ثانياً : أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً ذاتَ يومٍ مع أصحابه، فَدَخَلَ رَجُلٌ بعدَ أن انتهتِ الصَّلاةُ، فقال: «مَنْ يَتصدَّقُ على هذا فَيصلِّيَ معه؟» ، فقامَ أَحَدُ القومِ فَصلَّى مع الرَّجُلِ . وهذا نَصٌّ صريحٌ في إعادةِ الجماعةِ بعدَ الجماعةِ الراتبةِ حيث نَدَبَ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام مَن يصلّي مع هذا الرَّجُلِ، وقولُ مَن قال: إنَّ هذه صدقةٌ، وإذا صَلَّى اثنان في المسجدِ وقد فاتتهما الصَّلاةُ فصلاةُ كلِّ واحدٍ منهما واجبٌة؟ فيقال: إذا كان يُؤمرُ بالصَّدقةِ، ويُؤمرُ مَن كان صَلَّى أنْ يصلِّيَ مع هذا الرَّجُلِ، فكيف لا يُؤمرُ مَن لم يُصلِّ أنْ يُصلِّيَ مع هذا الرَّجُلِ؟
قوله: «في غير مسجدي مكة والمدينة» أي: في غيرِ المسجدِ الحرامِ ومسجدِ النبي صلى الله عليه وسلم فَتُكرَهُ إعادةُ الجماعةِ فيهما، قالوا: لئلا يتوانى الناسُ عن حضورِ الصَّلاةِ مع الإمامِ الراتبِ.
ولكن هذا التعليل لو أخذنا به لا انطبقَ على المسجدين وغيرِهما، وهذا هو القولُ الأولُ في هذه المسألةِ.
القول الثاني : أن إعادةَ الجماعةِ لا تُكره في المسجدين، وأنَّ المسجدَ الحرامَ والمسجدَ النبويَّ كغيرِهما في حُكمِ إعادةِ الجماعةِ، وعلى هذا؛ فإذا دخلتَ المسجدَ الحرامَ، وقد فاتتكَ الصَّلاةُ مع الإمامِ الرَّاتبِ أنت وصاحبُك، فصلِّيا جماعةً ولا حرجَ، هذا هو الصَّحيح إذا لم يكن عادة.
قوله: «وإذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة» .
هذا الكلامُ هو لفظُ حديثٍ أخرجَه مسلمٌ عن أبي هريرة ، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أُقيمتِ الصَّلاةُ فلا صلاةَ إلا المكتوبةُ» فتكون هذه مسألةً ودليلاً، أي: أنَّ المؤلِّفَ جَمَعَ بين كونِهِ ذكرَها مسألةً مِن مسائلِ العِلمِ، وهي نفسُها دليلٌ، وهذا نادرٌ.(165/25)
وقوله: «إذا أُقيمت» هل المراد بإقامة الصَّلاةِ الذِّكرِ المخصوصِ الذي هو الإعلامُ بالقيامِ إلى الصَّلاةِ، أو المرادُ نفسُ الصَّلاةِ؛ لأنَّ اللهَ قال: { ةأقيموا الصلاة} [البقرة: 43] أي: إذا شَرَعَ الإمامُ بالصَّلاةِ، فلا صَلاةَ إلا المكتوبةُ؟ في هذا خِلافٌ بين أهل العِلمِ الذين شرحوا الحديثَ:
القول الأول : أنَّ المرادَ بإقامةِ الصَّلاةِ الشروعُ فيها، أي: تكبيرةَ الإحرامِ.
القول الثاني: أنَّ المرادَ بالإقامةِ ابتداءُ الإقامةِ؛ التي هي الإعلامُ بالقيامِ إلى الصَّلاةِ.
القول الثالث : أنَّ المرادَ انتهاءُ الإقامةِ، وهذا القولُ قريبٌ مِن القولِ الأولِ، وإنْ كان الإمامُ قد يتأخَّر عن إتمامِ الإقامةِ إمَّا بتسويةِ الصفوفِ، أو بحدوثِ عُذرٍ له أو ما أشبه ذلك.
ولكن إذا عرفنا الحكمةَ مِن النَّهي؛ أمكننا أنْ نحدِّدَ المرادَ بالإقامةِ، والحكمةُ مِن النَّهي هو: أن لا يتشاغلَ الإنسانُ بنافلةٍ يقيمُها وحدَه إلى جَنْبِ فريضةٍ تقيمُها الجماعةُ؛ لأنه يكون حينئذٍ مخالفاً للنَّاسِ مِن وجهين:
الوجه الأول : أنَّه في نافلةٍ، والنَّاسُ في فريضةٍ.
الوجه الثاني : أَنَّه يُصلِّي وحدَه، والنَّاسُ يصلُّون جماعةً.
ومِن المعلومِ أنَّ الإنسانَ لو شَرَعَ بالنَّافلةِ بعدَ أنْ يبدأَ المقيمُ بالإقامةِ، فإنَّه لن ينتهيَ منها غالباً إلا وقد شَرَعَ النَّاسُ في صلاةِ الجماعةِ. وعلى هذا؛ لا يجوزُ أنْ يبتدىءَ صلاةَ نافلةٍ بعدَ شُروعِ المقيمِ في الإقامةِ، لأنَّ عِلَّة النَّهي موجودةٌ في هذه الصُّورةِ، ومِن بابِ أَولى أن لا يَشرعَ في النَّافلةِ إذا انتهتِ الإقامةُ، أو إذا شَرَعَ الإمامُ في الصَّلاةِ.(165/26)
وعلى هذا؛ فقولُه صلى الله عليه وسلم: «فلا صلاةَ إلا المكتوبةُ» أي: فلا صلاةَ تُبتدأُ إلا المكتوبةُ، فيتعيَّن أنْ يكون المرادُ بالإقامةِ الشروعُ فيها؛ لأنَّ الإنسانَ إذا ابتدأَ النافلةَ في هذا الوقتِ سوف يتأخَّرُ عن صلاةِ الجماعةِ.
مسألة : قوله صلى الله عليه وسلم: «فلا صلاة» هل يشمَلُ الابتداءَ والإتمامَ؟.
الجواب : في ذلك قولان لأهلِ العِلمِ.
القول الأول : أنَّه يشمَلُ الابتداءَ، والإتمامَ، أي: فلا صلاةَ ابتداءً ولا إتماماً، فلا يُتِمُّ صلاةً هو فيها، حتى إنَّ بعضَهم بالغ فقال: لو لم يبقَ عليه إلا التسليمةُ الثانيةُ وأقامَ المقيمُ فإنَّها تبطلُ صلاتُه؛ لأنَّ التسليمتينِ رُكنٌ مِن أركانِ الصَّلاةِ، أو واجبٌ، أو سُنَّةٌ.
القول الثاني : أنه لا صلاةَ ابتداءً وعلى هذا القول يُتِمُّ النَّافلةَ ولو فاتته الجَماعةُ.
والذي يظهر أن قولَه صلى الله عليه وسلم: «لا صلاةَ» المرادُ به ابتداؤها، وأنه يَحرُمُ على الإنسانِ أن يبتدىءَ نافلةً بعدَ إقامةِ الصَّلاةِ، أي: بعدَ الشروعِ فيها؛ لأنَّ الوقت تعيَّنَ لمتابعةِ الإمام.
قوله: «فإن كان في نافلة أتمها» أي: فإن كان شَرَعَ في النَّافلةِ ثم أُقيمتِ الصَّلاةُ أتمَّها، ولكن يتمُّها خفيفةً مِن أجلِ المبادرةِ إلى الدُّخولِ في الفريضة.
قوله: «إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها» بضم العين استئنافاً أي: فإنَّه يقطَعُها وبماذا تفوتُ الجماعةُ؟
الجواب : تفوتُ الجماعةُ على المذهب بتسليم الإمام قبلَ أن يكبِّرَ المسبوقُ تكبيرةَ الإحرامِ، فإذا سَلَّمَ الإمامُ قبلَ أنْ تكبِّرَ تكبيرةَ الإحرامِ فاتتك الجماعةُ، فإن كبَّرتَ للإحرامِ قبلَ أن يُسلِّمَ التسليمةَ الأُولى فقد أدركتَ الجماعةَ.(165/27)
وبناءً على ذلك نقولُ لهذا الذي شَرَعَ في النَّافلةِ قبلَ إقامة الصَّلاةِ: استمرَّ إلا إنْ خشيتَ أنْ يُسلِّمَ الإمامُ قبلَ أن تُتِمَّ؛ فحينئذٍ اقْطَعْهَا؛ لأنك إذا خشيتَ أنْ يُسلِّمَ الإِمامُ قبلَ أن تُتِمَّ لزِمَ مِن ذلك تعارضُ نَفْلٍ مع فَرْضٍ؛ لأنَّ صلاةَ الجماعةِ فَرْضٌ والنَّافلةُ نَفْلٌ، والفَرْضُ مقدَّمٌ على النَّفلِ، وهذه المسألة يَنْدُرُ حصولُها إلا في صلاةِ الصُّبحِ مثلاً إذا كان الإمامُ يُسرِعُ وقد شرعتَ في النَّافلةِ قبلَ أن تُقامَ الصَّلاةُ بجزءٍ يسيرٍ فيمكن أنْ تخشى فواتَ الجماعةِ، لكن في الرُّباعيةِ والثُّلاثيةِ الغالب أنك لا تخشى فواتَ الجماعةِ، وعلى كلامِ المؤلِّفِ نقول: أتمَّ النافلةَ حتى لو لم تدركْ إلا تكبيرةَ الإحرامِ قبل تسليم الإمامِ التسليمةَ الأُولى.
والذي نرى في هذه المسألةِ: أنك إنْ كنتَ في الرَّكعةِ الثانيةِ فأتمَّها خفيفةً، وإنْ كنت في الرَّكعةِ الأولى فاقطعْهَا.
ومستندُنا في ذلك قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أدركَ ركعةً مِن الصَّلاةِ فقد أدركَ الصَّلاةَ» وهذا الذي صَلَّى ركعةً قبلَ أَنْ تُقامَ الصَّلاةُ يكون أدركَ ركعةً مِن الصَّلاةِ سالمة مِن المعارضِ الذي هو إقامةُ الصَّلاةِ، فيكون قد أدرك الصلاةَ بإدراكِه الركعةَ قبلَ النهي فليُتمَّها خفيفةً، أما إذا كان في الركعة الأولى ولو في السَّجدةِ الثانيةِ منها فإنَّه يقطعُها؛ لأنه لم تتمَّ له هذه الصَّلاةُ، ولم تخلصْ له؛ حيث لم يدركْ منها ركعة قبلَ النَّهي عن الصَّلاةِ النافلةِ.
وهذا هو الذي تجتمع فيه الأدلَّةُ.(165/28)
وقوله: «فلا صلاة إلا المكتوبة» ، ظاهرُ كلامِهِ: أنَّه لا فَرْقَ بين أن تقامَ الصَّلاةُ وأنت في المسجدِ أو في بيتِكَ، مع وجوب الجماعةِ عليك. وعلى هذا؛ فلو سمعتَ الإقامةَ وأنت في بيتِك، وقلتَ: سأصلِّي سُنَّةَ الفجرِ؛ لأنَّ الفجرَ تطول فيها القِراءةُ؛ وبيتي قريبٌ مِن المسجدِ؛ ويمكنني أن أدركَ الركعةَ الأولى، فإنَّ ذلك لا يجوزُ لعمومِ الحديثِ: «إذا أُقيمت الصَّلاةُ» ، ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم الإقامةَ فامشوا إلى الصَّلاةِ» ، فقوله: «فامشوا» أمْرٌ، وبناءً على ذلك: لا فَرْقَ بين أن تُقامَ الصَّلاةُ وأنت في المسجدِ، وبين أن تُقامَ وأنت في بيتِك، فمتى سمعتَ الإقامةَ وأنت في الركعة الأُولى _ على ما اخترناه من الأقوال _ فاقْطَعْهَا واذهبْ، وإن كنت في الثانية فأتمَّها خفيفةً، هذا ما لم تخشَ فواتَ الجماعةِ؛ لأنك إذا كنتَ خارجَ المسجدِ رُبَّما تخشى فواتَ الجماعةِ؛ ولو كنت في الركعة الثانية، فحينئذٍ اقْطَعْها؛ لأنَّ صلاةَ الجماعةِ واجبةٌ والنافلةُ نَفْلٌ.
وقولُ المؤلِّفِ: «إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة»، مرادُه إذا كنتَ تريدُ أنْ تصلِّيَ مع هذا الإمامِ، أما إذا كنتَ لا تريدُ أنْ تصلِّيَ معه، فلا حَرَجَ عليك أن تتنفَّلَ، فلو كان بجوارِكَ مسجدان وسمعتَ إقامةَ أحدِهما، وأردت أن تصلِّيَ الرَّاتبةَ؛ لتصلِّيَ في المسجدِ الثاني؛ فلا حَرَجَ عليك.
مسألة : إذا مَرَّ الإنسانُ بمسجدٍ جامعٍ يخطُبُ يومَ الجُمعة وهو لا يريدُ الصلاةَ معه، فهل له أن يتكلَّمَ والإمامُ يخطبُ، أو ليس له أن يتكلَّمَ؟(165/29)
الجواب : له أن يتكلَّمَ؛ لأنَّه لا يريدُ الائتمامَ بهذا الإمامِ، وكذلك لو أُذِّنَ الأذانُ الثاني في هذا المسجدِ يومَ الجُمُعةِ، والمسجدُ الذي تريدُ أنْ تصلِّيَ فيه لم يؤذِّنْ، وحصلَ منك بيعٌ أو شراءٌ بعدَ نداءِ الجُمُعةِ في المسجدِ الذي لا تريدُ أن تُصلِّيَ فيه، فالبيعُ والشراءُ صحيحٌ وحلالٌ.
قوله: «ومن كبّر قبل سلام إمامه لحق الجماعة» .
أي: إذا كَبَّرَ المأمومُ قبلَ سلامِ إمامه التَّسليمةَ الأُولى، فإنه يدركُ الجماعةَ إدراكاً تاماً.
ووجه ذلك: أنه أدركَ جزءاً مِن الصلاةِ، فكان له حكمُ مُدركِ الصَّلاةِ، كمَن أدركَ ركعةً، فإنَّ مَن أدركَ ركعةً، أدركَ الصَّلاةَ بمقتضى الحديثِ عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «مَن أدركَ ركعةً مِن الصَّلاةِ فقد أدركَ الصَّلاةَ» .
وقوله: «قبل سلام إمامه» المرادُ التَّسليمةُ الأُولى دون التَّسليمةِ الثانيةِ، ولهذا لو جئتَ والإمامُ قد سلَّمَ التسليمةَ الأُولى فلا تدخلْ معه، حتى إنَّ الفقهاءَ رحمهم الله صَرَّحوا: بأنه لو دَخَلَ معه بعدَ التسليمةِ الأُولى فإنَّ صلاتَهُ لا تنعقدُ ووَجَبَ عليه الإعادةُ، لأنَّه _ أي: الإمامَ _ لمَّا سَلَّمَ التسليمةَ الأُولى شَرَعَ في التَّحلُّلِ مِن الصَّلاةِ فلا يصحُّ أنْ تنويَ الائتمامَ به وهو قد شَرَعَ في التَّحلُّلِ مِن الصَّلاةِ.
والقول الثاني : أنَّه لا يدركُ الجماعةَ إلا بإدراكِ ركعة كاملة. وهذا اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية .(165/30)
ودليلُه قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن أدركَ ركعةً مِن الصَّلاةِ فقد أدركَ الصَّلاةَ» ، فإنَّ منطوقَ الحديثِ أنَّ مَن أدركَ ركعةً مِن الصَّلاةِ فقد أدركَ الصَّلاةَ، ومفهومُه: أنَّ مَن أدركَ دون ذلك فإنه لم يدركْ الصَّلاةَ، ولا يصحُّ قياسُ إدراكِ ما دون الركعةِ على إدراكِ الرَّكعةِ؛ لأنَّ إدراكَ الرَّكعةِ أكبر وأكثر مِن إدراكِ ما دون الرَّكعةِ، والأقلُ لا يُقاسُ على الأكبرِ والأكثرِ.
ودليلُه من حيث القياس : أنَّه لو أدركَ في الجُمُعةِ أقلَّ مِن الرَّكعةِ لزِمَه أن يتمَّها ظهراً، ولم يكن مُدركاً لها، فأيُّ فَرْقٍ بين الإدراكين ؟
وينبني على هذا: أنك لو أتيتَ إلى مسجدٍ والإمامُ قد رَفَعَ رأسَه مِن الرُّكوعِ في الركعةِ الأخيرةِ، وأنت تعلمُ أنك ستدركُ مسجداً آخر مِن أول الصَّلاةِ، أو ستدرِكُ ركعةً في المسجدِ الثَّاني فإننا نقول لك: لا تدخل مع هذه الجماعةِ؛ لأنَّك سوف تدرك جماعةً إدراكاً تاماً في مسجدٍ آخر، أما على كلامِ المؤلِّفِ فادْخُلْ مع الإمامِ؛ لأنك سوف تدركُ الجماعةَ ما دمتَ قد أدركتَ تكبيرةَ الإحرامِ قبلَ تسليمةِ الإمامِ الأُولى.
قوله: «وإن لحقه» أي: لَحِقَ المأمومُ الإمامَ.
قوله: «راكعاً» حال من الضمير «الهاء» في قوله: «لَحِقَهُ» يعني: إن لَحِقَ الإمامَ راكعاً دخَلَ معه في الرَّكعةِ، ويكون قد أدركَ الرَّكعةَ.
قوله: «وأجزأته التحريمة» أي: تكبيرةُ الإحرامِ وأجزأته عن تكبيرةِ الرُّكوعِ، فيكبِّرُ مرَّةً واحدة وهو قائمٌ، ثم يركعُ بدون تكبير.
وذلك لأنَّهما عبادتان مِن جنسٍ واحدٍ اجتمعتا في آنٍ واحدٍ، فاكتُفِيَ بإحداهما عن الأخرى.(165/31)
وتعليل آخر : أنه لو اشتغل بالتكبير للرُّكوعِ فرُبَّما فاته الرُّكوعُ، والمحافظةُ على الرُّكوعِ أَولى؛ لأنَّ التكبيرَ واجبٌ للرُّكوعِ، والرُّكوعُ هو الأصلُ؛ لأنه رُكْنٌ. ولهذا قالوا: لا يجب عليه أن يكبِّرَ للرُّكوعِ في هذه الحالِ، ولكن؛ التكبيرُ أفضلُ وأكملُ؛ لأنَّ المقامَ مقامُ احتياط، إذ إنه يمكن أن يقول قائل: ما دليلُكم على سقوطِ تكبيرةِ الرُّكوعِ؟ وقولُكم: «إنَّهما عبادتان مِن جنسٍ اجتمعتا في آنٍ واحدٍ» فيه نَظَرٌ؛ لأنَّ تكبيرةَ الإحرامِ تكون حالَ القيامِ، وتكبيرةَ الرُّكوعِ حالَ الهويِّ للرُّكوعِ، فالمكان ليس واحداً.
والقول الثاني في المسألة : أنه يجبُ أن يكبِّر للرُّكوعِ.
ولكن هنا أمْرٌ يجبُ أن يُتفَطَّنُ له، وهو أنَّه لا بُدَّ أنْ يكبِّرَ للإحرامِ قائماً منتصباً قبل أنْ يهويَ؛ لأنَّه لو هَوى في حالِ التكبيرِ لكان قد أتى بتكبيرةِ الإحرامِ غير قائمٍ وتكبيرةُ الإحرامِ لا بُدَّ أن يكونَ فيها قائماً.
وقوله: «وأجزأته التحريمة» لم يتكلَّمْ المؤلِّفُ عن قِراءةِ الفاتحةِ، لأنَّ المشهورَ مِن المذهب أنَّه لا قِراءةَ على المأمومِ، ولهذا لو تعمَّدَ تَرْكَ قِراءةِ الفاتحةِ فصلاتُه صحيحةٌ كما سيأتي، إنْ شاءَ اللهُ.
أما على القولِ الرَّاجح؛ مِن أنَّه يجبُ على المأمومِ أنْ يقرأَ الفاتحةَ في كلِّ ركعةٍ، فإنَّ الفاتحةَ هنا تسقطُ عنه بمقتضى الدَّليلِ والتعليلِ.(165/32)
أما الدليل فهو : ما رواه البخاريُّ مِن حديثِ أبي بكرةَ أَنَّه دخلَ مع النبي صلى الله عليه وسلم راكعاً ، ولم يأمرْه النبي صلى الله عليه وسلم بقضاءِ تلك الرَّكعةِ، فإنَّه جاءَ مسرعاً، وكَبَّرَ قبلَ أنْ يدخلَ في الصَّفِّ ورَكَعَ، ولمَّا سَلَّم النبي صلى الله عليه وسلم سأَلَ: مَن الفاعلُ؟ فقال أبو بكرة: أنا، فقال له: «زَادكَ الله حِرصاً ولا تَعُدْ» . وقد جاءَ هذا الحديثُ مِن طريقِ غيرِ «الصحيح» وفيه: «يريدُ أن يُدرِكَ الركعةَ» ولا شكَّ أنه لم يستعجلْ إلا خوفاً مِن أنْ تفوته الرَّكعة، ولو كان لم يدركْ الرَّكعةَ في هذا الحالِ؛ لأمرَه النبي صلى الله عليه وسلم أنْ يقضيَ الرَّكعةَ، فلمَّا لم يأمرْه، عُلِمَ أنها صحيحةٌ، وأنَّه معتدٌّ بها.
وأما التعليل : فهو أنَّ قراءةَ الفاتحةِ إنَّما تجبُ في حالِ القيامِ، والقيامُ هنا سَقَطَ ضرورةَ مُتابعةِ الإمامِ؛ فلمَّا سَقَطَ عنه القيامُ سَقَطَ عنه الذِّكرُ الواجبُ فيه، وهو قِراءةُ الفاتحةِ.
قوله: «ولا قراءة على مأموم» أي: لا يجب على المأموم أن يقرأَ مع الإِمامِ لا في صلاة السِّرِّ ولا في صلاة الجهرِ. وعلى هذا؛ فلو كَبَّر المأمومُ مع الإمامِ في أوَّلِ ركعة، وسكتَ حتى رَكَعَ الإمامُ، ثم تَابَعَ الإمامَ، وقامَ للرَّكعةِ الثانيةِ، وسكت حتى رَكَعَ الإمامُ، ثم في الثالثة والرابعة، قلنا له: إن صلاتَك صحيحةٌ؛ لأنَّه ليس على المأمومِ قراءةٌ لا فاتحةٌ ولا غير فاتحة.
والدليلُ: حديثُ: «مَنْ كان له إمامٌ فقراءةُ الإمامِ له قراءةٌ» ، وهذا عامٌّ يشمَلُ الصَّلاةَ السريةَ والصَّلاةَ الجهريةَ، وهو نصٌّ في أنَّ قِراءةَ الإمامِ قراءةٌ له.(165/33)
ولكن؛ هذا الحديثُ لا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم كما قال ابنُ كثير في «تفسيره» : «إنه رُويَ عن جابرٍ موقوفاً وهو أصَحُّ»، وقال الحافظُ ابنُ حَجَرٍ في «الفتح» : «إنه ضعيفٌ عند الحُفَّاظ»، وإذا كان ضعيفاً سَقَطَ الاستدلالُ به؛ لأنَّ صحَّةَ الاستدلالِ بالحديثِ لها شرطان:
الشرط الأول: صحَّةُ الحديثِ إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثاني : صحَّةُ الدلالةِ على الحُكمِ، فإنْ لم يصحَّ عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو مرفوضٌ، وإن صحَّ ولم تصحَّ الدَّلالة فالاستدلالُ به مرفوضٌ.
ثم على تقديرِ صحَّته لا يدلُّ على أن المأمومَ لا قراءةَ عليه في السِّريَّةِ والجهريةِ وإنما يدلُّ على أنَّه لا قِراءةَ عليه في الصَّلاةِ الجهرية إذا سمعها من إمامه لأنَّ قولَه: «قِراءةُ الإمامِ له قِراءة» يدلُّ على أنَّ المأمومَ استمعَ إليها فاكتفى بها عن قِراءتِهِ، ولكن الحديثُ ضعيفٌ كما سَبَقَ، ولا يحلُّ لنا أن نُسنِدَ حكماً في شريعةِ الله إلى دليلٍ ضعيفٍ؛ لأنَّ هذا مِن القولِ على اللهِ بما نعلم أنه لا يصحُّ عن اللهِ، وليس بلا عِلْمٍ، بل أشدُّ؛ لأننا إذا أثبتنا حكماً في حديثٍ ضعيفٍ، فهذا أشدُّ مِن القولِ على اللهِ بلا عِلْمٍ لأنَّنا أثبتنا ما نعلمُ أنَّه لا يصحُّ.
والقولُ الرَّاجحُ في هذه المسألةِ: أنَّ المأمومَ يجبُ عليه قراءةُ الفاتحةِ، وذلك لعمومِ قولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاةَ لمَنْ لم يقرأْ بفاتِحةِ الكتابِ» .
ومَنْ: اسم موصول، واسم الموصول يفيد العموم أي: أيَّ إنسانٍ لم يقرأ الفاتحة، فلا صلاة له سواء أكان مأموماً، أم إماماً، أم منفرداً، ولا يصحُّ أنْ يُحملَ هذا النَّفيُ على نفيِ الكمالِ لأنَّ الأصل نفيُ الصِّحةِ والإجزاءِ، لا نفيَ الكمالِ إلا بدليلٍ ولا دليل هنا على خروجهِ عن الأصلِ.(165/34)
فإن قال قائلٌ: هذا الحديثُ عامٌّ، ولدينا حديثٌ عامٌّ وآيةٌ في القرآن وهي قوله تعالى: )وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (لأعراف:204)
والحديثُ قولُ النبي صلى الله عليه وسلم في الإِمامِ: «إذا قرأ فأنصِتُوا» يدلُّ على عمومِ الإنصاتِ سواءٌ عن الفاتحةِ أو غيرِها؟
فالجواب : نقول: هذا صحيحٌ، وأنَّه عامٌّ في الفاتحةِ وغيرِها، وأنَّ المأمومَ إذا قرأَ الإمامُ فإنَّه ينصتُ، ولكن هذا العمومُ مقيَّدٌ بعموم: «لا صلاةَ لمَنْ لم يقرأ بفاتحةِ الكتابِ» حيث قالَه النبي صلى الله عليه وسلم بعدَ أنْ انفتلَ مِن صلاةِ الفجرِ؛ حينما قرأ في صلاةِ الفجرِ، وثَقُلت عليه القراءةُ، فلما انصرفَ قال: «لعلَّكم تقرأون خلفَ إمامكم؟ قالوا: إي والله، قال: لا تفعلوا إلا بأُمِّ القرآن، فإنه لا صلاةَ لمَن لم يقرأ بها» وهذا نصٌّ صريحٌ في الصلاةِ الجهريةِ، لأنَّ صلاةَ الفجرِ صلاةٌ جهريةٌ. وعلى هذا؛ فتكون قراءةُ الفاتحةِ في الصلاةِ مستثناةٌ مِن قوله: )وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (لأعراف:204)
لأنَّ هذا عامٌّ والعامُ يدخله التَّخصيصُ، وكذلك قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا قَرأَ فأنصِتُوا» وهذا هو المشهور مِن مذهبِ الإمامِ الشافعي ، قال ابنُ مفلح تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية: «وهو أظهر» أي: أن وجوبَ قِراءةِ الفاتحةِ على المأمومِ حتى في الصَّلاةِ الجهريَّةِ أظهرُ، وصَدَقَ، فإنَّه أظهرُ مِن القولِ بعدمِ وجوبِ القِراءةِ على المأمومِ مطلقاً، أو في الصَّلاةِ الجهرية، فهذان قولان متقابلان، فالأقوال كما يلي:
القول الأول: أنه لا قِراءةَ على المأموم مطلقاً، وأنَّ المأمومَ لو وَقَفَ ساكتاً في كلِّ الركعات فصلاتُه صحيحةٌ، وهذا قول ضعيفٌ جداً.(165/35)
القول الثاني : وجوبها على المأمومِ في كلِّ الصلواتِ السريةِ والجهريَّةِ، وهذا مقابلٌ للقولِ الأولِ.
والقول الثالث : أنها تجبُ على المأمومِ في الصَّلاةِ السريَّةِ دون الجهرية ، لأنَّ الجهريَّةَ إذا قرأ فيها الإمامُ فقراءتُه قراءةٌ للمأمومِ، والدليلُ على أن قراءتَه قراءة للمأموم: أنَّ المأموم يؤمِّنُ على قراءتِه، فإذا قال: «ولا الضالين» قال: «آمين» ، ولولا أنَّها قِراءةٌ له لم يصحَّ أن يؤمِّنَ عليها؛ لأنَّ المؤمِّنَ على الدُّعاءِ كفاعلِ الدُّعاءِ: بدليلِ أنَّ موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لما قال: )وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) (يونس:88) )قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (يونس:89) والدَّاعي موسى بنصِّ الآيةِ، فكيف جاءتْ التثنيةُ؟ قالَ العلماءُ: لأنَّ موسى يدعو وهارون يؤمِّنُ؛ فَنَسَب اللهُ الدَّعوةَ إليهما مع أنَّ الدَّاعي واحد، لكن لما كان الثاني مُنْصِتاً له مؤمِّناً على دُعائِهِ صارت الدَّعوةُ دعوةً له. وحينئذٍ نقول: إذا قرأ الإمامُ الفاتحةَ وأنتَ مُنْصِتٌ له وأمَّنتَ عليه فكأنَّك قارىءٌ لها، وحينئذٍ لا تجبُ القراءةُ على المأمومِ في الصَّلاةِ الجهريَّةِ إذا سَمِعَ قراءةَ الإمامِ للفاتحةِ، وهذا القولُ اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابن تيمية .
واستدلَّ بعمومِ حديثِ أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم انصرفَ ذات يومٍ مِن صلاةٍ جَهَر فيها بالقراءةِ، فقال: ما لي أُنازعُ القرآن؟ قال: فانتهى النَّاسُ عن القِراءةِ فيما يجهرُ فيه الرسول صلى الله عليه وسلم قال: وهذا عامٌّ.(165/36)
واستدلَّ أيضاً: بأن المعنى يقتضي ذلك، إذ كيف نقولُ للمأمومِ اقرأْ؛ وإمامُه يقرأُ؟ فيكون جَهْرُ الإمامِ في هذه الحالِ عَبَثاً لا فائدةَ منه؛ لأنَّ الفائدةَ مِن جَهْر الإمامِ هو أنْ يستمعَ المأمومُ إليه ويتابعَه، وبهذا تتحقَّقُ المتابعةُ التامةُ، ولكن «إذا جاءَ نَهْرُ اللهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعقِلٍ» كما يقول المَثَلُ، فإذا كان النَّبيُّ عليه الصَّلاة والسلامُ انصرفَ مِن صلاةِ الفجرِ وهي صلاةٌ جهريةٌ ونهاهم أنْ يقرؤوا خَلفَ الإمامِ إلا بأُمِّ القرآنِ، فلا قولَ لأحدٍ بعدَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
وإلا؛ فلا شكَّ أنَّ القولَ الذي فيه التفصيلُ له وجهةُ نَظَرٍ قويةٌ مِن حيث الدليلُ النظريُّ. لكن لا يستطيعُ الإنسانُ أن يقولَ بخلافِ ما دلَّ عليه حديثُ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ، وعليه أن يتهمَ رأيَه في التَّصرفِ بالأدلَّة.
وعلى هذا؛ فالقولُ الرَّاجحُ في هذه المسألة: وجوبُ قراءةِ الفاتحةِ على المأمومِ في الصَّلاةِ السِّريَّةِ والجهريَّةِ، ولا تسقطُ إلا إذا أدركَ الإمامَ راكعاً، أو أدركَه قائماً، ولم يدرك أنْ يكملَ الفاتحةَ حتى رَكَعَ الإمامُ، ففي هذه الحالِ تسَقطُ عنه .
مسألة : سَبَق إذا أدركَ الإمامَ راكعاً فإنَّ الماتنَ صَرَّحَ بأنه يكبِّرُ للإحرام؛ وتجزئُه عن تكبيرةِ الرُّكوع ، وأنه لو كَبَّرَ للرُّكوعِ لكان أفضلَ، لكن إذا أدركَهُ في غيرِ الرُّكوعِ، مثل أنْ يدركَ الإمامَ وهو جالسٌ، أو يدركِهُ بعدَ الرَّفْعِ مِن الرُّكوعِ، أو يدرِكَهُ وهو ساجدٌ فهنا يُكبِّرُ للإحرامِ، لكن هل يُكبِّرُ مرَّةً ثانية أو لا يُكبِّرُ؟
الجواب : هذا موضعُ خِلافٍ بين العلماءِ:
القول الأول : أنه يَنحطُّ بلا تكبير.
القول الثاني : أنه يَنحطُّ بتكبيرٍ.(165/37)
فالذين قالوا يَنحطُّ بتكبيرٍ علَّلوا: بأنَّ هذا كما لو أدركتَ الرُّكوعَ. وإذا أدركتَ الرُّكوعَ تُكبِّرُ مرَّةً للإحرامِ ومرَّةً للرُّكوعِ، إذن؛ إذا أدركتَه جالساً فكبِّرْ للإحرامِ ثم كَبِّرْ للجلوسِ.
والذين قالوا: ينحطُّ بلا تكبير قالوا: لأنَّ انتقالَكَ مِن القيامِ إلى الرُّكوعِ انتقالٌ مِن رُكْنٍ إلى الذي يليَه فهو انتقالٌ في موضِعِهِ، لكن إذا دخلتَ مع الإمامِ وهو جالسٌ فإنَّ انتقالَك مِن القيامِ إلى الجلوسِ انتقالٌ إلى رُكْنٍ لا يليه، فلمَّا كان انتقالاً إلى رُكْنٍ لا يليَه، فلا تكبيرَ هنا؛ لأنَّ التكبيرَ إنَّما يكون في الانتقالِ مِن الرُّكْنِ إلى الرُّكْنِ الذي يليَه، وهنا الرُّكْنُ لا يليه، فلا يكبِّر، وهذا هو المشهورُ عند الفقهاءِ رحمهم الله: أنَّه ينحطُّ بلا تكبيرٍ.
ولكن مع هذا نقولُ: لو كَبَّرَ الإنسانُ فلا حَرَجَ، وإن تَرَكَ فلا حَرَجَ ونجعلُ الخِيَارَ للإنسانِ؛ لأنه ليس هناك دليلٌ واضحٌ للتَّفريقِ بين الرُّكوعِ وغيرِه، إذ مِن الجائزِ أن يقولَ قائلٌ: إنَّ القعودَ لا يلي القيامَ، لكن الذي جعلني أَقْعُدُ هو اتِّباعُ الإمامِ، فأنا الآن انتقلتُ إلى رُكْنٍ مأمورٌ بالانتقالِ إليه ولكن تبعاً للإمام لا باعتبارِ الأصلِ، وهذا لا شكَّ بأنه يؤيِّدُ القولَ بأنَّه يكبِّرُ فالذي نَرى في هذه المسألةِ أنَّ الاحتياطَ أن يكبِّرَ.
قوله: «ويستحب في إسرار إمامه وسكوته» أي: يُستحبُّ للمأمومِ قراءةُ الفاتحةِ وغيرِها. «في إسرارِ إمامِهِ» وهذا في الصَّلاةِ السِّريَّةِ.
«وسكوته» وهذا في الصَّلاة الجَهريَّةِ.
فما هي السكتاتُ في الصَّلاةِ الجهرية.(165/38)
الجواب : السَّكتاتُ: قبلَ الفاتحةِ في الرَّكعةِ الأُولى، وبينها وبين قراءة السُّورةِ في الرَّكعةِ الأُولى والثانية، وقبلَ الرُّكوعِ قليلاً في الرَّكعة الأُولى والثانية . فإذا سَكَتَ الإمامَ في هذه المواضع؛ فإنَّه يقرأُ استحباباً لا وجوباً، وإذا سَكَتَ لعارضٍ، مثل: أن يُصابَ بسُعَالٍ أو عُطَاسٍ، يقرأ: لأنَّ الإمامَ لا يقرأُ.
وقال: «في إسرار إمامه وسكوته» بناءً على الغالبِ، وقد يُقالُ: إنَّ قوله: «وسكوته» يشمَلُ ما إذا سَكَتَ اختياراً أو اضطراراً.
«تنبيه» قولنا: يستحبُّ للمأمومِ قراءةُ الفاتحةِ وغيرِها، مبنيٌّ على كلامِ المؤلِّفِ، وقد سَبَقَ أنَّ قِراءةَ الفاتحةِ على المأمومِ رُكْنٌ لا بُدَّ منه فيقرؤها ولو كان الإمامُ يقرأ .
قوله: «وإذا لم يسمعه لبعد» أي: ويستحبُّ أنْ يقرأَ إِذا لم يسمعْ الإمامَ لبُعْدٍ مثل: أن يكون المسجدُ كبيراً، وليس هناك مُكَبِّرُ صوتٍ فيقرأ المأمومُ إذا لم يسمعْ قراءةَ الإمامِ حتى غيرَ الفاتحةِ، ولا يسكتُ؛ لأنَّه ليس في الصَّلاةِ سكوتٌ.
قوله: «لا لطرش» الطَّرشُ: الصَّممُ، أي: لا إنْ كان لا يسمعُ لصَمَمٍ، لأنَّه إذا قرأ لصَمَمٍ غالباً أشغل الذي حولَه عن استماعِه لقراءةِ إمامِهِ، أما إذا كان لبُعدٍ فإنَّ جميعَ المصلِّين سوف يقرؤون، ولا يحصُلُ به تشويشٌ. وأيضاً: إذا لم يسمْعُه لضجَّةَ كما لو كان حولَ المسجدِ «ورش» تشتغلُ فإنَّهُ يقرأُ، لأنَّ هذا المانعُ مِن السَّماعِ عامٌّ، ليس خاصًّا به، فهو كما لو كان المانعُ البُعْدُ.
والحاصل : أنه إذا لم يسمعْ لمانعٍ خاصٍّ به وهو الصَّمَمُ؛ فإنَّه لا يقرأُ، اللَّهُمَّ إلا لو قُدِّرَ _ ولا حول ولا قوة إلا بالله _ أنَّ كُلَّ المأمومين طُرْشٌ، فحينئذٍ يقرأُ؛ لأنَّه في هذه الحالِ لن يُشوِّشَ على أحدٍ.
وإن كان لا يسمع الإمام لمانع عامٍّ كالبعد والضجَّة فإنه يقرأ.(165/39)
قوله: «ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه» أي: أنَّ المأمومَ يقرأْ الاستفتاحَ، ويقرأُ التعوُّذَ فيما يجهرُ فيه الإمامُ، وظاهرُ كلامِهِ : أنه يفعلُ ذلك، وإنْ كان يسمعُ قِراءةَ الإمامِ، وهذا اختيارُ بعضِ أهلِ العِلْم. قالوا: لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم إنما نَهَى عن القِراءةِ فيما يجهرُ فيه الإمامُ بالقرآنِ. والاستفتاحُ والتعوذُ ليس بقراءةٍ. ولكن هذا القولُ فيه نَظَرٌ ظاهرٌ، لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأَ فأنِصتُوا» وهذا عامٌّ، ولأنَّه إذا أُمِرَ بالإِنصاتِ لقراءةِ الإِمامِ حتى عن قراءة القرآن، فالذِّكْرُ الذي ليس بقرآن مِن بابِ أَولى، لأننا نعلمُ أنَّ الشارعَ إنما نَهَى عن القراءةِ في حالِ قراءةِ الإمامِ مِن أجلِ الإِنصاتِ، كما قال الله تعالى: : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (لأعراف:204) فالصَّوابُ في هذه المسألةِ : أنَّه لا يستفتحُ ولا يستعيذُ فيما يجهرُ فيه الإمامُ، ولهذا قال في «الرَّوضِ» وغيرِه: «ما لم يسمعْ قِراءةَ إمامِهِ» فإذا سَمِعَ قراءةَ إمامِهِ؛ فإنَّه يسكتُ لا يستفتحُ ولا يَستعيذُ. وعلى هذا؛ فإذا دخلتَ مع إمامٍ وقد انتهى مِن قراءةِ الفاتحةِ، وهو يقرأُ السُّورةَ التي بعدَ الفاتحةِ، فإنَّه يسقطُ عنك الاستفتاحُ، وتقرأُ الفاتحةَ على القولِ الرَّاجحِ وتتعوَّذُ؛ لأنَّ التعوّذَ تابعٌ للقِراءةِ.
قوله: «ومَن رَكَعَ، أو سَجَدَ قبل إمامِهِ فعليه أن يرفع ليأتي به بعده» .
«من» أي: أيَّ مأمومٍ رَكَعَ أو سَجَدَ قبلَ إمامِهِ فعليه أن يَرْفَعَ. أي: يرجعُ مِن رُكوعِه إنْ كان راكعاً أو سجودِه إنْ كان ساجداً ليأتيَ به بعدَه.(165/40)
وقوله: «فعليه» «على» تفيدُ الوجوبَ. أي: يجبُ عليه أنْ يرجعَ ليأتيَ به بعدَه، وإنَّما وجبَ عليه الرُّجوعُ مِن أجلِ المتابعةِ، لأنَّه إذا رَجَعَ أتى به بعدَ إِمامِهِ، وهذا الرُّكوعُ أو السُّجودُ الحاصلُ قبلَ رُكوعِ الإِمامِ أَو سجودِه غيرُ مُعْتَدٍّ به شرعاً؛ لأنَّه في غيرِ محلِّه، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا رَكَعَ فاركعوا، وإذا سَجَدَ فاسجُدوا» فإذا رَكَعَ قبلَه أو سَجَدَ بعدَه فقد أتى به في غيرِ موضِعه، فيكون ملغًى، ولهذا أوجبنا عليه الرُّجوعَ ليأتي به بعدَ الإِمامِ.
وعُلِمَ مِن فحوى كلامِ المؤلِّفِ: أنَّ هذا العملَ محرَّمٌ أي: أن يركعَ المأمومُ قبلَ الإِمامِ، أو أنْ يسجدَ قبلَ الإِمامِ، وهو كذلك.
ودليلُ هذا: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تركَعُوا حتى يركعَ، ولا تسجدُوا حتى يسجدَ» والأصلُ في النَّهي التحريمُ، بل لو قال قائلٌ: إنَّه مِن كبائرِ الذُّنوبِ لم يُبْعِدْ؛ لقولِ النَّبيِّ: «أما يخشى الذي يرفعُ رأسَه قبلَ الإِمامِ أن يُحَوِّلَ اللهُ رأسَه رأسَ حِمارٍ، أو يجعلَ صورتَه صورةَ حِمارٍ» وهذا وعيدٌ، والوعيدُ مِن علاماتِ كون الذَّنْبِ مِن كبائرِ الذُّنوبِ، وعلى هذا؛ فنقولُ: إنَّ هذا الرَّجلَ فَعَل كبيرةً مِن كبائرِ الذُّنوبِ المتوعَّدِ عليها بأن يُحَوِّلَ اللهُ رأسَه رأسَ حِمارٍ، أو يجعلَ صورتَه صورةَ حِمارٍ، وسواءً كان هذا شَكًّا مِن الرَّاوي أو تنويعاً مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ العقوبةَ: إما أنْ يُحوَّلَ الرأسُ رأسَ حِمارٍ، أو تُجعلَ الصُّورةُ صورةَ حِمارٍ.(165/41)
القول الثاني في المسألة : أنَّه إذا رَكَعَ أو سَجَدَ قبلَ إِمامِهِ عامداً فصلاتُهُ باطلةٌ، سواءٌ رَجَعَ فأتى به بعدَ الإِمامِ أم لا؛ لأنَّه فَعَلَ محظوراً في الصَّلاةِ، والقاعدةُ: أنَّ فِعْلَ المحظورِ عمداً في العبادةِ يوجبُ بطلانَها. وهذا القولُ هو الصَّحيحُ، وهذا هو الذي يقتضيه كلامُ الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل في «رسالة الصلاة» وقال: كيف نقولُ: صلاتُهُ صحيحةٌ وهو آثمٌ؟!.
فعليه أنْ يستأنفَ الصَّلاةَ، ومَن رَفَعَ مِن السجودِ أو مِن الرُّكوعِ قبلَ إمامِهِ فالحكمُ واحدٌ، فإذا رَفَعَ قبلَ رَفْعِ إمامِهِ مِن الرُّكوعِ عالماً عمداً فصلاتُهُ باطلةٌ، وإذا رَفَعَ مِن السُّجودِ كذلك فصلاته باطلَةٌ على القولِ الصحيح، أما على كلامِ المؤلِّفِ فإنَّها لا تبطلُ الصَّلاةُ، لكن يجبُ عليه أن يرجعَ ليأتيَ بذلك بعدَ الإِمامِ.
قوله: «فإن لم يفعل عمداً بطلت» أي: لو رَكَعَ أو سَجَدَ عمداً قبلَ الإمامِ، ولم يرجعْ حتى لَحِقَهُ الإمامُ فإنَّ صلاتَه تبطلُ.
فصار إذا سَبَقَ إلى الرُّكنِ _ على القولِ الرَّاجحِ _ بطلتْ صلاتُه إذا كان عالماً متعمِّداً، وعلى كلامِ المؤلِّف لا تبطل، ولكن يرجعُ ليأتيَ به بعدَ إمامِهِ، فإنْ لم يفعلْ متعمِّداً بطلتْ صلاتُهُ.
وإنْ لم يفعلْ سهواً أو جهلاً فصلاتُهُ صحيحةٌ أي: رَكَعَ قبلَ الإمامِ وهو لا يعرفُ أنَّ هذا حرامٌ، ولا يعرفُ أنَّه يجبُ عليه الرجوعُ حتى لَحِقَهُ الإِمامُ فصلاتُه صحيحةٌ.(165/42)
قوله: «وإن ركع ورفع قبل إمامه عالماً عمداً بطلت» ، أي: إنْ رَكَعَ ورَفَعَ قبلَ ركوعِ إمامِهِ؛ بطلتْ صلاتُهُ؛ لأنَّه سَبَقَ الإِمامَ برُكنِ الرُّكوعِ، ولا يُعَدُّ سابقاً بالرّكنِ حتى ينتقلَ منه إلى الرُّكنِ الذي يليه، فلو رَكَعَ ولَحِقَهُ الإِمامُ في الرُّكوعِ فلا يُعَدُّ سابقاً للإمامِ برُكنٍ، بل نقول: إنَّه سَبَقَ الإِمامَ إلى الرُّكنِ، فإنَّ الرُّكنَ الذي يدركه فيه الإمامُ لا يُعَدُّ سابقاً به، بل سابقاً إليه.
قوله: «وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط» ، أي: إذا رَكَعَ ورَفَعَ قبلَ إمامِهِ جاهلاً أو ناسياً بطلت الرَّكعةُ التي حصلَ فيها هذا السَّبْقُ فقط، فيلزمُه قضاؤها بعد سلامِ الإمامِ.
والحاصل : أنه إذا سَبَق برُكنِ الرُّكوعِ بأن رَكَعَ ورَفَعَ قبلَ أن يركعَ الإمامُ، فإن كان عمداً بطلتْ صلاتُه، وإنْ كان جهلاً أو نسياناً بطلتْ الرَّكعةُ فقط؛ لأنَّه لم يقتدِ بإمامِهِ في هذا الرُّكوعِ، فصار كمَن لم يدركْهُ ففاتته الرَّكعةُ، لكن إنْ أتى بذلك بعدَ إمامِهِ صحَّت ركعتُه.
قوله: «وإن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي، ويصلّي تلك الركعة قضاء» .
أي: إنْ رَكَعَ وَرَفَعَ قبل رُكوعِ إمامِهِ، ثم سَجَدَ قبلَ رَفْعِهِ بطلتْ صلاتُه؛ لأنه سَبَقَ الإمامَ برُكنينِ، لكن التمثيلُ بالركوعِ فيه شيءٌ مِن النَّظرِ، وذلك لأنَّ هذه المسألة هي القسم الثالث، وهي السَّبْقُ بالرُّكنينِ وهو إنما يكون في غيرِ الرُّكوعِ، وهذا القسم له حالان:
الأول : أن يكون عالماً ذاكراً فتبطلُ صلاتُه.
الثاني : أن يكون جاهلاً أو ناسياً فتبطلُ ركعته، إلا أنْ يأتيَ بذلك بعد إمامِهِ.
وخلاصةُ أحوالِ السَّبقِ كما يلي:
1 _ السَّبْقُ إلى الرُّكنِ.
2 _ السَّبْقُ برُكنِ الرُّكوعِ.
3 _ السَّبْقُ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ.
4 _ السَّبْقُ برُكنينِ غيرِ الرُّكوعِ.(165/43)
وخلاصةُ الكلام في سَبْقِ المأمومِ إمامَه أنَّه في جميعِ أقسامِهِ حرامٌ، أما مِن حيث بُطلان الصَّلاةِ به فهو أقسام:
الأول : أن يكون السَّبْقُ إلى تكبيرة الإحرامِ، بأن يكبِّرَ للإحرامِ قبلَ إمامِهِ أو معه، فلا تنعقدُ صلاةُ المأمومِ حينئذٍ، فيلزمُه أن يكبِّرَ بعدَ تكبيرةِ إمامِهِ، فإن لم يفعلْ فعليه إعادةُ الصَّلاةِ.
الثاني : أن يكون السَّبْقُ إلى رُكْنٍ، مثل: أن يركَعَ قبلَ إمامِه أو يسجدَ قبلَه، فيلزمُه أن يرجعَ ليأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ، فإنْ لم يفعلْ عالماً ذاكراً بطلت صلاتُهُ، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً فصلاتُه صحيحةٌ.
الثالث : أنْ يكونَ السَّبْقُ برُكنِ الرُّكوعِ، مثل: أن يركعَ ويرفعَ قبلَ أنْ يركعَ إمامُه، فإن كان عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلتْ الرَّكعةُ فقط؛ إلا أن يأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ.
الرابع : أن يكون السَّبْقُ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ، مثل: أن يسجدَ ويرفعَ قبلَ أنْ يسجدَ إمامُه، فيلزمُه أنْ يرجعَ ليأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ، فإنْ لم يفعلْ عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً فصلاته صحيحة.
الخامس : أن يكون السَّبْقُ برُكنين، مثل: أن يسجدَ ويرفعَ قبلَ سجودِ إمامِهِ، ثم يسجدَ الثانيةَ قبلَ رَفْعِ إمامِهِ مِن السَّجدةِ الأولى، أو يسجدَ ويرفعَ ويسجدَ الثانيةَ قبلَ سجودِ إمامِهِ، فإنْ كان عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً بطلتْ ركعتُه فقط؛ إلا أنْ يأتيَ بذلك بعدَ إمامِهِ.
هذه خلاصةُ أحكامِ السَّبقِ على المشهورِ مِن المذهبِ.
والصَّحيحُ: أنَّه متى سَبَقَ إمامَه عالماً ذاكراً فصلاتُه باطلةٌ بكلِّ أقسامِ السَّبقِ، وإنْ كان جاهلاً أو ناسياً فصلاتُه صحيحةٌ؛ إلا أنْ يزولَ عذره قبل أنْ يدرِكَهُ الإمامُ، فإنه يلزمُه الرجوعُ ليأتيَ بما سَبَقَ فيه بعدَ إمامِه، فإن لم يفعلْ عالماً ذاكراً بطلتْ صلاتُه، وإلا فلا.(165/44)
وبمناسبة الكلام على السَّبْقِ إلى الرُّكنِ أو بالرُّكنِ نذكر أحوالَ المأمومِ مع إمامِهِ، فالمأمومُ مع إمامِهِ له أحوالٌ أربعٌ:
1 _ سَبْقٌ.
2 _ تَخَلُّفٌ.
3 _ موافقةٌ.
4 _ متابعةٌ.
الاول: السَّبْقُ : وعرفنا أنه محرَّمٌ ومِن الكبائرِ بدلالةِ السُّنَّةِ.
وأيضاً فيه دليلٌ نظريٌّ: وهو أنَّ الإمامَ إمامٌ، والإمامُ يكون متبوعاً، وإذا سبقتَه أصبحَ الإمامُ تابعاً.
الثاني: التَّخلُّفُ :
والتَّخلُّفُ عن الإِمامِ نوعان:
1 _ تخلُّفٌ لعذرٍ.
2 _ وتخلُّفٌ لغير عذرٍ.
فالنوع الأول : أن يكون لعذرٍ، فإنَّه يأتي بما تخلَّفَ به، ويتابعُ الإمامَ ولا حَرَجَ عليه، حتى وإنْ كان رُكناً كاملاً أو رُكنين، فلو أن شخصاً سَها وغَفَلَ، أو لم يسمعْ إمامَه حتى سبقَه الإمامُ برُكنٍ أو رُكنين، فإنه يأتي بما تخلَّفَ به، ويتابعُ إمامَه، إلا أن يصلَ الإمامُ إلى المكان الذي هو فيه؛ فإنَّه لا يأتي به ويبقى مع الإِمامِ، وتصحُّ له ركعةٌ واحدةٌ ملفَّقةٌ مِن ركعتي إمامهِ الرَّكعةِ التي تخلَّفَ فيها والرَّكعةِ التي وصلَ إليها الإِمامُ. وهو في مكانِهِ. مثال ذلك:
رَجُلٌ يصلِّي مع الإِمامِ، والإِمامُ رَكَعَ، ورَفَعَ، وسَجَدَ، وجَلَسَ، وسَجَدَ الثانيةَ، ورَفَعَ حتى وَقَفَ، والمأمومُ لم يسمعْ «المُكبِّرَ» إلا في الرَّكعةِ الثانيةِ؛ لانقطاعِ الكهرباء مثلاً، ولنفرضْ أنه في الجمعة، فكان يسمعُ الإِمامَ يقرأُ الفاتحةَ، ثم انقطعَ الكهرباءُ فأتمَّ الإِمامُ الركعةَ الأُولى، وقامَ وهو يظنُّ أنَّ الإِمامَ لم يركعْ في الأُولى فسمعَه يقرأ )هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ) (الغاشية:1)
فنقول: تبقى مع الإِمامِ وتكونُ ركعةُ الإِمامِ الثانيةِ لك بقية الركعة الأولى فإذا سلَّمَ الإِمامُ فاقضِ الركعةَ الثانيةَ، قال أهلُ العِلمِ: وبذلك يكون للمأمومِ ركعةٌ ملفَّقةٌ مِن ركعتي إمامِهِ؛ لأَنه ائتَمَّ بإمامه في الأُولى وفي الثانية.(165/45)
فإن عَلِمَ بتخلُّفِهِ قبلَ أن يصلَ الإِمامُ إلى مكانِهِ فإنَّه يقضيه ويتابعُ إمامَه، مثاله:
رَجُلٌ قائمٌ مع الإِمامِ فرَكَعَ الإِمامُ وهو لم يسمعْ الرُّكوعَ، فلما قال الإِمامُ: «سَمِعَ اللهُ لمَن حمِدَه» سَمِعَ التسميعَ، فنقول له: اركعْ وارفعْ، وتابعْ إمامَك، وتكون مدركاً للركعةِ؛ لأن التخلُّفَ هنا لعُذرٍ.
النوع الثاني : التخلُّف لغيرِ عُذرٍ.
إما أن يكون تخلُّفاً في الرُّكنِ، أو تخلُّفاً برُكنٍ.
فالتخلُّفُ في الرُّكنِ معناه: أن تتأخَّر عن المتابعةِ، لكن تدركُ الإِمامُ في الرُّكنِ الذي انتقل إليه، مثل: أن يركعَ الإِمامُ وقد بقيَ عليك آيةٌ أو آيتان مِن السُّورةِ، وبقيتَ قائماً تكملُ ما بقي عليك، لكنك ركعتَ وأدركتَ الإِمامَ في الرُّكوعِ، فالرَّكعةُ هنا صحيحةٌ، لكن الفعلُ مخالفٌ للسُّنَّةِ؛ لأنَّ المشروعَ أن تَشْرَعَ في الرُّكوعِ من حين أن يصلَ إمامك إلى الرُّكوعِ، ولا تتخلَّف؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا رَكَعَ فاركعوا» .
والتخلُّفُ بالرُّكنِ معناه: أنَّ الإِمامَ يسبقك برُكنٍ، أي: أن يركَعَ ويرفعَ قبل أن تركعَ. فالفقهاءُ رحمهم الله يقولون: إنَّ التخلُّفَ كالسَّبْقِ، فإذا تخلَّفتَ بالرُّكوعِ فصلاتُك باطلةٌ كما لو سبقته به، وإنْ تخلَّفتَ بالسُّجودِ فصلاتُك على ما قال الفقهاءُ صحيحةٌ؛ لأنه تَخلُّفٌ برُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ.
ولكن القولُ الراجحُ حسب ما رجَّحنَا في السَّبْقِ: أنَّه إذا تخلَّفَ عنه برُكنٍ لغيرِ عُذرٍ فصلاتُه باطلةٌ، سواءٌ كان الرُّكنُ ركوعاً أم غير ركوع. وعلى هذا؛ لو أنَّ الإِمامَ رَفَعَ مِن السجدةِ الأولى، وكان هذا المأمومُ يدعو اللهَ في السُّجودِ فبقيَ يدعو اللهَ حتى سجدَ الإِمامُ السجدةَ الثانيةَ فصلاتُه باطلةٌ؛ لأنه تخلُّفٌ بركنٍ، وإذا سبقه الإِمامُ بركنٍ فأين المتابعة؟
الثالث: الموافقة:
والموافقةُ: إما في الأقوالِ، وإما في الأفعال، فهي قسمان:(165/46)
القسم الأول : الموافقةُ في الأقوالِ فلا تضرُّ إلا في تكبيرةِ الإِحرامِ والسلامِ.
أما في تكبيرةِ الإِحرامِ؛ فإنك لو كَبَّرتَ قبلَ أن يُتمَّ الإِمامُ تكبيرةَ الإِحرام لم تنعقدْ صلاتُك أصلاً؛ لأنه لا بُدَّ أن تأتيَ بتكبيرةِ الإِحرامِ بعد انتهاءِ الإِمامِ منها نهائياً.
وأما الموافقةُ بالسَّلام، فقال العلماءُ: إنه يُكره أن تسلِّمَ مع إمامِك التسليمةَ الأُولى والثانية، وأما إذا سلَّمت التسليمةَ الأولى بعدَ التسليمة الأولى، والتسليمةَ الثانية بعد التسليمةِ الثانية، فإنَّ هذا لا بأس به، لكن الأفضل أن لا تسلِّمَ إلا بعد التسليمتين.
وأما بقيةُ الأقوالِ: فلا يؤثِّرُ أن توافق الإِمامَ، أو تتقدَّم عليه، أو تتأخَّرَ عنه، فلو فُرِضَ أنك تسمعُ الإِمامَ يتشهَّدُ، وسبقتَه أنت بالتشهُّدِ، فهذا لا يضرُّ لأن السَّبْقَ بالأقوالِ ما عدا التَّحريمةِ والتسَّليمِ ليس بمؤثرٍ ولا يضرُّ، وكذلك أيضاً لو سبقتَه بالفاتحة فقرأت: { ولا الضالين} [الفاتحة] وهو يقرأ: {إياك نعبد وإياك نستعين } [الفاتحة] في صلاةِ الظُّهرِ مثلاً، لأنه يُشرعُ للإِمامِ في صلاةِ الظُّهر والعصرِ أن يُسمِعَ النَّاسَ الآيةَ أحياناً كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعلُ .
القسم الثاني الموافقةُ في الأفعالِ وهي مكروهةٌ، وقيل: إنها خِلافُ السُّنَّةِ، ولكن الأقربُ الكراهةُ.
مثال الموافقة : لما قالَ الإِمامُ: «الله أكبر» للرُّكوعِ، وشَرَعَ في الهوي هويتَ أنت والإِمامُ سواء، فهذا مكروهٌ؛ لأنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام قال: «إذا رَكع فاركعوا، ولا تركعوا حتى يركعَ» وفي السُّجودِ لما كبَّرَ للسجودِ سجدتَ، ووصلتَ إلى الأرضِ أنت وهو سواء، فهذا مكروهٌ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، فقال: «لا تسجدوا حتى يسجدَ» .(165/47)
قال البراءُ بن عَازب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَه» لم يَحْنِ أحدٌ منَّا ظهرَهُ حتى يقعَ النبي صلى الله عليه وسلم سَاجداً، ثم نَقَعُ سجوداً بعدَه .
الرابع: المتابعة:
المتابعة هي السُّنَّةُ، ومعناها: أن يَشْرَعَ الإنسانُ في أفعالِ الصَّلاةِ فَوْرَ شروعِ إمامِهِ، لكن بدون موافقةٍ.
فمثلاً: إذا رَكَعَ تركع؛ وإنْ لم تكملْ القراءةَ المستحبَّةَ، ولو بقيَ عليك آيةٌ، لكونها توجب التخلُّفَ فلا تكملها، وفي السُّجودِ إذا رفعَ مِن السجودِ تابعْ الإِمامَ، فكونك تتابعُه أفضلُ من كونك تبقى ساجداً تدعو الله؛ لأنَّ صلاتَك ارتبطت بالإِمامِ، وأنت الآن مأمورٌ بمتابعةِ إمامِكِ.
