهبت يقدرون قدرها .
السائل : والدليل قوله في الحديث : المدينة لها سبعة أبواب ، في هذا تحصين للمدينة .
الجواب : نعم ، من الدجال لئلا يدخلها .
سؤال : أحسن الله إليك ، بالنسبة للأبواب هذه حسية أو معنوية ؟
الجواب : الأبواب هذه حسية لأن الدجال رجل حسي يمشي على الأرض .
سؤال : هذا القدر في الصلاة هل ينسحب على الصيام ؟
الجواب : إي نعم .
السائل : يعني يفطرون والشمس ظاهرة ؟
الجواب : ربما يفطرون والشمس ظاهرة ، كما أنهم يصلون صلاة الليل والشمس ظاهرة .(246/51)
1747 حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَال حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نُعَيْمِ بْنِ عَبْدِاللهِ المُجْمِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه قَال قَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ عَلى أَنْقَابِ المَدِينَةِ مَلائِكَةٌ لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلا الدَّجَّالُ.
1748 حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ المُنْذِرِ حَدَّثَنَا الوَلِيدُ حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِي الله عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال ليْسَ مِنْ بَلدٍ إِلا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ إِلا مَكَّةَ وَالمَدِينَةَ ليْسَ لهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلا عَليْهِ المَلائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا ثُمَّ تَرْجُفُ المَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلاثَ رَجَفَاتٍ فَيُخْرِجُ اللهُ كُل كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ.(246/52)
1749 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا الليْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَال أَخْبَرَنِي عُبَيْدُاللهِ بْنُ عَبْدِاللهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ رَضِي الله عَنْه قَال حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ حَدِيثًا طَوِيلا عَنِ الدَّجَّالِ فَكَانَ فِيمَا حَدَّثَنَا بِهِ أَنْ قَال يَأْتِي الدَّجَّالُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَليْهِ أَنْ يَدْخُل نِقَابَ المَدِينَةِ ينزل بَعْضَ السِّبَاخِ التِي بِالمَدِينَةِ فَيَخْرُجُ إِليْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ هُوَ خَيْرُ النَّاسِ أَوْ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الذِي حَدَّثَنَا عَنْكَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ حَدِيثَهُ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَرَأَيْتَ إِنْ قَتَلتُ هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ هَل تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ فَيَقُولُونَ لا فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيهِ وَاللهِ مَا كُنْتُ قَطُّ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي اليَوْمَ فَيَقُولُ الدَّجَّالُ أَقْتُلُهُ فَلا أُسَلطُ عَليْهِ(1)
__________
(1) هذا من آيات الله عز وجل ومن الفتنة ، الفتنة أنه يقتله ثم يُفرق بين الجزلتين ويمشي بينهما أيضاً تحقيقاً للانفصال ثم يأمره فيقوم ويتهلل وجهه ويقول : أشهد أنك الدجال الذي أخبرنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم . ويقتله الثانية فيفعل كذلك ، ويقول : والله ما ازدت فيك إلا بصيرة . ثم يُحاول أن يقتله الثالثة فيعجز مع إنه في الأول قتله مرتين ومشى بين جزئيه وفي النهاية يعجز ، وهذا من الفتن في الأول ومن إظهار عجز الدجال في الثاني فيتبين للناس أن الدجال كذاب لأنه ما قدر على أن يقتله في المرة الثالثة .
سؤال : هل يقال يا شيخ إن من أصيب بالطاعون يُقال له اذهب إلى المدينة ؟
الجواب : لا .. المصاب بالطاعون يلزم داره ، لكن هل يقال مثلاً لو انتشر الطاعون في الأرض هل نقول للناس زودوا بالمدينة ؟ هذا محل نظر قد يكونوا مثل الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف فقال لهم الله موتوا .
سؤال : الكلام فيمت حصل من الفتن في مقتل الزبير وزمن الحرة ، هل يقص هذا علىالناس ؟
الجواب : لا .. لا نرى هذا ؛ لأن كون الناس يهابون الكلام في الصحابة رضي الله عنهم ويرونهم أعلى وأشرف من أن يقع بينهم مثل النزاع هذا هو الواجب لاسيما إذا جاء إنسان يقص ولكنه لا يُعقب فهذا شرٌ محض .
سؤال : يا شيخ أحسن الله إليكم ، هل في الحديث جواز خروج العالم للفتن ومقابلة أصحاب الفتن لمناقشتهم ؟
الجواب : ربما يكون هذا فيه دليل لكن إذا وثق من نفسه أما إذا لم يثق مشكلة تبقى مناظرته أهل البدع ضررا ، لكن إذا وثق من نفسه وجب عليه أن يخرج .(246/53)
10 ـ بَاب المَدِينَةُ تَنْفِي الخَبَثَ
1750 حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُالرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِي الله عَنْه جَاءَ أَعْرَابِيٌّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ فَبَايَعَهُ عَلى الإِسْلامِ فَجَاءَ مِنَ الغَدِ مَحْمُومًا فَقَال أَقِلنِي فَأَبَى ثَلاثَ مِرَارٍ فَقَال المَدِينَةُ كَالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طَيِّبُهَا.
1751 حَدَّثَنَا سُليْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عَبْدِاللهِ بْنِ يَزِيدَ قَال سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِي الله عَنْه يَقُولُ لمَّا خَرَجَ النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ إِلى أُحُدٍ رَجَعَ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالتْ فِرْقَةٌ نَقْتُلُهُمْ وَقَالتْ فِرْقَةٌ لا نَقْتُلُهُمْ فَنَزَلتْ ( فَمَا لكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ ) وَقَال النَّبِيُّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ إِنَّهَا تَنْفِي الرِّجَال كَمَا تَنْفِي النَّارُ خَبَثَ الحَدِيدِ.
11 ـ بَاب
1752 حَدَّثَنَا عَبْدُاللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي سَمِعْتُ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِي الله عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال اللهُمَّ اجْعَل بِالمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ تَابَعَهُ عُثْمَانُ ابْنُ عُمَرَ عَنْ يُونُسَ.
1753 حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِي الله عَنْه أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ كَانَ إِذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَنَظَرَ إِلى جُدُرَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ رَاحِلتَهُ وَإِنْ كَانَ عَلى دَابَّةٍ حَرَّكَهَا مِنْ حُبِّهَا.(246/54)
12 ـ بَاب كَرَاهِيَةِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنْ تُعْرَى المَدِينَةُ
1754 حَدَّثَنَا ابْنُ سَلامٍ أَخْبَرَنَا الفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ رَضِي الله عَنْه قَال أَرَادَ بَنُو سَلِمَةَ أَنْ يَتَحَوَّلُوا إِلى قُرْبِ المَسْجِدِ فَكَرِهَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ أَنْ تُعْرَى المَدِينَةُ وَقَال يَا بَنِي سَلِمَةَ أَلا تَحْتَسِبُونَ آثَارَكُمْ فَأَقَامُوا.
13 ـ بَاب
1755 حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِاللهِ بْنِ عُمَرَ قَال حَدَّثَنِي خُبَيْبُ بْنُ عَبْدِالرَّحْمَنِ عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْه عَنِ النَّبِيِّ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ قَال مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ وَمِنْبَرِي عَلى حَوْضِي.(246/55)
1756 حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيل حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللهم عَنْهَا قَالتْ لمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ المَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلالٌ فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ وَالمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ وَكَانَ بِلالٌ إِذَا أُقْلِعَ عَنْهُ الحُمَّى يَرْفَعُ عَقِيرَتَهُ يَقُولُ أَلا ليْتَ شِعْرِي هَل أَبِيتَنَّ ليْلةً بِوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ وَهَل أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ وَهَل يَبْدُوَنْ لِي شَامَةٌ وَطَفِيلُ قَال اللهُمَّ العَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلفٍ كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلى أَرْضِ الوَبَاءِ ثُمَّ قَال رَسُولُ اللهِ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ اللهُمَّ حَبِّبْ إِليْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللهُمَّ بَارِكْ لنَا فِي صَاعِنَا وَفِي مُدِّنَا وَصَحِّحْهَا لنَا وَانْقُل حُمَّاهَا إِلى الجُحْفَةِ قَالتْ وَقَدِمْنَا المَدِينَةَ وَهِيَ أَوْبَأُ أَرْضِ اللهِ قَالتْ فَكَانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلا تَعْنِي مَاءً آجِنًا.(246/56)
1757 حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا الليْثُ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُمَرَ رَضِي الله عَنْه قَال اللهُمَّ ارْزُقْنِي شَهَادَةً فِي سَبِيلِكَ وَاجْعَل مَوْتِي فِي بَلدِ رَسُولِكَ صَلى الله عَليْهِ وَسَلمَ وَقَال ابْنُ زُرَيْعٍ عَنْ رَوْحِ بْنِ القَاسِمِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلمَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ رَضِي الله عَنْهمَا قَالتْ سَمِعْتُ عُمَرَ نَحْوَهُ وَقَال هِشَامٌ عَنْ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَفْصَةَ سَمِعْتُ عُمَرَ رَضِي الله عَنْه(1)
__________
(1) وقف الشيخ رحمه الله عند : ( بَاب المَدِينَةُ تَنْفِي الخَبَثَ ) ولم يُتم التعليق على بقية أحاديث الكتاب ، وذلك في السادس والعشرين من شهر صفر من عام واحد وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية المباركة ، نسأل الله تعالى أن يغفر لشيخنا وأن يرفع درجته في المهديين ، وأن يُجزيه عن الأمة خير الجزاء . وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .(246/57)
((((( االأضحية )))))(/)
الأضحية(/)
أحكام الأضحية والذكاة
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فقد كنت كتبت كتاباً في أحكام الأضحية والذكاة مطولاً يقع في 93 صفحة وفيه ذكر بعض الخلاف والمناقشات التي تطول على القارىء، فرأيت أن أكتب تلخيصاً لذلك الكتاب حاذفاً ما لا تدعو الحاجة إليه، زائداً ما تدعو الحاجة إليه.
والله أسأل أن يجعل عملنا في ذلك كله خالصاً لله تعالى، مبيناً لشريعته، نافعاً لنا وللمسلمين إنه جواد كريم.
وهذا التلخيص يشتمل على الفصول التالية:
الفصل الأول: في تعريف الأضحية وحكمها.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل الأول : في تعريف الأضحية وحكمها
محمد بن صالح العثيمين
في تعريف الأضحية وحكمها
الأضحية: ما يذبح من بهيمة الأنعام أيام عيد الأضحى بسبب العيد تقرباً إلى الله عز وجل، وهي من شعائر الإسلام المشروعة بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وإجماع المسلمين.
قال الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ الْعَلَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}. والنسك الذبح، قاله سعيد بن جبير، وقيل جميع العبادات ومنها الذبح، وهو أشمل. وقال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاَْنْعَمِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ }.(247/1)
وفي صحيح البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «ضحى النبي صلى الله عليه وسلّم بكبشين أملحين ذبحهما بيده وسمى وكبر، وضع رجله على صفاحهما». وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: «أقام النبي صلى الله عليه وسلّم بالمدينة عشر سنين يضحي». رواه أحمد والترمذي، وقال حديث حسن.
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قسم بين أصحابه ضحايا فصارت لعقبة جذعة فقال: يا رسول الله صارت لي جذعة فقال: «ضح بها» رواه البخاري ومسلم.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين». رواه البخاري ومسلم.
فقد ضحى صلى الله عليه وسلّم وضحى أصحابه رضي الله عنهم، وأخبر أن الأضحية سنة المسلمين يعني طريقتهم، ولهذا أجمع المسلمون على مشروعيتها، كما نقله غير واحد من أهل العلم. واختلفوا هل هي سنة مؤكدة، أو واجبة لا يجوز تركها؟
فذهب جمهور العلماء إلى أنها سنة مؤكدة، وهو مذهب الشافعي، ومالك، وأحمد في المشهور عنهما.
وذهب آخرون إلى أنها واجبة، وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: هو أحد القولين في مذهب مالك، أو ظاهر مذهب مالك.(247/2)
وذبح الأضحية أفضل من الصدقة بثمنها؛ لأن ذلك عمل النبي صلى الله عليه وسلّم والمسلمين معه؛ ولأن الذبح من شعائر الله تعالى، فلو عدل الناس عنه إلى الصدقة لتعطلت تلك الشعيرة. ولو كانت الصدقة بثمن الأضحية أفضل من ذبح الأضحية لبينه النبي صلى الله عليه وسلّم لأمته بقوله أو فعله، لأنه لم يكن يدع بيان الخير للأمة، بل لو كانت الصدقة مساوية للأضحية لبينه أيضاً لأنه أسهل من عناء الأضحية ولم يكن صلى الله عليه وسلّم ليدع بيان الأسهل لأمته مع مساواته للأصعب، ولقد أصاب الناس مجاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فقال: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة في بيته شيء». فلما كان العام المقبل قالوا يا رسول الله نفعل كما فعلنا في العام الماضي فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «كلوا واطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان في الناس جهد فأردت أن تعينوا فيها». متفق عليه.
قال ابن القيم رحمه الله: الذبح في موضعه أفضل من الصدقة بثمنه. قال: ولهذا لو تصدق عن دم المتعة والقِرَان بأضعاف أضعاف القيمة لم يقم مقامه وكذلك الأضحية. انتهى كلامه.
فصل
والأصل في الأضحية أنها مشروعة في حق الأحياء كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه يضحون عن أنفسهم وأهليهم، وأما ما يظنه بعض العامة من اختصاص الأضحية بالأموات فلا أصل له.
والأضحية عن الأموات ثلاثة أقسام:
الأول: أن يضحي عنهم تبعاً للأحياء مثل أن يضحي الرجل عنه وعن أهل بيته وينوي بهم الأحياء والأموات، وأصل هذا تضحية النبي صلى الله عليه وسلّم عنه وعن أهل بيته وفيهم من قد مات من قبل.
الثاني: أن يضحي عن الأموات بمقتضى وصاياهم تنفيذاً لها وأصل هذا قوله تعالى: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَآ إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }.(247/3)
الثالث: أن يضحي عن الأموات تبرعاً مستقلين عن الأحياء فهذه جائزة، وقد نص فقهاء الحنابلة على أن ثوابها يصل إلى الميت وينتفع به قياساً على الصدقة عنه، ولكن لا نرى أن تخصيص الميت بالأضحية من السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يضح عن أحد من أمواته بخصوصه، فلم يضح عن عمه حمزة وهو من أعز أقاربه عنده، ولا عن أولاده الذين ماتوا في حياته، وهم ثلاث بنات متزوجات، وثلاثة أبناء صغار، ولا عن زوجته خديجة وهي من أحب نسائه إليه، ولم يرد عن أصحابه في عهده أن أحداً منهم ضحى عن أحد من أمواته.
ونرى أيضاً من الخطأ ما يفعله بعض من الناس يضحون عن الميت أول سنة يموت أضحية يسمونها (أضحية الحفرة) ويعتقدون أنه لا يجوز أن يشرك معه في ثوابها أحد، أو يضحون عن أمواتهم تبرعاً، أو بمقتضى وصاياهم ولا يضحون عن أنفسهم وأهليهم، ولو علموا أن الرجل إذا ضحى من ماله عن نفسه وأهله شمل أهله الأحياء والأموات لما عدلوا عنه إلى عملهم ذلك.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل الثاني : في شروط الأضحية
محمد بن صالح العثيمين
في شروط الأضحية
يشترط للأضحية ستة شروط:
أحدها: أن تكون من بهيمة الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ضأنها ومعزها لقوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا لِّيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الاَْنْعَمِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ } وبهيمة الأنعام هي الإبل، والبقر، والغنم هذا هو المعروف عند العرب، وقاله الحسن وقتادة وغير واحد.
الثاني: أن تبلغ السن المحدود شرعاً بأن تكون جذعة من الضأن، أو ثنية من غيره لقوله صلى الله عليه وسلّم: «لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن». رواه مسلم.(247/4)
والمسنة: الثنية فما فوقها، والجذعة ما دون ذلك. فالثني من الإبل: ما تم له خمس سنين، والثني من البقر: ما تم له سنتان. والثني من الغنم ما تم له سنة، والجذع: ما تم له نصف سنة، فلا تصح التضحية بما دون الثني من الإبل والبقر والمعز، ولا بما دون الجذع من الضأن.
الثالث: أن تكون خالية من العيوب المانعة من الإجزاء وهي أربعة:
1 ـ العور البين: وهو الذي تنخسف به العين، أو تبرز حتى تكون كالزر، أو تبيض ابيضاضاً يدل دلالة بينة على عورها.
2 ـ المرض البين: وهو الذي تظهر أعراضه على البهيمة كالحمى التي تقعدها عن المرعى وتمنع شهيتها، والجرب الظاهر المفسد للحمها أو المؤثر في صحته، والجرح العميق المؤثر عليها في صحتها ونحوه.
3 ـ العرج البين: وهو الذي يمنع البهيمة من مسايرة السليمة في ممشاها.
4 ـ الهزال المزيل للمخ: لقول النبي صلى الله عليه وسلّم حين سئل ماذا يتقي من الضحايا فأشار بيده وقال: «أربعاً: العرجاء البين ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقى». رواه مالك في الموطأ من حديث البراء بن عازب، وفي رواية في السنن عنه رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: «أربع لا تجوز في الأضاحي» وذكر نحوه.
فهذه العيوب الأربعة مانعة من إجزاء الأضحية بما تعيب بها، ويلحق بها ما كان مثلها أو أشد، فلا تجزىء الأضحية بما يأتي:
1 ـ العمياء التي لا تبصر بعينيها.
2 ـ المبشومة حتى تثلط ويزول عنها الخطر.
3 ـ المتولدة إذا تعسرت ولادتها حتى يزول عنها الخطر.
4 ـ المصاب بما يميتها من خنق وسقوط من علو ونحوه حتى يزول عنها الخطر.
5 ـ الزمنى وهي العاجزة عن المشي لعاهة.
6 ـ مقطوعة إحدى اليدين أو الرجلين.
فإذا ضممت ذلك إلى العيوب الأربعة المنصوص عليها صار ما لا يضحى به عشرة. هذه الستة وما تعيب بالعيوب الأربعة السابقة.(247/5)
الشرط الرابع: أن تكون ملكاً للمضحي، أو مأذوناً له فيها من قبل الشرع، أو من قبل المالك فلا تصح التضحية بما لا يملكه كالمغصوب والمسروق والمأخوذ بدعوى باطلة ونحوه؛ لأنه لا يصح التقرب إلى الله بمعصيته. وتصح تضحية ولي اليتيم له من ماله إذا جرت به العادة وكان ينكسر قلبه بعدم الأضحية.
وتصح تضحية الوكيل من مال موكله بإذنه.
الشرط الخامس: أن لا يتعلق بها حق للغير فلا تصح التضحية بالمرهون.
الشرط السادس: أن يضحى بها في الوقت المحدود شرعاً وهو من بعد صلاة العيد يوم النحر إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق وهو اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، فتكون أيام الذبح أربعة: يوم العيد بعد الصلاة، وثلاثة أيام بعده، فمن ذبح قبل فراغ صلاة العيد، أو بعد غروب الشمس يوم الثالث عشر لم تصح أضحيته لما روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله وليس من النسك في شيء». وروى عن جندب بن سفيان البجلي رضي الله عنه قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من ذبح قبل أن يصلي فليعد مكانها أخرى». وعن نبيشة الهذلي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل». رواه مسلم. لكن لو حصل له عذر بالتأخير عن أيام التشريق مثل أن تهرب الأضحية بغير تفريط منه فلم يجدها إلا بعد فوات الوقت، أو يوكل من يذبحها فينسى الوكيل حتى يخرج الوقت فلا بأس أن تذبح بعد خروج الوقت للعذر، وقياساً على من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يصليها إذا استيقظ أو ذكرها.
ويجوز ذبح الأضحية في الوقت ليلاً ونهاراً، والذبح في النهار أولى، ويوم العيد بعد الخطبتين أفضل، وكل يوم أفضل مما يليه؛ لما فيه من المبادرة إلى فعل الخير.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل الثالث : في الأفضل من الأضاحي جنساً أو صفة
محمد بن صالح العثيمين(247/6)
فيمن تجزىء عنه الأضحية
تجزىء الأضحية الواحدة من الغنم عن الرجل وأهل بيته ومن شاء من المسلمين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد فأتي به ليضحي به فقال لها: «يا عائشة هلمي المدية (أي أعطيني السكين) ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه (أي أخذ يستعد لذبحه) ثم قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد ثم ضحى به». رواه مسلم، وما بين القوسين تفسير وليس من أصل الحديث. وعن أبي رافع رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يضحي بكبشين أحدهما عنه وعن آله، والاخر عن أمته جميعاً»، رواه أحمد. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: «كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون». رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
فإذا ضحى الرجل بالواحدة من الغنم الضأن أو المعز عنه وعن أهل بيته أجزأ عن كل من نواه من أهل بيته من حي وميت، فإن لم ينو شيئاً يعم أو يخص دخل في أهل بيته كل من يشمله هذا اللفظ عرفاً أو لغة، وهو في العرف لمن يعولهم من زوجات وأولاد وأقارب، وفي اللغة: لكل قريب له من ذريته وذرية أبيه وذرية جده وذرية جد أبيه.
ويجزىء سبع البعير أو سبع البقر عما تجزىء عنه الواحدة من الغنم، فلو ضحى الرجل بسبع بعير أو بقرة عنه وعن أهل بيته أجزأه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم جعل سبع البدنة والبقرة قائماً مقام الشاة في الهدي فكذلك يكون في الأضحية لعدم الفرق بينها وبين الهدي في هذا.
ولا تجزىء الواحدة من الغنم عن شخصين فأكثر يشتريانها فيضحيان بها؛ لعدم ورود ذلك في الكتاب والسنة، كما لا يجزىء أن يشترك ثمانية فأكثر في بعير أو بقرة؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز فيها تعدي المحدود كمية وكيفية، وهذا في غير الاشتراك في الثواب، فقد ورد التشريك فيه بدون حصر كما سبق.(247/7)
وعلى هذا فإذا وجدت وصايا لجماعة كل واحد موص بأضحية من ريع وقف مثلاً، ولم يكف ريع كل وصية لها فإنه لا يجوز جمع هذه الوصايا في أضحية واحدة، لما عرفت من أن الواحدة من الغنم لا تجزىء عن شخصين فأكثر في غير الثواب، وعلى هذا فيجمع الريع حتى يبلغ ثمن الأضحية، فإن كان ضئيلاً لا يجتمع إلا بعد سنوات تصدق به في عشر ذي الحجة.
أما لو كان الموصي واحداً أوصى بعدة ضحايا فلم يكف الريع لجميعها فإن شاء الوصي جمع الضحايا في أضحية واحدة لأن الموصي واحد، وإن شاء ضحى أضحية في سنة، وأضحية في سنى أخرى والأولى أولى.
(تنبيه هام): يقدر بعض الموصين قيمة الأضحية من الريع لقصد المبالغة في غلائها استبعاداً منه أن تبلغ ما قدر فيقول يضحي عني ولو بلغت الأضحية ريالاً؛ لأنها كانت في وقته أرخص بكثير فيعمد بعض الأوصياء الذين لا يخافون الله فيعطل الأضحية بحجة أن الموصي قدر قيمتها بريال ولا توجد أضحية بريال، مع أن الريع كثير وهذا حرام عليه وهو آثم بذلك، وعليه أن يضحي ولو بلغت الأضحية آلاف الريالات مادام الريع يكفي لذلك؛ لأن مقصود الموصي من التقدير المبالغة في قيمة الأضحية لا تحديدها بهذا المقدار.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل الرابع : فيمن تجزىء عنه الأضحية
محمد بن صالح العثيمين
فيمن تجزىء عنه الأضحية(247/8)
تجزىء الأضحية الواحدة من الغنم عن الرجل وأهل بيته ومن شاء من المسلمين؛ لحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر بكبش أقرن يطأ في سواد، ويبرك في سواد، وينظر في سواد فأتي به ليضحي به فقال لها: «يا عائشة هلمي المدية (أي أعطيني السكين) ففعلت ثم أخذها وأخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه (أي أخذ يستعد لذبحه) ثم قال: بسم الله، اللهم تقبل من محمد، وآل محمد، ومن أمة محمد ثم ضحى به». رواه مسلم، وما بين القوسين تفسير وليس من أصل الحديث. وعن أبي رافع رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يضحي بكبشين أحدهما عنه وعن آله، والاخر عن أمته جميعاً»، رواه أحمد. وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: «كان الرجل في عهد النبي صلى الله عليه وسلّم يضحي بالشاة عنه وعن أهل بيته، فيأكلون ويطعمون». رواه ابن ماجه والترمذي وصححه.
فإذا ضحى الرجل بالواحدة من الغنم الضأن أو المعز عنه وعن أهل بيته أجزأ عن كل من نواه من أهل بيته من حي وميت، فإن لم ينو شيئاً يعم أو يخص دخل في أهل بيته كل من يشمله هذا اللفظ عرفاً أو لغة، وهو في العرف لمن يعولهم من زوجات وأولاد وأقارب، وفي اللغة: لكل قريب له من ذريته وذرية أبيه وذرية جده وذرية جد أبيه.
ويجزىء سبع البعير أو سبع البقر عما تجزىء عنه الواحدة من الغنم، فلو ضحى الرجل بسبع بعير أو بقرة عنه وعن أهل بيته أجزأه ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم جعل سبع البدنة والبقرة قائماً مقام الشاة في الهدي فكذلك يكون في الأضحية لعدم الفرق بينها وبين الهدي في هذا.
ولا تجزىء الواحدة من الغنم عن شخصين فأكثر يشتريانها فيضحيان بها؛ لعدم ورود ذلك في الكتاب والسنة، كما لا يجزىء أن يشترك ثمانية فأكثر في بعير أو بقرة؛ لأن العبادات توقيفية لا يجوز فيها تعدي المحدود كمية وكيفية، وهذا في غير الاشتراك في الثواب، فقد ورد التشريك فيه بدون حصر كما سبق.(247/9)
وعلى هذا فإذا وجدت وصايا لجماعة كل واحد موص بأضحية من ريع وقف مثلاً، ولم يكف ريع كل وصية لها فإنه لا يجوز جمع هذه الوصايا في أضحية واحدة، لما عرفت من أن الواحدة من الغنم لا تجزىء عن شخصين فأكثر في غير الثواب، وعلى هذا فيجمع الريع حتى يبلغ ثمن الأضحية، فإن كان ضئيلاً لا يجتمع إلا بعد سنوات تصدق به في عشر ذي الحجة.
أما لو كان الموصي واحداً أوصى بعدة ضحايا فلم يكف الريع لجميعها فإن شاء الوصي جمع الضحايا في أضحية واحدة لأن الموصي واحد، وإن شاء ضحى أضحية في سنة، وأضحية في سنى أخرى والأولى أولى.
(تنبيه هام): يقدر بعض الموصين قيمة الأضحية من الريع لقصد المبالغة في غلائها استبعاداً منه أن تبلغ ما قدر فيقول يضحي عني ولو بلغت الأضحية ريالاً؛ لأنها كانت في وقته أرخص بكثير فيعمد بعض الأوصياء الذين لا يخافون الله فيعطل الأضحية بحجة أن الموصي قدر قيمتها بريال ولا توجد أضحية بريال، مع أن الريع كثير وهذا حرام عليه وهو آثم بذلك، وعليه أن يضحي ولو بلغت الأضحية آلاف الريالات مادام الريع يكفي لذلك؛ لأن مقصود الموصي من التقدير المبالغة في قيمة الأضحية لا تحديدها بهذا المقدار.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل الخامس : فيما تتعين به الأضحية وأحكامه
محمد بن صالح العثيمين
فيما تتعين به الأضحية وأحكامه
تتعين الأضحية بواحد من أمرين:
أحدهما: اللفظ بأن يقول: هذه أضحية. قاصداً إنشاء تعيينها، فأما إن قصد الإخبار عما يريد بها في المستقبل فإنها لا تتعين بذلك؛ لأن المقصود به الإخبار عما سيفعل بها في المستقبل لا إنشاء تعيينها.
الثاني: الفعل وهو نوعان:
أحدهما: ذبحها بنية الأضحية، فمتى ذبحها بهذه النية ثبت لها حكم الأضحية.(247/10)
ثانيهما: شراؤها بنية الأضحية إذا كانت بدلاً عن معينة، مثل أن يعين أضحية فتتلف بتفريط منه فيشتري أخرى بنية أنها بدل عن التي تلفت فهذه تكون أضحية بمجرد الشراء بهذه النية؛ لأنها بدل عن معينة، والبدل له حكم المبدل. أما إذا لم تكن بدلاً عن معينة فإنها لا تتعين بالشراء بنية الأضحية، كما لو اشترى عبداً يريد أن يعتقه فإنه لا يصير عتيقاً بمجرد الشراء، أو اشترى شيئاً ليجعله وقفاً فإنه لا يصير وقفاً بمجرد الشراء، فكذلك إذا اشترى بهيمة بنية أنها أضحية فلا تكون أضحية بمجرد ذلك.
وإذا تعينت الأضحية تعلق بها أحكام:
الأول: أنه لا يجوز التصرف بها بما يمنع التضحية بها من بيع وهبة ورهن وغيرها إلا أن يبدلها بخير منها لمصلحة الأضحية، لا لغرض في نفسه، فلو عين شاة أضحية ثم تعلقت بها نفسه لغرض من الأغراض فندم وأبدلها بخير منها ليستبقيها لم يجز له ذلك؛ لأنه رجوع فيما أخرجه لله تعالى لحظ نفسه لا لمصلحة الأضحية.
الثاني: أنه إذا مات بعد تعيينها لزم الورثة تنفيذها، وإن مات قبل التعيين فهي ملكهم يتصرفون فيها بما شاءوا.
الثالث: أنه لا يستغل شيئاً من منافعها فلا يستعملها في حرث ونحوه، ولا يركبها إلا إذا كان لحاجة وليس عليها ضرر، ولا يحلب من لبنها ما ينقصها أو يحتاجه ولدها المتعين معها، ولا يجز شيئاً من صوفها ونحوه إلا أن يكون أنفع لها فيجزه ويتصدق به أو يهديه أو ينتفع به ولا يبيعه.
الرابع: أنها إذا تعيبت عيباً يمنع من الإجزاء مثل أن يشتري شاة فيعينها فتبخق عينها حتى تكون عوراء بينة العور فلها حالان:
إحداهما: أن يكون ذلك بفعله أو تفريطه فيجب عليه إبدالها بمثلها على صفتها أو أكمل؛ لأن تعيبها بسببه فلزمه ضمانها بمثلها يذبحه بدلاً عنها، وتكون المعيبة ملكاً له على القول الصحيح يصنع فيها ما شاء من بيع وغيره.(247/11)
الثانية: أن يكون تعيبها بدون فعل منه ولا تفريط فيذبحها وتجزئه إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين لأنها أمانة عنده وقد تعيبت بدون فعل منه ولا تفريط فلا حرج عليه ولا ضمان.
فإن كانت واجبة في ذمته قبل التعيين وجب عليه إبدالها بسليمة تجزىء عما في ذمته، مثل أن يقول لله علي نذر أن أضحي هذا العام فيشتري أضحية فيعينها عما نذر ثم تصاب بعيب يمنع من الإجزاء فيلزمه أن يبدلها بسليمة تجزىء في الأضحية، وتكون المعيبة له، لكن إن كانت أعلى من البدل لزمه أن يتصدق بالأرش وهو فرق ما بين القيمتين.
الخامس: أنها إذا ضاعت أو سرقت فلها حالان أيضاً:
إحداهما: أن يكون ذلك بتفريط منه مثل أن يضعها في مكان غير محرز فتهرب أو تسرق فيجب عليه إبدالها بمثلها على صفتها أو أكمل يذبحه بدلاً عنها، وتكون الضائعة أو المسروقة ملكاً له يصنع فيها إذا حصل عليها ما شاء من بيع وغيره.
الثانية: أن يكون ذلك بدون تفريط منه فلا ضمان عليه إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين لأنها أمانة عنده ولا ضمان على الأمين إذا لم يفرط، لكن متى حصل عليها وجب عليه التضحية بها ولو بعد فوات وقت الذبح، وكذا لو غرمها السارق فيجب التضحية بما غرمه لصاحبها على صفتها بدون نقص.
فإن كانت واجبة في ذمته قبل التعيين وجب عليه أن يذبح بدلها ما يجزىء عما في ذمته، ومتى حصل عليها فهي له يصنع فيها ما شاء من بيع وغيره، لكن إن كان البدل الذي ذبحه عنها أنقص منها وجب عليه أن يتصدق بأرش النقص وهو فرق ما بين القيمتين.
السادس: أنها إذا أتلفت فلها ثلاث حالات:
إحداها: أن يكون تلفها بأمر لا صنع للادمي فيه كالمرض والافة السماوية والفعل الذي تفعله هي فتموت به فلا ضمان عليه، إلا أن تكون واجبة في ذمته قبل التعيين؛ لأنها أمانة عنده تلفت بسبب لا يمكن التضمين فيه فلم يكن عليه ضمان.
فإن كانت واجبة في ذمته قبل التعيين وجب عليه أن يذبح بدلها ما يجزىء عما في ذمته.(247/12)
الثانية: أن يكون تلفها بفعل مالكها فيجب عليه أن يذبح بدلها على صفتها أو أكمل؛ لوجوب ضمانها حينئذ.
الحال الثالثة: أن يكون تلفها بفعل آدمي غير مالكها فإن كان لا يمكن تضمينه كقطاع الطرق فحكمها حكم ما تلفت بأمر لا صنع للادمي فيه على ما سبق في الحال الأولى. وإن كان يمكن تضمينه كشخص معين ذبحها فأكلها أو قتلها ونحوه فإنه يجب عليه ضمانها بمثلها يدفعه إلى صاحبها ليضحي به إلا أن يبرئه صاحبها من ذلك ويقوم بما يجب من ضمانها.
الحكم السابع: أنها إذا ذبحت قبل وقت الذبح ولو بنية الأضحية فالحكم فيها كالحكم فيما كما إذا أتلفت على ما سبق. وإن ذبحت في وقت الذبح فإن كان الذابح صاحبها أو وكيله فقد وقعت موقعها وإن كان الذابح غير صاحبها ولا وكيله فلها ثلاث حالات:
إحداها: أن ينويها عن صاحبها فإن رضي صاحبها بذلك أجزأت، وإن لم يرض بذلك لم تجزىء على الصحيح، ويجب على الذابح ضمانها بمثله يدفعه إلى صاحبها ليضحي به إلا أن يبرئه صاحبها من ذلك ويقوم بما يجب من ضمانها. وقيل: تجزىء وإن لم يرض بذلك وهو المشهور من مذهب أحمد، والشافعي، وأبي حنيفة رحمهم الله.
الثانية: أن ينويها عن نفسه لا عن صاحبها. فإن كان يعلم أنها لغيره لم تجز عنه ولا عن غيره ويجب عليه ضمانها بمثلها يدفعه إلى صاحبها ليضحي به إلا أن يبرئه صاحبها من ذلك ويقوم بما يجب من ضمانها، وقيل: تجزىء عن صاحبها وعليه ضمان ما فرق من اللحم. وإن كان لا يعلم أنها لغيره أجزأت عن صاحبها فإن كان ذابحها قد فرق لحمها وجب عليه ضمانه بمثله لصاحبها إلا أن يرضى بتفريقه إياه.
الثالثة: أن لا ينويها عن أحد فلا تجزىء عن واحد منهما لعدم النية، وقيل: تجزىء عن صاحبها ومتى أجزأت عن صاحبها في حال من الأحوال السابقة فإن كان اللحم باقياً أخذه صاحبها ليفرقه تفريق أضحية، وإن كان الذابح قد فرقه تفريق أضحية ورضي بذلك صاحبها فلا ضمان على الذابح وإلا ضمنه لصاحبها ليفرقه تفريق أضحية.(247/13)
فائدتان:
الأولى: إذا تلفت الأضحية بعد الذبح أو سرقت أو أخذها من لا تمكن مطالبته ولم يفرط صاحبها فلا ضمان على صاحبها، وإن فرط ضمن ما يجب به الصدقة فتصدق به.
الثانية: إذا ولدت الأضحية بعد التعيين فحكم ولدها حكمها في جميع ما سبق، وإن ولدت قبل التعيين فهو مستقل في حكم نفسه فلا يتبع أمه في كونه أضحية لأنها لم تكن أضحية إلا بعد انفصاله منها.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل السادس : فيما يؤكل ويفرق من الأضحية
محمد بن صالح العثيمين
فيما يؤكل ويفرق من الأضحية
يشرع للمضحي أن يأكل من أضحيته، ويهدي، ويتصدق لقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْبَآئِسَ الْفَقِيرَ }. وقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ الْقَنِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْنَهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }. فالقانع السائل المتذلل، والمعتر المتعرض للعطية بدون سؤال، وعن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كلوا وأطعموا وادخروا». رواه البخاري والإطعام يشمل الهدية للأغنياء والصدقة على الفقراء، وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «كلوا وادخروا وتصدقوا». رواه مسلم.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في مقدار ما يأكل ويهدي ويتصدق، والأمر في ذلك واسع، والمختار أن يأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً، ويتصدق بثلث، وما جاز أكله منها جاز ادخاره ولو بقي مدة طويلة إذا لم يصل إلى حد يضر أكله إلا أن يكون عام مجاعة فلا يجوز الادخار فوق ثلاثة أيام لحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء». فلما كان العام المقبل قالوا: يا رسول الله نفعل كما فعلنا في العام الماضي، فقال صلى الله عليه وسلّم: «كلوا واطعموا وادخروا فإن ذلك العام كان في الناس جهد فأردت أن تعينوا فيها». متفق عليه.(247/14)
ولا فرق في جواز الأكل والإهداء من الأضحية بين أن تكون تطوعاً أو واجبة، ولا بين أن تكون عن حي أو ميت أو عن وصية؛ لأن الوصي يقوم مقام الموصي، والموصى يأكل ويهدي ويتصدق؛ ولأن هذا هو العرف الجاري بين الناس، والجاري عرفاً كالمنطوق لفظاً.
فأما الوكيل فإن أذن له الموكل في الأكل والإهداء والصدقة أو دلت القرينة أو العرف على ذلك فله فعله وإلا سلمها للموكل وكان توزيعها إليه.
ويحرم أن يبيع شيئاً من الأضحية لا لحماً ولا غيره حتى الجلد، ولا يعطي الجازر شيئاً منها في مقابلة الأجرة أو بعضها لأن ذلك بمعنى البيع.
فأما من أهدي إليه شيء منها أو تصدق به عليه فله التصرف فيه بما شاء من بيع وغيره، غير أنه لا يبيعه على من أهداه أو تصدق به.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل السابع : فيما يجتنبه من أراد الأضحية
محمد بن صالح العثيمين
فيما يجتنبه من أراد الأضحية
إذا أراد أحد أن يضحي ودخل شهر ذي الحجة إما برؤية هلاله، أو إكمال ذي القعدة ثلاثين يوماً فإنه يحرم عليه أن يأخذ شيئاً من شعره، أو أظفاره أو جلده حتى يذبح أضحيته لحديث أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وفي لفظ: «إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره». رواه أحمد ومسلم، وفي لفظ: «فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئاً حتى يضحي»، وفي لفظ: «فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً». وإذا نوى الأضحية أثناء العشر أمسك عن ذلك من حين نيته ولا إثم عليه فيما أخذه قبل النية.
والحكمة في هذا النهي أن المضحي لما شارك الحاج في بعض أعمال النسك وهو التقرب إلى الله تعالى بذبح القربان شاركه في بعض خصائص الإحرام من الإمساك عن الشعر ونحوه.(247/15)
وهذا حكم خاص بمن يضحي، أما من يضحى عنه فلا يتعلق به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «وأراد أحدكم أن يضحي» ولم يقل أو يضحى عنه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يضحي عن أهل بيته ولم ينقل عنه أنه أمرهم بالإمساك عن ذلك.
وعلى هذا فيجوز لأهل المضحي أن يأخذوا في أيام العشر من الشعر والظفر والبشرة.
وإذا أخذ من يريد الأضحية شيئاً من شعره أو ظفره أو بشرته فعليه أن يتوب إلى الله تعالى ولا يعود، ولا كفارة عليه، ولا يمنعه ذلك عن الأضحية كما يظن بعض العوام. وإذا أخذ شيئاً من ذلك ناسياً أو جاهلاً، أو سقط الشعر بلا قصد فلا إثم عليه، وإن احتاج إلى أخذه فله أخذه ولا شيء عليه مثل أن ينكسر ظفره فيؤذيه فيقصه، أو ينزل الشعر في عينيه فيزيله، أو يحتاج إلى قصه لمداواة جرح ونحوه.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل الثامن : في الذكاة وشروطها
محمد بن صالح العثيمين
في الذكاة وشروطها
الذكاة: فعل ما يحل به الحيوان الذي لا يحل إلا بها من نحر، أو ذبح، أو جرح.
فالنحر للإبل: والذبح لغيرها. والجرح لما لا يقدر عليه إلا به.
ويشترط للذكاة شروط تسعة:
الشرط الأول: أن يكون المذكي عاقلاً مميزاً، فلا يحل ما ذكاه مجنون، أو سكران، أو صغير لم يميز، أو كبير ذهب تمييزه ونحوهم.(247/16)
الشرط الثاني: أن يكون المذكي مسلماً، أو كتابياً وهو من ينتسب إلى دين اليهود أو النصارى. فأما المسلم فيحل ما ذكاه سواء كان ذكراً أم أنثى، عدلاً أم فاسقاً، طاهراً أم محدثاً. وأما الكتابي فيحل ما ذكاه سواء كان أبوه وأمه كتابيين أم لا. وقد أجمع المسلمون على حل ما ذكاه الكتابي لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الْمُؤْمِنَتِ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ }. ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم أكل من شاة أهدتها له امرأة يهودية، وأكل من خبز شعير وإهالة سنخة دعاه إليهما يهودي.(247/17)
وأما سائر الكفار غير أهل الكتاب فلا يحل ما ذكوه لمفهوم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الْمُؤْمِنَتِ وَالْمُحْصَنَتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَبَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِى أَخْدَانٍ وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَنِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِى الاَْخِرَةِ مِنَ الْخَسِرِينَ } فإن (الذين أوتوا الكتاب) اسم موصول وصلته وهما بمنزلة المشتق المتضمن لصفة معنوية يثبت الحكم بوجودها وينتفي بعدمها، قال الإمام أحمد: لا أعلم أحداً قال بخلافه إلا أن يكون صاحب بدعة، ونقل الإجماع عليه الخازن في تفسيره. وعلى هذا فلا يحل ما ذبحه الشيوعيون والمشركون سواء كان شركهم بالفعل كمن يسجدون للأصنام، أو بالقول كمن يدعون غير الله، ولا يحل ما ذبحه تارك الصلاة؛ لأنه كافر على القول الراجح سواء تركها تهاوناً، أو جحداً لوجوبها. ولا يحل ما ذبحه جاحد وجوب الصلوات الخمس ولو صلى إلا أن يكون ممن يجهل ذلك لكونه حديث عهد بإسلام ونحوه.
ولا يلزم السؤال عما ذبحه المسلم أو الكتابي كيف ذبحه، وهل سمى عليه أو لا، بل ولا ينبغي لأن ذلك من التنطع في الدين، والنبي صلى الله عليه وسلّم أكل مما ذبحه اليهود ولم يسألهم. وفي صحيح البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلّم: إن قوماً يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا، فقال: «سموا عليه أنتم وكلوه» قالت: وكانوا حديثي عهد بكفر، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلّم بأكله دون أن يسألوا مع أن الآتين به قد تخفي عليهم أحكام الإسلام، لكونهم حديثي عهد بكفر.(247/18)
الشرط الثالث: أن يقصد التذكية لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاَْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } والتذكية فعل خاص يحتاج إلى نية، فإن لم يقصد التذكية لم تحل الذبيحة، مثل أن تصول عليه بهيمة فيذبحها للدفاع عن نفسه فقط.(247/19)
الشرط الرابع: أن لا يكون الذبح لغير الله، فإن كان لغير الله لم تحل الذبيحة، كالذي يذبح تعظيماً لصنم، أو صاحب قبر، أو ملك، أو والد ونحوهم لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاَْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاَْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.(247/20)
الشرط الخامس: أن لا يسمي عليها اسم غير الله مثل أن يقول باسم النبي، أو جبريل، أو فلان، فإن سمى عليها اسم غير الله لم تحل وإن ذكر اسم الله معه لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاَْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إلى قوله: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاَْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }. وفي الحديث الصحيح القدسي قال الله تعالى: «من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه».(247/21)
الشرط السادس: أن يذكر اسم الله تعالى عليها فيقول عند تذكيتها باسم الله لقوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُم بِآيَتِهِ مُؤْمِنِينَ }. وقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا». رواه البخاري وغيره، فإن لم يذكر اسم الله تعالى عليها لم تحل لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَدِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ }. ولا فرق بين أن يترك اسم الله عليها عمداً مع العلم أو نسياناً أو جهلاً لعموم هذه الاية، ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم جعل التسمية شرطاً في الحل، والشرط لا يسقط بالنسيان والجهل، ولأنه لو أزهق روحها بغير إنهار الدم ناسياً أو جاهلاً لم تحل فكذلك إذا ترك التسمية؛ لأن الكلام فيهما واحد من متكلم واحد فلا يتجه التفريق.
وإذا كان المذكي أخرس لا يستطيع النطق بالتسمية كفته الإشارة الدالة لقوله تعالى: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لاَِنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ }.
الشرط السابع: أن تكون الذكاة بمحدد ينهر الدم من حديد أو أحجار أو زجاج أو غيرها لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا، ما لم يكن سنّاً أو ظفراً وسأحدثكم عن ذلك: أما السن فعظم، وأما الظفر فمدى الحبشة». رواه الجماعة. وللبخاري في رواية «غير السن والظفر فإن السن عظم، والظفر مدى الحبشة»، وفي الصحيحين أن جارية لكعب بن مالك رضي الله عنه كانت ترعى غنماً له بسلع فأبصرت بشاة من الغنم موتاً فكسرت حجراً فذبحتها به فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلّم فأمرهم بأكلها.(247/22)
فإن أزهق روحها بغير محدد لم تحل مثل أن يخنقها أو يصعقها بالكهرباء ونحوه حتى تموت، فإن فعل بها ذلك حتى ذهب إحساسها ثم ذكاها تذكية شرعية وفيها حياة مستقرة حلت لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاَْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } إلى قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالاَْزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }.
وللحياة المستقرة علامتان:
إحداهما: أن تتحرك.
الثانية: أن يجري منها الدم الأحمر بقوة.(247/23)
الشرط الثامن: إنهار الدم أي إجراؤه بالتذكية، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه». ثم إن كان الحيوان غير مقدور عليه كالشارد والواقع في بئر أو مغارة ونحوه كفى إنهار الدم في أي موضع كان في بدنه، والأولى أن يتحرى ما كان أسرع إزهاقاً لروحه؛ لأنه أريح للحيوان وأقل عذاباً.
وإن كان الحيوان مقدوراً عليه فلابد أن يكون إنهار الدم من الرقبة من أسفلها إلى اللحيين، بحيث يقطع الودجين وهما عرقان غليظان محيطان بالحلقوم وتمام ذلك أن يقطع معهما الحلقوم ـ وهو مجرى النفس ـ والمريء ـ وهو مجرى الطعام والشراب ـ ليذهب بذلك مادة بقاء الحيوان وهو الدم وطريق ذلك وهو الحلقوم والمريء، وإن اقتصر على قطع الودجين حلت الذكية.
الشرط التاسع: أن يكون المذكى مأذوناً في ذكاته شرعاً، فأما غير المأذون فيه فنوعان:
أحدهما: ما حرم لحق الله تعالى كصيد الحرم والإحرام فلا يحل وإن ذكي لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الاَْنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّى الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ }. وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ }.
النوع الثاني: ما حرم لحق المخلوق كالمغصوب والمسروق يذبحه الغاصب أو السارق ففي حله قولان لأهل العلم انظرهما ودليلهما في الأصل ص 82 ـ 85.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل التاسع : في آداب الذكاة
محمد بن صالح العثيمين
في آداب الذكاة
للذكاة آداب ينبغي مراعاتها ولا تشترط في حل الذكية بل تحل بدونها فمنها:
1 ـ استقبال القبلة بالذكية حين تذكيتها.
2 ـ الإحسان في تذكيتها بحيث تكون بآلة حادة يمرها على محل الذكاة بقوة وسرعة.(247/24)
وقيل: هذا من الاداب الواجبة لظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته». رواه مسلم. وهذا القول هو الصحيح.
3 ـ أن تكون الذكاة في الإبل نحراً، وفي غيرها ذبحاً فينحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، فإن صعب عليه ذلك نحرها باركة. ويذبح غيرها على جنبها الأيسر، فإن كان الذابح أعسر يعمل بيده اليسرى ذبحها على الجنب الأيمن إن كان أريح للذبيحة وأمكن له. ويسن أن يضع رجله على عنقها ليتمكن منها.
وأما البروك عليها والإمساك بقوائمها فلا أصل له من السنة، وقد ذكر بعض العلماء أن من فوائد ترك الإمساك بالقوائم زيادة إنهار الدم بالحركة والاضطراب.
4 ـ قطع الحلقوم والمريء زيادة على قطع الودجين. وانظر الشرط الثامن من شروط الذكاة.
5 ـ أن يستر السكين عن البهيمة عند حدها فلا تراها إلا عند الذبح.
6 ـ أن يكبر الله تعالى بعد التسمية.
7 ـ أن يسمي عن ذبح الأضحية أو العقيقة من هي له بعد التسمية والتكبير، ويسأل الله قبولها فيقول: بسم الله والله أكبر، اللهم منك ولك عني إن كانت له، أو عن فلان إن كانت لغيره. اللهم تقبل مني إن كانت له، أو من فلان إن كانت لغيره.
أحكام الأضحية والذكاة
الفصل العاشر : في مكروهات الذكاة
محمد بن صالح العثيمين
في مكروهات الذكاة
للذكاة مكروهات ينبغي اجتنابها فمنها:
1 ـ أن تكون بآلة كآلة، أي غير حادة، وقيل: يحرم ذلك، وهو الصحيح.
2 ـ أن يحد آلة الذكاة والبهيمة تنظر.
3 ـ أن يذكي البهيمة والأخرى تنظر إليها.
4 ـ أن يفعل بعد التذكية ما يؤلمها قبل زهوق نفسها، مثل أن يكسر عنقها، أو يسلخها، أو يقطع شيئاً من أعضائها قبل أن تموت، وقيل: يحرم ذلك، وهو الصحيح.(247/25)
وإلى هنا انتهى ما أردنا تلخيصه من كتاب (أحكام الأضحية والذكاة) نسأل الله تعالى أن ينفع به وبأصله، وكان الفراغ منه عصر يوم الأربعاء الموافق 13 من ذي الحجة سنة 1400هـ أربعمائة وألف.
والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(247/26)
((((( البيوع )))))(/)
البيوع(/)
المداينة
مقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً.. أما بعد.
فلمَّا كان الدين الإسلامي ديناً كاملاً شاملاً لِمَا يقوم به العباد تجاه ربّهم من العبادات وما يفعلونه في أنفسهم من العادات، وما يتعاملون به بينهم من المعاملات، وقد جاء مبيِّناً لأحكام ذلك تفصيلاً وإجمالاً، وكان مما شاع بين الناس التعامل بالمداينة وهي بيعُ الغائب بالنَّاجز أو بالعكس، أو بيعُ الغائب بالغائبِ، أحببتُ أن أُبيِّن أحكام بعض ذلك فيما يأتي فأقول:
المداينة
المداينة
محمد بن صالح العثيمين
أقسام المداينة
القسم الأول: أن يحتاج إلى شراء سلعة وليس عنده ثمن حاضر ينقده، فيشتريها إلى أجلٍ معلومٍ بثمن زائد على ثمنها الحاضر فهذا جائز. مثل أن يشتري بيتاً ليسكنه أو يؤجِّره بعشرة آلاف إلى سنة، وتكون قيمته لو بيع نقداً تسعة آلاف، أو يشتري سيارة يركبها أو يؤجِّرها بعشرة آلاف إلى سنة، وقيمتها لو بيعت نقداً تسعة آلاف. وهو داخل في قوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.
القسم الثاني: أن يشتري السلعة إلى أجل لقصد الاتجار بها. مثل أن يشتري قمحاً بثمن مؤجل زائد على ثمنه الحاضر ليتجر به إلى بلد آخر أو لينتظر به زيادة السوق أو نحو ذلك، فهذا جائز أيضاً لدخوله في الآية السابقة.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية 6 عن هذين القسمين أنهما جائزان بالكتاب والسنة والإجماع (ذكره ابن قاسم في مجموع الفتاوى ص499 ج29).(248/1)
القسم الثالث: أن يحتاج إلى دراهم فيأخذها من شخص بشيء في ذمته. مثل أن يقول لشخص: أعطني خمسين ريالاً بخمسة وعشرين صاعاً من البُرِّ أسلِّمها لك بعد سنة، فهذا جائز أيضاً، وهو السَلمُ الذي ورد به الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قَدمَ النبي صلى الله عليه وسلّم المدينة وهم يسلِفُونَ في الثمار السنة والسنتين فقال صلى الله عليه وسلّم: «مَن أسلف فليُسْلِف في كيلٍ معلوم ووزنٍ معلوم إلى أجلٍ معلوم».
القسم الرابع: أن يكون محتاجاً لدراهم فلا يجد من يقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيعها على صاحبها الذي اشتراها منه بثمن أقل منه نقداً، فهذه هي مسألة العينة، وهي حرام؛ لقوله صلى الله عليه وسلّم: «إذا ضنَّ الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر، وتركوا الجهاد في سبيل الله، أنزل الله بهم بلاءً لا يرفعه حتى يرجعوا لدينهم» [رواه أحمد وأبوداود].
ولأن هذه حيلة ظاهرة على الرِّبا، فإنه في الحقيقة بيعُ دراهم حاضرة بدراهم مؤجلة أكثر منها دخلت بينهما سلعة، وقد نص الإمام أحمد وغيره على تحريمها.
القسم الخامس: أن يحتاج إلى دراهم ولا يجد مَن يقرضه فيشتري سلعة بثمن مؤجل، ثم يبيع السلعة على شخص آخر غير الذي اشتراها منه، فهذه هي مسألة التورق.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في جوازها، فمنهم مَن قال: إنَّها جائزة؛ لأن الرجل يشتري السلعة ويكون غرضه إمَّا عين السلعة وإمَّا عوضهَا وكلاهما غرض صحيح.
ومن العلماء مَن قال: إنها لا تجوز؛ لأن الغرض منها هو أخذ دراهم بدراهم ودخلت السلعة بينهما تحليلاً، وتحليل المحرم بالوسائل التي لا يرتفعُ بها حصول المفسدة لا يُغني شيئاً. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكل امرأ ما نوى».
والقول بتحريم مسألة التورق هذه هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو رواية عن الإمام أحمد.(248/2)
بل جعلها الإمام أحمد في رواية أبي داود من العينة كما نقله ابن القيم في «تهذيب السنن» (5/801).
ولكن نظراً لحاجة الناس اليوم وقلَّة المقرضين ينبغي القول بالجواز بشروط:
1 ـ أن يكون محتاجاً إلى الدراهم، فإن لم يكنْ محتاجاً فلا يجوزُ كمن يلجأ إلى هذه الطريقة ليدين غيره.
2 ـ أن لا يتمكَّن من الحصول على المال بطرقٍ أخرى مباحة كالقرض والسَّلم، فإن تمكن من الحصول على المال بطريقة أخرى لم تجز هذه الطريقة لأنَّه لا حاجة به إليها.
3 ـ أن لا يشتمل العقد على ما يشبه صورة الرِّبا مثل أن يقول: بعتك إيَّاها العشرة أحد عشر أو نحو ذلك، فإن اشتمل على ذلك فهو إمَّا مكروه أو محرم، نقل عن الإمام أحمد أنه قال في مثل هذا: كأنه دراهم بدراهم لا يصحّ. هذا كلام الإمام أحمد. وعليه فالطريق الصحيح أن يعرف الدائن قيمة السلعة ومقدار ربحه ثم يقول للمستدين: بعتك إيَّاها بكذا وكذا إلى سنة.
4 ـ أن لا يبيعها المستدين إلا بعد قبضها وحيازتها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم نهى عن بيع السلع قبل أن يحوزها التجار إلى رحالهم. فإذا تمَّت هذه الشروط الأربعة فإن القول بجواز مسألة التورق متوجهٌ كيلا يحصل تضييقٌ على الناس. وليكن معلوماً أنَّه لا يجوز أن يبيعها المستدين على الدائن بأقل مما اشتراها به بأي حال من الأحوال؛ لأن هذه هي مسألة العينة السابقة في القسم الرابع.
القسم السادس: طريقة المداينة التي يستعملها كثير من الناس اليوم، وهي أن يتفق المستدين والدائن على أخذ دراهم العشرة أحد عشر أو أقل أو أكثر، ثم يذهبا إلى الدكان فيشتري الدائن منه مالاً بقدر الدراهم التي اتفق والمستدين عليها، ثم يبيعه على المستدين، ثم يبيعه المستدين على صاحب الدكان بعد أن يخصم عليه شيئاً من المال يسمونه السعي، وهذا حرام بلا ريب، وقد نصَّ شيخ الإسلام ابن تيمية في عدَّة مواضع على تحريمه، ولم يحك فيه خلافاً مع أنه حكى الخلاف في مسألة التورُّق.(248/3)
والمواضع التي ذكر فيها شيخ الإسلام تحريم هذه المسألة هي:
1 ـ يقول في ص74 من المجلد28: «و... والثلاثية مثل أن يدخلا بينهما محلِّلاً للربا يشتري السلعة منه آكل الربا، ثم يبيعها المعطي للرِّبا إلى أجلٍ ثم يعيدها إلى صاحبها بنقص دراهم يستفيدها المحلِّل. هذه المعاملات منها ما هو حرام بإجماع المسلمين مثل التي يجري فيها شرط لذلك، أو التي يباع فيها المبيع قبل القبض الشرعي، أو بغير الشروط الشرعية، أو يقلب فيها الدِّينَ على المعسر. ومن هذه المعاملات ما تنازع فيها بعض العلماء لكن الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصحابته الكرام أنها حرام.
2 ـ وفي ص437 مجلد29 قال: «... وقول القائل لغيره أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا حرام... إلى أن قال: وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصدُ بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية».
3 ـ وفي ص439 من المجلد 29 المذكور قال: «أمَّا إذا كان قصد الطالب أخذ دراهم بأكثر منها إلى أجلٍ، والمعطي بقصد إعطاء ذلك، فهذا ربا لا ريب في تحريمه، وإن تحايلا على ذلك بأي طريق كان،. فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأ ما نوى». وذكر نحو هذا في ص430 وص433 وص441 من المجلد المذكور وذكر نحوه في كتاب: إبطال التحليل في ص109.
وبعد، فإنَّ تحريم هذه المداينة التي ذكرنا صورتها في أول هذا القسم لا يمتري فيه شخص تجرَّد عن الهوى وعن الشح وذلك من وجوه:(248/4)
* الأول: أن مقصود كل من الدائن والمدين دراهم بدراهم، ولذلك يقدِّران المبلغ بالدراهم، والكسب بالدراهم، قبل أن يعرفا السلعة التي يكون التحليل بها؛ لأنهما يتفقان أولاً على دراهم: العشرة كذا وكذا ثم يأتيان إلى صاحب الدكَّان فيشتري الدائن أي جنس وجده من المال، فربما يكون عنده سكر أو خام أو أرز أو هيل أو غير ذلك، فيشتري الدائن ما وجد ويأخذه المستدين، وبهذا علم أن القصد الدراهم بالدراهم، وأن السلعة غير مقصودة للطرفين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرأ ما نوى».
ويدلُّ على ذلك أنَّ الدائن والمستدين كلاهما لا يقلِّبان السلعة ولا ينظران فيها نظر المشتري الرَّاغب، وربما كانت معيبة أو تالفاً، منها ما كان غائباً عن نظرهما مما يلي الأرض أو الجدار المركونة إليه وهما لا يعلمان ذلك ولا يباليان به.
إذن فالبيع بيع صوريٌّ لا حقيقي، والصور لا تغيِّر الحقائق ولا ترتفع بها الأحكام. ولقد حُدِّثت أنه إذا لم يكف المال الموجود عند صاحب الدُّكان للدراهم التي يريدها المستدين. فإنَّهم يعيدون هذا البيع الصُّوري على نفس المال وفي نفس الوقت، فإذا أخذه صاحب الدُّكان من المستدين باعه مرة أخرى على الدائن، ثم باعه الدائن على المستدين بالربح الذي اتفقا عليه من قبل، ثم باعه المستدين على صاحب الدكان، فيرجع الدائن مرة أخرى فيشتريه من صاحب الدكان، ثم يبيعه على المستدين بالربح الذي اتفقا عليه. وهكذا أبداً حتى تنتهي الدراهم، فربما يكون المال الذي عند صاحب الدكان لا يساوي عُشرَ مبلغِ الدراهم المطلوبة، ولكن بهذه الألعوبة يبلغون مرادهم والله المستعان.
* الوجه الثاني: مما يدل على تحريم هذه المداينة أنه إذا كان مقصود الدائن والمدين هي الدراهم، فإن ذلك حيلة على الربا بطريقة لا يرتفع بها مقصود الرِّبا، والتحايل على محارم الله تعالى جامع بين مفسدتين:(248/5)
مفسدة المحرم التي لم ترتفع بتلك الحيلة.
ومفسدة الخداع والمكر في أحكام وآيات الله تعالى الذي يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.
ولقد أخبر الله عن المخادعين له بأنَّهم يخادعون الله وهو خادعهم، وذلك بما زيَّنه في قلوبهم من الاستمرار في خداعهم ومكرهم فهم يمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين.
قال أيوب السختياني: يخادعون الله كما يخادعون الصِّبيان، ولو أتوا بالأمر على وجهه لكان أهون.
وقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلّم أمَّته من التحايل على محارم الله فقال: «لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلُّوا محارم الله بأدنى الحيل». وقال صلى الله عليه وسلّم: «لعن الله اليهود، حُرِّمت عليهم الشُّحومُ فباعوها وأكلوا أثمانها».
* الوجه الثالث: أنَّ هذه المعاملة يربحُ فيها الدائن على المستدين قبل أن يشتري السلعة، بل يربحُ عليه في سلعة لم يعرفا نوعها وجنسها فيربحَ في شيء لم يدخلْ في ضمانه.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن ربح ما لم يضمنْ، وقال: «الخراجُ بالضّمانِ»، وقال: «لا تبعْ ما ليس عندك». وهذا كله بعد التسليم بأنَّ البيع الذي يحصل في المداينة بيع صحيح، فإنَّ الحقيقة أنَّه ليس بيعاً حقيقيًّا، وإنما هو بيعٌ صوريٌّ، بدليل أن المشتري لا يقلِّبه ولا ينظرُ فيه ولا يماكسُ في القيمة، بل لو بيع عليه بأكثر من قيمته لم يبال بذلك.
* الوجه الرابع: أنَّ هذه المعاملة تتضمنُ بيع السلعة المشتراة قبل حيازتها إلى محلِّ المشتري ونقلها عن محلِّ البائع.
وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن بيع السلع حيث تُشترى حتى يحوزها التجار إلى رحالهم.
فعن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن تُباعَ السلع حيث تبتاع حتى يحوزها التجار إلى رحالهم». رواه أبوداود.(248/6)
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «كانوا يتبايعون الطعام جزافاً بأعلى السوق فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلّم أن يبيعوه حتَّى ينقلوهُ». رواه الجماعة إلا الترمذي وابن ماجه.
القسم السابع: من طريقة المداينة أن يكون في ذمَّة شخص لآخر دراهم مؤجلة، فيحل أجلها وليس عنده ما يوفِّيه فيقول له صاحب الدين: أدينُكَ فتوفيني فيدينهُ فيوفيه، وهذا من الربا بل هو مما قال الله فيه: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }.
وهذا القسم من المداينة من أعمال الجاهلية حيث كان يقول أحدهم للمدين إذا حلَّ الدين: إما أن توفِّي وإما أن تُربي، إلا أنَّهم في الجاهلية يضيفون الرِّبا إلى الدَّين صراحة من غير عمل حيلة، وهؤلاء يضيفون الرِّبا إلى الدَّين بالحيلة. والواجب على صاحب الدَّين إذا حلَّ دينه إنظار المدين إذا كان معسراً، لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}. أمَّا إذا أبراه من الدَّين فذلك خيرٌ وأفضل. أما إن كان المدين موسراً فإنَّ للدائن إجباره على الأداء لأنه يحرم على المدين حينئذٍ أن يماطل ويدافع صاحب الدَّين لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «مطلُ الغني ظلم». ومن المعلوم أن الظلم حرام يجبُ منع فاعله وإلزامه بما يُزيلُ الظلم.(248/7)
القسم الثامن: من المداينة أن يكون لشخص على آخر دين، فإذا حلَّ قال له: إمَّا أن توفِّي دينك أو تذهب لفلان يدينك وتوفِّيني، ويكون بين الدائن الأول والثاني اتفاقٌ مسبقٌ في أنَّ كل واحد منهما يدين غريم صاحبه ليوفِّيه ثم يعيدُ الدَّين عليه مرة أخرى ليوفِّي الدائن الجديد. أو يقول: اذهب إلى فلان لتستقرض منه وتوفِّيني، ويكون بين الدائن الأول والمقرض اتفاق أو شبه اتفاق على أن يقرض المدين. فإذا أوفى الدائن الأول قلب عليه الدين، ثم أوفى المقرض ما اقترض منه. وهذه حيلة لقلب الدين بطريق ثلاثية وهي حرام لما تقدم من تحريم الحيل وتحذير النبي صلى الله عليه وسلّم أمته من ذلك.
خلاصة ما تقدم:
وبعد، فهذه ثمانية أقسام من أقسام المداينة بعضها حلال جائز فيه الخير والبركة، وبعضها حرام ممنوع ليس فيه إلا الشرُّ والخسارة ونزع البركة، ولو لم يكن فيه إلا أنه يزيِّن لصاحبه سوء عمله، فيستمر فيه ولا يرى أنه على باطل، فيكون داخلاً في قول الله تعالى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءَ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ}. وقال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالاَْخْسَرِينَ أَعْمَلاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَوةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا }.
فالحلال من هذه الأقسام:
1 ـ أن يحتاجَ الشخص إلى سلعة أو عقار فيشتريه بثمن مؤجَّل لقضاء حاجته.
2 ـ أن يشتري السلعة أو العقار بثمن مؤجل للاتجار به وانتظار زيادة السِّعر.
3 ـ أن يحتاجَ إلى دراهم فيأخذها من شخص بسلعة يكتبها الآخذ في ذمته.
وهذه الأقسام الثلاثة جائزة بلا ريب وسبقَ تفصيلها.
والحرام من الأقسام الأخرى:(248/8)
1 ـ أن يحتاج إلى دراهم فلا يجدُ مَن يقرضه فيشتري سلعة من شخص بثمنٍ مؤجَّل زائد على قيمتها الحاضرة، ثم يبيعها على غيره، وهذه هي مسألة التَّورُّق، في جوازها خِلاف بين العلماء كما تقدم.
2 ـ أن يحتاج إلى دراهم ولا يجد مَن يقرضه فيشتري من شخص سلعة بثمن مؤجَّل، ثم يبيعها عليه بأقل مما اشتراها به، وهذه مسألة العينة.
3 ـ أن يتفق الدائن والمدين على أخذ الدراهم العشرة أحد عشر أو نحو ذلك، ثم يذهب إلى ثالث فيشتري الدائن منه سلعة، هو في الحقيقة شراء صوري، ثم يبيعها على المدين ثم يبيعها المدين بدوره على الذي أخذها الدائن منه.
وهذه طريقة المداينة التي يستعملها الآن كثير من الناس، وهي حرام كما سبق عن شيخ الإسلام ابن تيمية، ولم يذكر خلافاً في تحريمها كما ذكر في مسألة التَّورُّق.
4 ـ أن يكون لشخص على آخر دينٌ مؤجَّلٌ فيحل أجله وليس عنده ما يوفيه، فيقول صاحب الدين: أدينك وتوفيني، فيدينه فيوفيه. وهذه طريقة أهل الجاهلية التي تتضمن أكل الرِّبا أضعافاً مضاعفة، إلا أنها صريحة في الجاهلية خديعة في هذا الزمان، ففيها مفسدتان.
5 ـ أن يكون لشخص على آخر دين مؤجل فيحل أجله، ويكون لصاحب الدين صاحب يتَّفق معه على أن يقرض المدين أو يدينه ليوفِّي الدائن، ثم يقلب عليه الدين مرة أخرى. وهذه هي طريقة الجاهلية مع إدخال الطرف الثالث المشارك في الإثم والعدوان والمكر والخداع.
فهذه الأقسام الخمسة محرَّمة، وقد علمت ما في القسم الأول منها من الخلاف.
واعلم أنَّ الدَّين في اصطلاح أهل الشرع اسم لما ثبت في الذمة سواء كان ثمنَ مبيعٍ أو قرضاً أو أجرةً أو صداقاً أو عوضاً لخلع أو قيمة لمتلف أو غير ذلك.(248/9)
وليس كما يظنه كثير من العوام من أنَّ المداينة هي التي يستعملونها ويستدلون عليها بقوله تعالى: {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}. فإن المراد به هو الدين الحلال الذي بيّن الله ورسوله حِلَّه، دون الدين الحرام، وهذا كثير في نصوص الكتاب والسنة تأتي مطلقة أو عامة في بعض المواضع ولكن يجبُ أن تخصص أو تقيد بما دل على التخصيص والتقيد.
* * *
خاتمة
ولنختم هذا البحث بما ورد في الكتاب والسنة من تحريم الرِّبا والتشديد فيه.
قال تعالى: {بَقِىَ مِنَ الرِّبَواْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَلِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ }. ففي هذه الآية تهديد شديد ووعيد أكيد لمن لم يترك الرِّبا، وذلك بمحاربته لله ورسوله، فأي ذنب في المعاملة أعظم من ذنب يكون فيه فاعله محارباً لله ولرسوله؟ ولذلك قال بعض السلف: «من كان مقيماً على الربا لا يتوب منه كان حقًّا على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نَزَعَ وإلاَّ ضَرَبَ عُنُقَهُ».
وفي قوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الرِّبَواْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ }. إشارة إلى أنَّ آكل الربا بأنَّه لو كان مؤمناً بالله ورسوله حقَّ الإيمان راجياً ثواب الله في الآخرة خائفاً من عقابه لَمَا استمرَّ على أكل الرِّبا والعياذ بالله تعالى.(248/10)
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَواْ لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَنُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَواْ فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ }.
ففي هذه الآية وصف آكلي الربا بأنهم يقومون من قبورهم يوم القيامة أمام العالم كلهم كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطان من المسِّ ـ يعني كالمصروعين الذين تصرعُهُم الشياطين وتخنُقهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: «آكل الربا يُبعثُ يوم القيامة مجنوناً يُخْنَق». ثم بيَّن الله ما وقعَ لهم من الشبهة التي أعمت أبصارهم عن التمييز بين الحق والباطل، فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَواْ}. وهذا يحتمل أنَّهم قالوه لشبهةٍ وقعت لهم وتأويلٍ فاسد لجأوا إليه، كما يحتج أهل الحيل على الرِّبا، ويحتمل أنهم قالوا ذلك عناداً وجحوداً، وعلى كلا الاحتمالين فإنَّ هذا يدل على أنهم مستمرون في باطلهم، منهمكون في أكل الرِّبا ومجادلون بالباطل ليُدْحِضُوا به الحق. نعوذ بالله من ذلك.(248/11)
وقال تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِى أُعِدَّتْ لِلْكَفِرِينَ * وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }. ففي هاتين الآيتين: نهى الله عباده المؤمنين بوصفهم مؤمنين عن أكل الرِّبا، ثم حذَّرهم من نفسه في قوله: {وَاتَّقُواْ اللَّهَ}، ثم حذَّرهم النار التي أُعدَّت للكافرين، وبيَّن أنَّ تقواه وطاعته سبب للفلاح والرحمة: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.
وهذا كله دليل على تعظيم شأن الرِّبا وأنَّه سبب لعذاب الله تعالى ودخول النار والعياذ بالله تعالى من ذلك.
وقال تعالى: {وَمَآ ءَاتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِى أَمْوَالِ النَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ اللَّهِ} الآية. وقال: {يَمْحَقُ اللَّهُ الْرِّبَواْ وَيُرْبِى الصَّدَقَتِ}.
فالربا لا يربو عند الله ولا يزداد صاحبه به قربة عند ربه، فإنَّه مال مكتسب بطريق حرام فلا خير فيه ولا بركة، ولو أنَّ صاحبه تصدَّق به لم يقبل منه إلا إذا كان تائباً إلى الله تعالى من ذلك الذنب الكبير فيتصدق به للخروج من تبعته عند عدم معرفته لأصحابه وبذلك يكون بريئاً منه. أمَّا إن تصدَّق به لنفسه فإنَّه لا يقبلُ منه لأنه لا يربو عند الله، بينما الصدقات المقبولة تربو عند الله، وإن أنفقه لم يبارك الله له فيه لأن الله يمحقه أو يسحق بركته، فلا خير ولا بركة في الربا.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «اجتنبوا السبع الموبقات ـ وذكر منها ـ الربا» متفق عليه.(248/12)
وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرضٍ مقدسةٍ حتى أتينا على نهر من دم فيه رجلٌ قائمٌ وعلى شط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرجل الذي في النهر، فإذا أراد أن يخرج رمى الرجل بحجر في فمه فردَّهُ حيث كان، فجعل كلما أراد أن يخرج رمي في فمه بحجر فيرجع كما كان. فقلت: ما هذا الذي رأيتُه في النهر؟ قال: آكل الربا» رواه البخاري.
وعن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلّم آكل الرِّبا وموكلِه وكاتبه وشاهدهُ. وقال: هم سواء» رواه مسلم وغيره.
وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «الرِّبا اثنان وسبعون باباً أدناها مثل إتيان الرجل أمَّه». رواه الطبراني وله شواهد.
وقد وردت أحاديث كثيرة في التحذير من الرِّبا وبيان تحريمه، وأنَّه من كبائر الذنوب وعظائمها.
فليحذر المؤمن الناصح لنفسه من هذا الأمر العظيم، وليتب إلى الله تعالى قبل فوات الأوان وانتقاله عن المال، وانتقال المال إلى غيره فيكون عليه إثمه وغرمه ولغيره كسبه وغنمه.(248/13)
وليحذر من التحيُّل عليه بأنواع الحيل، لأنه إذا تحيَّل فإنما يتحيَّل على مَن يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، ولن تفيده هذه الحيل، لأن الصور لا تغير الحقائق. قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب «إبطال التحليل» ص108: «... فيا سبحان الله العظيم، أيعود الرِّبا الذي قد عظَّم الله شأنه في القرآن وأوجب محاربة مستحلِّه، ولعن أهل الكتاب بأخذه، ولعن آكلهُ وموكلهُ وشاهدهُ وكاتبهُ، وجاء فيه من الوعيد ما لم يجأ في غيره إلى أن يستحلَ جمعه بأدنى سعي من غير كلفة أصلاً إلا بصورة عقد هي عبث ولعب يضحكُ منها ويُستهزأ بها.. أم يستحسنُ مؤمن أن ينسب نبيًّا من الأنبياء فضلاً عن سيد المرسلين، بل أن ينسب رب العالمين إلى أن يحرِّم هذه المحارم العظيمة ثم يُبيحُهَا بنوع من العبثِ والهزل الذي لم يقصدْ ولم يكنْ له حقيقة وليس فيه مقصود للمتعاقدين قط».
وقال في ص137: «... وكلما كان المرءُ أفقه في الدين وأبصر بمحاسنه كان فراره من الحيل أشد، قال: وأظنُّ كثيراً من الحيل إنَّما استحلَّها من لم يفقه حكمة الشارع ولم يكن له بُد من التزام ظاهر الحكم، فأقام رسم الدين دون حقيقة، ولو هُدي إلى رشده لسلَّم لله ورسوله وأطاعَ الله ظاهراً وباطناً في كل أمره.
أسأل الله تعالى أن يوقظ بمنِّه وكرمه عباده المؤمنين من هذه الغفلة العظيمة، وأن يقيهم شُحَّ أنفسهم ويهديهم صراطه المستقيم إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(248/14)
مجموعة أسئلة في بيع و شراء الذهب
مجموعة أسئلة في بيع و شراء الذهب
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, واشهد إن لا اله إلا الله وحده لا شريك له, وشهد أن محمدا عبده ورسوله صلي الله عليه وعلى آله وسلم... أما بعد..
فقد شرع الله تعالي لعباده في معاملاتهم نظما كاملة مبنية على العدل لا يساويها أي نظام أخر, وإن من الظلم في المعاملات واجتناب العدل والاستقامة أن تكون مشتملة على الربا الذي حذر الله تعالي منه في كتابه وعلى لسان رسوله صلي الله عليه وسلم واجمع المسلمون على تحريمه.قال تعالي: ( يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين (278) فان لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون ) (البقرة 278-279) وقال تعالي:( يا أيها الذين أمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون (130) واتقوا النار التي أعدت للكافرين (131) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون ) (آل عمران 130-132 ) . وقال تعالي : ( الذين يأكلون الربا لا يقومون الا كما يقوم الذي تخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا واحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهي فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون * يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم ) (البقرة 275-276 ) .(249/1)
ولقد ثبت في صحيح مسلم(1) من حديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال: ( هم سواء ) واللعن هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله تعالي, والله تعالي إنما خلق الجن والإنس, وأودع فيهم العقول والإدراك, وبعث فيهم الرسل وبث فيهم النذر ليقوموا بعبادته والتذلل له بالطاعة مقدمين أمره وأمر رسوله على ما تهواه أنفسهم, فان ذلك هو حقيقة العبادة ومقتضي الإيمان بالله سبحانه وتعالي كما قال الله تعالي: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا )(الأحزاب 36 ) .
فلا خيار للمؤمن إن كان مؤمنا حقا في أمر قضاه الله ورسوله, وليس أمامه الا الرضا والتسليم التام سواء وافق هواه أم خالفه, والا فليس بمؤمن كما قال الله تعالي: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما ) (النساء 65) .إذا تبين هذا فاعلم أن أوامر الله تعالي تنقسم إلي قسمين:
قسم يختص بمعاملته سبحانه وتعالي كالطهارة والصلاة والصيام والحج, وهذا لا يستريب أحد في التعبد لله تعالي به, وقسم يختص بمعاملة الخلق وهي المعاملة الجارية بينهم من بيع وشراء وإيجار ورهن وغيرها, وكما أن تنفيذ أوامر الله تعالي والتزام شريعته في القسم الاول أمر معلوم وجوبه لكل احد, فكذلك تنفيذ أوامره والتزام شريعته في القسم الثاني أمر واجب إذ الكل من حكم الله تعالي على عباده, فعلى المؤمن تنفيذ حكم الله والتزام شريعته في هذه وذاك...وبعد ..
فهذه أسئلة عن البيع وشراء واستعمال الذهب(2) موجهة لشيخنا محمد بن صالح العثيمين تفضل بالإجابة عليها سائلا الله تعالي أن ينفع بها من قرأها أو سمعها, وان يعظم الأجر والمثوبة لمن كتبها أو طبعها أو نشرها أو عمل بها وهو حسبنا ونعم الوكيل...(249/2)
السؤال الاول: ما الحكم في أن كثيرا من أصحاب محلات الذهب يتعاملون بشراء الذهب المستعمل ( الكسر ) ثم يذهبون به إلى تاجر الذهب ويستبدلونه بذهب جديد مصنع وزن مقابل وزن تماماً, يأخذون عليه أجرة التصنيع للذهب الجديد ؟
الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم, والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.ثبت عن النبي صلي الله عليه وعلى آله وسلم انه قال: ( الذهب بالذهب, والفضة بالفضة, والبر بالبر, والشعير بالشعير, والتمر بالتمر, والملح بالمح, مثلا بمثل, سواء بسواء, يدا بيدٍ ) (1)
وثبت عنه انه قال: ( من زاد أو استزاد فقد أربى ) (2)وثبت عنه( انه أتي بتمر جيد فسأل عنه فقالوا: كنا نأخذ الصاع بصاعين, والصاعين بثلاثة, فامر النبي صلي الله عليه وسلم برد البيع وقال:هذا عين الربا ) ثم أرشدهم أن يبيعوا التمر الردئ, ثم يشتروا بالدراهم تمرا جيدا.(3)
ومن هذه الأحاديث نأخذ أن ما ذكره السائل من تبديل ذهب بذهب مع إضافة أجرة التصنيع إلى أحدهما انه أمر محرم لا يجوز, وهو داخل في الربا الذي نهي النبي صلي الله عليه وسلم عنه ، والطريق السليم في هذا أن يباع الذهب الكسر بثمن من غير مواطأة ولا اتفاق, وبعد أن يقبض صاحبه الثمن فإنه يشتري الشئ الجديد, والأفضل أن يبحث عن الشئ الجديد في مكان أخر, فإذا لم يجده رجع إلى من باعه عليه واشتري بالدراهم وإذا زادها فلا حرج, المهم ألا تقع المبادلة بين ذهب وذهب مع دفع الفرق ولو كان ذلك من اجل الصناعة. هذا إذا التاجر تاجر بيع, أما إذا كان التاجر صائغاً فله ان يقول خذ هذا الذهب اصنعه ليّ على ما يريد من الصنعة أعطيك أجرته إذا انتهت الصناعة, فلا بأس.
***
السؤال الثاني: ما رأي فضيلتكم أن بعض أصحاب محلات الذهب يقومون باستبدال الذهب الجديد لديهم مقابل ذهب مستعمل من الراغب في الشراء منهم ويأخذون عليه أجرة تصنيع ؟(249/3)
الجواب: لا يظهر لي فرق بين هذا السؤال والذي قبله والحكم فيهما واحد.
***
السؤال الثالث: إن بعض أصحاب محلات الذهب يقومون بشراء الذهب بالأجل معتقدين إن هذا حلال وحجتهم إن هذا من عروض التجارة ولقد نوقش كبارهم على إن مثل هذا العمل لا يجوز فأجاب بان أهل العلم ليس لهم معرفة بمثل هذا العمل ؟
الجواب: إن هذا اعني بيع الذهب بالدراهم إلى اجل حرام بالإجماع, لأنه ربا نسيئة, وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث عبادة بن الصامت حين قال: ( الذهب بالذهب والفضة بالفضة..........الخ ) الحديث قال: ( فان اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيدٍ )(4) هكذا أمر النبي صلي الله عليه وسلم.
وأما قوله إن أهل العلم لا يعلمون ذلك فهذا اتهام لأهل العلم في غير محله, لان أهل العلم كما وصفهم أهل علم والعلم ضد الجهل, فلولا أنهم يعلمون ما صحّ أن يسميهم أهل العلم, وهم يعلمون حدود ما انزل الله على رسوله, ويعلمون إن مثل هذا العمل عمل محرم لدلالة النص على تحريمه.
***
السؤال الرابع: ما الحكم في إن بعض محلات الذهب يشترط على البائع للذهب المستعمل أن يشتري منه جديدا.
الجواب: هذا أيضا لا يجوز, لان هذا حيلة على بيع الذهب بالذهب مع التفاضل. والحيل ممنوعة في الشرع, لأنها خداع وتلاعب بأحكام الله
السؤال الخامس: هل يلزم أن يكون التوكيل لفظا بين أصحاب محلات الذهب أم يكفي بمثل أن يأخذ منه على ما اعتادوا بينهم من انه سيبيعه بالسعر المعروف ؟
الجواب: الوكالة عقد من العقود تنعقد بما دلّ عليها من قول أو فعل, فإذا جرت العادة بين أهل الدكاكين إن السلعة التي لا توجد عند احدهم إذا وقف عنده المشتري فذهب إلي جاره واخذ منه السلعة على انه يبيعها له, وكان الثمن معلوما عند هذا الذي أخذها وباعها لصاحبها بالثمن المعلوم بينهم, فان هذا لا باس به, لان الوكالة كما قال أهل العلم تنعقد بما دلّ عليها من قول أو فعل.
***(249/4)
السؤال السادس: ما الحكم فيما إذا أتي المشتري واشتري بضاعة الذهب ثم اشترط إذا لم تصلح يردها للمحل للاستبدال أو استرداد قيمتها, وماهي الطريقة المشروعة في مثل هذا الحالة حيث إن بعضهم قد يكون بعيد المسافة عن المدينة مما يستحيل العودة بنفسه إلى المحل في نفس اليوم أو اليوم الثاني ؟
الجواب: الأفضل في مثل هذا والأحسن أن يأخذ السلعة الذهبية قبل أن يتم العقد, ويذهب بها إلى أهله, فان صلحت رجع إلي صاحب الدكان وباع معه واشتري من جديد هذا هو الأفضل. أما إذا اشتراها منه وعقد العقد ثم اشترط الخيار له إن صلحت لأهله والا ردها, فهذه محل خلاف بين أهل العلم, فمنهم من أجاز ذلك وقال: إن المسلمين على شروطهم, ومنهم من منع ذلك وقال: إن هذا الشرط يحل حراما وهو التفرق قبل تمام العقد على وجه لازم. والأول ظاهر اختيار شيخ الإسلام بن تيمية, والثاني هو المشهور من المذهب, وإن كل عقد يشترط فيه التقابض فانه لا يصح فيه شرط الخيار. وعلى هذا فإذا أراد الإنسان أن تبرأ ذمته ويسلم فليسلك الطريقة الأولي أن يأخذها ويشاور عليها قبل أن يتم العقد.
ما معني قبل أن يتم العقد ؟؟
أي يعطهم دراهم رهنا أو أي سلعة يستوثقون بها لا على إنها ثمن للذهب الذي اشتراه
***
السؤال السابع: ما الحكم في إن بعض أصحاب محلات الذهب يشتري ذهبا مستعملا نظيفا ثم يعرضه للبيع بسعر جديد. فهل يجوز مثل هذا أو يلزمه تنبيه المشتري بأنه مستعمل أو لا يلزمه حيث أن بعض المشتريين لا يسأل هل هذا جديد أم لا ؟(249/5)
الجواب: الواجب عليه النصيحة, وان يحب لأخيه ما يحب لنفسه, ومن المعلوم لو أن شخصا باع عليك شيئا مستعملا خفيفا لم يؤثر فيه وباعه عليك على انه جديد لعددت ذلك غشا منه وخديعة, فإذا كنت لا ترضي أن يفعل بك الناس هذا فكيف تسوغ لنفسك أن تفعله بغيرك. وعلى هذا فلا يجوز للإنسان أن يفعل مثل هذا الفعل حتى يبين للمشتري ويقول له: إن هذا قد استعمل استعمالا خفيفا أو ما أشبه ذلك.
***
السؤال الثامن: ما الحكم فيمن سلم ذهبه لمصنع الذهب ليصنعه فربما اختلط ذهبه مع ذهب غيره حال صهر الذهب في المصنع ولكن عند استلامه من المصنع يستلمه بنفس الوزن الذي سلمه ؟
الجواب يجب على المصنع أن لا يخلط أموال الناس بعضها ببعض, وان يميز كل واحد على حده فإذا كان عيار الذهب يختلف. أما إذا كان عيار الذهب لا يختلف فلا حرج أن يجمعها لا نه لا يضر.
***
س: وهل يلزم تسديد أجرة التصنيع عند استلام الذهب أو نعتبره حساب جاري؟
ج: لا يلزم أن يسدد لان هذه الأجرة على عمل, فان سلمها حال القبض فذالك والا متي سلمها صح.
السؤال التاسع: ماراي فضيلتكم حيث إن بعض المشتريين للذهب يسال عن سعر الذهب ثم إذا علم بسعره قام واخرج ذهبا مستعملا معه وباعه, وعند استلامه الدراهم يقوم ويشتري بضاعة جديدة ؟
الجواب: هذا لا باس به إذا لم يكن هناك اتفاق ومواطأة من قبل الا أن الإمام احمد رحمه الله يري انه في مثل هذه الحالة يذهب ويطلب من جهة أخري فيشتري منها, فان لم يتيسر له ذلك رجع إلي الذي باع عليه أولا ليشتري منه حتى يكون ذلك ابعد عن الشبهة, شبهة الحيلة
***
السؤال العاشر: ما الحكم فيمن باع ذهبا على صاحب المحل ثم يشتر يذهبا أخر من صاحب المحل بمبلغ مقارب للمبلغ الذي باع عليه به مثلا, ثم يسدد له قيمة الذهب الذي اشتراه من قيمة الذهب الذي باعه وهو لم يستلمها ؟(249/6)
الجواب : هذا لا يجوز , لأنه إذا باع شيئا بثمن لم يقبض واعتاض عن ثمنه ما لا يحل بيعه به نسيئة, فقد صرح الفقهاء بان هذا حرام ,لأنه قد يتخذ حيله على بيع ما لا يجوز فيه النسيئة بهذه الصفة بدون قبض,وإذا كان من جنسه صار حيلة على ربا الفضل(1) وربا النسيئة(2) .
***
السؤال الحادي عشر: ما حكم من اشتري ذهبا وبقي عليه من قيمته وقال أتي بها عليك متى تيسر ؟
الجواب: لا يجوز هذا العمل, وإذا فعله صح العقد فيما قبض عوضه, وبطل فيما لم يقبض, لان النبي صلي الله عليه وسلم قال في بيع الذهب بالفضة: ( بيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيدٍ ) (3)
***
السؤال الثاني عشر: ما الحكم فيمن اشتري ذهبا وتم البيع عليه ثم سدد القيمة وبقي عليه جزء من المبلغ فهل يجوز أن يذهب إلي أي مكان ليأتي بالباقي بعد قليل مثلا من ( السيارة أو البنك ) ولم يستلم الذهب الا بعد أن أتي بالباقي, فهل يصح هذا العمل ؟ والا يلزم إعادة العقد بعدما أتي بالباقي ؟
الجواب: الأولي أن يعاد العقد بعد أن يأتي بالباقي, وهذا لا يضر ماهو الا إعادة الصيغة فقط مع مراعاة السعر إن زاد أو نقص, وإن تم العقد على السعر الاول فلا باس, وإن ترك العقد حتى يأتي بباقي الثمن كان أولي, لأنه لا داعي للعقد قبل إحضار الثمن, والله الموفق.
***
السؤال الثالث عشر: هنالك بعض أصحاب محلات الذهب يذهب إلي تاجر الذهب ويأخذ منه ذهبا جديدا بوزن كيلو مثلا, ويكون هذا الذهب مخلوطا به فصوص سواء كانت من أحجار كريمة المسماة بالماس أو الزراكون أو غيرها, ويعطيه المشتري مقابل هذا الكيلو ذهبا صافيا وزنا بوزن, ولكنه ليس فيه فصوص, ثم إن البائع يأخذ زيادة على ذلك تسمي أجرة التصنيع.فيكون عند البائع زيادتان أولهما زيادة ذهب مقابل وزن الفصوص, وثانيهما زيادة أجرة التصنيع لأنه تاجر ذهب وليس مصنع ذهب. فما حكم هذا العمل وفقكم الله ؟(249/7)
الجواب:هذا العمل محرم لأنه مشتمل على الربا.والربا فيه كما ذكر السائل من وجهين: الوجه الاول زيادة الذهب حيث جعل ما يقابل الفصوص وغيرها ذهبا وهو شبيه بالقلادة التي ذكرت في حديث فضالة بن عبيد حيث أشتري قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر دينارا, ففصلها فوجد فيه أكثر,فقال النبي صل الله عليه وسلم:(لا تباع حتى تفصل)(1)
أما الوجه الثاني: فهو زيادة أجرة التصنيع, لان الصحيح إن زيادة أجرة التصنيع لا تجوز, لان الصناعة وإن كانت من فعل الآدمي لكنها زيادة الوصف الذي من خلق الله عز وجل, وقد نهي النبي صلي الله عليه وسلم أن يشتري صاع التمر الطيب بصاعين من التمر الردئ (2) والواجب على المسلم الحر من الربا والبعد عنه لأنه من أعظم الذنوب
***
السؤال الرابع عشر: ما حكم العمل عند أصحاب محلات الذهب الذين يتعاملون بمعاملات غير مشروعة سواء كانت ربوية أو حيلا محرمة أو غشا أو غير ذلك من المعاملات التي لا تشرع ؟
الجواب: العمل عند هولاء الذين يتعاملون بالربا أو بالغش أو نحو ذلك من الأشياء المحرمة, العمل عند هولاء محرم, لقول الله تعالي: ( ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ) (المائدة 2 ) ولقوله: ( وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم )(النساء: 140)
ولقول النبي صلي الله عليه وسلم: ( من رأي منكم منكرا فلغيره بيده فان لم يستطيع فبلسانه, فان لم يستطع فبقلبه )(3) . والعامل عندهم لم يغير لا بيده ولا بلسانه ولا بقلبه فيكون عاصيا للرسول صلي الله عليه وسلم.
***
السؤال الخامس عشر: ما حكم التعامل بالشيكات في بيع الذهب إذا كانت مستحقة السداد وقت البيع حيث إن بعض أصحاب الذهب يتعامل بالشيكات خشية على نفسه ودراهمه أن تسرق منه ؟(249/8)
الجواب : لا يجوز التعامل بالشيكات في بيع الذهب أو الفضة , وذلك لان الشيكات ليست قبضا وإنما هي وثيقة حوالة فقط بدليل إن هذا الذي اخذ الشيك لو ضاع منه لرجع على الذي أعطاه إياه , ولو كان قبض لم يرجع عليه .
وبيان ذلك إن الرجل لو اشتري ذهباً بدراهم فاستلم البائع الدراهم فضاعت منه لم يرجع على المشتري, ولو انه اخذ من المشتري شيكا ثم ذهب به ليقبضه من البنك ثم ضاع منه فانه يرجع علي المشتري بالثمن.وهذا دليل على الشيك ليس بقبض, وإذا لم يكن قبضا لم يصح البيع, لان النبي صلي الله عليه وسلم أمر أن يكون بيع الذهب بالفضة يدا بيد. الا إذا كان الشيك مصدقا من قبل البنك واتصل البائع بالبنك وقال ابقي والدراهم عندك وبيع لي, فهذا قد يرخص فيه. والله اعلم.
***
السؤال السادس عشر ما حكم بيع الذهب الذي يكون فيه رسوم أو صور مثل فراشة أو راس ثعبان أو ما شابه ذلك ؟
الجواب: الحلي الذهب أو الفضة المجعول على صورة حيوان حرام بيعه وحرام شراءه وحرام لبسه, وحرام اتخاذه, وذلك لان الصور يجب على المسلم أن يطمسها ويزيلها. كما في صحيح مسلم, عن أبي الهياج إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال له: ( الا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم ؟ : الا تدع صورة الا طمستها, ولا قبرا مشرفا الا سويته )(1) وثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة(2) . وعلى هذا فيجب على المسلمين أن يتجنبوا استعمال هذا الحلي وبيعه وشراءه.
***
السؤال السابع عشر ما حكم حجز الذهب وذلك بدفع بعض قيمته وتأمينه عند التاجر حتى تسدد القيمة كاملة ؟(249/9)
الجواب: ذلك لا يجوز لأنه إذا باعها فإن مقتضى البيع أن ينتقل ملكها من البائع إلي المشتري بدون قبض الثمن, وهذا حرام لا يجوز, بل لا بد أن يقبض الثمن كاملا ثم إن شاء المشتري أبقاها عند البائع وان شاء أخذها. نعم لو سامه منه ولم يبع عليه ثم ذهب وجاء بباقي الثمن ثم تم العقد والقبض بعد ذلك, فهذا جائز لان العقد لم يكن الا بعد إحضار الثمن.
***
السؤال الثامن عشر: ماحكم إخراج الذهب قبل استلام ثمنه, وإذا كان لقريب يخشى من قطيعة رحمه مع علمي التام انه سيسدد قيمتها ولو بعد حين,
الجواب:يجب أن تعلم القاعدة العامة بل إن بيع الذهب بدراهم لا يجوز أبدا الا باستلام الثمن كاملا, ولا فرق بين القريب والبعيد, لان دين الله لا يحابي فيه احد. وإذا غضب عليك القريب في طاعة الله عز وجل فليغضب, فانه هو الظالم الآثم الذي يريد منك أن تقع في معصية الله عز وجل وأنت في الحقيقة قد بررت حين منعته أن يتعامل معك المعاملة المحرمة, فإذا غضب أو قاطعك لهذا السبب فهو الآثم وليس عليك من إثمه شئ.
***
السؤال التاسع عشر: ما حكم اخذ التاجر ذهبا مقابل ذهب يريد المشتري أن يشاور عليه, وهذا الذهب الذي أخذه التاجر رهن إلي أن يرد المشتري ما اخذ منه مع العلم انه لابد من اختلاف في الوزن بينما ما أخذه ورهنه ؟
الجواب : هذا لا بأس به مادام إنه لم يبعه إياه وإنما قال : هذا الذهب رهنا عندك حتى اذهب وأشاور ثم أعود إليك ونتبايع من جديد , ثم إذا تبايعنا سلمه الثمن كاملا واخذ ذهبه الذي أخذه رهنا عنده .
***
السؤال العشرون: رجل اشتري قطعة ذهبية بمبلغ مائتي دينار, واحتفظ بها مدة من الزمن إلي أن زادت قيمة الذهب أضعافا فباعها بثلاثة ألاف دينار, فما حكم هذه الزيادة ؟(249/10)
الجواب : هذه الزيادة لا بأس بها ولا حرج , ومازال المسلمون هكذا في بيعهم وشراءهم يشترون السلع وينتظرون زيادة القيمة , وربما يشترونها بأنفسهم للاستعمال ثم إذا ارتفعت القيمة جدا ورأوا الفرصة في بيعها باعوها مع إنهم لم يكن عندهم نية في بيعها من قبل , والمهم إن الزيادة متى كانت تبعا للسوق فانه لا حرج فيها فلو زادت أضعافا مضاعفة . لكن لو كانت الزيادة في الذهب بادل به في ذهب أخر واخذ زيادة في الذهب الأخر فهذا حرام لان بيع الذهب بالذهب لا يجوز الا وزنا بوزن ويدا بيد كما ثبت بذلك الحديث عن رسول الله صلي الله عليه وسلم, فإذا بعت ذهبا بذهب ولو اختلافا في طيب يعني احدهما أطيب من الأخر فانه لا يجوز الا مثلا بمثل سواء بسواء يدٍ بيد. فلو أخذت من الذهب عيار (18) مثقالين بمثقال ونصف من الذهب عيار (24) فان هذا حرام ولا يجوز, لأنه لابد من التساوي. ولو أخذت مثقالين بمثقالين من الذهب ولكن تأخر القبض في احدهما فانه لا يجوز أيضا, لأنه لابد من القبض في مجلس العقد, ومثل ذلك بيع الذهب بالأوراق النقدية المعروفة, فانه إذا اشتري الإنسان ذهبا من التاجر أو من الصائغ لا يجوز له أن يفارقه حتى يسلمه القيمة كاملة إذ إن هذه الأوراق النقدية بمنزلة الفضة, وبيع الذهب بالفضة يجب فيه التقابض قبل التفرق, لقول الرسول عليه والصلاة والسلام: ( إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد )(1)
***
السؤال الحادي والعشرون: ما حكم بيع الخواتم من الذهب المخصصة بلبس الرجال إذا تيقن التاجر إن المشتري سيلبسها ؟(249/11)
الجواب: بيع الخواتم من الذهب للرجال إذا علم البائع إن المشتري سوف يلبسها أو غلب على ظنه انه يلبسها, فان بيعها عليه حرام, لان الذهب حرام على ذكور هذه الأمة, فإذا باعه على من يعلم أو يغلب على ظنه انه يلبسه فقد أعان على الإثم, وقد نهي الله عز وجل عن التعاون على الإثم والعدوان, قال تعالي: ( وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان)(المائدة 2) . ولا يحل للصائغ أن يصنع الخواتم الذهب ليلبسها الرجال.
***
السؤال الثاني والعشرون: ماهي العلة في تحريم لبس الذهب على الرجال لأننا نعلم إن دين الإسلام لا يحرم على المسلم الا كل شئ فيه مضرة عليه, فما هي المضرة المترتبة على التحلي بالذهب للرجال ؟
الجواب : اعلم أيها السائل وليعلم كل من يستمع هذا البرنامج(2) أن العلة في الأحكام الشرعية لكل مؤمن هي قول الله ورسوله , لقوله تعالي : ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضي الله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ) (النساء 36 ). فأي واحد يسألنا عن إيجاب شئ أو تحريم شئ دل على حكمه الكتاب والسنة فإننا نقول العلة في ذلك كافية لكل مؤمن ولهذا لما سألت عائشة ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قالت: (كان يصيبنا ذلك فنأمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة )(3) لان النص من كتاب الله أو من سنة رسوله علة موجبة لكل مؤمن, ولكن لا باس أن يتطلب الإنسان الحكمة, وان يتلمس الحكمة في أحكام الله, لان ذلك يزيده طمأنينة, ولان ذلك يبين سمو الشريعة الإسلامية حيث تقرن الأحكام بعللها, ولأنه يتمكن به من القياس إذا كانت علة هذا الحكم المنصوص عليه ثابتة في أمر أخر لم ينص عليه, فالعلم بالحكمة الشرعية له هذه الفوائد الثلاثة.(249/12)
ونقول بعد ذلك في الجواب على سؤال الأخ: انه ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم تحريم لباس الذهب على الذكور دون الإناث, ووجه ذلك إن الذهب أعلى ما يتجمل به الإنسان ويتزين به, فهو زينة وحلية, والرجل ليس مقصودا له الأمر أي ليس إنسانا يتكمل بغيره أو يكمل بغيره, بل الرجل كامل بنفسه لما فيه من الرجولة, ولأنه ليس بحاجة إلي أن يتزين لشخص أخر بخلاف المرأة, لان المرأة ناقصة تحتاج إلي تكميل جمالها, ولأنها بحاجة إلي التجمل بأعلى أنواع الحلي حتى يكون ذلك مدعاة للعشرة بينها وبين زوجها. ولهذا أبيح للمرأة أن تتحلي بالذهب دون الرجل, قال تعالي في وصف المرأة: ( أومن يُنشُؤا في الحلية وهو في الخصام غير مبين ) (الزخرف 18) .
وبهذا يتبين حكمة الشرع في تحريم لباس الذهب على الرجال. وبهذه المناسبة أوجه نصيحة إلى هولاء الذين ابتلوا من الرجال بالتحلي بالذهب, فإنهم بذلك عصوا الله ورسوله, والحقوا أنفسهم بالإناث, وصاروا يضعون في أيديهم جمرة من النار يتحلون بها كما ثبت عن النبي صلي الله عليه وسلم, فعليهم أن يتوبوا إلي الله سبحانه وتعالي, وإن شاءوا أن يتختموا بالفضة في الحدود الشرعية فلا حرج في ذلك, وكذلك بغير الذهب من المعادن لا حرج عليهم أن يلبسوا خواتم منه إذا لم يصل إلى حد السرف أو الفتنة.
والحمد لله رب العالمين, وصلي الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
***
---
(1) في كتاب المساقات ، باب لعن آكل الربا وموكله رقم (1598).
(2) ما يقال عن بيع وشراء الذهب يقال عن بيع وشراء الفضة .
(1) رواه مسلم في كتاب المساقاة ، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً ، رقم (1587).
(2) رواه مسلم في كتاب المساقاة ، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً ، رقم (1588).
(3) متفق عليه رواه البخاري في كتاب البيوع ، باب إذا أراد بيع التمر بالتمر خير منه رقم (2201) ، و مسلم في كتاب المساقاة ، باب الطعام مثلاً بمثل ، رقم (1593).(249/13)
(4) سبق تخريجه .
(1) ربا الفضل : هو بيع النقود بالنقود أو الطعام بالطعام مع الزيادة .
(2) ربا النسيئة : تأخير القبض في بيع ما يشترط فيه القبض من الربويات .
(3) رواه مسلم في كتاب المساقاة ، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً ، رقم (1587).
(1) رواه مسلم في كتاب المساقاة ، باب القلادة فيها خرز وذهب ، رقم (1591).
(2) متفق عليه ، وتقدم تخريجه ص (8) .
(3) رواه مسلم كتاب الإيمان ، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان رقم (49) .
(1) رواه مسلم ، كتاب الجنائز ، باب الأمر بتسوية القبر رقم (969) .
(2) متفق عليه . رواه البخاري ، كتاب اللباس ، باب التصاوير رقم (5949) ومسلم ، كتاب اللباس ، باب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة رقم ( 2106) .
(1) رواه مسلم في كتاب المساقاة ، باب الصرف وبيع الذهب بالورق نقداً ، رقم (1587).
(2) هذا السؤال مأخوذ من برنامج نور على الدرب .
(3) رواه مسلم كتاب الحيض ، باب وجوب قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة رقم (335) .(249/14)
هذه الرسالة هي منهج الفقه سابقاً
للمرحلة الثاني متوسط في المملكة العربية السعودية
وقد كتب عليها / تأليف : محمد بن صالح العثيمين
كتاب البيع
الحكمة من مشروعيته :
الإنسان لا ينال مرامه ومطلوبه ، ويحصل على غرضه ، ويسد حاجته : إلا بطريق المعاوضة والبيع ، ولذلك شرعه .
تعريفه
البيع لغة : أخذ شيء وإعطاء شيء مأخوذ من الباع (1)، لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه للأخذ والإعطاء .
وشرعاً : معاوضة المال بالمال لغرض التملك .
حكمه : جائز ، لقوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا)(2) وقال عليه الصلاة والسلام " البيعان بالخيار مالم يتفرقا "(3) ، وإجماع المسلمين على ذلك .
ما ينعقد به البيع
ينعقد البيع بصيغتين :
1 - قولية : وهي الإيجاب والقبول .
فالإيجاب : أن يقول البائع : بعتك ، أو ملكتك ، أو نحوها . والقبول : أن يقول المشتري : ابتعت ، أو قبلت ، أو مافي معنييهما .
2- فعلية : وهي المعاطاة ، كأن يقول : أعطني بهذا الريال خبزاً ، فيعطيه ما يرضيه ، أو يقول البائع : خذ هذا بعشرة قروش ، فيأخذه .
شروط البيع
وهي سبعة :
1- التراضي من البيعين ، لقوله تعالى ( إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ)(4) ، ولا يصح بيع المكره بغير حق ، لحديث " إنما البيع عن تراض " (5)
2- جواز التصرف من المتعاقدين : بأن يكون كل منهما حُرّاً مكلفاً رشيداً ، فلا يصح بيع المميز ، والسفيه ، مالم يأذن لهما وليهما .
3- إباحة المبيع في جميع الأحوال : فلا يباع ما لا نفع فيه أصلاً كالحشرات ، ولا ما نفعه محرم كالخمر ، ولا ما فيه منفعة لا تباح إلا في حالة الاضطرار كالميتة ، وما لا يباح اقتناؤه إلا لحاجة كالكلب .
__________
(1) - الباع : قدر مد اليدين .
(2) - البقرة: 275
(3) - متفق عليه .
(4) - النساء: 29
(5) - رواه ابن ماجة والبيهقي عن أبي سعيد رضي الله عنه .(250/1)
4- أن يكون المبيع مملوكاً للبائع ، أو مأذوناً له فيه وقت العقد : لحديث حكيم بن حزام أن النبي ( قال : " لا تبع ما ليس عندك " (1) .
5- أن يكون المبيع مقدرواً على تسليمه : فلا يصح بيع الشارد والطير في الهواء ، والسمك في الماء ، والسمن في اللبن .
6- العلم بالمبيع : إما بالوصف أو المشاهدة حال العقد أو قبله بيسير .
7- معرفة الثمن : لأن الجهالة غَرر ، وقد نهى النبي ( عن بيع الغرر .
***********
البيوع المنهي عنها
كان الرسول الأمين ( مرشداً عظيماً ، ومعلماً كبيراً ، ينهى أمته عن كل ما يضرها : ديناً ، وأخرى ، ويرشدها إلى ما يجلب البركة والخير ، ويدفع المَحْقَ والنقيصة . فنهى عن بيوع متعددة لما في بعضها من إيغار الصدور ، وملئها بالأحقاد والضغائن والإِحَن (2) ، وفي البعض الآخر : من الإضرار بأهل السوق ، وتغرير المشترين والباعة ، وجهالة المبيعات . وحرصاً منه ( - وهو الرحيم بأمته – على توحيدها ، وانسجامها ، وسلامة صدور أفرادها : من الغل والتناحر والشحناء ، فقد حرم النَّجْشَ ، وبيع الرجل على بيع أخيه ، وشراءه على شرائه ، لما تجر على المجتمع الإسلامي من شرور وبيلة ، وعواقب وخيمة . ومن تلك البيوع :
1- بيع الملامسة :
الملامسة : لغة : مفاعلة من اللمس . وهو الإفضاء إلى الشيء باليد .
وشرعاً : أن يقول : أيَّ ثوب لمستَه فهو لك بكذا .
حكمه : فاسد لا يصح .
علته : الجهالة والغرر (3) .
2- بيع المنابذة :
المنابذة : لغة : مأخوذ من النَّبْذِ ، وهو الطرح والإلقاء .
وشرعاً : أن يقول : أي ثوب نبذته إليَّ فهو عليَّ بكذا .
حكمه : فاسد لا يصح .
وعلته : الجهالة والغرر .
__________
(1) - رواه الخمسة إلا ابن ماجة عن ابن عمر رضي الله عنهما .
(2) - الإحْنة الحقد وجمعها إحَنٌ . ( مختار الصحاح )
(3) - الغرر : هو الخداع الذي يؤدي إلى عدم الرضا ، فيكون من أكل أموال الناس بالباطل .(250/2)
دليلهما : حديث أنس قال : نهى النبي ( عن المحاقلة (1) والمنابذة والملامسة والمزابنة (2). رواه البخاري .
3- بيع الحصاة :
وهو أن يقول : ارمِ هذه الحصاة . فعلى أيِّ ثوب وقعت فهو لك بعشرة ريالات .
حكمه : فاسد لا يصح .
وعلته : الجهالة والغرر .
دليله : حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( : نهى عن بيع الحصاة ، وعن بيع الغرر (3).
4- بيع الرجل على بيع أخيه :
صورته : أن يتبايع رجلان سلعةً بعشرين ريالاً " مثلاً " فيجيء آخر إلى المشتري ، قبل الركون نهائياً على بيع وانقطاع خيار المجلس ، ويقول : أنا أبيعك مثلها بأقل من الثمن الذي اشتريت به ، أي بثمانية عشر ريالاً . أو يقول : أبيعك خيراً منها بثمنها .
حكمه : حرام .
علته : ما فيه من الإضرار بالمسلم ، والإفساد عليه ، مما يوغر صدره ، ويملؤه غيظاً وحَنَقاً .
دليله : قول الرسول ( :" لا بيع بعضكم على بيع بعض " (4).
حكم شراء الرجل على شراء أخيه : حرام قياساً على ذلك في الحكم ، والعلة ، والدليل ، ومثاله : أن يقول لمن باع سلعة بتسعة : عندي فيها عشرة ، ليترك المشتري الأول ، ويعقد معه .
5- بيع النَّجْش :
النَّجْش : لغة : الإثارة ، مأخوذ من " نَجَشْتُ الصيدَ " إذا أثرته ؟
وشرعاً : أن يزيد في السلعة ، من لا يريد شراءها ، ولو بلا مواطأة ، ومنه : أعطيت فيها كذا وهو كاذب .
حكمه : حرام .
علته : تغرير المشتري وخداعه .
دليله : ما رواه ابن عمر : أن النبي ( نهى عن النَّجْش . متفق عليه .
6- بيع العينة :
صورتها : أن يبيعه سلعة إلى أجل ، ثم يبتاعها(5) منه بأقل من ذلك نقداً .
حكمه : حرام وباطل .
__________
(1) - المحاقلة : بيع الطعام في سنبله .
(2) - المزابنة : هي بيع العنب بالزبيب كيلاً وبيع الرطب بالتمر كيلاً .
(3) - رواه الجماعة إلا البخاري .
(4) - متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
(5) - تستخدم كلمة ابتاع بمعنى : اشترى ، وكلمة البيع تشمل البيع والشراء .(250/3)
علته : أنه ذريعة إلى الربا .
دليله : ما روى ابن عمر : سمعت رسول الله ( يقول : "إذا تبايعتم بالعينة و أخذتم أذناب البقر (1)و رضيتم بالزرع (2)و تركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم " رواه أبو داود .
شروط عد صحة بيع العينة :
1- أن يكون العقد قبل قبض الثمن الأول .
2- أن يكون المشتري هو البائع أو وكيله .
3- أن يشتريها من المشتري أو وكيله .
4- أن يكون الثمن أقل من الأول .
5- ألا يتغير المبيع بنحو مرض أو عيب .
7- البيع بعد نداء الجمعة الثاني :
حكم البيع والشراء ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الثاني : محرم .
دليله : قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) (3).
***********
بيع الأصول والثمار (4)
بيع الأرض وما يتبعها :
إذا باع شخص داراً : تناول البيع أرضها ، وبناءها ، وفناءها ، وما اتصل بها من منافعها : كالأبواب ، والنوافذ المنصوبة ، وخزانات المياه : علويها وسفليها ، وما فيها من شجر وغرس .
وإذا كان المبيع أرضاً : شمل البيع ما فيها من غراس وبناء ، وإن كان فيها زرع ، فله ثلاث حالات :
1- إن كان الزرع لا يحصد إلا مرة : كبُرٍّ ، وشعير ، وبصل . فللبائع ، مُبَقّى إلى أول وقت أخذه بلا أجرة .
2- إن كان الزرع لا يحصد إلا مرة : كبُرٍّ ، وشعير ، وبصل ، واشترطه المشتري : فهو له .
__________
(1) - " وأخذتم أذناب البقر " كناية عن الانشغال بالحرث عن الجهاد .
(2) - " ورضيتم بالزرع " كنابة عن كونه قد صار همهم وهمتهم .
(3) - الجمعة:9
(4) - الأصول : جمع أصل : وهو ما يتفرع عنه غيره ، والثمار : جمع ثمرة وهي : حمل الشجر .(250/4)
3- إن كان الزرع يُجَزُّ مراراً : ككُرّاث ، أو يلقط مراراً : كباذنجان ، وقثاء ، فالأصول : للمشتري ، والجزة واللقطة الظاهرتان عند البيع للبائع ، وعليه قطعهما في الحال مالم يشترط مشترٍ دخول ما لبائع عليه ، فإن اشترطه : كان له لحديث " المسلمون على شروطهم " (1).
بيع أصول الشجر :
إذا بيعت الأرض ، وفيها نخل أو شجر ، فلها ثلاث حالات :
1- إن كان النخل لم يُؤَبَّرْ (2)، والعنب لم يبد طلعه فللمشتري .
2- إن كان النخل قد أُبِّر ، والعنب ثمره باد . فللبائع .
3- إن كان النخل قد أُبِّر ، والعنب ثمره باد ، واشترطه المشتري فله .
دليل ذلك : حديث ابن عمر رضي الله عنه : " من ابتاع نخلاً بعد أن تؤبر ، فثمرتها للذي باعها ، إلا أن يشترطه المبتاع " متفق عليه .
بيع الثمر :
لا يصح بيع ثمر النخلة ، أو غيرها من الأشجار ، حتى يبدو صلاحها . ولا يصح بيع الزرع قبل اشتداد حبه ، لحديث ابن عمر قال : نهى رسول الله ( عن بيع الثمار قبل بُدُوِّ صلاحها . نهى البائع والمبتاع . متفق عليه .
وحديثه أيضاً : أن النبي ( نهى عن بيع السُنبل حتى يبيض ، ويأمن العاهة . رواه مسلم .
ما يعرف به صلاح الثمر :
1- علامة صلاح ثمر النخل : أن يحمّر أو يصفّر . دليل ذلك أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو ، قيل لأنس : وما زُهوها ؟ قال : تحمرُّ أو تصفرُّ (3).
2- وعلامة صلاح ثمر العنب : أن يَتموَّهَ حُلْواً ، لحديث أنس رضي الله عنه : نهى النبي ( عن بيع العنب حتى يَتموَّهَ .
3- وعلامة صلاح بقية الثمار : كالتفاح والخوخ : أن يبدو فيه النضج ، ويطيب أكله ، لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب . رواه البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه .
__________
(1) - رواه الترمذي عن عمرو بن عوف رضي الله عنه .
(2) - التأبير : التلقيح .
(3) - أخرجه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه .(250/5)
4- وصلاح نحو قثاء أن يؤكل عادة ، وفي حَبٍّ أن يشتدَّ أو يبيضَّ .
وضع الجوائح (1):
حكم وضع الجوائح : واجب ، لحديث جابر : أن النبي ( أمر بوضع الجوائح . رواه مسلم .
صورته : أن تصيب الثمرة المتروكة إلى الحصاد أو الجَذاذ آفة سماوية ، لا صنع للآدمي فيها : كالريح ، والبرد ، والعطش ، والجراد .... فتتلفها . ففي هذه الحالة ، يرجع المشتري بالثمن على البائع .
دليل ذلك : حديث جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( :" إن بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، لم تأخذ مال أخيك بغير حق " رواه مسلم .
***********
الخيار
نظراً لأن عقد البيع ربما يقع من غير تروٍ ولا تفكير ، ومن دون تأكل ولا نظر في القيمة ، فينجم عن ذلك ندم وتحسر من كلا المتبايعين ، ولهذا فقد اقتضت محاسن الشريعة الإسلامية الكاملة ، أن تجعل لهذا العقد فترة زمنية يتروى فيها المتبايعان ، ويعيدان النظر والتأمل ، ويتبينان رغبتهما فيه من عدمها ، ألا وهو " الخيار " الذي يعطي كلاً من البائع والمشتري فرصة في استرداد المبيع أو القيمة عند تندمه ، أو رغبته في استرجاعه إلى حوزته لسبب ما . فبالخيار تكون له الحرية المطلقة في المدة التي قررها الشرع لخيار المجلس ، أو قررها المتبايعان في خيار الشرط لهما أو لأحدهما . فإن أراد احدهما إنفاذ البيع أنفذه ، وإن أراد فسخه فسخه ، ما دام في مدة الخيار . وهذا من محاسن الدين الإسلامي الكامل ، الذي راعى أحوال بنيه ، ويسر لهم أسباب الخير والاطمئنان والراحة ، وأعطاهم الفرص التامة أمام ما يجلب لهم الأسى والندم ، وصدق رسول الله ( : " تركتم على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها إلا هالك " .
تعريفه :
__________
(1) - الجوائح : جمع جائحة ، وهي الآفة التي تصيب الزروع أو الثمار فتهلكها ، دون أن يكون لآدمي صنع فيها ، مثل القحط والبرد والعطش .(250/6)
الخيار : طلب خير الأمرين من إمضاء البيع أو فسخه .
وله أقسام منها :
1- خيار المجلس .
2- خيار الشرط .
3- خيار العيب .
4- خيار الغبن .
5- خيار التدليس .
6- خيار اختلاف المتبايعين .
أولاً : خيار المجلس :
خيار المجلس للمتبايعين معاً : ودليله : حديث ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( : " إذا تبايع الرجلان فكل واحد منها بالخيار ما لم يتفرقا و كانا جميعا أو يخير أحدهما الآخر فإن خير أحدهما الآخر فتبايعا على ذلك فقد وجب البيع " متفق عليه.
مدة خيار المجلس : من حين العقد إلى التفرق بالأبدان . مثاله : إذا كانا في مكان واسع ، فبأن يمشي أحدهما خطوات مستدبراً لصاحبه ، وغن كانا في دار كبيرة ذات مجالس وبيوت ، فبأن يفارقه من بيت إلى بيت . وإن كانا في دار صغيرة ، فإذا صعد أحدهما السطح أو خرج منها ، فقد افترقا ، وإن كانا في سفينة كبيرة ، فبصعود أحدهما أعلاها إن كانا أسفل ، أو نزوله أسفلها إن كانا أعلى .
ثانياً : خيار الشرط :
معناه : أن يشترط العاقدان الخيار في صلب العقد ، أو يشترطاه بعده في زمن الخيارين " خيار المجلس وخيار الشرط " إلى مدة معلومة ، فيصح ولو طالت . ودليله : قول رسول الله ( " المسلمون على شروطهم "(1) .
مدته : ابتداءُ مدة خيار الشرط من حين عقد شرط فيه ، إلى أن تنتهي المدة المشروطة ولو طالت .
إذا قطعا الخيار قبل انتهاء مدته انقطع ، وإذا مضت مدة الخيار ولم يفسخ المشترط البيع لزم ، والمُلك مدة الخيارين للمشتري .
ثالثاً : خيار العيب :
العيب : ما ينقص قيمة المبيع عند التجار .
ويحرم على الإنسان أن يبيع سلعة بها عيب دون بيانه للمشتري .
إذا وجد أحد المتبايعين بالسلعة التي اشتراها عيباً لم يكن علمه ، فهو مخير بين حالتين : إحداهما : رده واخذ الثمن ، والثانية : أمساكه وأخذ أَرْش العيب .
معنى الأَرْش : قسط ما بين قيمة الصحة والعيب .
__________
(1) - رواه الترمذي عن عمرو بن عوف رضي الله عنه .(250/7)
صفة إخراجه : أن يقوّم المبيع صحيحاً ، ثم يقوم معيباً ، ويؤخذ ما بينهما .
مثال ذلك : ان تشتري امرأة حُلياً بستة الاف ريال ، فيبين به عيب لم تكن تعلمه إبّان العقد ، فيقوم صحيحاً بـ ( 6000 ريال ) ومعيباً بـ ( 5000 ريال ) فيرجع بسدس الثمن ، وهو ( 1000 ريال ) .
دليل خيار العيب : أن رجلاً اشترى غلاماً في زمن رسول الله ( ، وكان عنده ما شاء الله ، ثم رده من عيب وجده ، فقضى رسول الله ( برده بالعيب . فقال المقضي عليه : قد استعملَه . فقال رسول الله ( :" الخراج بالضمان " (1)
رابعاً : خيار الغبن :
معناه : أن يُغبن في السلعة غبناً يخرج عن العادة ، ولم يرد الشرع بتحديده ، فيُرجع فيه إلى العرف ، فمتى ثبت أن الغبن يخرج عن العادة فله الفسخ ، وإن لم يخرج عن العادة فلا فسخ .
خامساً : خيار التدليس :
التدليس : أن يفعل البائع ما يزيد في قيمة السلعة المباعة ، مثل إبقاء اللبن في الضرع عند عرضها على المشتري ليجلب رغبته فيها ، ويوهمه بكثرة لبنها وغزارته .
حكم التدليس : حرام .
علته : تغرير المشتري وغشه .
دليله : قوله ( : " من غش فليس مني " .
سادساً : خيار اختلاف المتبايعين :
إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن : فقال البائع : بعته عليك بمائة ، وقال المشتري : اشتريته بتسعين ، ولا بينة لأحدهما ، فالحكم : أنهما يتحالفان ويتفاسخان ، إلا إذا رضي أحدهما بقول الآخر .
صفة التحالف : أن يحلف البائع أولاً : والله ما بعته عليك بتسعين وإنما بعته بمائة . ثم يحلف المشتري : والله ما اشتريته بمائة وإنما اشتريته بتسعين .
__________
(1) - رواه الخمسة عن عائشة رضي الله عنها ، وضعفه البخاري وأبو داود ، وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن الجارود وابن حبان والحاكم وابن القطان.(250/8)
دليله : ما رواه ابن مسعود عن النبي ( أنه قال : " إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة ، والمبيع قائم بعينة فالقول ما قاله البائع أو يترادان البيع " رواه ابن ماجه ، وفي لفظ : " تحالفا " .
"الإقالة"
حكمتها : التوسعة على المتبايعين ، فقد يتفق أن اثنين يتبايعان ، ثم يريان أن من مصلحتهما فسخ هذا العقد ، فالشارع الحكيم رحمة بهما شرع الإقالة وأجازها ، فإذا أقال أحدهما صاحبه فقد صنع معروفاً يدل على كرم أخلاقه ، وينال الأجر والثواب من الله في أخراه ، والشكر من الناس في دنياه .
معناها لغة : الرفع والإزالة والإبطال ، وشرعاً : فسخ البيع بمثل الثمن إذا ندم أحد المتبايعين ، واستجاب لندمه الآخر .
حكمها : الاستحباب .
دليلها : حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ( : " من أقال مسلماً بيعته أقال الله عثرته " (1) .
***************
"الربا والصرف"
حكمة تحريم الربا وبيان مضاره
الربا : محرم في كتاب الله تعالى : قال جل شأنه : ( وَحَرَّمَ الرِّبا )(2) ، وكبيرة من كبائر الذنوب ، ويعظمه لعن النبي ( آكله وهو : الأخذ وموكله وهو : المحتاج المعطي للزيادة ، وكاتبه وشاهديه ، ولإعانتهم عليه .
ومضاره على المجتمعات البشرية كثيرة دينياً ودنيوياً : منها تضخم المال بطرق غير مشروعة لأنه تضخم على حساب سلب مالٍ الفقير وضمه إلى كنوز الغني ، وهو داء فتاك في المجتمعات ، وسبب في لخصومات والعدوات ، وأداة هدامة للنشاط ، والعمل الشريف ، واستثمار الأرض واستخراج طيباتها ، وهو أن زاد مال المرابي حسا فإنه يمحقه معنى ، والمعاملة به تنافي الأخلاق الإسلامية وتهدم جميع الخصائص التي جعلها الله من مقومات المجتمع الإسلامي .
معنى الربا لغة : الزيادة ، وشرعاً : زيادة في شيء مخصوص ، منع الشرع من التفاضل فيه .
__________
(1) - رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه . .
(2) - البقرة: من الآية275(250/9)
معنى الصرف : بيع نقد بنقد من جنسه أو غيره ، مأخوذ من الصريف ، وهو تصويت النقد بالميزان .
الأعيان المنصوص على تحريم الربا فيها بالإجماع ستة :
الذهب بالذهب ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح .
يقاس على هذه الأعيان كل ما وافقها في العلة : بأن كان مكيلاً مطعوماً أو موزون مطعوماً .
دليل ذلك : حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه عن النبي ( قال : " الذهب بالذهب مثلاً بمثل ، والفضة بالفضة مثلا بمثل ، والتمر بالتمر مثلاً بمثل ، والبر بالبر مثلاً بمثل ، والشعير بالشعير مثلاً بمثل ، والملح بالملح مثلاً بمثل ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى "(1) .
"الربا نوعان"
1. ربا الفضل : وهو أن تبيع أو تقرض مالاً أو حبوباً أو غيرها على أن يرد من جنسه ذهباً بذهب أو حباً بحب ، ومع زيادة على المثل ، أو منفعة تعود عليك ، فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد .
ولتجنب الوقوع في ربا الفضل لا بد من توفر شرطين :
(أ) . المماثلة في القدر .
(ب) . القبض قبل التفرق .
2 . ربا النسيئة : وصورته أن يبيع مائة صاع بر بمائتي صاع شعير مؤجلة ، أو بيع صاع بر بمائة صاع بر مؤجلة فهذا ربا نسيئة ، أما لو باع مائة صاع بر مؤجلة بخمسين صاع بر حاضرة فهو ربا نسيئة وفضل ، ويشترط لتجنب ربا النسيئة التقابض قبل التفرق ، وكلا النوعين محرم بنص القرآن والسنة المطهرة .
***********
القرض
بيان فضله وحكمته : القرض من عقود الإرفاق والقربة التي ندب إليها الشرع واستحبها ، وهو من باب التيسير على المعسر ، الذي نزلت به ضائقة مالية ، يقترض ليتوسع ، ويرد إذا أيسر ، ففيه تفريج عن أخيه المسلم ، وقضاء لحاجته ، وعون له . فكان مندوباً إليه كالصدقة عليه .
معناه : لغة : القطع . وشرعاً : دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله .
__________
(1) - رواه أبو داود وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه . .(250/10)
حكمه : مندوب للمقرض ، مباح للمقترض .
كل ما صح بيعه ، صح قرضه ، إلا بني آدم .
الإحسان في قضاء القرض
الإحسان في قضاء القرض جائز ، إذا لم يكن شرطاً . بدليل حديث أبي رافع رضي الله عنه : أن رسول الله ( استلف من رجل بكراً (1) ، فقدمت إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكره ، فرجع إليه أبو رافع فقال : لم أجد في الإبل إلا خِيارا رَبَاعيا(2) ، فقال :" أعطوه أياه ، فإن خير الناس أحسنهم قضاء " (3)
القرض الذي يجر نفعاً
كل قرض جر نفعاً فهو حرام ، وذلك : كأن يسكنه داره أو يعيره دابته ، أو يقضيه خيراً منه بشرط من المقرض .
***********
الْحَجْر
معناه : شرعاً : منع إنسان من تصرفه في ماله .
الحجر نوعان :
( أ ) حجر لحظ غيره : كالحجر على المفلس .
( ب ) حجر لحظ نفسه : كالحجر على الصغير .
إنظار المعسر
- إنظاره واجب ، قال تعالى ( وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ)(4)
- إبراؤه سنة .
الحجر على المفلس
لا يحجر على المدين إلا إذا كان ماله أقل من دينه ، فإذا سأل غرماؤه الحاكم الحجر عليه ، وجب عليه إجابتهم ، لأن السلطة الشرعية التي تأخذ حقوق بعضهم من بعض .
دليله : حديث كعب بن مالك رضي الله عنه : أن النبي ( حَجَر على معاذ وباع ماله (5).
إذا تم الحجر على إنسان ، فلا يجوز تصرفه في ماله ، ولم يُقبل إقراره عليه .أما إقراره على نفسه : فيصح ، ويطالب به بعد فك الحجر عنه .
الحجر على السفيه والصغير والمجنون
__________
(1) - البكر : الثني من الإبل .
(2) - الرباعي : الذي استكمل ست سنين ، ودخل في السابعة .
(3) - رواه الجماعة إلا البخاري .
(4) - البقرة:280
(5) - رواه الدارقطني وصححه الحاكم .(250/11)
يجب على ولي الصغير والسفيه والمجنون : أن يمنعهم من التصرف الذي يضرهم في أموالهم . قال تعالى ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً )(1) وعليه إلا يقرب مالهم غلا بالتي هي أحسن ، من حفظه والتصرف النافع لهم ، والصرف عليهم منه ما يحتاجون إليه .
وإذا رشد السفيه ، وعقل المجنون ، وبلغ الصغير ورشد : زال الحجر عنهم .
يعرف الرشد بحسن التصرف في المال : قال تعالى ( فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ )(2)
***********
الحوالةُ
أباحت الشريعة الإسلامية الحوالة : لما فيها من الرفق ، وتبادل المصالح بين أفراد الأمة .
ومعنى الحوالة : مشتقة من التحول ، لأنها تنقل الحق من ذمة المُحيل إلى ذمة الُمحال عليه فهي إذاً شرعاً نقل الحق من ذمة إلى ذمة .
تنعقد الحوالة بلفظ : أحلتك ، أو أتبعُتك بدينكَ .
إذا أحال المدين دائنة على إنسانٍ عليه له مثله ، ورضي المُحالُ :
برئ المُحيل وأصبح المطالب به المحال عليه ، شريطة أن يكون الدين مستقراً في ذمة المحال عليه ، ومماثلاً للحق المُحال به .
مماطلة (3)الغني : حرام ، لما فيها من الظلم لحديث النبي ( : " مطل الغني ظلم ، وإذا أتبع أحدكم على ملئٍ فليتبع " (4).
السفتجة : أن يعطي شخص مالاً لآخر ـ وللآخر مالٌ في بلدٍ آخر فيوفيه إياه هناك .
فائدتها : أمن خطر الطريق .
حُكمها : الجواز ، والشارع لا ينهى عما ينفع الناس ويصلحهم ويحتاجون إليه ، وإنما ينهى عما يضرهم ويفسدهم ، وقد أغناهم الله .
وتُعد الإحالة على المصارف [ البنوك ] تبرئةً للذَّمة ، إذا التزم المصرف [ البنك] المحال عليه بالدفع ، لأنه حُكمِ الإحالة على ملئٍ .
الضمانُ والكفالةُ
__________
(1) - النساء: من الآية5
(2) - النساء: من الآية6
(3) -التأخير في تسديد الدين مع القدرة على التسديد . .
(4) - متفق عليه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه .(250/12)
الحكمة من مشروعيتها : من رحمة الله بعباده ، أن شرع الوثائق ، لحفظ الحقوق واستحصالها ، وعقد أواصر المحبة والإخاء ، ومن هذه الوثائق : الضمان والكفالة ، فالكفالة لإحضار بدن الغريم ، والضمان يكون للدين .
وفائدتها : التزام الضامن بالوفاء ، مع إلزام من علية الحق ، فيتعلق الحق بذمة كل واحدٍ منهما ، فلصاحبه مطالبتهما جميعاً ، ومطالبة أحدهما إذا شرط الثاني أنه لا يطالبه ، حتى يتعذر عليه أخذ الحق من صاحبه .
معني الضمان : التزام ما وجب على غيره مما تدخله النيابة .
معنى الكفالة : التزام بإحضار بدن من عليه حق مالي لربه .
إذا ضمن الدين عن المدين ضامن : لم يبرأ المدين ، وصار الدين عليهما جميعاً ، وللدائن مطالبة من شاء منهما .
إذا استوفى الدائن من المضمون عنه ، أوز أبرئه برئ الضامن .
إذا أبرأ الدائن الضامن : لم يبرأ الأصيل(1) .
إذا استوفى الدائن من الضامن رجع على المضمون عنه بما دفعه .
حكم الضمان : جائز لقوله تعالى : (وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ)(2) .
وحكم الكفالة : الجواز ، ودليلة : (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) (3).
إذا كفل إنسان إحضار مدين فلم يحضره ، غرم ما عليه .
يبرأ الكفيل ، بموت المكفول ، أو إذا تلفت العين بفعل الله تعالى ، أو سلم نفسه ، أو سلم الكفيل مكفولاً .
************
"الرهن "
معناه لغة : الثبوت والدوام ، وشرعاً : توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه منها ، أو من بعضها ، أو من ثمنها .
حكمه : الجواز .
دليلة : قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ)(4) .
__________
(1) - أي المضمون عنه الذي عليه الدين . .
(2) - يوسف: من الآية72
(3) - يوسف:66
(4) - البقرة: من الآية283(250/13)
الغرض من مشروعيته : حفظ المال الذي به قوام العالم ، وتوثيقه لئلا يضيع حق الدائن ، لإغذا عجز المدين عن التسديد ، بيع واستوفى الحق من ثمنه ، وبه يطمئن الدائن على حقه ، ويأمن من غدر صاحبه .
كل ما جاز بيعه ، جاز رهنه ، وما لا فلا .
ينعقد : بالقول والمعاطاة : كالبيع .
مئونة الرهن : مئونته على الراهن ، وأجره مخزنه ، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ( قال : " لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه " (1) .
نماء الرهن وغلته : نماؤه المتصل (2)، والمنفصل (3)، وكسبه (4)، وأرش الجنابة (5) عليه : ملحق به ويباع معه لوفاء الدين إذا بيع.
************
" الصلحُ "
معناه لغة : التوفيق وقطع المنازعة ، وشرعاً : عقد ينهي الخصومة بين المتخاصمين .
فائدته الاجتماعية
شرع المولى جل وعلا الصلح بأنواعه ، إذا حصل نزاع بين شخصين ، أو طائفتين من المسلمين ، للتوفيق بينهما ، وإزالة الشقاق والخصومة والمنازعة ، التي ربما تستفحل ، فينتج منها شر مستطير ، وفسادٌ كبير قال الله تعالى : (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ )(6) ، وفي حديث عمرو بن عوف المزني : أن النبي ( قال : " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً أو حل حراماً " (7) .
والسعي للصلح بين أفراد الأمة الإسلامية مرغب فيه : قال تعالى : (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ)(8)
وهو قسمان :
1. صلح على إقرار .
2. وصلح على إنكار .
__________
(1) -. رواه الدار قطني والخاكم .
(2) - كأن تكبر الشاة الصغيرة .
(3) -. كأن تلد الشاة .
(4) -.مثل أن يتكسب العبد المرهون .
(5) - أي قيمة الجناية على العبد أو السيارة أو الدابة .
(6) - النساء: من الآية128
(7) - رواه ابن داود وابن ماجه والترمذي .
(8) - النساء: من الآية114(250/14)
1 ـ صلح الإقرار : تصح المصالحة عن عين أقر بها ، بعين أخرى أو بدين ، وإن كان له عليه دين فصالحة عنه ، بعين أو دين قبضه قبل التفرق ، جاز أو كان له عليه دين لا يعلمان مقداره فصالحه على شيء صح .
2 ـ صلح الإنكار : إذا أنكر دعوى المدعي ، أو سكت وهو يجهل ، ثم صالحه ، صح الصلح ، وكان إبراءً في حقه ، وبيعاً في حق المدعي ، ومن علم بكذب نفسه ، فالصلح باطل في حقه ، وما أخذه حرام .
************
"من أحكام الجوار"
"وضع الخشب ونحوه على جدار الجار"
يحرم وضع خشب على جدار الجار ، أو على حائط مشترك ، إلا إذا كان لا يمكن التسقيف إلا بوضع الخشب بشرط عدم تضرر جدار الجار ، فيجوز بلا ضرر حائط ، ويجبر رب الجدار أو الشريك فيه على تمكينه منه ، أن أبى بلا عوض ، لحديث أبي هريرة : " لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره " ، ثم يقول أبو هريرة : مالي لا أراكم عنها معرضين ؟ والله ..لأرمين بها بين أكتافكم " متفق عليه .
"الأحداث في الملك ما يضر بالجار "
يحرم على المالك أن يحدث بملكه ما يضر بجاره ، لحديث النبي ( : " لا ضرر ولا ضرار " (1) . فلا يجوز له وضع مكنة طحن أو كهرباء تهتز بها حيطانه ونحوه .
فتح الأبواب والنوافذ
في الطريق العام والمشترك
يجوز في الطريق العام فتح الأبواب للاستطراق(2) ، لأنه لم يتعين له مالك ، ولا ضرر على المجتازين ، ولا يجوز ذلك في طريق مشترك بى إذن المستحق ، أما فتح النوافذ في الشارع العام والمشترك ، فجائز ، ما لم يشرف على أحدٍ .
لمشارفة على الجار
__________
(1) - رواه أحمد وابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
(2) -أي جعله طريقاً إلى البيت .(250/15)
يلزم أعلى الجارين بناء سترة تمنع مشارفة الأسفل : فإن استويا في العلو اشتركا في البناء ، وأيهما أبى أجبر مع الحاجة إلى السترة ، وليس لصاحب السطح الأعلى ، الصعود على سطحه ، وعلى وجه يشرف على سطح جاره ، إلا أن يبني سترة تستره ، ولا يلزم الأعلى سد طاقته ، إذا لم ينظر ما يحرم نظره من جهة جاره .
"إحداث شيء في الطريق يضر بالناس"
يحرم أن يتصرف في طريق نافذ بما يضر ، كأن يخرج في طريق المسلمين شيئاً من أجزاء البناء ، لأن الشوارع والأسواق مشتركة بين المسلمين ، فإحداث شيء فيها مضر بهم ، والرسول( يقول : " لا ضرر ولا ضرار " .
**************
" الوكالة "
من العقود الجائزة التي أباحها الشارع : الوكالة : عندما يحتاج الإنسان أن يعمل عملاً من الأعمال ذات الصلة بالجهات الحكومية أو القضائية ، وتحول بينه وبين ذلك عوائق من سفر ، أو مرض أو أي معوق آخر ، فقد أجاز له الشرع أن ينيب غيره في هذا العمل ، جاء في القرآن الكريم ، قوله تعالى : ( وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا )(1) ، وجاء في الحديث : أن رسول الله ( قال لجابر : " إذا أتيت وكيلي بخيبر ، فخذ منه خمسة عشر وسقاً ، فإن ابتغى منك آية فضع يدك على ترقوته " (2) .
الوكالة عقد جائز : يجوز لكل منهما فسخها ، وتنعقد بكل ما يدل عليها من قولٍ أو فعل ، وتصح من جائز التصرف لنفسه في كل ما تجوز فيه النيابة : كالإجازة والمرافقة في الخصومة ، والرهن ، ونحو ذلك ، ولا تصح فيما لا تدخله الإستنابة ، مثل : الصلاة ، والحلف ، والطهارة .
مبطلات الوكالة :
1. موت أحد المتعاقدين .
2. جنونه .
3. فسخه لها وعزله من قبل الموكل .
" تصرف الوكيل وتوكيله لغيره "
__________
(1) - التوبة: من الآية60
(2) -رواه أبو داود وصححه عن جابر رضي الله عنه .
.(250/16)
يتصرف الوكيل فيما تناوله الموكل لفظاً أو عرفاً : وليس له أن يوكل فيما وكل فيه ، إلا أن يجعل ذلك إليه ، وليس له الشراء من نفسه ولا البيع لها ، إلا بإذن موكله .
" الوكيل بأجرة "
يجوز التوكيل بأجر وبغيره : فلو قال الموكل لوكيله : بع هذه السلعة بعشرة فما زاد فلك ...صح .
" باب الشركة "
"حكمها وحاجة المجتمع إليها"
حكمها : عقد جائز ، والمجتمع بحاجة ماسة إليها ، ولا سيما في المشاريع الضخمة التي لا يسيطر عليها الشخص بمفرده ، وتستطيع الأمة الهيمنة عليها ، واستغلالها في كل مجال خير ، يسمو بلأمة ويقودها إلى شوطئ الرقي والتحضر كالمشاريع ، العمرانية والصناعية ، والزراعية وغيرها .
تعريفها لغة : الاختلاط .
وشرعاً : اجتماع في استحقاق أو تصرف .
ومن أنواع الشركة :
1. شركة العنان ، 2. شركة المضاربة ، 3. شركة الأبدان .
فشركة العنان : أن يشتركا في ماليهما وبدنيهما .
وشركة المضاربة : أن يدفع أحدهما إلى الآخر مالاً يتجر به بجزء معلوم مشاع من ربحه .
كأن يدفع شخص لآخر سيارته ليعمل عليها بجزء من الغلة .
وشركة الأبدان : أن يشتركا فيما يكتسبان بأبدانهما من المباح ، كاحتشاش واحتطاب وصناعةٍ ومن الممكن أن نميز بينهما هكذا : فالعنان مال وعمل منهما ، والمضاربة عمل من أحدهما ومالٍ من الآخر والأبدان عمل منهما معاً .
"الربح والخسارة في الشركة"
…يوزع الربح ـ في جميع أنواع الشركة ـ على حسب اشتراط الشريكين واتفاقهما ، فإن فرض لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان صح ، وتوزع الخسارة على قدر المال ، فلو كان رأس المال ( 5000) ريال على رأس الحول ، فإنها توزع بينهم على قدر أنصابهم على سعد مائتان ، وعلى خالد ثلاثمائة ريال .
وإذا اجتمع ربح وخسارة : تجبر الخسارة من الربح .
الشروط التي لا تجوز في الشركة :
1 . لا يجوز أن يشترط لأحدهما جزءاً مجهولاً .
2. أو أن يشترط له دراهم معينة .(250/17)
3. أو أن يشترط له ربح أحدي السفرتين أو السلعتين ، لأن ذلك يفضي إلى الجهالة .
"المساقاة والمزارعة والمغارسة "
1. المساقاة : دفع شجرٍ له ثمار إلى آخر ليقوم بسقيه وما يحتاجه بجزءٍ معلوم مشاعٍ من ثمره .
2. المزارعة : دفع أرضٍ لمن يزرعها بجزء معلوم مشاعٍ من الزرع .
3. المغارسة : دفع الشجر والإرض ، لمن يغرسه فيها ويعمل عليه حتى يثمر ، بجزء مشاعٍ معلوم منه أو من ثمره أو منهما معاً .
ويلزم العامل بكل ما جرت العادة بعلمه ، كحرث وسقيٍ وعلى رب المال ما يصلحه كسد حائط وإجراء الأنهار .
حكمها : عقود جائزة .
والدليل : أن رسول الله ( عامل أهل خيبر بشطر (1) ما يخرج منها من ثمر أو زرعٍ (2).
*****************
" باب إحياء الموات "
حكمة إحياء الموات ترجع إلى ثلاث منافع :
1. إحياء أرض كانت مواتاً .
2. أتساع دائرة الرزق بين الناس .
3. انتفاع الإمام بما يأخذ لبيت مال المسلمين من زكاة يفرقها على المستحقين .
" الموات"
الموات لغة : مشتقة من الموت وهو عدم الحياة .
وشرعاً : هي الأرض الدائرة التي لا يعرف لها مالك .
ما يحصل به الإحياء
يحصل إحياؤها : إما بحائط منيع ، أو إجراء ماءٍ لا تزرع إلا به أو غرس شجر ، أو حفر بئر فيها ، فمن أحياها ملكها بجميع ما فيها إلا المعادن الظاهرة لحديث : " من أحيا أرضاً ميتة فهي له " (3) .
" حريم (4) البئر الجديدة والمعادة "
حريم البئر الجديدة : خمسة وعشرون ذراعاً من كل جانب .
حريم البئر المعادة : خمسون ذراعاً من كل جانب .
وحريم العين والقناة والبئر الارتوازي الفوار : خمسمائة ذراع من كل جانب .
" التحجر والاختصاص "
__________
(1) - الشطر : النصف .
(2) -رواه الجماعة عن ابن عمر رضي الله عنه . .
(3) -رواه أحمد والترمذي وصححه عن جابر رضي الله عنه . .
(4) ـ حريم البئر : الموضع المحيط به .(250/18)
إذا تحجر مواتاً بإن أدار حوله أحجاراً ، أو حفر بئراً لم يصل إلى مائها ، أو أقطع أرضاً : فهو أحق بها ، ولا يملكها حتى يحبها ، والأرض الداخلة في البلد ، أو قريباً منه ، لا تملك إلا بإذن الحاكم ، إذا ربما تكون من المرافق (1) العامة للمسلمين فيتأذون بامتلاكها وتعميرها تعميراً خاصاً .
************
" الجعالة "
تعريفها : أن يجعل عوضاً لإنسان على أمرٍ يفعله .
حكمها : الجواز ، لأن الحاجة تدعو إليها ، فإن العمل قد يكون مجهولاً ، كرد الضالة والآبق ، فلا تنعقد الإجازة عليه .
دليلها من الكتاب : قوله تعالى : ( وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ)(2)
ومن السنة : ما رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : أن أناساً من أصحاب رسول الله ( أتوا حياً من أحياء العرب ، فلم يقروهم ، فبينما هم كذلك ، إذ لدغ سيد أولئك ، فقالوا : هل فيكم من راق ؟ فقالوا : لم تقرونا فلا نفعل ، أو تجعلوا لنا جعلاً ، فجعلوا لهم قطيع شياة ، فجعل رجل منهم يقرأ بأم القرآن ويجمع ريقه ويتفل ، فبرأ الرجل ، فأتوهم بالشاء ، فقالوا : لا نأخذها حتى نسأل عنها رسول الله ( ، فسألوا عنها رسول الله ( فقال : " وما يدريك أنها رقية ؟ خذوها واضربوا لي فيها بسهم " متفق عليه .
صفتها : أ، يقول الإنسان ، من بنى لي هذا الحائط أو نسخ لي هذه المذكرة فله كذا من المال ، ومن رد ضالتي أو لقطتي فله كذا مالاً فمن فعل ذلك الفعل : استحق الجعل .
" اللقطة "
تعريفها لغة : الشيء المتلقط .
وشرعاً : مال مختص ضاع عن مالكه .
__________
(1) - متفق عليه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه .
(2) - يوسف: من الآية72(250/19)
والأصل فيها : ما رواه زيد بن خالد الجهني قال : " سئل رسول الله ( عن لقطة الذهب والورق (1) فقال : " اعرف وكاءها (2) وعفاصها (3) ، ثم عرفها سنة ، فإن لم تعرف فاستنفقها ، ولتكن وذيعة عندك ، فإن جاء طالبها يوماً من الدهر : فادفعها إليه " . وسأله عن ضالة الإبل فقال ( : " مالك ولها ؟ فإن معها حذاءها(4) وسقاءها (5) ترد الماء وتأكل الشجر حتى يجدها ربها " . وسأله عن الشاة فقال ( : " خذها فإنما هي لك ، أو لأخيك أو للذئب " متفق عليه .
والملتقط ثلاثة أنواع :
1. ما يجوز أخذه بدون تعريف : وذلك يتمثل في الشيء التافه الحقير الذي تقل قيمته همة ولا تتبعه همة أوساط الناس (6) كالسوط ، والرغيف ، فيملك بالتقاطه ، لقول جابر : " رخص رسول الله ( في العصا ، والسوط ، وأشباهه ، يلتقطه الرجل ينتفع به " .
2. ما لا يجوز أخذه : كالحيوان الذي يمتنع بنفسه من السباع إما لسرعتها " كالظباء والغزال " أو لقوتها وتحملها " كالإبل والبقر " أو لطيرانها " كطيور ونحو ذلك " فهذا يحرم التقاطه ، ومن أخذه لم يملكه ، ولزمه ضمانه ، ولم يبرأ إلا بدفعه إلى ( الإمام ) أ, نائبه .
3. ما يجوز أخذه مع تعريفه سنة كاملة : كالأمتعة من الحقائب ونحوها ، والأثمان كالنقود والحيوانات التي لا تمتنع بنفسها من صغار السباع كالغنم فيجوز أخذه بقصد الحفظ لصاحبه ، ويجب تعريفه سنة كاملة في المجمعات العامة : كالأسواق وأبواب المساجد في أوقات الصلوات ويملكه بعد ذلك حكماً (7).
__________
(1) - الورق : الفضة .
(2) - الوكاء : الحبل الذي يشد به .
(3) - العفاص : الوعاء الذي توضع فيه النفقة .
(4) - الحذاء : الخف .
(5) -السقاء : الجوف . .
(6) -متوسط الحال : ليس بالغني ولا بالفقير . .
(7) -لا حقيقة بحيث لو جاء صاحبها بعد سنين مثلاً فإنه يدفعها إليه . .(250/20)
التصرف في اللقطة : لا يجوز التصرف في اللقطة قبل تمام الحول إلا إذا كان ذلك لمصلحة أو بعد تمام الحول فيتصرف فيها كما شاء لأنه ملكها لكن متى جاء طالبها فوصفها وصفاً مطابقاً وجب دفعها إليه .
لقطة الحرم
لا يسوغ أخذها إلا إذا خيف عليها التلف والضياع ، ويجب على آخذها تعريفها ما دام في الحرم ، وعند خروجه منه يسلمها للحاكم أو نائبه ، وليس له تملكها لقول رسول الله ( : " أن هذا البلد حرام ، لا يعضد شوكه ، ولا يختلى خلاه (1) ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا لمعروف " وفي الحديث : " أن الحديث أن النبي ( : "نهى عن لقطة الحاج " رواه مسلم عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي رضي الله عنه .
******************
" السبق "
المسابقة مشروعة ، وهي من الرياضة المحمودة ، وأحياناً تكون مستحبة أو مباحة حسب النية والقصد .
أنواع المسابقة : قد تكون المسابقة بالعدو بين الأشخاص ، كما تكون بالسهام ، والأسلحة ، والخيول ، والإبل .
ففي المسابقة بالعدو بين الأشخاص ، ثبت أن عائشة رضي الله عنها قالت : " سابقت النبي ( فسبقته ، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني ، فقال هذه بتلك "(2) .
والمسابقة بالسهام والرماح وكل سلاح يمكن أن يرمى به مشروعة يقل الله تعالى : (وأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ )(3).
وقال عقبة بن عامر : سمعت رسول الله ( وهو على المنبر يقرأ " وأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ " ألا إن القوة الرمي ، إلا أن القوة الرمي ، إلا أن القوة الرمي " رواه مسلم .
" فائدته الاجتماعية "
للسباق مزايا عدة وفوائد جمة : نختار منها ما يلي :
__________
(1) -أي لا يقطع الرطب من النبات . .
(2) ـ رواه أحمد وأبو داود . .
(3) - الأنفال: من الآية60(250/21)
1 . تقوية أجسام الشباب ، وتعويدهم المهارة في الحركة ، والقوة في الجري .
2. تنمية روح التنافس بينهم وحملهم على التسابق الشريف .
3 . تعويدهم الصبر ، والتحمل ، والجلد ، والثقة بالنفس .
4. تهيئة جيل قوي يخوض المعارك بعزيمة صادقة وقلب ثابت لإعلاء كلمة الله ورفع الراية الإسلامية .
" السبق بعوض "
لا تصح المسابقة بعوض : إلا في ثلاثة أشياء :
1ـ الإبل . 2ـ الخيل . 3ـ الرمي .
لحديث : " لا سبق إلا في نصل (1) أو خف أو حافر " (2) .
" السبق بغير عوض "
تجوز المسابقة بغير عوض في الأشياء المباحة كلها : كالحيوان ، والأقدام ، والدرجات ، وغيرها يدل على ذلك مسابقة النبي ( عائشة .
والمصارعة جائزة : فقد صارع رسول الله ( ركانة على شاة فصرعه ثم عاد فصرعه فأسلم فرد عليه غنمه (3) .
المباريات الرياضية النافعة للشباب الإسلامي
لا شك أن للمباريات الرياضية أثراً قوياً في شد عضلات الشباب وتقوية أجسامهم ، وإبراز مواهب الذكاء الكامنة في نفوسهم ، وإيقاظ عزائمهم ، وإلهاب حماسهم إلى العمل الرياضي والبروز فيه ، وهي تغرس الثقة في نفوس الشباب، وتعودهم المهارة والدقة ، وتقضي على فراغهم ، وتقوي رغبتهم في الجهاد بعزيمة صادقة ورباطة جأش .
هذا إذا أنتخب لها مدربون أمناء اصطبغوا بالإسلام ، عقيدة وعملاً ، ونهجوه سلوكاً ، وخلقاً ، وعبادة ومعاملة فبذروا في نفوس الشباب حب الخير والفضيلة ، وتعهدوهم بالخلق الزاكي ، وألزموهم بالمحافظة التامة على شعائر الإسلام والبعد عن كل ما يدنس المرء ويشينه ، فبهذه التنشئة الصالحة ، يجني الشباب ثماراً طيبة ، ولا بد لذلك من شروط كستر العورة وعدم إضاعة الأوقات الطويلة في الكرة مثلاً وإلا تشغل الرياضة عما هو أهم منها .
" الوديعة "
__________
(1) - النصل : السهم .
(2) - رواه الخمسة عن أبي هريرة رضي الله عنه . .
(3) - رواه أبو داود عن محمد بن علي بن ركانة .(250/22)
تعريفها : الوديعة لغة : مأخوذة من ودع الشيء إذا تركه ، وشرعاً : المال المدفوع إلى من يحفظه بلا عوض .
وهي جائزة : للمودع وأخذها للمستودع إحسان مستحب أن وثق من نفسه القيام بمسؤوليتها قال الله تعالى : (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)(1) .
ضمانها إذا تلفت عنده : فإن كان بتعد منه أو تفريط ضمنها .
ومن الصور التي يجب عليه فيها الضمان :
1. إلا يحفظها في حرز مثلها أو مثل الحرز الذي أمر بإحرازها فيه .
2 . أن يتصرف فيها لنفسه .
3. أن يكسر ختم كيسها .
4. أن يمتنع من ردها عند طلبها مع إمكانه .
*****************
" العارية"
معناها لغة : مشتقة من العري ، وهو : التجرد ، وسميت بذلك لتجردها عن العوض .
وشرعاً : إباحة نفع عينٍ تبقي بعد استيفائه .
وهي مشروعية للمعير لقولة تعالى : ( وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(2) وقد ذم الله جل وعلا المانع لها في قوله : (وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ)(3) وفي حديث صفوان بن أمية : أن النبي ( استعار منه دروعاً يوم حنين ، فقال : أغضب يا محمد ؟ قال : " بل عارية مضمونة " (4).
" ضمانها وعدم ضمانها "
تضمن العارية إذا تلفت بيد المستعير ، بتعديه أو تفريطه ، لقوله ( : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " (5). وإن شروط ضمانها : ضمنها سواء تعدى المستعير أم لم يتعد ، فإن لم يشترط وتلفت بدون تعد ولا تفريط : لم يجب عليه ضمان .
" الإجارة "
الإجارة لغة : المجازاة والثواب .
وشرعاً : عقد على منفعةٍ مباحة معلومة .
__________
(1) - البقرة: من الآية195
(2) - المائدة: من الآية2
(3) - الماعون:7
(4) -رواه الخمسة إلا النسائي عن سمرة رضي الله عنه . .
(5) -رواه أحمد وأبو داود . .(250/23)
حكمها : عقد لا زم من الطرفين ، لا يجوز لواحد منها فسخه ، قال تعالى : ( قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً)(1) ، وقال رسول الله ( : " قال الله عز وجل : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حراً فأكل ثمنه ، ورجل أستأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره " رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه .
" حاجة الناس إليها "
الإجارة من مستلزمات المجتمع البشري وضرورياته ، لأن فيها تبادل المنافع بين الناس بعضهم بعضا، لأن العمل الذي يقوم به الفرد الواحد غير العمل الذي يقوم به ثلاثة أو أربعة ، وكل المزارع والمصانع والأعمال الكبيرة تتطلب الأيدي الكثيرة ولا طريق لذلك إلا هذا العقد .
وحاجة الناس إلى المنفعة ماسة : فهم يحتاجون الدور للسكنى ، والدواب والسيارات للحمل والركوب والآلات لاستعمالها في حوائجهم الأخرى ....وهكذا .
" شروطها "
شروطها أربعة :
1. أن يكون من جائز التصرف . 2. معرفة المنفعة .
3. معرفة الأجرة . 4. أن تكون المنفعة مباحة .
" الأجير الخاص والأجير المشترك "
الأجير الخاص : من قدر نفعه بالزمن ، وللمستأجر نفعه في هذه المدة جميعاً .
والأجير المشترك : من قدر نفعه بالعمل ، كخياطه ثوب ، أو بناء حائط ، ولا يضمن الأجير الخاص ما تلف بيده مالم يفرط ، ولكن الأجير المشترك : يضمن ما تلف من حرزه .
" ما يلزم المستأجر والمؤجر"
يلزم المستأجر بعد استكمال مدته : دفع الأجرة كاملة أن لم تكن مؤجلة ، مع تسليم المحل نظيفاً إذا استلمه نظيفاً
ويلزم المؤجر : كل ما جرت به العادة من آلة المركوب وقيادته ، وترميم الدار ، وإزالة كل عائق يمنع من الانتفاع بالعين المؤجرة .
" ما تنفسخ به الإجارة "
تنفسخ بتلف العين المؤجرة وانقطاع نفعها ، ومتى تعذر النفع من جهة المؤجر فلا شيء له لأنه لم يسلم ما تناوله عقد الإجارة .
" حق المستأجر في استيفاء المنفعة بنفسه أو بغيره "
__________
(1) - الكهف: من الآية77(250/24)
للمستأجر أن يستوفي نفع العين المؤجرة بنفسه ، وله أن يقيم مقامه من يستوفيه بأجره أو غيرها ، بشرط أن يكون مثله أو أقل منه ، فإذا اكترى دار فله أن يكنها مثله ومن هو دونه في الضرر ، لأنه لم يزد على استيفاء حقه ، ولا يجوز أن يسكنها من هو أكثر ضرراً منه ، لأنه يأخذ فوق حقه .
**************
" الغصب "
معناه لغة : أخذ الشيء ظلماً .
وشرعاً : الاستيلاء على مال غيره قهراً بغير حق .
" تحريمه وتغليظ عقوبته"
مال الإنسان على الإنسان حرام ، فلا يحل لأحد أخذ شيء من مال أحدٍ إلا بطيبة نفسه ، وقد قال ر سول الله ( : " أن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا " (1).
و هو كبيرة من كبائر الذنوب وعقوبته مغلظة : قال رسول الله ( : " من ظلم قيد شبر من الأرض طوقه من سبع ارضين يوم القيامة " (2) .
"رد المغصوب"
يجب على الغاصب رد ما غصبه ولو غرم أضعافه : لأنه من رد المظالم إلى أهلها ، وقد قال رسول الله ( : " على اليد ما أخذت حتى تؤديه " (3) . " وعليه نفقته وأجره مثله ـ إن كان له أجرة ـ مدة مقامه في يده .
"ضمانه"
يجب عليه ضمانه إذا تلف مطلقاً ، وزيادته لربه ، كما يضمن جنايته ونقصه وما أتلفه .
"غرس الغاصب وبناؤه "
إذا غصب أرضاً فغرسها أو بنى فيها ألزم بقلع غرسه وإزالة بنائه ، وأرش نقص الأرض ، وتسويتها والأجرة لقوله ( : " ليس لعرق ظالم حق " (4) .
**************
" الشفعة "
معناها لغة : مأخوذة من الشفاعة وهي : الزيادة والتقوية أو من الشفع وهو الزوج ، فالشفيع كان نصيبه منفرداً في ملكه ، فبالشفعة ضم المبيع إلى ملكه فصار شفعاً .
__________
(1) -رواه البخاري ومسلم عن أبي بكر رضي الله عنه . .
(2) - متفق عليه عن عائشة . .
(3) -رواه الخمسة دون النسائي عن سمرة رضي الله عنه . .
(4) - رواه أبو داود من حديث عروة بن الزبير رضي الله عنه . .(250/25)
وشرعاً : استحقاق انتزاع حصة شريكه من يد مشتريها بثمنه الذي استقر عليه العقد .
حكمة مشروعيته : دفع الضرر عن الشريك ، لأنه ربما يشتري الشقص عدو له ، أو ذو أخلاق شريرة فاسدة ، فيتولد من ذلك بغض في النفوس ، وحقد في القلوب ، فيتأذى الجار بذلك الجوار وقد أكبر النبي ( : " حق الجار فقال : "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه "(1). وقال : " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر : فليكرم جاره "( (2) لذا : جعل الشارع الشفعة وأجازها لهذه الأغراض السَّامية . وجعل للشريك الحق في الأولوية والتقدم على غيره في الشراء ، إلا إذا سقط حقه بامتناعه عنه .
"ما تقع فيه الشفعة"
تقع في العقار الذي لم يقسم وما يتصل به من البناء والغراس ، لحديث جابر رضي الله عنه : " قضى النبي ( بالشفعة في كل ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق : فلا شفعة "(3) .
ما يبطلها : تبطل بتأخير المطالب بها بلا عذر مع العلم ، وبالعجز عن أداء الثمن كله أو بعضه ، وبمطالبته ببعض نصب شريكه .
****************
…
__________
(1) -مروي في الصحيحين عن عائشة ..
(2) - مروي في الصحيحين عن أبي شريح العدوي رضي الله عنه . .
(3) - متفق عليه ، عن جابر رض الله عنه واللفظ للبخاري . .(250/26)
((((( الفرائض )))))(/)
الفرائض(/)
تسهيل الفرائض
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليماً.
أما بعد : فإن الله فرض المواريث بحكمته وعلمه، وقسمها بين أهلها أحسن قسم وأعدله، بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة ورحمته الشاملة وعلمه الواسع، وبيَّن ذلك أتمّ بيان وأكمله، فجاءت آيات المواريث وأحاديثها شاملة لكل ما يمكن وقوعه من المواريث، لكن منها ما هو صريح ظاهر يشترك في فهمه كل أحد، ومنها ما يحتاج إلى تأمل وتدبر.(251/1)
وكان أهل الجاهلية في جاهليتهم لا يورثون النساء، ولا الصغار من الذكور، ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل وحاز الغنيمة، فأبطل الله هذا الحكم المبني على الجهل والظلم، وجعل الإناث يشاركن الذكور بحسب ما تقتضيه حاجتهن، فجعل للمرأة نصف ما للرجل من جنسها، ولم يحرمها كما فعل أهل الجاهلية، ولا سوّاها بالرجل كما فعله بعض المنحرفين عن مقتضى الفطرة والعقل، ثم قال: ) آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)(النساء:الآية11).وقال في آية أخرى: ) وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)(النساء:الآية12) )تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (النساء:13) )وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء:14) وقال في آية ثالثة: ) يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(النساء:الآية176)
فبيَّن الله تعالى أنه فرض المواريث بحسب علمه وما تقتضيه حكمته، وأن ذلك فرض منه لازم لا يحل تجاوزه ولا النقص منه، ووعد من أطاعه في هذه الحدود وتمشى فيها على ما حدّه وفرضه، جنات تجري من تحتها الأنهار خالداً فيها، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وتوعد من خالفه وتعدى حدوده، بأن يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين.
كما امتنّ بفضله علينا بالبيان التام حتى لا نضل ولا نهلك، فلله الحمد رب العالمين.(251/2)
واعلم أنك إذا جمعت قوله (صلى الله عليه وسلم ): "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر(1)" ، إلى آيات المواريث؛ وجدتها قد استوعبت عامة أحكام المواريث ومهماته، وها أنا أشرح ذلك بحول الله، فأقول وبالله أقول:
آيات المواريث التي ذكرها الله نصاً في المواريث ثلاث:
الآية الأولى: في إرث الأصول والفروع.
الآية الثانية: في إرث الزوجين وأولاد الأم.
الآية الثالثة: في إرث الإخوة لغير أم.
فالآية الأولى: قوله تعالى: )يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ)(النساء:الآية11)؛ بيّن الله فيها أن الأولاد وهم الفروع ثلاثة أقسام: ذكور خلّص، وإناث خلّص، ومختلط من الجنسين.
فالذكور الخلّص لم يقدِّر لهم ميراثاً فدل، على أنهم عصبة يرثون بالسوية.
والإناث الخلّص قَدَّر ميراثهن للواحدة النصف، ولمن فوق الثنتين الثلثان، وقد دل الحديث ومفهوم قوله: ) وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف)(النساء:الآية11)على أن للثنتين الثلثين.
والمختلط من الجنسين لم يقدر لهم ميراثاً فدل على أنهم عصبة ولكن للذكر مثل حظ الأنثيين.
أما الأصول؛ فابتدأ الله بيان إرثهم بقوله: ) وَلِأَبَوَيْه) إلى آخره فذكر لهم حالتين:
إحداهما: أن يكون للميت أحد من الأولاد الذكور أو الإناث.
الثانية: أن لا يكون للميت أحد من الأولاد.
ففي الحال الأولى: ميراث كل واحد من الأبوين السدس فرضاً، والباقي للأولاد إن كانوا ذكوراً أو ذكوراً وإناثاً؛ لأنهم حينئذٍ يكونون عصبة، وعصبة الفروع أولى من عصبة الأصول؛ لأن الفروع جزء من الميت.
وإن كان الأولاد إناثاً خلّصاً، أخذن فرضهن والباقي - إن كان - يأخذه الأب؛ لأنه أولى رجل ذكر، ولا يتصور أن يبقى له شيء إذا كن اثنتين فأكثر مع الأم.(251/3)
وفي الحال الثانية: وهي أن لا يكون للميت أحد من الأولاد، وورثه أبواه، فقد فرض الله للأم الثلث، وسكت عن الأب فيكون له الباقي، إلا أن يكون للميت إخوة اثنان فأكثر، فقد فرض الله لها السدس فقط والباقي للأب.
وتأمل قوله عز وجل: ) وَوَرِثَهُ أَبَوَاه)(النساء:الآية11)؛ فإنه ربما يؤخذ منه أنه لو ورثه معهما غيرهما، لم يكن للأم الثلث، فيكون فيه إشارة إلى ميراث الأم في العمريتين، وهما زوج وأم وأب، وزوجة وأم وأب، فإن للزوج أو الزوجة فرضه، ثم تعطى الأم ثلث الباقي بعده، والباقي للأب، وذلك أن الله جعل للأب مثليها إذا انفردا بالمال، فقياس ذلك أن يكون له مثلاها إذا انفردا ببعضه، والله أعلم.
والآية الثانية: قوله تعالى: )وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ)(النساء:الآية12)، يبيِّن الله تعالى فيها أن للزوج حالين:
إحداهما: أن يكون لزوجته الميتة أحد من الأولاد الذكور أو الإناث؛ ففرضه الربع.
الثانية: أن لا يكون لها أحد من الأولاد؛ ففرضه النصف.
وكذلك بيَّن أن للزوجة حالين:
إحداهما: أن يكون لزوجها الميت أحد من الأولاد الذكور أو الإناث؛ ففرضها الثمن.
الثانية: أن لا يكون له أحد من الأولاد؛ ففرضها الربع.
أما أولاد الأم وهم الإخوة والأخوات من الأم فبيّن الله تعالى أنهم يرثون في الكلالة، وأن ميراثهم مقدّر للواحد السدس، وللاثنين فأكثر الثلث بالسوية لا فضل لذكر على أنثى؛ وذلك - والله أعلم - لأن اتصالهم بالميت من طريق الأم - وهي أنثى - فليس هنا جهة أبوة حتى يفضل جانب الذكورة.
والآية الثالثة: قوله تعالى: )يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة)(النساء:الآية176)ذكر الله فيها ميراث الإخوة لغير أم، ويؤخذ من الآية الكريمة أنهم ثلاثة أقسام:
أحدها: ذكور خلّص ويرثون بالسوية بلا تقدير.
الثاني: إناث خلّص ويرثن بالتقدير للواحدة النصف، وللثنتين فأزيد الثلثان.(251/4)
الثالث: مختلط من الجنسين ويرثون بلا تقدير؛ للذكر مثل حظ الأنثيين.
وأما قوله (صلى الله عليه وسلم ): "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"(2) ؛ فيؤخذ منه إرث من عدا الأصول والفروع والإخوة، وأنه لا يرث منهم إلا الذكور بلا تقدير، يقدم الأولى فالأولى كالعم على ابنه، والشقيق على الذي لأب.
ويؤخذ من قوله تعالى: ) وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(الأنفال:الآية75)إرث ذوي الأرحام وهم من سوى أهل الفرائض والعصب، ولكن هذه الآية ليست نصاً في الميراث، فمن ثَمّ اختلف أهل العلم في إرث ذوي الأرحام، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ باللّه من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وسلّم تسليماً.
أما بعد : فإن الله فرض المواريث بحكمته وعلمه، وقسمها بين أهلها أحسن قسم وأعدله، بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة ورحمته الشاملة وعلمه الواسع، وبيَّن ذلك أتمّ بيان وأكمله، فجاءت آيات المواريث وأحاديثها شاملة لكل ما يمكن وقوعه من المواريث، لكن منها ما هو صريح ظاهر يشترك في فهمه كل أحد، ومنها ما يحتاج إلى تأمل وتدبر.(251/5)
وكان أهل الجاهلية في جاهليتهم لا يورثون النساء، ولا الصغار من الذكور، ويقولون: لا يعطى إلا من قاتل وحاز الغنيمة، فأبطل الله هذا الحكم المبني على الجهل والظلم، وجعل الإناث يشاركن الذكور بحسب ما تقتضيه حاجتهن، فجعل للمرأة نصف ما للرجل من جنسها، ولم يحرمها كما فعل أهل الجاهلية، ولا سوّاها بالرجل كما فعله بعض المنحرفين عن مقتضى الفطرة والعقل، ثم قال: ) آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً)(النساء:الآية11).وقال في آية أخرى: ) وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ)(النساء:الآية12) )تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (النساء:13) )وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ) (النساء:14) وقال في آية ثالثة: ) يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(النساء:الآية176)
فبيَّن الله تعالى أنه فرض المواريث بحسب علمه وما تقتضيه حكمته، وأن ذلك فرض منه لازم لا يحل تجاوزه ولا النقص منه، ووعد من أطاعه في هذه الحدود وتمشى فيها على ما حدّه وفرضه، جنات تجري من تحتها الأنهار خالداً فيها، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدِّيقين والشهداء والصالحين، وتوعد من خالفه وتعدى حدوده، بأن يدخله ناراً خالداً فيها وله عذاب مهين.
كما امتنّ بفضله علينا بالبيان التام حتى لا نضل ولا نهلك، فلله الحمد رب العالمين.(251/6)
واعلم أنك إذا جمعت قوله (صلى الله عليه وسلم ): "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر(1)" ، إلى آيات المواريث؛ وجدتها قد استوعبت عامة أحكام المواريث ومهماته، وها أنا أشرح ذلك بحول الله، فأقول وبالله أقول:
آيات المواريث التي ذكرها الله نصاً في المواريث ثلاث:
الآية الأولى: في إرث الأصول والفروع.
الآية الثانية: في إرث الزوجين وأولاد الأم.
الآية الثالثة: في إرث الإخوة لغير أم.
فالآية الأولى: قوله تعالى: )يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ)(النساء:الآية11)؛ بيّن الله فيها أن الأولاد وهم الفروع ثلاثة أقسام: ذكور خلّص، وإناث خلّص، ومختلط من الجنسين.
فالذكور الخلّص لم يقدِّر لهم ميراثاً فدل، على أنهم عصبة يرثون بالسوية.
والإناث الخلّص قَدَّر ميراثهن للواحدة النصف، ولمن فوق الثنتين الثلثان، وقد دل الحديث ومفهوم قوله: ) وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف)(النساء:الآية11)على أن للثنتين الثلثين.
والمختلط من الجنسين لم يقدر لهم ميراثاً فدل على أنهم عصبة ولكن للذكر مثل حظ الأنثيين.
أما الأصول؛ فابتدأ الله بيان إرثهم بقوله: ) وَلِأَبَوَيْه) إلى آخره فذكر لهم حالتين:
إحداهما: أن يكون للميت أحد من الأولاد الذكور أو الإناث.
الثانية: أن لا يكون للميت أحد من الأولاد.
ففي الحال الأولى: ميراث كل واحد من الأبوين السدس فرضاً، والباقي للأولاد إن كانوا ذكوراً أو ذكوراً وإناثاً؛ لأنهم حينئذٍ يكونون عصبة، وعصبة الفروع أولى من عصبة الأصول؛ لأن الفروع جزء من الميت.
وإن كان الأولاد إناثاً خلّصاً، أخذن فرضهن والباقي - إن كان - يأخذه الأب؛ لأنه أولى رجل ذكر، ولا يتصور أن يبقى له شيء إذا كن اثنتين فأكثر مع الأم.(251/7)
وفي الحال الثانية: وهي أن لا يكون للميت أحد من الأولاد، وورثه أبواه، فقد فرض الله للأم الثلث، وسكت عن الأب فيكون له الباقي، إلا أن يكون للميت إخوة اثنان فأكثر، فقد فرض الله لها السدس فقط والباقي للأب.
وتأمل قوله عز وجل: ) وَوَرِثَهُ أَبَوَاه)(النساء:الآية11)؛ فإنه ربما يؤخذ منه أنه لو ورثه معهما غيرهما، لم يكن للأم الثلث، فيكون فيه إشارة إلى ميراث الأم في العمريتين، وهما زوج وأم وأب، وزوجة وأم وأب، فإن للزوج أو الزوجة فرضه، ثم تعطى الأم ثلث الباقي بعده، والباقي للأب، وذلك أن الله جعل للأب مثليها إذا انفردا بالمال، فقياس ذلك أن يكون له مثلاها إذا انفردا ببعضه، والله أعلم.
والآية الثانية: قوله تعالى: )وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ)(النساء:الآية12)، يبيِّن الله تعالى فيها أن للزوج حالين:
إحداهما: أن يكون لزوجته الميتة أحد من الأولاد الذكور أو الإناث؛ ففرضه الربع.
الثانية: أن لا يكون لها أحد من الأولاد؛ ففرضه النصف.
وكذلك بيَّن أن للزوجة حالين:
إحداهما: أن يكون لزوجها الميت أحد من الأولاد الذكور أو الإناث؛ ففرضها الثمن.
الثانية: أن لا يكون له أحد من الأولاد؛ ففرضها الربع.
أما أولاد الأم وهم الإخوة والأخوات من الأم فبيّن الله تعالى أنهم يرثون في الكلالة، وأن ميراثهم مقدّر للواحد السدس، وللاثنين فأكثر الثلث بالسوية لا فضل لذكر على أنثى؛ وذلك - والله أعلم - لأن اتصالهم بالميت من طريق الأم - وهي أنثى - فليس هنا جهة أبوة حتى يفضل جانب الذكورة.
والآية الثالثة: قوله تعالى: )يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَة)(النساء:الآية176)ذكر الله فيها ميراث الإخوة لغير أم، ويؤخذ من الآية الكريمة أنهم ثلاثة أقسام:
أحدها: ذكور خلّص ويرثون بالسوية بلا تقدير.
الثاني: إناث خلّص ويرثن بالتقدير للواحدة النصف، وللثنتين فأزيد الثلثان.(251/8)
الثالث: مختلط من الجنسين ويرثون بلا تقدير؛ للذكر مثل حظ الأنثيين.
وأما قوله (صلى الله عليه وسلم ): "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"(2) ؛ فيؤخذ منه إرث من عدا الأصول والفروع والإخوة، وأنه لا يرث منهم إلا الذكور بلا تقدير، يقدم الأولى فالأولى كالعم على ابنه، والشقيق على الذي لأب.
ويؤخذ من قوله تعالى: ) وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(الأنفال:الآية75)إرث ذوي الأرحام وهم من سوى أهل الفرائض والعصب، ولكن هذه الآية ليست نصاً في الميراث، فمن ثَمّ اختلف أهل العلم في إرث ذوي الأرحام، كما يأتي بيانه إن شاء الله.
المؤلف
الإرث
أركانه - شروطه - أسبابه - موانعه - أقسامه
أركان الإرث ثلاثة: مورِّث، ووارث، وموروث.
فالمورِّث:انتقلت التركة منه وهو الميت.
والوارث:انتقلت التركة إليه.
والموروث: التركة.
وشروط الإرث ثلاثة:
- أحدها: موت المورِّث حقيقة أو حكماً.
- الثاني: حياة الوارث بعده ولو لحظة، حقيقة أو حكماً.
- الثالث: العلم بالسبب المقتضي للإرث.
أما موت المورِّث فلقوله تعالى: ) إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَك)(النساء:الآية176)والهلاك الموت، وتركه لماله لا يكون إلا بعد انتقاله من الدنيا إلى الآخرة.
ويحصل تحقق الموت بالمعاينة والاستفاضة وشهادة عدلين.
وأما الموت حكماً: فذلك في المفقود إذا مضت المدة التي تحدد للبحث عنه؛ فإننا نحكم بموته إجراء للظن مجرى اليقين عند تعذره، لفعل الصحابة رضي الله عنهم .
وأما اشتراط حياة الوارث بعد موت مورِّثه؛ فلأن الله تعالى ذكر في آيات المواريث استحقاق الورثة باللام الدالة على التمليك، والتمليك لا يكون إلا للحي.
ويحصل تحقق حياته بعد موت مورثه بالمعاينة، والاستفاضة، وشهادة عدلين.(251/9)
وأما حياة الوارث حكماً: فمثلوا له بالحمل يرث من مورثه إذا تحقق وجوده حين موت مورثه، وإن لم تنفخ فيه الروح بشرط خروجه حياً.
وأما اشتراط العلم بالسبب المقتضي للإرث؛ فلأن الإرث مرتب على أوصاف كالولادة والأبوة والأخوة والزوجية والولاء ونحو ذلك، فإذا لم نتحقق وجود هذه الأوصاف، لم نحكم بثبوت ما رتب عليها من الأحكام؛ لأن من شروط ثبوت الحكم أن يصادف محله، فلا يحكم بالشيء إلا بعد وجود أسبابه وشروطه وانتفاء موانعه.
ومعنى العلم بالسبب المقتضي للإرث: أن تعلم كيف يتصل الوارث بالمورث؛ هل هو زوج أو قريب أو ذو ولاء أو نحو ذلك؟ لكن ههنا حالان:
إحداهما: أن يكون للميت وارث معلوم فيدعي آخر أنه أولى بإرث الميت منه؛ ففي هذه الحال لا بد أن نعلم بكيفية اتصال المدعي بالميت، وبمنزلته منه أيضاً؛ بأن نعلم أنه أخوه أو عمه أو ابن أخيه أو ابن عمه، وهل هو بعيد المنزلة من الميت أو قريب؛ لتعلم بذلك أيهما أولى بالإرث، ولا يكفي في هذه الحال أن تعلم أنه قريبه ونحوه؛ لئلا ندفع به حق الوارث المعلوم بلا علم.
الثانية: أن لا يكون للميت وارث معلوم ففي هذه الحال يكفي أن نعلم أنه قريبه أو من قبيلته ونحوه، ويستأنس لهذا بما رواه عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: مات رجل من خزاعة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم بميراثه فقال: "التمسوا وارثاً أو ذا رحم"، فلم يجدوا له وارثاً ولا ذا رحم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظروا أكبر رجل من خزاعة ". رواه أبو داود(8) .
وأسباب الإرث ثلاث: نكاح، ونسب، وولاء.(251/10)
فالنكاح عقد الزوجية الصحيح؛ فيرث به الزوج من زوجته والزوجة من زوجها بمجرد العقد، وإن لم يحصل وطء ولا خلوة؛ لعموم قوله تعالى: )وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُم)( وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ)(النساء:الآية12). والمرأة تكون زوجة بمجرد العقد ولا تكون زوجة إلا بعقد صحيح، وروى الخمسة من حديث علقمة عن عبد الله بن مسعود : أنه قضى في امرأة توفي عنها زوجها ولم يكن دخل بها أن لها الميراث، فشهد معقل بن سنان الأشجعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمثل ما قضى به. وصححه الترمذي(9)
والنسب: هو الرحم، وهو الاتصال بين إنسانين بولادة قريبة أو بعيدة، لقوله تعالى: ) وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)(الأنفال:الآية75)
والولاء: ولاء العتاقة وهي العصوبة التي تثبت للمُعْتِقِ وعصبته المتعصبين بأنفسهم، سواء كان العتق تبرعاً أو عن واجب؛ من نذر أو زكاة أو كفارة؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق" . متفق عليه(10).
فروع تتعلق بأسباب الإرث
الفرع الأول: يمتد التوارث بين الزوجين إلى أن تحصل البينونة بينهما بطلاق أو فسخ، فإذا حصلت البينونة انقطع التوارث بينهما، وعلى هذا فيثبت التوارث بين الزوجين في الطلاق الرجعي ما دامت في العدة؛ لأن الرجعية لا تبين إلا بانقضاء عدتها.
وأما الفسخ والطلاق البائن فينقطع التوارث فيهما بين الزوجين بمجرد الفرقة، إلا أن تقع من أحدهما في حال يتهم فيها بقصد حرمان الآخر من الإرث؛ فإن المتهم يُوْرَث ولا يَرِث معاقبة له بنقيض قصده السيّئ، ومثَّلوا لذلك بأمثلة منها:(251/11)
1 - أن يطلق زوجته في مرض موته المخوف متهماً بقصد حرمانها، فلا يرثها لو ماتت؛ لأن البينونة منه، وأما هي فترثه ما دامت في العدة، وأما بعد انقضائها فلا ترثه في قول أبي حنيفة وأصحابه وقديم قولي الشافعي، وعن أحمد ما يدل عليه، لكن المشهور عنه أنها ترثه ما لم تتزوج، قال الأصحاب: أو ترتد، فإن ارتدت أو تزوجت سقط إرثها سواء عادت إلى الإسلام أم لا، وسواء فارقها الزوج الثاني أم لا. وقال مالك: لا يسقط إرثها بالزواج فترث ولو كانت مع الزوج، والله أعلم بالصواب.
وفي هذا المثال التهمة من الزوج.
2 - أن تفعل الزوجة في مرض موتها المخوف، ما يفسخ نكاحها من زوجها متهمة بقصد حرمانه، مثل: أن يعقد عليها لطفل صغير فترضعه رضاعاً تثبت به الأمومة، فإن النكاح ينفسخ ويرث منها لو ماتت ولا ترثه
والتهمة في هذا المثال من الزوجة.
الفرع الثاني: القرابة ثلاثة أصناف أصول، وفروع، وحواشي.
فالأصول:لهم ولادة على الشخص كالأم والأب وإن عَلَوا، والوارث منهم:
1 - كل ذكر ليس بينه وبين الميت أنثى، كالأب وأبيه، وإن علا بمحض الذكور، فإن كان بينه وبين الميت أنثى فهو من ذوي الأرحام كأبي الأم ونحوه.
2 - كل أنثى ليس بينها وبين الميت ذكر قبله أنثى، كالأم وأمها وأم الأب وأم الجد وإن علون بمحض الإناث، فإن كان بينها وبين الميت ذكر قبله أنثى فهي من ذوي الأرحام كأم أبي الأم؛ لأنها مدلية بمن هو من ذوي الأرحام، فكانت من ذوي الأرحام.
واختلف أهل العلم في الجدة المدلية بذكر وارث فوق الأب كأم الجد وأبيه وإن علت، والصواب أنها وارثة لأنها مدلية بوارث كأم الأب، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية. قال في "المغني": وروي عن ابن عباس، قال ابن سراقة وبهذا قال عامة الصحابة إلا شاذاً. انتهى.(251/12)
والفروع: كل من للشخص عليهم ولادة كالأولاد وأولادهم وإن نزلوا، والوارث منهم كل من ليس بينه وبين الميت أنثى، كالأولاد وأولاد الأبناء، فأما من بينه وبين الميت أنثى كأولاد البنات فمن ذوي الأرحام.
والحواشي: فروع الأصول كالإخوة والأعمام وأبنائهم، وإن نزلوا، والوارث منهم:
1 - الأخوات مطلقاً، فأما غيرهن من إناث الحواشي فمن ذوي الأرحام؛ كالعمة والخالة وبنت الأخ وبنت العم ونحوهن.
2 - الإخوة من الأم دون فروعهم.
3 - كل ذكر أدلى بذكر كالإخوة والأعمام لغير أم وأبنائهم، فأما المدلي بأنثى كالخال والعم لأم وابن الأخت ونحوهم فمن ذوي الأرحام.
الفرع الثالث: لا يرث بالولاء إلا المُعْتِق وعصبته المتعصبون بأنفسهم؛ كابن المعتق وأبيه وجده وأخيه لغير أم ونحوهم، وذلك لأن الولاء يورث به ولا يورث، هذا قول جماهير العلماء، وقال شريح: "إن الولاء يورث كما يورث المال، فلا يختص بالعصبة المتعصبين بأنفسهم"، وهو مروي عن الإمام أحمد.
فلو مات العتيق عن ابن معتقه وابنة معتقه فالمال للابن فقط على قول الجمهور؛ لأنه عاصب بنفسه، وليس للبنت شيءٌ لأنها عاصبة بغيرها، وعلى قول شريح المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين.
الفرع الرابع: ليس للميراث سبب غير هذه الأسباب الثلاثة عند جمهور العلماء، وزاد شيخ الإسلام ابن تيمية عند عدم الأسباب المذكورة أسباباً أُخر، وهي: الموالاة، والمعاقدة، والإسلام على يديه، والالتقاط، وكونهما من أهل الديوان، وقال: هو رواية عن الإمام أحمد، قال: "ويرث المولى من أسفل وهو العتيق عند عدم الورثة، وقاله بعض العلماء". انتهى.
وفي بعض ذلك أحاديث في "السنن" منها:
1 - عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين أصحابه، وكانوا يتوارثون بذلك حتى نزل قوله تعالى :
(وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)(لأنفال:الآية75)(251/13)
] ، فتوارثوا بالنسب. رواه أبو داود والدار قطني(11) ، وفي إسناده من فيه مقال.
2 - عن قبيصة عن تميم الداري رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما السنة في الرجل من أهل الشرك يسلم على يد رجل من المسلمين؟ فقال: "هو أولى الناس بمحياه ومماته". رواه الخمسة وصححه أبو زرعة، وقال الشافعي: ليس بثابت. وقال الترمذي: ليس بمتصل(12) .
3 - عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحوز المرأة ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه". أخرجه الخمسة إلا أحمد، وقال الترمذي: حسن غريب، وصححه الحاكم، وفي إسناده عمر بن ربيعة التغلبي، قال البخاري: فيه نظر، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، قيل: تقوم به الحجة؟ قال: لا، ولكن صالح(13) .
4 - عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً مات على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يترك وارثاً إلّا عبداً هو أعتقه، فأعطاه ميراثه. رواه الخمسة، وفي إسناده عوسجة؛ قال النسائي: ليس بالمشهور. وقال أبو زرعة: ثقة(14) .
وهذه الأحاديث وإن كان في إسنادها ما ترى؛ فإن بَيْن هؤلاء وبين الميت من الصلة الخاصة ما يجعلهم أولى بميراثه من بيت المال، الذي هو لعموم المسلمين. والله أعلم.
موانع الإرث
موانع الإرث ثلاثة: الرق والقتل واختلاف الدِّين.
فالرق: وصف يكون به الإنسان مملوكاً يباع ويوهب، ويورث ويتصرف فيه، ولا يتصرف تصرفاً مستقلاً.
وعرّفه بعضهم بأنه: عجز حكمي يقوم بالشخص بسبب الكفر.
وإنما كان الرق مانعاً من الإرث؛ لأن الله أضاف الميراث إلى مستحقه باللام الدالة على التمليك، فيكون ملكاً للوارث، والرقيق لا يملك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع عبداً له مال فماله للبائع إلى أن يشترطه المبتاع" (15) . متفق عليه. فإذا كان لا يملك لم يستحق الإرث لأنه لو ورث لكان لسيده وهو أجنبي من الميت .(251/14)
والقتل: إزهاق الروح مباشرة أو تسبباً، والذي يمنع من الإرث من القتل ما كان بغير حق، بحيث يأثم بتعمده لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث القاتل شيئاً"(16) . رواه أبو داود.
وعن عمر نحوه مرفوعاً رواه مالك في "الموطأ" وأحمد وابن ماجه.
ولأنه قد يقتل مورّثه ليتعجل إرثه منه؛ فحرم من الإرث سداً للذريعة.
ولا فرق بين أن يكون القتل عمداً أو خطأ تعميماً لسد الذريعة، ولئلا يدّعي العامد أنه قتل خطأ. وقال مالك : "يرث القاتل خطأ من تِلاد مال المقتول دون الدية". وذكره ابن القيم رحمه الله في "إعلام الموقعين" صفحة (521) ج 3 في فتاوى النبي صلى الله عليه وسلم في الزوجين يقتل أحدهما صاحبه خطأ أنه يرث من ماله ولا يرث من ديته. ذكره ابن ماجه(17) . قال ابن القيم: وبه نأخذ. انتهى.
قلت: وعلى هذا القول فالظاهر أنه لا بد من قرينة ظاهرة تدل على أن القتل ليس بعمد. والله أعلم.
فأما القتل الذي لو تعمده لم يكن آثماً كقتل الصائل فلا يمنع الإرث، وكذلك القتل الحاصل بتأديب أو دواء أو نحوه؛ فإنه لا يمنع الإرث إذا كان مأذوناً فيه، ولم يحصل تعدٍّ ولا تفريط.
واختلاف الدين: أن يكون أحدهما على ملة والثاني على ملة أخرى؛ مثل أن يكون أحدهما مسلماً والثاني كافراً، أو أحدهما يهودياً والآخر نصرانياً أو لا دين له، ونحو ذلك؛ فلا توارث بينهما لانقطاع الصلة بينهما شرعاً، ولذلك قال الله تعالى لنوح عن ابنه الكافر: ) إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (هود: من الآية46) ولحديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم ". رواه الجماعة.
وعن ابن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين شتى"(18) . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه.
واستثنى الأصحاب رحمهم الله من ذلك مسألتين:(251/15)
إحداهما: الإرث بالولاء فلا يمنعه اختلاف الدِّين بل يرث المولى ممن له عليه ولاء وإن كان مخالفاً له في دينه.
الثانية: إذا أسلم الكافر قبل قسمة التركة فيرث من قريبه المسلم ترغيباً له في الإسلام.
كما استثنى شيخ الإسلام ابن تيمية ثلاث مسائل:
إحداها: الاختلاف بالإسلام الصحيح والنفاق، قال: "فالنفاق، لا يمنع التوارث بين المسلم والمنافق للحكم بإسلامه ظاهراً".
الثانية: المسلم يرث من قريبه الذمي ولا عكس.
الثالثة: المرتد إذا مات أو قتل على ردته ورثه قريبه المسلم.
والصواب أنه لا يستثنى من ذلك شيء، لعموم الأدلة على منع التوارث مع اختلاف الدين، ولا دليل صحيح على التخصيص، لكن المنافق إذا لم يظهر نفاقه فإننا نحكم بظاهر حاله، وهو الإسلام؛ فيرث من قريبه المسلم وبالعكس، أما إذا كان معلوم النفاق ؛ فالصواب أن لا توارث بينه وبين قريبه المسلم. والله أعلم
فروع تتعلق بموانع الإرث
الفرع الأول : تنقسم موانع الإرث إلى قسمين:
أحدهما: ما يمنع من الجانبين.
والثاني: ما يمنع من جانب واحد.
فالذي يمنع من الجانبين اختلاف الدين والرق؛ فلا يرث المخالف في الدين لمن خالفه، ولا يرثه من خالفه، ولا يرث الرقيق ولا يورث.
والذي يمنع من جانب واحد القتل؛ فالقاتل لا يرث من المقتول والمقتول يرث من القاتل إذا مات القاتل قبله، ويتصور ذلك بأن يجرح مورثه جرحاً مميتاً ثم يموت الجارح قبله.
الفرع الثاني : الرق إن كان كاملاً منع من الإرث كله، وإن كان بعض الشخص رقيقاً وبعضه حراً - ويسمى المبعض - تبعض الحكم فيرث ويورث بقدر حريته؛ لأن الحكم يدور مع علته، قال الإمام أحمد رحمه الله : (إذا كان العبد نصفه حر ونصفه عبد ورث بقدر الحرية كذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم(19) . انتهى.
لكن ما كسبه أو ورثه بجزئه الحر فليس لمالك باقيه منه شيء، وإنما يكون لورثة المبعض كما صرح به الأصحاب رحمهم الله.(251/16)
الفرع الثالث : المرتد لا يرث ولا يورث، فإن مات أو قتل قبل أن يعود إلى الإسلام؛ كان ماله فيئاً يصرف في مصالح المسلمين، واختار الشيخ تقي الدين أن ماله يكون لورثته المسلمين، وقال: أنه رواية عن أحمد، وأنه المعروف عن الصحابة رضي الله عنهم.
أقسام الإرث
الإرث ينقسم إلى قسمين: إرث بفرض وإرث بتعصيب.
فالإرث بالفرض أن يكون للوارث نصيب مقدر كالنصف والربع.
والإرث بالتعصيب أن يكون للوارث نصيب غير مقدر.
والفروض الواردة في القرآن ستة: نصف، وربع، وثمن، وثلثان، وثلث، وسدس، وأما ثلث الباقي فثابت بالاجتهاد في العمريتين، وفي بعض مسائل الجد، ومن يرث معه من الإخوة، على ما يأتي إن شاء الله.
واعلم أن لأهل العلم في الكلام على الفروض ومستحقيها طريقتين:
إحداهما: الكلام في كل فرض على حِدَة؛ فيذكر النصف ومن يرث به، والربع ومن يرث به، وهكذا.
الثانية: الكلام على مستحقي الفروض وبيان أحوالهم كل على حِدَة؛ فيذكر الزوج بأنه تارة يرث النصف، وتارة يرث الربع.
ويذكر الأم بأنها تارة ترث الثلث، وتارة ترث السدس، وتارة ترث ثلث الباقي.
ويبين شروط كل حالة.
وقد سلكت في هذه الرسالة هذه الطريقة لأنها طريقة القرآن، وأقرب إلى الفهم، وأبعد عن التشتت، والله الموفق.
أصحاب الفروض
نبدأ بأصحاب الفروض لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"(20) .
فأصحاب الفروض عشرة: الزوج، والزوجة فأكثر، والأم والأب، والجد، والجدة فأكثر، والبنات، وبنات الابن، والأخوات لغير أم، وأولاد الأم.
ميراث الزوج
يرث الزوج من زوجته النصف: إن لم يكن لها فرع وارث؛ والفرع الوارث هم الأولاد، وأولاد الأبناء وإن نزلوا، فأما أولاد البنات فهم فروع غير وارثين، فلا يحجبون من يحجبه الفرع الوارث.(251/17)
ويرث الربع: إن كان لزوجته فرع وارث سواء كان منه أم من غيره؛ لقوله تعالى: )وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ ) (النساء:الآية12) ، ولفظ الولد يشمل الذكر والأنثى من الأولاد وأولاد البنين وإن نزلوا.
فلو هلكت امرأة عن زوج وأب: فللزوج النصف لعدم الفرع الوارث والباقي للأب.
ولو هلكت عن زوج وابن: فللزوج الربع لوجود الفرع الوارث والباقي للابن.
ميراث الزوجة
ترث الزوجة من زوجها الربع: إن لم يكن له فرع وارث. وترث الثمن: إن كان له فرع وارث منها أو من غيرها، ولا فرق بين أن تكون الزوجة واحدة أو أكثر، فلا يزيد الفرض بزيادتهن؛ لقوله تعالى: ) وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم)(النساء:الآية12)فلو هلك امرؤٌ عن زوجة وأب: فللزوجة الربع لعدم الفرع الوارث والباقي للأب.
ولو هلك عن زوجة وابن: فللزوجة الثمن لوجود الفرع الوارث والباقي للابن.
ميراث الأم
ميراث الأم: إما الثلث، وإما السدس، وإما ثلث الباقي.
فترث الثلث بثلاثة شروط:
أحدها: أن لا يكون للميت فرع وارث.
الثاني: أن لا يكون له عدد من الإخوة أو الأخوات أو منهما.
الثالث: أن لا تكون المسألة إحدى العمريتين.(251/18)
وترث السدس إن كان للميت فرع وارث، أو كان له عدد من الإخوة أو الأخوات أو منهما؛ لقوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُس)(النساء:الآية11) ، ولا فرق بين أن يكون الأخوة ذكوراً أو إناثاً، أو مختلفين: أشقاء أو لأب أو لأم، ولا بين أن يكونوا وارثين أو محجوبين بالأب، كما هو ظاهر الآية الكريمة؛ لأن الله فرض للأم الثلث مع الأب ثم قال: { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُس } ، فأتى بالفاء الدالة على ارتباط الجملة الثانية بالأولى وبنائها عليها، والأخوة لا يرثون مع الأب ومع ذلك فجعل للأم السدس في هذه الحال، وهذا هو قول جمهور العلماء.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أنهم لا يحجبون الأم إلى السدس إذا كانوا محجوبين بالأب وهو خلاف ظاهر الآية الكريمة، فعلى قوله لو هلك امرؤ عن أبوين وأخوين كان للأم الثلث والباقي للأب، وعلى قول الجمهور للأم السدس فقط والباقي للأب.
وانظر لو هلك عن أم وأخ شقيق وأخ لأب؛ فهل يكون للأم الثلث على قول الشيخ؛ لأنه ليس معنا وارث من الإخوة إلا واحد؟
الظاهر: نعم لها الثلث قياساً على ما إذا حجب الإخوة بالأب، والله أعلم.
وترث ثلث الباقي في العمريتين، وهما:
(أ ) زوج وأم وأب.
(ب) زوجة وأم وأب.
فالمسألة الأولى:ستة للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي واحد والباقي اثنان للأب.
والمسألة الثانية:أربعة للزوجة الربع واحد وللأم ثلث الباقي واحد والباقي اثنان للأب.
وإنما سمِّيتا بالعمريتين؛ لأن أول من قضى بهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ووافقه على ذلك جمهور الصحابة والأئمة.(251/19)
وقد دلّ القرآن على ذلك بطريق الإشارة، حيث جعل الله للأم ثلث المال إذا انفردت به مع الأب، فكذلك ينبغي إذا انفردت معه ببعض المال أن يكون لها ثلث ما انفردا به مما بقي بعد فرض الزوجين، وهذا أيضاً قياس قاعدة الفرائض؛ فإن كل ذكر وأنثى من جنس إذا كانا في درجة واحدة كان للذكر مثل حظ الأنثيين، أو على السواء، ولو أعطينا الأم الثلث كاملاً في العمريتين لاختلت هذه القاعدة، ولذا لو كان بدل الأب جَدّ في العمريتين لكان للأم الثلث كاملاً؛ لأنها أقرب منه، فلا يزاحمها في كامل حقها.
أمثلة أحوال الأم:
1 - هلك هالك عن أم وأب: للأم الثلث؛ لتمام الشروط والباقي للأب.
2 - هلك هالك عن أم وابن: للأم السدس؛ لوجود الفرع الوارث والباقي للابن.
3 - هلك هالك عن أم وأخوين لأب للأم السدس لوجود عدد من الإخوة والباقي للأخوين.
4 - هلك هالك عن أم وأخوين وأب، للأم السدس لوجود عدد من الإخوة والباقي للأب.
ميراث الأب
يرث الأب إما بالفرض، وإما بالتعصيب، وإما بالفرض والتعصيب.
فيرث بالفرض فقط إذا كان للميت ذكر وارث من الفروع، وفرضه السدس لقوله تعالى:) وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ )(النساء:الآية11) ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"(21) ؛ فإذا أخذ الأب فرضه كان الباقي لأولى رجل ذكر، وذكر الفروع أولى بالتعصيب من الأب، كما يأتي إن شاء الله.
ويرث بالتعصيب فقط إذا لم يكن للميت فرع وارث لقوله تعالى: ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ)(النساء:الآية11)، ففرض للأم ولم يفرض للأب، فدل على أنه يرث في هذه الحال بالتعصيب فقط
ويرث بالفرض والتعصيب إذا كان للميت فرع وارث من الإناث فقط، لما سبق من الآية والحديث، والأب هنا أولى رجل ذكر فيكون الباقي له بالتعصيب.(251/20)
أمثلة أحوال الأب:
1 - هلك هالك عن أب وابن: للأب السدس فرضاً؛ لوجود ذكر وارث من الفروع والباقي للابن، وميراث الأب هنا بالفرض فقط.
2 - هلك هالك عن أم وأب: للأم الثلث؛ لوجود شروطه، والباقي للأب لعدم الفرع الوارث، وميراثه هنا بالتعصيب فقط.
3 - هلك هالك عن بنت وأب: للبنت النصف وللأب السدس فرضاً والباقي تعصيباً؛ لوجود أنثى وارثة من الفروع، وميراث الأب هنا بالفرض والتعصيب.
ميراث الجد
الجد الوارث هو من ليس بينه وبين الميت أنثى كأبي الأب، وميراثه كميراث الأب على ما سبق تفصيله، إلا في مسألتين:
إحداهما: العمريتان فإن للأم فيهما مع الجد ثلث جميع المال، ومع الأب ثلث الباقي بعد فرض الزوجية، كما سبق.
الثانية: إذا كان للميت إخوة أشقاء أو لأب فإنهم يسقطون بالأب، وفي سقوطهم بالجد خلاف، والراجح أنهم يسقطون به؛ كما يسقطون بالأب، وكما يسقط الإخوة من الأم، وهو قول أبي بكر الصديق وأبي موسى وابن عباس وأربعة عشر من الصحابة رضي الله عنهم قال البخاري: "لم يذكر أن أحداً خالف أبا بكر في زمانه وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم متوافرون" (22)انتهى، وهذا مذهب أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد، واختاره من أصحابنا جماعة منهم شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، وصاحب "الفائق"، قال في "الفروع": وهو أظهر، وصوبه في "الإنصاف"، واختاره شيخنا عبد الرحمن السعدي، وشيخنا عبد العزيز بن باز، وذكر ابن القيم لترجيحه عشرين وجهاً فلتراجع من صفحة (71) إلى صفحة (81) من الجزء الثاني من "أعلام الموقعين" المطبوع مع "حادي الأرواح".
وعلى هذا القول الراجح لا يرث الإخوة معه شيئاً بكل حال، فيكون حكمه حكم الأب، إلا في العمريتين.
وأما على القول المرجوح - وهو المشهور من المذهب - فإن الجد يسقط الإخوة لأم ولا يسقط الإخوة الأشقاء أو لأب، وله معهم حالان:(251/21)
إحداهما: أن لا يكون معهم صاحب فرض، فميراثه في هذه الحال الأكثر من ثلث المال، أو مقاسمة الإخوة.
والضابط في هذه الحال أنه متى كان الإخوة أكثر من مثليه فالأكثر له ثلث المال، ومتى كانوا أقل فالأكثر له المقاسمة، ومتى كانوا مثليه استوى له الأمران.
فلو هلك عن جد وثلاثة إخوة: فالأكثر للجد ثلث المال فيأخذه، والباقي للإخوة.
ولو هلك هالك عن جد وأخ: فالأكثر للجد المقاسمة؛ فيكون المال بينهما نصفين.
ولو هلك عن جد وأخوين لاستوى له الأمران الثلث والمقاسمة، فورثه بما شئت منهما.
ولو هلك عن زوج وجد وأخت: لكان للزوج النصف، ويستوي للجد ثلث الباقي وسدس جميع المال، لكن الإخوة هنا أقل من مثليه فالأكثر له المقاسمة، فيكون الباقي بعد فرض الزوج بينه وبين الأخت للذكر مثل حظ الأنثيين.
ولو هلك هالك عن زوج وجد وأخوين: فللزوج النصف ويستوي هنا للجد المقاسمة وثلث الباقي وسدس جميع المال؛ فورثه بما شئت منها.
الحال الثانية: أن يكون معهم صاحب فرض: فيأخذ صاحب الفرض فرضه، ثم يكون ميراث الجد الأكثر من المقاسمة، أو ثلث الباقي بعد الفرض، أو سدس جميع المال؛ فإن لم يبق إلا السدس أخذه الجد وسقط الإخوة، إلا في الأكدرية، وتأتي إن شاء الله.
وإليك ضوابط هذه الحال:
الضابط الأول: إذا لم تستوعب الفروض النصف فلا حظ للجد في سدس المال، لكن إن كان الإخوة أكثر من مثليه فالأكثر له ثلث الباقي، وإن كانوا أقل فالأكثر له المقاسمة، وإن كانوا مثليه استوى له الأمران.
فلو هلك هالك عن زوجة وجد وثلاثة إخوة: فللزوجة الربع ولا حظ للجد في سدس المال، وهنا الإخوة أكثر من مثليه فالأكثر له ثلث الباقي فيأخذه؛ والباقي بين الإخوة.
ولو هلك هالك عن أم وجد وأخت: لكان للأم الثلث، ولا حظ للجد في سدس المال، والإخوة هنا أقل من مثليه فالأكثر له المقاسمة؛ فيكون الباقي بعد فرض الأم بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين.(251/22)
ولو هلك هالك عن زوجة وجد وأخوين: لكان للزوجة الربع، ولا حظ للجد في السدس، والإخوة هنا مثلاه فيستوي له المقاسمة وثلث الباقي.
الضابط الثاني: إذا استوعبت الفروض النصف فقط استوى للجد ثلث الباقي وسدس جميع المال على كل حال، لكنْ إن كان الإخوة أكثر من مثليه فهما أكثر له من المقاسمة، وإن كانوا أقل فالمقاسمة أكثر، وإن كانوا مثليه استوت له الأمور الثلاثة.
فلو هلك هالك عن بنت وجد وثلاثة إخوة: فللبنت النصف، ويستوي للجد ثلث الباقي وسدس المال، وهما أكثر له من المقاسمة؛ لأن الإخوة أكثر من مثليه فيأخذ السدس، وإن شئت فقل: ثلث الباقي، والباقي بين الإخوة.
ولو هلك هالك عن زوج وجد وأخت: لكان للزوج النصف، ويستوي للجد ثلث الباقي وسدس جميع المال، لكن الإخوة هنا أقل من مثليه فالأكثر له المقاسمة، فيكون الباقي بعد فرض الزوج بينه وبين الأخت للذكر مثل حظ الأنثيين.
ولو هلك هالك عن زوج وجد وأخوين: فللزوج النصف ويستوي هنا للجد المقاسمة وثلث الباقي وسدس جميع المال؛ فَوَرِّثه بما شئت منها.
الضابط الثالث: إذا استوعبت الفروض أكثر من النصف فلا حظ للجد في ثلث الباقي، لكن إن كان الإخوة مثليه فأكثر، أو كان الباقي بعد الفروض أقل من الربع؛ فالأكثر له السدس؛ وإن كانوا أقل من مثليه والباقي ربع فأكثر؛ نظرت أيهما أكثر له المقاسمة أم سدس المال.
ولو هلك هالك عن بنتين وزوجة وجد وأخ: فللبنتين الثلثان، وللزوجة الثمن، ولا حظ للجد في ثلث الباقي ولا في المقاسمة فيأخذ السدس والباقي للأخ.
ولو هلك هالك عن بنتين وجد وأخ: فللبنتين الثلثان، ولاحظ للجد في ثلث الباقي، وهنا يستوي له سدس المال والمقاسمة فورثه بما شئت منهما.
ولو كان مع الأخ أخ آخر لكان الأكثر للجد سدس المال فيأخذه والباقي بين الأخوين.
ولو كان بدلهما أخت واحدة فالأكثر للجد المقاسمة فيأخذ الباقي بعد فرض البنتين هو والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين.(251/23)
فائدة: متى استوى للجد أمران فأكثر مما سبق فورثه بما شئت منهما.
الأكدرية
الأكدرية: زوج وأم وجد وأخت لغير أم.
مسألتها من ستة: للزوج النصف ثلاثة وللأم الثلث اثنان وللجد السدس واحد وللأخت النصف ثلاثة فتعول إلى تسعة، ثم نجمع نصيب الجد والأخت ليقتسماها تعصيباً للذكر مثل حظ الأنثيين؛ فيكون نصيبهما أربعة ورؤوسهما ثلاثة، وهي تباين نصيبهما فنضرب رؤوسهما ثلاثة في عول المسألة تسعة، تبلغ سبعة وعشرين؛ للزوج تسعة وللأم ستة وللجد والأخت اثنا عشر له ثمانية ولها أربعة.
وسميت هذه المسألة بالأكدرية؛ لأنها كَدَّرتْ قواعد باب الجد والإخوة حيث خالفتها في ثلاثة أمور:
الأول: أن قاعدة هذا الباب إذا لم يبق إلا السدس أن يسقط الإخوة، وهنا في الأكدرية لم تسقط الأخت.
الثاني: أن مسائل هذا الباب لا تعول والأكدرية عالت.
الثالث: أنه في غير المعادة لا يفرض للأخت في هذا الباب، وفي الأكدرية فرض لها.
وهذه المسألة كما كدرت قواعد باب الجد والإخوة، فقد كدرت أيضاً قواعد الفرائض كلها، حيث ضم فيها فرض، إلى فرض ثم قسما بين صاحبيهما قسمة تعصيب، وليس في الفرائض فرضان مستقلان يضم أحدهما إلى الثاني، وليس في الفرائض وارث فرض له ثم ورث بالتعصيب.
المعادة
المعادة: أن يعد الإخوة الأشقاء أولاد الأب على الجد.
وشرح ذلك: أنه إذا اجتمع مع الجد إخوة أشقاء، وإخوة لأب؛ جعلنا الإخوة لأب إخوة أشقاء ليزاحموا الجد، فإذا أخذ نصيبه ورث الإخوة، كأن لم يكن معهم جد، وحينئذٍ لا يخلو من ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أن يكون في الإخوة الأشقاء ذكور، فلا إرث للإخوة لأب بكل حال؛ لأن ذكور الأشقاء يحجبون الإخوة لأب.
فلو هلك هالك عن جد، وأخ شقيق، وأخوين لأب: فالأكثر للجد ثلث المال؛ لأن الإخوة أكثر من مثليه فيأخذه، والباقي للأخ الشقيق، ولا شيء للأخوين لأب.(251/24)
الحال الثانية: أن يكون الإخوة الأشقاء إناثاً، اثنتين فأكثر، فلا يتصور أن يبقى شيء للإخوة لأب؛ لأن أكثر ما يمكن أن يبقى بعد نصيب الجد الثلثان، وهما فرض الشقيقتين فأكثر.
فلو هلك هالك عن جد، وأختين شقيقتين، وأخوين لأب: فالأكثر للجد، ثلث المال، فيأخذه، ثم يفرض للأختين الثلثين فتأخذانهما ويسقط الأخوان.
ولو هلك هالك عن جد، وأختين شقيقتين، وأخت لأب: فالأكثر للجد المقاسمة، فيأخذ سهمين من خمسة، والباقي للأختين الشقيقتين، وتسقط الأخت للأب، ولم نكمل للشقيقتين الثلثين؛ لأن ذلك يستلزم العَوْلَ، ولا عَوْلَ في هذا الباب في غير الأكدرية.
الحال الثالثة: أن يكون الإخوة الأشقاء أنثى واحدة فقط، فيفرض لها بعد أخذ الجد نصيبه النصف، فإن بقي شيء، أخذه الإخوة لأب، وإلا سقطوا.
فلو هلك هالك عن جد، وأخت شقيقة، وأخ لأب: فالأكثر للجد المقاسمة، فيأخذ سهمين من خمسة، ثم يفرض للأخت الشقيقة النصف، فتأخذه، والباقي للأخ لأب.
ولو هلك هالك عن جد، وأخت شقيقة وأخت لأب: فالأكثر للجد المقاسمة، فيأخذ سهمين من أربعة، ثم يفرض للشقيقة النصف فتأخذه، وتسقط الأخت لأب؛ لأنه لم يبق بعد فرض الأخت الشقيقة شيء.
(تنبيه) لا نحتاج إلى المعادة إلا في الحال التي تكون فيها المقاسمة أكثر للجد لو قاسم الإخوة الأشقاء؛ ليكثر بذلك عدد الإخوة فيزاحموا الجد. أما إذا لم تكن المقاسمة أكثر له، فلا حاجة إلى المعادة.
فلو هلك هالك عن جد، وأخوين شقيقين، وأخ لأب: فلا حاجة إلى المعادة؛ لأن المقاسمة ليست أكثر للجد إذ تستوي له هنا وثلث المال، فلو عد الأخ لأب على الجد، لم ينقص حقه بذلك، فإنه سيرث ثلث المال بكل حال، فيأخذه، والباقي للشقيقين ويسقط الأخ لأب.(251/25)
ولو هلك هالك عن بنت، وزوج، وجد، وأخت شقيقة، وأخ لأب: فللبنت النصف وللزوج الربع ويستوي للجد المقاسمة وسدس المال، فلذلك لا نحتاج إلى عد الأخ لأب عليه؛ لأن نصيب الجد لن ينقص عن السدس بكل حال، فيأخذه، والباقي للأخت الشقيقة، ويسقط الأخ لأب.
(تنبيه هام) جميع ما ذكرنا من أحوال الجد، والأكدرية، والمعادة، فإنما هو على القول بتوريث الإخوة مع الجد فأما على القول الراجح، من أنهم لا يرثون معه بكل حال، فإنه لا حاجة إلى هذه التفاصيل التي ليس عليها دليل من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
ميراث الجدة
لا إرث للجدات مطلقاً مع وجود الأم.
والجدة الوارثة هي أم الأم، وأم الأب، وأم أبي الأب وإن علون بمحض الإناث.
فأما من أدلت بأب أعلى من الجد، كأم أبي الجد وإن علا فهي من ذوي الأرحام على المشهور من المذهب.
والصحيح أن كل جدة أدلت بوارث فهي وارثة، وإن أدلت بأب أعلى من الجد، وهو مذهب أبي حنيفة، والشافعي، واختاره الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وصاحب الفائق؛ لأنها مدلية بوارث فكانت وارثة كأم الأب، والجد.
أما من أدلت بغير وارث، وهي من كان بينها وبين الميت ذكر قبله أنثى، كأم أبي الأم، فهي من ذوي الأرحام قولاً واحداً (23).(251/26)
وميراث الجدة السدس سواء كانت واحدة أو أكثر، فلا يزيد الفرض بزيادتهن، لحديث قبيصة بن أبي ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر فسألته ميراثها فقال: ما لك في كتاب الله شيءٌ، وما علمت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً، فارجعي حتى أسأل الناس، فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال: هل معك غيرك؟ فقام محمد بن مسلمة الأنصاري فقال مثل ما قال المغيرة، فأنفذه لها أبو بكر قال: ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر فسألته ميراثها فقال ما لك في كتاب الله شيء، ولكن هو ذاك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما وأيكما خلت به فهو لها. رواه الخمسة إلا النسائي وصححه الترمذي. وقد نقل محمد بن نصر اتفاق الصحابة رضي الله عنهم أن السدس فرض الجدة الواحدة فأكثر.
فإن تعددت الجدات وتساوين في القرب، فالسدس بينهن بالسوية، وإن كان بعضهن أقرب من بعض سقطت البعيدة، سواء كانت من جهة الأم، أم من جهة الأب، وإن أدلت إحداهن بجهة وأخرى بجهتين، فلذات الجهة ثلث السدس، ولذات الجهتين ثلثاه.
فإذا هلك هالك عن أم أم، وأم أب، وعم: فللجدتين السدس بالسوية، والباقي للعم.
ولو هلك عن أم أم أم، وأم أب، وعم: فالسدس لأم الأب فقط؛ لأنها أقرب والباقي للعم.
ولو هلك عن جدة هي أم أم أمه، وأم أم أبيه، وجدة أخرى هي أم أبي أبيه، وعم: فللجدة الأولى ثلثا السدس، وللجدة الثانية ثلثه؛ لأن الجدة الأولى أدلت بجهتين، والثانية أدلت بجهة واحدة، والباقي للعم.
وصورة هذه المسألة أن يتزوج بنت خالته، فتأتي بولد، ثم يموت الولد عن الجدة المذكورة، وعن جدة أبيه.(251/27)
مثاله: أن يكون لهند ابنتان زينب وحفصة، ولزينب ابن اسمه محمد من زوجها علي، واسم أم علي فاطمة، ولحفصة بنت اسمها أسماء، فتزوجها ابن خالتها محمد، فأتت بولد اسمه بكر، ثم مات بكر عن جدتيه هند وفاطمة، فلهند ثلثا السدس؛ لأنها أدلت بجهتين إذ هي أم أم أم، وأم أم أب، ولفاطمة ثلثه؛ لأنها أدلت بجهة واحدة مع ذات جهتين، إذ هي أم أبي أب.
ميراث البنات
البنات يرثن تارة بالفرض، وتارة بالتعصيب بالغير.
فيرثن بالتعصيب بالغير إذا كان معهن أخوهن، لقوله تعالى :(يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْن)(النساء:الآية11)
ويرثن بالفرض إذا لم يكن معهن أخوهن، فإن كانت واحدة فلها النصف، وإن كانتا اثنتين فأكثر فلهما الثلثان، لقوله تعالى: ( فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْف)(النساء:الآية11)، وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى ابنتي سعد بن الربيع الثلثين، رواه الخمسة إلا النسائي(24)
فلو هلك هالك عن بنت، وعم: فللبنت النصف؛ لأنها واحدة ولا معصب معها، والباقي للعم.
ولو هلك هالك عن بنتين، وأب: فللبنتين الثلثان؛ للتعدد، وعدم المعصب، وللأب السدس فرضاً، والباقي تعصيباً.
ولو هلك عن بنت، وابن: فالمال بينهما تعصيباً، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا فرض للبنت لوجود المعصب.
ميراث بنات الابن
ميراث بنات الابن إذا لم يوجد فرع وارث أعلى منهن كميراث البنات، فيرثن بالتعصيب بالغير، إذا وجد ابن ابن بدرجتهن، ويرثن بالفرض، إذا لم يوجد ابن ابن بدرجتهن، للواحدة النصف وللثنتين فأكثر الثلثان؛ وذلك لأن أولاد الأبناء أولاد فيدخلون في عموم قوله تعالى: )يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ)(النساء:الآية11) وإن وجد فرع وارث أعلى منهن، فإما أن يكون ذكراً، أو أنثيين، أو أنثى واحدة.(251/28)
فإن كان ذكراً سقطن؛ لأن كل ذكر من الفروع، يسقط من تحته من أولاد الابن.
وإن كانتا أنثيين فأكثر لا ذكر معهن، فلهما الثلثان، ويسقط من دونهن من بنات الابن؛ لاستغراق من فوقهن الثلثين، إلا أن يعصبهن ذكر بدرجتهن، أو أنزل منهن.
وإن كانت أنثى واحدة لا ذكر معها، فلها النصف، ولمن دونها من بنات الابن السدس تكملة الثلثين، سواء كن واحدة أم أكثر، فلا يزيد الفرض بزيادتهن؛ لأن إناث الفروع لا يتجاوز فرضهن الثلثين، وقد أخذت البنت النصف، فلم يبق إلا السدس يكون لبنات الابن.
وعن ابن مسعود ، أنه قضى في بنت، وبنت ابن، وأخت، بأن للبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، وما بقي فللأخت، وقال: (أقضي فيها بما قضى به النبي صلى الله عليه وسلم). رواه الجماعة إلا مسلماً والنسائي(25)
أمثلة لما سبق:
لو هلك هالك عن بنت ابن، وابن ابن: فالمال بينهما تعصيباً، للذكر مثل حظ الأنثيين، ولا فرض لبنت الابن لوجود المعصب.
ولو هلك عن بنت ابن، وابن ابن ابن: فلها النصف؛ لانفرادها وعدم المعصب، وعدم فرع أعلى منها، والباقي لابن الابن النازل.
ولو هلك عن بنتي ابن، وعم: فلهما الثلثان، والباقي للعم.
ولو هلك عن بنت، وبنتي ابن، وعم: فللبنت، النصف ولبنتي الابن السدس، تكملة الثلثين، والباقي للعم.
ولو هلك عن بنت، وبنت ابن، وبنت ابن ابن، وابن ابن أنزل منها: فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين، والباقي بين بنت الابن النازلة، وابن الابن النازل، تعصيباً للذكر مثل حظ الأنثيين. وإنما عصبها مع كونه أنزل منها لاحتياجها إليه؛ حيث استغرق من فوقها الثلثين، ولولا تعصيبه إياها لسقطت.
فائدتان:
إحداهما: لا يمكن أن ترث أنثى من الفروع بالفرض مع وجود ذكر مساوٍ لها، بل يرثان بالتعصيب، للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن كان أعلى منها حجبها، وإن كان أنزل، لم يعصبها إلا إذا استغرق من فوقها الثلثين.(251/29)
الثانية: كل طبقة من الفروع فهي بالنسبة لما فوقها في الإرث، كأولاد الابن بالنسبة للأولاد على ما سبق تفصيله.
ميراث الأخوات الشقيقات
ميراث الأخوات الشقيقات، إما بالفرض، وإما بالتعصيب بالغير، وإما بالتعصيب مع الغير.
فيرثن بالفرض بثلاثة شروط، أن لا يوجد فرع وارث، ولا ذكر من الأصول وارث، ولا معصب وهو الأخ الشقيق.
وفرض الواحدة النصف، والثنتان فأكثر الثلثان لقوله تعالى: )يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَك)(النساء:الآية176)، فإن وجد فرع وارث، وكان ذكراً، سقطت الأخوات؛ لأنه لا إرث للحواشي مع ذكر الفروع، وإن كان الفرع أنثى واحدة أو أكثر، أخذن فرضهن، والباقي للأخوات تعصيباً، لحديث ابن مسعود السابق، وهذه هي الحال التي يرثن فيها بالتعصيب مع الغير.
وإن وجد ذكر من الأصول وارث، فإن كان الأب، سقطت الأخوات بالإجماع، وإن كان الجد، فقد سبق ذكر الخلاف فيه، وأن الراجح سقوطهن به، فلا إرث للحواشي مع ذكر من الأصول مطلقاً على القول الراجح.
وإن وجد معهن معصب وهو الأخ الشقيق، ورثن معه بالتعصيب، للذكر مثل حظ الأنثيين، لقوله تعالى:
) وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ)(النساء:الآية176) وهذه هي الحال التي يرثن فيها بالتعصيب بالغير.
أمثلة لما سبق:
لو هلك هالك عن أخت شقيقة، وعم: فلها النصف لتمام الشروط، والباقي للعم.
ولو هلك عن أختين شقيقتين، وعم: فلهما الثلثان، والباقي للعم.
ولو هلك عن أخت شقيقة، وابن: فالمال للابن، ولا شيء للأخت.
ولو هلك عن بنت، وأخت شقيقة: فللبنت النصف، والباقي للأخت الشقيقة تعصيباً؛ لوجود ذي فرض من الفروع.(251/30)
ولو هلك عن أب، وأخت شقيقة: فالمال للأب، ولا شيء للأخت، وكذلك لو كان بدل الأب جد على الراجح.
ولو هلك عن أخت شقيقة، وأخ شقيق: فالمال بينهما تعصيباً، للذكر مثل حظ الأنثيين.
ميراث الأخوات لأب
ميراث الأخوات لأب، كميراث الأخوات الشقيقات على ما سبق تفصيله، بشرط أن لا يوجد أحد من الأشقاء، فإن وجد أحد من الأشقاء، فإن كان ذكراً سقطت الأخوات لأب، وإن كان شقيقة واحدة فلها النصف، وللأخوات لأب السدس، تكملة الثلثين، سواء كن واحدة أم أكثر، وإن كانت الشقيقات أكثر من واحدة سقطت الأخوات لأب؛ لاستغراق الشقيقات الثلثين، إلا أن يعصبهن أخ لأب.
أمثلة لما سبق:
أمثلة هذا الباب هي أمثلة الباب الذي قبله، بجعل الأخت الشقيقة أختاً لأب، والأخ الشقيق أخاً لأب، ولهذا الباب أمثلة خاصة نذكر منها ما يلي:
لو هلك هالك عن أخ شقيق، وأخت لأب: فالمال للأخ الشقيق ولا شيء للأخت؛ لأن ذكور الأشقاء يسقطون الإخوة لأب.
ولو هلك عن أختين شقيقتين، وأخت لأب، وعم: فللشقيقتين الثلثان، والباقي للعم، ولا شيء للأخت لأب؛ لاستغراق الشقيقتين الثلثين، وعدم المعصب لها.
ولو هلك عن أخت شقيقة، وأخت لأب، وعم: فللشقيقة النصف، وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين، والباقي للعم.
ولو هلك عن أختين شقيقتين، وأخت لأب، وأخ لأب: فللشقيقتين الثلثان، والباقي بين الأخ لأب وأخته تعصيباً، للذكر مثل حظ الأنثيين.
فائدتان:
الأولى: هؤلاء الأربع، أعني البنات، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب، إذا وجد ذكر مماثل لهن درجة ووصفاً عصبهن بكل حال، فيرثن معه بالتعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين.
فإن لم يكن مماثلاً لهن درجة ووصفاً، لم يعصبهن إلا ابن الابن النازل، مع بنت ابن أعلى منه، إذا استغرق من فوقها الثلثين.
أما إذا كان الذكر أعلى منها، فإنه يسقطها بكل حال.(251/31)
الثانية: ابن الأخ لأب، وابن الأخ الشقيق، لا يعصبان الأخت لأب إذا استغرقت الشقيقات الثلثين، بخلاف ابن الابن النازل، فيعصب من فوقه من بنات الابن، إذا استغرق من فوقهن الثلثين، والفرق بينهما، أن الإرث بالولادة أقوى من الإرث بالأخوة، وأن ابن الأخ لا يعصب أخته، فلا يعصب عمته.
ميراث أولاد الأم
لا يرث أولاد الأم، إلّا إذا لم يوجد للميت فرع وارث ولا ذكر من الأصول وارث. فإن وجد للميت فرع وارث، أو ذكر وارث من الأصول، سقط أولاد الأم.
وميراث الواحد منهم السدس، والاثنين فأكثر الثلث بينهم بالسوية، لا يفضل ذكر على أنثى، لقوله تعالى:
) وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ)(النساء:الآية12). والكلالة الحواشي، فالذي يورث كلالة هو من يرثه حواشيه إذ لا ولد له ولا والد، والمراد بالأخ والأخت في هذه الآية أولاد الأم، وكون ما زاد على الواحد شركاء في الثلث، يدل على عدم تفضيل الذكر على الأنثى؛ لأن مطلق الشركة يقتضي التسوية.
أمثلة لما سبق:
لو هلك هالك عن أب، وأخ من أم: فالمال للأب، ولا شيء للأخ؛ لوجود أصل من الذكور وارث.
ولو هلك عن بنت، وأخ، لأم، وعم: فللبنت النصف، والباقي للعم، ولا شيء للأخ؛ لوجود الفرع الوارث.
ولو هلك عن أم، وأخ لأم، وأخت لأم، وأخ شقيق: فللأم السدس، ولولدي الأم الثلث بالسوية، والباقي للأخ الشقيق.
قواعد في الفروض وأهلها(251/32)
القاعدة الأولى: جميع الفروض الثابتة بالقرآن وهي النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس، يمكن اجتماع واحد منهما مع الآخر في مسألة واحدة إلا الثمن، فلا يجتمع مع الثلث ولا مع الربع، وذلك لأن الثمن فرض الزوجة فأكثر مع الفرع الوارث، ولا يوجد الثلث مع الفرع الوارث؛ لأن الثلث إما للأم - ومن شرط إرثها إياه أن لا يوجد فرع وارث - وإما لأولاد الأم ولا إرث لهم أصلاً مع الفرع الوارث.
وأما الربع؛ فلأنه للزوج مع الفرع الوارث، ولا يمكن أن يجتمع زوج وزوجة في مسألة واحدة.
القاعدة الثانية: لا يجتمع فرضان من جنس في مسألة واحدة إلا النصف والسدس.
القاعدة الثالثة: لا يرث بالفرض من الذكور إلا الزوج، والأخ من الأم، وكذلك الأب، والجد مع الفرع الوارث.
القاعدة الرابعة: أربعة أصناف من ذوي الفروض فرض الواحد منهم والمتعدد سواء وهم:
الزوجات، والجدات، وبنات الابن، إذا فرض لهن السدس. والأخوات لأب إذا فرض لهن السدس. هكذا ذكر الفرضيون فيما رأيت، ويمكن زيادة صنف خامس وهو الأب إذا تعدد؛ وذلك في وطء الشبهة، إذا وطىء شخصان امرأة بشبهة وألحقته القافة بهما. فإنهما يرثانه ميراث أب واحد، فلو مات عنهما وعن ابن لكان لهما جميعاً السدس، ولو انفرد أحدهما لكان له السدس وحده والباقي للابن.
العصبة
العصبة جمع عاصب، وهو من يرث بلا تقدير، فإذا انفرد أخذ جميع المال، وإن كان معه صاحب فرض أخذ الباقي بعده، وإن استغرقت الفروض التركة سقط؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" متفق عليه(26) .
أقسام العصبة
ينقسم العصبة ثلاثة أقسام عصبة بالنفس، وعصبة بالغير، وعصبة مع الغير.
فالعصبة بالنفس هم:
1 - جميع الذكور الوارثين من الأصول، والفروع، والحواشي، إلا الأخوة من الأم.
2 - من يرث بالولاء من ذكر أو أنثى، كالمعتق والمعتقة.(251/33)
والعصبة بالغير هن البنات، وبنات الابن، والأخوات الشقيقات، والأخوات لأب مع ذكر مماثل لهن درجة ووصفاً، أو أنزل منهن في بنات الابن خاصة، إذا استغرق من فوقهن الثلثين، فيرث هؤلاء الأربع مع من كن عصبة به، للذكر مثل حظ الأنثيين.
والعصبة مع الغير هن الأخوات الشقيقات، والأخوات لأب مع إناث الفروع، فتجعل الأخوات الشقيقات بمنزلة الأخوة الأشقاء، والأخوات لأب بمنزلة الأخوة لأب.
جهات العصوبة وترتيب الإرث بها:
جهات العصوبة على القول الراجح خمس، مجموعة على الترتيب في قوله:
بنوةٌ أُبوةٌ أُخوةٌ عمومةٌ وذو الولا التتمة
فالبنوة يدخل فيها الأبناء وأبناؤهم وإن نزلوا بمحض الذكور، وكذا البنات وبنات الابن مع ذكر معصب لهن
والأبوة يدخل فيها الأب وآباؤه وإن علوا بمحض الذكور.
والأخوة يدخل فيها الأخوة لغير أم وأبناؤهم وإن نزلوا بمحض الذكور، وكذا الأخوات لغير أم إذا كن عصبة بالغير أو مع الغير.
والعمومة يدخل فيها الأعمام لغير أم، وأبناؤهم وإن نزلوا بمحض الذكور.
والولاء يدخل فيه المعتق، وعصبته المتعصبون بأنفسهم.
هذه جهات العصوبة على القول الراجح الذي يجعل الجد أباً.
أما على القول المرجوح الذي لا يجعله أباً فالجهات ست: البنوة ثم الأبوة ثم الجدودة والأخوة ثم بنو الأخوة ثم العمومة وبنوهم ثم الولاء.
فيقدم في التعصيب الأسبق جهة، فإن كانوا في جهة واحدة، قدم الأقرب منزلة، فإن كانوا في منزلة واحدة، قدم الأقوى، وهو من يدلي بالأبوين على الذي يدلي بالأب وحده، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فما بقي فهو لأولى رجل ذكر"(27) ، فالابن أولى من الأب لأنه أسبق جهة، والأب أولى من الجد لأنه أقرب منزلة، والأخ الشقيق أولى من الأخ لأب لأنه أقوى. قال الجعبري مشيراً إلى ما سبق:
فبالجهةِ التقديمُ ثم بقربه وبعدهما التقديمَ بالقوة اجعلا(251/34)
فلو هلك هالك عن أب، وابن: فللأب السدس فرضاً، والباقي للابن تعصيباً، ولا تعصيب للأب؛ لأن جهة البنوة أسبق من جهة الأبوة.
ولو هلك عن زوجة، وابن، وابن ابن: فللزوجة الثمن، والباقي للابن وحده؛ لأنه أقرب منزلة.
ولو هلك عن عم أبيه، وابن ابن ابن ابن عمه: فالمال لابن العم النازل دون عم الأب؛ لأن ابن العم يتصل بالميت في الجد وعم أبيه يتصل به في أبي الجد، فابن العم أقرب منزلة.
ولو هلك عن أخ لأب، وابن أخ شقيق: فالمال للأخ؛ لأنه أقرب منزلة ولم نعتبر قوة الثاني؛ لأن قرب المنزلة مقدم على القوة.
ولو هلك عن بنت، وأخت شقيقة، وأخ لأب: فللبنت النصف والباقي للأخت الشقيقة؛ لأنها أقوى من الأخ لأب
فوائد:
الفائدة الأولى: سبق أن العاصب إذا استغرقت الفروض التركة سقط، فعلى هذا يسقط الإخوة الأشقاء في الحمارية وهي:
زوج، وأم، أو جدة فأكثر، وعدد من أولاد الأم، وعصبة من الأشقاء.
فلو هلكت امرأة عن زوج، وأم، وأخوين من أم، وأخ شقيق: فالمسألة من ستة للزوج النصف ثلاثة، وللأم السدس واحد، وللأخوين من أم الثلث اثنان، ولا شيء للأخ الشقيق؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فهو لأولى رجل ذكر" (28). فإذا ألحقنا بهؤلاء فرائضهم التي فرضها الله لهم بنص القرآن، لم يبق للأخ الشقيق شيء، فيسقط بمقتضى النص وكل قياس خالفه فهو فاسد يجب نبذه لمعارضته النص.
وتسمى هذه المسألة - أيضاً - (المُشَرَّكَة)؛ لأن مذهب مالك والشافعي - رحمهما الله - التشريك فيها بين الإخوة الأشقاء والإخوة لأم في الثلث، وهو آخر الروايتين عن عمر، وإحدى الروايتين عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما .
والصواب عدم التشريك؛ لأنه مقتضى النص كما سبق.
ولو كان بدل الزوج زوجة، لكان لها الربع، وللأم السدس، وللأخوين من أم الثلث، والباقي للأخ الشقيق، ولو كانوا مائة أخ.(251/35)
ولو كان بدل الأخوين من أم، أخ واحد، لكان للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخ من الأم السدس، والباقي للأخ الشقيق، ولو كان معه ألف أخ.
ولو كان بدل الأخ الشقيق أخت شقيقة، لكان للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوين من أم الثلث، وللأخت الشقيقة النصف، وتعول إلى تسعة. فإن كان معها أخت أخرى فرض لهما الثلثان، وعالت إلى عشرة.
ولا تشريك في هذه المسائل، وهذا دليل على ضعف القول بالتشريك في مسألة المشركة.
الفائدة الثانية: علم مما سبق أنه لا يرث بنو أب الميت الأعلى مع بني أبيه الأقرب وإن نزلوا؛ لأن بني أبيه الأقرب أقرب منزلة، فإن من يجتمع بالميت في الجد مثلاً، أقرب ممن يجتمع به في أبي الجد، ولذلك كان بنو الأخوة وإن نزلوا، أولى من الأعمام وإن قربوا.
فلو هلك هالك عن عم جده، وابن ابن ابن ابن عم أبيه: كان المال للثاني؛ لأنه أقرب منزلة.
الفائدة الثالثة: لا يتصور التقديم بالقوة إلا في الأخوة والأعمام وأبنائهم وإن نزلوا.
الفائدة الرابعة: ترتيب عصبة المعتق في التقديم، كترتيب عصبة النسب، لكن لا يرث إلا العصبة بأنفسهم.
فلو هلك عن ابن معتقه، وأخي معتقه: كان المال للأول؛ لأنه أسبق جهة.
ولو هلك عن ابن معتقه، وابن ابن معتقه: فالمال للأول؛ لأنه أقرب منزلة.
ولو هلك عن أخ معتقه الشقيق، وأخيه من أبيه: فالمال للأول؛ لأنه أقوى.
ولو هلك عن ابن معتقه، وبنت معتقه: فالمال للابن؛ لأنه هو العاصب بالنفس، والبنت عاصبة بالغير.
الفائدة الخامسة: قد يرث الشخص بالفرض، والتعصيب من جهة واحدة، كما سبق في الأب والجد مع إناث الفروع، وقد يجتمع في الشخص جهة فرض، وجهة تعصيب، فيرث بهما إن لم تحجبا أو أحدهما. فلو تزوج بنت عمه فهلكت عنه، فله النصف فرضاً؛ لأنه زوج، والباقي تعصيباً؛ لأنه ابن عم.(251/36)
وإن حجبتا لم يرث، فلو هلك عن بنت، وعم، وابن عم هو أخ من أم، فللبنت النصف، والباقي للعم، ولا شيء لابن العم بجهة الفرض؛ لأن البنت تحجبه، ولا بجهة التعصيب؛ لأن العم يحجبه.
وإن حجبت إحداهما ورث بالأخرى فقط، فلو هلك عن بنت، وابني عم أحدهما أخ من أم: فللبنت النصف، والباقي لابني العم تعصيباً بالسوية، ولا إرث للأخ من الأم بالفرض؛ لأن البنت تحجبه.
ولو هلكت امرأة عن عم، وابن عم هو زوج: فلابن عمها النصف فرضاً؛ لأنه زوج والباقي للعم ولا إرث لابن العم بالتعصيب؛ لأن العم يحجبه.
الفائدة السادسة: قد يجتمع في الشخص جهتا تعصيب فيرث بالمقدم منهما فقط إن لم يوجد لها مانع، فلو هلك عن عم معتق لأبيه، وابن عم معتق له: فالمال للعم، اعتباراً بالجهة المقدمة من التعصيب، وهي جهة النسب، ولو اعتبرنا المؤخرة وهي جهة الولاء لكان المال لابن العم؛ لأنه معتق للميت نفسه، فيكون أولى من معتق أبيه.
ولو هلك عن عمين أحدهما معتق: فالمال بينهما بالسوية بعصوبة النسب.
ولا يتميز المعتق بزيادة بسبب الولاء؛ لأنه إذا اجتمع في الشخص جهتا تعصيب، ورث بالمقدم منها فقط.
فإن وجد بالمقدم من جهتي التعصيب مانع ورث بالأخرى، فلو كان العتيق في المثال الأخير مخالفاً لعميه في الدين، ورثه العم المعتق بالولاء فقط؛ لوجود مانع في عصوبة النسب، وهو اختلاف الدين دون عصوبة الولاء؛ لأن اختلاف الدين لا يمنع من الإرث بالولاء على المشهور من المذهب، وقد سبق أن الصواب أنه مانع كالإرث بالنسب، فعليه لا ميراث لهما جميعاً.
ولو اشترت بنت أباها عتق عليها، ثم إذا هلك عنها وعن ابنه ورثاه بتعصيب النسب، للذكر مثل حظ الأنثيين
ولو اشترى الأب المذكور عبداً فأعتقه ثم هلك العتيق عن ابن معتقه وبنته المذكورين، لكان ماله للابن دون البنت؛ لأن الولاء لا يرث به إلا العاصب بالنفس، والبنت عاصبة بالغير.(251/37)
فإن قيل: هذه البنت معتقة المعتق فهي عاصبة بالنفس؟ فالجواب: أن الابن عاصب بالنفس من جهة النسب، والبنت عاصبة بالنفس من جهة الولاء، وعصوبة النسب مقدمة على عصوبة الولاء، فكان الابن مقدماً عليها
الفائدة السابعة: من لا أب له شرعاً، كولد الزنا والمنفي بلعان، فعصبته عصبة فروعه، فإن عدموا فأمه، فإن عدمت فعصبتها على الترتيب السابق.
والمذهب أن عصبته عصبة فروعه، فإن عدموا فعصبة أمه المتعصبون بأنفسهم، ولا عصبة للأم ولا لغير العاصب بالنفس من عصبتها.
والأول أصح لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ميراث ابن الملاعنة، لأمه ولورثتها من بعدها(29) . رواه أبو داود. وسبق حديث واثلة ابن الأسقع(30): "أن المرأة تحوز ثلاثة مواريث: عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه"، ولأن الولادة انقطعت شرعاً من جهة الأب، فانحصرت في الأم؛ فكانت الأم بمنزلة الأم والأب؛ ولأن قاعدة الفرائض أن لا يدلي عاصب بصاحب فرض محض، فلا يدلي العاصب إلا بعاصب، فإذا كان عصبة الأم عصبة فهي عصبة أيضاً، وهي أقرب منهم، فتكون أولى بالتعصيب. وهذا القول هو قول ابن مسعود وإحدى الروايتين عن أحمد واختيار الشيخ تقي الدين.
فلو هلك منفي بلعان عن بنت، وأمه، وخاله، وخالته: فللبنت النصف، وللأم السدس فرضاً والباقي تعصيباً على القول الأول. أما على القول الثاني فللبنت النصف وللأم السدس فرضاً، والباقي للخال تعصيباً، ولا شيء للخالة؛ لأنها عاصبة بالغير.
الفائدة الثامنة: عُلِمَ مما سبق أن الورثة ينقسمون باعتبار الإرث بالفرض والتعصيب خمسة أقسام:
الأول: من يرث بالفرض فقط، وهم الزوجان، وأولاد، الأم وإناث الأصول، كالأم والجدة وإن علت.
الثاني: من يرث بالتعصيب بالنفس، وهم الأبناء، وأبناؤهم، والإخوة لغير أم، وأبناؤهم، والأعمام لغير أم، وأبناؤهم، وذو الولاء من ذكر وأنثى.(251/38)
الثالث: من يرث بالفرض تارة، وبالتعصيب بالنفس تارة، ويجمع بينهما تارة، وهو الأب، والجد وإن علا.
الرابع: من يرث بالفرض تارة وبالتعصيب بالغير تارة ولا يجمع بينهما، وهن البنات، وبنت الابن وإن نزل
الخامس: من يرث بالفرض تارة، وبالتعصيب بالغير تارة، وبالتعصيب مع الغير تارة، ولا يجمع بين ذلك، وهن الأخوات الشقيقات والأخوات لأب.
هذه هي الأقسام التي قام عليها الدليل، وبقي قسم سادس لا دليل عليه، وهو من يرث بالفرض أولاً، ثم يقسم عليه بالتعصيب، وهو الجد، والأخت في الأكدرية، وقد سبق الكلام عليها وبيان ضعفها ومخالفتها للدليل وقواعد الفرائض.
الحجب
الحَجْبُ في اللغة المنع، وفي الاصطلاح منع الوارث من الإرث كله أو بعضه.
وهذا الباب مهم جداً في الفرائض لا ينقص أهمية عن أسباب الإرث وشروطه؛ وذلك لأن الإرث كغيره لا يتم إلا بوجود أسبابه وشروطه وانتفاء موانعه، فالحكم بالميراث يتوقف على معرفة أسبابه وشروطه وموانعه؛ حتى لا يحكم به مع تخلف الأسباب والشروط أو وجود الموانع، ولذلك قال بعض العلماء: لا يحل لمن لا يعرف باب الحجب أن يفتي في الفرائض خوفاً من أن يورث من لا إرث له فيحرم الحق أهله، ويعطيه من لا يستحقه.
وينقسم الحجب إلى قسمين: حجب بوصف، وحجب بشخص.
فالحجب بالوصف أن يتصف الوارث بمانع من موانع الإرث السابقة الرق والقتل واختلاف الدين .
وهذا القسم يمكن دخوله على جميع الورثة، فإن كان كل واحد منهم يمكن أن يكون رقيقاً أو قاتلاً أو مخالفاً في الدين.
والمحجوب بالوصف وجوده كالعدم، فلا يحجب غيره ولا يعصب غيره.
والحجب بالشخص أن يكون بعض الورثة محجوباً بشخص آخر، ويتنوع هذا القسم إلى نوعين حجب حرمان وحجب نقصان.
فحجب الحرمان أن لا يرث المحجوب مع الحاجب شيئاً، ويمكن دخوله على جميع الورثة إلا من يدلي إلى الميت بلا واسطة وهم ستة: الأم والأب والبنت والابن والزوجة والزوج.(251/39)
وحجب النقصان أن يرث المحجوب مع الحاجب شيئاً لولا الحاجب لورث أكثر منه، وهذا النوع يمكن دخوله على جميع الورثة من غير استثناء.
والمحجوب بالشخص لا يحجب غيره حجب حرمان، ولكن قد يحجبه حجب نقصان، كالإخوة يحجبون الأم إلى السدس، وإن كانوا محجوبين بالأب.
وهذه قواعد لحجب الحرمان بالشخص:
القاعدة الأولى : في الأصول، فكل وارث من الأصول يحجب من فوقه إذا كان من جنسه، فالأب يحجب الأجداد لأنهم من جنسه ولا يحجب الجدات لأنهن من غير جنسه، والأم تحجب الجدات لأنهن من جنسها ولا تحجب الأجداد لأنهم من غير جنسها.
القاعدة الثانية : في الفروع، فكل ذكر وارث من الفروع يحجب من تحته سواء كان من جنسه أم لا، فالابن يحجب أبناء الابن وبنات الابن، فأما الأنثى من الفروع فلا تحجب من تحتها لكن إذا استغرقن الثلثين فإن من تحتهن من الإناث يسقطن، إلا أن يعصبهن ابن ابن بدرجتهن أو أنزل منهن.
القاعدة الثالثة : في الحواشي مع الأصول والفروع؛ فكل ذكر وارث من الأصول والفروع، فإنه يحجب الحواشي الذكور منهم والإناث، ولا يستثنى من ذلك شيء على القول الراجح، وسبق أن المذهب تشريك الإخوة لغير أم مع الجد على التفصيل السابق.
وأما الإناث من الأصول أو الفروع فلا يحجبن الحواشي، إلا إناث الفروع وهن البنات وبنات الابن فيحجبن الإخوة لأم.