مسألة : إذا أُقيمت الصَّلاةُ، وكبَّرَ الإِمامُ، وقرأَ الفاتحةَ، ولم يدخلْ رَجُلٌ مع الإِمامِ، وقال: إذا ركعَ الإِمامُ قُمْتُ وركعتُ، فبقيَ في مكانِهِ، أو بقيَ رجُلانِ يتحدَّثان، ولما ركَع الإِمامُ قاما فركعا معه. فهل نقول: إن هذا يوجب أن تكون صلاتُه باطلةٌ؛ لأنَّه لم يقرأ الفاتحةَ، أو نقول: إنَّ هذا مسبوقٌ أدركَ الرُّكوعَ، فتصحُّ صلاتُه؛ لأنَّه قبل أن يدخلَ في الصَّلاةِ غيرُ مطالبٍ بقراءةِ الفاتحةِ؟
الجواب : أنا أَميلُ إلى أنَّه ما دامَ لم يدخلْ في الصَّلاةِ؛ فإنَّه لا يلزمُه حكمُ الصَّلاةِ، لكن نقول: أنتَ أخطأتَ وفَوَّتَ على نفسِك خيراً كثيراً لما يلي:
أولاً : فاتك فضيلةُ تكبيرةِ الإِحرامِ بعد الإمام، وقِراءةُ الفاتحةِ والسُّورةِ إنْ كان هناك سورة.
ثانياً : عرَّضتَ نفسَك لفوات ركعة؛ لأنَّ بعضَ العلماءِ قالوا: إنَّ ركعتَه لا تصِحُّ.
قوله: «ويسنّ للإِمام التخفيف» إذا قال أهلُ العِلمِ «يُسَنُّ» فالمراد: أنَّه مِن الأشياء التي إنْ فَعَلَها الإنسانُ أُثِيبَ، وإنْ تَرَكها لم يُعاقبْ؛ لأنَّ الأحكامَ عند أهلِ العِلمِ خمسةٌ:
1 _ واجبٌ.
2 _ وضدُّه المحرَّم.
3 _ سُنَّةٌ.
4 _ وضدُّها المكروه.(165/48)
5 _ مباحٌ.
فالإِمامُ يُسَنُّ له التخفيفُ، أي: أنْ يُخفِّفَ للناسِ، والتَّخفيفُ المطلوبُ مِن الإِمامِ ينقسم إلى قسمين:
1 _ تخفيفٍ لازم.
2 _ تخفيفٍ عارضٍ، وكلاهما مِن السُّنَّةِ.
أما التَّخفيفُ اللازمُ، فألا يتجاوز الإنسانُ ما جاءتْ به السُّنَّةُ، فإن جاوزَ ما جاءت به السُّنَّةُ، فهو مُطوِّلٌ.
وأما العارض، فهو أن يكون هناك سببٌ يقتضي الإِيجازَ عمَّا جاءت به السُّنَّةُ، أي: أن يُخفِّفَ أكثر مما جاءت به السُّنَّةُ.
ودليلُ التَّخفيف اللازم: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي» ، وقال أنسٌ : «ما صَلَّيتُ وراءَ إِمامٍ قَطُّ أخفَّ صلاةً ولا أَتَمَّ مِن النبي صلى الله عليه وسلم» .
وقولُه صلى الله عليه وسلم: «إذا أمَّ أحدُكم النَّاسَ فَلْيُخَفِّفْ» ، والمرادُ بالتَّخفيف: ما طابق السُّنَّةُ.
ودليل التخفيف العارض قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنِّي لأدخُلُ في الصَّلاةِ، وأنا أُريد أنْ أُطَوِّلَ فيها؛ فأسمعُ بكاءَ الصَّبيِّ؛ فأتجوَّزُ في صلاتي؛ كراهيةَ أنْ أَشُقَّ على أُمِّهِ» ، وفي رواية: «... مَخَافةَ أنْ تُفْتَنَ أُمُّهُ»
قوله: «مع الإِتمام» .
ظاهره: أن الإِتمام سنّة في حق الإِمام، والإِتمام هو: موافقة السنّة، وليس المراد بالإِتمام أن يقتصر على أدنى الواجب، بل موافقة السنّة هو الإِتمام، ولكن إذا نظرنا في الأدلة تبين لنا أن التخفيف الموافق للسنة في حق الإمام واجب.
ودليل ذلك: أن معاذ بن جبل : لما أطال بأصحابه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أتريدُ يا معاذُ أنْ تكون فَتَّاناً» يعني: صادًّا للنَّاسِ عن سبيل الله؛ لأنَّ الفِتنةَ هنا بمعنى الصَّدِّ عن سبيل الله، كما قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) (البروج:10)(165/49)
ويؤيدُ ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم شكا إليه رَجُلٌ فقال: إنِّي لَأَتأخَّرُ عن صلاةِ الصُّبحِ مِن أجْلِ فُلانٍ، مما يُطيلُ بنا. قال الرَّاوي: فما رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم غَضِب في موعظةٍ قَطُّ أشدَّ ما غَضِبَ يومئذٍ. فقال: «يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ منكم منفِّرِين، فأيُّكم أمَّ النَّاسَ فليُوجِزْ، فإنَّ مِنْ ورائِه الكبيرَ والضعيفَ وذا الحاجة» والمراد بالإيجاز ما وافق السُّنَّةَ.
وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام غضب في هذه الموعظة من أجل الإطالة فكيف نقتصر على السنية في التخفيف.
ولهذا؛ فإنَّ القولَ الذي تؤيُّده الأدلَّة: أنَّ التطويلَ الزائدَ على السُّنَّةِ حرامٌ؛ لأنَّ الرسولَ عليه الصلاة والسلام غَضِبَ لذلك.
وأيضاً: كلامُ المؤلِّفِ يدلُّ على أن الإِتمامَ سُنَّةٌ، وفي هذا شيء مِن النَّظرِ؛ وذلك لأَنَّ الإِمامَ يتصرَّفُ لغيره، والواجبُ على مَن تصرَّفَ لغيره أن يفعلَ ما هو أحسنُ، أمّا مَن تصرَّفَ لنفسهِ فيفعل ما يشاء مما يُباح له.
فمثلاً: لو كان لي كتابٌ قيمتُه عشرة ريالات؛ فبعتُه بثمانية، فإنَّه جائزٌ؛ لأنِّي لو وهبتُه مجَّاناً فهو جائزٌ، لكن لو وكلني شخصٌ في بيعِهِ وكان يساوي عشرة؛ فبعتُه بثمانية فلا يجوزُ، لأنَّ هناكَ فَرْقاً بين مَن يتصرَّفُ لنفسِه وبين مَن يتصرَّفُ لغيرِه، والإِمامُ مؤتَمَنٌ على الصَّلاةِ فكيف نقول: إنَّ للإِمامِ أن ينقص الصَّلاةَ، وأنَّ الإِتمامَ في حَقِّه سُنَّةٌ؟!(165/50)
فإذا كنتُ أصلِّي لنفسي، واقتصرتُ على الواجبِ في الأركان والواجبات، فإنَّ لي ذلك، لكن إذا كنتُ إماماً فليس لي ذلك؛ لأنَّه يجب أن أصلِّي الصَّلاةَ المطابقةَ للسُّنَّةِ بقَدْرِ المستطاعِ؛ لأنني لا أتصرَّفُ لنفسي، لكن لو فُرِضَ أنَّ المأمومين محصورون، وقالوا: يا فلان، عَجِّلْ بنا؛ لنا شُغلٌ، فحينئذٍ له أن يقتصرَ على أدنى الواجبِ؛ لأنَّ المأمومين أذِنوا له في ذلك، فكما أنَّه لو صَلَّى كلُّ واحدٍ منهم على انفرادٍ لكان له أن يقتصرَ على الواجبِ، فكذلك إذا أذِنوا لإِمامِهم، فالتخفيف الذي يُؤذن به ما وافقَ السُّنَّة، لا ما وافقَ أهواءَ النّاسِ.
فلو قرأ الإِمامُ في صلاةِ الجُمعةِ بسورة (الجُمعة) و(المنافقين) فليس مطوِّلاً؛ لأنَّه موافقٌ للسُّنَّة ، وكذلك أيضاً لو قرأ في صلاةِ الصُّبح مِن يومِ الجُمعةِ بـ( (الم)تنزيل) فى السجدة في الرَّكعةِ الأُولى وبـ { هل أتى على الاإنسان } في الرَّكعةِ الثانية فهذه هي السُّنَّةُ .
وقد قال أنس بن مالك: «ما صَلَّيتُ وراءَ إمامٍ قَطُّ أخفَّ صلاةٍ ولا أتمَّ مِن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم» . إذاً؛ الصَّلاةُ الموافقةُ للسُّنَّةِ هي أخفُّ الصَّلاةِ وأتمُّ الصَّلاةِ، فلا ينبغي للإِمام أنْ يطيعَ بعضَ المأمومين في مخالفة السُّنَّةِ، لأنَّ اتِّباعَ السُّنَّةِ رحمة، إنما لو حصل عارضٌ يقتضي التَّخفيفَ فحينئذٍ يُخفِّفُ؛ لأنَّ هذا مِن السُّنَّةِ، أما الشيءُ اللازمُ الدائمُ فإننا نفعلُ فيه السُّنَّةَ.(165/51)
قوله: «وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية» ، أي: ويُسَنُّ أيضاً أنْ يطوِّلَ الركعةَ الأُولى أكثر مِن الثانيةِ؛ لأنَّ هذا هو السُّنَّةُ كما في حديث أبي قتادة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: «كان يُطوِّلُ الرَّكعةَ الأُولى أكثر مِن الثانية» ، وكما أنَّ هذا هو السُّنَّةُ فهو الموافقُ للطبيعة؛ لأنَّ الإنسانَ أول ما يدخل في الصَّلاةِ يكون أنشط، فكان مِن المناسبِ أن تكون الركعة الأُولى أطول مِن الثانية؛ ولأنَّ في ذلك مراعاةٌ للمأموم الدَّاخل بعدَ إقامةِ الصَّلاةِ.
إلا أنَّ العُلماءَ استثنوا مسألتين:
المسألة الأولى : إذا كان الفرقُ يسيراً، فلا حَرج مثل «سبح» و«الغاشية» في يوم الجمعة وفي يوم العيد، فإن «الغاشية» أطول، لكن الطُّولَ يسير.
المسألة الثانية : الوجه الثاني في صلاة الخوف.
فصلاةُ الخوف وردت عن النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام على أوجهٍ متعدِّدةٍ حسب ما تقتضيه الحال ، ومِن الأوجه التي وَرَدتْ عليها: أنَّ الإِمام يقسم الجيشَ إلى قسمين؛ قِسمٍ يبقون أمام العدو، وقِسمٍ يدخل مع الإِمام يصلّي، فإذا قامَ إلى الركعةِ الثانيةِ انفردَ الذين يصلّون معه وأتمّوا صلاتَهم؛ والإِمامُ واقفٌ، ثم انصرفوا إلى مكان الطائفةِ الباقيةِ تجاه العدو، وجاءت الطائفةُ الباقيةُ ودخلوا مع الإِمامِ؛ والإِمامُ واقفٌ، وصلّوا معه الركعةَ التي بقيت، فإذا جلسَ للتشهدِ قاموا وأتموا صلاتَهم قبل أن يُسلِّمَ الإِمامُ، ثم جلسوا للتشهد وسلّموا معه.
فالإِمامُ في الركعةِ الثانيةِ كان وقوفُه أطول مِن وقوفِه في الركعةِ الأُولى، لكن هكذا جاءت به السُّنَّةُ مِن أجل مراعاةِ الطائفةِ الثانيةِ.
قوله: «ويستحبُّ انتظار داخل ما لم يشق على مأموم» أي: يستحبُّ للإِمامِ أن ينتظرَ الداخلَ معه في الصَّلاةِ، بشرط أنْ لا يَشُقَّ على مأمومٍ، فإن شَقَّ على المأموم الذي معه كُرِهَ له ذلك؛ إنْ لم يحرمْ.
والانتظارُ يشمَلُ ثلاثةَ أشياء:(165/52)
1 _ انتظار قبل الدُّخولِ في الصَّلاةِ.
2 _ انتظار في الرُّكوعِ، ولا سيَّما في آخر ركعة.
3 _ انتظار فيما لا تُدرك فيه الركعة، مثل: السُّجود.
أما الأول : وهو انتظارُ الدَّاخلِ قبل الشروعِ في الصَّلاةِ، فهذا ليس بسُنَّة، بل السُّنّةُ تقديمُ الصَّلاةِ التي يُسَنُّ تقديمُها، وأما ما يُسَنُّ تأخيرُه مِن الصَّلوات وهي العشاء؛ فهنا يُراعي الدَّاخلين؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في صلاةِ العشاءِ؛ إذا رآهم اجتمعوا عَجَّلَ، وإذا رآهم أبطأوا أخَّرَ . لأنَّ الصَّلاةَ هنا لا يُسنُّ تقديمُها، ولذلك كان الرَّسولُ عليه الصلاة والسَّلام يستحبُّ يُؤخِّرَ من العشاءِ، ولكنهم إذا اجتمعوا لا يُحِبُّ أن يُؤخِّرَ مِن أجلِ أنْ لا يَشُقَّ عليهم، أما غيرُها مِن الصَّلوات فلا يؤخِّرُها ولا ينتظر، بل يُصلِّي الصَّلاة في أولِ وقتِها.
وذهبَ بعضُ أهلِ العِلمِ _ استحساناً منهم _ إلى أنَّه إذا كان الرَّجلُ ذا شَرَفٍ وإمامةٍ في الدِّين، أو إمارةٍ في الدُّنيا، فإنه يُستحبُّ انتظارُه، كمَنْ يُصلِّي في هذا المسجدِ دائماً؛ بشرط ألا يَشُقَّ على المأمومين؛ مِن أجلِ ما يُرجى مِن مصلحةٍ في انتظاره. كذلك لو كان هذا المسجدُ يُصلِّي به أميرٌ أو وَليُ أمْرٍ، وانتظرَه الإنسانُ مِن أجلِ تأليفِهِ على صلاةِ الجماعةِ، فإنَّ هذا أيضاً مِن الأمورِ المستحبَّةِ.
وقالوا: لأنَّ ذلك مِن المصلحةِ؛ لأنَّ ذوي الهيئات والشَّرَفِ والجاهِ إذا راعيتَهم نِلْتَ منهم مقصوداً كبيراً، وإذا لم تُراعِهم رُبَّما يفلتُ الزِّمامُ مِن يدِكِ بالنسبة إليهم.(165/53)
وهذه المسألةُ؛ في الحقيقة على إطلاقِها لا تنبغي؛ لأنَّ دينَ الله لا يُراعى فيه أحدٌ، ولكن إذا رأى الإنسانُ مصلحةً محقّقةً، وأنَّ في عدمِ المراعاةِ مفسدةً، بحيث إذا لم نُراعِه لم يتقدَّمْ إلى المسجد أو رُبَّما لم يُصلِّ مع الجماعةِ، وهو شخصٌ يُقتدى به إما في دِيْنِهِ وإما في ولايتِهِ، فهنا يترجَّحُ انتظارُه بشرط أن لا يَشُقَّ على الموجودين في المسجدِ، فإنْ شَقَّ فهم أَولى بالمراعاة.
الثاني : انتظاره في الرُّكوع، مثل: أن يكون الإِمامُ راكعاً، فأحسَّ بداخلٍ في المسجدِ، فلينتظرْ قليلاً حتى يُدركَ هذا الدَّاخلُ الرَّكعةَ، فهنا يكون للقولِ باستحبابِ الانتظارِ وَجْهٌ، ولا سيما إذا كانت الرَّكعةُ هي الأخيرةُ، مِن أجل أنْ يدركَ الجماعةَ. لكن؛ بشرطِ أن لا يَشُقَّ على المأمومين، مثل: لو سَمِعَ إنساناً ثقيلَ المشيِ لكِبَرٍ؛ وبابُ المسجدِ بعيدٌ عن الصَّفِّ، فهذا يستغرقُ بِضْعَ دقائق في الوصول إلى الصَّفِّ، فهنا لا ينتظرُه؛ لأن يَشُقُّ على المأمومين، ولكن الانتظار اليسير لا بأس به.
فإذا قال قائلٌ : ما الدليلُ على هذه المسألةِ؛ لأنَّ تطويلَ الصَّلاةِ وتقصيرَها عبادةٌ، لا بُدَّ مِن دليلٍ على هذا؟
قلنا: يمكن أن يؤخذَ الدَّليلُ مما يلي:
أولاً : «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سَمِعَ بكاءَ الصَّبيِ أوجزَ في صلاتِهِ، مخافةَ أن تُفْتَنَ أُمُّهُ» فهنا غَيَّرَ هيئةَ الصَّلاةِ مِن أجلِ مصلحةِ شخصٍ «حتى لا تُفْتَنَ أُمُّهُ» وينشغلَ قلبُها بابنِها.
ثانياً : مِن إطالةِ النبي صلى الله عليه وسلم الرَّكعةَ الأُولى في الصَّلاةِ، حتى إن الرَّجُلَ يسمعُ الإِقامةَ؛ ويذهبُ إلى البَقيع، فيقضي حاجَتَهُ، ثم يتوضَّأُ، ثم يأتي ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الرَّكعةِ الأُولى . فإنَّ المقصودَ بهذا أن يدركَ النَّاسُ الركعةَ الأُولى.(165/54)
ثالثاً : من إطالةِ الرَّكعةِ الثانيةِ في صلاةِ الخَوْفِ؛ من أجلِ إدراكِ الطَّائفةِ الثانيةِ للصَّلاةِ.
فهذه الأصولُ الثلاثةُ رُبَّما يُبنى عليها القولُ باستحبابِ انتظارِ الدَّاخلِ في الرُّكوعِ، بشرطِ أنْ لا يَشُقَّ على مأمومٍ، ولأنه يُحْسِنُ إلى الدَّاخلِ مع عدم المشقَّةِ على الذي معه.
الثالث : انتظار الدَّاخلِ في رُكنٍ غيرِ الرُّكوعِ، أي: في رُكنٍ لا يُدركُ فيه الرَّكعةَ ولا يُحسبُ له، فهذا نوعان:
النوع الأول : ما تحصُلُ به فائدةٌ.
النوع الثاني : ما ليس فيه فائدةٌ، إلا أن يشاركَ الإِمامُ فيما اجتمع معه فيه.
مثال النوع الأول : إذا دخلَ في التشهُّدِ الأخيرِ، فهنا الانتظارُ حَسَنٌ؛ لأنَّ فيه فائدةً، وهي: أنه يدركُ صلاةَ الجماعةِ عند بعضِ أهلِ العِلمِ، فقد مرَّ بنا قولُ المؤلِّفِ: «مَن كبَّرَ قبل سلامِ إمامِهِ لَحِقَ الجماعةَ» .
وأيضاً: فيه فائدة؛ حتى على القولِ بعدمِ إدراكِ الجماعةِ؛ لأنَّ إدراكَ هذا الجُزءِ خيرٌ مِن عدمِهِ فهو مستفيدٌ.
ومثال النوع الثاني : ما ليس فيه فائدة في إدراكِ الجماعةِ؛ إلا مجرد المتابعة للإِمام، مثل: أن يكون ساجداً في الرَّكعةِ الثالثة في الرُّباعيةِ فأحسَّ بداخلٍ، فهنا لا يُستحبُّ الانتظار؛ لأنَّ المأمومَ الداخلَ لا يستفيدُ بهذا الانتظارِ شيئاً في إدراكِ الجماعةِ، إذ سيدركُ الرَّكعةَ الأخيرةَ، ولو قلنا بالانتظارِ لاستلزم شيئين:
الأول : أنَّه قد يَشُقُّ على بعضِ المأمومين، ولو نفسيًّا؛ لأنَّ بعضَ الناسِ ليس عنده مروءةً، ولا يحبُّ الخيرَ للغير.
الثاني : أنه يغيِّرُ هيئةَ الصلَّاةِ؛ لأنَّه سوف يُطيلُ هذا الرُّكنَ أكثر مما سبقه، وهذا خِلافُ هيئةِ الصَّلاةِ؛ لأنَّ هيئةَ الصلاةِ: أنْ يكون آخرُها أقصرُ مِن أوَّلِها.(165/55)
وذهبَ بعضُ أهلِ العِلمِ: إلى أنَّه لا ينتظرُ الدَّاخلَ مطلقاً، حتى وإنْ كان دخولُه في الرُّكوعِ في الركعةِ الأخيرةِ الذي تُدركُ به الجماعةُ، قال: لأنَّ الصلاةَ لها هيئةٌ معلومةٌ في الشَّرعِ، فلا ينبغي أن تُغَيَّرَ مِن أجلِ مراعاةِ أحدٍ.
ولكن؛ الصحيحُ: ما سَبَقَ تفصيلُه.
وقوله: «ما لم يشق على مأموم» وهذا قيدُ المسألةِ السَّابقةِ، وهو: أنَّه إذا شَقَّ على مأموم فإنَّه لا ينتظرُ، ولكن؛ هل نقولُ: إنَّه يكون مكروهاً، أو يكون ممنوعاً؟
الجواب : ظاهرُ السُّنةِ أنَّه يكون ممنوعاً؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أنكرَ على مُعاذ حينما أطالَ إطالةً غيرَ مشروعةٍ، وهذا الذي انتظرَ وأطالَ الانتظارَ قد أطالَه في حالٍ لا يُشرعُ له فيه ذلك، مثل مَن أطالَ القراءةَ في حالٍ لا تُشرعُ فيها، فإنَّه حرامٌ عليه.
ويؤخذُ مِن كلامِ المؤلِّفِ : أنَّ السابقَ أَولى بالمُراعاةِ مِن اللاحقِ، ولهذا فَوَّتنا مصلحةَ الدَّاخلِ مراعاةً للسابقِ، وهو كذلك.
قوله: «وإذا استأذنت المرأةُ إلى المسجد كره منعها» .
«إذا استأذنت» أي: طلبت الإذنَ و«المرأة» يُرادُ بها البالغةُ، وقد يُرادُ بها الأنثى، وإنْ لم تكن بالغةً، ولكن؛ الأكثرُ أنَّ المرأةَ كالرَّجُلِ؛ إنما تُطلق على البالغةِ، كما أنَّ الرَّجُلَ يُطلقُ على البالغِ، فإذا طَلبت الإذنَ مِن وليِّ أمرِها، فإن كانت ذاتَ زوجٍ فوَليُّ أمرِها زوجُها، ولا ولايةَ لأبيها ولا لأخيها ولا لعمِّها مع وجودِ الزَّوجِ، لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم في النساء: «إنهنَّ عَوانٍ عندَكم» والعواني: جَمْعُ عانيةٍ، وهي الأسيرة، ولأنَّ الزوجَ سيدٌ للزَّوجةِ، كما قال الله تعالى في سورة يوسف:(وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ)(يوسف: من الآية25)أي: زوجَها، فإنْ لم يكن لها زوجٌ فأبوها، ثم الأقربُ فالأقربُ مِن عصباتِها.(165/56)
وقوله: «إلى المسجد» أي: لحضورِ صلاةِ الجماعةِ، فإنَّه يُكره له أن يمنَعَها، والكراهةُ في كلام الفقهاءِ: كراهةُ التنزيهِ التي يستحقُّ عليها الثوابَ عند التَّرْكِ، ولا يُعاقب عليها عند الفِعْلِ.
والدليلُ: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ» وفيه إشارةٌ إلى توبيخِ المانعِ، لأنَّ الأَمَةَ ليست أَمَتَكَ، والمسجدُ ليس بيتَكَ، بل هو مسجدُ الله، فإذا طلبتْ أَمَةُ اللهِ بيتَ اللهِ فكيف تمنعُها؟ ولأنَّه مَنع مَن لا حَقَّ له عليها في المَنْعِ منه، وهو المسجد.
وقال بعضُ العلماءِ: إنَّ هذا الحديث نهيٌ، والأصلُ في النَّهيِ التحريمُ، وعلى هذا؛ فيحرمُ على الوَليِ أنْ يمنعَ المرأةَ إذا أرادت الذِّهابَ إلى المسجدِ لتصلِّي مع المسلمين، وهذا القول هو الصَّحيحُ.
ويدلُّ لهذا: أنَّ ابنَ عُمرَ لما قال له ابنُه بلالٌ حينما حَدَّثَ بهذا الحديث: «واللهِ لَنَمْنَعُهُنَّ» لأنَّه رأى الفتنةَ، وتغيُّرَ الأحوالِ، وقد قالت عائشةُ: «لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم مِن النساءِ ما رأينا لَمَنَعَهُنَّ كما مُنِعَتْ نساءُ بني إسرائيلَ» فلما قال: والله لَنَمْنَعُهُنَّ، أقبلَ إليه عبدُ الله فسبَّهُ سبًّا شديداً ما سبَّهُ مثلَه قطُّ، وقال له: أقولُ لك: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماءَ اللهِ» وتقول: «والله لَنَمْنَعُهُنَّ» فَهَجَرَهُ. لأنَّ هذا مضادَّةٌ لكلامِ الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا أمرٌ عظيمٌ، وتعظيمُ كلامِ اللهِ ورسولِهِ عند السَّلفِ لا يماثُله تعظيمُ أحدٍ مِن الخَلَفِ.
وهذا الفِعْلُ مِن ابنِ عُمرَ يدلُّ على تحريمِ المَنْعِ.
لكن؛ إذا تغيَّرَ الزَّمانُ فينبغي للإِنسانِ أن يُقْنِعَ أهلَه بعَدَمِ الخروجِ، حتى لا يخرجوا، ويَسْلَمَ هو مِن ارتكابِ النَّهْيِ الذي نَهَى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم.(165/57)
وقوله: «إذا استأذنت المرأة» يشمَلُ الشَّابةَ والعجوزَ، والحسناءَ والقبيحةَ.
وقوله: «إلى المسجد» يدلُّ على أنَّها لو استأذنت لغير ذلك فله منعُها، فلو استأذنت أن تخرجَ إلى المدرسةِ فلزوجها أنْ يمنعَها، إلا أن يكون مشروطاً عليه عند العقدِ، وكذلك لو أرادت أن تخرجَ إلى السُّوقِ فله أنْ يمنعَها.
وقولنا: له أنْ يمنعَها، أي: ليس حراماً عليه، ولكن؛ ينظرُ إلى المصلحةِ، فقد لا يكونُ مِن المصلحةِ أنْ يمنعَها، وقد تكون المصلحةُ في منعِها.
وقوله: «إلى المسجد» أي: للصَّلاةِ، أما لو ذهبت إلى المسجدِ للفُرْجَةِ على بنائِهِ، أو لِتحضُرَ محاضرةً في المسجدِ _ مثلاً _ فله أن يمنعَها، فبيتُها خيرٌ لها مِن الخروجِ إلى المسجدِ؛ لأنَّه هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بيوتُهنَّ خيرٌ لَهُنَّ»، فهذا الحديثُ الذي أشرنا إليه: «لا تمنعوا إماءَ اللهِ مساجدَ اللهِ، وبيوتُهُنَّ خيرٌ لَهُنَّ» ، تضمن خطابين:
1 _ خطاباً موجهاً للأولياءِ.
2 _ خطاباً موجهاً للنساءِ.
أما الأولياءُ؛ فلا يَمنعونَ النِّساءَ، وأما النساءُ: فبيوتُهنَّ خيرٌ لَهُنَّ.
لكن؛ قال عليه الصَّلاةُ والسلامُ: «وَلْيَخْرُجْنَ تَفِلاتٍ» أي: غير متطيِّباتٍ، ومَنَعَ النبي صلى الله عليه وسلم المرأةَ _ إذا كانت متطيِّبةً _ أنْ تشهدَ المسجدَ فقال: «أيُّما امرأةٍ أصابت بخوراً؛ فلا تشهدْ معنا صلاةَ العشاءِ» وكُنَّ يخرجنَ لصلاةِ العشاءِ يُصلِّينَ مع النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وكذلك لصلاةِ الفجرِ.
وعلى هذا؛ فيجوزُ للوَليِّ إذا أرادت المرأةُ أنْ تخرجَ متطيِّبةً أن يمنعَها، بل يجب أنْ يمنعَها في هذه الحالِ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم نهاها أن تشهد صلاةَ العشاءِ إذا كانت متطيِّبةً، وكذلك لو خرجت متبرجةً بثيابِ زينةٍ أو بنعالٍ صرَّارةٍ أو ذاتِ عَقِبٍ طويلٍ، أو ما أشبه ذلك؛ فله أنْ يمنعَها قياساً على منعِها مِن الخروج متطيِّبةً.(165/58)
قوله: «وبيتها خير لها» يُستثنى مِن ذلك: الخروجُ لصلاةِ العيدِ، فإنَّ الخروجَ لصلاةِ العيدِ للنِّساءِ سُنَّةٌ، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَ أَنْ يخرج العواتقُ وذواتُ الخُدورِ ، و«العواتق» أي: الحرائرُ الشريفاتُ، و«ذوات الخدور» يعني: الأبكارَ التي اعتادت الواحدةُ منهنَّ أن تبقى في خِدْرِها. حتى الحِيَّضُ أمرَهُنَّ أنْ يخرجنَ لصلاةِ العيدِ، إلا أنَّ الحِيَّضَ أَمَرَهُنَّ أن يعتزلنَ المُصلَّى؛ لأنَّ مُصلَّى العيدِ مسجدٌ، ولكن يجب أن تخرجَ غيرَ متبرِّجةٍ بزينةٍ ولا متطيِّبة، بل تخرجُ بسكينةٍ ووقارٍ، وبدون رَفْعِ صوتٍ أو ضَحِكٍ إلى زميلتِها، وبدون مِشيةٍ كمِشيةِ الرَّجُلِ، بل تكون مشيتُها مشيةَ أُنثى، مِشيةَ حياءٍ وخَجَلٍ ووقارٍ.
فصل في الأولى بالإمامة: لما بيّن حُكمَ صلاةِ الجماعةِ وما يتفرَّعُ عليها مما سبق ذكرُه، ذَكَرَ أحكامَ الإِمامةِ، مَنْ الذي يصلحُ إماماً؟ ومَنْ أحقُّ بالإِمامةِ؟ فهذا المرادُ بهذا الفصلِ فبدأ بالأحقِّ.
قوله: «الأولى بالإِمامة الأقرأ العالم فقه صلاته» هل المرادُ بالأقرأ الأجودُ قِراءةً، وهو الذي تكون قراءتُه تامَّةً، يُخرِجُ الحروفَ مِن مخارِجِها، ويأتي بها على أكملِ وجهٍ، أو المرادُ بالأقرأ الأكثرُ قراءةً؟
الجواب المراد : الأجودُ قِراءةً، أي: الذي يقرؤه قراءةً مجوَّدةً، وليس المراد التجويد الذي يُعرف الآن بما فيه مِن الغنَّةِ والمدَّاتِ ونحوها، فليس بشرطٍ أن يتغنَّى بالقرآن، وأن يحسِّنَ به صوتَه، وإن كان الأحسنُ صوتاً أَولى، لكنه ليس بشرط.(165/59)
وقوله: «العالم فقه صلاته» أي: الذي يعلم فِقْهَ الصَّلاةِ، بحيث لو طرأَ عليه عارضٌ في صلاتِهِ مِن سهوٍ أو غيرِه تمكَّنَ مِن تطبيقِهِ على الأحكامِ الشرعيَّةِ. فلو وُجِدَ أقرأ؛ ولكن لا يَعلمُ فِقْهَ الصَّلاةِ، فلا يَعرفُ مِن أحكامِ الصَّلاةِ إلا ما يعرِفُهُ عامَّةُ الناسِ مِن القراءةِ والرُّكوعِ والسُّجودِ، فهو أَولَى مِن العالمِ فِقْه صلاتِهِ.
ودليلُ ذلك: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «يَؤُمُّ القومَ أقرؤُهُم لكتابِ اللهِ» .
وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى خِلافِ ما يفيده كلامُ المؤلِّفِ، وهو أَنَّه إذا اجتمعَ أقرأُ وقارىءٌ فَقِيهٌ، قُدِّمَ القارىءُ الفقيهُ، على الأقرأ غير الأفقه.
وأجابوا عن الحديث: بأنَّ الأقرأَ في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابةِ هو الأفقهُ؛ لأنَّ الصحابةَ كانوا لا يقرؤون عشرَ آياتٍ حتى يتعلَّمُوها؛ وما فيها مِن العِلْمِ والعمل .
ومِن المعلومِ أَنَّه إذا اجتمعَ شخصان، أحدِهما أجودُ قِراءةً والثاني قارىءٌ دونه في الإجادة، وأعلمُ منه بفقهِ أحكامِ الصَّلاةِ، فلا شَكَّ أنَّ الثاني أقوى في الصَّلاةِ مِن الأولِ، أقوى في أداء العملِ؛ لأنَّ ذلك الأقرأَ رُبَّما يُسرعُ في الرُّكوعِ أو في القيام بعدَ الرُّكوعِ، ورُبَّما يطرأُ عليه سهوٌ ولا يدري كيف يتصرَّف، والعالمُ فِقْهَ صلاتِهِ يُدركُ هذا كلَّه، غاية ما فيه أنه أدنى منه جَودة، في القِراءةِ، وهذا القول هو الرَّاجحُ.
وهذا في ابتداء الإمامة، أي: لو حَضَرَ جماعةٌ، وأرادوا أن يقدِّموا أحدَهم، أما إذا كان للمسجدِ إمامٌ راتبٌ فهو أَولى بكلِّ حالٍ ما دام لا يوجدُ فيه مانعٌ يمنعُ إمامتَه.
قوله: «ثم الأفقه» أي: إذا اجتمعَ قارئان متساويان في القِراءةِ، لكن أحدُهما أَفْقَهُ، فإنَّه يقدِّمُ الأفقهَ، وهذا لا إشكالَ فيه.(165/60)
والدَّليلُ على أنَّ الأفقه يلي الأقرأ: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤم القوم أقرأهم لكتابِ الله، فإنْ كانوا في القِراءةِ سواءً فأعلَمُهُم بالسُّنَّةِ...» .
قوله: «ثم الأسنّ» أي: الأكبرُ سناً، فابنُ عشرين سَنَةً يُقدَّمُ على ابن خمس عشرة إذا تساوَيا فيما سَبَقَ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث مالك بن الحُويرث: «... ثم لِيَؤُمَّكُمْ أكبرُكُم» وهذا إذا استويا في القِراءةِ والسُّنَّةِ. ولقوله صلى الله عليه وسلم: «فإنْ كانوا في السُّنَّةِ سَواءً فأقدَمُهُم هِجْرَةً، فإنْ كانوا في الهجرةِ سواءً فأقدَمُهُم سِلْماً أو قال سِنًّا» ولم يذكرِ المؤلِّفُ تَقدُّمَ الهجرةِ، ولا تقدُّمَ الإسلامِ، ولكن ينبغي أن نذكرَه فنقول: إذا كانوا في السُّنَّةِ _ سواءً فأقدَمُهم هِجرةً. أي: لو كانا مسلمين، ولكنَّهما في بلادِ كُفرٍ، فَسَبَقَ أحدُهما في الهِجرةِ إلى بلادِ الإسلام، فالمُقدَّمُ الأسبقُ هِجرةً؛ لأنَّه أسبقُ في الخَيرِ، وأقربُ إلى معرفةِ الشَّرعِ ممَّنْ تأخَّرَ وبقيَ في بلادِ الكفرِ، فإن كانوا في الهجرةِ سواءً فأقدَمُهم إسلاماً؛ لأن الأقدمَ إسلاماً أقربُ إلى معرفة شريعةِ الله، ولأنَّه أفضلُ.
قوله: «ثم الأشرف» ترتيبُ المؤلِّفُ: الأقرأُ، ثم الأفقهُ، ثم الأسَنُّ، ثم الأشرفُ في المرتبة الرابعة، أي: الأشرفُ نَسَباً، فالقرشيُّ مقدَّمٌ على غيرِه مِن قبائلِ العربِ، والهاشميُّ مقدَّمٌ على القُرشيِّ الذي ليس مِن بني هاشمٍ، فالأشرفُ مقدَّمٌ على غيرِه، لكن بعد المراتبِ الثلاثِ السابقةِ، أي: لو استووا في القِراءةِ وفي الفِقهِ على كلامِ المؤلِّفِ، وفي السِّنِّ قُدِّمَ الأشرفُ.
والدليلُ : ما يُذكرُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «قَدِّمُوا قريشاً، ولا تَقَدَّموها» ولكن يُجاب عن هذا الحديث بجوابين:(165/61)
الأول : الضعف، فإنَّ الحديثَ ضعيفٌ، والضعيفُ لا تقومُ به حُجَّةٌ، ويقوِّي ضعفَه قوله تعالى: )يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات:13) والصَّلاةُ عِبادة وطاعة؛ لا يُقدَّمُ فيها إلا مَن كان أَولى بها عند اللهِ .
الثاني : إنْ صَحَّ الحديثُ فالمرادُ تقديمُ قُريشٍ بالإِمامةِ العُظمى. أي: بالخِلافةِ، ولهذا ذهبَ كثيرٌ مِن العلماءِ إلى أنَّ مِن شرطِ الإِمامِ الأعظمِ أن يكونَ قُرشيًّا، أما إمامةُ الصلاةِ فهي إمامةٌ صُغرى في شيءٍ معيَّنٍ مِن شرائعِ الدِّين، فلا تدخلُ في هذا الحديثِ.
والصَّحيحُ إسقاطُ هذه المرتبةِ، أعني: الأشرفيَّةَ، وأنَّه لا تأثير لها في باب إمامةِ الصَّلاةِ.
قوله: «ثم الأقدم هجرة» . الأقدمُ هجرةً بعدَ الأشرفِ، فيكون في المرتبةِ الخامسةِ، وهذا الترتيبُ ضعيفٌ لمخالفتِه قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: «يَؤمُّ القومَ أقرَؤُهم لكتابِ اللهِ، فإن كانوا في القِراءةِ سواءً فأعلَمُهُمْ بالسُّنَّةِ، فإنْ كانوا في السُّنَّةِ سواءً فأقدَمُهم هِجرةً، فإن كانوا في الهِجرةِ سواءً فأقدَمُهم سِلماً» أي: إسلاماً، فجعلَ النبي صلى الله عليه وسلم الأقدمَ هجرةً في المرتبةِ الثالثةِ.
قوله: «ثم الأتقى» أي: الأشدُّ تقوى لله .(165/62)
والدَّليلُ: قوله تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [الحجرات: 13] وظاهرُ هذا الدَّليلِ أنَّ الأتقى مُقدَّمٌ على كُلِّ واحدٍ ممَّنْ سَبَقَ، لأنَّه عامٌّ. ولكن؛ الاستدلالُ بهذا الدَّليلِ على أنَّ الأتقى في هذه المرتبة فيه نَظَرٌ، بل نقولُ: إنَّ الأتقى مُقدَّمٌ على مَن دونَه في التقوى، لأنه أقربُ إلى إتقانِ الصَّلاةِ مِن غير الأتقى، ومعلومٌ أنَّ إتقانَ الصَّلاةِ أَولى بالمُراعاةِ، وغير الأتقى رُبَّما يتهاون في الوُضُوءِ أو في اجتنابِ النَّجاسةِ، أو غير ذلك، فلذلك كان الأتقى أَولى مِن غيرِه لهذا المعنى.
والأتقى اسمُ تفضيلٍ، مأخوذٌ مِن التقوى، والتقوى: اتقاءُ ما يَضرُّ، فهي في الشَّرعِ اتقاءُ عذابِ اللهِ بفِعْلِ أوامرِه واجتنابِ نواهيه. على علمٍ وبصيرةٍ وقيل: إن التقوى أنْ تَدَعَ الذُّنوبَ كُلَّها، كما قال الناظم:
خَلِّ الذُّنَوبَ صغيرَهَا وكبيرَهَا ذاك التُّقى واعْمَلْ كماشٍ فوقَ أر ضِ الشَّوكِ يَحْذَرُ ما يَرَى لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً إنَّ الجبالَ مِنَ الحَصَى لكن؛ المعنى الذي ذكرنا أعمُّ: وهو أنَّه اتقاءُ عذابِ اللهِ بفِعْلِ الأوامرِ واجتنابِ النَّواهي على علمٍ وبصيرةٍ.
فالمراتبُ الآن _ على ما ذهبَ إليه المؤلِّفُ _ سِتٌّ:
الأقرأُ، ثم الأَفْقَهُ، ثم الأَسَنُّ، ثم الأشرفُ، ثم الأقدمُ هِجرةً، ثم الأتقى.
والصَّحيحُ: ما دَلَّ عليه الحديثُ الصحيحُ وهي خمسٌ: الأقرأُ، فالأعلمُ بالسُّنَّةِ، فالأقدم هِجرةً، فالأقدمُ إسلاماً، فالأكبرُ سِنًّا.
أما التقوى: فهي صِفةٌ يجبُ أن تُراعى _ بلا شَكٍّ _ في كُلِّ هؤلاء، ولا اعتبارَ لأشرفيَّة.(165/63)
قوله: «ثم من قرع» أي: إذا استوى في هذه المراتبِ كلِّها رَجُلان؛ فإنَّنا في هذه الحال نستعملُ القُرْعَةَ، فمَن غَلَبَ في القُرعةِ فهو أحقُّ، فإذا اجتمعَ جماعةٌ يريدون الصَّلاةَ، فقال أحدُهم: أنا أتقدَّمُ، وقال الثاني: أنا أتقدَّمُ، ونظرنا فإذا هما متساويان في كلِّ الأوصافِ فهنا نُقرِعُ بينهما ما لم يتنازل أحدِهما عن طَلَبِهِ، فَمَنْ قَرَعَ فهو الإِمامُ. والقُرْعَةُ ليس لها صورةٌ معينةٌ، بل هي بحسب ما يتَّفِقُ الناسُ عليه، فممكن أن نكتب بورقة (إمام) والأخرى (بيضاء)، ونخلُطَ بعضَهما ببعضٍ، ونعطيهما واحداً، ونقولُ: أعطِ كُلَّ واحدٍ مِن هذين الرَّجُلين ورقةً، فإذا وقعت بيد أحدِهما، (إمام) فهو الإِمام، أو ما أشبه ذلك، فكيفما اقترعوا جَازَ.
فإن قال قائلٌ : ما الدَّليلُ على استعمال القُرعةِ في العباداتِ؟
قلنا: قَولُ النَّبيِّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأولِ، ثم لم يجدوا إلا أنْ يَسْتَهِموا عليه لاسْتَهَمُوا» فهذا نصٌّ واضحٌ في أنَّ القُرعةَ تدخُلُ في الأذانِ والصَّفِ الأولِ إذا تَشَاحُّوا فيهما.
وهل وردت القُرعَةُ في القرآن؟
الجواب : نعم، في موضعين مِن القرآن:
الأول : في سورة آل عمران: في قوله تعالى: )ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) (آل عمران:44)
الثاني : في سورة الصافات: في قوله تعالى: )فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) (الصافات:141)(165/64)
قوله: «وساكن البيت وإمام المسجد أحق» . أي: ساكنُ البيتِ أحقُّ مِن الضَّيفِ؛ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يَؤمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في أهلِهِ ولا في سُلطانِهِ» أخرجه مسلم. «أو في بيتِهِ» كما هي رواية أبي داود، والنَّهيُ عنه على سبيلِ التَّنزيه، وقيل: على سبيلِ التَّحريمِ.
مسألة : إذا اجتمعَ مالكُ البيتِ ومستأجرُ البيتِ، فالمستأجرُ أَولى: لأنَّ المستأجرَ مالكُ المنفعةِ، فهو أحقُّ بانتفاعِهِ في هذا البيتِ.
وقوله: «وإمام المسجد أحق» أي: أنَّ إمامَ المسجدِ أحقُّ مِن غيرِه، حتى وإنْ وُجِدَ مَن هو أقرأُ، فلو أنَّ إمامَ المسجدِ كان قارئاً يقرأ القرآن على وَجْهٍ تحصُلُ به براءةُ الذِّمَّةِ، وحضرَ رَجُلٌ عالمٌ قارىءٌ فقيه، فالأَولى إمامُ المسجدِ؛ لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يُؤمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلطانه» ، وإمامُ المسجدِ في مسجدِه سُلطانٌ فيه، ولهذا لا تُقامُ الصَّلاةُ إلا بحضورِه وإذنِهِ، حتى إنَّ بعضَ العلماءِ قال: لو أنَّ شخصاً أمَّ في مسجدٍ بدون إذنِ إمامِهِ فالصلاةُ باطلةٌ.
ولأننا لو قلنا: إنَّ الأقرأَ أَولى؛ حتى ولو كان للمسجدِ إمامٌ راتبٌ؛ لحصَلَ بذلك فوضى، وكان لهذا المسجدِ في كلِّ صلاةٍ إمامٌ.
قوله: «إلا من ذي سلطان» أي: أنَّ ذا السُّلطانِ، مقدَّمٌ على إمامِ المسجدِ، والسُّلطانُ هو الإِمامُ الأعظمُ، فلو أنَّ الإِمامَ الأعظمَ حَضَرَ إلى المسجدِ، فهو أَولى مِن إمامِ المسجدِ بالإِمامةِ.
واستدلُّوا بعمومِ قولِهِ صلى الله عليه وسلم: «ولا يَؤمَّنَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلطانِهِ» .
ولكن قد يقول قائلٌ: الإِمامُ في مسجدِه سُلطانٌ، وهذه سُلْطَةٌ أخصُّ مِن سُلْطَةِ الإِمامِ الأعظمِ؟
والجواب : بأنَّ سُلطتَه دون سُلطةِ السُّلطان الأعظمِ، فَسُلطةُ السلطانِ الأعظمِ أقوى، بدليل أنَّه يمكن للسُّلطانِ الأعظمِ أن يُزيلَ هذا عن منصِبِه.(165/65)
مسألة : لو حَضَرَ الإِمامُ الأعظمُ إلى صلاةِ الجُمعةِ في بلدٍ غير وَطَنِهِ، فمَن الذي يُقدَّمُ، الإِمامُ الأعظم، أو إمامُ المسجدِ الجامعِ؟
فالجواب : نُقدِّمُ إمامَ الجامعِ؛ لأنَّ مِن شرطِ الإِمامةِ في الجُمعةِ أن يكون الإِمامُ مستوطناً، والإِمامُ الأعظمُ في غير وطنِهِ غير مستوطن. وأجاز ذلك بعضُ العلماء لوجهين:
الأول : أنه ليس هناك دليلٌ على أنَّ الجُمعةَ لا يصحُّ أنْ يكون الإِنسانُ إماماً فيها إلا إذا كان مستوطناً ؟
الثاني: رُبَّما يُقال: إنَّ الإِمامَ الأعظمَ مستوطنٌ في جميعِ بلادِ مملكتِه، ولهذا كان مِن اعتذارِ بعضِ العلماءِ لعثمانَ بنِ عفَّان حين أَتمَّ الصلاةَ في مِنَى في الحَجِّ أن قالوا: الإِمامُ الأعظمُ أو الخليفةُ، كلُّ ما تحت يدِهِ فهو بلدٌ له، فيكون مهما ذَهَبَ فهو مستوطنٌ. ولا شَكَّ أنَّ هذا التعليلَ عليلٌ، بل ميتٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ أشدُّ ملكاً وتثبيتاً مِن غيرِه، ومع ذلك كان إذا سافرَ مِن المدينةِ يقصُرُ الصَّلاةَ، وقَصَرَ في حجة الوداع حتى رَجَعَ إلى المدينة، وقَصَرَ عثمان في أول خِلافتِهِ. والقولُ بأن الإِمامَ الأعظمَ لا يصحُّ أن يكون إماماً في الجمعة في غير بلدِه قولٌ ضعيفٌ، وتعليلٌ عليلٌ، بل الصَّحيحُ أنَّ غيرَ الإِمامِ الأعظمِ أيضاً يصحُّ أن يكون إماماً للجُمعةِ في غيرِ بلدِهِ، فلو أنَّ عالماً مِن الناسِ قَدِمَ إلى بلدٍ فقال له أهلُ البلد: صَلِّ بنا، فَخَطَبَ وصَلَّى بهم، فلا بأسَ بذلك.
قوله: «وحُرٌّ، وحاضر، ومقيم» إلخ.(165/66)
الحُرُّ أَولى مِن ضِدِّه، وضِدُّ العبدُ الرَّقيقُ الذي يُباع ويُشترى، وإنَّما كان الحُرُّ أَولى مِن العبدِ؛ لأنَّ الحُرَّ غالباً أعْلمُ بالأحكامِ مِن العبدِ، ولأنَّ العبدَ مملوكٌ، فلا يُؤمنُ أن يطلبَه سيدُه في أيِّ ساعةٍ مِن ليلٍ أو نهارٍ بخلاف الحُرِّ، ولأنه إنْ كان العبدُ عبده فمرتبتُه أعلى مِن مرتبةِ العبدِ وهو سيدُه، فلا ينبغي أن يكون مأموماً له وهو أرفعُ منه.
وقوله: «وحاضر» المراد به الذي يسكن الحاضرةَ. وضِدُّه البدوي؛ لأنَّ البدوَ غالباً يكونون جُفاةً جُهَّالاً، كما قال الله تعالى: )الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)(التوبة: من الآية97)
وقوله: «ومقيم» يعني أن المقيم أَولى مِن المسافر، مثلاً: إنسانٌ في هذا البلدِ مقيمٌ لحاجةٍ فمرَّ مسافرٌ عابراً فتقول: المقيمُ أَولى مِن هذا العابرِ لأنَّ المقيمَ على المشهورِ مِن المذهبِ إذا نوى الإقامة أكثر مِن أربعة أيام لزمه أن يُتمَّ فكان بذلك أولى مِن المسافر الذي لا يتم وبناء على قوله: فالمقيم هنا ضد المسافر والمستوطن، فالناس ثلاثة أقسام: مستوطن ومسافر ومقيم، فالمستوطن أولى ثم المقيم.
قوله: «وبصير» يعني: أنَّ البصير أَولى مِن الأعمى؛ لأنَّ البصيرَ يتحرَّزُ مِن النجاساتِ وغيرِها، ويُدرك استقبالَ القِبلة أكثر مِن الأعمى.
وأيضاً: البصيرُ لو أَنَّ بعضَ أعضائِهِ في الوُضُوء لم يصبه الماءُ لعَلِمَ به بخلافِ الأعمى، فالبصير أَولى مِن الأعمى، وذلك بعد اتِّفاقِهما فيما سَبَقَ.
قوله: «ومختون» أي: أن المختون أَولى مِن الأقلفِ؛ لأنه أبعد مِن التنزُّه مِن النجاسةِ.(165/67)
والمختون: هو مقطوعُ القُلْفَة، والأقْلَفُ ضِدُّه؛ لأنَّ الإِنسانَ يُولدُ وعلى رأس ذَكَرِهِ قُلْفَةٌ، أي: جِلدةٌ تُغطِّي الحَشَفَةَ، وهذه الجِلدةُ يجب إزالتُها؛ لأنها لو بقيت لاحتقنَ فيها البولُ، وصارت سبباً للنجاسةِ، وربما يتولَّدُ فيها جراثيمٌ بين جِلدةِ القُلْفَةِ والحَشَفَةِ فيتأثَّرُ بأمراضٍ صعبةٍ.
قوله: «ومَن له ثياب» أي: مَن عليه ثيابٌ سترُها أكملُ، أَولى ممَّن عليه ثيابٌ يسترُ بها قَدْرَ الواجبِ.
مثاله: شخصٌ عليه إزارٌ فقط، وآخرُ عليه إزارٌ ورداءٌ فكلٌّ منهما صلاتُه صحيحةٌ، لكن الثاني أكمل ستراً مِن الأول، فيكون هو الأَولى بالإِمامةِ.
وفُهِمَ مِن قولِ المؤلِّفِ: «أَولى مِن ضِدِّهم» أنَّ هؤلاء المذكورين السِّتَّة تصحُّ إمامتُهم؛ لأنَّ «الأَولى» تدلُّ على الاختيارِ، وعلى هذا؛ فيصحُّ أن يؤمَّ العبدُ حُرًّا، ولو كان سيده لكن الأَولى الحُرُّ، وكذلك أيضاً المقيمُ وضِدُّه المسافرُ، فلو صَلَّى المسافرُ بالمقيمِ فإنَّ صلاتَه تصحُّ، وأيضاً: لو صَلَّى بدويٌّ بحاضرٍ لصحّت صلاتُهُ، لكن على خِلافِ الأَولى، ولو صَلَّى الأعمى بالبصيرِ صحَّتْ صلاتُهُ، لكن الأَولى العكسُ، وكذلك لو صَلَّى أقلفٌ بمختونٍ فصلاتُه صحيحةٌ، لكن الأَولى العكسُ، ولو صَلَّى مَن له ثيابٌ قليلةٌ بمَن له ثيابٌ كثيرة لصحّت الصلاةُ، ولكن الأَولى العكسُ.
قوله: «ولا تصحُّ خلف فاسق» .
شرح المؤلف في بيان مَن لا تصحُّ إمامتُهُ إما مطلقاً أو بمَن هو أكملُ منه.
و«الفاسق» في اللغة: الخارج، مأخوذ مِن قولهم: فَسَقَتِ الثَّمرةُ عن قشرِها، أي: خرجت.
واصطلاحاً: مَن خرجَ عن طاعةِ الله بفعلِ كبيرةٍ دون الكفر، أو بالإِصرارِ على صغيرة.(165/68)
ويُطلق الفاسقُ على الكافرِ كما في قوله تعالى:(فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(المائدة: من الآية25)، وكما في قوله تعالى: )ِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ)(الكهف: من الآية50)وكما في قوله تعالى:(وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ )(السجدة: من الآية20)
وقوله: «خلف فاسق» ظاهر كلامه : أنها لا تصحُّ خلفَ الفاسقِ، سواءٌ كان بمثلِهِ أو بغيرِه، لأنَّه أطلقَ، وعلى هذا؛ فلو اجتمعَ شخصان يغتابان الناسَ وحضرتِ الصَّلاةُ، فإنه لا يُصلِّي أحدُهما بالآخر؛ لأنه إن صَلَّى زيدٌ بعَمرٍو بطلت، وإن صَلَّى عَمرٌو بزيدٍ بطلت، فيصلِّيان فُرادى، ولو اجتمعَ شخصان كلاهما يشربُ الدُّخان لم يُصلِّ أحدُهما بالآخر، لأن كلَّ واحدٍ منهما فاسقٌ، ولو اجتمعَ شخصان قد حَلَقَا لحيتيهما لم يصلِّ أحدُهما بالآخر؛ لأنَّهما فاسقان، ولا يصحُّ أن يكون الفاسقُ إماماً، ولو عُمِل بهذا القولِ لفاتَ كثيرٌ مِن الناسِ أن يُصلّوا جماعة.
القول الثاني: أنَّ الصلاةَ تصحُّ خلفَ الفاسقِ، ولو كان ظاهرُ الفسق، وذلك بدليلين أثريٍ ونظريٍ:
أما الأثري:
1 _ عمومُ قولِ الرسول صلى الله عليه وسلم: «يؤمُّ القومَ أقرؤُهم لكتابِ اللهِ» .
2 _خصوصُ قولِه صلى الله عليه وسلم في أئمةِ الجَورِ الذين يُصلُّون الصَّلاةَ لغيرِ وقتها: «صَلِّ الصَّلاةَ لوقتِها، فإنْ أدركتَها معهم فَصَلِّ، فإنَّها لك نافلةٌ» .
3 _قوله صلى الله عليه وسلم: «يُصلُّونَ لكم، فإنْ أصابُوا فَلَكُم، وإنْ أخطأوا فَلَكُمْ وعليهم» .
4 _ أنَّ الصحابةَ ، ومنهم ابنُ عمر كانوا يُصلُّونَ خلفَ الحجَّاجِ . وابنُ عُمرَ مِن أشدِّ الناسِ تحرِّياً لاتِّباعِ السُّنَّةِ واحتياطاً لها، والحجَّاجُ معروفٌ.(165/69)
وأما الدليلُ النَّظريُّ: فنقول: كلُّ مَن صحَّت صلاتُهُ صحَّت إمامتُه، ولا دليلَ على التفريقِ بين صحَّةِ الصَّلاةِ وصحَّةِ الإمامةِ، فما دام هذا يصلِّي صلاةً صحيحةً؛ فكيف لا أُصلِّي وراءَه؛ لأنَّه إذا كان يفعلُ معصيةً فمعصيتُه على نفسِه، لكن لو فَعَلَ معصيةً تتعلَّقُ بالصَّلاةِ بأن كان هذا الإِمامُ إذا دخلَ في الصَّلاةِ أتى بما يبطِلَها، فلا تصحُّ الصَّلاةُ خلفَه؛ لأن صلاتَه لا تصحُّ؛ لفعلِهِ محرَّماً في الصَّلاةِ؛ لأنَّ معصيتَه تتعلَّقُ بالصَّلاةِ، أما إذا كانت معصيتُه خارجةً عنها فهي عليه.
وهذا القولُ لا يَسَعُ الناسَ اليومَ إلا هو؛ لأننا لو طبَّقنا القولَ الأولَ على الناسِ؛ ما وجدنا إماماً يصلحُ للإِمامة إلا نادراً.(165/70)
واحتجَّ الذين قالوا: لا تصحُّ خلفَ الفاسقِ بما يُروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يَؤمَّنَّ فاجرٌ مؤمناً» وهذا الحديثُ ضعيفٌ، وعلى تقدير صِحَّتهِ فإن المرادَ بالفاجرِ الكافرَ؛ لقول الله تعالى: )إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ) (الانفطار:13) (وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (الانفطار:14)( يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ) (الانفطار:15)(وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ) (الانفطار:16) والفاجرُ الذي لا يغيبُ عن جهنَّم كافر؛ لأن الفاجرَ الذي فيه إيمانٌ يمكن أنْ يغيبَ عن جهنَّم؛ ولقوله تعالى: )كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (المطففين:7)( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ) (المطففين:8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ) (المطففين:9)( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (المطففين:10)( الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) (المطففين:11) ، فتبيَّنَ الآن أن الفاجرَ يُطلقُ على الكافر، وحينئذٍ لا يكون في الحديث دليلٌ على عدم صِحَّةِ إمامةِ الفاسق لأنَّه إنْ كان ضعيفاً لم يصحَّ الاستدلالُ به، وإنْ لم يكن ضعيفاً كان محتملاً لوجهين، وإذا دخله احتمالُ الوجهين بطلَ الاستدلالُ به على تعيين أحدهما إلا بدليلٍ.
إذاً؛ القولُ الرَّاجحُ؛ صحَّةُ الصَّلاةُ خلفَ الفاسقِ، فالرَّجلُ إذا صَلَّى خلفَ شخصٍ حالق لحيتَه أو شارب الدُّخان أو آكل الربا أو زانٍ، أو سارق فصلاته صحيحة، لكن يُقدَّمُ أخَفُّ الفاسقين على أشدِّهما، فيُقدَّم مَن يُقصِّرُ من لحيته على حالِقها.(165/71)
قوله: «ككافر» أي: كما لا تصحُّ خلفَ الكافرِ، وهنا أراد المؤلِّفُ أنْ يقيسَ شيئاً على شيء لا يساويه في العِلَّة، فأرادَ أنْ يقيسَ الفاسقَ على الكافرِ، ومِن شَرْطِ صِحَّةِ القياسِ تساوي الأصلِ والفرعِ في العِلَّة لأجل أنْ يتساويا في الحُكم، فإذا اختلفا في العِلَّة فالقياسُ غيرُ صَحيحٍ، وهنا بينهما فَرْقٌ عظيمٌ، لأنَّ الكافرَ لا تصحُّ صلاتُه، والفاسقُ تصحُّ صلاتُه.
فالرَّجُلُ الذي يأتمُّ بكافرٍ متلاعبٌ؛ لأنَّه يَعلَمُ أنَّ هذا الكافرَ صلاتُه باطلةٌ، إذ كيف يأتَمَّ بشخصٍ يعلَمُ أنَّ صلاتَه باطلةٌ؟!
أما إذا كان فاسقاً؛ فصلاتُه صحيحةٌ؛ لأنَّه ائتَمَّ بشخصٍ صلاتُه صحيحةٌ، والأصلُ أنَّ مَن صحَّتْ صلاتُه صحَّتْ إمامتُه، لأنَّ الإِمامةَ فَرْعٌ عن الصَّلاةِ.
ويحتمل أن يريدَ المؤلِّفُ : قياسَ المُختَلَفِ فيه على المُتَّفقِ عليه، لا إثبات الحُكم بذلك، أي: كأنما يقول: لا تصحُّ خلفَ الفاسقِ كما أنها لا تصحُّ خلفَ الكافرِ بالاتِّفاقِ، وهذا أيضاً فيه نَظَرٌ؛ لأنَّه قد يقول الخصمُ: أنا لا أُسلِّمُ بهذا، بل أقول: إنَّ الصَّلاةَ تصحُّ خلفَ الفاسقِ، ولا تصحُّ خلفَ الكافرِ، وأُفَرِّقُ بينهما.
مسألة: الكافرُ لا تصحُّ الصلاةُ خلفَه مطلقاً، سواءٌ كان كفرُه بالاعتقادِ، أو بالقولِ، أو بالفعلِ، أو بالتَّركِ.