القاعدة الرابعة : في الحواشي بعضهم مع بعض؛ فكل من يرث منهم بالتعصيب فإنه يحجب من دونه في الجهة أو القرب أو القوة على ما سبق في باب التعصيب. وأما من يرث بالفرض كالأخوات فإنه لا يحجب من يرث بالتعصيب ولا بالفرض(31) .(251/40)
القاعدة الخامسة : في الولاء؛ فكل من يرث بالتعصيب من النسب فإنه يحجب من يرث به من الولاء، وكل من كان أعلى من غيره بالجهة أو المنزلة أو القوة فإنه يحجب من دونه، إلا أنه يفرض للأب والجد وإن علا، السدس مع الأبناء وأبنائهم على المذهب، والصواب أن لا فرض في الولاء لا للأب ولا للجد ولا لغيرهما وأنهما يسقطان بالأبناء وأبنائهم. اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ذكره عنه في الفائق.
القاعدة السادسة : قال الأصحاب: كل من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة، إلا الإخوة من الأم فإنهم يدلون بالأم ويرثون معها، وإلا الجدة أم الأب وأم الجد فإنها تدلي بهما وترث معهما.
وذكر ابن رجب هذه القاعدة على وجه آخر وهو: أن من أدلى بشخص فإن قام مقامه عند عدمه سقط به وإلا فلا.
أمثلة على ما سبق:
لو هلك هالك عن أم، وأخت شقيقة، وأخ شقيق رقيق، وعم لغير أم: فللأم الثلث وللأخت النصف والباقي للعم ولا شيء للأخ؛ لأنه رقيق فهو محجوب بالوصف، ولذلك لم يحجب الأم إلى السدس، ولم يعصب أخته ولم يسقط العم؛ لأن المحجوب بالوصف وجوده كالعدم فلا يحجب غيره ولا يُعصبه.
ولو هلك هالك عن أم، وأب، وإخوة: فللأم السدس والباقي للأب ولا شيء للإخوة؛ لأن الأب يحجبهم وإنما حجبوا الأم مع أنهم لا يرثون؛ لأن المحجوب بالشخص قد يحجب غيره نقصاناً.
ولو هلك هالك عن أب، وأمه، وجد، وأمه: فلأم الأب السدس، والباقي له، ولا شيء للجد؛ لأنه محجوب بالأب لكونه من جنسه، ولا لأمه؛ لأنها محجوبة بأم الأب لكونها من جنسها، ولو كان الأب معدوماً لكان لأمه السدس والباقي للجد، ولو كانت أم الأب معدومة لكان لأم الجد السدس والباقي للأب ولم يحجبها لأنها ليست من جنسه.
الحجب
الحَجْبُ في اللغة المنع، وفي الاصطلاح منع الوارث من الإرث كله أو بعضه.(251/41)
وهذا الباب مهم جداً في الفرائض لا ينقص أهمية عن أسباب الإرث وشروطه؛ وذلك لأن الإرث كغيره لا يتم إلا بوجود أسبابه وشروطه وانتفاء موانعه، فالحكم بالميراث يتوقف على معرفة أسبابه وشروطه وموانعه؛ حتى لا يحكم به مع تخلف الأسباب والشروط أو وجود الموانع، ولذلك قال بعض العلماء: لا يحل لمن لا يعرف باب الحجب أن يفتي في الفرائض خوفاً من أن يورث من لا إرث له فيحرم الحق أهله، ويعطيه من لا يستحقه.
وينقسم الحجب إلى قسمين: حجب بوصف، وحجب بشخص.
فالحجب بالوصف أن يتصف الوارث بمانع من موانع الإرث السابقة الرق والقتل واختلاف الدين .
وهذا القسم يمكن دخوله على جميع الورثة، فإن كان كل واحد منهم يمكن أن يكون رقيقاً أو قاتلاً أو مخالفاً في الدين.
والمحجوب بالوصف وجوده كالعدم، فلا يحجب غيره ولا يعصب غيره.
والحجب بالشخص أن يكون بعض الورثة محجوباً بشخص آخر، ويتنوع هذا القسم إلى نوعين حجب حرمان وحجب نقصان.
فحجب الحرمان أن لا يرث المحجوب مع الحاجب شيئاً، ويمكن دخوله على جميع الورثة إلا من يدلي إلى الميت بلا واسطة وهم ستة: الأم والأب والبنت والابن والزوجة والزوج.
وحجب النقصان أن يرث المحجوب مع الحاجب شيئاً لولا الحاجب لورث أكثر منه، وهذا النوع يمكن دخوله على جميع الورثة من غير استثناء.
والمحجوب بالشخص لا يحجب غيره حجب حرمان، ولكن قد يحجبه حجب نقصان، كالإخوة يحجبون الأم إلى السدس، وإن كانوا محجوبين بالأب.
وهذه قواعد لحجب الحرمان بالشخص:
القاعدة الأولى : في الأصول، فكل وارث من الأصول يحجب من فوقه إذا كان من جنسه، فالأب يحجب الأجداد لأنهم من جنسه ولا يحجب الجدات لأنهن من غير جنسه، والأم تحجب الجدات لأنهن من جنسها ولا تحجب الأجداد لأنهم من غير جنسها.(251/42)
القاعدة الثانية : في الفروع، فكل ذكر وارث من الفروع يحجب من تحته سواء كان من جنسه أم لا، فالابن يحجب أبناء الابن وبنات الابن، فأما الأنثى من الفروع فلا تحجب من تحتها لكن إذا استغرقن الثلثين فإن من تحتهن من الإناث يسقطن، إلا أن يعصبهن ابن ابن بدرجتهن أو أنزل منهن.
القاعدة الثالثة : في الحواشي مع الأصول والفروع؛ فكل ذكر وارث من الأصول والفروع، فإنه يحجب الحواشي الذكور منهم والإناث، ولا يستثنى من ذلك شيء على القول الراجح، وسبق أن المذهب تشريك الإخوة لغير أم مع الجد على التفصيل السابق.
وأما الإناث من الأصول أو الفروع فلا يحجبن الحواشي، إلا إناث الفروع وهن البنات وبنات الابن فيحجبن الإخوة لأم.
القاعدة الرابعة : في الحواشي بعضهم مع بعض؛ فكل من يرث منهم بالتعصيب فإنه يحجب من دونه في الجهة أو القرب أو القوة على ما سبق في باب التعصيب. وأما من يرث بالفرض كالأخوات فإنه لا يحجب من يرث بالتعصيب ولا بالفرض(31) .
القاعدة الخامسة : في الولاء؛ فكل من يرث بالتعصيب من النسب فإنه يحجب من يرث به من الولاء، وكل من كان أعلى من غيره بالجهة أو المنزلة أو القوة فإنه يحجب من دونه، إلا أنه يفرض للأب والجد وإن علا، السدس مع الأبناء وأبنائهم على المذهب، والصواب أن لا فرض في الولاء لا للأب ولا للجد ولا لغيرهما وأنهما يسقطان بالأبناء وأبنائهم. اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ذكره عنه في الفائق.
القاعدة السادسة : قال الأصحاب: كل من أدلى بواسطة حجبته تلك الواسطة، إلا الإخوة من الأم فإنهم يدلون بالأم ويرثون معها، وإلا الجدة أم الأب وأم الجد فإنها تدلي بهما وترث معهما.
وذكر ابن رجب هذه القاعدة على وجه آخر وهو: أن من أدلى بشخص فإن قام مقامه عند عدمه سقط به وإلا فلا.
أمثلة على ما سبق:(251/43)
لو هلك هالك عن أم، وأخت شقيقة، وأخ شقيق رقيق، وعم لغير أم: فللأم الثلث وللأخت النصف والباقي للعم ولا شيء للأخ؛ لأنه رقيق فهو محجوب بالوصف، ولذلك لم يحجب الأم إلى السدس، ولم يعصب أخته ولم يسقط العم؛ لأن المحجوب بالوصف وجوده كالعدم فلا يحجب غيره ولا يُعصبه.
ولو هلك هالك عن أم، وأب، وإخوة: فللأم السدس والباقي للأب ولا شيء للإخوة؛ لأن الأب يحجبهم وإنما حجبوا الأم مع أنهم لا يرثون؛ لأن المحجوب بالشخص قد يحجب غيره نقصاناً.
ولو هلك هالك عن أب، وأمه، وجد، وأمه: فلأم الأب السدس، والباقي له، ولا شيء للجد؛ لأنه محجوب بالأب لكونه من جنسه، ولا لأمه؛ لأنها محجوبة بأم الأب لكونها من جنسها، ولو كان الأب معدوماً لكان لأمه السدس والباقي للجد، ولو كانت أم الأب معدومة لكان لأم الجد السدس والباقي للأب ولم يحجبها لأنها ليست من جنسه.
التأصيل والتصحيح
التأصيل: تحصيل أقل عدد تخرج منه سهام المسألة بلا كسر.
والتصحيح: تحصيل أقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر.
وأصل المسألة: أقل عدد تخرج منه سهامها بلا كسر.
فإن كان الورثة عصبة نسب، فأصل مسألتهم بعدد رؤوسهم، يجعل الذكر رأسين والأنثى رأساً واحداً، فلو هلك عن ابنين، وابنتين فمسألتهم من ستة لكل ابن اثنان ولكل ابنة واحد.
وإن كان الورثة عصبة ولاء فإن تساووا في الملك فأصل مسألتهم بعدد رؤوسهم، وإن اختلفوا فأصل مسألتهم أقل عدد ينقسم على أنصبائهم من العتيق، فلو هلك عن موليين لكل واحد منهما نصفه فالمسألة من اثنين لكل واحد واحد، وإن كان لأحدهما ربعه فالمسألة من أربعة لذي الربع واحد والباقي لشريكه.
وإن كان في الورثة ذو فرض فأصل مسألتهم أقل عدد يخرج منه فرضها أو فروضها بلا كسر.
فإن كان الفرض واحداً أو اثنين فأكثر من جنس فأصل المسألة أقل عدد ينقسم على مخرجه، وإن كانت الفروض اثنين فأكثر والجنس مختلف، فأصل المسألة أقل عدد ينقسم على مخرجيهما.(251/44)
وأصول مسائل ذوي الفروض سبعة على المشهور: اثنان وثلاثة وأربعة وستة وثمانية واثنا عشر وأربعة وعشرون.
فالاثنان لكل مسألة فيها نصف كزوج وعم، أو نصفان كزوج وأخت لغير أم.
والثلاثة لكل مسألة فيها ثلث كأم وعم، أو ثلثان كبنتين وعم أو ثلثان وثلث كأختين لغير أم وأختين لأم.
والأربعة لكل مسألة فيها ربع كزوج وابن، أو ربع ونصف كزوج وبنت وعم.
والستة لكل مسألة فيها سدس أو سدسان أو ثلاثة، كأم وابن، أو أم وأخ لأم وأخ شقيق، أو أم وأب وبنت وبنت ابن، أو سدس وثلث كأم وأخ لأم وعم، أو سدس ونصف كأم وبنت وعم، أو سدس وثلثان كأم وابنتين وعم، أو نصف وثلث كزوج وأم وعم أو نصف وثلثان كزوج وشقيقتين وعم.
والثمانية لكل مسألة فيها ثمن كزوجة وابن، أو ثمن ونصف كزوجة وبنت وعم.
والاثنا عشر لكل مسألة فيها ربع وسدس كزوج وأم وابن، أو ربع وثلث كزوجة وأم وعم، أو ربع وثلثان كزوجة وشقيقتين وعم.
والأربعة والعشرون لكل مسألة فيها ثمن وسدس كزوجة وأم وابن، أو ثمن وثلثان كزوجة وابنتين وعم.
- أقسام هذه الأصول باعتبار العول وعدمه:
لا تخلو فروض المسألة بالنسبة إلى أصلها من أحد ثلاثة أمور:
أحدها: أن تكون زائدة على أصل المسألة.
الثاني: أن تكون ناقصة عن أصل المسألة.
الثالث: أن تكون بقدر أصل المسألة من غير زيادة ولا نقص.
فالأول وهو زيادة الفروض على أصل المسألة يسمى (العول)
والثاني وهو نقص الفروض عن أصل المسألة يسمى (النقص)
والثالث وهو كون الفروض بقدر أصل المسألة من غير زيادة ولا نقص يسمى (العدل)
وهذه الأصول السبعة السابقة باعتبار العول والنقص والعدل أربعة أقسام:
أحدها: ما يكون ناقصاً دائماً، وهما أصل: أربعة وثمانية.
الثاني: ما يكون ناقصاً أو عادلاً ولا يكون عائلاً، وهما أصل: اثنين وثلاثة.
الثالث: ما يكون ناقصاً أو عائلاً ولا يكون عادلاً، وهما أصل: اثني عشر وأربعة وعشرين.
الرابع: ما يكون ناقصاً وعادلاً وعائلاً، وهو أصل: ستة.(251/45)
وبهذا تبين أن الذي يمكن عوله ثلاث أصول:
الأصل الأول : أصل ستة وتعول إلى سبعة وثمانية وتسعة وعشرة.
مثال ذلك: أن تهلك امرأة عن زوج وأختين شقيقتين فالمسألة من ستة للزوج النصف ثلاثة وللأختين الثلثان أربعة وتعول إلى سبعة.
فإن كان معهم أم كان لها السدس واحد وتعول إلى ثمانية.
فإن كان معهم أخ لأم كان له السدس واحد وتعول إلى تسعة.
فإن كان معهم أخ لأم آخر كان له مع أخيه الثلث وتعول إلى عشرة، وتسمى الستة إذا عالت إلى عشرة أم الفروخ - بالخاء المعجمة - لكثرة عولها.
الأصل الثاني : أصل اثني عشر وتعول إلى ثلاثة عشر وخمسة عشر وسبعة عشر ولا تعول إلى شفع أبداً.
مثال ذلك: أن يهلك هالك عن ثلاث زوجات وثمان أخوات لغير أم وجدتين، فالمسألة من اثني عشر، للزوجات الربع ثلاثة لكل واحدة واحد، وللأخوات الثلثان ثمانية لكل واحدة واحد وللجدتين السدس اثنان لكل واحدة واحد، وتعول إلى ثلاثة عشر. فإن كان معهم أخت لأم كان لها السدس اثنان وتعول إلى خمسة عشر. فإن كانت الأخوات لأم أكثر من واحدة كأربع مثلاً كان لهن الثلث أربعة لكل واحدة واحد وتعول إلى سبعة عشر وتسمى هذه المسألة (أم الفروج) بالجيم لأن الوارثات كلهن نساء، وتسمى أيضاً (الدينارية الصغرى) لأن كل أنثى أخذت ديناراً مع اختلاف جهاتهن.
الأصل الثالث : أصل أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين فقط.
مثال ذلك: أن يهلك رجل عن زوجة، وابنتين، وأبوين: فالمسألة من أربعة وعشرين. للزوجة الثمن ثلاثة، وللبنتين الثلثان ستة عشر، وللأم السدس أربعة، وللأب السدس أربعة، وتعول إلى سبعة وعشرين.
وأما الأصول التي لا يمكن عولها فهي أربعة:
أحدها : أصل اثنين يكون ناقصاً كزوج وعم، ويكون عادلاً كزوج وأخت شقيقة.
الثاني : أصل ثلاثة يكون ناقصاً كأم وعم، أو بنتين وعم، ويكون عادلاً كأختين شقيقتين وأختين لأم.
الثالث : أصل أربعة يكون ناقصاً دائماً كزوج وابن، أو زوج وبنت وعم.(251/46)
الرابع : أصل ثمانية يكون ناقصاً دائماً كزوجة وابن، أو زوجة وبنت وعم.
فوائد:
الفائدة الأولى : هذه الأصول السبعة السابقة هي الأصول المتفق عليها وبقي أصلان مختلف فيهما، وهما أصل ثمانية عشر وستة وثلاثين ويختصان بباب الجد والإخوة على القول بتوريثهم معه. فقيل: إنهما أصلان وقيل: بل مَصَحَّان.
فأصل ثمانية عشر لكل مسألة فيها سدس وثلث الباقي كأم وجد وثلاثة إخوة لغير أم فالمسألة من ثمانية عشر. للأم السدس ثلاثة وللجد ثلث الباقي خمسة والباقي للإخوة.
وأصل ستة وثلاثين لكل مسألة فيها سدس وربع وثلث الباقي كأم وزوجة وجد وثلاثة إخوة لغير أم. فالمسألة من ستة وثلاثين للأم السدس ستة وللزوجة الربع تسعة وللجد ثلث الباقي سبعة والباقي للإخوة.
الفائدة الثانية : إذا حصل العول في مسألة فإنه ينقص من نصيب كل وارث بقدر نسبة ما عالت به إليها بعد العول. فإذا عالت الستة مثلاً إلى سبعة كان نقص سهم كل وارث سبعاً لأنها عالت بواحد ونسبة الواحد إلى السبعة سبع. وإذا عالت إلى عشرة كان نقصه الخمسين؛ لأنها عالت بأربعة ونسبة الأربعة إلى العشرة خمسان.
الفائدة : أول مسألة حصل فيها العول وقعت زمن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في زوج وأختين لغير أم فاستشار الصحابة فاتفقوا على العول؛ لأنه الميزان القسط إذ لو لم نقل به لزم إكمال حق بعض الورثة ونقص الآخرين، وليس أحدهم أولى به من الآخر لأن الكل له فرض مقدر، فكان مقتضى العدل أن يدخل النقص على الجميع بالقسط كالغرماء إذا ضاق مال المفلس عن وفاء ديونهم. وهذا هو مقتضى نصوص الكتاب والسنة؛ لأن الله فرض لذوي الفروض فروضهم من غير استثناء ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بإلحاق الفرائض بأهلها(35) ولا طريق إلى ذلك عند التزاحم إلا بالعول.
الفائدة الرابعة : إذا نقصت الفروض عن المسألة ولم يوجد عاصب رد على كل ذي فرض بقدر فرضه إلا الزوجين.(251/47)
وقد اختلف العلماء في القول بالرد، فالمالكية والشافعية قالوا: إذا نقصت الفروض عن المسألة لم يرد على ذوي الفروض بل يصرف الزائد في بيت المال إن كان منتظماً.
والحنفية والحنابلة قالوا: بثبوته لدلالة الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح.
أما الكتاب فقوله تعالى: ) وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)(الأنفال:الآية75)، وأما السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك مالاً فلورثته"(36) .
وأما الاعتبار فلأن صرف المال إلى الأقارب أولى من صرفه إلى بيت المال الذي هو لعموم الناس، ولأن الفروض تنقص بالعول إذا زادت على المسألة، فالقياس أن تزيد بالرد إذا نقصت عنها.
أما الزوجان فلا يرد عليهما؛ قال في "المغني": "باتفاق من أهل العلم، إلا أنه روي عن عثمان أنه رد على زوج، ولعله كان عصبة أو ذا رحم فأعطاه لذلك، أو أعطاه من بيت المال لا على سبيل الميراث، وسبب ذلك - إن شاء الله - أن أهل الرد كلهم من ذوي الأرحام فيدخلون في عموم قوله تعالى: ) وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)(الأنفال:الآية75)
والزوجان خارجان من ذلك". انتهى كلامه.
وقد نقل الإجماع على عدم الرد على الزوجين غير واحد من الفرضيين وتقرير الدليل الذي قاله صاحب "المغني" أن الله فرض لذوي الفروض فروضهم فيجب أن لا يعطى أحد فوق فرضه ولا ينقص منه إلا بدليل، وقد قام الدليل على أنه ينقص منه عند التزاحم كما سبق في العول، وقام الدليل على أنه يعطى القريب ما فضل عن الفرض عند عدم العاصب وهو قوله تعالى: ) وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)(الأنفال:الآية75)، فبقي الزوجان لا دليل على إعطائهما فوق ما فرض الله لهما.(251/48)
وأما ما وقع في "فتاوى شيخ الإسلام" صفحة (48) مجموعة رقم (1) وفي "مختصر الفتاوى" صفحة (420) وفي "الاختيارات" صفحة (197) في امرأة خلفت زوجاً وأماً وبنتاً أنها تقسم على أحد عشر للبنت ستة أسهم وللزوج ثلاثة أسهم وللأم سهمان، وهذا على قول من يقول بالرد، كأبي حنيفة وأحمد. انتهى. فإن ظاهر هذه القسمة أنه يرد على الزوج وفي ذلك نظر من وجوه ثلاثة:
الأول : أن الشيخ صرح بأنها مبنية على قول من يقول بالرد. وقد علم أن القائلين بالرد لا يرون الرد على الزوجين، فقسمة المسألة المذكورة عندهم من ستة عشر للزوج أربعة وللبنت تسعة وللأم ثلاثة.
الثاني : أن الأصحاب لم ينقلوا عن الشيخ أنه يرى الرد على الزوجين مع اعتنائهم بآرائه واعتبارهم لها، بل إن صاحب "مختصر الفتاوى" قال عن المسألة المذكورة: إن فيها نظراً.
الثالث : إن الشيخ نفسه ذكر في موضع آخر مسألتين رد فيهما أحد الزوجين ولم يرد عليهما.
ففي صفحة (50) من المجموعة رقم (1) من "الفتاوى" في رجل مات وترك زوجة وأختاً لأبوين وثلاث بنات أخ لأبويه. قال الشيخ: للزوجة الربع وللأخت النصف ولا شيء لبنات الأخ. والربع الثاني إن كان هناك عصبة فهو للعصبة، وإلا فهو مردود على الأخت على أحد قولي العلماء وعلى الآخر فهو لبيت المال.(251/49)
وقال في صفحة (52) من المجوعة المذكورة في امرأة خلفت زوجاً وابن أخت: أن للزوج النصف وأما ابن الأخت: ففي أحد الأقوال له الباقي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه وأحمد في المشهور عنه، وفي القول الثاني لبيت المال وهو قول كثير من أصحاب الشافعي، قال: وأصل المسألة تنازع العلماء في ذوي الأرحام الذين لا فرض لهم ولا تعصيب، فمذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية: أن من لا وارث له بفرض ولا تعصيب يكون ماله لبيت مال المسلمين. ومذهب أكثر السلف وأبي حنيفة وأحمد في المشهور عنه يكون لذوي الأرحام. ثم ذكر دليل ذلك. فأنت ترى أن الشيخ لم يرد على الزوجين في هاتين المسألتين ولو كان يراه لرد عليهما لاستحقاقهما الرد في مثل هذه الحال لو كانا من أهله. والظاهر أن المسألة الأولى التي ظاهرها الرد على الزوج سهو أو سَبْقَةُ قلم. والله أعلم.
ويمكن أن يقال في مسألة الرد على الزوجين أنه إذا لم يكن وارث بقرابة ولا ولاء فإنه يرد على الزوجين؛ لأن ذلك أولى من صرفه إلى بيت المال الذي يكون لعموم المسلمين فإن بين الزوجين من الاتصال الخاص ما ليس لعموم المسلمين فيكونان أحق بما بقي بعد فرضهما من بيت المال. ويحتمل أن يحمل على هذا ما روي عن أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه .
عمل مسائل الرد
كنا كتبنا عمل مسائل الرد هنا ثم رأينا بعدُ أن نرجئها بعد التصحيح، والله الموفق .
التصحيح
سبق لك أن التصحيح تحصيل أقل عدد ينقسم على الورثة بلا كسر، وعلى هذا لا نحتاج إلى التصحيح فيما يأتي:
1 - إذا كان الورثة عصبة؛ لأن أصل مسألتهم من عدد رؤوسهم قلوا أو كثروا.
2 - إذا كان الورثة ذوي فرض مردود عليهم وهم من جنس واحد لأن أصل مسألتهم من عدد رؤوسهم أيضاً.
3 - إذا كانت السهام منقسمة على الورثة.
فإن كانت السهام منكسرة على الورثة أو على بعضهم فلا يخلو إما أن يكون الانكسار على فريق واحد أو على فريقين فأكثر، فهاتان حالان:(251/50)
الحال الأولى : أن يكون الانكسار على فريق واحد فلنا فيه نظر واحد وهو النظر بينه وبين سهامه، فإما أن يكون بينهما موافقة أو مباينة فإن كان بينهما موافقة فاردد الرؤوس إلى وفقها ثم اضربه في أصل المسألة أو عولها إن كانت عائلة، فما بلغ فمنه تصح وعند القسم يضرب سهم كل وارث من المسألة بما ضربتها به يخرج نصيبه.
وإن كان بينهما مباينة فاضرب جميع الرؤوس في أصل المسألة أو عولها إن كانت عائلة، فما بلغ فمنه تصح. وعند القسم يضرب سهم كل وارث من المسألة بما ضربتها به يخرج نصيبه.
مثال الموافقة: أن يهلك هالك عن أم وأربعة أعمام: فالمسألة من ثلاثة، للأم الثلث واحد، والباقي اثنان للأعمام وهم أربعة لا ينقسم عليهم، ويوافق بالنصف فنرد رؤوسهم إلى نصفها اثنين ونضربه في أصل المسألة ثلاثة يبلغ ستة، ومنه تصح للأم الثلث واحد في اثنين باثنين، والباقي للأعمام اثنان باثنين بأربعة لكل واحد واحد.
ومثال المباينة: أن يهلك هالك عن زوجتين وابن فالمسألة من ثمانية، للزوجتين الثمن واحد، والباقي للابن، وسهم الزوجتين لا ينقسم عليهما ويباين فنضرب رؤوسهما في أصل المسألة ثمانية تبلغ ستة عشر ومنه تصح. للزوجتين الثمن واحد في اثنين باثنين لكل واحدة واحد، والباقي للابن سبعة في اثنين بأربعة عشر.
الحال الثانية : أن يكون الانكسار على فريقين فأكثر فلنا نظران:
النظر الأول: بين كل فريق وسهامه فإن كان بينهما مباينة أثبتنا جميع الرؤوس، وإن كان بينهما موافقة أثبتنا وفقها.
النظر الثاني: بين ما أثبتنا من الرؤوس فإما أن يكون بينهما مماثلة أو مداخلة أو موافقة أو مباينة وتسمى هذه (النسب الأربع) فالمماثلة تساوي العددين كثلاثة وثلاثة.(251/51)
والمداخلة أن يكون أحد العددين منقسماً على الآخر بلا كسر كثلاثة وستة. وإن شئت فقل أن يكون أصغر العددين جزءاً غير مكرر لأكبرهما، فإن الثلاثة نصف الستة والنصف جزء غير مكرر بخلاف الأربعة مع الستة فإنها جزء مكرر إذ هي ثلثان.
والموافقة أن يتفق العددان بجزء من الأجزاء ولا ينقسم أحدهما على الآخر إلا بكسر، كأربعة وستة فقد اتفقا في جزء وهو النصف ولا تنقسم الستة على الأربعة إلا بكسر، وإن شئت فقل أن ينقسم العددان على آخر غير الواحد ولا ينقسم أحدهما على الآخر، فإن كلاً من الأربعة والستة ينقسم على اثنين ولا تنقسم الستة على الأربعة إلا بكسر.
والمباينة أن لا يتفق العددان في جزء من الأجزاء كثلاثة وأربعة، فإن الثلاثة لها ثلث وليس لها ربع، والأربعة بالعكس. وإن شئت فقل هي أن لا ينقسم أحد العددين على الآخر إلا بكسر، ولا ينقسما على عدد ثالث إلا بكسر فإن الثلاثة لا تنقسم على اثنين، والأربعة لا تنقسم على ثلاثة إلا بكسر.
فإن كان بين المثبت من الرؤوس مماثلة فاكتف بأحدهما.
وإن كان بين ذلك مداخلة فاكتف بأكبرهما.
وإن كان بين ذلك موافقة فاضرب وفق أحدهما بالآخر وأثبت الحاصل.
وإن كان بين ذلك مباينة فاضرب أحدهما بالآخر وأثبت الحاصل.
ويسمى المثبت من أحد المتماثلين وأكبر المتداخلين وحاصل الضرب في المتوافقين والمتباينين يسمى (جزء السهم)، فاضربه في أصل المسألة أو عولها إن كانت عائلة، فما بلغ منه تصح وعند القسم يضرب سهم كل وارث من المسألة في جزء السهم.(251/52)
مثال المماثلة: أن يهلك هالك عن أربع زوجات وأربعة أبناء: فالمسألة من ثمانية للزوجات الثمن واحد لا ينقسم ويباين فنثبت رؤوسهن، والباقي سبعة للأبناء لا ينقسم ويباين فنثبت رؤوسهم ثم ننظر بينهما وبين رؤوس الزوجات نجد بينهما مماثلة، فيكون أحدهما جزء السهم نضربه في أصل المسألة ثمانية تبلغ اثنين وثلاثين، ومنه تصح للزوجات واحد في أربعة بأربعة لكل واحدة واحد، وللأبناء سبعة في أربعة بثمانية وعشرين لكل واحد سبعة.
ومثال المداخلة: أن يهلك هالك عن أختين لأم وثمانية أعمام فالمسألة من ثلاثة: للأختين الثلث واحد لا ينقسم ويباين والباقي للأعمام اثنان لا ينقسم عليهم ويوافق بالنصف، فنرد رؤوس الأعمام إلى نصفها أربعة، ثم ننظر بينها وبين رؤوس الأختين لأم نجدهما متداخلين فنكتفي بالأكبر، وهو رؤوس الأعمام، ثم نضربه في أصل المسألة ثلاثة تبلغ اثني عشر، ومنه تصح للأختين لأم واحد في أربعة بأربعة، لكل واحدة اثنان، وللأعمام اثنان في أربعة بثمانية لكل واحد واحد.
ومثال الموافقة: أن يهلك هالك عن أربع زوجات وستة أبناء فالمسألة من ثمانية: للزوجات الثمن واحد لا ينقسم ويباين، فنثبت رؤوسهن والباقي سبعة للأبناء لا ينقسم ويباين، فنثبت رؤوسهم، ثم ننظر بينها وبين رؤوس الزوجات نجد بينهما موافقة بالنصف، فنضرب نصف أحدهما بالآخر يبلغ اثني عشر وهو جزء السهم فنضربه في أصل المسألة ثمانية تبلغ ستة وتسعين ومنه تصح للزوجات واحد في اثني عشر باثني عشر لكل واحدة ثلاثة وللأبناء سبعة في اثني عشر بأربعة وثمانين لكل واحد أربعة عشر.(251/53)
ومثال المباينة: أن يهلك هالك عن زوجتين وثلاث جدات وخمس أخوات لغير أم. فالمسألة من اثني عشر: للزوجتين الربع ثلاثة لا ينقسم ويباين، فنثبت رؤوسهما، وللجدات السدس اثنان لا ينقسم ويباين، فنثبت رؤوسهن، وللأخوات الثلثان ثمانية لا ينقسم ويباين، فنثبت رؤوسهن، ثم ننظر بين المثبتات في الرؤوس نجد بينهما مباينة فنضرب رؤوس الزوجتين في رؤوس الجدات تبلغ ستة، نضربها برؤوس الأخوات الخمس تبلغ ثلاثين، وهذا جزء السهم فاضربه في عول المسألة ثلاثة عشر تبلغ ثلاثمائة وتسعين ومنه تصح. للزوجتين ثلاثة في ثلاثين بتسعين لكل واحدة خمسة وأربعون، وللجدات اثنان في ثلاثين بستين لكل واحدة عشرون، وللأخوات ثمانية في ثلاثين بمائتين وأربعين لكل واحدة ثمانية وأربعون.
فوائد:
الفائدة الأولى : وجه انحصار النسبة بين كل عددين في النسب الأربع، أن العددين اللذين فوق الواحد إما أن يكونا متساويين فهما متماثلان، أو متفاضلان لا ينقسم أحدهما على الآخر ولا ينقسمان على عدد ثالث غير الواحد إلا بكسر فهما متباينان، أو متفاضلان لا ينقسم أحدهما على الآخر ولكن ينقسمان على عدد ثالث غير الواحد فهما متوافقان في الجزء الذي انقسما على مخرجه، أو متفاضلان ينقسم أحدهما على الآخر بلا كسر فهما متداخلان.
الفائدة الثانية : متى حصلت الموافقة في جزء أصغر لم يلتفت إلى الجزء الأكبر. فإذا اتفق العددان في الربع مثلاً وفي النصف اعتبرنا الربع لأن ذلك أخصر.
الفائدة الثالثة : إذا أردت أن تحصل أقل عدد ينقسم على الرؤوس فلك طريقان:(251/54)
أحدهما: أن تنظر بينهما جميعاً فتثبت المباين ووفق الموافق وأحد المتماثلين وأكبر المتداخلين ثم تضرب المثبتات بعضها ببعض، فإذا أردت النظر بين ثلاثة وأربعة وخمسة وستة قلت بين الثلاثة والستة مداخلة فتكتفي بالستة، وبين الأربعة والستة موافقة بالنصف فنثبت نصف الستة ثلاثة، وبين الثلاثة والخمسة مباينة فنثبتهما، وبين الخمسة والأربعة مباينة فنثبتهما، فصار الحاصل معك ثلاثة وأربعة وخمسة فاضرب أحدهما بالآخر تبلغ ستين وهو أقل عدد ينقسم على هذه الأعداد (ثلاثة وأربعة وخمسة وستة).
الطريق الثاني: أن تنظر بين عددين منها فقط وتحصل أقل عدد ينقسم عليهما، ثم تنظر بينه وبين العدد الثالث وتحصل أقل عدد ينقسم عليهما، ثم تنظر بينه وبين العدد الرابع وهكذا.
ففي المثال المذكور ننظر بين الثلاثة والأربعة نجدهما متباينين، فنضرب أحدهما في الآخر يبلغ اثني عشر، ننظر بينها وبين الستة نجدهما متداخلين فنكتفي بالأكبر وهو اثنا عشر، ننظر بينه وبين الخمسة نجدهما متباينين فنضرب أحدهما بالآخر يبلغ ستين وهي أقل عدد ينقسم على الأعداد المذكورة (ثلاثة وأربعة وخمسة وستة) وهذه الطريقة أقرب إلى الضبط وأيسر على المتعلم.
الفائدة الرابعة : لا يقع الانكسار على أكثر من فريق في أصل اثنين، ولا على أكثر من فريقين في أصل ثلاثة وأربعة وثمانية وثمانية عشر، ولا على أكثر من ثلاث فرق في أصل ستة وستة وثلاثين، ولا على أكثر من أربع فرق في أصل اثني عشر وأربعة وعشرين.
وبهذا نعرف أنه لا يقع الانكسار على أكثر من أربع فرق قال صاحب "العذب الفائض": وهذا في غير الوصايا والولاء وذوي الأرحام والمناسخات، فإنه قد يقع الانكسار فيها على أكثر من أربعة أصناف. انتهى
المناسخات
المناسخات جمع مناسخة وهي في اصطلاح الفرضيين أن يموت وارث فأكثر قبل قسمة التركة.
وأحوال المناسخة ثلاثة:(251/55)
الأولى: أن يكون ورثة الثاني هم بقية ورثة الأول من غير اختلاف، فنقسم التركة على من بقي كأن الميت الأول مات عنهم.
فلو هلك هالك عن ثلاثة أبناء ثم مات اثنان منهم واحداً بعد الآخر عمن بقي فالمال له.
الحال الثانية: أن يكون الميت الثاني من ورثة الأول وورثته لا يرثون غيره، ففي هذه الحال نصحح مسألة الميت الأول ونعرف سهم كل وارث منها، ثم نصحح مسألة من مات بعده ونقسم سهامه من المسألة الأولى على مسألته، فإما أن تنقسم أو تباين أو توافق. فإن انقسمت صحت مما صحت منه الأولى وكانت الأولى هي الجامعة.
وإن باينت سهامه مسألته فأثبت المسألة. وإن وافقتها فأثبت وفقها، ثم انظر بين المثبت من المسائل بالنسب الأربع وحصل أقل عدد ينقسم عليها كما سبق في النظر بين السهام والرؤوس، ثم اضرب الحاصل في مسألة الميت الأول فما بلغ فهو الجامعة ومنه تصح.
وعند القسم من له شيء من الأولى فاضربه فيما ضربتها به، فإن كان صاحبه حياً أخذه، وإن كان ميتاً فاقسمه على مسألته، فما حصل فهو جزء سهمها يضرب به نصيب كل واحد من ورثته.
ثم بعد ذلك اجمع ما حصل من أسهم الجامعة، فإن طابق ما صحت منه فالعمل صحيح، وإن زاد أو نقص فالعمل غير صحيح فأعده.
مثال الانقسام: أن يهلك رجل عن زوجة وثلاثة بنين، ثم يموت أحدهم عن ثلاثة أبناء وبنت، والثاني عن ابنين وثلاث بنات فمسألة الأول من ثمانية وتصح من أربعة وعشرين. للزوجة الثمن ثلاثة ولكل ابن سبعة. ومسألة الميت الثاني من سبعة. ومسألة الميت الثالث من سبعة. وسهام كل ميت منقسمة على مسألته فتصح المسألتان مما صحت منه الأولى أربعة وعشرين.(251/56)
ومثال المباينة: أن يهلك هالك عن زوجة وابنين ثم يموت أحدهما عن ثلاثة أبناء، والثاني عن أربعة أبناء. فمسألة الميت الأول من ثمانية وتصح من ستة عشر، للزوجة اثنان ولكل ابن سبعة. ومسألة الميت الثاني من ثلاثة. ومسألة الميت الثالث من أربعة، وسهام كل ميت تباين مسألته فنثبت كامل المسألتين ثلاثة وأربعة وبينهما تباين، فنضرب إحداهما بالأخرى يحصل اثنا عشر وهو جزء السهم، نضربه فيما صحت منه مسألة الميت الأول ستة عشر يبلغ مائة واثنين وتسعين وهي الجامعة. فللزوجة من المسألة الأولى اثنان في اثني عشر بأربعة وعشرين، ولكل ابن منها سبعة في اثني عشر بأربعة وثمانين. فاقسم نصيب الابن الأول على مسألته ثلاثة يحصل ثمانية وعشرون، وهو جزء سهم مسألته يضرب به سهم كل واحد من ورثته يكن لكل ابن ثمانية وعشرون، واقسم نصيب الابن الثاني من المسألة الأولى أربعة وثمانين على مسألته أربعة يحصل واحد وعشرون، وهو جزء سهم مسألته يضرب به نصيب كل واحد من ورثته يكن لكل ابن واحد وعشرون.(251/57)
ومثال الموافقة: أن تهلك امرأة عن زوج وأربعة بنين، ثم يموت أحد الأبناء عن ابنين وابنتين ويموت الثاني عن ثلاثة أبناء وثلاث بنات. فمسألة الميت الأول من أربعة وتصح من ستة عشر. للزوج أربعة ولكل ابن ثلاثة. ومسألة الميت الثاني من ستة والثالث من تسعة، وكل مسألة بينها وبين سهام المورث فيها موافقة بالثلث، فنرد الستة إلى ثلثها اثنين والتسعة إلى ثلثها ثلاثة، ثم ننظر بين الاثنين والثلاثة نجدهما متباينين نضرب أحدهما في الآخر يحصل ستة، نضربها في مسألة الميت الأول ستة عشر تبلغ ستة وتسعين وهي الجامعة، فللزوج من المسألة الأولى أربعة في ستة بأربعة وعشرين، ولكل واحد من الابنين الحيين ثلاثة في ستة بثمانية عشر، وللميت الثاني من الأولى ثلاثة في ستة بثمانية عشر، فاقسمها على مسألته ستة يخرج ثلاثة وهو جزء سهم مسألته، فاضرب به نصيب كل واحد من ورثته يكن لكل ابن ستة ولكل بنت ثلاثة. وللميت الثالث من المسألة الأولى ثلاثة في ستة بثمانية عشر، فاقسمها على مسألته تسعة يكن الحاصل اثنين وهو جزء سهمها، فأعط كل واحد من ورثته نصيبه من مسألته مضروباً في جزء السهم يكن لكل ابن أربعة ولكل بنت اثنان.
الحال الثالثة: ما سوى الحالين الأوليين ولها ثلاث صور:
إحداها: أن يكون ورثة الميت الثاني هم بقية ورثة الميت الأول مع الاختلاف.
الثانية: أن يكون ورثة الثاني من ورثة الأول وغيرهم.
الثالثة: أن يكون ورثة الميت الثاني من غير ورثة الأول.
وفي هذه الحال في جميع صورها نصحح مسألة الميت الأول ونعرف سهم كل وارث منها ثم نصحح مسألة الميت الثاني ونقسم سهامه من الأولى عليها، فإن انقسمت صحت الثانية مما صحت منه الأولى، وإن لم تنقسم فإن وافقت سهامه مسألته رددتها إلى وفقها وإن باينت سهامه مسألته فأثبت المسألة ثم اضرب الوفق عند التوافق أو الكل عند التباين في مسألة الميت الأول فما بلغ فمنه تصح ويسمى (الجامعة) .(251/58)
وعند القسم من له شيء من المسألة الأولى فأعطه إياه من الجامعة فيما إذا كانت سهام الثاني منقسمة على مسألته وإن لم تكن منقسمة فاضربه فيما ضربت به المسألة الأولى ومن له شيء من الثانية أخذه مضروباً في الخارج بقسمة سهام مورثه على مسألته إذا كانت منقسمة وإلا أخذه مضروباً في جميع سهام مورثه عند التباين أو وفقها عند التوافق ومن كان وارثاً من المسألتين جمعت نصيبه من المسألة الأولى إلى نصيبه من المسألة الثانية ثم اجمع أسهم الورثة من الجامعة فإن طابقها فصحيح وإن زاد أو نقص فالعمل غير صحيح فأعده.
فإن مات ميت ثالث عملت له مسألة أخرى بعد عمل جامعة لمن قبله وهكذا كلما تعدد الأموات عملت لكل واحد مسألة مستقلة وجامعة.
وبهذا تبين أن الفرق بين هذه الحال وبين الحال الثانية أن هذه لا بد فيها لكل ميت من مسألة مستقلة وجامعة. أما الحال الثانية فيجمع الأموات كلهم في جامعة واحدة، والله أعلم.
وإليك أمثلة لهذه الحال لكل صورة مثال:(251/59)
فمثال الصورة الأولى: أن يهلك هالك عن زوجة وابنتين منها وابن من غيرها ثم تموت إحدى البنتين عمن بقي ثم الثانية عمن بقي فالمسألة الأولى من ثمانية وتصح من اثنين وثلاثين. للزوجة أربعة وللابن أربعة عشر ولكل بنت سبعة ومسألة البنت الأولى وهي الميت الثاني من ستة لأن ورثتها أم وأخت شقيقة وأخ من أب للأم السدس واحد وللأخت النصف ثلاثة والباقي اثنان للأخ وسهامها من الأولى سبعة وهي مباينة لمسألتها فاضرب مسألتها ستة في ما صحت منه الأولى اثنين وثلاثين تبلغ مائة واثنين وتسعين وهي الجامعة فللزوجة من المسألة الأولى أربعة مضروبة في المسألة الثانية ستة بأربعة وعشرين ومن المسألة الثانية واحد مضروب في سهام المورث سبعة بسبعة الجميع واحد وثلاثون وللابن من المسألة الأولى أربعة عشر مضروبة في المسألة الثانية ستة بأربعة وثمانين ومن المسألة الثانية اثنان مضروبان في سهام المورث سبعة بأربعة عشر الجميع ثمانية وتسعون وللبنت الباقية من المسألة الأولى سبعة مضروبة في المسألة الثانية ستة باثنين وأربعين ولها من الثانية ثلاثة مضروبة في سهام مورثها سبعة بواحد وعشرين الجميع ثلاثة وستون.
انتهى عمل مسألة الميت الثاني وجامعته.
أما مسألة الميت الثالث وهي البنت الثانية فمن ثلاثة لأن ورثتها أم وأخ لأب للأم الثلث واحد والباقي للأخ لأب وسهامها ثلاثة وستون منقسمة على مسألتها وجزء سهمها واحد وعشرون، فللأم منها واحد في واحد وعشرين بواحد وعشرين أضفها إلى نصيبها من الجامعة واحد وثلاثين يكن المجموع اثنين وخمسين وللأخ منها اثنان في واحد وعشرين باثنين وأربعين أضفها إلى نصيبه من الجامعة ثمانية وتسعين يكن المجموع مائة وأربعين.(251/60)
ومثال الصورة الثانية: أن يهلك هالك عن ثلاثة أبناء ثم يموت أحدهم عن بنت ومن بقي ويموت الثاني عن زوجة وبنت ومن بقي فمسألة الميت الأول تصح من ثلاثة لكل ابن واحد ومسألة الثاني تصح من أربعة للبنت اثنان ولكل أخ واحد وهي مباينة لسهامه فنضربها في المسألة الأولى ثلاثة تبلغ اثنتي عشر وهي الجامعة لكل ابن من المسألة الأولى واحد مضروب في المسألة الثانية أربعة بأربعة ومن المسألة الثانية واحد مضروب في سهام مورثه واحد بواحد الجميع خمسة فنصيب الابنين من الجامعة عشرة وللبنت من المسألة الثانية اثنان مضروبان في سهام مورثها واحد باثنين.
ومسألة الميت الثالث من ثمانية للزوجة الثمن واحد وللبنت النصف أربعة والباقي ثلاثة للأخ وهذه المسألة مباينة لسهام الميت من الجامعة فنضربها في الجامعة اثني عشر تبلغ ستة وتسعين ومنه تصح. للابن الحي من الجامعة الأولى خمسة مضروبة في مسألة الميت الثالث ثمانية بأربعين وله من المسألة الثالثة ثلاثة مضروبة في سهام مورثه خمسة بخمسة عشر ومجموع ما له من الجامعة وهذه المسألة خمسة وخمسون ولبنت الميت الثاني من الجامعة الأولى اثنان مضروبان في مسألة الميت الثالث ثمانية بستة عشر ولزوجة الميت الثالث من مسألته واحد مضروب في سهامه من الجامعة خمسة بخمسة ولبنته أربعة مضروبة في سهامه من الجامعة خمسة بعشرين.
ومثال الصورة الثالثة: أن يهلك هالك عن ابنين ثم يموت أحدهما عن ثلاثة أبناء ثم يموت أحد الأبناء عن ابنين فمسألة الميت الأول من اثنين لكل ابن واحد ومسألة الميت الثاني من ثلاثة لكل ابن واحد وهي تباين سهام مورثهم من المسألة الأولى فاضربها في الأولى اثنين تبلغ ستة وهي الجامعة للابن من المسألة الأولى واحد مضروب في المسألة الثانية ثلاثة بثلاثة ولكل ابن في الثانية واحد مضروب في سهام مورثه واحد بواحد.(251/61)
ومسألة الميت الثالث من اثنين لكل ابن واحد وهي تباين سهام مورثهما فنضربها في الجامعة الأولى ستة تبلغ اثني عشر ومنه تصح لابن الميت الأول من الجامعة الأولى ثلاثة مضروبة في مسألة الميت الثالث اثنين بستة ولكل ابن من أبناء الميت الثاني من الجامعة واحد مضروب في مسألة الميت الثالث اثنين باثنين ولكل ابن من ابني الميت الثالث واحد من مسألته مضروب في سهامه من الجامعة واحد بواحد.
عمل الشباك
اعلم أن عمل المناسخات من أصعب علم الفرائض وأحوجها إلى معرفة تامة بعلم حسابها ومما يسهله طريقة الشباك التي وضعها الفرضيون لهذا الغرض ونحن نذكر هنا ما تحصل به الفائدة إن شاء الله فنقول:
سبق أن للمناسخات ثلاثة أحوال:
إحداها: أن يكون ورثة الثاني بقية ورثة الأول من غير اختلاف فهذه الحال لا تحتاج إلى عمل شباك لأنها تقسم على من بقي.
وإنما نحتاج إلى عمل الشباك في الحالين الأُخريين وسنضع أمامك من كل حال مثالاً تقيس عليه، فخذ المثال الثاني من الحال الثانية وهو:
رجل مات عن زوجتيه وابنيه ثم مات أحد الابنين عن ثلاثة أبناء والثاني عن أربعة وهذه صورتها في الشباك.
24
2
جه
ت
7
ابن
ت
7
ابن
28
1
ابن
28
1
ابن
28
1
ابن
21
1
ابن
21
1
ابن
21
1
ابن
21
1
ابن
تأمل هذا الشباك تجد أننا عملنا ما يلي:
1 - وضع جدول خاص لورثة الميت الأول كل واحد في مربع خاص.
2 - ثم وضع جدول لمسألته ووضع سهم كل وارث بإزائه.
3 - ثم وضع جدول لورثة الميت الثاني بحيث تنزل حقولهم عن حقول ورثة الميت الأول لأنهم غيرهم.
4 - ثم وضع جدول لمسألة الميت الثاني وسهم كل وارث بإزائه.
5 - ثم وضع جدول لورثة الميت الثالث بحيث تنزل حقولهم عن ورثة من قبلهم لأنهم ليسوا منهم.
6 - وضع جدول لمسألته وسهم كل وارث بإزائه.
7 - وضع جدول خاص بالجامعة ووضع سهم كل وارث من كل مسألة بإزائه في الجامعة.(251/62)
8 - أننا رمزنا للميت بحرف (ت) بإزائه إشارة إلى موته ولو كان الميت أنثى لوضعنا (تت).
وهكذا يكون العمل في الشباك بالرمز للاختصار فيرمز للزوج (ج) وللزوجة (جه) وللجد (د) وللجدة (ده) وللأخ الشقيق (ق) وللأخت الشقيقة (قه) وللأخ لأب (خب) وللأخت لأب (ختب) وللأخ لأم (خم) وللأخت لأم (ختم) وإذا كان في المسألة زوج أو زوجة وأولاد فإن كانوا منهما كتب بإزاء الولد (هـ) إن كان الميت الزوجة و (ها) بالألف إن كان الميت الزوج وإن لم يكن الأولاد منهما كتب بإزاء الولد (غ) .
9 - وضع قوس فوق كل مسألة وعلى كل قوس عدد وهو جزء سهم المسألة التي تحته وضع فوقها ليضرب به سهم كل وارث منها فجزء سهم المسألة الأولى هو أقل عدد ينقسم على ما صحت منها مسائل الأموات الآخرين وجزء سهم الأموات الآخرين هو الحاصل بقسمة نصيبهم من الأول مضروباً بجزء سهمها على مسائلهم.
وإليك مثالاً من الحال الثالثة للصورة الأولى وهي: أن يكون ورثة الميت الثاني هم بقية ورثة الميت الأولى مع الاختلاف وهي:
رجل مات عن زوجة وابنتين منها وابن من غيرها ثم ماتت إحدى البنتين عمن بقي ثم ماتت الثانية عمن بقي - أيضاً - وهذه صورتها في الشباك.
52
1
أم
31
1
أم
4
جه
تت
7
بنت ها
تت
63
3
قه
7
بنت ها
140
2
خب
98
2
خب
14
ابن غ
تأمل هذا الشباك تجد أننا عملنا لكل ميت مسألة منفردة وهذا ليس بغريب فقد مر عليك في المثال الأول، لكن الغريب عليك شيئان:
أحدهما: أننا وضعنا اسم كل وارث في المسائل الأخيرة بإزاء اسمه في المسألة الأولى ووضعنا أسهمه من المسائل كلها بإزاء اسمه في الجامعة وذلك لأن الوارث في الأولى وارث فيما بعدها.
الثاني: أننا عملنا لكل ميت جامعة ولم نجعل الأموات كلهم في جامعة واحدة لما مر بك في القواعد.(251/63)
وهكذا لو فرضنا أن ورثة الثاني خليط من ورثة الأول وغيرهم فإننا نعمل كهذا العمل إلا أننا نضع حقولاً أسفل للورثة الجدد الذين ليسوا من ورثة الأول كما في المثال الآتي:
رجل مات عن زوجة وبنتين منها وابن من غيرها ثم ماتت إحدى البنتين عن زوج ومن بقي، ثم ماتت البنت الثانية عن زوج وابن ومن بقي.
فمسألة الميت الأول تصح من اثنين وثلاثين، سهام الميت الثاني منها سبعة ومسألته من سبعة، فهي منقسمة عليها فصحت مما صحت منه الأولى، ومسألة الميت الثالث من اثني عشر وسهامه من الجامعة عشرة فهي توافقها بالنصف فنضرب نصف مسألته ستة بالجامعة اثنين وثلاثين تبلغ مائة واثنين وتسعين للزوجة في المسألة الأولى التي هي أم فيما بعد ذلك أربعون وللابن في المسألة الأولى أربعة وثمانون ولا شيء له من غير المسألة الأولى وللزوج في المسألة الثانية ثمانية عشر، وللزوج في المسألة الثالثة خمسة عشر وللابن خمسة وثلاثون.
وإليك صورتها في الشباك:
40
2
أم
5
1
أم
4
جه
تت
7
بنت ها
تت
10
3
قه
7
بنت ها
84
14
14
ابن غ
18
3
3
ج
15
3
ج
35
7
ابن
تأمل هذا الشباك تجد أننا لم نعمل فيه شيئاً جديداً عما سبق في الشباك الذي قبله سوى أننا نزلنا حقولاً بعدد الورثة الجدد في المسألتين الأخيرتين وهم زوج البنت الأولى وزوج وابن البنت الثانية.
فوائد:
الفائدة الأولى : قال الفرضيون: إذا كان في الورثة فريق من جنس فإنه يحسن أن تجعلهم في مربع واحد وتضع فيه رقماً بعددهم وتجعل سهامهم بإزائهم من مربعات المسألة حتى لا يطول الجدول نازلاً إلا أن يكون هناك غرض في كتابة كل واحد منهم بمربع خاص مثل أن يكون أحدهم قد مات فنحتاج إلى معرفة نصيبه لنقسمه على ورثته أو يكون لأحدهم وارث يختص به فيتعين كتابته بمربع خاص بسبب ميزته.(251/64)
الفائدة الثانية : تبين لك مما سبق أننا نضع على مسألة الميت الأول جميع مسألة الميت الثاني عند التباين ووفقها عند التوافق وتضع على مسألة الميت الثاني جميع سهامه عند التباين ووفقها عند التوافق وهذا الموضوع على كل واحدة هو جزء سهمها يضرب به سهم كل وارث منها. فلو كانت سهام الميت الثاني منقسمة على مسألته فإننا نضع فوق المسألة الأولى رقم واحد لنضرب به سهم كل وارث منها أو ندعها بلا شيء وننقل نفس سهام الورثة فيها بإزائهم في الجامعة، وأما المسألة الثانية فنضع فوقها ما خرج بقسمة سهام الميت من الأولى عليها.
الفائدة الثالثة : لمسائل المناسخات اختصار قبل العمل واختصار بعد العمل فأما الاختصار قبل العمل فقد سبق في الحال الأولى (إذا كان ورثة الثاني هم بقية ورثة الميت الأول من غير اختلاف).
وأما الاختصار بعد العمل فيتأتى فيما إذا اشتركت سهام الورثة في الجامعة بجزء كثلث ونحوه فترد الجامعة وسهام كل وارث منها إلى ذلك الجزء الذي حصل فيه الاشتراك.
مثال ذلك: أن يهلك هالك عن زوجة وابن وبنت ثم تموت البنت عمن بقي فالمسألة الأولى تصح من أربعة وعشرين، للزوجة ثلاثة وللابن أربعة عشر وللبنت سبعة والمسألة الثانية من ثلاثة لأن الورثة فيها أم وأخ للأم الثلث واحد والباقي للأخ وبينها وبين سهام المورث من المسألة الأولى تباين فنضربها فيما صحت منه الأولى أربعة وعشرين تبلغ اثنين وسبعين وهي الجامعة للزوجة من الأولى ثلاثة مضروبة في الثانية ثلاثة بتسعة ولها من الثانية واحد مضروب في سهام المورث سبعة بسبعة الجميع ستة عشر وللابن من الأولى أربعة عشر مضروبة في الثانية ثلاثة باثنين وأربعين وله من الثانية اثنان مضروبان في سهام مورثه سبعة بأربعة عشر الجميع ستة وخمسون وهي مشاركة لسهام الزوجة بالثمن لأن كلاً منهما ينقسم على ثمانية فنرد الجامعة وسهام الورثة فيها إلى الثمن تكن الجامعة تسعة نصيب الزوجة منها اثنان ونصيب الابن سبعة(251/65)
عمل مسائل الرد
لا يخلو أهل الرد من حالين:
إحداهما: أن لا يكون معهم أحد من الزوجين.
الثانية: أن يكون معهم أحد الزوجين.
ففي الحال الأولى إن كان المردود عليه واحداً أخذ جميع المال فرضاً ورداً، وإن كان أكثر من واحد وهم من جنس واحد فأصل مسألتهم من عدد رؤوسهم.
وإن كان أكثر من واحد وهم جنسان فأكثر فأصل مسائلهم من ستة، وترجع بالرد إلى العدد الذي تنتهي به فروضها.
فلو هلك هالك عن بنت فلها المال كله فرضاً ورداً.
ولو هلك عن أربع بنات فمسألتهن من أربعة لكل واحدة واحد.
ولو هلك عن جدة وأخ لأم فالمسألة من ستة للجدة السدس واحد وللأخ السدس واحد وترجع بالرد إلى اثنين فإن كان بدل الجدة أم صار لها الثلث اثنان وللأخ السدس واحداً وترجع بالرد إلى ثلاثة، فإن كان بدل الأخ بنت فلها النصف ثلاثة وللأم السدس واحد وترجع بالرد إلى أربعة فإن كان معهم بنت ابن صار للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وللأم السدس واحد وترجع بالرد إلى خمسة.
وأما في الحال الثانية: وهي أن يكون معهم أحد الزوجين فنعمل مسألة الزوجية من مخرج فرضها ونصححها إن احتاجت للتصحيح، ثم إن كان صاحب الرد واحداً أخذ الباقي بعد فرض الزوجية فرضاً ورداً.
وإن كان صاحب الرد اثنين فأكثر من جنس قسمت الفاضل بعد فرض الزوجية عليهم كفريق فإن انقسم صحت مسألة الرد مما صحت منه مسألة الزوجية وإلا ضربت مسألة الرد في مسألة الزوجية أو في وفقها فما بلغ فمنه تصح.
وإن كان صاحب الرد اثنين فأكثر من أجناس فصحح مسألة الرد من أصل ستة ثم اقسم الفاضل بعد فرض الزوجية عليها فإن انقسم صحت المسألتان من أصل واحد وإلا ضربت مسألة الزوجية في مسألة الرد أو وفقها فما بلغ فمنه تصح.(251/66)
وإذا أردت القسم فقل من له شيء من مسألة الزوجية أخذه مضروباً في مسألة الرد عند التباين أو وفقها عند التوافق أو بواحد عند الانقسام ومن له شيء من مسألة الرد أخذه مضروباً في الفاضل بعد فرض الزوجية عند التباين أو وفقه عند التوافق أو بالخارج بقسمة الباقي بعد فرض الزوجية على مسألة الرد عند الانقسام.
وإليك أمثلة لما سبق:
المثال الأول: هلكت امرأة عن بنت وزوج، فمسألة الزوجية من أربعة للزوج الربع واحد والباقي للبنت فرضاً ورداً.
المثال الثاني: هلك هالك عن زوج وثلاث بنات، مسألة الزوجية من أربعة للزوج الربع واحد ومسألة الرد من ثلاثة والباقي بعد فرض الزوج منقسم عليها فتصح المسألتان من أربعة فلو كانت البنات أربعاً باينت مسألة الرد للفاضل بعد فرض الزوج فنضربها في مسألة الزوجية تبلغ ستة عشر، للزوج من مسألة الزوجية واحد مضروب في مسألة الرد أربعة بأربعة ولكل بنت من مسألة الرد واحد مضروب في الفاضل بعد فرض الزوجية ثلاثة بثلاثة.
ولو كانت البنات ستاً لكانت مسألتهن من ستة وهي توافق الفاضل بعد فرض الزوجية بالثلث فنردها إلى ثلثها اثنين ونضربه في مسألة الزوجية أربعة تبلغ ثمانية ومنه تصح، للزوج من مسألة الزوجية واحد مضروب في وفق مسألة الرد اثنين باثنين ولكل واحدة من البنات واحد مضروب في وفق الفاضل بعد فرض الزوجية واحد بواحد.
المثال الثالث: أن يهلك هالك عن زوجة وأم وأخ من أم، فمسألة الزوجية من أربعة للزوجة الربع واحد ومسألة الرد من ستة وترجع بالرد إلى ثلاثة، للأم اثنان وللأخ واحد والباقي بعد فرض الزوجة منقسم على مسألة الرد فتصح المسألتان من أصل واحد.(251/67)
فلو كان بدل الأم جدة رجعت مسألة الرد إلى اثنين بينها وبين الفاضل بعد فرض الزوجة تباين فنضربها في مسألة الزوجية أربعة تبلغ ثمانية ومنه تصح، للزوجة من مسألة الزوجية واحد مضروب في مسألة الرد اثنين باثنين وللجدة من مسألة الرد واحد مضروب في الفاضل بعد فرض الزوجة ثلاثة بثلاثة وللأخ من الأم كذلك.
ولو كان مع الأخ لأم أخوان آخران صارت مسألة الرد من ثلاثة للجدة واحد وللإخوة اثنان لا ينقسم عليهم ويباين فنضرب رؤوسهم ثلاثة في ثلاثة بتسعة والفاضل بعد فرض الزوجية ثلاثة يوافقها بالثلث فنرد مسألة الرد إلى وفقها ثلاثة ونضربه في مسألة الزوجية أربعة تصح من اثني عشر، للزوجة من مسألة الزوجية واحد مضروب في وفق مسألة الرد ثلاثة بثلاثة وللجدة من مسألة الرد ثلاثة مضروبة في وفق الفاضل بعد فرض الزوجة واحد بثلاثة وللإخوة ستة مضروبة في وفق الفاضل بعد فرض الزوجة واحد بستة لكل أخ اثنان.
وإن شئت أن تعمل مسائل الرد التي فيها أحد الزوجين على طريقة الشباك التي عرفتها في باب المناسخة فاعمل جدولاً لمسألة الزوجية ثم جدولاً لمسألة الرد واضعاً لكل مسألة جدولين أحدهما: لأسماء الورثة، والثاني: للسهام ثم تضع جدولاً خامساً للجامعة بينهما.
(تنبيه): وقع في عبارة بعض الفرضيين أن الفاضل بعد فرض الزوجية لا يمكن أن يكون موافقاً لمسألة الرد إذا كان أهل الرد من أجناس بل إما منقسم أو مباين، ولكن هذا ما لم تحتج مسألة الرد لتصحيح فإن احتاجت لتصحيح فقد يكون بينهما موافقة كما في المثال الأخير الذي مثّلنا، والله أعلم.
***
قسمة التركات
القسمة جعل الشيء الواحد أقساماً.
والتركة ما يخلفه الميت من مال أو حق أو اختصاص.
والمراد بقسمة التركات إعطاء كل وارث من التركة ما يستحقه شرعاً.
وبهذا تعرف أهمية هذا الباب، فإن أهمية الشيء بحسب ثمرته ومقصوده وقد ذكر الفرضيون رحمهم الله لقسمة التركة طرقاً كثيرة نذكر منها ما يلي:(251/68)
الأول: طريق النسبة وهو أن تنسب سهم كل وارث من المسألة إليها وتعطيه من التركة بمثل تلك النسبة وهذا أعم الطرق نفعاً لأنه يعمل به فيما يقبل القسمة كالدراهم وما لا يقبلها كالعبد.
مثال ذلك: أن تهلك امرأة عن زوج وأم وأخت شقيقة والتركة ثمانون فالمسألة من ستة، للزوج النصف ثلاثة وللأم الثلث اثنان وللأخت النصف ثلاثة وتعول إلى ثمانية ونسبة سهم الزوج إلى المسألة ربع وثمن فأعطه من التركة ربعاً وثمناً ثلاثين ونسبة سهم الأم إلى المسألة ربع فأعطها ربع التركة عشرين ونسبة سهم الأخت إلى المسألة ربع وثمن فأعطها ربع التركة وثمنها ثلاثين.
الطريق الثاني: أن تضرب سهم كل وارث في التركة وتقسم الحاصل على ما صحت منه المسألة فما حصل فهو نصيبه ففي المثال السابق تضرب سهم الزوج ثلاثة في التركة ثمانين تبلغ مائتين وأربعين فاقسمها على ما صحت منه المسألة ثمانية يحصل ثلاثون فهي نصيبه من التركة وتفعل كذلك بسهم الأخت وتضرب سهم الأم اثنين في التركة ثمانين يبلغ مائة وستين فاقسمها على مصح المسألة ثمانية يحصل عشرون وهو سهم الأم من التركة.
فإن حصل في نصيب أحد الورثة كسر فحول المسألة إلى أضلاعها وهي الأعداد التي إذا ضربت بعضها ببعض خرجت المسألة ويحسن أن تبدأ بالأكبر فالأكبر، فإذا ضربت سهم أحد من الورثة في التركة فاقسمه على الضلع الأصغر، فإن بقي كسر فضعه تحته واقسم الحاصل الصحيح على الضلع الثاني، وهكذا حتى تصل إلى التركة فضع ما تبقى معك تحتها وهو نصيب الوارث منها.
واعلم أن كل ضلع بالنسبة لما قبله كواحد منه.(251/69)
فلو كانت التركة في المثال السابق ستين لحصل كسر في نصيبي الزوج والأخت فنحل المسألة إلى أضلاعها اثنان وأربعة ثم تضرب سهم الزوج في التركة ستين يبلغ مائة وثمانين فاقسمها على الضلع الأصغر اثنين يكن الحاصل تسعين فضع تحته صفراً أو اتركه هملاً واقسم التسعين على الضلع الأكبر أربعة يحصل اثنان وعشرون ويبقى اثنان ضعهما تحت الضلع، وضع العدد الصحيح وهو اثنان وعشرون تحت التركة وبهذا تعرف أن للزوج اثنين وعشرين واثنين من أربعة من الواحد وهما نصف الواحد وتعمل في نصيب الأخت عملك في نصيب الزوج.
واضرب سهم الأم اثنين في التركة ستين يكن مائة وعشرين فاقسمها على الضلع الأصغر اثنين يحصل ستون، اقسمها على الضلع الأكبر أربعة يحصل خمسة عشر فهي نصيب الأم من التركة.
وإليك صورتها في الشباك:
تأمل هذا الشباك تجد أننا وضعنا:
أولاً: جدول أسماء الورثة.
ثانياً: جدول المسألة.
ثالثاً: جدول التركة.
رابعاً: جدول ضلع المسألة الأكبر.
خامساً: جدول ضلع المسألة الأصغر.
وإذا أردت أن تعرف صحة العمل فاجمع ما تحت الضلع الأصغر واقسمه عليه فإن انقسم بلا كسر فاضمم الحاصل بالقسمة إلى ما تحت الضلع الذي يليه ثم اقسم حاصل جمعها على الضلع المذكور فإن انقسم بلا كسر فاضممه إلى ما تحت التركة فإن ساوى التركة فالعمل صحيح وإلا فلا.
ومتى تعددت الأضلاع فاعمل بما تحتها من الجمع والقسمة كما سبق.
وإذا أردت أن تختبر المسألة المذكورة بما قلنا فانظر إلى الضلع الأصغر تجد لا شيء تحته فدعه وانظر إلى الضلع الثاني تجد تحته اثنين واثنين فاقسم حاصل جمعهما أربعة عليه يخرج واحد فاضممه إلى ما تحت التركة واجمعه يبلغ ستين وهو قدر التركة فالعمل إذاً صحيح.
وبقية طرق قسمة التركات معروفة في كلام الفرضيين رحمهم الله.
قسمة التركات إذا كان هناك وصية ويسمى عمل (الوصايا):
تنقسم الوصية بالنسبة إلى الموصى به ثلاثة أقسام: وصية بنصيب ووصية بجزء ووصية بهما.(251/70)
فالوصية بالنصيب أن يوصى بنصيب أو بمثل نصيب أحد الورثة وهي نوعان:
أحدهما: أن يوصى بنصيب وارث معين فللموصى له مثل نصيب ذلك الوارث مضموماً إلى المسألة.
فلو أوصى بمثل نصيب زوجته وله زوجة وابن فمسألة الورثة من ثمانية للزوجة الثمن واحد والباقي للابن فنعطي الموصى له مثل نصيب الزوجة واحداً مضموماً إلى المسألة فتصح المسألة من تسعة، للزوجة واحد وللموصى له واحد والباقي للابن.
ولو أوصى بمثل نصيب ابنه وله ابنان فللموصى له الثلث ولكل ابن واحد، ولو كان معهما بنت فللموصى له سبعان ولكل ابن سبعان وللبنت سبع.
ولو كانت الوصية بمثل نصيب البنت كان للموصى له سدس وللبنت سدس ولكل ابن سدسان.
النوع الثاني : أن يوصي بنصيب أو بمثل نصيب وارث غير معين، فللموصى له مثل ما لأقلهم.
فلو أوصى له بمثل نصيب أحد الورثة والورثة أم وثلاث زوجات وابن فمسألة الورثة من أربعة وعشرين للأم السدس أربعة وللزوجات الثمن ثلاثة لكل واحدة واحد والباقي للابن، فأقل الورثة نصيباً إحدى الزوجات، فإن نصيبها واحد من أربعة وعشرين فيكون للموصى له واحد من خمسة وعشرين.
والوصية بالجزء أن يوصي له بجزء من ماله وهو نوعان أيضاً:
أحدهما : أن يوصي له بجزء غير معين كشيء وحظ ونصيب ونحوها فللموصى له ما شاء الورثة مما يتمول إلا إذا أوصى له بسهم فقيل: له ما شاء الورثة وقيل: له سدس بمنزلة سدس مفروض وهو المذهب وقيل: له سهم مما صحت منه المسألة إلا أن يزيد على السدس فيعطى السدس فقط ويظهر أثر هذا الخلاف بالمثال:(251/71)
فإذا أوصى له بسهم من ماله وله زوجة وأم وابن فعلى القول الأول يعطيه الورثة ما شاؤوا، وعلى المذهب له أربعة من ثمانية وعشرين، لأن مسألة الورثة من أربعة وعشرين وسدسها أربعة فزده عليها تكن ثمانية وعشرين للموصى له أربعة وللأم أربعة وللزوجة ثلاثة والباقي للابن وعلى القول الثالث للموصى له سهم من خمسة وعشرين، لأن مسألة الورثة من أربعة وعشرين فسهمها واحد زده عليها تكن خمسة وعشرين للموصى له واحد وللأم أربعة وللزوجة ثلاثة والباقي للابن.
النوع الثاني: أن يوصي بجزء معين كثلث وربع ونحوهما فلك في عملها طريقان:
أحدهما: طريق ما فوق الكسر بأن تزيد على مسألة الورثة مثل الكسر الذي فوق الجزء الموصى به، فإذا أوصى بالخمس فزد على مسألة الورثة مثل ربعها أو بالربع فزد عليها مثل ثلثها وهكذا.
وضابط ذلك أن تزيد على مسألة الورثة عدداً يبلغ نسبة الجزء الموصى به بالنسبة إلى مجموع المسألتين.
مثال ذلك: أن يوصي بالخمس ومسألة الورثة من اثني عشر فزد عليها ثلاثة وذلك مثل ربعها وهو خمس الخمسة عشر فيكون للموصى له ثلاثة من خمسة عشر ومسألة الورثة بحالها كل له سهمه منها.
ولو أوصى له بالسبع ومسألة الورثة من ستة فزد عليها واحداً وهو نصيب الموصى له وإن كانت من اثني عشر فزد عليها اثنين وإن كانت من أربعة وعشرين فزد عليها أربعة فإن حصل كسر فابسطها من جنسه ليزول فلو أوصى له بالخمس ومسألة الورثة من ستة لبلغت سبعة ونصفاً فابسطها من مخرج الكسر اثنين تكن خمسة عشر، للموصى له ثلاثة واثنا عشر للورثة.
الطريق الثاني: أن تصحح مسألة الوصية من مخرجها ثم تصحح مسألة الورثة وتقسم الباقي بعد الوصية على مسألة الورثة فإن انقسم صحت مسألة الورثة مما صحت منه مسألة الوصية وإن حصل بينهما موافقة فاضرب وفق مسألة الورثة في مسألة الوصية فما بلغ فمنه تصح وإن حصل بينهما مباينة ضربت مسألة الورثة في مسألة الوصية فما بلغ فمنه تصح.(251/72)
وعند القسم من له شيء من مسألة الوصية أخذه مضروباً في مسألة الورثة عند التباين أو وفقها عند التوافق أو أخذه بحاله عند الانقسام ومن له شيء من مسألة الورثة أخذه مضروباً في الباقي بعد الوصية عند التباين أو وفقه عند التوافق أو في الخارج بقسمته عليها عند الانقسام.
وإليك الأمثلة لما سبق:
المثال الأول للانقسام: أن توصي امرأة بثلث مالها ثم تموت عن زوج وشقيقة فمسألة الوصية من ثلاثة للموصى له واحد والباقي اثنان ومسألة الورثة من اثنين للزوج النصف وللأخت النصف والباقي بعد الوصية منقسم عليها فتصح المسألتان من ثلاثة للموصى له واحد وللزوج واحد وللأخت واحد.
المثال الثاني للموافقة: أن يوصي بالخمس ثم يموت عن بنت وزوجة وعم فمسألة الوصية من خمسة، للموصى له واحد والباقي أربعة ومسألة الورثة من ثمانية، للبنت النصف أربعة وللزوجة الثمن واحد والباقي للعم وإذا نظرت بين الفاضل بعد الوصية وبين مسألة الورثة وجدتهما متوافقين بالربع فنرد مسألة الورثة إلى ربعها اثنين ونضربه في مسألة الوصية خمسة يبلغ عشرة ومنه تصح، للموصى له واحد مضروب في وفق مسألة الورثة اثنين باثنين وللبنت أربعة مضروبة في وفق الباقي بعد الوصية واحد بأربعة وللزوجة واحد مضروب في وفق الباقي بعد الوصية واحد بواحد وللعم ثلاثة مضروبة في وفق الباقي بعد الوصية واحد بثلاثة.
المثال الثالث للمباينة: أن يوصي بالربع ثم يموت عن بنت وعم فمسألة الوصية من أربعة، للموصى له واحد ويبقى ثلاثة ومسألة الورثة من اثنين للبنت النصف واحد والباقي للعم وهي تباين الباقي بعد الوصية فاضربها في مسألة الوصية أربعة تبلغ ثمانية ومنه تصح، للموصى له واحد مضروب في مسألة الورثة اثنين باثنين وللبنت واحد مضروب في الفاضل بعد الوصية ثلاثة بثلاثة وللعم كذلك.(251/73)
وثم طريق ثالث، قد يكون أسهل، وذلك بأن تضرب ابتداء ما صحت منه مسألة الورثة بمخرج الجزء الموصى به فما بلغ فمنه تصح فأعط الموصى له نصيبه ثم اقسم الباقي على الورثة بقدر سهامهم.
ومتى حصل بين السهام وبين الوصية موافقة بجزء من الأجزاء فاردد المسألة إليه فإذا أوصى له بالسبع ومسألة الورثة من ستة فاضربها بمخرج السبع سبعة تبلغ اثنين وأربعين للموصى له ستة والباقي للورثة ستة وثلاثون وهي توافق نصيب الموصى له بالسدس فاردد المسألة إلى سدسها سبعة واردد نصيب كل من الموصى له والورثة إلى سدسه يكن للموصى له واحد والباقي للورثة.
القسم الثالث: الجمع بين الوصية بالنصيب والجزء ولقلة وقوعه نحيل به القارئ على كتب الفقه، والله أعلم.
***
ميراث الحمل
إذا مات عن ورثة فيهم حمل فإن شاؤوا تأجيل القسمة حتى يوضع الحمل فلا بأس لأن الحق لهم وإن طلبوا أو بعضهم القسمة قبل الوضع فلهم ذلك، وحينئذ يجب العمل بالأحوط في إرث الحمل وفي إرث من معه.
فأما إرث الحمل فلا يخلو من حالين:
إحداهما: أن يختلف بالذكورة والأنوثة كالأولاد فيوقف للحمل الأكثر من إرث ذكرين أو أنثيين.
وضابط ذلك أنه متى استغرقت الفروض أقل من الثلث فإرث الذكرين أكثر وإن استغرقت أكثر من الثلث فإرث الأنثيين أكثر، وإن كانت الفروض بقدر الثلث استوى له ميراث الذكرين والأنثيين، وهذا الضابط فيما إذا كان الحمل يرث مع الأنوثة بالفرض، أما إذا كان يرث بالتعصيب فإن إرث الذكرين أكثر بكل حال أو يستويان.
فلو مات عن أم حامل من أبيه وعم، فللأم السدس ويوقف للحمل إرث ذكرين لأن الفروض لم تستغرق الثلث
ولو كان معهم زوجة فلها الربع وللأم السدس ويوقف للحمل إرث أنثيين لأن الفروض زادت على الثلث.
ولو مات عن أخوين لأم وزوجة أب حامل منه، فللأخوين الثلث والباقي للحمل وهنا يستوي ميراثه بالذكورة والأنوثة لأن الفروض بقدر الثلث.(251/74)
ولو مات عن زوجة وأخ شقيق وأم حامل من أبيه فللزوجة الربع وللأم السدس ويوقف للحمل إرث ذكرين ولو أن الفروض أكثر من الثلث لأن الحمل يرث بالتعصيب بكل حال فلا يمكن أن يكون إرث الأنثيين أكثر.
ولا يوقف للحمل أكثر من إرث اثنين لأن ما زاد عليهما نادر، والنادر لا حكم له، ولا ينقص عن اثنين لأن وضع الاثنين كثير فوجب العمل بالاحتياط.
ثم إذا وضع على وجه يثبت به إرثه فإن كان ما وقف له بقدر إرثه أخذه وإن كان أقل أخذ تتمته ممن هي بيده وإن كان أكثر رد الزائد على من يستحقه من الورثة.
الحال الثانية: أن لا يختلف إرثه بالذكورة والأنوثة كأولاد الأم فَوَقِّف له إرث اثنين وقَدِّرْهُما ما شئت من ذكور أو إناث.
وأما إرث من مع الحمل فلا يخلو من ثلاثة أحوال:
إحداها: أن لا يحجبه الحمل شيئاً فيعطى إرثه كاملاً.
الثانية: أن يحجبه عن بعض إرثه فيعطى اليقين وهو ما يرثه بكل حال.
الثالثة: أن يحجبه عن جميع إرثه فلا يعطى شيئاً.
فلو هلك هالك عن زوجة حامل وجدة وعم فالجدة لا ينقصها الحمل شيئاً فتعطى إرثها السدس كاملاً والزوجة يحجبها الحمل عن بعض إرثها فتعطى اليقين وهو الثمن والعم يحجبه الحمل عن جميع إرثه فلا يعطى شيئاً.
شروط إرث الحمل
يشترط لإرث الحمل شرطان:
أحدهما: أن يتحقق وجوده حين موت مورثه وذلك بأحد أمرين:
الأول: أن تضع من فيه حياة مستقرة لدون ستة أشهر من موت مورثه مطلقاً.
الثاني: أن تضع من فيه حياة مستقرة لأربع سنين فأقل من موت مورثه بشرط أن لا توطأ بعد وفاته، فإن ولدته لأكثر من أربع سنين لم يرث مطلقاً على المذهب بناء على أن أكثر مدة الحمل أربع سنين.(251/75)
والصواب أنه يرث إذا لم توطأ بعد موت مورثه لأن مدة الحمل قد تزيد على أربع سنين كما وقع، قال ابن القيم رحمه الله في "تحفة المودود" بعد ذكر الخلاف في تحديد أكثر مدة الحمل: "وقالت فرقة لا يجوز في هذا الباب التحديد والتوقيت بالرأي لأنا وجدنا لأدنى الحمل أصلاً في تأويل الكتاب وهو الأشهر الستة فنحن نقول بهذا ونتبعه ولم نجد لآخره وقتاً وهذا قول أبي عبيد وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم تزوجها الرجل فالولد غير لاحق به فإن جاءت به لستة أشهر من يوم نكحها فالولد له". انتهى.
الشرط الثاني: أن يوضع حياً حياة مستقرة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استهل المولود ورث"(37). رواه أبو داود ، وفيه محمد بن إسحاق. وتُعْلَمُ حياته باستهلاله وعطاسه ورضاعه ونحوها، فأما الحركة اليسيرة والاضطراب والتنفس اليسير الذي لا يدل على الحياة المستقرة فلا عبرة به.
ومتى شك في وجود الحياة المستقرة لم يرث لأن الأصل عدمها.
(فائدة) : يجب الاستبراء بعد موت المورث لكل موطوءة يرث حملها أو يحجب غيره، فلو مات عن أم متزوجة بزوج بعد موت أبيه وعن أخوين شقيقين وجب على الزوج الاستبراء لأن حمل أمه يرث منه.
ولو مات عن أم متزوجة بزوج بعد أبيه وأخ شقيق وجد وجب على الزوج الاستبراء لأن الحمل يحجب أمه
عمل مسائل الحمل
طريقة عمل مسائل الحمل أن تعمل مسألة لكل حال من أحوال الحمل وتحصل أقل عدد ينقسم على المسائل فما حصل فهو الجامعة فاقسمه على كل مسألة ليخرج جزء سهمها ثم اضرب به نصيب كل وارث منها.(251/76)
فلو مات عن زوجة حامل وعم فالمسألة على تقدير موت الحمل من أربعة، للزوجة الربع واحد والباقي للعم، وعلى تقدير حياته وذكوريته من ثمانية، للزوجة الثمن واحد والباقي للحمل، وعلى تقدير حياته وأنوثيته من أربعة وعشرين للزوجة الثمن ثلاثة وللحمل الثلثان ستة عشر لأننا قدرناه ابنتين والباقي للعم، وإذا نظرت بين المسائل الثلاث وجدتها متداخلة فاكتف بالكبرى وهي الأربعة والعشرون واقسمها على مسألة موته أربعة يكن جزء سهمها ستة وعلى مسألة ذكوريته ثمانية يكن جزء سهمها ثلاثة وعلى مسألة أنوثيته أربعة وعشرين يكن جزء سهمها واحداً ثم أعط الزوجة نصيبها من إحدى المسألتين، مسألة الذكورة أو مسألة الأنوثة مضروباً بجزء سهمها يحصل لها ثلاثة ولا تعط العم شيئاً.
ميراث المفقود
المفقود من انقطع خبره فلم يعلم له حياة ولا موت وله حالان:
إحداهما: أن ينقطع خبره على وجه ظاهره السلامة كمن فقد في سفر تجارة آمن ونحوه فهذا ينتظر به تمام تسعين سنة منذ ولد لأن الغالب أن لا يعيش فوق ذلك فإن فقد من له تسعون اجتهد الحاكم في تقدير مدة يبحث فيها عنه.
الحال الثانية: أن ينقطع خبره على وجه ظاهره الهلاك كمن فقد في غرق مركب ونحوه فهذا ينتظر به تمام أربع سنين منذ فقد.
هذا هو المشهور من المذهب في تقدير مدة الانتظار في الحالين، والصواب أن الرجوع في تقديرها إلى اجتهاد الحاكم ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن والحكومات، فيقدر مدة للبحث عنه بحيث يغلب على الظن تبين حياته لو كان موجوداً ثم يحكم بموته بعد انتهائها، والله أعلم.
ولنا في المفقود نظران أحدهما: في إرثه، والثاني: في الإرث منه.
فأما إرثه: فإنه متى مات مورثه قبل الحكم بموته ورثه المفقود فيوقف له نصيبه كاملاً ويعامل بقية الورثة باليقين، فمن كان محجوباً لم يعط شيئاً ومن كان ينقصه أعطي الأقل، ومن كان لا ينقصه أعطي إرثه كاملاً.(251/77)
فلو هلك عن زوجة وجدة وعم وابن مفقود أعطينا الزوجة الثمن لأنه اليقين والجدة السدس لأن المفقود لا ينقصها ولم نعط العم شيئاً لأن المفقود يحجبه فنقف الباقي ثم لا يخلو من أربعة أحوال:
إحداها: أن نعلم أنه مات قبل مورثه فنرد الموقوف إلى من يستحقه من ورثة الأول.
الثاني: أن نعلم أنه مات بعده فيكون الموقوف تركة للمفقود ويصرف لورثته.
الثالثة: أن نعلم أنه مات ولا ندري أقبل مورثه أم بعده فجزم في "الإقناع" بأن الموقوف يكون لمن يستحقه من ورثة الأول كالحال الأولى، وجزم في "المنتهى" بأن الموقوف تركة للمفقود يصرف لورثته وهذا هو المذهب، وهو الصواب لأن الأصل بقاء حياته ولا يحكم بموته إلا بعد انقضاء مدة التربص.
الرابعة: أن لا نعلم له حياة ولا موتاً حتى تنقضي المدة وحكمها كالثالثة خلافاً ومذهباً.
النظر الثاني: في الإرث منه: فلا يورث ما دامت مدة التربص باقية لأن الأصل بقاء حياته، فإذا انقضت مدة التربص حكمنا بموته وقسمنا تركته على من كان وارثاً منه حين انقضائها ثم إن استمر جهل حاله فالحكم باق، وإن تبين أنه مات قبل ذلك أو بعده فماله لورثته حين موته وإن تبين أنه حي فماله له.
ومتى تبين أن ورثته حين انقضاء المدة لا يستحقون إرثه رجع عليهم من يستحقه بعينه إن كان باقياً أو بدله إن كان تالفاً من مثل مثلي أو قيمة متقوم لأنه قد تبين أنهم لا يستحقونه.
عمل مسائل المفقود
إذا مات مورث المفقود في مدة التربص فاعمل له مسألة حياة ومسألة موت وحصل أقل عدد ينقسم عليهما فهو الجامعة فاقسمه على كل مسألة ليخرج جزء سهمها وتضرب به نصيب كل وارث منها.(251/78)
فلو هلكت امرأة عن زوج وأختين شقيقتين إحداهما مفقودة فمسألة الحياة تعول إلى سبعة، للزوج النصف ثلاثة وللأختين الثلثان أربعة، ومسألة الموت من اثنين، للزوج النصف واحد وللأخت النصف واحد وبين المسألتين تباين فاضرب إحداهما في الأخرى تبلغ أربعة عشر وهو الجامعة فاقسمها على مسألة الحياة سبعة يكن جزء سهمها اثنين، واقسمها على مسألة الموت اثنين يكن جزء سهمها سبعة والأضر في حق الزوج والأخت حياة المفقودة فأعطهما نصيبهما من مسألة الحياة، فللزوج ثلاثة في اثنين بستة وللأخت اثنان في اثنين بأربعة ويوقف للمفقودة أربعة فإن تبين أنها تستحقها فهي لها وإلا فللزوج منها واحد وللأخت ثلاثة.
(فائدة): قال الفرضيون رحمهم الله: قد لا يكون للمفقود حق في الموقوف مثل أن يكون ممن يحجب غيره ولا يرث وقد يكون له حق في بعضه مثل أن يكون الموقوف أكثر من نصيب المفقود وفي كلا الحالين يجوز للورثة أن يصطلحوا على ما لا حق للمفقود فيه ويقتسموه.
مثال الأول: أن تهلك امرأة عن زوج وأخت شقيقة وأخت لأب وأخ لأب مفقود، فمسألة حياته من اثنين، للزوج النصف واحد وللأخت الشقيقة النصف واحد ولا شيء للأخت لأب لأنها عصبة بأخيها وقد استغرقت الفروض التركة، ومسألة موته من ستة للزوج النصف ثلاثة وللشقيقة النصف ثلاثة وللأخت لأب السدس تكملة الثلثين واحد وتعول لسبعة.(251/79)
وإذا نظرت بين المسألتين وجدتهما متباينتين فاضرب إحداهما في الأخرى تبلغ أربعة عشر وهي الجامعة فاقسمها على مسألة الحياة اثنين يكن جزء سهمها سبعة وإذا قسمتها على مسألة الموت سبعة صار جزء سهمها اثنين والأضر في حق الزوج والأخت الشقيقة مسألة الموت فيعطيان نصيبهما منها مضروباً في جزء سهمها فيكون لكل واحد ستة ويبقى من الجامعة اثنان ولا حق للمفقود فيهما بل هما إما للأخت لأب إن تبين موته قبل موت المورث وإلا ردا على الزوج والشقيقة فالحق لهؤلاء الثلاثة، الزوج والشقيقة والأخت لأب فلهم أن يصطلحوا عليهما.
ومثال الثاني: أن تهلك امرأة عن زوج وأختين شقيقتين وأخ شقيق مفقود فمسألة حياته تصح من ثمانية، للزوج أربعة والباقي للأخ وأختيه للذكر مثل حظ الأنثيين فله اثنان ولكل أخت واحد، ومسألة موته من ستة، للزوج النصف ثلاثة وللأختين الثلثان أربعة وتعول لسبعة وبين المسألتين تباين فاضرب إحداهما سبعة في الأخرى ثمانية تكن الجامعة ستة وخمسين فاقسمها عليهما يكن جزء سهم مسألة الحياة سبعة وجزء سهم مسألة الموت ثمانية والأضر في حق الزوج موت الأخ فأعطه من مسألة الموت سهمه ثلاثة مضروباً في جزء سهمها ثمانية بأربعة وعشرين والأضر في حق الأختين حياة أخيهما فأعطهما من مسألة الحياة سهمها اثنين مضروباً في جزء سهمها سبعة بأربعة عشر لكل واحدة سبعة ووقف للمفقود نصيبه من مسألة الحياة اثنين مضروباً في جزء سهمها سبعة بأربعة عشر والباقي من الجامعة أربعة لا حق للمفقود فيها وإنما هي للأختين إن تبين موت أخيهما قبل موت المورث أو للزوج إن لم يتبين ذلك، فللزوج والأختين أن يصطلحوا عليها ويقتسموها لأن الحق لهم.
تتمة
لو اصطلحوا على ما سبق ثم تبين اختصاص أحدهم به لظهور حال المفقود لم يُنْقَض الصلح لأنه برضاهم وهم أهل الحق ولو شاؤوا لانتظروا فلما رضوا بالتعجيل والصلح على بعض حقهم صار الحكم على ما رضوا به، والله أعلم.
الخنثى المشكل(251/80)
الخنثى المشكل: هو من لا يعرف أذكر هو أم أنثى، وذلك بأن يكون فيه علامتا الذكور والإناث من غير تمييز أو لا يكون فيه علامة أحدهما.
وأحكام الخنثى المشكل نوعان:
نوع لا يختلف فيه الذكور والإناث فلا حاجة لتخصيص الخنثى فيه بحكم كالزكاة والفطرة ونحوهما.
ونوع يختلف فيه الذكور والإناث كالميراث فيحتاج فيه إلى أحكام تخص الخنثى وهل يلحق بالذكور أو بالإناث، والغالب أن يسلك به طريق الاحتياط في باب التحريم وبراءة الذمة في باب الإيجاب.
هذا وقد أشبع الكلام عليه في باب الميراث الفقهاء والفرضيون ولقلة وقوعه - ولله الحمد - تركنا الكلام عليه.
***
الغرقى والهدمى
يقصد الفرضيون رحمهم الله بهذا الباب كل جماعة متوارثين ماتوا بحادث عام كهدم وغرق ونحوهما.
فمتى وقع ذلك فلا يخلو من خمسة أحوال:
الأولى: أن نعلم المتأخر منهم بعينه فيرث من المتقدم ولا عكس.
الثانية: أن نعلم أن موتهم وقع دفعة واحدة فلا توارث بينهم لأن من شروط الإرث حياة الوارث بعد موت مورثه حقيقة أو حكماً ولم يوجد.
الثالثة: أن نجهل كيف وقع الموت؛ هل كان مرتباً أو دفعة واحدة؟
الرابعة: أن نعلم أن موتهم مرتب ولكن لا نعلم عين المتأخر.
الخامسة: أن نعلم المتأخر ثم ننساه.
وفي هذه الأحوال الثلاث لا توارث بينهم عند الأئمة الثلاثة وهو اختيار الموفق والمجد والشيخ تقي الدين وشيخنا عبد الرحمن السعدي، وشيخنا عبد العزيز بن باز، وهو الصحيح لأن من شروط الإرث حياة الوارث بعد موت المورث حقيقة أو حكماً ولا يحصل ذلك مع الجهل إلا أن الشافعية قالوا في الحال الأخيرة يوقف الأمر حتى يذكروا أو يصطلحوا لأن التذكر غير ميؤوس منه.
والمشهور من مذهب أحمد في الأحوال الثلاث الأخيرة أنه إن حصل بين ورثتهم اختلاف في السابق ولا بينة تحالفوا ثم لا توارث بينهم لعدم المرجح وإن لم يحصل اختلاف ورث كل منهم من الآخر من تلاد ماله دون ما ورثه منه دفعاً للدور.
عمل مسائل الغرقى(251/81)
عمل مسائل الغرقى إذا لم يحكم بالتوارث بينهم لا يختلف عن عمل مسائل غيرها وأما إذا حكم بالتوارث فإنه يعمل مسألة لأحدهم لإرث تلاد ماله فنقسمها على ورثته الأحياء ومن مات معه ثم نعمل مسألة ثانية للأحياء من ورثة من مات معه ونقسم عليها نصيبه من مسألة الميت الأول ونحصل جامعة لهما كما سبق في المناسخات وبذلك تمت أول مسألة من الأموات ثم نرجع لنعمل مسألة الميت الثاني وهو الذي قدرنا أولاً أنه حي فنعمل له مسألة ونقسمها على ورثته الأحياء ومن مات معه ثم نعمل مسألة ثانية للأحياء من ورثة من مات معه ونقسم عليها سهامه ونصححها كما سبق، وإليك مثالاً يوضح ذلك:
أخوان صغير وكبير ماتا بهدم فمات الصغير عن زوجة وبنت وأخيه الذي معه وعم وتركته ثمانية دنانير ومات الكبير عن بنتين وأخيه الذي معه والعم وتركته أربعة وعشرون درهماً.
فمسألة الصغير من ثمانية، للزوجة الثمن واحد وللبنت النصف أربعة والباقي ثلاثة للأخ ولا شيء للعم، ومسألة إحياء الكبير من ثلاثة للبنتين الثلثان اثنان والباقي واحد للعم وإذا قسمت نصيب الكبير من أخيه على مسألته وجدته منقسماً عليها فتصح مسألتهما من ثمانية وبهذا انتهت مسألة الصغير وصار لزوجته دينار ولبنته أربعة ولكل واحدة من ابنتي أخيه دينار ولعمه دينار وقد وضعنا في الشباك بينها وبين مسألة الكبير فاصلاً ثلاثة خطوط.
ومسألة الكبير من ثلاثة، للبنتين الثلثان فلهما من التركة ستة عشر درهماً والباقي ثمانية دراهم لأخيه ولا شيء للعم ومسألة إحياء الصغير من ثمانية، للزوجة الثمن واحد وللبنت النصف أربعة والباقي للعم، وإذا قسمت نصيب الصغير من أخيه على مسألته وجدته منقسماً فتصح مسألتهما من أربعة وعشرين وبهذا انتهت مسألة الكبير فصار لكل واحدة من ابنتيه ثمانية دراهم ولبنت أخيه أربعة دراهم ولزوجته درهم وللعم ثلاثة.(251/82)
وإذا جمعت ما لكل واحد من الأحياء تبين أن لزوجة الصغير دينار ودرهم ولبنته أربعة دنانير وأربعة دراهم ولكل واحدة من ابنتي الأخ الكبير دينار وثمانية دراهم وللعم دينار وثلاثة دراهم فهذه ثمانية دنانير وأربعة وعشرون درهماً وإليك صورتها في الشباك:
جه
1
1
جه
1
1
بنت
4
4
بنت
4
4
ق
3
ت
عم
عم
1
1
عم
3
3
بنت
1
1
بنت
8
8
بنت
1
1
بنت
8
8
ق
8
ت
دراهم
تأمل هذا الشباك تجد أننا وضعنا:
أولاً: ورثة الصغير.
ثانياً: سهامهم من التركة.
ثالثاً: الأحياء من ورثة الكبير.
رابعاً: سهامهم من التركة.
خامساً: جامعة المسألتين.
سادساً: أسماء ورثة الكبير.
سابعاً: سهامهم من التركة.
ثامناً: أسماء الأحياء من ورثة الصغير.
تاسعاً: سهامهم من التركة.
عاشراً: جامعة المسألتين.
وهذه العملية حينما تحكم بالتوارث، أما إذا لم تحكم بالتوارث فإننا نقسم تركة كل واحد منهما على الأحياء من ورثته فنقسم تركة الصغير على زوجته وبنته وعمه، لزوجته دينار واحد ولبنته أربعة دنانير ولعمه ثلاثة دنانير، ونقسم تركة الكبير على بنتيه وعمه، للبنتين ستة عشر درهماً وللعم ثمانية دراهم، وعلى هذا فيكون الحظ للعم إذ جاءه على هذا الوجه ثلاثة دنانير وثمانية دراهم وعلى الوجه الأول لم يأته إلا دينار واحد وثلاثة دراهم، والله أعلم.
وإلى هنا انتهى ما أردنا جمعه، وقد تم نقله في ليلة الأربعاء الموافق الأول من جمادى الآخرة عام أربع وثمانين وثلاثمائة وألف، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلّى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين.
---(251/83)
(37) رواه أبو داوود (2920) كتاب الفرائض باب المواود يستهل ثم يموت ، وله شاهد عند الترمزي (1032) كتاب الجنائز 43- باب ما جاء في ترك الصلاة على الجنين حتى يستهل . والنسائي (6358 - 6359) كتاب الفرائض 18- توريث المولود إذا استهل . وابن ماجه (2750 - 2751) كتاب الفرائض 17- باب إذا استهل المولود ورث . ومال إلى صحة وقفة الترمزي والنسائي والدار قطني .
---
(35) سبق رقم (1) وأنه في الصحيحين .
(36) رواه البخاري (2298) كتاب الكفالة 5- باب الدين ومسلم (1619) كتاب الفرائض باب من ترك مالاً فلورثته .
---
(31) إلا ما سبق فيما استغرقت الأخوات الشقيقات الثلثين فتسقط الأخوات لأب إن لم يعصبهن أخ لأب .
---
(31) إلا ما سبق فيما استغرقت الأخوات الشقيقات الثلثين فتسقط الأخوات لأب إن لم يعصبهن أخ لأب .
---
(26) سبق تخريجه رقم (1) .
(27) رواه البخاري ومسلم وسبق رقم (1) .
(28) رواه البخاري ومسلم وسبق رقم (1) .
(29) رواه ابو داوود (2907 - 2908) كتاب الفرائض ، باب ميراث ابن الملاعنة وله شاهد عند الطبراني موقوفاً على ابن مسعود قال الهيثمي (4/230) من المجمع : رجاله رجال الصحيح إلا أن قتادة لم يدرك ابن مسعود وفي الباب غير ذلك . وصححه الألباني .
(30) سبق رقم (13) .
---
(20) رواه البخاري ومسلم كما سبق رقم (1) .
(21) رواه البخاري ومسلم كما سبق رقم (1) .
(22) ذكره البخاري في صحيحه معلقاً : كتاب الفرائض 9- ميراث الجد مع الأب والإخوة . قال الحافظ في تغليق التعليق (5/ 214): قول أبي بكر إن الجد أب أسنده المؤلف " البخاري" في فضل ابي بكر، وأسنده في هذا الباب " أي برقم 6738" . وكذا قول ابن الزبير.(251/84)
(23) رواه مالك في الموطأ (2/513/1076) كتاب الفرائض 8- باب ميراث الجدة . وأبو داوود (2894) كتاب الفرائض باب في الجدة. والترمزي (2101) كتاب الفرائض 10- باب ما جاء في ميراث الجدة وصححه . وابن ماجه (2724) كتاب الفرائض 4- باب ميراث الجدة وضعفه ابن حزم في المحلى (9/274) بالانقطاع وكذا عبد الحق وابن القطان ومال إليه الحافظ في التلخيص (3-82) . وقارن مع التمهيد (11/92) لأبن عبد البر .
(24) رواه أبو داوود (2891) كتاب الفرائض باب ما جاء في ميراث الصلب و الترمزي (2092) كتاب الفرائض 3- باب ما جاء في ميراث البنات وقال: حسن صحيح وابن ماجه (2720) كتاب الفرائض 2- باب فرائض الصلب . وأحمد (3/352) وحسنه الألباني وهو ظاهر صنيع الحافظ في الفتح (8/244) والشوكاني في النيل (6/171) .
(25) رواه البخاري (6736) كتاب الفرائض 8- باب ميراث ابنة ابن مع ابنة ، وأبو داوود (2890) كتاب الفرائض باب ما جاء في ميراث الصلب والترمزي (2093) كتاب الفرائض 4- باب ما جاء في ميراث ابنة الابن مع الصلب وقال: حسن صحيح . والنسائي في الكبرى (6329) كتاب الفرائض 9- تأويل قول الله عز وجل : ) إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ )(النساء: من الآية176) وابن ماجه (2721) كتاب الفرائض 2- باب فرائض الصلب .
---
(19) رواه أبو داوود (4582) كتاب الديات باب دية المكاتب ، والترمزي (1259) كتاب البيوع ، 35- باب ما جاء في المكاتب إذا كان عنده ما يؤدي وحسنه ، والنسائي في المجتبي (4808) كتاب القسامة دية المكاتب . وصححه ابن حزم (6/137) و (9/35) والألباني في الارواء (1726).
---
(15) رواه البخاري (2379) كتاب المساقات 17- باب الرجل يكون له ممر أو شرب في حائط أو في نخل . ومسلم (1543) كتاب البيوع 15- باب من باع نخلاً عليها ثمر .(251/85)
(16) رواه أبو داوود (4564) كتاب الديات ، باب ديات الأعضاء، والنسائي (6367) كتاب الفرائض 21- باب توريث القاتل. وقواه البيهقي (6/219-220) بشواهده وصححه الألباني في الأرواء (1671) وشاهده من حديث عمر : رواه مالك (2/867/10) كتاب العقول والنسائي (6368) كتاب الفرائض باب توريث القاتل، وابن ماجه (2646) كتاب الديات 14- باب القاتل لا يرث. وأحمد (1/ 46) مرسلاً إلا أحمد فوصله وفيه الحجاج وهو ضعيف .
(17) رواه ابن ماجه (2736) كتاب الفرائض 8- باب ميراث القاتل. والدارقطني (4/72-73/16) كتاب الفرائض والسير وغير ذلك. ومال إلى تصحيحه. وضعفه البويصري والألباني بل قال: موضوع وابن الجوزي في التحقيق (2/242/1661) وعبد الحق كما في نصب الراية (4/330) وقد روى عن عطاء ومجاهد وابن أبي نجيح والزهري ومجمد بن جبير وغيرهم القول بتوريث القاتل خطأ من المال دون الدية . أنظر : المصنف لابن شيبة (11/358) ومصنف عبد الرزاق (9/400) .
(18) رواه أبو داوود (2911) كتاب الفرائض باب هل يرث المسلم الكافر . والنسائي (6382- 6384) كتاب الفرائض 25- سقوط الموارثة بين الملتين ، ابن ماجه (2731) كتاب الفرائض 6- باب ميراث أهل الأسلام من أهل الشرك . وأحمد (2/178) وصححه الألباني وابن الملقن في الخلاصة (2/135/1744) وقال الحافظ في الفتح (12/51) : وسند أبي داوود إلى عمرو بن شعيب صحيح . وأخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمر في حديث كما ذكره الحافظ في التلخيص (3/97) .
---
(11) رواه الدار قطني (4/88) والطبراني في الكبير (11/284/11748) وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد) (7/28) رجاله رجال الصحيح . ويلاحظ أن لفظ أبي داوود (2921 - 2924) في إرث الحلف لا إرث المؤاخاة . كتاب الفرائض باب نسخ ميراث العقد بميراث الرحم وانظر عنده ( 2922) وكلها صحهها الشيخ الألباني .(251/86)
(12) علقه البخاري في صحيحه قال: ويذكر عن تميم الداري واختلفوا في صحة الخبر ، وجزم في التاريخ الكبير (5/198) أنه لا يصح ووصله الترمزي (2112) كتاب الفرائض20- باب ما جاء في ميراث الذي يسلم على يدي رجل. وقال: لا يصح . وأبو داوود (2918) كتاب الفرائض باب في الرجل يسلم على يدي الرجل . وابن ماجه (2752) كتاب الفرائض 18- باب الرجل يسلم على يدي الرجل والنسائي (6411 - 6413) كتاب الفرائض 32- باب ميراث موالي الموالاة . وأحمد (4/102-103) وضعفه البيهقي (10/297) وحسنه أبو زرعة الدمشقي والألباني .
(13) رواه أبو داوود (2906) كتاب الفرائض 9- باب ميراث ابن الملاعنة . والنسائي (6420) كتاب الفرائض 37- باب ميراث اللقيط . وابن ماجه (2742) كتاب الفرائض 12- باب تحوز المرأة ثلاث مواريث ، والترمزي (2115) كتاب الفرائض 23- باب ما جاء ما يرث النساء من الولاء وقال : حسن غريب . وأحمد (4/106) وضعفه ابن عدي والبيهقي (6-259) وابن حزم والالباني ويفهم أن الحافظ في الفتح (12/31) مال إلى تحسينه ولعل ذلك (بجزء من الملاعنة ) أنظر ص (64) هنا .
(14) رواه أبو داوود (2905) كتاب الفرائض باب ميراث ذوي الأرحام . والنسائي (6409 - 6410) كتاب الفرائض 31- إذا مات العتيق وبقي المعتق ، والترمزي (2106) كتاب الفرائض 14- باب لا وراث له . وأحمد (1/ 358) وضعفه المنذري والألباني . ولعل أصله ما رواه الفاكهي في أخبار مكة (2164) باسناد صحيح عن عطاء عن عمر موقوفاً ولكنه منقطع .
---
(8) رواه ابو داوود (2903-2904) كتاب الفرائض ، باب في ميراث ذوي الأرحام والنسائي (6394) كتاب الفرائض ، 28- توريث ذوي الأرحام وأحمد (5/347) وضعفه المنذر والألباني .(251/87)
(9) رواه أحمد (1/ 430) . وأبو داوود (2114-2116) كتاب النكاح ، باب فيمن تزوج ولم يسم صداقاً حتى مات والترمزي (1145) كتاب النكاح ، 44- باب ما جاء في الرجل يتزوج المرأة فيموت عنها قبل أن يفرض لها . وقال : حسن صحيح والنسلئي (5515) كتاب النكاح 70- إباحة التزوج بغير من صداق ، وابن ماجه (1891) كتاب النكاح 18- باب الرجل يتزوج ولا يفرض لها فيموت على ذلك وصححه ابن حزم والألباني والحاكم (2/196-197).
(10) رواه البخاري (2155) كتاب البيوع ، 67 – باب البيع والشراء مع النساء ، ومسلم (1504) كتاب العتق 2- باب إنما إنما الولاء لمن أعتق .
---
(1) رواه البخاري (6732) كتاب الفرائض ، 5- باب ميراث الولد من أبيه وأمه . و مسلم (1615) كتاب الفرائض ، 1- بابا ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر .
(2) سبق الحديث في رقم (1) وهو في الصحيحين .
---
(1) رواه البخاري (6732) كتاب الفرائض ، 5- باب ميراث الولد من أبيه وأمه . و مسلم (1615) كتاب الفرائض ، 1- بابا ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر .
(2) سبق الحديث في رقم (1) وهو في الصحيحين .(251/88)
تلخيص فقه الفرائض
تلخيص فقه الفرائض
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب أليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادى له واشهد أن لا اله آلا الله وحده لا شريك له ، واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى اله واصحابه ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً ، وبعد :
فهذه رسالة مختصرة في علم الفرائض حسب المنهج الجديد المقرر للسنة الأولى الثانوية راعيت فيها سهولة التعبير مع الإيضاح بالأمثلة وسميتها ( تلخيص فقه الفرائض ) أسال الله تعالى أن يجعل عملي خالصا له نافعاً لعباده انه جواد كريم .
1ـ تعريف الفرائض 2ـ فائدته 3ـ حكمه
1ـ الفرائض : جمع فريضة بمعنى مفروضة ، وهى لغة : الشي الموجب والمقطوع .
في الاصطلاح هنا : العلم بقسمة المواريث فقها وحسابا .
2ـ فائدته : إيصال نصيب كل وارث إليه .
3ـ حكمه : فرض كفاية ، إذا قام به من يكفى سقط الفرض عن بقية الناس .
الحقوق المتعلقة بالتركة وبيان المقدم منها
الحقوق المتعلقة بالتركة خمسة مرتبة كالتالي :
1ـ مؤن تجهيز الميت من ثمن ماء تغسله وكفنه وحنوطه واجرة غاسله وحافر قبره .
2ـ الحقوق المتعلقة بعين التركة كالديون الموثقة بالرهن .
3ـ الحقوق المتعلقة بذمة الميت كالديون التي ليس فيها رهن سواء كانت لله تعالى كالزكاة أم للآدميين كالقرض .
4ـ الوصية الجائزة ، وهى ما كانت بالثلث فاقل لغير وارث .
5ـ الإرث ، ويقدم منه بالفرض ثم التعصيب ثم الرحم .
مثال يوضح ذلك : أن يموت ميت ويبلغ ما يتعلق بتركته كالتالي :
100 ريال مؤن تجهيزه .
100 ريال دين موثق برهن .
100 ريال دين ليس فيه رهن .
100 ريال وصية جائزة .
وارث : زوج أخت شقيقة .
فإذا خلف مائة ريال صرفت في مؤن تجهيزه ،وترك الباقي .
وإذا خلف مائتي ريال فقط صرفت في مؤن تجهيزه والدين الموثق ، وترك الباقي .(252/1)
وإذا خلف ثلاثمائة ريال فقط صرفت في مؤن تجهيزه والدين غير الموثق وترك الباقى .
وإذا خلف ستمائة ريال صرفت منها ثلاثمائة فيما سبق ، ومائة ريال فى الوصية ومائة ريال للزوج ، ومائة ريال للأخت الشقيقة .
ووجه تقديم الوصية على الإرث هنا ان فرض كل واحد من الزوج والأخت الشقيقة ، ولم يفرض لهما النصف إلا بالنسبة لما بقى بعد الوصية ولو لم تقدم الوصية عليهما لكان للوصية خمسة وسبعون ، ولكل واحد من الزوج والأخت مائة واثنا عشر ريالا ونصف ريال .
أسباب الإرث .
أسباب الإرث ثلاثة : نكاح ، ونسب ، وولاء .
أ ـ فالنكاح : عقد الزوجية الصحيح ، فيرث به الزوج من زوجته ، والزوجة من زوجها بمجرد العقد وان لم يحصل بينهما اجتماع .
ب ـ والنسب : القرابة وهى الاتصال بين شخصين بولادة قريبة أو بعيدة .
ج ـ والولاء : عصوبة تثبت للمعتق وعصبية المتعصبين بأنفسهم بسبب العتق .
أقسام القرابة باعتبار جهاتهم
ينقسم القرابة باعتبار جهاتهم إلي ثلاثة أقسام : أصول وفروع وحواشي .
أ ـ فالأصول من تفرع الميت منهم كالآباء والأمهات وكلهم وارثون بالفرض أو التعصيب سوى صنفين :
1 ـ كل ذكر حال بينه وبين الميت أنثي مثل أب الأم .
2 ـ كل أنثى أدلت بذكر حال بينه وبين الميت أنثى مثل أم أب الأم .
وهذان الصنفان من ذوى الأرحام .
ب ـ والفروع : من تفرعوا من الميت كالأولاد ، وكلهم وارثون بالفرض أو التعصيب إلا من أدلى بأنثى مثل : ابن البنت وبنت البنت فمن ذوى الأرحام .
جـ : والحواشي : من تفرعوا من أصول الميت كالاخوة والأعمام وكلهم وارثون بالفرض أو التعصيب سوى صنفين :
1ـ كل ذكر أدلى بأنثى سوى الاخوة من الام مثل : ابن الأخت وابن الأخ من الام والعم لام والخال .
2ـ جميع الإناث سوى الأخوات مثل بنت الأخ والعمة وبنت العم والخالة .
وهذان الصنفان من ذوى الأرحام .
شروط الإرث
شروط الإرث ثلاثة .
أ ـ تحقق موت المورث أو إلحاقه بالأموات .(252/2)
مثال إلحاقه بالأموات : المفقود إذا مضت مدة انتظاره .
ب ـ تحقق حياة الوارث بعده أو إلحاقه بالأحياء .
مثل إلحاقه بالأحياء : الحمل إذا تحقق وجوده حين موت مورثه وان لم تنفخ فيه الروح . وكذلك المفقود في مدة انتظاره إذا لم نتحقق أن موته قبل موت مورثه .
وبناء على هذين الشرطين فلا توارث بين متوارثين ماتا ولم يَعلم أيهما اسبق موتا ، مثل ان يموتا بهدم أو غرق أو حريق أو حادث طريق ونحوه لعدم تحقق المورث قبل الوارث وحياة الوارث بعده .
جـ ـ العلم بالجهة الموجبة للإرث من زوجة أو قرابة أو ولاء ، بان نعلم هذا يرث هذا الميت لكونه زوجه و نحوه .
موانع الإرث
موانع الإرث ثلاثة : اختلاف الدين ، والرق ، والقتل .
فمتى وَجد واحد منها في شخص صار كالمعدوم فلا يرث ولا يؤثر على غيره من الورثة .
أ ـ فأما اختلاف الدين فمعناه : أن يكون إحداهما على ملة والثاني على ملة أخرى ، وهو مانع من الجانبين ، فالكافر لا يرث المسلم والمسلم لا يرث الكافر ، واليهودي لا يرث النصراني ، والنصراني لا يرث اليهودي وهكذا .
ب ـ وأما الرق فهو وصف يكون به الشخص مملوكا وهو مانع من الجانبين فلا يورٌث
ج ـ واما القتل فهو إزهاق الروح والمانع منه ما كان بغير حق سواء كان عمداً أم غير عمد وسواء كان مباشرة أم غير مباشرة أم بسبب . وهو مانع من جانب واحد ، جانب القاتل ، فالقاتل لا يرث من المقتول . واما المقتول فيرث من القاتل مثل أن يجرح أحد الشقيقين أخاه جرحاً مميتاً ثم يموت الجارح قبله فيرث منه المجروح حينئذ .فأما القتل بحق فلا يمنع من الإرث مثل أن يقتل مورثه قصاصاً فيرث منه حينئذ .
أقسام الورثة باعتبار نوع الإرث .
ينقسم الورثة باعتبار نوع الإرث ثلاثة أقسام : وارثين بالفرض ، ووارثين بالتعصيب ، ووارثين بالرحم .
أ ـ فالوارثون بالفرض : من ارثهم مقدٌر بجزء كالنصف والربع والثمن والثلثين والثلث والسدس .(252/3)
ب ـ والوارثون بالتعصيب : من يرثون بلا تقدير .
جـ ـ والوارثون بالرحم كل قريب ينزل منزلة ذوى الفرض أو التعصيب ، وليس وارثا بهما بنفسه .
أصحاب الفروض ومقدار نصيب كل وارث
أصحاب الفروض عشرة : الزوج ، والزوجة ، والام ، والأب ، والجدة ، والجد ، والبنات ، وبنات الابن ، والأخوات من غير أم وأولاد الام .
1ـ ميراث الزوج
ميراث الزوج النصف أو الربع :
فيرث النصف بشرط ألا يكون للزوجة فرع وارث ويرث الربع بشرط أن يكون للزوجة فرع وارث .
مثال ارثه النصف : أن تموت امرأة عن زوجها وأبيها فللزوج النصف وللأب الباقي .
ومثال ارثه الربع : أن تموت امرأة عن زوجها وابنها فللزوج الربع وللابن الباقي .
2 ـ ميراث الزوجة
ميراث الزوجة الربع أو الثمن :
فترث الربع بشرط أن لا يكون للزوج فرع وارث ، وترث الثمن بشرط أن يكون للزوج فرع وارث .
مثال ارثها الربع : أن يموت شخص عن زوجته وأبيه فللزوجة الربع وللأب الباقي .
مثال ارثها الثمن : أن يموت شخص عن زوجته وابنه فللزوجة الثمن وللابن الباقي .
والزوجتان فاكثر كالزوجة الواحدة ، فلا يزيد الفرض بزيادتهن .
3 ـ ميراث الأم
ميراث الام الثلث أو السدس أو ثلث الباقي .
فترث الثلث بشرط أن لا يكون للميت فرع وارث ولا عدد من الاخوة الأخوات ، وان تكون المسالة إحدى العمريتين .
وترث السدس إذا كان للميت فرع وارث أو عدد من الاخوة أو الأخوات وترث ثلث الباقي في العمريتين وهما :
1 ـ زوج و أم وأب . تقسم من ستة للزوج النصف ثلاثة وللام ثلث الباقي واحد ، وللأب الباقي .
2 ـ زوجة وأم وأب . تقسم من أربعة . للزوجة الربع واحد وللام ثلث الباقي واحد وللأب الباقي .
مثال ارثها الثلث : أن يموت شخص عن أمه وأبيه ، فللأم الثلث وللأب الباقي .
مثال ارثها السدس : أن يموت شخص عن أمه وابنه فللام السدس وللابن الباقي .
مثال آخر : أن يموت شخص عن أمه أخويه الشقيقين فللام السدس ، وللشقيقين الباقي .
4- ميراث الأب(252/4)
ميراث الأب بالفرض فقط وهو السدس أو بالتعصيب فقط ، أو بالفرض والتعصيب معا .
فيرث بالفرض بشرط أن يكون للميت فرع وارث ذكر .
ويرث بالتعصيب فقط بشرط أن يكون للميت فرع وارث .
ويرث بالفرض والتعصيب معاً بشرط أن يكون للميت فرع وارث أنثى لا ذكر معها .
مثال ارثه بالفرض فقط : أن يموت شخص عن أبيه وابنه فللأب السدس وللابن الباقي .
مثال ارثه بالتعصيب فقط : أن يموت شخص عن زوجته وأبيه فللزوجة الربع وللأب الباقي .
مثال ارثه بالفرض والتعصيب : أن يموت شخص عن ابنته وأبيه فللبنت النصف وللأب السدس فرضا والباقي تعصيبا .
5 ـ ميراث الجدة
المراد بالجدة هنا : من لم تدل بذكر بينه وبين الميت أنثى كأم أبى الام . ولا ترث جدة مع وجود الام ولا مع وجود جدة اقرب منها كأم الام مع وجود أم الأب .
وميراث الجدة الواحدة السدس فان تعددن فالسدس بينهن بالسوية ولا يزيد الفرض بزيادتهن .
مثال الجدة الواحدة : أن يموت شخص عن جدته ( أم أبيه ) وابنه فللجدة السدس وللابن الباقي .
ومثال المتعددات : أن يموت شخص عن جداته ( أم أم أمه ، وأم أم أبيه ، وأم أبى أبيه) وأبيه فللجدات السدس بالسوية وللأب الباقي .
6ـ ميراث الجد
المراد بالجد هنا : من لم يكن بينه وبين الميت أنثى كأبي الام ولا يرث جدٌ مع وجود الأب ولا مع وجود جدٌ اقرب منه كأبي أبى الأب مع وجود أبى الأب .
وميراث الجد بالفرض فقط وهو السدس ، وبالتعصيب فقط وبالفرض والتعصيب معاً .
فيرث بالفرض فقط بشرط أن يكون للميت فرع وارث ذكر .
ويرث بالتعصيب فقط بشرط أن لا يكون للميت فرع وارث .
ويرث بالفرض والتعصيب معا بشرط أن يكون للميت فرع وارث أنثى لا ذكر معها .
مثال ارثه بالفرض فقط : أن يموت شخص عن جدة وابنة فللجد السدس وللابن الباقي .
مثال ارثه بالتعصيب فقط . أن يموت شخص عن أمه وجده فللام الثلث وللجد الباقي .(252/5)
ومثال ارثه بالفرض والتعصيب : أن يموت شخص عن بنته وجده فللبنت النصف وللجد السدس فرضا والباقي تعصيبا .
7ـ ميراث البنات
ميراث البنات بالتعصيب فقط وبالفرض فقط .
فيرثن بالتعصيب بشرط أن يكون للميت ابن . للذكر مثل حظ الانثيين ويرثن بالفرض بشرط أن لا يكون للميت ابن للواحدة النصف ، وللثنتين فاكثر الثلثان .
مثال ارثهن بالتعصيب : أن يموت شخص عن أبيه وبنته فلها المال كله ، له سهمان ، ولها سهم واحد .
ومثال ارث الواحدة بالفرض النصف : أن يموت شخص عن زوجته وابنته وأخيه وأخيه الشقيق فللزوجة الثمن وللبنت النصف وللشقيق الباقي .
ومثال ارث الثنتين بالفرض الثلثين : أن يموت شخص عن بنته وأبيه فللبنتين الثلثان وللأب السدس فرضا والباقي تعصيبا .
ومثال ارث الأكثر من الثنتين بالفرض الثلثين : ان يموت شخص عن بناته الثلاث وأمه وأبيه فللبنات الثلثان وللام السدس وللأب السدس ولم يرث الأب هنا بالتعصيب لانه لم يبق بعد الفرض شي .
8 ـ ميراث بنات الابن
لا ترث بنات الابن مع وجود ذكر وارث من الفروع أعلى منهن مطلقا ، ولا مع وجود انثتين وارثتين من الفروع أعلى منهن إلا أن يكون للميت ابن ابن بدرجتهن أو انزل منهن فيرثن معه بالتعصيب للذكر مثل حظ الانثيين .
وميراثهن فيما سوى ذلك بالتعصيب فقط وبالفرض فقط فيرثن بالتعصيب بشرط ان يكون للميت ابن ابن بدرجتهن للذكر مثل حظ الانثيين .
ويرثن بالفرض بشرط إلا يكون للميت ابن ابن بدرجتهن للواحدة النصف وللثنتين فاكثر الثلثان ألا أن يوجد أنثى من الفروع أعلى منهن ورثت النصف ، فيرثن السدس تكملة الثلثين سواء كن واحدة أم اكثر ، لا يزيد الفرض عن السدس بزيادتهن .
مثال ارثهن بالتعصيب مع وجود انثيين وارثتين من الفروع أعلى منهن : ان يموت شخص عن بنتيه وبنت ابنه وابن ابنه فللبنتين الثلثان ، ولبنت الابن وابن الابن الباقي ، وله سهمان ولها سهم واحد .(252/6)
مثال آخر : أن يموت شخص عن بنتي ابنه وبنت ابن ابنه وابن ابن ابن ابنه . فلبنتي الابن الثلثان ولبنت ابن الابن وابن ابن ابن الابن الباقي ، وله سهمان ولها سهم واحد .
ومثال ارثهن بالتعصيب مع ابن ابن بدرجتهن : أن يموت شخص عن زوجته وبنت ابنه وابن ابنه . فللزوجة الثمن ولبنت الابن وابن الابن الباقي ، وله سهمان ولها سهم واحد .
ومثال ارث الواحدة بالفرض النصف : أن تموت امرأة عن زوجها وبنت ابنها وابن ابن ابنها فللزوج الربع ، ولبنت الابن النصف ، ولابن ابن الابن الباقي .
ومثال ارث الثنتين بالفرض الثلثين : أن يموت شخص عن جدته ( أم أمه ) وابنتي ابنه وأبيه فللجدة السدس ، ولابنتي الابن الثلثان وللأب السدس .
ومثال ارث الأكثر من الثنتين بالفرض الثلثين : أن يموت شخص عن بنات ابنه الثلاث وأبيه فلبنات الابن الثلثان وللأب السدس فرضا والباقي تعصيبا .
ومثال ارث الواحدة السدس مع أنثى من الفروع أعلى منها ورثت النصف :أن يموت شخص عن بنته وبنت ابنه وابن ابن ابنه فللبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين ولابن ابن الابن الباقي.
ومثال ارث الأكثر من واحدة السدس : أن تموت امرأة عن زوجها وبنتها وبنات ابنها وعمها فللزوج الربع وللبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين وللعم الباقي .
9 ـ ميراث الأخوات من غير أم .
لا يرث أحد من الاخوة أو الأخوات مه وجود ذكر وارث من الفروع أو الأصول .
أ ـ ميراث الشقيقات :
ميراث الشقيقات بالتعصيب بالغير وبالتعصيب مع الغير وبالفرض .
فيرثن بالتعصيب بالغير إذا كان للميت أخ شقيق . للذكر مثل حظ الانثيين.
ويرثن بالتعصيب مع الغير إذا كان للميت أنثى من الفروع وارثة بالفرض ، فيكن بمنزلة الاخوة الأشقاء .