فالاعتقادُ، مثل: أن يعتقدَ أنَّ مع الله إلهاً آخر.
والقولُ، مثل: أن يستهزئ باللهِ أو رسولِه، أو دينِه. فمَن كان يستهزئُ باللهِ أو رسولِه، أو دينِه فهو كافرٌ، ولو كان يصلِّي.
والفِعلُ، مثل: أن يسجدَ لمن سوى الله تعالى.
والتَّركُ، مثل: تَرْكُ الصَّلاةِ. لكن إذا كان كفرُه بتركِ الصَّلاةِ، ثم صلَّى أسْلَمَ. لكنهم قالوا: إنَّه حين تكبيرةِ الإحرامِ كافرٌ، لأنَّه لا يُسْلِمُ إلا إذا صَلَّى، وعلى هذا؛ فلا تصحُّ الصلاةُ خلفَ الكافرِ بتَرْكِ الصَّلاةِ.(165/72)
ونحن نعلمُ أنَّه لا يمكن أنْ يُصلِّي مسلمٌ خلفَ كافرٍ، لكن لو فُرضَ أنَّ شخصاً صلَّى خلفَ رَجُلٍ، ولم يعلَمْ أنه كافرٌ إلا بعدَ الصَّلاةِ فهل تلزمُه إعادةُ الصَّلاةِ أو لا؟
الجواب: مِن العلماءِ مَن قال: إنه لا يعيدُ الصَّلاةَ؛ لأنَّه معذورٌ.
ومِنهم مَن قال: بل يعيدُ الصَّلاةَ، لأنَّ مِن شرطِ صحَّةِ الإِمامة أن يكونَ الإِمامُ مسلماً.
ولو قال قائلٌ: هل يمكن أن نُفَصِّلَ ونقول: إن كانت علامةُ الكفرِ عليه ظاهرةٌ لم تصحَّ، ولم يُعذرْ بالجهلِ لوجود القرينةِ، وإلا فلا؟
فالجواب: يمكن ذلك، فالقولُ الراجحُ في هذه المسألة: أنه إن كان جاهلاً فإن صلاتَه صحيحةٌ.
مسألة: إذا كان الفاسقُ إماماً لا تمكن مقاومتُه، كمَن له سُلطان، فهل تصحُّ الصَّلاةَ خلفَه؟
فالجواب: لا تصحُّ على المذهبِ، لكنَّهم يستثنون مِن هذا مسألتين: الجُمعة والعيد، إذا تعذَّرتا خلفَ غيره، كأن يكون هذا البلدُ ليس فيه إلا جامعٌ واحدٌ، وإمامُهُ فاسقٌ فحينئذٍ تصلّي خلفَه.
وكذا العيد إذا لم يكن فيه إلا مصلًّى واحد، وإمامُه فاسقٌ نصلِّي خلفَه؛ لأننا لو تركنا الصَّلاةَ خلفَه فاتتنا الجُمعةُ وفاتنا العيدُ.
وإذا لم يكن في البلدِ إلا هذا المسجدُ، وإمامُه فاسقٌ في غير الجُمعةِ والعيدِ؟
فالجواب: على المذهب يصلِّي منفرداً، ولا يصلِّي خلفَه. ولكن؛ الصحيحُ أنَّ الصلاةَ خلفَه صحيحةٌ كما سبقَ.
مسألة: إذا كان الإمامُ فاسقاً في معتقدِك، غيرُ فاسقٍ في معتقدِه، مثل: أن يرى أن شُربَ الدُّخانِ حلالٌ، وأنت ترى أنَّه حرامٌ، فهل تصلِّي خلفَه؟(165/73)
الجواب: تصلِّي خلفَه، لأنك لو سألتَ عنه، فقيل لك: هو فاسقٌ بحسب اعتقادِه؟ لقلت: لا؛ لأنه يعتقدُ أنَّ هذا حلال، ولذلك لو أنَّ رَجُلاً لا يرى أن لَحْمَ الإِبل ناقضٌ للوُضُوءِ، وأنت ترى أنه ناقضٌ، فأكلَ مِن لَحمِ الإِبلِ، ثم صلَّى إماماً لك، فصلاتُكَ خلفَه صحيحةٌ مع أنك تعتقدُ أنَّ صلاتَه باطلةٌ، لكن هذا في اعتقادِك فيما لو فعلتَه أنت، لكن فيما لو فعلَه تعتقد أنَّ صلاتَه صحيحةٌ. ولهذا قال العلماءُ رحمهم الله: تصحُّ الصَّلاةُ خلفَ المخالفِ في الفُروعِ، ولو فَعَلَ ما تعتقدُه حراماً. وهذا مِن نِعمة الله؛ لأننا لو قلنا: إنَّها لا تصحُّ الصَّلاةُ خلفَ المخالفِ في الفروعِ لَلَحِقَ بذلك حَرَجٌ ومشَقَّةٌ.
قوله: «ولا امرأة» ، أي: لا تصحُّ صلاةُ الرَّجُلِ خلفَ امرأةٍ.
والدليلُ: ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لا تَؤمَّنَّ امرأةٌ رَجُلاً» ، وهذا الحديث ضعيفٌ، لكن يؤيده في الحُكم قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «لن يُفْلِحَ قومٌ وَلَّوْا أمرَهم امرأةً» ، والجماعةُ قد وَلَّوْا أمرَهم الإِمامَ فلا يصحُّ أنْ تكونَ المرأةُ إماماً لهم.
ودليلٌ آخرٌ: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... خيرُ صُفوفِ النساءِ آخِرُها» . وهذا دليلٌ على أنَّه لا موقعَ لَهُنَّ في الأمامِ، والإِمامُ لا يكونُ إلا في الأمامِ، فلو قلنا بصحَّةِ إمامتِهِنَّ بالرِّجالِ لانقلبَ الوضعُ، فصارت هي المتقدِّمة على الرَّجُلِ، وهذا لا تؤيده الشريعةُ.
ولأنه قد تحصُلُ فتنةً تُخِلُّ بصلاةِ الرَّجُلِ إذا كانت إلى جَنْبِهِ أو بين يديه.
قوله: «ولا خنثى للرجال» أي: ولا تصح صلاةُ الرَّجُلِ خلفَ الخُنثى.
والخُنثى هو: الذي لا يُعْلَمُ أَذكرٌ هو أم أنثى؟ فيشمَلُ مَن له ذَكَرٌ وفَرْجٌ يبول منهما جميعاً.
ويشمَلُ مَن ليس له ذَكَرٌ ولا فَرْجٌ، لكن له دُبُرٌ فقط.(165/74)
والخُنثى سواءٌ كان على هذه الصُّورةِ أو صُورةٍ أخرى لا يَصحُّ أن يكون إماماً للرِّجال، لاحتمالِ أنْ يكون أُنثى، وإذا احتملَ أن يكونَ أُنثى، فإنَّ الصَّلاةَ خلفَه تكون مشكوكاً فيها، فلا تصحُّ.
وذكر الموفَّقُ أنه حُدِّث عن أشخاصٍ ثلاثةٍ:
أحدهم: له مخرجٌ واحدٌ بين القُبُلِ والدُّبُرِ يخرجُ منه البولُ والغائطُ.
الثاني: ليس له فَرْجٌ ولا ذَكَرٌ، وإنَّما له شيءٌ نابئ يخرجُ منه البولُ رشحاً مثل العرقِ، وهذا أيضاً خُنثى.
والثالث: ليس له دُبُرٌ ولا فَرْجٌ ولا ذَكَرٌ، وإنما يتقيأ الطَّعامَ إذا بقي في معدتِه شيئاً مِن الوقت، فإذا امتصت المعدة المنافع التي فيه تقيَّأهُ فيكون خروج هذا الشيء مِن فمِهِ، والله على كلِّ شيء قدير.
أمَّا نحن؛ فقد حدَّثنا بعضُ الأطباءِ هنا في «عُنَيْزَة» أنه وُلِدَ شخصٌ ليس له فَرْجٌ ولا ذَكَرٌ، والله على كلِّ شيءٍ قدير.
وفُهِمَ مِن قولِ المؤلِّفِ: «ولا امرأة وخنثى للرجال» أنه يصحُّ أن تكون المرأةُ إماماً للمرأةِ، والخُنثى يصحُّ أن يكون إماماً للمرأة؛ لأنه إما مثلُها أو أعلى منها.
لكن؛ هل يصحُّ أن تكون المرأةُ إماماً للخُنثى؟
الجواب: لا؛ لاحتمالِ أن يكون ذَكَراً.
قوله: «ولا صبي لبالغ» أي: لا تصحُّ إمامةٌ مِن صبيٍّ لبالغٍ. والصَّبيُّ: مَن دونَ البلوغِ، والبالغُ مَن بَلَغَ، ويحصُلُ البلوغُ بواحدٍ مِن أمورٍ ثلاثةٍ بالنسبة للذُّكورِ وهي:
1 _ تمامُ خمس عشرة سَنَةً.
2 _ إنباتُ العَانةِ.
3 _ إنزالُ المَنيِّ بشهوةٍ يقظةً أو مناماً.
فإذا وُجِدَ واحدٌ مِن هذه الأمورِ الثلاثةِ صارَ الإِنسانُ بالغاً. والمرأةُ تزيدُ على ذلك بأمرٍ رابعٍ وهو الحيضُ، فإذا حاضت ولو لعشرِ سنواتٍ فهي بالغةٌ.
وقوله: «لا صبي لبالغ» أي: أنَّ الصَّبيَّ إذا صارَ إماماً، والبالغُ مأموماً، فصلاةُ البالغِ لا تصحُّ لدليلين؛ أثريٍّ ونظريٍّ.(165/75)
أما الأثريُّ؛ فهو ما يُذكر عن رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «لا تُقدِّموا سفهاءَكمْ وصبيانَكمْ في صلاتِكم...» .
وأما النظريُّ؛ فهو أنَّ صلاةَ الصَّبيِّ نَفْلٌ، وصلاةُ البالغِ فَرْضٌ. والفرضُ أعلى رُتْبةً مِن النَّفْلِ، فإذا كان أعلى رُتْبَةً فكيف يكون صاحبُه تابعاً مَن هو أدنى منه رُتْبةً؛ لأننا لو صحَّحنا صلاةَ البالغِ خلفَ الصَّبيِّ لجعلنا الأعلى تابعاً لما دونه؛ وهذا خِلافُ القياسِ، والقياسُ أن يكونَ الأعلى متبوعاً لا تابعاً.
وقوله: «لبالغ» يُفهمُ منه أنَّ إمامةَ الصَّبيِّ للصَّبيِّ جائزةٌ، وهو كذلك، وهذا ما ذهبَ إليه المؤلِّفُ .
القول الثاني: أنَّ صلاةَ البالغِ خلفَ الصَّبيِّ صحيحةٌ.
ودليلُ ذلك: ما ثَبَتَ في «صحيح البخاري» أن عَمرَو بنَ سَلَمة الجَرْمي أمَّ قومَه وله ستٌّ أو سبعُ سنين؛ لأنه كان يتلقَّفُ الرُّكبان، وهو صبيٌّ ذكيٌّ فيحفظُ منهم القرآنَ، ولما قَدِمَ أبوه مِن عند الرسول صلى الله عليه وسلم حدَّثَهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «... فإذا حضرتِ الصلاةُ؛ فَلْيُؤَذِّنْ أحدُكُم وَلْيَؤُمَّكُمْ أكثرُكُم قرآناً»، قال: فنظروا، فلم يكنْ أحدٌ أكثرَ قرآناً منِّي؛ لِمَا كنتُ أتلقَّى مِن الرُّكبانِ، فقدَّمُوني بين أيديهم وأنا ابنُ سِتٍّ أو سبعِ سنينَ، وكانت عليَّ بُرْدَةٌ، وكنتُ إذا سجدتُ تَقَلَّصَتْ عنِّي، فقالت امرأةٌ مِن الحَيِّ: ألا تُغَطُّون عنَّا إسْتَ قارِئِكم؟!. فاشتروا فقطعوا لي قميصاً. فما فرحتُ بشيءٍ فرحي بذلك القميصِ .
أما حديث: «لا تُقدِّموا صبيانكم في صلاتِكم» ، فهو حديثٌ لا أصلَ له إطلاقاً، فلا يصحُّ عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما التَّعليلُ: فقد علِمْنَا القاعدةَ وهي: أنه لا قياسَ في مقابلة النَّصِّ؛ لأنَّ القياسَ رأيٌ يُخطئُ ويُصيبُ، ولا يجوز القول في الدين بالرَّأي، فإذا كان لدينا حديثٌ صحيحٌ فإنَّ الرأيَ أمامَه ليس بشيءٍ.(165/76)
لكن؛ قد يعترضُ مُعترضٌ فيقول: هل عَلِمَ بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أوَ لم يعلمْ؟
الجواب: إما أنْ نقولَ: إنَّه عَلِمَ. وإما أنْ نقولَ: إنَّه لم يعلمْ. وإما أنْ نقولَ: لا ندري. فإن كان قد عَلِمَ فالاستدلالُ بهذه السُّنَّةِ واضحٌ، وإن عَلِمنا أنَّه لم يعلم فإننا نقول: إنَّ الله قد عَلِمَ، وإقرارُ اللهِ للشيء في زَمَنِ نزولِ الوحي دليلٌ على جَوازِه، وأنه ليس بمنكرٍ؛ لأنه لو كان منكراً لأنكرَه اللهُ، وإن كان الرسولُ لم يعلمْ به، ودليل ذلك:
أولاً: قول الله تعالى: )يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً) (النساء:108)
فأنكرَ اللهُ عليهم تبييتَهم للقولِ مع أنَّ الناسَ لا يعلمون به؛ لأنهم إنما بَيَّتوا أمراً منكراً، فدلَّ هذا على أن الأمرَ المنكرَ لا يمكن أن يَدَعَهُ الله، وإنْ كان الناسُ لا يعلمون به.
ثانياً: أن الصحابةَ استدلُّوا على جوازِ العَزْلِ بأنهم كانوا يَعزلون والقرآنُ ينزل . وهذا استدلالٌ منهم بإقرارِ الله تعالى.
قوله: «ولا أخرس» أي: ولا تصحُّ إمامةُ الأخرسِ. وظاهرُ كلامِهِ حتى بمثلِه، والأخرسُ هو الذي لا يستطيعُ النُّطقَ، وهو نوعان:
1 _ خَرَسٌ لازمٌ.
2 _ خَرَسٌ عارضٌ.
فاللازم: أن يكون ملازماً للمرءِ مِن صغرِه، والعارضُ هو الذي يحدثُ للمرءِ إما بحادثٍ، أو بمرضٍ، أو بغير ذلك.
وإذا كان لازماً؛ فالغالبُ أنَّه لا يَسمَعُ، وانتفاءُ السَّمْعِ سابقٌ على الخَرَسِ؛ لأنه إذا كان لا يَسمَعُ لا يمكن أن يتكلَّمَ؛ إذ لا يَسمَعُ شيئاً يقلِّدُه حتى يتكلَّم مثلَه، ولهذا إذا وُلِدَ الصَّبيُّ أصمَّ، ولم يفتحِ الله أذنيهِ فإنه يبقى أخرس.
أما الطارئ؛ فقد يكون الأخرسُ سميعاً، لكن طرأ عليه عِلَّةٌ منعته مِن الكلام.(165/77)
وكلا النوعين لا يصحُّ أن يكون إماماً، لا بمثلِه ولا بغيرِه؛ لأنه لا يستطيع النُّطقَ بالرُّكنِ كقراءة الفاتحةِ، ولا بالواجبات كالتشهد الأول، ولا بما تنعقدُ به الصَّلاةُ، وهو تكبيرةُ الإِحرامِ؛ فيكون عاجزاً عن الأركانِ والواجباتِ، فلا يصحُّ أن يكون إماماً لمن هو قادرٌ على ذلك، وهذا التعليلُ قد يكون متوجِّهاً بالنسبةِ لكونه إماماً لِمَن هو قادرٌ على النُّطقِ، لكن بالنسبة لمَن هو عاجزٌ عن النُّطقِ، فهذا التَّعليلُ يكون عليلاً؛ وذلك لأنَّ العاجزَ عن النُّطقِ لا يفوقُه ولا يفضُله بشيء، فلماذا لا يصحُّ أن يكون إماماً له؟
ولهذا كان القولُ الراجحُ: أنَّ إمامةَ الأخرسِ تصحُّ بمثلِه وبمَن ليس بأخرس؛ لأنَّ القاعدةَ عندنا: أنَّ كلَّ مَن صحَّتْ صلاتُه صحَّتْ إمامتُه. لكن مع ذلك لا ينبغي أن يكون إماماً؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يَؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ» وهذا لا يقرأ، لكن بالنسبة للصِّحَّةِ فالصحيحُ، أنَّها تصحُّ.
قوله: «ولا عاجز عن ركوع أو سجود» أي: ولا تصحُّ إمامةُ عاجزٍ عن ركوعٍ، مثل: أن يكون الشخصُ فيه آلامٌ في ظهرِه لا يستطيعُ أن يركعَ، فإنَّه لا يصحُّ أن يكونَ إماماً للقادرِ على الرُّكوعِ.
وأما العاجزُ عن الرُّكوعِ؛ فإنه يصحُّ أن يكون إماماً له؛ لتساويهما في العِلَّة.
والتعليل: أنَّ القادرَ على الرُّكوعِ أكملُ حالاً مِن العاجزِ عنه، ولا يصحُّ أن يكون العاجزُ إماماً للقادرِ، هذا ما ذهبَ إليه المؤلِّفُ، وهو المذهبُ.
وكذلك العاجزُ عن السُّجودِ، مثل: أن يكون الإِنسانُ قد عَمِلَ عمليةً لعينيه، يستطيع أن يركعَ ويقومَ ويقعدَ، ولكن لا يستطيع السُّجودَ إلا بإيماء، فلا يصحُّ أن يكونَ إماماً للقادر على السُّجودِ، ويصحُّ أن يكون إماماً للعاجز عنه.
والعِلَّةُ فيه؛ كالعِلَّةِ في العاجزِ عن الرُّكوعِ.
قوله: «أو قعود» أي: لا تصحُّ إمامةُ العاجزِ عن القعودِ إلا بمثلِه.(165/78)
والعِلَّةُ فيه: ما سَبَقَ في العاجزِ عن الرُّكوعِ والسُّجودِ.
قوله: «أو قيام» أي: أنَّ العاجزَ عن القيامِ لا يصحُّ أن يكونَ إماماً للقادرِ عليه.
والعِلَّةُ فيه: ما سَبَقَ مِن أنَّه عاجز عن الإِتيان بالرُّكنِ، فحالُه دون القادرِ عليه، مع أنَّ صلاتَه صحيحةٌ، واستثنى المؤلِّفُ فقال:
قوله: «إلا إمام الحي» هذا مستثنًى مِن الصُّورةِ الأخيرةِ، وهو قوله: «أو قيام» .
وقوله: «إلا إمام الحي» أي: الإِمامَ الراتبَ في المسجدِ.
والحيُّ: جمعُه أحياء، وهي الدُّور والحارات، فإذا كان لهذا المسجدِ إمامٌ راتبٌ عاجزٌ عن القيامِ فإنَّه يكون إماماً لأهلِ الحيِّ القادرين على القيام؛ لكن بشرطٍ بيَّنه المؤلِّفُ بـ:
قوله: «المرجو زوال علته» أي: بأن يكون عجزُه عن القيامِ طارئاً يُرجى زوالُه، بخلافِ العاجزِ عن القيامِ عجزاً مستمرًّا كالشيخِ الكبير، فإن الصَّلاةَ خلفَه لا تصحُّ.
والحاصلُ: أنَّ المؤلِّفَ أفادنا بهذه العبارات أنَّ مَن عَجِزَ عن رُكنِ القيامِ والقعودِ والركوعِ والسجودِ لا تصحُّ إمامتُه إلا بمثلِه، إلا القيامَ فتصحُّ إمامةُ العاجزِ عن القيامِ بقادرٍ عليه بشرطين:
1 _أنْ يكون العاجزُ عن القيام إمامَ الحَيِّ.
2 _أنْ تكون عِلَّتُه مرجوةَ الزَّوالِ، مثل: أن يطرأ عليه وَجَعٌ يُرجى زوالُه في ظهرِه أو بركبتِه، فهنا يصحُّ أن يؤمَّ لأهلِ الحَيِّ وإنْ كان عاجزاً عن القيامِ.
قوله: «ويصلون» الضَّميرِ يعودُ على أهلِ الحَيِّ.
قوله: «وراءه» أي: وراءَ إمامِ الحَيِّ الجالسِ.
قوله: «جلوساً» حال مِن فاعل يصلُّون.
قوله: «ندباً» أي: أنَّ هذا الحكمَ نَدْبٌ، وليس بواجبٍ، والنَّدْبُ السُّنَّةُ، أي: فالسُّنَّةُ أن يصلُّوا خلفَه جلوساً.(165/79)
ودليلُ ذلك: قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به» إلى أن قال: «وإذا صلَّى قائماً فصلُّوا قياماً، وإذا صَلَّى قاعداً فصلّوا قعوداً أجمعون» . وهذا نصٌّ صريحٌ بأنَّ الصَّلاةَ خلفَ العاجزِ عن القيامِ بالقادرِ عليه صحيحةٌ، وأنَّه يصلِّي خلفَ إمامِهِ قاعداً اقتداءً بإمامِهِ.
وقوله: «ويصلون وراءه جلوساً ندباً» أفادنا : أنَّهم لو صَلُّوا وراءَه قياماً فصلاتُهم صحيحةٌ؛ لأنَّ السُّنَّةَ لا تَبطلُ الصَّلاةُ بِتَرْكِها.
وذهبَ بعضُ العلماءِ إلى أن الصَّلاةَ خلفَه يجبُ أن تكون قعوداً.
واستدلُّوا لذلك بما يلي:
1 _ قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «صَلُّوا قعوداً» والأصلُ في الأمرِ الوجوبُ، لا سيَّما وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم علَّلَ ذلك في أول الحديثِ بقولِهِ: «إنما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به».
2 _ أنه لما صَلَّى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بأصحابِهِ ذاتَ يومٍ، وكان عاجزاً عن القيامِ فقاموا، أشار إليهم أن اجلسوا، فجلسوا . فكونُه يُشيرُ إليهم حتى في أثناء الصَّلاةِ يدلُّ على أنَّ ذلك على سبيلِ الوجوبِ.
ونظيرُ هذا: أنَّه لمَّا قامَ عبدُ الله بنُ عبَّاسٍ يصلِّي معه عن يسارِه أخذَ برأسِهِ مِن ورائِهِ وجعلَه عن يمينِهِ . وقد قالوا: إنَّه لا يجوزُ أنْ يقفَ المأمومُ الواحدُ عن يسارِ الإِمامِ. فنقول: هذا مثلُه، بل هنا قَوْلٌ وهو أبلغُ مِن الفِعلِ وهو قوله: «إذا صلّى قاعداً فصَلُّوا قعوداً أجمعون» .
وهذا القولُ هو الصَّحيحُ، أنَّ الإِمامَ إذا صلَّى قاعداً وَجَبَ على المأمومين أن يصلُّوا قعوداً، فإن صلُّوا قياماً فصلاتُهم باطلةٌ، ولهذا يُلغزُ بها فيقال: رَجُلٌ صَلَّى الفرضَ قائماً فبطلتْ صلاتُه، فمَنْ هو؟!
والجواب: هو الذي صَلَّى قائماً خلفَ إمامٍ يصلِّي قاعداً.(165/80)
والمؤلِّفُ جَزَمَ بأن الإِمامَ إذا صَلَّى قاعداً فإنَّ المأمومين يصلُّون قعوداً، إلا أنَّه اشترطَ في ذلك شرطين.
وذهبَ كثيرٌ مِن أهلِ العلمِ إلى أنَّ الإِمامَ إذا صَلَّى قاعداً وَجَبَ على المأمومين القادرين على القيامِ أن يصلُّوا قياماً. فإنْ صلُّوا قعوداً بطلتْ صلاتُهم.
واستدلُّوا لذلك:
1 _ أن النبي صلى الله عليه وسلم خَرَجَ في مَرَضِ موتِه والناسُ يصلُّون خلفَ أبي بكرٍ، فتقدَّمَ حتى جَلَسَ عن يسارِ أبي بكرٍ، فجعل يُصلِّي بهم عليه الصَّلاةُ والسَّلام قاعداً وهم قيام، هم يَقتدون بأبي بكرٍ، وأبو بكر يقتدي بصلاةِ النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ صوتَه صلى الله عليه وسلم كان ضعيفاً لا يُسْمِعُ النَّاسَ، فكان أبو بكر يَسمَعُهُ؛ لأنه إلى جَنْبِهِ، فيرفعُ أبو بكرٍ صوتَه فيقتدي النَّاسُ بصلاةِ أبي بكرٍ .
قالوا: وهذا في آخرِ حياتِهِ، فيكون ناسخاً لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صَلَّى قاعداً فصلُّوا قعوداً أجمعون» . وناسخاً لإِشارته إلى أصحابه: «حين صلّى قاعداً فصلُّوا خلفَه قياماً فأشارَ إليهم أنِ اجلسوا» لأنَّه مِن المعروفِ أن المتأخِّرَ مِن سُنَّةِ الرسول صلى الله عليه وسلم ينسخُ المتقدِّمَ.
2 _ أنَّ القيامَ رُكنٌ على القادرِ عليه، وهؤلاء قادرون على القيامِ فيكون القيامُ في حقِّهم رُكناً.
ولكننا نقولُ: إنَّ هذا القولَ ضعيفٌ؛ وذلك لأنه لا يجوز الرجوعُ إلى النَّسخِ إلا عند تعذُّرِ الجمعِ، فإنَّ مِن المعلومِ عند أهلِ العِلمِ أنَّه يُشترط للنسخِ شرطان:
الشرط الأول: العلم بتأخُّرِ النَّاسخِ.
الشرط الثاني: أنْ لا يمكن الجمعُ بينَه وبين ما ادُّعِيَ أنه منسوخٌ.
وذلك أنك إذا قلتَ بالنَّسخِ ألغيتَ أحدَ الدَّليلينِ، وأبطلتَ حُكمَه. وإلغاءُ الدَّليلِ ليس بالأمرِ الهيِّنِ حتى نقولَ كلما أعيانا الجمعُ: هذا منسوخٌ. فهذا لا يجوز.(165/81)
والجمعُ هنا ممكنٌ جداً، أشار إليه الإِمام أحمد فقال: «إنما بقيَ الصَّحابةُ قياماً، لأنَّ أبا بكرٍ ابتدأَ بهم الصَّلاةَ قائماً». وعلى هذا نقول: لو حَدَثَ لإِمام الحَيِّ عِلَّةٌ في أثناء الصَّلاةِ أعجزته عن القيام؛ فأكملَ صلاتَه جالساً، فإنَّ المأمومين يتمُّونَها قياماً. وهذا لا شَكَّ أنه جَمْعٌ حَسَنٌ واضح.
وعلى هذا؛ إذا صلّى الإِمامُ بالمأمومين قاعداً مِن أولِ الصَّلاةِ فليصلُّوا قعوداً، وإن صَلَّى بهم قائماً ثم أصابته عِلَّةٌ فجَلَسَ فإنَّهم يصلُّون قياماً، وبهذا يحصُلُ الجَمْعُ بين الدليلين، والجَمْعُ بين الدَّليلين إعمالٌ لهما جميعاً.
وقلنا: إنَّ المؤلِّفَ اشترط شرطين لصلاةِ المأمومينَ القادرينَ على القيامِ خلفَ الإِمامِ العاجزِ عنه.
الشرط الأول: أن يكون إمامَ الحي.
الشرط الثاني: أن تكون عِلَّتُه مرجوةَ الزوال.(165/82)
ومِن المعلومِ أن القاعدة الأصولية: أن ما وَرَدَ عن الشارع مطلقاً فإنَّه لا يجوز إدخال أيِّ قيدٍ مِن القيود عليه إلا بدليل؛ لأنه ليس لنا أن نقيِّد ما أطلقه الشرعُ. وهذه القاعدةُ تفيدك كثيراً في مسائلَ؛ منها المسحُ على الخُفَّينِ، فقد أطلقَ الشارعُ المسحَ على الخُفَّينِ، ولم يشترط في الخُفِّ أن يكون مِن نوعٍ معيَّنٍ، ولا أن يكون سليماً مِن عيوبٍ ذكروا أنها مانعة مِن المسحِ كالخرق وما أشبهه ، فالواجبُ علينا إطلاقُ ما أطلقَه الشرعُ؛ لأننا لسنا الذين نتحكَّمُ بالشرعِ، ولكن الشرعُ هو الذي يَحكمُ فينا، أمَّا أن نُدخِلَ قيوداً على أمْرٍ أطلقه الشرعُ فهذا لا شَكَّ أنه ليس مِن حَقِّنا، فلننظرْ إلى المسألة هنا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به، فإذا كبَّر فكبِّروا، وإذا ركعَ فاركعوا، وإذا سَجَدَ فاسجدوا، وإذا صَلَّى قائماً فصلّوا قياماً، وإذا صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً أجمعون» هل هذه الأحكام التي جعلها الشارعُ في مسارٍ واحدٍ تختلفُ بين إمامِ الحيِّ وغيرِه أو لا؟
فهل نقولُ إذا كبّر إمام الحَيِّ فكبِّرْ، وإذا رَكَعَ فاركعْ، وإذا كَبَّرَ غيرُ إمامِ الحَيِّ فأنت بالخيارِ، وإذا رَكَعَ فأنت بالخيارِ؟
الجواب: لا، فالأحكامُ هذه كلُّها عامةٌ لإِمامِ الحَيِّ ولغيرِه، وعلى هذا يتبيَّنُ ضعفُ الشرطِ الأولِ الذي اشترطه المؤلِّفُ، وهو قوله: «إمام الحي» ونقول: إذا صَلَّى الإِمامُ قاعداً فنصلِّي قعوداً، سواء كان إمامَ الحَيِّ أم غيره، وقد قال النَّبيُّ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «يَؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ الله» فإذا كان هذا الأقرأُ عاجزاً عن القيام، قلنا: أنت إمامُنا فَصَلِّ بنا. وإذا صَلَّى بنا قاعداً فإننا نصلِّي خلفَه قُعوداً بأمرِه صلى الله عليه وسلم في كونه إمامَنا، وبأمره في كوننا نصلِّي قعوداً.
والشرط الثاني: المرجو زوال عِلَّتِهِ.(165/83)
هذا أيضاً قيدٌ في أمرٍ أطلقَه الشارعُ، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إذا صَلَّى قاعداً وأنتم ترجون زوالَ عِلَّته فصلُّوا قعوداً، بل قال: «إذا صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً أجمعون» وعلى هذا؛ فإننا نصلِّي قعوداً خلفَ الإِمامِ العاجزِ عن القيامِ، سواءٌ كان ممن يُرجى زوالُ عِلَّتِهِ، أو ممن لا يُرجى زوالُ عِلَّتِه.
والدليل: عمومُ النَّصِّ، فالدليلُ عامٌّ مطلقٌ، فإذا كان عاماً مطلقاً فليس لنا أن نخصِّصَهُ ولا أن نقيّدَه؛ لأننا عبيدٌ محكومٌ علينا، ولسنا بحاكمين، وليس هناك دليلٌ يدلُّ على هذا القيد مِن الكتابِ والسُّنَّةِ ولا الإِجماعِ، فإذا انتفى ذلك وَجَبَ أن يبقى النَّصُّ على إطلاقِهِ فلا يُشترطُ أن يكونَ عجزُ الإِمامِ عن القيامِ مرجوَّ الزَّوالِ.
مسألة: إذا قال قائلٌ: إذا كان الإِمامُ شيخاً كبيراً لا يُرجى زوالُ عِلَّتِهِ لزم مِن ذلك أن يبقى الجماعةُ يصلُّون دائماً قعوداً؟
الجواب: أننا نلتزمُ بهذا اللازمِ، ما دام هذا لازمُ قولِ الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنَّ قولَ الرسولِ حَقٌّ، ولازمُ الحَقِّ حَقٌّ، ونحن إذا صلَّينا قعوداً مع قُدرتنا على القيامِ في جميع صلواتنا خلفَ الإِمامِ القاعدِ فقد صلَّينا بأمرِ النبي صلى الله عليه وسلم، فليس علينا ضَيرٌ، على أنَّ هذا لا يمكن أن يطَّرِدَ، أي: ليس كلُّ الناسِ يصلّون خلفَ هذا الإِمامِ جميع الصَّلواتِ، فقد تفوتهم الصَّلاةُ، ويصلّون فُرادى، أو مع جماعةٍ أُخرى، وقد يصلُّون في مسجدٍ آخر، وقد يُعذرون عن الحضور للجماعة فيصلُّون في بيوتهم، ولكن الأَولى أن يقوم بالإِمامةِ في هذه الحالِ مَن كان قادراً على القيامِ.
مسألة: العاجزُ عن الرُّكوعِ والسُّجودِ والقعودِ؛ هل تصحُّ الصلاةُ خلفَه؟
سبق أنَّ المذهبَ لا تصحُّ الصَّلاةُ خلفَه إلا بمثلِه.(165/84)
ولكن الصحيحَ: أنَّ الصَّلاةَ خلفَه صحيحةٌ؛ بناءً على القاعدةِ؛ أنَّ مَن صحّتْ صلاتُه صحّتْ إمامتُه إلا بدليلٍ. لأن هذه القاعدةِ دلَّت عليها النصوصُ العامةُ؛ إلا في مسألة المرأةِ، فإنَّها لا تصحُّ أن تكون إماماً للرَّجُلِ، لأنَّها مِن جنسٍ آخرٍ.
وأيضاً: قياساً على العاجزِ عن القيام، فإنَّ صلاةَ القادرِ على القيامِ خلفَ العاجزِ عنه صحيحةٌ بالنصِّ، فكذلك العاجزُ عن الرُّكوعِ والسُّجودِ.
فإن قال قائل: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا صَلَّى قائماً فصلُّوا قياماً، وإذا صلّى قاعداً فصلّوا قعوداً أجمعون» ولم يقلْ: إذا صَلَّى راكعاً فاركعوا، وإذا أومأ فأومِئوا؟
قلنا: إنَّ الحديثَ إنما ذَكَرَ القيامَ؛ لأنه وَرَدَ في حالِ العجزِ عن القيامِ، فالرسول صلى الله عليه وسلم خاطَبهم حين صَلَّى بهم قاعداً، فقاموا، ثمَّ أشارَ إليهم فجلسوا، فلهذا ذَكَرَ النبي صلى الله عليه وسلم القيامَ كمثالٍ؛ لأن هذا هو الواقع.
فعليه نقول: إنَّ القولَ الراجحَ: أنَّ الصلاةَ خلفَ العاجزِ عن الركوعِ صحيحةٌ، فلو كان إمامُنا لا يستطيع الرُّكوعَ لِأَلَمٍ في ظهرهِ صلّينا خلفَه.
ولكن؛ هل إذا رَكَعَ بالإِيماءِ نركعُ بالإِيماءِ؟ أو نركعُ ركوعاً تاماً؟
الظاهر: أننا نركعُ ركوعاً تامًّا؛ وذلك لأنَّ إيماءَ العاجزِ عن الرُّكوعِ لا يغيرُ هيئةَ القيامِ إلا بالانحناءِ، بخلافِ القيامِ مع القعودِ.(165/85)
وأيضاً: القيام مع القعودِ أشارَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى عِلَّتِه بأنَّنا لو قمنا وإمامُنا قاعدٌ كنَّا مشبهين للأعاجمِ الذين يقفون على ملوكهم. ولهذا جاءَ في بعضِ ألفاظِ الحديث: «إنْ كِدْتُم آنفاً لتفعَلُونَ فِعْلَ فارسَ والرُّومِ، يقومونَ على مُلُوكهم وهم قُعودٌ، فلا تفعلُوا، ائْتَموا بأئمتِكُم، إنْ صَلَّى قائماً فصلُّوا قياماً وإن صلى قاعداً فصلوا قعوداً» . فإذا كان إمامُنا قاعداً، ونحن قيامٌ، صِرنا قائمين عليه، أما الرُّكوع، إذا عَجَزَ عنه وأومأ وركعنَا فإننا لا نُشبه العَجَمَ بذلك.
وكذلك في العَجْزِ عن السُّجودِ، الصحيحُ: أنه تصحُّ إمامةُ العاجزِ عن السُّجودِ بالقادرِ عليه، وهل المأمومُ في هذه الحالِ يومئُ بالسُّجودِ؟
الجواب: لا، بل يسجدُ سجوداً تاماً.
وكذا العاجزُ عن القعودِ، نصلِّي خلفَه مع قُدرتِنا على القعودِ، كما لو كان مريضاً لا يستطيع القعودَ ويصلِّي على جنبِه.
ولكن هل نضطجعُ؟
الجواب: لا، لأنَّ الأمرَ بموافقةِ الإِمامِ إنَّما جاءَ في القعودِ والقيامِ، وعلى هذا؛ فنصلِّي جلوساً وهو مضطجعٌ، وكذلك لو عَجَزَ عن القعودِ بين السجدتين مثلاً، أو عن القعودِ في التشهُّدِ فإننا نصلِّي خلفَه.
إذاً؛ فالصحيحُ: أننا نصلِّي خلفَ العاجزِ عن القيامِ والرُّكوعِ والسُّجودِ والقعودِ. وهذا القولُ هو اختيارُ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية . وهو الصحيحُ؛ بناءً على عموماتِ الأدلةِ كقوله صلى الله عليه وسلم: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ الله» وعلى القاعدة التي ذكرناها وهي: أنَّ مَن صحّتْ صلاتُه صحّت إمامتُه.
قوله: «فإن ابتدأ» الضمير يعود على الإِمامِ.
قوله: «بهم» الضميرُ يعودُ على الجماعةِ.
قوله: «ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً» أي أصابتْهُ عِلَّةٌ فَجَلَسَ، فإنهم يصلّون خلفَه قياماً وجوباً.(165/86)
مثال ذلك: إمامٌ يصلّي بالجماعةِ، وفي أثناء القيامِ أصابه وَجَعٌ في ظهرِه، أو في بطنِه فَجَلَسَ، وأتمَّ بهم الصَّلاةَ جالساً، فالجماعةُ يلزمهم أن يُتمّوا الصَّلاةَ قياماً ولا يجوز لهم الجلوسُ.
والدَّليلُ: فِعْلُ الرسول صلى الله عليه وسلم في مرضِ موتِهِ «حين دَخَلَ المسجدَ وأبو بكرٍ يصلِّي بالناسِ، قد ابتدأ بهم الصلاةَ قائماً، فَجَلَسَ النبي صلى الله عليه وسلم إلى يسارِ أبي بكرٍ، وبقي أبو بكرٍ قائماً. يُصلّي أبو بكرٍ بصلاةِ النبي صلى الله عليه وسلم، ويصلّي الناسُ بصلاةِ أبي بكرٍ. ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجلوس» .
وهذا الدليلُ هو الذي أجابَ به الإِمامُ أحمدُ جامعاً بينه وبين حديث: «إذا صلّى قاعداً فصلُّوا قعوداً» . وعلى هذا؛ فيكون عمومُ قوله: «إذا صلَّى قاعداً فصلُّوا قعوداً» مخصوصاً بهذه الحالِ: إذا ابتدأ بهم قائماً أتمُّوا قياماً.
وقوله: «وتصح خلف من به سلس البول بمثله» سَلَسُ البولِ، أي: استمرارُه وعدمُ انقطاعِه، ولا يستطيعُ منعَه، وذلك أن الإِنسانَ قد يُبتلى بدوامِ الحَدَثِ مِن بولٍ أو غائطٍ أو ريحٍ، وهذا لا شَكَّ أنه مَرَضٌ؛ لا يَعرفُ قَدْرَ نِعمةِ اللهِ على الإِنسانِ بالسلامةِ منه إلا مَن أُصيبَ به. وكيف يتوضَّأ ويصلّي مَن ابتُليَ بهذا المرضِ؟(165/87)
الجواب: أنَّ الله قال في كتابه (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: من الآية78)فَكُلُّ الدِّينِ _ ولله الحمد _ يُسْرٌ، وكيفيَّةُ وُضوءِ وصلاةِ هذا: أن نقول له: إذا دَخَلَ الوقتُ فاغسِلْ فَرْجَكَ، وتحفَّظْ، أي: اجعلْ على فرجِكَ حفَّاظةً تمنع مِن تسرُّبِ البولِ وانتشارِه في جسدِكَ وفي ثيابِك، ثم توضَّأ وُضُوءَكَ للصَّلاةِ، ثم صَلِّ ما شئتَ فروضاً ونوافل وإنْ خرجَ الوقت، لأنَّه ليس هناك دليلٌ على أنَّ خروجَ الوقتِ يُبطِلُ الوضوءَ فيمَن حَدَثُه دائمٌ، لكن إذا دخَلَ وقتُ صلاةٍ مؤقَّتةٍ فإننا نقول: توضَّأ؛ لقولِ النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام للمستحاضة: «توضَّئي لكلِّ صلاة» . والأصلُ بقاءُ الطَّهارةِ حتى يقومُ دليلٌ على بُطلانِها .
وصلاتُه مأموماً بإمامٍ سليمٍ مِن هذا المرضِ صحيحةٌ، وصلاتُه إماماً بمصابٍ بهذا المرضِ صحيحةٌ، هاتان صورتان.
الصورةُ الثالثةُ: صلاتُه إماماً بمَن هو سليمٌ مِن هذا المرضِ فمفهومُ كلامِ المؤلِّفِ؛ أنَّها لا تصحُّ، فإذا صَلَّى مَنْ به سلسُ البولِ إماماً بمَن هو سالمٌ مِن هذا المرضِ، فصلاةُ المأمومِ باطلةٌ وصلاةُ هذا أيضاً باطلةٌ؛ لأنَّه نَوى الإِمامةَ بمَن لا يصحُّ ائتمامُه به إلا أنْ يكون جاهلاً بحاله.
والعلَّةُ في عدمِ صحَّةِ إمامتِه: أنَّ حالَ مَن به سَلسُ البولِ دون حالِ مَن سَلِمَ منه، ولا يمكن أن يكون المأمومُ أعلى حالاً مِن الإِمامِ.
والقول الصحيحُ في هذا: أن إمامةَ مَن به سَلَسُ البولِ صحيحةٌ بمثْلِهِ وبصحيحٍ سليمٍ.
ودليلُ ذلك: عمومُ قولِه صلى الله عليه وسلم: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ» وهذا الرَّجلُ صلاتُه صحيحةٌ؛ لأنَّه فَعَلَ ما يجب عليه، وإذا كانت صلاتُه صحيحةٌ لزمَ مِن ذلك صحَّةُ إمامتِه.(165/88)
وقولهم: إنَّ المأمومَ لا يكون أعلى حالاً مِن الإِمام مُنتقضٌ بصحَّةِ صلاةِ المتوضئِ خلفَ المُتَيمِّمِ، وهم يقولون بذلك مع أنَّ المتوضئَ أعلى حالاً، لكن قالوا: إنَّ المتيمِّمَ طهارتُه صحيحةٌ. ونقول: ومَن به سَلَسُ البولِ طهارتُه أيضاً صحيحةٌ.
قوله: «ولا تصح خلف محدث ولا متنجس يعلم ذلك...» .
هاتان مسألتان:
المسألة الأولى: الصلاةُ خلفَ المُحدثِ فتصحُّ بشرطِ أن يكونَ الإِمامُ والمأمومُ جاهلين بذلك حتى تتمَّ الصلاةُ.
مثال ذلك في الحَدَثِ الأصغرِ:
إمامٌ أَكَلَ لحمَ إبلٍ، ولم يعلمْ أنَّه لَحْمُ إبلٍ فصلَّى بالجماعةِ وهم لا يعلمون أنَّه أَكَل ذلك، فلما انتهتِ الصلاةُ عَلِمَ أنَّ اللَّحمَ الذي أَكَلَه لَحْمُ إبلٍ. فهنا لا يعيدُ المأمومون صلاتَهم، والإِمامُ يعيدُ الصَّلاةَ. أما الإِمامُ فلأنه صَلَّى بغيرِ وضوءٍ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبلُ اللهُ صلاةَ أحدِكم إذا أحدثَ حتى يتوضَّأ» .
وأما المأمومُ فعُذْرُه ظاهرٌ؛ لأنَّه لا يعلمُ الغيبَ، ولا يكلِّفُ اللهُ نفساً إلا وسعَها.
فإن عَلِمَ أنه مُحدثٌ في أثناء الصَّلاةِ فإنَّ صلاتَه تبطلُ، والمرادُ أنه تبيَّن عدمَ انعقادِها، وصلاةُ المأمومين تبطلُ أيضاً.
أما بُطلانُ صلاتِه فظاهرٌ؛ لأنه تبيَّن أنه على غيرِ وُضُوءِ، فتبيَّن أنَّ صلاتَه لم تنعقدْ.
وأما صلاةُ المأمومين؛ فلأنَّه تبيَّن أنَّهم اقتدوا بمَن لا تصحُّ صلاتُه فبطلت صلاتُهم؛ لأنَّ صلاتَهم مبنيَّةٌ على صلاةِ إمامِهم، فإذا بَطلتْ صلاةُ الإِمامِ بَطلتْ صلاةُ المأمومِ.(165/89)
فإن عَلِمَ واحدٌ مِن المأمومينَ؛ والباقون لم يعلموا؛ لا الإِمام ولا بقية المأمومين بَطلتْ صلاتُهم جميعاً؛ لقول المؤلِّفِ: «فإن جهل هو والمأموم حتى انقضت صحّت لمأموم وحده» أي: بحيثُ لا يعلمُ أحدٌ مِن المأمومينَ أنه على غيرِ وُضُوءٍ، فإن عَلِمَ واحدٌ ولو في أثناءِ الصَّلاةِ بطلتْ صَلاةُ الجميعِ، وهذا الحكمُ الثاني ليس له عِلَّةٌ واضحةٌ أنه إذا عَلِمَ واحدٌ مِن المأمومينَ أعادَ الكُلُّ، أما الحكمُ الأولُ فله عِلَّةٌ سبق ذكرُها.
ومثالُ ذلك في الحَدَثِ الأكبر: رَجُلٌ استيقظَ مِن نومِه، فتوضَّأ وذهب يصلِّي إماماً، وبعد انتهائِه مِن الصَّلاةِ رأى عليه أَثَرَ جنابةٍ، ولكن كان جاهلاً بها، فهنا نقول: المأمومون صلاتُهم صحيحةٌ.
أما هو؛ فإنه يعيدُ الصلاةَ، فإنْ عَلِمَ هو أو أحدٌ مِن المأمومينَ في أثناءِ الصَّلاةِ، فالصَّلاةُ باطلةٌ.
والصحيح في هذه المسألة: أنَّ صلاةَ المأمومينَ صحيحةٌ بكُلِّ حالٍ، إلا مَن عَلِمَ أنَّ الإِمامَ مُحدِثٌ.
وذلك لأنهم كانوا جاهلين، فهم معذورون بالجهلِ، وليس بوسعِهم ولا بواجبٍ عليهم أن يسألوا إمامَهم: هل أنت على وُضُوءٍ أم لا؟ وهل عليك جنابةٌ أم لا؟ فإذا كان هذا لا يلزمُهم وصَلَّى بهم وهو يعلم أنه مُحدثٌ، فكيف تَبطلُ صلاتُهم؟!!
وههنا قاعدةٌ مهمَّةٌ جداً وهي: «أنَّ مَن فَعَلَ شيئاً على وَجْهٍ صحيحٍ بمقتضى الدَّليلِ الشَّرعي، فإنَّه لا يمكن إبطالُه إلا بدليلٍ شرعيٍّ» ، لأننا لو أبطلنا ما قامَ الدليلُ على صحَّتِهِ لكان في هذا قولٌ بلا عِلْمٍ على الشرعِ، وإعناةٌ للمكلف ومشقَّةٌ عليه، فهم فعلوا ما أُمِرُوا به مِن الاقتداء بهذا الإِمامِ، وما لم يكلَّفوا به فإنَّه لا يلزمهم حُكمه.(165/90)
وعلى هذا؛ فالصحيحُ أن صلاة المأمومين مع جهلهم بحاله صحيحةٌ بكلِّ حال حتى وإنْ كان الإِمامُ عالماً؛ لأنَّه أحياناً يكون الإِمام محدثاً، لكن لا يذكرُ إلا وهو يصلِّي، ثم يستحي أنْ ينصرفَ، وهذا حرامٌ عليه لا شَكَّ، لكن قد تقعُ مِن بعضِ الجُهالِ، فإذا ذَكَرَ الإِمامُ في أثناءِ الصَّلاةِ أنَّه محدثٌ، أو عَلِمَ أنه مُحدِثٌ وَجَبَ عليه الانصرافُ، ويستخلفُ مَن يُكملُ بهم الصَّلاةَ؛ لأن عُمرَ بن الخطَّاب لمَّا طَعَنَهُ أبو لؤلؤة المجوسيُّ، غلامُ المغيرةِ، بعدَ أنْ شَرَعَ في صلاةِ الصُّبحِ، تناولَ عُمرُ يَدَ عبدِ الرحمنِ بنِ عَوْفٍ فقدَّمَهُ، فصلَّى بهم صلاةً خفيفةً وهذا بحَضْرةِ الصَّحابةِ ، فإنْ لم يفعلْ وانصرفَ، فللمأمومينَ الخِيارُ بين أن يُقدِّموا واحداً منهم يُكملُ بهم الصَّلاةَ، أو يتمُّوها فُرادى؛ لأنَّ إمامَهم ذَهَبَ ولم يستخلفْ.
المسألة الثانية: الصلاةُ خلفَ المتنجِّس، وقد جَعَلَ المؤلِّفُ حكمها كحكم الصَّلاةِ خلفَ المحدث.
فإذا صَلَّى الإِمامُ بنجاسةٍ يجهلُها هو والمأمومُ، ولم يعلمْ بها حتى انتهتِ الصَّلاةُ، فإنَّ صلاةَ المأمومينَ صحيحةٌ؛ لأنَّهم معذورون بالجهلِ، وأما الإِمامُ فلا تصحُّ صلاتُه فيجبُ أن يغسلَ النجاسةَ التي في ثوبِهِ أو على بدنِهِ، ثم يعيدُ الصَّلاةَ؛ لأنَّ مِن شَرْطِ صحَّةِ الصَّلاةِ اجتنابَ النجاسةِ. والقاعدةُ: أنه إذا تخلَّفَ الشرطُ تخلَّفَ المشروطُ.
فإنْ عَلِمَ في أثناءِ الصَّلاةِ وَجَبَ عليه أن يستأنفَ الصَّلاةَ هو والمأمومون بعد إزالةِ النجاسةِ. هذا هو الذي يقتضيه كلام المؤلِّفِ.(165/91)
والقولُ الصَّحيحُ في هذه المسألةِ: أنه إذا جَهِلَ الإِمامُ النجاسةَ هو والمأمومُ حتى انقضتِ الصَّلاةُ فصلاتُهم جميعاً صحيحةٌ، والعذرُ للجميع الجهلُ، والمصلِّي بالنَّجاسةِ جاهلاً بها على القولِ الرَّاجحِ ليس عليه إعادةٌ، وكذلك لو عَلِمَ بها لكن نسيَ أن يغسِلَها فإن صلاتَه على القول الرَّاجحِ صحيحةٌ .
ومِن هنا يتَّضحُ الفرقُ بين هذه والتي قبلَها على القول الرَّاجحِ: أنه إذا جَهِلَ المصلِّي بالحدثَ أعادَ الصلاةَ، ولا يعيدُ الصَّلاةَ إذا كان جاهلاً بالنجاسةِ. والفَرْقُ بينهما: أنَّ الوُضُوءَ مِن الحَدَثِ مِن بابِ فِعْلِ المأمورِ، واجتنابَ النَّجاسةِ مِن بابِ تَرْكِ المحظورِ، فإذا فَعَلَهُ جاهلاً فلا يلحقُه حكمُه.
ويدلُّ لهذا القولِ الرَّاجِحِ: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم صَلَّى بأصحابِه ذاتَ يومٍ وعليه نعلاه فَخَلَعَهُما، فَخَلَعَ الصحابةُ نعالَهم، فلمَّا انصرفَ سألهم: لماذا خلعوا نِعالهم؟ قالوا: رأيناكَ خلعتَ نعليكَ فخلعنا نِعالنا، فقال: إنَّ جبريلَ أتاني فأخبرني أنَّ فيهما قَذَراً فَخَلَعتُهما» ، وهذا صريحٌ في أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد لَبِسَ نعليه قذرتين، لكنه لم يكن عالماً بذلك، ولو كانتِ الصَّلاةُ تبطلُ مع الجهلِ لاستأنفَ النبي صلى الله عليه وسلم صلاتَه.
وعلى هذا؛ إنْ عَلِمَ الإِمامُ في أثناءِ الصَّلاةِ بالنجاسةِ، فإنْ كان يمكنه إزالتها أزالها، وإنْ كان لا يمكنه انصرفَ، وأتمَّ المأمومون صلاتَهم.
مثال ذلك: لو كانت النجاسةُ في نعليه، أو كانت في «غُترتِه» أو كانت في قميصِه وعليه سراويل فهذه يمكن إزالتها، فيخلعُ القميصَ ولا يبقى عليه إلا السراويلُ، وسيستغرب المصلُّون، ولكن لا يضرُّ ولا حَرَجَ، والذي ينبغي أنْ يَفعلَ الإنسانُ الشيءَ المشروعَ، والناسُ إذا استنكروه أوَّلَ مرَّةٍ، فلن يستنكروه في المرَّةِ الثانيةِ.(165/92)
لكن إنْ خشيَ مذمَّةً مِن العامَّةِ فلا حَرَجَ عليه أنْ ينصرفَ مِن صلاتِهِ.
قوله: «ولا إمامة الأمي وهو: من لا يحسن الفاتحة» ، أي: لا تصحُّ إمامةُ الأُمِّي.
والأُمِّيُّ: نسبةً إلى الأم، والإِنسانُ إذا خَرَجَ مِن أُمِّهِ فهو لا يَعلمُ شيئاً، كما قال الله تعالى: )وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئا)(النحل: من الآية78)والأُمِّيُّ لُغةً: مَنْ لا يقرأ ولا يكتبُ ؛ لقوله تعالى: )هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة)(الجمعة: من الآية2) (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِه) فيقرؤون (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ} فيكتبون.
وقال الله تعالى: ) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيّ)(لأعراف: من الآية158)، وقال في تفسير ذلك: )وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ)(العنكبوت: من الآية48)والأُمِّيُّ في الاصطلاح هنا: مَن لا يُحسنُ الفاتحةَ، يعني: لا يُحسنُ قراءتَها لا حِفظاً ولا في المصحفِ، ولو كان يقرأ كُلَّ القرآنِ ولا يُحسنُ الفاتحةَ فهو أُمّيّ.
والفاتحةُ: سورةُ )الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة:2) وسُمِّيت فاتحةٌ؛ لأنه افْتُتِحَ بها القرآنُ الكريمُ، ولها أسماءٌ متعدِّدةٌ.
قوله: «أو يدغم فيها ما لا يدغم» أي: يُدغِمُ في الفاتحةِ ما لا يُدْغَمُ.
والإِدغامُ عند العلماءِ: كبير، وصغير. فإذا أدغمتَ حرفاً بمثلِهِ فهذا إدغامٌ صغيرٌ.
وإذا أدغمتَ حَرْفاً بما يقاربه، فهو إدغامٌ كبيرٌ.
وإذا أدغمتَ حَرْفاً بما لا يقارِبُه ولا يماثِلُه، فهو غَلَطٌ.(165/93)
مثال ذلك: {)الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } فَيُدغمُ الهاءَ بالرَّاءِ. فهذا إدغامٌ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الهاءَ بعيدةٌ مِن الرَّاءِ، فهذا أُمِّيٌّ حتى ولو كان لا يستطيع إلا هذا.
وجه ذلك: أنَّه إذا أدْغَمَ فيها ما لا يُدْغَمُ فقد أسقطَ ذلك الحرفِ المُدْغَمِ.
أما إدغامُ المتقاربينِ فمثل: إدغامُ الدَّال بالجيم «قد جّاءكم» وهذه فيها قِراءة، والقِراءةُ المشهورةُ هي التحقيقُ «قد جَاءكم»، لكن لو كان يقولُ «قد جّاءكم» بإدغامِ الدَّالِ في الجيمِ، فإنه لا يُعَدُّ أُمِّيًّا، لكن ليس في الفاتحةِ مثل «قد جاءكم».
قوله: «أو يبدل حرفاً» أي: يُبدل حرفاً بحرفٍ، وهو الألتغُ، مثل: أنْ يُبدِلَ الرَّاءَ باللام، أي: يجعلَ الرَّاءَ لاماً فيقول: «الحمدُ لله لَبِّ العالمين» فهذا أُمِّيٌّ؛ لأنه أبدلَ حرفاً مِن الفاتحة بغيرِه.
ويُستثنى مِن هذه المسألةِ: إبدالُ الضَّادِ ظاءً فإنَّه معفوٌّ عنه على القولِ الرَّاجحِ وهو المذهبُ، وذلك لخَفَاءِ الفَرْقِ بينهما، ولا سيَّما إذا كان عاميَّاً، فإنَّ العاميَّ لا يكادُ يُفرِّقُ بين الضَّادِ والظَّاءِ، فإذا قال: «غير المغظوب عليهم ولا الظالين» فقد أبدلَ الضَّادَ وجعلها ظاءً، فهذا يُعفى عنه لمشقَّةِ التَّحرُّز منه وعُسْرِ الفَرْقِ بينهما لا سيَّما مِن العوامِ.
فالإِبدال كما يلي:
1 _إبدالُ حَرْفٍ بحَرْفٍ لا يماثلُه. فهذا أُمِّيٌّ.
2 _إبدالُ حَرْفٍ بما يقارِبُه، مثل: الضَّاد بالظَّاءِ. فهذا معفوٌّ عنه.
3 _إبدالُ الصَّادِ سيناً، مثل: السراط والصراط، فهذا جائزٌ بل ينبغي أنْ يقرأَ بها أحياناً، لأنها قِراءةٌ سبعيَّةٌ، والقِراءة السبعيَّةُ ينبغي للإِنسانِ أنْ يقرأَ بها أحياناً، لكن بشرط أن لا يكون أمامَ العامَّةِ، لأنك لو قرأتَ أمامَ العامَّةِ بما لا يعرفون لأنكروا ذلك، وَشَوَّشْتَ عليهم.(165/94)
قوله: «أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى» أي: يَلْحَنَ في الفاتحةِ لحناً يُحيلُ المعنى.
واللَّحنُ: تغييرُ الحركات، سواءٌ كان تغييراً صرفياً أو نحوياً، فإن كان يغيِّرُ المعنى، فإن المُغيِّرَ أُمِّيٌّ، وإنْ كان لا يغيِّرُه فليس بأُمِّيٍّ، فإذ قال: (الحمد لله ربَ العالمين) بفتح الباء، فاللَّحنُ هذا لا يُحيلُ المعنى، وعلى هذا؛ فليس بأُمِّيٍّ فيجوز أن يكون إماماً بمَن هو قارئٌ، وإذا قال: (أَهدنا الصراط المستقيم) بفتح الهمزة فهذا يُحيل المعنى؛ لأن «أهدنا» مِن الإِهداء، أي: إعطاء الهديَّة: {اهدنا } [الفاتحة] بهمزة الوصل مِن الهدايةِ، وهي الدّلالة والتوفيق، ولو قال: «إياكِ نعبد» بكسر الكاف فهذه إحالةٌ شديدةٌ فهو أُمِّيٌّ، ولو قال: «صراط الذين أنعمتُ عليهم» بضم التاء فهذا يُحيلُ المعنى أيضاً.
ولو قال: «إياكَ نعبَد» بفتح الباء فهذا لا يُحيلُ المعنى. وكذا: «إياك نستعينَ» بفتح النون الثانية فهذا لا يُحيلُ المعنى، وليس معنى ذلك جوازُ قِراءةِ الفاتحةِ ملحونةً؛ فإنَّه لا يجوز أنْ يَلْحَنَ ولو كان لا يُحيلُ المعنى، لكن المرادُ صِحَّةُ الإِمامةِ.
قوله: «إلا بمثله» أي: إذا صَلَّى أُمِّيٌّ لا يَعرفُ الفاتحةَ بأُمِّيٍّ مثله فصلاتُه صحيحةٌ لمساواتِه له في النَّقْصِ، ولو صَلَّى أُمِّيٌّ بقارئ فإنَّه لا يَصحُّ، وهذا هو المذهبُ.
وتعليل ذلك: أنَّ المأمومَ أعلى حالاً مِن الإِمامِ، فكيف يأتمُّ الأعلى بالأدنى.
والقول الثاني: وهو رواية عن أحمد: أنه يَصحُّ أن يكون الأُمِّيُّ إماماً للقارئ، لكن ينبغي أنْ نتجنَّبَها؛ لأنَّ فيها شيئاً مِن المخالفةِ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «يَؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ» ومراعاةً للخِلافِ.(165/95)
قوله: «وإن قدر على إصلاحه لم تصح صلاته» أي: إنْ قَدِرَ الأُمِّيُّ على إصلاح اللَّحنِ الذي يُحيلُ المعنى ولم يُصلِحْهُ فإنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، وإن لم يَقْدِرْ فصلاتُه صحيحةٌ دون إمامتِه إلا بمثلِه.