ويرثن بالفرض فيما سوى ذلك للواحدة النصف وللثنتين فاكثر الثلثان .
مثال ارثهن بالتعصيب بالغير: أن يموت شخص عن أخته الشقيقة وأخيه الشقيق فلهما المال كله ، له سهمان ولها سهم واحد .(252/7)
ومثال ارثهن بالتعصيب مع الغير : أن يموت شخص عن بنته وبنت ابنه وأخته الشقيقة وأخيه من أبيه فللبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وللشقيقة الباقي ولا شي للأخ من الأب .
ومثال ارث الواحدة بالفرض : أن يموت شخص عن أخته الشقيقة وزوجته وأخيه من أبيه فللشقيقة النصف وللزوجة الربع ، وللأخ من الأب الباقي .
ومثال ارث الثنتين بالفرض : أن يموت شخص عن أختيه الشقيقتين وأمه وعمه الشقيق .فللشقيقتين الثلثان ، وللام السدس ، وللعم الباقي .
ومثال ارث الأكثر من الثنتين بالفرض : أن يموت شخص عن أخواته الثلاث الشقيقات وجدته (أم أبيه ) وأخيه من أبيه . فللشقيقات الثلثان وللجدة السدس ، وللأخ من الأب الباقي .
ب ـ ميراث الأخوات من الأب : لا ترث الأخوات من الأب مع وجود ذكر وارث من الأشقاء مطلقاً ، ولا مع وجود اثنتين فاكثر من الشقيقات إلا أن يكون للميت أخ من أب فيرثن معه بالتعصيب للذكر مثل حظ الانثيين . ويرثن مع الشقيقة الواحدة السدس تكملة الثلثين سواء كن واحدة أم اكثر لا يزيد الفرض عن السدس بزيادتهن .
وميراثهن فيما سوى ذلك كميراث الشقيقات على ما سبق تفصيله .
مثال ارثهن مع الشقيقتين بالتعصيب : أن يموت شخص عن أختيه الشقيقتين وأخته من أبيه وأخيه من أبيه فللشقيقتين الثلثان وللأخ من الأب والأخت من الأب الباقي سهمان ولها سهم واحد .
ومثال اِرثهن مع الشقيقة السدس : أن يموت شخص عن أخته الشقيقة وأخته من أبيه وعمه الشقيق. فللشقيقة النصف وللأخت من الأب السدس تكملة الثلثين ، وللعم الباقي .
مثال آخر : ان يموت شخص عن أخته الشقيقة وأختيه من أبيه وأمه وعمه الشقيق . فللشقيقة النصف ، وللأختين من الأب السدس تكملة الثلثين ، وللام السدس ، وللعم الباقي .
10ـ ميراث أولاد الام .(252/8)
أولاد الام هم الاخوة والأخوات من الام . ولا يرثون مع وجود أحد وارث من الفروع او ذكر وارث من الأصول وميراثهم بالفرض للواحد منهم السدس ، ولاثنين فاكثر الثلث بالسوية لا يفضل ذكرهم على أنثاهم .
مثال ارث الواحد . أن يموت شخص عن أخته من أمه وأخته الشقيقة وأختيه من أبيه وأمه فللأخت من الام السدس ، وللأخت الشقيقة النصف وللأختين من الأب السدس تكملة الثلثين ، وللام السدس .
مثال ارث الاثنين : أن يموت شخص عن أخويه من أمه وأختيه الشقيتين . فللأخوين من الام الثلث بالسوية وللشقيقتين الثلثان .
ومثال أخر الأكثر من الاثنين : أن يموت شخص عن أخيه من أمه وأختيه منها وأخيه الشقيق.فللأخوين والأخت من الام الثلث بالسوية ، وللشقيق الباقي .
تتمة
إذا اجتمعت فروض تزيد على المسالة لم يسقط أحد من أصحابها لانه ليس أحدهم أولى بالسقوط من الآخر فتعول المسالة الى منتهى فروضها ويكون النقص على الجميع بالقسط منسوباً الى منتهى عولها .
مثال ذلك :أن تموت امرأة عن زوجها وأختيها الشقيقتين فللزوج النصف وللشقيقتين الثلثان وتعول من ستة الى سبعة ، وينقص من فرض كل واحد سبعة .
مثال أخر : أن تموت امرأة عن زوجها وامها وأختيها الشقيقتين وأختيها من أمها فللزوج النصف وللام السدس وللشقيقتين الثلثان وللأختين من الام الثلث وتعول من ستة الى عشرة وينقص من فرض كل واحد خمساه .
مثال ثالث : أن يموت شخص عن زوجته وأختيه الشقيقتين وأخته من أمه . فللزوجة الربع وللشقيقتين الثلثان ولللاخت من الام السدس وتعول من أثنى عشر الى ثلاثة عشر ، وينقص من فرض كل واحد سهم من ثلاثة عشر سهماً .
مثال رابع : أن يموت شخص عن زوجته وابنتيه وأمه وأبيه فللزوجة الثمن وللبنتين الثلثان وللام السدس وللأب السدس وتعول من أربعة وعشرون الى سبعة وعشرون وينقص من فرض كل واحد تسعة .
تمرينات
تمرين (1)
1 ـ اذكر الضابط فيمن لا يرث بفرض و لا تعصيب القرابة مع التمثيل .(252/9)
2ـ بيٌن من أقسام القرابة ما يأتي ومن منهم من ذوى الأرحام مع التعليل .
العمة . الأب . بنت الأخ الشقيق . الخال . بنت الابن أبو الام . أم الام . العم من الام . العم من الأب . ابن البنت . ابن الابن . ابن الأخ من الام . ابن الأخ من الأب . ابن البنت .ابن الابن ابن الأخ من الام . ابن الأخ من الأب . أم أب الام . أم الأب . ابن الأخت .
تمرين (2)
1 ـ متى يرث كل واحد من الزوجين الربع؟
2ـ متى يرث الأب بالفرض والتعصيب معأ؟
3 ـ ما هي الحالات التي لا يرث فيها كل من الجدة والجد ؟
4 ـ متى ترث الأخوات بالتعصيب مع الغير .
تمرين (3)
هات أمثلة لما يأتي مع التعليل
1 ـ مثالاً يتضمن فرض الثمن للزوجة والسدس لبنت الابن
2ـ مثالاً يتضمن فرض النصف للزوج والسدس للام
3ـ مثالاً يتضمن زيادة الفروض على المسالة من ستة الى ثمانية .
تمرين (4)
اقسم المسائل التالية مع التعليل :
1ـ أم وزوجة واخوان من أم وأخوان شقيقان
2ـ أخت شقيقة وأخ شقيق رقيق وأم وعم .
3ـ بنتان وبنت ابن وأخت من أب .
4ـ أختان شقيقتان واختان من أب واختان من أم
5 ـ زوجة وأم و جد
6 ـ زوج وأب وجدة ( أم أم ) وجدة ( أم أب ) وجدة ( أم أب أب)
7 ـ زوج وأم واختان شقيقتان وأخ من أم .
8 ـ زوجة وأم واختان من أب واختان من أم .
العصبة
العصبة : جمع عاصب وهو من يرث بلا تقدير فيرث جميع المال إن لم يكن معه صاحب فرض باقية مع صاحب فرض استغرق بعض المال ، ولا يرث شيئا مع صاحب فرض استغرق جميع المال .
مثال ارثه جميع المال : أن يموت شخص عن أخيه الشقيق . فله جميع المال .
ومثال ارثه باقية : أن تموت امرأة عن زوجها أخويها من أمها أخويها الشقيقين . فللزوج النصف وللأخوين من الام الثلث ، وللأخوين الشقيقين الباقي .(252/10)
ومثال عدم ارثه : ان تموت امرأة عن زوجها وأمها أخويها من أمها أخويها الشقيقين . فللزوج النصف وللام السدس وللأخوين من الام الثلث ولا شي للأخوين الشقيقين لاستغراق الفروض جميع المال .
أقسام العصبة
ينقسم العصبة إلى ثلاثة أقسام : عاصب بنفسه ، وعاصب بغيره ، وعاصب مع غيره .
أ ـ فالعاصب بالنفس هم :
1 ـ جميع الذكور من الأصول والفروع والحواشي الاخوة من الام وذوى الأرحام
2 ـ جميع من يرث بالولاء من الذكور أو الإناث كالمعتق والمعتقة .
ب ـ العاصب بالغير هن : البنات وبنات الابن والأخوات الشقيقات والأخوات من الأب .
1 ـ فالبنات بالأبناء .
2ـ وبنات الابن بأبناء الابن إذا كانوا بدرجتين أو كانوا انزل منهن واستغرق من فوقهن الثلثين .
3 ـ والأخوات الشقيقات بالاخوة الأشقاء
4 ـ والأخوات من الأب بالاخوة من الأب .
فترث كل واحدة من هولاء بالتعصيب مع من كانت عصبة به للذكر مثل حظ الانثيين .
مثال ذلك في البنات : أن يموت شخص عن ابنته وابنه فلهما جميع المال ، له سهمان ولها سهم واحد .
ومثاله في بنات الابن : أن يموت شخص عن بنته وبنت ابنه وابن ابنه . فللبنت النصف ولابن الابن وبنت الابن وبنت الابن الباقي ، له سهمان ولها سهم واحد .(252/11)
مثال أخر : ان يموت شخص عن بنتيه وبنت ابنه وابن ابن ابنه فللبنتين الثلثان ، ولابن ابن الابن وبنت الابن الباقي له سهمان ولها سهم واحد .ومثاله في الأخوات الشقيقات :أن يموت شخص عن أخته الشقيقة وأخيه الشقيق فلهما جميع المال له سهمان ولها سهم واحد . ومثاله في الأخوات من الأب : أن يموت شخص عن أخته من أبيه وأخيه من أبيه . فلهما جميع المال ، له سهمان ولها سهم واحد .ولا تعصب امرأة بأحد من الذكور سوى هولاء الأربعة فابن الأخ لا يعصب أخته ولا عمته ولا ابنة عمه والعم لا يعصب العمة . وابن العم لا يعصب أخته ولا ابنه عمه .مثال ذلك في ابن الأخ : أن يموت شخص عن ابنته وابن أخيه الشقيق وبنت أخيه الشقيق فللبنت النصف ولابن الأخ الشقيق الباقي ولا شي لبنت الأخ الشقيق .مثال أخر : أن يموت شخص عن أختيه الشقيقتين وأخته من الأب وابن أخيه من الأب . فللشقيقتين الثلثان ، ولابن الأخ الباقي ولا شي للأخت لعدم من يعصبها ومثاله في العم : أن يموت شخص عن عمه وعمته فللعم جميع المال ولا شي للعمة ومثاله في ابن العم : أن يموت شخص عن ابن عمه وبنت عمه فلابن العم جميع المال ، ولا شي لبنت العم .جـ ـ والعاصب مع الغير: الأخوات الشقيقات والأخوات من الأب مع من يرث بالفرض من الفروع، فتكون الأخوات الشقيقات بمنزلة الاخوة الأشقاء والأخوات من الأب بمنزلة الاخوة من الأب
مثاله في الشقيقات : أن يموت شخص عن بنته وأخته الشقيقة فللبنت النصف وللأخت الشقيقة الباقي .
ومثاله في الأخوات من الأب : أن يموت شخص عن بنته وبنت ابنه وأخته من أبيه . فللبنت النصف ، ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين ، وللأخت من الأب الباقي .
ترتيب العصبة
يرث العصبة بالترتيب فيقدم الأسبق جهة ثم الأقرب منزلة ثم الأقوى . واليه الإشارة بقوله .
فبالجهة التقديم ثم بقربه
وبعدهما التقديم بالقوة اجعلا .
ا ـ فأما الجهة فالأسبق فيها مقدم في التعصيب على من بعد والجهات أربع :(252/12)
1 ـ فالبنوة يدخل فيها الأبناء وأبناؤهم وان نزلوا
2 ـ والأبوة يدخل فيها الآباء وأبناؤهم وان علوا .
3 ـ وفروع الأبوة يدخل فيها الاخوة والأعمام الأشقاء أو من الأب وأبناؤهم وان نزلوا .
4ـ والولاء ويدخل فيها المعتق وعصبته المتعصبون بأنفسهم والى هذه الجهات الأربع الإشارة بقوله .
جهاتهم بنوة أبوة فروعها وذو الولا التتمة
فمن كان في جهة من هذه الجهات قًدم في التعصيب على من بعده .
مثاله : أن يموت شخص عن أبيه وابنه فللأب السدس فرضا وللابن الباقي تعصيبا .
مثال ثان: أن يموت شخص عن أبيه وأخيه الشقيق فللأب جميع المال تعصيبا .
مثال ثالث: أن يموت شخص عن عمه ومعتقه فللعم جميع المال تعصيبا .
مثال رابع : أن يموت شخص عن أمه ومعتقه فللام الثلث وللمعتق الباقي تعصيبا .
ب ـ واما قرب المنزلة فإذا كان العصبة في جهة واحدة قٌدم الأقرب منزلة من الميت .
فالأقرب في جهة البنوة والأبوة من كان اقل واسطة إلى الميت .
والأقرب في جهة فروع الأبوة فروع الأب وهم الاخوة وأبناؤهم وان نزلوا الأقرب فالأقرب ، ثم فروع أبى الأب وهم الأعمام وأبناؤهم وان نزلوا الأقرب فالأقرب ثم فروع جد الأب وهم أعمام أبى الميت وأبناؤهم وان نزلوا الأقرب فالأقرب وهكذا نقول : فروع كل أب وان نزلوا اقرب من فروع من فوقه والأقرب في فروع كل أب اقلهم واسطة إليه .
والأقرب في جهة الولاء : المعتق ثم عصبته كترتيب عصبة النسب مثاله في جهة البنوة : أن يموت شخص عن ابنه وابن ابنه فللابن جميع المال تعصيبا .
ومثاله في جهة الأبوة : أن يموت شخص عن ابن ابن ابن عمه وعم أبيه . فلابن ابن ابن العم جميع المال تعصيبا .
ومثال ثان : أن يموت شخص عن ابن معتقه وعم معتقه فلابن العم جميع المال تعصيبا .
ومثاله في جهة الولاء : أن يموت شخص عن ابن معتقه وعم معتقه . فلابن المعتق جميع المال تصيباً .(252/13)
مثال ثان : أن يموت شخص عن ابن ابن ابن أخي معتقه وعم معتقه فلابن ابن ابن أخي المعتق جميع المال تعصيبا.
جـ ـ واما القوة فإذا كان العصبة في جهة واحدة ومنزلة واحدة قٌدٌم الأقوى صلة بالميت وهو من يدلى بالأبوين على من يدلى بالأب وحده ولا يتصور التقديم بالقوة ألا في جهة فروع الأبوة .مثاله : أن يموت شخص عن أخيه الشقيق وأخيه من الأب فللشقيق جميع المال تعصيبا .
مثال ثان : أن يموت شخص عن ابن عمه الشقيق وابن عمه من الأب . فلابن عمه الشقيق جميع المال تعصيبا .
تمرينات
تمرين (1)
1 ـ من هو العاصب وكيف ارثه ؟
2 ـ من هو العاصب بالغير ومثٌل؟
3 ـ ما هي جهات العصوبة ومن يقدٌم فيها مع التمثيل
تمرين (2)
1 ـ هات أمثلة لما يأتي مع التعليل
1 ـ عاصب مع الغير قٌدٌم على عاصب بالنفس باعتبار القوة
2 ـ صاحب فرض له الثلث مع عاصب بالنفس قدٌم على عاصب بالنفس باعتبار سبق الجهة
3 ـ صاحب فرض له الربع مع عاصب بالنفس قدم على عاصب بالنفس باعتبار قرب المنزلة .
تمرين (3)
اذكر الوارث بالتعصيب من غير الوارث به فيما يأتي مع التعليل .
ابن مع أب . أبو جد مع أبى أب . بنت أخت من أب مع أخ شقيق . أخو معتق شقيق مع أخته الشقيقة . ابن ابن عم من أب مع ابن عم أب شقيق . أخ من أب مع أخ شقيق . ابن ابن ابن عم من أب مع معتق . ابن ابن أخ شقيق مع ابن أخ من أب . أخو معتق من أب مع أخيه الشقيق . ابن ابن ابن مع ابن ابن .
تمرين (4)
اقسم المسائل التالية مبينا العاصب بنفسه وبغيره ومع غيره ومن لا يرث منه ، وعلل لما تذكر في ذلك كله .
1 ـ زوج وابن وبنت
2 ـ زوجة وأب وابن رقيق
3 ـ بنت وأخت شقيقة وأخ من أب
4 ـ أخت من أب وعم أب وعم جد
5 ـ جدة وجد أب وجد أم
6 ـ أم وابن عم من أب وعم أب شقيق
7 ـ أخوان من أم وأخوان من أب وأخوان من أم وأب .
الحجب
الحجب لغة : المنع واصطلاحاً : منع مستحق الإرث من الإرث كله أو بعضه .
وينقسم ألي قسمين : حجب بوصف وحجب بشخص(252/14)
فالحجب بالوصف : أن يكون في مستحق الإرث مانع من موانع الإرث ( اختلاف الدين والرق والقتل ) والمحجوب به يكون كالمعدوم فلا يحجب غيره ولا يؤثر عليه .
مثاله : أن يموت شخص عن أمه وأخته من أبيه وأخيه من أبيه وهو مخالف له في الدين وعمه فللام الثلث وللأخت من الأب النصف وللعم الباقي ، ولا شي للأخ من الأب
الحجب بالشخص : أن يكون مستحق الإرث محجوبا بشخص أخر .
أ ـ ففي الأصول :
1 ـ كل ذكر يحجب من فوقه من الذكور .
مثاله : ان يموت شخص عن أبيه وجده . فللأب المال ولا شي للجد .
2 ـ وكل أنثى تحجب من فوقها من الإناث .
مثاله : ان يموت شخص عن أمه وجدته وعمه فللام الثلث وللعم الباقى ولا شي للجدة .
ب ـ وفى الفروع : كل ذكر يحجب من تحته .
مثاله : ان يموت شخص عن ابنه وابن ابنه وبنت ابنه فللابن المال ولا شي لابن الابن وبنت الابن .
جـ ـ وفى الحواشي :
1 ـ جميع الحواشي يحجبون بالذكور من الأصول أو الفروع .
مثاله : أن يموت شخص عن أبيه وأخيه الشقيق . فللأب المال ولا شي للشقيق
مثال آخر : أن يموت شخص عن ابنه وأخته الشقيقة فللابن المال ولا شي للشقيقة .
2 ـ الاخوة من الام يحجبون أيضا بالإناث من الفروع .
مثاله أن يموت شخص عن بنته وأخيه من أمه وأخيه الشقيق فللبنت النصف و للشقيق الباقى ولا شي للأخ من الام .
3 ـ الاخوة من الأب يحجبون بالذكور من الأشقاء .
مثاله : أن يموت شخص عن أخته من أمه وأخته من أبيه وأخيه الشقيق فللأخت من الام السدس وللأخ الشقيق الباقي ولا شي للأخت من الأب .
وفى التعصيب :
1ـ الأسبق جهة يحجب من بعده
2 ـ القرب منزلة يحجب الأبعد
3 ـ الأقوى قرابة يحجب الأضعف . وسبق شرح ذلك وأمثلته .
الرد
الرد إضافة ما يبقى بعد الفروض إلى أصحابها إذا لم يكن عاصب .
فيرد على كل ذي فرض بقدر فرضه إلا الزوجين فلا يرد عليهما .(252/15)
فان كان المردود عليه واحداً اخذ المال جميعه فرضا ورداً وان كانوا جماعة من أجناس قسم المال بينهم من اصل ستة وتنتهى بما تنتهي به فروضهم .
وان كان معهم أحد الزوجين أعطى فرضه من غير زيادة ثم قسم الباقي بين المردود عليهم على ما سبق .
ومثاله : إذا كان المردود عليه واحداً : ان يموت شخص عن ابنته ، فلها جميع المال نصفه بالفرض وباقيه بالرد .
ومثاله إذا كان المردود عليهم جماعة من جنس : ان يموت شخص عن بنتيه فلها جميع المال ثلثاه بالفرض وباقيه بالرد مقسوماً على اثنين عدد رؤوسهما .
ومثاله إذا كان المردود عليهم جماعة من أجناس : أن يموت شخص عن بنته وبنت ابنه وأمه / فمسألتهم من ستة للبنت النصف ولبنت الأب السدس تكملة الثلثين ، وللام السدس ، وترد المسالة إلى خمسة .
ومثاله إذا كان معهم أحد الزوجين : أن يموت شخص عن زوجته وامه وأخيه من أمه . فللزوجة الربع وللام والأخ من الام الباقي فرضا ورداً من اصل ستة للام الثلث اثنان وللاخ من السدس واحد وترد المسالة إلى ثلاثة يكون للزوجة واحد وللام اثنان وللأخ من الام واحد
ذوو الأرحام
ذوو الأرحام : كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة
فذوو الأرحام من الأصول :
1 ـ كل ذكر حال بينه وبين الميت أنثى كأبى الام وأبى الجدة .
2 ـ كل أنثى أدلت بذكر حال بينه وبين الميت أنثى كأم أب الام .
ومن الفروع : كل من أدلى بأنثى كابن البنت وبنت البنت
ومن الحواشي :
1 ـ كل ذكر أدلى بأنثى إلا الاخوة من الام كالخال وابن الأخ من الام وابن الأخت .
2ـ جميع الإناث سوى الأخوات كالعمة والخالة وبنت الأخ .
ويرثون بالتنزيل فينزل كل واحد منزلة من أدلى به من الورثة ويأخذ نصيبه
مثاله : أن يموت شخص عن ابن أخته الشقيقة وبنت أخته من أبيه وابن أخيه من أمه وخاله .(252/16)
فلابن الأخت الشقيقة النصف لانه بمنزلة أمه ولبنت الأخت من الأب السدس تكملة الثلثين لأنها بمنزلة أمها ولابن الأخ من الام السدس لانه بمنزلة أبيه وللخال السدس لانه بمنزلة الام
تمرينات
تمرين (1)
1 ـ ما هو الرد وما شروطه
2 ـ مم تكون اصل مسالة الرد إذا كان المردود عليهم جماعة من جنس واحد أو أجناس ؟
3 ـ من ذووالارحام من الحواشي ؟
تمرين (2)
1 ـ مسالة رد فيها أحد الزوجين .
2ـ مسالة رد فيها أجناس انتهت بأربعة
3 ـ مسالة فيها ذوو أرحام من الأصول والفروع .
تمرين (3)
بيٌن ما لا رد فيه وما فيه رد فيما يأتي مع التعليل :
بنت وبنت ابن وأم وأب / أم وأخ من أم / زوج وأم وأب / أخت شقيقة وأخ لأب/ جدة وبنتان وأب / وأخت شقيقة وأخت من أب وأخت من أم / أخ من أم وبنت أخ شقيق
تمرين (4)
اقسم ما يأتي مع التعليل :
1ـ زوج وبنت وبنت ابن
2 ـ بنت أخت شقيقة وبنت أخ من أب وبنت عم
3ـ أم وأخ من أم وعم من أم
4ـ بنتان وبنت ابن وأخت من أب
5ـ بنت بنت وبنت بنت ابن وعم وأب
6 ـ أختان شقيقتان واختان من أب وعمتان
7 ـ بنت بنت وبنت أخ من أم وبنت أخ شقيق
والى هنا انتهى ما أردنا كتابته حسب المنهج المقرر والحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى اله وصحبه أجمعين .(252/17)
القواعد والأصول(/)
منظومة القواعد
O
قال المؤلف -حفظه الله تعالى- :
الحمد لله المعيد المبدي
مثبت الأحكام بالأصولِ
ثم الصلاة مع سلام قد أتم
محمد مبعوث رحمة الورى
وبعد فالعلم بحور زاخره
لكن في أصوله تسهيلا
واغتنم القواعد الأصولا
وهاك من هذي الأصول جملا
قواعد من قول أهل العلم
معطي النوال كل من يستجدي
معين من يصبو إلى الوصولِ
على الذي أعطي جوامع الكلم
وخير هاد لجميع من درى
لن يبلغ الكادح فيه آخره
لنيله فاحرص تجد سبيلا
فمن تفته يحُرم الوصولا
أرجو بها عال الجنان نزلا
وليس لي فيها سوى ذا النظم
المقدمة
O
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى بعث محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكان- صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين فلا نبي بعده ، ولكن العلماء الذين ورثوا سنته كانوا خلفائه في أمته ، فإنه r كسائر إخوانه المرسلين والأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر من إرث النبيين .
ولا ريب أن من شروط صحة العبادة وقبولها، بل الشرط الأساس لصحة العبادة وقبولها أن تكون مبنية على الإخلاص لله، وعلى اتباع رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.(253/1)
فبالإخلاص يندفع الشرك، وبالمتابعة تندفع البدع، ولا ريب أن المتابعة لا يمكن أن تكون إلا بعلم شريعة النبي r حتى يتمكن الإنسان من تطبيقها والعمل بها؛ ولهذا كان النبي r في الحج يأمر الناس أن يأخذوا عنه مناسكهم، وفي الصلاة قال لمالك بن الحويرث t والوفد الذين معه قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "
فلا يمكن اتباع شريعته إلا بالعلم بها؛ ولهذا كان العلم أساسا في بقاء الشريعة وفي العمل بها، فكان هو الوسيلة الوحيدة لإبلاغ الرسالة إلى الأمة .
فضل العلم وطلبه:
ولقد وردت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية في فضل العلم، والحث عليه حتى إن الله -سبحانه وتعالى- جعله بديلا وعديلا للجهاد في سبيل الله، فقال تعالى: { * وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ×pxےح!$sغ } يعني: وقعدت طائفة "ليتفقهوا" أي: القاعدون { فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) } .
ولهذا اختلف العلماء -رحمهم الله- أيهم أفضل: طلب العلم أو الجهاد في سبيل الله؟
والتحقيق في هذه المسألة أن الحكم يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فقد نقول لشخصٍ ما طلب العلم في حقك أفضل، ولشخص آخر الجهاد في سبيل الله في حقك أفضل.
فإذا رأينا رجلا قوي الحفظ قوي الفهم سريع البديهة نشيطا في الطلب وهو في الجهاد دون ذلك، فإننا نقول له : طلب العلم في حقك أفضل، وإذا رأينا شخصا بالعكس .
أقول إن العلماء -رحمهم الله- اختلفوا أيهما أفضل طلب العلم أو الجهاد في سبيل الله، والتحقيق في هذه المسألة التفصيل، فقد نقول لشخص ما: إن طلب العلم في حقك أفضل، وقد نقول لآخر: إن الجهاد في سبيل الله في حقك أفضل، وذكرنا من يكون طلب العلم في حقه أفضل.(253/2)
وأما من كان الجهاد في حقه أفضل فهو الرجل البليد في الفهم السيئ في الحفظ القوي في الجسم المقدام في الحرب، فهذا نقول له: إن الجهاد في سبيل الله في حقك أفضل.
وكذلك -أيضا- يختلف هذا باختلاف الأحوال، فقد يكون المسلمون في حاجة إلى الدفاع عن بلدهم وأنفسهم ودينهم، فيكون الجهاد في حقهم أفضل، وقد يكون الناس في رخاء وأمن وطمأنينة وما أشبه ذلك، فيكون طلب العلم في حقهم أفضل .
نصائح لطالب العلم:
وقد قال الإمام أحمد -رحمه الله-: العلم لا يعدله شيء لمن صحّت نيته. وفسّر صحة النية بأن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، وإنني أنصح إخواني طلاب العلم أنصحهم بالنصائح التالية :
أولا- أن يقصدوا بطلب العلم امتثال أمر الله U فإن الله تعالى أمر بالعلم، فقال: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } ورغب في العلم فقال: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } وقال: { يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا } .
وكذلك النبي r حث على العلم في أحاديث متعددة منها قوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين " وليس المراد بالفقه في الدين الفقه المصطلح عليه بين العلماء وهو معرفة الأحكام الشرعية العملية.
وإنما المراد بالفقه في الدين معرفة دين الله الذي بعث الله به محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وأشرفه وأعظمه وأوكده، هو الفقه في توحيد الله U في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته؛ ولهذا كان بعض أهل العلم يسمي علم التوحيد الفقه الأكبر، وهذا اسم -بلا شك- جدير أن يسمى به علم التوحيد .(253/3)
ثانيا- أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غيره، وذلك أن الإنسان خُلق لا يعلم شيئا كما قال الله تعالى: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) } .
فالإنسان محتاج إلى العلم، فلينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه حتى يعبد الله على بصيرة. ورفع الجهل عن عباد الله حتى يكون من الدعاة إلى الله تعالى على بصيرة، فيدخل في قول الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } .
الأمر الثالث- أن ينوي طالب العلم بطلب العلم حفظ الشريعة، فإن الشريعة تحفظ بالرجال كما تحفظ كذلك بالكتب، فلا بد من أن يكون للشريعة من يحفظها من بني آدم. ولا يمكن أن تقوم الشريعة إلا بالرجال الذين يحفظونها؛ ولهذا كان من المعلوم أن العلم محفوظ في الصدور مكتوب في السطور .
رابعا- أن ينوي بذلك الدفاع عن الشريعة، وحماية الشريعة من عبث الأهواء بها، فإن الشريعة محتاجة إلى العلماء الذين يدافعون عنها ويصدون عنها، ويبطلون عنها تحريف المعطِّلين، ومجازفة الغالين حتى تكون الشريعة بيضاء نقية لا يزيغ عنها إلا هالك .
خامسا- أن يكون الإنسان -أي: طالب العلم- متأدبا بآداب العلم ، عبادةً وخلقا وسلوكا، بحيث يعبد الله U ويكون من أشد الناس عبادة لله U ومن المعلوم أن العبادات تتفاضل، وأن أفضلها طلب العلم في غير ما هو واجب شرعا، وأن يكون أثر العلم ظاهرا عليه في أخلاقه ومعاملته للناس.
فإن النبي r قال : " أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلقا " وكان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أحسن الناس خلقا .(253/4)
والإنسان يدرك بخُلقه الحسن ما لا يدركه الغني الباذل للأموال من كل وجه، " إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق " ولا ينبغي إطلاقا للإنسان الذي مَنَّ الله عليه بالعلم أن يترفع على الناس بعلمه ويقول: أنا أفضل منهم، وأنا قد رُفعت درجات.
فإن الإنسان إذا أُعجب بعمله كان ذلك آية الخسران وآية الخيبة، فليحذر الإنسان -أعني: طالب العلم بالذات- ليحذر من العجب؛ فإن العجب سبب للخذلان والحرمان.
وليحذر من التكبر فإنه ليس من العقل. إذا مَنَّ الله عليك بعلم وعرفت ما في حسن الخلق من الفضل والأجر أن تذهب وتتكبر على الناس بما مَنَّ الله به عليك؛ ولهذا تجد الناس يأخذون من طالب العلم حسن الخلق أكثر مما يأخذون ممن هو فوقه في العلم، ولكنه دونه في حسن الخلق؛ وذلك لأن الإنسان ينبغي أن يكون أليفا ومألوفا، مخالطا للناس على الوجه الذي فيه الخير والصلاح .
وكذلك أيضا ينبغي لطالب العلم أن يكون حكيما في أسلوبه ودعوته بحيث ينزل كل إنسان منزلته في معاملته، اقتداء برسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا شك أن الجاهل لا يعامل معاملة العالم، ولا شك أن المستكبر لا يعامل معاملة من يطلب الحق ويريد الحق.
فعلى الإنسان العاقل الطالب للعلم أن ينزل كل إنسان منزلته، حتى يملك بذلك قلوب الناس وينفع الله بعلمه .
ثم ليحذر طالب العلم من الحسد والغل والحقد على المسلمين، وليعلم أن الحسد لا يمنع فضل الله تعالى على المحسود، ولا يزيد به فضل الله على الحاسد، بل إن الحسد من أسباب خذلان المرء؛ لأنه يرى كل نعمة عليه دون النعمة التي أنعم الله بها على غيره، فيحترق قلبه، فيرى أنه مظلوم، وأنه مهضوم.
لكن إذا كان يحب لإخوانه ما يحب لنفسه مَنَّ الله عليه بالهداية والفضل وسعة الصدر ، وانشراح واطمئنان القلب، وبهذا يجد الإنسان الذي ليس بحسود ييسر الله عليه الأمر ولا يسلط عليه الأعداء .(253/5)
هذه مقدمة لما نريد أن نبدأ به أو أن نشغله في هذه الدورة التي منَّ الله بها علينا وعلى إخواننا في بلاد متعددة من بلادنا، ونسأل الله أن يجعل في هذه الدورات الخير والبركة والثمرات النافعة إنه على كل شيء قدير .
الحمد رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا تعليق موجز على منظومة نظمناها سابقا، ولن يكون هذا مبسوطا كثيرا، وإنما يقتصر فيه على ما تدعو الحاجة إليه، وذلك لضيق الوقت وقلة الساعات التي يمكن أن نتكلم فيها على هذا النظم .
يقول الناظم : "الحمد لله المعيد المبدي" الحمد: قال المحققون من أهل العلم: هو وصف المحمود بالكمال، فمعنى الحمد لله أي: أنني أصف الله -تعالى- بكل كمال وليس هو الثناء؛ لأن النبي r روى عن الله U أنه قال : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: { الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1) } قال الله تعالى: أثنى عليّ عبدي " ففرق الله U بين الحمد والثناء .
وقوله: "المعيد المبدي" يعني: الذي يعيد أشياء ويبديها، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) } فهو معيد الأشياء بعد تلفها، ومن ذلك إعادة الأبدان بعد موتها، وهو تعالى المبدئ المظهر للأشياء المبين لها .
"معطي النوال كل من يستجدي": النوال العطاء أي: أنه -جل وعلا- يعطي العطاء كل من يستجديه، أي: يطلبه منه -تبارك وتعالى- وهذا مأخوذ من قوله: { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ } .
"مثبت الأحكام بالأصول" أي: أنه -جل وعلا- ثبت الأحكام بأصولها ، وأصول الأحكام اثنان يتفرع عنهما اثنان: أما الأولان: فهما الكتاب والسنة فإنهما أصل الأصول، وعليهما مدار الأحكام الشرعية من عقدية وقولية وفعلية، وأما الأصلان الآخران الفرعان: فهما الإجماع والقياس الصحيح.(253/6)
هذه هي الأصول الأربعة التي تنبني عليها أحكام الشريعة المطهرة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح .
بهذه الأصول الأربعة تثبت الأحكام، ولا يبقى لأحد منازعة فيما ثبت، بل من المعلوم أنه يقدم القرآن ثم السنة ثم الإجماع ثم القياس، حتى إن العلماء -رحمهم الله- قالوا: إن أي قياس مخالف للكتاب والسنة، فإنه قياس فاسد مردود على قائسه ويسمى عندهم فاسد الاعتبار.
"معين من يصبو إلى الوصول"أي: أن الله تعالى يعين من يميل إلى الوصول، أي: وصول الحق، فإنه -جل وعلا- يعين كل شخص يطلب الوصول إلى الحق، لكن قد يتخلف المقصود لوجود مانع أو لحكمة أرادها الله U .
بمعنى أن الإنسان قد يبذل جهده، ولكن لا يصل إلى مقصوده لحكمة يريدها الله U قد يبتلي الله العبد، فلا يتمكن من الوصول في أول محاولة أو ثاني محاولة حتى يعلم الله U مَن هو صادق في الطلب، ومن ليس بصادق .
ومن ذلك أن الله تعالى يجير أعداءه أحيانا على أوليائه؛ لينظر من يصبر ومن لا يصبر { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31) } وإلا فالأصل أن كل إنسان يقصد الوصول إلى الحق بنية صادقة، فإنه لا بد أن يصل إليه .
وما أحسن عبارة قالها شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- قال في "العقيدة الواسطية" قال: من تدبر القرآن طالبا الهدى منه، تبين له طريق الحق .
"ثم الصلاة مع السلام قد أتم" (ثم) أي: بعد الحمد لله U والثناء عليه ووصفه بما يليق به -جل وعلا- تكون الصلاة على رسول الله r .(253/7)
فمن المعلوم أن تقديم حق الله على حق الرسول هو الأمر الموافق للكتاب والسنة، وفي هذا يذكر الله تعالى حقه قبل حق رسوله، ألم ترَ إلى التشهد في الصلاة يقدم وجوب الثناء على الله U وتعظيم الله U على السلام على النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ ولهذا تقول: " التحيات لله والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " حق الله تعالى هو الأول ثم حق رسوله r .
قال: "ثم الصلاة مع سلام قد أتم" الصلاة على الرسول r اعتمد المحققون من العلماء على أنها الثناء على رسوله r في الملأ الأعلى، "مع سلام قد أتم" (سلام) أي: سلامة من الآفات وكل ما يسوء العبد، فجمع في هذا الكلام بين زوال المكروه وذلك بالسلام وبين حصول المقصود وذلك بالصلاة.
(قد أتم)، أي: أنني أصلي وأسلم على رسول الله r صلاة وسلاما تامين على الذي أُعطي جوامع الكلم وهو النبي r أعطاه الله تعالى جوامع الكلم كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح عنه r أنه أعطي جوامع الكلم .
والجوامع: جمع فرد، جمع جامعة أي: الكلمة الجامعة؛ ولهذا يتحدث النبي r بحديث قليل يغني عن كلام كثير، أرأيت قوله r " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " كيف كانت هاتان الجملتان تشتملان الدين كله ، بل تشتملان أعمال العباد كلها؟! .
ثم أرأيت قوله r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " كيف يشمل كثيرا من الأحكام الشرعية، وتوزن به الأعمال الظاهرة؟! .
ولهذا قال أهل العلم: إن قوله r " إنما الأعمال بالنيات " هذا ميزان الأعمال الباطنة أعمال القلوب، وإن قوله r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " ميزان للأعمال الظاهرة، وبهذا يتم الدين كله، ويتحقق الشرطان الأساسيان وهما : الإخلاص لله والمتابعة لرسوله r .(253/8)
ثم أرأيت قوله r لمن ابتلي بالوسوسة أن أعطاه كلمة تحجبان عنه كل وساوس الشيطان، فقال : " لا يزالون يتساءلون مَن خلق كذا من خلق كذا، من خلق كذا " أي: لا يزال الشيطان يقول للإنسان: من خلق كذا من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك ؟ فإذا بلغ ذلك قال النبي r " فليستعذ بالله ولينته " أي: ليستعذ بالله من شر الشيطان ووساوسه، ولينته ليعرض عنه؛ وبذلك ينقطع ويحسم الشر والوساوس.
هاتان الكلمتان لو أن الفلاسفة والمتكلمين جمعوا عدة ورقات ما اهتدوا إلى هذا الكلام، ما اهتدوا إلى ما يدل عليه هذا الكلام المختصر؛ لذلك صدق وصف الرسول r بأن الله تعالى قد أعطاه جوامع الكلم .
وإنما اختير هذا اللفظ في هذه المنظومة؛ لأن هذه المنظومة تشتمل على القواعد والأصول، والقواعد والأصول من جوامع الكلم في الواقع؛ لأن القاعدة تشتمل على أشياء كثيرة، وهي قصيرة قصيرة، ثم بين من الذي أعطي جوامع الكلم ..
فقال: "محمد المبعوث" : (محمد) هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم القرشي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، (المبعوث) أي: الذي بعثه الله U رحمة للورى أي: الخلق، ورحمة هنا منصوبة على أنها مفعول من أجله، أي: أنه بعث رحمة للخلق كما قال الله تبارك وتعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } أي: إلا لنرحم بك العالمين .
"وخير هاد لجميع من درى" : لا شك في هذا ، أن رسول الله r خير الهداة ، فهو أهدى الناس سبيلا، وهو أقوم الناس في الدعوة إلى الله U فهو خير "هاد لجميع مَن درى" أي: من كان ذا دراية، وأما من كان ذا عماية، فإنه لا يجد الخير في هداية النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.(253/9)
ولذلك قال الله تبارك وتعالى : { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ 2 رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) } فتجد هذا الرجل يقول عن القرآن العظيم الذي فيه أعظم الهداية يقول: إنه أساطير الأولين، فأبطل الله قوله بقوله: (كلا)، ولكن العلة في قلب هذا الرجل حيث (ران) على قلبه ما كان يكسب.
المهم : أنّ قول الناظم "لجميع من درى" أي: من كان ذا دراية، يدل بمنطوقه ومفهومه على أن من كان ذا دراية فسيجد أن رسول الله r خير هاد للجميع ومن كان قلبه فيه عماية فإنه لن يرى ذلك، يحال بينه وبين الحق ، نسأل الله العافية .
ثم قال: وباب أي باب ما ذكر من الحمد لله والصلاة والسلام على نبيه r "فالعلم بحور زاخرة" العلم بحور ليس بحرا واحدا، فتجد علم العقائد، علم الفقه علم النحو علم البلاغة ... إلى آخر ذلك علوم كثيرة زاخرة أي قوية واسعة.
"لن يبلغ الكادح فيه آخره" (الكادح) أي: العامل يعني: لا يمكن لأي إنسان مهما كان عمله وكدحه أن يبلغ آخر العلم؛ لقول الله تعالى: { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) } حتى يصل إلى عالم الغيب والشهادة، ولكن هناك أشياء تقرب العلم وتجمعه؛ ولذلك قال:
لكن في أصوله تسهيلا
لنيله فاحرص تجد سبيلا
يعني: أنه من نعمة الله U أن جعل لهذه البحور الزاخرة، جعل لها أصولا تسهل نيلها، وهذه الأصول هي القواعد والضوابط، والأصول هنا ليست هي الأصول المذكورة في أول هذه المقدمة؛ لأن الأصول المذكورة في أولها هي الأدلة التي يعتمد عليها في فهم الأحكام، أما هنا فالمراد بالأصول القواعد والضوابط التي تجمع شتات العلم.
"وتسهيلا لنيله" أي: لنيل العلم فاحرص، أي: احرص على هذه الأصول تجد سبيلا إلى إدراك العلوم .(253/10)
قال بعد: "فاغتنم قواعد الأصول" (اغتنم) أي: اطلبها على أنها غنيمة وعلى أنك أدركتها إدراك المجاهد للغنيمة، وهذا يدل على الحرص على إدراكها من وجه والحرص على إبقائها من وجه آخر.
القواعد والأصول: القواعد جمع قاعدة، وهنا يجب أن نعرف الفرق بين القاعدة وبين الضابط.
القاعدة: عبارة عن جملة من القول تشمل أنواعا من العلم، والضابط جملة من القول تشمل أفرادا من الفهم.
الضابط يكون في مسألة واحدة، لكن يضبط أفراده، مثل أن تقول: يجري الربا في كل مكيل هذه ليست قاعدة هذا ضابط؛ لأنه إنما يجمع أفرادا في شيء معين، لكن القاعدة أن تقول: كل أمين فقوله مقبول في التلف.
هذا يشمل أشياء كثيرة من أنواع مختلفة في العلم، فهذا هو الفرق بين القاعدة والضابط، وهنا نقول اغتنموا قواعد الأصول، قد تجد في هذه المنظومة أشياء ليست من القواعد بناء على هذا التفريق، ولكنها ضوابط فيقال: الحكم على الأغلب.
وإن كنا قد نجد في هذه المنظومة شيئا ليس من القواعد، ولكنه من الضوابط فيقال: الحكم على الأكثر.
قال: "فمن تَفُتْهُ" أي: من تفته القواعد يحرم الوصول أي: الوصول إلى العلم، وفي ذلك يقول العلماء: من حُرم الأصول حُرم الوصول؛ لذلك ينبغي لنا أن نحرص على معرفة القواعد، وعلى معرفة ما تتضمنه، وأن نتباحث فيها وأن نسأل من هو أعلم منا حتى نحصل على المقصود.
وليس العلم أن يحفظ الإنسان شيئا فقط، بل العلم أن يحفظ شيئا وأن يفهم ما يدل عليه هذا الشيء ، ويُفرع عليه ويناقش فيه بنية وإخلاص وحُسن أداء، "فمن تفته" أي: هذه القواعد والأصول يُحرم الوصول، أي الوصول إلى المقصود. والألف في قوله: "الأصولا" وفي قوله: "الوصولا" الألف للإطلاق، أي: لإطلاق الرَّوِيّ، وهذا مستعمل كثيرا في النظم .(253/11)
ثم قال الناظم : "وهاك من هذي الأصول جُملا" (هاك) بمعنى خُذ من هذه الأصول جملا أرجو بها عال الجنان نزلا ، (هاك) : الخطاب لكل من يقرأ هذه المنظومة من هذه الأصول أو القواعد، (جملا) يعني: أن الناظم لم يستوعب جميع القواعد، وإنما أتى منها بجمل، (أرجو بها) أي: بهذه الأصول أو بهذه الجمل من الأصول أرجو بها "عال الجنان نزلا" وأصلها عالي الجنان لكنها خففت الياء للروي، ثم حذفت لالتقاء الساكنين.
"أرجو بها عال الجنان نزلا" والجنان جمع جنة ، وهي في الأصل البستان الكثير الأشجار، كما في قوله تعالى : { * وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) } لكنها إذا أريد بها جزاء المؤمنين المتقين فهي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه، وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما قال الله تعالى في القرآن: { فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17) } وقال -تعالى- في الحديث القدسي: " أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر "
وقوله : "أرجو بها عال الجنان نزلا"، هنا نقول: هل يمكن للإنسان أن يرجو شيئا بدون فعل الأسباب التي توصل إليه؟ الجواب: لا يمكن؛ لأن الرجاء لا بد له من سبب؛ ولهذا من رجا شيئا بدون عمل، فإنه متمن وليس بعامل.
وروي عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال : " الكَيِّس مَن دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني " وعلى هذا فمن رجا الجنان فليعمل لها، ومن خاف من النار، فليعمل العمل الذي ينجيه من النار.(253/12)
وأما أن تقول : اللهم إني أسألك الجنة وأنت معرض غير قائم بأمر الله، ولا منتهٍ عما نهى الله، فهذا ليس بصواب، بل هذا أشبه ما يكون بالاستهزاء، كما أن الرجل لو قال : اللهم ارزقني ولدا ولم يتزوج لعد ذلك سفها، وهو ليس من الإيمان الحقيقي بل هو اعتداء في الدعاء "أرجو بها عال الجنان نزلا"
"قواعد من قول أهل العلم" (قواعدٌ) عطف بيان لقوله (جملا)، ولكنها صُرفت لأجل الروي ، ويجوز أن تقول: (قواعدُ) ، يعني: هي قواعدُ على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وعلى كل حال، فإنها منونة لأجل الروي، فيجوز للإنسان أن يصرف ما لا ينصرف من أجل إقامة النظم .
"قواعد من قول أهل العلم" يعني: أن الناظم تتبع أقوال أهل العلم ما استطاع منها، ثم أخذ من هذه الأقوال فوائد ونظمها في هذه الأبيات .
قال الناظم : "وليس لي فيها سوى ذا النظم" أي: سوى هذا النظم، وهذا من الإنصاف أن يعترف الإنسان لأهل الفضل بفضلهم، وأن يعترف بحق نفسه وأنه آخذ، ولكنه استعان بأهل العلم في علومهم، هذا هو خلاصة المقدمة التي تشتمل على هذه الأبيات التسعة .
ثم قال الناظم : القواعد والأصول قال :
الدين جاء لسعادة البشر
وكل أمر نافع قد شرع
ولانتفاء الشر عنهم والضرر
وكل ما يضرنا قد منع
هذه القاعدة في الشريعة الإسلامية أنها جاءت "لسعادة البشر ولانتفاء الشر عنهم والضرر" ، هذان الأمران اللذان تدور عليهما شريعة النبي r وهي تحصيل المصالح كاملة أو وافرة، وتقليل المفاسد أو إعدام المفاسد.
ولهذا قال الله U في كتابه العظيم: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29) } وقال تعالى: { * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } وقال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) } والآيات في هذا المعنى كثيرة.(253/13)
إن الدين إنما جاء لسعادة البشر في الدنيا وفي الآخرة، ولانتفاء الشر عنهم والضرر في الدنيا وفي الآخرة أيضا، وفي الحديث عن النبي r أنه قال: " لا ضرر ولا ضرار " يعني: أنه ليس في دين الإسلام ضرر، وليس فيه أيضا مضارة، بل هو الدين الكامل الذي بعث به محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- هذا هو ما جاء به رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من الدين.
إنه جاء لسعادة البشر ولانتفاء الشر عنهم والضرر، ثم فرع على هذا القول قوله: "وكل أمر نافع قد شرع" وكل ما يضرنا قد منع، جميع ما شرعه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بل جميع ما شرعه الله U على لسان نبيه r نافع، لكن منه ما يظهر نفعه ويأتي بَيِّنًا لكل أحد، ومنها ما لا يظهر نفعه للخلق إلا بعد حين، لكن النهاية يظهر أنه نافع .
كذلك أيضا ما يضر قد منعه الله U والضرر قد يكون معلوما حاضرا، وقد يكون منظورا في العاقبة.
أرأيت لو أن إنسانا أخذ مائة درهم بمائة وعشرة إلى أجلٍ هذا محرم، لكن قد يقول بعض الناس ما الذي يحرمه هذا ليس فيه ضرر، ينتفع الآخذ بالثمن الحاضر، وينتفع المعطي بزيادة الثمن المؤجَّل، فلكل واحد منهما منفعة، الآخذ ينتفع بالحاضر الذي أخذه حاضرا، والمعطي ينتفع بزيادة الثمن له في مقابل التأخير!(253/14)
قلنا: نعم، هذا لأول وهلة ولكن عند التحقق وعند التأمل يتبين أنه ضرر عظيم؛ لأن هذا يؤدي في النهاية إلى قلب الديون، وأكل الربا أضعافا مضاعفة. فإن الإنسان إذا عرف أنه تجوز الزيادة في مقابل الأجل في بيع دراهم بدراهم، قال: إذًا كلما امتد الأجل يجب الزيادة وحينئذ يكون ممن يأكل الربا أضعافا مضاعفة، وهذا هو الذي نهى الله عنه وبين أنه ظلم، فقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } .
قد يقول قائل: أنا سأقتصر على هذه الزيادة ولا أزيدها بزيادة الأجل أو التأخير. قلنا: لا لئن ثبت هذا لك فإنه لا يثبت لغيرك، إذْ إن ليس كل إنسان يكون على جانب من الورع؛ ولهذا سد الله U الباب نهائيا لئلا يتمادى الناس في أكل الربا وظلم المعسرين.
على كل حال كل أمر ضار فهو ممنوع شرعا، ويبقى النظر في مناط الضرر هل هو ما يقيسه الإنسان بعقله القاصر، أو أن نقول: كل ما منعه الشرع فإنه ضار، وكل ما أمر به فهو نافع وعليك به، عليك بما أمر الله به، وعليك أن تجتنب كل ما نهى الله عنه؛ لأن كل مشروع نافع وكل ممنوع ضار ثم قال :
ومع تساوي ضرر ومنفعه
يكون ممنوعا لدرء المفسده(253/15)
هذا أيضا من القواعد، إذا كان في الشيء ضرر ونفع على وجه السواء فإنه يجب أن يكون ممنوعا؛ وذلك درءًا للمفسدة، وفي هذا يقول العلماء: درء المفاسد أولى من جلب المصالح؛ وذلك لأن المفسدة المساوية للمصلحة والمضرة المساوية للمنفعة قد تغلب وتزيد على المصلحة في المستقبل؛ لأن خبثها قد يؤثر على القلب وعلى العمل فيحصل بذلك الشر للفتى، ولهذا أمثلة نأتي بها في الدرس القادم وندع ما بقي من الدرس للإجابة عن الأسئلة ، ولتكن الأسئلة مكتوبة إذا أمكن حتى لا يحصل اضطراب وتداخل في الأسئلة .
س: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ هذا سائل يقول ... أو كثرت الأسئلة وصدرت أكثرها بقولهم : إنا نحبك في الله، وكثرت الأسئلة حول الكتب المناسبة التي يقرؤها طالب العلم المبتدئ في الأصول والقواعد ؟
ج: أقول للجميع لكل من صدَّر سؤاله بهذه الجملة "إنا نحبك في الله" : أحبَّهم الله الذي أحبونا فيه. أما بالنسبة لمعرفة الكتب النافعة في القواعد والضوابط والأصول فهي في الحقيقة لا يمكن أن نحصرها؛ لأنها كثيرة وبعضها يختلف عن بعض، بعض العلماء -يعني- ينهج في القواعد والضوابط منهج التسهيل والتيسير دون تحقيق، بمعنى أنك قد تجد هذه القاعدة غير مطردة ، تنتقل في باب الصيام ولكنها سهلة سهلة المنال .
وبعض العلماء يحكم القاعدة إحكاما تاما لا تجد فيها تناقضا لكنها صعبة فمن ذلك مثلا قواعد ابن رجب الفقهية قواعد عظيمة لكنها صعبة، لا يمكن لطالب علم صغير أن يدركها، وأقول: إن الذي اطلعت عليه في هذا قليل لأنني لم أكن أتتبع الكتب المؤلفة في ذلك، ولكني كنت أتتبع ما يرد من تعليلات العلماء -رحمهم الله- فأضعه في هذا النظم ، وكذلك ما يفتح الله به وييسره .(253/16)
أحث طلبة العلم على العناية بالقواعد والضوابط لأنها هي العلم، أما المسائل الفردية أن يعرف الإنسان أن هذا حلال أو هذا حرام فهذا يزول وينسى، ولا يكون للإنسان قدم راسخ في العلم، لا يمكن أن يكون للإنسان قدم راسخ في العلم يستطيع أن ينزل المسائل الجزئية على القواعد الكلية حتى يهتم بالقواعد والضوابط .
س: وهذا يقول: نحن جماعة من المدرسين نتجاوز الخمسة عشر مدرسا نقوم بالصلاة في المدرسة مع العلم بأن المسجد بجوار المدرسة وهذا في أيام الاختبارات فما رأي فضيلتكم في ذلك ؟
ج: الذي أرى أنه مع المشقة أو مع فوات بعض العمل الموكول للإنسان لا حرج على الجماعة أن يجتمعوا ويصلوا في مكان عملهم، وذلك لدعاء الحاجة إلى ذلك ولا يخفى علينا أن المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- أن الحضور إلى المسجد ليس بواجب.
لكننا لا نرى هذا القول، نرى أن الحضور للمسجد واجب بقدر الإمكان، لكن إذا كان الحضور إلى المسجد يؤدي إلى تعطل العمل أو اختلال العمل ولأمر حادث فلا أرى في ذلك بأسا أن يصلوا في مكان عملهم .
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ما حكم السفر إلى بعض البلاد الإسلامية التي تكثر فيها الفتن من سفور واختلاط وغيرها، وخاصة إذا كان ذلك بسبب التنزه وغير ذلك، ولقد يقول: كثر هذا الأمر من بعض الشباب الطيبين فما توجيهكم لهم جزاكم الله خيرا ؟
ج: الحقيقة أن هذه مما يضيق الصدر أن يهرع الناس إلى السفر إلى البلاد الخارجية سواء إذا كانت بلاد إسلامية أم غير إسلامية؛ وذلك لأن يحصل فيه إضاعة مال كثير ؛ لأن الإنسان سوف يخسر أو سوف يضيع قيمة التذاكر وقيمة الفنادق وقيمة الأكل والشرب، وأشياء كثيرة أضعاف أضعاف ما ينفقه لو أنه خرج إلى مكة والمدينة والبلاد التي هي بلاد نزه من هذه المملكة والحمد لله وهذا شيء مؤكد على كل حال حتى لو كان الإنسان محافظا ، فإنه لا بد أن تقع هذه الإضاعة من ماله .(253/17)
ثانيا- أنه لا يسلم إلا من عصمه الله ، لا يسلم غالبا من مخالفة: نساء ومشاهدة نساء متبرجات متطيبات، والعائلة سوف تتأثر من هذا وسوف ينعكس على الصبي والطفل ما شاهده في زمن صباه وطفولته؛ لأن صور ما شاهده الإنسان في حال الصغر تجدها باقية في ذهنه لا تزول وهو سوف يشاهد ما لا يشاهده في بلده .
ثالثا- أنه ربما تنتقل عادات من عادات تلك البلاد لا تناسب العادات التي فيها المحافظة على عاداتنا المأخوذة من عادات السلف الصالح، والعدوى في مثل هذا قريبة جدا ومعروفة.
رابعا- أنه قد يتعرض لأخطار عظيمة إما سرقة في مال أو غير ذلك مما هو معروف عند المسافرين، فهذا نصيحة للإخوان من الشباب وغير الشباب أن يجعلوا الترفيه عن أنفسهم بعد الكد والعناية في أيام الدراسة بالسفر إلى مكة والمدينة وجنوبي البلاد، ويحصل بذلك خير -إن شاء الله تعالى- ويدرأ بذلك ضررا وفتنة .
أما السفر إلى بلاد الكفر فهو حرام فيما أرى، ولكن إلا بشروط ثلاثة :
الشرط الأول- أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات.
والثاني- أن يكون عنده دين يمنعه من الشهوات.
والثالث- أن يكون مضطرا للسفر، والنزهة ليست اضطرارا كما هو معلوم.
س: وهذا يقول : نحن مجموعة من الشباب قدمنا من خارج هذه البلاد لحضور دروس هذه الدورة ، فما حكم مكوثنا أثناء هذه الدورة هل نقصر الصلاة أم يكون لنا حكم المقيم ؟
ج: نعم حكمهم حكم المسافرين؛ لأن الحقيقة أنهم مسافرون ولكن لا يحل لهم أن يتخلفوا عن صلاة الجماعة من أجل القصر لعموم قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار " وفي صلاة الجمعة قال الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ } .(253/18)
وهذا الخطاب يشمل كل مؤمن سواء كان مسافرا أم مقيما أم مستوفيا ، لكن إذا قدِّر أن الصلاة فاتتهم فلهم القصر؛ لأنهم مسافرون، سواء نووا أن يقيموا أربعة أيام أو عشرة أيام أو عشرين يوما أو شهرا.
وذلك لأنه لم يثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- تحديد المدة التي ينقطع بها حكم السفر، بل ظاهر النصوص إنه لا مدة لذلك، وأن الإنسان متى كان عازما على الرجوع إلى بلده بمجرد انتهاء شغله، فإنه مسافر.
وأكبر دليل يستدل به من يقيدون ذلك بأربعة أيام هو أن النبي r قدم في حجة الوداع جاء إلى مكة في اليوم الرابع من ذي الحجة ومكث إلى اليوم الثاني ثم خرج إلى منى ومزدلفة وعرفة، ثم غادر مكة صبيحة اليوم الرابع عشر ، ولكنه لا دليل في ذلك في الواقع لأن كون الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقدم لليوم الرابع ليس مقصودا بل هو وقع اتفاقا أو مصادفة .
ثم إن أنس بن مالك t جعل مدة إقامة النبي r في مكة عشرة أيام، وعد منها الخروج إلى المشاعر.
وأما قول بعض العلماء -رحمهم الله-: أن النبي r أنشأ السفر من حين أن خرج إلى منى في اليوم الثامن. هذا قول ضعيف، بل إن النبي r خرج في اليوم الثامن ليقيم لأداء المناسك في هذه المشاعر .
وخلاصة الجواب: أن الذين قدموا للدرس في هذه الدورة في حكم المسافرين ولكن يلزمهم أن يحضروا للجماعة فإذا فاتتهم فلهم القصر، وكذلك لهم المسح على الخفين أو الجوربين لمدة ثلاثة أيام .
س: وهذا يقول: نود من فضيلتكم الإفادة حول كتاب شرح رياض الصالحين المتداول في الأسواق؛ وذلك لأن البعض يقول بأنكم غير راضين عنه، وشكَر الله لكم وضاعف مثوبتكم؟
ج: الواقع أن كثيرا مما كتب في هذا إنما أخذ من الأشرطة، والأخذ من الأشرطة ليست كالمحرر باليد لا بد أن يكون فيه كلمة غير مناسبة، مثلا إما باللغة العامية أو ما أشبه ذلك.(253/19)
وشرح رياض الصالحين نقل من الأشرطة لكن أخونا الشيخ عبد الله بن زياد هو الذي تولى ذلك، وأرجو أن يكون قد اجتهد في تحريره وتنقيحه، لكن لا بد أن يكون فيه نقص كما شاهدنا ذلك في بعض الذي كتب ونشر.
ولكنه أمر قريب يعني: لا يختلف فيه المعنى كثيرا إما نقص كلمة أو زيادة كلمة، أو حذف بعض الأحاديث ، في رياض الصالحين كنا نُقرِئه هاهنا يعني: يقرأ القارئ علينا في الجماعة بعد صلاة العصر، وربما لا نتكلم على بعض الأحاديث إطلاقا، لأنها لا تتناسب مع الحاضرين من العوام، ولكني أدعو كل من رأى شيئا في مؤلفاتنا مما كتب أن أدعوه إلى أن يقيد ما رأى ويرسله إلي وله علي في ذلك المنة.
س: وهذا يقول : ذكرتم -حفظكم الله- في بعض كتبكم: امتثال الأمر لا يتم إلا بفعله جميعه، وامتثال النهي لا يتم إلا بتركه جميعه. والسؤال: ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة t " ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " فكيف نجمع بين هذا وبين ما ذكرتم ؟ جزاكم الله خيرا .
ج: أولا- أنا أعتب على السائل حيث يقول: كيف نجمع بين هذا وهذا ؛ لأن كلامي وكلام غيري من العلماء لا يمكن أن يعارض به كلام النبي -عليه الصلاة والسلام- لكن قد يقول : كيف يصح كلامكم مع قول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: " فأتوا منه ما استطعتم " ؟.
فنقول: الحديث يدل على ما ذكرنا أن الأمر لا بد من فعل جميعه إلا إذا عجز عنه الإنسان، فإذا عجز عنه الإنسان سقط عنه الأمر به، وحينئذ يكون آتيا بجميع ما أُمر به، والنص واضح : " فأتوا منه ما استطعتم " إذًا إذا استطعنا جميعه وجب علينا أن نأتي بجميعه، إذا استطعنا بعضه فهذا ما أُمرنا به يجب علينا أن نأتي به.(253/20)
لكن بالمناسبة يجب أن يفرق طالب العلم بين فعل المحظور، وترك المأمور فيما إذا وقع جهلا من الإنسان أو نسيانا، فترك المحظور إذا وقع جهلا أو نسيانا لا يترتب عليه شيء، لا إثم ولا كفارة ولا فدية فيما فيه فدية وكفارة، وفعل المأمور إذا ترك فإنه لا بد من أن يؤتى به على الوجه السليم، وأضرب لهذا مثالين جاءت بهما السنة:
المثال الأول : قصة الرجل الذي صلى، ولم يطمئن في صلاته، فقال له النبي r " ارجع فصل فإنك لم تصل -ثلاث مرات- فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني فعلمه الرسول -عليه الصلاة والسلام- " ولم يعذره بجهله .
المثال الثاني : مثال المحذور أن معاوية بن الحكم t تكلم في الصلاة جاهلا ، ولم يأمره النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بالإعادة " فإنه دخل في الصلاة فعطس رجل من القوم فقال : الحمد لله ، فقال معاوية: -يرحمك الله-، فرماه الناس بأبصارهم فقال: واثكل أمياه فضربوا بأيديهم على أفخاذهم يسكتونه فسكت، فلما سلم دعاه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال: t فبأبي وأمي ما رأيت معلما أحسن تعليما منه، والله ما قهرني ولا نهرني وإنما قال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن " أو كما قال r ولم يأمره بالإعادة لأنه فَعل محظورا جاهلا .
وفي الصيام قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه " ولم يأمره بالإعادة لأنه كان ناسيا.
س: وهذا يقول : هل يجوز أن ينسب الضر والشر إلى الله -سبحانه وتعالى- وهل يجوز أن نقول : إن الله مصدر الخير والشر؟
ج: أما الأول فإن الشر لا ينسب إلى الله؛ لأن كل أفعاله خير، وإنما الشر إن قدر في مفعولاته لا في فعله؛ ولهذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام- : " الخير بيديك والشر ليس إليك " فاثبت الخير بأنه بيده U ونفى أن يكون الشر إليه .(253/21)
وإنما يكون الشر في مفعولاته، فمثلا لا شك أن في بعض المخلوقات من الشر ما هو معلوم كالسباع والثعابين وما أشبهها، وكذلك الأمراض تصيب العبد هي شر بالنسبة للصحة، وهذه المخلوقات التي أشرنا إليها شر بالنسبة للمخلوقات المسالمة، لكن الشر هنا ليس في فعل الله، فإن الله لم يقدر ذلك إلا لحكمة عظيمة بالغة تشتمل على الخير.
وكذلك المرض بالنسبة للإنسان ليس خيرا في حد ذاته، لكنه خير بالنسبة إلى تقدير الله له؛ لأن الله تعالى قد يقدر على الإنسان المرض لينال بذلك درجة الصابرين إذا صبر عليه، وليعرف بذلك قدر نعمة الله عليه بالصحة، فإن الأشياء قد لا تتبين للإنسان إلا بضدها كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء .
أرأيت ما يحصل للنبي r من المرض والتعب وقد قال -عليه الصلاة والسلام- : " إني أوعك كما يوعك الرجلان منكم " وشدّد عليه عند حضور الموت، كل هذا من أجل أن ينال أرفع درجات الصابرين -عليه الصلاة والسلام- ويكون صابرا لله U على أحكامه الشرعية وأحكامه الكونية القدرية .
أما إن الله مصدر الخير والشر، فإن أراد أن الله تعالى هو الذي قدرهما فهذا صحيح وإن أراد سوى ذلك فلا، لكن على كل تقدير لا ينبغي إطلاق هذه الكلمة على الله U لأن ذلك يوهم إضافة الشر ونسبة الشر إلى الله تعالى.
س: وهذا يقول: يقول النبي r فيما يرويه عن ربه U أنه قال : " الكبرياء إزاري والعظمة ردائي " فما معنى الإزار والرداء في الحديث؟ وهل نثبت لبس الإزار والرداء لله U أم هي صفة نقص؟ وأثابكم الله؟
ج: الحقيقة أن هذا مما نقول فيه كما قال الإمام مالك : إنه مما لا ينفع العلم به، والإزار والرداء بالنسبة إلى الله U ليس كالإزار والرداء بالنسبة إلينا؛ ولهذا يجب علينا أن نقول كما قال -النبي عليه الصلاة والسلام- ولا نسأل عن هذا ؛ لأن السؤال عن هذا بدعة.(253/22)
هل نحن أحرص من الصحابة -رضي الله عنهم- على معرفة صفات الله ؟! لا والله، وهل المسئول منا أعلم بذلك من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟! لا والله، إذًا ما دام الصحابة -رضي الله عنهم- وهم أحرص منا على معرفة الله -تعالى- بأسمائه وصفاته لم يسألوا الرسول r وهو أعلم من سيجيب، فالواجب علينا السكوت، أن نقول بما جاء به الحديث ونسكت عما وراء ذلك، ونقول: إن الله -سبحانه وتعالى- يفعل ما يشاء .
س: وهذا يقول: هل يجوز ... انتهى الوقت الآن ، سؤال أخير جزاكم الله خيرا أي نعم، تبقى الأسئلة إلى غد إن شاء الله وننبه الإخوة أننا سنلقي أسئلة على ما شرحناه من المنظومة فليستعدوا لذلك ، نعم أحسن الله إليك.
يقول: شيخ يقول: هل يجوز إهداء المصحف إلى النصراني بغرض دعوته ؟
ج: لا يجوز لك ذلك إلا إذا أعطيته المصحف؛ لينظر فيه بحضورك فلا بأس ، أما أن تعطيه ويذهب به إلى بيته فهذا لا يجوز؛ لاحتمال أن يهينه كما يوجد من بعض طغاة النصارى وغيرهم ممن يمتهنون القرآن حتى بلغنا أنه ربما يطئوه بأقدامهم.
س: وإذا كان يا شيخ معاني القرآن -أحسن الله إليك-؟
ج: أما معاني القرآن فلا بأس إذا لم يكن في الورقات شيء من القرآن لا بأس؛ لأن المعنى غير المشروح، يعني: الشرح غير المشروح .
س: هذا يقول: يا شيخ، أنا إمام مسجد من منطقة بعيدة فما حكم توكيلي؛ لكي أحضر إلى هذه الدورة ؟
ج: هذا ينبني على: هل إنه سوف يدع الصلاة في كل الأوقات أو في وقت واحد، إذا كان في وقت واحد وأذن في ذلك المسئولون ورضي بذلك أهل الحي فلا بأس، وإلا فإنه إذا حان وقت الإقامة خرج من الدورة وذهب يصلي بأصحابه .
نواصل يا شيخ ولا نقف أحسن الله إليك(253/23)
الوقوف أحسن لأنه أولا أليس اللقاء ساعة ؟ بلى يا شيخ، طيب الآن أكثر من ساعة، أحسن الله إليك، والشيء الثاني: أني أحب أن ينصرف الناس وهم يقولون: ليتنا بقينا. إذاً نقف أحسن الله إليك ، نقف عند هذا -إن شاء الله- وغدا يكون بداية الدرس من وكل ما كلفه قد يسر ، أحسن الله إليك .
يسر الشريعة الإسلامية وسماحتها
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد قال المؤلف -حفظه الله تعالى-:
وكل ما كلفه قد يسر
فاجلب لتيسير بكل ذي شطط
وما استطعتَ افْعَلْ من المأمورِ
والشرع لا يلزم قبل العلم
لكن إذا فرط في التعلم
وكل ممنوع فللضرورة
لكن ما حرم للذريعة
من أصله وعند عارض طرَا
فليس في الدين الحنيف من شطط
واجتنب الكل من المحظور
دليله فعل المسيء فافتهم
فذا محل نظر فلتعلم
يباح والمكروه عند الحاجة
يجوز للحاجة كالعرية
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد:
فهذا هو الدرس الثاني من شرح المنظومة منظومة القواعد الفقهية والأصولية ، وقبل أن نبدأ بالشرح نحب أن نناقش بعض ما سبق ذكره.
فأولا-: هل الحمد هو الثناء أو شيء سوى الثناء؟ يجيب عليه أحد الطلبة من الصف الثاني، أعد السؤال يا شيخ الله يحفظك، سؤال: هل الحمد هو الثناء أو شيء آخر سوى الثناء ؟
ج: الحمد: هو وصف المحمود بالكمال، نعم ، وإذا كرر ذلك فهو الثناء.
طيب ما هو دليلك على هذا ؟
ج: في الحديث عندما أورد الرسول r قول الله U عند قول العبد " { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) } فإن الله -سبحانه وتعالى- يقول: حمدني عبدي وعندما يقول: "رب العالمين" فيقول: أثنى عليّ عبدي " طيب.
س: بهذا نعرف أن من فسر الحمد بالثناء فقوله صحيح ولا غير صحيح ؟ يجيب طالب.
ج:السؤال يا شيخ الله يحفظك مرة ثانية،(253/24)
السؤال: الذين فسروا الحمد بالثناء في الوصف في جميع الصفات هل قولهم صواب أن الحمد هو الثناء أو لا ؟
هيا يا جماعة ؟
ج: السؤال مرة ثانية يا شيخ سؤال أخير …
س: قلنا: الحمد وصف المحمود بالكمال فيكون هذا ثناء، بعض العلماء يقولون: الحمد هو الثناء هل هذا التفسير صحيح أو غير صحيح ؟
ج: يكون غير صحيح يا شيخ ، غير صحيح ، فإذا قيل لك: ما الدليل على تضعيفك إياه، تقول: حديث أبي هريرة: " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين " إلخ . طيب .
سؤال يقول الناظم: "مثبت الأحكام بالأصول" ما هي الأصول التي يثبت بها الأحكام ؟
ج: الأصول يا شيخ المتفق عليها أربعة نعم ، أولا: كتاب الله U والثاني: سنة الرسول r والثالث: الإجماع، والرابع: القياس الصحيح ، أحسنت بارك الله فيك .
س: يقول الناظم : "محمد المبعوث رحمةً للورى" ، (رحمة) ما الذي نصبها ؟
ج: يا شيخ مفعول لأجله ، مفعول لأجله . طيب
س: ما هو الشاهد لهذا من القرآن ؟
ج: قول الله تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) } أحسنت، "إلا رحمة للعالمين" ، يعني: إلا لنرحم بك العالمين .
س: طيب ما هي القاعدة في الدين الإسلامي، أو ما هو الغرض الأسمى الذي من أجله جاء الدين الإسلامي؟
ج: موجود هذا في النظم، جلب المنفعة ودرء المفسدة، يعني: سعادة البشر، وانتفاء الضرر عنهم، خذوا من هذا قاعدة، القاعدة هي درء المفاسد مقدم على جلب المنافع، ما دام الدين جاء لإسعاد البشر؛ فالقاعدة كل أمر سبب للسعادة فهو مشروع، كل أمر ضار فهو ممنوع.
س: طيب إذا تساوى إذا اجتمع في عمل ما ضرر ومنفعة، ولم يمكن التمييز بينهما، فهل يجتنب درءا للمفسدة أو يفعل لما فيه من المصلحة ؟
ج: يمنع مطلقا، نعم يمنع مطلقا، طيب إذا كانت المصلحة أكثر من المنفعة. أعد يا شيخ ؟ أقول إذا كانت المنفعة أكثر من المضرة، يفعل إن شاء الله ، طيب(253/25)
إذًا يقال في هذا إذا اجتمعت منفعة ومضرة فإن تساوتا مُنع ، وإن غلبت المضرة مُنع ، وإن غلبت المصلحة فُعل . كذا نعم يا شيخ ، طيب
الآن نبدأ صفحة جديدة بإذن الله وحول الله
قال الناظم :
وكل ما كلَّفَه قد يَسَّرَ
من أصل وعند عارض طرَا
يعني: أن كل ما كلف الله به العباد من هذا الدين فإنه مُيَسّر ، ودليل ذلك قوله -تبارك وتعالى- حين ذكر أحكام الصيام مع مشقته قال: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وهذه الإرادة: هي الإرادة الشرعية، يعني: أن الله تعالى شرع الدين تيسيرا عليكم.
وقال الله -تبارك وتعالى-: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } وقال الله -تبارك وتعالى-: { مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فكل شيء كلف الله به العباد فهو يسير.
وقال النبي r " إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " وكان يبعث البعوث ويقول: " يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا؛ فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين " كل هذا يدل على أن الدين يسر.
ومن ثَمّ اختلف العلماء فيما إذا اختلف مفتيان على قولين هل يأخذ بأيسرهما قولا، أو بأشدهما، أو يخير، أي نعم فإذا أفتى الإنسان عالمان كلاهما أهل للفتوى واختلفا، فإن تساويا عنده في العلم والدين فللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: القول الأول: أنه يأخذ بالأشد؛ لأنه أحوط وأبرأ للذمة، والقول الثاني: يأخذ بالأيسر؛ لأنه أقرب إلى مقاصد الشريعة؛ ولأن الأصل براءة الذمة، فلا يلزم عباد الله إلا بما نتيقن أن الله ألزمهم به، والقول الثالث: أنه يخير؛ لتعارض العلتين.(253/26)
والأقرب عندي أنه يأخذ بالأيسر؛ لأنه أقرب إلى روح الشريعة، اللهم إلا أن لا تطمئن النفس إليه فحينئذ يأخذ بالأشد، الذي تطمئن نفسه إليه؛ لهذا قال النبي r " البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما تردد في الصدر " هذه قاعدة مهمة، أن كل ما كلف الله به العباد فإنه ميسر من أصله .
"وعند عارض طرأ" يعني: وكذلك يكون هناك تيسير آخر عند الطوارئ ، إذا طرأ على الإنسان ما يفقد التيسير عليه، فإن الشرع وعد بالتيسير عليه، ولنضرب لذلك مثلا بل أمثلة:
الأول في الطهارة: يجب على الإنسان أن يتطهر بالماء سواء كان حدثا أصغر أم حدثا أكبر، فإن كان مريضا، ويخشى على نفسه، فإنه يتيمم، ودليل ذلك آية الطهارة في سورة "المائدة" : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ إفح!$tَّ9$# أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) }(253/27)
فأوجب الله الطهارة بالماء، فإذا كان الإنسان مريضا، وخاف على نفسه من زيادة المرض أو تأخُّر البرء وكان يتضرر بالماء، فإنه يتيمم، وفي الحديث الصحيح " أن عمرو بن العاص t بعثه النبي r في سرية فأجنب وكانت الليلة باردة، فتيمم وصلى بأصحابه، فقال له النبي r أصليت بأصحابك وأنت جنب؟! قال: يا رسول الله ذكرتُ قول الله تعالى : { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) } فضحك النبي r تقديرا لفعله " .
المثال الثاني في الصلاة: يجب على الإنسان أن يصلي الفريضة قائما فإن لم يستطع فقد قال النبي r لعمران بن الحصين: " صل قائما، فإن لم تستطع، فقاعدا فإن لم تستطع، فعلى جنب " .
في الصوم: يجب على الإنسان أن يصوم رمضان فإن كان مريضا فله أن يؤخر الصوم حتى يبرأ، وكذلك إذا كان مسافرا؛ لأن المسافر يشق عليه الصوم في الغالب، دليل ذلك قوله تعالى: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
فيسَّر الله على المريض والصائم إذا أتى عليه رمضان أن يؤخر الصوم حتى ينتهي من الصوم ويبرأ من المرض، وهذا -لا شك- أنه تيسير .
وثمة تيسير ثالث إذا كان لا يستطيع أن يصوم لمرض لا يرجى زواله أو لكبر، فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا ، هذا التيسير الذي تكرر مرتين في الصوم منشؤه أن الدين يسر من أصله أو للعارض الطارئ .
المثال الرابع في الحج يجب على الإنسان أن يؤدي الحج بنفسه إذا كان مستطيعا، فإن لم يستطع، وكان عنده مال يمكنه أن ينيب به من يحج عنه، وكان لا يرجى زوال علته، فإنه يقيم من يحج عنه عن فريضة الإسلام.
وقِس على هذا إذا هذه القاعدة: الدين مبني على التيسير والسهولة ، في حق أصل المشروعات وعند العوارض الطارئة(253/28)
وفرَّع الناظم على هذه القاعدة قوله : "فاجلب بتيسير لكل ذي شطط" أي: مشقة، أي كلما حصلت مشقة حصل التيسير، وهي أي: هذه القاعدة فرع من فروع القاعدة السابقة فليس في الدين الحنيف من شطط ، أي من مشقة وتعب، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ثم قال في سياق هذه القاعدة العظيمة: إن الدين مبني على التيسير والسهولة، قال :
وما استطعت افعل من المأمور
واجتنب الكل من المحظور
يعني: أنه إذا أمر الله بشيء في كتابه أو على لسان رسوله r فافعل ما تستطيع من المأمور، ولا تترك منه شيئا بل افعله كله أو بعضه إذا لم تستطع، وورد شرع لفعل هذا البعض .
أما المنهي عنه فاجتنبه كله لا تأتي منه شيء إلا ما اضطررت إليه، وما اضطررت إليه فإنه لا يعتبر تحريما، ولا محرما، دليل هذه القاعدة قول النبي r " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم " فأمر النبي r باجتناب المنهي عنه بدون شرط ولا مما يدل على أنه لا بد أن يجتنب الإنسان كل المنهي عنه؛ لأن الاجتناب ليس فيه مشقة ولا تعنت إنما هو ترك شيء، فإذا ترك الإنسان الشيء فلا ضرر عليه.
ولهذا فإن اضطر إليه فقد قال الله تعالى: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ } يعني: فإنه ليس فيه تحريم وعلى هذا فيكون ما يفعل من المحرم عند الضرورة ليس في درجة الحرام بل هو حلال مباح، أما الأمر فقال الله -تبارك وتعالى-: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وقال تعالى: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }(253/29)
فانظر إلى قوله: { وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } أي: خائف ألا يقبل منه، موقن بأنهم إلى الله راجعون، { وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } نعم ، قال : { أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } فدل ذلك على أن المأمورات يجب فعل ما استطاع الإنسان منها، وأن المنهيات فيجب اجتنابها كلها، وهذه من القواعد المهمة أيضا في دين الله U .
ثم قال الناظم : "والشرع لا يلزم قبل العلم" الشرائع لا تلزم إلا بالعلم ، دل على ذلك كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- . أما الكتاب فقال الله -تبارك تعالى-: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } وقال الله تعالى: { * إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ } إلى قوله: { رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ }
وقال الله تعالى: { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) } نعم هذا من القرآن.
أما الأدلة من السنة فدليله يقول الناظم:
..........................
دليله فعل المسيء فافهم(253/30)
يعني فعل في المسيء في إيه المسيء في عمل معين المسيء في صلاته، وذلك فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة t " أن رجلا دخل المسجد، والنبي r جالس في أصحابه فصلى صلاة المسيء صلى صلاة لا يطمئن فيها، ثم جاء فسلم على النبي r فرد عليه السلام، وقال له: ارجع فصل، فإنك لم تصل، فرجع الرجل فصلى كما صلى أولا أي صلاة المسيء، ثم جاء فسلم على النبي r فقال : ارجع فصل فإنك لم تصل، فرجع الرجل، وصلى كصلاته الأولى فعل ذلك ثلاث مرات، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غير هذا فعلمني.
فقال النبي r إذا قمت إلى الصلاة فأحسن الوضوء، ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اركع حتى تطمئن راكعا، ثم ارفع حتى تطمئن قائما، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " ولم يأمره النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بإعادة ما مضى من الصلوات؛ لأنه لا كان يعلم بأن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة ؛ لكنه أمره أن يعيد الصلاة الحاضرة ؛ لأنه ما زال وقت الصلاة موجودا، والمطالبة فيها قائمة؛ فلهذا أمره أن يعيدها حتى أعادها على الوجه الصحيح.
إذًا لو أن إنسانا أساء في الصلاة، فلو فاتها جاهلا بها، فإنه لا يلزم بإعادتها، سواء قصر الزمن أم طال، ولهذا قال البدري: لو أن إنسانا أسلم في ناحية بعيدة عن بلاد الإسلام، وترك شيئا من الواجبات أو أتى شيئا من المحرمات، أو أنكر شيئا من المعلومات بالضرورة من الدين فإنه لا يكفر بذلك ؛ لأنه معذور إلا أن... فعل المسيء... قال: إنه اشتهر عند العلماء أن هذا الرجل، وصف بأنه مسيء في الصلاة مع أنه لم يتعمد، ولم يتكبر .(253/31)
فيقال: لا يلزم من الإساءة الإثم، أي: قد يكون الفعل سيئا غير صالح لا يعفي صاحبه لوجود مانع؛ ولهذا قال النبي r " إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ " فالخطأ هنا أنه إساءة، لكن لما كان صادرا عن اجتهاد لم يؤاخذ به مع أنه خطأ، فيجوز الاثنان فيقول: هذا الرجل مسيء في صلاته؛ لأنه لم يأت بها على الوجه المشروع، وإن كان لا يجب عليه، فلا يلزمه الإعادة.
ثم استدرك الناظم في هذه المسألة فقال:
لكن إذا فرط في التعلم
فذا محل نظر فلتعلم
يعني: لا يفرط في الصلاة نفسه في التعلم... لكنه تهاون، وفرط فهنا قد يقال: إنه لا يحسن... ذلك، وإنه يلزم بما أعلمه من الفرائض ؛ لأنه بذلك ليس معذورا؛ ولذلك يريد... أن يعلم أو يغلب على ظنه أو يقال : له إن فعلك هذا خطأ، فإن الواجب عليك كذا؛ ولكنه يفرط فلا يسقط عليه، فهذا نقول: إنه مفرط، وإن... وضعت هذه ... فلا يصلح فعله عذرا له لترك الواجبات، أو فعل المحظورات، وهذا الذي قلناه في هذا النظم هو ما ذكره شيخ الإسلام -رحمه الله- في الاختيارات، وهو قول وجيه، وهو أن المفرط في التعلم، لا يشرع له من لم يقرأ على ذلك أن هذا واجب
ثم قال الناظم :
وكل ممنوع فللضرورة
يباح والمكروه عند الحاجة(253/32)
هذه من القواعد الفقهية الأصولية التي دل عليها القرآن، كل شيء ممنوع، فإنه يحل للضرورة، يحل له كل شيء ممنوع، فإنه يحل للضرورة دليل هذا قول الله -تبارك وتعالى- في سورة المائدة: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ (#مچxےx. مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ } أي في مجاعة { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
وقال في آية أخرى: { فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) } وقال تعالى في آية... أعم من المأكولات قال: { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }
ولكن لا بد من أمرين في حل المحرم للضرورة: الأمر الأول أن يكون مضطرا إلى هذا المحرم، بحيث لا تستدعى ضرورة إلا به، والثاني أن يتيقن انتفاء ضرورته به.
الأمر الأول: أن لا تتبع الضرورة إلا بهذا المحرم، والثاني أن يعلم انتفاءها به، فإن لم يعلم فإنه لا يحرم؛ وذلك لأن فعل المحرم مفسدة محققة، وانتفاء الضرورة إذا لم يتيقن مظنون لا معلوم.
ومن المعلوم أنه لا يرتكب معلوم المفسدة بمظنون المصلحة.(253/33)
مثال ذلك : رجل في فلاة قفار، وإذا قد فقد الطعام وجاع ولم يجد إلا ميتة، فنقول: لا حرج عليك أن تأكل من الميتة ما تكف به ضرورتك أي ما يسد رمقك… لأن الأكل هنا متيقن المنفعة تندفع الضرورة؛ ولأنه لم يجد ما يسد به ضرورته من أشفار وأوراق أو غير ذلك، فإن قال القائل: لو لم يجد إلا الخمر نعم رجل عطشان، ولم يجد إلا خمرا، يأخذ منها وعاء تصبيرا، وإن كان فائدة ذلك… فهل يجوز أن يشرب الخمر؟ نقول: إن الضرورة الآن مقتضية، لكن هل تندفع ضرورته بشرب الخمر؟ الجواب لأن وذلك لأن الخمر لا فائدة منها... .
فإذا اضطر لشدة العطش فلا بأس في ذلك؛ ولذلك قالوا أي: الفقهاء قالوا: لو اضطر إلى شرب الخمر لدفع لقمة غص بها جازت له؛ وذلك لأن ضرورته تندفع بإيجادها؛ فيكون مباحا، فلو قال قائل: لو اضطر المريض إلى شرب الدم.. . لا يجوز… ولكن قيل له إذا قيل له: إن الدم يبرئ المرض، فهل يجوز … هذا الذي قيل له ذلك؟ الجواب لا يصح له ذلك، لماذا؟ لسبب انتفاء الشرطين لحل المحرم الضرورة.
أما الشرط الأول: وهو أن يوجد هناك ضرورة؛ فلأن المريض قد يتداوى بغير هذا المحرم، فيشفى، وقد يشفى بدون دواء، فليس مضطرا إلى هذا الدواء المحرم.
ثانيا: أنه …إن رجا، أو قدر أنه لا يشفى إلا بهذا الدواء المحرم، فإنه ربما يشربه، ولا يبرأ من المرض كما قد يوصى بأدوية كثيرة قد علم نفعها، وأنها تؤدي للشفاء، ومع ذلك يتناولها المريض ولا يشفى، فحينئذ يثبت أن نقول: إنه لا يكون شرب الدواء للانتفاع به .
هذا من حيث التعليل، أما من حيث الدليل، فقد جاء في الحديث عن النبي r أنه قال: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " فهذا الحكم معقول العلة؛ لأن الله سبحانه لم يحرمه علينا إلا لأنه ضار بنا، فكيف ينصرف الناس عنه، فكيف ينصرف المحرم شفاء ودواء .
إذًا القاعدة: كل ممنوع يباح للضرورة، ولكن متى يكون ذلك يكون بأمرين، وإن شئت فقل: قاعدتين:(253/34)
الأول: ألا تنتفي ضرورته إلا بتناوله بحيث لا يوجد ما…
والثاني: أن نعلم انتفاء الضرورة في تناوله، فإن لم نعلم لا يثبت؛ لأنه لا يمكن أنه لا يرتكب معلوم الضرر لمصلحة موهومة.
ثم قال: والمكروه عند الحاجة هذه قاعدة أيضا ذكرها العلماء أن المكروه يكون عند الحاجة إليه، وذكروا لهذا أمثلة كثيرة منها: لو أن إنسانا في صلاة واحتاج إلى الالتفات، مثل: أن يكون حوله صبي، فيلتفت خوفا على الصبي من أن يقع في حفرة أو أن يتناول حارا أو ما أشبه ذلك، فهنا الالتفات جائز، مع أن الأصل كراهة الالتفات في الصلاة، لكن عند الحاجة لا بأس.
والفرق بين الحاجة والضرورة:
والفرق بين الحاجة والضرورة كالفرق بين الضروريات والكماليات، أي أن الحاجة … لكنه في حالة إذا تهاون … كان ذلك أكمل في ضرره ومفقوده، فحينئذ يكون المحظور عند الحاجة مباحا، وهذه فائدة أيضا تعلق في الممنوعات ما كان ممنوعا على وجه التفصيل فإنه لا يصح … وما كان ممنوعا على وجه التنزيه، فإنه يحل عند الحاجة، ثم استطرد الناظم فقال:
لكن ما حرم للذريعة
يجوز للحاجة كالعرية
يعني المحرم لكونه ذريعة لمحرم أشد، فإنه يجوز عند الحاجة، ومثل الناظم لذلك بالعرية .
العرية: هي الرطب على رءوس النخل، يكون الإنسان عنده تمر يابس، وليس عنده نقد يشتري به رطبا يتفكه به مع الناس في هذه الحالة يجوز له أن يشتري الرطب على رءوس النخل بالتمر الذي عنده من العام الماضي مع أن شراء الرطب بالتمر حرام " فقد سئل النبي r عن بيع التمر بالرطب فَقَالَ: أَيَنْقُصُ إِذَا جف فَقَالُوا: نَعَمْ قال: فلا إذًا " لكن في العرية يجيز بيع التمر الرطب من أجل الحاجة. ما معنى الحاجة؟ …(253/35)
أن هذا الفقير يريد أن يتفكه مع الناس، وليس معه نقد ماذا يفعل؟ أيذهب ويسرق من الناس؟ لا فإذا قال القائل: يمكن أن يبيع التمر، ويشتري الرطب كما أرشد النبي r إلى ذلك فيما إذا كان عند الإنسان تمر رديء، وأراد تمرا جيدا أنه لا يبيع التمر الرديء بتمر جيد أقل منه، بل أمر أن يباع الرديء بالدراهم، ثم يشترى بالدراهم تمرٌ جيد، فلماذا نقول في العرية: إنه يفعل ذلك لماذا لا نقول: بع التمر ثم اشتر بالدراهم رطبا؟.
الجواب على هذا أولا أن السنة فرقت بينهما، وكل شيء فرق الشرع فيه، فإن الحكمة بما جاء به؛ لأننا نعرف أن الشرع لا يفرق بين متماثلين، ولا يجمع بين مفترقين، وما فرق بينهما وظننا أنهما متماثلان، فإن الخطأ فيه، فيجب أن يقول: جاء الشرع بحل هذا ومنع هذا، لكن مع ذلك يمكن أن نجيب عقلا عن هذا، فيقال: إن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يبيعون التمر الرديء بالتمر الجيد، وهذا ربا صريح لا يحل .
أما في العرية فيجب أن يحصر الرطب بحيث يساوي التمر، لو أمكن لما مر معنا ... أننا نأخذ الرطب ونقول: هذا الرطب بدايته كان تمرا هل يكون على مقدار التمر الذي اشتري به أم لا بد من معرفة ذلك هذه واحدة .(253/36)
ثانيا أن نقول: ربا الفضل إنما هو في الحقيقة لكونه ذريعة إلى ربا النسيئة؛ وذلك لأن ربا الفضل لا يمكن أن يقع بين اثنين من جنس واحد، بل لا بد أن يكون هناك فرق بينهما في الوصف من أجل زيادة الفضل …وتقول: النفس إذا كانت الزيادة تجوز لعلو الصفة والنقص يجوز لرداءة الصفة فيجز الزيادة لزيادة المنفعة… فتطمع النفس لهذه الزيادة، والنفس طماعة… في البيع والشراء وذلك مع قلة الورع … والذي يمكن أن يقع عرية، هو ربا الفضل، وإذن فتحريم ربا الفضل... علمنا من الحديث الذي ذكرناه أنه حينما حرم؛ لأنه ذريعة إلى الربا والذي حرم لكونه ذريعة، فإنه يباح عند الحاجة، فإن قال قائل: الفقير الذي احتاج... ما ضرورته إلى أن يشتري الرطب بالتمر نقول: ليس بالضرورة؛ لأنه يمكن أن يعيش على التمر؛ لكن لو هناك حاجة يريد أن يتفكه ... فلهذا رخص له في العرية رخص له، يقول الناظم:
لكن ما حرم للذريعة
يجوز للحاجة كالعرية
وإلى هنا نكتفي بشرح ما تيسر من هذه المنظومة، أسأل الله -تبارك وتعالى- أن يرزقنا آذانا صاغية وقلوبا واعية، وأن يرزقنا جميعا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما، إنك أنت العليم آمين.
أما الآن فقد جاء دور الأسئلة في خلال ربع ساعة لأن... اليوم....
س: أحسن الله إليك يا شيخ هذا سائل يقول: كيف نفرق بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية؟.
ج: القواعد الأصولية موضوعها أدلة الدين، أي أنها قواعد تتعلق بالكتاب والسنة والإجماع والقياس وكيف يكون الدليل .
أما القواعد الفقهية فهي قواعد الفقه بمعنى أنها سمات عامة يندرج تحتها أنواع من العلم، فمثلا: قاعدة الطهارة قاعدة الصلاة ... ما هو العام والخاص، ما هو المطلق، ما هو المقيد ... وإنما هي قواعد الفقه، وأما القاعدة الأصولية تثبت بالأدلة الكتاب والسنة والإجماع والقياس فالفرق بينهما هو الموضوع القواعد الأصولية موضوعها… نعم .(253/37)
س: وهذا يقول: يا شيخ أنا إمام مسجد، وفي مسجدي حلقة لتحفيظ القرآن كل يوم بعد العصر يقول: وفي هذه الحلقة يقرءون جماعية حيث يقرأ كل واحد منا واجب من القرآن، فهل هذا العمل جائز أم لا مع أنه يومي؟.
ج: لا بأس يعني لا بأس بالقراءة القراءة الجماعية للتعلم … من القراءة أن يقرأ على وجه التعبد لله بذلك؛ لأن هذا لم يؤثر عن النبي r وأصحابه .
أما التعلم فلا بأس به فمثلا لو أراد المعلم أن يقرأ آية أو آيتين، ثم يرتلها التلاميذ بصوت واحد فلا بأس به. نعم.
س: إنه يقصد يا شيخ أن هذا العمل يتكرر كل يوم، وكل إنسان يقرأ جزءًا معينا؟.
ج: وإن كان كذلك؛ لأن مسألة التعليم يشرع فيها الأخذ بغير التعليم.
س: أحسن الله إليكم، هذا يا شيخ يقول: قدمنا من خارج الرياض، فأدركتنا صلاة الظهر والعصر، ونحن مسافرين فصليناهما جمعا وقصرا، ثم لما قدمنا الرياض، فإذا هم لم يصلوا العصر بعد، فهل تلزمنا صلاة العصر مع الجماعة أم تكفينا صلاتنا الأولى؟.
ج: هذه قد تطول… أن من فعل الصلاة على الوجه الذي أمر به لا يلزمه الإعادة؛ لأن الله تعالى لم يفرض على الناس أن يأتوا بالأمر مرتين؛ … لأن هذه الصلاة الأولى وعلى هذا فهؤلاء القوم المسافرون… الذين أدركتهم… لا يلزمهم الصلاة؛ لأنهم… فقد أتوا الأمر على وجهه، ولا يمكن أن يعيدوا الصلاة مرتين هذا إذا كانت… فلما دنو منها صلوا الظهر والعصر، ثم قدموا المدينة قبل أذان العصر؛ أو والناس يصلون لا تلزمهم الإعادة… إذا صلى الصلاة ثم أدرك الجماعة وهم يصلون فإنه يسن له أن يصلي معهم؛ لقول: النبي r للرجلين الذين تخلفا عن دخول الجماعة " إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما صلاة الجماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة " .(253/38)
ولا فرق في هذا بين أن تكون الصلاة المعادة ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، فلو أن إنسانا صلى في مسجد المغرب، ثم ذهب إلى مسجد آخر، فوجدهم يصلون المغرب، فدخل معهم من أول ركعة، فإنه يسلم معهم ولا حاجة إلى أن يأتي برابعة ليشفعها؛ لأن ذلك مخالف... ... نعم.
أنواع النهي
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد: فهذا هو الدرس الثالث الذي يتم في الدورة العلمية بمدينة الرياض بجامع شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله -وهذا هو يوم الأحد الثامن من شهر ربيع الأول عام سبعة عشر وأربعمائة وألف، وقبل البدء في الكلام على القواعد- أود أن أعطي أمثلة على التلاميذ، ثم بعد ذلك يقرأ أحد الطلبة ما يمكن أن نشرحه.
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: قال المؤلف -حفظه الله تعالى-:
وما نهي عنه من التعبد
فكل نهي عاد للذوات
وأن يعد لخارج كالعمة
والأصل في الأشياء حل وامنع
فإن يقع في الحكم شك فارجع
والأصل أن الأمر والنهي حتم
أو غيره أفسده لا تردد
أو للشروط مفسدا سياتي
فلن يضير فافهمن العلة
عبادة إلا بإذن الشارع
للأصل في النوعين ثم اتبع
إلا إذا الندب أو الكره علم
س: كفاية. ... ... فهاتان قاعدتان: الأولى يجب أن يفعل الإنسان من المأمور ما استطاع، فأين الدليل على هذه القاعدة من القرآن والسنة ؟. يجيب عن هذا أحد الطلاب .
ج: قال الله تعالى...
س: طيب، وهل يمكن أن تأتينا بمثال يحقق تلك القاعدة ؟.
ج: قال r " صل قائما، فإن لم تستطع، فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب " .
س: القاعدة الثانية من هذا البيت: اجتنب الكل من المحظور، هل يمكن أن تأتي بدليل من الكتاب والسنة على ذلك ؟.
: هذه من السنة، ومن القرآن؟(253/39)
ج: من القرآن: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } لا هذا في الأمر. { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا }
هذا أيضا في الأمر، أنا لم أذكره في هذا الدرس، لكنه يؤخذ من قول الله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } الأمر بالاجتناب هنا أمر باجتناب أي جزء من أجزاء الخمر قل أو كثر؛ ولأن هذا الدليل عملي .
الدليل النظري أن النبي r والواجب اجتناب المسألة كلها قلت أو كثرت.
س: طيب السؤال الثاني، هل يلزم الشرط قبل العلم ؟.
ج: لا يلزم الشرط قبل العلم ،لا يلزم الدليل: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ } { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا } { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59) }
س: طيب هل هناك من السنة دليل على هذا؟.
ج: الدليل من السنة أن النبي r لم يأمر بإعادة الصلوات السابقة.
س: طيب لو قال قائل : لماذا أمره بإعادة الصلاة الحاضرة؟. أعد يا شيخ، أقول: لو قال قائل: لماذا أمره بإعادة الصلاة السابقة؟.
ج: يا شيخ... لأن الوقت حاضر... أي نعم . هو ذات الوقت الحاضر... وكان بالدليل، ثم قلنا أو استثنينا باب الحال...
س: ما معنى الحال الذي استثنيناه؟.
إذا فرط، بماذا؟
ج: بالتعلم. هذا مستثنى محل نظر.
ما معنى قولك محل نظر؟
يعني خلاف. يعني ينظر فيه، إن كان الدليل قويا، فإننا نقول: بالإعادة على حسب حاله، يعني.
طيب. ما هي القاعدة في اتباع المحظور؟.(253/40)
ج: يباح المحظور للضرورة إذا لم يمكن دفع الضرر ما هو الدليل على إباحة المحظور للضرورة؟ { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ }
س: اشترطنا في إباحة المحرم للضرورة شرطين فما هما؟.
ج: الشرط الأول: ألا يدفع ضرره أو ضرورته إلا به . والثاني؟. والثاني أن يعلم جازما أن هذا مما يدفع الضرورة.
س: طيب لو اضطر الإنسان إلى دواء، فهل يباح له استخدام المحرم، الدواء المحرم؟.
ج: لا يجوز لحديث: " إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرم عليكم " .
وأيضا اشترطنا ألا تندفع الضرورة بغيره أليس كذلك؟. بلى.
الدواء قد تندفع بغيره، قد يشفى بدواء آخر أو يشفى بغير دواء . نعم. أليس كذلك؟ ما فهمت السؤال؟.
ألا يمكن أن يشفى بغير دواء؟.
ج: نعم.
: طيب. ثم لا نتيقن شفاءه بهذا المحرم؛ لأنه قد يتناول الإنسان الدواء، ولا يستفيد.
س: طيب، الآن ما الذي يبيح المكروه؟ .
ح:الذي يبيح المكروه هو الحاجة.
س: ما الفرق بين الحاجة والضرورة؟.
ج: الحاجة تتعلق بالحاجيات هي دون الضرورة.
نعم. والضرورة هي التي يلحقه الضرر بعدمها بعدم فعلها.
نعم بارك الله فيك.
نبدأ الآن الدرس الجديد مستعينين بالله U سائلين الله تعالى القبول.
قال الناظم وفقه الله:
وما نهي عنه من التعبد
أو غيره أفسده لا تردد
ما اسم موصول مبتدأ، وجملة: أفسده خبر الموصول، والمعنى أن ما ينهى عنه من العبادة إذا فعله إنسان وقع فاسدا، وكذلك ما نهى عنه من غير العبادة إذا وقع على الوجه الذي نهي عنه فإنه يقع فاسدا هذه قاعدة.(253/41)
دليل ذلك قول: النبي r ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو فاسد وإن كان مائة شرط، يعني ولو اشترط مائة مرة. مثال ذلك من العبادات الصلاة قال النبي r " لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب " فلو أن إنسانا صلى صلاة منهيا عنها في هذا الوقت فإنها تكون باطلة غير مقبولة؛ لأنها منهي عنها، وثبت عن النبي r أنه نهى عن صوم يومي العيدين، فلو صام إنسان يوم عيد الفطر أو يوم عيد الأضحى، فصومه باطل؛ لأنه فعل عبادة منهيا عنها.
أما في المعاملات فلو باع الإنسان الذي صلى يوم الجمعة بيعا بعد نداء الجمعة الثاني وقع هذا البيع فاسدا؛ لأنه بيع منهي عنه، ولو باع أبيضا لمن يلعب به القمار كان البيع فاسدا؛ وذلك لأنه بيع منهي عنه لقوله تعالى: { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ }
فيقع فاسدا ولو اشترى الإنسان على شراء أخيه فإن الشراء يكون فاسدا؛ لأن النبي r قال " لا يبع بعضكم على بيع بعض " .
ولو تزوج الإنسان بعقد شغار كان العقد فاسدا؛ لأن النبي r نهى عن الشغار والأمثلة على هذا كثيرة، وقوله: أفسده لا تردد. أي: لا تردد بإفساده؛ وذلك أننا لو صححناه لكان ذلك مضادا لله U ولرسوله؛ لأن ما نهي عنه شرعا، فالمفروض عدمه شرعا، فإذا قدر أن صححناه فهذا يعني إثباته، وإثباته مضادة لله ولرسوله .
ثم ذكر الناظم كل ما نهي عنه واقتضى النهي فيه الفساد . فقال:
فكل نهي عاد للذوات
أو للشروط مفسدا سياتي
كل: مبتدأ، وقوله : سياتي خبرها، ومفسدا حال للفاعل "يأتي". والمعنى أن كل نهي عاد لذات المنهي عنه فإنه يكون مفسدا، وهذا البيت كالبيان للبيت الذي قبله، وذلك أن النهي إما أن يعود إلى ذات الشيء أو إلى شرطه أو إلى أمر خارج. والذي يظهر الفساد هو ما عاد النهي فيه لذات المنهي عنه أو إلى شرطه.(253/42)
مثال العائد إلى ذات المنهي عنه البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة. هذا عائد إلى ذات البيت، وإن كانت العلة فيه هي خوف التوصل بذلك إلى ترك ما يجب من حضور الجمعة، ومثال ما عاد إلى الشرط نهي النبي r عن بيع الغرر، فإن النهي عن بيع الغرر عائد إلى شرط البيع، وهو العلم إذ إن من شرط البيع أن يكون الثمن معلوما، وأن يكون المبيع معلوما؛ لأن جهالتهما أي جهالة المبيع أو جهالة الثمن تؤدي إلى النزاع، ثم العداوة والبغضاء، والدين الإسلامي لا يريد من أهله إلا أن يكونوا أحباء متعارفين متوافقين، وكل شيء يهدم هذا الأصل الأصيل في الدين الإسلامي، فإنه يكون منهيا عنه.
ومثل العلماء لما عاد للشروط أيضا في رجل صلى في ثوب محرم عليه، مثل أن يصلي في ثوب حرير مع تحريمه، فإن صلاته لا تصح؛ وعللوا ذلك بأن ستر العورة شرط في صحة الصلاة، ويشترط لذلك الشرط أن يكون مباحا، فإن كان محرما، فإن الصلاة لا تصح؛ لأن النهي يعود إلى شرط العبادة، ثم قال: الناظم :
وإن يعد لخارج كالعِمَّةِ
فلن يضير فافهمن العلة
يقول: إن عاد النهي إلى أمر خارج، فإنه لا يجوز كالعمة، يعني كالعمامة، أي: أن المصلي لو لبس عمامة محرمة كأن يلبس عمامة حرير، ويصلي فإن صلاته صحيحة؛ لأن هذا النهي لا يعود إلى ذات العبادة إذ ليس في شرط الصلاة أن يعتم الإنسان، ومثل ذلك لو صلى، وبيده خاتم ذهب، وهو رجل فإن صلاته تكون صحيحة ؛ لأن هذا الذي لبسه لا يعود إلى ذات العبادة، أي إلى ذات الصلاة ولا إلى تركها، وإنما يعود إلى أمر خارج.(253/43)
ومما نهي عنه، وهو لا يعود إلى شرط العبادة، ثم... نعم، ومما نهي عنه، وهو لا يعود إلى ذات الشيء ولا إلى شرطه في المعاملات تلقي الجلب، فإن النبي r قال : " لا تلقوا الجلب " والجلب هم الذين يأتون بالسلع إلى البلاد، وليسوا من أهل البلاد ليبيعوها، وينصرفوا فقد نهى النبي r عن تلقيهم ؛ لأن في تلقيهم ضررين: الضرر الأول : أنهم ربما يشترون من الجلب برخص فيقع الغبن، والضرر الثاني أنهم يحرمون أهل البلد مما يحصل من وراء المعاملات مع هؤلاء الجلب. هذا النهي لا يفسد البيع، يعني لو أن رجلا تلقى الجلب، واشترى منه، فإن البيع يقع صحيحا مع تحريم التلقي؛ وذلك لأن هذا المشترى لا يعود إلى نفي البيع ولا إلى شرطه.
ودليل صحته قول: النبي r " فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار " يعني إذا أتى البائع السوق، ورأى أنه مغبون فله الخيار.
ومن ذلك أي ما لا يعود إلى شرط الشيء ولا إلى ذاته تصرية لبن في ضرع بهيمة زمعاء، فإن النبي r نهى عنه بما في ذلك من التدليس على المشتري، ولكن لو أن البائع لو أن الإنسان باع شاة مصراة أو بعيرا مصراة، ثم ظهر المشتري على هذا التدليس، فإن له الخيار.
وخلاصة هذه القاعدة أن كل منهي عنه إذا فعله فهو فاسد إن عاد النهي إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه، أما إذا عاد إلى أمر خارج فإنه لا يفسد، لكن يكون الفاعل آثما لوقوع النهي.
قال الناظم :
وأن يعد لخارج كالعمة
فلن يضير فافهمن العلة
أي لم يضير من حيث الصحة والفساد
"فافهمن العلة": والعلة هي ما أشرنا إليه من قبل أن هذا يعود إلى أمر خارج لا إلى ذات الشيء، ولا إلى شرطه .
الأصل في الأشياء الإباحة إلا العبادة:
ثم قال الناظم : قاعدة مفيدة مهمة جدا قال :
والأصل في الأشياء حل وامنع
عبادة إلا بإذن الشارع(253/44)
قوله:" والأصل في الأشياء" هذا يعم الأعيان والمنافع والمعاملات والأفعال، وكل شيء الأصل فيه الحل الأعيان إذا وجد الإنسان شجرا في البر فالأصل فيه الحل فليأكله ما لم يتيقن أنه من المهلكات، مثل: أن يكون شجرا ضارا، إذا وجد الإنسان طيرا أو زاحفا في البر فالأصل أنه حلال، يحل أكله ما لم يقم الدليل على تحريمه.
كذلك الأصل في المنافع أن الإنسان ينتفع بكل ما خلق الله في الأرض ما لم يكن الانتفاع حراما، وكذلك الأعمال الأصل فيها الحل إذا لم تكن عبادة، فأي معاملة عامل بها الإنسان غيره، فهي معاملة صحيحة ما لم يقم الدليل على تحريمها. دليل ذلك في الأعيان والمنافع قول الله -تبارك وتعالى-: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فعمم وأكد التعميم، قال : "ما في الأرض"، وهذه اسم موصول تفيد العموم، ثم أكد هذا العموم بقوله: "جمعيا".
ودليل المعاملات قوله -تبارك وتعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ }
فأمر الله بالوفاء بالعقود على أي وجه أخذت، وبأي معاملة كانت ما لم يثبت تحريمه، وكذلك قال النبي r " ما كانت من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل " فدل على أن ما كان في كتاب الله أي ما كان موافقا لكتاب الله فإنه غير باطل، وكذلك روي عنه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال : " الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرم حلالا " وأمثال ذلك من، فالأدلة الأصل في الأشياء كلها الأعيان المنافع والأعمال وغيرها الأصل فيها أنها حلال لا إثم فيها
قال : الناظم(253/45)
وامنع عبادة إلا بإذن الشارع العبادات الأصل فيها المنع إلا بإذن الله. دليل ذلك أن الله أنكر على الذين يقولون: هذا حلال وهذا حرام إلا بإذن الله، وأنكر على الذين يشرعون أو يتبعون الشرائع التي لم يأذن الله بها فقال U { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } وأبطل النبي r كل ما أحدثه الإنسان من من العبادات في دين الله فقال r " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " فلو أن إنسانا تعبد لله تعالى بعبادة لم يشرعها الله كانت العبادة باطلة، سواء كانت لم تشرع من أصلها، أو شرعت على وجه آخر، وأثبت هو لها سببا غير ثابت شرعا، فإنها مردودة عليه، فلو أن إنسانا فعل عبادة بسبب لم يجعله الله ورسوله سببا لها كان مبتدعا، ومن ذلك ما يفعل في هذا الشهر شهر ربيع الأول من الاحتفال بمولد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
فإن الاحتفال بالمولد إنما يحمل عليه محبة النبي r عند من احتفل به أو مضاهاة النصارى الذين يحتفلون بمولد المسيح عيسى بن مريم -عليه الصلاة والسلام- أو لأسباب أخرى، لكن غالبهم إنما يحملهم عليه محبة الرسول r وذكرى ولادته كما زعموا، وهذه البدعة ليست معروفة لا في عهد النبي r ولا في عهد الخلفاء الراشدين، ولا في عهد الصحابة، ولا في عهد التابعين ولا في عهد تابعي التابعين. وإنما أحدثت في القرن الرابع من الهجرة، وقد ثبت أن النبي r أنه حذر من محدثات الأمور، فقال: " إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة " فإن قال قائل: أنا لا أحدث ذلك إلا محبة لرسول r الجواب عن هذا من وجهين:
الوجه الأول : أن من علامة المحبة، وهو أصدق علاماتها أن يكون المحب متبعا لمن أحبه قال الله تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ }(253/46)
وإذا كان هذا أصدق علامات المحبة فاتباع النبي r بذلك أن لا يقيم هذه البدعة ؛ لأنه لم يقمها -عليه الصلاة والسلام- . فحقيقة الاتباع أن لا نأتي بشيء لم يفعله، فإننا يعني نقول: إنك لست أشد محبة لرسول الله r من خلفائه وأصحابه، ولا يمكن لأحد أن أنه يحب الرسول -عليه الصلاة والسلام- أعظم مما يحبه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة والتابعين، فهؤلاء كلهم لم يفعلوا ذلك؛ لأنهم يريدون أن يطبقوا حقيقة المحبة تماما، وهي أن يتبعوا الرسول r في فعله وتركه، فكما أن فعل ما فعله الرسول -عليه الصلاة والسلام- سنة، وكذلك ترك ما ترك دون معرفة سببه سنة، وما خالف ذلك فهو بدعة، وهذه المسألة ينبغي لنا أن نتفطن لها، كلنا يعلم أن الثناء على الرسول -عليه الصلاة والسلام- على وجه لا غلو فيه محكوم إلى الله ورسوله، لكن كوننا نقيده بهذه الليلة المعينة هو من البدع على أن الاحتفال بالمولد النبوي يحدث فيه من الأغلاط والغلو المنهي عنه وغير ذلك من الأشياء ما لا يقتضيه شرع ولا عقل.
ثم إننا نقول: بالمناسبة وإن كان هذا ليس من خصائص درسنا إنه لم يثبت تاريخيا أن ولادة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كانت في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، والمحققون من الكتاب يقولون: إن ولادته كانت في اليوم التاسع، وليست في اليوم الثاني عشر، وهذا مما يوحي الاحتفال بمولد الرسول r في الليلة الثانية عشر.
نعود إلى القاعدة التي معنا: الأصل في العبادات الحظر حتى يكون دليل على الإذن، نعم الأصل في العبادات الحظر حتى يقوم دليل على الإذن بها، والأصل في غير العبادات الحل حتى يقوم دليل المنع، وهذه قاعدة مهمة ينبغي للإنسان أن تكون أمام عينه.
ثم قال الناظم :
فإن يقع في الحكم شك فارجع
للأصل في النوعين ثم اتبع(253/47)
يعني إذا شككت في الحكم شيء متجدد فارجع إلى الأصل، فإن كان من العبادات الأصل المنع حتى يقوم دليل على الإذن به، وإن كان من غير العبادات فالأصل الحل حتى يقوم دليل على المنع، فإذا تنازع شخصان في حل صيد صاده أحدهما، فقال أحدهما هو حرام، وقال الثاني : هو حلال ولم نجد نصا عليه بالمنع، فإنه حلال رجوعا إلى الأصل، وكذلك لو شككنا في معاملة من المعاملات هل هي حلال أو حرام، فهي حلال حتى يقوم دليل على المنع منه، وهذا الأصل ينفع فيما حدث ذلك من المعاملات في هذا العصر، فإذا شككت في معاملة ما هل هي حلال أو حرام فهي حلال، والذي يقول: إنها ممنوعة هو المطالب بالدليل بناء على ما ذكرناه من هذه القاعدة العظيمة، وهذا ينطبق في ما اختلف الناس فيه اليوم من المعاملات الحادثة التي لم تكن معروفة من قبل بين الفقهاء، فإنه يمكنك أن تنزلها على هذه القاعدة، فترجع إلى الأصل، والأصل في المعاملات هو الحل حتى يقوم دليل على المنع.
وكذلك لو رأينا شخصا يتعبد بعبادة فإننا نطالبه بالدليل نقول: ما دليلك على أن هذا مشروع ؟ فإن أتى بدليل قبلناه وعلى العين والرأس، وإن لم يأت بدليل فإننا فإن عمله مردود عليه، وهو ضلال؛ لأن النبي r قال : " كل بدعة ضلالة " ويكون هو أي هذا العامل المتعبد لله بما لم يشرع يكون هو إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة، وإنما قلنا: إنه إلى الإثم أقرب منه إلى السلامة؛ لأنه ربما يفعل هذا الشيء تأويلا لا عنادًا، لكن إذا بين له الحق وعاند وأصر على بدعته، فهو آثم بلا شك ؛ لأن النبي r حذر تحذيرا بالغا من المحدثات في الدين حتى كان r يعلن ذلك في كل جمعة في الخطبة يقول: " أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة "
حقيقة الأمر والنهي:
ثم قال الناظم :
والأصل أن الأمر والنهي حتم
إلا إذا الندب أو الكره علم(253/48)
الأصل الأوامر والنواهي يقول: الناظم: الأصل في الأمر أنه حتم أي أنه واجب الأصل في النهي أنه حتم، أي أنه محرم يجب اجتنابه، وهذه المسألة من أصول الفقه أي المسألة أو القاعدة من أصول الفقه، وقد اختلف الأصوليون في الأمر أن يقتضي الوجوب أو النهي، وفي النهي أن يقتضي التحريم أو الكراهة، فهذا إذا لم يوجد قرينة تحجب الأمر عن الوصول إلى النفي أو عن النفي أيضا إلى الإباحة، وكذلك النهي إذا لم يوجد قرينة تصرفه عن التحريم إلى الكراهة، أو أن الكراهة إلى الإباحة أيضا.
وكلامنا في الأمر المجرد والنهي المجرد فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- هل الأصل أن الأمر للوجوب أو للنفي ؟ من العلماء من قال : إن الأصل الوجوب، إن الأصل في الأمر الوجوب لقول الله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } فحذر الله -تعالى- المخالفين عن أمر الرسول r من هاتين العقوبتين، بل من إحدى هاتين العقوبتين أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
أما العذاب الأليم فواضح أي العقوبة المؤلمة في بدنه في أهله في ماله، وأما الفتنة فقال الإمام أحمد -رحمه الله-: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك. لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك. وهذه العقوبة شديدة أعني عقوبة الشرك والمعاصي هي في حقيقة النظر لمن كان عاقلا أشد من العقوبة المادية؛ وذلك لأن هذه العقوبة تؤدي إلى خسارة الدنيا والآخرة يقول: الله U { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) }(253/49)
وقال آخرون : بل الأمر للنفي، أي أنك إن فعلت مأمورا به كان ذلك خيرا وفيه الثواب، وإن لم تفعل فلا إثم عليك. تعين ذلك بأمرين : الأمر الأول اشتمال الحكم المراد بالأوامر فإن كثيرا من أوامر الله لا تقتضي الوجوب: إما بالاتفاق أو بقول: الجمهور، وثانيا : أنه لما أمر بها ترجح فعلها لما أنه لما أمر بالشيء ترجح فعله، والأصل عدم التحكيم بالطبع وبراءة الذمة.
وكذلك يقال في النهي، فإن النهي قد أمر النبي r باجتناب المنهي عنه، والأمر بالوجوب فإذا وجب الاجتناب صار الفعل محرما، فهذان قولان للعلماء منهم من يقول: الأمر للوجوب والنهي للتحريم ما لم يوجد دليل، ومنهم من يقول: الأمر للاستحباب والنهي للاستحباب ما لم يوجد دليل على الوجوب أو على عدم الاستحباب أيضا، ومنهم من يقول: الأمر للوجوب والنهي للتحريم ما لم يوجد دليل على أن الأمر للاستحباب والنهي للكراهة أو ما إلى ما دون ذلك أيضا.
ومن العلماء من فصل فقال: أما الأمر حين يتعلق بالآداب والأخلاق فإنه للاستحباب؛ لأنه كمال، والكمال ليس بواجب، وكذلك يقال النهي حين يتعلق بالآداب والأخلاق إنه للكراهة، أما ما يتعلق بالعبادات فإن الأمر فيه للوجوب والنهي للتحريم.
فهذا التفصيل أضبط من القولين المطلقين السابقين؛ وذلك لأنك إذا استتبعت كثيرا من الأوامر فيما يتعلق بالآداب والأخلاق وجدتها للاستحباب والندب لا للوجوب، وكذلك إذا تأملت كثيرا من النواهي في الأخلاق والآداب وجدتها للكراهة لا للتحريم.
وهذا الحكم في ما لم يجمع العلماء على خلافه، فإن أجمع العلماء على خلافه فإن إجماعهم حجة معصومة.
فلنقف على هذا لأن وقت الإلقاء انتهى حتى نتفرغ للأسئلة، نسأل الله تعالى أن يوفقنا جميعا للصواب إنه على كل شيء قدير . نعم.
س: يا شيخ أحسن الله إليك سائل يقول: أنا رجل أعاني من مشكلة، وطَال ذِكْره لها.(253/50)
خلاصتها: أنه رجل تزوج والِده بزواج شغار، وأن هذا الرجل الذي تزوج بأخته قد توفي، فماذا يعمل مع والده؟ خصوصا، وأن له أبناء من هذه المرأة التي تزوجها بهذا الشكل فيقول: أفتونا مأجورين ؟ جزاكم الله خيرا .
ج: يقول: إن أباه تزوج نكاح الشغار؟ نعم يا شيخ وأخته ماذا يقصد بها؟ فلتعد السؤال .
س: يقول: تزوج بزواج شغار: وذلك أنه اتفق وشخص آخر أن كلا منهما يزوج الآخر بابنته، وقد حصل هذا الزواج، وكل منهما له من زوجته عدة أولاد، ولكن قدر الله أن الشخص الآخر الذي تزوج والدي بابنته قدر الله أن توفي تاركا وراءه أولادا من هذا الزواج، وما زال والدي متمسكا بزوجته.
والسؤال ماذا يجب على والدي الآن ؟ وهل يمكن تصحيح زواجه وكيف ذلك ؟ وهل يجب علي أن أبدأ به ؟ يعني والدي هل أنصحه من هذا الزواج، مع أني أعرف أنه قد لا يقبل مني، أو أبدأ بتعليمه أمور الدين، حيث إنه رجل جاهل يجهل كثيرا من الدين، بل حتى من أصول الدين ؟.
ج: الحمد لله رب العالمين، نكاح الشغار لا شك أنه منهي عنه، وبناء على القاعدة التي ذكرناها آنفا يكون باطلا غير صحيح ؛ لكن ما هو الشغار أو ما هو نكاح الشغار ؟.
أن يزوج الإنسان موليته على أن يزوجه الآخر موليته بدون مهر أو بمهر ينقص عن مهر المرأة عادة هذا نكاح الشغار.
أما لو زوج أحدهما الآخر بمهر، ورضيت كل من المرأتين، وكان كل من الرجلين كفئا للمرأة، فهذا ليس بشغار إلا على رأي بعض أهل العلم، فلينظر في النكاح الذي وقع بين أبيه وبين الرجل الآخر، إن كان هناك مهر كان ومهر الادعاء، وقد رضيت كل من المرأتين بزوجها فلا شغار، وإن كان الأمر بخلاف ذلك: بأن كان مهر كل واحدة هو العقد على الأخرى فالنكاح فاسد، ولا يصح، ولكن الأولاد الذين جاءوا هم أولاد شرعيون؛ وذلك لأن الذين تزوجوا على هذا الوجه يعتقدون صحته، لأن أكثر الناس عندهم جهل عظيم بهذه الأمور لا سيما في ما سبق من الزمان .(253/51)
أما بالنسبة لمن زوجته باقية معه الآن، فالطريق سهل جدا، فهو أن يعقد له عليها عقدا جديدا وبمهر ترتضيه المرأة، وينتهي الأمر، لكن احرص على معرفة ما ذكرناه أولا : هل بين الرجلين مهر لا ينقص عن العادة، وهل رضيت كل أنثى بمن تزوجها، وهل كان كل واحد منهما كفئا للمرأة التي تزوجها . نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ يقول: ما حكم وضع بعض الإعلانات في المسجد؟ كالإعلان عن حملة للحج أو للعمرة أو الإعلان عن وجود محاضرات أو دروس علم أو الإعلان مثلا عن وفاة أحد أقارب شخص من أهل المسجد أو أنه مريض، وأنه بالمستشفى حتى نزوره ؟.
ج: أما ما كان إعلانا عن طاعة فلا بأس به؛ لأن الطاعة مما يقرب إلى الله U والمساجد بنيت لطاعة الله سبحانه وتعالى، وأما ما كان لأمور الدنيا، فإنه لا يجوز، ولكن يعلن عنه على جدار المسجد من الخارج.
فالحملات حملات الحج مثلا ليس فيها شائبة أمر دنيوي، فلا نرى أن نعلن عنها في داخل، وحلق الذكر كدورات العلم خير محض، فلا بأس أن يعلن عنها في داخل المسجد؛ لأنها خير.
والإعلان عن الميت، فإن فلانا مات، أو إنه مريض من أجل أن يعاد ويصلى عليه، هو أيضا خير، فلا بأس به، لكن هذا مرفوض، وقوله فيه نعرة؛ لأن لا ينفتح الباب، ويصير كل إنسان عنده مريض يكتب إعلانا في المسجد فتبقى المساجد ملعبة للناس، فترك هذا أولى أما حلقات الذكر ودورات العلم فلا شك أن الإعلان عنها في مسجد لا بأس به ولا حرج فيه . نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ يقول: عندنا شخص وجد معلقا على مروحة، وقيل: إنه شنق نفسه، أي أنه منتحر، مع العلم أنه كان صاحب معاص وخمر، وقيل مات سكرانا، فهل يغسل، وهل يصلى عليه، وهل يدفن في مقابر المسلمين، وهل يعزى أهله، ويقام له عزاء وما مصيره ؟ إلى الجنة أو إلى النار ؟ .(253/52)
ج: هذا هو الآن لم يفعل به شيء أو قد انتهى ؟. انتهى يا شيخ انتهى. لأن هذه الأفعال وهو قتل نفسه، وشرب الخمر والزنا مثلا، وأكل الربا كل هذا لا نخرجه من الإسلام، لكنه صاحب معصية بلا شك، وإذا كانت هذه الأفعال لا تخرجه من الإسلام، فإنه يجب أن يغسل، ويكفن، ويصلى عليه، ويدفن مع المسلمين، إلا أنه يجب أن نعلم أن من قتل نفسه بشيء، فإنه يعذب به في نار جهنم خالدا مخلدا فيها، والعياذ بالله كما قال كما قال الله تعالى فيمن قتل مؤمنا متعمدا : { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } نعم شيخ. وهذا الرجل العاصي عندما مات بهذه المعاصي العظيمة، ولكن لم تصل إلى الكفر يدعى له بالمغفرة والرحمة؛ لأنه مؤمن، بل لأنه مسلم . نعم .
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ : ماذا يبنى على البيع الباطل بالنسبة للبائع والمشتري ؟.
ج: نعم البيع الباطل بالنسبة للبائع والمشتري ينبني عليه أنه يجب على المشتري أن يرد السلعة إلى البائع، ويجب على البائع أن يرد الثمن إلى المشتري إن كان قد قبض، ودليل ذلك " أن النبي r أتي إليه بتمر جيد، فسأل عنه فقالوا: كنا نأكل الصاع من هذا بالصاعين يعني من التمر الرديء والصاعين بالثلاثة ، فقال r ردوه " فأمر برده . وهذا نتيجة القول بالبطلان؛ لأن لو قلنا يثبت وبقيت السلعة في يد المشتري والثمن في يد البائع لم يكن في قولنا: إنه باطل معنى ولا ثمنا، بل لا بد من إعادته نعم. لم فرض أنه تعذرت الإعادة لطول المدة وتصرف كل منهما في ما آل إليه، فحينئذ قد يقال: إنه يعفى عنه أو يقال: إنه يرد مثله بالنسبة للمشتري يرد مثله للبائع، والبائع يرد القيمة للمشتري، وهو القيمة التي وقع العقد عليها في ما سبق نعم.
س: يقول فضيلة الشيخ : امرأة متزوجة من رجل يعمل ببنك ربوي، وليس لها نفقة إلا من مال زوجها، فهل يجوز الأكل والشرب من طعامها؟.(253/53)
من طعام من؟ من طعام هذه المرأة ؟ صيغة السؤال:
ج: هو يقول: امرأة امرأة تحث زوجها في عمل ربوي؟.
تعمل في بنك ربوي يا شيخ.
إي نعم لا بأس؛ هذه القاعدة أو هذا السؤال ينبني على قاعدة مهمة أن ما حرم لكسبه فهو حرام على الكاسب وحده، فإذا انتقل إلى غيره بوجه شرعي فلا إثم عليه، فعلى هذا إذا كان الزوج ممن يتعامل بالربا أو كان في بنك ربوي، وأنفق على زوجته فلا حرج عليها أن تأكل بقدر حاجتها؛ وذلك لأنها تأكل من مال الزوج بحق، والمال التي تأخذه ليس محرما بعينه كالخمر مثلا، فلا حرج، فلا حرج عليها، ودليل ذلك أن النبي r أكل من طعام اليهود، واليهود ممن عرفوا بأكل السحت وأكل الربا، ولم يسألهم هل كان دخلكم الحرام أكثر أو أقل أو أنه لم يغلب عليه الحرام، فدل ذلك على أن الأمر واضح، والقاعدة التي ذكرناها أن ما حرم لكسبه فهو حرام على الكاسب لا على من انتقل إليه بحق، فمن انتقل إليه بحق كمعاورة بنفقة أو بيع أو ما أشبه ذلك فلا بأس . نعم.
س: يا شيخ أحسن الله إليك، يظهر من سؤاله أنه يقصد هل يجوز له هو أن يأكل من طعامها هي؟.
يأكل من طعام من؟.
يعني هو هل يجوز له أن يأكل من طعام هذه المرأة؟.
يعني رجل ثالث يعني شخص ثالث؟.
السائل يا شيخ.
شخص ثالث يريد أن يأخذ من هذه المرأة
يأكل من طعامها نعم، هذا يظهر من السؤال كدا يا شيخ .
طعام المرأة ما لها دخل في الموضوع
أنا أعيد لك السؤال : يا شيخ يقول: امرأة متزوجة من رجل يعمل ببنك ربوي، وليس لها نفقة إلا من مال زوجها فهل يجوز الأكل والشرب من طعامها ؟.
أعد السؤال مرة ثانية. يقول: امرأة متزوجة من رجل يعمل ببنك ربوي، وليس لها نفقة إلا من مال زوجها فهل يجوز الأكل والشرب من طعامها؟.
ج: إي نعم لا بأس لا بأس أن يأكل من طعامها؛ لأنها كما قلت آنفا تأكل من مال زوجها بحق، وما أخذ بحق فلا بأس أن يؤكل منه. نعم.(253/54)
س: أحسن الله إليك يا شيخ يقول: تزوجت بزوجة ثانية، فاشترطت الأولى أن أعطيها من الذهب مثل الجديدة، فهل يجب علي إعطاء الأولى من الذهب مثل الزوجة الجديدة ؟.
ج: لا يجب عليه إذا تزوج الإنسان امرأة جديدة، وأعطاها ذهبا من أجل النكاح، فإنه لا يجب عليه أن يعطي الأولى؛ لأن الواجب هو العدل في الإنفاق، ومعلوم أن الجديدة تختلف عن القديمة في إعطائها الذهب. نعم. لو فرض أنه بعد أن استقر المهر، ورضيت به الجديدة أعطاها شيئا زائدا عن المهر، فهنا يجب عليه أن يستأذن من الأولى، أو يعطيها مثل ما أعطى الثانية. نعم.
س: وهذا يقول: يا شيخ : ذهبت إلى صراف لصرف عشرة ريالات ورقية فأخذت من الصراف تسع ريالات حديد فهل هذا العمل جائز ؟ .
ج: هذا العمل جائز؛ ولذلك لاختلاف الصنفين، وقد قال النبي -عليه الصلاة والسلام- " إذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد " فما دام قد اختلف الصنفان فما دام الصنفان قد اختلفا فلا حرج . نعم. ولكن يشترط التقابض قبل التفرق. نعم.
س: يقول: يا شيخ هل يجوز دفع زكاة ؟ هل يجوز هل يجوز دفع كفارة الإيمان للمنظمات الخيرية مالا .
ج: المنظمات الخيرية إذا كانت وكيلة عن الفقراء فلا بأس أن يصرف إليها الشيء مالا؛ فهي تتصرف فيه على ما تراه، ولكن خير من ذلك أن يدفع إليها مالا فيوكلها بشراء الطعام، ثم توزيع ثم توزيعه على المستحق.
مثال ذلك: إنسان عليه كفارة يمين إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، لكنه لا يستطيع تحرير رقبة، فأراد أن يطعم أو يكسو، فأعطى الجمعية دراهم فأخبر وأخبرها بأن عليه كفارة يمين، وأنها وكيلته في شرائها ودفعها للمستحق فلا بأس في ذلك. نعم.
س: وهذا يقول: يا شيخ إذا نهى ولي الأمر عن الصيد بنوع من أنواع الطيور المطلق، فهل لي أن أصطاد، وأخالف ولي الأمر في هذا الأمر .(253/55)
ج: يقول: الله U { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } فإذا أمر ولي الأمر بشيء وليس معصية وجبت طاعته، وإذا نهى عن شيء وليس فيه معصية، فإنه يجب، فإذا نهى عن شيء، وليس فيه ذلك معصية وجب الكف عنه، وهذه هي الفائدة من ذلك إذ لو لم نقل بذلك لأصبح الناس فوضى، ولكن لو أن الإنسان صاد في هذه الحالة، فهل نقول: إن الصيد حرام كما لو صاد المسلم صيدا فإن صيده حرام؛ لأنه منهي عنه أو نقول: إن الصيد أي صيد من خالف ولي الأمر حلال.
· الجواب على الثاني يعني أن صيده حلال، لكنه مسيء لمخالفة ولي الأمر، فأظن أن هذا آخر سؤال .
كيفية توجيه الدليل الشرعي
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
قال الناظم-حفظه الله تعالى، ورفع درجته في المهديين-:
وكل ما رُتب فيه فضلُ
وكل فعل للنبي جُردا
وإن يكن مبينا لأمر
وقدم الأعلى لدى التزاحم
وادفع خفيف الضررين بالأخف
وإن يجتمع معْ مبيحٍ ما منع
وكل حكم فلعلةٍ تَبِع
وألغ كل سابق لسببه
من غير أمرٍ فهو ندبٌ يجلو
عن أمره فغير واجب بدا
فالحكم فيه حكم ذاك الأمر
في صالحٍ والعكس في المظالم
وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف
فقدمَن تغليبا الذي منع
إن وجدت يوجد وإلا يمتنع
لا شرطه فادرِ الفروق وانتبه
ابدأ يا شيخ. ابدأ الله يحفظك.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد: فهذا هو الدرس الرابع في الدورة العلمية التي تقام بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية بمدينة الرياض، في إجازة عام ستة عشر - سبعة عشر وأربعمائة وألف، وهذا هو يوم السبت الخامس من شهر ربيع الأول، عام سبعة عشر وأربعمائة وألف.(253/56)
قبل الدرس نأخذ مناقشة في الدرس الماضي، أظن مبتدأنا قوله: ما نهي عنه من التعبد، نعم يا شيخ أي نعم. يقول الناظم:
وما نهي عنه من التعبد
أو غيره أفسده لا تردد
س: فما هو تعليل هذه القاعدة، بل ما هو دليلها، ثم ما هو تعريفها؟ يعني أن كل ما نهى عنه الشرع كله فإنه فاسد غير صحيح فما هو الدليل؟ أحد الطلبة يجيب على ذلك.
ج: الدليل قول النبي r ما كان من شرطٍ ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط.
س: أحسنت. هذا باعتبار المعاملات، باعتبار العبادات، فيه دليل خاص بالعبادات؟.
ج: حديث الرسول r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
س: هذا الدليل، ونسمي هذا الدليل، الدليل العقلي، ما هو الدليل النظري الذي هو التعليل على أن كل ما نهى عنه الشرع فإنه يجب أن يبطل، وأن يوصف بأنه فاسد باطل؟.
ج: لأنه لو فعله يكون قد ضاد حكم الله سبحانه وتعالى؛ لأننا لو صححناه وأمضيناه لكان في ذلك مضادة لحكم الله سبحانه وتعالى، وهذا ينافي كمال التعبد، بارك الله فيك.
س: قسم العلماء رحمهم الله النهيَ إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما يعود إلى العبادة نفسها، أو المعاملة نفسها.
والثاني: ما يعود إلى شرطها.
والثالث: ما يعود إلى أمر خارج.
فنريد أمثلة لهذا كله وهو ستة أمثلة؟
ج: المثال الأول: ما نهيَ فيه عن العبادة نفسها. ما نهي عنه ذاته مثل الصلاة في الحمامات، والصوم يوم العيد، و كذلك الصلاة بعد صلاة الفجر وصلاة العصر. أحسنت. نريد مثالا آخر ما عاد النهي إلى شرطه، لشرطه من شروط الصلاة ستر العورة، فإذا لبس الإنسان الحرير أو ما حرمه الشارع فإنه غير مستتر يعتبر فألغى الشرط ، فإنه يفسد العبادة. نعم. نعم. ما عاد إلى أمر خارج كالعمة وهي العمامة إذا كانت محرمة كالحرير كذلك، فإنه لا يبطل الصلاة؛ لأنها ليست من شروط الصلاة؛ لأنها ليست للوجوب هذا في العبادات.(253/57)
في المعاملات: ما عاد النهي فيه على نفس العقد، كبيع الحمل في البطن، للذات نفسها؟ أي على نفس العقد، { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } الربا يعني، يعني آثم؟ نعم. كذلك النهي عن البيع يوم الجمعة بعد النداء الثاني ممن تلزمه. ما عاد إلى شرط مثل: بيع الحمل في البطن .أحسنت، وكحديث أبي هريرة " أن النبي r نهى عن بيع الغرر " وما نهي عنه لأمر خارج. تلقي الجلب. أحسنت، كتلقي الجلب للشراء منهم، فإنه إذا اشترى، كان آثما ولكنْ البيع لا يفسد. بارك الله فيك.
هل الأصل في الأشياء العبادات والمعاملات والأعيان والمنافع، الأصل فيها الحِل أو التحريم؟.
س: الأصل فيها الحل. كلها؟ عدا العبادات، ما عدا العبادات تمام. لو تعامل رجلان معاملة، فادعى أحدهما أنها هذه من المعاملات المحرمة، والثاني قال: من المعاملات الحلال. فمن نقبل قوله؟
ج: نقبل القائل بالحل.القائل بالحل حتى يقوم دليل على التحريم. طيب، لو تعبد إنسان بعبادة لله U لو تعبد بعبادة لله فأنكر عليه بعض الناس فقال: إنها عبادة لله أنا أتعبد لله بها، فبمن نأخذ؟ عليه إثبات أنها عبادة. يعني نأخذ بقول من قال: إنها ممنوعة حتى يقوم دليل على أنها مشروعة. هل لديك دليل على القاعدة الثانية: أن الأصل في العبادات المنع حتى يقوم دليل على الشرع.
س: العبادات توقيفية. ما هو الدليل؟
ج: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
أحسنت. في رواية: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "
س: طيب. تنازع رجلان في طائر وجداه فاصطاداه، فقال أحدهما: هو حلال، وقال الثاني: هو حرام، فمن الذي يطالب بالدليل؟
ج: الذي يقول: إنها حرام.
الدليل ما هو الدليل على هذا؟
لأن الأصل التحليل. أي. صدقت، قوله تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } فهذا دليل على أن الأصل في كل ما في الأرض أنه لنا حلال.(253/58)
س: طيب اختلف العلماء في الأمر والنهي هل الأصل في الأمر الوجوب، أو الأصل في النهي التحريم؟ أو الأصل في الأمر الاستحباب وفي النهي الكراهة. ما دليل القائلين بأن الأصل في الأمر الوجوب؟
ج: الأصل في الأمر الوجوب.
س: ما هو الدليل؟
ج: حديث الرسول r " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " .
س: ما يصلح؟ ما يصلح فقد يقول: فأتوا منه ما استطعتم على سبيل الاستحباب. { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } حذر الله على المخالفين عن أمر الرسول r وهذا يدل على أن الأصل في الأمر الوجوب.
س: بعضهم يقول: الأصل في الأمر الاستحباب حتى يقوم دليل على الوجوب. فما وجهة نظره؟
ج: أن الأصل عدم التكليف، الأصل عدم التأثيم بالترك، فالأمر فيه يقتضي رجحانه وعدم التأثيم بالترك يقتضي أنه ليس بواجب. وبعض العلماء فصل قال: أما ما كان من الآداب فالأمر فيه للاستحباب، وما كان من العبادات فالأمر فيه للوجوب، وكذلك يقال في المفروض والمحرم، ما كان من الآداب فالنهي فيه للكراهة، وما كان من الأعمال التعبدية فالأصل فيه التحريم.
هذا ما لم يدل دليل على خلاف ذلك.
طيب إذا شككنا في الشيء هل هو حلال أو حرام نرجع إلى الأصل. يقول في النظم: فنرجع إلى الأصل في غير العبادات، ونقول: الأصل فيه الحل، ونرجع إلى الأصل في العبادات، ونقول: الأصل فيه التحريم، حتى يقوم دليل على أنه مشروع.
نبدأ الدرس الجديد: قال الناظم:
وكل ما رتب فيه الفضل
من غير أمرٍ فهو ندب يجلو(253/59)
يجلو يعني: يظهر، كل أمر رتب فيه النبي r أو رتب عليه النبي r الفضل ولم يأمر به فهو مندوب، وليس بواجب؛ لأنه ليس فيه أمر بفعل ولا نهي عن تركه، فيكون للاستحباب لرجحانه بأمر النبي r فيه، نعم لرجحانه بترتيب الفضل عليه، مثال ذلك السواك، السواك قال فيه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " هذا الحديث بمجرده يدل على أن السواك سُنة، وليس بواجب، لأن ترتيب الفضل عليه يدل على اختياره وعدم العقوبة على تركه، يدل على أنه ليس بواجب، ثم نقول: هذا الحديث يدل على استحباب السواك دائما، خصوصا مع حاجة الفم إليه للتطهير والتنظيف، وهو كذلك فالسواك مسنون كل وقت إلا في بعض الحالات التي قد يشغل الإنسان عما هو أهم. كما لو أراد أن يستاك حال خطبة الجمعة، فإن الأفضل عدم السواك؛ لأنه يشغله عن سماع الخطبة إلا إذا كان أخذته سِنة أي: نعاس، وأراد أن يتسوك من أجل أن يطرد السِنة عنه، هذا لا بأس به.
ومن ذلك أيضا مما ورد فيه الفضل دون الأمر: صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان فقد ثبت عن النبي r " أن من صام رمضان، ثم أتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر " ولم يأمر النبي r بذلك فيكون هذا دليلا على أن صيام ستة أيام من شوال بعد إكمال رمضان مستحب وليس بواجب، ومن ذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر. المهم أن ما رتب فيه الشرع الفضل، دون أن يأمر به فهو مندوب، وليس بواجب، هذه القاعدة، ثم قال الناظم :
وكل فعل للنبي جُردا
عن أمره فغير واجب بدا
أي ظهر، كل فعل: مبتدأ. وجرد: صفة جملة فعلية صفة لكلمة فعل. فغير واجب بدا: جملة فعلية، خبر المبتدأ، واقترن بالفاء؛ لأن المبتدأَ يشبه الشرط في العموم. وهذه قاعدة مهمة جدا: أن ما فعله النبي r ولم يأمر به، فليس بواجب، وقد عبر العلماء عن هذه القاعدة بقولهم: الفعل المجرد لا يدل على الوجوب.(253/60)
وهذه قاعدة نافعة. لو استدل إنسان على وجوب شيء بفعل النبي r قلنا: لا دلالة في الفعل المجرد على الوجوب. ولذلك أمثلة منها: أن النبي r " كان إذا دخل بيتَه فأولُ شيءٍ يبدأ به السواك " فهذا فعل لم يأمر به النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فلا يكون واجبا، يعني لا نقول لكل من دخل بيته: يجب عليك أن تبدأ بالسواك؛ لأنه فعل مجرد، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، ومن ذلك أيضا إجازة النبي r عبدَ الله بنَ عباس حين وقف عن يساره في صلاة الليل مؤتما به فأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم-برأسه من ورائه فأداره عن يمينه، فإن هذا فعل مجرد، ولم يرد عن النبي r أنه أمر من صلى على يسار الإمام أن يعود إلى يمين، فيكون الوقوف على يمين الإمام إذا كان المأموم واحدا سنة، وليس بواجب؛ لأنه لم يكن فيه إلا مجرد فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- والفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
لكنَّ بعض العلماء اختار أن موقف المأموم الواحد عن يمين الإمام واجب، ليس اعتمادا على مجرد إدارة النبي r عبد الله بن عباس، إلى يمينه، ولكن لأنه فعل حصل به حركة في الصلاة، والأصل في الحركة في الصلاة، الأصل أنها مكروهة، وأنه ينبغي الخشوع في الصلاة. وهذا الفعل الذي فعله الرسول -عليه الصلاة والسلام- حصل به حركة من النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وحركة من عبد الله بن عباس، وهذا يدل على الوجوب، أي وجوب قيام المأموم الواحد عن يمين الإمام، وأنه لا يقف عن يساره.(253/61)
والمسألة فيها خلاف معروف، ولا شك أن الاحتياط ألا يقف المأموم الواحد عن يسار الإمام، بل يكون عن يمينه، ولكن إذا كانوا اثنين فأكثر مع الإمام، ولم يكن المكان واسعا لتقدم الإمام عليهما ففي هذه الحال يكون الإمام بينهما أحد المأمومين عن يمينه، والثاني عن يساره لا أنهما كلاهما عن يمينه؛ لأن هذا كان هو المشروع في الثلاثة أن يكون الإمام بينهم، ثم نُسخ هذا إلى أن يكون الإمام أمامهم، فإذا تعذر هذا الذي آل الحكم إليه بالنفي رُجع إلى الأصل الذي يكون فيه الإمام بين المأمومَين، لكن هذا عند الحاجة كما أسلفت.
قال الناظم:
وإن يكن مبينا لأمر
فالحكم فيه حكم ذاك الأمر
يعني إن كان فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مبينا لأمرٍ صدر من عند الله أو من عند النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان ذلك الفعل حكمه حكم ذاك الأمر: إن كان الأمر واجبا فالفعل واجب، وإن كان الأمر سُنةً فالفعل سنة، لأنه بيان للأمر.
ثم قال الناظم:
وقدم الأعلى لدى التزاحم
في صالحٍ والعكس في المظالم
هذه أيضا من القواعد الهامة أنه إذا تزاحمت العبادات أو غيرها فإنه يقدم الأعلى في المصالح، والأدنى في المظالم، وفي هذا قال العلماء رحمهم الله: إذا تزاحمت مصلحتان قُدمَ أعلاهما؛ لأنها أولى بالعناية. ومن ذلك، يعني ولهذا أمثلة:
تعارض الأحكام الشرعية:(253/62)
المثال الأول: في المصالح إذا تعارض واجب ومندوب، فإننا نقدم الواجب؛ لأنه أولى بالعناية، وإذا تزاحم مندوب أعلى من مندوب، فإننا نقدم الأعلى. مثال ذلك في الواجب: إنسان ضاق عليه وقت الفريضة، فأراد أن يصلي قبلها نافلة مع ضيق وقت الفريضة، فإننا نقول: قدم الفريضة؛ لأنها أعلى. ومثال آخر: رجل علية صلاة فائتة، ولم يذكرها إلا وقد ضاق وقت الحاضرة عن فعلهما، يعني لا يستطيع أن يأتي بهما جميعا، فإنه يقدم الحاضرة. مثال ذلك: رجل ذكر قبل طلوع الشمس بمقدار صلاة الفجر فقط، ذكر أنه صلى العشاء على غير طهارة. فهنا صارت عليه فريضتان، العشاء والفجر لكن صلاة العشاء قضاءً، لأنه كان خارج وقتها، وصلاة الفجر أداءً لأنه بوقتها فهنا نقول: قدم صلاة الفجر؛ لأنها تقع أداءً، وأما صلاة العشاء فهي قضاء على كل حال، سواء أديتها قبل طلوع الشمس أو بعد طلوع الشمس.
يقول: والعكس في المظالم. يعني إذا تزاحمت المظالم، يعني المفاسد، فإنه يقدم أدناها وأخفها، مثال ذلك: قول الله تبارك وتعالى: { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108) }
هنا تعارضت مفسدتان: المفسدة الأولى ترك سب آلهة المشركين، والمفسدة الثانية سب الإله U . ومعلوم أن سب الإله U أعظم من ترك سب آلهة المشركين وأشد مفسدة، ولذلك نهى الله تعالى عن سب آلهة المشركين إذا كان سبها يستلزم سب المشركين للإله رب العالمين. إذا كان سبها يستلزم سب المشركين لرب العالمين { وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } أي: أصنامهم { فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } يعني أنكم إذا سببتم آلهتهم فسوف يسبون إلهكم.(253/63)
فهاتان قاعدتان: القاعدة الأولى؛ إذا تزاحمت العبادات قدم أعلاها. الثانية إذا تزاحمت المحرمات قدم أدناها. ويمكن أن نمثل لهذه القاعدة بمثال آخر، وهو ما ذُكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- أنه مر بقوم من التتار كانوا يشربون الخمر، ولم ينههم عن شرب الخمر، وكان معه صاحب له فقال له أي: لشيخ الإسلام ابن تيمية: لماذا لم تنههم؟!.
قال: لأنهم لو تركوا شرب الخمر، لذهبوا يهتكون أعراض المسلمين، ويغصبون أموالهم، وهذا ظلم متعدٍ، وهو أعظم من الظلم القاصر الحاصل بشرب الخمر. وهذا لا شك أنه من فقه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث قدم أخف المفسدتين على أعلاهما.
العمل بأخف الضررين:
ثم قال الناظم:
وادفع خفيف الضررين بالأخف
وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف
هذه القاعدة، تشبه أن تكون تكميلا للقاعدة الأولى. يعني أنه إذا اجتمع ضرران، فإنه يدفع أشد الضررين بأخفهما. ولذلك أمثلة: منها ما حصل من الخضر حين ركب هو وموسى - عليه الصلاة والسلام - السفينة، فخرقها الخضر، ولا شك أن خرق السفينة ضرر، لكن الخضِر أراد أن تسلم السفينة من ملك يأخذ السفن الصالحة التي ليس بها عيب؛ فخرقها ضررٌ، ولكنَّ أخذها أشد ضررا منه. والسفينة إذا بقيت وفيها ضرر فهو أهون { فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ } وهذه قاعدة مهمة ينبغي للإنسان أن يعتني بها.
ومثال آخر: لو أن أحدا صال على نفسك فإنك تدافع عنها لا شك، لكن هل تلجأ إلى القتل مباشرة، أو تدافعه بالأسهل فالأسهل، معلوم أنك تدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يندفع إلا بالقتل فلك أن تقتله؛ لأنه صائل ليس له حرمة، لكن دافعه بالأسهل فالأسهل، قال أهل العلم: إلا إذا خفت أن يبادرك بالقتل لو دافعته بالأسهل فالأسهل فهنا لك أن تقتله لكن لا تستعجل حتى ترى منه قرائن قوية، تدل على أنه سيبادرك بالقتل إن لم تقتله.(253/64)
ومن ذلك أيضا ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- فيما لو تعطلت مصالح الوقف فباع بعضه، لإصلاح باقيه على وجهٍ يمكن الانتفاع به، فإن هذا جائز أيضا؛ لأن المحافظة على باقيه خيرٌ من تعرضه كله للتلف وعدم الفائدة منه.
قال: "وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف"، يعني إذا اجتمع شيئان أحدهما أفضل من الآخر فخذ بالعالي في الفضل ولا تخف؛ لأن العالي في الفضل فيه زيادة على ما دونه وزيادة الفضل أمر مطلوب.
ويمكن أن نمثل لذلك برجلٍ خاف خروج وقت الظهر، وكان لم يصلِّ الراتبة، راتبة الظهر التي بعدها، فأراد أن يتطوع بنفلٍ مطلق، لكنه يقول: إن تطوعتُ بالنفل المطلق خرج الوقت عن صلاة الراتبة، فهل أقدم صلاة الراتبة، أو النفل المطلق؟ نقول: قدم صلاة الراتبة؛ لأن صلاة الراتبة نفلٌ مقيد تابع للمكتوبات فهو أفضل من النفل المطلق.
وكذلك لو تعارض و(3) عيني وواجب كفائي، فإنك تقدم الواجب العيني على فرض الكفاية؛ لأنه أعلى منه، والناظم يقول: "وخذ بعالي الفاضِلَينِ لا تخف".
ثم قال الناظم:
وإن يجتمع معْ مبيحٍ ما منع
فقدمَن تغليبا الذي منع(253/65)
يعني إذا اجتمع موجب المنع مع موجب الإباحة، فأيهما نقدم؟ نقول: قدم موجب المنع؛ لأنه لا يتأتى اجتناب الممنوع إلا بترك المباح، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وهذه قاعدة دل عليها القرآن قال الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأربعة : الخمر والميسر والأنصاب والأزلام. وعلل اجتناب الخمر والميسر في آية أخرى بأن فيهما إثما كبيرا ومنافع للناس، فقال U { * يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } فلما غلب جانب التحريم صار الحكم هو التحريم.
ومثل ذلك لو اشتبه شاة مذكاة بشاة غير مذكاة، فإنه يجب اجتناب الجميع؛ لأنه لا يمكن اجتناب الشاة غير المذكاة إلا باجتناب الشاة المذكاة، فيغلب جانب المنع. يقول:
إن يجتمع معْ مبيحٍ ما منع
فقدمَن تغليبا الذي منع
ومن ذلك ما ذكره بعض الفقهاء -رحمهم الله- أن الإنسان لو لبس خفيه وهو مقيم، ومسح عليهما، ثم سافر، فإنه يتم مسح مقيم، لا مسح مسافر؛ لأنه حين سافر اجتمع في حقه مبيح وحاظر، يعني بعد تمام مدة مسح المقيم سوف يجتمع في حقه مبيح وحاظر، مبيح يبيح له الاستمرار حتى يتم له ثلاثة أيام بلياليها، وهو السفر، وحاظر وهو الإقامة التي لا يباح له فيها إلا مسح يوم وليلة، قالوا فيغلب جانب الحظر. وهو أن يتم مسح مقيم، وهذه المسألة فيها خلاف: فمنهم من يرى ذلك أي أنه إذا مسح على خفيه في الحضر، ثم سافر قبل تمام المدة، فإنه يتم مسح مقيم.
ومن العلماء من يقول: يتم مسح مسافر اعتبارا بالنهاية. والمسألة فيها خلاف في مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
يقول:
إن يجتمع مع مبيح ما منع
فقدمن تغليبا الذي منع(253/66)
وفي قول الناظم: "تغليبا" إشارة إلى أن هذا الحكم من باب التغليب. والتغليب: طريق شرعي دلت عليه الأدلة الشرعية.
إن يجتمع مع مبيح ما منع
فقدمن تغليبا الذي منع
الحكم يدور مع علته:
قال الناظم:
وكل حكم فلعلة تبِع
إنْ وجدت يوجد وإلا يمتنع
هذه أيضا من القواعد المهمة المفيدة، أن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما. وهذه قاعدة دلَّ عليها الدليل السمعي، دليلها قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- " إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون الثالث؛ من أجل أن ذلك يُحزنه " .
فهنا حكم النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بتحريم التناجي بين اثنين ومعهما ثالث لا يشاركهما في التناجي، علل ذلك بأنه يحزنه. فنستفيد من هذه العلة أنه لو كان لا يحزنه، بل عذرهما بالتناجي بينهما، فإن ذلك لا نهي فيه، وكذلك يفهم منه أنه لو كان يحزن بغير المناجاة إذا كان الاثنان يتكلمان بلغة لا يفهمها ويحزنه ذلك، فإنهما منهيان عن التخاطب بهذه اللغة. كما لو كان ثلاثة اثنان منهما يجيدان اللغة الإنجليزية والثالث لا يجيدها، فجعل الاثنان يتناجيان باللغة الإنجليزية فهذا لا شك أنه يحزنه في الغالب، فنقول: لا يحل لهما أن يتناجيا باللغة الإنجليزية مع ثالث لا يعرفها لما في ذلك من إحزانه وكسر قلبه.
ومن ذلك أيضا أن النبي r حرم الخمر فقال: " كل مسكر خمر " فعلل التحريم، أو علل ثبوت الخمر بكونه مسكرا، فدل هذا على أن كل ما أسكر فهو خمر؛ سواء كان من عصير العنب أو من الشعير أو من التمر أو من الزبيب أو من غيرها، فإنه إذا وجد فيه الإسكار صار خمرا حراما. لماذا؟ لأن الحكم يتبع العلة؛ إن وجدت يوجد وإلا يمتنع.
قال الناظم:
وألغ كل سابق لسببه
مع شرطه فادر الفروق وانتبه
الأسباب والشروط في الأحكام الشرعية:(253/67)
الأشياء لها أسباب ولها شروط، فتقديمها على أسبابها لائق، وتقديمها على شروطها ليس بلائق. ولذلك أمثلة كثيرة منها اليمين، إذا حلف الإنسان ألا يدخل بيت فلان فرأى من المصلحة دخوله، وأراد أن يدخله، فلا حرج. لكن لو قدم الكفارة على دخول البيت لكان ذلك جائزا؛ لأن سبب الكفارة موجود وهو اليمين، لكنَّ شرط وجود الكفارة وهو الحنث لم يوجد، فإن أخر الكفارة حتى دخل البيت فهذا يكون قد أدى العبادة بعد وجود سببها وشرطها ولا إشكال.
ولو أراد أن يكفر قبل أن يحلف فإن ذلك لا يجزئه؛ لأنه تقديم للشيء قبل وجود سببه. ومن ذلك أيضا لو أن الإنسان أحرم بحج أو عمرة، فخاف أن يحتاج إلى حلق رأسه لأذىً فيه، ثم قدم الفدية قبل وجود الأذى، فإن ذلك لا يجزئه؛ لأنه لم يوجد سبب الوجوب. ولو أنه وجد الأذى، وقدم الفدية قبل حلق الرأس، جاز لوجود السبب، وإن كان لم يوجد الشرط، وإن فدى بعد أن حلق رأسه، فهذا قد حصل أو قد أدى العبادة، بعد وجود السبب والشرط.
ولها أمثلة كثيرة في العبادات والمعاملات، ونظرا لانتهاء وقت الإلقاء نقتصر على هذه القاعدة، ونسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص في العمل، والثبات على الصلاح، وإلى الدرس القادم إن شاء الله تعالى في يوم الاثنين.
أما الآن فإلى الأسئلة، ونرجح أن تكون الأسئلة في صميم الموضوع.
س: نعم: أحسن الله إليك يا شيخ، هذا يقول: حفظك الله أشكل عليَّ في فهم قولك:
وإن يقع في الحكم شك فارجعِ
للأصل في النوعين ثم اتبع
مع قول النبي r " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه؟ "(253/68)
ج: يعني معناه إذا أي معنى قولنا: إن يقع في الأصل شك، أننا إذا شككنا في هذا الشيء هل هو حلال أو حرام، فإن كان من العبادات وجب استثناؤه، يعني شككنا هل هذه عبادة مشروعة أو لا، فيجب علينا أن نتجنبها، وإن طابت نفوسنا بها، وركنت إليها نفوسنا؛ لأن الأصل في العبادات الحظر، أما الثاني وهو أنه إذا اشتبه الأمر هل هذا حلال، أو هذا حرام فإننا نأخذ بالأصل. في المعاملات مثلا: شككنا هل هذا حلال أو حرام فإننا نأخذ بالحل، شككنا في هذا الحيوان هل هو من الحلال أو الحرام، نأخذ بالحل، لكن إذا وجد الشبهات، الشبهات بمعنى أن نشتبه بالحكم.
أما قضيتنا فالحكم معلوم، أنه يرجع للأصل في الأمور؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، كقوله تبارك وتعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } أصل عظيم يقتضي أن جميع ما في الأرض حل لنا. فإذا اشتبهنا هل هذا مما حرمه الله أو لا؟ رجعنا للأصل وهو الحل، إلا أن يوجد راء يرجح أنه من المحرمات فحينئذ يكون من المشتبهات ونقول:إن من التقوى ترك المشتبهات.
س: نعم، وهذا يقول: حفظك الله يا شيخ، يقول: نريد مثالا على إذا ما تعارض مندوب مع مندوب؟.
ج: ذكرنا هذا فيما إذا تعارض نفل مطلق مع الراتبة، إنسان مثلا بقي على دخول وقت العصر مقدار ركعتين فقط، وهو لم يصلِّ راتبة الظهر، فهنا لو قال: هل أقوم وأتنفل نفلا مطلقا أو أصلي الراتبة؟ قلنا: صلِّ الراتبة؛ لأن الرواتب أفضل من النفل المطلق، وكذلك أيضا لو تعارض طلب علم مع قيام ليل فإن طلب العلم أفضل، إذا لم يمكن طلب العلم في وقت آخر.
س: نعم، وهذا يقول: فضيلة الشيخ، إذا كان الفعل المجرد لا يدل على الوجوب فعلى ماذا يدل؟.(253/69)
ج: الفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لكنْ أفعال الرسول -عليه الصلاة والسلام- أقسام: الأول؛ ما كان بمقتضى الجِبلة والطبيعة، فهذا لا حكم له مثل الأكل والشرب والنوم، فكون الإنسان ينام هذا أمر طبيعي، كون الإنسان يأكل هذا أمر طبيعي؛ ولهذا نقول: إن هذا لا حكم له، لكن قد يكون هذا الشيء على صفةٍ معينة، مندوبا كالنوم على الجنب الأيمن مثلا، فإن هذا مندوب، وكالأكل في السحر من أجل الصوم، فهذا مندوب، وكالأكل عند الحاجة إليه، فهذا مندوب، فإن خاف الضرر بعدم الأكل فهو واجب، وإن خاف الضرر بالأكل فهو محرم، ولو كان الأصل فيه الإباحة، ولهذا قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: إن الأطعمة المباحة، إذا خاف الإنسان منها الضرر صارت حراما.
ويمكن أن نضرب مثلا بذلك برجلٍ مصاب بمرض السكري فقال له الأطباء: إن أكلك الحلو يضر بك، فهنا نقول لهذا الرجل: إن أكلك الحلو حرام عليك، لأنه يؤدي إلى الضرر، والله تعالى إنما حرم الأشياء على عباده من أجل الضرر بها، إما في الأصل أو في الدين، أو في الجسم أو في العرض أو في المال. نعم، هذا واحد.(253/70)
الثاني: ما فعله النبي r على سبيل العادة؛ فهذا يكون الأصل فيه العادة، أي أن يفعل الإنسان ما اعتاده الناس، من ذلك لبس العمامة، لبس الإزار والرداء؛ كان النبي r يعتم، وكان يلبس الإزار والرداء، لكنه يفعل ذلك على سبيل العادة، يعني الناس يعتادون ذلك في عهده. فهذا حكمه أن يتبع الإنسان فيه عادة بلده، ما لم تكن محرمة؛ وذلك لأن الإنسان لو لبس خلاف العادة لكان لباسه ذلك شهرة، ولباس الشهرة منهي عنه، إلا إذا كانت العادة من المحرم فهو حرام، فلو اعتاد الناس مثلا أن يلبسوا ثيابا يجرونها، أو ينزلونها إلى أسفل من الكعبين فإن هذه العادة محرمة، ولا يجوز للإنسان أن يتابع الناس فيها، وكذلك لو اعتاد الناس أن يلبس الرجال ثياب الحرير، فإن هذه العادة محرمة، ولا يجوز للإنسان أن يتابع الناس فيها، أما ما اعتاده الناس، وهو من الأمور المباحة، فإن السنة أن يتبع الإنسان فيه العادة، فمثلا لباس الرسول -عليه الصلاة والسلام- العمامة والإزار والرداء مكفول على سبيل العادة، فلا يكون مطلوبا بعينه، وإنما يكون مطلوبا بجنسه، والمطلوب هو موافقة ما اعتاده الناس.
الثالث: ما فعله بيانا لمجمل، كالصلاة مثلا فإن الله تعالى قال: { أَقِيمُوا الصَّلَاةَ } وهذا أمر مجمل لا يتبين كيف الإقامة إلا بقول النبي r أو فعله، أو بالقرآن الكريم إن كان. فصلاة النبي r أو فجميع ما فعله الرسول - عليه الصلاة والسلام - في صلاته فإنه من إقامة الصلاة المأمور بها.
فما فعله النبي r بيانا لمجمل، فله حكم ذلك المجمل، إن كان واجبا فواجب، وإن كان سُنةً فسنة ما لم يدل دليل على أن ذلك للسنة وليس للوجوب.
س: نعم، وهذا يقول: فضيلة الشيخ، هناك قاعدة فقهية تقول: إن الصلاة الحاضرة تبطل بذكر الفائتة " فهل هذه القاعدة صحيحة؟.(253/71)
ج: لا ليست هذه القاعدة صحيحة. بل في ذلك تفصيل الصلاة الحاضرة إذا ضاق وقتها فهي مقدمة على الصلاة المقضية، كما ذكرنا في المثال عند شرح النظم. وأما إذا كانت الحاضرة قد اتسع وقتها، ثم ذكر الفائتة بعد أن شرع في الحاضرة، فهذا موضع نظر. فمن الناس من يقول أي من العلماء من يقول: إنه يقطع الحاضرة، ويقضي الفائتة، ومنهم من يقول: إنه لا يقطعها؛ لأنه شرع فيها على وجهٍ مأذونٍ فيه، فلا يخرج منها حتى يؤديها. فتبين بهذا أن هذه القاعدة ليست على وجه الإطلاق. وعلى وجه التفصيل فيها خلاف.
س: نعم، وهذا يقول فضيلة الشيخ، وقف تعطلت منفعته، فهل يجوز إدخاله في مسجد مجاور له؟.
ج: نعم، إذا تعطلت منافع الوقف، كبيت انهدم، وأراد الناظر أن يدخله في مسجد فلا بأس؛ لأن المسجد من أفضل الأعمال المقربة إلى الله U لكن إن كان الوقف على أناسٍ مخصوصين كالوقف على الذرية، فإنه لا يدخله في المسجد إلا بأخذ عوضٍ عنه يُشترى به بدله، أي يشترى به وقف بدل الوقف الأول؛ لأن الوقف على الخاص من حق الخاص، وليس من حق الخاص الحاضر أيضا، بل هو حق له ولمن يأتي بعده، فالوقف على الذرية لو تعطل المنافع وقال الذرية: موافقون نحن نأذن بإدخاله في المسجد قلنا: لا إذن لكم؛ لأنكم لم تملكوه، الوقف لكم ولمن بعدكم، فلا يدخل المسجد إلا بعوض، للموقوف عليهم؛ لأنهم معذورون.(253/72)
أما إذا كان وقفا على الفقراء أو كان وقفا فيه أضحية أو ما أشبه ذلك، وليس وقفا على أناس معينين، فإنه لا بأس أن يدخل المسجد؛ لأن المسجد من أفضل الأعمال. وبهذه المناسبة أنصح إخواننا الذين لديهم أملاك يريدون أن يوقفوها أن يوقفوها على جهات عامة. مثلا يوقفوها على جماعة تحفيظ القرآن أي على الحلق التي توجد في المساجد أو على المساجد المهم على جهة عامة؛ لأن ذلك أقرب إلى حصول المقصود وأبعد عن التنازع الذي يقع بين مستحق الوقف، كما هو مشاهد فإن من الأقارب من جرى بينهم التقاطع من أجل أوقاف كانت بينهم، وكان موقفوها لم يريدوا إلا الخير، لكن نظرا لغلبة الشُح وقلة الوازع الديني صار الأقارب يتنازعون، ويتعادون ويتباغضون من أجل لعاعة من العيش يأخذونها من وراء هذا الوقف.
س: نعم، وهذا يقول: فضيلة الشيخ، كتب وضعت وقفا في مكتبة مسجد من المساجد، ثم جاء أمر من المسئولين بإخراج هذه الكتب فما هو العمل؟.
ج: العمل، أن تجعل في مساجد أخرى ليس فيها مانع. فإن كان المنع عاما في جميع المساجد، فتجعل في المكاتب الخيرية التي يرتادها طلبة العلم، ويحصل بذلك المقصود، فإن تعذر ذلك أيضا، فإنها تباع وتجعل في كتب مأذونٍ فيها.
س: نعم، وهذا يقول: ما الحكم في من استمنى بعد التحلل الأول وقبل التحلل الثاني؟.(253/73)
ج: الجواب على وجهين: الوجه الأول؛ حكم الاستمناء، فالاستمناء محرم لقول الله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) } ولقول النبي r " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء " فأرشد النبي r الشاب الذي له شهوة ولم يجد الباءة أن يصوم، ولم يذكر له الاستمناء، ومن المعلوم أن الصوم أشق من الاستمناء، وأن الاستمناء يحصل به من التمتع والتلذذ ما لا يحصل بالصوم، ولم يرشد النبي r إليه، مع سهولته والنبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لا يعدل عن شيءٍ مباح فيه اليسر على المُكلف، إلى شيءٍ أشق منه أبدا، فلولا أن الاستمناء حرام ما عدل النبي r عنه إلى الصوم.
أما الوجه الثاني: فنقول: إن الإنسان إذا تحلل التحلل الأول، حلَّ له كل شيءٍ إلا النساء. وعلى هذا قال العلماء -رحمهم الله- بل قال بعض العلماء -رحمهم الله-: إن كل ما يتعلق بالنساء من عقد نكاحٍ أو تلذذٍ أو قبلةٍ أو ما أشبه ذلك فهو داخل في التحريم، ثم إن العلماء يقولون -رحمهم الله-: كل ما كان حراما من مباشرة دون الفرج فإن فيه فدية وهي: إما صيام ثلاثة أيام، أو إطعام ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، أو نصف شاة يفرقها على الفقراء في مكة، أو في المكان الذي فعل فيه المحظور.
س: نعم، وهذه تقول ما حكم استقدام خادمة بدون محرمٍ لامرأةٍ ناشطةٍ في الدعوة إلى الله، وحصل هذا من كثير من بنات جنسها، ولها دروس وتدريس للقرآن، علما بأنها في منطقةٍ يقل فيها الداعيات للخير، ولا تستطيع استقدام هذه الخادمة مع محرمها فما هو العمل، وفقكم الله؟.(253/74)
ج: الذي أرى أنه لا يجوز استقدام خادمة بلا محرم، لعموم النهي " لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم " ولحصول المفاسد التي نسمعها إذا لم يكن مع المرأة محرم، ولا سيما في من عنده شباب غير متزوجين، فإن الأمر خطير جدا، ولكن من الممكن أن تحضر محرمها، وأن تجعله يعمل بنفسه مدة إقامته هنا ويحصل المقصود.
س: نعم، هذا آخر سؤال؛ لأنه انتهى الوقت، هذا الآتي يا شيخ، هذا يقول: لي أخت تضع العباءة على الكتف، وتلبس البنطلون، وقد نصحتها، ولكنها لم تنتصح، وأنا أوصلها بعض الأسواق وبيوت الأقارب؛ وذلك لأن أمي تطلب مني ذلك، فهل لي أن أعصي أمي؟.
ج: نعم، الواجب أن تديم النصيحة، وأن تحذرها من ذلك، أي من لبس البنطلون، لأن البنطلون من خصائص الرجال، وإذا فتح الباب للنساء فإنهن سوف يتوسعن في ذلك، ويحصل بذلك من المفاسد ما لا يعلمه إلا الله.
وإذا دعتك أن تذهب بها إلى السوق، فقل لها: ليس عندي بأس إذا كان هناك حاجة، ولكن اخرجي على وجه ليس فيه فتنة، اخرجي بالثياب العادية دون أن تلبسي ما لا يليق بالمرأة.
نسأل الله للجميع الهداية والتوفيق، نعم، أحسن الله إليك يا شيخ.
الأمور الشرعية لا تتم إلا بتوافر أسبابها وشرطها
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد قال الناظم، حفظه الله تعالى ورفع درجته في المهديين:
والشيء لا يتم إلا أن تتم
والظن في العبادة المعتبر
لكن إذا تبين الظن خطأ
كرجلٍ صلى قبيل الوقت
والشك بعد الفعل لا يؤثر
أو تكُ وهما مثل وسواس فدع
ثم حديث النفس معفو فلا
شروطه ومانع منه عُدم
ونفس الأمر في العقود اعتبروا
فأبرئ الذمة صحح الخطأ
فليعد الصلاة بعد الوقت
وهكذا إذا الشكوك تكثر
لكل وسواس يجي به لكع
حكم له ما لم يؤثر عملا
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.(253/75)
أما بعد: فهذا هو الدرس الخامس الذي يتم بالدورة العلمية التي أقيمت بمسجد ابن تيمية -رحمه الله-، في مدينة الرياض، في حي سلطانة، والذي يتم في يوم السبت والاثنين والأربعاء، وهذا هو يوم الاثنين السابع من شهر ربيع الأول عام سبعة عشر وأربعمائة وألف، ولكننا نبدأ بمناقشة الطلبة قبل أن نشرع في الشرح:
س: سبق لنا قاعدة: وهي أن الأصل في الأمر والنهي الحتمية، أي أن الأصل في الأمر الوجوب، والأصل في النهي التحريم، إلا إذا دل دليل على أن الأمر للندب، أو أن النهي للكراهة أو لغير ذلك من القرائن، وبينا خلاف العلماء في ذلك، وهذا لا مناقشة فيه؛ لأنه في الدرس قبل الماضي، لكن ذكرنا في الدرس الماضي أن ما ورد فيه الفضل بدون أمر فهو مندوب، وليس بواجب إذا لم يكن فيه إلا مجرد ترتيب الفضل، فنطلب من أحد التلاميذ أن يضرب لنا مثلا، أو مثلين: نعم، من يجيب؟ مثل السواك، وصيام ستة أيام من شوال. ما هو الفضل الذي رُتب في السواك؟
ج: قول الرسول r " السواك مطهرة للفم مرضاة للرب " نعم.
وصيام، ثلاثة أيام من كل شهر،الصيام من كل شهر أخبر الرسول r " من صام رمضان وأتبعه بست من… " لا ،ثلاثة أيام من كل شهر الوصية لأبي هريرة، حينما قال له: ثلاث أوصاني خليلي بها، ذكر منها صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
المثال المحرر، هو أن الرسول r قال: " صيام ثلاثة أيام من كل شهر صيام الدهر كله " .
س: طيب إذا ورد عن الرسول - عليه الصلاة والسلام - فعل مجرد عن الأمر، فهل يكون للوجوب أو يكون للاستحباب، وقد فعله على سبيل التعبد؟.
ج: يكون على وجه الاستحباب.على وجه الاستحباب. أتستطيع أن تضرب لنا مثلا بذلك، كان r إذا دخل بيته أول ما يبدأ به السواك. نعم. وعلى هذا فيسن للإنسان إذا دخل بيته، أن يبدأ بالسواك ولا يجب.بارك الله فيك. نريد مثالا آخر؟ أوصى النبي r بصوم ستة أيام من شهر شوال.(253/76)
س: نريد مثالا آخر وقع فيه الفعل المجرد من رسول الله r دون النهي أو الأمر؟
ج: عندما قام من الليل وحول ابن عباس عن يساره إلى يمينه. نعم، بدون نهي عن الوقوف عن يساره،يكون هذا الفعل؟ يكون سنة. هذا الفعل أيش؟ للندب. نعم.
س: يقول الناظم:
كل حكم فلعلةٍ تَبِع
إن وجدت يوجد وإلا يمتنع
نريد دليلا على ذلك يعني أمثلة على ذلك؟.
ج: يا شيخ مثلا إذا كانوا ثلاثة يتناجون يعني إذا كان اثنان يتناجيان دون الآخر، الثالث، فإذا لم يوجد هذا الشخص الثالث زال الحكم.
المثال صحيح وتوجيه المثال غير صحيح، إذا كان يوجد يعني ثلاثة فقط نهى الرسول نعم نهى الرسول r أن يتناجى اثنان دون الثالث، من أجل أن ذلك يحزنه. يحزن الثالث بناءً على ذلك إذا كان لا يحزنه سقط الحكم، فلا نهي.
ومثله أيضا الإسكار هو علة التحريم للخمر، فمتى وجد الإسكار حرم، ومتى لم يوجد لم يحرم.
س: نعم، طيب نريد مثالا للقاعدة في دفع أشد الضررين بأخفهما؟.
ج: مثل، يا شيخ مدافعة الصائل. أي نعم، بالأسهل فالأسهل، يعني إذا اندفع بالضرب الخفيف، لا يُضرب ثقيلا وإذا اندفع بالوعيد لا يضرب. كذا؟ أي نعم.
س: مثال آخر؟
ج: القرآن، في قصة الخضر مع موسى عليه السلام. نعم.
س: كيف هي؟
ج: أنه خرق السفينة، فلو بقيت صالحة لأخذها الملك الظالم. بارك الله فيك، لأن خرق السفينة ضرر. لكنه فعله لدرء ضرر أشد منه.
س: واضح؟ طيب، هل يجوز تقديم الشيء على سببه؟
ج: لا يجوز. لا يجوز، طيب.
س: هل يجوز تقديمه على شرطه؟ نعم.
ج: مثال الأول: حلف لا يدخل بيت صديق له، ثم كفر قبل أن يحلف، فلا يجزئه. نعم.
أما قبل شرطه حلف، ثم قبل أن يدخل، كفر. الكفارة هذه يعني بعد وجود السبب وقبل وجود الشرط.
س: طيب، مثال آخر؟(253/77)
ج: مثل يا شيخ، الذي يوجد في رأسه أذى في الحج، نعم فإنه لا يفعل الفدية إلا إذا وجد الأذى. نعم، أحسنت. يعني لو كان متوقعا أنه يكون فيه أذى ففدى، فلا يجزئ حتى يتيقن من الأذى. فإذا تيقن الأذى جاز أن يفدي وإن لم يحدث. ومثل ذلك لو أن إنسانا يعرف أن فيه أذى، ولكنه قدم الفدية على الإحرام، يعني قبل أن يحرم فدى، فإنه لا يجوز تقديمها هنا لعدم وجود السبب المانع من حلق الرأس، وهو الإحرام، واضح.
هذا المثال الأخير لم نذكره فيما سبق، لكنه ينطبق على القاعدة.
إذا تعارض فعل وتر ونفل مطلق، كأن لم يبقَ على الفجر سوى جزءٍ يسير لا يمكن أن يصلي فيه نافلة ووترا، فأيهما يقدم، الوتر أو النفل المطلق؟
ج: يقدم الوتر يا شيخ.
س: لماذا؟
ج: لأنها أوجب يا شيخ.
أعلى، أعلى مرتبة من النفل المطلق، القاعدة التي تشير إلى هذا؟
ج: أنه إذا وجد فاضلان يُقدم الأفضل منهما الأعلى، لفظ القاعدة:
وقدم الأعلى لدى التزاحم
في صالحٍ والعكس في المظالمِ
ولهذا فإني أختار: أننا نطالب الإخوة بحفظ المنظومة.
س: شيخ والجوائز عليك، الجوائز علينا؟
ج: إي جوائز المسابقة عليكم، على كل حال، حفظها مهم. إن وضعنا جوائز فهي علينا، يا شيخ إن شاء الله تعمل جوائز وتسلمها أنت إذا حضرت إن شاء الله .
طيب نبدأ الآن الدرس الجديد: القاعدة يقول:
والشيء لا يتم إلا أن تتم
شروطه ومانع منه عُدم
كلمة الشيء تعني: كل شيء في العبادات وفي المعاملات، في الأحكام الشرعية في الأحكام الجزائية، لا تتم الأمور حتى توجد أسبابها وشروطها، وتنتفي موانعها، وهذه القاعدة قاعدة مهمة مفيدة تنحل فيها إشكالات كثيرة، كما سيتبين إن شاء الله في التمثيل، وهذه القاعدة معلومة من التتبع، بل من النصوص أيضا. قال الله تبارك وتعالى: { فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) }(253/78)
هذا وجود الشرط { وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110) } وهذا انتفاء المانع. مثال ذلك في العبادات: أنه لو فعل عبادة مع فقد أحد شروطها فإن هذا... كرجلٍ صلى بغير وضوء ناسيا، ثم تبين له بعد ذلك أنه صلى بغير وضوء، فصلاته لا تصح، لماذا؟ لفوات شرط وهو الوضوء لقول النبي r " لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث، حتى يتوضأ " .
ومثال وجود المانع، مع تمام الشروط أن يصلي الإنسان في وقت النهي صلاة لا تباح فيه، كالنفل المطلق؛ رجل جالس في المسجد يقرأ بعد صلاة العصر، ثم طرأ عليه أن يتطوع بالصلاة، فقام يصلي فهذه الصلاة لا تصح، لوجود مانع من قبولها، وهو أنها كانت في وقت النهي.
مثال ذلك في المعاملات: رجل باع بيعا بثمن مجهول فالبيع غير صحيح، لانتفاء شرط من شروطه، وهو أن يكون الثمن معلوما، وقد دلَّ على هذا الشرط قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بل قول أبي هريرة t نهى النبي r عن بيع الغرر.
ومثال البيع الذي تمت شروطه مع وجود المانع، لو باع إنسان شيئا بعد نداء الجمعة الثاني، وهو ممن تجب عليه الجمعة، وباعه بيعا تام الشروط، فإنه ذاك البيع؛ وذلك لوجود المانع من صحته، وهو وقوعه بعد نداء الجمعة الثاني، ممن تجب عليه الجمعة لقول الله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) }(253/79)
هذه أربعة أمثلة اثنان في العبادات، واثنان في المعاملات، أما في الأحكام الجزائية، فهناك نصوص في الوعيد عامة، تدل على وعيدٍ لا يحصل إلا للكافر: مثل قول الله -تبارك وتعالى- في قتل العمد: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) } فالقتل عمدا سبب لثبوت الخلود في النار، لكنْ هذا السبب، له مانع من نفوذه وهو الإيمان، فإن الإيمان -وإن قلَّ- يمنع من الخلود في النار، وكذلك قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- " لا يدخل الجنة نمام " فنفي دخول الجنة هنا عام أن النمام لا يدخل الجنة فإذا لم يدخل الجنة فليس له مآل إلا النار، ولكن نقول: هذا الحكم، أو هذا السبب من دخول النار وانتفاء دخول الحنة له مانع وهو الإيمان.
وقِسْ على هذا، يعني الأشياء لا تتم، إلا بموجب شروطها، وانتفاء موانعها، ولك أن تمثل أيضا بالولد يرث أباه؛ فإنه إذا مات إنسان عن ولد، ذكرٍ أو أنثى كان هذا الولد وارثا له. لقوله تعالى: { يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ } لكن لو كان الولد مخالفا لأبيه في الدين، فإنه لا يرثه، لوجود المانع وهو المخالفة في الدين، وقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قال: " لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر " .
هذه القاعدة قاعدة مهمة، أن الشيءَ لا يتم إلا إذا تمت شروطه، وانتفت موانعه.
مثال آخر: امرأة تزوجت بدون وليّ، النكاح غير صحيح؛ لأن من شرط صحة النكاح أن يكون بوليّ، ولو تزوجت زواجا بولي، قد تمت فيه الشروط لكنها في العدة، فإن النكاح لا يصح لوجود المانع.
اعتبار الظن في العبادة:
ثم قال الناظم:
والظن في العبادة المعتبر
ونفس الأمر في العقود اعتبروا(253/80)
هذه القاعدة بل هاتان القاعدتان عبر عنهما العلماء بقولهم: العبرة في العبادات بما في ظن المكلف، والعبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.
وجه ذلك أن العبادات حق لله تعالى، فاكتفي فيها بالظن، لأنه هو المستطاع. وأما المعاملات فهي حق للآدمي فلا بد من موافقة التصرف لما في نفس الأمر.
مثال ذلك في العبادات: رجل صلى فلما كان في التشهد الأخير، شك هل صلى ثلاثا أم أربعا ، وغلب على ظنه أنه أربعا. فنقول: اكتفِ بهذا الظن واجعلها أربعا، واسجد سجدتين بعد السلام.
مثال ثان: رجل يطوف بالبيت، فشك هل طاف ستا أم سبعا، وغلب على ظنه أنها سبعة أشواط، فليجعلها سبعة؛ لأن هذا هو الظن والعبادات مبناها على الظن، ويدل لهذا، الحديث الذي رواه عبدُ الله بن مسعود أن النبي r قال: " إذا شك أحدكم فليتحرَّ الصواب ثم ليبنِ عليه " .
مثال آخر: صائم ظن غروب الشمس فأفطر، ثم تبين بعد ذلك أن الشمس لم تغرب فصومه صحيح، لكن عليه إمساك حين أن يعلم أن النهار باق حتى تغرب الشمس حقيقة، ودليل صحة ذلك ما رواه البخاري عن أسماء بنت أبي بكر-رضي الله عنهما- قالت: " أفطرنا يعني في عهد النبي r في يوم غيم ثم طلعت الشمس.. " .
ودليل صحة ذلك ما رواه البخاري، عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: " أفطرنا في عهد النبي r في يوم غيم، ثم طلعت الشمس " ولم يأمرهم النبي r بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمرهم به، ولو أمرهم به لنقل إلينا؛ لأنه إذا أمرهم به صار من شريعة الله، وشريعة الله محفوظة.
ومثال ذلك: رجل أعطى زكاته لشخص يظن أنه من أهل الزكاة، تبين أنه ليس من أهل الزكاة، فزكاته مقبولة، ومبرئة للذمة؛ لأنه بنى على غالب ظنه.(253/81)
ويدل لهذا قصة الرجل الذي تحدث عنه الرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: " لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد سارق، فأصبح الناس يتحدثون: تُصُدِّق الليلة على سارق، فقال: الحمد لله على سارق. لأتصدقن الليلة، فخرج بصدقته فوضعها في يد بغي -أي زانية-، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على زانية، فقال: الحمد لله على زانية. لأتصدقن الليلة، فتصدق فوقعت صدقته في يد غني، فأصبح الناس يتحدثون: تصدق الليلة على غني، فقال: الحمد لله على سارق وزانية وغني. فقيل له: إن صدقتك قد قبلت، أما السارق فلعله يستعف ويستغني بما أعطيته عن السرقة، وأما الزانية فلعلها تستعف عن زناها، وأما الغني فلعله يعتبر فيتصدق " .
فهذا الرجل وقعت الصدقة في غير ما يريد، لكنه ظن أنه الذي يريده، وهو أنه فقير عفيف ورِع، فوقعت الصدقة في غير هؤلاء، لكنه قيل له: إنها قد قبلت؛ لأن هذا كان الذي أداه إليه اجتهاده.
أما في المعاملات فالعبرة بما في نفس الأمر + للمكلف، وإن كان يحرم على المكلف أن يتصرف فيما لا يظن أن له حق التصرف فيه.
مثَّل العلماء لذلك: برجل باع سيارة لزيد، وهذا البائع هو وارث لزيد، لكنه لم يعلم بموته إلا بعد أن باع السيارة، وكان قد مات قبل بيعها، قال العلماء -رحمهم الله-: البيع هنا صحيح؛ لأن العبرة في المعاملات بما في نفس الأمر.
ومثل ذلك: رجل باع مالا لشخص، وكان صاحب المال قد وكله في البيع، لكنه لم يعلم بالوكالة حتى باع، فهنا نقول: إن البيع صحيح؛ لأنه وقع ممن يقوم مقام المالك وهو الوكيل، وإن كان حين البيع لم يعلم بالوكالة، ثم قال الناظم مستدركا على ما مضى:
لكن إذا تبين الظـ ن خطا
فابرئ الذمة صحح الخطا
إذا تبينت المعاملات التي أتى فيها بما غلب على ظنه أنه أخطأ فإنه يجب عليه إبراء الذمة لتصحيح الخطأ، وهذا في العبادات، لكن لا يلزم منه أن يأتي إلا بما يمكن تلافيه وتداركه.(253/82)
مثال ذلك: رجل صلى يظن أنه على وضوء، ثم تبين بعد سلامه أنه ليس على وضوء، فهنا نقول: يجب عليك أن تتوضأ وتعيد الصلاة.
ومثال آخر: رجل صلى أربعا، غلب على ظنه أنه صلى أربعا، وبعد السلام تبين له أنه صلى ثلاثا، فيجب عليه في هذه الحال أن يتمم الأربع، فيأتي بركعة إن كان الوقت قصيرا، يأتي بركعة لتكون صلاته أربعا؛ لأنه علم أن صلاته وقعت خطأ.
مثال ثالث: رجل ظن أنه أخرج زكاة ماله، فلم يخرجها ظنا منه أنه قد أخرجها، فبنى على هذا الظن، ولم يحص ماله، ولم يؤد الزكاة، ثم تبين له بعد ذلك أنه لم يزكِ، فهنا يجب عليه أن يحصي ماله الزكوي، وأن يزكي؛ لأنه تبين أن ظنه الأول ليس بصحيح، فوجب أن يأتي بالفعل الصحيح.
إذن إذا تبين الخطأ في العبادات التي عمل فيها بغالب ظنه، فإنه يجب عليه أن يتلافى الخطأ، وأن يتداركه إذا كان مما يمكن تداركه، ثم ضرب الناظم مثالا نعتبره المثال الرابع قال:
كرجل صلى قُبيل الوقت
فليُعد الصلاة بعد الوقت
عبادة كل وقت لا بعد خروجه، رجل ظن أن الشمس قد زالت فصلى الظهر، ثم تبين أنها لم تزل، فيجب عليه أن يصلي، أي أن يعيد الصلاة بعد دخول وقت الظهر؛ لأنه -وإن كان بنى على ظنه أولا- فإنه قد تبين الخطأ، فيجب عليه أن يصحح الخطأ.
ومثال آخر: رجل ظن أن الشمس قد غربت فصلى المغرب، ثم تبين بعد ذلك أن الشمس لم تغرب، فهنا يجب عليه أن يعيد الصلاة إذا دخل وقت المغرب، أي إذا غابت الشمس.
فإن قال قائل: ما الفرق بين هذه الصورة وبين صورة الصائم إذا أفطر قبل أن تغيب الشمس، ثم تبين أن الشمس لم تغب، فإنه يجبر الصوم؟(253/83)
قلنا: الفرق أن الأكل في الصوم وجود مفطر+ فيعذر الإنسان فيه بالجهل، وأما الصلاة التي لم يتوضأ فيها فهو فقد واجب، وفقد الواجب لا بد فيه من أن يأتي بالواجب، وهذه يعبر عنها بعض العلماء أن المأمور لا يعذر فيه بالجهل، وأما المحظور فيعذر فيه بالجهل؛ لقول الله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فقال الله تعالى: " قد فعلت "
أثر الشك على العبادة:
ثم قال الناظم :
والشك بعد الفعل لا يؤثر
وهكذا إذا الشكوك تكثر
هذه قاعدة الشك التي ابتلي بها كثير من الناس اليوم، فهل الإنسان يعمل بالشك أو لا يعمل؟ في هذا تفصيل على ما ذكره الناظم.
الأول: إذا كان الشك بعد فراغ العبادة فلا يلتفت إليه، مثاله: رجل صلى، ثم بعد الفراغ من صلاته شك هل صلى ثلاثا أم أربعا؟ فنقول: لا تلتفت إلى هذا الشك؛ لأنه بعد الفراغ من العبادة، والشك بعد الفراغ من العبادة لا يؤثر إطلاقا؛ لأننا لو قلنا بتأثيره لانفتح على الناس من الوسواس ما لا يمكنهم دفعه.
هذه واحدة، ولأن الأصل وقوع العبادة وتمامها على الوجه المطلوب، ولذلك شكوا -الصحابة رضي الله عنهم- عن النبي r الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة -أي في نفس العبادة- دون أن ينصرف منها، ومع ذلك أمر الرسول أن لا يلتفت إليه؛ لأنه شك، والشك لا يرفع اليقين.
الموضع الثاني: مما لا يعتبر فيه الشك: إذا كانت الشكوك كثيرة، بمعنى أن الإنسان لا يعمل عملا إلا شك فيه، فإنه لا يؤثر ذلك الشك؛ لأن مثل هذا مرض، كونه لا يفعل وضوءا ولا صلاة ولا غيرهما إلا شك، هذا مرض في الواقع، رجل ليس عنده حزم ولا عزيمة؛ فلا يلتفت إليه.
الموضع الثالث: مما لا يعتبر فيه الشك: ما أشار إليه الناظم في قوله:
أو يك -يعني الشك- وهما مثل وسواس فدع
لكل وسواس يجي به لكع(253/84)
إذا كان الشك مجرد وهم لا حقيقة له فإنه لا يُرجع إليه؛ لأنه وسواس، والوسواس لا دواء له إلا الإعراض عنه والتلهي عنه؛ ولهذا قال الناظم:
.......... فدع
لكل وسواس يجي به لكع
يعني الشيطان، يعني دع الوساوس، فإن الذي يأتي بالوساوس هو الشيطان؛ من أجل أن يلبس على الإنسان دينه، ويقلق راحته، حتى يكون لا يفعل فعلا إلا توهم أنه ناقص.
ودواء هذا الأخير -بل والذي قبله- أن يستعيذ الإنسان بالله من الشيطان الرجيم، وأن يستمر في عبادته، ولا يلتفت إلى هذا الوسواس وهذه الشكوك.
فصار الشك لا يعتبر في ثلاثة مواضع:
الموضع الأول: إذا وقع بعد انتهاء العبادة.
والموضع الثاني: إذا كثرت الشكوك، والموضع الثالث: أن يكون وهما -وهو الطرف المرجوح من الاحتمالين- فإنه لا يرجع إليه؛ لأن هذا وسواس.
فإن كان الشك على غير هذه الثلاثة فإنه معتبر، وسبق قبله البيت أنه يكفي الظن في العبادات، ولا يكفي في المعاملات قال:
ثم حديث النفس معفو فلا
حكم له ما لم يؤثر عملا
هذا أيضا مما يتعلق بهذه القاعدة، حديث النفس معفو عنه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " .
ولا فرق في هذا بين العبادات والمعاملات، فلو حدَّث الإنسان نفسه بأمر خطير فيما يتعلق بالعبادة، فنقول: إن هذا الحديث معفو عنه، ولكن أعرِض عنه، استعذ بالله وأعرض عنه، ولا يهمنَّك.
كذلك أيضا لو أن الإنسان حدث نفسه أن يطلق زوجته ولم يطلقها، فإننا نقول: إن الله تجاوز عنك، فلا طلاق، فلا طلاق عليك، وهكذا جميع ما تحدث به النفس ليس له أثر ولا اعتبار، والدليل ما ذكرناه من قبل: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " .
ولنقف على هذا القدر؛ لأنه جاء دور الأسئلة، أسأل الله تعالى أن يجعله علما نافعا خالصا لوجهه، إنه على كل شيء قدير.
الآن نتلقى الأسئلة.(253/85)
س: طيب فضيلة الشيخ: هذا سائل يقول: حديث: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " يقول: قال بعض أهل العلم: إن فيه دليلا على أن الأصل في الأمر والنهي الإلزام بالوجوب والحظر، وأن غيرهما لا يدل إلا على الندب والكراهة. نرجو توجيهكم في ذلك؟
ج: قوله -عليه الصلاة والسلام-: " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " قوله: "فأتوا" هل هو على الندب أو على الوجوب؟ هذا محل الخلاف، يعني هل يجب علينا أن نأتي ما استطعنا أو يندب؛ لأن نفس الحديث يصح أن يكون مثالا لأمر، وأن الأمر هل يقتضي الوجوب أم لا؟ فليس فيه دلالة واضحة على أن الأصل في الأمر للوجوب، اللهم إلا أن يقال: إن قوله: "ما استطعتم" يدل على ذلك، فيجاب عن هذا بأنه حتى في النافلة نقول: صلِّ الرواتب ما استطعت كما ينبغي.
والحقيقة -كما سبق- أن هذا لا ينضبط انضباطا تطمئن إليه النفس، وأن أقرب ما يقال فيه: إن ما كان من العبادات فالأمر فيه للوجوب والنهي فيه للتحريم، وما كان من الآداب فالأمر فيه للاستحباب والنهي للكراهة، إلا إذا دل الدليل على أن الأمر للوجوب كالأمر بالتسمية عند الأكل، وكالأمر بالأكل باليمين، فإن هذا دل الدليل على الوجوب. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، كيف نجمع بين حديث: " كل أمتي معافى إلا المجاهرين " وبين حديث: " يأتي أناس يوم القيامة وأعمالهم مثل جبال تهامة.. " إلى آخر الحديث، وفي قوله إلى أن قال: " لأنهم خلوا بمحارم الله فانتهكوها " فكيف نجمع بين هذين الحديثين -أثابكم الله-؟(253/86)
ج: الحديث الأول: " كل أمتي معافى " يعني: معافى من ألسنة الناس والكلام فيه، لأنه استتر بستر الله U فستره الله، وإن كان الله تعالى قد يبدي معايبه -وإن كان متسترا- لما علم الله تعالى في قلبه من نوع من الاستخفاف بمعصية الله U أما الثاني: ففي الجزاء، والجزاء ثابت على المعاصي وإن كانت خفية، فالمعافاة في الحديث: " كل أمتي معافى " أي: من ألسن الناس والتعرض للفعل.
س: فضيلة الشيخ، هذا يقول: صاحب محل ساعات يقوم بمعاملة تجارية صورتها: يتقدم إليه من هو محتاج للمال بساعته التي تقدر قيمتها مثلا بخمسة عشر ألف ريال، فيقوم المحل برهنها وشرائها من صاحبها بأقل من سعرها بعقد بين المحل وصاحب الساعة، ويحق لصاحب الساعة أن يشتريها مرة أخرى بعد شهر بزيادة ألف ومائتين ريال عن سعر الشراء، وبعد شهرين بزيادة ألفين وأربعمائة ريال، وبعد ثلاثة أشهر بثلاثة آلاف وستمائة ريال، ومدة العقد ثلاثة أشهر، ثم تعرض الساعة بعدها في المحل للبيع، فما حكم هذه المعاملة؟
ج: هذه المعاملة -أولا- مخالفة لمقتضى العقد في الرهن؛ لأن مقتضى العقد في الرهن أن تبقى السلعة المرهونة رهنا عند صاحب الدين الذي له الدين، لا أن يشتريها، فإذا اشتراها فلا رهن.
ثانيا: إنه لو باعها ابتداء على صاحبها بالسلعة التي أخذها، وهي -أي السلعة- تساوي نصف ثمن الساعة، ثم لما قضى المشتري حاجته رجع واشترى الساعة من البائع بأكثر من الثمن، مؤجلة بأكثر من الثمن، بثمن مؤجل، فإن هذا عكس مسألة العِينة -الصورة-، لكنه في معنى العِينة حقيقة، إذ إن هذا كأنه أخذ قليلا بكثير مؤجل، وهذا هو حقيقة مسألة العينة.
فالعمل بهذا غير جائز، ولكن إذا كان الإنسان محتاجا، وعنده هذه الساعة التي تبلغ هذه القيمة، فليبعها بقيمتها على أي واحد، ويأخذ القيمة ويشتري حاجته، ثم إن بقي شيء اشترى ساعة تصلح لمثله؛ لأن مثله مادام في هذا العدم لا يصلح أن يحمل ساعة بألف وخمسمائة ريال. نعم.(253/87)
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، هل كل حديث يدور في النفس معفو عنه، وهل الظن من حديث النفس، وكيف نجمع -حفظكم الله- بين حديث النبي r " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " وبين قوله تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } ؟
ج: أولا: إن حديث النفس لا يشتمل على هم ولا على عزيمة، وإنما يحدث نفسه هل يفعل أو لا يفعل؟ لكن لم يهم، فهذا معفو عنه؛ لأن الشيطان دائما يلقي في قلب الإنسان ما يحدث به نفسه مما يعد طامة كبرى وردة عن الإسلام، ولو أنه أُخذ به الإنسان لكان في ذلك تكليف ما لا يطاق.
وأما الهم فإنه مرتبة فوق التحديث، يعني يحدث النفس ثم يهم ويعزم، هذا هو الذي يعاقب عليه ما لم يدع المحرم الذي هم به لله، فإن ترك المحرم الذي هم به لله فإن الله تعالى يكتبه حسنة كاملة؛ لأنه تركها -أي المعصية التي هم بها- خوفا من الله U وإخلاصا لله؛ فكتبت حسنة كاملة، فيجب الفرق بين الحديث وبين الهم.
وأما قوله تعالى في المسجد الحرام: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } فالمعنى من يهم به هما جازما مقرونا بالإلحاد، أي: همٌّ بمعصية واضحة بينة، فإن الله تعالى يذقه من عذاب أليم.
فيجب أن نعرف الفروق؛ لأن الله تعالى يقول، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } وسمى الله القرآن فرقانا؛ لأنه يفرق بين الأمور، بين الحق والباطل، وبين النافع والضار، وبين المؤمن والكافر، وبين حق الله وحق العباد، إلى غير ذلك مما تكون به الفروق. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، أورد ابن عبد البر في التمهيد قولا عن ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "لك أن تأكل من مال رجل اكتسبه من حرام ثم أهداه إليك، فهو حرام عليه وجائز لك". فهل هذا يكون مع علم الشخص المُهدى إليه هذا المال؟ نرجو الإجابة وجزاكم الله خيرا.(253/88)
ج: نعم، يكون مع علم الشخص المهدى إليه؛ لأن المال مكتسب من حرام، أما لو علم المهدى إليه أن هذا المال مال زيد المغصوب فهنا لا يحل له أن يقبله؛ لأن التحريم في أمر المال.
أما ما كان محرما بالكسب -مثل هدية آكل الربا وآكل القمار وما أشبه ذلك- فإنه لا بأس أن تقبلها، إلا إذا كان في ردها ردع له عن أكل الحرام، فلا بأس أن تردها، بل قد يجب أن تردها؛ لأن النبي r أكل من طعام اليهود مع أنهم آخذون للربا أكالون للسحت.
ثم إن هذا الآكل أكله بطريق مباح، يعني أنه وصل إليه عن طريق مباح وهو الدعوة، فالقاعدة -إذن- أن ما حرم لكسبه فإنه حرام على الكاسب دون غيره، وما حرم لعينه فهو حرام على كل أحد. نعم.
س: وهذا يقول: هناك قطاع عسكري في بلادي يخلو من المصلحين الذين يعلمون الناس أحكام دينهم، ولا يُسمح لأحد بالوظيفة في هذا المكان إلا أن يحلق لحيته، فهل أحلق لحيتي وأدعو إلى الله في هذا المكان، أم أتركهم بالكلية؟
ج: اتركهم بالكلية؛ لأن الله تعالى يقول: { * لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ } ويقول U { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ } ولا يمكن الدعوة إلى الله بالمعصية إطلاقا، وأنت إذا حلقت لحيتك وقعت في المعصية، وليس عليك هداهم، ثم إنه ربما تحلق اللحية بناء على ما تظنه من المصالح ولا تتحقق لك، فتأتي مفسدة محققة لمصلحة غير محققة. نعم.
س: وهذا يقول: أكلت لحم الإبل، وصليت العصر والمغرب على وضوئي قبل الأكل، ولم أعلم أنه لحم جزور إلا بعد صلاة المغرب، فماذا عليَّ؟
ج: عليك أن تقضي الصلوات التي صليتها بعد أكلك لحم الإبل ولم تتوضأ منه؛ لأنك صليت بغير طهارة، ومن صلى بغير طهارة وجب عليه أن يعيد صلاته، وهذا بخلاف من صلى وعليه نجاسة وهو لا يدري عنها، أو كان قد دري عنها ونسي أن يغسلها، فإن هذا لا تبطل صلاته.(253/89)
والدليل على ذلك أن النبي r أمر المسيء في صلاته أن يعيد الصلاة وقال: " ارجع فصل فإنك لم تصل " ؛ لأنه ترك فيها مأمورا -وهو الطمأنينة-، واستأنف النبي r الصلاة حين أتاه جبريل وأخبره أن في نعليه قذرا، بل استمر r في صلاته.
وهذا أصل في التفريق بين المأمور وبين المحظور، المحظور يعفى عنه بالجهل والنسيان، ولا يترتب عليه شيء من آثاره، وأما المأمور فيعفى عنه بالجهل والنسيان من حيث الإثم، ولكن يجب عليه تداركه في قضائه، أو قضاء بدله إذا لم يمكن قضاؤه، وإلى هنا ينتهي الوقت، ونسأل الله تعالى لنا التوفيق وللجميع.
الأمر المطلق يدل على الفور
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
قال الناظم -حفظه الله تعالى ورفع درجته-:
والأمر للفور فبادر الزمن
والأمر إن روعي فيه الفاعل
وإن يراع الفعل مع قطع النظر
والأمر بعد النهي للحل وفي
وافعل عبادة إذا تنوعت
لتفعل السنة في الوجهين
إلا إذا دل دليل فاسمعن
فذاك ذو عين وذاك الفاضل
عن فاعل فذو كفاية أثر
قول لرفع النهي خذ به تفي
وجوهها بكل ما قد وردت
وتحفظ الشرع بذي النوعين
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..
فهذا هو الدرس السادس من الدروس التي تقام بالدورة العلمية في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانه في الرياض، وهذا هو يوم الأربعاء التاسع لشهر ربيع الأول سنة سبعة عشر وأربعمائة وألف، وقبل أن نبدأ هذا الدرس نحب أن نستذكر ما سبق بالدرس الماضي؛ حتى يتم البناء عليه.
س: ذكرنا في النظم إن الشيء لا يتم إلا أن تتم شروطه وتنتفي موانعه. نريد مثالا لذلك في العبادات، فيما لم تتم شروطه. أحد الطلبة يجيب على ذلك؟
ج: المثال: من صلى وهو محدث.
س: من صلى وهو محدث؟
ج: فهو فاقد لشرط من الشروط.(253/90)
س: فإن صلاته لا تتم -يعني لا تصح- لفقد شرط من الشروط، وهو..؟
ج: الطهارة.
س: أرأيت لو كان ناسيا؟
ج: عليه الإعادة.
س: يعني ولو كان ناسيا؟
ج: نعم، ولو كان ناسيا.
س: طيب، ألا يرد على هذا ما ذكره العلماء -رحمهم الله- في من صلى في نجاسة ناسيا، فإن القول الراجح من أقوال العلماء ألا إعادة عليه؟
ج: لا يرد هذا.
س: لماذا؟
ج: لأن ذاك من أفعال التروك.
س: أي؟
ج: لا يشترط له هذا.
س: يعني ما الفرق بينه وبين من صلى محدثا ناسيا؟
ج: الفرق أن هذا أمر -يعني- أن من نسي ما أمر به فلا يعذر بالجهل.
س: يعني من نسي المأمور فإنه لا يعذر بالجهل بالنسيان طبعا. نعم، وعليه الإعادة؟
ج: نعم.
س: وهذا كالمثال الأول الذي صلى بغير وضوء، طيب الثاني لماذا لا تلزمه الإعادة إذا صلى وفي ثوبه نجاسة؟
ج: فإن هذا من المنهي عنه.
س: والمنهي عنه إذا فعل ناسيا؟
ج: يعذر بالجهل؟
س: فلا شيء عليه؟
ج: نعم؟
س: طيب نريد مثالا لما لا يصح لوجود المانع؟
ج: مثاله: من صلى في وقت النهي نفلا في وقت النهي.
س: نعم، من صلى نفلا لا سبب له في وقت النهي.
ج: نعم.
س: فالصلاة صحيحة من حيث الشروط تامة، لكن لا تصح لوجود مانع، وهو وقوعها في وقت النهي، نريد أن نمثل مثالا ثبت فيه السبب والشرط، ولكن وجد فيه المانع من غير العبادات؟
ج: مثاله: من باع بعد النداء الثاني في صلاة الجمعة وهو ممن تجب عليه.
س: أحسنت، من باع أو اشترى بعد نداء الجمعة الثاني، وهو ممن تجب عليه الجمعة، فالبيع غير صحيح لوجود المانع، وكذلك لو كان أحد الورثة قاتلا لمورثه، فإنه لا يرثه لوجود المانع -وهو القتل-، أو كان مخالفا له في الدين فإنه لا يرثه لوجود المخالفة في الدين، والقتل والمخالفة في الدين من موانع الإرث. هل المعتبر في فعل المكلف الظن أو ما في نفس الأمر، يعني هل المعتبر ما في ظن المكلف أو ما في نفس الأمر؟(253/91)
ج: فيه تفصيل: إذا كان في العبادة فالمعتبر هو الظن، وإذا كان في المعاملات -العقود- فالمعتبر نفس الأمر.
س: تمام، طيب، نريد مثالا على الأول؟
ج: مثال العبادة: الاجتهاد في القبلة للمسافر، إذا اجتهد وغلب على ظنه اتجاه القبلة فيصلي.
س: طيب، فإن تبين خطأ؟
ج: ليس عليه الإعادة.
س: لأن العبرة بما في ظن المكلف؟
ج: نعم.
س: في العقود؟
ج: لو تصرف في مال غيره مجتهدا فلا يصح تصرفه -ولو اجتهد-؛ لأن العبرة فيه بما في نفس الأمر.
س: طيب، لكن لو تبين أنه مالك لهذا الشيء، أو أنه وكيل فيه بعد التصرف، هل ينفذ أو لا؟
ج: ينفذ.
س: يعني مثلا: لو باع شيئا لمورثه وهو لا يدري أنه مات، ثم تبين أنه قد مات، فالتصرف صحيح؛ لأن العبرة بما في نفس الأمر؟
ج: نعم.
س: طيب، إذا صلى قبل الوقت ظانا دخول الوقت، ثم تبين أنه قبل الوقت، فما الحكم؟
ج: عليه إعادة الصلاة.
س: عليه الإعادة؟
ج: نعم.
س: لماذا؟
ج: لأنه لم يدخل وقت الصلاة.
س: لأنه؟
ج: لم يدخل وقتها.
س: أي نعم، لكن ما هو العبرة بالاعتداد+ بما في ظن المكلف؟
ج: لكنها تأتي+ على غير صحيح هنا.
س: يعني تبين خطأه فيجب عليه؟
ج: نعم.
س: ليصحح خطأه؟
ج: أي نعم.
س: وتكون الصلاة الأولى نفلا؟
ج: أي نعم.
س: طيب، والفرق بينها وبين مسألة القبلة التي جاءت في المثال الأول أن مسألة القبلة صلاها في الوقت، فقد صلاها في الوقت الذي أُمر به، أُمر أن يصلي فيه، وقد حصل واجتهد بخلاف هذا، فإنه صلاها قبل أن يطالب بها، واضح الفرق. ما هي المواضع التي لا يعتبر فيها الشك؟
ج: هناك ثلاثة مواضع: الأول: إذا حصل الشك بعد الفعل، والثاني: إذا كثرت الشكوك، والثالث: هو الوهم.
س: إذا كان الشك وهما كالوسواس كذا؟
ج: نعم.
س: طيب، مَثِّل الأول.
ج: الشك بعد الفراغ مثل أن بعد انتهاء الصلاة يشك هل صلاها -يعني- تامة بشروطها، وهكذا.
س: يعني: هل صلى ثلاثا أم أربع؟
ج: نعم.(253/92)
س: فماذا يفعل -يعني- إذا سلم الآن هنا شك بعد الصلاة، لا يعتبره، الشك يعني لا يعتبره شيئا، طيب المثال الثاني: إذا كثرت الشكوك؟
ج: متى تكثر شكوكه فيكون كالموسوس، فإنه لا يعتبر في شكه، يكون مريضا، لا يعتبر به.
س: كثير الشكوك ما هو موسوس، لكنه كلما صلى شك، كلما توضأ شك؟
ج: نعم.
س: هذا نقول لا عبرة بشكه؛ لأنه كثير الشكوك، أما الموسوس فهو الذي يكون عنده وهم ليس مبنيا على شك، مثلا في التشهد الأخير توهم أنه ناقص دون أن يكون هناك شك حكمي في القلب، هذا لا عبرة به. إذا رجل صار يحدث نفسه هل يطلق زوجته أو لا هل تطلق؟
ج: لا تطلق؛ لأن هذا وهم.
س: إنه يحدث نفسه ما بعد استقر على شيء؟
ج: حديث نفس هذا.
س: لا عبرة به؟
ج: لا عبرة به.
س: ما هو الدليل؟
ج: إن الله عفا عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم.
س: " إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم " طيب، لو أن هذا الرجل قارن مع تحديث النفس بوسواس، فقال: إذن أستريح، أطلِّق زوجتي وأستريح، هل يقع طلاقه؟
ج: السؤال يا شيخ، أعد.
س: السؤال: إنسان صار يحدث نفسه أطلِّق أو ما أطلِّق أو ما أطلق، فقال: إذن أستريح، أطلقها وأستريح، فطلقها، فهل يقع طلاقه؟
ج: إذا طلقها فقد تكلم، فقد طلق.
ما يفصل في هذا بين أن يقال: إن كان مريدا للطلاق طلقت، وإن كان من ضغط الوسواس عليه فإنها لا تطلق. نعم، وهل يفصل إذا كان هذا من الضغط -ضغط الوسواس عليه- وهو لا يريد الطلاق؟ لكن -كما قلنا- يريد أن يستريح، فهذا لا تطلق؛ لقول النبي r " لا طلاق في إغلاق " ؛ ولهذا ذكر كثير من العلماء أن طلاق الموسوس لا يقع بناء على هذا، وإلى هذه يشير الناظم في قوله:
ثم حديث النفس معفو فلا
حكم له ما لم يؤثر عملا
والآن نبدأ بدرس هذا اليوم، يقول الناظم:(253/93)
"والأمر للفور": الأمر للفور، والفور هو المبادرة بالشيء، يعني أن أمر الله ورسوله يجب أن يُفعل على الفور إن كان واجبا، ويستحب أن يفعل على الفور إذا كان مستحبا؛ وذلك لأن الواجب لا بد من فعله، والمستحب للإنسان أن يدعه.
وهذه المسألة -أعني: هل الأمر للفور أو للتراخي؟- أقول فيها: إنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما دل الدليل على أنه للفور، هذا لا إشكال فيه، يجب على الفور.
والثاني: ما دل الدليل على أنه ليس للفور، فهذا أيضا ليس للفور.
الثالث: الأمر المطلق يكون للفور أو لا يكون للفور؟ وهو موضع خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه يجب على الفور، واستدل لذلك، ومنهم من قال: إنه ليس على الفور؛ لأن المقصود هو الفعل، ولو كان للفور لبينه الله ورسوله.
والصحيح أن الأمر للفور ما لم يدل دليل على أنه لغير الفور، والدليل على أنه للفور من الأثر والنظر، أما من الأثر: فهي قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) } الأصل أنه إذا وجه الأمر للمكلف أن يقوم به فيبادر، فإن أخر فقد خالف عن الأمر، وهذا دليل قرآني.
أما الدليل من السنة: فهو أن النبي r حين أمر أصحابه بالتحلل يوم الحديبية -وأمرهم أن يحلقوا ويحلوا- تأخروا بعض الشيء رجاء أن يحدث نسخ، فغضب النبي r لذلك؛ ففي هذا دليل على أن الأمر للفور، وإلا لَما غضب -عليه الصلاة والسلام-.
أما الدليل النظري من كون الأمر للفور: فهو ما أشار إليه الناظم في قوله "فبادر الزمن"، الدليل النظري أن الإنسان لا يأمن أن يفجأه الموت، وكم من إنسان فجأه الموت وهو في أنعم ما يكون بالا، وأقوى ما يكون صحة، وأشد ما يكون سنا وعمرا، فهو لا يأمن أن يأتيه الموت، ولا يدري ماذا يعرض له مما دون الموت من العجز عن القيام بالأمر.(253/94)
ثانيا: إننا لو قلنا بأن الأمر للتراخي النفوس تميل إلى الكسل والتفريط -إلا من عصم الله-، فربما يكسل ويفرط، ويمضي عليه الوقت، وتتراكم عليه الأوامر؛ فيعجز عن القيام بها.
فعلى كل حال القول الصحيح في هذه المسألة: إن الأمر للفور، أي أنه نبادر بفعل ما أمر الله به ورسوله، إلا أن الناظم استثنى فقال:
...............
إلا إذا دل دليل معه فاسمعن
يعني إذا دل دليل على أن الأمر ليس للفور فليعمل بالدليل، مثاله: قضاء رمضان، إذا فات الصيام لسفر أو مرض، فقد قال الله تعالى: { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } هذه العدة لا يجب على الإنسان أن يبادر بقضائها، بل له أن يؤخرها حتى يبقى على رمضان الثاني مثلُ ما عليه من الأيام، فإذا قُدِّر أن عليه عشرة أيام فله أن يؤخرها إلى يوم العشرين من شعبان من السنة الثانية، أي: إذا بقي عليه بمقدار ما أفطر فإنه يجب عليه أن يقضيه لضيق الزمن.
والمثال: أن رجلا أفطر عشرة أيام بعذر، فله أن يؤخر قضائها إلى أن يبقى عشرة أيام من شعبان من السنة الثانية، دليل ذلك حديث عائشة -رضي الله عنها- قالت: " كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان " وكان ذلك في عهد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولم ينكر عليها.
مثال آخر: الواجب الموقت، يعني الواجب الذي له وقت محدود من أوله إلى آخره كالصلوات الخمس مثلا، فإنه لا يجب على الإنسان أن يصلي الصلاة فور دخول وقتها؛ لأن وقتها موسع، فله أن يصليها في أول الوقت، وله أن يؤخرها إلى آخر الوقت.
فرض الكفاية :
ثم قال الناظم:
والأمر إن روعي فيه الفاعل
فذاك ذو عين وذاك الفاضل
هذه القاعدة في الأوامر الشرعية التي تكون على عين كل شخص، والتي تكون على الكفاية، فذكر الناظم القاعدة في ذلك، وهي أنه إذا روعي في الأمر الفاعل صار أمر عين، إما وجوبا وإما استحبابا.(253/95)
قال الناظم: "فذاك ذو عين" أي: سمه فرض عين في الواجب، وسنة عين في السنة، "وذاك الفاضل": "ذاك" يعني: ما روعي فيه الفاعل فهو فرض العين الفاضل -يعني- على فرض الكفاية، يعني أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء -رحمهم الله-، فمنهم من قال: إن فرض الكفاية أفضل؛ لأن الإنسان يقوم به عن نفسه وعن غيره، فيكون أفضل، ومنهم من قال: إن فرض العين أفضل؛ لأنه مطلوب من عين كل إنسان، أي: من كل إنسان بعينه، وهذا يدل على عناية الله تعالى به ومحبته له.
مثال ذلك: الصلوات الخمس، هذه فرض عين، فهي أفضل من صلاة العيد التي قيل إنها فرض كفاية؛ لأن الصلوات الخمس مطلوبة من كل واحد، وصلاة العيد ليست مطلوبة من كل واحد -على القول بأنها فرض كفاية-، بل إذا قام بها من يكفي سقط عن الباقين، وهذا مثال الواجب العين.
ومثال السنة العينية: السواك، وقراءة القرآن، والذكر، وصلاة النفل وما أشبهها، فهذه سنة عين مطلوبة من كل إنسان.
أما القاعدة في فرض الكفاية فقد أشار إليها الناظم بقوله:
وإن يراع الفعل مع قطع النظر
عن فاعل فذو كفاية أثر
يعني إذا كان المقصود من العمل إيجاب العمل بقطع النظر عن العامل، فهذا فرض كفاية، أُثر أي: عُلِم، وهذا هو الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، وسنة الكفاية وسنة العين.
مثال فرض الكفاية: الصلاة على الجنازة، ودفن الميت وما أشبهه، والأذان والإقامة وما أشبهه؛ وذلك لأن المقصود هو نفس الفعل، فإذا وُجِد ممن تقوم به الكفاية، إذا وجد ممن تكون به الكفاية سقط عن الآخر، فلا نقول لكل أحد من الناس. اذهب وصل على الجنازة، اذهب فادفن الميت، ولا نقول لكل واحد من الناس. أذِّن، أقم الصلاة، بل المقصود حصول الفعل، سواء من واحد أو من متعدد.(253/96)
ومن سنن الكفاية: إلقاء السلام، وتعليم العلم -إن لم يكن التعليم واجبا- ونحو ذلك، وبمناسبة ذكر إلقاء السلام فإنه ينبغي أن نذكر شيئا من آدابه -أي آداب السلام-.
فالسنة إذا تلاقى المؤمنان أن يسلم أحدهما على الآخر، ومن الأدب أن يسلم الصغير على الكبير، والقليل على الكثير، والماشي على القاعد، والراكب على الماشي.
ولكن إذا لم يحصل ذلك، وتناسى أو تعالى من هو أولى بالسلام عن السلام فليسلم الآخر، يعني لو تلاقى صغير وكبير، فالمطلوب أن يسلم الصغير على الكبير، لكن لو تناسى أو تغافل أو غفل أو استكبر فليسلم الكبير، فلا يدع السلام، لا يدع السلام، ويقول: السلام عليك، على الذي أصغر منه؛ لأن النبي r قال: " لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " .
ومن آداب السلام: أن يكون بصوت واضح، لا أن يكون بصوت منخفض لا يسمعه المسلَّم عليه، أو كما يقول العامة: "يتكلم بأنفه"، لا يفصح بلسانه، فليسلم تسليما مسموعا واضحا، هذا هو السنة، وليقل: "السلام عليك" إن كان واحدا، و"عليكما" إن كانا اثنين، و"عليكم" إن كانوا جماعة، وإن قال: "السلام عليكم" بالجمع فلا بأس.
ومن آداب السلام: أن لا يقتصر على ما يفعله بعض الناس إذا لاقى أخاه قال: "أهلا وسهلا"، "مرحبا"، وما أشبه ذلك، فإن هذا ليس السنة التي أُمر بها، بل السنة أن يسلم أولًا "سلام عليكم" أو "السلام عليكم"، ثم يقول ما شاء من التحية: "أهلا وسهلا"، "مرحبا"، "حياك الله"، "صبحك الله بالخير"، وما أشبه ذلك.
ومن الآداب: أن لا يقتصر على الإشارة باليد؛ لأن ذلك ليس بسلام حقيقة، وقد ورد النهي عن الاقتصار عليها، أما إذا جمع بين الإشارة والنطق فهذا خير إن احتيج إلى الإشارة باليد لبعد المسلَّم عليه، أو لكونه أصم، وما أشبه ذلك.
الأمر بعد النهي:
ثم قال الناظم:
والأمر بعد النهي للحل وفي
قول لرفع النهي خذ به تفي(253/97)
الأمر سبق لنا ذكر الخلاف فيه: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ ولكن إذا ورد بعد النهي فهل يكون للإباحة أو يكون لرفع النهي؟ في هذا للعلماء قولان:
القول الأول: إنه للإباحة، واحتج أرباب هذا القول بأنه لما ورد النهي عنه بعد الإذن فيه صار النهي ناسخا للإذن، وناسخا لما سبقه من الأحكام، فإذا جاء الأمر به بعد ذلك فهذا شرع مبتدأ، أي: فهذا الابتداء شرع، لكنه للإباحة؛ لوروده بعد النهي، وقيل: بل الأمر بعد النهي رفع للنهي، فيُنظر فيما نهي عنه، ويُرجع إلى أصله، فإن كان أصله الاستحباب كان مستحبا، وإن كان أصله الإباحة كان مباحا.
مثاله في المباح: قوله -تبارك وتعالى-: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } هذا ورد بعد المنع من قتل الصيد في حال الإحرام، قال الله -تبارك وتعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } إلى قوله: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا }
فهل نقول: إنه يسن لكل من تحلل من إحرامه أن يأخذ بندقيته ويذهب ليصيد؟ الجواب: لا، لكن المعروف النهي عن الاصطياد في حال إحرام، وذلك بالإحلال عاد الأمر إلى ما كان عليه من قبل، والاصطياد في الأصل مباح، فيكون الأمر هنا للإباحة.
ومثال ما رفع فيه النهي وبقي مستحبا: قول الله -تبارك وتعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) }(253/98)
فهنا قد نقول: إن الأمر هنا رفع النهي، وعاد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي، ومن المعلوم أن الإنسان مأمور بطلب الرزق له وعائلته؛ يستغني به عن الناس، ويستعين به على طاعة الله -عز وجل-؛ ولهذا قال الناظم :
والأمر بعد النهي للحل وفي
قول لرفع النهي خذ به تفي
تعدد الوجوه في العبادة:
ثم قال الناظم:
وافعل عبادة إذا تنوعت
لتفعل السنة في الوجهين
وجوهها بكل ما قد وردت
وتحفظ الشرع بذي النوعين
وهذه من القواعد المهمة النافعة، وهي أنه أحيانا ترد العبادة على وجوه متنوعة، يعني: يرد عن النبي r فيها وجوه متنوعة، أنه قال كذا، ثم يأتي حديث آخر أنه قال كذا، فماذا نصنع؟ هل نختار أوفى هذه المتون وأكملها؟ أو نجمع بين المتون ونداخل بعضها ببعض حتى يتكامل السياق مؤلفا من الوجهين؟ أو نفعل هذا تارة وهذا تارة؟
قال بعض العلماء: نجمع بين ما أمكن جمعه. وقال بعض العلماء: نؤلف فنأخذ من كل سنة ما انفردت به نضيفه إلى الأخرى،؛ فيكون الذكر ملفقا. قال بعض العلماء: نختار واحدا منها -وهو أكملها وأوفاها-، وندع الباقي.
ولكن الصواب أننا نعمل بهذا تارة وبهذا تارة، ولنضرب لذلك مثلا: دعاء الاستفتاح ورد عن النبي r أنه كان يقول: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك " وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب t يجهر بهذا ليعلمه الناس.
وثبت عنه -صلى الله عليه وآله وسلم أنه- " كان إذا كبر للصلاة سكت هنيهة، فسأله أبو هريرة t قال: يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " .(253/99)
ومعلوم أن هذا الاستفتاح غير الأول، فهل نقول: اجمع بينهما واستشهد بهذا وبهذا؟ أو نقول: خذ بأوفاهما وأتمهما؟ وحينئذ اختلف العلماء: هل حديث أبي هريرة أولى لأنه أصح، أو حديث: " سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك " لأنه يشتمل على الثناء على الله U وفيه من الثناء عليه ما ليس في الأول، ولا أدري أقال أحد من الناس إنه يستفتح بهما جميعا، أو نقول: نستفتح بهذا مرة وبهذا مرة، هذا هو القول الراجح، أننا نستفتح بهذا مرة وبهذا مرة؛ لأن السنة هكذا وردت؛ ولهذا قال الناظم:
لتفعل السنة في الوجهين
.....................
يعني تفعل السنة على الوجهين، تارة بهذا وتارة بهذا، فنقول: الأفضل في الاستفتاح أن يستفتح مرة بقول: " اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد " وتارة بقول: " سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك " ؛ لأنك إذا فعلت ذلك أمنت بالسنة على الوجهين، وأيضا الفائدة الثانية:
..............
وتحفظ الشرع بذي النوعين
إنك إذا عملت بالوجهين جميعا حفظت الشرع، وإذا عملت بواحد نسيت الآخر، لكن إذا عملت بهذا تارة وبهذا تارة فإنك تحفظ الشرع بالوجهين الواردين، أو بالوجوه المتنوعة، هذا مثال.
مثال آخر: الذكر بعد الصلاة وردت فيه أنواع متعددة، وأعني بذلك التسبيح، ورد " سبحان الله والحمد لله والله أكبر " ثلاثا وثلاثين، وتمام المائة: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " .
وورد "سبحان الله" ثلاثا وثلاثين، "الحمد لله" ثلاثا وثلاثين، "الله أكبر" أربعا وثلاثين، فهذه مائة، فتفعل هذا مرة وهذا مرة.
وورد أيضا: " سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر " خمسا وعشرين، فهذه مائة أذكر بها أحيانا.(253/100)
وورد "سبحان الله" عشرا، و"الحمد لله" عشرا، و"الله أكبر" عشرا، هذه ثلاثون تعمل بها أحيانا؛ لأجل الفائدتين اللتين أشار إليهما الناظم، وهو أن تفعل السنة على الوجهين؛ لأن سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام- مرة كذا ومرة كذا؛ ولتحفظ الشرع بذي النوعين؛ لأنك لو لزمت وجها واحدا نسيت الثاني، فلا يكون لديك حفظ للشرع في الوجهين، وهذا الذي ذكره الناظم، والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-.
ومن ذلك أيضا: التكبير على الجنازة، قد كبر النبي r على الجنازة أربعا، وكبر عليها خمسا، وكبر عليها أكثر من ذلك، فهل السنة أن نأخذ بالأوفى ونقول: نكبر عليها بأكثر شيء وارد، أو نقول: نكبر عليها تارة بهذا وتارة بهذا؟
والصواب أننا نكبر عليها مرة أربعا، ومرة خمسا؛ لأنه ثبت عن النبي r أنه كبر خمسا على الجنازة، وربما زاد على ذلك، ولكن نحافظ في الأكثر على ما كان أكثر عن النبي r وهو الأربع.
ثم قال الناظم:
والزم طريقة النبي المصطفى
وخذ بقول الراشدين الخلفا
وليكن هذا مبدأ الدرس القادم -إن شاء الله تعالى-؛ لأنه حان وقت الأسئلة.
س: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، هذا يقول: ما صحة ما ورد عن فتواكم بمقاطعة مشروب كاكولا عقب ظهور الدعاية المشهورة؟
ج: لا صحة لذلك، ولم نقل به، وليُعلم أن الأصل في المأكولات والمشروبات الحل، إلا ما قام الدليل على أنه حرام، وهذا من القواعد المقررة التي ذُكرت في هذا النظم. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، بلغنا أنك تقول: إنه لا يستحب لمن دخل مجلس أن يصافح الجميع، بل يسلم ويجلس، هل هذا صحيح؟ آمل منكم التفصيل، وجزاكم الله خيرا، وكيف أطبق فضل المصافحة؟(253/101)
ج: هذا هو الذي أقول؛ لأن المعروف عن النبي r أنه إذا دخل المجلس جلس حيث ينتهي به المجلس، ولم يرد عنه -فيما أعلم- أنه كان يمر على الجالسين فيصافح كل واحد منهم، وأنا أطلب من أي إنسان عثر على شيء من ذلك أن يبينه لي؛ لأننا -إن شاء الله تعالى- راغبون في الوصول للحق، وأما المصافحة فهي عند التلاقي.
هنا يجب على طالب العلم أن يفهم قاعدة مهمة، وهي أن ما ورد مطلقا ثم جاءت السنة الفعلية بعدم تطبيقه في بعض المواضع فإننا لا نستحبه، فمثلا ورد فضل ذكر الله تعالى، والصلاة على النبي r على وجه الإطلاق، فلا يمكن أن نطبقها على كل فعل فعلناه، يعني: لا يمكن -مثلا- أن نقول: كلما فعلت فاذكر الله، كلما فعلت فعلا فاذكر الله، كلما فعلت فعلا فصل على النبي؛ لأن التطبيق العملي أمر مهم.
فإذا كانت المصافحة قد شرعت للمتلاقيَين، فلا يعني ذلك أنها مشروعة لمن قدم على قوم جالسين؛ لأن ظاهر فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- خلاف ذلك، وعلى كل حال فأنا لا أرى أنها سنة حتى يتبين لي أن رسول الله r كان يفعلها، والظاهر من هديه أنه لا يفعلها، بل كان إذا أتى إلى المجلس جلس حيث ينتهي به، فإنه لا ينبغي أن نقول باستحبابها، ومع ذلك فإني على مطالبة أن من عثر على شيء من السنة في ذلك فليتحفنا به، فإنا له شاكرون. نعم.
س: أحسن الله إليكم يا شيخ، يقول: ما الحكم إذا غلب على ظنه دخول الوقت فصلى، ثم تبين له أن الوقت لم يدخل، وما الفرق بين غلبة الظن في دخول الوقت وبين غلبة الظن في اتجاه القبلة؟
ج: سبحان الله! هذا السؤال في نفس المرة، وفي درس اليوم، ذكرنا أنه إذا صلى قُبيل الوقت ثم تبين أنه صلى قبل دخوله فإنه يعيد الصلاة، ووجه ذلك أنه صلى في وقت لم يؤمر به، أي: لم يؤمر أن يصلي فيه، فتكون الصلاة حينئذ غير مأمور بها، وقد قال النبي r " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " فلما دخل الوقت طولب به بعد دخول الوقت.(253/102)
وأما الخطأ في استقبال القبلة إذا كان في موضع محل اجتهاد؛ فلأنه صلى صلاة مأمورا بها، واتقى الله ما استطاع، وتوجه إلى حيث يرى أنه القبلة، فلم يقصر في شيء، وقد طولب بأن يصلي لأن الوقت قد دخل، فصلى على الوجه الذي أُمر به، اجتهد، واتقى الله ما استطاع، فلا تلزمه الإعادة. نعم.
س: يقول: ذكرتم -حفظكم الله- تقسيم الأمر إلى ما دل دليل على أنه ليس على الفور، والثاني ما دل دليل على أنه على الفور، فالثالث -وهو المطلق- أن يكون فيه الأصل أنه مطلق، وإلا لدل الدليل على فوريته.
ج: نعم، هذا الثالث محل خلاف، هو محل خلاف -المطلق-، وقد رجحنا أنه للفور؛ لما ذكرنا من الأدلة الأثرية والنظرية، الأثرية ذكرنا قوله تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } وغضب النبي r حين لم يبادر الصحابة بالحلق في غزوة الحديبية، ولا يغضب على ترك مستحب.
وذكرنا أيضا الدليل النظري بأن الإنسان لا يدري ما يعرض له، فقد يموت قبل أن يفعل، وقد يمرض فلا يستطيع الفعل، وقد تتراكم عليه الأوامر فلا يستطيع القيام بها. نعم.
س: وهذا يقول فضيلة الشيخ ما صحة القاعدة التي تنص على أن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة وهل من تطبيقات هذه القاعدة الصلاة في مسجد فيه قبر لإدراك الجماعة حيث لم يجد إلا هذا المسجد في طريقه؟
ج: الدليل أن ما أمر للذريعة وفي حال الحاجة ما ذكرناه في النظم في مسألة العريَّة، العرية هي أن يشتري الإنسان الرطب على رؤوس النخل بالتمر، ومن المعلوم أن بيع الرطب بالتمر حرام؛ لأن النبي r " سئل عن بيع التمر بالرطب فقال: أينقص إذا جف؟ قالوا: نعم. قال: فلا " .(253/103)
أي: فلا تبيع؛ وذلك لأن بيع الرطب بالتمر تُجهل فيه المماثلة، والواجب في بيع التمر بالتمر أن يكون متماثلا في الكيل، وهذا -أعني بيع الرطب بالتمر- لم يتحقق فيه هذا الشرط، لكن لماذا مُنع بيع الرطب بالتمر؟ لأنه ذريعة إلى أن يباع التمر بمثله متماثلا.. نعم لأنه ذريعة إلى أن يباع التمر بمثله متفاضلا، إذا دعت الحاجة إليه في مثل العرية جاز.
والعرية هي أن يكون عند الإنسان تمر سادة، ويحتاج إلى التفكه بالرطب على رؤوس النخل، وليس عنده مال، فيذهب إلى صاحب البستان ويقول: بعني ثمرة هذه النخلة بتمر، فيبيعه إياه، فهذا جائز، لكن يجب أن يُخرص الرطب لمثل ما يؤول إليه تمرا، ويعطى من التمر ما يماثله كيلًا؛ حتى يحصل التساوي، ولو بالخرص والتخريص، وقد مضى بيان ذلك ووجه جوازه. نعم.
بقي علينا مثال أنه ذكر إذا مر الإنسان بمسجد فيه قبر فهل يصلي عليه عند الحاجة؟ نقول: إنه -في الواقع- لا حاجة إلى هذا المسجد، والمسجد المبني على قبر لا تصح الصلاة فيه؛ لأنه محرم، وليس هناك حاجة إلى الصلاة فيه، إذ إن الإنسان يمكن أن يصلي في أي مكان من الأرض؛ لقول النبي r " جعلت لي الأرض مسجدا " ولم يفصل. نعم.
س: هذا يقول: هل يجوز تصوير القبور واللحد بحجة أنها تسبب الموعظة والاتعاظ للناس وتذكيرهم بالموت؟
ج: هل هذه الطريق عُرفت عن الصحابة؟ أكثر المواعظ الواردة عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وكذلك في القرآن إنما هي بذكر الثواب للمطيع والعقاب للعاصي، بل قد قال الله -تبارك وتعالى-: { * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) } ولم يقل: أفلا يعلم إذا دفن أصحاب القبور، فكوننا نعظ الناس بذكر الموت فقط، ونغفل عما هو أهم من ذلك، وهو الثواب على فعل الطاعات، والعقاب على فعل المحرمات، يعتبر قصورا في الموعظة، أما إذا ذكرنا هذا وهذا فهو طيب وحسن.(253/104)
ثم إن تصوير ذلك قد يكون فيه إزعاج للنشء الصغار، إذا رأوا هذا انطبع في أذهانهم، وصاروا يتخيلونه في كل وقت، وهذا نظير ما فعله بعض السفهاء؛ حيث صوروا نار جهنم بصور فوتوغرافية، صوروا فيها لهبا صفراء مشوهة المنظر؛ ليفزعوا الناس، فإن هذا لا شك أنه كذب، إذ إن النار أشد وأبلغ وأعظم مما يتخيله الإنسان.
ج: إن هذا لا شك أنه كذب إذ إن النار أشد وأبلغ وأعظم مما يتخيله الإنسان، وما يدرينا لعل رجلا يأتي يوما من الأيام فيصور ما في الجنة من فاكهة وحور عين وولدان مخلدين!.
وهذا تلاعب بأمور الآخرة، أمور الآخرة أعظم مما تتصور ذكرتها بهيجة معظمة لها شأنها في النفوس أولى من تفسيرها في هذه الصور المادية التي يزعم فاعلها أنه أحسن صنعا نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ما حكم صلاة الوتر جماعة في غير رمضان؟
ج: لا بأس بذلك إذا فعله الإنسان أحيانا؛ لأنه ثبت عن النبي r أنه كان يصلي صلاة الليل جماعة أحيانا، وصلى معه عبد الله بن عباس مرة، وصلى معه عبد الله بن مسعود مرة، وصلى معه حذيفة بن اليمان مرة.
وكان هؤلاء الشباب يصلون مع النبي r صلاة الليل، ويذكرون طول صلاته -عليه الصلاة والسلام- قال حذيفة، قال: " إني صليت مع النبي r ذات ليلة فافتتح الصلاة بقراءة الفاتحة، فقلت يركع عند المائة -أي: إذا أتم مائة آية- ثم مضى حتى أكمل سورة البقرة وسورة النساء وسورة آل عمران، يقف عند كل آية وعيد يتعوذ، وعند كل آية رحمة يسأل، وعند كل آية تسبيح يسبح " .
فقرأ هذه السور الثلاث التي تبلغ خمسة أجزاء وربع جزء في ركعة واحدة -عليه الصلاة والسلام-.
" وصلى معه عبد الله بن مسعود-رضي الله عنه- فأطال النبي r القراءة، قال عبد الله: ... حتى هممت بأمر سوء، قالوا: بما هممت يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هممت أن أقعد أو قال: أجلس وأدعه " .(253/105)
صلاة الليل ثنائية والوتر جماعة أحيانا لا بأس به، لا بأس به ولكن اتخاذ ذلك سُنة راتبة كل ليلة، يصلى في جماعة هذا من البدع.
نعم ..
س: فضيلة الشيخ يقول: يطلب مني بعض الزملاء أن أشتري له سيارة محددا نوعها -موديلها- ويشتريها مني بالتقسيط دون أن ألزمه بشيكات أو رهن مقابل ذلك، فأشتري السيارة وأحوزها إلى ملكي ثم أقسطها عليه، هل هذا جائز ؟ أفتونا مأجورين.
ج: نرى هذا جائزا، بل أرى هذا حيلة على الربا قريبة وصريحة؛ لأنه بدل أن يستقرض مني ثمن السيارة ويذهب ويشتريها بنفسه يطلب مني أن أشتريها له بثمن النقد وليكن خمسين ألفا، ثم أبيعها، ثم إني أبيعها عليه بستين ألفا مؤجلة.
حقيقة الأمر أني اشتريت السيارة التي يريدها والتي يطلبها فأقرضته ثمنها بزائد، وهذا هو عين الربا، وهذا أقرب إلى الربا من العينة التي حذر منها النبي r وهو أن يبيع شيئا بثمن مؤجل ثم يشتريه نقدا من مشتريه بأقل، مع أنه لا تواطؤ بينهما في مسألة العينة ومع ذلك فهي حرام.
فهذه الصورة التي سأل عنها السائل هي أوضح في كونها ربا من مسألة العينة وأقرب، ولا يغرنَّك قول بعضهم: إن البائع لا يُلزم المشتري في هذه السلعة فله أن يدعها، فإن هذا قول لا طائل تحته؛ لأنه من المعلوم أن هذا المحتاج الذي عيَّن ما يريده من السيارة من النوع لا يمكن أن يتراجع، اللهم إلا نادرا .
ثم إن البائع لو تراجع هذا المشتري لاحتفظ لنفسه بالحذر من البيع عليه مرة أخرى. ولا يغرنك إفتاء بعض الناس في هذه المسألة بل عليك أن تراجع نفسك وتسائلها، هل هذا شراء صحيح بالنسبة للذي اشترى السيارة وباعها بالتقسيط؟ هو في الواقع غير صحيح ولولا أن هذا جاء يطلب منه السيارة ما اشترها أبدا.(253/106)
فهو قد علم الربح مقدما وهو قد واطأه على أن حقيقة أمره أن يقرضه الثمن بفائدة، وهذا هو عين الربا؛ ولذلك أحذر إخواني المسلمين من مثل هذه المعاملة وأقول: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وليكن هذا آخر سؤال ، لأن الوقت انتهى .
وجوب اتباع النبي
O الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، قال الناظم حفظه الله تعالى ورفع درجته
والزم طريقة النبي المصطفى
قول الصحابي حُجَّة على الأصح
وحُجة التكليف خُذها أربعه
مِن بعدها إجماع هذي الأمه
وخُذ بقول الراشدين الخلفا
ما لم يخالف مثله فما رجَحْ
قرآننا وسُنَّة مُثبته
والرابع القياس فافهمَنَّه
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد. .
فهذا هو الدرس السابع الذي نلقيه في كل يوم سبت واثنين وأربعاء من كل أسبوع في الدورة العلمية التي افتتحت في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانة بالرياض في إجازة عام سبعة عشر وأربعمائة وألف نسأل الله تعالى أن يجعلها دورة مباركة
وقبل البدء في الدرس الجديد نحب أن نسأل ونناقش فيما سبق
س: سبق لنا أن الأمر المطلق يقتضي الفورية، فنريد بيان الأدلة السمعية والنظرية على أن الأمر المطلق يكون للفور سواء كان أمر وجوب أو أمر استحباب، ما هو الدليل على أن الأمر المطلق يكون للفور؟ .
ج: الدليل من كتاب الله U قوله سبحانه: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) }
نعم ، ما وجه الدلالة؟.
ج: أن من لم يفعل الأمر على الفور فإنه يكون قد خالف أمر النبي r يكون قد خالف أمر الله -سبحانه وتعالى-، ومن خالف أمر الله؟ متوعد أن تصيبه الفتنة أو يصيبه العذاب الأليم .
س: الفتنة ما ؟ ما هي الفتنة ؟(253/107)
ج: ذكرنا ما أُثر عن الإمام أحمد -رضي الله- عنه في ذلك حيث قال: فتنة الشرك، نعم ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء فيأثم.
س: وما هو الدليل النظري على أن الأمر للفور؟ .
أن النبي r ...
س: النظري؟ النظري ، النظري ؟
ج: الدليل النظري من وجهين: أولا- ما ورد في قول الناظم: "فبادر الزمان ... "نعم ، إن الإنسان لا يأمن أن يباغته الموت قبل أداء الواجب، نعم، والثاني: أن التراخي قد يسبب تراكم الواجبات، ومن ثَمَّ يصعب على ... أو يعجز الإنسان عن فعل واجباته ، نعم ، تماما .
س: ذكرنا أن الأمر يكون كفائيا ويكون عينيا، فما هو الضابط لكل واحد منهما؟ ما هو الضابط، ما هو الضابط للأمر العيني ؟
ج: الضابط للفرض العيني أن يكون المتعلق أو المراعى فيه الفاعل ، الفاعل ، المراعى فيه الفاعل ، الفاعل ،
س: إذا الأمر العيني سواء كان فرضا أو نفلا هو الذي يراعى فيه الفاعل؟ نعم، وضابط الأمر الكفائي أن يُراعى فيه الفعل مع قطع النظر عن الفاعل، نعم، نريد مثالا للأول وهو الأمر العيني؟
ج: نعم، كالصلوات الخمس، هذا في الفرائض كالصلوات الخمس وكالوتر في النفل، بارك الله فيك!
الثاني: ما روعي فيه الفعل مع قطع النظر عن الفاعل: كالأذان والإقامة هذا في الواجبات، في النفل: الجهاد والسلام، وصلاة العيدين.
الجهاد: ماشي، الجهاد فرض كفاية، السلام: السلام دعوة، نعم
س: ما هي القاعدة فيما إذا ورد الأمر بعد النهي ؟
ج: في المسألة قولان: بعض العلماء يرى أنه للحِل، والقول الآخر أنه لرفع النهي فيعود إلى الأصل، نعم .
س: بعض العلماء يقول: إنه ... إن الأمر بعد النهي للحِل، وبعضهم يقول: إن الأمر بعد النهي رفع للنهي، ما الفرق بين القولين؟(253/108)
ج: إن القول الأول لا يكون الحكم إلا للحل فقط، وأما القول الثاني فقد يكون للإباحة وقد يكون للاستحباب، نعم، لأن الأمر بعد النهي يرفع النهي فقط فيبقى الحكم على ما كان قبل النهي، وهذا يقول: إنه يرفع النهي ويكون للحل.
س: ما هو التعليل؟ تعليل قول ما نقول إنه يكون للحل؟ نعم .
ج: لأنه رجع إلى ما كان عليه قبل النهي.
س: ما هذا؟
ج: أنا أقصد الذين قالوا: إن النهي ... إن الأمر بعد النهي يكون للحل، يقولون يا شيخ: إنه يعود إلى حكمه الأول الذي قبل النهي.
س: ما هو الحكم الأول ؟
ج: لأن النهي في الحكم الأول ورد ثم نُسخ بالأمر الثاني، يعني: أن الحكم الأول نُسخ نهائيا بالنهي، فلما ارتفع ارتفع النهي، أدى إلى الحِل فقط، ولأن الحكم الأول لم يبق بعدُ حين ورد عليه النهي واضح - نعم يا شيخ
س: طيب المثال؟
ج: قوله تعالى: { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } هذا بعد النهي: بعد تحريم الصيد للمُحْرِم.
مثال آخر قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) } إلى قوله: { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا } " فانتشروا في الأرض " نعم ، نعم.
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ }
الأمر للانتشار في الأرض هنا للإباحة، على قول أو للاثنين على قول آخر: إذا قلنا: إن الأمر بعد النهي رفع للنهي فقط .
س: إذا وردت عبادة على وجهين، فهل يجمع بينهما أو يُؤخذ بالأوفى منهما؟ أو نفعل مرة كذا ومرة كذا ؟
ج: الأفضل أن يُفعل مرة كذا ومرة كذا، نعم، مرة بهذه ومرة بالثانية.
س: طيب علل؟(253/109)
ج: التعليل في ذلك إحياء لسنة النبي r هذه واحدة، لإحياء السنتين، نعم ... نعم، أيضا لتنوع العبادة لما ورد فيها من فضل يعني: لإحياء السنة وحفظها أيضا، يعني: إذا لم تفعل الصفة الأخرى ضاعت، ففيها العمل بالسنتين، وفيها حفظ السنتين.
س: ممكن تمثل؟
ج: نعم، مثل دعاء الاستفتاح، نعم، ورد: " سبحانك اللهم وبحمدك " وأيضا ورد: " اللهم باعد بين خطاياي " فيُعمل بهذا تارة ، ويُعمل بهذا تارة . نعم.
س: ومثل ذلك -أيضا- التسبيح بعد الصلاة … أريد من أحد الطلاب أن يذكر هذا؟ .