ولكن الصحيحُ: أنَّها تصحُّ إمامتُه في هذه الحالِ؛ لأنَّه معذورٌ لعجزِه عن إقامةِ الفاتحةِ وقد قال الله تعالى: {فأتقوا الله ماإستطعتم } وقال: {لايكلف الله نفساً الا وسعها } ويوجد في بعضِ الباديةِ مَن لا يستطيعُ أنْ ينطِقَ بالفاتحة على وَجْهٍ صحيحٍ، فرُبَّما تسمعُه يقرأ «أَهدنا» ولا يمكن أنْ يقرأَ إلا ما كان قد اعتادَه، والعاجزُ عن إصلاح اللَّحنِ صلاتُه صحيحةٌ، وأما مَن كان قادراً فصلاتُه غيرُ صحيحةٍ، كما قال المؤلِّف، إذا كان يُحيلُ المعنى.
قوله: «وتكره إمامةُ اللَّحَّان» واللَّحَّانُ: كثيرُ اللَّحْنِ، والمرادُ في غيرِ الفاتحةِ، فإنْ كان في الفاتحةِ وأحَالَ المعنى صارَ أُمِّيًّا لا تَصِحُّ إمامتُه على المذهبِ، لكن إذا كان كثيرَ اللَّحْنِ في غيرِ الفاتحةِ فإمامتُه صحيحةٌ، إلا أنَّها تُكره.
والدليلُ: قولُ النَّبيِّ عليه الصلاة والسلام: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ» ، وهذا خَبَرٌ بمعنى الأمرِ، فإذا كان خبراً بمعنى الأمر فإنَّه إذا أمَّهم مَن ليس أقرأهم فقد خالفوا أَمْرَ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذَكَرَ الإِمامُ أحمدُ حديثاً لكنه لم يذكرْ سَنَدَه وهو: «إذا أَمَّ الرَّجُلُ القومَ وفيهم مَن هو خيرٌ مِنه لم يزالوا في سَفَالٍ» لأنهم انحطُّوا فَحَطَّ الله قَدْرَهم.
قوله: «والفأفاء» يعني تُكره إمامةُ الفَأْفَاء: وهو الذي يُكرِّرُ الفاءَ، أي: إذا نَطَقَ بالفاءِ كرَّرها.
قوله: «والتمتام» وهو مَن يُكرِّرُ التاءَ، ومِن النَّاسِ مَن يُكرِّرُ الواو أو غيرها.
وعلى كُلٍّ؛ فالذي يُكرِّرُ الحروفَ تُكرَه إمامتُه مِن أجلِ زيادةِ الحَرْفِ، ولكن لو أمَّ النَّاسَ فإمامتُه صحيحةٌ.(165/96)
قوله: «ومن لا يفصح ببعض الحروف» أي: يخفيها بعضَ الشيءِ، وليس المرادُ أنَّه يُسقِطُها؛ لأنه إذا أسقطَها فإنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ إذا كان في الفاتحة لنُقصانِها، أما إذا كان يَذكرُها، ولكن بدون إفصاحٍ؛ فإنَّ إمامتَه مكروهةٌ.
ولم يذكرِ المؤلِّفُ كراهةَ إمامةِ مَن لا يقرأُ بالتَّجويدِ؛ لأنَّه لا تُكره القِراءةُ بغيرِ التَّجويدِ.
والتَّجويدُ مِن بابِ تحسين الصَّوتِ بالقرآنِ، وليس بواجبٍ، إنْ قرأَ به الإِنسانُ لتحسينِ صوتِه فهذا حَسَنٌ، وإنْ لم يقرأْ به فلا حَرَجَ عليه ولم يفته شيءٌ يأثم بتركِهِ، بل إنَّ شيخَ الإِسلامِ ذمَّ أولئك القومَ الذين يعتنون باللَّفظِ، ورُبَّما يكرِّرونَ الكلمةَ مرَّتين أو ثلاثاً مِن أجل أن ينطِقُوا بها على قواعد التَّجويدِ، ويَغْفُلُونَ عن المعنى وتدبُّرِ القرآنِ.
قوله: «وأن يؤم أجنبية فأكثر لا رجل معهن» أي: يُكرَه أنْ يؤمَّ أجنبيةً فأكثر. والأجنبيةُ مَن ليست مِن مَحارِمِهِ.
وكلامُ المؤلِّف يحتاجُ إلى تفصيل:
فإذا كانت أجنبيةٌ وحدَها، فإن الاقتصار على الكراهة فيه نَظَرٌ ظاهرٌ إذا استلزم الخَلوةَ، ولهذا استدلَّ في «الرَّوض» بأن النبي صلى الله عليه وسلم نَهى أنْ يخلوَ الرَّجُلُ بالأجنبيةِ ولكننا نقول: إذا خَلا بها فإنَّه يحرُمُ عليه أن يَؤمَّها، لأنَّ ما أفضى إلى المُحَرَّمِ فهو محرَّمٌ.(165/97)
أما قوله: «فأكثر» أي: أن يَؤمَّ امرأتين، فهذا أيضاً فيه نَظَرٌ مِن جهة الكراهة. وذلك لأنَّه إذا كان مع المرأة مثلُها انتفت الخَلوة، فإذا كان الإِنسانُ أميناً فلا حَرَجَ أن يؤمَّهُمَا، وهذا يقع أحياناً في بعضِ المساجدِ التي تكون فيها الجماعةُ قليلةٌ، ولا سيَّما في قيامِ الليلِ في رمضان، فيأتي الإِنسانُ إلى المسجدِ ولا يجدُ فيه رِجالاً؛ لكن يجدُ فيه امرأتين أو ثلاثاً أو أربعاً في خَلْفِ المسجدِ، فعلى كلام المؤلِّفِ يُكره أنْ يبتدئَ الصَّلاةَ بهاتين المرأتين أو الثلاث أو الأربع.
والصحيح: أن ذلك لا يُكره، وأنَّه إذا أمَّ امرأتين فأكثر، فالخَلوةُ قد زالت ولا يُكره ذلك، إلا إذا خَافَ الفِتنةَ، فإنْ خَافَ الفِتنةَ فإنَّه حرامٌ؛ لأنَّ ما كان ذريعةً للحرامِ فهو حرامٌ.
وعُلِمَ مِن قوله: «لا رجل معهنَّ» أنَّه لو كان معهنَّ رَجُلٌ فلا كراهةَ وهو ظاهرٌ.
قوله: «أو قوماً أكثرهم يكرهه بحق» أي: يُكره أنْ يَؤمَّ قوماً أكثرهم يكرهه بحَقٍّ.
ودليلُ ذلك: حديثُ «ثلاثةٌ لا تُجَاوِزُ صلاتُهم آذانَهم: العبدُ الآبقُ حتى يرجعَ، وامرأةٌ بَاتَتْ وزوجُها عليها سَاخِطٌ، وإمامُ قومٍ وهم له كارهون» ، فقوله: «لا تُجاوِزُ صلاتُه آذانَهم: أي: لا تُرفعُ ولا تُقبلُ، وهذا الحديثُ ضعيفٌ، ولو صَحَّ لكان فيه دليلٌ على بُطلان الصَّلاةِ، ومِن ثَمَّ قال الفقهاءُ بالكراهةِ. وقد ذَكَرَ ابنُ مفلح في« النكت على المحرر» أنَّ الحديثَ إذا كان ضعيفاً؛ وكان نهياً فإنَّه يُحملُ على الكراهةِ، لكن بشرط أنْ لا يكون الضَّعفُ شديداً، وإذا كان أمراً فإنَّه يُحملُ على الاستحبابِ.
فالحديثُ لضعفِهِ لم يكن موجباً للحُكم الذي يقتضيه لفظه، لو ردَّوه كان مثيراً للشك، فكان الاحتياطُ أنْ نجعلَ حكمَه بين بين.
وقوله: «أكثرهم يكرهه بحق» .
أفادنا المؤلِّفُ: أنَّه لو كان الأقلُّ يكرهه، فلا عبرةَ به.(165/98)
وأفادنا قوله: «بِحَقٍّ» أنَّهم لو كرهوه بغير حَقٍّ، مثل: لو كرهوه لأنَّه يَحْرِصُ على اتِّباعِ السُّنَّةِ في الصَّلاةِ فيقرأ بهم السُّورَ المسنونةَ، ويُصلِّي بهم صلاةً متأنيةً، فإن إمامتَه فيهم لا تُكره؛ لأنَّهم كرهوه بغيرِ حَقٍّ فلا عِبرةَ بكراهتهم. لكن؛ ظاهرُ الحديثِ الكراهةُ مطلقاً، وهذا أصحُّ؛ لأنَّ الغَرَضَ مِن صلاةِ الجماعةِ هو الائتلافُ والاجتماعُ وإذا كان هذا هو الغَرضُ؛ فمِنَ المعلومِ أنَّه لا ائتلافَ ولا اجتماعَ إلى شخصٍ مكروهٍ عندَهم، وينبغي له إذا كانوا يكرهونَه بغير حَقٍّ أنْ يَعِظَهُم ويُذكِّرَهم ويتألَّفَهم؛ ويُصلِّيَ بهم حسب ما جاءَ في السُّنَّةِ، وإذا عَلِمَ اللهُ مِن نِيَّتِهِ صِدْقَ نِيَّةِ التأليفِ بينهم يَسَّرَ اللهُ له ذلك.
قوله: «وتصح إمامة ولد الزنا والجندي إذا سلم دينهما» ولد الزِّنا خُلِقَ مِن ماءٍ سِفاحٍ لا نِكاحٍ، فلا يُنسبُ لأحدٍ، لا للزَّاني ولا لزوجِ المرأةِ إنْ كانت ذاتَ زوجٍ؛ لأنه ليس له أَبٌ شرعيٌّ. ولكن؛ هل له أبٌ قَدَريٌّ؟
الجواب: نعم، له أَبٌ قَدَريٌّ لا شَكَّ؛ لأنه خُلِقَ مِن ماءِ الرَّجُلِ الزَّاني.
فَوَلَدُ الزِّنا قد يكون سليمَ العقيدةِ مستقيمَ الدِّينِ. فيكون كغيره يَثبتُ له ما يثبتُ لِغيرِه، ولهذا قال المؤلِّفُ: «تصحُّ إمامتُه» ولا تُكره لعمومِ قولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ» .
والجُنديُّ أيضاً تَصِحُّ إمامتُه ولا تُكره، وهو الشرطيُّ، حتى ولو كان في لِبَاسِهِ العسكريِّ؛ لأنه رَجُلٌ مِن المسلمين، بل قد نقول: إنَّه قامَ بعملِ مصلحةٍ عامةٍ، فيكون مِن هذا الوجه أحسنَ عملاً مِن الذي يَعملُ عملاً لمصلحةٍ خاصَّةٍ لعمومِ الحديثِ: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ» .(165/99)
وإنَّما نَصَّ المؤلِّفُ على وَلَدِ الزِّنا والجُنديِّ؛ لأنَّ بعضَ العلماءِ كَرِهَ إمامَتهما. ولكن؛ لا وَجْهَ للكراهةِ، والجُنديُّ؛ إذا كان قد يحصُلُ منه عَنَتٌ على الناسِ وغَشْمٌ وظُلْمٌ فإنَّ هذا يحصُلُ لكُلِّ ذي سُلطان، حتى المُدرِّسَ في فَصْلِهِ، ربما يَتَسلَّطُ على بعضِ الطلبةِ ويظلِمُهم، ويَرِقُّ لبعضِ الطَّلبةِ ويحابيهم، فكلُّ ذي وِلايةٍ فإنَّه عُرضةٌ لأن يقومَ بالعدلِ، أو بالجَورِ.
قوله: «ومن يؤدي الصلاة بمن يقضيها وعكسه» ههنا ثلاثةُ أمورٍ تُوصف بها الصَّلاةُ:
أداء: ما فُعِلَ في وَقتِهِ أولاً.
إعادة: ما فُعِلَ في وَقتِهِ ثانياً.
قَضَاء: ما فُعِلَ بعد وَقتِهِ.
فقول المؤلف: تَصحُّ إمامةُ مَن يؤدِّي الصَّلاةَ بمَن يقضيها، أي: أنَّ المؤدِّي هو الإِمامُ، والمأمومُ هو الذي يقضي فتصِحُّ.
مثال ذلك: دَخَلَ رَجُلٌ والنَّاسُ يصلّون صلاةَ الظُّهرَ، وذَكَرَ أنَّ عليه صلاةَ الظُّهرِ بالأمسِ؟
فيبدأُ بالصَّلاةِ الفائتةِ، فيدخُلُ معهم وهو ينوي ظُهرَ أمسِ، وهم يصلُّون ظُهرَ اليومِ، فهذا صحيحٌ؛ لأنه قاضٍ صَلَّى خلفَ مُؤدٍّ، فالصلاةُ واحدةٌ، لكن اختلفَ الوقت.
وعكسُ ذلك؛ أنْ يؤمَّ مَن يقضي الصَّلاةَ بمَن يؤدِّيها فيكون الإِمامُ هو الذي يقضي، والمأمومُ هو الذي يؤدِّي.
مثاله: رَجُلٌ ذَكَرَ أنَّ عليه فائتةً ظُهرَ أمسِ، فقال لآخر: سأُصَلِّي ظُهرَ أمسِ وَصَلِّ معي ظهرك اليومَ، فالإمامُ يصلِّي ظُهرَ أمسِ والمأمومُ ظُهرَ اليومِ. إذاً؛ فالإِمامُ يقضي والمأمومُ يؤدِّي، فصحَّت المؤدَّاةُ خلفَ المقضيَّةِ وبالعكسِ؛ لأنَّ الصَّلاةَ واحدةٌ، وإنَّما اختلفَ الزَّمنُ.
قوله: «لا مفترض بمتنفل» أي: لا يصحُّ ائتمامُ مفترضٍ بمُتنفِّلِ، فلا يجوزُ أنْ يكون الإِمامُ متنفِّلا والمأمومُ مفترضاً.
ودليلُ ذلك:(165/100)
1 _ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به فلا تختلفوا عليه» وهذا اختلافٌ عليه؛ لأنَّ المأمومَ مفترضٌ والإِمامُ مُتنفِّلٌ.
مثال ذلك: رَجُلٌ يريدُ أن يصلِّيَ السُّنَّةَ ركعتين، فجاء آخرُ وقال: أُصَلِّي معك الفجرَ فصلَّى الإِمامُ السُّنَّةَ، وصَلَّى المأمومُ الفجرَ، نقول: صلاةُ المأمومِ غيرُ صحيحة.
2 _ أَنَّ صلاةَ المأمومِ أعلى مِن صلاةِ الإِمامِ في هذه الصُّورةِ، ولا ينبغي أن يُصلِّي الأعلى خلفَ الأدنى، هذا دليلُ ما قاله المؤلِّفُ وهو أحدُ القولين.
القول الثاني في المسألة: أن صلاةَ المفترضِ خلفَ المتنفِّلِ صحيحةٌ.
ودليل ذلك ما يلي:
أولاً: عمومُ قولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتابِ اللهِ» ولم يشترطِ النبي صلى الله عليه وسلم سوى ذلك، فالعمومُ يقتضي أنَّه لو كان الإِمامُ متنفِّلاً والمأمومُ مفترضاً فالصَّلاةُ صحيحةٌ.
ثانياً: أنَّ معاذَ بنَ جَبَلَ كان يُصلِّي مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاةَ العشاءِ، ثم يرجعُ إلى قومِهِ فيصلِّي بهم الصلاة نفسها . ومعلومٌ أنَّ الصلاةَ الأُولى هي الفريضة، والثانية هي النافلة، ولم يُنْكَرْ عليه.
فإن قال قائلٌ: لعلَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمْ بذلك؟
فالجواب من وجهين:
الأول: إنْ كان قد عَلِمَ فهذا هو المطلوبُ، والظَّاهرُ أنه عَلِمَ؛ لأنَّ معاذَ بنَ جَبَلَ شُكِيَ إلى الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام في أنه يُطيلُ، ولا يبعدُ أنْ يُقالَ للرَّسولِ صلى الله عليه وسلم: إنَّ هذا الرَّجُل يأتي متأخِّراً يصلِّي عندك ثم يأتينا ويطيلُ بنا. بل قد جاء ذلك مصرَّحاً به في «صحيح مسلم». (إن معاذاً صلى معك العشاء، ثم أتى فافتتح بسورة البقرة...) .(165/101)
الثاني: إذا فَرَضْنا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمْ، فإنَّ الله تعالى قد عَلِمَ فأقرَّه، ولو كان هذا أمراً لا يرضاه الله لم يُقره على فِعْلِهِ، كما قال تعالى منكراً على من يستخفون بالمعصية: )يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ)(النساء: من الآية108).
ولهذا استدلَّ الصحابةُ على جوازِ العَزْلِ بأنَّهم كانوا يفعلونَه في عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم، لأنَّهم كانوا يفعلون ذلك في زَمَنِ نزولِ القرآنِ، ولو كان لَا يَحِلُّ لنهاهم الله عنه .
ثالثاً: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعضِ أنواعِ صلاةِ الخوفِ يُصلِّي بالطَّائفة الأُولى صلاةً تامَّةً ويسلِّمُ بها، ثم تأتي الطائفةُ الثانيةُ فيصلِّي بها النبي صلى الله عليه وسلم . وهنا تكون الصَّلاةُ الأُولى للرَّسولِ صلى الله عليه وسلم فرضاً والثانيةُ نَفْلاً.
فإنْ قال قائل: هذه صلاةُ خَوفٍ فجاز للضَّرورةِ.
فالجواب: أنَّ هناك أنواعاً أخرى يحصُلُ بها المقصودُ فلا ضرورة لهذا النوع.
رابعاً: أنَّ عَمرَو بنَ سَلَمةً الجرمي كان يصلِّي بقومِهِ وله سِتٌّ أو سبعُ سنين ، استناداً إلى عمومِ قولِ الرسول صلى الله عليه وسلم: «وليؤمَّكم أكثرُكم قرآناً» حيث نظروا في القومِ فلم يكن أحدٌ أقرأ منه فقدَّموه. ومِن المعلومِ أنَّ الصَّبيَّ لا فَرْضَ عليه، فالصَّلاةُ في حَقِّهِ نافلةٌ، ومع هذا أُقِرَّ والقرآنُ ينزِلُ.(165/102)
وأما الجواب عما استدلَّ به أهلُ القولِ الأولِ مِن قوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليُؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه» أنَّهم هم أولُ مَن ينقضُ الاستدلالَ بهذا الحديثِ؛ لأنهم يُجوِّزون أن يصلِّيَ الإِنسانُ المؤادَّةَ خلفَ المقضيَّةِ، وهذا اختلافٌ. ويُجوِّزون أنْ يصلِّيَ المُتنفِّلُ خلفَ المفترض، وهذا أيضاً اختلافٌ، فتبيّن بهذا أنَّ الحديثَ لا يُراد به اختلافُ النِّيةِ، ولهذا جاء التَّعبيرُ النَّبويُّ بقوله: «لا تختلفوا عليه» ولم يقل: لا تختلفوا عنه فتنووا غير ما نَوى. وبين العبارتين فَرْقٌ، فإذا قيل: لا تختلفْ على فلان. صار المرادُ بالاختلافِ المخالفة، كما يُقال: لا تختلفوا على السُّلطان. أي: لا تنابذوه وتخالفوه فيما يأمرُكم به مِن المعروفِ، وقد فَسَّرَ النبي صلى الله عليه وسلم عَدَمَ المخالفةِ بقوله: «فإذا كَبَّرَ فكبِّروا، وإذا رَكَعَ فاركعوا...» إلخ الحديث.
فصار المرادُ بقوله: «لا تختلفوا عليه» أي: في الأفعالِ.
وأما قولهم: إن صلاةَ المأمومِ إذا كان يصلِّي فريضةً، والإِمامُ متنفِّلاً أعلى مِن صلاةِ الإِمامِ فلا تَصحُّ.
فالجواب: أن نقول: مَن الذي أصَّلَ هذه القاعدةَ؟!
وقد دَلَّ حديثُ عَمرو بن سَلَمة الجرمي على أنه يصح أن يأتم الأعلى بالأدنى، فإن قومَهُ يصلُّون الصَّلاةَ فريضةً وهو يصلِّيها نَفْلاً . فهذه القاعدةُ غيرُ مسلَّمة، ولهذا صحَّحنا فيما سبق أنْ يصلِّيَ القادرُ على الأركان بالعاجزِ عنها؛ كما جاءتْ به السُّنَّةُ في مسألةِ القيامِ أنَّه يَصِحُّ أن يصلِّيَ المأمومُ القادرُ على القيامِ خلفَ الإِمامِ العاجزِ عن القيامِ.(165/103)
وقد نَصَّ على ذلك الإِمامُ أحمدُ نفسُه فقال: إذا دَخَلَ والإِمامُ في صلاةِ التَّراويحِ وصَلَّى معه العشاءَ فلا بأس بذلك. فالذي يصلِّي التَّراويحَ متنفِّلٌ والذي يصلِّي العشاءَ مفتَرِضٌ، وهذا نَصُّ الإِمامِ، فالقولُ الرَّاجحُ بلا شَكٍّ هو هذا، وهو اختيارُ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية، وهو الذي تؤيّده الأدلَّة.
قوله: «ولا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر أو غيرها» أي: ولا يصحُّ ائتمامُ مَن يصلّي الظُّهرَ بمَن يصلِّي العصرَ، أو غيرها. يعني: مِن الصلوات الرباعية وذلك لاخْتلافِ نِيَّةِ الصَّلاتين وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه» .
مثال ذلك: رَجُلٌ انتبه مِن النَّومِ، فجاءَ إلى المسجدِ فوجَدَ الإِمامَ يصلِّي العصرَ، وهو لم يصلِّ الظُّهرَ، فأَرادَ أن يصلِّيَ الظُّهرَ خلفَ هذا الإِمامِ الذي يصلِّي العصرَ، يقول المؤلِّفُ: إنَّ هذا لا يَصِحُّ، لاختلاف نِيَّةِ الصَّلاتين؛ لأن هذه ظُهرٌ وهذه عَصرٌ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه».
وكذلك العكسُ، فلا يصحُّ ائتمام مَن يصلِّي العصرَ بمَن يصلِّي الظُّهرَ.
مثاله: رَجُلٌ دَخَلَ المسجدَ، وفيه قومٌ قد جمعوا جَمْعَ تأخيرٍ، فوجدهم يصلُّون الظُّهرَ، وهو قد صلَّى الظُّهرَ، فدخلَ معهم بنيَّةِ العصرِ، فلا تَصِحُّ أيضاً؛ وذلك لاخْتلافِ نِيَّةِ الصلاتين. هذا هو المذهب. ولا يُستثنى مِن ذلك إلا المسبوقُ في صلاةِ الجمعةِ إذا أدركَ أقلَّ مِن رَكعة؛ فإنَّه في هذه الحالِ يدخلُ مع الإِمامِ بنيَّةِ الظُّهرِ، والإِمامُ يصلِّي الجُمعةَ، فاختلفتِ النِّيةُ هنا، فالإِمامُ يصلِّي صلاةَ الجُمعةَ، وهذا المسبوقُ يصلِّيها صلاةَ الظُّهرِ. قالوا: هذا لا بأس به؛ لأن الظُّهرَ بَدَلٌ عن الجُمعة؛ إذا فاتت فبينهما اتِّصال.(165/104)
القول الثاني: أنَّه يَصِحُّ أن يأتمَّ مَن يصلِّي الظُّهرَ بمَن يصلِّي العَصرَ، ومَن يصلِّي العَصرَ بمَن يصلِّي الظُّهرَ، ولا بأسَ بهذا.
وذلك لعمومِ ما سبق مِن الأدلَّةِ.
وأما استدلالُهم بقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به، فلا تختلفوا عليه» ، فقد بَيَّنا أنَّ المرادَ: بالاختلافِ عليه مخالفتُه في الأفعالِ لقولِهِ: «فإذا كَبَّرَ فكبِّروا».
وعلى هذا القول؛ إذا صَلَّى صلاةً أكثر مِن صلاةِ الإِمام فلا إشكال في المسألةِ.
مثاله: لو صَلَّى العشاءَ خلفَ مَن يصلِّي المغربَ، فهنا نقول: صَلِّ مع الإِمام، وإذا سَلَّمَ الإِمامُ فَقُمْ وائتِ بركعةٍ.
وإذا صلَّى وراءَ إمامٍ وصلاتُهُ أقلُّ مِن صلاةِ الإِمامِ، فهنا قد يحدثُ فيه إشكالٌ؛ لأنَّ المأمومَ هنا إن تابع الإِمامَ زاد في صلاتِهِ؛ وإنْ جَلَسَ خالفَ إمامَه.
مثاله: صَلَّى المغربَ خلف مَن يصلِّي العشاءَ، فهنا إذا قامَ الإِمامُ إلى رابعةِ العشاءِ فالمأمومُ بين أمرين:
إما أن ينفردَ عن الإِمامِ، وهذه مفسدةٌ.
وإما أن يتابعَ الإِمامَ وهذه أيضاً مفسدةٌ، لأنَّه إنْ تابعَ الإِمامَ زَادَ ركعةً، وإنْ تخلَّفَ خالفَ الإِمامَ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما جُعِلَ الإِمامُ ليُؤتمَّ به» فهل هذه الصُّورةُ تدخلُ في القولِ الصَّحيحِ الرَّاجحِ أنَّ اختلافَ النِّيةِ بين الصَّلاتين لا يَضرُّ؟
الجواب: نعم، تدخلُ في القولِ الرَّاجحِ، وأنه يجوزُ أن يصلِّيَ المغربَ خلفَ مَن يصلِّي العشاءَ، وهذه تقعُ كثيراً، فإنْ أدركَ الإِمامَ في الثانية فما بعدَها فلا إشكال، لأنه يتابعُ إمامَه ويُسلِّمُ معه، وإنْ دَخَلَ في الثالثةِ أتى بعدَه بركعةٍ، وإن دَخَلَ في الرابعةِ أتى بركعتين، لكن إنْ دَخَلَ في الأولى فإنَّه يَلزمُه إذا قامَ الإِمامُ إلى الرابعةِ أنْ يجلسَ ولا يقوم.(165/105)
ولكن إذا جَلَسَ هل ينوي الانفرادَ ويُسلِّمُ، أو ينتظرُ الإِمامَ؟
الجواب: هو مخيّرٌ، لكننا نستحبُّ له أن ينويَ الانفرادَ ويسلِّمُ، إذا كان يمكنه أن يدركَ ما بقيَ مِن صلاةِ العشاءِ مع الإِمامِ؛ مِن أجلِ أنْ يُدركَ صلاةَ الجماعةِ في العشاءِ.
فإن قال قائلٌ: لماذا تُجيزونَ له الانفرادَ، والإِمامُ يجبُ أن يُؤتَمَّ به؟.
فالجواب: لأجلِ العُذرِ الشَّرعيِّ، والانفرادُ للعُذرِ الشَّرعي أو الحِسِّيِّ جائزٌ.
ودليل الانفراد للعُذرِ الشَّرعيِّ: صلاةُ الخوفِ، فالطَّائفةُ الأُولى تصلِّي مع الإِمامِ ركعةً، فإذا قامَ إلى الثانيةِ نوتِ الانفرادَ، وأتمَّت الركعةَ الثانيةَ، وسلَّمت وانصرفت .
ودليلُ الانفرادِ للعُذرِ الحِسِّيِّ انفرادُ الصَّحَابِي عن معاذ بن جَبَل لتطويله .
ومثاله: أن يصيبَ الإِنسانُ في صلاتِه ما يبيحُ له قطعَها أو تخفيفَها بأن يُصابَ وهو يصلِّي مع الإِمامِ بعُذرٍ يَشقُّ عليه أن يستمرَّ معه مع الإِمامِ، فنقول له: لك أن تنفردَ وتخفِّفَ الصَّلاةَ وتنصرفَ، إلا إذا كنت لا تستفيدُ بانفرادِك شيئاً، مثل: أن يكون الإِمامُ يخفِّفُ الصَّلاةَ تخفيفاً بقَدْرِ الواجب، فحينئذٍ لا يستفيدُ مِن الانفرادِ، فلا يتفرَّدُ، لكن لو أنَّ الإِمامَ يطبِّقُ السُّنَّةَ بالتأنِّي ويتعبُ المأمومُ لو بقيَ مع الإِمامِ لمدافعته الأخبثين، فنقول له: أنْ ينفردَ ويخفِّفَ الصَّلاةَ ويُسلِّمَ وينصرفَ.
فإن قال قائلٌ: ما تقولون في رَجُلٍ مسافرٍ صَلَّى خلفَ إمامٍ يصلِّي أربعاً، هل تُبيحونَ له إذا صَلَّى الركعتين أن ينفردَ ويُسلِّمَ؛ لأنَّ المسافرَ يقصر الصَّلاةَ؟
فنقول: لا نُبيحُ لك ذلك.
إذاً؛ ما الفَرْقُ بين هذه المسألةِ، ومسألة مَن يصلِّي المغربَ خلفَ مَن يصلِّي العشاءَ؟
الجواب: الفَرْقُ بينهما ظاهرٌ، لأن إتمامَ الرُّباعيةِ إتمامَ صِفةٍ مشروعةٍ في الحضر، أما إتمام المغربِ أربعاً فليست صفةً مشروعةً إطلاقاً.(165/106)
وعلى هذا فنقول: القصرُ في مسألةِ المسافرِ عُورِضَ بوجوبِ المتابعةِ، وإتمام الصَّلاةِ للمسافرِ ليس بحرامٍ، أي: مَن أتمَّ الصَّلاةَ في السَّفَرِ فليس كمَن صَلَّى المغربَ أربعاً، أو صَلَّى الفجرَ أربعاً، فَظَهَرَ الفَرْقُ بينهما، فمَن صَلَّى مع الإِمامِ المقيمِ وهو مسافرٌ فعليه أنْ يُتِمَّ سواءٌ أدركَ الصَّلاةَ مِن أولها أم في أثنائِها لعموم قولهِ صلى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلُّوا وما فاتكم فأتموا» .
بقي مسألةٌ ذَكَرها شيخُ الإِسلامِ وفي النَّفْسِ منها شيء، وهي: لو صَلَّى خلفَ مَن يصلِّي على جنازة، فشيخُ الإِسلامِ يجيزُ أنْ يدخلَ معه، وينوي الائتمامَ به، ويتابعَ الإِمامَ بالتكبيرِ. ولكن لا ركوعَ ولا سجودَ في صلاةِ الجنازة، فإذا سَلَّمَ الإِمامُ مِن صلاةِ الجَنازةِ فإنَّه يُتِمُّ صلاتَه، وذلك لأنَّ المصلِّي على الجنازة يصلِّي صلاةً تخالفُ صلاةَ المأمومِ في الأفعالِ والصِّفَةِ، ولذلك كان القلبُ فيه شيءٌ مِن هذا القولِ.
قوله: «فصل» أي: في موقف الإِمامِ والمأمومين. أي: أين يقفُ الإِمامُ؟ وأين يقفُ المأمومُ؟ فهذا هو المراد بهذا الفصل.
والإِمامُ على اسمه إمامٌ، فالأنسبُ أن يكون أَمامَ المُصلِّين حتى يتميَّز، ويكون قُدوةً ومتبوعاً، وهكذا جاءت السُّنَّةُ.
قوله: «يقف المأمومون خلف الإِمام» المأمومون: جمع، وأقلُّ الجَمْعِ في باب الجماعة اثنان، وكان المأمومون في أولِ الإِسلامِ لا يقفون وراءَ الإِمام إلا إذا كانوا ثلاثةً فأكثر، وأما إذا كانا اثنين فإِنَّهما يقفان عن يمينِه وشمالِه ، ولكن هذا نُسِخَ. فصار أقلَّ الجَمْعِ في باب الجَماعةِ اثنين، فالمرادُ بالجَمْعِ هنا اثنان فأكثر، فيقفُ الاثنان فأكثر خلفَ الإِمامِ.
وسبقَ أنَّ إمامَ العُراة يصلِّي وسطَهم ، وأن إمامةَ النِّساءِ تصلِّي وَسَطَهُنَّ .(165/107)
قوله: «ويصحُّ معه عن يمينه أو جانبيه» ، الضَّميرُ في قوله: «يصح» يعودُ على الوقوفِ، أي: ويَصِحُّ أن يقفوا معه، أي: مع الإِمامِ عن يمينه أو عن جانبيه، أي: أن يكون المأمومان فأكثر عن يمينه أو عن جانبيه، أي: أحدهما عن يمينِه والثاني عن شمالِه، وهذا أفضلُ مِن أن يكونوا عن يمينِه فقط، لأنَّ عبدَ الله بنَ مسعودٍ وَقَفَ بين علقمةَ والأسود، وقال: «هكذا رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم فَعَلَ» ، فَصَارَ للمأمومين فأكثر مع الإِمام ثلاثةُ مواقفٍ.
الأول: خلفَه وهو الأفضلُ.
الثاني: عن جانبيه.
الثالث: عن يمينِه فقط.
قوله: «لا قدّامه» ، أي: لا يَصِحُّ أن يَقِفَ المأمومون قُدَّام الإِمام، فإن وَقَفَوا قُدَّامه فصلاتُهم باطلةٌ.
ودليل ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يَقِفُ أمامَ النَّاسِ وقال: «صَلُّوا كما رأيتموني أُصلِّي» وهذا يَعمُّ الصَّلاةَ بأفعالِها وعددِها وهيئتِها وجميعِ أحوالِها، ومنها الوقوفُ، فيكون الوقوفُ قُدَّامه خلافَ السُّنَّةِ، وحينئذٍ تبطلُ الصَّلاةَ.
وقال بعضُ أهل العِلْمِ: إنَّ الصَّلاةَ لا تبطلُ؛ لأنَّه لم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه نَهَى عن الصَّلاةِ قُدَّامَ الإِمامِ، وغايةَ ما فيه أنَّ هذا فِعْلُه، وقد وَقَفَ معه جابرُ بن عبد الله وجَبَّارُ بن صَخْر، أحدُهما عن يمينِه والثاني عن يسارِه، فأخذَهما وردَّهما إلى خَلْفِه . فلمَّا لم يكن فيه إلا الفِعلُ كان مستحبَّاً وليس بواجبٍ، وإلى هذا ذهبَ الإِمامُ مالكٌ .
وتوسَّطَ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّة ، وقال: إنَّه إذا دَعَتِ الضَّرورةُ إلى ذلك صحَّت صلاةُ المأمومِ قُدَّامَ الإِمامِ، وإلا فلا.
والضَّرورةُ تدعو إلى ذلك في أيَّامِ الجُمعة، أو في أيَّامِ الحَجِّ في المساجدِ العاديةِ، فإنَّ الأسواقَ تمتلئُ ويصلِّي الناسُ أمامَ الإِمامِ.(165/108)
وهذا القولُ وَسَطٌ بين القولين، وغالباً ما يكون القولُ الوسطُ هو الرَّاجح؛ لأنَّه يأخذُ بدليلِ هؤلاءِ ودليلِ هؤلاء.
فإذا قال قائلٌ: إنَّ الدَّليلَ هنا فِعليٌّ، والقاعدةُ: أنَّ الدَّليلَ الفِعليَّ لا يقتضي الوجوب؟
قلنا: هذا صحيحٌ، لكن ظاهرُ فِعْلِ الرَّسولِ عليه الصلاة والسلام حيث لم يُمَكِّنْ جابراً وجَبَّاراً مِن الوقوفِ عن يمينِه وشِمالِه، بل أخَّرهُما قد يقال: إنه يدلُّ على وجوبِ تقدُّمِ الإِمام إذا كان المأمومون اثنين فأكثر، لكن مع ذلك في النَّفْسِ منه شيءٌ، وإنَّما القولُ الوسَط أنَّه عندَ الضَّرورةِ لا بأسَ به، وإذا لم يكن هناك ضرورةٌ فلا.
قوله: «ولا عن يساره» أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ إنْ وَقَفَ عن يسارِ الإِمامِ، لكن بشرط خُلوِّ يمينِه، والدَّليلُ على أن هذا شرطٌ مِن كلامِ المؤلِّفِ أنَّه قال: «عن يسارِه فقط» أي: دون أن يكون عن يمينِه أحدٌ، أما صلاةُ الإِمامِ فهل تَصِحُّ أم لا؟
الجواب: إنْ بقيَ الإِمامُ على نِيَّةِ الإِمامةِ، فإنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ؛ لأنه نَوى الإِمامةَ وهو منفردٌ، وأمَّا إن نَوى الانفرادَ، فإنَّ صلاتَه صحيحةٌ.
إذا قيل: ما الدَّليلُ على أنَّها لا تَصِحُّ عن يسارِه مع خلوِّ يمينِه؟
قلنا: دليلُ ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم «قام يُصلِّي ذاتَ ليلةٍ مِن الليلِ، وكان ابنُ عبَّاس قد نامَ عندَه، فَدَخَلَ معه ابنُ عباس، ووَقفَ عن يسارِه، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم برأسِه مِن ورائِه فجعله عن يمينِهِ» لأنَّها لو صحَّت لأقرَّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
فإن قال قائلٌ: هذا في النَّفْلِ؟
فالجوابُ عن ذلك مِن وجهين:(165/109)
الوجه الأول: أنَّ القاعدةَ: أنَّ ما ثَبَتَ في النَّفْلِ ثَبَتَ في الفرضِ إلا بدليل، ويدلُّ لهذه القاعدةِ تَصرُّفُ الصَّحابةِ حين ذكروا أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي على راحلتِه في السَّفَرِ، قالوا: غيرَ أنَّه لا يصلِّي عليها المكتوبةَ ، فدلَّ هذا على أنَّ الأصلَ أنَّ ما ثَبَتَ في النَّفْلِ ثَبَتَ في الفَرضِ؛ ولهذا احتاجوا إلى استثناءِ الفَريضة. وهذا الحديثُ يُستفادُ منه أنَّ الصَّلاةَ عند الإطلاقِ تشمَلُ الفريضةَ والنافلةَ.
الوجه الثاني: أنَّ النَّفْلَ يُتسامحُ فيه أكثرُ مِن التَّسامحِ في الفَرضِ، فإذا لم يُتسامحْ في النَّفْلِ عن يسار الإِمامِ، فَعَدَمُ التَّسامحِ في الفَرضِ مِن باب أَولى، هذا تقريرُ كلامِ المؤلِّفِ.
وأكثرُ أهلِ العِلْمِ يقولون بصحَّةِ الصَّلاةِ عن يسار الإِمامِ مع خُلُوِّ يمينِهِ، وأنَّ كون المأمومِ الواحدِ عن يمين الإِمامِ إنَّما هو على سبيلِ الأفضليَّةِ، لا على سبيلِ الوجوبِ. واختار هذا القولَ شيخُنا عبدُ الرَّحمن بن سَعدي
ودفعوا الاستدلالَ بحديثِ ابنِ عبَّاس: بأنَّ هذا فِعْلٌ مجرَّدٌ، والفِعلُ المجرَّدُ لا يدلُّ على الوجوبِ. هذه قاعدةٌ أصوليَّةٌ؛ أنَّ فِعْلَ النبي صلى الله عليه وسلم المُجرَّدَ لا يدلُّ على الوجوبِ، لأنَّه لو كان للوجوبِ لقالَ النبي صلى الله عليه وسلم لعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ لا تَعُدْ لمثلِ هذا. كما قال ذلك لأبي بَكْرة حين رَكَعَ قبل أنْ يدخلَ في الصَّفِّ .
وهذا القولُ قولٌ جيدٌ جداً، وهو أرجحُ مِن القولِ ببطلانِ صلاتِه عن يسارِه مع خلوِّ يمينِه؛ لأنَّ القولَ بتأثيم الإِنسانِ أو ببطلانِ صلاتِهِ بدون دليلٍ تطمئنُّ إليه النَّفْسُ فيه نَظَرٌ، فإنَّ إبطالَ العبادةِ بدون نَصٍّ كتصحيحها بدون نَصٍّ.(165/110)
قوله: «ولا الفذ خلفه» أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ الواحدِ خلفَ الإمام. وأمَّا الإمامُ ففيه تفصيلٌ: إنْ بقيَ على نيِّةِ الإمامةِ لم تَصِحَّ صلاتُه؛ لأنَّه نوى الإمامةَ وليس معه أحدٌ، وإنْ نوى الانفرادَ فصلاته صحيحةٌ.
قوله: «أو خلفَ الصف» أي: لا تَصِحُّ صلاةُ المأمومِ خلفَ الصَّفِّ؛ لأنَّه منفردٌ وقد جاءَ الحديثُ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا صَلاةَ لِمُنْفَرِدٍ خَلْفَ الصَّفِّ» . ورأى النبي صلى الله عليه وسلم رَجُلاً يُصلِّي وحدَه خَلْفَ الصَّفِّ فأمَرَه أنْ يعيدَ الصَّلاةَ . ولولا أنَّها فاسدةٌ ما أَمَرَه بالإِعادةِ، لأنَّ الإِعادةَ إلزامٌ وتكليفٌ في أَمْرٍ قد فُعِلَ وانتُهِيَ منه، فلولا أنَّ الأمرَ الذي فُعِلَ وانتُهِيَ منه فاسدٌ ما كُلِّفَ الإِنسانُ إعادتَه، لأنَّ هذا يستلزم أن تجبَ عليه العبادةُ مرتين.
وما قاله المؤلِّف هو المذهب، وهو مِن المفردات.
وذهبَ أكثرُ أهلِ العِلمِ _ وهو رواية عن أحمد _: إلى صِحَّة الصَّلاةِ منفرداً خلفَ الصَّفِّ، لعُذرٍ أو لغيرِ عُذر، ولو كان في الصَّفِّ سَعَةٌ.
وقال بعضُ العلماءِ: في ذلك تفصيلٌ، فإنْ كان لعذرٍ صَحَّت الصَّلاةُ، وإنْ لم يكن لعُذر لم تَصِحَّ الصَّلاةُ.
واستدلَّ الجمهورُ: بأن هذا المصلِّي صلَّى مع الجماعةِ، وفَعَلَ ما أُمِرَ به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّمَا جُعِلَ الإِمامُ ليؤتمَّ به» وقد ائتم بإمامِه فكبَّر حين كبّر.. إلخ.
ولأنَّ ابنَ عبَّاسٍ لما أداره الرَّسولُ عليه الصَّلاةُ والسلامُ عن يمينِهِ انفردَ بجُزءٍ يسيرٍ، والمُفسدُ للصَّلاةِ يستوي فيه الكثيرُ والقليلُ كالحَدَثِ فلو كان الانفرادُ مبطلاً لبطلت صلاةُ ابنِ عبَّاسٍ.(165/111)
وأجابوا عن حديث: «لا صلاةَ لمُنْفَرِدٍ خلفَ الصَّفِّ» أنَّ هذا النَّفْيَ نَفْيٌ للكمالِ كقوله: «لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ ولا وهو يدافِعُه الأخبثان» ، ومعلومٌ أنَّ الإِنسانَ لو صَلَّى بحضرةِ طعامٍ فصلاتُه صحيحةٌ، ولو صَلَّى وهو يدافعُ الأخبثين _ البولَ والغائطَ _ فصلاتُه صحيحةٌ.
وأما ما وَرَدَ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم «رأى رَجُلاً يصلِّي خلفَ الصَّفِّ فأمرَه أنْ يعيدَ الصَّلاةَ» ، فأجابوا عنه بأن هذا الحديثَ في صحَّته نَظَرٌ، وإذا صَحَّ فلعلَّ هناك شيئاً أوجب أنْ يأمرَه النبي صلى الله عليه وسلم بإعادةِ الصَّلاةِ، وهذه قضيَّةُ عَينٍ لا نجزِمُ بأن السَّبَبَ هو كونه صَلَّى خلفَ الصَّفِّ.
وأما استدلال الجمهور على قولهم بصحة صلاة المنفرد خلف الصَّفِّ بأنه فَعَلَ ما أُمِرَ به مِن المتابعةِ فهذا صَحيحٌ، لكن هناك واجباتٌ أخرى غير المتابعةِ وهي المُصافَّة، فإن المُصافَّةَ واجبةٌ فإذا تَرَكَ واجبَ المُصافَّة بطلتْ صلاتُه.
وأما استدلالهم بأنَّ ابنَ عبَّاس انْفَرَدَ حين أخذَ النبي صلى الله عليه وسلم برأسِه وأقامَه عن يمينِه فهذا انفرادٌ جزئيٌّ، ونحنُ لا نقولُ ببطلانِ الصَّلاةِ إذا انفردَ الإِنسانُ بمثلِ هذه الصُّورةِ، أي: لو أنَّ شخصاً جاءَ وكبَّرَ خلفَ الصَّفِّ وهو يعرِفُ أن خلفَه رَجُلٌ أو رَجُلان سيأتيان معه، فلا بأس ما دامت الرَّكعة لم تفتْهُ وصلاتُه صحيحةٌ، وهذه اللَّحظةُ التي حصَلَ بها الانفرادُ لا يُقال فيها: إنَّ هذا الرَّجُلَ صلّى منفرداً خلفَ الصَّفِ أو خلفَ الإِمامِ، فالاستدلالُ بحديثِ ابنِ عبَّاسٍ ضعيفٌ.
وأما قولهم بأنَّ حديثَ: «لا صلاةَ لمُنْفَرِدٍ خلفَ الصَّفِّ» نَفْيٌ للكمالِ فهذا مردودٌ، لأنَّ النَّفْيَ إذا وَقَعَ فله ثلاثُ مراتبٍ:(165/112)
المرتبةُ الأولى والثانية: أن يكون نفياً للوجود الحِسِّي، فإنْ لم يمكن فهو نَفْيٌ للوجودِ الشَّرعي، أي: نفيٌ للصِّحَّةِ، فالحديثُ الذي معنا لا يمكن أن يكون نفياً للوجود؛ لأنَّه مِن الممكن أنْ يصلِّيَ الإِنسانُ خلفَ الصَّفِّ منفرداً، فيكون نفياً للصِّحَّةُ، والصِّحَّةُ هي الوجودُ الشَّرعيُّ؛ لأنه ليس هناك مانعٌ يمنعُ نَفْيَ الصِّحَّةِ، فهاتان مرتبتان.
المرتبة الثالثة: إذا لم يمكن نَفْيُ الصِّحَّةِ؛ بأن يوجد دليلٌ على صِحَّةِ المنفيِّ فهو نَفْيٌ للكمالِ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمِنُ أحدُكُم حتى يُحِبَّ لأخِيهِ ما يُحِبُّ لنفسِه» لأنَّ مَن لا يُحِبُّ لأخيه ما يُحِبُّ لنفسِه لا يكون كافراً، لكن ينتفي عنه كمالُ الإِيمان فقط.
وتنظيرهم بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاةَ بحَضْرةِ طعام» فيه نَظَرٌ، لأنَّ العِلَّةَ بنفي الصَّلاةِ بحَضْرةِ طعامٍ هي تشويشُ الذِّهنِ، فإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا سَمِعَ بكاءَ الصَّبيِّ أوجز في الصَّلاةِ لئلا تُفْتَتَنَ أمُّه . وأمُّه سوف تبقى في صلاتِها، لكن يُشوِّشُ عليها بكاءُ ولدِها.
وأيضاً: أخبرَ النَّبيُّ عليه الصلاة والسلام: «أنَّ الشَّيطانَ يأتي إلى المصلي فيقول: اذكر كذا اذكر كذا لما لم يكن يذكره» ، وهذا لا شك أنه يوجب غفلة القلب، فيدل هذا الحديث والذي قبله على أن مجرد التشويش وانشغال القلب لا يبطل الصلاة فيكون قوله: «لا صلاة بحضرة طعام» غير موجب لبطلان الصلاة فبطل التنظير.
وأما قولُهم بأنَّ أَمْرَ النبي صلى الله عليه وسلم الرجل الذي صَلَّى منفرداً خلفَ الصَّفِّ أن يعيدَ الصَّلاةَ ، قضيةُ عَين.. إلخ.(165/113)
فجوابه: أنَّ الواجبَ حَمْلُ النَّصِّ على ظاهرِه المُتَبَادَر منه، إلا أنْ يَدلَّ دليلٌ على خِلافِهِ. والمُتَبَادَر هنا: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ بالإِعادةِ؛ لكونه صَلَّى منفرداً خلفَ الصَّفِّ؛ كما يفيده سياقُ الكلامِ، والأصلُ عدمُ ما سواه.
إذاً؛ فالقولُ الرَّاجحُ أنَّ الصَّلاةَ خلفَ الصَّفِّ منفرداً غيرُ صحيحةٍ، بل هي باطلةٌ يجب عليه إعادتُها. ولكن؛ إذا قال قائلٌ: أفلا يكون القولُ الوسط هو الرَّاجح، وأنه إذا كان لعُذْرٍ صحَّت الصَّلاةُ؟
فالجواب: بلى، القولُ الوسطُ هو الرَّاجحُ، وأنَّه إذا كان لعُذرٍ صحَّت الصَّلاةُ؛ لأنَّ نَفْيَ صحَّةِ صلاةِ المنفردِ خلفَ الصَّفِّ يدلُّ على وجوبِ الدُّخولِ في الصَّفِّ؛ لأنَّ نَفْيَ الصِّحَّةِ لا يكون إلا بفعلِ مُحرَّمٍ أو تَرْكِ واجبٍ، فهو دالٌّ على وجوبِ المُصافَّةِ، والقاعدةُ الشرعيةُ أنَّه لا واجبَ مع العجزِ، لقوله تعالى: {فإتقوا الله ما إستطعتم } [التغابن: 16] ، وقوله: {لايكلف الله نفساً إلا وسعها } [البقرة،286)فإذا جاء المصلِّي ووَجَدَ الصَّفَّ قد تَمَّ فإنَّه لا مكان له في الصَّفِّ، وحينئذٍ يكون انفرادُه لعُذرٍ فتصِحُّ صلاتُه، وهذا القولُ وسطٌ، وهو اختيارُ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيمية ، وشيخِنا عبد الرحمن بن سَعدي. وهو الصَّوابُ.
فإن قال قائل: لماذا لا تقولون بأنْ يجذِبَ أحدَ النَّاسِ مِن الصَّفِّ؟
فالجواب: إنَّنا لا نقولُ بذلك؛ لأنَّ هذا يستلزمُ مَحاذير:
المحذور الأول: التَّشويش على الرَّجُلِ المَجذوبِ.
المحذور الثاني: فَتْحُ فُرْجَةٍ في الصَّفِّ، وهذا قَطْعٌ للصَّفِّ، ويُخشى أن يكون هذا مِن بابِ قَطْعِ الصَّفِّ الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: «مَن قَطَعَ صَفًّا قَطَعَهُ اللهُ» .
المحذور الثالث: أنَّ فيه جِنايةً على المَجذوبِ بنَقْلِهِ مِن المكان الفاضلِ إلى المكانِ المفضولِ.(165/114)
المحذور الرابع: أنَّ فيه جِنايةً على كلِّ الصَّفِّ؛ لأنَّ جميعَ الصَّفِّ سوف يتحرَّكُ لانفتاح الفُرْجَةِ مِن أجلِ سَدِّهَا.
فإن قال قائلٌ: أفلا نأمرُه أن يصلِّيَ إلى جَنْبِ الإِمامِ؟
قلنا: لا نأمرُه أن يصلِّيَ إلى جَنْبِ الإِمامِ؛ لأنَّ في ذلك ثلاثة محاذير:
المحذور الأول: تخطِّي الرِّقابِ، فإذا قَدَّرنا أنَّ المسجدَ فيه عشرةُ صفوفٍ، فجاءَ الإِنسانُ ولم يجدْ مكاناً، وقلنا: اذهبْ إلى جَنْبِ الإِمامِ فسوف يتخطَّى عشرةَ صفوفٍ بل لو لم يكن إلا صَفٌّ واحدٌ فقد تَخطَّى رقابَهم.
المحذور الثاني: أنَّه إذا وَقَفَ إلى جَنْبِ الإِمامِ خالفَ السُّنَّة في انفرادِ الإِمامِ في مكانِه؛ لأنَّ الإِمامَ موضعُه التقدُّم على المأمومِ، فإذا شارَكه أحدٌ في هذا الموضعِ زالت الخُصوصيَّة.
المحذور الثالث: أننا إذا قلنا: تقدَّمْ إلى جَنْبِ الإِمامِ، ثم جاء آخرٌ قلنا له: تقدَّمْ إلى جَنْبِ الإِمام. ثم ثانٍ، وثالث حتى يكون عند الإِمامِ صفٌّ كاملٌ، لكن لو وَقَفَ هذا خلفَ الصَّفِّ لكان الدَّاخلُ الثاني يصفُّ إلى جَنْبِهِ، فيكونان صفًّا بلا محذور.
فإن قال قائلٌ: لماذا لا تأمرونه أن يبقى، فإن جاءَ معه أحدٌ، وإلا صَلَّى وحدَه منفرداً، قلنا: في هذا محذوران:
المحذور الأول: أنَّه ربَّما ينتظِرُ فتفوتُه الرَّكعة، وربَّما تكون هذه الرَّكعةُ هي الأخيرةُ فتفوتُه الجماعةُ.
المحذور الثاني: أنه إذا بقيَ وفاتتْهُ الجماعةُ فإنَّه حُرِمَ الجماعةَ في المكانِ وفي العملِ، وإذا دَخَلَ مع الإِمامِ وصَلَّى وحدَه منفرداً، فإننا نقول على أقلِّ تقدير: حُرِم المكان فقط، أما العملُ فقد أدركَ الجماعةَ، فأيُّهما خيرٌ أنْ نحرِمه الجماعةَ في العمل والمكان، أو في المكان فقط؟(165/115)
الجواب: في المكان فقط، هذا لو قلنا: إنَّه في هذه الحال يكون مرتكباً لمحذور، مع أنَّ الرَّاجحَ عندي أنَّه إذا تعذَّرَ الوقوفَ في الصَّفِّ، فإنَّه إذا صَفَّ وحدَه لم يرتكب محظوراً.
مسألة: ما هو الانفراد المبطل للصَّلاة؟
الجواب: الانفرادُ المبطلُ للصَّلاةِ أنْ يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ ولم يدخل مع المسبوقِ أحدٌ، فإنْ دَخَلَ معه أحدٌ قبل أن يرفعَ الإِمامُ رأسَه مِن الرُّكوعِ، أو انفتح مكانٌ في الصَّفِّ فدخلَ فيه قبل أن يرفعَ الإِمامُ مِن الركوعِ، فإنَّه في هذه الحالِ يزول عن الفرديَّة.
قوله: «إلا أن يكون امرأة» الضَّميرُ يعودُ على الفَذِّ، أي: إلا أن يكون الفَذُّ امرأة خلفَ رَجُلٍ، أو خلفَ الصَّفِّ أيضاً، فإنَّ صلاتَها تَصِحُّ.
ودليل ذلك: حديثُ أنس بن مالك أنَّه صَلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم هو ويتيمٌ خلفَ النبي صلى الله عليه وسلم، وصَلَّتِ المرأةُ خلفَهم . فَدَلَّ هذا على أنَّ المرأةَ يَصِحُّ أن تصلِّيَ منفردةً خلفَ الصَّفِّ، وهذا يُضافُ إلى أدلَّةِ الجمهورِ الذين قالوا: إنَّ صلاةَ الفَذِّ خلفَ الصَّفِّ صحيحةٌ. فإنهم أيضاً استدلُّوا بهذا فقالوا: صلاةُ المرأةِ خلفَ الصَّفِّ صحيحةٌ، والأصلُ تساوي الرِّجَالِ والنِّساءِ في الأحكام، لكن هذا يَسهلُ الرَّدُ عليه بأن نقول: المرأةُ ليس لها مَحَلٌّ في مَصافِّ الرِّجَالِ أبداً، فالشريعة تهدفُ إلى فَصْلِ الرجال عن النساء حتى في أماكنِ العبادةِ. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُها» لأنَّها أبعدُ عن الرِّجَالِ، لكن فيه دليلٌ للقول الرَّاجحِ وهو صِحَّةُ صلاةِ المنفردِ خلفَ الصَّفِّ إذا كان تاماً؛ فإنَّ المرأةَ إنَّما صحَّت صلاتُها خلفَ الرِّجال منفردةً لتعذُّرِ وقوفها معهم شرعاً، وإذا كان الصَّفُّ تامَّاً فقد تعذَّرَ الوقوفُ فيه حِسًّا.(165/116)
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين أن تكون المرأةُ تصلِّي مع جماعةِ رِجالٍ أو مع جماعةِ نساءٍ، ولكن هذا الظَّاهرُ ليس بمرادِه، بل إنَّ المرأةَ مع جماعةِ النساءِ كالرَّجُلِ مع جماعةِ الرِّجَالِ، أي: لا يَصِحُّ أن تَقِفَ خلفَ إمامتها، ولا خلفَ صَفِّ نساءٍ، بل إذا كُنَّ نساءً فإنَّ المرأةَ يجبُ أن تكون في الصَّفِّ، ولا تَصِحُّ صلاتُها منفردةً خلفَ الصَّفِّ ولا خلفَ إمامةِ النِّساءِ.
قوله: «وإمامة النساء تقف في صفهنّ» أي: إذا صَلَّى النِّساءُ جماعةً فإنَّ إمامتَهن تَقِفُ في صفِّهنَّ؛ لأن ذلك أسترُ، والمرأةُ مطلوبٌ منها الستر بقَدْرِ المستطاعِ، ومِن المعلومِ أن وقوفَها بين النِّساءِ أسترُ مِن كونِها تتقَّدمُ بين أيديهنَّ.
وحُجَّتُه ما روي عن عائشة وأمِّ سَلَمة أنَّهما إذا أمَّتا النساء وقفتا في صَفِّهنَّ. وهذا فِعْلُ صحابيَّة، والعلماءُ رحمهم الله مختلفون في فِعْلِ الصَّحابيِّ وقولِهِ، إذا لم يثبت له حُكم الرَّفْعِ، هل يكون حُجَّة أم لا؟
والأصحُّ: أنه حُجَّةٌ ما لم يخالفه نَصٌّ، فإنْ خالَفَه نَصٌّ فالحُجَّةُ في النَّصِّ، أو يخالفه صَحابيٌّ آخر، فإنْ خالَفَه صحابيٌّ آخرُ طُلِبَ المُرجِّحُ. ويُفرَّق بين الصَّحابيِّ الفقيه مِن غير الفقيه، فالفقيه قوله أقربُ إلى كونه حُجَّة مِن غير الفقيه.
وأفادنا المؤلِّف في قولِه: «وإمامةُ النِّساءِ» أنَّ الجماعةَ تنعقد بالنِّساءِ وحدَهن؛ لأن ثبوتَ الحُكمِ لها وهو وقوفُ الإِمامةِ بينهنَّ يدلُّ على أنَّها مشروعةٌ؛ لأنَّ غيرَ المشروعِ باطلٌ وما تعلَّقَ به مِن أحكامٍ فهو باطلٌ، وسَبَقَ في أول بابِ صلاةِ الجماعةِ الخلافُ في هذه المسألة: وأن بعضَ أهلِ العلمِ قال: يُسَنُّ، وبعضهم قال: يُباح، وبعضهم قال: يُكره .(165/117)
قوله: «وإمامة النساء تقف في صفهنّ» لم يتكلَّم عن وقوف المرأةِ مع المرأةِ الواحدةِ، فوقوفُ المرأةِ مع المرأةِ الواحدةِ كوقوف الرَّجُل مع الرَّجُلِ الواحدِ إن وقفت عن يسارِها أو أمامِها أو خلفِها فإنَّها لا تَصِحُّ صلاتها على المذهب، كما أن الرَّجُلَ لو وقف عن يسارِ الرَّجُلِ أو أمامِه أو خلفِه لم تَصِحَّ صلاتُه، وإن وقفت عن يمينِها صحّت صلاتُها كالرَّجُلِ تماماً.
وسبق في باب ستر العورة أن إمامَ العراة يقف بينهم وجوباً، ما لم يكونوا عُمياً أو في ظُلمة، فإن كانوا عُمياً أو في ظُلمةٍ وَقَفَ أمامَهم، وإنما أوجبنا أن يقفَ إمامُ العُراةِ بينهم؛ لأن ذلك أسترُ.
إذاً؛ يُستثنى مِن تقدُّمِ الإِمام مسألتان: إمامةُ النساءِ، وإمامُ العُراةِ، أما إمامةُ النساء فتكون بينهنَّ على سبيل الاستحباب، وأما إمامُ العُراة فيكون بينهم على سبيل الوجوبِ إلا إذا كانوا عُمياً أو في ظُلمة فإنه يتقدَّمُ.