ج: هناك صفات متعددة الأولى: أن يقول سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر ثلاثا وثلاثين ويكمل المائة ويكمل المائة " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " أحسنت .
س: هذه صفة ، الصفة الثانية ؟
ج: الصفة الثانية: أن يقول: " سبحان الله والحمد لله والله أكبر ثلاثا وثلاثين، ويكمل تمام المائة لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير " .
س: ما هي الصفة الأولى ؟ نعم
ج: هناك صفتان.
لرفع النهي فيعود إلى الأصل، س: الصفة الثانية ماذا ؟
ج: هو أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمسا وعشرين مرة .
والصفة الأخرى أن يقول: سبحان الله عشرا والحمد لله عشرا والله أكبر عشرا
س: والصفة الأولى ماذا تقول فيها ؟
ج: الأولى أن يقول: سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر كذلك.
سبحان الله ثلاثا وثلاثين وحدها، والحمد ثلاثا وثلاثين وحدها، والله أكبر أربعا وثلاثين .
إذا ينبغي أن يقول هذا مرة وهذا مرة ، بارك الله فيكم ، نبدأ.
الآن الدرس الجديد ، يقول الناظم :(253/110)
"والزم طريقة النبي المصطفى" : الزم أيها العبد طريقة النبي المصطفى ويريد به محمدا، ويريد به محمدا -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فإنه r مصطفى اصطفاه الله -تعالى- كما اصطفى إخوانه من المرسلين، لكنه r كان أفضلهم.
اصطفاه الله -تعالى- عليهم من عدة وجوه، وهذا داخل في عموم قوله -تبارك وتعالى-: { * تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ }
وأما قول النبي r " لا تفضلوني على يونس بن متى " فإنما قاله r حيث حصل النزاع بين رجل من بني إسرائيل يهودي وبين أحد المسلمين، فمتى أدَّت المفاضلة بين النبي r وغيره من الرسل إلى نزاع يؤدي إلى تهوين شأن الرسل الآخرين أو تهوين محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فإن الواجب الكف عنه.
وقول الناظم: "الزم طريقة النبي المصطفى" فيها أدلة كثيرة منها قوله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } ومنها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } ومنها قوله تعالى: { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ } ومنها قوله تعالى: { فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) }
ومنها قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بما جئت به إلا كان من أصحاب النار " والأدلة على ذلك أشهر من أن تذكر، وأكثر من أن تحصى .(253/111)
وقول الناظم: "طريقة النبي" يشمل: طريقته العَقَدية، وطريقته القولية، وطريقته الفعلية، وكل ما تعبد به النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ربه فإنه مشروع لنا أن نتبعه فيه، إما على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب حسب الأدلة الواردة في ذلك .
والنبي: هو مَنْ أُوحيَ إليه بالشرع، وسمي النبي نبيا لأنه مُنَبَّأٌ ومُنْبِئٌ. فهو منبَّأٌ من قِبَل الله ومُنْبِئٌ عن الله -تعالى- مبلغ عنه، وهذا أحد الأدلة التي يحصل بها التكليف، يعني: سنة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كما سيأتي -إن شاء الله تعالى- نعم، كما سيأتي -إن شاء الله- بعد بيت من هذه المنظومة .
"وخذ بقول الراشدين الخُلَفَا" يعني: ذلك اتباع الخلفاء الراشدين المهديين، لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي " .
وأول من يدخل في هؤلاء الخلفاء الأربعة -رضي الله عنهم- أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، فهؤلاء إذا اجتمعوا على شيء فقولهم حجة بلا شك، وإذا انفرد أحدهم من غير مخالف فقوله حجة، ولا سيما قول أبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- فإن رسول الله r نص عليه حيث قال: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر " .
وقال r " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " لكن قولهم حجة بشرط ألا يعارضه النص، فإن عارضه نص وجب الأخذ بالنص؛ لأن سنة النبي r مقدمة؛ ولهذا قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء " .(253/112)
ولا يمكن أن يُحتج بقول أحد على قول رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مهما كان الأمر، ولا يُحتج بفعل أحد على قول رسول الله -عليه وعلى آله وسلم-، وبهذا تعرف ضعف قول من يقول من العلماء: إنه يجوز أن يأخذ الإنسان باللحية لما زاد عن القبضة لفعل ابن عمر -رضي الله عنهما- ، فإنه كان إذا حج أخذ من لحيته ما زاد عن القبضة؛ لأن هذا الفعل مخالف لأخلاق النبي -صلى الله عيه وعلى آله وسلم- في قوله: " أَعفوا اللِّحى " فإنه مطلق غير مقيد حتى وإن كان ابن عمر -رضي الله عنهما- أحد رواة هذا الحديث؛ لأن العبرة بما روى الصحابي لا بما رأى إذا كان مخالفا لما روى.
حجية قول الصحابي:
ثم قال الناظم :
قول الصحابي حجة على الأصح
ما لم يخالف مثله فما رجح
"قول الصحابي حجة" والصحابي عند علماء الحديث: كل من اجتمع بالنبي r مؤمنا به ومات على ذلك، سواء رآه أم لم يرَه، إذ العبرة بالاجتماع.
وقولنا: (بالنبي) يفيد أنه لا بد أن يكون اجتماعه به بعد أن أوحي إليه -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فمن اجتمع به قبل أن يُنَبّأ فليس بصحابي وإن آمن بنبوته أو آمن به بعد نبوته فإنه لا يكون صحابيا، لكن إن آمن به بعد نبوته واجتمع به صار صحابيا، إن آمن بالنبي r قبل نبوته واجتمع به بعد نبوته صار صحابيا.
وقوله: "حجة" أي: دليل يحتج به، وقوله: "على الأصح" أفاد بأن في هذا خلاف بين العلماء، فإن من العلماء مَن قال: إن قول الصحابي ليس بحجة؛ لأنه ليس بمعصوم، والحجة إنما هي في قول المعصوم، أما غيره فإن قوله ليس بحجة.
وتوسط بعض أهل العلم في هذه المسألة فقال: أما الصحابي المعروف بالعلم والفقه وملازمة النبي r فقوله حجة، وأما من ليس كذلك فقوله ليس بحجة، وهذا ما عدا أبا بكر وعمر فإن قولهما حجة كما سبقت الإشارة إليه، وكذلك قول عثمان وعلي -رضي الله عنهما- .(253/113)
وعلى هذا فنخلص قول الصحابي إذا كان من فقهاء الصحابة المعروفين بملازمة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- حجة، وأما الصحابي الذي لم يعرف بملازمة النبي r ولا كان معروفا بالفقه ، فإن قوله ليس بحجة ، بل لا بد أن يُعرض على الكتاب والسنة.
الأقوال إذا ثلاثة: الأول: بأنه حجة مطلقة، والثاني: أنه ليس بحجة مطلقة، والثالث: التفصيل، والتفصيل هو الذي قام عليه الدليل لكن المؤلف اشترط، نعم، لكن الناظم اشترط وقال:
"ما لم يخالف مثله"يعني: ما لم يخالف صحابيا مثله في الصحبة والعلم والفقه وملازمة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فإن خالفه مثله قال: "فما رجح" يعني: فالحجة ما رجح أي: ما رجح من قول الصحابة المختلَفِين، وقوله: "ما لم يخالف مثله" يفيد أنه لو خالفه مَن هو أفقه منه وأعلم منه، فإنه ليس بحجة وكذلك -أيضا- ما لو خالفه النص فإن قول الصحابي ليس بحجة.
حجية الإجماع:
ثم قال الناظم: "وحجة التكليف خذها أربعة": حجة التكليف يعني: الأدلة التي يحصل بها التكليف، أي: تكليف العباد، "خذها أربعة" -حجة مبتدأ وأربعة خبرها-: "قرآننا وسنة مثبتة"
من بعدها إجماع هذي الأمة
والرابع القياس فافهمنَّه
هذه أربعة، هذه أربعة أدلة: الأول: القرآن الكريم، فإن القرآن الكريم حجة بإجماع المسلمين، ولكنه حجة على من بلغه وفهمه، أما من بلغه ولم يفهمه فإنه قد لا يكون قامت عليه الحجة؛ لقول الله تعالى: { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) } لأنهم لا يفهمونه ولا يعرفونه، ولهذا قال U { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }
فالقرآن حجة ملزِمة لمن بلغه القرآن كما قال تعالى: { لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ } ولكن لا بد أن يكون عارفا بمعناه.(253/114)
أما الثاني: فقال: "سُنَّة مُثبتة" (سنة) يعني: عن النبي r (مثبتة) يعني: مثبتها على ذمة النقد فخرج بذلك ما لم يكن مثبتا كالأحاديث الضعيفة والموضوعة فإنها ليست بحجة.
أما الموضوعة وهي المكذوبة على رسول الله r فإنها ليست بحجة، ولا يجوز نقلها وتداولها إلا لمن أراد أن يبين أنها موضوعة حتى لا يُقِرَّ الناس بها.
وأما الضعيفة فقد اختلف العلماء -رحمهم الله- في نقل الضعيف وروايته، فمنهم من أجازه مطلقا، ولكن هذا لا أظن أحدا يَثْبُت قدمُه على القول به.
ومنهم من منعه مطلقا وقال: إن الضعيف لا تجوز نسبته إلى الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ لأنه ضعيف. وإذا كنا نتحرى في النقل عن واحد من البشر فالتحري في النقل عن رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- من بابٍ أولى.
رواية الضعيف:
ومنهم من أجاز رواية الضعيف بشروط ثلاثة :
الشرط الأول: ألا يكون الضعف شديدا.
والشرط الثاني: ألا يعتقد صحة نسبه إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
الشرط الثالث: أن يكون في أصل ثابت، بمعنى: أنه لا يثبت به أصل حكم من الأحكام، ولكنه يذكر على سبيل الترغيب فيما هو مطلوب، أو الترهيب مما هو منهي عنه، بمعنى: أنه إذا ورد الحديث الضعيف في فضيلة أمر ثابت، ومأمور به فلا بأس من ذكره؛ لأنه إن صح عن النبي r فقد حصل ما رتب على الفعل من الثواب، وإن لم يصح كان فيه تنشيط للنفس على العمل المطلوب.
وكذلك يقال الترهيب فإنه لا بأس بذكر الأحاديث الضعيفة بشرط أن يكون أصلها بالحديث ، أصل هذا المعنى الذي ورد بالحديث ثابتة مثل أن يرد حديث ضعيف في آثام الزنا والربا وما أشبه ذلك ، فإن هذا لا بأس من ذكره عند بعض العلماء ولكن لا بد من ملاحظة الشرطين الآخرين وهما ألا يكون الضعف شديدا ، فإن كان الضعف شديدا فإنه لا تجوز روايته ولا نقله إلا مقرونا ببيان ضعفه.(253/115)
والشرط الثالث: ألا يعتقد صحة ثبوته عن رسول الله r وبناء على هذا الشرط أرى أنه لا ينبغي إطلاقا أن يذكر الحديث الضعيف عند العامة سواء كان في فضائل الأعمال أو غيره؛ لأن العامي لا يميز بين كونه يعتقد أنه صحيح إلى رسول الله r أو لا، إذ أن ما قيل في المحراب فهو ثوابت عند العامة. فلَيْتَ إخواننا الوعاظ عدلوا عن ذكر الأحاديث الضعيفة في الوعظ إلى ذكر الأحاديث الصحيحة وكفى بها واعظا.
ولم يَذكر في القرآن أن يكون مثبَّتا لأن القرآن ثابت بالنقل المتواتر الذي كان يتلقاه الصغار عن الكبار منذ عهد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى يومنا هذا -ولله الحمد-؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله- من أنكر حرفا من القرآن مما لم تختلف فيه القراءات فإنه كافر، ومن زعم أن القرآن قد حُذف منه شيء فإنه كافر؛ لأنه مكذب لقول الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) } ومكذب لإجماع الأمة المعصومة، فإن الأمة المعصومة اتفقت بأجمعها على أن ما بين دفتي المصحف هو القرآن الذي نزل على محمد -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ليس فيه زيادة ولا نقص إلا ما اختلف القراء فيه من حرف أو حركة .
الثالث من حجة التكليف أي: من الأدلة التي يثبت بها التكليف ما أشار إليه الناظم بقوله : "من بعدها - أي: من بعد السنة - إجماع هذه الأمة"، والإجماع في اللغة الاتفاق والعزم، أما كونه بمعنى الاتفاق هذا أمر معروف. تقول: أجمع الناس على كذا، أي: اتفقوا عليه.
وأما كونه بمعنى العزم فذكروا له مثل قوله -تبارك وتعالى-: { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ } قالوا: معنى { فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ } أي: اعزموه ولا تفترقوا فيه.
أما الإجماع المصطلح عليه: فهو اتفاق مجتهدي الأمة على حكم شرعي بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- .(253/116)
فقولنا: إجماع مجتهدي الأمة خرج بها المقلدون، فإن المقلد ليس من المجتهدين، فلا يعتبر قوله في الخلاف والإجماع؛ لأن المقلد حقيقته أنه نسخة من كتاب أو قول، مقرر للمقلدين وليس مستقلا بنفسه ، وبهذا يتبين أنه ينبغي لنا أن نحرر أنفسنا من التقليد الأعمى والتعصب الأهوج الذي يسلكه بعض الناس، وأن نحاول الوصول إلى معرفة الحق من أصوله: الكتاب والسنة.
وقوله: "مجتهدي هذه الأمة" احترازا ، مما فيه الاحتراز من مجتهدي غير هذه الأمة؛ فإن قولهم: "ليس بحجة" ولا يعتبر قولهم إطلاقا في مسائل الشرع.
وقوله: على حكم من بعد موت النبي r خرج به ما لا يتفق على حكم في حياة الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فإن ما كان في حياته -عليه الصلاة والسلام- يعتبر من سنته سواء علم به أم لم يعلمه، أم لم يعلم به؛ لأننا على تقدير أن الرسول -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- لم يعلم به فإن الله تعالى قد علمه، فإذا أقره الله تعالى ولم ينكر دل ذلك على أنه حق.
وقوله: "إجماع هذه الأمة" يفيد أن إجماع غيرها ليس بحجة، وقد ذكرناه، فإن قال قائل: ما الدليل على أنه ليس بحجة ؟ قلنا: لذلك إشارات في القرآن، منها قوله تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ }
فإن قوله: { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } يدل على أن محل الافتقار إلى الكتاب والسنة إنما هو عند النزاع، أما عند الإجماع فالإجماع حجة بنفسه فلا يحتاج إلى استدلال.(253/117)
ومنها قوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) } فإن قوله: { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ } يدل على أن إجماع المسلمين ... إجماع المؤمنين حجة، وأن من خرج عن هذا الإجماع فقد خرج عن سبيل المؤمنين، فيكون بذلك آثما عاصيا .
ومنها ما يروى عن النبي r أنه قال: " إن أمتي لا تجتمع على ضلال " ولكن يبقى النظر، هل يمكن الاطلاع على الإجماع وهذا في كل عصر ؟ أو نكتفي بعدم وجود مخالف ؟
من المعلوم أن عدم العلم بالمخالف ليس علما بالإجماع، يعني: إن الإنسان قد يقصر علمه عن الإحاطة بأقوال العلماء، ولا سيما في الأزمنة السابقة أيام كانت المواصلات على الإبل والبغال والحمير والأقدام، ولا يمكن الإحاطة بمشارق الأرض ومغاربها في بيان حكم من الأحكام.
فلذلك أنكر قوم الإجماع وقالوا: إن هذا الخلاف في كون الإجماع حجة أو لا ، خلاف فيما لا يمكن الوصول إليه؛ لأن الإجماع يتعذر علمه ولا سيما فيما سبق من الأزمنة وكون الإنسان لا يعلم مخالفا لا يعني أن الناس أجمعوا على ذلك، وقد توسط قوم من أهل العلم في هذه المسألة وقالوا: الإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، يعني بذلك: القرون المفضلة الصحابة والتابعون وتابعوهم، يعني: ثلاث طبقات وذلك لأنه بعد هذه الطبقات انتشرت الأمة، واتسعت في أقطاب الأرض، وكثرت الأهواء والفتن والخلاف.
فالإجماع المعتبر عند هؤلاء هو ما كان من القرون المفضلة الثلاثة: الصحابة والتابعين وتابعيهم، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام -رحمه الله- حيث قال في كتابه (العقيدة الوسطية) ، والإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الخلاف وانتشر الأمة.(253/118)
ثم اعلم أن الغالب أن الإجماع على حكم لا يكون إلا عن دليل ، إما من القرآن أو السنة ، وإذا كان كذلك فيكون إجماعا مقررا في الواقع وليس دليلا مستقلا، لكن الدليل قد يعلم به الإنسان وقد لا يعلم ، قد يكون إنسان محيط بالأدلة غالبا ولكنه لم يعلم مخالفا يظن أن الإجماع ... أن الحكم ثبت بالإجماع، وقد يكون الإنسان غير ملم تماما بالأدلة لكن عنده إحاطة كاملة بالخلاف والوفاء بين العلماء فينقل الإجماع.
ولا يرد على هذا أن المسلمين أجمعوا على وجوب الصلوات الخمس ، أجمعوا على وجوب الزكاة، أجمعوا على وجوب الصوم، أجمعوا على وجوب الحج؛ لأن هذه الأحكام ثبتت بالنص.
حجية القياس:
قال: "والرابع القياس فافهمنَّه"، الرابع: القياس وهو إلحاق فرع بأصل لعلة جاءت في حُكم. لعلة جاءت، يعني: أن تُلحِق فرعا وهو المَقِيس بأصل وهو المَقِيس عليه في حكم من الأحكام، كالتحريم والإيجاب وما أشبه ذلك لعلة جامعة، أي: لمعنى يجمع بين الأصل والفرع ثبت به الحكم .
وقوله: "فافهمنه" أي: افهم القياس تماما، افهم المقيس قياسا آكدا لا يختلف فيه الأصل والفرع وما أشبه ذلك من الأقيسة الثابتة، ومنه أن يكون قياسا مخالفا للنص، فالقياس الفاسد لا يعول عليه؛ ولهذا نص الناظم على فهم القياس، قال : "فافهمنه"، أي: افهم القياس وليكن قياسك صحيحا.
فإن قال قائل: ما هو الدليل على أن القياس حُجة؟ قلنا: الأدلة من القرآن والسنة، فمن القرآن يمكنك أن تقول كل مثل ضربه الله في القرآن فإنه بين على القياس؛ لأن المقصود بذلك أن يعتبر الناس بالمثل فيقيسوا عليه ما شابهه، وهذا هو عين القياس.(253/119)
ومن ذلك ما جاء في القرآن قول الله تبارك وتعالى: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ } فإنه لا يمكن أن يكون في قصصهم عبرة إلا أن المقيس ما ماثل أحوالهم على أحواله، وقال الله تبارك وتعالى: { * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) }
وأما من السُّنة فالأدلة على القياس متعددة ومتنوعة فمن ذلك أن النبي r أذن للمرأة التي سألته أن أمها نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أذِن لها أن تحج عن أمها وقال: " أرأيتِ إن كان على أمك دَيْنٌ أكنت قاضيته ؟ قالت: نعم، قال: فاقضوا الله فالله أحق بالوفاء " .
ومنها -أي: من أدلة السنة- أن النبي r أتاه رجل أعرابي أظنه قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسود أي بلون مخالف للون أبيه وأمه، فكأنه يسأل ما وجه ذلك، كيف يخالف لونه لون أبيه وأمه؟ .
وقال بعض العلماء: إنه متعذر في أمه أي بزوجته وكأنها جاءت بولد من غيره، ولكن الأول أقرب لما فيه من إحسان الظن بالصحابة أي أنه أراد أن يعرف وجه كون لون الابن مخالف للونهما، فقال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " هل لك من الإبل ؟ قال : نعم ، قال : ما ألوانها ؟ قال : حمر قال : هل فيها من أوْرَق؟ قال : نعم، قال: فمن أين أتاها؟ قال : لعله نازعه عرق يا رسول الله، قال النبي r فابنك هذا لعله نازعه عرق " .
فدل ذلك على ثبوت القياس، قاس النبي r ... قاس النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وجود الجمل الأوْرق بين إبلٍ حمر على وجود ولد أسود بين أبوين لونهما يخالف لونه؛ لأن القادر على هذا قادر على هذا.
والأمثلة على هذا كثيرة -أي: على كون القياس حجة- كثيرة، وهو أيضا مقتضى حكمة الله U فإن الحكمة تقتضي أن يساوى النظير بنظيره، وأن يفرق بين المختلفين.(253/120)
واعلم أنه لا قياس في مقابلة النص. فمن قاس قياسا مخالفا للنص فقياسه باطل من وجهين: الوجه الأول: مخالفة النص والوجه الثاني: أنه لا بد أن يكون بين المَقيس والمَقيس عليه فرق من أجله ثبت الفرق بينهما بالكتاب والسنة.
ومن ذلك مثلا أن بعض أهل العلم -رحمهم الله- قاسوا تزويج المرأة نفسها إذا كانت ثيِّبا على بيعها مالها لنفسها، وقال: إذا كانت تملك أن تبيع مالها -ولو كان جميع مالها- بدون إذن وليِّها، فكذلك تملك أن تزوج نفسها بدون إذن وليِّها إذا كانت عاقلة.
وهذا القياس قياس باطل؛ لأنه في مقابلة النص، فقد ثبت عن النبي r أنه قال: " لا تنكح الأَيِّم حتى تُستأمر، ولا تُنكح البِكر حتى تُستأذن، قالوا: يا رسول الله، وكيف إذنها؟ قال: إذنها أن تَسكت " .
فنهى النبي r أن تُزوج المرأة بغير إذن، بغير ولي؛ لأنه لو كانت تملك أن تزوج نفسها ما احتاج أن يقول لا تنكح البكر، ولا تنكح الأيم ، فلا بد من أن يكون لها ولي، وقال النبي r مصرحا بذلك : " لا نكاح إلا بوَلي " فالقياس إذا غير صحيح؛ لأنه مصادم للنص.
هذا وإلى هنا ينتهي الدرس لهذا اليوم أسأل الله أن يجعل علمنا نافعا لنا ، مقربا مثلنا إليه ، إنه على كل شيء قدير .
نعم ..
س: فضيلة الشيخ هذا سائل يقول : هل يشرع للمسافر أن يأتي بالأذكار الواردة بعد الصلوات المفروضة أم لا ؟
ج: نعم يُشرع للمسافر أن يأتي بالأذكار الواردة بعد الصلوات؛ وذلك لأن النصوص وردت عامة، وإذا ورد النص عاما فإنه يبقى على عمومه. هذا هو الأصل.(253/121)
وعلى هذا فنقول: يشرع للمسافر أن يأتي بالأذكار الواردة دُبر الصلوات، ولكن يسأل إذا كان يريد أن يجمع، فهل يفصل بين المجموعتين بالذكر الوارد ؟ أو يكتفي بالذكر بعد الثانية، ويكون ذلك من باب اجتماع العبادات والاكتفاء ببعضها، كما لو دخل المسجد وصلى راتبة الصلاة فإنها تكفيه عن تحية المسجد، هذا يحتمل وجهين، ولكن لا شك أنه لا يأتي بالذكر بعد الأولى ، إلا أنه إذا فرغ من الثانية أتى بالذكر، ثم هل يكتفي بذكر واحد كما قلنا في تحية المسجد مع الراتبة أم لا بد من الذكرين جميعا؟
الأحوط والأكمل أن يأتي بالذكرين جميعا وإن اقتصر على ذكر واحد للصلاتين جميعا فأرجو أن يكون كافيا.
نعم ...
س: هذا يقول: يا شيخ، نحن مجموعة من الشباب ندرس في منطقة بعيدة عن بلدنا يغلب على أهلها الجهل بأحكام الدين، وينتشر في هذه البلدة ما يسمى بالزار، ويذهب إليه كثير من الناس فكيف يمكن دعوة هؤلاء الناس؟ وجزاكم الله خيرا ؟
ج: يمكن دعوة هؤلاء الناس بالتي هي أحسن بأن يتكلم الرجل عن حكم هذه الاجتماعات مدلِّلا عليها بأدلة الكتاب والسنة وأقوال العلماء الموثوقين دون أن يجابه العوام بالإنكار بالقول أو بالفعل؛ لأن الشيء الذي اعتاده الناس يصعب جدا أن ينزلوا عنه إلا بسلطان بيِّن، وأعني بالسلطان: الكلام المقنع بأدلته من الكتاب والسنة.
ثم إنه ليس بلازم أن يقول الإنسان بالمجتمعات: المساجد ومحلات الاجتماع، ويتكلم ليس بلازم، ربما يتكلم مع أهله وأقاربه، فإذا تكلم هذا مع أهله وأقاربه وهذا مع أهله وأقاربه واقتنعوا حصل رفع ذلك الأمر المنكر .
نعم ..
س: وهذا يقول: شيخنا الفاضل، لا قياس في العبادات. هل هذه القاعدة على إطلاقها أم لها شروط ؟(253/122)
ج: بتثبتنا لأقوال العلماء -رحمهم الله- في هذه المسألة أنه لا قياس في إثبات أصل العبادة، أما في إثبات بعض شروطها وواجباتها فهم يقيسون كثيرا، من ذلك مثلا أنه ورد في التسمية عند الوضوء حتى جعلها بعض العلماء من شرط صحة الوضوء لما يروى عن النبي r " لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه " على أن العلماء اختلفوا في ثبوت هذا الحديث .
والإمام أحمد -رحمه الله- قال: لم يثبت في هذا الباب شيء ، لكن على قول من يقول: إن الحديث حجة، وإنه لا بد من التسمية على الوضوء، من العلماء من قال: يقاس على الوضوء الغسل؛ ، لأنه إذا ثبت وجود التسمية على الوضوء وهو حدث أصغر لثبت وجوبها في الأكبر من باب أولى.
ثم منهم من تعدى وقال: وتجب أيضا في التيمم كما تجب في الوضوء، أنت ترى أن هؤلاء قاسوا شيئا من واجبات العبادة على شيء لم يثبت، مع أن المتتبع للأحاديث في صفة الوضوء وفي صفة التيمم يتبين له أن ذلك ليس بواجب، يعني: التسمية لا على الوضوء ولا على الغسل ولا على التيمم، والأمثلة على هذا كثيرة، فالذي يتبين أن الضابط على وجه التقريب أن إثبات عبادة مستقلة قياسا على عبادة أخرى لا يثبت.
وأما قياس وصف في عبادة على عبادة تماثلها أو على عبادة من جنسها هذا قد يثبت، لو أن أحدا قال : الاجتماع في الصلوات الخمس لا شك أنه مشروع ، وأن الإنسان إذا دخل المسجد استحب له أن يذكر اسم الله بالذكر الوارد، فهل الاجتماع للقرآن أو لتعلم العلم بقياس على هذا ؟ ونقول: إنه اجتماع على عبادة، فيشرع له الذكر عند دخول المحل كما شرع بالمسجد أو ما أشبه ذلك ، نقول: لا، هذا لا يثبت لأن الاجتماع على العلم ودراسة القرآن ليس كالاجتماع على الصلوات الخمس مثلا، والضابط -أو أقرب ما يكون من الضوابط- هو ما ذكرت، وأما أن تثبت سنة مستقلة قياسا على سنة مستقلة فهذا ليس بوارد .
نعم ..(253/123)
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، ينتشر في بلادنا الذهاب إلى الكهنة والعرافين -لا كثَّرهم الله- وعندما نُحذر من الذهاب إليهم يحتجّ علينا البعض بأنه لا يوجد بديل وأنا أريد العافية لهذا المريض المسكين وغير ذلك، فهل تنصحني فضيلة الشيخ بالتصدي للعلاج بالكتاب والسنة، وما هي الضوابط والوصايا حول هذا ؟ وجزاكم الله خيرا .
نعم ..
ج: نحن ننصح كل إخواننا المصابين بمرض طارئ أو مرض دائم، بمرض يتعلق بالعقل أو بالجسد أن يلجئوا إلى الله U وأن يستعملوا الرُّقى الجائزة؛ لأنها كلها خير، فمن ذلك مثلا أن يقرأ على المريض أو المصاب بفاتحة الكتاب فإن قراءة فاتحة الكتاب لها أثر بالغ في شفاء المريض.
دليل ذلك " أن النبي r بعث سَرية فنزلوا على قوم فلم يضيفوهم القوم، فتنحوا ناحية ونزلوا، ثم يسّر الله تعالى لرئيسهم أن لدغته عقرب، فبحثوا عن راقٍ يرقي عليه فقال البعض: لعل في القوم الذين نزلوا بكم عندهم راق.
فجاءوا إلى الصحابة وقالوا لهم: هل فيكم من راق؟ قالوا: نعم، لكننا لا نرقي إلا بكذا وكذا من الغنم، فقالوا: ولكم ذلك إن شفاه الله، فذهب أحد القوم من الصحابة يقرأ عليه بفاتحة الكتاب، فقام كأنما نشِط من عقال أبرأه الله وأخذوا ما أخذوا من الغنم التي اشترطوها عليهم حتى قدموا المدينة وأخبروا النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- واستفتوه في حِل هذه الغنم فقال -عليه الصلاة والسلام-: خذوا واضربوا لي معكم بسهم. ثم قال للقارئ الذي قرأ بأم الكتاب: وما يدريك، وما يدريك أنها رقية؟ " .
وقد جرب هذا ووجد أن لها تأثيرا بالغا في الشفاء من المرض، وكذلك قراءة { قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) } { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) } و { قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) } لهم تأثير بالغ في الشفاء من السِّحر؛ لأن النبي r رقى بهما.(253/124)
" فإن النبي r سحره لبيد بن الأعصم اليهودي حتى صار -النبي عليه الصلاة والسلام- يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله " لكن ذلك لم يؤثر على ما عنده r من الوحي والشريعة، ثم رقي r بهاتين السورتين فشفاه الله تعالى.
فدل ذلك على تأثير القراءة في الشفاء من المرض، ولكن لا بد من شرطين مهمين في تأثير القراءة على المرضى، الشرط الأول: أن يكون عند القارئ إيمان ويقين بأنها نافعة، أي: بأن القراءة نافعة وأن يكون عنده قوة وعزيمة فتؤثر عند القراءة .
والشرط الثاني : أن يكون المقروء عليه -أي: المريض- قابلا لهذا العلاج مطمئنا إليه واثقا به، فإن لم يكن الشرطان فإنه لا أثر لها، كما نجد الآن أن بعض الناس يقرءون نفس الفاتحة على المريض فيكررها ولكن لا جدوى؛ لأن هناك خللا إما في نفس القارئ أو في نفس المقروء عليه، لما في نفس القارئ بأن تكون قراءته على سبيل التجربة، يقول: أجرب ... أشوف، هل تفيد أو لا ؟ هذا لا شك أنه لا يستفيد؛ لأن هذا لم يؤمن بقول الرسول r وما يدريك أنها رقية ؟
وكذلك أيضا نفس المريض بأن لا ينفعل ولا يتأثر بالقراءة عليه ويقول: ما أدري لعلها تنفع أو لا تنفع. فلا بد من يقين وإيمان بأن هذه القراءة نافعة، من القارئ ومن المقروء عليه، ويشفى بإذن الله .
وأما المشعبذين، أو المشعوذين فإن كثيرا منهم كذاب يريد أن يبتز أموال الناس؛ ولهذا تجده يقول: فيك كذا أو كذا أحيانا، وأحيانا يكون عنده ذكاء وفطنة، فيكذب يقول: عندك كذا، وإذا تأمل المريض أو أقارب المريض تبين لهم أنه كاذب.(253/125)
لذلك نحذر إخواننا من الأوهام التي ترد على أنفسهم، فإن الوهم أصبح العامل الرئيسي في اعتقاد أن ما أصيب به الإنسان إما من الجن وإما من السحر، وهذا من الغلط العظيم، ما كل مرض يكون من السحر، ما كل مرض يكون من الجن أبدا ، الأمراض متنوعة لكن النفوس إذا توهمت وخيل إليها الشيء ربما يكون حقيقة عندها، أو ربما تنفعل النفس حتى يكون عندها كالحقيقة وليس بحقيقة.
فنحن نحذر إخواننا الذين يبتلون بمثل هذه الوساوس أن يستعينوا بالله U من الشيطان الرجيم، وأن يقبلوا على آمالهم وألا يكترثوا بذلك ولا يهتموا به، وإذا تناسوه شفاهم الله منه .
أما إن تعلقت قلوبهم بذلك وصار كل واحد منهم يقول، لعله أصابه مس، لعله أصابه سحر، لعله أصابته عَين لعله كذا فسوف يكون فريسة للأوهام، ويعجز عن انتشال نفسه.
وكذلك أيضا كون بعض الناس يذهب إلى هؤلاء المشعوذين يتأثر بنشاط فيعتقد أنه زال مرضه، كل هذا مبني على الوهم؛ لأنه يعتقد أن لهؤلاء تأثيرا، فيتأثر ولو كان يعرف حقيقتهم، وأنهم لن يجدوا شيئا ما تأثر بهم نسأل الله لنا ولإخواننا السلامة والعافية، وأن يجعل ما رزقنا من نعمة وقوة وصحة عونا لنا على طاعته إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
إنما الأعمال بالنيات
قال الناظم -حفظه الله تعالى ورفع درجته في المهديين:
واحكم لكل عامل بنيته
فإنما الأعمال بالنيات
ويحرم المضي فيما فسدا
والنفل جوز قطعه ما لم يقع
واسدد على المحتال باب حِيلته
كما أتى في خبر الثقاتِ
إلا بحج واعتمار أبدا
حجا وعمرة فقطعه امتنع
الحمد لله رب العالمين وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين وإمام المتقين وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين أما بعد..(253/126)
فهذا هو الدرس الثامن من دروس الدورة التي تقام في درس علم سبعة عشر وأربعمائة وألف بمسجد شيخ الإسلام ابن تيمية في حي سلطانة بالرياض وهذا هو يوم الاثنين الرابع عشر من شهر ربيع الأول سنة سبعة عشر وأربعمائة وألف
س: وقبل أن نتكلم على ما سمعنا من الأبيات نناقش في آخر درس سبق، نقول: هل قول الخلفاء الراشدين حجة؟ وما هو الدليل ؟
ج: قول الخلفاء الراشدين حجة، والدليل قول المصطفى r " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " .
س: ما هو النص الخاص بأبي بكر وعمر في هذا الموضوع ؟
ج: قول الرسول r " اقتدوا باللذين من بعدي أبو بكر وعمر " .
نعم ..
وقوله: " إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا " قال ذلك ثلاثا أليس كذلك ؟ بلى يا شيخ .
س: قول الصحابي مختلف فيه، هل هو حجة أو لا، فما هو القول الراجح في هذا ؟
ج: الصحابي الذي عُرف بفقهه وصحبته للرسول r وانتشر، يعني: انتشر فقهه، فهذا قوله حجة، الصحابي الذي عرف بالصحبة ولم يعرف بالفقه، فقوله ليس حجة.
س: ما شرط كون قول الصحابي حجة ؟
ج: ألا يخالف مثله أو من يفوقه أو لا يخالف نصا من كتاب الله وسنته -صلى الله عليه وسلم .
س: نعم .. لا يخالف نصا أو صحابيا مثله أو فوقه، طيب، إذا خالف صحابيا مثله، فما الواجب؟
ج: أن نعرضه على كتاب الله وسنة رسوله، يعني: ما توجه نأخذ به .
نعم ..
س: يقول العلماء غالبا: إن الأدلة التي يحصل بها التكليف أربعة، فما هي ؟
ج: أولا القرآن الكريم، الثاني: سنة المصطفى -عليه الصلاة والسلام- الثالث: الإجماع، الرابع: القياس الصحيح.
س: الناظم يقول : "وسنة مُثَبَّتة" فما وجه هذا القيد ؟
ج: أن تكون السنة ثابتة ليست بضعيفة ولا موضوعة، يعني: احترازا من الضعيف والموضوع ؟
نعم .
س: أطلق بعض العلماء أن الحديث الضعيف يحتج به في فضائل الأعمال ، فما رأيك في هذا الإطلاق ؟(253/127)
قال العلماء: أنه يحتج بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال، ولكن لهذا الاحتجاج شروط، نعم … الأول : ألا يكون الضعف شديدا، نعم، الثاني: ألا يعتقد صحة سنده إلى الرسول -عليه الصلاة والسلام-، الثالث: أن يكون على أصل ثابت .
س: أن يكون له أصل ثابت -أي نعم- مثِّل للأخير ، الأصل الثابت مثِّل - نعم يا شيخ - أن يكون له أصل ثابت ، يعني ، مثل لهذا ..
مثل الذكر الذي يذكر عند دخول السوق فإنه ضعيف ولكن يقال لأن هناك بعض الأقوال تقال في دخول بعض الأشياء والخروج منها .
هذا مثال غير صحيح ، ليس له أصل .
مثل الأحاديث التي فيها ترهيب أو الإثم لفاعل الزنا أو آكل الربا ونحوها .
إن كانت ترد أحاديث في شدة عقاب المرابي ضعيفة فيها من حيث السند لكن لها أصل، وهو الوعيد على الربا، فهنا نقول إن ثبتت هذه الأحاديث فهي حجة بنفسها، وإن لم تثبت ففيها زيادة ترهيب مما ثبت الترهيب عنه في الترغيب فيما ثبت أصله .
مثل فضل الصلوات الخمس- نعم، مثل صلاة الجماعة -نعم- ترد فيها أحاديث مثلا في كثرة ثواب المصلي مع الجماعة، ضعيفة هي من حيث السند، لكن نقول: لها أصل ثابت فلا بأس من ذكرها .
س: طيب .. هل الإجماع حجة من أي عالم كان ؟ أو لا بد من قيد ؟
ج: لا بد من قيد أو اجتهاد - لا بد من قيد أو اجتهاد .
س: لماذا لا بد من قيد أو اجتهاد ؟
ج: لإخراج المقلد، لأن المقلد لا يعدو أن يكون نسخة من كتاب أو قولا مكررا من متبوعه؛ ولهذا ذكر ابن عبد البر -رحمه الله- إجماع العلماء على أن المقلد ليس بعالم، فيها أيضا زيادة هل الإجماع معتبر في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- أو لا ؟
س: لا بد أن يكون بعد وفاة النبي r لماذا؟
ج: لأن في حياة النبي r المرجع إليه وليس لإجماع الناس.
يعني: يكون ثابتا بالنص لا بالإجماع -نعم- طيب أيضا فيه شرط باقي أن يكون الإجماع من هذه الأمة، ولهذا قال الناظم : "إجماع هذي الأمة " وأما إجماع غيرها فليس بمعصوم فلا يحتج به .(253/128)
س: الناظم قال : "الرابع القياس" فما هو القياس ؟
ج: القياس إلحاق فرع بأصل حكم ... بحكم بعلة جامعة .
س: بماذا نسمي الأصل ؟
ج: الأصل الكتاب والسنة .
س: لا، ماذا نسميه -نعم يا شيخ- ماذا نسميه ؟
ج: الأصل نقيس عليه -هو المقيس عليه، والفرع؟ هو المقاس عليه … المقيس ... المقيس .
والحكم هو التحريم أو الإيجاب وما أشبه ذلك، والعلة هي المعنى الذي من أجله شرع الحكم.
س: طيب .. الناظم قال : "فافهمنه" ما الفائدة من هذا التذييل ؟
ج: لأن القياس الفاسد لا يعول عليه .
يعني: المعنى كأنه يقول : احذر من أن تقيس قياسا فاسدا، وافهم القياس وأنه هل هو مطابق تماما، وهو أن الأصل مطابق ، نعم ، وهو أن الفرع مطابق للأصل تماما أو لا .
س: طيب .. شرط القياس ألا يخالف النص ، فإن خالف النص ؟
ج: فلا قياس، فهو مردود ماذا يسميه العلماء ، القياس المخالف للنص.
يسمى القياس الفاسد، فاسد اعتبار ، يسمونه فاسد اعتبار ، مثال ؟
عندما قاس البعض على أن المرأة تجوز أن تزوج نفسها ، استدلوا ذلك من أنها تبيع وتشتري دون إذن وليها، فهذا قياس مع النص وهو فاسد .
يعني: كقياس تزويج المرأة نفسها بدون إذن وليها على بيع مالها دون إذن وليها ، فهو قياس فاسد . لماذا كان فاسدا ؟
وذلك لوجود النص قول الرسول r " لا نكاح إلا بولي " .
س: طيب ، رجل قاس لحم الخنزير على لحم الإبل في نقض الوضوء ، يعني: قال: إنه إذا أكل لحم خنزير انتقض وضوءه كما ينقض وضوءه بلحم، بأكل لحم الإبل ، ما تقول في هذا القياس ؟
ج: قياس غير صحيح ، فاسد -ليش- لأن النص أتى في الإبل فقط .
يمكنه أن يقول سأقيس لأن اللحم المحرم أخبث منه، من اللحم الحلال ، - لا توجد علة بينهم .
نعم ، نعم ، لأن العلة في نقض الوضوء بلحم الإبل ليست النجاسة حتى نقول إن لحم الخنزير مثله تماما ؟
س: ما هي العلة في نقض الوضوء بأكل لحم الإبل ؟(253/129)
ج: العلة ، بعض العلماء يقول: إنها تعبدية ، لأن نقض الوضوء بلحم الإبل تعبدي لا تعرف علته، ومنهم من قال: إن العلة هو أن الإبل خلقت من الشياطين وأن لحمها مؤثر على البدن، يثير البدن، ويثير الأعصاب والماء يسكن ذلك، الله أعلم.
وحقيقة أنا نقول فيما لم نعلم حكمته إن مجرد أمر النبي r به هو الحكمة، مجرد أمر الله به هو الحكمة، مجرد نهي الله عنه هو الحكمة، مجرد نهي الله عنه هو الحكمة بأن نعلم أن الشرع من لدن حكيم عليم، فإذا ورد بشيء فهو موافق للحكمة تماما سواء علمناها أم لم نعلمها .
يقول الناظم :
"واحكم لكل عامل بنيته" هذه قاعدة ، أنه يحكم لكل عامل بنيته، ودليل ذلك قول النبي r " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى " وهذا الحديث من أجمع الأحاديث وأعظمها، وعليه مدار أعمال القلوب كلها.
وما من شك أنه ما من إنسان عاقل مختار يفعل فعلا إلا بنية، ولا يمكن أن يقع فعل من عاقل مختار بدون نية إطلاقا، هذه النية عليها مدار الجزاء من ثواب أو عقاب؛ لقول النبي r " وإنما لكل امرئ ما نوى " .
وهذا الحديث حديث عظيم ، عليه يدور ميزان الأعمال الباطنة ، وحديث عائشة -رضي الله عنها- أن النبي r قال : " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " هذا ميزان الأعمال الظاهرة، وهما بمعنى قولنا: إن شرط العبادة الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
الإخلاص يكون بالنية، والمتابعة تكون بالعمل الظاهر، والناس يختلفون في النية اختلافا عظيما، تجد اثنين يصليان، أحدهما يقف بجنب الآخر وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض في الثواب ورِفعة الدرجات.
كل ذلك بناء على النية، مع أن الأفعال الظاهرة سواء لكن أعمال القلوب؛ ولهذا " سئل النبي r عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله ؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " .(253/130)
فبيَّن -عليه الصلاة والسلام- أن الرجلين قد يقاتلان جميعا أحدهما في سبيل الله والثاني في سبيل الطاغوت؛ لأنه لا بد أن يكون له نية لأن كل فاعل يفعل الشيء وهو عاقل مختار فلا بد أن يكون له نية .
وإنني بهذه المناسبة أود أن أبين ما ابتلي به كثير من الناس اليوم من الوساوس؛ وذلك لكثرة الفراغ وعدم الانشغال وعدم الجد في العمل. كثرت الوساوس جدا فتجد الرجل يتوضأ ويقول: ما نويت، يتوضأ ويقول: ما أكملت المضمضة، ما أكملت الاستنشاق ، يغتسل ويقول: ما نويت رفع الحدث … وما أشبه ذلك، يصلي فيقول: ما كبَّرت ما قرأت الفاتحة وما أشبه ذلك من الوساوس العظيمة؛ لهذا نقول: إنه لا أثر لهذه الوساوس لأنها صادرة عن غير نية.
ويُذكر أن رجلا أتى إلى الشيخ علي بن عقيل أحد فقهاء مذهب الإمام أحمد المعتبرين، فقال له: إني حين انغمست في نهر دجلة لرفع الجنابة ثم خرجت وأنا في شك من ذلك، أو كما قال، فقال له الشيخ ابن عقيل : أرى أن لا تصلي، قال: ولم ؟ قال : لأن النبي r قال: " رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصغير حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق " وما أضمن رجلا عليه جنابة حين انغمس في نهر دجلة ثم يقول: ما نويت رفع الحدث أو أنا شككت فيه .
وهذا من أقوى ... وهذا من أبلغ السخرية بهذا الرجل، ولهذا قال بعض العلماء: لو كلفنا الله عملا بلا نية لكان من التكليف ما لا يطاق.
ومن ذلك أن بعض الناس يبتلى بالوساوس في طلاق زوجته، فتجده لو فتح كتابا يقرؤه خُيِّل له أنه قال: امرأتي طالق مني لو فتحت هذا الكتاب، ولو خرج من البيت خيل له أنه قال: إن خرجتُ فامرأتي طالق وما أشبه ذلك، حتى يلجئه الوسواس إلى أن يقول: تخرج من هذه الوساوس ونطلق ثم يصدر الطلاق!!(253/131)
ومن كانت هذه حاله فإنه لا يعتبر له طلاق حتى لو طلق باللفظ الصريح، والحامل له على ذلك الوسواس فإنه لا طلاق عليه؛ لأن النبي r قال : " لا طلاق في إغلاق " وأي إغلاق أشد من الوسواس الذي يقذف الإنسان ويسيطر على عقله.
ثم قال : "واسدد على المحتال باب حيلته" هذه قاعدة أخرى، وهو أنه يجب أن يسد على المحتال باب الحيلة، وتلغى حيلته سواء كان ذلك في حق الله أو في حق العباد، وسواء كان ذلك في التحيُّل على إسقاط الواجبأو التحيل على فعل محرم .
مثال ذلك : أن يحتال على إسقاط الواجب، فمن المعلوم أن الإنسان إذا سافر في رمضان فإن له أن يفطر، وهذا رجل يريد أن يفطر في رمضان ويعلم أنه لا يمكن أن يفطر وهو مقيم فيسافر من أجل الفطر، فنقول له: إن سفرك حرام وإن فطرك حرام، يلزمك الصوم حتى
في السفر ؛ لأن سفرك هذا حيلة لإسقاط واجب فلا ينفعك هذا ، فلا تنفعك، فنسد عليه باب الحيلة .
نقول: إذا باع الرجل نصيبه من أرض مشتركة بينه وبين آخر، فإن لشريكه أن يأخذ الأرض من المشتري بالثمن الذي اشتراها به.
فيعمد بعض الناس -إذا اشترى الأرض- إلى إيقافها فورا؛ لأنه إذا أوقفها لم يتمكن الشريك من الشفعة؛ لأنها انتقلت عن ملك المشتري إلى غيره، فيذهب المشتري، ويوقفها فور شرائها من أجل ألا يأخذ الشريك بالشفعة.
فنقول: هذا عمل باطل، وللشريك أن يأخذ بالشفعة.
لكن إذا علمنا أن الرجل أوقفها تَحَيُّلا لإسقاط الشفعة.
ومن ذلك أيضا: إذا اشترى شيئا، فإن البائع بالخيار ما دام في مجلسه، فيقوم المشتري فور الشراء، ويفارق المجلس لإسقاط حق البائع بالخيار.
هذا أيضا حرام، لا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله؛ لأن هذا حيلة على إسقاط حق البائع من الخيار.
وكذلك لو قام البائع بإسقاط حق المشتري من الخيار، فإنه لا يحل.(253/132)
ومن الحيل على فعل المحرم في حق الله U ما جرى لأصحاب السبت، فإنه حُرِّمَ عليهم أن يصطادوا الحيتان يوم السبت، فطال عليهم الأمد، فعمدوا إلى شباك يضعونها يوم الجمعة، فيأتي الحيتان يوم السبت، فيقع في هذه الشباك، فإذا كان يوم الأحد أخذوها، أي: أخذوا الحيتان، وقالوا بزعمهم: إننا لم نَصِدْ يوم السبت.
فتحيلوا على محارم الله مثل ذلك، وهذا لا يحيل من الإثم، ولهذا قال الله تعالى: { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) }
ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التحيل على تحليل المرأة المطلقة ثلاثا لزوجها الأول، فإنه من المعلوم أنه من طلق زوجته ثلاث مرات لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويطأها.
فيعمد بعض الناس بهذه المطلقة أن يتزوجها، ثم يجامعها، ثم يطلقها لتحل للأول، وهذا نكاح حيلة، وليس نكاح رغبة، فيبطل النكاح الثاني، ثم لا تحل للأول؛ لأنها لا تحل الأول إلا إذا كان بنكاح صحيح، كما أشار إليه قوله تعالى: { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي: الثالثة، { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ }
وتأمل قوله: { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا } ليتبين لك أنه لا بد أن يكون النكاح صحيحا تكون فيه المعقود عليها زوجة، ويكون العاقد زوجا، وهذا لا يصح مع نية التحليل؛ لأنها تحيل على تحليل ما حرم الله U .
والأمثلة على هذا كثيرة، لكن المهم القاعدة، ولهذا قال: واسدد على المثال هذا بحيلتك، فإنما الأعمال بالنيات كما أتى في خبر الثقات، وقد أشرنا إلى هذا الحديث، وهو قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى "
حرمة المضي في الفاسد:
ثم قال الناظم:
ويحرم المُضِي فيما فسدا
والنفل جوّز قطعه ما لم يقع
إلا بحج واعتمار أبدا
حجّا وعمرة فقطعه ممتنع(253/133)
الفاسد من العقود، والفاسد من العبادات يحرم المضي فيه؛ وذلك لأن المضي فيما فسد محادة لله U ومضادة لحكمه؛ فإن الله -تعالى- لم يحرمه إلا لئلا يقع من الناس، فإذا صححناه فهذه هي المحادة لله -تعالى- ورسوله.
وكذلك -أيضا- إذا مضى فيه، إذا مضى فيه فإنه يكون محادّا لله ورسوله، بل يجب إفساده والتخلي عنه.
مثال ذلك: رجل يصلي، فأحدث في أثناء الصلاة، فاستحيا أن ينصرف من الصف أمام الناس، ومضى في صلاته، فنقول له: إن مضيك فيها حرام، وأنت آثمٌ بذلك، مضاد لله ورسوله، ساخر بأحكام الله ورسوله.
ونقول له: لماذا تستحي من الناس ولا تستحي من الله؟!
ثم إنه بالصورة التي ذكرناها ربما يعمل عملا ينتفي به ما يُستحيا منه، وذلك بأن يضع يده على أنفه كأنما أرعف أنفه، ثم يخرج، والناس إذا رأوا يده على أنفه قالوا: هذا قد أرعف، ومعروف أن الإرعاف أمر بغير اختيار الإنسان.
كذلك أيضا في المعاملات، لو أن الإنسان عقد عقدا ربويا، بأن باع درهما درهمين، أو صاعا من البُر بصاعين من البُر، فإن هذا عقد فاسد، يجب رده، ويحرم أن يمضي فيه، فتُرَدّ السلعة إلى البائع، ويُرَد الثمن إلى المشتري، ودليل ذلك -أي: دليل وجوب رد الفاسد وتحريم المضي فيه- " أن النبي r أُتي بتمر، فوجده جيدا، فقال: ما هذا؟ قالوا: كنا نشتري الصاع بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال r ردوه " .
فأمر برده؛ لأن هذا ربا، والربا يجب رده.
وهكذا كل ما مُلِك بعقد فاسد، فإن الواجب رده على صاحبه، وعدم تملكه.
لكن لو قال قائل: رجلان عَقَدَا عقد ربا، فأعطى أحدهما الآخر مائة ألف، على أن يرد إليه مائة وعشرين ألفا بعد سنة.(253/134)
أخذها، وتصرف فيها، وبعد مُضي سنة قال -أي الذي أخذ الدراهم- للذي أعطاه إياها: هذا عقد ربا، والربا حرام، وقد لعن النبي r آكله وموكله، ولا يمكن أن أوكلك ربا، فأدخل في اللعن. فيُقال له: سبحان الله! اليوم تخشى الله، وبالأمس لا تخشى الله؟! ما الذي جعله اليوم ربا لا يجوز المضي فيه، وكان بالأمس عقدا جائزا؟!
وهنا يقع الإشكال، هل نقول: إن الذي أعطى الدراهم لا يستحق الزيادة؟ والذي أخذ الدراهم يكون قد تكسب بها وانتفع بها مدة عام كامل، ولا نأخذ منه شيئا؟!
الجواب: لا، إن هذا لا تأتي بمثله الشريعة، ولكن نقول: أنت يا تاجر الدراهم لتُرْبِيَ فيها، ليس لك إلا رأسك، وأنت -أيها الآخذ- نأخذ منك ما اتفقت معه عليه من الربا، ونضعه في بيت المال، أو نتصدق به على الفقراء، أو يصرف فيما يهم المسلمين. فنسد على كل واحد منهم باب التحليل، ونعامل كل واحد بنقيض قصده.
كذلك -أيضا- لو أن شخصا صام، صيام رمضان، ثم أفطر في أثناء النهار، فإنه يحرم عليه أن يمضي في الصوم تعبدا، لكنه إذا كان في نهار رمضان ألزمناه بالإمساك احتراما للزمن، ما لم يكن فطره مباحا، فإن كان فطره مباحا فله أن يأكل ويشرب في بقية يومه، كرجل احتاج إلى الفطر لإنقاذ معصوم، فأنقذه، ولكنه لم يتمكن من إنقاذه إلا بعد أن شرب، فنقول له: الآن أفطرت، وفسد صومك، ولا تمضِ فيه بناء على أنه صوم، ولكن لك أن تأكل بقية يومك؛ لأنك لم تنتهك حرمة الزمن إلا على وجه مأذون لك، فيه ففطرك حلال، وإمساكك بقية النهار غير لك.
قال الناظم:
.. .. .. ..
إلا بحج واعتمار أبدا
يعني: أنه لا يحرم المُضي في فاسد الحج والعمرة، بل يجب المضي فيه.(253/135)
والفاسد من الحج هو الذي جامَع فيه قبل التحلل الأول، مثال ذلك: رجل جامَع زوجته ليلة مزدلفة، ومعلوم أنه بليلة المزدلفة لم يكن حل التحلل الأول، فيكون حجه فاسدا، ولكن يلزمه أن يكمله، ويمضي فيه، فإذا كان العام القادم قضاه؛ لأن الصحابة -رضي الله عنهم- قضوا بذلك، قضوا بأن الإنسان إذا جامع زوجته قبل التحلل الأول لزمه أن يتمم النسك، ثم يقضيه من العام القادم.
والجماع في العمرة يفسدها إذا وقع قبل التحلل منها، فلو أن معتمرا طاف، ثم ذهب إلى بيته مع أهله، وجامع أهله قبل أن يسعى، فعمرته الآن فاسدة، يلزمه أن يكملها بالسعي والحلق أو التقصير، ثم يأتي بعمرة جديدة من الميقات الذي أحرم منه في عمرته الأولى؛ لأنه أفسد العمرة.
ولهذا قال:
ويحرم المُضي فيما فسدا
إلا بحج واعتمار أبدا
ثم قال:
والنفل جوّز قطعه ما لم يقع
حجّا وعمرة فقطعه ممتنع
أفاد الناظم في هذا البيت أنه يجوز قطع النفل؛ لأنه نفل تطوع، إن شاء الإنسان أمضاه، وإن شاء قطعه، كما أنه لو شاء لشرع فيه، ولو شاء لم يشرع فيه.
مثال ذلك: رجل شرع في صوم النفل، وفي أثناء النهار قطعه، قطع الصوم، نقول: لا بأس، يجوز له أن يقطع صومه. واستدل العلماء في ذلك بأن " النبي r دخل ذات يوم على أهله، فقالوا: إنه أُهْدِيَ إلينا حيس -والحيس: هو التمر المخلوط بالسمن والدقيق، أو السمن والأقط- فقال: أرينيه، فلقد أصبحت صائما، فأتوا به، فأكل منه " .(253/136)
أكل منه مع أنه قال إنه أصبح صائما، هكذا استدل الفقهاء -رحمهم الله- بهذا الحديث، ونوقش هذا الاستدلال بأنه يحتمل أن قوله: " فلقد أصبحت صائما " أنه كان صائما عن الطعام، أي: أن صومه صوم لغوي، وليس صوما شرعيا، ولكن أُجيب عن ذلك بأن الصوم إذا أطلق في الشرع فالمراد به الصيام الشرعي؛ لأن حقيقة الشيء أو حقيقة الكلام تكون بحسب حال الناطق به، فإذا جاء في الشرع فإنه يُحْمَل على المعنى الشرعي، فإذا جاء في كلام أهل اللغة فإنه يحمل على المعنى اللغوي.
ولكن يُعلَم أنه لا ينبغي للإنسان أن يقطع النفل إلا إذا كان هناك مصلحة أو حاجة، مثل أن يقطعه لشيء أفضل منه.
ثم قال الناظم:
.. .. ما لم يقع
حجّا وعمرة فقطعه ممتنع
يعني: أنه إذا كان النفل حجا أو عمرة فإنه لا يجوز قطعه، بل قال العلماء: لو قطعه ورفض الإحرام فإنه لا ينقطع، ويلزمه المضي فيه. واستدلوا بقول الله -تبارك وتعالى-: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }
فلم يجوز الله -تعالى- قطعه إلا في حال الإحصار، وعلى هذا فإذا قطعه الإنسان في غير الإحصار صار قد عمل عملا ليس عليه أمر الله ورسوله، ومن عمل عملا ليس عليه أمر الله ورسوله فإنه رد، أي: مردود على صاحبه.
فيمتنع عليه قطع الحج والعمرة، إلا إذا كان محصرا، يعني: إذا عجز عن الإتمام، إما بعدو منعه الوصول إلى البيت، وإما بكسر أو مرض لا يُرْجَى زواله قريبا، فإنه يتحلل بذلك.
وكذلك إذا وجد مانع يمنعه من إتمامه، ولو كان مُوَقتا، فإنه لا يجوز له التحلل بشرط أن يكون قد اشترط عند الإحرام أنه إن حبسه حابس فمحله حيث حُبِس.
فإن قال قائل: إذا قطع الرجل، الحج ثم قيل له: إن الحج لا ينقطع بنية القطع. فهل عليه شيء، يعني: هل عليه دم؟
فالجواب: لا، لزم عليه على القول الراجح، وقال بعض العلماء: إن عليه دما؛ لأنه انتهك حرمته بكونه نوى قطعه.(253/137)
ولكن القول الراجح إنه ليس عليه دم؛ لأن هذه النية -وهي نية القطع- لم تؤثر فيه شيئا؛ إذ أنه لا ينقطع بنية القطع.
فإن قال قائل: ماذا تقولون في رجل دخل في العمرة في أيام رمضان -مثلا- ثم وجد الزحام شديدا، ثم تحلل ورجع إلى أهله متحللا؟
نقول له: إن هذا التحلل لا تنحل به العمرة، وإن عليه -ولو كان قد سافر إلى بلده- عليه أن يخلع ثيابه -ثياب الحل- ويلبس ثياب الإحرام، ويذهب ويكمل عمرته على الإحرام الأول، لا بإحرام جديد؛ وذلك لأنه لم يتحلل من عمرته، وكونه نوى التحلل لا يؤثر؛ لأن الحج والعمرة لا ينقطعان بقطعهما، ودليل ذلك ما أشرنا إليه قوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ }
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم إتمام ما أمرنا به على الوجه الذي يرضى به عنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، والآن إلى الأسئلة، نسأل الله أن نوفق فيها للصواب. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
س: هذا يقول: فضيلة الشيخ، هل من الممكن أن يكون هناك إجماع في هذا الزمان؟ وكيف يكون ذلك؟
ج: الإجماع لا يكون في هذا الزمان إذا كان هناك خلاف سابق؛ لأنه لا إجماع مع خلاف سابق، فإذا اختلفت الأمة على قولين، ثم أجمع المتأخرون على أحد القولين، فإن ذلك لا يعد إجماعا؛ لأن الأقوال لا تموت بموت قائليها، وعلى هذا فلا يُتصور ورود هذا السؤال لعدم إمكانه. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، أصيب ابني بوسوسة عظيمة في الوضوء، فأفتيته بترك الصلاة لمدة شهر، وبعد نهاية الشهر شفي ابني من هذا الوسواس، فهل عليَّ شيء، وهل على ابني قضاء؟(253/138)
ج: حقيقة أن هذه الفتوى غير صحيحة؛ لأنه أفتاه بما هو و(3) عليه وفرض من فروض الإسلام، لكن من رحمة الله به، والظاهر -والله أعلم- أنه على حسن نيته شفى الله ابنه من الوسواس. والواجب أن ينصح هذا الابن، ويقال: دع الوسواس. ويقف الإنسان عنده عند الوضوء، حتى إذا أتم الثلاث قال له: قف. وهذا -وإن كان فيه مشقة، لكن للعلاج، والإنسان قد يثاب بعمل لا يختاره. وعلى هذا الوالد أن يتوب إلى الله -تعالى- مما أفتاه به، وأن لا يعود لمثله، وألا يقدم على الفتوى إلا بعلم؛ لأن الإقدام على الفتوى بلا علم أمره خطير، فإنه يكون المفتي ممن افترى على الله الكذب، وقال على الله ما لا يعلم، وقد قال الله U { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33) } وقال تعالى: { إِن الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) } وقال: { إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ } فعلى هذا الأب أن يتوب إلى الله، أما بالنسبة لقضاء ما فات ابنه من الصلوات في الشهر فالاحتياط أن يعيد. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، من فسد حجه ثم مضى فيه، فهل عليه القضاء في العام القادم؟ وما الحكمة في مضيه في حجه مع فساده؟(253/139)
ج: إذا أفسد حجه فعليه أن يمضي فيه اتفاقا، ويكمله استنادا إلى ما روي عن الصحابة -رضي الله عنهم-، وتعزيرا له وعقوبة؛ لأن الحج أمره عظيم، فلو تساهل الناس فيه -مع كونه لا يأتي إلا بمشقة في الغالب؛ لأنه يحتاج إلى سفر، وإلى تعب وعناء- لتلاعب الناس في ذلك. الحكمة في وجوب المضي أنه من باب التعزير، أما من جهة وجوب القضاء فلأنه حين أحرم فرض على نفسه هذا النسك، لقوله تعالى: { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } ولقوله تعالى: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) } فلهذا ألزمناه بأن يقضي الحج والعمرة، حتى وإن كانا نفلا. نعم. لكن الشيخ قال: يلزمه أن يعيده في العام القادم، إي نعم، يلزمه أن يعيده في العالم القادم؛ لأن هذا الذي فسد لا يقطع الفريضة، وكما ذكرنا إنه إنما ألزمناه بالمضي فيه تعزيزا له، وألزمناه بالقضاء؛ لأنه هو الذي أفسده. ولذلك لو أن الإنسان أحرم بالحج، ثم حصر عن إتمامه، عجزه -بعدو أو غير عدو على القول الراجح- فإنه يتحلل، ولا يلزمه الحج في العام القادم، إلا إذا كان الحج الذي حصر فيه هو الفريضة، فإنه يلزمه أن يقضي الفريضة. ولهذا لما حُصر النبي r في الحديبية لم يلزم كل من أحرم وحُصِر أن يعيد العمرة، وتسميتها عمرة القضاء، يعني العمرة الثانية التي جاءت في العالم الثاني من باب المقاضاة، وليست من باب القضاء الذي هو قضاء العبادة.
س: وهذا يقول: أنا شاب أستطيع الزواج، لكن والدتي تمنعني بحجة إنهاء الدراسة، والدراسة تستغرق عدة سنوات، فهل يجوز لي أن أتزوج من غير إذنها؟(253/140)
ج: نعم، إذا كنت مستطيعا فتزوج، ولو منعك الأم أو الأب؛ لأنك إذا تزوجت فقد امتثلت لأمر النبي r حيث قال: " يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج " ومعلوم أن طاعة رسول الله r أولى من طاعة الأم والأب، فإذا كنت قادرا فتوكل على الله وتزوج، إن رضيت أمك فهذا المطلوب، وإن لم ترضَ فسترضى -إن شاء الله-؛ لأنك إذا التمست رضا الله لسخط الناس رَضِيَ الله عنك، وأرضى عنك الناس، وكفاك المئونة. نعم
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، أحسن الله إليكم، فإني شاب أطلب العلم ولله الحمد، وأحرص على إخلاص النية لله بقدر المستطاع، ولكن ينتابني شعور بأني لا أخلص لله U مع أني أستغفر الله ليلا ونهارا، وأدعوه أن يوفقني للإخلاص، والآن ينتابني خوف من هذا الأمر، وجهوني -جزاكم الله خيرا ؟
ج: أقول: لا تخف، لا تخف يا أخي؛ فإن هذا من وساوس الشيطان، والشيطان -كما قال ربنا عز وجل-: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } الشيطان يأتي الحريص على الطاعة من هذا الباب، يقول: أنت إنما صليت رياء، إنما طلبت العلم رياء، إنما طلبت العلم للراتب، إنما طلبت العلم للمرتبة. ويفسد عليه عبادته بمثل هذه التقديرات، فليستعذ بالله، ولينتهِ، ولا يضره ذلك شيئا. ويأتي الشيطان للشخص المتهاون فيثبطه عن الطاعة، ويقول: لا تفعل هذه الطاعة، هذه سهلة، هذه نفل، افعل الطاعة في وقت آخر، أو يهون عليه الذنب ويقول: إن الله غفور رحيم، ورحمته سبقت غضبه، وما أشبه ذلك. فهذه من الوساوس الشيطانية التي يجب على الإنسان أن يكف عنها، وأن يستعذ بالله من الشيطان الرجيم. وقد شكا الصحابة -رضي الله عنهم- إلى رسول الله r مثل ذلك، فقال -عليه الصلاة والسلام-: " ذاك صريح الإيمان " وأمر بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، والانتهاء عن ذلك. فامض في عبادتك، ولو قال لك الشيطان: إنك مُراءٍ، أو إنك تريد الدنيا، فلا يهمك. نعم.(253/141)
س: وهذا يقول: ما حكم أخذ المال من البنوك الربوية؟ وهل أتركه لهم، أم آخذه وأتلفه، أم أتصدق به؟ وهذه المسألة -قال- يعملها كثير من الناس؟
ج: يقول الله U { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } فلا يحل للإنسان أن يأخذ الربا؛ لأن الله قال: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } وقال: { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ } وأعلن النبي r في خطبته عام حجة الوداع، وهو واقف بعرفة، أعلن أن ربا الجاهلية موضوع، قال: " وأول ربا أضع من ربانا ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله " وعلى هذا فلا يحل للإنسان أن يأخذ الربا، لا من البنوك، ولا من غيرها، وما أفتى به بعض الناس استحسانا بأنك تأخذ الربا وتتصدق به تخلصا منه، فهذا استحسان في مقابلة النص، فهو مردود على صاحبه. لو كانت هذه الطريق أو هذه الطريقة حسنة محبوبة إلى الله لأرشد الله عباده إليها، ولقال اتقوا الله وخذوا ما بقي من الربا وتصدقوا به، لكنه قال: { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا } ليقطع طمع الإنسان وتعلق نفسه به نهائيا. وأي فائدة من أن يلطخ الإنسان صحيفة عمله بقاذورة الربا، ثم يذهب يغسلها ويتخلص منها؟ أي فائدة من هذا ؟! وهل هذا إلا لغو محض، وعبث محض؟ فإن قال قائل: هذا الربا إذا تركته للبنك فقد يستعين به على محرم؟ قلنا: أصل هذا الربا ليس قسط مالك، مالك ربما كان قد خسر حين تعامل به البنك، هذا الربا من مال البنك، وليس من مالك، وربما يكون مالك كسب أضعاف أضعاف ما أعطاك من الربا، وربما خسر مالك كل الخسارة، فليس هذا قسط مالك حتى تقول: والله أنا لا أريد أن أمكنهم من مالي فيعبثوا به. بعض الناس(253/142)
يدعي أنه لو تركت هذه الزيادة في البنك لذهب يعطيها الكنائس، أو يسلح بها أعداء المسلمين؟ ونقول: أولا: هذا غير مؤكد، قد يكون هذا، وقد ينتفع بها البنك لمصالحه الخاصة. ثانيا: لو تأكدنا ذلك، فهل أنا أعطيته شيئا من مالي يعين به الأعداء على المسلمين، أو يعين به الكنائس؟ أبدا، ما أعطيته؛ لأن هذه الزيادة لم تدخل في مالي أصلا، وليست هي ربح مالي. وعلى كل حال، فالاستحسان في مقابلة النص ليس مقبولا، والواجب اتباع النص { اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) } نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ، هل يثاب المرء على ما يقتدي به من أفعال الرسول r التي فعلها على وجه العادة، كلبس الخاتم، وتطويل الشعر، وغيرها؟(253/143)
ج: يجب أن تعلم أن ما فعله النبي r بمقتضى العادة فإن السنة أن تتبع عادة بلدك إذا لم تكن محرمة، وليست السنة في عين ما فعله الرسول، بل السنة في جنس ما فعله، فإذا كان الرسول r فعل ذلك بمقتضى العادة، فإن السنة أن تفعل ما تقتضيه العادة في زمنك، ما لم تخالف النص. وعلى هذا فلباسنا نحن هنا في نجد والجزيرة عامة هو القميص والسروال، والطاقية والغطرة، والمشلة عند بعض الناس، فإذا لبس الإنسان هذا كانت السنية مثل لباس الرسول -عليه الصلاة والسلام- العمامة والإزار والرداء؛ لأن الرسول فعل ذلك بمقتضى العادة، ونحن فعلنا ذلك -أيضا- بمقتضى العادة، ولأننا لو خالفنا عادتنا إلى ما كان الناس يعتادونه في عهد الرسول -عليه الصلاة والسلام- لكان ذلك شهرة، وقد نُهي عن لباس الشهرة. أما مسألة الخاتم، فالخاتم إنما فعله النبي -عليه الصلاة والسلام- للحاجة، وهو أنه ختم به، أو نقش عليه: "محمد رسول الله"، وكان يختم على الرسائل التي يبعثها إلى الملوك؛ ليكون ذلك كالتحقيق لكون هذه الرسالة من النبي r . وعلى هذا فنقول: القاضي والأمير والعريف ومن يحتاج إليهم، هؤلاء يلبسون الخاتم؛ لأنهم محتاجون إليه، على أن بعض أهل العلم يقول: إن التختم سنة مطلقا. والذي يظهر لي أن التختم تبع للعادة، فلا يتختم إنسان إلا إذا اعتاد الناس ذلك، إلا ما احتيج إليه؛ فإن السنة أن يتختم من أجل هذه الحاجة. نعم. ليكن هذا آخر سؤال، الآخر يا شيخ ، نعم ، جزاك الله خيرا .
س: هذا يقول: فضيلة الشيخ، جدتي أم والدتي أرضعتني ليلة ولادتي من بعد المغرب إلى الصباح، ولكنها لا تعلم كم عدد الرضعات؛ إذ مضى على ذلك الوقت ما يقارب العشرين عاما، وأريد الزواج من بنت عمي، التي والدتي ووالدتها أختان من الأب، فهل يحل لي أن أتزوجها، أفتوني مأجورين؟(253/144)
ج: لك أن تتزوجها؛ وذلك لأن الرضاع المحرم ما كان خمس رضعات فأكثر، ولا بد من العلم بذلك، لحديث عائشة: " خمس رضعات معلومات " فمع الجهل لا أثر لمثل هذا الرضاع، لكن إذا غلب على الظن أنها قد أرضعتك خمس رضعات، فلا تتزوج بنت عمك أو بنت عمتك؛ لأنك تكون أخا لأمها أو لأبيها.. نعم.
حكم المكره والناسي
O الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد،
قال الناظم -حفظه الله تعالى ورفع درجته-:
والإثم والضمان يسقطان
إن كان ذا في حق مولانا
وكل متلف فمضمون إذا
ويضمن المثلي بالمثل وما
وكل ما يحصل مما قد أُذِن
وما على المحسن من سبيل
بالجهل والإكراه والنسيان
ولا تسقط ضمانا في حقوق للملا
لم يكن الإتلاف من دفع الأذى
ليس بمثلي بما قد قُوِّمَا
فليس مضمونا وعكسه ضُمِن
وعكسه الظالم فاسمع قيلي
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد خاتم النبيين، وإمام المتقين، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد، فهذا هو الدرس التاسع من دروس حلقات العلم، التي أقيمت في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية بحي سلطانة بالرياض، في دورة إجازة عام سبعة عشر وأربعمائة وألف.
وهذا هو اليوم، الأربعاء الثالث عشر من شهر ربيع الأول، سنة سبع عشر وأربعمائة وألف، وهو الدرس الأخير في هذا العام.
س: وقبل البدء في الدرس الجديد نود أن نناقش فيما مضى من الدرس الذي قبله، حيث ذكرنا فائدة مهمة ينبني عليها، أو هي ميزان الأعمال الباطنة، فما هي هذه القاعدة التي ذكرناها؟
ج: نعم، القاعدة هي: " إنما الأعمال بالنيات " القاعدة أن يقدم على كل عمل بنيته.
طيب، دليل هذه القاعدة ؟ قول النبي r " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى " .
إن العلماء ذكروا -رحمهم الله- أن هناك ميزانين: أحدهما ميزان للأعمال الباطنة، والثاني للأعمال الظاهرة، فما هما؟(253/145)
حديث ميزان الأعمال الباطنة هو حديث: " إنما الأعمال بالنيات " .
وحديث ميزان الأعمال الظاهرة حديث: " من أحدث في أمرنا هذا، أو من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
واللفظ الثاني " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " .
س: طيب، ماذا نقول في رجل قال: زوجاتي طوالق. ونوى اثنتين من أربع، هل نعتبر لفظه، ونقول: كل الأربع طلقن، أم نعتبر بنيته؟
ج: يعتبر بنيته.
س: بنية من؟
ج: بنية الزوج المطلق، ما يطلق من نسائه الأربع؟ ما نوى إلا اثنتين فقط. أحسنت.
س: طيب، ما مناسبة الشطر الثاني للشطر الأول بقوله:
.. .. .. ..
واسدد على المحتال باب حيلته؟
؟
ج: المناسبة أنه يعتبر عمل بنيته؛ لأنه نوى الحيلة، ولم ينوِ العمل الشرعي. يعني: معنى ذلك المحتال ينوي المحرم، لكن يتحيل عليه بصورة شيء مباح، فنقول: العبرة بنيته لا بصورة الفعل.
س: طيب، نريد مثالا يبين ذلك؟
ج: مثل أن يوقف الشريك الشق المباع حتى يمنع الشفعة عن شريكه، أن يوقف المشتري الشق الذي اشتراه ليمنع الشريك من الشفعة.
س: طيب، في النكاح؟
ج: مثال ذلك: التحايل على تحليل المرأة التي طلقت ثلاثا. المعروف بنكاح التحليل ؟ أي نعم.
س: طيب، لو وقع نكاح التحليل، لو أن رجلا تزوج امرأة مطلقة ثلاثا ليحلها للزوج الأول، فهل تحل للزوج الأول؟
ج: إذا كان قصده التحايل فيسد عليه باب حيلته. نعم يا شيخ، ليحلها للزوج الأول، هل تحل له ؟ لا تحل له يا شيخ. لا تحل، أي نعم؛ لأن النكاح الثاني وقع حيلة، لا قصدا.
أحسنت.
س: حكم المضي في العبادة الفاسدة، هل هو جائز أم لا؟
ج: يحرم المضي فيه.
أحسنت.
س: التعليل؟
ج: لأن المضي فيها مع أنها فاسدة فيها محادة الله U ورسوله؛ لأن المضي فيها مع فسادها محادة لله ورسوله. نعم.
س: وهل أبطل النبي -عليه الصلاة والسلام- شيئا فاسدا بعد أن عُقد؟(253/146)
ج: المثال على ذلك: عندما أتى الصحابي t بتمر جيد، فأخبر هذا الصحابي أنه يأخذ الصاع بالصاعين، فأمر الرسول r وقال: ردوه.
س: هذا في العقود؟
ج: أي نعم يا شيخ ، في الشروط، نعم يا شيخ، في الشروط، في العبادات رجل يصلي.. الرسول أبطل -عليه الصلاة والسلام- شرطا فاسدا، ليس عقدا، شرطا فاسدا. أي نعم يا شيخ.
س: ما هو؟
ج: نعم يا شيخ.
س: ما هو الحديث الذي فيه أن النبي r أبطل شرطا فاسدا؟
ج: قال الرسول r " المسلمون على شروطهم " .
" إنما الولاء لمن أعتق " .
حديث: " إنما الولاء لمن أعتق " .
س: وأيش قصته؟
ج: أن أناسا قالوا لعائشة -رضي الله عنها-: لنا الولاء إذا اشتروا بريرة -رضي الله عنها- فقال الرسول -عليه الصلاة والسلام- فأخبر أن الشروط باطلة.. الولاء لمن أعتق نعم.
أي نعم يا شيخ.
يقول: بريرة كاتبت أهلها على تسع أواق من الفضة، فقالت عائشة: إن أحبوا أن أعدها لهم ولي الولاء. فقالوا: لا، الولاء لنا. فأبطل النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا الشرط بعد أن شُرط، وقال: قضاء الله أحق، وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق.
س: طيب، رجل باع ثمرة نخلة قبل بُدُو صلاحها، وقبض الثمن، وسلم النخلة للمشتري، فما الحكم؟
ج: أعد السؤال يا شيخ.
س: رجل اشترى ثمرة نخلة قبل بدو صلاحها، يعني: نخلة ما بعد صار فيها لون، اشتراها وقبض النخلة، وسلم الثمن للبائع، ما حكم هذا البيع؟
ج: هذا البيع باطل؛ لأن الرسول -عليه الصلاة والسلام- نهى عن بيع الثمرة حتى تحمر أو تصفر.
س: طيب، الآن ماذا يجب؟
ج: يجب أن ترد السلعة، ويرد الثمن، يجب أن ترد النخلة لصاحبها، أي نعم. ويسترد منه الثمن، أي نعم. تمام، أي نعم. يا شيخ من الذي يُستثنى من هذه القاعدة، وهي: "أن المضي في الفاسد حرام".
السؤال يا شيخ ما هو؟
س: الذي يستثنى من هذه القاعدة وهي: "أن كل فاسد يحرم المضي فيه"؟
ج: يُستثنى من ذلك الحج والعمرة، يعني: الحج والعمرة يمضي في فسادها؟
ج: نعم.(253/147)
س: الدليل؟
ج: قول الله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } حتى الصلاة أمرنا بقضائها وإتمامها، " وما فاتكم فأتموا " ومع ذلك لو فسدت حرم المضي.
الدليل في الحقيقة آثار وردت عن الصحابة، فأخذ بها الفقهاء، عرفت.
س: طيب، هل يجوز قطع النفل بعد الشروع فيه؟
ج: يجوز قطعه، يجوز قطع النفل بعد الشروع فيه؟ أي نعم يا شيخ.
س: الدليل؟
ج: " أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- دخل على أهله ذات يوم، فقالوا: أُهدي إلينا حيس. فقال: إني صائم. فأكل منه -عليه الصلاة والسلام- " .
س: نعم صحيح، فلأن النفل لا يجب التزامه فلا يجب إتمامه، هل يُستثنى من هذا شيء؟ يعني: هل يُستثنى من قولنا: النفل لا يلزم المضي فيه؟
ج: أي نعم يا شيخ.
س: ما هو؟
ج: الحج والعمرة، إذا الإنسان حج واعتمر تطوعا فإنه يلزمه الإتمام. يلزمه الإتمام.
ج: نعم.
س: الدليل؟
ج: الدليل قول الله -سبحانه وتعالى-: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } والآثار التي وردت عن الصحابة.
لأن هذه الآية نزلت قبل أن يفرض الحج والعمرة، واضح؟ أقول: هذه الآية نزلت قبل أن يفرض الحج والعمرة؟
أي نعم يا شيخ.
الآن نبدأ الدرس الجديد، يقول الناظم:
والإثم والضمان يسقطان
بالجهل والإكراه والنسيان
"الإثم": يعني العقوبة، و"الضمان": يعني رد الشيء التالف. "يسقطان" أي: عن الفاعل. "بالجهل والإكراه والنسيان": هذه ثلاثة أشياء تسقط عن المكلف الإثم والضمان إذا كان حين الفعل متصفا بها.
أما الجهل فإنه عدم العلم، وأما الإكراه فهو الإلجاء إلى الشيء، بحيث يفعله الإنسان غير مختار له، وأما النسيان فهو ذهول القلب عن شيء كان معلوما، يعني: أن يعلم الشيء، ثم يذهل عنه.
هذه أمور ثلاثة، متى اتصف بها الفاعل سقط عنه إثم الفعل وضمان المتلف.
دليل ذلك قوله الله -تبارك وتعالى-: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } قال الله: قد فعلت.(253/148)
وقول الله تعالى: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
وقوله تعالى: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ َOكgs9r عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) }
فقوله: { مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ } أسقط حكم الكفر على الإكراه، والكفر أعظم الذنب، فالكفر أعظم الذنوب، فإذا سقط حكم الكفر بالإكراه فما دونه من الذنوب من باب أولى.
وقد روي عن النبي r أنه قال: " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكْرِهُوا عليه " .
مثال ذلك: الجهل، صائم أكل سحوره، يظن أن الفجر لم يطلع، فإذا بالفجر قد طلع، فأمسك، فصيامه صحيح؛ لأنه جاهل، لم يعلم أن الفجر قد طلع.
ومثال آخر: صائم ظن أن الشمس قد غربت؛ لأن السماء مغيمة، فأفطر، فإذا بالشمس تبين من وراء الغمائم، فأمسك، فصومه صحيح؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
وفي قوله: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ }
وقد ثبت في صحيح البخاري " عن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- قالت: أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي r ثم طلعت الشمس " ولم تذكر أنهم أُمروا بالقضاء، ولو كان القضاء واجبا لأمرهم بذلك النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولو أمرهم لنُقِلَ إلينا؛ لأنه إذا أمرهم به كان من الشريعة، وحفظ الشريعة من حفظ القرآن، وقد قال الله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) }(253/149)
ولا فرق في الجهل بين الجاهل بالحكم والجاهل بالوصف، فلو أن إنسانا احتجم وهو صائم، ولم يعلم أن الحجامة تفسد الصوم، فإن صومه صحيح لعموم قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
ولحديث عدي بن حاتم t أنه صام، فجعل يتسحر، وقد وضع عقالين أسود وأبيض تحت وسادته، فجعل ينظر إليهما، ولم يزل يأكل حتى تبين العقال الأبيض من الأسود، فلما أخبر النبي r قال: " إن ذلك بياض النهار وسواد الليل " ولم يأمره r بالإعادة؛ لأنه كان جاهلا بالحكم . إذا نزل الآية على غير مرادها.
كذلك في النسيان: لو أن إنسانا كان صائما، فأكل أو شرب ناسيا أنه صائم، فإن صومه صحيح، لعموم قوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا }
ولقوله r في خصوص الصيام: " من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه " .
وكذلك في الإكراه، لو أُكْرِه الصائم على أن يأكل أو يشرب، فأكل أو شرب دفعا للإكراه، فإن صومه صحيح لما ذكرنا من العذر بالإكراه على الكفر، فإن ما دونه من باب أولى.
ومن ذلك: أن يكره الرجل زوجته على الجماع وهي صائمة، فإنها لا تفطر بذلك، ولا يبطل صومها؛ لأنها مكرهة.
ومن ذلك: لو أن الإنسان أُغْمِي عليه وهو صائم، فصبوا في حلقه ماء ليصحو، فإنه لا يفطر بذلك؛ لأنه غير مدرك. ومن العلماء من قال: إن كان يأذن بذلك عادة فإنه يفطر وإلا فلا.
ومما يدخل في ذلك أيضا: لو أن المحرم قتل أرنبا، وهو يجهل أن قتل الأرنب حرام في الإحرام، فإنه لا إثم عليه ولا ضمان.
ومن ذلك أيضا: لو أن المحرم دهس بسيارته أرنبا، أو ضبا، أو حمامة، من غير أن يشعر بها، فليس عليه ضمان، كما أنه ليس عليه إثم لقوله تعالى: { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } ولقوله -تعالى- في خصوص الصيد: { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ }(253/150)
ولقوله -تعالى- في خصوص الصيد: { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ }
فقيَّد ذلك -أي: قيد وجوب الجزاء- بما إذا كان متعمدا، فدل هذا على أنه إذا لم يكن متعمدا فليس عليه جزاء.
ثم قال الناظم:
إن كان ذا في حق مولانا
.. .. .. ..
"كان ذا": يعني فعل الشيء جهلا، أو إكراها، أو نسيانا.
"في حق مولانا": يعني فإنه يسقط الإثم والضمان.
وأما إن كان في حق المخلوق فقال:
.. .. .. .. .. .. .. ..
ولا تسقط ضمانا في حقوق للملا
يعني: إذا كان الإتلاف في حق من حقوق الملا، أو الاعتداء في حق شخص، فلا تسقط الضمان، لا تسقط الضمان في حقه، ولكن الإثم ساقط، مثاله: رجل أكل طعام غيره، يظن أنه طعامه، فليس عليه إثم؛ لأنه جاهل، ولكن عليه ضمان الطعام لصاحبه.
فالفرق بين ما إذا كان المتلف حقا لله U أو كان حقا للمخلوق، أن حق الله -تعالى- قد أعلمنا بأنه عفا عنه { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } فقال الله تعالى: قد فعلت.
ولأن حق الله مبني على المسامحة والفضل، فكان الفاعل معذورا بالجهل والنسيان والإكراه، وغير ضامن.
أما حق المخلوق فإنه مبني على المشاحة، فلذلك نوفيه حقه كاملا، حتى وإن كان الفاعل معذورا.
ولو أُكْرِه الإنسان على إفساد مال غيره، فأفسده، فإنه لا إثم عليه، ولكن عليه الضمان لصاحبه؛ لأن حق المخلوق لا يسقط، فعليه الضمان.
ولهذا قال العلماء: لو أن إنسانا أُكْرِه على قتل إنسان فإنه لا يقتله، حتى لو هدد بالقتل، وقال له المكره: إما أن تقتل فلانا وإلا قتلتك. فإنه لا يجوز أن يقدم على قتل فلان؛ لأنه لا يجوز لأحد أن يهلك حيا من أجل استبقاء نفسه، فليصبر على القتل، ولا يقتل مؤمنا.
على أن المهدد له بالقتل قد لا يقصد إذا لم يقتل من أكره على قتله، ولكنه قال ذلك تهديدا، وليس لديه القدرة على تنفيذه.(253/151)
والخلاصة: أنه إذا وقع الفعل جهلا أو نسيانا أو إكراها، فإنه لا إثم فيه ولا ضمان فيما يتعلق بحق الله U أما في حق المخلوق فإنه لا إثم فه أيضا، إذا وقع عن جهل أو إكراه، ولكن فيه الضمان، يضمنه لصاحبه، ما لم يبرئه منه، فإن أبرأه منه -وهو ممن يصح تبرؤه- سقط عنه أيضا.
ضمان المتلف:
ثم قال الناظم:
وكل متلف فمضمون إذا
أو يك مأذونا به من مالك
لم يكن الإتلاف من دفع الأذى
أو ربط ما بالملك خير مالك
هذا البيت الأخير لم أسمعه في قراءة القارئ؛ لأنه عندي ملحق.
يريد الناظم أن كل متلف فمضمون على متلفه، أيا كان هذا المتلف، إن كان آدميا فمضمون، وإن كان مالا فمضمون، كل متلف فإنه مضمون، إلا إذا كان الإتلاف من دفع الأذى، يعني: من دفع هذا المتلف، فإنه لا ضمان فيه.
مثال ذلك: رجل محرم بحج أو عمرة، فصال عليه ضبع، والضبع من الصيد، لا يحل للمحرم قتله، فحاول دفعه، ولكنه لم يندفع، فله قتله حينئذ؛ لأن ذلك لدفع الأذى، ولا ضمان عليه في هذه الحال؛ لأنه فعل فعلا مأذونا فيه من قبل الله -عز وجل.
ومثال آخر: لو صال إنسان على شخص يريد أخذ ماله، ولم يندفع إلا بالقتل، فله قتله؛ لأنه ثبت عن النبي r " أن رجلا سأله فيمن طلع عليه يريد أخذ ماله، فقال النبي r لا تعطه. قال: يا رسول الله، أرأيت إن قاتلني؟ قال: قاتله. قال: أرأيت إن قتلني. قال: فأنت شهيد. قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: هو في النار " .
فأباح النبي r قتل من صال على الشخص ليأخذ ماله، ولكن يجب أن تدافعه بالأسهل فالأسهل، فإذا لم يندفع إلا بالقتل فاقتله، وإن خفت أن يبادرك بالقتل، وأنك لو حاولت أن تدفعه بما دون القتل قتلك، فلك أن تبادره بالقتل إذا علمت أن الرجل سوف يقتلك حينما تحاول أن تدافعه بالتي هي أحسن.(253/152)
فإن قال قائل: ألا يعارض هذه القاعدة ما ذكره الله -تعالى- في فدية الأذى حيث قال: { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ }
فقد أوجب الله على من حلق رأسه لدفع الأذى أن يفدي بصيام أو صدقة، قلنا: هذا لا يعارض القاعدة؛ لأنه هنا أتلف الشعر، لا لأذى الشعر، ولكن لدفع الأذى من غيره به.
فالأذى كان من القمل كما جاء ذلك في حديث كعب بن عجرة t والقمل مع الشعر ينمو ويزداد، فإذا حُلِقَ الشعر زال.
فحلق الشعر هنا إنما هو من أجل دفع الأذى بحلقه، وقد أشار ابن رجب -رحمه الله- إلى هذه القاعدة بقوله: "من أتلف شيئا لدفع أذاه لم يضمن، ومن أتلفه لدفع أذاه به ضمنه".
يقول الناظم فيما استثنى من هذه القاعدة، وهو ما إذا كان الإتلاف لدفع الأذى، يقول:
أو يك مأذونا به من مالك
.. .. .. ..
يعني: أو يكون الشيء المتلف مأذونا به من المالك فإنه لا ضمان فيه، فلو أذن لك شخص في أن تذبح شاته فذبحتها، فإنه لا ضمان عليك؛ لأنه هو الذي أذن لك في هذا الذبح، وعلى هذا فلا ضمان عليك.
كذلك لو كان الأمر مأذونا به من قبل الله U لو كان الإتلاف مأذونا به من جهة الله U فإنه لا ضمان له.
مثاله: رجل وجد آلة لهو يستعملها صاحبها، فكسرها، فإنه لا ضمان عليه؛ لأن تكسيرها مأذون به شرعا، ولكن نحن نقول: هذا من جهة الضمان، أما هل يكسرها إذا رآها مع صاحبها؟
هذا فيه تفصيل؛ إن كان للإنسان سلطة وقدرة على تكسيرها بدون مضرة أكبر وجب عليه أن يكسرها، وإن لم يكن له سلطة في ذلك، أو كان يترتب على تكسيرها مفسدة ومضرة أعظم، فإنه لا يكسرها؛ لقول النبي r " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه " .
والخلاصة: أن كل متلف مضمون إلا في حالين، بل في ثلاث حالات:(253/153)
الحال الأولى: إذا أُتْلِف لدفع أذاه، فإنه لا ضمان عليه.
والثانية: إذا أتلف بإذن من مالك، فإنه لا ضمان له عليه.
والثالثة: إذا أتلف بإذن من الله U فإنه لا ضمان عليه.
ثم بين الناظم قاعدة حول ما يكون فيه الضمان، فقال:
وكل ما يحصل مما قد أذن
فليس مضمونا وعكسه ضمن
يعني: أن كل ما أذن به شرعا فإنه لا ضمان فيه، وكذلك ما أدري من المالك، فإنه لا ضمان فيه، ولهذا قال العلماء في هذه القاعدة: ما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وعكسه ما ترتب على ما غير المأذون فيه فإنه مضمون، ولهذا قال: "وعكسه ضمن"، ثم علل ذلك بعلة هي كالدليل، فقال:
وما على المحسن من سبيل
وعكسه الظالم فاسمع قيلي
هذا مأخوذ من قول الله -تبارك وتعالى-: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
فكل محسن فإنه لا سبيل عليه، والظالم هو الذي عليه السبيل، لقوله تعالى: { فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) }
ومثل العلماء -رحمهم الله- لهذه القاعدة برجل جنى على شخص، فقطع إصبعه، ثم إن الجرح سرى إلى اليد، ثم إلى البدن، ثم مات من الجروح، فإن الجارح يضمن نفسا كاملة، ولا يقف ضمانه على الإصبع الذي قطعه؛ لأن قطعه للإصبع غير مأذون فيه، وما ترتب على غير مأذون فهو مضمون.
والمثال الثاني فيما ترتب على مأذون: لو أن المُعْتَدَى عليه -الذي قُطع إصبعه وبرئ- قطع إصبع المعتدي الظالم بالقصاص، ثم تآكل جرح الجاني، فسرى إلى اليد، ثم إلى البدن، ومات الجاني، فإنه لا ضمان على المجني عليه؛ وذلك لأنه قطع إصبع الجاني بحق، وبإذن من الشارع، وما ترتب على المأذون فليس بمضمون.
وهذه قاعدة مفيدة، تفيدك في الجنايات، وفي غيرها.
كيفية الضمان:
ثم بين كيفية الضمان، فقال:
ويضمن المثلي بالمثل وما
ليس بمثلي بما قد قُوِّمَ(253/154)
يعني: إذا أردت أن تضمن شخصا، فضمنه المثلي بمثله، والمتقوم بقيمته، فما هو المثلي؟ القول الراجح في المثلي أنه ما كان له مثيل ونظير، هذا المثلي -سواء كان فيه اصطناع أم لم يكن فيه اصطناع، وسواء كان مطبوخا فيما يطبخ أو لا- المهم أن المثلي ما كان له مثيل أو نظير.
فمثلا: إذا أكل إنسان خبزة شخص، فعلى الآكل أن يضمن لصاحبها خبزة مثلها؛ لأن الخبز متماثل، وإذا كسر فنجان إنسان فإن عليه أن يضمنه بفنجان مثله، وإذا أتلف له صاع بر وجب عليه صاع بر، وهلم جرا.
وإذا أتلف له شاة وجب عليه أن يشتري له شاة مثلها، فيضمنها بمثلها.
فالمثلي -على القول الراجح- كل ما له مثيل ونظير، وأما على المشهور عند فقهائنا -رحمهم الله- فيقولون: المثلي كل مكيل أو موزون يصح السلم فيه، وليس فيه صناعة مباحة، وهذا تضييق كبير في تفسير المثلي.
أما التقوم فما لا يمكن أن يوجد له مثيل، كشاة حامل، رجل أتلف لإنسان شاة حامل، فهنا تتعذر المماثلة؛ لأن ما في بطنها مجهول، لا يُعلم أواحد أم متعدد؟ أذكر أم أنثى؟ أيخرج حيا أم يخرج ميتا؟ فيه جهالة.
وعلى هذا فإذا أتلف شاة إنسان حاملا قُوِّمَتْ بما تساوي القيمة، ودفع لصاحبها نفس القيمة التي قومت بها؛ لأنها غير مثلية .
وإلى هنا ينتهي هذا الدرس، وهو آخر درس في هذه الإجازة والدورة المباركة .
نسأل الله -تعالى- أن يعيدنا جميعا إعادة خير، وأن يرزقنا علما نافعا، وعملا صالحا متقبلا، ورزقا طيبا واسعا يغنينا به عن غيره، ولا يغنينا به عنه.
وإنني بهذه المناسبة أود أن أوجه نصيحة إلى إخواننا بالإخلاص لله U في جميع أعمالهم، والحرص الشديد على تطبيق السنة مهما أمكن، وإرشاد الناس إليها بالقول والعمل، والحرص على ائتلاف القلوب، وإصلاح ذات البين، والتعاون على البر والتقوى، وألا يحمل أحد على أخيه حقدا ولا عداوة ولا بغضاء.(253/155)
وأن يحمل ما صدر منه من قول أو فعل على أحسن منه، وأن يحاول بقدر ما يمكن ألا يحمل في قلبه غلا لأحد من المؤمنين حتى يكون ممن قال الله فيهم: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) }
أسأل الله -تعالى- أن يجعل مستقبل أمرنا خيرا من ماضيه، وأن يختم لنا جميعا بما يرضيه، إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والآن إلى الأسئلة فيما تبقى من المدة…..
أحسن الله إليكم.
س: فضيلة الشيخ، هذا يقول: رزقت بأولاد، الأول مريض عقليا، وعندما ذهبت به إلى الكهنة أخبروني بأن فيه جن..
أعد، أعد.
يقول: رزقت بأولاد، الأول مريض عقليا، وعندما ذهبت به إلى الكهنة أخبروني بأن فيه جن، وأعطوني حرزا تلبسه المرأة، وعندما تلبسه يأتيني أولاد أصحاء، وعندما يضيع الحرز تأتي المرأة بأولاد مريضين، وهكذا تكررت العملية، حتى أن معي الآن ثلاثة أولاد أصحاء، وثلاثة غير أصحاء، فما الحكم في ذلك ؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: أقول: إنه لا ينبغي أن نلجأ إلى هؤلاء المشعوذين الذين يبتزون أموال الناس بغير حق، وكثير من هؤلاء المشعوذين يدعون ما ليس في الواقع، فيوقعون الأوهام في الناس، ولهذا أصبح الآن كثير من الناس إذا أصيبوا بالمرض -ولو كان مرضا معتادا، أصابهم أو أصاب غيرهم- ذهبوا إلى هؤلاء المشعوذين، فأملوا عليهم أن فيهم سحرا، أو أنهم مصابون بالعين، أو أن فيهم مسا من الجن.
والذي ينبغي للإنسان أن يدع هذه الأوهام، وأن يكرر اللجوء إلى الله U ودعاءه بالعافية، وأن يعتمد على ربه -سبحانه وتعالى-، ومن تعلق بالله كفاه الله U .(253/156)
فأقول: لا تستعمل المرأة شيئا من هذا، ولتعتمد على ربها U وسوف يكون الله -تعالى- عند ظنها به -تبارك وتعالى-.
س: وهذا يقول: لي أخ لا يصلي في المسجد، وعنده في بيته دش، فهل لي أن أهجره ؟
ج: المسلم لا يخرج من الإيمان بالمعاصي التي دون الكفر، ولو عظمت.
وإذا كان لا يخرج من المعاصي التي دون الكفر ولو عظمت، فإنه لا يجوز هجره؛ لقول النبي r " لا يحل للرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان، فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام " .
ولكن إذا كان في الهجر مصلحة فليُهْجَر طلبا لهذه المصلحة، يعني: لو كان هذا العاصي إذا هُجِرَ ارتدع، وتاب إلى الله من معصيته، فإنه يهجر؛ لأن هذا مثل الدواء له، وانظر إلى حال الثلاثة الذين هجرهم النبي r وأمر الناس بهجرهم، وقد تخلفوا عن غزوة تبوك، فانظر إلى حالهم لما هُجِرُوا كيف أيقنوا بأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، فتاب الله عليهم، وألف القلوب عليهم.
فالحاصل أن نقول للأخ السائل: لا تهجر أخاك من أجل تخلفه عن صلاة الجماعة أحيانا، وتركيبه للدش بمنزله إلا إذا كان في ذلك مصلحة.
والغالب أنه لا مصلحة في ذلك، أي: في هجره، فاذهب إليه وانصحه، وكرر النصح، ولا تيأس، فكم من إنسان كان بعيدا فقربه الله، وكان عاصيا فهداه الله. نعم
س: وهذا يقول: هل يجب إجابة الذي يسأل بالله، وإذا كان في سؤاله حرج عليّ، أو ليس من المصلحة أن أجيبه، فهل يجب عليّ إجابته؟
ج: أولا: نحن نخاطب الذي يسأل بالله، فنقول: لا يحل لك أن تسأل عباد الله بالله، فتلجئهم إلى ما لا يريدون؛ فإن هذا منك عدوان عليهم، والله -تعالى- لا يحب المعتدين.
ونقول للمسئول: إذا كان في إجابته في الواقع ضرر عليك أو على غيرك، فلا تجبه، وإن أجبته فتأول، تأول.(253/157)
مثاله: لو قال شخص: أسألك بالله أن تخبرني كيف معاملتك مع أهلك. هذا حرام عليه أن يسأل هذا السؤال، إلا إذا أراد المعاملة التي يُقْتَدَى بك فيها، فهذا شيء آخر، فإذا كان عليك ضرر في هذا فإنك تتأول، تنوي خلاف ما هو ظاهر له، وفي التأويل مندوحة عن الكذب.
والمهم أنه لا يلزمك أن تجيبه إذا سألك بالله في أمر يكون عليك فيه مضرة، أو كشف لسر، أو ما أشبه ذلك، وهو يحرم عليه الأسئلة هذه.
وهذا آخر سؤال؛ لأن الوقت انتهى، ونسأل الله -تعالى- أن يوفقنا جميعا إلى الخير والصلاح.
عقود المعاوضة
قال الناظم غفر الله له ورفع درجته:
ثم العقود إن تكن معاوضة
وإن تكن تبرعًا أو توثقة
لأن ذي إن حصلت فمغنم
فحررنها ودع المخاطرة
فأمرها أخف فادر التفرقة
وإن تفت فليس فيها مغرم
O .
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
في هذه الأبيات الإشارة إلى ضوابط المعاملات، التي يجب فيها تحريم، وعدم الجهالة والغرر.
وقد قسم المؤلف -رحمه الله ووفقه- العقود إلى قسمين: عقود معاوضة، هذه لها ثلاثة أقسام: عقود معاوضة، وعقود تبرؤ، وعقود توثقة.
فأما عقود المعاوضة، قال:
ثم العقود إن تكن معاوضة
فحررنها ودع المخاطرة
عقود المعاوضة: هي التي يكون فيها عوض من الطرفين. كذلك أيضا عقود البيع، عقد البيع فيه معاوضة من الطرفين، وكل عقد فيه معاوضة، فإنه مقيم مبني على المشاحة، أي أن كل واحد منهم يريد أن يأخذ حقه كاملاً، ولا يتنازل فيه لأحد، مثال ذلك: البيع.(253/158)
البيع عقد معاوضة، يبذل فيه المشتري الثمن بمقابلة سلعة، ويريد أن يكون الثمن قيمة بقدر السلعة، بحيث لا يزيد عليه، والبائع كذلك، يريد أن يبذل في سلعته ما يكون بقدر قيمتها أو أكثر؛ ولهذا قد جعل الشارع لكل من المتبايعين خيار ما داما في المجلس، زيادةً في التروي والتثبت، لأن الإنسان إذا كانت السلعة عند غيره، تكون رغبته فيها شديدة، فإذا حصلت له وجاءت له، نزلت في نفسه فربما يندم؛ لذلك جعل الشرع الحكيم للمتبايعين خيار، ما داما في المجلس.
وقد أشار النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- إلى وجوب تحرير البيع، حيث " نهى عن بيع الغرر، ونهى عن بيع حبل الحبلة، ونهى عن بيع الحصاة " وكذلك روي عنه أنه " نهى عن بيع السمك في الماء، والطير في الهواء ... " وما أشبه ذلك.
وبناء على ذلك، لا يصح البيع إذا كان الثمن مجهولاً للطرفين؛ لما في ذلك من الغرر، ولأن المشتري قد يقدر ثمنًا، ويكون الثمن الذي يريده البائع أكثر بكثير، والبائع قد يقدر ثمنًا، ويكون الثمن الذي بذله المشتري أقل بقليل.
واختلف العلماء -رحمهم الله-، هل يجوز البيع بما ينقطع به السعر؟ يعني: أن يقول المشتري للبائع: إذا انقطع السعر فهي عليَّ بما ينقطع به السعر.
كما يقول عوعم+ أخذتها بما تقف عليه+ بالمزايدة.
ومن العلماء من قال: إن هذا لا يجوز؛ لأنه غير معلوم للبائع ولا للمشتري، ولأن المشتري قد يكون في تقديره الثمن أقل بكثير مما انقطع به السعر، وكذلك البائع ربما يكون الثمن في تقديره أكثر بكثير مما انقطع به السعر.(253/159)
ومن العلماء من أجاز ذلك، وقال: "إن النهي عن بيع الغرر، إنما كان خوف الغبن". وما ينقطع به السعر ليس به غبن؛ لأن ما ينقطع به السعر هو قيمة الشيء بين الناس، وحيئنذ لا غبن، ولكن القول بأنه لا يجوز أقرب إلى الصواب؛ لأن ما ينقطع به السعر قد يتولاه شخص ذو حاجة، فيرفع السعر في المزايدة، حتى يصل إلى حد لم يخطر ببال المشتري، وقد يكون الحضور للمزايدة قليلين، فينقص الثمن إلى حد ما كان يقدره البائع، وحينئذ يحصل الندم، عمل الناس اليوم على القول الثاني وهو القول بالجواز.
مثال آخر: لو قال: أبيعه عليك بثمنه عند الناس. يعني: كما يبيعون، وفي هذا خلاف بين العلماء، منهم من قال: "إنه جائز". ومنهم من قال: "إنه ليس بجائز".
وهذا القول أقرب إلى الجواز من ... وهذا القول في هذه المسألة، أقرب إلى الجواز من المسألة التي قبلها؛ لأن القيمة المعتبرة بين أوساط الناس لا يندم عليها أحد؛ حيث إن البائع لن يبيع بأزيد ما تبيع به الناس، وكذلك المشتري.
وعلى هذا فإذا قال الرجل للتاجر: أرسل لي صندوق شاي، أو كيس رز. ولم يذكر الثمن -فإن ذلك لا بأس به، ويقيده عليه، بما هو سعره عند الناس، والعمل على هذا في عرف الناس، لا سيما إذا كان البائع رجلا معتبرا في البيع يثق به الناس.
ومن المخاطرة في البيع: أن يبيعه شيئا ضائعًا، إما شاة ضالة أو بعيرا، وإما عين أخرى ضائعة، فإن بيع ذلك حرام؛ وذلك لأنه غرر قد يحصل للمشتري وقد لا يحصل، ثم إن الغالب أنه يباع بأقل من ثمنه حاضرًا، فإذا كان المشترى منه يساوي حاضرًا مائة، فإنه لن يبلغ المائة إذا كان غائبا، فيكون مثلا بثمانين أو بخمسين، حينئذ إن وجد صار المشتري غانمًا، وإن لم يوجد صار غارمًا، وعكسه البائع: متى كان المشتري غانمًا فالبائع غارمًا، ومتى كان البائع غانمًا فالمشتري غارم، وهذا غرر ونوع من الميسر.(253/160)
ومن هذا "من الغرر": بيع ما في بطون البهائم، وإن شئت فقل: "بيع ما في بطون الحوامل". يشمل الحامل من الإماء، بيعه حرام؛ لأنه مجهول لا يدرى أذكر هو أو أنثى؟ أواحد هو أم متعدد؟ فإذا قدر أنه علم ذلك بسبب تقدم الطب، فإنه يبقى الجهل: أيخرج حيًا أم ميتًا؟ فيكون داخلا في الغرر، فلا يصح العقد عليه.
ومن بيع الغرر: بيع الثمار على رؤوس الشجر قبل صلاحها، وكذلك الزروع؛ ولهذا " نهى النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحها " عن بيع الثمر على رؤوس النخل، وقال: " حتى يبدو صلاحها " وسئل عن الصلاح فقال: " تحمر أو تصفر " وكذلك في العنب: لا يصح بيعه حتى يتموه حلوًا؛ لأنه قبل ذلك، أي: قبل بدو الصلاح في تمر النخل والتموه حلوًا في العنب عرضة للفساد، فيكون فيه غرر ومخاطرة، ومن ذلك النهي عن بيع الحب في سنبله حتى يشتد، أي: حتى يصلب ويقوى ويكون حبًّا .
والخلاصة: أن كل بيع يتضمن الغرر فغير صحيح، وكذلك يقال في الإجارة؛ لأن الإجارة عقد معاوضة، فالمستأجر يستأجر العين، يملك منافعها، والمؤجر يؤجره إياها ويملك الأجرة، هذه معاوضة بين المؤجر والمستأجر، وعلى هذا فلا بد من تحرير الأجرة وتحرير المستأجر؛ حتى لا يقع المتعاقدان في الغرر الذي يشبه الميسر.
فإن قال قائل: ألستم تجيزون الجعالة؟ وهي عقد على شيء مجهول. مثل أن يقول: من رد لقطتي فله كذا وكذا، ومن رد ضالتي فله كذا وكذا. من المعلوم أنه قد يردها في زمن قريب، أو في زمن بعيد ، من مكان قريب، أو من مكان بعيد، وأنتم تقولون: هذا جائز.
الصواب نقول ذلك؛ لأن عقد الجعالة هو من مشروط على عمل، متى حصل فذاك العلو+ دون أن يجتمع بشيء أحدهما؛ ولهذا كانت الجعالة من العقود الجائزة، ويدل لهذا قول الله تعالى: { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) } إنه قد يأتي به من مكان قريب، وفي مدة وجيزة، وقد يأتي به من مكان بعيد، وفي مدة طويلة.(253/161)
ثم قال المؤلف -رحمه الله وعفا عنه ووفقه-:
ثم قال المؤلف -رحمه الله- في هذا البيت:
فحررنها ودع المخاطرة
-----------
وفي قوله: "ودع المخاطرة" إشارة إلى أن الأخيرة +؛ لكي تتبين واضحة، من أجل أن لا يكون هناك مخاطرة، والمخاطرة هي الميسر، وبهذا نعرف أن عقود التأمين على السلع محرمة؛ لأنها تتضمن مخاطرة، فإذا أمن الإنسان على سيارته مثلاً، وصار يدفع كل سنة خمسمائة ريال، أو أربعمائة ريال، وهنا يكمن الخطر؛ لأنه إن مرت السنة دون أن يحصل حادث يدخل في عقد التأمين -صارت الشركة غانمة، وصاحب+ التأمين غارمًا، وإن حصل في المؤمن عليه ضرر، أكثر مما دفعه صاحب التأمين -صارت الشركة غارمة، ويحصل بذلك غرر وجهالة؛ لأنه إما غانم وإما غارم.
عقود التبرع:
ثم قال:
وإن تكن تبرعا أو توثقة
فأمرها أخف...
تكون العقود تبرعًا: كالصدقة والهبة والعطية والوصية + آخر.
والهبة: هي التبرع بمال بلا عوض. فإن قصد بها ثواب الآخرة فصدقة، وإن قصد بها التودد + هبة هدية، وإن قصد بها مجرد الإعطاء فهي هبة، ثم إن كانت العطية ... ثم إن كانت الهبة أو الصدقة أو الهدية في مرض الموت المخوف تضاف إلى الثلث، بمعنى أن ما زاد على الثلث يكون أمره موكولاً إلى الورثة، إن شاءوا أجازوه وإن شاءوا منعوه؛ لأن العبرة بالمعاني هنا، والمريض مرض الموت المخوف قد تعلق حق الورثة بماله، فليس له أن يتبرع بما زاد على الثلث إلا بعد إجازتهم.
وقوله: "أو توثقة" يعني: أن تكن العقود توثقة فأمرها أخف. التوثقة كعقد الرهن، إذا عقد الرهن على بيته، والمرتهن لا يدري عنه فهو صحيح، ما دام البيت معلومًا؛ لأن المقصود بالرهن التوثقة، فإذا قال: رهنتك بيتي المعروف في مكان كذا. هذا للمرتهن صح، وإن كان المرتهن لم يذهب إلى البيت، ولم يستبرح ولم ينظر في حجره ولا ... ورضي، ووجه ذلك أن هذا الرهن، إن كان على ما في خاطر المرتهن هذا هو المطلوب، وإن كان دون المقصود توثيقه بالمال.(253/162)
وكذلك الضمان، لو ضمن الإنسان شخصًا يملك ما في ذمته، وهو لا يدري من السبب في الدين؛ ذلك لأن الدين لا يلزم الضامن وحده، وعلى المضمون أصل، والضامن فرع.
قد اختلف العلماء -رحمهم الله-، هل للمضمون له أن يطالب الضامن؟ قد يتعذر من مطالبة المضمون، أو ليس له أن يطالبه إن لم يتعذر مطالبة المضمون. هذان قولان، وعمل كثير من الناس اليوم بأن الضامن لا يطالب، إلا إذا تعذر في مطالبة المضمون، وبهذا يأتي إلى الضامن يقول: أعطني حقي. فيقول: حقك عند فلان، إذا عجزت عنه فائت إليّ.
والخلاصة: أن عقد الرهن وعقد التوثقة، لا يشترط فيه أن يكتب فيه الشروط المقصودة أو بعضها.
ثم قال المؤلف -رحمه الله-: "فدع التفرقة". أي: اعلمها وافهمها، التفرقة أي: بين عقود المعاوضات وعقود التبرعات والتوثيقات، والتفرقة هي أن عقود المعاوضات هي على المشاحة، ومطالبته بالحق كاملاً.
"ودعاة التوثقة" أيش المقصود بها؟ المشاحة + هذا الأمر فيها أسهل، حتى بين المتعاقدين.
قال المؤلف -رحمه الله-: "لأن ذي إن حصلت فمغنم".
"لأن ذي" المشار إليه والقريب، من القواعد المقررة: أن الضمير أو الإشارة يعودان إلى أقرب مذكور. ويكون مراده بقوله: "ذي". أي: عقود التبرعات والتوثقة، إن حصلت فمغنم أسرتي +، وذلك مغنم+... لهذا قال: "فإن تفت ليس فيها مغرم"
لأن ذي إن حصلت فمغنم
وإن تفت فليس فيها مغرم
ثم قال المؤلف -رحمه الله وعفى عنه ووفقه-:
وكل ما أتى ولم يحدد
بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
كل شيء أتى مطلقًا ولم يحدد، فإنه حدد بالعرف، ومثاله قوله: "الحرز".
الحرز يعني: حرز الأموال ولا بد من معرفة الحرز؛ لأنه يترتب عليه ضمانات وحدود، فمن ذلك الوديعة، يعني: أن تعطي شخصًا مالاً يحفظه لك، لا بد أن يحفظه في حرز، وهذا يختلف اختلافا كثيرا بين الأموال وبين أفرادها، وبين الأزمنة وبين الأمكنة.(253/163)
في بعض الأزمنة يكون هذا الشيء حرزًا، وفي بعضها لا يكون حرزًا، وفي بعض الأمكنة أو البلدان يكون هذا حرزًا، وفي بعضها لا يكون، والأموال كذلك، بعضها ثمين يجب أن يحرز في مكان أمين، وبعضها ليس كذلك.
لما ذكر الفقهاء -رحمهم الله- الحرز في باب السرقة، قالوا: "إنه يختلف باختلاف السلطان والمكان، وأنواع المال، وأهل السلطان، وغير ذلك". إذا أودع رجل شخصًا وديعة من المال: دنانير أو الدراهم، ووضعها على طاولة المكتب -فإن ذلك لا يعد حرزًا للدراهم والدنانير؛ لأن الدراهم والدنانير تحفظ في الصناديق، في الأبواب والأغلاق الوثيقة، ولو أودعهم جرة حبر ووضعها على المعصرة، لأنها لم تجر العادة، بأن مثل هذه تحفظ في الأغلاق الوثيقة.
كذلك أيضًا بالنسبة للسرقة، إذا سرق السارق دراهم أو دنانير على الطاولة، ليس بحرز، وإذا سرق قلمًا أو جرة حبر كان ذلك سرقة من حرز.
ذكر العلماء -رحمهم الله-: أن يد السارق لا تقطع إلا إذا سرق من حرز. كذلك لو استأجر عينًا ووضعها في مكان، نظرنا إن كان هذا المكان مما جرت العادة، أن توضع فيه هذا العين حرزًا -إذن لا ضمان عليه فيما لو سرق، ولو في الحرز أن تقطع يده؛ وذلك لأن التفريط من صاحب المال، فإذا كان التفريط من صاحب المال تقطع يده.
ثم قال المؤلف ممثلا في مثل أخرى: "من ذاك صيغات العقود مطلقا".
يعني: مما يرجع فيه للعرف صيغ العقود، إجارة رهن الوطء النكاح؛ ولهذا قال: "مطلقًا". إذا الإنسان "شخص" قال: "أنكحتك بنتي" -هم يعرفون أن "نكحتك" يعني: زوجتك- انعقد النكاح، أو قال: "جوزتك بنتي" فقال: "قبلت" -انعقد النكاح، ولو قال: "أعطيتك بنتي" فقال: "قبلت" -انعقد النكاح. هذه تدل على عقد النكاح كعرف، وإلا هي وعد ليس عقدا.(253/164)
وقول المؤلف -رحمه الله وعفا عنه ووفقه-: "مطلقًا". شارك، أو لمن فصل على أن عقد النكاح لا بد فيه من لفظ الإنكاح أو التزويج، أو يقول مالك الأمة: أعتقتك، وجعلت عتقك صداقك. لكن الصحيح أنه لا فرق، إن جميع العقود تنعقد بما دل عليه؛ لهذا قال المؤلف -رحمه الله-:"ونحوها" أي: نحو صيغات العقود، "في قول من قد حققا".
يشير إلى قول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-، فإنه -رحمه الله- عالم خاشع العلم، قوي الفهم، قوي الدين محقق؛ لهذا تجد غالب اختياراته موافقة للدليل الصحيح، وإني أوصي طالب العلم بالحرص به، وكتب تلميذه ابن القيم-رحمهما الله- فإن فيهما خيرًا كبيرا، يعطيان الإنسان ملكة قوية للترجيح بين الأقوال، ويمرنه على المناظرة والمناقشة مع الآخرين.
نسأل الله لنا جميعًا التوفيق إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يرزقنا الفهم في كتابه والعمل به، إنه على كل شيء قدير. نعم .. لدينا أسئلة؟ نعم.
فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول:
س: كثير من العمال إذا أردت الاتفاق معه يقول: الذي تدفعه مقبول عندي. فما حكم ذلك؟
ج: هذا لا يصح؛ لأن الأجرة مجهولة، العامل إنما عمل عند صاحب العمل بالأجرة بلا شك، ولهذا لو أنه انتهى من العمل، وأعطاه صاحب العمل شيئًا، فقال: "زدني" -دخل بينهما الخلاف. وكم من مرة يكون فيها الخلاف، ثم يأبى العامل أن يقدر ما قدره صاحب العمل ويجحد؛ فيندم صاحب العمل، فيطلب الحصول على هذا العامل ويسأل عنه، لعله يجده فيعطيه حقه؛ فلذلك نقول: "لا يجوز للعامل عنده، إلا أن يحدد الأجرة، إلا إذا كان العمل مما عرفت أجرته بين الناس، هذا شيء يعمل فيه بالعرف". نعم.
وهذا يقول -فضيلة الشيخ-:
س: باب القياس ما دليلها، لأن الصنعاني يبطلها؛ وقد أشكل علينا هذا؟(253/165)
ج: الإشكال في إبطالها، أعني دلالة القياس، ليس الإشكال في إثباته؛ لأن القياس ثابت من القرآن والسنة، وكل مثل ضربه الله هو قياس: { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) } وقال الله تعالى: { وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
قال الله تعالى: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى } تجد هذا كثيرًا، كما أن الله قال في قصص الأنبياء: { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى } وهذه العبرة أن يكون أن يقيسوا حاضرًا بالماضي.
وأما السنة ثبتت دلالتها على القياس، ثبتت دلالتها على القياس، لقد ثبتت دلالتها على القياس بنص النبي r " إن رجلا أتى إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- وقال: يا رسول الله، إن امرأتي ولدت غلامًا أسود. قال له النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: هل لك من إبل؟ قال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: هل فيها من أورق؟ " يعني: أبيض خليطا من السواد. نعم. من أين أتى؟ " لعله نزعه عرق. قال: فولدك هذا، لعله نزعه عرق " .(253/166)
" أتته امرأة لقضاء حج عن أمها نذرته، فلم تحج حتى ماتت، فقال: أرأيتِ لو أن كان على أمك دين، أكنت قاضيته؟ قالت: نعم. قال: فالله أحق بالوفاء " .
وهذا قياس لا شك فيه، وهو قياس دَيْن الله على دين الآدمي في أنه يقضى.
ولما قال -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: نعم، أرأيتم لو وضعها في الحرام، أكان عليه وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر " هذا واضح، أدلة كون القياس حجة ودليلا واضحة، ولا وجه للمخالفة. نعم.
وهذا يقول -فضيلة الشيخ-:
س: إذا اتفق الرجل والعامل على سعر في مدة، وقبل انقضاء المدة رفض العامل العمل، وطلب حقه فهل يعطاه؟
ج: لا يعطاه، إذا استؤجر على عمل لزمه إكماله، فإن لم يكمله فلا أجرة له، إلا إذا كان هناك عذر قاهر لا طاقة للعامل به، فحينئذ يعطى من الأجرة بقدر ما عمل. نعم.
وهذا يقول -أحسن الله إليكم-: ما حكم من تراجع في هبته، بعدما ندم على فوات مصلحته بالهبة؟
ج: هذا يحصل لما لو وهبت المرأة شيئا لزوجها؛ حتى لا يتزوج عليها، وذلك مثل… تحب... لأنه يريد الزواج عليها، تبذل له مالاً في نية ألا يتزوج، فإذا تزوج فإنه يجب عليه أن يرد عليها ما أخذ. إننا نعلم أنها إنما وهبته لغرض لم يتحقق، وكذلك لو قيل له: إن فلانا أصابته فاقة. فأعطاه من أجل هذه الفاقة، ثم تبين أنها لم تكن -فإنه يرد + نعم.
وهذا يقول -أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ-:
س: إذا شك الإمام في صلاته، فبنى على غالب ظنه، ووافق ظنه الواقع، وذلك بموافقة المأمومين له، فهل يسجد أم لا؟ وما هو اختياركم، حيث إني قرأت لكم قولين في كتابين، فما المختار عندكم؟(253/167)
ج: المسألة فيها خلاف، المذهب أنه لا يسجد، إذا تبين أنه مصيب فيما فعل فإنه لا يسجد؛ لأن السجود إنما لسبب تبين عدمه، وقيل: إنه يسجد؛ لأنه أدى جزءًا من صلاته شاكا فيه، شاكا فيه أي: في هذا الجزء، لا يدري أزائد هو أم لا؟ وأنا أحيانًا يقع في ذهني أن... هو لا يسجد أحيانا كثيرة + أنه يسجد، فهو لم يتبين لي كثيرًا رجحان أحد القولين. نعم .
أحسن الله إليك -فضيلة الشيخ-هذا يقول:
س: الأوامر في الآداب، ما حكم الأوامر في الآداب؟ وما هو الدليل عليه؟ وهل الأمر مطلق ظاهر، أم نص في الوجوب؟
ج: هذا أمر مطلق، فلهم فيه بين علماء الأصول… فمنهم من قال: إنه للوجوب؛ لأن ذلك هو الأصل في أوامر الله ورسوله، ومنهم من قال: إنه للاستحباب. أن الأمر به يعلم مشروعًا، والتأذين بتركه لا في الأصل، الأصل عدم التأذين بالترك، أنت إذا تأملت كثيرًا من الأوامر وجدت أنها ليست للوجوب، إما في الإجماع وإما في قول أكثر العلماء؛ ولهذا فصل بعضهم فقال: ما كان من الآداب فهو للإرشاد وليس للوجوب، إلا أن يتضمن مفسدة أخرى، وما كان لمطلق التعبد فهو للوجوب؛ لأن الله -تعالى- قال: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) } وهذا أقرب الأقوال الثلاثة.