قوله: «ويليه الرجال ثم الصبيان ثم النساء» . «يليه» أي: يلي الإِمامَ في الصَّفِّ إذا اجتمعَ رجالٌ ونساءٌ صغارٌ أو كبارٌ. «الرجال» وهم: البالغون؛ لأن وَصْفَ الرَّجُلِ إنما يكون للبالغ، فإذا أرادوا أن يصفُّوا تقدَّمَ الرِّجالُ البالغون ثم الصبيانُ، ثم النساءُ في الخلفِ.(165/118)
والدَّليلُ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليلني منكم أولو الأحلامِ والنُّهى» وهذا أمْرٌ وأقلُّ أحوالِ الأَمْرِ الاستحبابُ. ولأنَّ المعنى يقتضي أن يتقدَّمَ الرِّجالُ؛ لأنَّ الرِّجَالَ أضبطُ فيما لو حصلَ للإِمامِ سهوٌ أو خطأٌ في آيةٍ، أو احتاجَ إلى أنْ يستخلفَ إذا طرأ عليه عُذرٌ وخرجَ مِن الصَّلاةِ، ثم بعد ذلك الصبيانُ؛ لأنَّ الصبيان ذكورٌ، وقد فضّل الله الذكورَ على الإِناثِ فهم أقدم مِن النساءِ، ثم بعد ذلك النساءُ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُها» ، وهذا يدلُّ على أنه ينبغي تأخُّر النساء عن الرِّجالِ، وأما حديث: «أخِّرُوهنَّ مِن حيثُ أخَّرَهُنَّ اللهُ» ، فهو ضعيف لا يُحتجُّ به، لكن يُحتجُّ بهذا الحديث: «خيرُ صفوفِ النِّساءِ آخرُها» ويلزم مِن ذلك أن تتأخَّر صفوفُ النِّساءِ عن صفوفِ الرِّجَالِ، وهذا الترتيب الذي ذكرناه، واستدللنا عليه بالأثر والنظر ما لم يمنع مانعٌ، فإنْ مَنَعَ منه مانعٌ بحيث لو جُمعَ الصبيانُ بعضُهم إلى بعضٍ لحصلَ بذلك لعبٌ وتشويشٌ، فحينئذٍ لا نجمعُ الصبيانَ بعضَهم إلى بعضٍ؛ وذلك لأن الفَضْلَ المتعلِّقَ بذات العبادةِ أَولى بالمراعاةِ مِن الفَضْلِ المتعلِّقِ بمكانِها. وهذه قاعدةٌ فقهيةٌ، ولهذا قال العلماءُ: الرَّمَلُ في طوافِ القُدُومِ أَولى مِن الدُّنُوِ مِن البيت؛ لأنَّ الرَّمَلَ يتعلَّقُ بذاتِ العبادةِ، والدُّنُو مِن البيت يتعلَّقُ بمكانِها. فهنا نقول: لا شَكَّ أنَّ مكان الصبيان خلفَ الرِّجالِ أَولى، لكن إذا كان يحصُلُ به تشويشٌ وإفسادٌ للصَّلاةِ على البالغين؛ وعليهم أنفسِهم، فإنَّ مراعاةَ ذلك أَولى مِن مراعاة فَضْلِ المكان.
إذاً؛ كيف نعملُ؟.(165/119)
الجواب: نعملُ كما قال بعضُ العلماءِ: بأنْ نجعلَ بين كُلِّ صبيين بالغاً مِن الرِّجالِ فَيَصفُّ رَجُلٌ بالغٌ يليه صبيٌّ، ثم رَجُلٌ ثم صبيٌّ، ثم رَجُلٌ، ثم صبيٌّ؛ لأنَّ ذلك أضبطُ وأبعدُ عن التشويشِ، وهذا وإنْ كان يستلزمُ أنْ يتأخَّرَ بعضُ الرِّجالِ إلى الصَّفِّ الثاني أو الثالثِ حسب كثرة الصبيان؛ فإنَّه يحصُلُ به فائدةٌ، وهي الخشوعُ في الصَّلاةِ وعدمُ التشويشِ.
وهذا الذي ذكرنا في تقديم الرِّجالِ، ثم الصبيان، ثم النساء، إنَّما هو في ابتداءِ الأمرِ، أما إذا سَبَقَ المفضولُ إلى المكان الفاضلِ؛ بأنْ جاءَ الصَّبيُّ مبكِّراً وتقدَّمَ وصار في الصَّفِّ الأولِ، فإن القولَ الرَّاجحَ الذي اختاره بعضُ أهلِ العِلم _ ومنهم جَدُّ شيخِ الإِسلامِ ابنِ تيمية، وهو مَجْدُ الدِّين عبد السلام _ أنه لا يُقامُ المفضولُ مِن مكانِه، وذلك لقولِ النبي صلى الله عليه وسلم: «مَن سَبَقَ إلى ما لم يَسبقْهُ إليه مسلمٌ فهو له» وهذا العمومُ يشمَلُ كلَّ شيءٍ اجتمع استحقاقُ النَّاسِ فيه، فإنَّ مَن سَبَقَ إليه يكون أحقَّ به. ولأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يُقِيمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِن مجلِسِه ثم يَجلسُ فيه» . ولأنَّ هذا عدوان عليه.
فإنْ قال قائلٌ: «مَنْ سَبَقَ إلى ما لم يَسبقْ إليه أحدٌ فهو أحقُّ به» عامٌّ. وقولُه: «لِيَلِني منكم أُولُو الأحلامِ والنُّهَى» خاصٌّ، والقاعدةُ: أنَّه إذا اجتمعَ خاصٌّ وعامٌّ فإنَّ الخاصَّ يُخَصِّصُ العامَّ؟.(165/120)
فالجواب عنه: أن نقولَ: إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يقلْ: لا يَلِني منكم إلا أُولو الأحلامِ والنُّهَى. ولم يقل: لِيُقِمْ منكم أُولُو الأحلامِ والنُّهَى مَن كانوا دونهم. وإنما قال: «لِيَلِني منكم أُولُو الأحلامِ والنُّهى» فأمر أولي الأحلام والنُّهى أن يلوه. وهذا حَثٌّ لهؤلاء الكِبارِ على أن يتقدَّموا لِيَلُوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. فهذا هو وَجْهُ الحديثِ، ولأنَّ فيه مفسدةَ تنفيرِ هؤلاء الصبيان بالنسبة للمسجد، لا سيَّما إذا كانوا مراهقين، أي: إذا كان للواحد منهم ثلاث عشرة سَنَةً، أو أربع عشرة سنة، ثم نقيمه مِن مكانه، فسيكون هذا صعباً عليه؛ لأنه قد فرح أن كان في الصَّفِّ الأولِ، وكذلك مِن مفاسده أنَّ هذا الصَّبيَّ إذا أخرجه شخصٌ بعينه فإنه لا يزال يَذكرُه بسوءٍ، وكلَّما تذكَّره بسوءٍ حَقَدَ عليه، لأنَّ الصَّغيرَ عادةً لا يَنسى ما فُعِلَ به.
قوله: «كجنائزهم» أي: كما يرتَّبون في جنائزِهم، فإذا اجتمعَ جنائزٌ مِن هؤلاءِ الأجناسِ: الرِّجال والصبيان والنساء، فإنَّهم يُقدَّمونَ على هذا الترتيبِ مما يلي الإِمام: الرِّجال، ثم الصبيان، ثم النساء.
ولكن؛ هل يكون تَقدُّمُهم بالتقدُّمِ إلى القِبلة، أو بالقُرْبِ مِن الإِمامِ؟
الجواب: بالقُرْبِ مِن الإِمام، فإذا وُجِدَ رَجُلٌ، وطفلٌ وأنثى فَنَضَعُ الرَّجُلَ مما يلي الإِمامَ، ثم الطفلَ، ثم الأُنثى، ونضعُ رأسَ الرَّجُلِ بحذاء وَسَطِ الأُنثى؛ لأنَّ السُّنَّةَ في صلاة الجنازة أنْ يقِفَ الإِمامُ عند رأسِ الرَّجُلِ وعند وَسَطِ الأُنثى ؛ فإنْ عَكَسَ وَجَعَلَ النساءَ مما يلي الإِمامَ والرِّجال مِن خَلفِهنَّ فإنَّه يَصِحُّ؛ لأنَّ هذا الترتيبَ على سبيلِ الأفضليَّةِ لا على سبيلِ الوجوبِ.(165/121)
قوله: «ومن لم يقف معه إلا كافر» . «إلا كافر» بالرَّفع؛ فاعل يقف، فيتعيَّن الرفعُ هنا؛ لأن الاستثناءَ مُفرَّغٌ، والاستثناءُ المُفرَّغُ: هو الذي لم يُذكر فيه المستثنى منه، فإذا لم يُذكر المستثنى منه صار ما بعد «إلا» على حسب العوامل التي قبلَها.
و«مَنْ» اسمُ شَرْطٍ. وقوله: «فَفَذٌّ» خبرُ مبتدأً محذوفٍ، والجملةُ جوابُ الشرط.
شرعَ المؤلِّفُ في ذِكْرِ المنفردِ حُكماً، بعد أنْ ذَكَرَ المنفردَ حِسًّا فقال: «ومَن لم يقف...» إلخ، أي: لو أنَّ رَجُلاً وَقَفَ خلفَ الصَّفِّ ومعه كافر فهو فَذٌّ، أي: منفردٌ حُكماً؛ لأنَّ اصطفافَ الكافرِ معه كعدمِهِ؛ لأنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، فلا تَصِحُّ مصافتُه. وهذا مع العِلم، ولكن إذا كان يَجهلُ أنَّ الواقف معه كافرٌ فظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ، وفي هذا نَظَرٌ، بل المُتعيِّنُ أنَّه إذا وَقَفَ معه كافرٌ لا يعلمُ بكفرِه، فإنَّ صلاتَه صحيحةٌ، وأما إذا عَلِمَ بكفرِه فالمذهبُ أنَّ صلاتَه لا تَصِحُّ؛ لأنه فَذٌّ، وعلى القولِ الذي رجَّحنا، نقول: إنَّه إذا كان الصَّفُّ تامًّا فصلاتُه صحيحةٌ، لأنَّ صلاةَ الفَذِّ خلفَ الصَّفِّ مع تمامِهِ صحيحةٌ ، أما إذا لم يكن تامًّا وقد عَلِمَ بكفرِه فصلاتُه باطلةٌ.
قوله: «أو امرأة» أي: لم يقفْ معه إلا امرأةٌ فهو فَذٌّ، لأنَّ المرأةَ ليست مِن أهلِ المُصافَّةِ للرِّجالِ، فإنْ وقفتْ امرأةٌ مع رَجُلين، فهل تَصِحُّ صلاتُهما وصلاتُها؟(165/122)
الجواب: نعم، الصَّلاةُ صحيحةٌ، ولا سيما مع الضَّرورةِ كما يحدثُ ذلك في أيام مواسم الحَجِّ في المسجدِ الحرامِ والمسجدِ النبويِّ، ولكن في هذه الحالِ إذا أحسست بشيءٍ مِن قُربِ المرأةِ منك وَجَبَ عليك الانفصال؛ لأنَّ بعض الناسِ لا يطيق أنْ تَقِفَ إلى جنبه امرأةٌ ليست مِن محارمِهِ، لا سيما إذا كانت شابَّةً أو فيها رائحةٌ مثيرةٌ، فقد لا يتمكَّنُ مِن الصَّلاةِ، ففي هذه الحال يجب أن يَنصرفَ ويطلبَ مكاناً آخر حذراً مِن الفتنةِ.
مسألة: إذا كانت المرأةُ أمامَ الرَّجُلِ. مثاله: أن يكون صَفُّ رِجالٍ خلفَ صَفِّ نساءٍ فتصِحُّ الصَّلاةُ، ولهذا قال الفقهاء: «صَفٌّ تامٌّ مِن نساءٍ لا يمنعُ اقتداءَ مَن خلفِهنّ مِن الرِّجالِ».
قوله: «أو من علم حدثه أحدهما» أي: الواقف والموقوف معه، مثاله: دَخَلَ رَجُلان المسجدَ فوجدا الصَّفَّ الأولَ تامَّاً فقاما خلفَ الصَّفِّ، وأحدُهما مُحدثٌ يعلمُ حَدَثَ نفسِه، والآخرُ على طهارةٍ ولا يعلمُ أنَّ صاحبَه مُحدثٌ، فالصَّلاةُ على كلامِ المؤلِّفِ غيرُ صحيحةٍ.
والعِلَّة: أنَّ هذا الواقف يعلم أنَّه محدثٌ، وأنَّ صلاتَه باطلةٌ، وأنَّ صاحبَه وَقَفَ إلى جنب مَن لا تصِحُّ صلاتُه فيكون منفرداً.
ولكن؛ الصحيحُ في هذه المسألة: أن الثاني الذي ليس بمحدثٍ صلاته صحيحة؛ إذا كان لا يعلم بحدثِ صاحبِه لأنه معذورٌ بالجهل، فإنَّه لا يدري أنَّ صاحبَه مُحدثٌ، لكن لو عَلِمَ أن صاحبَه مُحدثٌ فهو فَذٌّ؛ لأنه يعتقدُ أنَّه صَلَّى مع شخصٍ لا تصِحُّ صلاتُه.
فإنْ جَهِلَ هو وصاحبُه حتى انقضتِ الصَّلاةُ، فصلاةُ الواقفِ مع المحدثِ صحيحةٌ؛ لأنَّه لم يعلمْ واحدٌ منهما بالحَدَثِ.
فإن قال قائلٌ: كيف لا يعلم؟(165/123)
فالجواب: أن نقولَ: يمكن أن يكون أحدُهما أكلَ لحمَ إبلٍ ولا يعلمُ أنَّه لَحمُ إبلٍ فصَلَّى، فإذا انتهتِ الصَّلاةُ أُخبِرَ بأنه لحمُ إبلٍ، فقد صَلَّى مُحدِثاً ولم يعلم بحَدَثِ نفسِه، فصلاتُه غيرُ صحيحة، وصلاةُ الواقف معه صحيحةٌ.
فصور المسألة كما يلي:
1 _ إذا علما الحدثَ جميعاً فصلاتُهما باطلةٌ، أما مَن كان مُحدثاً فالأمرُ ظاهرٌ، وأما مَن لم يكن محدثاً فلأنه وَقَفَ مع شخصٍ يعلمُ أنَّ صلاتَه باطلةٌ، فهو فَذٌّ.
2 _ إذا جَهِلا حدثَ أحدِهما جميعاً، فصلاةُ غيرِ المحدثِ صحيحةٌ، وصلاةُ المحدثِ باطلةٌ.
3 _ إذا عَلِمَ الطَّاهرُ بحدثِ صاحبِه، وصاحبُه لم يعلم فكلاهما صلاتُه باطلةٌ أما المحدثُ فظاهرٌ، وأما الطَّاهرُ فلأنَّه صَفَّ مع شخصٍ يعتقدُ أنَّ صلاتَه باطلةٌ فهو فَذٌّ.
مثال ذلك: أنْ يكون الطاهرُ قد سَمِعَ الرَّجُلَ أحْدَثَ، والآخرُ ما أحسَّ بنفسِه فقامَ فصَلَّى، فإنَّ هذا الذي صَلَّى طاهراً صَلَّى مع شخصٍ يعلمُ أنَّه مُحدِثٌ، وأنَّ صلاتَه باطلةٌ.
4 _ إذا عَلِمَ المحدثُ بحَدَثِهِ. ولكن الذي صَفَّ معه لم يعلمْ فعلى كلام المؤلِّفِ صلاتُهما جميعاً باطلةٌ.
والقولُ الصحيحُ: أنَّ صلاةَ المتطهر غيرُ باطلةٍ؛ لأنَّه معذورٌ بجهل حَدَثِ صاحبِهِ.
قوله: «أو صبي في فرض ففذ» أي: ومَن لم يقفْ معه إلا صبيٌّ في فَرْضٍ فهو فَذٌّ. والمرادُ بالصبيِّ هنا: مَن لم يَبلغْ.
وقوله: «في فرض» خَرَجَ به ما لو وَقَفَ معه الصَّبيُّ في نَفْلٍ، مثل: قيامُ رمضان، والحاصل أنَّه إذا وَقَفَ معه صَبيٌّ خلفَ الصَّفِّ فإنْ كانت الصَّلاةُ فريضةً فهو فَذٌّ، وإنْ كانت الصلاةُ نافلةً فالمصافَّةُ صحيحةٌ.
والتعليل: أنَّ الفريضةَ في حَقِّ الصَّبيِّ نَفْلٌ فيكون المفترضُ قد صَفَّ إلى جَنْبِ متنفِّلٍ، فلا تَصِحُّ مصافَّتُه، كما لا تصِحُّ إمامتُه في الفرضِ. ولهذا إذا وَقَفَ معه في النَّفْلِ فصلاتُه صحيحةٌ.(165/124)
ولكن؛ هذا التَّعليلُ عَليلٌ لما يلي:
أولاً: أنَّ المصافَّةَ ليست كالإِمامةِ، فالإِمامُ قد اعتمدَ عليه المأمومُ ووَثَقَ به وقلَّده في صلاتِهِ، بخلافِ الذي صَفَّ إلى جَنْبِهِ فيكون القياسُ غيرَ صحيحٍ؛ لأنَّ مِن شرطِ صحَّةِ القياسِ تساوي الأصلِ والفرعِ في العِلَّةِ، والعِلَّةُ هنا مختلفةٌ.
ثانياً: أنَّ هذا تعليلٌ في مقابلةِ النَّصِّ، فإنَّه قد ثَبَتَ أنَّ أنسَ بنَ مالك صَفَّ خلفَ النبي صلى الله عليه وسلم ومعه يَتيمٌ . واليتيمُ لم يبلغْ، وكان ذلك في نَفْلٍ، والقاعدةُ: أنَّ ما ثَبَتَ في النَّفْلِ ثَبَتَ في الفرضِ إلا بدليل، وليس هناك دليلٌ يُفرِّقُ بين الفَرْضِ والنَّفْلِ.
ثالثاً: أنَّ الأصلَ المقيسَ عليه وهو: أنَّه لا تَصِحُّ إمامةُ الصَّبيِّ بالبالغِ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ السُّنَّةَ وَرَدت بخلافِهِ، وذلك في قصَّةِ عَمرِو بنِ سَلَمة الجَرْمي، فإنَّه أمَّ قومَه وله سِتٌّ أو سبعُ سنين» كما ثبت ذلك في «صحيح البخاري». وعلى هذا؛ فيكون القولُ الرَّاجحُ في هذه المسألةِ: أنَّ مَن وَقَفَ معه صبيٌّ فليس فَذَّاً لا في الفريضة ولا في النَّفْلِ، وصلاتُه صحيحةٌ.
قوله: «ومَن وَجَدَ فرجة دخلها» «الفرجة» هي الخَلَلُ في الصَّفِّ، أي: مكاناً ليس فيه أحدٌ. وقوله: دخلها أي: وَجَب عليه دخولها؛ إذا لم يكن معه أحدٌ يَصفُّ معه، فإنْ كان معه أحد يصف معه، فإن كان واحداً، قاما جميعاً خلف الصف، وإن كانا اثنين فأكثر دخل في الفرجة.
وإذا وَجَدَ فُرجةً قد تهيَّأ لها شخصٌ ليدخلَها، فظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ أنه يدخلُها، ويكون التفريط مِن المتخلِّفِ عنها، وهذا يقعُ كثيراً فتأتي مثلاً فتجدُ في الصَّفِّ الأول فُرجةً؛ لكن خلفَها شخصٌ يتنفَّلُ وتنفُّلُه خلفَها يقتضي أنه متهيِّئٌ لدخولِها فلك أن تتقدَّمَ فيها.(165/125)
لأننا نقول: لماذا لم يتقدَّم ويُصَلِّ فيها، فهو الذي فرَّطَ في هذا المكان؟ وهذا الذي هو ظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ حَقٌّ لا شَكَّ فيه، وأنك تدخلُ في الفُرجةِ، ولو رأيت مَن يصلِّي خلفَها يريد الدخولَ فيها؛ لأنَّه هو الذي فوَّت المكانَ الفاضلَ على نفسِه والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لو يعلمُ النَّاسُ ما في النِّداءِ والصَّفِّ الأولِ ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا» ، ولكن إذا خشيتَ فِتنةً أو عداوةً أو بغضاءً فاتركها، فإن الجماعةَ إنما شُرعت لمصالحَ عظيمةٍ؛ منها الائتلافُ والتَّوادُّ والتَّحابُ بين المسلمين، وإذا عَلِمَ الله مِن نيَّتِك أنَّه لولا خَوفِ هذه المفسدة لتقدَّمتَ إلى هذا المكان الفاضلِ فإنه قد يُثيبك سبحانه وتعالى لحُسْنِ نيَّتِكَ.
والدليل على أنَّه يدخُلُها هو أَمْرُ الرسول صلى الله عليه وسلم بالتَّراصِّ ، فإنَّ أمرَه بالتَّراصِّ يستلزمُ سَدَّ الفُرَجِ، ورُويَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ مَن وَصَلَ صفًّا وَصَلَه اللهُ ، «وأنَّ اللهَ وملائكتَه يُصلُّون على الذين يَصِلون الصفوفَ» .(165/126)
قوله: «وإلا عن يمين الإِمام» الصواب: «وإلا فعن»؛ لأنَّ قولَه: «وإلا» هذه «إنْ» الشرطية مدغمة في «لا» أي: وإنْ لا يجدُ فُرجةً فعن يمين الإِمامِ، فتأتي الفاءُ الرابطةُ في جوابِ الشَّرطِ، لأنَّ المعنى وإلا فليقفْ عن يمين الإِمامِ، ويجوزُ أنْ نقدِّرَ جوابَ الشَّرطِ فِعلاً ماضياً، فنقول: التقدير: وإلا وَقَفَ عن يمين الإِمام. وحينئذٍ لا نحتاجُ إلى الفاء الرَّابطة، أي: إذا لم يَجدْ فُرجةً فإنَّه يقفُ عن يمينِ الإِمامِ، لأن موقفَ المأمومِ الواحدِ عن يمينِ الإِمامِ لحديث ابنِ عباسٍ حيث صَلَّى مع النبي صلى الله عليه وسلم في صلاةِ الليلِ، فوقفَ عن يسارِ النبي صلى الله عليه وسلم فأخذَ النبي صلى الله عليه وسلم برأسِه مِن ورائِه فجعلَه عن يمينهِ فلما كان يمينُ الإِمامِ موقفَ المأمومِ الواحدِ؛ قلنا لهذا الرَّجُلِ الذي لم يجدْ مكاناً في الصَّفِّ: تقدَّم وكُنْ عن يمينِ الإِمامِ هكذا مُقتضى كلامِ المؤلِّفِ.
ولكن؛ هذا فيه نظر؛ لأن يمينَ الإِمامِ موقفٌ للمأمومِ الواحدِ، أما في هذه المسألةِ فالمأمومون جماعةٌ كثيرةٌ، ولا يَصِحُّ قياسُ هذا على هذا، ولم يَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ أحداً صَلَّى إلى جَنْبِهِ مع وجودِ صَفٍّ إلا في مسألةٍ واحدةٍ، وهي: «حينما أنابَ أبا بكرٍ في مَرَضِ موتِه فوجدَ خِفَّةً فخرجَ وصَلّى بالنَّاسِ، وجَلَسَ عن يسارِ أبي بكرٍ . لكن؛ هذه المسألة ضرورةٌ؛ لأنَّ أبا بكر ليس له مكانٌ في الصَّفِّ، ولا يمكنه أن يتأخَّر إلى آخرِ الصُّفوفِ وهو في صلاةٍ.
وأيضاً: هو نائبُ الرسولِ عليه الصلاة والسلام فلا بُدَّ أن يكون إلى جَنْبِهِ مِن أجلِ أن يبلِّغَ مَن خلفَه مِن المأمومين تكبيرات النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسَّلام.(165/127)
فهذه ثلاثةُ أمورٍ لا توجدُ في هذه الصُّورة التي ذكرها المؤلِّفُ، ولهذا نرى أنَّ وقوفَ أحدٍ إلى جانبِ الإِمامِ في مثل هذه الصُّورة مِن البِدَعِ التي لم تَرِدْ عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن كلمةَ الإِمام ينبغي أن تكون متضمنةً لمعناها بأنْ يكون إماماً حقيقة أمامَ مَن خلفَه، فهو قدوةٌ متبوعٌ فلا يشاركه في مكانِه أحدٌ، كما لا يشاركُه في أفعالِه أحدٌ، فهو متقدِّمٌ على المأمومِ مكاناً وعَمَلاً، فكيف نقول لشخصٍ: تقدَّمْ وكُنْ مع الإِمامِ؟ ثم إنَّ في هذا محاذيرَ منها:
أولاً: سيتخطَّى رقابَ المصلِّين، فإذا كانت عشرةَ صفوفٍ سيتخطَّى عشرةَ صفوف، والنبي صلى الله عليه وسلم لما رأى رَجُلاً يتخطَّى الرِّقابِ قال: «اجْلِسْ فقد آذَيْتَ وآنيتَ» .
ثانياً: إذا تقدَّم وصلَّى إلى جَنْبِ الإِمامِ؛ وجاء آخرٌ ولم يجدْ مكاناً تقدَّم وصلَّى إلى جانبِ الإِمامِ فاجتمع شخصان، وإذا جاء ثالث كذلك، ورابع حتى يكون مع الإِمام صَفٌّ كاملٌ.
نعم؛ إذا كان لا يوجدُ مكان في المسجد إلا مقدار صَفَّين، الصَّفُّ الأول فيه الإِمامُ، والصَّفُّ الثاني فيه المأمومون، ودَخَلَ رَجُلٌ ولم يجد مكاناً إلا يمين الإِمام، فهنا نقول: هذا محلُّ ضرورة، ولا بأس أنْ يقفَ إلى جَنْبِ الإِمامِ.
فإذا قلنا بأنَّه لا يقفُ عن يمينِ الإِمامِ؛ فماذا يعملُ؟
فالجواب: أنه يصلِّي خلفَ الصَّفِّ وحدَه، وأنَّ صلاتَه صحيحةٌ على القول الرَّاجحِ.
قوله: «فإن لم يمكنه فله أن ينبه مَن يقوم معه» أي: إذا لم يمكنه أن يتقدَّم إلى الإِمام ويصلِّي إلى جانبه، مثل: أن يكون الإِمامُ في مكانٍ ضيِّقٍ كطاقِ القِبْلةِ _ أي: المِحْراب _ فلا يمكن أنْ يصفَّ فيه أكثرُ مِن واحدٍ، فهنا: لا يتمكَّن أن يقفَ عن يمينِ الإِمامِ.
«فله» أي: لهذا الرَّجُلِ أن يُنبِّه مَن يقومُ معه، فيقول: يا فلان تأخَّرْ _ جزاك الله خيراً _ لِتُصلِّيَ معي، ولكن يُكره أن يجذِبَه بدون أن ينبِّهه.(165/128)
وهل يلزم المُنَبَّه أن يتأخَّر مع هذا الرَّجُلِ؟
قالوا: يلزمه أنْ يتأخَّر معه مِن أجل أن يصحِّحَ صلاةَ صاحبِه فها هنا مسألتان:
الأولى: تتعلَّقُ بالدَّاخلِ.
والثانية: تتعلَّقُ بالمصلِّين في الصَّفِّ.
أما الدَّاخلُ فنقول: نَبِّه مَن يصلِّي معك ويتأخَّر مَن نُبِّه.
وأما المصلُّون فنقول لِمَن نُبِّه: يجب عليك أن تتأخَّرَ تكميلاً لصلاة صاحِبِك.
وفي المسألتين نظر:
أما المسألة الأولى: وهي: أن يُنبِّه مَن يقوم معه. فإنَّ الصَّحيحَ أنَّه ليس له ذلك، لأنه إذا نَبَّهه أحرجَه، ولأنه قد يكون مِن السُّؤال المذمومِ، فإنَّ هذا الذي نَبَّهتَه سوف يكون له عليك مِنَّةٌ؛ ولأنه إذا فُتِحَ هذا البابُ فقد يتأذَّى الناسُ، فكلُّ مَن جاء ولم يجدْ أحداً يقفُ معه، قلنا: نَبِّه مَن يقوم معك؛ ولأن هذا لم يصحَّ مِن فِعْلِ الصَّحابةِ أو التابعين.
وأما المسألة الثانية: فإنَّ الصَّحيحَ أنَّه لا يلزمه أنْ يرجعَ معه، لأننا لو قلنا بلزومِ الرُّجوعِ لقلنا: إنَّه إذا لم يرجعْ فعليه إثمٌ، وقد قال الله تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(الاسراء: من الآية15)، وكما أنَّه لا يلزمُني أن أشتري لِمَن لم يجدِ الماءَ في الوُضُوء ماءً يتوضَّأ به، ولا أنْ أُحَصِّلَ له الماءَ، فكذلك هنا، وتكميل العبادات ليس على غيرِ العابدِ، فالعبادات على العابدِ نفسِه، أما غيره فهو في حِلٍّ منها.
فماذا يصنع إذا لم يكن له أن يُنبِّه مَن يقوم معه؟
الجواب: المذهب: يقف حتى يُيسِّرَ اللهُ له مَن يقومُ معه أو يصلِّي وحدَه.
والقولُ الصَّحيحُ: أنَّه يصلِّي خلفَ الصَّفِّ منفرداً متابعاً للإِمامِ .
ودليل ذلك ما يلي:
أولاً: قوله تعالى: { فإتقوا الله ماإستطعتم} [التغابن: 16] وقوله: { لايكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] وهذا الرَّجُلُ الذي لم يجدْ مكاناً في الصَّفِّ لم يستطعْ أكثرَ مِن ذلك.(165/129)
ثانياً: إذا قلنا: لا تصفَّ وحدَك لزِمَ مِن هذا أحدُ أمور:
إما أن يَدَعَ الصَّلاةَ مع الجماعة؛ ويصلِّي وحدَه؛ فتفوتُه صلاةُ الجماعةِ.
وإما أن يتقدَّمَ إلى الإِمامِ، وقد ذكرنا أنَّ هذا ليس مِن السُّنَّة ، وإما أن يجذِبَ أحداً معه وقد قلنا: إن هذا أيضاً لا يجوز .
فما بقيَ عليه إلا أنْ يصفَّ وحدَه؛ لأنَّ انفرادَه في المكان فقط أَولى مِن انفرادِه في المكان والمتابعة، وقد ذكرنا فيما سبق أنَّ أكثرَ أهلِ العِلْمِ صحّحوا صلاة المنفردِ خلفَ الصَّفِّ لعُذرٍ ولغير عُذر، فيكون القولُ بتصحيحِ صلاةِ المنفردِ خلفَ الصَّفِّ للعُذرِ قولاً وسطاً بين قولين أحدهما يقول: لا بأسَ مطلقاً، والثاني يقول: لا تصِحُّ الصَّلاةُ ولو لعُذر .
والغالبُ في أقوال العلماء إذا تدبَّرتها أنَّ القولَ الوسطَ يكون هو الصَّواب؛ لأنَّ القول الوسط تجده أخذَ بأدلَّةِ هؤلاء وأدلَّةِ هؤلاء فَجَمَعَ بين الأدلَّةِ.
وانظر مثلاً إلى العقائد، فقد انقسم النَّاسُ في صفات الله إلى طَرَفين ووسط:
طَرفٍ غلوا في الإثبات فأثبتوها مع التمثيل.
وطَرفٍ غلوا في التنزيهِ فَنفَوها. فهذان طرفان.
ووَسَطٍ أثبتها مع نفي المماثلةِ.
وفي القَدَرِ انقسمَ النَّاسُ إلى طرفين ووَسَط:
طرفٍ غلوا في إثبات القَدَرِ وقالوا: إنَّ الإِنسانَ مُجبرٌ على فِعْلِه وليس له اختيار.
وطرفٍ آخر غلوا في النَّفْي وقالوا: إنَّ العبدَ مستقلٌّ بعَمَلِهِ ولا تعلُّقَ لقَدَرِ اللهِ فيه.
وقسم ثالث وَسَط قالوا: إنَّ الإِنسانَ له إرادةٌ واختيارٌ في فِعْلِه، ولكنَّه مكتوبٌ عند الله وبتقدير الله، فتوسَّطوا، فصاروا على الصَّواب.
وفي باب الوعيد انقسم النَّاسُ أيضاً إلى طَرفين ووَسَطٍ:
قسمٍ أخذوا بنصوصِ الوعيدِ وتركوا نصوصَ الرَّجاءِ.
وقسمٍ آخر أخذوا بنصوصِ الرَّجاءِ وتركوا نصوصَ الوعيدِ.
وقسم توسَّطَ.(165/130)
فالقسم الأول: الذين أخذوا بنصوصِ الوعيد وأهدروا نصوصَ الرَّجاءِ، قالوا: مَن فَعَلَ كبيرة مِن كبائرِ الذنوب فإنه مُخلَّدٌ في النَّارِ ولا تنفعُ فيه الشفاعةُ.
والقسم الثاني: الذين تطرَّفوا مِن جهةٍ أخرى أخذوا بنصوص الرَّجاءِ وتركوا نصوصَ الوعيدِ، وقالوا: فاعلُ الكبيرةِ لا يدخلُ النارَ، والنصوصُ الواردةُ في الوعيدِ إنَّما تنصبُّ على الكُفَّارِ لا على المؤمنين.
والقسم الثالث: قالوا: إنَّ نصوصَ الوعيد نصوصٌ ثابتةٌ واردةٌ على مَن استحقَّها، ولكن هذا الذي استحقَّ هذا الوعيد تحتَ المشيئة؛ لقوله تعالى: )إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الآية48).
وفي آلِ الرسول صلى الله عليه وسلم انقسمَ النَّاسُ إلى طَرفين ووَسَطٍ:
قسمٍ غلوا في آلِ الرَّسولِ غلواً كبيراً، حتى بالغ بعضُهم فادَّعى ألوهية بعضِ آل البيت وربوبيتهم وأنَّ لهم تصرُّفاً في الكون. وهذا القسمُ يتزعَّمُه الروافضُ.
وقسم بالعكس؛ أبغضُوهم وسبُّوهم وقَدَحوا فيهم، وهذا القسمُ يتزعَّمُه النَّواصبُ ومنهم الخوارج؛ لأنَّ الخوارجَ قاتلوا عليَّ بن أبي طالب، وخرجوا عليه واستباحوا قِتالَه.
والقسم الثالث: وَسَطٌ، قالوا: إنَّ آلَ البيتِ لهم حَقٌّ علينا، المِؤمنُ منهم له حَقَّان: حَقُّ الإِيمان، وحَقُّ القَرابة مِن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكننا لا نغلوا فيهم كما غلتِ الرافضةُ، ولا نسبُّهم ونبغضُهم كما فَعَلَ النَّواصبُ، بل نحن وَسَطٌ.
وفي أسماءِ الإِيمان والدِّين اختلفَ النَّاسُ أيضاً على طرفين ووَسَطٍ.
طرفٍ قالوا: إذا فَعَلَ المؤمنُ كبيرةً سمَّيناه كافراً، وهؤلاء هم الخوارجُ، وعلى العكس المرجئة، قالوا: إذا فَعَلَ المؤمنُ كبيرةً فهو مؤمنٌ كاملُ الإِيمان وإيمانُه كإيمان جبريل وأبي بكر.(165/131)
والقسم الثالث قالوا: هو مؤمنٌ فاسقٌ، مؤمنٌ بإيمانِه فاسقٌ بكبيرتِه، أو مؤمنٌ ناقصُ الإِيمان، فلا يُعطى الإِيمانَ المطلق، ولا يُسلب مطلقُ الإِيمانِ.
فأنت ترى دائماً القولَ الوسطَ هو الذي يكون صحيحاً، ووجه ذلك واضحٌ؛ لأنَّ القولَ الوسطَ يأخذ مِن أدلَّة هؤلاء وأدلَّة هؤلاء، والقولُ الطَّرفُ يأخذ بأحدِ الأدلَّةِ ويدعُ الأدلَّةَ الأخرى.
فالقولُ الرَّاجحُ في مسألتِنا الفقهيةِ: أنَّ مَن صَلَّى خلفَ الصَّفِّ لِتمامِ الصَّفِّ فصلاتُه صحيحةٌ.
قوله: «فإن صلّى فذاً ركعة لم تصح» لا شكَّ أنَّ قوله: «فإن صلّى فذًّا ركعة لم تصح» مكرَّرٌ مع ما سبق في قوله: «ولا الفَذّ خلفَه أو خلفَ الصَّفِّ، إلا أن يكون امرأة» ، لكن المؤلِّفُ ذَكَرَ هذا تمهيداً لقوله: «وإنْ رَكَعَ فذًّا ثم دَخَلَ في الصَّفِّ أو وقف معه آخرٌ قبل سجودِ الإِمامِ صحَّت»، فهاتان مسألتان:
الأولى: إنْ رَكَعَ فَذًّا ثم دَخَلَ في الصَّفِّ قبل سجودِ الإِمامِ صحَّت صلاتُه لزوالِ الفرديَّةِ قبل تمامِ الرَّكعةِ، وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين أن يكون ذلك لعُذرٍ أو لغير عُذرٍ، فجعل المؤلِّفُ الغايةَ سجودَ الإِمامِ، فإذا زالت الفرديةُ قبل سجودِ الإِمامِ فصلاتُه صحيحةٌ، وإنْ زالت بعدَ سجودِ الإِمامِ أو لم تزل أبداً فصلاتُه غيرُ صحيحةٌ. ووجه ذلك: أنه لم يصلِّ ركعةً كاملةً فذًّا وقد علَّق النبي صلى الله عليه وسلم إدراكَ الصَّلاةِ بإدراكِ الركعةِ.
مثال ذلك: رَجُلٌ وقفَ خلفَ الصَّفِّ وكبَّر ورَكَعَ بدون عُذر، والصَّفُّ لم يتمَّ ثم تقدَّمَ فدَخَلَ في الصَّفِّ قبلَ سجودِ الإِمام، أي: ولو بعدَ الركوعِ فصلاتُه صحيحةٌ على كلامِ المؤلِّفِ، لأنَّ فَذِّيَّتَه زالت قبل أن يسجدَ إمامُه.(165/132)
ولكن؛ المذهبُ في هذه المسألة خِلافُ ما مشى عليه المؤلِّفُ، وهو: أنه إنْ كان لغيرِ عُذرٍ فَرَفَع الإِمامُ مِن الركوع قبل أنْ تزولَ فَذِّيَّتُه فصلاتُه غيرُ صحيحةٌ، وإنْ زالت فَذِّيَّتُه قبل الرَّفْعِ مِن الركوعِ فصلاتُه صحيحة، هذا إذا كان لغير عُذرٍ، أما إذا كان لعُذر فهو كما قال المؤلِّفُ: العبرةُ بسجودِ الإِمامِ.
والعذرُ هو خوفُ فَوتِ الرَّكعة، فإذا خشيَ إن تقدَّم حتى ينتهيَ إلى الصَّفِّ أنْ تفوتَه الركعةُ فله أن يُكبِّرَ ويركعَ فذَّاً، ثم يدخلَ في الصَّفِّ قبل أن يسجدَ الإِمامُ، فإنْ سَجَدَ الإِمامُ ولو قبلَ أنْ تزولَ فَذِّيَّتُهُ ولو لعُذر فصلاتُه غيرُ صحيحةٍ. هذا هو المشهور مِن المذهب، أي: أنَّهم يُفرِّقون بين الذي انفردَ لعُذر والذي انفردَ لغير عُذر.
والصَّحيحُ في هذه المسألة والتي بعدها: أنه إذا كان لعُذرٍ فصلاتُه صحيحةٌ مطلقاً، والعُذرُ تمامُ الصَّفِّ، فإذا كان الصَّفُّ تامَّاً فصلاتُه صحيحةٌ بكلِّ حال، حتى وإنْ بقيَ منفرِداً إلى آخرِ الصَّلاةِ، وأما إذا كان لغير عُذرٍ فإنْ رَفَعَ الإِمامُ مِن الرُّكوعِ قبل أن تزولَ فَذِّيَّتُهُ فصلاتُه غيرُ صحيحةٍ، وإذا زالت فَذِّيَّتُه قبل رَفْعِ الإِمامِ مِن الرُّكوعِ فصلاتُه صحيحةٌ.
ودليل ذلك: حديث أبي بكرة أنه أدركَ النبي صلى الله عليه وسلم راكعاً فركع قبل أن يصل إلى الصف ثم دخل في الصف فلما سلَّم قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «زادك الله حرصاً ولا تعد» فدعا له ونهاه أن يعود لأن المشروع أن لا يدخل المسبوق في الصلاة حتى يصل إلى الصف ولم يأمره بإعادة الركعة فدل هذا على أن ركعته صحيحة.
هذه هي المسألة الأولى.
وأما الثانية: وهي ما إذا رَكَعَ فَذَّاً ودَخَلَ معه آخر قبل سجودِ الإِمامِ فصلاته صحيحة ووجهها ما سبق في الأولى.(165/133)
قوله: «فصل» أي: في أحكامِ اقتداءِ المأمومِ بالإِمامِ، وقد سَبَقَ أنَّه يجبُ على المأمومِ متابعةُ الإِمامِ، وأنَّ المأمومَ بهذا الاعتبارِ ينقسمُ إلى أربعة أقسام وهي:
1 _ متابعة.
2 _ ومسابقة.
3 _ وموافقة.
4 _ وتخلّف.
وليس المراد بهذا الفصل هذه الأقسام، بل المراد في أيِّ مكانٍ يَصِحُّ اقتداء المأموم بإمامِه؟ وهل يُشترطُ لصحَّةِ الاقتداءِ أن يكونا في مكانٍ واحد؟ أو يجوز أنْ يقتديَ به ولو كانا في مكانين متباينين؟
قوله: «يصح اقتداء المأموم بالإِمام في المسجد...» . «في المسجد» أي: في مسجدٍ واحدٍ، فيصِحُّ اقتداءُ المأمومِ بالإِمامِ، ولو كانت بينهما مسافاتٍ، وظاهرُ كلامهِ أنه لا يُشترط أن يليَ الإِمامَ، فلو أنَّ أحداً ائتمَّ بالإِمامِ وهو بمؤخِّرِ المسجدِ، والإِمامُ في مقدمه وبينهما مثلاً خمسون متراً فالصَّلاةُ صحيحةٌ، لأنَّ المكانَ واحدٌ، والاقتداءُ ممكن، وسواء رأى الإِمامَ أم لم يرَه.
وقوله: «وإن لم يره ولا من وراءه» أي: لم يرَ الإِمامَ، ولا مَن وراءَه مِن المأمومين.
قوله: «إذا سمع التكبير» أي: لا بُدَّ مِن سماعِ التكبير؛ لأنه لا يمكن الاقتداءُ به إلا بسماعِ التكبير إما منه أو ممن يبلِّغُ عنه، فصار شرطُ صِحَّةِ اقتداءِ المأمومِ بإمامِه إذا كان في المسجدِ شرطاً واحداً فقط، وهو: سماعُ التكبير. فإن كان خارجه فيقول المؤلِّفُ:(165/134)
قوله: «وكذا خارجه إن رأى الإِمام أو المأمومين» أي: وكذا يصحُّ اقتداءُ المأمومِ بالإِمامِ إذا كان خارجَ المسجدِ بشرطِ أنْ يَرى الإِمامَ أو المأمومين، وظاهرُ كلام المؤلِّفِ : أنَّه لا يُشترط اتِّصالُ الصُّفوفِ، فلو فُرِضَ أنَّ شخصاً جاراً للمسجد، ويرى الإِمامَ أو المأمومين مِن شُبَّاكه، وصَلَّى في بيتِه، ومعه أحدٌ يزيل فَذِّيَّتَه فإنه يَصِحُّ اقتداؤه بهذا الإِمامِ؛ لأنه يسمعُ التكبيرَ ويرى الإِمامَ أو المأمومين. وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا بُدَّ أن يرى الإِمامَ أو المأمومين في جميع الصَّلاةِ؛ لئلا يفوته الاقتداءُ. والمذهبُ يكفي أنْ يراهم ولو في بعضِ الصَّلاةِ.
إذاً؛ إذا كان خارجَ المسجدِ فيُشترطُ لذلك شرطان:
الشرطُ الأول: سماعُ التكبيرِ.
الشرطُ الثاني: رؤيةُ الإِمامِ أو المأمومين، إما في كُلِّ الصَّلاةِ على ظاهرِ كلامِ المؤلِّفِ، أو في بعضِ الصَّلاةِ على المذهبِ.
وظاهرُ كلامِهِ: أنَّه لا يُشترط اتِّصال الصُّفوفِ فيما إذا كان المأمومُ خارجَ المسجدِ وهو المذهب.
والقول الثاني: وهو الذي مشى عليه صاحبُ «المقنع»: أنَّه لا بُدَّ مِن اتِّصالِ الصُّفوفِ، وأنَّه لا يَصِحُّ اقتداءُ مَن كان خارجَ المسجدِ إلا إذا كانت الصُّفوفُ متَّصلةً؛ لأنَّ الواجبَ في الجماعةِ أن تكون مجتمعةً في الأفعالِ وهي متابعة المأمومِ للإِمام _ والمكان. وإلا لقلنا: يَصِحُّ أن يكون إمامٌ ومأمومٌ واحد في المسجد، ومأمومان في حجرة بينها وبين المسجد مسافة، ومأمومان آخران في حجرة بينه وبين المسجدِ مسافة، ومأمومان آخران بينهما وبين المسجد مسافة في حجرة ثالثة، ولا شَكَّ أنَّ هذا توزيعٌ للجماعةِ، ولا سيَّما على قولِ مَن يقول: إنَّه يجب أن تُصلَّى الجماعةُ في المساجد.
فالصَّوابُ في هذه المسألة: أنَّه لا بُدَّ في اقتداءِ مَن كان خارجَ المسجدِ مِن اتِّصالِ الصُّفوفِ، فإنْ لم تكن متَّصِلة فإنَّ الصَّلاة لا تَصِحُّ.(165/135)
مثال ذلك: يوجد حولَ الحَرَمِ عَماراتٌ، فيها شُقق يُصلِّي فيها الناسُ، وهم يَرَون الإِمامَ أو المأمومين، إما في الصَّلاةِ كلِّها؛ أو في بعضِها، فعلى كلامِ المؤلِّفِ تكون الصَّلاةُ صحيحةً، ونقول لهم: إذا سمعتم الإِقامة فلكم أنْ تبقوا في مكانِكم وتصلُّوا مع الإِمام ولا تأتوا إلى المسجدِ الحرام.
وعلى القول الثاني: لا تَصِحُّ الصَّلاةُ؛ لأنَّ الصفوفَ غيرُ متَّصلةٍ. وهذا القولُ هو الصَّحيحُ، وبه يندفع ما أفتى به بعضُ المعاصرين مِن أنَّه يجوز الاقتداءُ بالإِمامِ خلفَ «المِذياعِ»، وكَتَبَ في ذلك رسالةً سمَّاها: «الإقناع بصحَّةِ صلاةِ المأمومِ خلفَ المِذياع»، ويلزمُ على هذا القول أن لا نصلِّيَ الجمعةَ في الجوامع بل نقتدي بإمام المسجدِ الحرامِ؛ لأنَّ الجماعةَ فيه أكثرُ فيكون أفضلَ، مع أنَّ الذي يصلِّي خلفَ «المِذياع» لا يرى فيه المأموم ولا الإِمامَ، فإذا جاء «التلفاز» الذي ينقل الصَّلاة مباشرة يكون مِن بابِ أَولى، وعلى هذا القول اجعلْ «التلفزيون» أمامَك وصَلِّ خلفَ إمامِ الحَرَمِ، واحْمَدِ اللهَ على هذه النِّعمةِ؛ لأنَّه يشاركك في هذه الصَّلاةِ آلاف النَّاس، وصلاتك في مسجدك قد لا يبلغون الألف.
ولكن؛ هذا القولُ لا شَكَّ أنَّه قولٌ باطلٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى إبطالِ صلاةِ الجماعةِ أو الجُمعة، وليس فيه اتِّصالَ الصُّفوفِ، وهو بعيدٌ مِن مقصودِ الشَّارعِ بصلاةِ الجمعةِ والجماعةِ.(165/136)
وأنا رأيتُ شخصاً يُصلِّي بجماعةٍ، لكنَّهم جماعةٌ لا يَرَون الصَّلاةَ إلا خلفَ الإِمام المعصومِ جالساً على جدارٍ قصيرٍ، ومعه مكبِّرُ صوتٍ، والقِبْلةُ خلفَه، والجماعةُ أمامَه، فيقول: «الله أكبر» فيكبِّرون للإِحرام، وهو لا يصلِّي بهم بل جالسٌ على الجِدار، ثم يقول: «الله أكبر» فيركعون، ثم يقول: «سمع الله لمن حمده» فينهضون، والذي يصلِّي خلفَ «المِذياع» يصلِّي خلفَ إمامٍ ليس بين يديه بل بينهما مسافات كبيرة، وهو فتح باب للشر؛ لأنَّ المتهاون في صلاةِ الجُمُعة يستطيع أن يقولَ: ما دامتِ الصَّلاةُ تَصِحُّ خلفَ «المِذياع» و«التلفاز»، فأنا أريدُ أن أصلِّيَ في بيتي، ومعيَ ابني أو أخي، أو ما أشبه ذلك نكون صفَّاً.
فالرَّاجح: أنه لا يَصِحُّ اقتداءُ المأمومِ خارجَ المسجد إلا إذا اتَّصلتِ الصُّفوف، فلا بُدَّ له مِن شرطين:
1 _ أن يَسمعَ التكبيرَ.
2 _ اتِّصال الصُّفوف.
أما اشتراطُ الرُّؤيةِ ففيه نظر، فما دام يَسمعُ التَّكبير والصُّفوف متَّصلة فالاقتداء صحيح، وعلى هذا؛ إذا امتلأ المسجدُ واتَّصلتِ الصُّفوف وصَلَّى النَّاسُ بالأسواقِ وعلى عتبة الدَّكاكين فلا بأس به.
قوله: «وتصح خلف إمام عالٍ عنهم» أي: عن المأمومين.
مثل: أن يكون هو في الطَّابقِ الأعلى وهم في الطَّابق الأَسفلِ، وهذا يقع كثيراً في الأَسفلِ (الخلوة)، فالإِمامُ فوقَ هؤلاء، فتصِحُّ الصَّلاةُ ولا حَرَجَ فيها.
ودليلُ صِحَّة الصَّلاةِ خلفَ الإِمامِ إذا كان عالياً: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لما صُنِعَ له المِنبرُ صَلَّى عليه، يصعدُ ويقرأُ ويركعُ، وإذا أرادَ أنْ يسجدَ نَزَلَ مِنَ المِنبرِ فَسَجَدَ على الأرضِ، وقال: «يا أيُّها النَّاسُ، إني صَنَعتُ هذا لِتَأتمُّوا بي، ولِتَعْلموا صَلاتي» .
قوله: «ويُكره إذا كان العلوُّ ذِراعاً فأكثر» أي: يُكره إذا كان الإِمامُ عالياً على المأموم ذِراعاً فأكثر.(165/137)
ودليله: الحديث: «إذا أمَّ الرَّجُلُ القومَ؛ فلا يَقُمْ في مكانٍ أرفع مِن مقامهم» ، ولكن هذا الحديث لا تقوم به الحُجَّةُ.
والجَمْعُ _ عند من احتجَّ به _ بينه وبين الحديث الثَّابتِ في الصَّحيحين بأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم صَلَّى بهم على المِنبر: أنَّ المِنبرَ لا يتجاوز الذِّراع غالباً، فيُحمل هذا الحديثُ على ما إذا كان العلوُّ كثيراً، ولكن يبقى النَّظرُ في تقديره بالذِّراعِ.
والجواب: أن درجات المِنبرِ غالباً لا تزيد على الذِّراعِ.
والخلاصةُ: أنَّ المؤلِّفَ يرى أنَّه لا بأسَ أن يكون الإِمامُ أعلى مِن المأمومِ، إلا أنَّه يُكره إذا كان العلوُّ ذِراعاً فأكثر.
القول الثاني: أنَّه لا يُكره علوُّ الإِمامِ مطلقاً؛ لأنَّ الحديثَ الذي استدلَّ به الأصحابُ _ رحمهم الله _ ضعيف، والضَّعيفُ لا تقومُ به الحُجَّةُ.
وقيَّدَ بعضُ العلماءِ هذه المسألةَ بما إذا كان الإِمامُ غيرَ مُنفردٍ بمكانِه، فإذا كان معه أحدٌ فإنه لا يُكره؛ ولو زادَ على الذِّراع؛ لأنَّ الإِمامَ لم ينفردْ بمكانِه، وهذا لا شَكَّ أنَّه قولٌ وجيهٌ؛ لأنه إنِ انفردَ الإِمامُ بمكانٍ؛ والمأمومُ بمكانٍ آخر؛ فأين صلاةُ الجماعةِ والاجتماع؟
مسألة: لو كان المأمومُ في مكان أعلى فلا يُكره، فإذا كان الإِمامُ هو الذي في الأسفل، كأن يكون في الخَلوة مثلاً، وفيه أناسٌ يصلُّون فوقَه فلا حَرَجَ ولا كراهة.
هل المعتبر في قوله: «ذراع فأكثر» ذراع الحديد، أو ذراع اليد؟
الجواب: المعتبر ذراع اليد، وهو ما بين المرفق ورؤوس الأصابع؛ لأنَّ هذا هو المعروف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، والمراد باليد: اليد المتوسِّطة، لأنَّ بعض النَّاس تكون ذراعُه طويلةً، وبعضُهم تكون قصيرةً.(165/138)
قوله: «كإمامته في الطاق» أي: كما يُكره دخول الإِمامِ في الطَّاق، والمراد بالطَّاقِ طاقُ القِبْلة الذي يُسمَّى «المِحراب» وطاقُ القِبْلة يكون مقوَّساً مفتوحاً في عرض الجِدار، وأحياناً يكون واسعاً بحيث يقفُ الإِمامُ فيه ويصلِّي ويسجدُ في نَفْسِ المِحراب، فيُكره؛ لآثارٍ وَرَدت عن الصحابة ؛ ولأنه إذا دَخَلَ في الطَّاق استتر عن بعض المأمومين فلا يَرَونه لو أخطأ في القيام أو الرُّكوع أو السُّجود فلهذا يُكره، ولكن إذا كان لحاجة مثل: أن تكون الجماعةُ كثيرةً؛ واحتاج الإِمامُ إلى أن يتقدَّمَ حتى يكون في الطَّاقِ فإنه لا بأس به.
أما إذا كان الإِمامُ في باب الطَّاقِ، ولم يدخل فيه، ولم يتغيَّب عن النَّاس، وكان محلُّ سجودِه في الطَّاق، فلا بأس به.
ويمكن أن يُؤخذ مِن كلام المؤلِّف: أنَّ هذا الطَّاق الذي هو المِحراب ليس بمكروه وهو كذلك، فاتخاذ المحراب ليس بمكروه، وإن كان بعضُ العلماء استحبَّه؛ لما فيه مِن الدلالة على القِبْلة، وعلى مكانِ الإِمامِ.
وبعضُهم كَرِهَه، وقال: إنَّه غيرُ معروف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم نَهى عن اتِّخاذِ المساجدِ مذابحَ مثلَ مذابحِ النَّصارى يجعلون لها الطَّاق . فهذا يقتضي كراهته.
والصَّحيحُ: أنَّه مباحٌ، فلا نأمرُ به ولا ننهى عنه، والقول بأنه مستحبٌّ أقربُ إلى الصَّوابِ مِن القول بأنه مكروه، لأنَّ الذي وَرَدَ النَّهيُ عنه مذابح كمذابح النصارى، أي: أن نتخذَ المحاريبَ كمحاريب النَّصارى، أما إذا كانت تختلِفُ عنهم فلا كراهة؛ لأن العِلَّةَ في المحاريب المشابهة لمحاريب النَّصارى هي التشبُّه بهم، فإذا لم يكن تشبُّه فلا كراهة.
فلو قال قائل: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعلْها فما بالُنا نفعلها؟(165/139)
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعلْها إما لعدمِ الحاجةِ إليها، أو لأن ذلك قد يكلِّفُ في البناء في ذلك الوقت، أو لغير ذلك مِن الأسبابِ، فما دامت ليست متَّخذة على وَجْهِ التعبُّدِ، وفيها مصلحةٌ؛ لأنَّها تبين للنَّاسِ محلَّ القِبْلة فكيف نكرهها؟!
ولو أنَّ المسجدَ لا مِحراب فيه ثم دَخَلَ رَجُلٌ غريبٌ فسوف تشتبه عليه القِبْلة، ولهذا قالوا في باب استقبالِ القبلة: إنَّه يُستدلُّ عليها بالمحاريبِ الإِسلاميةِ .
قوله: «وتطوعه موضع المكتوبة» أي: يكره تطوُّع الإِمام في موضع المكتوبة، أي: في المكان الذي صلَّى فيه المكتوبةَ.
ودليل ذلك ما يلي:
أولاً: ما رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يُصَلِّ الإِمامُ في مُقَامِهِ الذي صَلَّى فيه المكتوبةَ، حتى يَتَنَحَّى عنه» ولكنه ضعيف لانقطاعه.
ثانياً: ربما إذا تطوَّعَ في موضع المكتوبة يَظنُّ مَن شاهدَه أنَّه تذكَّرَ نقصاً في صلاته؛ فيلبس على المأمومين. فلهذا يُقال له: لا تتطوّع في موضع المكتوبة، ولا سيَّما إذا باشر الفريضة، بمعنى أنَّه تطوَّع عقب الفريضة فوراً.
وظاهرُ كلام المؤلِّف: أنَّه لا فَرْقَ بين أن يتطوَّع في هذا المكان قبل الصَّلاة أو بعدَها، وهذا غير مراد بل المراد بعد الصلاة.
أمَّا المأموم؛ فإنه لا يُكره له أن يتطوَّع في موضع المكتوبة . لكن؛ ذكروا أنَّ الأفضلَ أن يَفْصِلَ بين الفرضِ وسُنَّتِهِ بكلامٍ أو انتقال مِن موضعه .
قوله: «إلا من حاجة» الحاجةُ دون الضَّرورة؛ لأنَّ الضَّرورةَ هي التي إذا لم يقم بها الإِنسانُ أصابه الضَّرر.
والحاجة هي التي تكون مِن مكمِّلات مراده، وليس في ضرورة إليها. مثال الحاجة هنا: أن يريدَ الإِمامُ أن يتطوَّعَ لكن وَجَدَ الصُّفوفَ كلَّها تامَّةً ليس فيها مكان ولا يتيسَّر أن يصلِّي في بيتِه أو في مكانٍ آخر، فحينئذٍ يكون محتاجاً إلى أن يتطوَّع في موضع المكتوبة.(165/140)
قوله: «وإطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة» أي: يُكره للإِمام أنْ يُطيلَ قعودَه بعد السَّلام مستقبلَ القِبْلة، بل يخفِّف، ويجلسَ بقَدْرِ ما يقول: «أستغفرُ الله _ ثلاث مرات _ اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ ومنك السَّلامُ، تباركتَ يا ذا الجلالِ والإِكرامِ» ثم ينصرفُ: هذه هي السُّنَّةُ، فإطالةُ قعودِه بعدَ السَّلامِ مستقبلَ القِبْلة فيه محاذير هي:
أولاً: أنَّه خِلافُ السُّنَّةِ.
ثانياً: حَبْسُ النَّاسِ؛ لأنَّ المأمومينَ منهيون أنْ ينصرفوا قبل انصرافِ الإِمامِ، فإذا بقي مستقبلَ القِبْلة كثيراً حَبَسَ النَّاسَ.
ثالثاً: أنه قد يَظنُّ مَن خلفَه أنه يتذكَّرُ شيئاً نسيه في الصَّلاةِ، فيرتبكُ المأمومُ في هذا.
وابتداءُ الانصرافِ مِن اليسار أو مِن اليمين كُلُّ ذلك وَرَدَ عن النبي صلى الله عليه وسلم. فَوَرَدَ أنه ينصرفُ عن يمينه ثم يستقبلُ النَّاسَ ، وأنَّه ينصرفُ عن يسارِه، ثم يستقبلُ النَّاسَ ، فأنت إنْ شئتَ انصرفْ عن اليمين، وإن شئتَ انصرفْ عن اليسارِ، كُلُّ هذا سُنَّةٌ.
قوله: «فإن كان ثَمَّ نساء» أي: في المسجدِ نساءٌ.
قوله: «لبث قليلاً» أي: لَبِثَ مستقبلَ القِبْلة قليلاً.
قوله: «لينصرفن» أي: النساء قبل الرِّجال، كما ثَبَتَ عن أم سلمة قالت: كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا سَلَّمَ، قامَ النِّساءُ حين يقضي تَسْلِيمَهُ، ويمكُثُ هو في مَقَامِهِ يسيراً قبل أنْ يقومَ. قال: نرى _ والله أعلم _ أنَّ ذلك كان لكي ينصرفَ النِّساءُ، قبل أن يُدْرِكَهُنَّ أحدٌ مِن الرِّجالِ» .
وذلك لأن الرِّجالَ إذا انصرفوا قبلَ انصرافِ النِّساءِ لَزِمَ مِن هذا اختلاطُ الرِّجالِ بالنِّساءِ، وهذا مِن أسبابِ الفتنة، حتى إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «خيرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرها، وَشَرُّها أوَّلُها» ، لأن أوَّلَها أقربُ إلى الرِّجالِ مِن آخرها، فهو أقربُ إلى الاختلاطِ.(165/141)
وفي هذا دليلٌ واضحٌ جداً على أنَّ مِن أهدافِ الإِسلامِ بُعْدُ النساءِ عن الرِّجال، وأنَّ المبدأ الإِسلاميَّ هو عَزْلُ الرِّجالِ عن النساءِ، خلاف المبدأ الغربيِّ الكافرِ الذي يريد أن يختلِطَ النساءُ بالرِّجالِ، والذي انخدعَ به كثيرٌ مِن المسلمين اليوم، وصاروا لا يبالون باختلاطِ المرأةِ مع الرِّجالِ، بل يَرَون أنَّ هذه هي الديمقراطية والتقدُّم، وفي الحقيقة أنَّها التأخُّر؛ لأنَّ اختلاطَ المرأةِ بالرِّجال هو إشباعٌ لرغبةِ الرَّجُلِ على حسابِ المرأةِ، فأين الديمقراطية كما يزعمون؟!
إن هذا هو الجَور، أما العدلُ فأن تبقى المرأةُ مصونة محروسة لا يَعبثُ بها الرِّجالُ، لا بالنَّظَرِ ولا بالكلامِ ولا باللَّمس ولا بأي شيء يوجب الفتنة.
لكن؛ لضعفِ الإِيمانِ والبُعدِ عن تعاليم الإِسلام صار هؤلاء المخدوعون منخدعين بما عليه الأممُ الكافرةُ، ونحن نعلمُ بما تواترَ عندنا أنَّ الأممَ الكافرةَ الآن تَئِنُّ أنينَ المريضِ المُدنفِ تحت وطأة هذه الأوضاع، وتودُّ أن تتخلَّصَ مِن هذا الاختلاطِ، ولكنه لا يمكنها الآن؛ فقد اتَّسعَ الخرقُ على الرَّاقعِ. لكن الذي يُؤسفُ له أيضاً: مَن يريدُ مِن المسلمين أنْ يلحقوا برَكْبِ هؤلاء الذين ينادون بما يسمُّونه «الحرية»، وهي في الحقيقة حرية هوًى، لا حرية هُدًى، كما قال ابن القيم :(165/142)
هربوا مِن الرِّقِّ الذي خُلقوا له فَبُلوا بِرِقِّ النَّفْسِ والشيطان فالرِّقُ الذي خُلقوا له هو: الرِّقُ لله ، بأن تكون عبداً لله حقاً، لكن؛ هؤلاء هربوا منه، وبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ والشيطان، فصاروا الآن ينعقون ويخطِّطون مِن أجلِ أن تكون المرأةُ والرَّجُلُ على حَدٍّ سواءٍ في المكتب، وفي المتجر، وفي كُلِّ شيء، وإني لأشهد بالله أنَّ هؤلاء غاشُّون لدينهم وللمسلمين؛ لأنَّ الواجب أن يتلقَّى المسلمُ تعاليمه مِن كتابِ الله وسُنَّةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وهَدي السَّلفِ الصَّالح، ونحن إذا رأينا تعاليمَ الشَّارعِ الحكيم وجدنا أنَّه يسعى بكُلِّ ما يستطيع إلى إبعاد المرأةِ عن الرَّجُلِ، فيبقى الرسول صلى الله عليه وسلم في مصلَّاه إذا سَلَّمَ حتى ينصرفَ النساءُ من أجلِ عدم الاختلاط، هذا مع أنَّ النَّاسَ في ذلك الوقت أطهرُ مِن النَّاسِ في أوقاتنا هذه، وأقوى إيماناً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيرُ النَّاسِ قَرْني، ثم الذين يَلونهم، ثم الذين يَلونهم» .
وقوله: «فإنْ كان ثَمَّ» «ثَمَّ» بمعنى: هناك، وهي مفتوحةُ الثاء، وليست مضمومة قال تعالى: {واذا رأيت ثم } [الإنسان: 20] وما أكثر الذين يغلطون فيها فيقولون: (ثُمَّ) بالضَّمِ، و«ثُمَّ» بالضَّمِ حرفُ عطفٍ لا ظرف.
قوله: «يكره وقوفهم» أي وقوفُ المأمومين.
قوله: «بين السواري» أي: الأعمدة.
قوله: «إذا قطعن الصفوف» اشترط المؤلِّفُ للكراهةِ أن تقطع الصفوف.
وما مقدار القطع؟ قيَّده بعضُهم بثلاثة أذرع، فقال: إذا كانت السَّاريةُ ثلاثةَ أذرعٍ فإنها تقطع الصَّفَّ، وما دونها لا يقطعُ الصَّفُّ.(165/143)
وقال بعضُ العلماء: بمقدار قيام ثلاثة رِجالٍ، ومقدار قيامٍ ثلاثة رجال أقل مِن ثلاثةِ أذرع، وقيل: المعتبر العُرف وهو ظاهر كلام المؤلِّفِ، وأما السَّواري التي دون ذلك فهي صغيرة لا تقطعُ الصُّفوفَ، ولا سيَّما إذا تباعدَ ما بينها. وعلى هذا؛ فلا يُكره الوقوفُ بينها، ومتى صارت السَّواري على حَدٍّ يُكره الوقوفُ بينها فإنَّ ذلك مشروطٌ بعدمِ الحاجةِ، فإنْ احتيجَ إلى ذلك بأن كانت الجماعةُ كثيرة والمسجدُ ضيقاً فإن ذلك لا بأس به من أجلِ الحاجةِ، لأنَّ وقوفَهم بين السَّواري في المسجدِ خيرٌ مِن وقوفهم خارجَ المسجدِ، وما زال النَّاسُ يعملون به في المسجدين المسجدِ الحرامِ والمسجدِ النَّبويِّ عند الحاجةِ؛ وإنما كُرِهَ ذلك لأنَّ الصَّحابةَ كانوا يَتوقَّون هذا ، حتى إنَّهم أحياناً كانوا يُطْرَدون عنها طَرْداً . ولأنَّ المطلوبَ في المصافةِ التَّراصُ مِن أجل أن يكون النَّاسُ صفَّاً واحداً، فإذا كان هناك سواري تقطع الصُّفوفَ فاتَ هذا المقصود للشَّارعِ.
قوله: «فصل» هذا الفصلُ عَقَدَه المؤلِّفُ لبيان الأعذارِ التي تُسقِطُ الجمعةَ والجماعة، وهو مبنيٌّ على قوله تعالى) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ )(الحج: من الآية78)وقوله (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: من الآية185). ومِن القواعدِ المشهورة: المشقةُ تجلبُ التيسير، ولا شَكَّ أنَّ الجمعةَ أوكد بكثير مِن الجماعة لإجماعِ المسلمين على أنَّها فَرْضُ عَين؛ لقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ )(الجمعة: من الآية9).
أما الجماعةُ فإنَّه سَبَقَ الخِلافُ فيها، وأنَّ القولَ الرَّاجحَ أنَّها فَرْضُ عَين ، لكن آكديتها ليست كآكدية صلاة الجُمُعة، ومع ذلك تسقط هاتان الصَّلاتان للعُذر. والأعذار أنواع:(165/144)
قوله: «يعذر بترك جمعة وجماعة مريض» هذا نوعٌ مِن الأعذارِ.
والمراد به: المَرض الذي يَلحق المريضَ منه مشقَّة لو ذَهَبَ يصلِّي وهذا هو النَّوعُ الأول.
ودليله:
1 _قول الله تعالى: {فإتقوا الله ما استطعتم } [التغابن: 16] .
2 _وقوله: { لايكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286] .
3 _وقوله تعالى: )لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ )(الفتح: من الآية17).
4 _وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أمرتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم» .
5 _وأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم: «لما مَرِضَ تخلَّف عن الجماعةِ» مع أن بيته كان إلى جَنْبِ المسجد.
6 _وقولُ ابن مسعود : «لقد رَأيتُنا وما يتخلَّفُ عن الصَّلاةِ إلا منافقٌ قد عُلِمَ نفاقُهُ أو مريضٌ...» فكلُّ هذه الأدلَّةِ تدلُّ على أنَّ المريضَ يسقطُ عنه وجوبُ الجُمعةِ والجَماعةِ.
قوله: «ومدافع أحد الأخبثين» هذا نوعٌ ثان يُعذر فيه بتركِ الجُمعة والجَماعة.
و«مدافع» تَدلُّ على أنَّ الإِنسانَ يتكلَّفُ دَفْعَ أحد الأخبثين.
والأخبثان: هما البولُ والغائطُ، ويَلحقُ بهما الرِّيحُ؛ لأنَّ بعضَ النَّاسِ يكون عنده غَازات تنفخُ بَطنَه وتَشُقُّ عليه جداً، وقد يكون أشقَّ عليه مِن احتباسِ البولِ والغائطِ، والدَّليل على ذلك ما يلي:
1 _ قول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاةَ بحضرةِ طعامٍ، ولا وهو يدافعه الأخبثان» والنَّفيُ هنا بمعنى النَّهي، أي: لا تصلُّوا بحضرةِ طعامٍ ولا حالَ مدافعةِ الأخبثين.(165/145)
2 _ أنَّ المدافعةَ تقتضي انشغالَ القلبِ عن الصَّلاةِ، وهذا خَلَلٌ في نَفْسِ العبادةِ، وتَرْكُ الجماعةِ خَلَلٌ في أمْرٍ خارجٍ عن العبادة، لأنَّ الجماعةَ واجبةٌ للصَّلاةِ، والمحافظةُ على ما يتعلَّقُ بذات العبادةِ أَولى مِن المحافظةِ على ما يتعلَّقُ بأمْرٍ خارجٍ عنها، فلهذا نقول: المحافظةُ على أَداءِ الصَّلاةِ بطمأنينة وحضورِ قلبٍ أولى مِن حضورِ الجماعةِ أو الجُمعة.
3 _ أنَّ احتباسَ هذين الأخبثين مع المدافعة يَضرُّ البدنَ ضرراً بيِّناً؛ لأنَّ الله جَعَلَ خروجَ هذين الأخبثين راحةً للإِنسان، فإذا حبسهما صار في هذا مخالفةً للطبيعة التي خُلِقَ الإِنسانُ عليها، وهذه قاعدة طبية: أنَّ كُلَّ ما خالفَ الطَّبيعة فإنَّه ينعكس بالضَّررِ على البَدنِ، ومِن ثَمَّ يتبيَّنُ أضرارُ الحُبوب التي تستعمِلُها النِّساءُ مِن أجل حَبْسِ الحيضِ، فإنَّ ضررَها ظاهرٌ جدَّاً، وقد شَهِدَ به الأطباءُ.
قوله: «ومن بحضرة طعام محتاج إليه» هذا نوعٌ ثالثٌ فيُعذر بتَرْكِ جُمُعَةٍ وجماعةٍ مَن كان بحضْرَةِ طعامٍ، أي: حَضَرَ عنده طعامٌ وهو محتاجٌ إليه، لكن بشرط أن يكون متمكِّناً مِن تناولِه.
مثاله: رَجُلٌ جائعٌ حَضَرَ عنده الطَّعامُ وهو يسمعُ الإِقامةَ، فهو بين أمرين: إنْ ذهبَ إلى المسجدِ انشغل قلبُه بالطَّعامِ لجوعِه، وإنْ أكَلَ اطمأنَّ وانسدَّ جوعُه، فنقول: كُلْ ولا حَرَجَ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قُدِّمَ العشاءُ فابْدَؤُا به قبل أن تصلُّوا صلاة المغرب» فأمرنا بأنْ نبدأ به.
وكان ابنُ عُمرَ يَسمعُ قراءةَ الإِمام وهو يتعشَّى . مع أنَّ ابنَ عُمرَ مِن أشدِّ النَّاسِ تمسُّكاً بالسُّنَّةِ.
إذاً؛ إذا حَضَرَ العشاءُ فتعشَّ ولو أُقيمت الصَّلاةُ.
وهل الأكلُ بمقدارِ ما تنكسِرُ نهمتُك، أو لك أنْ تشبعَ؟
نقول: لك أنْ تشبعَ؛ لأنَّ الرُّخصةَ عامَّةٌ «إذا قُدِّمَ العَشاءُ فابدؤوا به قبل أن تصلُّوا صلاةَ المغرب».(165/146)
ويُشترط أنْ يتمكَّنَ مِن تناولِه، فإنْ لم يتمكَّن بأنْ كان صائماً وحَضَرَ طعامُ الإِفطارِ، وأُذِّنَ لصلاةِ العصرِ وهو بحاجةٍ إلى الأكلِ فليس له أنْ يؤخِّرَ صلاةَ العصر حتى يُفطرَ ويأكلَ؛ لأنَّ هذا الطَّعامَ ممنوعٌ منه شرعاً، حتى لو اشتهى الطَّعامَ شهوةً قويَّةً.
ولا بُدَّ أيضاً مِن قيد آخر، وهو أنْ لا يجعلَ ذلك عادةً بحيث لا يُقَدَّم العشاءُ إلا إذا قاربت إقامةُ الصَّلاةِ، لأنه إذا اتَّخذَ هذا عادةً فقد تَعمَّدَ أن يَدَعَ الصَّلاةَ، لكن إذا حصلَ هذا بغير اتِّخاذِه عادةً فإنه يبدأ بالطَّعامِ الذي حَضَرَ، سواءٌ كان عشاء أم غداء.
قوله: «وخائف من ضياع ماله، أو فواته، أو ضرر فيه» هذا نوعٌ رابعٌ مما يُعذر فيه بتَرْكِ الجُمعةِ والجماعةِ، أي: إذا كان عنده مال يَخشى إذا ذَهَبَ عنه أن يُسرقَ، أو معه دابةٌ يَخشى لو ذهبَ للصَّلاةِ أن تنفلتَ الدَّابةُ وتضيع، فهو في هذه الحال معذورٌ في تَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ؛ لأنَّه لو ذَهَبَ وصَلَّى فإن قلبَه سيكون منشغلاً بهذا المال الذي يَخافُ ضياعه.
وكذلك إذا كان يَخشى مِن فواتِه بأن يكون قد أضاعَ دابَّته، وقيل له: إنَّ دابَّتك في المكان الفلاني؛ وحضرتِ الصَّلاةُ، وخَشيَ إنْ ذهب يُصلِّي الجُمعةَ أو الجماعةَ أنْ تذهبَ الدَّابةُ عن المكان الذي قيل إنَّها فيه، فهذا خائفٌ مِن فواتِه، فله أنْ يتركَ الصَّلاةَ، ويذهب إلى مالِه ليدرِكَه.
ومِن ذلك أيضاً: لو كان يخشى مِن ضَررٍ فيه، كإنسان وَضَعَ الخُبزَ بالتنورِ، فأُقيمت الصَّلاةُ، فإنْ ذهبَ يُصلِّي احترقَ الخبزُ؛ فله أن يَدَعَ صلاةَ الجماعة مِن أجلِ أن لا يفوتَ مالُه بالاحتراق.
والعِلَّةُ: انشغالُ القلبِ، لكن يُؤمرُ الخَبَّازُ أن يلاحظ وقت الإِقامةِ، فلا يدخل الخبزَ في التنور حينئذٍ.(165/147)
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لا فَرْقَ بين المالِ الخطير والمال الصَّغيرِ الذي لا يُعتبر شيئاً؛ لأنه أطلق فقال: «مِن ضياع ماله» وقد يُقال: إنَّه يُفرَّقُ بين المالِ الخطير الذي له شأن، وبين المال القليل في صلاة الجُمعةِ خاصَّة؛ لأنَّ صلاةَ الجُمعة إذا فاتت فيها الجماعةُ لا تُعادُ وإنَّما يُصلَّى بدلها ظُهراً، وغير الجُمعةِ إذا فاتت فيها الجماعةُ يصلِّيها كما هي.
قوله: «أو موت قريبه» هذا نوعٌ خامسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، أنْ يخشى مِن موتِ قريبِه وهو غيرُ حاضرٍ، أي: أنَّه في سياق الموتِ فيخشى أن يموت وهو غيرُ حاضرٍ وأحبَّ أنْ يبقى عندَه ليلقِّنه الشَّهادةَ، وما أشبه ذلك، فهذا عُذر.
قوله: «أو على نفسه من ضرر» هذا نوعٌ سادسٌ مما يُعذرُ فيه بتَرِكِ الجُمُعةِ والجَماعةِ، وهو: أن يَخشى على نفسِه مِن الأمور التي ذكرها المؤلِّفِ، مِن ضَررٍ بأن كان عند بيتِه كلبٌ عقورٌ، وخَافَ إنْ خَرَجَ أنْ يعقِره الكلبُ، فله أنْ يصلِّيَ في بيتِه ولا حَرَجَ عليه.
وكذلك لو فُرِضَ أن في طريقِه إلى المسجدِ ما يضرُّه، مثل: ألا يكون عنده حِذاء، والطريقُ كلُّه شوكٌ أو كله قِطعُ زُجاجٍ، فهذا يضرُّه، فهو معذورٌ بتَرْكِ الجَماعة والجُمُعة.
وكذلك لو كان فيه جُروح وخاف على نفسِه مِن رائحةٍ يزيدُ بها جرحُه فإنَّه يُعذرُ بتَرْكِ الجمعة والجماعة.
وقوله: «أو سلطان» يعني: إِذا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانٍ مثل: أنْ يطلبَه ويبحث عنه أميرٌ ظالمٌ له، وخافَ إن خَرَجَ أن يمسكَه ويحبسَه أو يغرِّمه مالاً أو يؤذيه، أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّ في ذلك ضرراً عليه، أما إذا كان السلطانُ يأخذُه بحقٍّ فليس له أن يتخلَّفَ عن الجماعةِ ولا الجُمُعةِ، لأنَّه إذا تخلَّفَ أسقط حقّين: حَقَّ الله في الجماعةِ والجُمُعةِ، والحَقَّ الذي يطلبه به السلطانُ.(165/148)
قوله: «أو ملازمة غريم ولا شيء معه» هذا نوعٌ سابعٌ مما يُعذرُ فيه بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ: بأن كان له غريمٌ يطالبُه ويلازِمُه، وليس عنده فلوسٌ، فهذا عُذْرٌ؛ وذلك لما يلحَقَه مِن الأذيَّةِ لملازمةِ الغريمِ له، فإنْ كان معه شيءٌ يستطيع أن يوفي به فليس له الحَقُّ في تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؛ لأنَّه إذا تركهما في هذه الحال أسقطَ حَقَّين: حَقَّ اللهِ في الجماعة والجُمُعةِ، وحَقَّ الآدميِّ في الوفاءِ.
مسألة: إذا كان عليه دينٌ مؤجَّلٌ، لكن غريمه لازَمه فهل له أن يتخلَّفَ؟
الجواب: ينظر؛ فإن كانت السُّلطةُ قويةٌ بحيث لو اشتكاه على السُّلطة لمنعته منه، فهو غيرُ معذورٍ؛ لأنَّ له الحَقُّ أن يُقدِّمَ الشَّكوى إلى السُّلطةِ، أما إذا كانت السُّلطةُ ليست قويةً، أو أنها تحابي الرَّجُلَ فلا تمنعه مِن ملازمةِ غريمه، فهذا عُذرٌ بلا شَكٍّ.
قوله: «أو من فوات رفقة» هذا نوعٌ ثامنٌ من أعذار تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ، إذا كان يخشى من فوات الرُّفْقةِ وهذا عُذْرٌ لوجهين:
الوجه الأول: أنه يفوت مقصده من الرفقة إذا انتظر الصَّلاةَ مع الجماعةِ أو الجُمعةِ.
الوجه الثاني: أنه ينشغلُ قلبُه كثيراً، إذا سَمِعَ رفقته يتهيَّأون للسير وهو يُصلِّي فإنه يقلَقُ كثيراً، فإذا خِفْتَ فواتَ الرُّفقةِ فإنك معذورٌ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة، ولا فَرْقَ بين أن يكون السَّفرُ سفرَ طاعةٍ أو سفراً مباحاً، وسفر الطاعة كالسفر لعُمرةٍ أو حَجٍّ أو طلب عِلمٍ، والمباح كالسَّفر للتجارة ونحوها.
قوله: «أو غلبة نعاس» هذا نوعٌ تاسعٌ من أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة؛ إذا غلبه النُّعاسُ فإنه يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ. مثال ذلك: رجل متعبٌ بسبب عَمَلٍ أو سَفَرٍ فأخذه النُّعاسُ فهو بين أمرين:
إما أن يذهبَ ويصلِّي مع الجماعةِ، وهو في غَلَبَةِ النُّعاسِ لا يدري ما يقول.(165/149)
وإما أن ينامَ حتى يأخذَ ما يزولُ به النُّعاسُ ثم يُصلِّي براحةٍ.
فنقول: افعلْ الثاني؛ لأنك معذورٌ.
قوله: «أو أذى بمطر أو وحل» هذا نوعٌ عاشرٌ مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ.
فإذا خافَ الأذى بمطرٍ أو وَحْلٍ، أي: إذا كانت السَّماءُ تمطرُ، وإذا خَرَجَ للجُمُعةِ أو الجماعةِ تأذَّى بالمطرِ فهو معذورٌ.
والأذيَّة بالمطرِ أن يتأذَّى في بَلِّ ثيابه أو ببرودة الجَوِّ، أو ما أشبه ذلك، وكذلك لو خاف التأذِّي بوَحْلٍ، وكان النَّاسُ في الأول يعانون مِن الوحلِ؛ لأن الأسواقَ طين تربصُ مع المطر فيحصُلُ فيها الوَحْلُ والزَّلَقُ، فيتعبُ الإِنسانُ في الحضور إلى المسجدِ، فإذا حصلَ هذا فهو معذورٌ، وأما في وقتنا الحاضرِ فإن الوَحْلَ لا يحصُل به تأذٍّ لأنَّ الأسواقَ مزفَّتة، وليس فيها طين، وغاية ما هنالك أن تجدَ في بعض المواضع المنخفضة مطراً متجمِّعاً، وهذا لا يتأذَّى به الإِنسانُ لا بثيابه ولا بقدميه، فالعُذرُ في مثل هذه الحال إنما يكون بنزولِ المطرِ فإذا توقَّفَ المطرُ فلا عُذر، لكن في بعض القُرى التي لم تُزفَّت يكون العُذرُ موجوداً، ولهذا كان منادي الرسول صلى الله عليه وسلم ينادي في الليلةِ الباردةِ أو المطيرة: ألا صَلُّوا في الرِّحالِ» .
وفُهِمَ مِن قوله: «أو أذًى بمطرٍ» أنه إذا لم يتأذَّ به بأن كان مطراً خفيفاً فإنَّه لا عُذر له، بل يجب عليه الحضورُ، وما أصابه مِن المشقَّةِ اليسيرةِ فإنه يُثابُ عليها.
قوله: «وبريح باردة شديدة في ليلة مظلمة» هذا نوعٌ حادي عشر مِن أعذارِ تَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة، وهو الرِّيحُ، بشروط:(165/150)
الأول: أن تكون الرِّيحُ باردةً؛ لأنَّ الرِّيحَ السَّاخنةَ ليس فيها أذًى ولا مشقَّة، والرِّياحُ الباردةُ بالنسبة لنا في هذه المنطقة هي التي تأتي مِن الشمالِ، لأننا نحن الآن إلى القُطبِ الشّمالي أقربُ منَّا إلى القُطبِ الجنوبي، وفي الجهة الجنوبية مِن الأرض تكون الرياحُ الباردةُ هي التي تأتي مِن الجنوبِ.
الثاني: كونها شديدةً؛ لأنَّ الرِّيحَ الخفيفةَ لا مشقَّةَ فيها ولا أذًى، ولو كانت باردةً، فإذا كانت الرِّياحُ باردةً وشديدةً فهي عُذرٌ بلا شَكٍّ؛ لأنَّها تؤلم أشدَّ مِن ألم المطرِ.
الثالث: أن تكونَ في ليلةٍ مظلمةٍ: وهذا الشرطُ ليس عليه دليلٌ؛ لأنَّ الحديثَ الذي استدلُّوا به وهو حديثُ ابنِ عُمر «في الليلةِ الباردةِ أو المطيرةِ» ليس فيه اشتراطُ أن تكونَ الليلةُ مظلمةً، ولأنَّه لا أثرَ للظُّلمةِ أو النور في هذا الأمر، فالظُّلمةُ لا تزيد مِن برودة الجَوِّ، والصَّحو لا يزيد مِن سخونةِ الجو في الليل.
فالصحيح: أنه إذا وُجِدت ريحٌ باردةٌ شديدةٌ تشُقُّ على النَّاسِ فإنَّه عُذر في تَرْكِ الجُمُعةِ والجَماعة، وهو أَولى مِن العُذرِ للتأذِّي مِن المطر، ويَعرفُ ذلك مَن قاساه، ومع هذا فإن المشقَّة في البردِ يلحقُها مشقَّةٌ أخرى، وهي: أنَّ الغالبَ في البردِ كثرة نزولِ البولِ فيتعب الإِنسانُ منه، فإذا توضَّأ شَقَّ عليه الوُضُوءُ مع البرودةِ، ولا سيَّما في الزَّمنِ السَّابقِ فليس هناك سخَّانات تُسخِّنُ الماء، وأحياناً يكون الماءُ شديدَ البرودةِ جداً، فلهذا نقول: ما دامت العِلَّةُ هي المشقَّة، فإن المشقَّة تحصُل في الرِّيح الباردةِ الشديدةِ، أما الرِّيحُ الخفيفةُ العاديةُ أو الساخنةُ فليس فيها مشقة.
تنبيه: قوله: «في ليلة مظلمة» لا يتأتَّى هذا الشَّرط في الجُمُعةِ، وهو يؤيّد ما ذكرناه مِن عدم اشتراط الليلةِ المظلمةِ. والله أعلم.
مسألة: هل يُعذرُ الإِنسانُ بتطويل الإِمامِ؟(165/151)
الجواب: يُعذرُ بتطويلِ الإِمامِ إذا كان طولاً زائداً عن السُّنَّةِ.
ودليل ذلك: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يوبِّخ الرَّجُلَ الذي انصرفَ مِن صلاتِه حين شَرَعَ معاذٌ في سورة البقرةِ، بل وَبَّخَ معاذاً» ، وإذا لم يوجد مسجدٌ آخر سَقَطَ عنه وجوبُ الجَماعة.
مسألة: هل يُعذرُ بسرعة الإِمام؟
الجواب: أنَّ هذا مِن بابِ أَولى أن يكون عُذراً مِن تطويلِ الإِمامِ، فإذا كان إمامُ المسجدِ يُسْرِعُ إسراعاً لا يتمكَّنُ به الإِنسانُ مِن فِعْلِ الواجبِ، فإنَّه معذورٌ بتَرْكِ الجماعةِ في هذا المسجدِ، لكن؛ إن وُجِدَ مسجدٌ آخرٌ تُقامُ فيه الجماعةُ وجبت عليه الجماعةُ في المسجدِ الثاني.
مسألة: إذا كان الإِمامُ فاسقاً بحَلْقِ لحيتِه، أو شُرْبِ الدُّخَّان، أو إسبالِ ثوب، فهل هذا عُذر في تَرْكِ الجماعةِ؟
الجواب: إنْ قلنا بأنَّ الصَّلاةَ خلفَه لا تَصِحُّ كما هو المذهب فهو عُذرٌ، وأما إذا قلنا بصحَّةِ الصَّلاةِ خلفَه _ وهو الصَّحيح _ فإنَّ ذلك ليس بعُذرٍ؛ لأنَّ الصَّلاةَ خلفَه تَصِحُّ وأنت مأمورٌ بحضورِ الجماعةِ.
مسألة: إذا كان الإِنسانُ مجرماً، وخافَ إن خَرَجَ أن تمسِكَه الشرطةُ، فهل هو عُذرٌ؟
الجواب: ليس بعُذرٍ؛ لأنَّه حَقٌّ عليه، أما إذا كان مظلوماً فإنَّه عُذرٌ.
مسألة: إذا كان في طريقِه إلى المسجدِ منكراتٌ كتبرُّجِ النِّساءِ، وشُرْبِ الخَمْر، وشُرْبِ الدُّخَّان، وما أشبه ذلك، فهل هذا عُذر؟
الجواب: ليس بعذر فيخرجُ، وينهى عن المنكرِ ما استطاع، فإن انتهى النَّاسُ فله ولهم، وإن لم ينتهوا فله وعليهم.(165/152)
مسألة: إذا طرأت هذه الأعذارُ في أثناءِ الصَّلاةِ، فمثلاً: في أثناءِ الصَّلاةِ أصابه مدافعةُ الأخبثين؛ فله أنْ ينفردَ ويتمَّ صلاتَه إلا إذا كان لا يستفيدُ بانفرادِه شيئاً، بمعنى أن الإِمام يخفِّفُ تخفيفاً بقَدْرِ الواجبِ، ففي هذه الحال لو انفردَ لم يستفدْ شيئاً؛ إذ لا يمكن أن يخفِّفَ أكثر مِن تخفيفِ الإِمامِ.
وهل له أن يقطعَ الصَّلاة؟
الجواب: نعم، له أنْ يقطعَ الصَّلاةَ؛ إذا كان لا يمكنه أن يكمِلها على الوجه المطلوبِ منه، إلا إذا كان لا يستفيدُ مِن قطعِها شيئاً؛ فإنه لا يقطعها، مثاله: لو سمعَ الغريمَ يدعوه في أثناءِ الصَّلاةِ، ففي هذه الحال لو انصرفَ لأمسكَه، فلا يستفيد بقطعِ الصَّلاةِ شيئاً؛ فلا يقطعها.
مسألة: هل هذه الأعذارُ عُذرٌ في إخراج الصَّلاةِ عن وقتِها؟
الجواب: ليست عُذراً، فعلى الإِنسان أن يصلِّيها في الوقت على أيِّ حالٍ كانت، إلا أنَّ بعضَ أهلِ العِلم قال: إنَّ مدافعةَ الأخبثين عُذرٌ في إخراجِ الصَّلاةِ عن وقتِها؛ وذلك لأنَّ حَبْسَ الأخبثينِ، يكون به ضررٌ على الإِنسانِ، وبعضُ النَّاسِ أيضاً يَحسُّ إذا حبس الأخبثين، ولا سيما البول بخفقان شديدٍ في القلب فيخشى على نفسه منه، ولكننا نقول: إذا كانت هذه الأعذارُ في الصَّلاة الأُولى التي تُجمع لما بعدَها، فإن هذه الأعذار تُبيحُ الجَمْعَ، وهذه فائدةٌ مهمَّةٌ، فالأعذارُ التي تُبيحُ تَرْكَ الجُمُعةِ والجَماعةِ تُبيحُ الجَمْعَ. وحينئذٍ إذا حصلت لك في وقتِ الصَّلاةِ الأُولى فتنوي الجَمْعَ، وتؤخِّرُ الصَّلاةَ إلى وقتِ الثانيةِ؛ لعمومِ حديث عبد الله بن عبَّاس «جَمَعَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم في المدينةِ بين الظُّهرِ والعصرِ، وبين المغربِ والعشاءِ مِن غير خوفٍ ولا مطرٍ، قالوا: ماذا أرادَ بذلك؟ قال: أرادَ أن لا يُحْرِجَ أُمَّتَهُ» أي: أنْ لا يَلحقها الحَرَجُ في تَرْكِ الجَمْعِ.(165/153)
مسألة: الآكلُ للبصلِ؛ هل يُعذرُ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعةِ؟
وهل يجوزُ له أنْ يأكلَ البصلَ أم لا؟
الجواب: إنْ قَصَدَ بأكلِ البصلِ أنْ لا يُصلِّيَ مع الجماعةِ فهذا حرامٌ ويأثمُ بتَرْكِ الجمعة والجماعة، أما إذا قَصَدَ بأكلِهِ البصلَ التمتُّعَ به وأنَّه يشتهيه، فليس بحرامٍ، كالمسافر في رمضان إذا قصد بالسَّفَرِ الفِطْر حَرُمَ عليه السَّفَرُ والفِطر، وإنْ قَصَدَ السَّفَرَ لغرضٍ غيرِ ذلك فله الفِطْر.
وأما بالنسبة لحضُورِه المسجدَ؛ فلا يحضُرُ، لا لأنه معذورٌ، بل دفعاً لأذيَّتِهِ؛ لأنَّه يؤذي الملائكةَ وبني آدم.
أما الأعذارُ التي ذكرها المؤلِّفُ فهي أعذارٌ تُسوِّغُ للإِنسانِ أن يَدَعَ الجُمُعةَ والجماعةَ؛ لأنَّه متَّصفٌ بما يُعذرُ به أمامَ الله، أما مَن أكلَ بصلاً أو ثوماً فلا نقولُ إنَّه معذورٌ بتَرْكِ الجُمُعةِ والجماعة، ولكن لا يحضُر دفعاً لأذيته، فهنا فَرْقٌ بين هذا وهذا، لأن هذا المعذورَ يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ كاملاً إذا كان مِن عادتِه أن يصلِّي مع الجماعةِ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا مَرِضَ العبدُ أو سافرَ كُتِبَ له مثلُ ما كان يعملُ صحيحاً مقيماً» أما آكلُ البصلِ والثُّومِ فلا يُكتب له أجرُ الجماعةِ؛ لأننا إنما قلنا له لا تحضر دفعاً للأذية؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الملائكةَ تتأذَّى مما يتأذَّى منه بنو آدم» .(165/154)
مسألة: إذا كان فيه بَخْرٌ، أي: رائحةٌ منتنةٌ في الفَمِ، أو في الأنفِ أو غيرهما تؤذي المصلِّين، فإنَّه لا يحضرُ دفعاً لأذيَّتِه، لكن هذا ليس كآكلِ البصلِ؛ لأنَّ آكلَ البصلِ فَعَلَ ما يتأذَّى به النَّاسُ باختيارِه، وهذا ليس باختيارِه، وقد نقول: إنَّ هذا الرَّجُلَ يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ؛ لأنَّه تخلَّفَ بغير اختيارِه فهو معذورٌ. وقد نقول: إنه لا يُكتبُ له أجرُ الجماعةِ؛ لكنه لا يأثمُ، كما أنَّ الحائضَ تتركُ الصَّلاةَ بأمره اللهِ ومع ذلك لا يُكتب لها أجرُ الصَّلاةِ فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم جَعَلَ تَرْكَها للصَّلاةِ نقصاً في دينِها .
مسألة: مَن شَرِبَ دُخَّاناً وفيه رائحةٌ مزعجةٌ تؤذي النَّاسَ، فإنَّه لا يَحِلُّ له أنْ يؤذيهم، وهذا لعلَّه يكون فيه فائدةٌ، وهي أنَّ هذا الرَّجُلَ الذي يشربُ الدُّخَّانَ لما رأى نفسَه محروماً مِن صلاةِ الجماعةِ يكون سبباً في توبته منه وهذه مصلحة.
مسألة: مَن فيه جروحٌ منتنةٌ، وهذا في الزَّمنِ الماضي؛ لعدم وجودِ المستشفيات، فله أن يتخلَّفَ عن الجُمُعةِ والجَماعةِ، ولكن لا نقول: إنه عُذرٌ كعُذرٍ المريض وشبهه، إلا إذا كان يتأخَّرُ عن صلاةِ الجماعةِ خوفاً مِن ازديادِ ألمِ الجُرحِ، لأنَّ الرَّوائحَ أحياناً تؤثِّرُ على الجُروحِ وتزيدها وَجَعاً، فهذا يكون معذوراً، ويدخل في قسم المريض.(165/155)
الشرح الممتع - الجزء الرابع
باب أهل الأعذار
محمد بن صالح العثيمين
باب أهل الأعذار
الأعذار: جمْعُ عُذْرٍ، والمراد بها، هنا: المرض، والسَّفَر، والخوف، فهذه هي الأعذار التي تختلف بها الصَّلاةُ عند وجودِها.
واختلافُ الصَّلاةِ هيئةً أو عدداً بهذه الأعذار مأخوذٌ مِن قاعدة عامَّةٍ في الشريعة الإِسلامية، وهي قوله تعالى: )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: من الآية185)، وقوله تعالى: ) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: من الآية78)، وقوله: )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )(البقرة: من الآية286)] . فكلَّما وُجِدت المشقَّة وُجِدَ التيسير، ومِن القواعدِ المعروفةِ عند الفقهاءِ: أنَّ المشقَّةَ تجلبُ التيسيرَ.
قوله: «تلزم المريض» المريض: بالنَّصبِ؛ لأنه مفعولٌ به مقدَّمٌ على الفاعلِ، والفاعلُ قوله: «الصلاة» كقوله تعالى: )وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّه)(البقرة: من الآية124)والمريضُ: هو الذي اعتلَّتْ صحتُه، سواءٌ كانت في جزء مِن بدنِه، أو في جميع بدنِه. فمنِ اشتكى عينُه فهو مريضٌ، ومَن اشتكى إصبعُه فهو مريضٌ، ومَن أخذته الحُمَّى فهو مريضٌ. فإذاً؛ المرضُ اعتلالُ صحَّة البَدَن، سواءٌ كان ذلك كلياً، أم جزئياً. والاعتلالُ الجزئيُّ يكونُ منه الاعتلالُ الكُلّيُّ لقوله صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسدِ الواحدِ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائرُ الجسدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى» .
قوله: «الصَّلاة قائماً» : المرادُ بـ«أل» هنا العهد الذهني، وهي الصَّلاة المفروضةُ؛ وذلك لأنَّ صلاةَ النافلةِ لا تلزم الإِنسانَ المريضَ ولا غير المريضِ قائماً، إذ إنَّه يجوزُ للإِنسانِ أن يتنفَّلَ وهو جالسٌ. لكن؛ إنْ كان لعُذرٍ أخذ الأجرَ كلَّه، وإنْ كان لغير عُذرٍ أخذَ نصفَ الأجرِ.(166/1)
وقوله: «قائماً» أي: واقفاً، وظاهره: أنه ولو كان مثل الرَّاكعِ، أو كان معتمداً على عصا أو جدارٍ أو عمودٍ أو إنسانٍ، فمتى أمكنه أن يكون قائماً وَجَبَ عليه على أيِّ صِفةٍ كان.
والذي كالرَّاكعِ مثل: أن يكون في ظهرِه مَرَضٌ لا يستطيعُ أن يَمُدَّ ظهرَه قائماً فهنا يصلِّي ولو كراكعٍ.
والذي يَعتمدُ كالشخصِ الضعيفِ الذي ليس عندَه قوةٌ، فلا يستطيعُ أن يقفَ إلا معتمداً على عصاً أو معتمداً على جدارٍ أو عمودٍ، أو إنسانٍ؛ يصلِّي قائماً ولو معتمداً.
ولكن؛ لا يجزئ القيامُ باعتمادٍ تامٍ مع القدرةِ على عدمِه، والاعتمادُ التامُّ هو الذي لو أُزيل العُمدةُ لسقط المعتمدُ؛ لأنَّ الذي يقومُ معتمداً على شيءٍ اعتماداً كاملاً، كأنه غيرُ قائمٍ لا يجدُ مشقَّةَ القيامِ، لكن لو فُرِضَ أن شخصاً إما أن يقومَ معتمداً، وإما أن يجلسَ فنقول: قُمْ معتمداً على عصاً، أو جدار، أو عمودٍ، أو إنسانٍ، ولهذا قال المؤلف: «قائماً» وأطلق.
قوله: «فإن لم يستطع» ، أي: إن لم يكن في طوعِهِ القيامُ، وذلك بأن يعجزَ عنه فإنَّه يصلِّي قاعداً، لقوله تعالى: {)فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(التغابن: من الآية16) } [التغابن: 16] وقوله: { لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا } [البقرة: 286] وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صَلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً» ، فالدَّليلان الأولان عامَّان، والثالث خاصٌّ في نفس الصَّلاةِ.
وقوله: «فإن لم يستطع» ظاهره: أنه لا يُبيحُ القعودَ إلا العجزُ، وأما المشقَّةُ فلا تُبيح القعودَ.(166/2)
ولكن؛ الصَّحيحُ: أنَّ المشقَّةَ تُبيحُ القعودَ، فإذا شَقَّ عليه القيامُ صلَّى قاعداً؛ لقوله تعالى:)يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } [البقرة: 185] وكما لو شَقَّ الصَّومُ على المريضِ مع قدرتِه عليه فإنه يُفطِرُ، فكذلك هنا إذا شَقَّ القيامُ فإنه يصلِّي قاعداً، ولكن ما ضابطُ المشقَّة؟؛ لأن بعضَ النَّاسِ أحياناً يكون في تَعَبٍ وسَهَرٍ، فيشقُّ عليه القيامُ.
الجواب: الضَّابطُ للمشقَّةِ: ما زالَ به الخشوع؛ والخشوعُ هو: حضورُ القلبِ والطُّمأنينةُ، فإذا كان إذا قامَ قَلِقَ قلقاً عظيماً ولم يطمئنَّ، وتجده يتمنَّى أن يصلِ إلى آخر الفاتحةِ ليركعَ مِن شدَّةِ تحمُّلهِ، فهذا قد شَقَّ عليه القيامُ فيصلي قاعداً.
ومثل ذلك الخائفُ فإنَّه لا يستطيعُ أن يصلِّي قائماً، كما لو كان يصلِّي خلفَ جدارٍ وحولَه عدوٌّ يرقبه، فإنْ قامَ تبيَّن مِن وراءِ الجدارِ، وإن جلسَ اختفى بالجدارِ عن عدوِّه، فهنا نقول له: صَلِّ جالساً.
ويدلُّ لهذا قوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً } [البقرة: 239] فأسقطَ اللهُ عن الخائفِ الرُّكوعَ والسُّجودَ والقعودَ، فكذلك القيامُ إذا كان خائفاً.
وقوله: «فقاعداً» أي: جالساً، ولكن؛ كيف يجلسُ؟
يجلس متربِّعاً على أليتيه، يكفُّ ساقيه إلى فخذيه ويُسمَّى هذا الجلوسُ تربُّعاً؛ لأنَّ السَّاقَ والفخذَ في اليمنى، والسَّاقَ والفخذ في اليُسرى كلَّها ظاهرة، لأن الافتراش تختفي فيه الساق في الفخذ، وأما التربُّع فتظهرُ كلُّ الأعضاءِ الأربعةِ.
وهل التربع واجب؟
لا، التربُّع سُنَّةٌ، فلو صَلَّى مفترشاً، فلا بأسَ، ولو صَلَّى محتبياً فلا بأس؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنْ لم تستطعْ فقاعداً» ولم يبينْ كيفيَّة قعودِه.
فإذا قال إنسانٌ: هل هناك دليلٌ على أنه يصلِّي متربِّعاً؟(166/3)
فالجواب: نعم؛ قالت عائشة: «رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يُصلِّي متربِّعاً» ، ولأن التربُّعَ في الغالبِ أكثرُ طمأنينةً وارتياحاً مِن الافتراشِ، ومن المعلومِ أنَّ القيامَ يحتاجُ إلى قِراءةٍ طويلةٍ أطول مِن قول: «ربِّ اغفِرْ لي وارحمني» فلذلك كان التربُّع فيه أَولى؛ ولأجل فائدة أخرى وهي التَّفريقُ بين قعودِ القيامِ والقعودِ الذي في محلِّه، لأننا لو قلنا يفترشُ في حالِ القيام لم يكن هناك فَرْقٌ بين الجلوسِ في محلِّه وبين الجلوسِ البَدَلي الذي يكون بَدَلَ القيامِ.
وإذا كان في حالِ الرُّكوعِ قال بعضُهم: إنه يكون مفترِشاً، والصَّحيح: أنه يكون متربِّعاً؛ لأنَّ الرَّاكعَ قائمٌ قد نَصَبَ ساقيه وفخذيه، وليس فيه إلا انحناء الظَّهر فنقول: هذا المتربِّعُ يبقى متربِّعاً ويركع وهو متربِّعٌ، وهذا هو الصَّحيحُ في هذه المسألةِ.
قوله: «فإن عجز» هنا قال: «فإن عجز»، وفي الأول قال: «فإن لم يستطع»، ولا فَرْقَ بينهما إلا في اللفظ، فهو اختلافُ تعبيرٍ.
قوله: «فعلى جنبه» أي الجنبين؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «فإن لم تستطع فعلى جنب» ولم يبيّن أيَّ الجنبين يكون عليه، فنقول: هو مخيَّرٌ على الجَنْبِ الأيمن أو على الأيسر.
والأفضلُ أن يفعلَ ما هو أيسرُ له، فإن كان الأيسرُ أن يكون على جَنْبِهِ الأيسر فهو أفضل، وإن كان بالعكس فهو أفضلُ؛ لأن كثيراً من المرضى، ولا سيَّما المرضى بذات الجَنْبِ، يكون اضطجاعُهم على أحدِ الجنبين أخفَّ عليهم مِن الاضطجاعِ على الجَنْبِ الآخر. فإذاً؛ يفعل ما هو أيسر وأسهل له، لأن المقامَ مقامُ رُخصةٍ وتسهيل، فإن تساوى الجنبان فالجنب الأيمن أفضل؛ لحديث وَرَدَ في ذلك ، وهو ضعيف. لكن؛ كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبُه التيامن في تنعُّلِه وترجُّلِهِ وطُهوره وفي شأنِه كله .
قوله: «فإن صلى» أي: المريض.
قوله: «مستلقياً» أي: على ظهره.(166/4)
قوله: «ورجلاه إلى القبلة صح» أي: صَحَّ هذا الفعلُ، أي: مع قدرته على الجنب، لكنه خِلافُ السُّنَّةِ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإنْ لم تستطع فعلى جَنْبٍ» وإذا كان مستلقياً ورِجلاه إلى القِبلةِ فأين يكون رأسُه؟
يكون إلى عكس القِبلة إلى الشَّرقِ إنْ كانت القبلةُ غرباً، وإلى الغربِ إن كانت القِبلةُ شرقاً، قالوا: لأنَّ هذا أقربُ ما يكون إلى صفة القائمِ، فهذا الرَّجُل لو قام تكون القِبلةُ أمامَه، فلهذا يكون مستلقياً ورِجلاه إلى القِبلة.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنه يَصِحُّ مع القُدرة على الجَنْبِ.
والقول الثاني: أنه لا يَصِحُّ مع القُدرةِ على الجَنْبِ؛ لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لعُمرانَ بن حُصين: «فإنْ لم تستطعْ فعلى جَنْبٍ» وهذه هيئةٌ منصوصٌ عليها مِن قِبَلِ الشَّرعِ، وتمتاز عن الاستلقاء بأن وَجْهَ المريض إلى القِبلة، أما الاستلقاءُ فوجه المريض إلى السَّماءِ، فهو على الجَنْبِ أقربُ إلى الاستقبال. وهذا القول هو الرَّاجحُ.
وظاهرُ كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه إنْ صَلَّى مستلقياً ورأسُه إلى القِبلة، لا تَصِحُّ صلاتُه؛ لأنَّه لو قامَ لكان مستدبِراً للقِبلةِ.
وكذلك لو صَلَّى مستلقياً ورِجْلاه إلى يسارِ القِبلةِ أو يمين القِبلةِ لا تصِحُّ، لأنه لو قامَ لكانت القِبلةُ عن يمينه أو عن يسارِه، فلا بُدَّ إذن أن تكونَ رِجلاه إلى القِبلةِ. وخِلافُ ذلك أن تكون رِجلاه إلى عكس القِبلةِ، أو إلى يمين القِبلةِ، أو إلى يسارِ القِبلةِ، ففي هذه الصُّور الثَّلاث لا تصِحُّ صلاتُه، فصار ترتيبُ صلاةِ المريضِ كما يلي:(166/5)
يصلِّي قائماً، فإنْ لم يستطعْ فقاعداً، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ، فإنْ لم يستطع فمستلقياً ورِجلاه إلى القِبلةِ، فهذه هي المرتبةُ الرابعةُ على القولِ الرَّاجحِ، أما على كلامِ المؤلِّفِ فإنَّها في مرتبة الصَّلاةِ على الجَنْبِ فتدخلُ في المرتبة الثالثة لكنها مفضولةٌ. والصَّحيحُ: أنَّها مرتبة رابعةٌ مستقلَّةٌ، لا تَصِحُّ إلا عند العجزِ عن المرتبةِ الثالثةِ.
قوله: «ويومئ» أي: المريض المصلِّي جالساً راكعاً وساجداً، أي: في حالِ الرُّكوعِ والسُّجودِ ويخفضه، أي: السجود عن الركوع، أي: يجعل السُّجودَ أخفضَ، وهذا فيما إذا عَجَزَ عن السُّجُودِ، أما إذا قَدِرَ عليه فيومئ بالرُّكوعِ ويسجد؛ لقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] فإن لم يستطعْ أومأ بالسُّجودِ، مثل: أن يكون المرضُ في عينه، وقال الطبيب له: لا تسجدْ، أو يكون في رأسه، وإذا نَزَلَ رأسُه اشتدَّ الوجعُ وقَلِقَ به، فنقول: هنا تومئ بالسُّجودِ، وتجعل السُّجودَ أخفضَ مِن الركوع؛ ليتميّز السجودُ عن الركوعِ، ولأن هذا هو الحال فيمن كان قادراً، فإنَّ الساجدَ يكون على الأرضِ والراكعَ فوق، هذا إذا كان جالساً.
فإن كان مضطجعاً على الجنبِ فإنَّه يومئ بالرُّكوعِ والسُّجودِ، ولكن كيف الإِيماءُ؟ هل إيماءٌ بالرأسِ إلى الأرضِ بحيث يكون كالملتفت، أو إيماء بالرأس إلى الصدر؟
الجواب: أنه إيماءٌ بالرأسِ إلى الصدرِ؛ لأنَّ الإِيماءَ إلى الأرضِ فيه نوعُ التفاتٍ عن القِبلةِ، بخلاف الإِيماءِ إلى الصدرِ، فإن الاتجاه باقٍ إلى القِبْلة، فيومئُ في حال الاضطجاعِ إلى صَدْرِه قليلاً في الركوع، ويومئُ أكثرَ في السُّجودِ.(166/6)
قوله: «فإن عجز أومأ بعينه» يعني: إذا صار لا يستطيعُ أنْ يومئَ بالرأسِ فيومئُ بالعينِ، فإذا أرادَ أنْ يركعَ أغمضَ عينيه يسيراً، ثم إذا قال: «سَمِعَ اللهُ لمَن حمِده» فتح عينيه، فإذا سَجَدَ أغمضهما أكثر، وفيه حديثٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «فإنْ لم يستطعْ أومأ بطَرْفِهِ» لكن هذا الحديثُ ضعيفٌ، ولهذا لم يذهب إليه كثيرٌ مِن العلماءِ، وقالوا: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ سقطت عنه الأفعالُ.
وقال بعض العلماء: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ سقطت عنه الصَّلاةُ، فهنا ثلاثةُ أقوال:
القول الأول: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ يومئُ بعينِه.
القول الثاني: تسقطُ عنه الأفعالُ، من دونِ الأقوالِ.
القول الثالث: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، يعني: لا تجبُ عليه الصَّلاةُ أصلاً، وهذا القولُ اختيارُ شيخ الإِسلام ابن تيمية .
والرَّاجحُ مِن هذه الأقوال الثلاثة: أنه تسقطُ عنه الأفعالُ فقط؛ لأنها هي التي كان عاجزاً عنها، وأما الأقوالُ فإنَّها لا تسقطُ عنه، لأنه قادرٌ عليها، وقد قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] فنقول: كَبِّرْ، واقرأْ، وانْوِ الرُّكوعَ، فكبِّرْ وسبِّحْ تسبيحَ الرُّكوعِ، ثم انْوِ القيامَ وقُلْ: «سَمِعَ الله لمن حمِدَه، ربَّنا ولك الحمدُ» إلى آخرِه، ثم انْوِ السُّجودَ فكبِّرْ وسبِّحْ تسبيحَ السُّجودِ؛ لأن هذا مقتضى القواعد الشرعيَّةِ { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] فإن عَجَزَ عن القولِ والفعلِ بحيث يكون الرَّجُلُ مشلولاً ولا يتكلَّم، فماذا يصنع؟(166/7)
الجواب: تسقط عنه الأقوالُ والأفعالُ، وتبقى النِّيةُ، فينوي أنَّه في صلاةٍ، وينوي القراءةَ، وينوي الركوعَ والسجودَ والقيامَ والقعودَ. هذا هو الرَّاجحُ؛ لأن الصَّلاةَ أقوالٌ وأفعالٌ بنيَّةٍ، فإذا سقطت أقوالُها وأفعالُها بالعجزِ عنها بقيت النِّيةُ، ولأن قولنا لهذا المريض: لا صلاةَ عليك قد يكون سبباً لنسيانه الله، لأنه إذا مرَّ عليه يومٌ وليلةٌ وهو لم يُصلِّ فربَّما ينسى اللهَ ، فكوننا نشعرُه بأن عليه صلاةً لا بُدَّ أن يقومَ بها ولو بنيَّةٍ خيرٌ مِن أن نقول: إنَّه لا صلاةَ عليه. والمذهب في هذه المسألة أصحُّ مِن كلامِ شيخِ الإِسلامِ ابن تيمية ، حيث قالوا: لا تسقطُ الصَّلاةُ ما دام العقلُ ثابتاً، فما دام العقلُ ثابتاً فيجبُ عليه مِن الصَّلاةِ ما يقدِرُ عليه منها.
تنبيه: بعض العامة يقولون: إذا عَجَزَ عن الإِيماءِ بالرَّأسِ أومأَ بالإِصبعِ، فينصب الأصبعَ حالَ القيام ويحنيه قليلاً حالَ الركوعِ ويضمُّه حالَ السُّجودِ لأنه لما عَجَزَ بالكلِّ لزمه بالبعض، والإصبع بعضٌ مِن الإِنسانِ، فإذا عَجَزَ جسمُه كلُّه فليكن المصلِّي الإِصبع، والسَّبَّابةُ أَولى؛ لأنها التي يُشار بها إلى ذِكْرِ الله ودُعائِه، فلو أومأ بالوسطى فقياس قاعدتهم أنَّ الصلاةَ لا تصِحُّ؛ لأن السَّبَّابةَ هي المكلَّفة بأن تصلِّي، وهذا لا أصلَ له، ولم تأتِ به السُّنَّةُ، ولم يقلْه أهلُ العِلمِ، ولكن _ سبحان الله _ مع كونِه لم يقلْه أحدٌ مِن أهلِ العِلم فيما نعلمُ فمشهورٌ عندَ العامةِ، فيجب على طلبةِ العلمِ أن يبيِّنوا للعامة بأن هذا لا أصلَ له، فالعين وهي محلُّ خِلافٍ بين العلماء سبق لنا أن الصَّحيح أنه لا يصلِّي بها فكيف بالإصبع الذي لم تردْ به السُّنَّةُ لا في حديثٍ ضعيفٍ ولا صحيحٍ؟ ولم يقلْ به أحدٌ مِن أهلِ العِلم فيما نعلم.(166/8)
مسألة: لو كان يعجَزُ عن القيامِ في جميعِ الركعةِ، لكن في بعضِ القيامِ يستطيع أن يقفَ نصفَ القراءة، فهل نقول: ابدأ الصَّلاةَ قاعداً، ثم إذا قاربت الركوعَ فَقُمْ، أو نقول: ابتدئِها قائماً فإذا شَقَّ عليك فاجلسْ؟
إذا نظرنا إلى فِعْلِ الرسول صلى الله عليه وسلم في قيام الليل أنَّه لما كَبِرَ عليه الصَّلاة والسلام صار يقومُ الليلَ جالساً، فإذا بقيَ عليه مِن السُّورةِ ثلاثون أو أربعون آيةً قامَ فقرأهنَّ ثم رَكَعَ . قلنا: السُّنَّةُ أن يبتدئَها قاعداً ثم يقومُ. وإذا نظرنا إلى أن القيامَ في الفريضةِ رُكْنٌ قلنا: ابدأ بالرُّكنِ أولاً، ثم إذا شَقَّ عليك فاجلسْ بناءً على القاعدةِ { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] .
ونقول أيضاً: ربَّما يَظنُّ أنّه يَشقُّ عليه ثم لا يَشقُّ ويُعان عليه، وربَّما يتمكَّن مِن قراءةِ الفاتحةِ ويركع وإن لم يقرأ ما بعدَها مِن السُّور، وهذه المسألةُ تحتاج إلى تحريرٍ، فمَن نظر إلى فِعْلِ الرسول صلى الله عليه وسلم في قيامِ الليلِ رجَّح أن يصلِّي جالساً، فإذا قاربَ الرُّكوع قامَ، ومَن نَظَرَ إلى أن القيام رُكْنٌ، قال: الأَولى أن يبدأَ بالرُّكنِ فيقومُ فإذا تعب جَلَسَ وتتميز الصفة الأُولى بأنه يتمكَّنُ مِن الركوع؛ بخلاف الثانية فإنَّه يركع بالإِيماء.
قوله: «فإن قَدر أو عجز في أثنائها انتقل إلى الآخر» إن قَدِرَ المريضُ في أثناءِ الصَّلاةِ على فِعْلٍ كان عاجزاً عنه انتقل إليه.(166/9)
مثاله: رَجُلٌ مريضٌ عَجَزَ عن القيامِ فشرعَ في الصَّلاةِ قاعداً، وفي أثناءِ الصَّلاةِ وَجَدَ مِن نفسِه نشاطاً فنقول له: قُمْ بناءً على القاعدةِ { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] «صلِّ قائماً فإن لم تستطع فقاعداً» وبالعكس فإذا كان في أول الصَّلاةِ نشيطاً فَشَرَعَ في الصَّلاةِ قائماً، ثم تعبَ فجلسَ، نقول: لا بأسَ للآية الكريمة: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] وللحديث: «صَلِّ قائماً فإنْ لم تستطعْ فقاعداً»، وهذا يشمَلُ ما إذا كان العجزُ ابتداءً أو طارئاً.
مسألتان:
المسألة الأولى: لو أتمَّ قراءةَ الفاتحةِ وهو قائمٌ مِن القعودِ في حالِ نهوضِه فهل يجزئه؟
مثاله: مريضٌ يصلِّي قاعداً، فلما وَصَلَ إلى قوله تعالى: { )إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) وَجَدَ مِن نفسِه نشاطاً فقام، وفي أثناء قيامه قرأ: { )اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة:6)
المسألة الثانية: لو أتمَّها وهو عاجزٌ عن القيامِ حالَ هبوطِه فهل يجزئه؟
مثاله: إنسانٌ يصلِّي قائماً، وفي أثناء القيامِ لما وَصَلَ إلى قوله تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) تعب فنزلَ، وفي أثناء نزوله قرأ: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ }.
قال الفقهاء: أما في المسألة الأُولى فلا تجزئِه؛ لأنه لما قَدِرَ على القيام صار القيام فرضاً، والفاتحةُ يجب أن تُقرأ وهو قائمٌ إذا كان قادراً على القيام، وقد قرأها في حالِ نهوضِه، والنهوضُ دون القيامِ.
أما في المسألة الثانية فتجزئه؛ لأنَّ حالَ الهبوطِ أعلى مِن حالِ القعودِ.(166/10)
ولكن؛ لو قيل: إنَّ قولَه تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] يشمَلُ الصُّورةَ الأُولى؛ لأنَّ الرَّجُلَ الذي قَدِرَ في أثناء الجلوسِ على القيامِ، نهوضُه هذا هو غايةُ قدرتِه، فإذا كان نهوضُه غايةَ قدرتِه، فقد قرأ الفاتحةَ في الحال التي هي قدرتُه فتجزئه، وهذا أقربُ؛ ولأنَّ الرَّجُلَ الآن شارعٌ فيما يجب عليه، فهذا الشروعُ ثابتٌ بأمرِ الله، فإذا قرأ أجزأه، ولكن احتياطاً لهذا الأمر نقول: إذا قدرتَ على القيامِ فاسكت لا تقرأ حتى تستتمَّ قائماً ثم أكمل.
قوله: «وإن قدر على قيام وقعود، دون ركوع وسجود أومأ بركوع قائماً، وبسجود قاعداً» أي: إنْ قَدِرَ المريضُ على القيامِ، لكن لا يستطيع الركوعَ، إما لمرضٍ في ظهرِه، وإما لوجعٍ في رأسِه، وإما لعمليةٍ في عينه، أو لغير ذلك، ففي هذه الحال نقول له: صَلِّ قائماً وأومئ بالرُّكوعِ قائماً.
والدليلُ قوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] .
وكذلك إذا كان يستطيعُ أنْ يجلسَ؛ لكن لا يستطيع أن يسجدَ نقول: اجلسْ وأومئْ بالسُّجودِ؛ لقوله تعالى: { }، وهذا يحتاجُ الإِنسانُ إليه في الطائرةِ إذا كان السفرُ طويلاً وحان وقتُ الصَّلاةِ، وليس في الطائرةِ مكان مخصَّصٌ للصَّلاةِ، فإنه يصلِّي في مكانِه قائماً؛ بدون اعتماد إذا صارت الطائرةُ مستويةً، وليس فيها اهتزازٌ وإلا فيتمسَّكُ بالكرسي الذي أمامَه، لكن يومئ بالرُّكوعِ قَدْرَ ما يمكن.