فمثلا: الأمر بالأكل باليمين، أكد العلماء على أنه للاستحباب وليس للوجوب، وذهب علماء آخرون إلى أنه للوجوب، فإذا طبقنا هذا الحديث على ما هنا، وجدنا أنه من الآداب، لكن اقترن به ما يدل على الوجوب، اقترن به ما يدل على الوجوب، وهو قوله r " فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله " .(253/168)
" وأكل مرة رجل عنده باليسرى، فأمره أن يأكل باليمين، فقال: لا أستطيع. فقال: لا استطعت. فما ردها إلى فيه بعد ذلك " وكذلك أيضًا انظر كل... وهو لم يسم الله، قال لعمر بن أبي سلمة وهو لم يسم الله، " وكل بيمينك وكل مما يليك " هنا ثلاثة أوامر: "التسمية" الأمر بالتسمية، والأمر بالأكل باليمين، والأمر بالأكل مما يليه.
فأما الأول: وهو التسمية، فقد اختلف العلماء فيه: هل هو للوجوب أو للاستحباب؟ الصحيح أنه للوجوب، على أنه من الآداب، لكن هناك دليل آخر يدل على الوجوب، وهو أن الإنسان إذا لم يسم فإن الشيطان يأكل معه، وهو أنه لا يليق بعاقل أن يمكِّن عدوه من الأكل معه.
" كل بيمينك " سبق الكلام عليه. " كل مما يليك " على سبيل الاستحباب، فلو أكل مما يلي جليسه لم نقل إنه آثم، فإن الأمر بالأكل مما يليه على سبيل الاستحباب، اللهم إلا أن يكون جليسه ممن يتأذى من ذلك، فإذا كان جليسه ممن يتأذى بذلك، هنا قول يجب عليك أن تكف عن الأكل مما يلي جليسك؛ لما فيه من أذية الجليس، وأذية المسلم حرام، لا يجب للمسلم أن يؤذي أخاه. نعم.
هذا يقول -أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ-:
س: اتفقت مع عامل على تصليح جهاز من الأجهزة، ولم نتفق على السعر، ثم عندما أردت إعطاءه المبلغ، ثمانية دنانير كويتية وهو العرف، فطلب ضعف هذا المبلغ، وهو مبلغ كبير بالنسبة لعمله، وقد رفض أخذ مبلغ ثمانية دنانير وذهب، فماذا عليَّ؟
ج: ليس عليك شيء، ما دام هذا أجرة العادة، ولم يكن بينكما عقد تقدير الأجرة، ولكن إن أيست منه، تصدق بها بالنية عنه، وإن لم تيأس من رجوعه انتظر حتى يصل. نعم.
هذا يقول -أحسن الله إليك فضيلة الشيخ-:
س: س: إذا رأيت شخصًا على المائدة يشرب بيساره، فهل يجب عليّ تنبيهه أمام الناس؟(253/169)
ج: نعم، يجب عليك إذا رأيت شخصا يأكل بشماله، أو يشرب بشماله في حوط من الناس، يجب عليك أن تنبهه، ولكن ليس من شرط ذلك:خذ يا فلان، كل باليمين. بل يمكن أن يحدث المقصود بأن تقول: إن النبي r علَّم أمته آداب كل شيء، حتى آداب الأكل، ثم تسوق الحديث: أنه نهى عن الأكل بالشمال والشرب بالشمال، وتأتي بحديث آخر للنبي -عليه الصلاة والسلام- قال للرجل: " كُل بيمينك. قال: لا أستطيع. قال: لا استطعت. فما ردها إلى فيه بعد ذلك " نعم.
وهذا يقول:
س: سمعت -فضيلة الشيخ-: الملح من الأمور التي يدخل فيها الربا، فما حكم من أخذ من الدكان ملحًا ثم قال: اجعله دينا عليّ؟
ج: لا بأس بذلك، النقدان ليس بينهما ربا في بقية الأصناف، لهذا كان من عبارات الفقهاء: يجري ربا النسيئة في بيع كل جنسين اتفقا في علة ربا الفضل، ليس أحدهما نقدًا.
يعني أن النقد أنج+ الربا بينه وبين بقية الأصناف، ودليل ذلك أن النبي-صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قدم المدينة، ووجدهم يصرفون في الثمار السنة والسنتين فلم يمنعهم، مع أن الدراهم نقد أهل البستان، وقبض المشتري يتأخر. نعم.
وهذا يقول -فضيلة الشيخ-:
س: بعض الناس يسمعون الدف في الزواجات... -نعم؟- بعض الناس يسمعون الدف في الزواجات، ويستدلون بما رواه الترمذي: " أن جارية ضربت الدف بين يدي الرسول r بعدما نذرت، إن رده الله سالمًا من الغزو لتضربن الدف، فضربت الدف، وأبو بكر وعثمان يسمعان " فكيف نوجه هذا الحديث مع أحاديث النهي؟ والله يرعاك.
ج: النهي عن الدف ليس عامًا، هذا الضرب بالدف جائز عند المناسبات: الأفراح، العرس، قدوم الغائب، إذا هو جاء من عند الناس+ ، بعلمه أو ماله أو سلطانه.
المالك شرط في صحة العقود
O . الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المصنف -رحمه الله تعالى ورفع درجته-:
واجعل كلفظ كل عرف مطرد
وشرط عقد كونه من مالك
وكل من رضاه غيرُ معتبر(253/170)
وكل دعوى لفساد العقد
وكل ما ينكره الحس امنعا
فشرطنا العرفي كاللفظي يرد
وكل ذي ولاية كالمالك
كمبرأ فعلمه لا يعتبر
مع ادعاء صحة لا تجدي
سماع دعواه وضده اسمعا
O . الحمد الله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبق لنا أن عقود المعاوضات، لا بد فيها من العلم المزيل للاشتباه؛ لأنها عقد معاوضة ومشاحة، كل يريد أن يكون حقه تامًا، وأما عقود التبرعات والتوثيقات فأمرها أخف ويغتفر فيها الجهل؛ وذلك لأن عقود التبرعات والتوثيقات إن حصلت فمغنم، وإن لم تحصل فليس فيها مغرم، فلا تدخل في الميسر.
وسبق لنا أيضًا أن كل ما أتى مطلقًا، يعنى: في النص، في القرآن أو السنة، ولم يحدد، فالرجوع فيه إلى العرف، وهذا لم نبينه.
يقول الناظم:"كل ما أتى". يعني: في النص من الكتاب والسنة، "ولم يحدد" بزمن أو مكان أو عدد أو صفة -فإنه يرجع فيه إلى العرف، مثال ذلك: الحرز، وهو ما تحفظ به الأشياء، فإن الحرز معتبر في الأموال المسروقة؛ إذ أن من شرط قطع يد السارق أن يسرق من حرز، فلو سرق من غير حرز لم تقطع يده، والحرز يختلف باختلاف الأموال، واختلاف البلدان، واختلاف السلطان.
فمن المعلوم أن حرز الماشية ليس كحرز الذهب، الماشية تحرز بالأحواش والحظائر وما أشبهه، والذهب لا بد أن يكون في الصناديق الوثيقة المغلقة، كذلك أيضًا ليس الحرز في المال التي يكثر فيها السراق، كالحرز في البلد الآمنة، فالبلد التي يكثر فيها السراق يجب أن يحترز، يحرز المال أكثر ممن احترز في البلد التي يقل فيها السراق، كذلك السلطان، هو إذن مراتب، إذا كان السلطان قويا فليس الحرز مع السلطان الضعيف، كالحرز مع السلطان القوي؛ إذ أن بعض البلاد التي سلطانها قوي، ربما تبقى الأموال على عتبة الدكاكين ولا يخشى عليها، وإذا كان السلطان ضعيفًا فيجب أن يكون الحرز أقوى.(253/171)
والحرز معتبر في المال المسروق، معتبر كذلك في الوديعة، إذا أودعك الإنسان مالاً فيجب أن تحفظه في حرز مثله، فالذهب فيما يحرز به الذهب، والأواني فيما تحرز به الأواني، فالأواني مثلاً حرزها المطبخ؛ إذ لا يغلق عليها وراء الأبواب في الصناديق مثلاً، والذهب حرزه في الصناديق المغلقة وهكذا.
الحرز أيضًا يعتبر في الأعيان المستأجرة، فلو استأجر الإنسان سيارة، وجب أن يحفظها في حرز مثلها، وألا يدعها في مكان يخشى عليها من السراق أو المفسدين.
والحرز لم يحدد في الشرع، فيرجع فيه إلى العرف، كذلك السفر، السفر جاء مطلقًا في القرآن والسنة ولم يحدد، قال الله تعالى: { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ }
فأطلق الظرف ولم يحدده، لا بزمان ولا بمسافة، وعلى هذا فيرجع فيه إلى العرف، وما ورد عن بعض السلف، من أنه من مكان كذا وكذا سفر قصر، يعني وما دونه فليس سفر قصر، فإنما هو من باب المثال لما كان سفرًا في عرفهم؛ ولهذا لم يحدد النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- زمنًا ولا مسافة في سفر القصر، بل قال أنس بن مالك-رضي الله عنه-: " كان النبي r إذا خرج ثلاثة أميال… " فيرجع في ذلك إلى العرف، فما سموه الناس سفرًا فهو سفر، وما ليس سفرًا في عرف الناس فليس بسفر.
وكذلك الإقامة أثناء السفر في بلد أو مكان بري، لم يحددها الشرع بأيام معلومة، أو أشهر معلومة، أو سنوات معلومة؛ ولهذا كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يقيم إقامات متعددة مختلفة، ويقصر فيها الصلاة، فقد أقام في تبوك عشرين يومًا يقصر الصلاة، وأقام في مكة تسعة عشر يومًا يقصر الصلاة، وذلك في غزوة الفتح، وأقام في مكة في آخر سفر سافره -في حجة الوداع- عشرة أيام، كما ثبت ذلك في صحيح البخاري -رحمه الله:- " أن أنس بن مالك t سئل: كم أقام… " .(253/172)
- " صلى الله عليه وسلم- قدم في يوم الأحد، الرابع من شهر ذي الحجة، وسافر من مكة في صبيحة اليوم الرابع عشر " فهذه عشرة أيام، ولم يقل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- ولا حرفًا واحدًا، في أن من أقام كذا لزمه القصر ومن أقام دون ذلك لم يقصر، إذن الإقامة ما دام الإنسان مسافرًا لم يعد إلى بلده، فهي ظن السفر.
ومن ذلك أيضًا الخفان، السنة وردت: " أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- مسح على الخفين " ولم يشترط النبي r في الخفين شرطًا معينًا، إلا أنه لبسهما طاهرتين، وأن مسحهما في مدة معينة: ثلاثة أيام بلياليهن للمسافر، ويوم وليلة للمقيم.
فإذن نقول: الخف جاء مطلقًا، مسح على الخفين. فإذا كان مطلقًا الخفين قلنا: يمسح على كل ما يسمى خفًا عرفًا. وهذا هو القول الراجح، وأننا لا نشترط شروطًا في جواز الخفين لم تثبت في الكتاب ولا في السنة؛ لأننا إذا شرطنا شروطًا، ضيقنا نطاق المسح، وتضييق ما وسعه الله مشكل.
كذلك أيضًا النفقة. النفقة يقول الله U { لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آَتَاهُ اللَّهُ } وأطلق الإنفاق، ويرجع في ذلك للعرف، فما تعارف عليه الناس من نفقة الغني وجب على الزوج، وما تعارف عليه من نفقة الفقير وجب عليه، كذلك المعاشرة: { وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } ولم يحدد شيئًا معينًا، بل جعل ذلك إلى العرف، وهذه قاعدة نافعة تنفعك في أبواب كثيرة في الفقه: أن كل شيء أتى في النص، من كتاب الله وسنة رسوله r ولم يحدد -فإنه يرجع فيه إلى العرف.
ثم قال الناظم:
وشرط عقد كونه من مالك
وكل ذي ولاية كالمالك
العقود سواء كانت عقود تبرعات، أو معاوضات، أو توثيقات، أو أنكحة أو غيرها، لا بد أن تكون من مالك، أي: ممن يملك العقد على هذا الشيء. العقود لا بد أن تكون من مالك، فمن عقد عقدًا لا يملكه فعقده باطل لا يصح.(253/173)
مثال ذلك في البيع: لو باع الإنسان ما لا يملك: أتى على سيارة فلان فباعها إلى فلان، البيع غير صحيح، حتى لو تم الإيجاب والقبول، وعلم الثمن والمبيع والتقابض، فغير صحيح؛ لأنه ليس مالكًا لها "للسيارة".
وكذلك لو رهن لدين عليه، وهو غير مالك -لم يصح الرهن، وكذلك لو تبرع بها صدقة على الفقير، أو هدية لمن يطلب مودته، أو غير ذلك فإن هذا التبرع غير صحيح؛ لأنه ليس من مالك، وكذلك لو باع حرا فإن البيع لا يصح، حتى لو كان ابنه أو أباه أو أخاه، فإنه لا يصح؛ لأنه ليس مالكا، إذ أن الحر حر ليس يُملك، كذلك لو زوج ابنة فلان لم يصح العقد؛ لأنه لا يملك ذلك، وقس على هذا بقية العقود بجميع أنواعها.
قال: "وكل ذي ولاية كالمالك". يعني: الذي له ولاية من قبل الشرع، أومن قبل المالك، كالمالك في التصرف، فشمل ذلك الوكيل والناظر والوصي والوريث.
الوكيل: هو من أذن له المالك بالتصرف حال الحياة، مثاله أن يقول لشخص: يا فلان، وكلتك في بيع هذه السيارة. فإذا باعها الوكيل، فهو كما لو باعها موكله في جميع الأحكام؛ لأن له ولاية من قبل المالك، وكان تصرفه كتصرف الموكِّل.
الثاني: الناظر. والناظر: هو الذي يوليه الواقف على الوقف، يسمى ناظرًا، هكذا اصطلح الفقهاء -رحمهم الله- وإن كان حكمه حكم الوكيل، لكنه يسمى عندهم ناظرًا، فإذا تصرف الناظر تصرفًا مأذونًا فيه من قبل المالك، أو من قبل الشارع، يعني… وأقول من قبل المالك، يعني: الذي وقع، أو من قبل الشارع -فهو كالمالك، مثاله: رجل أوقف نخلة على الفقراء والمساكين، وجعل النظر فيه لفلان، فلفلان أن يتصرف في توزيع هذا الوقف، حسب ما يراه من مصلحة، ولا حاجة أن يستأذن الواقف، لأن تصرفه كالواقف، حيث إنه ناظر على الوقف، فإذا صرفه في المساكين فقد امتلك موقعه، كذلك أيضًا لو كان يلتزم من قبل الشرع، فتصرف الناظر صحيح وإن لم يأذن له الواقف.(253/174)
مثاله: رجل أوقف بيته على المساكين، ثم إن البيت انهدم أو خرب حتى لا يمكن الانتفاع به، فحينئذ يجب على الناظر أن يبيعه ويصرف ثمنه فيما ينفع، إن أمكن أن يشتري بيتًا يقوم مقام الأول فهذا مطلوب، وإن لم يمكن صرفه في جهة أخرى، مثل أن يصرفه في بناء المساجد استقلالاً أو مساهمة.
وليعلم أن قولنا: "إن المتصرف في الوقف يسمى ناظرًا". قول يجب أو ينبغي التفطن له؛ لأننا نرى كثيرًا من إخوتنا الذين يكتبون الأوقاف، يقول: هذا وقف على كذا وكذا وكذا، والوكيل عليه فلان. وهذا وإن كان صحيحًا من حيث الجملة، لكن الأولى والأحسن، أن يعبر بما عبر به الفقهاء والسلف الصالح، فيقول -بدل والوكيل فلان بن فلان-: "والناظر عليه: فلان بن فلان".
أما الثالث فهو الوصي: والوصي هو الذي أذن له بالتصرف في المال بعد الوفاة، مثال ذلك أن يقول: هذه ألف ريال توزع على الفقراء، والوصي فلان بن فلان. فإذا مات الموصي ... لأنه قال: هذه ألف ريال توزع على الفقراء. يعني بعد موتي، فإذا مات قام الوصي بتفريقها حسبما نص الموصي.
أما الرابع الذي يقوم مقام المالك: فهو الولي، وهو المتصرف بإذن من الشرع، وهو ولي اليتيم، واليتيم: هو الذي مات أبوه قبل أن يبلغ، سواء أن كان ذكرًا أو أنثى.
الابن الذي له سبع سنوات، وقد مات أبوه يتيم، والبنت التي لها سبع سنوات وقد مات أبوها يتيمة، وأما من ماتت أمه فليس بيتيم، إذا كان أبوه موجودًا.
الولي على اليتيم كالمالك، يتصرف في مال اليتيم كتصرف مالكه فيه، ولكن يجب على الولي أن يتصرف بما هو الأصلح، يقول الله -تبارك وتعالى-: { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ }
إذن قول الناظم: "وكل ذي ولاية كالمالك". يشمل أربعة أصناف: وكيل، وناظر الوقف، والوصي، وولي اليتيم.
من يعتبر رضاه في العقود:
ثم قال الناظم:
وكل من رضاه غيرُ معتبر
كمبرأ فعلمه لا يعتبر(253/175)
هذه أيضًا قاعدة مفيدة جدا، وهي أن لا يعتبر رضاه لا يعتبر علمه؛ لأنه إذا كان لو علم وعارض لم يقبل، لم يقبل معارضته، فعلمه وجهله سواء، مثال ذلك: المبرأ.
المبرأ يعني: إذا كان للإنسان دين على شخص فأبرأه منه، أي: أبرأ صاحب الدين المدين من دينه -فإنه لا يعتبر إرضاء؛ لأن هذا إسقاط، إسقاط واجب في ذمة المضمون، لا يجب عليه، حتى لو قال المبرأ: "أنا لا أرضى ولا أقبل أن تبرئني، أنا لا بد أن أوفيك" -برأت ذمته؛ لأن رضاك غير معتبر، لأن الحق وصف في ذمتك، أسقطه صاحبه سقط.
هذا هو المعروف عند أصحابنا -رحمهم الله-، ولكن القول الراجح الذي تطمئن له النفس أنه: إذا لم يعلم المبرأ ... ولكنه القول الراجح الذي تطمئن له النفس: أنه إذا لم يرض المبرأ فلا براءة؛ لأن المبرأ قد يرد الإبراء، بحجة أنه لو قبل، فأوشك أن يكون المبرئ -بكسر الراء- يمن عليه بذلك بعد ذلك، يمن عليه بذلك الإبراء بعد ذلك، إذ من الجائز أنه لو كان بينهما شيء، أي: بين المبرئ (بكسر الراء)، والمبرأ (بفتحها) شيء، إذا حضر قال المبرئ - بكسر الراء-: هذا جزائي حين أبرأتك من دينك.
يمن عليه بذلك، هذا لا شك أنه أثر على نفسية المبرأ، القول الراجح أنه إذا لم يرض المبرأ بالإبراء، فإنه لا يثبت الإبراء، لكننا مشينا على تمثيل المشهور من المذهب.
من ذلك أيضًا، من هذه القاعدة: المرأة. رجل زوج أياها، لا يشترط أن تكون راضية به، أن يطلقها ولو لم ترض، وإذا لم يعتبر رضاها بالطلاق، لم يعتبر علما، وعليه فلو طلقها ولم تعلم بالطلاق، حتى مضى عليها ما تنقضي به العدة من أقراء أو شهور -انقضت عدتها، وإن لم تعلم بالطلاق.(253/176)
إذا قالت: لم تعلم. قلنا: لا فرق بين علمها وعدمه؛ وذلك لأن رضاها ليس بالمعتبر. واستطرادا لهذا نقول: لو أن رجلاً توفي، ولم تعلم زوجته بوفاته إلا بعد أن مضى عليها أربعة أشهر وعشرًا -فإن عدتها تنقضي ولا يلزمها الإحداد؛ لأن الإحداد + العدة، ولها أن تتزوج بعد علمها؛ لأن عدتها قد انقضت.
ومن ذلك: لو أن الرجل زوج ابنته بدون علم، زوجها كفئًا بدين وخلق دون علمها -فأن تزويجه صحيح؛ لأن رضاها غير معتبر، وهذا على المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- عند أصحابه، الصواب أنه ليس له الحق أن يزوجها بدون علمها، ولا بدون رضاها؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " لا تنكح البكر حتى تستأذن " وهذا عام للأب وغيره، بل قد جاء قول رسول الله r " والبكر يستأمرها أبوها " أو قال: " يستأذنها " فنص على البكر، ونص على الإذن.
الأصل في العقود الصحة:
ثم قال الناظم:
وكل دعوى لفساد العقد
مع ادعاء صحة لا تجدي
أي: لا تنفع، يعني: كل إنسان يدعي فساد العقد، والعاقد معه يدعي صحة العقد -فإن القول قول مدعي الصحة؛ لأن ذلك هو الأصح، فإذا تبايع رجل وتم العقد وانتهى، فقال أحدهما: وقع العقد بعد أذان الجمعة الثاني. يريد بذلك أن يفسد العقد؛ لأن البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة غير صحيح؛ لأنه منهي عنه، فقال أحدهما: البيع غير صحيح؛ لأنه بعد أذان الجمعة الثاني. وقال الآخر: بل هو صحيح لأنه قبله. القول قول مدعي الصحة.(253/177)
هو منهي عنه ، وقال أحدهم: البيع غير الصحيح ؛ لأنه بعد أذان الجمعة الثاني وقال الآخر ، بل هو صحيح ؛ لأنه قبله القول قول مدعي الصحة ؛ لأن ذلك هو الأصل في عقود المسلمين ، ولو فتح الباب وقلنا: إن القول قول مدعي الفساد ، فسدت كثير من بيوت+ المسلمين ، ولكان ذلك فتحا للحيل والتحايل ، ويذكر عن أحد مشايخ نَجْد المشغولين بالفتيا أنه قال: إن بعض الناس تحيل على إبطال البينونة في الطلاق الثلاث ، ويدعي أن العقد الذي وقع به الطلاق لم يكن تام الشروط ، بل أحد الشهود ممن لا تقبل شهادته ، من أجل أن يبطل العقد ، إذا بطل العقد بطل الطلاق المبني عليه ، الذي حصلت به البينونة.
مثل هذا لا يقبل قوله ؛ لأن الأصل الصحة واختلف العلماء -رحمهم الله- فيمن ادعى أن العاقد غير بالغ ، مثل أن يتم العقد ، عقد البيع بين رجلين ، يدعي أحدهما أن العقد كان قبل بلوغه ، ويقول الآخر: العقد كان بعد البلوغ ، فهنا نازع… المسألة فيها أصلان: الأصل الأول هو أن الأصل في العقود الصحة ، مدعي البطلان عليه الدليل ، والأصل الثاني أن الأصل الصغر وعدم البلوغ ، إن كان تيقن أن العقد كان بعد البلوغ ، اختلف العلماء في هذه الصورة قال بعضهم: يقدم من ادعى عدم البلوغ ؛ لأنه الأصل ، وقال بعضهم: يقدم من ادعى الصحة ؛ لأن الأصل هو الصحة ، وينبغي في هذه الصورة أن يرجع إلى اجتهاد القاضي ، إن رأى أن قوله أقرب إلى الصواب أخذ به.
ما يرفض حسا لا يقبل دعوى:
يقول الناظم -رحمه الله-:
وكل ما ينكره الحس امنعا
..................(253/178)
وكل ما ينكره الحس امنعا ، كل هنا بالنصب ، مفعول لقوله: "امنعا" ، والألف في قوله: "امنعا" للإطلاق ، وليس للتثنية يعني: كل شيء ينكره الحس امنعه ، "امنعا ، امنعا ، امنعا + لا تسمع الباطل ، فإذا ادعى المدعي شيئا ينكره الحس ، فإنه لا يلزم القاضي أن يستمع للدعوى ، بل يردها رأسا ؛ لأن ذلك غير ممكن ، مثال: يدعي شخص أن هذا الشاب ابن له ، وليس بينهما إلا خمس سنوات ، لا يمكن أن تقبل وأن تسمع دعواه ؛ لأنه ادعى ما ينكره الحس ، إذ لا يمكن أن يكون للإنسان ابن ، وكذلك لو كان بينهما ست سنين ، أو سبع سنين ، أو ثمان سنين ، أو تسع سنين بناء على أنه لا تمكن الولادة إلا لمن تم له عشر سنوات.
وكذلك لو كان … +التباعد ما بين … وغير ذلك مما ينكر بالحس هذه الدعوى لا تسمع إطلاقا ؛ لأنا لو سمعنا هذه الدعوى .. ، ويجب أن نعرف الفرق بين سماع الدعوى وقبول الدعوى ، نفي سماع الدعوى أن تلفظ نهائيا ، ولا ينظر القاضي فيها إطلاقا أعني: نفي السماع ، والقبول نفي القبول أن يسمعها ، وينظر فيها ، ولكن لا يقبل فيها دعوى المدعي ، وسيأتي -إن شاء الله تعالى- ما يبين الفرق بينهما بالصورة ، نتفرغ الآن إلى الأسئلة حيث لم يبق على الزمن المحدد إلا تسع عشرة دقيقة.
س: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ ، هذا سائل يقول: امرأة وجدت قطعة من الألماس ، تقدر بحوالي أربعمائة ريال ، فأخذتها ، وهي كانت ملقاة ، أو ساقطة في مجمع عام في سوق ، فباعتها وانتفعت بثمنها ، فماذا عليها الآن؟
ج: عليها أن تتوب إلى الله U لأنها لم تُعَرّف هذه اللقطة ، الواجب عليه أن تعرفها ، بأن تبحث عنها بهذا السوق ، أو فيما هو أعم منه مدة سنة كاملة ، وبعد السنة تكون ملكا لها ، أما الآن فقد فات الأوان ، إن عليها أن تتصدق بثمنها ، قربة إلى الله U لصاحبها سواء كان رجلا ، أو امرأة.
نعم. أحسن الله إليكم.(253/179)
س: هذا يقول: أخذ أخي من تاجر عسل وقال له قيمة الواحدة منه ثلاثمائة ريال ، وإذا بعته بزيادة عن ذلك فلك الزيادة ، فأصبح يبيع الواحدة منه بثلاثمائة وخمسين ريالا ، ما حكم هذا البيع وماذا عليه وجزاكم الله خيرا؟
ج: إذا وكله في بيع شيء عسل ، أو طعام ، أو غير ذلك وقال له بعه بكذا وما زاد ، فلك فلا بأس به لكن بشرط أن يكون البائع الذي وكله عالما بسعر السوق ، فإن لم يكن عالما فله دعوى الربح+ ؛ لأن الإنسان قد تكون عنده السلعة قد مل منها ، وتعب منها ، فيوكل شخصا في بيعها ، هذا بكذا وكذا وما زاد ، فهو له هو لم يسأل عن سعرها ، ولعلها قد زادت قيمتها زيادة كبيرة ، فإذا قال له: خذ هذه السلعة بعها بمائة ، وما زاد فهو لك وعرف الوكيل أن هذا الرجل ليس عنده علم بالأسعار عليه أن يبين ، فيقول: يا فلان السلعة تساوي مائتين ، فإذا قال: وإن يكن الأمر كذلك ، بعها بمائة فما زاد ، فلك فحينئذ أقول: يبيعها بما تساوي في السوق ، ولو بلغت ثلاثمائة وأربعمائة ، ويرد إلى مالكها المائة التي اشترطها لنفسه.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا يقول: فضيلة الشيخ ، كان معنا نساء في حج هذا العام ، وأردنا أن نأخذهن معنا لرجم جمرة العقبة ، أو لرمي جمرة العقبة فقال لنا أخ: بأن الشيخ محمد بن العثيمين ، قال: النساء لا ترجم لشدة الزحام حتى لو كان فيها صحة ، مع العلم بأن النساء كانت بصحة جيدة ، وأرسلت من يرجم عنها هل هذا صحيح عنكم؟ وإن كان لا فماذا يجب علينا الآن وجزاكم الله خيرا؟(253/180)
ج: أما أنا فصحيح عني أني وكلت في العام الماضي ، وقبله + من أراد أن يتعجل أن توكل نساؤه الرجال ؛ لشدة الضيق العظيم الذي يخشى على الرجل الشديد القوي ، فكيف بالمرأة الضعيفة؟ حتى أني رددت بعض الناس ، أثناء الطريق وقلت: أرجع النساء إلى الخيمة ، واذهب ، وارم عنك وعنهن ، لا يمكن أن يرمين إلا بشدة وتعب ومشقة + العبادة إذا + مخاطرة ، العبادة إذا لم يكن فيها تأن بقدر الإمكان ، فإنها تكون ناقصة ، وإن كان الإنسان يؤجر على المشقة ، على هذه المشقة لكن لكل مقام مقال.
أما مع السعة المرأة لا بد ، وأن ترمي بنفسها إلا أن تكون عاجزة ، لكن هؤلاء النساء اللاتي وكلن بناء على ما سمعن من الفتوى ، ليس عليهن شيء حتى ، ولو فرض أن الرجال ذهبوا إلى المرمى ووجدوه خفيفا ، ليس عليهن شيء إذا كان المخبر ممن يوثق بقوله. انتهى الجواب.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا يا شيخ يقول: هذا سائل من اليمن يقول: رأيت بعض الإخوة يصومون يوم العيدين من أذان الفجر ، إلى بعد صلاة العيد ، ما حكم عملهم هذا ، وأحسن الله إليكم؟
ج: عملهم بدعة ، حرام عليهم من وجهين: الأول: أن هذا صوم ليس بشرعي ؛ لأن الصيام الشرعي من طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
الثاني: أنه ليس بمشروع ، لم يشرع النبي -عليه وعلى آله وسلم- أن يصوم الإنسان من طلوع الفجر إلى صلاة العيد لا في عيد الأضحى ، ولا في عيد الفطر ، بل إن النبي r كان من هديه في عيد الفطر أن لا يخرج إلى المصلى ، حتى يأكل تمرات يأكلهن ، وترا ثلاثا ، أو خمسا ، أو سبعا ، أو تسعا ، أو إحدى عشرة ، أما الأضحى فكان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يبادر بصلاة عيد الأضحى ؛ حتى يأكل الناس من ضحاياهم.(253/181)
والأكل من الضحايا سنة ؛ لقوله -تبارك وتعالى-: { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا }ح!$t6ّ9$# الْفَقِيرَ (28) } على هذا الأخ السائل أن ينصح إخوانه الذين يصومون كما ذكر عنهم ، وليبين لهم أن الشرع ما شرعه الله U لأن الشرع هو الطريق الموصل إلى الله ، ولا طريق موصل إلى الله إلا شريعته تبارك ، وتعالى.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا أحد الإخوة من الكويت يقول: هل يجوز للإنسان أن يأكل من نذره؟
ج: لا يجوز ، للإنسان أن يأكل من نذره إلا نذرَ مباحٍ ، كأن ينذر إن نجح في الاختبار ، أن يذبح ذبيحة يدعو إليها أصحابه ، وإخوانه ، إن هذا نذر مباح ، فله أن يأكل منه.
أما نذر التبرك+ فإنه لا يأكل منه إنه لله --عز وجل-- يخصصه للفقراء والمساكين.
نعم.
س: و يقول: أيضا حفظكم الله ، اختلف بعض طلاب العلم في مسألة: من جاء عند قبر ، وقال: يا فلان لصاحب القبر ادع الله لي ، فقال بعضهم: هو شرك أكبر ، وقال آخرون: بل هو شرك أصغر ، فما هو الجواب سددكم الله؟
ج: الظاهر لي أن هذا من باب الشرك الأصغر ؛ لأنه لم يطلب من هذا الميت أن يحصل مقصوده ، أو أن يدفع مكروهه ، وإنما سأله أن يسأل الله U ومعلوم أن الميت لا يمكن أن يسأل الله U لأن النبي r قال: " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " وإن من السفه أن يتصور الإنسان أن الميت يمكنه الدعاء لمن طلبه منه الميت ، لا يملك الدعاء ، ولا يملك أن يكشف الضر ، أما من دعا الميت بنفسه قال: يا فلان اكشف ما بي من ضر ، وأعطني كذا وكذا ، فهذا شرك أكبر لا شك فيه. نعم
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ، لو حدد السلف ما أطلقه الشرع ، فهل يعتبر محددا لعرفنا ، وما الحكم لو اضطربت الأعراف في بلد واحد فكيف الخلاص؟(253/182)
ج: لو أن السلف -رحمهم الله- عينوا ما أطلقه الشرع ، إن ذلك لا يتعين ما دام يختلف في الأعراف والأزمان والأماكن ؛ لأن المتبع النص ، نعني: إذا كان تفسير السلف تفسيرا لمبهم هذا يرجع إليه ، لا سيما تفسير الصحابة -رضي الله عنهم- وأهل الفقه منهم ، وإذا اختلفت الأعراف اتبع في كل مكان ما كان عرفا فيه ، واتبع في كل زمان ما كان عرفا فيه. نعم.
س: يقول: أحسن الله إليكم ، أشكل علي قول شيخ الإسلام بتحريم النذر ، وترخيص النبي r للرجل الذي نذر أن يذبح إبلا ببوانة ، ولم يزجره r .
ج: أولا: أن شيخ الإسلام -رحمه الله- لم أعلم أنه أفصح بالتحريم ، لكن قوة كلامه ظاهره بأنه حرام.
ثانيا: أنه لا يبدو على هذا أمر النبي r بوفاء النذر ، ما أمر عمر بن الخطاب t وأمر صاحب الإبل+ ؛ لأن الكلام إنما هو في ابتداء النذر لا في وفاء النذر ؛ لأن وفاء النذر أمر النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- به فكان طاعة لله ، قال -عليه الصلاة والسلام-: " من نذر أن يطيع الله ، فليطعه " والكلام إنما هو في ابتداء النذر ، لا في وفائه ، أما وفاؤه ، فإنه يختلف.
نعم.أحسن الله إليكم.
س: هذا يقول: حصل حادث بين سيارتين فقدمت شركة التأمين للرجل الذي وقع عليه الحادث اختيارين ، إما أن تصلح السيارة ، وإما أن تعطيه مبلغا ، فاختار المبلغ علما بأن تصليح السيارة أقل من المبلغ المعطى له من شركة التأمين ، فماذا يفعل بالمبلغ المتبقى ، هل يصرفه على نفسه ، أو في صالح العامة ، وجزاكم الله خيرا؟
ج: أولا: نحن لا نقر التأمين على السيارات والأملاك وما أشبه ذلك ، بل نرى أنه من الميسر المحرم ؛ لأنه عقد يجعل المتعاقدين بين غانم وغارم ، وهذا هو حقيقة الميسر ، لكن إذا وقع من غير شركة التأمين ، مثل أن يصطلح المعتدي والمعتدى عليه على عوض لإصلاح السيارة مثلا ، فتصلح السيارة بأقل ، فهل يلزم صاحب السيارة أن يرد ما زاد على المعتدي؟.(253/183)
هذا فيه تفصيل: المعتدي قال: خذ هذا أصلح به السيارة ، فإنه يلزمه إذا زاد على ما أعطاه على ما أصلح به السيارة أن يرد الزائد ، الزيادة ، وإن كان المسألة مصالحة أن هذا + الذي حصل بعدوانه ، فإنه لا يلزم الذي أخذه أن يرده ، ونظير ذلك قول الفقهاء -رحمهم الله- لو أعطى شخصا مالا ؛ ليحج به فزاد ، فإن كان قد قال له: خذ هذا المال حج به فالزيادة للحاج ، وإن قال: خذ هذا المال حج منه الزيادة ترجع إلى المحجوج عنه.
آخر سؤالين.
س: هذا يقول: أحسن الله إليكم ، رجل في رحلة برية مع زملائه ، وعندما قام لصلاة الفجر وجد نفسه محتلما والجو بارد جدا ، ولا يستطيع استعمال الماء ، فتوضأ وصلى على تلك الحالة ، ثم أعاد الصلاة قبيل الظهر ، بعد تمكنه من الاغتسال ، فهل تصح صلاته؟ أفيدونا جزاكم الله خيرا.
ج: الرجل الآن أعاد الصلاة ، قد برئت ذمته على كل حال ، لكنه حسب السؤال لم يتيمم لصلاة الفجر ، وإنما توضأ وضوءا ، والوضوء يخفف الجنابة لا شك ، لكن لا يرفع الجنابة وعليه ستكون إعادته الصلاة بعد اغتساله إعادة شرعية ، أما لو تيمم لصلاة الصبح بناء على أنه يخاف على نفسه البرد وصلى ، فإنه لا تلزمه الإعادة.
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وإلى يوم الأربعاء إن شاء الله.
البينة على المدعي
O الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد قال المصنف -رحمه الله تعالى وحفظه ووفقه-:
بينة ألزم لكل مدع
كل أمين يدعي الرد قبل
وأطلق القبول في دعوى التلف
أد الأمانة للذي قد أمنك
ومنكرا ألزم يمينا تطع
ما لم يكن فيما له حظ حصل
وكل من يقبل قوله حلف
ولا تخن من خان فهو قد هلك
O الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم ، وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:(253/184)
فسبق لنا في الدرس الماضي: أنه إذا ادعى أحد المتعاقدين فساد العقد والثاني ادعى الصحة ، فإنه يقدم قول مدعي الصحة ؛ لأن هذا هو الأصل في العقود ، وذكرنا اختلاف العلماء -رحمهم الله- فيما إذا ادعى أحدهما أن العقد كان قبل البلوغ ، والثاني قال: إنه كان بعد البلوغ ، وذكرنا أن في هذه المسألة قولين للعلماء ، وأن القاضي ينبغي له أن ينظر في القرائن ، ثم ذكرنا أن كل إنسان يدعي ما ينكره الحس ، فإن دعواه مرفوضة غير مقبولة.
وليس المعنى أن القاضي يستمع له ، بل إنه يرفض السماع لدعواه مطلقا يرفض السماع لدعواه مطلقا ، وضربنا لهذا مثلا أن يدعي رجل بأن شخصا له سبع سنين ولد له ، والمدعي ليس له إلا اثنتا عشرة سنة مثلا ، فإن هذا لا يقبل ؛ لأنه لا يمكن أن يولد لمن له ست سنين ، أما إذا كانت الدعوى مما لا ينكره الحس ، وأنها محتمل أن تكون ، فإنه يجب على القاضي أن يسمعه ، وحينئذ يطلب أي: القاضي ، البينة على دعواه ؛ ولهذا قال:
بينة ألزم لكل مدع
-------------
يعني كل إنسان يدعي شيئا ، فإنه مطالب بالبينة ، والبينة تختلف ، فبينة القذف بالزنا يعني: لو قذف شخصا بالزنا ، فإن البينة التي يطالب بإقامتها أربعة رجال ، قال الله -تعالى-: { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } وإذا ادعى شخص معروف بالغنى أنه افتقر ، وصار يطلب من الزكاة ، فإننا نطالبه أن يحضر ثلاثة شهود ، لا بد من ذلك.(253/185)
وإذا ادعى شخص سرقة من آخر ، فإنه يطالب ببينة رجلين لإثبات القطع ، ورجلين لإثبات المال ، أو رجل وامرأتان ، أو رجل ويمين ، وفي هذه الحال + البينة ، فالبينة للقطع لا بد أن تكون رجلين ، والبينة لإثبات المال المدعى ، السرقة إما رجلان ، وإما رجل وامرأتان ، وإما رجل ، ويمين المدعي ودعوى المال ، وما يتعلق به إما رجلان ، وإما رجل وامرأتان ، وإما رجل ، ويمين المدعي ، قال الله -تبارك وتعالى-: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ }
اليمين إن عدمت البينة:
وثبت عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه قضى بالشاهد واليمين ، والمهم أنه لا بد من إقامة البينة لكل مدعٍ ، فإن لم يقمها ، فإنه يلزم المدعى عليه ، وهو المنكر باليمين ؛ ولهذا قال الناظم:
-------------
ومنكرا ألزم يمينا تطع
دليل هذا قول النبي r " لو يعطى الناس بدعواهم ، لادعى رجال دماء قوم وأموالهم ، ولكن البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر "
دعاوى الأمناء:
ثم قال الناظم:
كل أمين يدعي الرد قبل
وأطلق القبول في دعوى التلف
ما لم يكن فيما له حظ حصل
وكل من يقبل قوله حلف(253/186)
هذه مسألة دعاوى الأمناء ، دعاوى الأمناء ، يجب أن نعلم أن الأمين هو كل من حصل المال بيده بإذن من المالك ، أو إذن من الشارع ، فالوكيل أمين ؛ لأنه حصل المال بيده بإذن الموكل ، وولي اليتيم أمين ؛ لأنه حصل المال بيده بإذن الشارع ، فالضابط في الأمين أنه كل من حصلت العين بيده بإذن من المالك ، أو بإذن من الشارع ، هؤلاء الأمناء إذا ادعوا الرد إلى من ائتمنهم ، فإنه إما أن يكون الحظ للمالك ، أو الحظ لمن هي بيده أي للأمين ، أو الحظ مشترك ، فإن كان الحظ للمالك قبل قول الأمين في الرد ، مثال ذلك: المودَع إذا ادعى رد الوديعة إلى المودِع بكسر الدال ، فإن القول قوله ؛ لأنه متبرع محسن ، وقد قال الله -تبارك وتعالى-: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
ومثل ذلك من أنقذ مالا من هلكة ، ثم ادعى صاحب المال أن هذا المنقذ لم يرده ، إما أنه لم يرده مطلقا ، أو لم يرد بعضه بأن ادعى صاحب المال أن المال أكثر مما رده منقذه ، فهنا القول قول منقذ المال ؛ لأنه محسن فيدخل في عموم قوله -تعالى-: { مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ }
القسم الثاني: أن يكون الحظ للأمين خالصا كالمستعير مثلا ، فالمستعير قد قبض العين لحظ نفسه فقط ؛ لأن المالك إنما أعطاه هذه العين ؛ لينتفع بها ، ويردها فهذا لا يقبل قوله في الرد ، وجهه: أن الأصل عدم الرد ، وليس هناك مانعا يمنع تضمينه ، فإذا كان الأصل عدم الرد ، فإنه إذا لم يرد المال ، فهو ضامن له.(253/187)
القسم الثالث: أن يكون المال حصل بيد الأمين لمصلحتهما ، أي: مصلحة صاحب المال ومصلحة الأمين ، وذلك كالعين المستأجرة ، فالعين المستأجرة بيد المستأجر لحظ نفسه ، ولحظ مالكها ، لحظ نفسه ؛ ليستوفي المنفعة التي عقدت الإجارة عليها ، ولحظ مالكها ؛ لأن المالك سوف يأخذ بدلا عن هذا النفع الذي تقاضاه المستأجر عوضا ، فكل منهما له مصلحة هذا أيضا لا يقبل فيه دعوى الرد ، يعني: لو أن المالك أتى إلى المستأجر ، وقال: أعطني العين التي أجرتك إياها ، فقال: قد رددتها عليك ، فإننا لا نقبل دعواه بالرد ؛ لأن الأصل في قابض مال غيره الضمان ، ولا يوجد ما يمنعه.
إذن الرد إذا ادعاه الأمين ، فإنه مقبول إلا إذا كان للأمين مصلحة ، فإنه لا يقبل قوله في الرد ، سواء كانت المصلحة متمحضة له ، أو له ولرب المال.
وعموم قول الناظم : "كل أمين" أن من ليس أمينا ، فإنه لا يقبل قوله في الرد كالغاصب مثلا ، فالغاصب إذا ادعى الرد إلى المالك ، فإنه لا يقبل ؛ لأن يده ليست يد أمانة ، وإذا لم تكن يد أمانة ، فإن قوله لا يقبل.
ثم قال الناظم -رحمه الله وعفا عنه ووفقه-:
وأطلق القبول في دعوى التلف
-------------
يعني: معناه أن الأمين إذا ادعى التلف ، فإنه مقبول سواء كان له حظ في قبضه العين ، أم ليس له حظ ؛ لأن التلف ليس بفعله ، ولا باختياره ، والمالك قد ائتمنه على العين ، فإذا ادعى أنها تلفت قبل قوله.
مثال ذلك: رجل أعار شخصا قلما ، ثم طلب رده أعني: صاحب القلم ، ثم ادعى المستعير أنه تلف.(253/188)
أما الرد فقد سبق في البيت السابق ، ادعى المستعير أنه تلف ، فالقول قوله ؛ لأن التلف ليس من فعله ، والمالك قد جعله نائبا عنه في الاستيلاء على هذه العين ، فيكون القول قوله في التلف ، وكذلك من قبض العين لمصلحة مالكها كالمودع ، فإذا ادعى المودع أن العين قد تلفت ، فالقول قوله ؛ لأن العين حصلت بيده بإذن مالكها ، فهو قائم مقامه ، وكذلك المستأجر إذا ادعى تلف العين المؤجرة ، فإن القول قوله.
والحاصل أن الأمناء في دعوى الرد يختلفون ، فيقبل قول الأمين في الرد إذا كان قد قبض العين لمصلحة مالكها ، ولا يقبل قوله إذا كان له مصلحة في قبض العين ، إما خالصة ، أو مشتركة مع المالك ، وأما في التلف ، فإن قول جميع الأمناء مقبول ، سواء كانت العين بأيديهم لحظ مالكها ، أو لحظهم هم ، أو مشتركة.
ثم قال الناظم:
-------------
وكل من يقبل قوله حلف
يعني: كل من قلنا القول قوله ، فإنه لا بد أن يحلف ، ولا يكفي أن يقول: رددتها ، أو يقول: تلفت عندي ، أو ما أشبه ذلك ، بل لا بد من اليمين ، واليمين لا تضر إذا كان أمره الذي ادعاه واقعا ، فإن قال قائل: إذا كان الأمين قد قبض العين لمصلحة مالكها ، ثم ادعى الرد ، فهو محسن فكيف نلزمه باليمين؟
قلنا: لأن اليمين لا تضر إن كان صادقا ، فاليمين لا تضره ، وهو بار ، وإن لم يكن صادقا ، فإنه إن كان عنده تقوى لله ، فإنه لن يحلف ، إن كان كاذبا هذا ضرر على الأمين في إلزامه اليمين ، سواء في دعوى الرد إذا قبل قوله فيه ، أو في دعوى التلف ، فإن قال قائل: إذا لم يحلف الأمين على الرد في دعوى الرد ، أو على التلف في دعوى التلف ، فما الحكم؟
فالجواب: الحكم أن يضمن ؛ لأنه لو كان صادقا لم يضره أن يحلف ، فإن قال قائل: لعله هاب اليمين ، قلنا: إذا هاب اليمين ، فالجواب: أنه إذا هاب اليمين فهذا دليل على ورعه ، ومن تمام ورعه أن يضمن الحق لصاحبه.
أداء الأمانة وعدم مجاراة الخائنين:(253/189)
ثم قال الناظم -رحمه الله-:
أد الأمانة للذي قد أمنك
وجائز أخذك ما لا يستحق
ولا تخن من خان فهو قد هلك
شرعا ولو سرا كضيف فهو حق
هذا البيت:
أد الأمانة للذي قد أمنك
--------------
مأخوذ من قول النبي r " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " يعني: إذا أمنك الإنسان على شيء ، فأد الأمانة في ذلك الشيء ، ولا تخن من خانك ؛ لأن الخائن هالك ، وأنت إذا خانك أحد ، فأنت الرابح ؛ لأنك ستلقى عوض خيانتك ، إما في الدنيا إن هدى الله الخائن ، ورجع إلى الصواب ، وإما في الآخرة.
ولنضرب لهذا مثلا: رجل أعطاه شخص وديعة تبلغ عشرة آلاف ريال ، وكان قد أقرض الذي أودعه عشرة آلاف ريال ، فلما جاء يطلب قرضه أنكره ، وقال: لم تقرضني ، فمدعي القرض الآن عنده مال يمكنه أن يجحده ليستوفى به ، فهل له أن يفعل ذلك؟ نقول: لا ، لا يفعل هذا ، بل يؤدي الأمانة إلى من ائتمنه ، ويعطيه الوديعة ، وقرضه الذي لم يثبت على المدعى عليه سيوفى إياه ، إما في الدنيا إن هدى الله المدعى عليه ، وإما في الآخرة.
وكذلك لو أن أحدا سرق من شخص مالا ، وقدر صاحب المال على أن يأخذ شيئا من ماله ، أي: من مال السارق ، فليس له ذلك ؛ لأن الواجب أداء الأمانة إلى من ائتمنك وألا تخون من خانك ، ثم ذكر الناظم بيتا كالاستثناء مما سبق فقال:
وجائز أخذك ما لا يستحق
شرعا -------
يعني: لا بالمعاملة ، ولو سرا كضيف ، فهو حق يعني: إذا كان الحق ثابت لك شرعا لا بالمعاملة ، فإنه يجوز لك أن تأخذ حقك ممن هو عليه ، ولو سرا كضيف ، فهو حقك.(253/190)
مثال ذلك: أناس نزلوا عل صاحب غنم ضيوفا عليه ، ولكن صاحب الغنم لم يقم بواجب الضيافة ، فلهم أن يأخذوا من غنمه بقدر ضيافتهم بالمعروف ؛ لأن وجوب الضيافة على صاحب الغنم ثابت بالشرع ، وأخذهم من ماله قدر ضيافتهم من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لكن إذا كان يخاف من أخذهم من ماله بقدر ضيافتهم أن تقع فتنة بينهم وبينه بقتال حاضرا ، أو مستقبلا ، فإن درء المفاسد أولى.
لكن لو قال قائل: هل يجوز أن يشتروا من غنمه مقدار ضيافتهم ، ثم يقولون: لم نشتر منك شيئا ، فالجواب: لا يجوز هذا ؛ لأن عقد البيع معه عقد شرعي ، وثبوت الحق في ذممهم ثبت بفعلهم ، فلا يحل لهم إنكاره من أجل أخذ ضيافتهم ، ومثل ذلك لو كان الزوج بخيلا لا ينفق على زوجته ما يجب لها ، وقدرت على أن تأخذ شيئا من ماله بمقدار ما يجب لها من نفقة ، فلها ذلك.
ودليله: أن هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان أتت إلى رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فقالت: يا رسول الله ، إن أبا سفيان رجل شحيح ، تعني: بخيلا ، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ، ويكفي بني ، فهل لي أن آخذ من ماله بغير علمه ، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " خذي من ماله ما يكفيك ، ويكفي بنيك بالمعروف " .
قال أهل العلم -رحمهم الله-: ووجه إباحة ذلك أن سبب وجوب الحق ظاهر معلوم ، وهو الزوجية ، والنزول ضيوفا ، فلا يمكن أن يحصل بذلك اشتباه ، وهذا من محاسن الشريعة وفقهها ، ومثل ذلك أيضا من تجب نفقته على شخص بخيل لا يعطيه ما ينفقه عليه ، فإن له إذا قدر على شيء من ماله أن يأخذ منه بالمعروف قياسا على حق الزوجة.
يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا:
ثم قال الناظم -رحمه الله- :
قد يثبت الشيء لغيره تبع
كحامل إن بيع حملها امتنع
وإن يكن لو استقل لامتنع
ولو تباع حاملا لم يمتنع
هذه من القواعد التي ذكرها ابن رجب -رحمه الله- في كتابه "القواعد الفقهية" وهو أنه يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا.(253/191)
يقول الناظم:
قد يثبت الشيء لغيره تبع
..................
تبع أصلها تبعا ، ولكن وقف عليها بحذف الألف ، إما اتباعا للغة ربيعة ، فإنهم يقفون على المنصوب بالألف ، أو من أجل مراعاة الروي ، يعني: القافية ، والمعنى أن الشيء قد يثبت تبعا لغيره ، مع أنه لو استقل لكان محرما.
وله أمثلة ضرب منها الناظم مثلا: الحامل ، فبيع الحمل منفردا حرام ، لا يثبت ، ولو بيعت بهيمة حامل لصح البيع ؛ ولهذا قال:
كحامل إن بيع حملها امتنع
-------------
ولو تباع حاملا ، يعني: لو تباع حال كونها حاملا ، لم يمتنع أما بيع الحمل ، فإنه ممتنع ؛ لأنه غرر ، فإنه لا يدرى ما في بطون الأنعام ، أذكر أم أنثى ، واحد أو متعدد ، كبير الحجم أم صغير ، ولو قدر أن هذا علم بالوسائل الطبية الحديثة ، فإنه لا يعلم هل يخرج حيا أم يموت ، فيكون فيه غرم ؛ ولهذا لا بد أن تنزل قيمته ، لو بيع حال الحمل ، فلا يمكن أن يباع بمثل قيمته لو وضع ، وحينئذ إن خرج سليما ، فالغانم المشتري ، وإن هلك قبل أن يخرج فالغانم البائع ، فيكون هذا العقد من الميسر ، ومثل ذلك ثمر النخل ، فبيع ثمار النخل وحده لا يجوز ، حتى يبدو صلاحه كأن يحمر ، أو يصفر ، وبيع النخل وعليه الثمر جائز.
أما الأول ؛ فلأن النبي r " نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها " وهو بأن تحمر ، أو تصفر ، وأما في الثاني ؛ فلأن النبي r قال: " من باع نخلا بعد أن تؤبر ، فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع " فإذا باع نخلة قد أبرت عليها الثمرة ، ولم يبد صلاحها ، واشترط على المشتري ، فالبيع جائز ، فثبت هنا تبعا ما لا يثبت استقلالا ، ولكن هل يجوز بيع الثمرة لمالك الأصل قبل بدو صلاحها؟(253/192)
في هذا خلاف بين العلماء ، ومثال ذلك أن يبيع الفلاح نصيبه من الثمرة على صاحب الملك ، مثل أن يكون الفلاح قد عامل صاحب النخل بنصف الثمرة ، ثم بدا للفلاح ألا يستمر في العمل ، وباع نصيبه من الثمرة على صاحب الأصل ، فمن العلماء من قال: إن هذا جائز ؛ لأنه باع الثمر على صاحب الأصل ، ومنهم من قال: إنه ليس بجائز ، وهذا هو الحق ؛ لأن نصيب العامل مستقل ، ولم يملكه صاحب الأصل من جهته بخلاف ما إذا اشترطه المشتري الذي اشترى الأصل ، وهو عليه الثمر .
يفسد العقد بالشرط الفاسد ذكرا أو قصدا:
ثم قال الناظم:
وكل شرط مفسد للعقد
بذكره يفسده بالقصد
يعني: أن الشروط التي إذا ذكرت في العقد أفسدت العقد ، فإنها تفسد العقد ، إذا نويت فالمنوي كالشروط ، ودليل ذلك قول النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " ونضرب لهذا مثلا نكاح المحلل ، والمحلل هو الذي يتزوج امرأة فارقها زوجها بطلاق ثلاث من أجل أن يحلها لزوجها ، وهو من العقود المحرمة ، حتى إن النبي -صلى الله عليه وعلى وآله وسلم- لعن المحلل والمحلل له.
فإذا تزوج المرأة التي أبانها زوجها بالثلاث على أن يطلقها ، متى حللها للأول ، فلا شك أن العقد باطل ، وأنها لا تحل به للزوج الأول ؛ لأنه عقد باطل ، والباطل لا يترتب عليه أثر الصحيح ، لكن لو نواه بلا شرط ، أي: نوى أن يتزوج هذه المرأة ؛ ليحللها لزوجها الأول بدون أن يشترط ذلك عليه ، فإن العقد فاسد لهذه القاعدة: أن المنوي كالمشروط ، ودليله ما أسلفنا من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى " .(253/193)
وهل يدخل في ذلك أن يتزوج الرجل امرأة ، ونيته أن يكون النكاح مؤقتا بزمن ، أو عمل مثل أن يتزوج غريب بنية: أنه إذا فارق البلد طلقها ، فهذا من المعلوم أنه لو شرط ذلك باللفظ ، فقال: زوجوني إياها ما دمت مقيما في هذا البلد.
من المعلوم أن هذا نكاح متعة لا يصح ؛ لأن النبي r نهى عنه ، ولكن لو نوى ، فهل نقول: إن المنوي كالمشروط ، فلا يصح النكاح؟ أو نقول: إن النكاح صحيح ؛ لأنه لم يلتزم بالشرط أمام صاحب العقد ، وهو إما أن يرغب فيستمر ، وإما ألا يرغب ، فلا يستمر بخلاف نكاح المتعة ، فإن نكاح المتعة إذا انتهت المدة انفسخ النكاح ، رضي أم لم يرض.
أما المشهور من مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- عند أصحابه كصاحب +والمنتهى والإقناع ، ونحوها فيقولون: إن النكاح لا يصح بناء على هذه القاعدة: أن كل شرط مفسد للعقد بذكره يفسده بالقصد ، قالوا: فإذا كان توقيت النكاح بالشرط مفسدا للعقد ، فكذلك بالنية ، وقال آخرون: إن العقد لا يفسد ؛ لأن الذي تزوج بهذه النية لم يلزم نفسه بالفراق عند انتهاء السبب ، فهو إن شاء بقي ، وإن شاء طلق.(253/194)
ولكن هنا مسألة صار بعض الناس يتوصل إليها بناء على هذا القول ، أعني: القول بجواز النكاح بنية الطلاق ، وهي لا تدخل تحت الخلاف قطعا ، هذه المسألة هي أن بعض الناس صار يسافر إلى بلاد أخرى من أجل أن يتزوج ، وهو خلاف المسألة التي فرضها أهل العلم ؛ لأن المسألة التي فرضها أهل العلم في الغريب يتزوج بنية الطلاق إذا فارق البلد ، والغريب لم يسافر لأجل أن يتزوج ، إنما سافر لحاجة طلب علم ، أو مال ، أو غير ذلك ، واحتاج إلى النكاح ، فتزوج أما هذا فقد قصد من الأصل أن يذهب إلى البلد ؛ ليتزوج بعقد مؤجل ، فهو في الحقيقة كأنما ذهب من أجل هذه النية المختلف فيها ، فلا يدخل تحت الخلاف ، أسأل الله تعالى لإخواني المسلمين العفة والعفاف ، وأن يوفقنا جميعا لما يحبه ، ويرضاه ، وأن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، إنه ولي ذلك ، إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وإلى دور الأسئلة فيما بقي من الوقت.
س: فضيلة الشيخ.. نعم. هذه سائلة تقول: أرجو أن ترد يا فضيلة الشيخ على رسالتي المهمة ؛ لأنها تتوقف على سعادة أسرتي ، ضحيتها زوج وأمهم وثمانية أطفال ، زوجي كان قد طلقني طلقة واحدة بالكلام دون ورق ، ومن مدة خمسة أيام حصل شجار بيني وبينه ، فقال لي في عصبية جنونية: أنت طالق طالق طالق ، هل وقع الطلاق نهائيا أم تعتبر طلقة واحدة؟ وجزاك الله خيرا ، نرجو الرد سريعا ؛ لأني بعيدة عن بيتي وأطفالي منذ خمسة أيام+.
ج: إذا كان غضبه شديدا ، فإن الطلاق لا يقع ؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " لا طلاق في إغلاق " والغضب الشديد هو الذي لا يملك الإنسان نفسه عنده بحيث يطلق ، وكأن أحدا أكرهه على ذلك ، أما إذا كان الغضب عاديا ، وطلقها ، فإن الطلاق يقع ، إذا كانت في طهر لم يجامعها فيه ، ولكن كم طلقة تقع نقول: إذا كان لم ينو الثلاث ، فإنه لا يقع إلا واحدة قولا واحدا.(253/195)
وأما إذا كان نوى الثلاث بقوله: أنت طالق طالق طالق ، فمن العلماء من يقول: إن الثلاث تقع ، ولا تحل له إلا بعد زوج في نكاح صحيح فيجامعها ، ثم يفارقها ، ومن العلماء من قال: إن الثلاثة واحدة ، والخلاف في هذا معروف.
نعم.
- فضيلة شيخ تقول: إنه طلقها ، وهي حائض ، طلقها عندما كانت حائضا.
-إذا كان كذلك ، فإنه لا طلاق ، الطلاق لاغ ؛ لأنه على غير أمر الله ورسوله ، وقد قال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد " .
س: يعني: ما يقع الطلاق أحسن الله إليك فضيلة الشيخ؟
ج: إي ، ما يقع الطلاق.
س: هذا يقول: امرأة لها طفل معوق ، وكان مولودا على هذا الوضع وكانت ترعاه ، هي وأبناؤها الكبار ، وفي يوم وجدت أن الطفل قد مات ، وهي لا تعرف في هذا اليوم ، قد وضعت له الحليب لهذا الطفل ، أو لا ، ولا تعرف هل إخوته أرضعوه أم لم يرضعوه ، وقد رأته ميتا ، فماذا عليها ، وجزاكم الله خيرا ، علما بأنها قد وجدت الحليب الذي وضعته في الثلاجة؟
ج: ج: هذه المرأة ليس عليها شيء ، ومثل هذه الحال يقع كثيرا ، فيشتبه على بعض الناس ، تجد المرأة طفلها ميتا على الفراش ، ولا تدري هل انقلبت عليه أم لا ، ونحن نقول للإخوة قاعدة مفيدة: إذا حصل الشك هل كان القتل بسبب من الأم ، أو غيرها من الناس ، أو كان ذلك بفعل الله U فإن الأصل براءة الذمة ، ولا شيء على الأم ، ولا على غيرها مع الشك ؛ لأننا لا يمكن أن نوجب على أحد شيئا لا كفارة ، ولا دية إلا إذا علمنا يقينا أنه حصل القتل بسبب تعد ، أو تفريط ، وعلى هذا فنقول لهذه المرأة التي عندها هذا المعوق: لا شيء عليك ، لا إثم ، ولا كفارة ، ولا دية. نعم.
س: وهذا يقول في قول الناظم -رحمه الله تعالى-:
أد الأمانة للذي قد أمنك
ولا تخن من خان فهو قد هلك(253/196)
فهل هذا على سبيل الوجوب أم من باب الورع؟ وعليه من استأمنني على مال ، وأنا أطلبه بدين عليه ، فهل لو تحايلت وأخذت حقي منه بهذه الحيلة ، فهل هذا من الحرام ، وما رأيكم في الحيلة لمن له حق عند غني مماطل؟
ج: نعم. الحديث عام فيجب أداء الأمانة ، ولا تجوز الخيانة ، وكما قلنا في الشر ج: إن أدركت حقك في الدنيا فهذا ، وإن لم تدركه ففي الآخرة ، وعلى هذا فنقول: إن التحيل على أخذ المال على غير وجه شرعي محرم ، ولكني أرشد إخواني إلى ألا يفرطوا في الأموال ، وأن يحفظوا عليهم أموالهم ، وألا يؤدوا إلى أحد شيئا إلا بشروط.
وقد أرشد الله إلى هذا بقوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وكون بعض الناس يستحيي ، أن يشهد يقال له: أنت الذي فرطت ، وأنت الذي أهملت ، والإشهاد ليس فيه حياء ؛ لأنه حق. نعم. وكذلك المماطل إذا قدرت على شيء من ماله ، لا يجوز لك أن تخونه ، بل " أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك " .
نعم.
س: س: أقول: هذه رسالة يا شيخ ملخصها أنه شاب بار بأمه ، ويقول: تطلب مني الوالدة أحيانا أن أذهب بها إلى بعض الأماكن ، التي يوجد فيها بعض المنكرات كالأسواق ، أو حضور بعض المناسبات التي يكثر فيها القيل والقال ، وإضاعة الأوقات ، ويقول: أعتذر أحيانا عن الذهاب بها لحضور بعض الدروس ، وطلب العلم ، فهل علي شيء في ذلك؟(253/197)
ج: ليس عليه شيء ، بل هو إذا امتنع من الذهاب معها ، فهو بار بها ؛ لأن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- جعل منع الظالم من ظلمه نصرا له ، فقال: " انصر أخاك ظالما ، أو مظلوما ، قال يا رسول الله: كيف أنصره ، وهو ظالم قال: أن تمنعه من الظلم " فكونه يأبى على أمه أن يذهب بها إلى أشياء توجد فيها المنكرات ، هو من برها في الحقيقة ، وهو مثاب على ذلك ، أما إذا كانت تريد أن يذهب بها إلى شيء مباح ، فعليه أن يطيعها إلا إذا كان ذلك يصده عن مصلحة دينه ودنياه.
نعم.
س: أحسن الله إليك ، هذا يقول: نحن مجموعة من المدرسين ، والمدرسة تبعد عنا مسافة القصر ، فأحيانا تدركنا صلاة الظهر ، ونحن في المدرسة فنصلي الظهر ركعتين ، وأحيانا نجمع العصر معها تخفيفا علينا ، مع العلم أننا نستطيع إدراكها في بلدنا عند العودة ، فهل لنا أن نقصر الصلاة مع العلم ، أننا طوال السنة ندرس فيها ، وجزاكم الله خيرا.
ج: الذي أراه ألا يقصروا الصلاة ؛ لأن هذا ليس بسفر ، ما داموا يذهبون في أول النهار ، ويرجعون في آخره ، فإن ذلك لا يعد عند الناس سفرا ، لكن هل يجمعون بين الظهر والعصر؟ فالجواب إن كان يشق عليهم انتظار صلاة العصر إذا وصلوا بحيث يكونون ، قد تعبوا تعبا عظيما يشق عليهم انتظار الصلاة ، وربما لو انتظروا لأخذهم النوم ، ولم يستيقظوا إلا بعد الغروب ، فلهم أن يجمعوا صلاة العصر إلى الظهر ، لكن أربعا أربعا. نعم.
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ، قلتم -حفظكم الله-: إذا لم يضيفك المضيف تأخذ قدر ضيافتك ، فهل لي أن آخذ مثلا رأسا من الغنم ، أو مقدار دجاجة ، أو دجاجتين ، أو غير ذلك ، وضحوا لنا وجزاكم الله خيرا؟
ج: نعم. تأخذ بقدر ضيافتك ، ومعلوم أن الإنسان إذا كانوا جماعة كثيرين يحتاجون إلى شيء كثير ، وإذا كانوا قليلا ، أو واحدا ، فإنهم لا يحتاجون إلى شيء كثير.
نعم.(253/198)
س: وهذا يقول: فضيلة الشيخ ، ألا يكون أخذ الضيف حقه من مال المضيف ذريعة ، بينوا لنا ذلك ، والله يرعاكم؟
ج: ذكرنا في أثناء الشرح أنه إذا كان يخشى من ذلك فتنة في الحاضر ، أو المستقبل ، فإنه لا ينبغي للضيف أن يأخذ شيئا ؛ لأن ذلك يؤدي إلى المفاسد ، ودرء المفاسد أولى ، وأما أن يكون الإنسان يبحث ؛ لينزل ضيفا من أجل أن يأخذ الضيافة ، فهذا لا يجوز ؛ لأن هذا إنما سافر ليأكل أموال الناس ، لكن إنسان سافر إلى غرض مقصود ، ونزل ضيفا على آخر ، فهذا هو ما نريد الكلام فيه.
نعم.
س: أحسن الله إليكم ، هذا يقول: فضيلة الشيخ ، نسب إليكم أنكم تقولون بسنية الجهر في صلاة الجنازة في شرحكم لكتاب "بلوغ المرام" فما صحة ذلك ، وجزاكم الله خيرا؟
ج: نعم. نقول بهذا إذا كان من أجل التعليم ، كما فعل ابن عباس: رضي الله عنهما- حين جهر بقراءة الفاتحة ، وقال: ليعلموا أنها سنة ، وكما كان عمر بن الخطاب t يجهر بدعاء الاستفتاح حتى يعلم الناس أنه سنة ؛ لأنه من المعلوم أن أصحاب الجنازة لا يبقون حتى يقال: ينتظر حتى يسلم ، ثم يرشدهم ، والناس لا يبقون في العادة ، بل يذهبون مشيعين للجنازة ، أو منصرفين إلى دورهم.
نعم.
س: يقول: فضيلة الشيخ ، أحسن الله إليكم ، ورفع درجاتكم ، إذا ادعى المالك أن أصل العيب حصل عند المستأجر ، فهل يقبل قوله؟(253/199)
ج: حتى لو حصل عند المستأجر ، فهو لم يتعد ، ولم يفرط ، فلا ضمان عليه ، لكن لعل السائل يريد إذا اختلف البائع والمشتري عند من حدث العيب ، وهذا فيه تفصيل ، فإذا اختلف البائع والمشتري عند من حدث العيب ، فقال البائع: إنه عند المشتري ، وقال المشتري: إنه عند البائع ، فإن كان لا يحتمل قول الثاني ، أخذ بقول الأول ، مثلا إذا كان العيب إصبعا زائدة ، وقال المشتري: إنه معيب عند البائع ، وقال البائع: بل عندك ، فهنا القول قول المشتري ؛ لأنه لا يمكن أن تنبت الإصبع ، وإذا كان جرحا طريا نعلم أنه حدث عن قرب ، فادعى المشتري أنه حدث عند البائع ، وادعى البائع أنه عند المشتري ، فالقول قول البائع هنا ، وإذا كان يحتمل هذا ، وهذا ، فمن العلماء من قال: إن القول قول البائع ، ومنهم من قال: إن القول قول المشتري.
نعم.
س: يقول: فضيلة الشيخ ، أحسن الله إليك ، رجل ذهب بأولاده إلى العمرة ، وهم صغار ، منهم عمره سنة وسنتان وأربع سنوات وست ، فأحرم بهم من الميقات ، ولكن أثناء تأدية مناسك العمرة أتعبوه ، ولم يكمل بهم سوى الطواف ، وبعضهم لم يطف ؛ لأنهم صاروا يصيحون ، ولا يستطيعون المشي ، فلم يكمل بهم العمرة ، وبعد ذلك ذهب إلى بلاده ، فماذا عليه مع أن بلاده بعيدة ، حوالي ستة آلاف كيلو متر ذهابا وعودة ، أفتونا مأجورين؟
ج: القول الصحيح أنه لا شيء عليه ، وأن الصغار الذين لم يبلغوا إذا أحرموا بعمرة ، أو حج ، فإن أتموها ، فهذا المطلوب ، وإن لم يتموها فلا شيء عليهم ؛ لأنهم غير مكلفين ، قد رفع عنهم القلم كما في الحديث: " رفع القلم عن ثلاث: عن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصغير حتى يبلغ ، وعن المجنون حتى يفيق " .
انتهى الوقت.
الله يحسن إليك ، نختم بهذا السؤال يا شيخ.
طيب.
س: يقول: فضيلة الشيخ أحسن الله إليك ، ورفع درجتك ، إذا أتى المُودِع ببينة ، ثم أنكر المودَع باليمين فما الحكم.؟(253/200)
ج: إذا أتى المودِع ببينة ، أنه أودعه ، معلوم أن القول قوله.
س: يقول: ثم أنكر المودع باليمين.
ج: أنكر أيش؟
المودَع الذي استودع أنكر باليمين.
أنكر أيش ؟
س: أنكر الوديعة.
ج: لا يمكن ، لو أنكرها حكم عليه ، ما دام ثبتت عنده بشهود ، فإنه لا يقبل إنكاره.
س: أحسن الله إليك نواصل الأسئلة يا شيخ؟
ج: لا.
والحمد لله رب العالمين ، وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الأعمال بظواهراها
O
الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -رحمه الله تعالى وغفر له ورفع درجته إنه ولي ذلك والقادر عليه-:
لكن من يجهل قصد صاحبه
لأنه لا يعلم الذي أسر
والشرط والصلح إذا ما حللا
وكل مشغول فليس يشغل
كمُبَدَل في حكمه اجعل بدلا
فالعقد غير فاسد من جانبه
فأجرى العقد على ما قد ظهر
محرما أو عكسه لن يقبلا
بمسقط لما به ينشغل
ورب مفضول يكون أفضلا
O
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فهذا هو المجلس الرابع من المجالس ، التي نلقيها عبر التلفون في الدورة التي أقيمت في مسجد ابن تيمية -رحمه الله- في الرياض ، في إجازة عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف.
ولا بد أن نأخذ أسئلة على ما سبق.
-يا شيخ.
- نعم.
- الإخوان في مكان آخر يسمعونك ، لكنهم بعيد عنك ، يعني: ما يستطيعون أن يجيبوا ، فلعلك تعذرنا اليوم ، الله يحفظك.
- طيب.
- الله يعظم أجرك.
- أعذرك اليوم على أن تكون -إن شاء الله- في الجلسة الثانية؟
-إن شاء الله.
يقول الناظم:
وكل شرط مفسد للعقد
بذكره يفسده بالقصد(253/201)
يعني: أن الشروط الفاسدة التي تفسد العقد إذا ذكرت ، فإنها تفسده إذا قصدت ، وإن لم تذكر باللفظ ، وسبق التمثيل لهذا في نكاح من قصد تحليل الزوجة لمطلقها ثلاثا ، ومثلنا أيضا بمثال آخر بمن نوى الطلاق للرحيل ، أي: عند رحيله ، واللام تأتي بمعنى عند ، كما في قوله -تعالى-: { أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } أي: عند دلوك الشمس على أحد الاحتمالات ، فهذان المثالان ، يجري فيهما القصد مجرى النص ، ودليلهما ما سبق من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى "
ولكن هذا مع اتفاق المتعاقدين على النية ظاهر ، لكن إذا كان أمرهما لا يدرى كأن كانت الزوجة التي تزوجها رجل للتحليل لزوجها ، لا تدري عن نيته ، فهل يلحقها حكم زوجها؟ لنستمع إلى قول الناظم ، قال الناظم:
لكن من يجهل قصد صاحبه
فالعقد غير فاسد من جانبه
يعني: مثلا إذا كانت الزوجة ، المطلقة ثلاثا تزوجها رجل بنية التحليل ، وهي لا تدري ، فإن ذلك لا يؤثر عليها ، فلو طلقها هذا المحلل وبقيت على عدم علمها بالتحليل ، حلت للزوج الأول ، وكذلك لو أن شخصا باع على رجل آخر سلاحا ، وكان المشتري يريد أن يقتل به نفسا محرمة ، فالعقد في حق المشتري محرم وباطل ، لكنه في حق البائع الذي لا يدري حلال وصحيح ، وعلى هذا فقس.
وقد عين الناظم هذا بقوله:
لأنه لا يعلم الذي أسر
فأجري العقد على ما قد ظهر
يعني: لأن صاحبه الذي لا يدري بنيته لا يعلم عما أسره من النية المبطلة للعقد ، فأجري العقد على ما قد ظهر ، يعني: أجري العقد على الظاهر ، وهكذا الأمور تجرى على ظواهرها ، ما لم يتبين خلاف ذلك ، فإن تبين خلاف ذلك عمل بما يقتضيه ذلك التبين.
لا يجوز الاشتراط أو الاتفاق على خلاف الشرع:
ثم قال الناظم:
والشرط والصلح إذا ما حللا
محرما أو عكسه لن يقبلها
قوله:
الشرط والصلح إذا ما حللا
-------------
ما زائدة ، كما قال الراجز:(253/202)
يا طالبا خذ فائدة
ما بعد إذا زائدة
ومن ذلك قوله - تعالى-: { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) } أي: إذا غضبوا ، وقوله -تعالى-: { حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) } أي: حتى إذا جاءوها ، وقوله:
"لن يقبل خبرا مبطلا" الشرط والصلح ، وجواب إذا محذوف ، دل عليه ما ذكر في قوله: "لن يقبلا" وقيل: إن الشرط في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب ، المهم المعنى الشرط الأصل فيه "أن ينقلا" ولازم ، فكل ما شرطت بعقود من أحد الطرفين ، أو منهما ، فهو حلال لازم هذا الأصل. أما الأول أي كون الشرط حلالا ، فلأن الأصل في العقود الحل إلا ما دل الدليل على تحريمه ؛ لقول الله -تعالى-: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } والشروط تابعة لأصولها ، يعني: أن الأمر بوفاء العقود ، يشمل الوفاء بها أصلا والوفاء بها وقفا ، وهي الشروط التي اشترطت في العقد.
مثال ذلك: لو اشترى بيتا واشترط البائع سكنى البيت سنة ، فإن هذا جائز ، وهو يقع كثيرا ، كثيرا ما يحتاج البائع إلى بيع البيت ؛ ليشتري بيتا دونه ، لكنه يحتاط لنفسه ، فيشترط على المشتري أن يسكنه سنة.
مثال ذلك لو اشترى بيتا، واشترط البائع سكنى البيت سنة، فإن هذا جائز، وهو يقع كثيرا، كثيرا ما يحتاج البائع إلى بيع البيت ليشتري بيتا دونه، لكنه يحتاط لنفسه، فيشترط على المشتري أن يسكنه سنة، فهذا الشرط حلال، صحيح، لازم.
وقد جاءت السنة بمثله، فإن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- باع على النبي r جملا له في أثناء السفر، واشترط على النبي r الذي اشتراه اشترط عليه أن يحمله أن يحمل جابرا إلى المدينة، فقبل النبي r ذلك الشرط، والتزم به، وهذا شرط استبقاء منفعة في المبيع للبائع إلى أمد معلوم.(253/203)
كذلك لو اشترط البائع على المشتري الذي لم ينقد الثمن، أن يرهنه بيته، قال: أنا أبيع عليك هذه السيارة بثلاثين ألفا، بشرط أن ترهنني بيتك، فلا حرج؛ لأن الأصل في المعاملات الحل، ويجب الوفاء بهذا الشرط؛ لقوله -تعالى-: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ } وقد ثبت عن النبي r " أنه اشترى من يهودي طعاما لأهله، وهو في المدينة، ورهنه درعه " ومثل ذلك أن يبيع شيئا على شخص بثمن، اشترط المشتري أن يكون مؤجلا إلى سنة، سواء كان يحل دفعة واحدة ، أو على دفعات، وهذا جائز، ولازم، وهو داخل في قول الله -تعالى- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ }
المصالحة كذلك إذا جرى الصلح على شيء لا يحلل حراما، ولا يحرم حلالا، فلا بأس.
مثل أن يكون بين شخصين معاملة طويلة كثيرة، كل واحد منهما +داخل ومسئول عليه، فاتفقا على أن يصطلحا على شيء معلوم يتراضيان عليه، ويتحالان عليه، فإن هذا لا بأس به؛ لأن في ذلك مصلحة للطرفين وإبراء للذمة، فهو جائز.
ومن ذلك على القول الراجح لو كان لإنسان دين على آخر، مقداره عشرة آلاف يحل بعد سنة، فقال المطلوب لصاحب الدين: أصالحك على نصف المبلغ، وأنقده لك الآن، فوافق على ذلك، فلا حرج؛ لدخوله في عموم قول النبي r " الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا " وهذا وإن كان الحديث قد تكلم فيه، فإنه ربما يؤخذ من عموم قول الله -تبارك وتعالى- في الزوجين:
{ وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وليس فيه محذور ربا؛ لأن غاية ما فيه إسقاط وإبراء باختيار. فمحذور الربا فيه بعيد، بل ليس فيه محذور أصلا، وأما من منعه بحجة أنه ربا، أو وسيلة إلى الربا، أو شبيه بالربا صورة، فقوله ضعيف.(253/204)
لكن المؤلف الناظم اشترط أن لا يحل الصلح حراما، أو يحرم حلالا، فإن أحل حراما، فإنه لا يصح سواء كان شرطا، أو مصالحة.
مثال ذلك: إنسان عنده أمة مملوكة، فباعها على شخص، واشترط على الشخص أن يستمتع بها أعني: البائع لمدة شهر، فإن هذا الشرط فاسد؛ لأنه يحل حراما، إذ أن الإنسان لا يحل له أن يستمتع بامرأة إلا أن يكون سيدا، أو زوجا؛ قال الله -تعالى- : { وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) }
فإن قال قائل: الأمة ملك، قلنا: انتقل الملك الآن، واستبقاء هذه المنفعة لا يحل؛ لأنه يحل الحرام، المهم أن هذه قاعدة مهمة، تشتمل على ما يأتي:
أولا : كل شرط، أو صلح ، فالأصل فيه الحل واللزوم إلا ما دل عليه الدليل.
ثانيا: أن كل شرط، أو صلح أحل حراما، أو حرم حلالا، فهو باطل،
كل مشغول فإنه لا يشغل:
ثم قال الناظم:
وكل مشغول فليس يشغل
بمسقط لما به ينشغل
كل مشغول، فإنه لا يشغل، لكن بالشيء الذي يسقط به ما انشغل به.
مثال ذلك: المرهون، المرهون، لو أراد الراهن أن يرهنه لشخص آخر لن يصح؛ لأنه مشغول بشيء لو صححنا إشغاله به لبطل ما انشغل به، ما انشغل من أجله يعني: مثلا هذا إنسان رهن بيته عند شخص في دين عليه، ثم إن صاحب البيت رهنه أيضا بدين آخر لشخص آخر، فإنه لا يصح؛ لأننا إذا صححنا الثاني، أبطلنا الأول وإن صححنا الأول أبطلنا الثاني، والأول سابق على الثاني، فكان الحكم له.(253/205)
وكذلك لو أن الإنسان أجر شيئا لشخص لمدة شهر، ولما انتصف الشهر أجره المالك لشخص آخر مدة تبتدئ من نصف الشهر الأول، هذا لا يجوز؛ لأنهما يتعارضان إن مكن الثاني من الانتفاع به، بطل حق الأول، وإن مكن الأول، بطل حق الثاني، والأول هو السابق، فيكون الحكم له، فإن أجره إياه مدة تبتدئ بعد انتهاء مدة الأول، فلا بأس؛ لأنه لن ينشغل بالإجارة الثانية إلا بعد انتهاء انشغاله في الأجرة الأولى، واختلف العلماء في مسألة:
وهي ما إذا رهن شيئا بمائة ريال، فهل يجوز أن يضيف إلى الدين الذي رهنه به دينا آخر؟
مثال ذلك: رجل رهن بيته بمائة ألف ريال لشخص، ثم استدان من الشخص مائة ألف ريال، وقال: هي داخلة في الرهن السابق، فيكون البيت على هذا مرهونا بمائتين، أي: بمائتي ألف ريال، فهل هذا صحيح؟
من العلماء من قال : إنه صحيح، وأن كون البيت قد رهن بمائة ألف، ثم صار مرهونا بمائتي ألف، ورضي بذلك المرتهن الحق له.
ومنهم من قال: إنه لا يصح؛ لأن البيت مرهون بمائة ألف، والمرهون لا يصح أن يرهن ثانية.
لكن القول الأول هو الصواب، وعليه عمل الناس في هذه الجزيرة، وقولنا: "بمسقط لما به ينشغل" علم منه أنه إذا شغله بغير مسقط، فلا بأس.
مثاله: أن يؤجر بيته لمدة سنة لشخص، ثم يبيعه، أي: يبيع البيت بعد نصف السنة لشخص غير المستأجر، فالبيع صحيح؛ لأن البيت لن ينشغل بالبيع الثاني، إذ أن حق المستأجر سابق، ويبقى المستأجر في البيت المبيع حتى تتم مدة الإجارة، ولكن في هذه الحال يجب على البائع أن يخبر المشتري: بأن البيت مستأجر لمدة كذا وكذا، حتى يدخل على بصيرة، فإن لم يفعل، فللمشتري الفسخ إذا علم؛ لأنه سوف يفوت عليه الانتفاع بالمبيع مدة بقاء الإجارة.
البدل له حكم المبدل :
ثم قال المؤلف -رحمه الله-:
كمبدل في حكمه اجعل بدلا
ورب مفضول يكون أفضلا
يعني: أن البدل له حكم المبدل في كل شيء، وهذا له أمثلة منها:(253/206)
الطهارة بالتراب، وهو التيمم، فإن الله -تعالى- جعله بدلا عن طهارة الماء عند تعذر استعماله؛ لعدمه أو للتضرر باستعماله، فيجعل لهذا البدل حكم المبدل في كل شيء على القول الراجح، فإذا تيمم؛ ليقرأ القرآن؛ لأن الأصل للإنسان أن يقرأ القرآن على وضوء، وهو ليس عنده ماء، وهو قد تعذر عليه استعمال الماء، فتيمم لقراءة القرآن، فله أن يصلي بهذا التيمم الفريضة والنافلة، مع أنه لم يتيمم لصلاة، لكنه تيمم يقصد بذلك رفع الحدث.
وكذلك لو تيمم لصلاة الظهر، وبقى على طهارته، حتى دخل وقت العصر، فإنه يصلي بالتيمم الأول، ولا يبطل تيممه بخروج الوقت، وكذلك لو تيمم لجنابة، فإنه لا يلزم إعادة التيمم عنها، حتى يجنب مرة أخرى.
مثال ذلك: رجل استيقظ من نومه ليلا، فوجد عليه جنابة، فتيمم لها لصلاة الفجر، ثم دخل وقت الظهر، فلا يلزم التيمم عن الجنابة، لكن يلزمه التيمم عن الحدث الأصغر، إن كان قد انتقض وضوءه في هذه المدة ما بين الفجر والظهر.
مثال ثان: رجل تيمم لصلاة الضحى، وصلى وبقي لم يحدث حتى دخل وقت صلاة الظهر، فإنه يصلي الظهر بتيممه لصلاة الضحى؛ لأن البدل له حكم المبدل، وهو لو توضأ لصلاة الضحى، وبقي على طهارته حتى دخل وقت صلاة الظهر، صلى الظهر بلا إعادة وضوء، ويدل لهذا في مسألة التيمم قول الله -تبارك وتعالى- : { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ إفح!$tَّ9$# أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فبين الله U في هذه الآية أن التيمم مطهر، أن التيمم مطهر، فيفعل من تيمم لحدث ما يفعله المتوضئ والمغتسل، ولا فرق.
لكن لو تيمم عن جنابة، ثم وجد الماء، وجب عليه أن يغتسل، ولذلك دليلان:(253/207)
الدليل الأول : قول النبي r " الصعيد الطيب وَضوء المسلم، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجد الماء، فليتق الله، وليمسه بشرته "
الدليل الثاني : ما رواه البخاري عن عمران بن حصين t في حديث طويل في قصة الرجل الذي رآه النبي r قد اعتزل القوم، فلم يصل، فسأله فقال: الرجل يا رسول الله، أصابتني جنابة، ولا ماء، فقال: " عليك بالصعيد، فإنه يكفيك، ثم بعد ذلك جاء الماء، واستقى الناس، وبقي منه فضلة، فقال النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- للرجل خذ هذه، يعني: الفضلة، فأرقه على نفسك "
وهذا دليل واضح على أن التيمم يبطل، إذا وجد الماء، وقد حكى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- الإجماع على ذلك، وإن كان بعض المتأخرين ذكر فيه خلافا، ومن ذلك: لو أن رجلا نذر أن يذبح بعيرا تقربا إلى الله U ولكنه لم يجد البعير، فذبح بدله سبع شياه، كان ذلك كافيا ومجزيا، ويكون حكم هذه الشياه حكم البعير.
وكذلك في الأكل، لو نذر أن يذبح سبع شياه، فذبح بعيرا أجزأه على خلاف في هذا، ولكن لو قال قائل: هل يجزئ البعير عن سبع عقائق؟ فالجواب: لا، يعني: لو كان عند الإنسان، يعني: لو ولد للإنسان ثلاثة أبناء وبنت، فلهم سبع شياه، ست للأبناء الثلاثة، وواحدة للأنثى، فذبح بعيرا عنهم لم يجزئ؛ لأن العقيقة فداء نفس بنفس؛ وأيضا لم يرد عن النبي r أنه عق بالبعير؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله-: إن العقيقة بالشاة أفضل من العقيقة بالبعير.
تفاضل الأعمال:
قال الناظم :
-------------
ورب مفضول يكون أفضلا
العبادات -لا شك- أنها تتفاضل، فجنس الفرض أفضل من جنس النفل، وجنس الصلاة أفضل من غيرها من العبادات، لكن ربما يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل.(253/208)
وله أمثلة، منها: لو دعا شخص رجلا إلى وليمة عرس، والمدعو صائم وحضر، فهنا أمامه شيئان، إما أن يفطر، ويأكل، فيحصل به جبر قلب صاحبه، وإما أن يمتنع عن الأكل، فلا يكون صاحبه ممنونا بذلك، وإما أن يمتنع عن إجابة الدعوى، وهذا أشد، فهنا نقول: احضر وكل، ولو بطل صيامك، فالفطر هنا أفضل مع أنه في الأصل مفضول.
ومثل ذلك لو دار الأمر بين أن يصلي الإنسان، وهو يدافع الأخبثين في أول الوقت، أو يقضي حاجته، ويصلي في آخر الوقت، فهنا الصلاة في آخر الوقت أفضل من الصلاة في أول الوقت، مع أن الأصل أن الصلاة في أول الوقت أفضل، والأمثلة على ذلك كثيرة: أنه قد يعرض للمفضول ما يجعله أفضل من الفاضل.
وربما نقول: إن مثل ذلك لو دخل المسجد رجلان، وليس في الصف إلا محل رجل واحد، فهل الأفضل أن يتقدم أحدهما لهذا المكان، ويصلي الآخر منفردا خلف الصف، مع اختلاف العلماء في صحة صلاته في هذه الحال، أو الأفضل أن يصلي مع صاحبه؟ نقول: الأفضل أن يصلي مع صاحبه؛ لئلا يوقع صاحبه في حرج، أو في فساد صلاته على القول المرجوح.
وإنما قلنا: هذا القول المرجوح؛ لأن القول الراجح أنه إذ لم يجد الإنسان مكانا في الصف صلى وحده مع الإمام، ولا حرج عليه، ولا ينبغي أن يجذب شخصا من الصف؛ ليصلي معه، بل لو قيل: لا يجوز، لكان له وجه، ولا ينبغي أن يتقدم، ويصلي مع الإمام، يعني: إلى جنب الإمام، بل قد نقول: إنه مكروه؛ لأنه يستلزم مخالفة السنة في انفراد الإمام بمكانه، وربما يحصل فيها أذية في تخطي الرقاب إلى أن يصل إلى الإمام، وحينئذ يصلي وحده خلف الصف، ولا حرج عليه.
وهذا لا شك أن له حظا كبيرا من النظر؛ لأن هذا الرجل الذي وجد الصف تاما تعذر عليه القيام في الصف حسا، فيجوز له أن يصلي وحده، كما يجوز للمرأة أن تصلي وحدها خلف الصف؛ لتعذر مقامها مع الرجال شرعا.
قال الناظم:
-------------
ورب مفضول يكون أفضلا(253/209)
ولنقتصر على هذا؛ لأنه لم يبق في الوقت إلا ربع ساعة؛ ليكون ذلك للإجابة عن الأسئلة، نسأل الله -تعالى- التوفيق للصواب.
استدامة الشيء أقوى من ابتدائه
O الحمد لله رب العلمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، قال المؤلف -رحمه الله تعالى، ووفقه في الدارين- :
كل استدامة فأقوى من بدا
وكل معلوم وجودا أو عدم
والنفي للوجود ثم صحة
والأصل في القيد احتراز ويقل
وإن تعذر اليقين فارجعا
وكل ما الأمر به يشتبه
في مثل طيب محرم ذا قد بدا
فالأصل أن يبقى على ما قد علم
ثم الكمال فارعين الرتبة
لغيره ككشف تعليل جهل
لغالب الظن تكن متبعا
من غير ميز قرعة توضحه
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :
س: فقد سبق لنا أن كل شرط مفسد للعقد إذا ذكر، فإنه يفسده إذا قصد، وذكرنا لذلك مثالين فما هو المثال الأول؟ السؤال على الطلب؟
ج: نعم.
س: ذكرنا مثالين؛ لأننا نريد أن نعرف ارتباط الطلاب بالمنظومة
ج: نعم.
من نوى الزواج للتحليل.
أي، نعم.
س: يشرحه الطالب، وأيش ما هو نكاح التحليل؟
ج: أن تطلق امرأة ثلاث طلقات، فيقوم رجل آخر فيتزوجها، ويجامعها بقصد تحليلها لزوجها الأول.
إي، نعم.
هذا شرط عليه؟
فالعقد باطل.
س: إذا لم يشرط لكنه نوى؟
ج: يفسد العقد.
س: طيب المثال الثاني؟
ج: الغريب الذي حل في بلدة، فتزوج بنية الطلاق.
العقد في هذا فاسد.
إي نعم، أفادك الله.
س: هل في هذه المسألة الثانية خلاف؟
ج: إي نعم، فيه خلاف.
بعض العلماء، قال: لا يفسد، وبعضهم قال يفسد.
- إي، طيب.
س: أيهما المذهب عند الحنابلة؟
ج: المذهب أنه يفسد.
س: نعم، طيب هل يفسد العقد من الطرفين فيما إذا نوى الإنسان نوى أحدهما الشرط الفاسد؟
ج: يفسد العقد من القاصد من يقصد بشرطه.
نعم، يعني: يفسد العقد في حق من نواه.
إي نعم، أفادك الله.
س: والثاني؟(253/210)
ج: الثاني لا يفسد بحقه؛ لأنه لا يعلم؛ لأن الأمور تجري على ظاهرها.
أحسنت!
س: ذكرنا أيضا من القواعد المهمة: أن الشرط إذا كان يستلزم تحليل الحرام، فإنه فاسد، ما هو المثال؟ أولا ما هو الدليل على أن الشرط الذي يحل الحرام يكون فاسدا؟
ج: قوله r " المسلمون على شروطهم "
نعم. " إلا شرطا حرم حلالا، أو حلل حراما "
س: نعم، أحسنت، هذا دليل، وهذا مختلف في صحته، لكن نريد دليلا لا إشكال في صحته.
ج: قوله -تعالى-: { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ }
- لا.
- قصة بريرة حين قال الرسول r " كل شرط ليس في كتاب الله، فهو باطل، وإن كان مائة شرط "
س: هذا الدليل ما أحد معارض فيه الصلح أيضا جائز إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا ، ما هو الدليل على أن الأصل في الصلح الحل؟
ج: نعم يا شيخ.
س: ما هو الدليل على أن الأصل في المصالحة الحل، إلا ما أحل حراما، أو حرم حلالا؟
ج: لقول النبي r " المسلمون على شروطهم " وإن الأصل في الصلح والشرط اللزوم والصحة.
س: لكن ما فيه دليل؟
ج: الأدلة مأخوذة من الأحاديث والآيات على أن الأصل: إذا تمت الشروط وانتفت الموانع، يقع العقد والصلح صحيحا؟
فيه نقص، وهو قول الله -تبارك وتعالى- : { وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وكذلك أيضا حديث: " الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحا أحل حراما، أو حرم حلالا " .
س: -طيب نريد مثالا للصلح الذي يحل حراما، أو يحرم حلالا .
ج: - المثال هو لو أن رجلا استدان من شخص مائة ألف، فاصطلح الذي استدان منه، اصطلح عليه أن يؤخر له المبلغ أي: الدفع إلى شهر، أو إلى شهرين، وسيدفع له مقابل هذا مثلا مالا سيدفع له ألفا، أو ألفين على تأخير هذا، فيقع هنا صلح على الربا، فيكون هذا الصلح لا يجوز.
أحسنت!(253/211)
س: بارك الله فيك؛ لأنه أحل حراما، "المشغول لا يشغل" هل هذا على إطلاقه، قلنا: فيه تفصيل؟
ج: المسألة فيها تفصيل.
س: فيها تفصيل، ما هو؟
ج: لو أن لم يسقط حق المشغول، فنقول: لو أن المشغول لم يسقط حق أحد فيصح، مثاله لو أن رجلا أجر على شخص بيتا لمدة شهر، حتى إذا ما مضى نصفه باع هذا البيت على رجل آخر، فهنا نقول: البيع هذا صحيح لأن المستأجر لا يسقط حقه، سيبقى في البيت نصف الشهر ما تبقى من الزمن - أحسنت - ولكن لا بد أن يعلم البائع، المبيع أن البيت مستأجر لرجل لمدة نصف شهر وإن لم يخبره، فله الفسخ.
- بارك الله فيك، جيد أحسنت، يعني صار شغله إن كان يؤدي إلى سقوط حق الشاغل الأول، فهو غير جائز، وإن كان لا يؤدي إلى السقوط فلا بأس، ذكرنا أن المفضول قد يكون أفضل من الفاضل، المفضول قد يكون أفضل من الفاضل.
س: مثال ذلك؟
ج: مثاله قراءة القرآن هي أفضل من الذكر، لكن إذا أذن المؤذن، فإن إجابة المؤذن أفضل من قراءة القرآن؛ لأن الأذان له وقت خاص ضيق يذهب بسببه، أما قراءة القرآن، فوقتها موسع، فتكون إجابة المؤذن أفضل من قراءة القرآن، وهي أفضل من الأذان.
ـ بارك الله فيك، أحسنت الآن نبدأ درسا جديدا.
قال :
كل استدامة فأقوى من بدا
---------------
يعني: استدامة الشيء أقوى من ابتدائه، وذلك
------------
في مثل طيب محرم ذا قد بدا
المحرم يمتنع عليه أن يتطيب بعد إحرامه، وإذا كان قد تطيب قبل الإحرام، فإنه لا بأس أن يستمر في هذا الطيب، ولا يلزمه غسله، لكن لو أنه وقع عليه الطيب بغير قصد منه، بعد الإحرام وجب عليه أن يبادر بالغسل هذا مثال.(253/212)
مثال آخر: المحرم لا يجوز له أن يعقد النكاح؛ لقول النبي r " لا ينكح المحرم، ولا ينكح " لكن لو كان قد طلق زوجته طلاقا رجعيا قبل الإحرام، ثم راجعها بعد الإحرام، فلا حرج؛ لأن الرجعة ليست ابتداء، ولكنها استدامة عقد؛ ولهذا قال العلماء -رحمهم الله- إن الرجعية في حكم الزوجة، إلا في مسائل قليلة استثنوها.
مثال ثالث: المسلم لا يمكن أن يشتري صيدا حال إحرامه؛ لأنه ممنوع من تملك الصيد، لكن لو كان عنده صيد +دافق قد اشتراه قبل الإحرام، فملكه باق، ولو أحرم؛ لأن الاستدامة أقوى من الابتداء.
كل شيء معلوم وجوده الأصل بقاء وجوده:
ثم قال الناظم:
وكل معلوم وجودا أو عدم
فالأصل أن يبقى على ما قد علم
يعني كل شيء معلوم وجوده، الأصل بقاء وجوده، كل شيء معلوم عدمه، فالأصل بقاء عدمه، وهذه قاعدة مأخوذة من قول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : حين شكي إليه الرجل يحس بحركة في بطنه، فيشكل عليه أخرج منه شيء أم لا؟ فقال: " لا ينصرف حتى يسمع صوتا، أو يجد ريحا "
فهنا نقول: هذا الرجل قد علم أنه متوضئ، فوضوءه يقيني، فإذا أشكل عليه هل أحدث، أو لا؟ قلنا: الأصل بقاء الوضوء، فلا يلزمه أن يتوضأ؛ لأن الأصل بقاء الوضوء، ومثال العدم رجل كان محدثا، ثم حضرت الصلاة، فأشكل عليه هل توضأ أم لا؟ فنقول: الأصل عدم الوضوء؛ لأنه كان محدثا، وأشكل هل توضأ أم لا؟ فحصل الشك في وجود الوضوء، فنقول: الأصل العدم، فيلزمه أن يتوضأ، وكذلك في المبايعات إذا ادعى المشتري أن في المبيع عيبا، فإن كان لا يمكن حدوثه كالإصبع الزائدة، فالقول قوله، وإن كان لا يمكن أن يكون سابقا كالجرح الطري الذي ينزف دما، فالقول قول البائع، وإن كان يحتمل هذا، وهذا، فالأصل السلامة.(253/213)
الأصل السلامة، فيكون القول قول البائع، ويقال للمشتري: أثبت أن هذا العيب كان قبل العقد؛ لأن ما كان الأصل عدمه، فبقاء الأصل فيه باق على حاله حتى يثبت ما يزيل ذلك الأصل، وهذه القاعدة التي ذكرها الناظم، تفيدك في مواضع كثيرة في العبادات والمعاملات، وقول الناظم:
وكل معلوم وجودا أو عدم
-------------
كان الأصل أن يقول: أو عدما أي معلوم وجوده وعدمه، لكنه قال: أو عدم بدون ألف من أجل الروي، على أن بعض العرب يقف على المنصوب بالسكون.
الأصل نفي الوجود:
ثم قال الناظم:
والنفي للوجود ثم الصحة
ثم الكمال فارعين الرتبة
يعني إذا جاءت جملة فيها نفي، فالأصل نفي الوجود، فإن تعذر الحمل على نفي الوجود لكون الشيء موجودا، حمل على نفي الصحة، ونفي الصحة نفي للوجود الشرعي، فإن لم يمكن، بأن تكون العبادة صحيحة مع وجوده فهو لنفي الكمال، فإذا قلت: لا خالق إلا الله، فهذا نفي للوجود، أي: وجود خالق سوى الله، وهذا هو الأصل، وإذا قلت: لا بيع بعد الساعة الرابعة مثلا، فهذا نفي للوجود، يعني: أنك تقول: لم يحصل بيع بعد الساعة الرابعة، وإذا لم يمكن حمله على نفي الوجود بأن كان موجودا حمل على نفي الصحة، ونفي الصحة يعني: نفي الوجود الشرعي.
مثال ذلك: " لا صلاة بغير وضوء " فهنا ليس النفي للوجود؛ لأنه قد يصلي إنسان بلا وضوء، فيحمل على أن المراد نفي الصحة، أي: لا تصح صلاة بغير وضوء، والحقيقة أن نفي الصحة نفي للوجود، لكنه نفي للوجود الشرعي، والأول نفي للوجود الحسي، فإن لم يمكن حمله على نفي الصحة، بأن دلت الأدلة على صحة المنفي صار ذلك نفي… أو صار ذلك نفيا للكمال.(253/214)
مثاله: " لا صلاة بحضرة طعام " فهنا قد يصلي الإنسان بحضرة طعام، قد يصلي الإنسان بحضرة الطعام، وتصح صلاته، وعليه فيكون هذا النفي نفيا للكمال، إذن إذا نُفي الشيء، فالأصل أن المراد بنفيه نفي وجوده حسا، فإن لم يمكن حمله على ذلك لكونه يوجد، حمل على نفي وجوده شرعا، أي: نفي الصحة، فإن وجد شرعا، وصح حمل على نفي الكمال، وقد ضربنا لهذا أمثلة، فإذا جاء النص محتملا لهذا، وهذا مثل: لا صلاة بعد صلاة العصر، حتى تغرب الشمس، هل المعنى لا صلاة كاملة، أو لا صلاة صحيحة؟
نقول: الأصل أن المعنى أن المراد لا صلاة صحيحة، فلا تصح الصلاة في أوقات النهي إلا صلاة الفريضة كالمقضية مثلا، وإلا الصلاة التي لها سبب من النوافل على القول الراجح.
وبناء على هذا القول الراجح لو دخل الإنسان المسجد بعد صلاة العصر، فإنه لا يجلس حتى يصلي ركعتين؛ لقول النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- : " إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " فلو ادعى شخص أن المراد لا صلاة كاملة، قلنا: هذا خلاف الأصل، وكل من يدعي خلاف الأصل فعليه الدليل.
الأصل في القيد:
ثم قال الناظم :
والأصل في القيتد احتراز ويقل
لغيره ككشف تعليل جهل
هذا أيضا الأصل في القيد بصفة، أو شرط.
الأصل فيه أنه اشتراط، وأن تخلف هذا القيد يتخلف فيه الحكم، هذا هو الأصل، لكنه قد يأتي بغير ذلك كمثل كشف التعليل إذا كان مجهولا، فإذا قيل كفارة الظهار تحرير رقبة مؤمنة، فكلمة "مؤمنة" قيد احترازا من غير المؤمنة.(253/215)
وبناء على هذا نقول: لو أعتق رقبة غير مؤمنة لم يقبل ذلك، لم يقبل ذلك منه؛ لأن الله -تعالى- اشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، والأصل في القيد أنه احتراز يخرج به مفهومه، وإذا لم يمكن أن يكون احترازا، وهو قليل، فإنه لا يكون له مفهوم، مثل قول الله -تبارك وتعالى- في المحرمات في النكا ج: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فإن قوله: " في حجوركم" ليس للاشتراط؛ ولهذا تحرم الربيبة، وإن لم تكن في بيت زوج أمها، تحرم الربيبة وإن لم تكن في بيت زوج أمها.
فإن قال قائل: ما دليلك على أن هذا القيد قيد كاشف للتعليل؟ قلنا: دليلنا على هذا أن الله -تعالى- قال: { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } وسكت عن مفهوم قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } فلما صرح بمفهوم القيد الثاني، وهو قوله: { مِنْ مNن3ح!$|،خpS سةL"©9# دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وسكت عن مفهوم القيد الأول، وهو قوله: { اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } علم أن مفهوم القيد الأول غير مشترط، وإنما ذكر القيد لبيان العلة، وهي أنها إذا كانت بنت زوجتك من غيرك في حجرك، فهذا هو السبب في كونها محرما لك؛ لأنها في حجرك فهي كبنتك، واشتراط الوطء للأم حكمته ظاهرة؛ لأنه لا تستقر الزوجية استقرارا تاما إلا بالوطء.
ولهذا اشترط العلماء -رحمهم الله للإحصان- في الزنا أن يكون المحصن قد جامع زوجته، وأنه لو عقد على امرأة وخلا بها، وباشرها بغير جماع لم يكن محصنا، فلو زنا بعد ذلك لم يرجم؛ لأن الاستقرار التام بين الزوجين إنما يكون في الجماع.
فإذا قال قائل: لو اختلف اثنان في كون القيد احترازيا، أو تعليليا، فمن الأصل معه؟ فالجواب: أن الأصل مع من قال إنه احترازي، فمن ادعى أنه لغير احتراز، فعليه الدليل.(253/216)
القرعة للتمييز بين الأشياء:
ثم قال الناظم :
وكل ما الأمر به يشتبه
من غير ميز قرعة توضحه
يعني: إذا اشتبه الأمر علينا دون تمييز لأحد المشتبهين على الآخر، فإن طريق التمييز القرعة، والقرعة ثابتة في القرآن والسنة والنظر الصحيح، أما القرآن، فقد قال الله -تبارك وتعالى- : { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا } { وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) } وفي قوله عن يونس: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) }
أما السنة، فقد ثبت " أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- أنه إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها "
وأما النظر الصحيح، فلأنه إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن؛ لأنه مستطاع، فالقرعة تميز الشيء، تميز المستحق، وهي من محاسن الشريعة، لكن يشترط ألا تخرج مخرج الميسر، فإن خرجت مخرج الميسر كانت حراما.
مثال ذلك: رجلان اشتركا في كيس من البر نصفين، ثم اقتسماه، فجعلا قسما منه ثلثين، وقسما ثلثا، وقالوا نجري القرعة، فهنا لا يجوز أن يجريا القرعة؛ وذلك لأنه يكون أحدهما إما غانما وإما غارما، فالقرعة إذا وقعت لصاحب الثلثين، فقد غنم وازداد نصيبه سدسا، والثاني شريكه قد غرم، فكان قد غرم سدسا، فذا يحرم، لكن يقسم هذا المشترك نصفين، ثم إن اختار أحدهما النصف الذي يليه، فهو له، أو النصف الذي يلي صاحبه، فهو له، إذا وافق صاحبه على ذلك.
وإن تشاحا أقرع بينهما، وقد ذكر ابن رجب -رحمه الله- في القواعد الفقهية مسائل القرعة في آخر القواعد، فمن أحب أن يرجع إليها، فإنها مفيدة جدا.
غلبة الظن عند تعذر اليقين:
ثم قال الناظم -وهو بيت أخرناه نسيانا وذهولا-:
وإن تعذر اليقين فارجعا
لغالب الظن تكن متبعا(253/217)
هذه يعبر عنها الفقهاء بقولهم: إذا تعذر اليقين رجعنا إلى غلبة الظن، وهو مأخوذ من قول الله -تعالى- : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فإذا تعذر اليقين، فإننا نرجع إلى غلبة الظن، وإن لم يكن غلبة ظن رجعنا إلى الأصل، وهو البناء على اليقين وعدم المشكوك فيه.
مثال ذلك: رجل طاف بالبيت، وفي آخر الطواف أشكل عليه أهو السادس، أو السابع، فليس عنده يقين، لكن عنده غلبة ظن؟
فهنا نقول : اعمل بغلبة الظن؛ لأنه تعذر اليقين، فيرجع إلى غلبة الظن، وهذا لب ما نقول: إن دليله قول الله -تبارك وتعالى-: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } وقوله -تعالى-: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } لكن هنا يجب أن نرجع إلى القاعدة السابقة، وهي قول الناظم:
وكل معلوم وجودا أو عدم
فالأصل أن يبقى على ما قد علم
فمثلا لو شك الإنسان هل أدى الزكاة أو لا، ولم يتيقن أنه لم يؤدها، ولا أنه أداها، لكن غلب على ظنه أنه أداها، فهنا نقول: لا عبرة بغلبة الظن؛ لأن الرجوع إلى غلبة الظن هنا ينافي قاعدة: أن الأصل في المعدوم العدم، ونقول: يلزمك أن تزكي مالك، لكن له أن يتأنى حتى يتذكر، ويفكر وإذا فعل ذلك مع اللجوء إلى الله -تعالى- في طلب الحق، فإن الله -تعالى- ييسر له ذلك، ونقتصر على هذا؛ لأنه لم يبق إلا ربع ساعة لتكون الأسئلة.
س: نبدأ الأسئلة يا شيخ؟
ج: نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: وقع لعمي حادث، وكان معه ابنه وصاحبهما رجل آخر، وفي الطريق فضل عمي المبيت، وكان الوقت ليلا، ولعلمهما بأن الطريق القادمين إليها بها منحدرات شديدة وضباب كثيف، لكن الرجل أصر على المواصلة…
- الرجل الابن، ولا الأب؟
- لا الذي +…
- السائق؟
- لا ليس السائق الرجل اللي بيقول عليه السائق معه ابنه، هو رجل آخر غير ابنه …
ـ أعيد السؤال يا شيخ؟
ـ إي
ـ يقول وقع حادث لعمي، وكان معه ابنه وصاحبهما…
- كأن العم هو السائق؟(253/218)
- عمه هو السائق …
- نعم.
…-يقول: وفي الطريق فضل عمي المبيت، وكان الوقت ليلا، ولعلمهما بأن الطريق القادمين إليها بها منحدرات شديدة وضباب كثيف، لكن الرجل أصر على المواصلة، وفي الطريق انقطعت الفرامل من السيارة، واصطدمت بالجبل تفاديا للمنحدر الشديد، وبعدما توقفت السيارة لم يجد عمي ابنه، ولا الرجل في السيارة، فبحث عنهما، فوجد الرجل قد فارق الحياة، وابنه به بعض الكسور، والاحتمال الأكبر أن الرجل قد قذف بنفسه من السيارة؛ لأنهم وجدوا الباب مفتوحا، فدفع عمي الدية لأبناء الرجل، فهل على عمي كفارة، وهل يختلف الحكم إذا كانت السيارة قد رمت بالرجل أفتونا مأجورين؟
ج: نعم ما دامت المسألة وصلت إلى القاضي، وحكم بالدية فهذا يعني أن العم يلزمه الكفارة؛ لأنها لا تلزم الدية إلا حيث كان القتل، وإذا كان القتل وجبت الكفارة، فمن لازم حكم القاضي هذا أن تلزمه الكفارة؛ لأنه لا يمكن أن يقال عليه دية، ولا كفارة.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا يقول: من كان عليه عدة أيمان مختلفة، فما هي الكفارة؟ هل هي كفارة واحدة أم متعددة؟
ج: نعم إذا تكررت الأيمان على محلوف واحد، فليس عليه إلا كفارة واحدة، مثل أن يحلف ألا يدخل هذا البيت، فقيل له: يا فلان ليس في دخوله بأس هذا صديقك هذا أخوك المسلم، فقال: والله لا أدخل، حلف ثانية، ثم قيل له مثل ما قيل له أولا، فحلف ألا يدخل، ثم مع كثرة النطق دخل، فهنا الأيمان مكررة، والمحلوف عليه واحد، فلا يلزمه إلا كفارة واحدة.
أما إذا تعددت الأيمان وتعدد المحلوف عليه، فإنه يلزمه بعدد المحلوف عليه كفارة مثال ذلك حلف ألا يدخل هذا البيت وحلف ثانية ألا يلبس هذا الثوب وحلف ثالثة ألا يركب هذه السيارة فدخل البيت، ولبس الثوب وركب السيارة، فعليه ثلاث كفارات، إذ أن الأيمان تعددت، والمحلوف عليه تعدد، وهذا قول جمهور العلماء.(253/219)
وقال بعض العلماء: إذا لم يكفر عن اليمين الأول الذي حنث فيه، حتى حنث في الثاني والثالث لزمته كفارة واحدة، وعللوا ذلك في أن الموجَب بفتح الجيم واحد، فهو كما لو بال وتغوط، وأكل لحم إبل، فإنه يلزمه وضوء واحد، وإن تعددت الأسباب؛ لأن الموجب واحد، وهذا هو المشهور عند الحنابلة رحمهم الله.
ولكن قول الجمهور ما ذكرناه أولا أنه يلزمه لكل يمين كفارة، وهو أحوط، وهو من الناحية التربوية أولى؛ لأننا لو قلنا بأنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة في الأيمان المتعددة؛ لكان ذلك فتحا للحيلة حيث إن الإنسان إذا حنث في يمين أخر الكفارة لعله يحلف ثانية، ويحنث، ثم يؤخر أيضا لعله يحلف ثانية فيحنث، ويكون ذلك سببا لتأخير الكفارة عن الحنث، والأصل أن الكفارة واجبة على الفور.
وهنا يحسن بنا أن نقول: إذا تعددت الأيمان والمحلوف عليه، فعليه لكل يمين كفارة، وإذا تعددت الأيمان والمحلوف عليه واحد، فعليه كفارة واحدة، وإذا تعدد المحلوف عليه، واليمين واحدة، فعليه كفارة واحدة، مثل أن يقول: والله لا أدخل هذا البيت، ولا ألبس هذا الثوب وما أشبه ذلك، فيلزمه كفارة واحدة هذا هو خلاصة هذا الجواب.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: رجل رهن منزله، فهل له أن يستثمره بالإيجار وغيره؟
ج: نعم له أن يستثمره بالإيجار، لكن تكون الأجرة تابعة للرهن.
نعم.
إلا إذا قال المرتهن: لا تؤجره، لكن إذا قال: لا تؤجره، فإنه لا يطاع؛ لأن ذلك إضاعة للفائدة التي تحصل لكل من الراهن والمرتهن.
نعم.(253/220)
س: أحسن الله إليك، هذه يا شيخ سائلة من إحدى الدول المجاورة تقول: إنني معلمة، وقانون البلد الذي أعيش فيه، يلزم المعلمة أن تكشف وجهها عند مسئول الوزارة الذي يحضر سنويا؛ ليكتب التقارير عن أداء المعلمات علما بأنه ليس هناك أي خلوة شرعية، فهل يجوز أن آخذ بالقول بأن الوجه والكفين هنا للضرورة في الفترة التي يحضر فيها المسئول، ولو رفضت سيكتب المسئول عني تقريرا، وربما يصل الأمر إلى الفصل من المدرسة، وجزاكم الله خيرا.
ج: هذا لا بأس به، يعني: لا بأس أن تكشف المرأة وجهها لمن ينظر إليها لحاجة كالطبيب مثلا، والشاهد وكذلك المسئول كما في سؤال المرأة هذه، حتى وإن قلنا بوجوب تغطية الوجه؛ لأن الأصل في وجوب تغطية الوجه أنه من باب سد الذرائع، والذرائع إذا احتيج إليها جازت، فإذا كان هذا المسئول يقول: لا بد أن تكشف المرأة وجهها؛ حتى نعرف من هي شخصيا، ولم يكن هناك خلوة ممنوعة، فلا بأس.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا يقول في بعض المساجد يكون مصلى النساء منفصلا عن مصلى الرجال، بمقدار مرور سيارة، وتكون المتابعة للإمام من خلال المكبر، فما حكم الصلاة فيها، وإن كان لا يجوز، فهل تصلي المرأة فيها منفردة وجماعة قائمة، أفتونا مأجورين؟
ج: أما إذا كان هذا الحوش تابعا للمسجد، فلا بأس، لكن بشرط ألا يكون للمصلي في هذا الحوش مكان في المسجد، وأما إذا لم يكن تابعا له، ولكنه حوش لجيران المسجد، فإن الصلاة فيه لا تصح؛ لأنه لا ينسب إلى المسجد شرعا، ولا عرفا، والجماعة لا بد فيها من حضور المأموم إلى المكان الذي يصلي فيه الناس.
نعم.(253/221)
س: أحسن الله إليك، هذا سائل يقول: رجل يعمل في مصنع، ويبدأ العمل الساعة الثامنة صباحا إلى الساعة الواحدة ظهرا، ومدير المصنع لا يتركهم يصلون الظهر في المسجد، بل في المصنع، وذلك بعد انتهاء الدوام حيث الساعة الواحدة ظهرا، وكذا صلاة العشاء لا يصلونها إلا الساعة التاسعة مساء بعد انتهاء الدوام، فهل يترك العمل أم ماذا عليه؟ وجزاكم الله خيرا.
ج: أرى أن لا يترك العمل ما داموا في حاجة إليه؛ لأن غاية ما فيه أنهم تركوا الواجب من الحضور إلى المسجد، ولكنهم لم يتركوا الجماعة، وقد قال كثير من العلماء: إن الجماعة في المسجد سنة، وليست بواجب؛ لأن الواجب إقامة الجماعة في أي مكان، وهذا القول وإن كان فيه ما فيه، فإنه يعمل به عند الحاجة إليه، فإذا كان صاحب المصنع يقول: لا تصلوا إلا بعد انتهاء الدوام. والدوام ينتهي قبل خروج وقت الصلاة، فلا بأس أن يؤخروا الصلاة، ويصلوها جماعة في المكان، سواء الظهر، أو العشاء أما إذا قال: أخروها عن الوقت، فإنه لا يطاع.
نعم.
س: أحسن الله إليك، هذا يقول: هل يصح نسبة هذا الحديث إلى النبي r " من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة " ؟
ج: لا أدري عنه، ما أدري، والله أعلم.
نعم
س: أحسن الله إليك، هذا يقول: ما حكم ما يسمى بالتأمين الصحي، حيث إن الصحف تروج وتدعو لانتشار هذا؟
ج: لا بد أن نعرف ما كيفية التأمين الصحي أيش كيفيته؟
- السائل موجود يا إخوان؟ السائل موجود؟ تعال
- السلام عليكم.
- نعم
س: يا فضيلة الشيخ، مثلا مبلغ مقطوع خمسمائة ريال، هذا يدفع دائما، وإذا دفع المبلغ هذا هم يعالجونه مثلا بمبلغ، في حدود مبلغ مائتين وخمسين ألف ريال، وأخذوا فتوى من هذا من بعض طلبة العلم، هل هذا جائز؟(253/222)
ج: إذا كان الذي أفتاهم من العلماء المعتبرين، فيعملون بالفتوى والإثم عليه، أما إذا كان ليس من العلماء المعتبرين الذين عرفوا بسعة العلم وقوة الأمانة، فلا يأخذ بفتواهم؛ لأنه مثلا إذا دفع خمسمائة ريال في السنة ، ثم أصيب بمرض شديد، فإنه سوف يستهلك على شركة التأمين شيئا كثيرا، وإن مضت السنة، ولم يصب بمرض صارت الشركة رابحة، وهو الخسران، وكل حق يكون فيه… يكون دائرا بين الغرم والغنم، فإنه عقد باطل، وهو من الميسر الذي حرمه الله U وقرنه بالخمر في قوله -جل وعلا - : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) } فلا يصح.
وإلى هنا ينتهي هذا اللقاء، وسبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.
أحسن الله إليك.
متعجل الشيء بفعل حرام
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال المؤلف -حفظه الله تعالى ووفقه في الدارين-:
وكل من تعجل الشيء على
وضاعف الغرم على من ثبتت
لمانع كسارق من غير ما
وكل ما أبين من حي جعل
وكان تأتي للتدوام غالبا
وإن يضف جمع ومفرد يعم
منكر إن بعد إثبات يرد
من بعد نفي نهي استفهام
واعتبر العموم في نص أثر
ما لم يكن متصفا بوصف
وخصص العام بخاص وردا
ما لم يك تخصيص ذكر البعض
وجه محرم فمنعه جلا
عقوبة عليه ثم سقطت
محرز ومن لضال كتما
كميته في حكمه طهرا وحل
وليس ذا بلازم مصاحبا
والشرط والموصول ذا له انحتم
فمطلق وللعموم إن يرد
شرط وفي الإثبات للإنعام
أما خصوص سبب فما اعتبر
يفيد علة فخذ بالوصف
كقيد مطلق بما قد قيدا
من العموم فالعموم أمض
O
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله، وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد :(253/223)
فهذا هو الدرس الأخير للقاءات التي تتم في مسجد شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الرياض، أرجو الله -سبحانه وتعالى- أن يكملها على علم نافع، وعمل صالح.
قال الناظم :
وكل من تعجل الشيء على
وجه محرم فمنعه جلا
س: وقبل أن نتكلم على هذا البيت، نسأل بعض الأسئلة، فيما سبق فما معنى قول الناظم:
والنفي للوجود ثم الصحة
ثم الكمال فارعين الرتبة؟
نعم.
من يجيب على هذا؟
ج: نعم. إن الأصل في النفي أن يكون للوجود.
س: أيش؟
ج: إن الأصل إذا أتى إذا ورد في الشرع نفي، فيكون المعنى نفي للوجود.
نفي الوجود ...نعم
ثم إذا وجد هذا الشيء، فيصرف إلى الصحة، أي: من حيث الشرع، ثم إذا كان صحيحا، يصرف إلى الكمال.
س: ها طيب مثِّل؟
ج: مثال النفي للوجود قول: لا خالق إلا الله، فهنا النفي نفي للوجود، أي: لا خالق يخلق إلا الله تبارك الله وتعالى، فليس هناك غير الله خالق.
س: نفي الصحة؟
ج: نفي الصحة قول النبي r " لا صلاة لمحدث ما لم يتوضأ " " لا صلاة إلا بوضوء " أو كما قال.
نعم.
فهذا النفي نفي للصحة.
أي نعم.
فالصلاة هنا لا تصح إذا كان الشخص محدثا مع أن…
س: الكمال؟
ج: مع أن الصلاة تقع يعني…
- أي مع أن الإنسان قد يصلي بغير وضوء.
نعم.
فتكون موجودة ، لكن نقول: هي غير صحيحة.
نعم.
س: مثال الكمال؟
ج: مثال الكمال: مثلتم بقول النبي r " لا صلاة بحضرة طعام " فقلتم: إن الصلاة موجودة، والنفي نفي للكمال، أي: لا صلاة كاملة في الأجر بحضرة طعام.
س: ولكنها صحيحة؟
ج: نعم. أي نعم ،ولكنها… الصلاة صحيحة.
طيب.
نعم.
س: قال الناظم:
والأصل في القيد احتراز ويقل
لغيره ككشف تعليل جهل
معنى البيت؟
والأصل في القيد احتراز ويقل
لغيره ككشف تعليل جهل
معنى البيت؟
ج: أن الأصل في القيود الاحتراز كقوله تبارك وتعالى .
س: الاحتراز يعني؟
ج: يعني: أن نُخرج الشيء الذي لا يتصف بهذا الوصف المذكور.
نعم.(253/224)
مثال قول الله تبارك وتعالى : { وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } فلو أن رجلًا رمى غير محصنة فلا يحكم عليه بهذا الحكم، إنما يعزر؛ لأن الإحصان قد أتى للاحتراز .
وقد يكون الاحتراز ليس على بابه إذا أتى .
س: يعني: لا يقصد به القيد؟
ج: نعم إذا أتى كشف تعليل.
س: الاحتراز لا يقصد به القيد؟
ج: نعم لا به يقصد القيد ، ومثاله قول الله تبارك وتعالى : { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } فهنا لو أن لم ترد تحصنًا فلا نقول: إنها يجوز لها يعني: تبغي إذا لم ترد تتحصن، يعني: إذا هذه المرأة ما أرادت أن تتحصن فلا نقول: يجوز أن تترك تفعل البغي.
أن نكرهها.
نعم تفعل البغي إنما هذا القيد للتعليل أي للعلة هذه وليست للاحتراز .
س: هات مثالًا آخر . مثال آخر ذكرناه في الشرح؟.
ج: نعم.