والظاهر: أنه لا يستطيع السُّجودَ حسب الطائرات التي نعرفُ، فنقول: اجلسْ على الكرسيِّ، ثم أومئْ إيماءً بالسُّجودِ. كلُّ هذا مأخوذٌ مِن هذه الآية الكريمة: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } فمَن لم يقدِرْ على الرُّكوعِ أومأ به قائماً، ومَن لم يقدِرْ على السُّجودِ أومأ به جالساً.(166/11)
مسألة: إذا كان لا يستطيعُ السُّجودَ على الجبهة فقط؛ لأنَّ فيها جروحاً لا يتمكَّنُ أن يمسَّ بها الأرض، لكن يقدِرُ باليدين وبالركبتين فماذا يصنع؟
الجواب: نأخذ بالقاعدة: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] فيضعُ يديه على الأرضِ ويدنو مِن الأرضِ بقَدْرِ استطاعتِه؛ لقوله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } وأما قولُ مَن قال مِن العلماءِ: إنَّه إذا عَجَزَ عن السُّجودِ بالجبهة لم يلزمه بغيرِها، فهذا قول ضعيفٌ؛ لأننا إذا طبَّقنا الآية الكريمة { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } كانت دالةً على أنه يجب أن يسجدَ على الأرضِ بما استطاعَ مِن أعضائِه، فإذا كان يستطيعُ أن يسجدَ على الكفين وَجَبَ.
ولو فَرَضْنا أنه لا يستطيعُ أن يسجدَ أبداً، بمعنى: لا يستطيعُ أن يحني ظهرَه إطلاقاً فحينئذ لا يلزمه أن يضعَ يديه على الأرضِ؛ لأنه لا يقرب مِن هيئةِ السُّجودِ، أما لو كان يستطيعُ أنْ يدنوَ مِن الأرضِ حتى يكون كهيئة السَّاجدِ، فهنا يجب عليه أنْ يسجدَ، ويُقرِّبَ جبهتَه مِن الأرضِ ما استطاعَ.
مسألة: رَجُلٌ مريضٌ يقول: إنْ ذهبتُ إلى المسجدِ لم أستطعْ القيامَ؛ لأني أَصِلُ إلى المسجدِ وأنا متعبٌ فلا أستطيعُ القيامَ، وإن صلَّيتُ في بيتي صلَّيت قائماً؛ لأني لم أتعبْ ولم تحصُلْ عليَّ مشقَّةٌ. وأيضاً: ربَّما يطوِّلُ الإِمامُ تطويلاً يشقُّ عليَّ، وفي بيتي أصلِّي كما شئتُ، فهل نقول: يجبُ عليك أن تذهبَ إلى المسجدِ ثم تصلِّي ما استطعتَ. أو نقول: يجبُ عليك أن تصلِّي في بيتِك؛ لأنَّ القيامَ رُكنٌ وصلاةُ الجماعةِ واجبة، أو نقول: تخيَّر؛ لأنَّه تعارضَ واجبان؟
للعلماء فيها ثلاثة أقوال:
فمِن العلماءِ مَن قال: إنه يُخيَّر لتعارض الواجبين، واجب الجماعة، وواجب القيام وليس أحدهما أولى بالترجيح مِن الآخر.(166/12)
ومنهم مَن قال: يقدِّم القيامَ، فيصلِّي في بيتِه قائماً؛ لأنَّ القيامَ رُكْنٌ بالاتفاقِ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلِّ قائماً» ، وصلاةُ الجماعةِ أقلُّ وجوباً لما يلي:
أولاً: وجود الخِلاف في وجوبها.
ثانياً: فإذا وجبت هل هي فرضُ كِفاية، أو فرضُ عين.
ثالثاً: إذا كانت فرضَ عينٍ، فهل هي واجبةٌ في الصلاةِ بحيث تبطل الصَّلاةُ بتركها بلا عُذر، أو واجبة للصَّلاةِ تصحُّ الصلاةُ بدونها مع الإِثم.
ومنهم مَن قال: يجب أن يحضر إلى المسجدِ، ثم يصلِّي قائماً إن استطاعَ، وإلا صَلَّى جالساً؛ لأنَّه مأمورٌ بإجابة النِّداء، والنِّداءُ سابقٌ على الصَّلاةِ فيأتي بالسَّابق فإذا وَصَلَ إلى المسجدِ، فإن قَدِرَ صَلَّى قائماً وإلا فلا، وأيضاً: ربَّما يَظنُّ أنه إذا ذهبَ إلى المسجدِ لا يستطيعُ القيامَ، ثم يمدُّه الله بنشاطٍ ويستطيعُ القيامَ.
والذي أميلُ إليه _ ولكن ليس ميلاً كبيراً _ هو أنَّه يجب عليه حضورُ المسجد، ويدلُّ لذلك حديث ابن مسعود الثابت في «صحيح مسلم»: «وكان الرَّجُلُ يُؤتى به يُهادى بين الرَّجلينِ حتى يُقامَ في الصَّفِّ» ومثل هذا في الغالب لا يقدِرُ على القيام وحدَه، فيجب أن يحضرَ إلى المسجدِ، ثم إن قَدِرَ على القيام فذاك، وإنْ لم يقدِرْ فقد قال الله تعالى: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] .
قوله: «ولمريض الصلاة» اللام هنا للإِباحة، واعلمْ أنَّ العلماءَ قد يعبِّرونَ عن الشيءِ بصورةِ المباحِ دفعاً للمنع لا قصداً للإِباحةِ، فالمعنى: أنَّه لا يمتنع عليه، وحينئذٍ لا يمنع أن يكون ذلك أمراً مطلوباً أو أمراً واجباً، ولهذا أمثلة كثيرة.(166/13)
منها قولهم في كتاب الحج: «ولمن أحرم مفرداً أن يجعل إحرامه عمرة ليكون متمتعاً» يعني: له أنْ يفسخُ نِيَّةَ الحجِّ إلى العمرةِ؛ ليكون متمتعاً فيأتي بالعمرة، ثم يَحِلُّ منها، وإذا كان في اليوم الثامن مِن ذي الحجَّة أحرمَ بالحجِّ، ومرادهم بقولهم: «له» دفع المنع وإلا فهو سُنَّةٌ.
فالمهمُّ أنَّهم عبَّروا باللام «له» ومرادهم بذلك دَفْعُ قولِ مَن يقول: إنَّ هذا لا يجوزُ، لأنَّ بعضَ العلماءِ رحمهم الله يقول: لا يجوزُ لمَن أحرمَ بالحَجِّ أن يحوِّلَه إلى عُمرة ليكون متمتعاً، ومع هذا فالذين عبَّروا بقوله: «له» يريدون أنه مستحبٌّ، بل بعضُهم يرى أنَّ مَن أحرمَ بالحَجِّ وليس معه هدي أنه يجب أن يحوِّلَه إلى عُمرة ليصير متمتِّعاً.
قوله: «مستلقياً» يعني: مستلقياً على ظهرِه.
قوله: «مع القدرة على القيام» أي: هو قادر أن يقومَ، لكن قال له الطبيب: لا بُدَّ أن تصلِّيَ مستلقياً ولا تقوم، وهذا يأتي فيما لو كان المرضُ في عينِه فأُجريت له عمليةٌ، وقال له الطبيب: لا بُدَّ أن تكون مستلقياً لمدَّة كذا وكذا، وحينئذٍ نقول: صَلِّ مستلقياً ولو كنت قادراً على القيامِ، وذلك لأمرِ الطبيبِ.
قوله: «بقول طبيب مسلم» اشترط المؤلِّف لجواز الصلاة مستلقياً مع القدرة على القيام أنْ يكون عن قولِ طبيبٍ مسلمٍ فهذان شرطان: أن يكون طبيباً، وأن يكون مسلماً.
والطبيب هو: من يعالج المرضى عن معرفةٍ، والمسلمُ ضِدُّ الكافرِ، فلا بُدَّ أن يكون طبيباً، أي: حاذقاً عنده معرفة، ولا بُدَّ أن يكون مسلماً.(166/14)
فَوَصْفُ الإِسلامِ يعودُ إلى الأمانةِ، ووَصْفُ الطِّبِّ يعودُ إلى القوة، وهما الرُّكنان في كُلِّ عَمَلٍ، قال الله تعالى: )إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)(القصص: من الآية26) قالته إحدى بنتي صاحبِ مَدْيَن، وقال عِفريتٌ مِن الجنِّ لسليمان: )أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)(النمل: من الآية39)لأنَّ الضعيفَ لا يقوم بعملٍ لضعفِهِ، والخائنُ لا يقومُ بالعملِ لخيانتِهِ، فلا بُدَّ في كُلِّ عَمَلٍ مِن هذين الركنين.
وعُلِمَ مِن كلامِ المؤلِّفِ: أنَّه لو أمرَه بذلك غيرُ طبيب، يعني: أمرَه إنسانٌ عادي مِن الناس، قال له: أظنُّ أنك إذا قمت تصلِّي قائماً فإن ذلك يضرُّك. فلا يرجع إلى قوله، ولكن هذا ليس على إطلاقه، لأنه إذا عَلِمَ بالتجربة أن مثل هذا المرض يضرُّ المريضَ إذا صلَّى قائماً فإنه يعمل بقول شخص مجرِّبٍ، لأنَّ أصلَ الطِّبِّ مأخوذٌ إما عن طريق الوحي، وإما عن طريق التجربة، فطريقُ الوحي مثل قوله تعالى في النحل: )يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاس)(النحل: من الآية69)ومثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: «الحبة السوداء شفاء من كل داء إلا السام» الحبةُ السوداء: التي تُسمَّى عندنا السميراء «إلا السام» يعني: إلا الموت.
وكثيرٌ مِن الأدويةِ معلومةٌ بالتجاربِ، فإذا قال إنسانٌ مجرِّبٌ وإن لم يكن طبيباً: إن في صلاتِك قائماً ضرراً عليك، فله أن يصلِّيَ مستلقياً أو قاعداً.(166/15)
وعُلم من كلامه أيضاً أنه لو أمره بذلك غير مسلم لم يأخذ بقوله لأنَّ هذه أمانة، وغير المسلم ليس بأمين، فقد يقول الطبيب النصراني للمسلم: إنك إذا صلَّيتَ قائماً فعليك ضررٌ مِن أجل أن لا يصلِّي قائماً، مع القدرة على القيام فتبطل صلاته، ولا شكَّ أنَّ هذا مِن جَهْلِ النصراني فإن الإِسلامَ دين اليُسر، فالمريضُ إذا ضرَّه القيامُ أو شَقَّ عليه أو خافَ ضررَه، صلَّى قاعداً وله أجر القائم.
وذهب بعضُ أهلِ العِلم إلى اشتراطِ الثقةِ فقط دون الإِسلام، وقال: متى كان الطبيبُ ثقةً عُمِلَ بقولِه وإنْ لم يكن مسلماً.
واستدلُّوا لذلك: بأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عَمِلَ بقول الكافر حال ائتمانه؛ لأنه وَثِقَ به فقد استأجرَ في الهجرةِ رَجُلاً مشركاً مِن بني الدِّيلِ، يُقال له: عبدُ الله بن أُريقط ليدلَّه على الطريق مِن مكَّة إلى المدينة ، مع أنَّ الحالَ خطرةٌ جداً أن يعتمد فيها على الكافر، لأن قريشاً كانوا يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر حتى جعلوا لمن جاء بهما مائتي بعير، ولكن لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم أنه رجل أمين، وإن كان كافراً ائتمنه ليدله على الطريق، فأخذ العلماء القائلون بأن المدار على الثقة أنه يقبل قول الطبيب الكافر إذا كان ثقة، ونحن نعلم أن من الأطباء الكفار من يحافظون على صناعتهم ومهنتهم أكثر مما يحافظ عليها بعض المسلمين لا تقرباً إلى الله أو رجاء لثوابه، ولكن حفاظاً على سمعتهم وشرفهم، فإذا قال طبيب غير مسلم ممن يوثق بقوله لأمانته وحذقه: إنه يضرك أن تصلّي قائماً ولا بد أن تصلّي مستلقياً فله أن يعمل بقوله، ومن ذلك أيضاً لو قال له الطبيب الثقة: إن الصوم يضرك أو يؤخر البرء عنك فله أن يفطر بقوله.
وهذا هو القول الراجح لقوة دليله وتعليله.(166/16)
إذاً يمكن أن يلغز بهذه المسألة فيقال: رجل قادر على القيام صح أن يصلي مستلقياً، فنقول: هذا رجل مريض قادر على القيام قال له الطبيب: إن القيام يضرك، ولا بد أن تبقى مستلقياً فله أن يصلّي مستلقياً.
قوله: «ولا تصح صلاته قاعداً في السفينة وهو قادر على القيام» أي: الفريضة، لأن النافلة تصح قاعداً مع القدرة على القيام في السفينة وغيرها، وذلك لأن السفينة ليست كالراحلة، لأن السفينة يمكن للإِنسان أن يصلّي فيها قائماً ويركع ويسجد لاتساع المكان، فإذا كان يمكنه وجب عليه أن يصلّي قائماً، وإذا كان لا يمكنه إما لكون الرياح عاصفة والسفينة غير مستقرة فإنه يصلّي جالساً، وإما لكون سقف السفينة قصيراً فإنه يصلّي جالساً، ولكن سبق أنه إذا أمكن أن يقف ولو كراكع وجب عليه .
قوله: «ويصح الفرض على الراحلة» يعني: البعير أو الحمار أو الفرس أو نحو ذلك.
قوله: «خشية التأذي» أطلق المؤلف فيعم التأذي بأي شيء سواء بوحل أو مطر أو غير ذلك، فالمهم أنه يتأذى لو صلّى على الأرض ولا يستقر في صلاته فله أن يصلّي على الراحلة، وقيد المؤلف الصلاة بكونها فرضاً، لأن النفل على الراحلة جائز، سواء خشي التأذي أم لم يخش؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان يصلي النافلة على راحلته حيثما توجهت به» .
وقوله: «يصح الفرض على الراحلة خشية التأذي» لم يذكر المؤلف شيئاً عن استقبال القبلة، وعن الركوع وعن السجود، فنقول: يجب أن يستقبل القبلة في جميع الصلاة؛ لأنه قادر عليه إذ يمكنه أن يتوقف في السير ويوجه الراحلة إلى القبلة ويصلِّي.(166/17)
أما الركوع والسجود فيومئ بالركوع والسجود، لأنه لا يستطيع، والقيام أولى، هذا على الرواحل التي يعرفها العلماء رحمهم الله، وهي الإِبل والحمير والخيل والبغال وشبهها، لكن الراحلة اليوم تختلف فالراحلة اليوم سيارات، وبعض السيارات كالسفن يستطيع الإِنسان أن يصلي فيها قائماً راكعاً ساجداً متجهاً إلى القبلة، فهل يقال: إنه لا يصلّي على هذه الرواحل إلا بشرط التأذي بالنزول؟ أو نقول إذا أمكنه أن يأتي بالواجب فيها فله أن يصلي؟
الجواب: الثاني، لو كانت السيارة أتوبيساً كبيراً، وفيها مكان واسع للصلاة والإِنسان يستطيع أن يصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل القبلة، فلا حرج عليه أن يصلّي؛ لأن هذه السيارات كالسفينة تماماً، لكن الغالب أنها صغار، أو نقل جماعي كله كراسي، لكن إن أمكن فهو كغيره، وفي الطائرات إذا كان يمكنه أن يصلّي قائماً وجب أن يصلّي إلى القبلة قائماً ويركع ويسجد إلى القبلة، وإذا لم يمكنه فإن كانت الطائرة تصل إلى المطار قبل خروج الوقت فإنه ينتظر حتى ينزل إلى الأرض، فإن كان لا يمكن أن تصل إلى المطار قبل خروج الوقت، فإن كانت هذه الصلاة مما تجمع إلى ما بعدها كالظهر مع العصر أو المغرب مع العشاء، فإنه ينتظر حتى يهبط على الأرض فيصلّيهما جمع تأخير، وإذا كانت الصلاة لا تجمع لما بعدها صلّى على الطائرة على حسب حاله، ولكن إذا قدرنا أن الطائرة فيها مكان متسع يتسع للإِنسان ليصلِّي قائماً راكعاً ساجداً مستقبل القبلة، فهل يجوز أن يصلِّي الصلاة قبل أن يهبط إلى المطار؟(166/18)
فالجواب: يجوز، وظن بعض الناس أن ذلك لا يجوز، وقالوا: لأن الفقهاء قالوا: لا تصح الصلاة على الأرجوحة؛ لأنها غير مستقرة، والدليل على أنها غير مستقرة، أنك لو سجدت رجّحت من جانبك، وإذا قمت اعتدلت من الجانب الآخر، قالوا: فالطائرة مثلها فلا تصح الصلاة عليها، ولو تمكن الإِنسان من الركوع والسجود والقيام والقعود واستقبال القبلة، ولكن هذا ليس بصحيح، لأن الفرق بين الأرجوحة والطائرة ظاهر جداً؛ فالطائرة مستقرة تماماً، فالإِنسان يأكل فيها ويشرب وينام ولا يتحرك إذا لم يكن هناك عواصف، ولهذا نرى أن الصلاة على الطائرة صحيحة مطلقاً، ولو كان ذلك مع سعة الوقت، ولكن يجب أن يفعل الواجبات من الاستقبال، والسجود، والقيام، والقعود.
فالرواحل أقسامها أربعة:
1 _ سيارات.
2 _ حيوان.
3 _ طائرات.
4 _ سفن.
واستدلَّ في «الرَّوض» بقول يعلى بن مُرَّةَ: أنَّهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سَفَر، فانتهوا إلى مَضِيقٍ، فحضرتِ الصَّلاةُ، فَمُطِرُوا، السَّماءُ من فَوقِهِم، والبِلَّةُ من أسفلَ منهم، فأذَّنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلتِه، وأقامَ، فتقدَّمَ على راحلتِه فصلَّى بهم، يُومِئُ إيماءً، يجعلُ السجودَ أخفضَ من الركوعِ.
رواه أحمد والترمذي وقال: العمل عليه عند أهل العلم.
وفي هذا الحديث أنهم يصلّون جماعة، وعلى هذا فيتقدم الإِمام عليهم حتى في الرواحل؛ لأن هذا هو السنّة في موقف الإِمام.
قال في «الروض»: «وكذا إن خاف انقطاعاً عن رفقة في نزوله، أو على نفسه، أو عجزاً عن ركوب إن نزل وعليه الاستقبال وما يقدر عليه».(166/19)
أي: إذا خاف انقطاعاً عن رفقته يصلِّي على الراحلة ولو مع الأمن، لأن الإِنسان إذا انقطع عن رفقته فلربما يضيع، وربما يحصُل له مرض أو نوم أو ما أشبه ذلك فيتضرر، فإذا قال: إن نزلت على الأرض وبركت البعير وصليت فاتت الرفقة، وعجزت عن اللحاق بهم، وإن صلّيت على بعيري فإني أدركهم نقول له: صلِّ على البعير )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا )(البقرة: من الآية286) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: من الآية78)
قوله: «لا للمرض» يعني: لا تصح الفريضة على الراحلة للمرض، لأن المريض يمكنه أن ينيخ الراحلة وينزل على الأرض ويصلِّي، ولكن إذا علمنا أن هذا المريض لو نزل لم يستطع الركوب؛ لأنه ليس عنده من يركبه، وهذا قد يقع فيصلِّي على الراحلة، لأن هذا أعظم من التأذي بالمطر وأخطر.
فقول المؤلف: «لا للمرض» ليس على إطلاقه بل نقول: لا للمرض إذا كان يمكنه أن ينزل ثم يركب على الراحلة، أما إذا كان لا يمكنه فله أن يصلِّي على الراحلة للمرض، لأن ذلك أشد من الوحل وشبهه.
قوله: «فصل» ، ذكر المؤلف أن الأعذار التي تتغير بها الصلاة ثلاثة:
1 _ السفر.
2 _ المرض.
3 _ الخوف.
ولما ذكر المؤلف العذر بالمرض أعقبه بذكر العذر بالسفر فقال: «من سافر سفراً مباحاً» «من»: اسم شرط، والمعروف أن أسماء الشرط تفيد العموم، فيشمل كل من سافر من ذكر أو أنثى، حر أو عبد، صغير أو كبير.
وقوله: «سفراً مباحاً» «السفر» في اللغة: مفارقة محل الإِقامة، وسمي بذلك؛ لأن الإِنسان يسفر بذلك عن نفسه، فبدلاً من أن يكون مكنوناً في بيته أصبح ظاهراً بيِّناً بارزاً، ومنه قوله تعالى: {والصبح اذا أسفر } [المدثر] أي: تبين وظهر.(166/20)
وقال بعض العلماء: إنما سمّي السفر سفراً؛ لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، أي: يوضحها ويبيّنها، فإن كثيراً من الناس لا تعرف أخلاقه ولا حسن سيرته إلا إذا سافرت معه، وكان بعض القضاة من السلف إذا شهد شخص لآخر بتزكية قال له: هل سافرت معه؟ فإن قال: لا، قال: هل عاملته؟ قال: لا، قال: إذن لا تعرفه.
فالسفر يبيّن أخلاق الرجال، وكم من إنسان في البلد تراه كل يوم وتشاهده ولا تعرف عن أخلاقه ومعاملاته شيئاً، فإذا سافرت معه تبين لك من أخلاقه ومعاملاته، لا سيما فيما سبق من الزمان حيث كانت الأسفار تستمر أياماً كثيرة، أما سفرنا اليوم فإنه لا يبيّن عن أخلاق الرجال؛ لأن السفر من الرياض إلى القصيم في الطائرة في خمس وثلاثين دقيقة. ولكن الأسفار الطويلة هي التي تبيّن الرجال.
وقوله: «سفراً مباحاً» هذا هو الشرط الأول للقصر. والمراد بالمباح هنا: ما ليس بحرام ولا مكروه، فيشمل الواجب والمستحب والمباح إباحة مطلقة، لأن الأسفار تنقسم إلى خمسة أقسام:
1 _ حرام.
2 _ مكروه.
3 _ مباح.
4 _ مستحب.
5 _ واجب.
فالسفر لفعل المحرم: محرم، ومن السفر المحرم سفر المرأة بلا محرم.
وسفر المرء وحده: مكروه.
والسفر للنزهة: مباح.
والسفر لفريضة الحج: واجب، وللمرة الثانية في الحج مستحب.
وقوله: «سفراً مباحاً» خرج به المحرم والمكروه، وعلى هذا فلو سافر الإِنسان سفراً محرماً لم يبح له القصر؛ لأن المسافر سفر معصية لا ينبغي أن يرخص له إذ إن الرخصة تسهيل وتيسير على المكلف، والمسافر سفراً محرماً لا يستحق أن يسهل عليه ويرخّص له، فلهذا منع من رخص السفر، فمنع القصر، ومنع من المسح على الخفين ثلاثة أيام، ومنع من الفطر في رمضان، ولكن العلاج سهل فنقول: تب إلى الله، فإذا كان في منتصف الطريق في السفر المحرم، وقال: أستغفر الله وأتوب إليه رجعت الآن إلى بلدي ففي رجوعه هنا يقصر، لأنه انقلب السفر المحرم مباحاً.(166/21)
وذهب الإِمام أبو حنيفة وشيخ الإِسلام ابن تيمية وجماعة كثيرة من العلماء؛ إلى أنه لا يشترط الإِباحة لجواز القصر وأن الإِنسان يجوز أن يقصر حتى في السفر المحرم، وقالوا: إن هذا ليس برخصة، فإن صلاته الركعتين في السفر، ليست تحويلاً من الأربع إلى الركعتين، بل هي من الأصل ركعتان، والرخصة هو التحويل من الأثقل إلى الأخف، أما صلاة المسافر فهي مفروضة من أول الأمر ركعتين، وعلى هذا فيجوز للمسافر سفراً محرماً أن يصلِّي ركعتين، ولا يشترط على هذا الرأي إباحة السفر، وهذا القول قول قوي، لأن تعليله ظاهر، فالقصر منوط بالسفر على أن الركعتين هما الفرض فيه، لا على أن الصلاة حوّلت من أربع إلى ركعتين، كما ثبت ذلك في «صحيح البخاري» وغيره عن عائشة : «أن أول ما فرضت الصلاة ركعتين، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر على ركعتين» وحينئذ تبين أن الركعتين في السفر عزيمة لا رخصة وعليه فلا فرق بين السفر المحرم والسفر المباح.
وقال بعض العلماء: لا قصر إلا في سفر الطاعة كالحج والعمرة، وزيارة الوالدين ونحوها، وأما المباح فلا قصر فيه، وهذا القول مقابل لقول من قال: إنه يقصر حتى في السفر المحرم.
قوله: «أربعة برد» هذا هو الشرط الثاني من شروط القصر.(166/22)
والبرد: جمع بريد، والبريد نصف يوم وسمّي بريداً، لأنه فيما سبق كانوا إذا أرادوا المراسلات السريعة يجعلونها في البريد، فيرتبون بين كل نصف يوم مستقراً ومستراحاً يكون فيه خيل إذا وصل صاحب الفرس الأول إلى هذا المكان نزل عن الفرس لتستريح، وركب فرساً آخر إلى مسيرة نصف يوم، فيجد بعد مسيرة نصف يوم مستراحاً آخر فيه خيل ينزل عن الفرس التي كان راكبها ثم يركب آخر، وهكذا لأن هذا أسرع وفي الرجوع بالعكس، فالبريد عندهم مسيرة نصف يوم فتكون أربعة البرد يومين، وقدروه بالمساحة الأرضية بأربعة فراسخ، فتكون أربعة برد ستة عشر فرسخاً، والفرسخ قدّروه بثلاثة أميال، فتكون ثمانية وأربعين ميلاً، هذا هو مسافة القصر فهو مقدر بالمسافة، والميل المعروف = كيلو وستمائة متر.
وأما في الزمن فقالوا: إن مسيرته يومان قاصدان بسير الإِبل المحملة.
فـ«قاصدان» يعني: معتدلان بمعنى أن الإِنسان لا يسير فيها ليلاً ونهاراً سيراً بحتاً، ولا يكون كثير النزول والإِقامة، فهما يومان قاصدان.
وقوله: «أربعة برد» يقتضي أن ما دونها ولو بشبر واحد لا يبيح القصر، وما بلغها فهو سفر قصر يترخص فيه ولو قطعه بنصف ساعة أو أقل ولو رجع في ساعته، وهذا هو الذي عليه أكثر العلماء.(166/23)
والصحيح: أنه لا حد للسفر بالمسافة؛ لأن التحديد كما قال صاحب المغني: «يحتاج إلى توقيف، وليس لما صار إليه المحددون حجة، وأقوال الصحابة متعارضة مختلفة، ولا حجة فيها مع الاختلاف، ولأن التقدير مخالف لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولظاهر القرآن، ولأن التقدير بابه التوقيف فلا يجوز المصير إليه برأي مجرد، والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإِجماع على خلافه».اهـ. والتوقيف معناه الاقتصار على النص من الشارع، والله يعلم أن المسلمين يسافرون في الليل والنهار ولم يرد حرف واحد يقول: إن تحديد السفر مسافته كذا وكذا، ولم يتكلم أحد من الصحابة بطلب التحديد في السفر، مع أنهم في الأشياء المجملة يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن تفسيرها وبيانها، فلما لم يسألوا علم أن الأمر عندهم واضح، وأن هذا معنى لغوي يرجع فيه إلى ما تقتضيه اللغة وإذا كان كذلك ننظر هل للسفر حد في اللغة العربية؟ ففي مقاييس اللغة لابن فارس: ما يدل على أنه مفارقة مكان السكنى.
وإذا كان لم يرو عن الرسول صلى الله عليه وسلم تقييد السفر بالمسافة، وليس هناك حقيقة لغوية تقيده كان المرجع فيه إلى العرف وقد ثبت في «صحيح مسلم» عن أنس بن مالك قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ صلَّى ركعتين . ومعلوم أن ثلاثة فراسخ نسبتها إلى ستة عشر فرسخاً يسيرة جداً.
فالصحيح أنه لا حد للمسافة، وإنما يرجع في ذلك إلى العرف، ولكن شيخ الإِسلام ابن تيمية قال: إن المسافة الطويلة في الزمن القصير سفر، والإِقامة الطويلة في المسافة القصيرة سفر، فالمسألة لا تخلو من أربع حالات:
1 _مدة طويلة في مسافة طويلة، فهذا سفر لا إشكال فيه، كما لو ذهب في الطائرة من القصيم إلى مكة، وبقي فيها عشرة أيام.(166/24)
2 _مدة قصيرة في مسافة قصيرة فهذا ليس بسفر، كما لو خرج مثلاً من عنيزة إلى بريدة في ضحى يوم ورجع، أو إلى الرس أو إلى أبعد من ذلك، لكنه قريب لا يعد مسافة طويلة.
3 _مدة طويلة في مسافة قصيرة بمعنى أنه ذهب إلى مكان قريب لا ينسب لبلده، وليس منها، وبقي يومين أو ثلاثة فهذا سفر، فلو ذهب إنسان من عنيزة إلى بريدة مثلاً ليقيم ثلاثة أيام أو يومين أو ما أشبه ذلك فهو مسافر.
4 _مدة قصيرة في مسافة طويلة، كمَن ذهب مثلاً من القصيم إلى جدة في يومه ورجع فهذا يسمى سفراً؛ لأن الناس يتأهبون له، ويرون أنهم مسافرون.
مسألة: إن أشكل هل هذا سفر عرفاً أو لا؟ فهنا يتجاذب المسألة أصلان:
الأصل الأول: أن السفر مفارقة محل الإِقامة، وحينئذٍ نأخذ بهذا الأصل فيحكم بأنه سفر.
الأصل الثاني: أن الأصل الإِقامة حتى يتحقق السفر، وما دام الإِنسان شاكاً في السفر، فهو شاك هل هو مقيم أو مسافر؟ والأصل الإِقامة، وعلى هذا فنقول في مثل هذه الصورة: الاحتياط أن تتم؛ لأن الأصل هو الإِقامة حتى نتحقق أنه يسمى سفراً.
قوله: «سنّ له قصر رباعيةٍ ركعتين» «سنّ له» السنّة لها اصطلاحان: اصطلاح عند الفقهاء، واصطلاح في لغة الصحابة وسلف الأمة.
فالسُّنَّة عند سلف الأمة وعند الصحابة هي الطريقة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم سواء كانت واجبة أم مستحبة، ومن ذلك قول أنس بن مالك : «من السنّة إذا تزوج البكر على الثيب أن يقيم عندها سبعاً» فهذه سنّة واجبة.
وقول ابن عباس حين سئل عن الرجل يصلي مع الإِمام المقيم أربعاً، وإذا صلّى وحده وهو مسافر صلّى ركعتين قال: «تلك هي السنّة» أي: السنّة الواجبة.
أما في اصطلاح الفقهاء فهي: التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.
فقول المؤلف هنا: «سنّ له قصر رباعية» هذه سنّة اصطلاحية يعني: أن الراجح والذي يثاب عليه قصر الرباعية ركعتين.(166/25)
والرباعية هي: الظهر والعصر والعشاء، ودليل ذلك: كتاب الله، وسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة..
أما في القرآن فقال الله تعالى: )وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا )(النساء: من الآية101)فقال: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ )(النساء: من الآية101)} ونفي الجناح هنا لا يعني ارتفاع الإِثم فقط كقوله: )إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا)(البقرة: من الآية158)بل معناه انتفاء المانع، أي: ليس بمانع أن يطوف بهما، وليس بمانع أن تقصروا من الصلاة، فإذا انتفى المانع نرجع إلى ما تقتضيه الأدلة الأخرى، فالأدلة الأخرى في الصلاة تقتضي أن القصر راجح على الإِتمام.
والدليل فعل النبي صلى الله عليه وسلم: «فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر صلّى ركعتين ، ولم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه صلّى أربعاً في سفر قط، بل في كل أسفاره الطويلة والقصيرة كان يصلي ركعتين.
وأما إجماع المسلمين: فهذا أمر معلوم بالضرورة، كما قال ابن عمر: «إنِّي صَحِبتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في السَّفَرِ، فلم يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ، وصَحِبتُ أبا بكرٍ؛ فلم يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ، وصَحِبتُ عُمَر فلم يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ، ثم صَحِبتُ عثمان فلم يَزِدْ على ركعتين حتى قَبَضَهُ اللهُ» .(166/26)
ولكن في دليل الكتاب شيء من التوقف والإِشكال، وهو أن الله تعالى قال: ) فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا)(النساء: من الآية101)فقيد الله هذا بخوف الفتنة من الكفار، والمراد بخوف الفتنة هنا: أن يمنعوكم من إتمام صلاتكم، ولكن هذا الشرط مرتفع بسنّة الرسول صلى الله عليه وسلم التي أخبر بها عن ربِّه، فإن عُمر بن الخطاب أشكل عليه هذا القيد، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّها صدقةٌ، تصدَّقَ اللهُ بها عليكم، فاقبلوا صَدَقَته» ، فصارت إباحة القصر في الأمن صدقةٌ تصدَّق الله بها علينا.
وقال بعض العلماء: إن قصر الصلاة ينقسم إلى قسمين: قصر عدد وقصر هيئة، فإذا اجتمع الخوف والسفر اجتمع القصران، وإن انفرد أحدهما انفرد بالقصر الذي يلائمه، فإذا انفرد السفر صار القصر بالعدد، وإذا انفرد الخوف صار القصر بالهيئة، وإن اجتمعا صار في هذا وفي هذا. وهذه مناسبة جيدة وطلب للعلة والحكمة، ولكن الذي يَفْصِلُ هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إنها صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته».
وقوله: «سنّ له قصر رباعية» الرباعية ثلاث صلوات: الظهر والعصر والعشاء، أما الثلاثية فلا تقصر؛ لأنها لو قصرت لفات المقصود منها وهي الوترية؛ ولأنها لا يمكن أن تقصر على سبيل النصف؛ إذ ليس هناك صلاة تكون ركعة ونصفاً، وأما الثنائية فلا تقصر أيضاً لأنها لو قصرت لكانت وتراً ففات المقصود، وهذا التعليل الذي قلته إنما هو بيان لوجه الحكمة، وإلا فالأصل هو اتباع النص، لأن ركعات الصلاة من الأمور التي لا تبلغها العقول، ولكننا نقول هذا من باب ذكر المناسبة وهي: لماذا لم يشرع القصر إلا في الرباعيات؟
وأفادنا المؤلف بقوله: «من سافر» أنه لا يمكن قصر بدون سفر حتى لو كان الإِنسان في أشد المرض، فإنه لا يقصر.(166/27)
فالمرض والشغل والتعب لا يمكن أن يكونا سبباً للقصر، ولهذا لو زار أحدكم مريضاً وسأله كيف تصلي؟ فقال: الحمد لله على كل حال لي مدة أقصر الصلاة من شدة المرض، فنقول للمريض: أعِد صلاتك؛ لأنه ليس للقصر سبب سوى السفر.
ولو زار أحدكم مريضاً فسأله عن حاله وعن صلاته؟ قال: الحمد لله على كل حال لي خمسة عشر يوماً أجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء، فنقول: فعلك صحيح؛ لأن الجمع يجوز في حال المشقة، فأينما وجدت المشقة في سفر أو حضر جاز الجمع بخلاف القصر.
ولو زار أحدكم مريضاً آخر فقال له: كيف حالك، وكيف صلاتك؟ فقال: الحمد لله على كل حال لست أصلي الصلوات الخمس إلا جميعاً عند النوم؛ لأن ذلك يتعبني... فماذا نقول له؟
الجواب: نقول له: تب فقط، لأنه لو أعاد صلاته ما استفاد؛ لأنه يصلي الصلاة كاملة، لكنه يؤخر الظهر والعصر عن وقتها، وإذا كان يصلي العشاء أيضاً بعد نصف الليل فإنه أخرج الصلوات كلها عن وقتها، فنقول لهذا أخطأت، ولا يحل لك أن تؤخر الصلاة عن وقتها، بل صلِّ الصلاة لوقتها على أي حال كانت.
وقوله: «سنّ له قصر رباعية» أفادنا المؤلف أن القصر سنّة، وهذا موضع خلاف، فعلى ما قال المؤلف إن القصر سنّة لو أتم لم يأثم، ولا يوصف بأن عمله مكروه؛ لأنه لا يلزم من ترك السُّنّة الوقوع في المكروه، ولهذا لو أن الإِنسان لم يرفع يديه في الصلاة عند الركوع لم يفعل مكروهاً.
وهذه قاعدة: أنه لا يلزم من ترك المستحب الوقوع في المكروه.
وقال بعض أهل العلم: إن الإِتمام مكروه؛ لأن ذلك خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم المستمر الدائم فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أتم أبداً في سفر وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، وهذا القول اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية ، وهو قول قوي، بل لعله أقوى الأقوال.
وقال بعض أهل العلم: إن القصر واجب، وأن من أتم فهو آثم.
ودليل هذا ما يلي:(166/28)
1 _حديث عائشة قالت: «أول ما فرضت الصلاة ركعتين ثم زيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر على الفريضة الأولى» . وهذا قول صحابي يعلم الحكم، ويعلم مدلول الألفاظ وقد صرحت بأن الركعتين فريضة المسافر.
2 _قول النبي صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» وهذا كما تدخل فيه الهيئة وهي الكيفية يدخل فيه القدر وهو الكمية، فكما أن الرسول صلى الله عليه وسلم في سفر لا يزيد على الركعتين أبداً، وقد أمرنا أن نصلي كما صلّى.
3 _أنه فعل النبي صلى الله عليه وسلم المستمر.
4 _ورود ذلك عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما .
ولكن يعارض القول بالوجوب أصول:
الأصل الأول: أن المؤتم بالمقيم إذا كان مسافراً يصلّي أربعاً تبعاً للإِمام، ومتابعة الإِمام واجبة، والزيادة على الفريضة تبطل الصلاة، ولهذا لو قام إمامك إلى خامسة وأنت تتيقن أنها الخامسة وجب عليك أن تفارقه وأن لا تتابعه، فهنا نقول: لو كان القصر واجباً لكانت متابعة الإِمام في الإِتمام حراماً، كما لو صلى إنسان الفجر خلف من يصلّي الظهر فإنه لا يمكن أن يتابعه على أربع، بل إذا قام إلى الثالثة جلس. ولكن هذا الأصل قد يعارض فيقال: إنما لا تجوز الزيادة على الأربع فيما لو قام الإِمام إلى الخامسة لأن هذا غير مشروع أي لم تشرع صلاة عددها خمس ومتابعة المسافر للإِمام المتم مشروعة، بل هي الأصل في صلاة الحاضر المقيم فبينهما فرق، وكذلك نقول في من صلّى الفجر خلف من يصلي الظهر لا يمكن أن يقوم معه فيتم الأربع، لأن صلاة الفجر لا يمكن أن تكون أربعاً لا في الحضر، ولا في السفر، بخلاف من تابع الإِمام في صلاة مقصورة، والإِمام يتم فإن هذه الصلاة نفسها أربع في الحضر، إذن هذا الأصل فيه ضعف.(166/29)
الأصل الثاني: أن الصحابة أتموا خلف عثمان بن عفان حينما صلّى في منى، وذلك «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان في أول خلافته إلى ست أو ثمان سنين كان يصلي ركعتين ثم صار في آخر خلافته يصلي أربعاً، وكان الصحابة يصلون خلفه مع إنكارهم عليه حتى إن ابن مسعود لما بلغه أنه صلّى أربعاً استرجع قال: إنّا لله وإنا إليه راجعون» فلو كان القصر واجباً لم يتابعه الصحابة ؛ لأنه إذا كان واجباً فإن الإِتمام معصية لله، ولا يمكن أن يتابع الصحابة عثمان فيما يرونه معصية لله ، ولكن هذا الأصل أيضاً ربما يعارض بما عورض به الأصل الأول في أنهم إنما يتابعونه فيصلون أربعاً في صلاة تصلى أربعاً فلا غرابة أن يدعوا الركعتين الواجبتين، لا سيما وأنهم لاحظوا معنى آخر وهو الخلاف بين الناس وبين خليفتهم، ولهذا لما سئل ابن مسعود : كيف تتم أربعاً وأنت تنكر على عثمان؟ قال: «الخلاف شر» رضي الله عن الصحابة ما أفقههم وأعمق علمهم يتابعون عثمان في أمر عظيم، زيادة عما هو مشروع في العدد، وبعض إخواننا الذين يرون أنهم متبعون للسلف والسنّة يخرجون من المسجد الحرام لئلا يتابعوا الإِمام على دعاء الختمة، وبعضهم لئلا يتابع الإِمام على ثلاث وعشرين ركعة، وكأن ثلاثاً وعشرين ركعة من الفسوق والمعصية العظيمة التي يخالف عليها الإِمام، ويخرج من المسجد الحرام من أجلها، وبعضهم يجلس بين المصلين يتحدث إلى أخيه، وربما يجهر بالحديث من أجل أن يشوش _ والله أعلم _ على هذه الصلاة البدعية على زعمه!!! على كلٍ أقول: إن هذا من قلة الفقه في الدين، وقلة اتباع السلف والبعد عن منهجهم، فالسلف يكرهون الخلاف، فإنهم وإن اختلفت الأقوال فقلوبهم متفقة، وما أمروا بالاتفاق فيه فعلوه ولو كانوا لا يرونه وهذا من فقه الصحابة ، وهذه المخالفات التي تقع من قلة الفقه بيننا، وبعدنا عن عصر النبوة عصر النور، ولهذا كلما كانت الأمة أقدم كانت للصواب أقرب بلا شك .(166/30)
والذي يترجح لي وليس ترجحاً كبيراً هو أن الإِتمام مكروه وليس بحرام، وأن من أتم فإنه لا يكون عاصياً، هذا من الناحية النظرية.
وأما من الناحية العملية فهل يليق بالإِنسان أن يفعل شيئاً يخشى أن يكون عاصياً فيه.
فلا ينبغي من الناحية المسلكية والتربوية، بل افعل ما يكون هو السنة، فإن ذلك أصلح لقلبك حتى وإن كان يجوز لك خلافه، وليس المعنى إما أن يكون الشيء واجباً أو حراماً، أو لك الحرية في فعله أو تركه، فلا ينبغي للإِنسان أن يتم فأقل ما نقول: إنَّ الإِتمام مكروه، لأن النصوص تكاد تكون متكافئة، فاحرص على أن تصلي ركعتين في سفرك، ولا تزد على ذلك، ولكن إذا أتم الإِمام فإنه يلزمك الإِتمام، لئلا تقع في المخالفة، وهذا من نظر الشرع لاتفاق الأمة، وإن كان ذلك خلاف الأولى بك لو صليت منفرداً.
وقوله: «سنّ له قصر رباعية» خرج بـ رباعية الثنائية والثلاثية فلا تقصر؛ لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولدينا قاعدة مهمة وهي: كما أن الفعل سنّة، فالترك مع وجود سبب الفعل سنّة، مع أنه ترك وليس بفعل، ولهذا أمثلة منها: سنية السواك عند دخول المسجد.
فبعض العلماء قال: يسنّ له أن يتسوّك عند دخول المسجد، وبنى ذلك على «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل بيته بدأ بالسواك» ، فقاسوا: دخول المسجد على دخول البيت، وقالوا: إذا كان الإِنسان يتسوّك إذا دخل بيته من أجل أن يقابل أهله بطهارة فم، فكذلك إذا دخل المسجد من أجل أن يناجي ربه بطهارة فم، فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدخل المسجد ولم يرو عنه أنه كان إذا دخل المسجد بدأ بالسواك، ولو كان هذا سنّة لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فالسنّة أن لا يتسوّك إذا دخل المسجد بناء على أن سبب سواكه دخول المسجد، أما لو كان إذا دخل المسجد سيصلي ركعتين فوراً، وأراد أن يتسوّك من أجل الصلاة، لا من أجل دخول المسجد فإن هذا مشروع.(166/31)
قوله: «إذا فارق عامر قريته» هذا شرط ابتداء القصر، يعني: لا يقصر إلا إذا فارق عامر قريته.
والمفارقة: ليس المراد بها أن يغيب عن قريته؛ لأنها ربما لا تغيب عن نظره إلا بعد مسافة طويلة، وقد ذكر أن زرقاء اليمامة تبصر من مسيرة ثلاثة أيام، بل المراد بالمفارقة: المفارقة البدنية، لا المفارقة البصرية، أي: أن يتجاوز البيوت، ولو بمقدار ذراع، فإذا خرج من مسامتة البيوت ولو بمقدار ذراع فإنه يعتبر مفارقاً.
وقوله: «عامر قريته» لم يقل بيوت قريته؛ لأنه قد يكون هناك بيوت قديمة في أطراف البلد هجرت وتركت ولم تسكن، فهذه لا عبرة بها، بل العبرة بالعامر من القرية، فإذا قدر أن هذه القرية كانت معمورة كلها، ثم نزح أهلها إلى جانب آخر وهجرت البيوت من هذا الجانب فلم يبق فيها سكان فالعبرة بالعامر، فإن كان في القرية بيوت عامرة ثم بيوت خربة ثم بيوت عامرة، فالعبرة بمفارقة البيوت العامرة الثانية وإن كان يتخللها بيوت غير عامرة.
وقوله: «إذا فارق عامر قريته» أضافها إلى نفسه ليفيد أن المراد قريته التي يسكنها، فلو فرض أن هناك قريتين متجاورتين، ولو لم يكن بينهما إلا ذراع أو أقل، فإن العبرة بمفارقة قريته هو، وإن لم يفارق القرية الثانية الملاصقة أو المجاورة.
قوله: «أو خيام قومه» أي: إذا كانوا يسكنون الخيام فالعبرة بمفارقة الخيام، فإذا فارق الخيام حل له القصر، وعلم من كلامه : أنه لا يجوز أن يقصر ما دام في قريته ولو كان عازماً على السفر ولو كان مرتحلاً، ولو كان راكباً يمشي بين البيوت، فإنه لا يقصر حتى يبرز، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم: «كان لا يقصر إلا إذا خرج وارتحل» .
ولأن السفر هو أن يسفر الإِنسان ويبرز ويخرج كما سبق أن السفر مفارقة محل الإِقامة ، ومن كان في محل إقامته فإنه ليس مسافراً.
مسألة: إذا كان في القصيم وخرج إلى المطار، هل يقصر في المطار؟(166/32)
الجواب: نعم يقصر؛ لأنه فارق عامر قريته فجميع القرى التي حول المطار منفصلة عنه، أما من كان من سكان المطار؛ فإنه لا يقصر في المطار، لأنه لم يفارق عامر قريته.
مسألة: وهل له أن يفطر في المطار؟
الجواب: نعم له أن يفطر، فلو أراد أن يسافر في رمضان وخرج وبقي في المطار ينتظر الطائرة، وأقصد بذلك مطار القصيم فإنه يفطر، لأنه فارق عامر قريته، ولو قدر أن الطائرة لم تقلع ولم يحصل السفر ذلك اليوم، هل يعيد الصلاة التي كان قصرها؟
الجواب: لا، لأنه أتى بها بأمر الله موافقة لشرعه، فتكون مقبولة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من عمل عملاً ليس عليها أمرنا فهو رد» فمفهومه أن من عمل عملاً عليه أمر الله ورسوله فهو مقبول.
مسألة: وهل يلزمه إذا لم تأتِ الطائرة ورجع إلى بلده بعد أن أفطر الإِمساك؟
فيه قولان لأهل العلم.
والصحيح: أنه لا يلزمه، لأنه أفطر بعذر شرعي على وجه مباح، فزالت حرمة النهار في حقه فبقي آخر النهار غير ملزم به. وسيأتي لهذا مزيد بحث في كتاب الصيام إن شاء الله.
مسألة: رجل سافر من أجل أن يترخص فهل يترخص؟
الجواب: لا، لأن السفر حرام حينئذ، ولأنه يعاقب بنقيض قصده فكل من أراد التحيُّل على إسقاط الواجب أو فعل المحرم عوقب بنقيض قصده فلا يسقط عنه الواجب ولا يحل له المحرم.
مسألة: إنسان خرج من بلده يتمشّى فهبت رياح أضلته عن الطريق، فصار تائهاً يطلب الطريق، ولم يهتدِ إليه، فهل يقصر الصلاة؟.
الجواب: لا يقصر، لأنه لم ينو مسافة القصر وقد يهتدي إلى الطريق قبل بلوغ المسافة، وكذلك من خرج لطلب بعير شارد لا يقصر؛ لأنه لم ينوِ المسافة.
ولكن الصحيح: أنه يقصر لأنه على سفر.
قوله: «وإن أحرم حضراً ثم سافر» إلخ تضمن كلامه عدة مسائل يجب فيها الإِتمام:(166/33)
المسألة الأولى: أحرم ثم سافر، يعني دخل في الصلاة، فالدخول في الصلاة يعتبر إحراماً، ولهذا نسمي التكبيرة الأولى تكبيرة الإِحرام، فهذا رجل كبر للإِحرام وهو مقيم ثم سافر، كما لو كان في سفينة تجري في نهر يشق البلد وكانت راسية فكبّر للصلاة، ثم مشت السفينة ففارقت البلد وهو في أثناء الصلاة فيلزمه أن يتم؛ لأنه ابتداء الصلاة في حال يلزمه إتمامها، فلزمه الإِتمام.
قوله: «أو في سفر ثم أقام» .
هذه هي المسألة الثانية: أي: أحرم للصلاة في سفر ثم أقام، عكس المسألة الأولى، كما لو كانت السفينة مقبلة على البلد والنهر قد شق البلد فكبّر للإِحرام وهو في السفينة قبل أن يدخل البلد، ثم دخل البلد فيلزمه الإِتمام هذا هو المذهب؛ لأنه اجتمع في هذه العبادة سببان: أحدهما يبيح القصر والثاني يمنع القصر فغلب جانب المنع، فالذي يبيح القصر السفر وهو الذي ابتدأ الصلاة فيه، والذي يمنعه الإِقامة وهو الذي أتم الصلاة فيها فيغلب هذا الجانب؛ لأن الفقهاء عندهم قاعدة وهي: إذا اجتمع مبيح وحاظر فالحكم للحاظر، أو إذا اجتمع مبيح وحاظر غلب جانب الحظر.
ودليل هذه القاعدة: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «دَعْ ما يَرِيْبُكَ إلى ما لا يَريْبُكَ» .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «من اتَّقى الشُّبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه» .
والقول الراجح في هذه المسألة أنه لا يلزمه الإِتمام لأنه ابتدأ الصلاة في حال يجوز له فيها القصر فكان له استدامة ذلك ولا دليل بيّناً على وجوب الإِتمام.
هذه هي المسألة الثالثة: مثاله: رجل مسافر، وفي أثناء السفر ذكر أنه لم يصل الظهر في الحضر فإنه يصلي أربعاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» أي: يصلي هذه الصلاة كما هي إذا ذكرها، ولأن هذه الصلاة لزمته تامة فوجب عليه فعلها تامة، وهذا واضح.
قوله: «أو عكسها» .(166/34)
هذه هي المسألة الرابعة: مثال ذلك: رجل وصل إلى بلده ثم ذكر أنه لم يصل الظهر في السفر، فيلزمه أن يصلي أربعاً، لأنها صلاة وجبت عليه في الحضر فلزمه الإِتمام، ولأن القصر من رخص السفر وقد زال السفر فيلزمه الإِتمام.
هذا هو المذهب، ولكن القول الراجح خلافه، وأنه إذا ذكر صلاة سفر في حضر صلاها قصراً لقوله صلى الله عليه وسلم: «من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها» أي: فليصلها كما هي، وهذا الرجل ذكر أنه لم يصل الظهر وهي ركعتان في حقه، فلا يلزمه الإِتمام، ونقول: كما قلنا في التي قبلها فهذه صلاة وجبت عليه في سفر، وصلاة السفر مقصورة فلا يلزمه إتمامها.
قوله: «أو ائتم بمقيم» .
هذه هي المسألة الخامسة : إذا ائتم المسافر بمقيم فإنه يتم.
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإِمام ليؤتم به» .
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا» ، فيشمل كل ما أدرك الإِنسان وكل ما فاته.
ولأن «ابن عباس سئل: ما بال الرجل المسافر يصلي ركعتين ومع الإِمام أربعاً؟ فقال: تلك هي السنّة» .
ومراده بالسُّنة الشريعة الشاملة للواجب.
ولأن الصحابة : «كانوا يصلون خلف عثمان بن عفان وهم في سفر في منى أربعاً» ، فهذه أدلة أربعة كلها تدل على أن المأموم يتبع إمامه في الإِتمام.
مسألة: إذا أدرك المسافر من صلاة الإِمام ركعة في الصلاة الرباعية فبكم يأتي؟
الجواب: يأتي بثلاث، وإن أدرك ركعتين أتى بركعتين، وإن أدرك ثلاثاً أتى بركعة، وإن أدرك التشهد أتى بأربع؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: «وما فاتكم فأتموا».
قوله: «أو بمن يشك فيه».(166/35)
هذه هي المسألة السادسة: إذا ائتم بمن يشك فيه هل هو مسافر أو مقيم، وهذا إنما يكون في محل يكثر فيه المسافرون، كالمطار مثلاً، ففيه مقيمون، وفيه مسافرون أحياناً يكونون بعلامة وأحياناً بلا علامة، فإن كانوا بعلامة فالأمر ظاهر، وإن لم تكن علامة لزمه الإِتمام للشك في جواز القصر. وظاهر كلامه لزوم الإِتمام وإن تبين أن الإِمام مسافر.
والقول الراجح: عندي أنه لا يلزمه الإِتمام في هذه الصورة لأن الأصل في صلاة المسافر القصر، ولا يلزمه الإِتمام خلف الإِمام إلا إذا أتم الإِمام وهنا لم يتم الإِمام.
ولو قال حينما رأى إماماً يصلي بالناس في مكان يجمع بين مسافرين ومقيمين: إن أتمّ إمامي أتممت وإن قصر قصرت، صح وإن كان معلقاً؛ لأن هذا التعليق يطابق الواقع، فإن إمامه إن قصر ففرضه هو القصر، وإن أتم ففرضه الإِتمام، وليس هذا من باب الشك، وإنما هو من باب تعليق الفعل بأسبابه، وسبب الإِتمام هنا إتمام الإِمام والقصر هو الأصل.
قوله: «أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها».
هذه هي المسألة السابعة: يعني: أن المسافر أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، كما إذا ائتمّ بمقيم فقد أحرم بصلاة يلزمه إتمامها، فإذا فسدت بحدث أو غيره ثم أعادها فإنه يلزمه الإِتمام، لأن هذه الصلاة إعادة لصلاة يجب إتمامها، فيلزمه أن يصلي أربعاً.
تنبيه: إذا دخل مع الإِمام المقيم وهو مسافر ولما شرع في الصلاة ذكر أنه على غير وضوء، فذهب وتوضأ فلما رجع وجد الناس قد صلوا فلا يلزمه الإِتمام؛ لأن المؤلف يقول: «أو أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت» فدلّ قوله: «ففسدت» أن الفساد طارئ، أما إذا ذكر أنه على غير وضوء فإن الصلاة لم تنعقد أصلاً، وعلى هذا فلا يلزمه الإِتمام، بخلاف المسألة الأولى إذا فسدت بعد أن انعقدت فإنه يلزمه الإِتمام كما قال المؤلف.(166/36)
ولكن هذا غير مسلم به؛ وذلك لأن الصلاة الأولى التي شرع فيها إنما يلزمه إتمامها تبعاً لإِمامه لا من حيث الأصل، وبعد أن فسدت زالت التبعية فلا يلزمه إلا صلاة مقصورة، وهذا التعليل أقوى من التعليل الذي ذكروه رحمهم الله، فيكون هذا أرجح إن لم يمنع منه إجماع، أي: أنه إذا أحرم بصلاة يلزمه إتمامها ففسدت وأعادها في حال يجوز له القصر، فإنه لا يلزمه الإِتمام.
مسألة: لو دخل وقت الصلاة وهو في بلده ثم سافر فإنه يقصر، ولو دخل وقت الصلاة وهو في السفر ثم دخل بلده فإنه يتم اعتباراً بحال فعل الصلاة.
قوله: «أو لم ينوِ القصر عند إحرامها».
هذه هي المسألة الثامنة: إذا لم ينو القصر عند إحرامها، يعني: دخل في صلاة الظهر وهو مسافر، لكن نوى صلاة الظهر، ولم يستحضر تلك الساعة أن ينويها ركعتين، فهنا يقول المؤلف: يلزمه أن يتم، وهذه المسألة لها ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن ينوي الإِتمام.
الصورة الثانية: أن ينوي القصر.
الصورة الثالثة: أن ينسى فلا ينوي قصراً ولا إتماماً.
فإذا نوى الإِتمام لزمه الإِتمام على رأي من يرى جواز إتمام المسافر.
وإذا نوى القصر قصر، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» .
وإذا لم ينوِ القصر ولا الإِتمام؛ فالمذهب أنه يتم، وعللوا ذلك: أن الأصل وجوب الإِتمام، فإذا لم ينوِ القصر لزمه الأصل؛ وهو الإِتمام.
والقول الثاني في المسألة:
أنه يقصر وإن لم ينوِ القصر، لأن الأصل في صلاة المسافر القصر، وهذا يقع كثيراً يكبّر الإِنسان في الصلاة الرباعية، وهو مسافر ولا يخطر على باله القصر، لكن بعدما يكبّر ويقرأ الفاتحة أو يركع أو ما أشبه ذلك يذكر أنه مسافر فينوي القصر، فعلى المذهب يجب عليه الإِتمام.
والصحيح: أنه لا يلزمه الإِتمام، بل يقصر؛ لأنه الأصل، وكما أن المقيم لا يلزمه نية الإِتمام، كذا المسافر لا يلزمه نية القصر.
قوله: «أو شك في نيته».(166/37)
هذه هي المسألة التاسعة: إذا شك في نية القصر، يعني: شك هل نوى القصر أم لم ينوِ؟ فيلزمه الإِتمام، وهذه المسألة غير المسألة الأولى، فالأولى جزم بأنه لم ينوِ، والثانية شك هل نوى أم لا؟ فالمذهب أنه يلزمه الإِتمام، لأن الأصل عدم النية.
ومن القواعد المقررة: أن من شك في وجود شيء أو عدمه فالأصل العدم، وإذا لم يتيقن أنه نوى القصر لزمه الإِتمام، ووجوب الإِتمام في هذه المسألة أضعف من وجوب الإِتمام في المسألة التي قبلها وهي: إذا جزم بأنه لم ينوِ، فإذا كان القول الصحيح في المسألة الأولى: أنه يقصر كان القول بجواز القصر في هذه المسألة من باب أولى، وعلى هذا فنقول: إذا شك هل نوى القصر أو لم ينوه؟ فإنه يقصر ولا يلزمه الإِتمام، لأن الأصل في صلاة المسافر القصر.
قوله: «أو نوى إقامة أكثر من أربعة أيام».
هذه هي المسألة العاشرة: فإذا نوى المسافر إقامة أكثر من أربعة أيام في أي مكان كان، سواء نوى الإِقامة في البر أو نوى الإِقامة في البلد، فيلزمه أن يتم.
مثاله: رجل سافر إلى العمرة ونوى أن يقيم في مكة أسبوعاً فيلزمه الإِتمام؛ لأنه نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
ومثال الإقامة في غير البلد: رجل مسافر انتهى إلى غدير فأعجبه المكان فنزل، ونوى أن يبقى في هذا المكان خمسة أيام فيلزمه أن يتم؛ لأنه نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في حجة الوداع يوم الأحد الرابع من ذي الحجة، وأقام فيها الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء، وخرج يوم الخميس إلى مِنَى، فأقام في مكة أربعة أيام يقصر الصلاة فنأخذ من هذا أن المسافر إذا نوى إقامة أربعة أيام فإنه يقصر لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم علم اليقين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد عزم على أن يبقى هذه الأيام الأربعة؛ لأنه قدم إلى الحج، ولا يمكن أن ينصرف قبل الحج.(166/38)
فإذا قال قائل: إقامة النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأيام الأربعة هل وقعت اتفاقاً أم قصداً؟
الجواب: أنها وقعت اتفاقاً بلا شك أي أن رحلته صلى الله عليه وسلم صادفت القدوم في اليوم الرابع من ذي الحجة؛ لأنه لم يرد عنه أنه حدد يوماً معيناً للقدوم حتى نقول: إن هذا القدوم وقع عن قصد، لكنه وقع كما يقع للمسافر، فيقدم قبل الحج بيوم أو أقل أو أكثر كما هي العادة.
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن نقول: إنه لو أقام خمسة أيام أو أكثر يقصر ما دمتم قلتم: إنه وقع اتفاقاً لا قصداً؟
قلنا: الأصل أن إقامة المسافر في أي مكان تقطع السفر، لأن المعروف أن المسافر يسير ولا ينزل إلا ضحوة أو عشية، أما أن ينزل أكثر من ذلك فإن هذا خلاف الأصل، فالأصل أن المسافر إذا أقام في البلد أو في المكان غير البلد أن إقامته تقطع السفر، ولكن سمح في الأيام الأربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أقامها وقصر فيبقى ما زاد عليها على الأصل، وهو المنع من الترخص ووجوب الإِتمام وامتناع المسح على الخفين أكثر من يوم وليلة، ومنع الإِفطار في رمضان، فجميع أحكام السفر تنقطع إلا حكماً واحداً فإنه يبقى وهو صلاة الجمعة، فإن صلاة الجمعة تلزم هذا الرجل كغيره، ولا يصح أن يكون إماماً فيها، ولا خطيباً، ولا أن يتم به العدد، فصار مسافراً من وجه، مقيماً من وجه، ففي الجمعة ليس من المقيمين؛ لأنه لا تنعقد به الجمعة، ولا يصح أن يكون إماماً فيها ولا خطيباً، ولا تسقط عنه، بل تجب عليه، وفيما عدا ذلك حكمه حكم المقيم، هذا تعليل كلام المؤلف.