س: غيرك ، غيرك يجيب؟
ج: مثل قول الله -سبحانه وتعالى- : { وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ مNن3ح!$|،خpS اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فقوله " في حجوركم" هذا ليس قيد الاحتراز بدليل أن الله -سبحانه وتعالى- بعد ذلك قال: { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } فذكر مفهوم الوصف الثاني، وسكت عن مفهوم الوصف الأول، فدّل على أنه ليس للاحتراز .
س: أيهما القيد الذي لبيان العلة؟
ج: { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ }
{ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أو ...
نعم
س: غلط ما هو { اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } القيد الذي لبيان العلة لا للاحتراز.
ج: القيد هو " في جحوركم " .
{ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } نعم .
للعلّة وليست للاحتراز.
نعم، تمام .
س: قال الناظم :
وإن تعذر اليقين فارجعا
لغالب الظن تكن متبعا
معنى البيت؟
ج: معنى بيت الناظم : إذا تعذر اليقين ارجع إلى غلبة الظن.
س: هذا البيت أيش معناه؟(253/225)
ج: معناه ربما يتعذر يقين الإنسان في أي عبادة من العبادات، فإنه يرجع إلي غلبة ظنه إلى عبادة يمكن الوصول إليها.
س: أي نعم من أين أخذت القاعدة هذه؟
ج: من قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }
من قوله تعالى : { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } أحسنت.
س: قال الناظم:
وكل ما الأمر به يشتبه
من غير ميز قرعة توضحه
معنى البيت؟
ج: أن بعض الأشياء ربما تشتبه على الإنسان ولا تتميز إلا بإجراء القرعة.
س: أي: مثاله؟
ج: الدليل عليه يا شيخ.
س: أي مثاله، مثاله ثم الدليل .
ج: مثاله يا شيخ إذا أشكل أو تخاصم رجلان في مال ولم يترجح، ولم يتميز من هو صاحب المال، فإننا نلجأ إلى القرعة في هذه الحال.
ومثل ذلك إذن إذا تشاح رجلان في الأذان، وليست لأحدهما ميزة، فإنه يقرع بينهما كما ذكره القرآن.
س: فما هو الدليل على ثبوت القرعة؛ لأن بعض العلماء يقول: إن القرعة باطلة؛ لأنها قمار؟
ج: قول الله تعالى: { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) } ومن السنة أن الرسول r كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فمن خرج سهمها خرج بها.
أحسنت.
ثم قال الناظم في الدرس الجديد:
وكل من تعجل الشيء على
وجه محرم فمنعه جلا
هذا معناه أن الإنسان إذا تعجل حقه على وجه محرم فإنه يمنع من ذلك الحق؛ لأن نعم الله -عز وجل- ورزق الله لا ينال بمعصيته. وأبرز مثال لذلك ما ذكره الفقهاء -رحمهم الله- في الموصى له يقتل الموصي يعني: إذا أوصى شخص لإنسان بألف ريال، ثم إن الموصى له استبطأ ?وت مورثه الذي يستحق ما أوصى له به فقتله، فإنه لا حق له في الوصية يمنع منها، وهذا من حكمة الشريعة؛ لأنه لو أبيح لإنسان أن يتعجل حقه على وجه محرم لانتهكت الحرمات؛ لأن النفوس مجبولة على الطمع والجشع .(253/226)
فإذا منع الإنسان من حق تعجله على وجه محرم، فإن ذلك يردعه عن فعل المحرم الذي يستحق به -على ما زعم- ما جعل له. ومن ذلك قتل الوارث لمورثه، فإن الوارث قد يستبطئ موت المورث، فيقتله؛ ليرث منه، فإذا فعل ذلك منعناه من الإرث بناء على هذه القاعدة: من تعجل ?ئيا قبل أوانه -على وجه المحرم- فإنه يمنع منه.
أما لو كان على وجه مباح، فإن هذا لا بأس به كمن تعجل دينا له على شخص قبل حلول أجله بوضع شيء منه مثل أن يكون له على شخص ألف ريال تحل بعد سنة، فقال صاحب الحق: أعطني ثمانمائة ريال بدلًا من الألف معجلة. فهنا تعجل شيئا قبل أوانه على وجه مباح؛ لأنه له أن يسقط ما شاء من دينه، فإذا أسقط من دينه شيئا في مقابل التعجيل فالأمر إليه؛ لأن هذا شيء مباح .
سقوط العقوبة سبب في مضاعفة الغرم:
ثم قال :
وضاعف الغرم على من ثبتت
لمانع كسارق من غير ما
عقوبة عليه ثم سقطت
محرز ومن لضال كتما
يعنى إذا اثبت على الإنسان عقوبة لتمام شروطها، ولكن سقطت العقوبة لمانع فإنه يضاعف عليه الغرم، ومثَّلوا لذلك بأمثلة منها السارق إذا سرق من غير حرز فإن الغرم يضاعف عليه، ولكن لا تقطع يده، والمانع من قطع يده هو أن المال لم يحرز، ولم يوضع في مكان يحفظ فيه عادة فيضاعف عليه الغرم، وقال بعض أهل العلم: إن الغرم لا يضاعف إلا في سرقة التمر والكثر، يعني: التمر على ?ءوس النخل، أو الكثر الذي هو الجمار من الفحال، لكن هذه القاعدة تقتضي العموم، أن كل من سرق من غير حرز، فإنه لا تقطع يده، لكن يضاعف عليه الغرم، فإذا سرق ما يساوى ألفا من غير حرز قلنا:... كذلك من كتم الضالة ضالة الإبل، فإن التقاط ضالة الإبل محرم؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- حين " سئل عن ضالة الإبل فقال: دعها مالك ولها؟ معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر "(253/227)
فإذا التقطها إنسان وكتمها فقد استحل من المال ما يحرم عليه، ولا تقطع يده، ولكن عليه الغرم لو كرهت هذه الضالة التي كتمها، فعليه قيمتها مرتين.
ومثَّل بعض العلماء بالأعور يقلع عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة مثل أن يكون الأعور يمنى عينيه سليمة، فيقلع يمنى عين شخص آخر سليم العينين، فهنا قالوا: لا تقلع عين الأعور؛ لأن قلع عين الأعور حينئذ يؤدي إلى فقده البصر بالكلية، وهو إنما قلع عين الصحيح التي لا يفوت بقلعها البصر؛ لأنه ستبقى العين الأخرى قالوا: فهذا الأعور الذي قلع عين الصحيح المماثلة لعينه الصحيحة لا تقلع عينه، ولكن عليه دية كاملة، هذا هو المشهور من المذهب وفي المسألة خلاف .
جزء الحي المقطوع كميتته:
قال:
وكل ما أُبينَ من حي جُعلْ
كميته في حكمه طهرًا وحل
ما قطع من الحي، فإنه كميتته في الطهارة وفي الحل، إن كان مأكولًا، ولنضرب لهذا أمثلة: لو قطع بعض سمكة، فهذا حلال طاهر؛ لأن ميتة السمكة طاهر، وتؤكل كذلك ما أُبِيِنَ منها أي من السمكة، فإنه حلال طاهر مأكول .
وما قطع من الآدمي، وهو حي فإنه طاهر، لكنه لا يؤكل لحرمة الآدمي، وما قطع من البهيمة كالشاة مثلا، فإنه نجس حرام؛ لأن ميتة البهيمة كالشاة نجسة حرام. إذن ما قطع من السمكة، فهو حلال طاهر، وما قطع من الآدمي فهو طاهر وغير حلال، وما قطع من البهيمة فهو حرام ونجس؛ لأن ما أُبينَ من الحي فهو كميته، أي: ميت ذلك الحي طهرا وحل.
وقوله: "وحل" الأصل أن يقال: وحلا، لكن وقف عليها بالسكون مراعاة للروي، وهو أيضًا لغة لربيعة من العرب.
وقد استنبط بعض العلماء من هذه القاعدة المبنية على الحديث الوارد أن النبي r قال: " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت " استنبط منها أن دم الآدمي طاهر؛ لأنه إذا كانت أعضاؤه المنفصلة منه طاهرة، فالدم الذي هو دون العضو للاتصال بالجسد من باب أولى.(253/228)
وهذا قياس واضح، فإن اليد مثلًا إذا قطعت ففيها دم في عروقها، ومع ذلك نقول: هي طاهرة بدمها، وهى أعظم ارتباطا بالجسد من الدم؛ لأن الدم لو نزف يخلفه غيره بخلاف العضو، ورشحوا قياسهم هذا بأن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا يصلون بدمائهم التي جرحوا فنزف منها الدم في مغازيهم.
كان تأتي للدوام:
ثم قال الناظم :
وكان تأتي للدوام غالبًا
وليس ذا بلازم مصاحبا
كان فعل ماض تأتي أحيانًا لإثبات الصفة اللازمة، وتأتي أحيانا لدوام الفعل، وتأتي أحيانا للغالب لا للدوام، فمن إتيان هذه الصفة قوله تعالى: { وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) } فإن كان هنا مسلوبة الزمان فلا يقال: إن الله كان في الأزل غفورا رحيما ثم لم يكن، وإنما المراد بها هنا يعني: كان إثبات هذه الصفة ولزومها.
ومن إتيانها للدوام دون الغلبة ما جاء في أوصاف النبي r مثل: " كان دائم البشر كثير التبسم " " وكان لا ?سأل شيئا على الإسلام إلا أعطاه " " وكان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله " وأشباه ذلك كثير.
ومن إتيانها على غير الدوام ما ثبت عن النبي r " أنه كان يقرأ في صلاة الجمعة بسبح والغاشية، وثبت أيضا أنه كان يقرأ فيها بالجمعة والمنافقين " فكان هنا ليست للدوام قطعا؛ لأنه أحيانا يقرأ بهذا، ?أحيانا يقرأ بهذا فصار قول بعض العلماء كان تفيد الدوام ليس على الإطلاق، بل هذا على الغالب، وقد تخرج عنه إما لإثبات الصفة وتوكيدها وإما للغالب .
ألفاظ العموم:
ثم قال الناظم :
وإن يضف جمع ومفرد يعم
..................(253/229)
يعني: أن من ألفاظ العموم الجمع المضاف والمفرد المضاف أيضا، فمثال الأول ما جاء في التشهد: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فإن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- بيَّن أن هذا للعموم فقال: " إنكم إذا قلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض " ومن الثاني يعني: المفرد المضاف أنه للعموم قوله -تبارك وتعالى-: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا } إذ من المعلوم أنه لو كان المراد نعمة واحدة لأحصيت، لكنها نعمُ كثيرة لا تحصى، فيشمل كل ما أنعم الله به على الإنسان من نعمة جسدية أو دينية أو علمية أو جاهية أو غير ذلك.
إذن متى وجدنا جمعا مضافا، فهو للعموم، ومتى وجدنا مفردا مضافا، فهو للعموم، والمراد عموم المضاف لا المضاف إليه.
اسم الشرط والاسم الموصول للعموم:
...............
والشرط والموصول ذا لهم انحتم
يعني: أسماء الشروط والأسماء الموصولة انحتم لها ذلك، يعني: أنها للعموم فكل اسم شرط فهو للعموم كقول الله -تبارك وتعالى-: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } وكقوله تعالى: { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) }
وكذلك الموصوف يفيد العموم، ولو كان مفردا مثاله: قول الله -تبارك وتعالى- : { وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) } فأعاد الإشارة إلى هذا المفرد بالجمع بإشارة الجمع، وهو يدل دلالة واضحة على أن اسم الموصول المفرد يكون للعموم .
النكرة بعد إثبات:
منكر إن بعد إثبات يرد
فمطلق .................(253/230)
يعني: أنه إذا أتت النكرة بعد إثبات فإنها مطلقة، وليست عامة. مثال ذلك: إذا قلت: رأيت رجلًا، فرجل نكرة جاءت في سياق الإثبات، فلا تدل على أنك رأيت كل رجل؛ لأن النكرة في الإثبات مطلقة، وليست عامة، فإذا قلت: رأيت رجلًا فإنه لا يعم كل رجل لكنه يعم رجلًا غير مقيد لكونه مجتهدا أو عالما أو كبيرا أو عابدا ?لا مطلقة.
............
من بعد نفي...
......وللعموم إن يرد
...............
نفي استفهام شرط، يعني: أن النكرة إذا وردت بعد النفي أو النهي أو الاستفهام أو الشرط فهي للعموم، فإذا جاءت بعد النفي فهي للعموم. مثل: أن تقول ما رأيت رجلًا، فهنا تعم كل الرجال؛ لأنها وردت بعد النفي ومن بعد النهي إذا قلت: لا تهن مسلما، فإنه يعم كل مسلم، يعني: يعم النهي عن إهانة عن كل مسلم، ومن ذلك قوله تعالى: { * وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } لأن شيئا نكرة في سياق النهي تعم أي شيء، ولا تشركوا بالله شيئا من الملائكة أو الرسل أو الأنبياء أو الأولياء أو الصالحين أو الشمس أو القمر أو غير ذلك.
كذلك إذا جاءت بعد الاستفهام الإنكاري مثل قوله تعالى: { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ } لأن أحدًا نكرة في سياق الاستفهام فتعم، وكذلك أيضا بعد الشرط إذا جاءت نكرة بعد الشرط فهي للعموم، مثل قوله تعالى: { أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } ومثل قوله تعالى: { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ }
وإن كان هذا فيه أيضا صيغة أخرى وهي " من " لكن " من " عامة في الآمر ?"سوءا في المأمور".
وفي الإثبات للإنعام أي إذا جاءت في الإثبات للإنعام فهي أيضا للعموم كأن تقول " لله عليَّ نعمة " ولم تقيدها بواحد فهي للعموم قال :
العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:
واعتبر العموم في نص أثر
أما خصوص سبب فما اعتبر(253/231)
يعني: أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا ورد نص عام على سبب خاص فالعبرة بالعموم مثال ذلك قول الله -تبارك وتعالى- { وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فهذا عموم لكن سببه ظهار أوس بن الصامت من امرأته في عهد النبي r .
فالسبب خاص لكن الحكم لا يختص به، بل هو عام؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن الناظم استثنى قال :
ما لم يكن متصفا بوصف
يفيد علة فخذ بالوصف
فإذا كان سبب الحكم متصفا بوصف مناسب يفيد العلة، فيجب اعتباره مثال ذلك أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- كان في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه، فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: " ليس من البر الصيام في السفر " فنفى أن يكون الصيام في السفر من البر، لكن هذا ليس عاما في كل صوم، بل في الصيام الذي يكون منه الأثر كالأثر الذي حصل لهذا الصائم، فإذا كان المسافر يشق عليه الصوم كما شق على هذا الرجل، فإننا نقول له: إن صومك ليس من البر.
أما إذا كان لا يؤثر عليه فإنا نقول: إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر، والصوم مع عدم المشقة أفضل؛ لأن ذلك فعل النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-. قال :
وخصص العام بخاص ورد
ما لم يكن التخصيص ذكر البعض
كقيد محدث بما قد قيدا
من العموم فالعموم أمض
يعني: إذا ورد نص عام، وذكر بعض أفراده بحكم يوافق ذلك العام، فإنه لا يعتبر تخصيصا، فإذا قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: أكرم محمدا، ومحمد منهم، فإن هذا لا يقتضي تخصيص العموم السابق، وألا يكرم إلا محمد؛ لأن هذا ذكر لبعض أفراد العموم في حكم دليل العموم، وهذا لا يقتضي التخصيص.
أما إذا كان في حكم مخالف، فإنه يقتضي التخصيص، فإذا قلت: أكرم الطلبة، ثم قلت: لا تكرم زيدا، وزيد منهم، فهناك صار التخصيص فيكون قولنا: أكرم الطلبة مخصوصا بقولنا: لا تكرم زيدا .(253/232)
وإلى هنا ينتهي هذا النظم الذي أسأل الله تعالى أن يكون مباركا نافعا لحافظه وقارئه ومتدبره إنه على كل شيء قدير .
والآن أتى دور الأسئلة .
س: أحسن الله إليك فضيلة الشيخ، هذا السائل يقول: استثنى بعض الفقهاء من البائن من الحي الذي يحكم بأنه ميتة استثنى منه الطريدة، فما معناها؟ وما الدليل على استثنائها؟ وجزاكم الله خيرا .
ج: أي نعم استثنوا الطريدة، وكذلك المسك وفأرته، فالطريدة أن يطرد القوم المسافرون صيدا، ولا يدركونه إلا أن يقطعوه كل واحد قطع جزءا حتى مات فهذا جائز، واستدل الإمام أحمد -رحمه الله- بذلك بأن المسلمين كانوا يفعلونه في مغازيهم يطردون الظباء أو غيرها، فلا يدركونها، ثم كل واحد ?نهم يقطع شيئا، ثم تموت، فهذه حلال.
ودليلها فعل الصحابة -رضي الله عنهم- وأن بعضهم لا ينكر على بعض أما المسك وفأرته، فهناك نوع من الظباء يجرب على وجه معين فيخرج منه دم، ثم يشد هذا الدم الخارج، وأريد بخروج الدم منه أنه يطفو على جلده من الداخل، فيحبسون هذا الدم، ويشدونه بخيط قوي حتى ييبس هذا المحبوس، ثم ينفصل من الجلد، ويقال: إن هذا الدم من أحسن أنواع المسك مع أنه كان في الأول دما، فالجلد الذي انفصل وما فيه من الدم الذي صار طيبا حلالا، وفي ذلك يقول المتنبي لممدوحه:
فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
س: نعم أحسن الله إليك، هذا السائل يقول: فضيلة الشيخ البنك يمنح من أودع عنده مالًا بطاقة للسحب، ويستطيع أن يسحب من أي دولة خارج دولته، ولكن الآلة تصرف له نقود الدولة التي تم السحب فيها. فهل هذا جائز مع الحاجة لذلك وجزاكم الله خيرا ?.(253/233)
ج: إذا لم يمكن إلا هذه الطريقة فلا بأس . وإن أمكن سواها بحيث يودع الإنسان في بلده نقود البلد التي يريد السفر إليها، ثم يسحبها هناك، فهذا هو الواجب إذا أمكن أو تسحب النقود التي في بلده، وهناك في البلد الثاني تقع المصارفة بين الساحب والبنك الذي هناك بسعر وقته ومكانه، فإذا لم يمكن هذا ولا هذا فأرجو -إن شاء الله- أن يكون ما ذكره السائل جائزا . نعم .
س: أحسن الله إليك هذا يقول: ما حكم التبرع بأعضاء الجسم كالكلية مثلًا وغيرها؟ وما حكم شراء هذه الأعضاء إذا كان المريض محتاجا لذلك، وهل يجوز أخذها ممن قارب على الهلاك ?.
ج: الذي أرى أنه لا يجوز التبرع بالأعضاء مطلقا لا من حي ولا من ميت، وقد ذكر صاحب الإقناع...... شيئا من أعضائه قال: ولو أوصى به فإن وصيته لا تنفذ؛ لأن الأجسام أمانة في الداخل، ولا يجوز التفريط في هذه الأمانة، وكسر عظم الميت ككسره حيا، وما استحسنه بعض المتأخرين من جواز التبرع بالعضو إذا لم يكن على المتبرع ضرر، وكان فيه مصلحة للآخر المتبرع له، فهو استحسان نرى أنه ليس بحسن؛ لأنه مخالف لظاهر النصوص.(253/234)
ثم نقول: إن تجويز هذا أدى إلى مفسدة، فقد سمعنا في غير البلاد الإسلامية يخطفون الصغار، ويذبحونهم، ويأخذون من أعضائهم ما يمكن أن يبيعوه بأغلى الأثمان، وهذه مفسدة عظيمة، ثم إن التبرع بالعضو مفسدته محققة؛ لأن المتبرع سيفقد عضوا خلقه الله -عز وجل- ولم يخلقه الله عبثا، بل لا بد له من فائدة، وربما يتبرع بإحدى الكليتين مثلًا، ثم تتعطل الباقية، فيؤدى ذلك إلى الهلاك، ثم زرعها في الجسد الآخر ليس مضمونا مائة في المائة، بل إذا نجح، فإنه يحتاج أيضا إلى تناول أدوية باستمرار أو على زمن طويل، فالذي أرى: وجوب حماية الأجساد، أجساد المسلمين أو من له ذمة واحدة، وأنه لا يجوز لأحد أن يتبرع لأحد، ولو كان أباه أو ابنه. نعم لو وجد الإنسان هذا الشيء هذا العضو مبذولًا فهنا قد يقال: إنه يجوز أخذه بعوض. نعم .
س: أحسن الله إليك، هذا السائل يقول ما حكم أكل لحم الغزال الذي دهس بالسيارة مع العلم بأنه قد فارق الحياة قبل أن يزكى نرجو التوضيح ؟.
ج: أكل هذا حرام يعني: الظبي أو الظبية الذي دهس بالسيارة، ولم يزك قبل موته حرام؛ لقول الله تعالى: { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } نعم .
س: وهذا يا شيخ سائل يقول: أحسن الله إليك، رجل تزوج، ثم ترك زوجته وسافر طالبا للعيش- نعم- فطوّل ولم يعد، وأخبرت زوجته أنه قد مات، فقضت العدة ، وتزوجت ثم بعد ما يقارب ثلاثة أسابيع رجع الزوج الأول، فلمن تذهب الزوجة، إلى الزوج الأول أم الثاني أفتونا مأجورين؟.(253/235)
ج: يكون الذهاب للزوج الأول، إن شاء أجاز العقد، ورجع على الزوج الثاني بمهره الذي أعطاه المرأة، أو بمهر مثلها في وقته ذلك، وإن اختار أخذها من الثاني، ولا يرجع الثانى عليه بشيء؛ لأن الثاني تزوجها وهو مخاطر في الحقيقة؛ فإن زوجها قد يحضر، والصحيح أنه لا فرق بين كون ذلك بعد جماع الثاني أو قبله؛ لأن ظاهر النصوص الواردة عن الصحابة لا تفصيل فيها . نعم .
س: هذه يا شيخ -أحسن الله إليك- سائلة تسأل عن حكم الرقص في المناسبات باستعمال الدّف؟ .
ج: أما استعمال الدّف فلا بأس به، بل هو سنة في ليالي الزفاف، أي أيام الأعراس بشرط ألا يصحبه غناء سافل أو أصوات دقيقة عالية تفتن ?ن سمعها، وأما الرقص فلا أراه، أي لا أرى للمرأة أن ترقص؛ لأننا سمعنا بعض القضايا التي تؤدي إلى أمر مكروه . نعم .
س: أحسن الله إليك، سائلة أخرى تقول: جاءتني العادة الشهرية، ومضت سبعة أيام، وبعدها أتت علامة الطهر بعد المغرب، وفي اليوم التالي أتاني على شكل شعيرات من الدم بعد العصر، فهل أصلي أم لا، والله يرعاكم ?.
ج: نعم تصلي؛ لأن هذه الشعيرات الحمراء لا تعد حيضا، فهي من جنس الصفرة والكدرة، وقد قالت أم عطية -رضي الله عنها- "كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئا" . نعم.
س: أحسن الله إليك يقول: إذا كنت في المسجد ثم خرجت -أعزكم الله- إلى دورة المياه، ورجعت فهل علي أن أصلي تحية المسجد؟ .
ج: ليس عليك أن تصلي تحية المسجد؛ لأنك خرجت بنية الرجوع في وقت قصير، وهذا الخروج لا يعتبر خروجا من المسجد حكما، بدليل أن المعتكف إذا خرج لقضاء حاجته، ورجع عن قرب لم يبطل اعتكافه، بل يبني على ما مضى من اعتكافه، ولو كان مثل هذا الخروج يعد خروجا عن المسجد حكما لبطل الاعتكاف، ومثل ذلك لو خرج من المسجد ليأتي بكتابه يدرس به، وكان ذلك في مدة قصيرة، فإنه لا يصلي تحية المسجد .
نعم. ولو صلى لا حرج، لكن لا نطلب منه تحية مسجد كتحية من دخل لأول مرة . نعم .(253/236)
س: أحسن الله إليك، يقول: حججت هذا العام مع حملة، وعند المبيت بالمزدلفة أرادوا الخروج منها قبل الفجر في منتصف الليل، وذهبت معهم مع أنه لم يكن معي نساء، فذهبت مع باقي الحملة، فهل يلزمني شيء، وهل فعلي صحيح؟ .
ج: لا يلزمه شيء، لكن ما ?دري هل خرجوا من مزدلفة بعد أن مضى أكثر الليل، فإذا كان خرجوا من مزدلفة بعد أن مضى أكثر الليل، فلا بأس في مثل هذه الأيام؛ لأن هذه الأيام الزحام شديد، وكل واحد ممكن أن يكون له عذر، وقد أذن النبي r للنساء أن يدفعن من مزدلفة في آخر الليل، وكانت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- تأمر غلامها أن يشاهد القمر فإذا غاب دفعت . نعم .
-أحسن الله إليك، هذا يقول: ليس معه نساؤه يا شيخ .
لا يضر هو مع صحبته مع رفقته، وتخلفه عنهم ربما يشق عليه، ربما يضيع عنهم، ثم إننا أشرنا إلى أننا في هذه الأيام الزحام، وهو مشقة حاصل لكل أحد حتى للرجال الأقوياء . نعم .
-يا شيخ، يقول: إن الحملة أبقوا باصا لمن أراد المبيت.
أيش؟ .
-الحملة يقول أبقوا يعني: شاحنة لمن أراد أن يبيت يعني: يكمل الليل .
أرى أن هذا فرصة وغريب، وكان عليه لما أبقوا الباص لمن يبيت أن يبيت، لكني لا أرى أن يجب عليه الدم لما فعل، وأرجو الله تعالى أن يتقبل منه . نعم .
س: أحسن الله إليك يقول: رجل دخل مع جماعة، وهو مسافر بحيث إنهم كانوا يصلون المغرب، وهم سائرون في الطريق، ولكنّه يصلي العشاء، فجلس بعد الثانية، وقاموا هم للثالثة، فلما جلسوا للتشهد سلّم معهم، فهل فعله صحيح؟.
ج: نعم فعله صحيح، لكن خير من ذلك أنه لما قام الإمام للثالثة أن ينوي الفراق، ويصلي ركعتين، ولعلّ قائلا يقول: لماذا لا نجعله يتم مع الإمام صلاة المغرب ثم يأتي بركعة؟ لأن من ائتم بمن يتم الصلاة لزمه أن يتم معه . والجواب عن هذا أن نقول: إن صلاة المغرب ثلاث ركعات وصلاة العشاء أربع اختلفت الصلاتان، فله إذا قام أمامه أن ينفرد ويسلم . نعم .(253/237)
س: أحسن الله إليك، يا شيخ ليس سؤالًا إنما هو طلب، أحد الإخوة من مدينة الأفلاج يقول: إن مدينة الأفلاج بعيدة عن العلماء، وأهلها متعطشون لزيارة سماحتكم فما رأيكم بارك الله فيكم.
والله أرى أن يعذروني؛ لأن أشغالنا كثيرة، وعندنا طلبة كثيرون، ولا نحب أن نتأخر عنهم، فيلحقهم الكسل .
الوقت انتهى الآن.
بقي سؤال يا شيخ : نعم.
س: هذا يقول والدي رجل كبير في السن ولديه بعض الأملاك، وفي الآونة الأخيرة تسلمت إدارة الأملاك، وهو لا يؤدي زكاتها مطلقا، وهناك عدة أسئلة حول هذا الموضوع .
الأول: هل يجب علي إخراج زكاتها -دون علمه؛ لأنه إذا علم فلن يرضى مطلقا بذلك- وأوزعها على المحتاجين ?.
ج: إذا كانت الوكالة مطلقة بأن تعرف بأنك وكيل عنه في كل شيء، فله أن يخرج الزكاة، أما إذا كانت الوكالة تعني الوكالة في تدبير هذه الأملاك، فهي عنه شراء وتأجيرا، فإنه لا يملك إخراج الزكاة إلا بتوكيل من أبيه . نعم.
س: ويقول أيضا: إن هذا الوالد لا ينفق على البيت، وأنا ساكن معهم، وأقوم في أكثر الأحيان بالصرف عليهم؛ نظرا لأني موظف، ولكنّي في بعض الأحيان لا أستطيع؛ لأن عليّ دينا يقول: هل يجوز لي أن آخذ بقدر ما يكفي البيت وأنفق عليه بدون علمه .
ج: نعم يجوز له أن يأخذ من مال أبيه ما ينفقه على بيت أبيه بدون علمه . نعم .
س: هذا السائل يقول: بعض الأوقات تأتيني ضائقة مالية، ولا يكون أمامي إلا أن ألجأ إلى هذا المال مع النية الصادقة في إرجاعه في أقرب وقت، فهل يحل لي ذلك بدون علمِه؟ .
ج: لا يحق لا يحل له أن يأخذ من المال الموكل فيه إلا بعد موافقة الموكل؛ لأنه أمين، والأمين لا يتصرف لمصلحة نفسه . نعم .
س: والفقرة الأخيرة يقول: وهو لا يتم الصلاة، ويتحجج بسلس البول، ويؤديها في البيت، وإذا سألته قال: صلّيت وأنا متأكد أنه لم يصلّ، وإذا صلّى فإنه لا يؤديها بالصورة الصحيحة، بل ويشغل المصلّين بعدم حسن صلاته .
أيش، أيش ?(253/238)
بل ويشغل المصلين بعدم حسن صلاته، ولم ينفع تعليمي له ونصحي له، بماذا تنصحني جزاك الله خيرا، وأرجوك في نهاية هذا أن تدعو له.
اللهم اهدنا وإياه، الواجب عليه إذا كان يتأذى الناس به بحضوره المسجد، أو يتأذى المسجد بحضوره أن يصليها في البيت، ويجب عليه أن يصلّي على حسب حالته، وسلسل البول لا ?منع الصلاة فإنه يستطيع أن يتوضأ بعد دخول وقت الصلاة، ويتحفظ ويصلّي الصلاة، ويجمع إذا كان يشق عليه أن يصلّي كل صلاة في وقتها، فالأمر واسع ولله الحمد. نعم .(253/239)
مجموع فتاوى و رسائل - 11
رسالة الأصول من علم الأصول
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً :
الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد : فهذه رسالة مختصرة في أصول الفقه كتبناها على وفق المنهج المقرر للسَّنَة الثالثة الثانوية في المعاهد وسميناها :
( الأصول من علم الأصول )
أسأل الله أن يجعل عملنا خالصاً لله نافعاً لعباد الله إنه قريب مجيب .
أصول الفقه
تعريفه :
أصول الفقه يعرف باعتبارين :
الأول : باعتبار مفرديه أي باعتبار كلمة " أصول " وكلمة " فقه " .
فالأصول : جمع أصل وهو ما يبني عليه غيره ومن ذلك أصل الجدار وهو أساسه وأصل الشجرة الذي يتفرغ منه أغصانها قال تعالى :
? ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء ? (1) .
الفقه لغة : الفهم ومنه قوله تعالى : ? واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي ?(2).
واصطلاحاً: معرفة الأحكام الشرعية العملية بأدلتها التفصيلية .
فالمراد بقولنا " معرفة " العلم والظن لأن إدراك الأحكام الفقيه قد يكون يقينَّيا وقد يكون ظنيًّا كما في كثير من مسائل الفقه .
والمراد بقولنا:" الأحكام الشرعية " الأحكام المتلقاة من الشرع كالوجوب والتحريم ، فخرج به الأحكام العقلية كمعرفة أن الكل أكبر من الجزء والأحكام العادية كمعرفة نزول الظل في الليلية الشاتية إذا كان الجو صحواً .
والمراد بقولنا : " العملية " ما لا يتعلق بالاعتقاد كالصلاة والزكاة فخرج به ما يتعلق بالاعتقاد كتوحيد الله ومعرفة أسمائه وصفاته فلا يسمى ذلك فقهًا في الاصطلاح .(254/1)
والمراد بقولنا : بأدلتها التفصيلية " أدلة الفقه المقرونة بمسائل الفقه التفصيلية فخرج به أصول الفقه لأ ن البحث فيه إنما يكون في أدلة الفقه الإجمالية .
الثاني : باعتبار كونه لقباً لهذا الفن المعين ، فيعرف بأنه : " علم يبحث عن أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد ".
فالمراد بقولنا : " الإجمالية " القواعد العامة مثل قولهم : الأمر للوجوب والنهي للتحريم والصحة تقتضي النفوذ ، فخرج به الأدلة التفصيلية فلا تذكر في أصول الفقه إلا على سبيل التمثيل للقاعدة .
والمراد بقولنا : " وكيفية الاستفادة منها " معرفة كيف يستفيد الأحكام من أدلتها بدراسة أحكام الألفاظ ودلالاتها من عموم وخصوص وإطلاق وتقييد وناسخ ومنسوخ وغير ذلك فإنه بإدراكه يستفيد من أدلة الفقه أحكامها .
والمراد بقولنا : " وحال المستفيد " معرفة حال المستفيد وهو المجتهد سمى مستفيداً لأنه يستفيد بنفسه الأحكام من أدلتها لبلوغه مرتبة الاجتهاد فمعرفة المجتهد وشروط الاجتهاد وحكمه ونحو ذلك يبحث في أصول الفقه .
فائدة أصول الفقه :
إن أصول الفقه علم جليل القدر بالغ الأهمية غزير الفائدة فائدته : التمكن من حصول قدرة يستطيع بها استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها على أسس سليمة .
وأول من جمعه كفن مستقل الإمام الشافعي محمد بن إدريس رحمه الله ثم تابعه العلماء في ذلك فألفوا في التأليف المتنوعة ما بين منثور ومنظوم ومختصر ومبسوط حتى صار فنّاً مستقلاً له كيانه ومميزاته .
الأحكام
الأحكام : جمع حكم وهو لغة القضاء .
واصطلاحاً : ما اقتضاه خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين من طلب أو تخيير أو وضع .
فالمراد بقولنا : " خطاب الشرع " الكتاب والسنة .
والمراد بقولنا : " المتعلق بأفعال المكلفين " ما تعلق بأعمالهم سواء كانت قولاً أم فعلاً إيجاداً أم تركاً .
فخرج به ما تعلق بالاعتقاد فلا يسمى حكماً بهذا الاصطلاح .(254/2)
والمراد بقولنا " المكلفين" ما من شأنهم التكليف فيشمل الصغير والمجنون .
والمراد بقولنا : " من طلب " الأمر والنهي سواء على سبيل الإلزام أو الأفضلية .
والمراد بقولنا : " أو تخيير " المباح .
والمراد بقولنا : " أو وضع " الصحيح والفاسد ونحوهما مما وضعه الشارع من علامات وأوصاف للنفوذ والإلغاء .
أقسام الأحكام الشرعية :
تنقسم الأحكام الشرعية إلى قسمين : تكليفية ووضعية .
فالتكليفية خمسة : الواجب ، والمندوب ، والمحرم ، والمكروه ، والمباح .
1- فالواجب لغة : الساقط واللازم .
واصطلاحاً : ما أمر به الشارع على وجه الإلزام كالصلوات الخمس .
فخرج بقولنا " ما أمر به الشارع " المحرم والمكروه والمباح .
وخرج بقولنا : " على وجه الإلزام " المندوب .
والواجب يثاب فاعله امتثالاً ويستحق العقاب تاركه .
ويسمى . فرضاً ، وفريضة ، وحتماً ، ولازماً .
2- والمندوب لغة : المدعو .
واصطلاحاً : ما أمر به الشارع لا على وجه الإلزام كالرواتب .
فخرج بقولنا : " ما أمر به الشارع " المحرم والمكروه والمباح .
وخرج بقولنا : " لا على وجه الإلزام " الواجب .
والمندوب : يثاب فاعله امتثالاً ولا يعاقب تاركه .
ويسمى : سنة ، ومسنوناً ، ومستحبّاً ، ونفلاً .
3- والمحرم لغة : الممنوع .
واصطلاحاً : ما نهى عنه الشارع على وجه الإلزام بالترك كعقوق الوالدين .
فخرج بقولنا : " ما نهى عنه الشارع " الواجب والمندوب والمباح .
وخرج بقولنا : " على وجه الإلزام بالترك " المكروه .
والمحرم : يثاب تاركه امتثالاً ويستحق العقاب فاعله .
ويسمى : محظوراً أو ممنوعاً .
4- والمكروه لغة : المبغض
واصطلاحاً : ما نهى عنه الشارع لا على وجه الإلزام بالترك كالأخذ بالشمال والإعطاء بها .
فخرج بقولنا : ما نهى عنه الشارع " الواجب ، والمندوب ، والمباح .
وخرج بقولنا : " لا على وجه الإلزام بالترك " المحرم .
والمكروه : يثاب تاركه امتثالاً ولا يعاقب فاعله .(254/3)
5- والمباح لغة : المعلن والمأذون به .
واصطلاحاً : ما لا يتعلق به أمر ولا نهي لذاته كالأكل في رمضان ليلاً .
فخرج بقولنا " ما لا يتعلق به أمر " الواجب والمندوب .
وخرج بقولنا " ولا نهي " المحرم والمكروه .
وخرج بقولنا : لذاته " مالو تعلق به أمر لكونه وسيلة لمأمور به ، أو نهي لكونه وسيلة منهي عنه فإن له حكم ما كان وسيلة له من مأمور ، أو منهي ولا يخرجه ذلك عن كونه مباحاً في الأصل .
المباح مادام على وصف الإباحة فإنه لا يترتب عليه ثواب ولا عقاب .
ويسمى : حلالاً ، وجائزاً .
الأحكام الوضعية :
الأحكام الوضعية : ما وضعه الشارع من أمارات لثبوت أو انتفاء أو نفوذ أو إلغاء .
ومنها الصحة والفساد .
1-1- فالصحيح لغة : السليم من المرض .
واصطلاحاً : ما ترتبت آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً .
فالصحيح من العبادات : ما برئت به الذمة وسقط به الطلب .
والصحيح من العقود : ما ترتب آثاره على وجود كترتب الملك على عقد البيع مثلاً .
ولا يكون الشيء صحيحاً إلا بتمام شروطه وانتفاء موانعه .
مثال ذلك في العبادات : أن يأتي بالصلاة في وقتها تامة شروطها وأركانها وواجباتها .
ومثال ذلك في العقود : أن يعقد بيعاً تامأً شروطه المعروفة مع انتفاء موانعه . فإن فقد شرط من الشروط أو وجد مانع من الموانع امتنعت الصحة .
مثال فقد الشرط في العبادة : أن يصلي بلا طهارة .
ومثال فقد الشرط في العقد : أن يبيع مالا يملك .
ومثال وجود المانع في العبادة : أن يتطوع بنفل مطلق في وقت النهي .
ومثال وجود المانع في العقد : أن يبيع من تلزمه الجمعة شيئاً بعد ندائها الثاني على وجه لا يباح .
2-والفاسد لغة : الذاهب ضياعاً وخسراً .
واصطلاحاً : مالا تترتب آثار فعله عليه عبادة كان أم عقداً .
فالفاسد من العبادات : ما لاتبرأ به الذمة ولا يسقط به الطلب كالصلاة قبل وقتها .
والفاسد من العقود : ما لا تترتب آثاره عليه كبيع المجهول .(254/4)
وكل فاسد من العبادات والعقود والشروط فإنه محرم لأن ذلك من تعدي حدود الله واتخاذ آياته هزؤاً ولأن النبي ، صلي الله عليه وسلم ، أنكر على من اشترطوا شروطاً ليست في كتاب الله .
والفاسد والباطل بمعنى واحد إلا في موضعين :
الأول : في الإحرام فرقوا بينهما بأن الفاسد ما وطئ فيه المحرم قبل التحلل الأول ، والباطل ما ارتد فيه عن الإسلام .
الثاني : في النكاح فرقوا بينهما بأن الفاسد ما اختلف العلماء في فساده كالنكاح بلا ولي ، والباطل ما أجمعوا على بطلانه كنكاح المعتدة .
العلم
تعريفه :
العلم : إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً كإدراك أن الكل أكبر من الجزء وأن النية شرط في العبادة .
فخرج بقولنا : " إدراك الشيء " عدم الإدراك بالكلية ويسمى " الجهل البسيط " مثل أن يُسأل متى كانت غزوة بدر ؟ فيقول : لا أدري .
وخرج بقولنا : " على ما هو عليه " إدراكه على وجه يخالف ما هو عليه ويسمى ( الجهل المركب ) مثل أن يُسأل متى كانت غزوة بدر ؟ فيقول : في السنة الثالثة من الهجرة .
وخرج بقولنا : " إدراكاً جازماً " إدراك الشيء إدراكاً غير جازم بحيث يحتمل عنده أن يكون على غير الوجه الذي أدركه فلا يسمى ذلك علماً ثم أن ترجح عنده أحد الاحتمالين فالراجح ظن والمرجوح وهم ، وإن تساوى الأمران فهو شك .
وبهذا تبين أن تعلق الإدراك بالأشياء كالآتي :
1- علم وهو : إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً .
2- جهل بسيط : وهو عدم الإدراك بالكلية .
3- جهل مركب وهو : إدراك الشيء على وجه يخالف ما هو عليه .
4- ظن وهو : إدراك الشيء مع احتمال ضد مرجوح .
5- وهم وهو : إدراك الشيء مع احتمال ضد راجح .
6- شك وهو : إدراك الشيء مع احتمال ضد مساو.
أقسام العلم :
ينقسم العلم إلى قسمين ضروري ونظري :(254/5)
1- فالضروري : ما يكون إدراك المعلوم فيه ضروريّاً بحيث يضطر إليه من غير نظر ولا استدلال ، كالعلم بأن الكل أكبر من الجزء وأن النار حارة ، وأن محمداً رسول الله ، صلي الله عليه وسلم .
2- والنظري : ما يحتاج إلى نظر واستدلال كالعلم بوجوب النية في الصلاة .
الكلام
تعريفه :
الكلام لغة : اللفظ الموضوع لمعنى .
واصطلاحاً : اللفظ المفيد مثل : الله ربنا ، ومحمد نبينا .
وأقل ما يتألف منه الكلام اسمان أو فعل واسم مثال الأول : محمد رسول الله . ومثال الثاني : استقام محمد .
واحد الكلام كلمة وهي : اللفظ الموضوع لمعنى مفرد وهي : إما اسم أو فعل أو حرف .
(أ ) فالاسم:ما دل على معني في نفسه من غير إشعار بزمن وهو ثلاثة أنواع :
الأول : ما يفيد العموم كالأسماء الموصولة .
الثاني : ما يفيد الإطلاق كالنكرة في سياق الإثبات .
الثالث : ما يفيد الخصوص كالأعلام .
(ب ) والفعل : ما دل على معنى في نفسه وأشعر بهيئته بأحد الأزمنة الثلاثة :
وهو إما ماض : كفَهِمَ ، أو مضارع : كَيَفَهَم ، أو أمر : كإفهم .
والفعل بأقسامه يفيد الإطلاق فلا عموم له .
(ج) والحرف : ما دل على معنى في غيره ، ومنه :
1 – الواو : وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم ، ولا تقتضي الترتيب ولا تقتضي الترتيب ولا تنافيه إلا بدليل .
2- الفاء : وتأتي عاطفة فتفيد اشتراك المتعاطفين في الحكم مع الترتيب والتعقيب ، وتأتي سببية فتفيد التعليل .
3- اللام الجارَّة : ولها معان منها التعليل ، والتمليك والإباحة .
4- على الجارة ، ولها معان منها الوجوب .
أقسام الكلام :
ينقسم الكلام باعتبار إمكان وصفه بالصدق وعدمه إلى قسمين :
خبر ، وإنشاء .
1- فالخبر : ما يمكن أن يوصف بالصدق أو الكذب لذاته .
فخرج بقولنا : " ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب " الإنشاء لأنه لا يمكن فيه ذلك فإن مدلوله ليس مخبراً عنه حتى يمكن أن يقال إنه صدق أو كذب .(254/6)
وخرج بقولنا : " لذاته " الخبر الذي لا يحتمل الصدق أو لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به وذلك أن الخبر من حيث المخبر به ثلاثة أقسام :
الأول : ما لا يمكن وصفه بالكذب كخبر الله ورسوله الثابت عنه .
الثاني : ما لا يمكن وصفه بالصدق كالخبر عن المستحيل شرعاً أو عقلاً فالأول كخبر مدعي الرسالة بعد النبي ، صلي الله عليه وسلم ، والثاني كالخبر عن اجتماع النقيضين كالحركة والسكون في عين واحدة في زمن واحد .
الثالث : ما يمكن أن يوصف بالصدق والكذب إما على السواء أو مع رجحان أحدهما كإخبار شخص عن قدوم غائب ونحوه .
2- والإنشاء : ما لا يمكن أن يوصف بالصدق والكذب ومنه
الأمر والنهي كقوله تعالى : ? واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ? (1). وقد يكون الكلام خبر وإنشاء باعتبارين كصيغ العقود اللفظية مثل : بعث وقبلت فإنها باعتبار دلالها على ما في نفس العاقد خبر وباعتبار ترتب العقد عليها إنشاء .
وقد يأتي الكلام بصورة الخبر والمراد به الإنشاء وبالعكس لفائدة.
مثال الأول:قول تعالى:? والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء? (2) . فقوله : ? يتربصن ? بصورة الخبر والمراد به الأمر وفائدة ذلك تأكيد فعل المأمور به حتى كأنه أمر واقع يتحدث عنه كصفة من صفات المأمور .
ومثال العكس : قوله تعالى:? وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ? (3) .فقوله : ? ولنحمل ? بصورة الأمر والمراد بها الخبر أي ونحن نحمل وفائدة ذلك تنزيل الشيء المخبر عنه منزل المفروض الملزم به .
الحقيقة والمجاز :
وينقسم الكلام من حيث الاستعمال إلى حقيقة ومجاز .
1- فالحقيقة هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له مثل أسد للحيوان المفترس .
فخرج بقولنا : " المستعمل " المهمل فلا يسمى حقيقة ولا مجازاً .
وخرج بقولنا : " فيما وضع له " المجاز .
وتنقسم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام : لغوية ، وشرعية ، وعرفية .
فاللغوية هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له في اللغة .(254/7)
فخرج بقولنا : " في اللغة " الحقيقة الشرعية ، والعرفية .
مثال ذلك الصلاة في حقيقتها اللغوية الدعاء فتحمل عليه في كلام أهل اللغة .
والحقيقة الشرعية هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له في الشرع .
فخرج بقولنا : " في الشرع " الحقيقة اللغوية ، والعرفية .
مثال ذلك : الصلاة فإن حقيقتها الشرعية الأقوال والأفعال المعلومة المفتتحة بالتكبير المختتمة بالتسليم فتحمل في كلام أهل الشرع على ذلك .
والحقيقة العرفية هي : اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف .
فخرج بقولنا : " في العرف " الحقيقة اللغوية ، والشرعية .
مثال ذلك : الدابة فإن حقيقتها العرفية ذات الأربع من الحيوان فتحمل عليه في كلام أهل العرف .
وفائدة معرفة تقسيم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام أن نحمل كل لفظ على معناه الحقيقي في موضع استعماله فيحمل في استعمال أهل اللغة على الحقيقة اللغوية ، وفي استعمال الشرع على الحقيقة الشرعية ، وفي استعمال أهل العرف على الحقيقة العرفية .
2- والمجاز هو : اللفظ المستعمل في غير ما وضع له مثل أسد للرجل الشجاع .
فخرج بقولنا : " المستعمل " المهمل فلا يسمى حقيقة ولا مجازاً .
وخرج بقولنا : " في غير ما وضع له " الحقيقة .
ولا يجوز حمل اللفظ على مجازه إلا بدليل صحيح يمنع من إرادة الحقيقة وهو ما يسمى في علم البيان بالقرينة .
ويشترط لصحة استعمال اللفظ في مجازه وجود ارتباط بين المعنى الحقيقي والمجازي ليصح التعبير عنه وهو ما يسمى في علم البيان بالعلاقة، والعلاقة إما أن تكون المشابهة أو غيرها .
فإن كانت المشابهة سمي التجوز ( استعارة ) كالتجوز بلفظ أسد عن الرجل الشجاع .
وإن كانت غير المشابهة سمي التجوز ( مجازاً مرسلاً ) إن كان التجوز في الكلمات و(مجازاً عقلّياً ) إن كان التجوز في الإسناد .
مثال ذلك في المجاز المرسل : أن تقول رعينا المطر فكلمة المطر مجاز عن العشب فالتجوز بالكلمة .(254/8)
ومثال ذلك في المجاز العقلي : أن تقول أنبت المطر العشب فالكلمات كلها يراد بها حقيقة معناها لكن إسناد الإنبات إلى المطر مجاز لأن المنبت حقيقة هو الله تعالى فالتجوز في الإسناد .
ومن المجاز المرسل : التجوز بالزيادة والتجوز بالحذف .
مثلوا للمجاز بالزيادة بقولة تعالى : ? ليس كمثله شيء? (1) .
ومثال المجاز بالحذف : قوله تعالى : ? واسأل القرية ? أي واسأل أهل القرية فحذفت أهل مجازاً وللمجاز أنواع كثيرة مذكورة في علم البيان .
وإنما ذكر طرف من الحقيقة والمجاز في أصول الفقه لأن دلالة الألفاظ إما حقيقة وإما مجاز فاحتيج إلى معرفة كل منهما وحكمه والله أعلم .
تنبيه :
تقسم الكلام إلى حقيقة ومجاز هو المشهور عند أكثر المتأخرين في القرآن وغيره ، وقال بعض أهل العلم لا مجاز في القرآن ، وقال آخرون لا مجاز في القرآن ولا في غيره وبه قال أبو إسحاق الاسفرائين ومن المتأخرين محمد الأمين الشنقيطي ، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيميه وتلميذه ابن القيم أنه اصطلاح حادث بعد انقضاء القرون الثلاثة المفضلة ، ونصره بأدلة قوية كثيرة تبين لمن اطلع عليها أن هذا القول هو الصواب (1) .
الأمر
تعريفه :
الأمر : قول يتضمن طلب الفعل على وجه الاستعلاء مثل ? أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ? .
فخرج بقولنا : " قول " الإشارة فلا تسمى أمراً وإن أفادت معناه .
وخرج بقولنا : " طلب الفعل " النهي لأنه طلب ترك والمراد بالفعل الإيجاد فيشمل القول المأمور به .
وخرج بقولنا : " على وجه الاستعلاء " الالتماس والدعاء وغيرهما مما يستفاد من صيغة الأمر بالقرائن .
صيغ الأمر :
صيغ الأمر أربع :
1. 1- فعل الأمر مثل : ? اتل ما أوحي من الكتاب ? .
2. 2- اسم فعل مثل : حي على الصلاة .
3. 3- المصدر النائب عن فعل الأمر مثل : ? فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ? .
4. 4- المضارع المقرون بلام الأمر مثل : ? لتؤمنوا بالله ورسوله ?.(254/9)
وقد يستفاد طلب الفعل من غير صيغة الأمر مثل أن يوصف بأنه فرض ، أو واجب ، أو مندوب ، أو طاعة ، أو يمدح فاعله ، أو يذم تاركه أو يترتب على فعله ثواب ، أو عرى تركه عقاب .
ما تقتضيه صيغة الأمر :
صيغة الأمر عند الإطلاق تقتضي وجوب المأمور به والمبادرة بفعله فوراً .
فمن الأدلة على أنها تقتضي الوجوب قوله تعالى : ? فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ? (1).
وجه الدلالة أن الله حذر المخالفين عن أمر الرسول صلي الله عليه وسلم أن تصيبهم فتنة وهي الزيغ أو يصيبهم عذاب أليم والتحذير بمثل ذلك لا يكون إلا على ترك الواجب فدل على أن أمر الرسول صلي الله عليه وسلم المطلق يقتضي وجوب فعل المأمور .
ومن الأدلة على أنه للفور قوله تعالى:? فاستبقوا الخيرات ?(2).
والمأمورات الشرعية خير والأمر بالاستباق إليها دليل على وجب المبادرة .
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كره تأخير الناس ما أمرهم به من النحر والحلق يوم الحديبية حتى دخل على أم سلمة – رضي الله عنها – فذكر لها ما لقي من الناس (3).
ولأن المبادرة بالفعل أحوط وأبرأ ، والتأخير له آفات ويقتضي تراكم الواجبات حتى يعجز عنها.
وقد يخرج الأمر عن الوجوب والفورية لدليل يقتضي ذلك فيخرج عن الوجوب إلى معان منها:
1- الندب كقوله تعالى : ? وأشهدوا إذا تبايعتم ? (1) فالأمر بالإشهاد على التبايع للندب ، بدليل أن النبي صلي الله عليه وسلم اشترى فرساً من أعرابي ولم يشهد (2).
2- الإباحة وأكثر ما يقع ذلك إذا ورد بعد الحظر ، أو جواباً لما يتوهم أنه محظور . مثاله بعد الحظر قوله تعالى : ? وإذا حللتم فاصطادوا ? (3) . فالأمر بالاصطياد للإباحة لوقوعه بعد الحظر المستفاد من قوله تعالى : ? غير محلي الصيد وأنتم حرم ? (4).(254/10)
ومثاله جواباً لما يتوهم أنه محظور قوله صلى الله عليه وسلم : " أفعل ولا حرج " (5). في جواب من سألوه في حجة الوداع عن تقديم أفعال الحج التي تفعل يوم العيد بعضها على بعض .
3- التهديد كقوله تعالى:? اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? (6) ? َمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً ?(7). فذكر الوعيد بعد الأمر المذكور دليل على أنه للتهديد .
ويخرج الأمر عن الفورية إلى التراخي .
مثاله : قضاء رمضان فإنه مأمور به لكن دل الدليل على أنه للتراخي فعن عائشة –رضي الله عنها – قالت : " كان يكون علىّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان وذلك لمكان رسول الله ، صلي الله عليه وسلم (1).
ولو كان التأخير محرماً ما أُقِرّت عليه عائشة رضي الله عنها .
مالا يتم المأمور إلا به :
إذا توقف فعل المأمور به على شئ كان ذلك الشيء مأموراً به فإن كان المأمور به واجباً كان ذلك الشيء واجباً ، وإن كان المأمور به مندوباً كان ذلك الشيء مندوباً .
مثال الواجب : ستر العورة فإذا توقف على شراء ثوب كان ذلك الشراء مندوباً .
وهذه القاعدة في ضمن قاعدة أعم منها وهي : " الوسائل لها أحكام المقاصد " فوسائل المأمورات مأمور بها ، ووسائل المنهيات منهي عنها .
النهي
تعريفه :
النهي : قول يتضمن طلب الكف على وجه الاستعلاء بصيغة مخصوصة هي المضارع المقرون بلا الناهية مثل قوله تعالى : ? ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة ? (1).
فخرج بقولنا : " قول " الإشارة فلا تسمى نهياً وإن أفادت معناه .
وخرج بقولنا : " طلب الكف " الأمر لأنه طلب فعل .
وخرج بقولنا : " على وجه الاستعلاء " الالتماس والدعاء وغيرهما مما يستفاد من النهي بالقرائن .(254/11)
وخرج بقولنا : " بصيغة مخصوصة هي المضارع " إلخ .. ما دل على طلب الكف بصيغة الأمر مثل دع ، اترك ، كف ونحوها فإن هذه وإن تضمنت طلب الكف لكنها بصيغة الأمر فتكون أمراً لا نهياً .
وقد يستفاد طلب الكف بغير صيغة النهي مثل أن يوصف الفعل بالتحريم ، أو الحظر ، أو القبح ، أو يذم فاعله ، أو يرتب على فعله عقاب أو نحو ذلك .
ما تقتضيه صيغة النهي :
صيغة النهي عند الإطلاق تقتضي تحريم المنهي عنه وفساده.
فمن الأدلة على أنها تقتضي التحريم قوله تعالى : ? وما آتاكم الرسول فخذوه ما نهاكم عنه فانتهوا ? (1) . فالأمر بالانتهاء عما نهى عنه يقتضي وجوب الانتهاء ومن لازم ذلك تحريم الفعل .
ومن الأدلة على أنه يقتضي الفساد في قوله صلي الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (2) . أي مردود وما نهي عنه فليس عليه أمر النبي صلي الله عليه وسلم فيكون مردوداً .
هذا وقاعدة المذهب في المنهي عنه هل يكون باطلاً أو صحيحاً مع التحريم كما يلي :
1- أن يكون النهي عائداً إلى ذات المنهي عنه أو شرطه فيكون باطلاً.
2- أن يكون النهي عائداً إلى أمر خارج لا يتعلق بذات المنهي عنه ولا شرطه فلا يكون باطلاً .
مثال العائد إلى ذات المنهي عنه في العبادة : النهي عن صوم يوم العيدين .
ومثال العائد إلى ذاته في المعاملة : النهي عن البيع بعد نداء الجمعة الثاني ممن تلزمه الجمعة .
ومثال العائد إلى شرطه في العبادة : النهي عن لبس الرجل ثوب الحرير فستر العورة شرط لصحة الصلاة فإذا سترها بثوب منهي عنه لم تصح الصلاة لعود النهي إلى شرطها .
ومثال العائد إلى شرطه في المعاملة : النهي عن بيع الحمل فالعلم بالمبيع شرط لصحة البيع فإذا باع الحمل لم يصح البيع لعود النهي إلى شرطه .
ومثال النهي العائد إلى أمر خارج في العبادة : النهي عن لبس الرجل عمامة الحرير فلو صلى وعليه عمامة حرير لم تبطل صلاته لأن النهي لا يعود إلى ذات الصلاة ولا شرطها .(254/12)
ومثال العائد إلى أمر خارج في المعاملة : النهي عن الغش فلو باع شيئاً مع الغش لم يبطل البيع لأن النهي لا يعود إلى ذات البيع ولا شرطه .
وقد يخرج النهي عن التحريم إلى معان أخرى لدليل يقتضي ذلك فمنها :
1- الكراهة ومثلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يمسن أحدكم ذكره بيمينه وهو يبول " (1) . فقد قال الجمهور إن النهي هنا للكراهة لأن الذكر بضعة من الإنسان والحكمة من النهي تنزيه اليمين .
2- الإرشاد مثل قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : " لا تدعن أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " (2) .
من يدخل في الخطاب بالأمر والنهي ؟
الذي يدخل في الخطاب بالأمر والنهي المكلف وهو:البالغ العاقل.
فخرج بقولنا : " البالغ " الصغير فلا يكلف بالأمر والنهي تكليفاً مساوياً لتكليف البالغ ، ولكنه يؤمر بالعبادات بعد التمييز تمريناً له على الطاعة ويمنع من المعاصي ليعتاد الكف عنها .
وخرج بقولنا : " العاقل " المجنون فلا يكلف بالأمر والنهي ، ولكنه يمنع مما يكون فيه تعد على غيره أو إفساد ولو فعل المأمور به لم يصح منه الفعل لعدم قصد الامتثال منه .
ولا يرد على هذا إيجاب الزكاة والحقوق المالية في مال الصغير والمجنون لأن إيجاب هذه مربوط بأسباب معينة متى وجدت ثبت الحكم فهي منظور فيها إلى السبب لا إلا الفاعل .(254/13)
والتكليف بالأمر والنهي شامل للمسلمين والكفار لكن الكافر لا يصح منه فعل المأمور به حال كفره لقوله تعالى : ? وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله ورسوله ? (1) . ولا يؤمر بقضائه إذا أسلم لقوله تعالى : ? قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ? (2) . وقوله صلي الله عليه وسلم لعمرو بن العاص : " أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله " (3). وإنما يعاقب على تركه إذا مات على الكفر لقوله تعالى عن جواب المجرمين إذا سئلوا : ? مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر قالوا لم نك من المصلين ولم نك نطعم المسكين وكنا نخوض مع الخائضين وكنا نكذب بيوم الدين حتى أتانا اليقين ? (4) .
موانع التكليف :
للتكليف موانع منها : الجهل والنسيان والإكراه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (5).
رواه ابن ماجه والبيهقي وله شواهد من الكتاب والسنة تدل على صحته.
فالجهل : عدم العلم فمتى فعل المكلف محرماً جاهلاً بتحريمه فلا شيء عليه كمن تكلم في الصلاة جاهلاً بتحريم الكلام ومتى ترك واجباً جاهلاً بوجوبه لم يلزمه قضاؤه إذا كان قد فات وقته بدليل أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يأمر المسيء في صلاته وكان لا يطمئن فيها لم يأمره بقضاء ما فات من الصلوات وإنما أمره بفعل الصلاة الحاضرة على الوجه المشروع .
والنسيان : ذهول القلب عن شئ معلوم فمن فعل محرماً ناسياً فلا شيء عليه كمن أكل في الصيام ناسياً ، ومن ترك واجباً ناسياً فلا شيء عليه حال نسيانه ولكن عليه فعله إذا ذكره لقول النبي ، صلي الله عليه وسلم : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها " (1) .(254/14)
والإكراه : إلزام الشخص بما لا يريد فمن أكره على شيء محرم فلا شيء عليه كمن أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان ، ومن أكره على ترك واجب فلا شيء عليه حال الإكراه وعليه قضاؤه إذا زال كمن أكره على ترك الصلاة حتى خرج وقتها فإنه يلزمه قضاؤها إذا زال الإكراه .
وتلك الموانع إنما هي في حق الله لأنه مبني على العفو والرحمة أما في حقوق المخلوقين فلا تمنع من ضمان ما يجب ضمانه إذا لم يرض صاحب الحق بسقوطه والله أعلم .
العام
تعريفه :
العام لغة : الشامل
واصطلاحاً : اللفظ المستغرق لجميع أفراده بلا حصر مثل ? إن الأبرار لفي نعيم ? .
فخرج بقولنا : " المستغرق لجميع أفراده " مالا يتناول إلا واحداً كالعلم ، والنكرة في سياق الإثبات كقوله تعالى : ? فتحرير رقبة ? لأنها تتناول جميع الأفراد على وجه الشمول وإنما تتناول واحداً غير معين .
وخرج بقولنا : " بلا حصر " ما يتناول جميع أفراده مع الحصر كأسماء العدد مئة وألف ونحوهما .
صيغ العموم :
صيغ العموم سبع :
1- مادل على العموم بمادته مثل : كل ، وجميع ، وكافة ، وقاطبة ، وعامة كقوله تعالى : ? إنا كلَّ شيء خلقناه بقدر ? (1) .
2- أسماء الشرط كقوله تعالى : ? من عمل صالحاً فلنفسه ? (2)
? فأينما تولوا فثم وجه الله ? (3) .
3- أسماء الاستفهام كقوله تعالى:? فمن يأتيكم بماء معين ? (1).
? ماذا أجبتم المرسلين ? (2) . ? فأين تذهبون ? (3) .
4- الأسماء الموصولة كقوله تعالى : ? والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون ? (4) . ? والذين جاهدوا فينا لندهينهم سبلنا? (5) . ? إن في ذلك لعبرة لمن يخشى ? (6) .? ولله ما في السموات وما في الأرض ? (7) .(254/15)
5- النكرة في سياق النفي ، أو النهي ، أو الشرط ، أو الاستفهام الإنكاري كقوله تعالى : ? وما من إله إلا الله ? (8) . ? واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ? (9).? إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً ? (10).?منْ إله غير الله يأتيكم بضياء?(11)
6- المعرف بالإضافة مفرداً كان أم مجموعاً كقوله تعالى : ? واذكروا نعمة الله عليكم ? (1) . ? فاذكروا الآ الله ? (2) .
7- المعرف بأل الاستغراقية مفرداً كان أم مجموعاً كقوله تعالى: ?وخلق الإنسان ضعيفاً ? (3) . ? وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم ? (4) .
وأما المعرف بأل العهدية فإنه بحسب المعهود فإن كان عامّاً فالمعرف عام وإن كان خاصّاً فالمعرف خاص ، مثال العام قوله تعالى : ? إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فسجد الملائكة كلهم أجمعون ? (5) .
ومثال الخاص قوله تعالى : ? كما أرسلنا إلى فرعون رسولاً فعصى فرعون الرسول ? (6) .
وأما المعرف بأل التي لبيان الجنس فلا يعم الأفراد فإذا قلت الرجل خير من المرأة أو الرجال خير من النساء ، فليس المراد أن كل فرد من الرجال خير من كل فرد من النساء وإنما المراد أن هذا الجنس خير من هذا الجنس وإن كان قد يوجد من أفراد النساء من هو خير من بعض الرجال .
العمل بالعام :
يجب العمل بعموم اللفظ العام حتى يثبت تخصيصه لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك .
وإذا ورد العام على سبب خاص وجب العمل بعمومه لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب إلا أن يدل دليل على تخصيص العام بما يشبه حال السبب الذي ورد من أجله فيختص بما يشبهها .
مثال ما لا دليل على تخصيصه : آيات الظهار فإن سبب نزولها ظهار أوس بن الصامت والحكم فيه عام فيه وفي غيره .(254/16)
ومثال ماد دل الدليل على تخصيصه قوله صلي الله عليه وسلم : " ليس من البر الصيام في السفر " (1) فإن سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلل عليه فقال : " ما هذا ؟ قالوا صائم . فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " فهذا العموم خاص بمن يشبه حال هذا الرجل وهو من يشق عليه الصيام في السفر والدليل على تخصيصه بذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم في السفر حيث كان لا يشق عليه ولا يفعل صلى الله عليه وسلم ما ليس ببر .
الخاص
تعريفه :
الخاص لغة : ضد العام
واصطلاحاً : اللفظ الدال على محصور بشخص أو عدد كأسماء الأعلام والإشارة والعدد .
فخرج بقولنا : " على محصور " العام .
والتخصيص لغة : ضد التعميم .
واصطلاحاً : إخراج بعض أفراد العام .
والمخصِّص – بكسر الصاد – فاعل التخصيص وهو الشارع ويطلق على الدليل الذي حصل به التخصيص .
ودليل التخصيص نوعان : متصل ومنفصل .
فالمتصل : ما لا يستقل بنفسه .
والمنفصل : ما يستقل بنفسه .
فمن المخصص المتصل :
أولاً : الاستثناء وهو لغة : من الثني وهو رد بعض الشيء إلى بعضه كثني الحبل .
واصطلاحاً : إخراج بعض أفراد العام بإلا أو إحدى أخواتها كقوله تعالى : ? إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ? (1) .
فخرج بقولنا : " بإلا أو إحدى أخواتها " التخصيص بالشرط وغيره .
شروط الاستثناء :
يشترط لصحة الاستثناء شروط منها :
1- اتصاله بالمستثنى منه حقيقة أو حكماً .
فالمتصل حقيقة : المباشر للمستثنى منه بحيث لا يفصل بينهما فاصل .
والمتصل حكماً :ما فصل بينه وبين المستثنى منه فاصل لا يمكن دفعه كالسعال والعطاس .
فإن فصل بينهما فاصل أو سكوت لم يصح الاستثناء مثل أن يقول : عبيدي أحرار ثم يسكت أو يتكلم بكلام آخر ثم يقول إلا سعيداً فلا يصح الاستثناء ويعتق الجميع .(254/17)
وقيل يصح الاستثناء مع السكوت أو الفاصل إذا كان الكلام واحداً ، لحديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : " إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض لا يعضد شوكه ولا يختلى خلاه " .فقال ابن عباس يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم وبيوهم فقال : " إلا الإذخر " (1) . وهذا القول الراجح لدلالة هذا الحديث عليه .
2- ألا يكون المستثنى أكثر من نصف المستثنى منه فلو قال : له عليَّ عشرة دراهم إلا ستة لم يصح الاستثناء ولزمته العشرة كلها .
وقيل لا يشترط ذلك فيصح الاستثناء وإن كان المستثنى أكثر من النصف فلا يلزمه في المثال المذكور إلا أربعة .
أما إن استثنى الكل فلا يصح على القولين فلو قال : له عليّ عشرة إلا عشرة لزمته العشرة كلها .
وهذا الشرط فيما إذا كان الاستثناء من عدد ، أما إن كان من صفة فيصح وإن خرج الكل أو الأكثر ، مثاله قوله تعالى لإبليس:? إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ? (1) .
واتباع إبليس من بني آدم أكثر من النصف ولو قلت : أعط من البيت إلا الأغنياء ، فتبين أن جميع من في البيت أغنياء صح الاستثناء ولم يعطوا شيئاً .
ثانياً : من المخصص المتصل : الشرط وهو لغة : العلامة .
والمراد به هنا : تعليق شيء بشيء وجوداً أو عدماً بإن الشرطية أو إحدى أخواتها .
والشرط مخصص سواء تقدم أم تأخر .
مثال المتقدم قوله تعالى في المشركين : ? فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم ? (2).
ومثال المتأخر قوله تعالى : ? والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً ? (3) .ثالثاً : الصفة وهي : ما أشعر بمعنى يختص به بعض أفراد العام من نعت أو بدل أو حال .
مثال النعت : قوله تعلى : ? فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات?(1) .(254/18)
ومثال البدل : قوله تعالى : ? فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِين ? (2) .
ومثال الحال : قوله تعالى : ? وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيما ? (3). الآية
المخصص المنفصل :
المخصص المنفصل : ما يستقل بنفسه وهو ثلاثة أشياء :
الحس ، والعقل ، والشرع .
مثال التخصيص بالحس : قوله تعالى عن ريح عاد : ? تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ ? (4) . فإن الحس دل على أنها لم تدمر السماء والأرض .
ومثال التخصيص بالعقل : قوله تعالى : ? اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ? (5). فإن العقل دل على أن ذاته تعالى غير مخلوقة .
ومن العلماء من يرى أن ما خص بالحس والعقل ليس من العام المخصوص وإنما هو من العام الذي أريد به الخصوص إذ المخصوص لم يكن مراداً عند المتكلم ولا المخاطب من أول الأمر وهذه حقيقة العام الذي أريد به الخصوص .
وأما التخصيص بالشرع فإن الكتاب والسنة يخصص كل منهما بمثلهما وبالإجماع والقياس .
مثال تخصيص الكتاب بالكتاب : قوله تعالى : ? والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ? (1) . خص بقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ? (2) .(254/19)
ومثال تخصيص الكتاب بالسنة : آيات المواريث كقوله تعالى : ? يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ? (3). ونحوها خص بقوله صلى الله عليه وسلم : " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم"(4).
ومثال تخصيص الكتاب بالإجماع:قوله تعالى:? والذين وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً?(5).
خص بالإجماع على أن الرقيق القاذف يجلد هكذا مثل كثير من الأصوليين وفيه نظر لثبوت الخلاف في ذلك ولم أجد له مثالاً سليماً.
ومثال تخصيص الكتاب بالقياس : قوله تعالى : ? الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ? (6).
خص بقياس العبد الزاني على الأمة في تنصيف العذاب والاقتصار على خمسين جلدة على المشهور .
ومثال تخصيص السنة بالكتاب:قوله صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"(1) . خص بقوله تعالى : ? قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ? (2).(254/20)
ومثال تخصيص السنة بالسنة : قوله صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر " (3). خص بقوله صلى الله عليه وسلم : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " (4).
ولم أجد مثالاً لتخصيص السنة بالإجماع .
ومثال تخصيص السنة بالقياس : قوله صلى الله عليه وسلم " البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام " (5). خص بقياس العبد على الأمة في تنصيف العذاب والاقتصار على خمسين جلدة على المشهور .
المطلق والمقيد
تعريف المطلق :
المطلق لغة : ضد المقيد .
واصطلاحاً : ما دل على الحقيقة بلا قيد كقوله تعالى:? فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ? (1).
فخرج بقولنا : " ما دل على الحقيقة " العام لأنه يدل على العموم لا على مطلق الحقيقة فقط .
وخرج بقولنا : " بلا قيد " المقيد.
تعريف المقيد :
المقيد لغة : ما جعل فيه قيد من بعير ونحوه .
واصطلاحاً : ما دل على الحقيقة بقيد كقوله تعالى : ? فتحرير رقبة مؤمنة ? (2).
فخرج بقولنا : " قيد " المطلق .
العمل بالمطلق :
يجب العمل بالمطلق على إطلاقه إلا بدليل يدل على تقييده لأن العمل بنصوص الكتاب والسنة واجب على ما تقتضيه دلالتها حتى يقوم دليل على خلاف ذلك .
وإذا ورد نص مطلق ونص مقيد وجب تقييد المطلق به إن كان الحكم واحداً وإلا عمل بكل واحد على ما ورد عليه من إطلاق أو تقييد .
مثال ما كان الحكم فيهما واحداً : قوله تعالى في كفارة الظهار :
? فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ? (1). وقوله في كفارة القتل : ? فتحرير رقبة مؤمنة ? (2). فالحكم واحد هو تحرير الرقبة فيجب تقييد المطلق في كفارة الظهار بالمقيد في كفارة القتل ويشترط الإيمان في الرقبة في كل منهما .(254/21)
ومثال ما ليس الحكم فيهما واحداً : قوله تعالى : ? والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما ? (3). وقوله في آية الوضوء : ? فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ? (4). فالحكم مختلف ففي الأولى قطع في الثانية غسل فلا تقيد الأولى بالثانية بل تبقى على إطلاقها ويكون القطع من الكوع مفصل الكف ، والغسل إلى المرافق .
المجمل والمبين
تعريف المجمل :
المجمل لغة : المبهم والمجموع
واصطلاحاً : ما يتوقف فهم المراد منه على غيره إما في تعيينه أو بيان صفته أو مقداره .
مثال ما يحتاج إلى غيره في تعيينه : قوله تعالى: ? والمطلقات يتربصن ? (1) فإن القرء لفظ مشترك بين الحيض والطهر فيحتاج في تعيين أحدهما إلى دليل .
ومثال ما يحتاج إلى غيره في بيان صفته : قوله تعالى : ? وأقيموا الصلاة? (2). فإن كيفية إقامة الصلاة مجهولة تحتاج إلى بيان .
ومثال ما يحتاج إلى غيره في بيان مقداره : قوله تعالى:?وآتو الزكاة?(3). فإن مقدار الزكاة الواجبة مجهول يحتاج إلى بيان .
تعريف المبين :
المبين لغة : المظهر والموضح .
واصطلاحاً : ما يفهم المراد منه إما بأصل الوضع أو بعد التبيين .
مثال ما يفهم المراد منه بأصل الوضع : لفظ ، سماء ، أرض ،جبل ، عدل ، ظلم ، صدق ، فهذه الكلمات ونحوها مفهومة بأصل الوضع ولا تحتاج إلى غيرها في بيان معناها .
ومثال ما يفهم المراد منه بعد التبيين قوله تعالى : ? وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ? (1). فإن الإقامة والإيتاء كل منهما مجمل ولكن الشارع بينهما فصار لفظهما بينا بعد التبيين .
العمل بالمجمل :
يجب على المكلف عقد العزم على العمل بالمجمل متى حصل بيانه .
والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين لأمته جميع شريعته أصولها وفروعها حتى ترك الأمة على شريعة بيضاء نقية ليلها كنهارها ولم يترك البيان عند الحاجة إليه أبداً .
وبيانه صلى الله عليه وسلم إما بالقول،أو بالفعل، أو بالقول والفعل جميعاً .(254/22)
مثال بيانه بالقول : إخباره عن أنصبة الزكاة ومقاديرها كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر" (2). بياناً لمجمل قوله تعالى : ? وآتوا الزكاة ? (3).
ومثال بيانه بالفعل : قيامه بأفعال المناسك أمام الأمة بياناً لمجمل قوله تعالى : ? ولله على الناس حج البيت ? (4).
وكذلك صلاة الكسوف على صفتها هي في الواقع بيان لمجمل قوله صلى الله عليه وسلم : " فإذا رأيتم منها شيئاً فصلوا " .(1)
ومثال بيانه بالقول والفعل : بيانه كيفية الصلاة فإنه كان بالقول كما في حديث المسيء في صلاته حيث قال صلى الله عليه وسلم : " إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر " الحديث (2).
وكان بالفعل أيضاً كما في حديث سهل بن سعد الساعدي – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قام على المنبر فكبر وكبر الناس وراءه وهو على المنبر . الحديث ، وفيه ثم أقبل على الناس وقال : " إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي " (3).
الظاهر والمؤول
تعريف الظاهر :
الظاهر لغة : الواضح والبين .
واصطلاحاً : ما دل بنفسه على معنى راجح مع احتمال غيره مثاله قوله صلى الله عليه وسلم : " توضئوا من لحوم الإبل " (1). فإن الظاهر من المراد بالوضوء غسل الأعضاء الأربعة على الصفة الشرعية دون الوضوء الذي هو النظافة .
فخرج بقولنا : " ما دل بنفسه على معنى " المجمل لأنه لا يدل على المعنى بنفسه .
وخرج بقولنا: " راجح " المؤول لأنه يدل على معنى مرجوح لولا القرينه .
وخرج بقولنا : " مع احتمال غيره " النص الصريح لأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً .
العمل بالظاهر
العمل بالظاهر واجب إلا بدليل يصرفه عن ظاهره لأن هذه طريقة السلف ولأنه أحوط وأبرأ للذمة وأقوى في التعبد والانقياد .
تعريف المؤول :
المؤول لغة : من الأول وهو الرجوع .
واصطلاحاً : ما حمل لفظه على المعنى المرجوح .
فخرج بقولنا : " على المعنى المرجوح " النص والظاهر .(254/23)
أما النص فلأنه لا يحتمل إلا معنى واحداً ، وأما الظاهر فلأنه محمول على المعنى الراجح .
والتأويل قسمان: صحيح مقبول ، وفاسد مردود .
1- 1- فالصحيح:ما دل عليه دليل صحيح كتأويل قوله تعالى:?واسأل القرية?(1). إلى معنى واسأل أهل القرية لأن القرية نفسها لا يمكن توجيه السؤال إليها.
2- 2- والفاسد : ما ليس عليه دليل صحيح كتأويل المعطلة قوله تعالى :
? الرحمن على العرش استوى ? (2) إلى معنى استولى . والصواب أن معناه العلو والاستقرار من غير تكييف ولا تمثيل .
النسخ
تعريفه :
النسخ لغة : الإزالة والنقل
واصطلاحاً : رفع حكم دليل شرعي أو لفظه بدليل من الكتاب والسنة .
فالمراد بقولنا : " رفع حكم " أي تغييره من إيجاب إلى إباحة ، أو من إباحة إلى تحريم مثلاً .
فخرج بذلك تخلف الحكم لفوات شرط أو وجود مانع مثل أن يرتفع وجوب الزكاة لنقص النصاب أو وجوب الصلاة لوجود الحيض فلا يسمى ذلك نسخاً .
والمراد بقولنا : " أو لفظة " لفظ الدليل الشرعي لأن النسخ إما أن يكون للحكم دون اللفظ ، أو بالعكس ، أو لهما جميعاً كما سيأتي .
وخرج بقولنا : " بدليل من الكتاب والسنة " ما عداهما من الأدلة كالإجماع والقياس فلا ينسخ بهما .
والنسخ جائز عقلاً وواقع شرعاً .
أما جوازه عقلاً : فلأن الله بيده الأمر وله الحكم لأنه الرب المالك فله أن شرع لعباده ما تقتضيه حكمته ورحمته وهل يمنع العقل أن يأمر المالك مملوكه بما أراد ؟ ! ثم إن مقتضى حكمة الله ورحمته بعبادة أن يشرع لهم ما يعلم تعالى أن فيه قيام مصالح دينهم ودنياهم والمصالح تختلف بحسب الأحوال والأزمان فقد يكون الحكم في وقت أو حال .
أصلح للعباد ويكون غيره في وقت أو حال أخرى أصلح والله عليم حكيم .
وأما وقوعه شرعاً فلأدلة منها :
1- قوله تعالى : ? ماننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ? (1) .
2- قوله تعالى : ? الآن خفف الله عنكم ? (2) . ? فالآن باشروهن ? (3)(254/24)
فإن هذا النص في تغيير الحكم السابق .
3- قوله صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزورها" (4)
فهذا نص في نسخ النهي عن زيارة القبور .
ما يمتنع نسخة :
1- الأخبار لأن النسخ محله الحكم ولان نسخ أحد الخبرين يستلزم أن يكون أحدهما كذباً والكذب مستحيل في أخبار الله ورسوله اللهم إلا أن يكون الحكم أتى بصورة الخبر فلا يمتنع نسخة كقوله تعالى : ? إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ? (5) . الآية ، فإن هذا خبر معناه الأمر ولذا جاء نسخه في الآية التي بعدها وهي قوله تعالى : ? الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مائتين ?(6). الآية .
2- الأحكام التي تكون مصلحة في كل زمان ومكان كالتوحيد وأصول الإيمان وأصول العبادات ومكارم الأخلاق من الصدق والعفاف والكرم والشجاعة ونحو ذلك فلا يمكن نسخ الأمر بها وكذلك لا يمكن نسخ النهي عما هو قبيح في كل زمان ومكان كالشرك والكفر ومساوئ الأخلاق من الكذب والفجور والبخل والجبن ونحو ذلك ، إذ الشرائع كلها لمصالح العباد ودفع المفاسد عنهم .
شروط النسخ :
يشترط للنسخ فيما يمكن نسخه شروط منها:
تعذر الجمع بين الدليلين ، فإن أمكن الجمع فلا نسخ لإمكان العمل بكل منهما .
العلم بتأخر الناسخ ويعلم ذلك إما بالنص أو بخبر الصحابي ، أو بالتاريخ .
مثال ما علم تأخره بالنص : قوله صلى الله عليه وسلم : " كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وأن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة " (1).
ومثال ماعلم بخبر الصحابي : قول عائشة رضي الله عنها – " كان فيما أنزل القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات"(2).
ومثال ما علم بالتاريخ قوله تعالى : ? الآن خفف الله عنكم ? (3). الآية ، فقوله ?الآن ? يدل على تأخر هذا الحكم وكذا لو .
ذكر أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، حكم بشيء قبل الهجرة ثم حكم بعدها بما يخالفه فالثاني ناسخ .(254/25)
1- ثبوت الناسخ واشتراط الجمهور أن يكون أقوى من المنسوخ فلا ينسخ المتواتر عندهما بالآحاد وإن كان ثابتاً ، والأرجح أنه لا يشترط أن يكون الناسخ أقوى لأن محل النسخ الحكم ولايشترط في ثبوته التواتر .
أقسام النسخ :
ينقسم النسخ باعتبار النص المنسوخ إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ما نسخ حكمه وبقي لفظه وهذا هو الكثير من القرآن .
مثاله : آيتا المصابرة وهما قوله تعالى : ? إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين?(1).الآية ، نسخ حكمها بقوله تعالى:?الآن خفف الله عنكم ? (2).
وحكمه نسخ الحكم دون اللفظ بقاء ثواب التلاوة وتذكير الأمة بحكمة النسخ .
الثاني : ما نسخ لفظه وبقي حكمه كأية الرجم فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : " كان فيما أنزل الله آية الرجم فقرأناهاوعقلناها ووعيناها ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء وقامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف " .
وحكمه نسخ اللفظ دون الحكم اختبار الأمة في العمل بمالا يجدون لفظه في القرآن وتحقيق إيمانهم بما أنزل الله تعالى عكس حال اليهود الذين حاولوا كتم نص الرجم في التوراة .
الثالث : ما نسخ حكمه ولفظه : كنسخ عشر الرضعات السابق في حديث عائشة – رضي الله عنها .
وينقسم النسخ باعتبار الناسخ أربعة أقسام :
الأول : نسخ القرآن بالقرآن : ومثاله آيتا المصابرة .
الثاني : نسخ القرآن بالسنة : ولم أجد له مثالاً سليماً .
الثالث : نسخ السنة بالقرآن : ومثاله نسخ استقبال بيت المقدس الثابت بالسنة باستقبال الكعبة الثابت بقوله تعالى:?فول وجهك شطر المسجد الحرام?(1).(254/26)
الرابع : نسخ السنة بالسنة ، ومثاله قوله صلى الله عليه وسلم : " كنت نهيتكم عن النبيذ في الأوعية فاشربوا فيما شئتم ولا تشربوا مسكراً " (2).
3- التطور في التشريع حتى يبلغ الكمال .
4- اختبار المكلفين باستعدادهم لقبول التحول من حكم إلى آخر ورضاهم بذلك.
5- اختبار المكلفين بقيامهم بوظيفة الشكر إذا كان النسخ إلى أخف ووظيفة الصبر إذا كان النسخ إلى أثقل .
الاخبار
تعريف الخبر :
الخبر لغة : النبأ .
والمراد به هنا : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو ووصف .
وقد سبق الكلام على أحكام كثيرة من القول .
وأما الفعل فإن فعله صلى الله عليه وسلم أنواع :
الأول : ما فعله بمقتضى الجبلة كالأكل والشرب والنوم فلا حكم له في ذاته ، ولكن قد يكون مأموراً به أو منهياً عنه لسبب ، وقد يكون له صفة مطلوبة كالأكل باليمين أو منهي عنها كالأكل بالشمال .
الثاني : ما فعله بحسب العادة كصفة اللباس فمباح في حد ذاته وقد يكون مأموراً به أو منهّياً عنه لسبب .
الثالث : ما فعله على وجه الخصوصية فيكون مختصاً به كالوصال في الصوم والنكاح بالهبة .
ولا يحكم بالخصوصية إلا بدليل لأن الأصل التأسي به .
الرابع : ما فعله تعبداً فواجب عليه حتى يحصل البلاغ لوجوب التبليغ عليه ثم يكون مندوباً في حقه وحقنا على أصح الأقوال وذلك لأن فعله تعبداً يدل على مشروعيته والأصل عدم العقاب على الترك فيكون مشروعاً لا عقاب في تركه وهذا حقيقة المندوب .
مثال ذلك : حديث عائشة أنها سئلت بأي شئ كان النبي صلى الله عليه وسلم يبدأ إذا دخل بيته ؟ قالت : بالسواك (1) ، فليس في السواك عند دخول البيت إلا مجرد الفعل فيكون مندوباً .
ومثال آخر : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخلل لحيته في الوضوء(2).
فتخليل اللحية ليس داخلاً في غسل الوجه حتى يكون بياناً لمجمل وإنما هو فعل مجرد فيكون مندوباً .(254/27)
الخامس : ما فعله بياناً لمجمل من نصوص الكتاب أو السنة فواجب عليه حتى يحصل البيان لوجوب التبليغ عليه ثم يكون له حكم ذلك النص المبين في حقه وحقنا فإن كان واجباً كان ذلك الفعل واجباً وإن كان مندوباً كان ذلك الفعل مندوباً .
مثال الواجب : أفعال الصلاة الواجبة التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم بياناً لمجمل قوله تعالى : ( وأقيموا الصلاة )(3) .
ومثال المندوب :صلاته صلى الله عليه وسلم ، ركعتين خلف المقام بعد أن فرغ من الطواف بياناً لقوله تعالى:( واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى).(4) حيث تقدم صلى الله عليه وسلم إلى مقام إبراهيم وهو يتلو هذه الآية ، والركعتان خلف المقام سنة .
وأما تقريره صلى الله عليه وسلم على الشيء فهو دليل على جوازه على الوجه الذي أقره قولاً كان أم فعلاً مثال إقراره على القول : إقراره الجارية التي سألها أين الله ؟ .
قالت : في السماء (1).
ومثال إقراره على الفعل : إقراره صاحب السرية الذي كان يقرأ لأصحابه فيختم بقل هو الله أحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " سلوه لأي شيء كان يصنع ذلك" . فسألوه فقال لأنها صفة الرحمن وأنا أحب أن أقرأها فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أخبروه أن الله يحبه " (2).
ومثال آخر : إقراره الحبشة يلعبون في المسجد (3)من أجل التأليف على الإسلام .
فأما ما وقع ولم يعلم به فإنه لا ينسب إليه ولكنه حجة لإقرار الله له ولذلك استدل الصحابة – رضي الله عنهم – على جواز العزل بإقرار الله لهم عليه . قال جابر – رضي الله عنه – " كنا نعزل والقرآن ينزل " متفق عليه . زاد مسلم قال سفيان : " ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهانا عنه القرآن " .
ويدل على أن إقرار الله حجة أن الأفعال المنكرة التي كان المنافقون يخفونها يبينها الله تعالى وينكرها عليهم فدل على أن ما سكت الله عنه فهو جائز .
أقسام الخبر باعتبار من يضاف إليه :(254/28)
ينقسم الخبر باعتبار من يضاف إليه إلى ثلاثة أقسام : مرفوع ، وموقوف ، ومقطوع .
1- فالمرفوع : ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم حقيقة أو حكماً .
فالمرفوع حقيقة : قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراره .
والمرفوع حكماً : ما أضيف إلى سنته أو عهده أو نحو ذلك مما لا يدل على مباشرته إياه .
ومنه قول الصحابي أمرنا أو نهينا أو نحوهما كقول ابن عباس – رضي الله عنهما – " أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض(1). وقول أم عطية " نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا (2).
2- والموقوف : ما أضيف إلى الصحابي ولم يثبت له حكم الرفع .
وهو حجة على القول الراجح إلا أن يخالف نصاً أو قول صحابي آخر فإن خالف نصَّاً أخذ بالنص وإن خالف قول صحابي آخر أخذ بالراجح منهما .
والصحابي : من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك .
3- والمقطوع : ما أضيف إلى التابعي فمن بعده .
والتابعي :من اجتمع بالصحابي مؤمناً بالرسول صلى الله عليه وسلم ومات على ذلك .
أقسام الخبر باعتبار طرقه :
ينقسم الخبر باعتبار طرقه متواترة وآحاد :
1- فالمتواتر : ما رواه جماعة كثيرون يستحيل في العادة أن يتواطئوا على الكذب وأسندوه إلى شئ محسوس .
مثاله : قوله ، صلى الله عليه وسلم : " من كذب على ّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "(1).
3- والآحاد : ما سوى المتواتر وهو من حيث الرتبة ثلاثة أقسام : صحيح ، وحسن ، وضعيف .
فالصحيح : ما نقله عدل تام الضبط بسند متصل وخلا من الشذوذ والعلة القادحة .
والحسن : ما نقله عدل خفيف الضبط بسند متصل وخلا من الشذوذ والعلة القادحة .
ويصل إلى درجة الصحيح إذا تعددت طرقه ويسمى ( صحيحاً لغيره ) .
والضعيف ما خلا من شرط الصحيح والحسن .
ويصل إلى درجة الحسن إذا تعددت طرقه على وجه يجبر بعضها بعضاً ويسمى (حسناً لغيره ) .(254/29)
وكل هذه الأقسام حجة سوى الضعيف فليس بحجة لكن لا بأس بذكره في الشواهد ونحوها .
صيغ الأداء .
للحديث تحمل وأداء
فالتحمل : أخذ الحديث عن الغير .
والأداء : إبلاغ الحديث إلى الغير .
وللأداء صيغ منها :
1- حدثني : لمن قرأ عليه الشيخ .
2- أخبرني : لمن قرأ عليه الشيخ أو قرأ هو على الشيخ .
3- أخبرني : إجازة أو أجاز لي : لمن روى بالإجازة دون القراءة .
والإجازة : إذنه للتلميذ أن يروي عنه ما رواه وإن لم يكن بطريق القراءة .
4- العنعنة وهي : رواية الحديث بلفظ عن .
وحكمها الاتصال إلا من معروف بالتدليس فلا يحكم فيها بالاتصال إلا أن يصرح بالتحديث .
هذا وللبحث في الحديث ورواته أنواع كثيرة في علم المصطلح وفيماأشرنا إليه كفاية أن شاء الله تعالى .
الإجماع
تعريفه :
الإجماع لغة : العزم والاتفاق .
واصطلاحاً : اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي .
فخرج بقولنا: " اتفاق " وجود خلاف ولو من واحد فلا ينعقد معه الإجماع .
وخرج بقولنا " مجتهدي " العوام والمقلدون فلا يعتبر وفاقهم ولا خلافهم .
وخرج بقولنا : " هذه الأمة " إجماع غيرها فلا يعتبر .
وخرج بقولنا : " بعد النبي صلى الله عليه وسلم " ، إتفاقهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فلا يعتبر إجماعاً من حيث كونه دليلاً لأن الدليل حصل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ، من قول أو فعل أو تقرير ولذلك إذا قال الصحابي كنا نفعل أو كانوا يفعلون كذا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان مرفوعاً حكماً لا نقلاً للإجماع .
وخرج بقولنا : " على حكم شرعي " إتفاقهم على حكم عقلي أو عادي فلا مدخل له هنا إذ البحث في الإجماع كدليل من أدلة الشرع .
1 – قوله تعالى:( وكذلك جعالناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس)(1).
فقوله : ( شهداء على الناس ) يشمل الشهادة على أعمالهم وعلى أحكام أعمالهم والشهيد قوله مقبول .
قوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء ) (1).(254/30)
دل على أن ما اتفقوا عليه حق .
3- قوله صلى الله عليه وسلم : " لا تجتمع أمتي على ضلالة " (2).
5- أن نقول : إجماع الأمة على شيء إما أن يكون حقّاً وإما أن يكون باطلاً ، فإن كان حقّاً فهو حجة ، وإن كان باطلاً فكيف يجوز أن تجمع هذه الأمة التي هي أكرم الأمم على الله منذ عهد نبيها إلى قيام الساعة على أمر باطل لا يرضى به الله ؟ ! هذا من أكبر المحال .
أنواع الإجماع :
الإجماع نوعان : قطعي ، وظني .
1- فالقطعي : ما يعلم وقوعه من الأمة بالضرورة كالإجماع على وجوب الصلوات الخمس ، وتحريم الزنى ، وهذا النوع لا أحد ينكر ثبوته ولا كونه حجة ويكفر مخالفة إذا كان ممن لا يجهله .
2- والظني : ما لايعلم إلا بالتتبع والاستقراء وقد اختلف العلماء في إمكان ثبوته وأرجح الأقوال في ذلك رأي شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في العقيدة الواسطية : " والإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة " . أهـ .
واعلم أن الأمة أن تجمع على خلاف دليل صحيح صريح غير منسوخ فإنها لا تجمع إلا على حق وإذا رأيت إجماعاً تظنه مخالفاً لذلك فانظر فإما أن يكون الدليل غير صريح ، أو غير صحيح ، أو منسوخاً ، أو في المسألة خلاف لم تعلمه .
شروط الإجماع :
للإجماع شروط منها :
1- أن يثبت بطريق صحيح بأن يكون إما مشهوراً بين العلماء أو ناقلة ثقة واسع الإطلاع .
2- ألا يسبقه خلاف مستقر فإن سبقه ذلك فلا إجماع لأن الأقوال لا تبطل بموت قائليها .
فالإجماع لا يرفع الخلاف السابق وإنما يمنع من حدوث خلاف .
هذا هو القول الراجح لقوة مأخذه وقيل لا يشترط ذلك فيصح أن ينعقد في العصر الثاني على أحد الأقوال السابقة ويكون حجة على من بعده .(254/31)
ولا يشترط على رأي الجمهور انقراض عصر المجمعين فينعقد الإجماع من أهله بمجرد اتفاقهم ولايجوز لهم ولا لغيرهم مخالفته بعد لأن الأدلة على أن الإجماع حجة ليس فيها اشتراط انقراض العصر ، ولأن الإجماع حصل ساعة اتفاقهم فما الذي يرفعه ؟
وإذا قال بعض المجتهدين قولاً أو فعل فعلاً واشتهر ذلك بين أهل الاجتهاد ولم ينكروه مع قدرتهم على الإنكار فقيل : يكون إجماعاً .
وقيل : يكون حجة لا إجماعاً . وقيل : ليس بإجماع ولا حجة . وقيل : إن انقرضوا قبل الإنكار فهو إجماع لأن استمرار سكوتهم إلى الانقراض مع قدرتهم على الإنكار دليل على موافقتهم وهذا أقرب الأقوال .
القياس
تعريفه :
القياس لغة : التقدير والمساواة .
واصطلاحاً : تسوية فرع بأصل في حكم لعله جامعه بينهما .
فالفرع : المقيس .
والأصل : المقيس عليه .
والحكم : ما اقتضاه الدليل الشرعي من وجوب أو تحريم أو صحة أو فساد أو غيرها .
والعلة : المعنى الذي ثبت بسببه حكم الأصل ، وهذه الأربعة أركان القياس ، والقياس أحد الأدلة التي ثبت بها الأحكام الشرعية .
وقد دل على اعتباره دليلاً شرعيّاً الكتاب والسنة وأقوال الصحابة .
فمن أدلة الكتاب :
1- قوله تعالى : ( الله الذي انزل الكتاب بالحق والميزان )(1).
والميزان ما توزن به الأمور ويقايس به بينها .
2- قوله تعالى : ( كما بدأنا أول خلق نعيده ) (2)( والله الذي أرسل الرياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ) (3). فشبه الله تعالى إعادة الخلق بابتدائه .
وشبه إحياء الأموات بإحياء الأرض وهذا هو القياس .
ومن أدلة السنة :
1- قوله صلى الله عليه وسلم لمن سألته عن الصيام عن أمها بعد موتها: "ارأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان يؤدي ذلك عنها " قالت : نعم . قال : " فصومي عن أمك " (1) .(254/32)
2- أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " يا رسول الله ، ولد لي غلام أسود ، فقال هل لك من إبل ؟ قال نعم . قال : ما ألوانها ؟ قال حمر . قال : هل فيها من أورق ؟ قال : نعم . قال : فأنى ذلك ؟ قال : لعله نزعه عرق . قال : فلعل ابنك هذا نزعه عرق " (2) .
وهكذا جميع الأمثال الواردة في الكتاب والسنة دليل على القياس لما فيها من اعتبار الشيء بنظيره .
ومن أقوال الصحابي : ما جاء عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في كتابة إلى أبي موسى الأشعري في القضاء قال : ثم الفهم الفهم فيما أدلى عليك مما ورد عليك مما ليس في قرآن ولا سنة ثم قايس الأمور عندك واعرف الأمثال ثم أعمد فيما ترى إلى أحبها إلى الله وأشبهها بالحق.
قال ابن القيم : وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول .
وحكى المزني أن الفقهاء في عصر الصحابة إلى يومه أجمعوا على أن نظير الحق حق ونظير الباطل باطل ، واستعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام .
شروط القياس :
للقياس شروط منها :
1- أن لا يصادم دليلاً أقوى منه فلا اعتبار بقياس يصادم النص أو الإجماع أو أقوال الصحابة إذا قلنا قول الصحابي حجة ويسمى القياس المصادم لما ذكر ( فاسد الاعتبار ) .
مثاله : أن يقال يصح أن تزوج المرأة الرشيدة لنفسها بغير ولي قياساً على صحة بيعها ما لها بغير ولي .
فهذا قياس فاسد الاعتبار لمصادمته وهو قوله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلى بولي "(1).
2- أن يكون حكم الأصل ثابتاً بنص أو إجماع فإن كان ثابتاً بقياس لم يصح القياس عليه ، وإنما يقاس على الأصل الأول لأن الرجوع إليه أولى ولأن القياس على الفرع ثم الفرع على الأصل تطويل بلا فائدة .
مثال ذلك : أن يقال يجري الربا في الذرة قياساً على الرز ويجري في الرز قياساً على البر ، فالقياس هكذا غير صحيح ولكن يقال يجري الربا في الذرة قياساً على البر ليقاس على أصل ثابت بنص .(254/33)
3- أن يكون الحكم الأصل عله معلومة ليمكن الجمع بين الأصل والفرع فيها فإن كان حكم الأصل تعبديّاً محضاً لم يصح القياس عليه .
مثال ذلك : أن يقال لحم النعامة ينقض الوضوء قياساً على لحم البعير لمشابهتها له ، فيقال هذا القياس غير صحيح لأن حكم الأصل ليس له عله معلومة وإنما هو تعبدي محض على المشهور .
4- أن تكون العلة مشتملة على معنى مناسب للحكم يعلم من قواعد الشرع باعتباره كالإسكار في الخمر .
فإن كان المعنى وصفاً طردياً لا مناسبة فيه لم يصح التعليل به كالسواد والبياض مثلاً .
مثال ذلك : حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن بريرة خيرت على زوجها حين عتقت قال : وكان زوجها عبداً أسود(1). فقوله"أسود " وصف طردي لا مناسبة فيه للحكم ولذلك يثبت الخيار للأمة إذا عتقت تحت عبد وإن كان أبيض ولايثبت لها إذا عتقت تحت حر وإن كان أسود .
5- أن تكون العلة موجودة في الفرع كوجودها في الأصل كالإيذاء في ضرب الوالدين المقيس على التأفيف فإن لم تكن العلة موجودة في الفرع لم يصح القياس .
مثال ذلك : أن يقال العلة في تحريم الربا في كونه مكيلاً ثم يقال يجري الربا في التفاح قياساً على البر فهذا القياس غير صحيح لأن العلة غير موجودة في الفرع إذ التفاح غير مكيل .
أقسام القياس :
ينقسم القياس إلى جلي ّ وخفي ّ .
1- فالجلي : ما ثبتت عليه بنص أو إجماع أو كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع .
مثال ما ثبتت علته بالنص : قياس المنع من الاستجمار بالدم النجس الجاف على المنع من الاستجمار بالروثة فإن عله حكم الأصل ثابتة بالنص حيث أتى ابن مسعود – رضي الله عنه – إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحجرين وروثة ليستنجي بهن فأخذ الحجرين وألقى الروثة وقال " هذا ركس " (1)، والركس النجس .(254/34)
ومثال ما ثبتت علته بالإجماع : نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يقضي القاضي هو غضبان (2)، فقياس منع الحاقن من القضاء على منع الغضبان منه من القياس الجلي لثبوت عله الأصل بالإجماع وهي تشويش الفكر وانشغال القلب .
ومثال ما كان مقطوعاً فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع: قياس تحريم إتلاف مال اليتيم باللبس على تحريم إتلافه بالأكل للقطع بنفي الفارق بينهما .
2- والخفي : ما ثبتت علته باستنباط ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع .
مثاله : قياس الأشنان على البر في تحريم الربا بجامع الكيل فإن التعليل بالكيل لم يثبت بنص ولا إجماع ولم يقطع فيه بنفي الفارق بين الأصل والفرع إذ من الجائز أن يفرق بينهما بأن البر مطعوم بخلاف الأشنان .
قياس الشبه :
ومن القياس ما يسمى:بـ ( قياس الشبه ) وهو أن يتردد فرع بين أصلين مختلفي الحكم وفيه شبه بكل منهما فيلحق بأكثرهما شبهاً به.
مثال ذلك : العبد هل يملك بالتمليك قياساً على الحر أو لا يملك قياساً على البهيمة ؟ .
إذا نظرنا إلى هذين الأصلين الحر والبهيمة وجدنا أن العبد متردد بينهما فمن حيث أنه إنسان عاقل يثاب ويعاقب وينكح ويطلق يشبه الحر ، ومن حيث أن يباع ويرهن ويوقف ويوهب ويورث ولا يودع ويضمن بالقيمة ويتصرف فيه يشبه البهيمة وقد وجدنا أنه من حيث التصرف المالي أكثر شبهاً بالبهيمة فيلحق بها .
وهذا القسم من القياس ضعيف إذ ليس بينه وبين الأصل عله مناسبة سوى أنه يشبهه في أكثر الأحكام مع انه ينازعه أصل آخر .
قياس العكس :
ومن القياس ما يسمى بـ ( قياس العكس ) وهو : إثبات نقيض حكم الأصل للفرع لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه .
ومثلوا لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : " وفي بضع أحدكم صدقة قالوا :( يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر ؟ ! قال أرايتم لو
وضعها في حرام أكان له وزر فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر (1).(254/35)
فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم للفرع وهو الوطء الحلال نقيض حكم الأصل وهو الوطء الحرام لوجود نقيض علة حكم الأصل فيه أثبت للفرع أجراً لأنه وطء حلال كما أن في الأصل وزراً لأنه وطء حرام .
التعارض
تعريفه :
التعارض لغة : التقابل والتمانع .
واصطلاحاً : تقابل الدليلين بحيث يخالف أحدهما الآخر .
وأقسام التعارض أربعة :
القسم الأول : أن يكون بين دليلين عامين وله أربع حالات :
1- أن يمكن الجمع بينهما بحيث يحمل كل منهما على حال لا يناقض الآخر فيها فيجب الجمع .
مثال ذلك : قول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ? وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم ? (1) ، وقوله : ? إنك لا تهدي من أحببت ? (2) ، والجمع بينهما أن الآية الأولى يراد بها هداية الدلالة إلى الحق وهذه ثابتة للرسول صلى الله عليه وسلم .
والآية الثانية يراد بها هداية التوفيق للعمل وهذه بيد الله تعالى لا يملكها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا غيره .
2- فإن لم يمكن الجمع فالمتأخر ناسخ إن علم التاريخ فيعمل به دون الأول .
مثال ذلك : قوله تعالى في الصيام : ( فمن تطوع خيراً فهو خير له وإن تصوموا خير لكم ) (1) . فهذه الآية تفيد التخيير بين الإطعام والصيام مع ترجيح الصيام وقوله تعالى : ( فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام آخر ) (2) تفيد تعيين الصيام أداء في حق غير المريض والمسافر وقضاء في حقهما لكنها متأخرة عن الأولى فتكون ناسخة لها كما يدل على ذلك حديث سلمة بن الأكوع الثابت في الصحيحين وغيرهما .
3- فإن لم يعلم التاريخ عمل بالراجح إن كان هناك مرجح .
مثال ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم : " من مس ذكره فليتوضأ " (3) وسئل صلى الله عليه وسلم عن الرجل يمس ذكره أعليه الوضوء ؟ قال : " لا إنما هو بضعة منك " (4) فيرجح الأول لأنه أحوط ولأنه أكثر طرقاً ومصححوه أكثر ولأنه ناقل عن الأصل ففيه زيادة علم .(254/36)
4- فإن لم يوجد مرجح وجب التوقف ولا يوجد له مثال صحيح
القسم الثاني : أن يكون التعارض بين خاصين فله أربع حالات أيضاً .
1- أن يمكن الجمع بينهما فيجب الجمع .
مثاله : حديث جابر - رضي الله عنه - في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم .
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر يوم النحر بمكة (1) ، وحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بمنى ، فيجمع بينهما بأنه صلاها بمكة ولما خرج إلى منى أعادها بمن فيها من أصحابه (2) .
2- فإن لم يمكن الجمع فالثاني ناسخ إن علم التاريخ .
مثاله : قوله تعالى : ( يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك ) (3) الآية . وقوله تعالى : ( لا يحل لك النساء من بعد ) (4) . فالثانية ناسخة للأولى على أحد الأقوال .
3- فإن لم يمكن عمل بالراجح إن كان هناك مرجح .
مثاله : حديث ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها هو حلال (5) وحديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو محرم (6) .
فالراجح الأول لأن ميمونة صاحبة القصة فهي أدرى بها ، ولأن حديثها مؤيد بحديث أبي رافع - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهو حلال قال : وكنت الرسول بينهما (7)
.4- فإن لم يوجد مرجح وجب التوقف ولا يوجد له مثال صحيح .
القسم الثالث:أن يكون التعارض بين عام وخاص فيخصص العام بالخاص.
مثال قوله صلى الله عليه وسلم : " فيما سقت السماء العشر (1) " وقوله : " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة " . فيخصص الأول بالثاني ولا تجب الزكاة إلا فيما بلغ خمسة أوسق.
القسم الرابع : أن يكون التعارض بين نصين أحدهما أعم من الآخر من وجه وأخص من وجه فله ثلاث حالات :
1- أن يقوم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر فيخصص به .(254/37)
مثاله : قوله تعالى : ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن ) (2) 0 وقوله : ? وأولات الأحمال ? (3) . فالأولى خاصة في المتوفي عنها عامة في الحامل وغيرها ، والثانية خاصة في الحامل عامة في المتوفي عنها وغيرها لكن دل الدليل على تخصيص عموم الأولى بالثانية وذلك أن سبيعة الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال فأذن لها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتزوج (4).وعلى هذا فتكون عدة الحامل إلى وضع الحمل سواء كانت متوفى عنها أم غيرها.
2- وإن لم يقم دليل على تخصيص عموم أحدهما بالآخر عمل بالراجح .
مثال ذلك : قوله صلى الله عليه وسلم :" إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين " (1) وقوله صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس " (2) .
فالأول خاص في تحية المسجد عام في الوقت ، والثاني خاص في الوقت عام في الصلاة يشمل تحية المسجد وغيرها لكن الراجح تخصيص عموم الثاني بالأول فتجوز تحية المسجد في الأوقات المنهي عن عموم الصلاة فيها ، وإنما رجحنا ذلك لأن تخصيص عموم الثاني قد ثبت بغير تحية المسجد كقضاء المفروضة وإعادة الجماعة فضعف عمومه .
3- وإن لم يقم دليل ولا مرجح لتخصيص عموم أحدهما بالثاني وجب العمل بكل منهما فيما لا يتعارضان فيه والتوقف في الصورة التي يتعارضان فيها .
لكن لا يمكن التعارض بين النصوص في نفس الأمر على وجه لا يمكن فيه الجمع ولا النسخ ولا الترجيح لأن النصوص لا تتناقض والرسول صلى الله عليه وسلم قد بين وبلغ لكن قد يقع ذلك بحسب نظر المجتهد لقصوره والله أعلم .
الترتيب بين الأدلة
إذا اتفقت الأدلة السابقة ( الكتاب والسنة والإجماع والقياس ) على حكم أو انفرد أحدها من غير معارض وجب إثباته ، وإن تعارضت وأمكن الجمع وجب الجمع وإن لم يكن الجمع عمل بالنسخ إن تمت شروطه .
وإن لم يمكن النسخ وجب الترجيح .
فيرجح من الكتاب والسنة :(254/38)
النص على الظاهر .
والظاهر على المؤول .
والمنطوق على المفهوم .
والمثبت على النافي .
والناقل عن الأصل على المبقي عليه لأنه مع الناقل زيادة علم والعام المحفوظ (وهو الذي لم يخصص ) على غير المحفوظ .
وما كانت صفات القبول فيه أكثر على ما دونه .
وصاحب القصة على غيره .
ويقدم من الإجماع : القطعي على الظني.
ويقدم من القياس : الجلي على الخفي .
المفتي والمستفتي
المفتي : هو المخبر عن حكم شرعي
والمستفتي : هو السائل عن حكم شرعي
شروط الفتوى :
يشترط لجواز الفتوى شروط منها :
1- أن يكون المفتي عارفاً بالحكم يقيناً أو ظنّاً أو راجحاً إلا وجب عليه التوقف .
2- أن يتصور السؤال تصوّرا ًتاماً ليتمكن من الحكم عليه فإن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .
فإذا أشكل عليه معنى كلام المستفتي سأله عنه وإن كان يحتاج إلى تفصيل استفصله أو ذكر التفصيل في الجواب ، فإذا سئل عن امرئ هلك عن بنت وأخ وعم وشقيق فليسأل عن الأخ هل هو لأم أو لا ؟ أو يفصل في الجواب ، فإن كان لأم فلا شيء له ، والباقي بعد فرض البنت للعم وإن كان لغير أم فالباقي بعد فرض البنت له ولا شيء للعم .
3- أن يكون هادئ البال ليتمكن من تصور المسألة وتطبيقها على الأدلة الشرعية فلا يفتي حال انشغال فكرة بغضب أو هم أو ملل أو غيرها .
ويشترط لوجوب الفتوى شروط منها :
1- وقوع الحادثة المسؤول عنها فإن لم تكن واقعة لم تجب الفتوى لعدم الضرورة إلا أن يكون قصد السائل التعلم فإنه لا يجوز كتم العلم بل يجيب عنه متى سئل بكل حال .
2- ألا يعلم من حال السائل أن قصده التعنت أو تتبع الرخص أو ضرب آراء العلماء بعضها ببعض أو غير ذلك من المقاصد السيئة فإن علم ذلك من حال السائل لم تجب الفتوى .
3- ألا يترتب على الفتوى ما هو أكثر منها ضرراً فإن ترتب عليها ذلك وجب الإمساك عنها دفعاً لأشد المفسدتين بأخفهما .
ما يلزم المستفتي :
يلزم المستفتي أمران :(254/39)
الأول : أن يريد باستفتائه الحق والعمل به لا تتبع الرخص وإفحام المفتي وغير ذلك من المقاصد السيئة .
الثاني : ألا يستفتي إلا من يعلم أو يغلب على ظنه أنه أهل للفتوى وينبغي أن يختار أوثق المفتين علماً وورعاً وقيل يجب ذلك .
الاجتهاد
تعريفه :
الاجتهاد لغة : بذل الجهد لإدراك أمر شاق
واصطلاحاً : بذل الجهد لإدراك حكم شرعي .
والمجتهد : من بذل جهده لذلك .
شروط الاجتهاد
للاجتهاد شروط منها :
1- أن يعلم من الأدلة الشرعية ما يحتاج إليه في اجتهاده كآيات الأحكام وأحاديثها.
2- أن يعرف ما يتعلق بصحة الحديث وضعفه كمعرفة الإسناد ورجاله وغير ذلك.
3- أن يعرف الناسخ والمنسوخ ومواقع الإجماع حتى لا يحكم بمنسوخ أو مخالف للإجماع .
4- أن يعرف من الأدلة ما يختلف به الحكم من تخصيص أو تقييد أو نحوه حتى لا يحكم بما يخالف ذلك .
5- أن يعرف من اللغة وأصول الفقه ما يتعلق بدلالات الألفاظ كالعام والخاص والمطلق والمقيد والمجمل والمبين ونحو ذلك ليحكم بما تقتضيه تلك الدلالات .
6- أن يكون عنده قدرة يتمكن بها من استنباط الأحكام من أدلتها .
والاجتهاد قد يتجزأ فيكون في باب واحد من أبواب العلم أو في مسألة من مسائله .
ما يلزم المجتهد
يلزم المجتهد أن يبذل جهده في معرفة الحق ثم يحكم بما ظهر له فإن أصاب فله أجران :
أجر على اجتهاده وأجر على إصابة الحق لأن في إصابة الحق إظهاراً له وعملاً به ، وإن أخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور له لقوله صلى الله عليه وسلم: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"(1) .
وإن لم يظهر له الحكم وجب عليه التوقف وجاز التقليد حينئذ لضرورة .
التقليد
تعريفه :
التقليد لغة : وضع الشيء في العنق محيطاً به كالقلادة .
واصطلاحاً : اتباع من ليس قوله حجة .(254/40)
فخرج بقولنا : " من ليس قوله حجة " اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، واتباع أهل الإجماع ، واتباع الصحابي إذا قلنا أن قوله حجة ، فلا يسمى اتباع شيء من ذلك تقليداً لأنه اتباع للحجة لكن قد يسمى تقليداً على وجه المجاز والتوسع .
مواضع التقليد :
يكون التقليد في موضعين :
الأول : أن يكون المقلد عاميّاً لا يستطيع معرفة الحكم بنفسه ففرضه التقليد لقوله تعالى : ? فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ? (1) ، ويقلد أفضل من يجده علماً وورعاً فإن تساوى عنده اثنان خير بينهما .
الثاني : أن يقع للمجتهد حادثة تقتضي الفورية ولا يتمكن من النظر فيها فيجوز له التقليد حينئذ ، واشترط بعضهم لجواز التقليد ألا تكون المسألة من أصول الدين التي يجب اعتقادها لأن العقائد يجب الجزم فيها والتقليد إنما يفيد الظن فقط .
والراجح أن ذلك ليس بشرط لعموم قوله تعالى : ? فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ? (1) . والآية في سياق إثبات الرسالة وهو من أصول الدين ولأن العامي لا يتمكن من معرفة الحق بأدلته فإذا تعذر عليه معرفة الحق بنفسه لم يبق إلا التقليد لقوله تعالى : ? فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ? (2) .
أنواع التقليد :
التقليد نوعان عام ، وخاص :
1- فالعام : أن يلتزم مذهباً معيناً يأخذ برخصة وعزائمه في جميع الأمور دينه .
وقد اختلف العلماء فيه فمنهم من حكى وجوبه لتعذر الاجتهاد في المتأخرين ومنهم من حكى تحريمه لما فيه من الالتزام المطلق لاتباع غير النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال شيخ الإسلام ابن تيميه إن في القول بالوجوب طاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم في كل أمره ونهيه وهو خلاف الإجماع وجوازه فيه ما فيه .(254/41)
وقال : من التزم مذهباً معيناً ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك ولا عذر شرعي يقتضي حل ما فعله فهو متبع لهواه فاعل للمحرم بغير عذر شرعي وهذا منكر وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها وإما بأن يرى أحد الرجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وهو أتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا فهذا يجوز بل يجب وقد نص الإمام أحمد على ذلك .
2- والخاص : أن يأخذ بقول معين في قضية معينة فهذا جائز إذا عجز عن معرفة الحق بالاجتهاد سواء عجز عجزاً حقيقياً أو استطاع ذلك مع المشقة العظيمة .
فتوى المقلد :
قال الله تعالى : ? فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُون ? (1) ، وأهل الذكر هم أهل العلم والمقلد ليس من أهل العلم المتبوعين وإنما هو تابع لغيره .
قال أبو عمر بن عبد البر وغيره " أجمع الناس على أن المقلد ليس معدوداً من أهل العلم وأن العلم معرفة الحق بدليله " . قال ابن القيم : وهذا كما قال أبو عمر فإن الناس لا يختلفون في أن العلم هو المعرفة الحاصل على دليل وأما بدون الدليل فإنما هو تقليد ثم حكى ابن القيم بعد ذلك في جواز الفتوى ثلاثة أقوال :
أحدهما : لا تجوز الفتوى بالتقليد لأن ليس بعلم والفتوى بغير علم حرام وهذا قول أكثر الأصحاب وجمهور الشافعية .
الثاني: أن ذلك جائز فيما يتعلق بنفسه ولا يجوز أن يقلد فيما يفتي به غيره .
الثالث : أن ذلك جائز عند الحاجة وعدم العالم المجتهد وهو أصح الأقوال وعليه العمل. انتهى كلامه .
وبه يتم ما أردنا كتابته في هذه المذكرة الوجيزة ، نسأل الله أن يلهمنا الرشد في القول والعمل وأن يكلل أعمالنا بالنجاح إنه جواد كريم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله .
---
(1) سورة إبراهيم ، الآية : 24 .
(2) سورة طه ، الآية : 27
(1) سورة النساء ، الآية : 36.(254/42)
(2) سورة البقرة ، الآية : 228.
(3) سورة العنكبوت ، الآية : 12 .
(1) سورة الشورى ، الآية : 11
(1) راجع كتاب الإيمان ومختصر الصواعق.
(1) سورة النور ، الآية : 63.
(2) سورة البقرة ، الآية : 148 .
(3) رواه أحمد والبخاري .
(1) سورة البقرة ، الآية 282.
(2) رواه أحمد والنسائي وأبو داود وفيه قصة .
(3) سورة المائدة ، الآية : 2.
(4) سورة المائدة ، الآية : 1 .
(5) متفق عليه .
(6) سورة فصلت ، الآية : 40
(7) سورة الكهف ، الآية : 29 .
(1) رواه الجماعة .
(1) سورة الأنعام ، الآية : 150
(1) سورة الحشر ، الآية : 7
(2) رواه مسلم
(1) متفق عليه .
(2) رواه أحمد والنسائي وأبو داود
(1) سورة التوبة ، الآية : 54.
(2) سورة الأنفال ، الآية : 38 .
(3) رواه مسلم .
(4) سورة المدثر ، الآية : 42.
(5) قال النووي حديث حسن .
(1) متفق عليه .
(1) سورة القمر ، الآية : 49.
(2) سورة فصلت ، الآية : 46 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 115 .
(1) سورة الملك ، الآية : 30.
(2) سورة القصص ، الآية : 65.
(3) سورة التكوير ، الآية : 26 .
(4) سورة الزمر ، الآية : 33 .
(5) سورة العنكبوت ، الآية : 69.
(6) سورة النازعات ، الآية 26 .
(7) سورة النجم ، الآية : 31 .
(8) سورة آل عمران ، الآية : 62 .
(9) سورة النساء ، الآية : 36.
(10) سورة القصص ، الآية :54 .
(11) سورة القصص ، الآية : 77 .
(1) سورة الأحزاب ، الآية 9 .
(2) سورة الأعراف ، الآية : 74
(3) سورة النساء ، الآية : 28 .
(4) سورة النور ، الآية : 59 .
(5) سورة ص ، الآية 71 .
(6) سورة المزمل ، الآية : 15 .
(1) متفق عليه .
(1) سورة العصر ، الآية : 2 .
(1) متفق عليه .
(1) سورة الحجر ، الآية : 42 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 5 .
(3) سورة النور ، الآية : 33 .
(1) سورة النساء ، الآية : 25
(2) سورة آل عمران ، الآية : 97
(3) سورة النساء ، الآية : 93 .
(4) سورة الأحقاف ، الآية : 25 .(254/43)
(5) سورة الزمر ، الآية : 62 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 228 .
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 49 .
(3) سورة النساء ، الآية : 11 .
(4) متفق عليه .
(5) سورة النور ، الآية : 4 .
(6) سورة النور ، الآية : 2 .
(1) متفق عليه .
(2) سورة التوبة ، الآية : 29 .
(3) رواة البخاري وغيره .
(4) متفق عليه .
(5) رواه احمد ومسلم
(1) سورة المجادلة ، الآية : 3
(2) سورة النساء ، الآية : 92 .
(1) سورة المجادلة ، الآية : 3 .
(2) سورة النساء ، الآية : 92 .
(3) سورة المائدة ، الآية : 38 .
(4) سورة المائدة ، الآية : 6 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 228 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 5 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 5.
(1) سورة التوبة ، الآية : 5
(2) رواه البخاري وغيره .
(3) سورة التوبة ، الآية : 5 .
(4) سورة آل عمران ، الآية 97 .
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(3) متفق عليه .
(1) رواه أحمد وأبو داود ولمسلم معناه .
(1) سورة يوسف ، الآية : 82
(2) سورة طه ، الآية : 5
(1) سورة البقرة ، الآية : 106 .
(2) سورة الأنفال ، الآية : 66 .
(3) سورة البقرة ، الآية : 187 .
(4) رواه مسلم .
(5) سورة الأنفال ، الآية : 65 .
(6) سورة الأنفال ، الآية : 66 .
(1) رواه أحمد ومسلم .
(2) رواة مسلم .
(3) سورة الأنفال ، الآية : 66 .
(1) سورة الأنفال ، الآية : 65.
(2) سورة الأنفال ، الآية : 66 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 144 .
(2) رواه أحمد .
(1) رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي .
(2) رواه ابن ماجه والترمذي وصححه .
(3) سورة البقرة ، الآية : 43 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 125 .
(1) أخرجه مالك ومسلم والنسائي .
(2) متفق عليه .
(3) متفق عليه .
(1) متفق عليه
(2) متفق عليه .
(1) رواة البخاري ومسلم وغيرهما .
(1) سورة البقرة ، الآية : 143 .
(1) سورة النساء ، الآية : 59 .
(2) رواة الترمذي وله طرق لا تخلو من مقال ولكن بعضها بقوي بعضاً .(254/44)
(1) سورة الشورى ، الآية : 17.
(2) سورة الأنبياء ، الآية : 104 .
(3) سورة فاطر ، الآية : 9 .
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(1) أخرجه الخمسة إلا النسائي وصححه ابن حبان والحاكم .
(1) رواه البخاري .
(1) رواة البخاري .
(2) متفق عليه .
(1) رواه مسلم .
(1) سورة الشورى ، الآية : 52 .
(2) سورة القصص ، الآية : 56 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 184 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 185 .
(3) رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان .
(4) رواه الخمسة وصححه ابن حبان .
(1) رواه مسلم
(2) متفق عليه
(3) سورة الأحزاب ، الآية : 50 .
(4) سورة الأحزاب ، الآية : 52 .
(5) رواه مسلم .
(6) رواة الجماعة .
(7) رواة أحمد والترمذي
(1) سبق تخرجهما .
(2) سورة البقرة ، الآية : 234
(3) سورة الطلاق ، الآية : 4 .
(4) متفق عليه
(1) متفق عليه .
(2) متفق عليه .
(1) متفق عليه .
(1) سورة النحل ، الآية : 43 .
(1) سورة النحل ، الآية : 43 .
(2) سورة التغابن ، الآية : 16 .
(1) سورة النحل ، الآية : 43.(254/45)