وهذه المسألة من مسائل الخلاف التي كثرت فيها الأقوال فزادت على عشرين قولاً لأهل العلم، وسبب ذلك أنه ليس فيها دليل فاصل يقطع النزاع، فلهذا اضطربت فيها أقوال أهل العلم، فأقوال المذاهب المتبوعة هي:(166/39)
أولاً: مذهب الحنابلة رحمهم الله: كما سبق أنه إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام انقطع حكم السفر في حقه ولزمه الإِتمام، لكن لا ينقطع بالنسبة للجمعة؛ لأن الجمعة يشترط فيها الاستيطان، وهذا غير مستوطن، وبناء على هذا القول ينقسم الناس إلى: مسافر، ومستوطن، ومقيم غير مستوطن.
فالمسافر أحكام السفر في حقه ثابتة.
والمستوطن أحكام الاستيطان في حقه ثابتة، ولا يستثنى من هذا شيء.
والمقيم غير المستوطن تثبت في حقه أحكام السفر من وجه وتنتفي من وجه آخر، لكن هذا التقسيم يقول شيخ الإِسلام: إنه ليس عليه دليل لا من الكتاب ولا السنّة.
ثانياً: مذهب الشافعي: إذا نوى إقامة أربعة أيام فأكثر فإنه يلزمه الإِتمام، لكن لا يحسب منها يوم الدخول، ويوم الخروج وعلى هذا تكون الأيام ستة، يوم الدخول، ويوم الخروج، وأربعة أيام بينها.
ثالثاً: مذهب أبي حنيفة: إذا نوى إقامة أكثر من خمسة عشر يوماً أتم، وإن نوى دونها قصر.
وفيها أيضاً مذاهب أخرى فردية، مثل ما ذهب إليه ابن عباس بأنه إذا نوى إقامة تسعة عشر يوماً قصر، وما زاد فإنه لا يقصر.
ولكن إذا رجعنا إلى ما يقتضيه ظاهر الكتاب والسنّة وجدنا أن القول الذي اختاره شيخ الإِسلام هو القول الصحيح، وهو أن المسافر مسافر، سواء نوى إقامة أكثر من أربعة أيام أو دونها.
وذلك لعموم الأدلة الدالة على ثبوت رخص السفر للمسافر بدون تحديد، ولم يحدد الله في كتابه ولا رسوله صلى الله عليه وسلم المدة التي ينقطع بها حكم السفر.(166/40)
1 _ فمن القرآن قوله تعالى: )وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ )(النساء: من الآية101)فقوله تعالى: {)وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ)(النساء: من الآية101) } عام يشمل كل ضارب، ومن المعلوم أن الضرب في الأرض أحياناً يحتاج إلى مدة طويلة بحسب حاجته. قال الله تعالى(وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّه)(المزمل: من الآية20)] فالذين يضربون في الأرض للتجارة مثلاً، هل يكفيهم أن يقيموا أربعة أيام فأقل في البلد؟
ربما يكفيهم وربما لا يكفيهم، فالتاجر قد يكفيه يوم واحد، وقد يتأخر أربعة أيام أو خمسة أيام أو عشرة أيام، وقد يطلب سلعة لا تحصل له في أربعة أيام؛ لأنه يجمعها من هنا وهناك.
2 _ أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام مدداً مختلفة يقصر فيها فأقام في تبوك عشرين يوماً يقصر الصلاة ، «وأقام في مكة عام الفتح تسعة عشر يوماً يقصر الصلاة» وأقام في مكة عام حجة الوداع عشرة أيام يقصر الصلاة، لأن أنساً سئل كم أقمتم في مكة _ أي: في حجة الوداع _ قال: أقمنا بها عشراً» لأنه أضاف أيام الحج إلى الأيام الأربعة، ومن المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في يوم الأحد الرابع من ذي الحجة، وخرج في اليوم الرابع عشر من ذي الحجة، فتكون إقامته عشرة أيام.
فإن قال قائل: ما تقولون في حجة من رأى أنه إذا أقام أكثر من أربعة أيام لزمه الإِتمام، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام أربعة أيام قبل أن يخرج إلى منى؟.(166/41)
فالجواب: أن هذا دليل عليهم وليس دليلاً لهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة في اليوم الرابع اتفاقاً، ولا أحد يشك في هذا، وهل هناك دليل على أنه لو قدم في اليوم الثالث أتم؟ بل نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم بأن الناس يقدمون للحج قبل اليوم الرابع، وليس كل الحجاج لا يقدمون إلا من الرابع فأكثر، بل منهم من يقدم في ذي الحجة، وفي ذي القعدة وفي شوال، لأن أشهر الحج تبتدئ من شوال، ولم يقل للأمة من قدم مكة قبل اليوم الرابع فليتم، ولو كانت شريعة الله أن من قدم قبل اليوم الرابع من ذي الحجة إلى مكة لزمه أن يتم لوجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يبيّنه لدعاء الحاجة للبلاغ والتبيين، فلما لم يبين ولم يقل للناس من قدم قبل اليوم الرابع فليتم علم أنه لا يلزمه الإِتمام، فيكون هذا الحديث دليلاً على أنه لا يلزم الإِتمام من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام.
إذاً لا دليل على التحديد بأربعة أيام، لأن بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في مكة أربعة أيام وقع مصادفة لا تشريعاً، وهذه قاعدة، ولهذا لا يسن للحاج إذا دفع من عرفات إلى مزدلفة أن ينزل في الطريق، ثم يبول، ثم يتوضأ وضوءاً خفيفاً، لأن هذا وقع منه صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتفاق .(166/42)
وأيضاً كيف نقول: من نوى الإِقامة ستاً وتسعين ساعة فله أن يقصر، ومن نوى الإِقامة ستاً وتسعين ساعة وعشر دقائق فليس له أن يقصر؛ لأن الأول مسافر والثاني مقيم، أين هذا التحديد في الكتاب والسنّة؟ والصلاة كما نعلم أعظم أركان الإِسلام بعد الشهادتين فكيف نقول للأمة: إنَّ هذا الرجل الذي نوى إقامة ست وتسعين ساعة وعشر دقائق لو قصر لكانت صلاته باطلة؟ فمثل هذا لا يمكن أن يترك بلا بيان، وترك البيان في موضع يحتاج إلى بيان يعتبر بياناً، إذ لو كان خلاف الواقع والواجب لبين، وعلى هذا فنقول: إن القول الراجح ما ذهب إليه شيخ الإِسلام ابن تيمية من أن المسافر مسافر ما لم ينوِ واحداً من أمرين:
1 _ الإِقامة المطلقة.
2 _ أو الاستيطان.
والفرق: أن المستوطن نوى أن يتخذ هذا البلد وطناً، والإِقامة المطلقة أنه يأتي لهذا البلد ويرى أن الحركة فيه كبيرة، أو طلب العلم فيه قوي فينوي الإِقامة مطلقاً بدون أن يقيدها بزمن أو بعمل، لكن نيته أنه مقيم لأن البلد أعجبه إما بكثرة العلم وإما بقوة التجارة أو لأنه إنسان موظف تابع للحكومة وضعته كالسفراء مثلاً، فالأصل في هذا عدم السفر؛ لأنه نوى الإِقامة فنقول: ينقطع حكم السفر في حقه.
أما من قيد الإِقامة بعمل ينتهي أو بزمن ينتهي فهذا مسافر، ولا تتخلف أحكام السفر عنه.
ثم إننا إذا تأملنا القول بأنه تنقطع أحكام السفر إذا نوى إقامة أكثر من أربعة أيام وجدنا هذا القول متناقضاً.(166/43)
ووجه التناقض: أنه في الجمعة في حكم المسافرين، وفي غير الجمعة في حكم المقيمين، فمثل هذه الأمور تحتاج إلى دليل وتوضيح، ولهذا ما أحسن قول صاحب المغني لما ذكر أن تحديد السفر بالمسافة مرجوح قال: إن التحديد توقيف، أي: أنه حد من حدود الله يحتاج إلى دليل، فأي إنسان يحدد شيئاً أطلقه الشارع فعليه الدليل، وأي إنسان يخصص شيئاً عمّمه الشارع فعليه الدليل، لأن التقييد زيادة شرط، والتخصيص إخراج شيء من نصوص الشارع، فلا يحل لأحد أن يضيف إلى ما أطلقه الشارع شرطاً يقيده، ولهذا قلنا في المسح على الخف: إن الصحيح أنه لا يشترط فيه ما يشترطه الفقهاء من كونه ساتراً لمحل الفرض بحيث لا يتبين فيه ولا موضع الخرز، وقلنا: إن ما سمي خفاً فهو خف، سواء كان مخرقاً أو رقيقاً أو ثخيناً أو سليماً.
ولنا في هذا رسالة بيّنّا فيها من اختار هذا القول من العلماء أمثال: شيخ الإِسلام ابن تيمية، وابن القيم، والشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب، وشيخنا عبد الرحمن بن سعدي، والشيخ محمد رشيد رضا، وعلى كل حال نحن لا نعرف الحق بكثرة الرجال، وإنما نعرف الحق بموافقة الكتاب والسنّة.
قوله: «أو ملاحاً» الملاح قائد السفينة.
قوله: «معه أهله» أي: مصاحبون له، والجملة في محل نصب على أنها صفة لملاح.
قوله: «لا ينوي الإِقامة ببلد» يعني: لا ببلد المغادرة، ولا ببلد الوصول، فهذا يجب عليه أن يتم؛ لأن بلده سفينته.
وعلم من قول المؤلف: «معه أهله» أنه لو كان أهله في بلد فإنه مسافر ولو طالت مدته في السفر.
وعلم منه أيضاً: أنه لو كان له نية الإِقامة في بلد فإنه يقصر إذا غادره؛ لأنه مسافر، فمثلاً: إذا كان ملاحاً في سفينة وأهله في جدة، لكنه يروح يجوب البحار كالمحيط الهندي والهادي، ويأتي بعد شهر أو شهرين إلى جدة فهذا مسافر؛ لأنه ليس معه أهل، بل له بلد يأوي إليه.(166/44)
وكذلك أيضاً: لو فرض أن الملاح ينوي الإِقامة في بلد فهذا نقول له: إنك مسافر إذا فارقته، لأن لك بلداً معيناً عيّنته للإِقامة.
ومثل ذلك أصحاب سيارات الأجرة الذين دائماً في البر نقول: إن كان أهلهم معهم ولا ينوون الإِقامة ببلد فهم غير مسافرين لا يقصرون ولا يفطرون في رمضان، وإن كان لهم أهل في بلد فإنهم إذا غادروا بلد أهلهم فهم مسافرون يفطرون ويقصرون، وكذلك لو لم يكن لهم أهل لكنهم ينوون الإِقامة في بلد يعتبرونه مثواهم ومأواهم، فهم مسافرون حتى يرجعوا إلى البلد الذي نووا أنه مأواهم.
فإذا قال قائل: هؤلاء الملاحون أو السائقون لسيارات الأجرة دائماً في سفر، فإذا قلنا: أنتم مسافرون لكم الفطر فمتى يصومون؟
نقول: يمكن أن يصوموا في سفرهم في أيام الشتاء؛ لأنها أيام قصيرة وباردة، فالصوم فيها لا يشق، كذلك لو قدموا إلى بلدهم في رمضان فإنه يلزمهم الصوم ما داموا في بلدهم.
فإن قدموا في أثناء اليوم إلى بلدهم ففي لزوم الإِمساك عليهم قولان لأهل العلم، هما روايتان عن الإِمام أحمد .
والصحيح: أنه لا يلزمهم الإِمساك؛ لأنهم لا يستفيدون بهذا الإِمساك شيئاً، وليس هذا اليوم في حقهم يوماً محترماً؛ لأنهم يأكلون ويشربون في أوله وهم مباح لهم ذلك، فهم لم ينتهكوا حرمة اليوم، بخلاف من أفطر أول النهار لغير عذر فإنه يلزمه الإِمساك ولا يقول أفسدت صومي فآكل وأشرب، بل نقول: أنت انتهكت حرمة اليوم فيلزمك الإِمساك.
ومثل ذلك أيضاً: لو أن الحائض طهرت في أثناء اليوم من رمضان فإنه لا يلزمها على القول الراجح أن تمسك؛ لأن هذه المرأة يباح لها الفطر أول النهار إباحة مطلقة، فاليوم في حقها ليس يوماً محترماً، ولا تستفيد من إلزامها بالإِمساك إلا التعب.
مسألة: من أفطر لإنقاذ معصوم هل يلزمه الإِمساك بقية اليوم كمَن رأى شخصاً غرق في الماء ولا يستطيع أن ينجيه من الغرق إلا إذا أفطر بأكل أو شرب فأفطر ثم أنقذه وأنجاه؟(166/45)
الجواب: لا يلزمه على القول الراجح؛ لأنه أفطر بسبب مباح.
بخلاف الرجل الذي بلغ في أثناء اليوم فإنه يلزمه الإِمساك.
والفرق بين هذه المسألة والمسائل التي قبلها: أن المسائل التي قبلها زال فيها المانع، وهذه وجد سبب الوجوب، فإذا وجد سبب الوجوب في أثناء النهار لزمه الإِمساك، كالصغير يبلغ، والمجنون يعقل والكافر يسلم، وفي المسألة خلاف لكن الصحيح وجوب الإِمساك ولا يقضي اليوم.
قوله: «وإن كان له طريقان فسلك أبعدهما» يعني: رجل في بلد يريد أن يسافر إلى بلد آخر، وللبلد هذا طريقان: أحدهما بعيد، والثاني قريب، أي: أن أحدهما يبلغ المسافة، والآخر لا يبلغها، فسلك أبعدهما فإنه يقصر، لأنه يصدق عليه أنه مسافر سفر قصر، ولكن لو فرض أنه تعمد أن يسلك الطريق الأبعد في رمضان من أجل أن يفطر فهنا نقول له: لا يجوز لك الفطر؛ لأنه يمكنك أن تسلك طريقاً قصيراً بدون فطر، هذا هو الظاهر ومع ذلك ففي النفس من هذا شيء.
قوله: «أو ذكر صلاة سفر في آخر قصر» «آخر» صفة لموصوف محذوف، التقدير: في سفر آخر.
مثاله: سافر إلى العمرة وصلّى بغير وضوء ناسياً، ولما رجع من العمرة سافر إلى المدينة وفي أثناء سفره إلى المدينة ذكر أنه صلّى في سفره للعمرة صلاة بغير وضوء، فنقول: يصلّيها قصراً؛ لأن الصلاة وجبت في السفر أداءً وقضاءً، وكذلك لو نسيها في سفر العمرة، ثم ذكرها في سفر زيارة المدينة فإنه يقصر، لأن هذه الصلاة سفرية أداءً وقضاءً.
وإن ذكر صلاة سفر في حضر أو صلاة حضر في سفر فقد سبق الكلام فيها.
وإن ذكر صلاة حضر في حضر فإنه يصلّي أربعاً، وعلى هذا فللمسألة أربع صور:
1 _ ذكر صلاة سفر في سفر، يقصر.
2 _ ذكر صلاة حضر في حضر، يتم.
3 _ ذكر صلاة سفر في حضر، يقصر على الصحيح.
4 _ ذكر صلاة حضر في سفر، يتم.
قوله: «وإن حبس» أي: منع من السفر.
قوله: «ولم ينوِ إقامة» أي: لم ينوِ أن يبقى مدة محددة فإنه يقصر ولو طالت المدة.(166/46)
وقول المؤلف: «حبس» لم يبيّن نوع الحبس فيشمل: من حبس ظلماً، ومن حبس بحق، ومن حبس بعدو، ومن حبس بمرض، ومن حبس في تغيرات جوية، ومن حبس بخوف على نفسه، فمن منع السفر بأي سبب كان فإنه يقصر.
ودليل ذلك: أن ابن عمر : «حبسه الثلج بأذربيجان لمدة ستة أشهر يقصر الصلاة» ، وابن عمر صحابي، والقول الراجح أن فعل الصحابي وقوله حجة بشرطين وهما:
1 _ أن لا يخالف نصاً.
2 _ وأن لا يعارضه قول صحابي آخر.
فإن خالف نصاً أخذ بالنص مهما كان الصحابي، وإن عارضه قول صحابي آخر طلب المرجح واتبع ما ترجح من القولين، ثم إن فعل ابن عمر هذا مؤيد بعمومات الكتاب والسنّة الدالة على أن المسافر يقصر حتى لو بقي باختياره على القول الراجح.
وقوله: «ولم ينوِ إقامة» هذا شرط لا بد منه، فإن نوى إقامة مطلقة لا إقامة ينتظر بها زوال المانع فإنه يتم.
قوله: «أو أقام لقضاء حاجة بلا نية إقامة» أي: لم ينوِ إقامة مطلقة.
قوله: «قصر أبداً» ولو بقي طول عمره فإنه يقصر، لأنه إنما نوى الإِقامة من أجل هذه الحاجة، ولم ينوِ إقامة مطلقة، وهناك فرق بين شخص ينوي الإِقامة المطلقة وشخص آخر ينوي الإِقامة المقيدة، فالذي ينوي الإِقامة المقيدة لا يعد مستوطناً، والذي ينوي الإِقامة المطلقة يعد مستوطناً.
فالإِقامة المطلقة: أن ينوي أنه مقيم ما لم يوجد سبب يقتضي مغادرته، ومن ذلك سفراء الدول، فلا شك أن الأصل أن إقامتهم مطلقة لا يرتحلون إلا إذا أمروا بذلك، وعلى هذا فيلزمهم الإِتمام، ويلزمهم الصوم في رمضان، ولا يزيدون عن يوم وليلة في مسح الخفين؛ لأن إقامتهم مطلقة، فهم في حكم المستوطنين، وكذلك أيضاً الذين يسافرون إلى بلد يرتزقون فيها هؤلاء إقامتهم مطلقة، لأنهم يقولون: سنبقى ما دام رزقنا مستمراً.
والإِقامة المقيدة: تارة تقيد بزمن، وتارة تقيد بعمل.(166/47)
فالمقيد بزمن سبق لنا أن المشهور من المذهب أنه إذا نوى أكثر من أربعة أيام يتم ودونها يقصر، وكما سبق بيان الخلاف فيها أيضاً .
والمقيدة بعمل يقصر فيها أبداً ولو طالت المدة، ومن ذلك لو سافر للعلاج ولا يدري متى ينتهي، فإنه يقصر أبداً حتى لو غلب على ظنه أنه سيطول، لأنه ينتظر هذه الحاجة، وهذا هو عمدة من قال: إنه لا حد للإِقامة؛ لأنهم يقولون: ما دام الحامل له على الإِقامة هي الحاجة، فلا فرق في الحقيقة بين أن يحدد أو لا يحدد، فهو مقيم لشيء ينتظره متى انتهى منه رجع إلى بلده.
وقوله: «قصر أبداً» هذا هو المشهور من المذهب.
وذهب بعض العلماء: إلى أنه إذا أقام وانتهت المدة المحددة لانقطاع حكم السفر فإنه يجب عليه الإِتمام، وعليه فإذا أقام لحاجة لا يدري متى تنقضي وانتهت أربعة الأيام لزمه الإِتمام.
والأول قول الجمهور _ حتى إن ابن المنذر حكى الإِجماع عليه _ وأنه لا يلزمه الإِتمام ما دام ينتظر انتهاء الحاجة.
قوله: «فصل» يعني: في الجمع بين الصلاتين.
والجمع هو: ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى، وهذا التعريف يشمل جمع التقديم وجمع التأخير وقولنا: ضم إحدى الصلاتين للأخرى، يراد به ما يصح الجمع بينهما، فلا يدخل في ذلك ضم صلاة العصر إلى صلاة المغرب مثلاً؛ لأن صلاة المغرب نوع يخالف نوع صلاة العصر، فإن صلاة العصر نهارية، وصلاة المغرب ليلية، ولا يدخل فيه أيضاً ضم صلاة العشاء إلى الفجر، لأن وقتيهما منفصل بعضه عن بعض.
قوله: «يجُوزُ الجمع» التعبير بكلمة «يجوز» يحتمل أن يريد المؤلف : أنه لا يمنع، فيكون المراد بذكر الجواز دفع قول من يقول إنه لا يجوز، فلا ينافي أن يكون مستحباً.(166/48)
ويحتمل أنه يريد بقوله: «يجوز» الإِباحة أي: أن الجمع مباح وليس بممنوع، ثم هل يستحب أو لا يستحب فيه كلام آخر. وعلى كل فالمعروف من المذهب أن الجمع جائز، وليس بمستحب، بل إن تركه أفضل، فهو رخصة، وتركه أفضل للخلاف في جوازه، فإن مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز الجمع إلا بين الظهر والعصر في عرفة، وبين المغرب والعشاء في مزدلفة، والعلة في ذلك عنده: أن هذا من باب النسك، وليس من باب العذر أي: السفر ولكن قوله ضعيف.
والصحيح أن الجمع سنّة إذا وجد سببه لوجهين:
الوجه الأول: أنه من رخص الله والله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه.
الوجه الثاني: أن فيه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه كان يجمع عند وجود السبب المبيح للجمع.
فيدخل هذا في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «صلوا كما رأيتموني أصلي» .
قوله: «بين الظهرين» هما الظهر والعصر، لكنه أطلق عليهما لفظ الظهرين من باب التغليب، كما يقال القمران للشمس والقمر، والعمران لأبي بكر وعمر.
قوله: «بين العشاءين» هما المغرب والعشاء، وهو من باب التغليب كالظهرين.
قوله: «في وقت إحداهما» أي الأولى أو الثانية.
واعلم أنه إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً، فإن شئت فاجمع في وقت الأولى أو في الثانية أو في الوقت الذي بينهما، وأما ظن بعض العامة أنه لا يجمع إلا في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر، أو آخر وقت المغرب وأول وقت العشاء فلا أصل له.
قوله: «في سفر قصر» هذا أحد الأسباب المبيحة للجمع، وهو سفر القصر، وإذا قال العلماء: في سفر قصر، فمرادهم به السفر الذي تقصر فيه الصلاة، فيخرج به السفر الذي لا تقصر فيه الصلاة، وسفر القصر سبق الكلام عليه، هل هو مقيد بمسافة معينة أو بالعرف .
وقوله: «في سفر قصر» ظاهر كلامه أنه يجوز الجمع للمسافر سواء كان نازلاً أم سائراً، وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء.
فمنهم من يقول: إنه لا يجوز الجمع للمسافر إلا إذا كان سائراً لا إذا كان نازلاً.(166/49)
واستدل بحديث ابن عمر: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين المغرب والعشاء إذا جَدَّ به السير» يعني إذا كان سائراً.
وبأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمع بين الصلاتين في منى في حجة الوداع؛ لأنه كان نازلاً ، وإلا فلا شك أنه في سفر؛ لأنه يقصر الصلاة.
وأورد عليهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهرين في عرفة (2) وهو نازل.
وأجابوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهرين في عرفة وهو نازل ليدرك الناس صلاة الجماعة على إمام واحد؛ لأن الناس بعد الصلاة سوف يتفرقون في مواقفهم في عرفة، ويكون جمعهم بعد ذلك صعباً وشاقاً، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين الظهر والعصر مع أنه نازل من أجل حصول الجماعة على إمام واحد.
ونظير ذلك أن الناس يجمعون بين المغرب والعشاء في المطر من أجل تحصيل الجماعة، وإلا فبإمكانهم أن يصلّوا الصلاة في وقتها في بيوتهم؛ لأنهم معذورون بالوحل.
والقول الثاني: أنه يجوز الجمع للمسافر، سواء كان نازلاً أم سائراً.
واستدلوا لذلك بما يلي:
1 _أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع في غزوة تبوك وهو نازل .
2 _ظاهر حديث أبي جحيفة الثابت في الصحيحين: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلاً في الأبطح في حجة الوداع، وأنه خرج ذات يوم وعليه حلة حمراء فأمَّ الناس فصلّى الظهر ركعتين والعصر ركعتين» قالوا: فظاهر هذا أنهما كانتا مجموعتين.
3 _عموم حديث ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم: «جمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر» .
4 _ أنه إذا جاز الجمع للمطر ونحوه، فجوازه للسفر من باب أولى.
5 _أن المسافر يشق عليه أن يفرد كل صلاة في وقتها، إما للعناء، أو قلة الماء، أو غير ذلك.
والصحيح أن الجمع للمسافر جائز لكنه في حق السائر مستحب وفي حق النازل جائز غير مستحب إن جمع فلا بأس، وإن ترك فهو أفضل.(166/50)
قوله: «ولمريض يلحقه بتركه مشقة» أي: يجوز الجمع لمريض يلحقه بترك الجمع مشقة أي تعب وإعياء، أيَّ مرض كان، سواء كان صداعاً في الرأس، أو وجعاً في الظهر، أو في البطن، أو في الجلد، أو في غير ذلك، ودليل ذلك ما يلي:
1 _ عموم قول الله تعالى: ) يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: من الآية185) وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: من الآية78) _ حديث ابن عباس : «جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر» قالوا: فإذا انتفى الخوف والمطر، وهو في المدينة انتفى السفر أيضاً، ولم يبق إلا المرض، وقد يكون هناك عذر غير المرض، ولكن ابن عباس: «سئل لماذا صنع ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمته» أي: أن لا يلحقها حرج في عدم الجمع، ومن هنا نأخذ أنه متى لحق المكلف حرج في ترك الجمع جاز له أن يجمع، ولهذا قال المؤلف: «ولمريض يلحقه بتركه مشقة».
وفهم من قول المؤلف: أنه لو لم يلحقه مشقة، فإنه لا يجوز له الجمع وهو كذلك.
فإذا قال قائل: ما مثال المشقة؟ قلنا: المشقة أن يتأثر بالقيام والقعود إذا فرق الصلاتين، أو كان يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة.. والمشقات متعددة.
فحاصل القاعدة فيه: أنه كلما لحق الإِنسان مشقة بترك الجمع جاز له الجمع حضراً وسفراً.
قوله: «وبين العشائين» أي: بين المغرب والعشاء، للأعذار التالية:
الأول:
قوله: «لمطر يبل الثياب» يعني: إذا كان هناك مطر يبل الثياب لكثرته وغزارته، فإنه يجوز الجمع بين العشائين، فإن كان مطراً قليلاً لا يبل الثياب فإن الجمع لا يجوز، لأن هذا النوع من المطر لا يلحق المكلف فيه مشقة، بخلاف الذي يبل الثياب، ولا سيما إذا كان في أيام الشتاء، فإنه يلحقه مشقة من جهة البلل، ومشقة أخرى من جهة البرد، ولا سيما إن انضم إلى ذلك ريح فإنها تزداد المشقة.
فإن قيل: ما ضابط البلل؟(166/51)
فالجواب: هو الذي إذا عصر الثوب تقاطر منه الماء.
الثاني:
قوله: «ووحل» الوحل: الزلق والطين؛ فإذا كانت الأسواق قد ربصت من المطر فإنه يجوز الجمع، وإن لم يكن المطر ينزل، وذلك لأن الوحل والطين، يشق على الناس أن يمشوا عليه.
وعلم من قوله: بين العشائين أنه لا يجوز الجمع بين الظهرين لهذه الأسباب وهو المذهب. والراجح أنه جائز لهذه الأسباب وغيرها بين الظهرين والعشائين عند وجود المشقة بترك الجمع، كما يفيده حديث ابن عباس .
الثالث:
قوله: «وريح شديدة باردة» اشترط المؤلف شرطين للريح:
1 _ أن تكون شديدة.
2 _ وأن تكون باردة.
وظاهر كلامه: أنه لا يشترط أن تكون في ليلة مظلمة، بل يجوز الجمع للريح الشديدة الباردة في الليلة المقمرة أيضاً.
فإذا قال قائل: ما هو حد الشدة والبرودة؟
فالجواب على ذلك: أن يقال: المراد بالريح الشديدة ما خرج عن العادة، وأما الريح المعتادة فإنها لا تبيح الجمع، ولو كانت باردة، والمراد بالبرودة ما تشق على الناس.
فإن قال قائل: إذا اشتد البرد دون الريح هل يباح الجمع؟ قلنا: لا لأن شدة البرد بدون الريح يمكن أن يتوقاه الإِنسان بكثرة الثياب، لكن إذا كان هناك ريح مع شدة البرد فإنها تدخل في الثياب، ولو كان هناك ريح شديدة بدون برد فلا جمع؛ لأن الرياح الشديدة بدون برد ليس فيها مشقة، لكن لو فرض أن هذه الرياح الشديدة تحمل تراباً يتأثر به الإِنسان ويشق عليه، فإنها تدخل في القاعدة العامة، وهي المشقة، وحينئذٍ يجوز الجمع.
فإذا قال قائل: ما الدليل على اختصاص الجمع للريح الشديدة والمطر والوحل بالعشائين.
قلنا: الدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم: «جمع بين العشائين في ليلة مطيرة» ولكن هذا الحديث فيه نظر، والذي رواه النجاد، وليس البخاري كما في بعض نسخ الروض.(166/52)
وأيضاً كونه جمع في ليلة مطيرة لا يمنع أن يجمع في يوم مطير، لأن العلة هي المشقة، ولهذا كان القول الصحيح في هذه المسألة: أنه يجوز الجمع بين الظهرين لهذه الأعذار، كما يجوز الجمع بين العشائين، والعلة هي المشقة، فإذا وجدت المشقة في ليل أو نهار جاز الجمع.
فأسباب الجمع هي: السفر، والمرض، والمطر، والوحل، والريح الشديدة الباردة، ولكن لا تنحصر في هذه الأسباب الخمسة، بل هذه الخمسة التي ذكرها المؤلف كالتمثيل لقاعدة عامة وهي: المشقة، ولهذا يجوز الجمع للمستحاضة بين الظهرين، وبين العشائين لمشقة الوضوء عليها لكل صلاة، ويجوز الجمع أيضاً للإِنسان إذا كان في سفر وكان الماء بعيداً عنه، ويشق عليه أن يذهب إلى الماء ليتوضأ لكل صلاة، حتى وإن قلنا بعدم جواز الجمع في السفر للنازل، وذلك لمشقة الوضوء عليه لكل صلاة.
مسألة: هل من لازم جواز الجمع جواز القصر؟
الجواب: لا، فقد يجوز الجمع ولا يجوز القصر، وقد يجوز القصر ولا يجوز الجمع على رأي من يرى أن الجمع لا يجوز للمسافر النازل فلا تلازم بينهما.
قوله: «ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت ساباط» يعني: يجوز الجمع بين العشائين للمطر، ولو صلى في بيته أو في مسجد طريقه تحت سقف.
و«لو» هذه إشارة خلاف تشير إلى أن بعض العلماء قال: إذا كان يصلّي في بيته فإنه لا يجوز أن يجمع لأجل المطر، وكذا إذا كان المسجد طريقه تحت ساباط.
والساباط: السقف أي: لو أن الشارع أو السوق الذي يؤدي إلى المسجد طريقه مسقوف بساباط، فإنه لا يجوز له أن يجمع لأنه لا مشقة عليه في الذهاب إلى المسجد.
والراجح أنه يجوز أن يجمع ولو كان طريقه إلى المسجد تحت ساباط لأنه يستفيد الصلاة مع الجماعة. وأما الصلاة في البيت فلها صور:
الأولى: أن يكون معذوراً بترك الجماعة لمرض أو مطر ونحوهما. فظاهر كلام المؤلف: أنه يجوز له الجمع.
الثانية: أن يصلي في بيته بلا عذر وظاهر كلام المؤلف أنها كالأولى.(166/53)
الثالثة: أن لا يكون يدعو مدعواً لحضور الجماعة كالأنثى فيحتمل أن يكون كلام المؤلف شاملاً لها ويحتمل أن لا يكون شاملاً لها فلا تجمع لأنها ليست من أهل الجماعة.
والراجح أنه لا يجوز الجمع في هذه الصور الثلاث، أما في الصورة الثانية فإنه لا يستفيد بهذا الجمع شيئاً، وأما في الصورة الثالثة فلأن المرأة ليست من أهل الجماعة.
فمراد المؤلف في قوله: «ولو صلّى في بيته، أو في مسجد طريقه تحت ساباط»، إذا كان من أهل الجماعة ويصلّي معهم فلا حرج أن يجمع مع الناس؛ لئلا تفوته صلاة الجماعة.
قوله: «والأفضل فعل الأرفق به من تأخير وتقديم» أي: الأفضل لمن يباح له الجمع فعل الأرفق به من تأخير وتقديم، فإن كان التأخير أرفق فليؤخر، وإن كان التقديم أرفق فليقدم.
ودليل هذا ما يلي:
1 _قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر)َ ) [البقرة: 185] .
2 _قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ الدِّينَ يُسرٌ» .
3 _ حديث معاذ: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا ارتحلَ قبل أن تزيغَ الشَّمسُ أخَّرَ الظُّهرَ إلى أنْ يجمَعها إلى العصرِ، فيصلِّيهما جميعاً، وإذا ارتحلَ بعد أن تزيغَ الشَّمسُ؛ عَجَّلَ العصرَ إلى الظُّهرِ، وصَلَّى الظُّهرَ والعصرَ جميعاً، ثم سار...» .
4 _أن الجمع إنما شرع رفقاً بالمكلف، فما كان أرفق فهو أفضل.
وكذلك المريض، لو كان الأرفق به أن يقدم صلاة العشاء مع المغرب فإن هذا أفضل، ولو كان بالعكس أن يؤخر المغرب إلى العشاء كان هذا أفضل.
مسألة: الجمع في المطر هل الأفضل التقديم أو التأخير؟
الأفضل التقديم؛ لأنه أرفق بالناس، ولهذا تجد الناس كلهم في المطر لا يجمعون إلا جمع تقديم.
هذا إذا قلنا: إن الجمع للمطر خاص في العشائين. أما إذا قلنا بأنه عام في العشائين والظهرين، فإن الأرفق قد يكون بالتأخير.(166/54)
واعلم أن كلام المؤلف: لا يعني أنه إذا جاز الجمع فلا بد أن يكون تقديماً أو تأخيراً، بل إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً، فيجوز أن تصلّي المجموعتين في وقت الأولى، أو في وقت الثانية، أو فيما بين ذلك، وأما ظن العامة أن الجمع لا يجوز إلا في وقت الأولى، أو وقت الثانية، فهذا لا أصل له كما سبق، لأنه متى أبيح الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً.
وقد استثنى بعض العلماء جمع عرفة؛ فقال: الأفضل فيه التقديم، ومزدلفة فالأفضل فيه التأخير، ولكن هذا لا وجه له؛ لأن جمع عرفة تقديماً أرفق بالناس من الجمع تأخيراً، لأن الناس لا يمكن أن يحبسوا إلى وقت العصر مجتمعين، وهم يريدون أن يتفرقوا في مواقفهم، ويدعوا الله؛ فالأرفق بهم بلا شك التقديم، وأما في مزدلفة فالأفضل التأخير؛ لأنه أرفق فإن إيقاف الناس في أثناء الطريق وهم في سيرهم إلى مزدلفة فيه مشقة.
فإن قال قائل: إذا تساوى الأمران عند الإِنسان التقديم أو التأخير فأيهما أفضل؟
فالجواب: قالوا: الأفضل التأخير، لأن التأخير غاية ما فيه تأخير الأولى عن وقتها، والصلاة بعد وقتها تعذر جائزة مجزئة، وأما التقديم ففيه صلاة الثانية قبل دخول وقتها، والصلاة قبل دخول الوقت لا تصح ولو لعذر، ولأنه أحوط حيث منع بعض المجوزين للجمع من جمع التقديم إلا في عرفة.
قوله: «فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند إحرامها» إذا جمع في وقت الأولى اشترط ثلاثة شروط:(166/55)
الشرط الأول: نية الجمع عند إحرامها وهذا مبني على اشتراط نية القصر للمسافر؛ لأن الجمع ضم إحدى الصلاتين إلى الأخرى، ولذلك فلا بد أن تكون نية الضم مشتملة على جميع أجزاء الصلاة، فلا بد أن ينوي عند إحرام الأولى، فلو فرض أنه دخل في الأولى وهو لا ينوي الجمع، ثم في أثناء الصلاة بدا له أن يجمع، فإن الجمع لا يصح؛ لأنه لم ينوه عند إحرام الأولى، فخلا جزء منها عن نية الجمع والجمع هو الضم، ولا بد أن يكون الضم مشتملاً لجميع الصلاة، ولو نوى الجمع بعد السلام من الأولى لم يصح من باب أولى.
والصحيح: أنه لا يشترط نية الجمع عند إحرام الأولى، وأن له أن ينوي الجمع ولو بعد سلامه من الأولى، ولو عند إحرامه في الثانية ما دام السبب موجوداً.
مثال ذلك: لو أن الإِنسان كان مسافراً وغابت الشمس، ثم شرع في صلاة المغرب بدون نية الجمع، لكن في أثناء الصلاة طرأ عليه أن يجمع فعلى المذهب لا يجوز، وعلى القول الصحيح يجوز، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية .
ومثال آخر: لو سلم من صلاة المغرب ثم نزل مطر، يبيح الجمع جاز له الجمع.
قوله: «ولا يفرق بينهما إلا بقدر إقامة ووضوء خفيف» هذا هو الشرط الثاني: وهو الموالاة بين الصلاتين.
«ويفرق» بالنصب؛ لأنها على تقدير أن، أي: وأن لا يفرق معطوفاً على مصدر صريح وهو قوله: «نية الجمع» والفعل المضارع إذا عطف على مصدر صريح فإنه ينصب بأن مضمرة ومنه قوله :
ولُبْسُ عَباءةٍ وتَقَرَّ عيني أحبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفوفِ فقوله: «ولبس عباءة وتقر»، أي: وأن تقر عيني، وتقول: زيارتي زيداً ويكرمني أحبّ إلي من التأخر عنه، زيارتي زيداً ويكرمني أي وأن يكرمني.
إذاً فقوله: «ولا يفرق» أي: يشترط أن لا يفرق بينهما، أي: بين المجموعتين في جمع التقديم إلا بمقدار إقامة ووضوء خفيف.(166/56)
وخلاصة هذا الشرط الموالاة بين الصلاتين، أي: أن تكون الصلاتان متواليتين لا يفصل بينهما إلا بشيء يسير بمقدار إقامة؛ لأن الإِقامة الثانية لا بد منها، ووضوء خفيف؛ لأن الإِنسان ربما يحتاج إلى الوضوء بين الصلاتين فسومح في ذلك.
قوله: «يبطل» أي: الجمع.
قوله: «براتبة» أي: بصلاة راتبة.
قوله: «بينهما» أي: بين الصلاة الأولى والثانية، أي: لو جمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم، فلما صلّى المغرب صلّى راتبة المغرب، فإنه لا جمع حينئذٍ لوجود الفصل بينهما بصلاة.
مسألة: لو فصل بينهما بفريضة، فبعد أن صلّى المغرب ذكر أنه صلّى العصر بلا وضوء فصلّى العصر، فلا جمع؛ لأنه إذا بطل الجمع بالراتبة التابعة للصلاة المجموعة فبطلانه بصلاة أجنبية من باب أولى.
ولو صلى تطوعاً غير الراتبة فمن باب أولى؛ لأنه إذا بطل بالراتبة التابعة للمجموعة فما كان أجنبياً عنها، وليس لها فهو من باب أولى.
واختار شيخ الإِسلام ابن تيمية: أنه لا تشترط الموالاة بين المجموعتين وقال: إن معنى الجمع هو الضم بالوقت أي: ضم وقت الثانية للأولى بحيث يكون الوقتان وقتاً واحداً عند العذر، وليس ضم الفعل، وعلى رأي شيخ الإِسلام: لو أن الرجل صلّى الظهر وهو مسافر بدون أن ينوي الجمع، ولو كان مقيماً ثم بدا له أن يسافر قبل العصر فإنه يجمع إذا سافر ولو طال الفصل، وعلى ما ذكره المؤلف لا يجمع لسببين:
أولاً: أنه لم ينوِ الجمع عند إحرام الأولى.
الثاني: أنه فصل بينهما.
وقد ذكر شيخ الإِسلام نصوصاً عن الإِمام أحمد تدل على ما ذهب إليه من أنه لا تشترط الموالاة في الجمع بين الصلاتين تقديماً كما أن الموالاة لا تشترط بالجمع بينهما تأخيراً كما سيأتي، والأحوط أن لا يجمع إذا لم يوالِ بينهما، ولكن رأي شيخ الإِسلام له قوة.
مسألة: رجل سافر بالطائرة، والمطار خارج البلد، وركب الطائرة، فأخذت دورة فمرت من فوق وهو يصلّي فهل يلزمه الإِتمام؛ لأن الهواء تابع للقرار؟(166/57)
الجواب: الظاهر لي: أنه لا يلزمه الإِتمام؛ لأن هذا المرور مرور سفر عابر، وليس مرور استقرار وانتهاء سفر، ثم إن المدة في الغالب تكون وجيزة.
قوله: «وأن يكون العذر...» إلى آخره أي: العذر المبيح للجمع. وهذا هو الشرط الثالث.
قوله: «موجوداً عند افتتاحهما وسلام الأولى» أي: افتتاح الصلاتين الأولى والثانية، وعند سلام الأولى، وذلك لأن افتتاح الأولى محل النية وقد سبق أنه يشترط في الجمع نيته عند تكبيرة الإِحرام ، فإذا كان يشترط نية الجمع عند تكبيرة الإِحرام لزم من هذا الشرط أن يشترط وجود العذر عند تكبيرة الإِحرام؛ لأن نية الجمع بلا عذر غير صحيحة، فإذا قلنا: لا بد من نية الجمع عند تكبيرة الإِحرام صار لا بد أيضاً من وجود العذر عند تكبيرة الإِحرام، إذاً هذا الشرط مبني على الشرط الأول الذي هو نية الجمع عند افتتاح الصلاة الأولى، وقد سبق أن القول الصحيح: عدم اشتراطه، وعلى ذلك لا يشترط وجود العذر عند افتتاح الأولى، فلو لم ينزل المطر مثلاً إلا في أثناء الصلاة فإنه يصح الجمع على الصحيح، بل لو لم ينزل إلا بعد تمام الصلاة الأولى أي: كانت السماء مغيمة ولم ينزل المطر، وبعد أن انتهت الصلاة الأولى نزل المطر، فالصحيح أن الجمع جائز بناء على هذا القول.
وعند شيخ الإِسلام: لا تشترط الموالاة أيضاً كما سبق ؛ وذلك لأن العذر المبيح للجمع إذا وجد جعل الوقتين وقتاً واحداً، فاندمج وقت الثانية في وقت الأولى وصار الإِنسان إذا فعل الأولى في أول الوقت، والثانية في آخر الوقت فلا بأس، وبناء على هذا القول يكون الشرط وجود العذر فقط، فإذا وجد العذر جاز الجمع سواء كان العذر مرضاً أو سفراً أو مطراً أو ريحاً شديدة باردة أو غير ذلك مما يكون في ترك الجمع معه مشقة.(166/58)
بقي الشرط الرابع وهو الترتيب، فيشترط الترتيب بأن يبدأ بالأولى ثم بالثانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ، ولأن الشرع جاء بترتيب الأوقات في الصلوات فوجب أن تكون كل صلاة في المحل الذي رتبها الشارع فيه، ولكن لو نسي الإِنسان أو جهل أو حضر قوماً يصلّون العشاء وهو قد نوى جمع التأخير، ثم صلّى معهم العشاء ثم المغرب، فهل يسقط الترتيب في هذه الأحوال أو لا يسقط؟
المشهور عند فقهائنا رحمهم الله: أنه لا يسقط، وإن كانوا يسقطونه بالنسيان في قضاء الفوائت ، لكنهم هنا لا يسقطونه، ويجعلون الفرق أن الجمع أداء، والقضاء قضاء، فالأول في وقته والثاني خارج وقته، وبناء على هذا لو أن الإِنسان قدم الثانية على الأولى سهواً أو جهلاً أو لإِدراك الجماعة أو لغير ذلك من الأسباب، فإن الجمع لا يصح فماذا يصنع في هذه الحال؟
الجواب: الصلاة التي صلاها أولاً، لم تصح فرضاً، ويلزمه إعادتها.
مثال ذلك: رجل كان ناوياً جمع تأخير، ثم دخل المسجد ووجد ناساً يصلّون العشاء فدخل معهم بنية العشاء، ولما انتهى من العشاء صلّى المغرب، نقول: صلاة العشاء لا تصح؛ لأنه قدمها على المغرب، والترتيب شرط فيصلّي العشاء مرة ثانية والمغرب صحيحة، ومعنى قولنا: لا تصح، أي: لا تصح فرضاً تبرأ به الذمة، ولكنها تكون نفلاً يثاب عليه.(166/59)
وفيه شرط خامس: أن لا تكون صلاة الجمعة، فإنّه لا يصح أن يجمع إليها العصر، وذلك لأن الجمعة صلاة منفردة مستقلة في شروطها وهيئتها وأركانها وثوابها أيضاً، ولأن السنّة إنما وردت في الجمع بين الظهر والعصر، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جمع العصر إلى الجمعة أبداً، فلا يصح أن تقاس الجمعة على الظهر لما سبق من المخالفة بين الصلاتين، بل حتى في الوقت على المشهور من مذهب الحنابلة فوقتها من ارتفاع الشمس قدر رمح إلى العصر، والظهر من الزوال إلى العصر وأيضاً الجمعة لا تصح إلا في وقتها، فلو خرج الوقت تصلّى ظهراً، والظهر تصح في الوقت وتصح بعده للعذر.
وهذا الشرط يؤخذ من قول المؤلف : يجوز الجمع بين الظهرين، فإن المراد بهما الظهر والعصر فلا يدخل في ذلك الجمعة والعصر.
ولكن لو قال قائل: أنا أريد أن أنوي الجمعة ظهراً؛ لأني مسافر وصلاة الظهر في حقي ركعتان يعني على قدر الجمعة؟
فنقول: هذه النية لا تصح على قول من يقول: إنه يشترط اتفاق نية الإِمام والمأموم، لأنهم لم يستثنوا من هذه المسألة إلا من أدرك من الجمعة أقل من ركعة فإنه يدخل مع الإِمام بنية الظهر لتعذر الجمعة في حقه، أما هذه فهي ممكنة فلا يصح أن ينوي الظهر خلف من يصلّي الجمعة، وهذا القول واضح أنه لا يصح أن ينويها ظهراً.
أما على القول الراجح: أن نية الإِمام والمأموم لا يضر الاختلاف بينهما فإنه يصح، ولكننا نقول: لا تنوها ظهراً؛ لأنك إذا نويتها ظهراً حرمت نفسك أجر الجمعة وأجر الجمعة أكبر بكثير من أجر الظهر، فكيف تحرم نفسك أجر الجمعة، من أجل الجمع؟ والأمر يسير: اُتْرُك العصر حتى يدخل وقتها ثم صلّها.
ولأن في نية صلاة الظهر قبل فوات الجمعة ممن تلزمه الجمعة إذا حضرها نظراً، لأن صلاة الظهر قبل فوات الجمعة ممن تلزمه غير صحيحة.
ووجه اشتراط كون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية: أن افتتاح الثانية هو محل الجمع، أي: الذي حصل به الجمع.(166/60)
وهذا صحيح، أي: يشترط أن يكون العذر موجوداً عند افتتاح الثانية. وهل يشترط أن يكون موجوداً إلى انتهاء الثانية؟ الجواب: لا.
فلو فرض أن الجمع كان لمطر، وأن المطر استمر إلى أن صلّوا ركعتين من العشاء ثم توقف، ولم يكن هناك وحل؛ لأن الأسواق مفروشة بالزفت، فلا يبطل الجمع؛ لأنه لا يشترط استمرار العذر إلى الفراغ من الثانية، ومثل ذلك: لو أن الإِنسان جمع لمرض وفي أثناء الصلاة الثانية ارتفع عنه المرض، فإن الجمع لا يبطل؛ لأنه لا يشترط استمرار العذر إلى الفراغ من الثانية.
قوله: «وإن جمع في وقت الثانية اشترط نية الجمع في وقت الأولى» أي: إذا نوى الجمع في وقت الثانية، فيشترط أن ينوي الجمع في وقت الأولى، لأنه لا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها بلا عذر إلا بنية الجمع حيث جاز.
ودليل عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الصلوات في أوقات معينة ، فلا يجوز أن تؤخر الصلاة الأولى عن وقتها إلا بنية الجمع حيث وجد سببه، فلا بد من نية الجمع قبل خروج وقت الأولى.
قوله: «إن لم يضق عن فعلها» أي: إن لم يضق وقت الأولى عن فعلها، فإن ضاق عن فعلها لم يصح الجمع؛ لأن تأخير الصلاة حتى يضيق وقتها عن الفعل محرم والجمع رخصة، والرخص لا تستباح بالمحرم، فلو أن رجلاً مسافراً مضى عليه الوقت، فلما بقي عليه من الوقت ما يضيق عن فعل صلاة الظهر نوى جمع الظهر إلى العصر، فلا تصح هذه النية لأنه يحرم تأخير الصلاة حتى يضيق الوقت، إذ إن الواجب أن يصلي الصلاة كلها في الوقت.
فنقول: صلِّ الصلاة الآن حسب ما أدركت من وقتها واستغفر الله عن التأخير، وسيدخل وقت الثانية قبل تمام صلاتك فصلها ولكن لا على أنه جمع، بل على أنه أداء في أول الوقت.
قوله: «واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية» أي: يشترط لصحة الجمع أن يستمر العذر إلى دخول الثانية فإن لم يستمر فالجمع حرام.
وهذا هو الشرط الثاني لجمع التأخير.(166/61)
مثاله: رجل مسافر نوى جمع التأخير، ولكنه قدم إلى بلده قبل خروج وقت الأولى فلا يجوز له أن يجمع الأولى إلى الثانية، لأن العذر انقطع وزال فيجب أن يصلّيها في وقتها، وهذه مسألة تشكل على كثير من الناس، فكثير منهم ينوي جمع التأخير، ويقدم بلده قبل أن يخرج وقت الأولى فلا يصلّيها؛ لأنه نوى الجمع وهذا خطأ، بل الواجب أن يصليها في وقتها فإذا دخل وقت الثانية صلّاها، إلا أن يكون مجهداً يشق عليه انتظار دخول الثانية لاحتياجه إلى النوم مثلاً، فيجوز له الجمع حينئذ للمشقة لا للسفر. ولكن هل يصلّيها أربعاً أو يصلّيها ركعتين؟
الجواب: يصلّيها أربعاً؛ لأن علة القصر السفر وقد زال.
فإذا قال: قد دخل عليّ الوقت وأنا مسافر فوجبت علي مقصورة؟
فنقول: نعم وجبت عليك مقصورة؛ لأنك في سفر والآن ذمتك مشغولة بها، وما دامت مشغولة فإنك إذا وصلت البلد وجبت عليك تامة، وبهذا نعرف: أن القول الصحيح أن الإِنسان إذا دخل عليه الوقت وهو في البلد ثم سافر قبل أن يصلّي فله القصر؛ لأنه سافر وذمته مشغولة بها والمسافر يقصر الصلاة، فالعبرة في قصر الصلاة وعدمه... بفعل الصلاة لا بوقتها على القول الصحيح، فإذا دخل عليك الوقت وأنت مسافر وقدمت البلد قبل الصلاة فصلّها أربعاً، وإذا دخل عليك الوقت وأنت مقيم وسافرت فصلّها ركعتين.
وفي قوله: «واستمرار العذر إلى دخول وقت الثانية» ولم يذكر الموالاة إشارة إلى عدم اشتراط الموالاة؛ لأن الموالاة في جمع التأخير ليست بشرط فلو أنه جمع جمع تأخير، ودخل وقت الثانية وصلّى الأولى، وبقي ساعة أو ساعتين ثم صلّى الثانية، فالجمع صحيح؛ لأن الموالاة شرط في جمع التقديم، وليست شرطاً في جمع التأخير.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة شرط في جمع التأخير كالتقديم.
وذهب بعض العلماء: إلى أن الموالاة ليست شرطاً لا في التقديم ولا في التأخير.
فالأقوال إذاً ثلاثة:(166/62)
الأول: أن الموالاة ليست شرطاً لا في جمع التقديم ولا التأخير، وهذا اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية.
والثاني: أنها شرط في الجمعين؛ لأن الجمع هو الضم، وهذا قول بعض العلماء.
والثالث: التفريق، فتشترط الموالاة في جمع التقديم، ولا تشترط في جمع التأخير، وهذا هو المشهور من المذهب.
مسألة: رجل مسافر ونوى جمع التأخير وخرج وقت الأولى، وهو في السفر وقدم البلد في وقت الثانية فله الجمع؛ لأنه سوف يصلّي الأولى ثم يصلّي الثانية، لكن لا يقصر؛ لأنه انتهى مبيح القصر وهو السفر.
قوله: «فصل: وصلاة الخوف» إلخ، هذا العذر الثالث من الأعذار، فالعذر الأول: السفر، والثاني: المرض ونحوه، والثالث: الخوف، أي: الخوف من العدو أي عدو كان، آدمياً أو سبعاً، مثل: أن يكون في أرض مسبعة فيحتاج إلى صلاة الخوف، لأنه ليس بشرط أن يكون العدو من بني آدم، بل أي عدو كان يخاف الإِنسان على نفسه منه، فإنها تشرع له صلاة الخوف.
قوله: «صحّت عن النبي صلى الله عليه وسلم بصفات كلها جائزة» أي: وردت في السنّة بصفاتٍ وهي ستة أوجه، أو سبعة أوجه عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وقول المؤلف: «كلها جائزة» ظاهره: أن كل صفة منها تجوز في أي موضع، ولكن قد نقول: إن هذه الصفات من الصلاة لا يجوز نوع منها إلا في موضعه الذي صلّاها النبي صلى الله عليه وسلم فيه، ونذكر صفتين منها:(166/63)
الصفة الأولى: ما يوافق ظاهر القرآن، وهي: أن يقسم قائد الجيش جيشه إلى طائفتين، طائفة تصلّي معه، وطائفة أمام العدو، لئلا يهجم، فيصلّي بالطائفة الأولى ركعة، ثم إذا قام إلى الثانية أتموا لأنفسهم أي: نووا الانفراد وأتموا لأنفسهم، والإِمام لا يزال قائماً، ثم إذا أتموا لأنفسهم ذهبوا ووقفوا مكان الطائفة الثانية أمام العدو، وجاءت الطائفة الثانية ودخلت مع الإِمام في الركعة الثانية، وفي هذه الحال يطيل الإِمام الركعة الثانية أكثر من الأولى لتدركه الطائفة الثانية، وهذه مستثناة مما سبق في باب صلاة الجماعة : أنه يسنّ تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية، فتدخل الطائفة الثانية مع الإِمام فيصلّي بهم الركعة التي بقيت، ثم يجلس للتشهد، فإذا جلس للتشهد قامت هذه الطائفة من السجود رأساً وأكملت الركعة التي بقيت وأدركت الإِمام في التشهد فيسلم بهم.
وهذه الصفة موافقة لظاهر القرآن، قال الله تعالى:)وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ )(النساء: من الآية102) إذا سجدوا، أي: أتموا الصلاة (وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى)(النساء: من الآية102) وهي التي أمام العدو (لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُم)(النساء: من الآية102) }، ولكن الله قال للطائفة الثانية (لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ)(النساء: من الآية102) } [النساء: 102] وللطائفة الأولى قال: (وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ )(النساء: من الآية102) } فلماذا؟
الجواب: لأن الطائفة الثانية الخوف عليها أشد، فإن العدو قد يكون قد تأهب لما رأى الجيش انقسم إلى قسمين وأعدّ العدة للهجوم، فلهذا أمر الله بأخذ الحذر والأسلحة.
وهذه الصفة في صلاة الخوف خالفت الصلاة المعتادة في أمور منها:(166/64)
أولاً: انفراد الطائفة الأولى عن الإِمام قبل سلامه.
ثانياً: أن الطائفة الثانية قضت ما فاتها من الصلاة قبل سلام الإِمام.
أما الأمر الأول: وهو انفراد المأموم عن الإِمام فهذا جائز في كل عذر طرأ للمأموم فمن ذلك:
إذا أطال الإِمام الصلاة إطالة خارجة عن السنّة فللمأموم أن ينفرد، ودليله: حديث معاذ بن جبل «حينما أمّ قومه فأطال بهم القراءة فانفرد رجل منهم وصلّى وحده» ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك.
ومن ذلك: إذا كان الإِمام يسرع في الصلاة إسراعاً لا يتمكن المأموم معه من الطمأنينة، فإن الواجب أن ينفرد.
ومن ذلك: إذا طرأ على المأموم عذر مثل: احتباس بوله، أو ريح أشغلته أو تقيؤ، أو ما أشبه ذلك، فله أن ينفرد لتعذر المتابعة حينئذٍ بشرط أن يكون في انفراده فائدة، بحيث يكون أسرع من إمامه بدون إخلال بالواجب.
ومن ذلك أيضاً: على القول الراجح إذا تعذرت المتابعة شرعاً مثل: أن تكون صلاة المأموم أنقص من صلاة الإِمام كرجل يصلّي المغرب خلف من يصلّي العشاء، فإن القول الصحيح جواز ذلك فإذا قام الإِمام إلى الرابعة انفرد المأموم وسلم، وإن شاء انتظر في التشهد حتى يصله الإِمام، وأما انفراد المأموم بلا عذر فالقول الصحيح أنه يبطل الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما جعل الإِمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه» .
وأما الأمر الثاني: وهو أن الطائفة الثانية في الصفة التي ذكرنا تقضي ما فاتها من الصلاة قبل سلام الإِمام، فهذا لا نظير له في صلاة الأمن، بل إن المأموم في صلاة الأمن يقضي ما فاته بعد سلام إمامه.(166/65)
الصفة الثانية: إذا كان العدو في جهة القبلة، فإن الإِمام يصفهم صفين ويبتدئ بهم الصلاة جميعاً، ويركع بهم جميعاً ويرفع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف الأول فقط ويبقى الصف الثاني قائماً يحرس، فإذا قام قام معه الصف الأول ثم سجد الصف المؤخر، فإذا قاموا تقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم، ثم صلّى بهم الركعة الثانية قام بهم جميعاً وركع بهم جميعاً، فإذا سجد سجد معه الصف المقدم الذي كان في الركعة الأولى هو المؤخر، فإذا جلس للتشهد سجد الصف المؤخر، فإذا جلسوا للتشهد سلم الإِمام بهم جميعاً، وهذه لا يمكن أن تكون إلا إذا كان العدو في جهة القبلة.
تنبيه: ظاهر كلام المؤلف أن الصفة الأولى جائزة وإن كان العدو في جهة القبلة، ولكن الصحيح أنها لا تجوز في هذه الحال، وذلك لأن الناس يرتكبون فيها ما لا يجوز بلا ضرورة، لأنهم إذا كان العدو في جهة القبلة فلا ضرورة إلى أن ينقسموا إلى قسمين قسم يصلّي معه وقسم وجاه العدو.
أما بقية الصفات فمذكورة في الكتب المطولة ونحن نقتصر على هاتين الصفتين.
ولكن إذا قال قائل: لو فرض أن الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن تطبيقها في الوقت الحاضر؛ لأن الوسائل الحربية والأسلحة اختلفت؟
فنقول: إذا دعت الضرورة إلى الصلاة في وقت يخاف فيه من العدو، فإنهم يصلّون صلاة أقرب ما تكون إلى الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كانت الصفات الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا تتأتى، لقول الله تعالى: {فإتقوا الله ما إستطعتم } [التغابن: 16] .
مسألة: إذا اشتد الخوف فهل يجوز أن تؤخر الصلاة عن الوقت؟
في هذا خلاف بين العلماء: فمنهم من يقول: لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها، ولو اشتد الخوف، بل يصلّون هاربين وطالبين إلى القبلة، وإلى غيرها يومئون بالركوع والسجود، لقوله تعالى: { )فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانا)(البقرة: من الآية239) } [البقرة: 236] .(166/66)
ومنهم من قال: يجوز تأخير الصلاة عن وقتها إذا اشتد الخوف، بحيث لا يمكن أن يتدبر الإِنسان ما يقول أو يفعل، أي: إذا كان يمكن أن يتدبر ما يقول أو يفعل في الصلاة فليصل على أي حال، لكن إذا كانت السهام والرصاص تأتيه من كل جانب ولا يمكن أن يستقر قلبه ولا يدري ما يقول، ففي هذه الحال يجوز تأخير الصلاة، وهذا مبني على «تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة في غزوة الأحزاب» ، هل هو منسوخ أو مُحْكَمْ؟
والصحيح: أنه محكم إذا دعت الضرورة القصوى إلى ذلك، بمعنى أن الناس لا يقر لهم قرار، وهذا في الحقيقة لا ندركه ونحن في هذا المكان، وإنما يدركه من كان في ميدان المعركة، فلا بأس أن تؤخر الصلاة إلى وقت الصلاة الأخرى، أما إذا كانت صلاة جمع فالمسألة لا إشكال فيها، كتأخير الظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء، وأما إذا كانت لا تجمع إلى الأخرى كالعشاء إلى الفجر والفجر إلى الظهر والعصر إلى المغرب، فهذا محل الخلاف.
وذكر في الروض: أنه يشترط لجواز صلاة الخوف أن يكون القتال مباحاً، والقتال المباح: هو قتال الكفار أو قتال المدافعة .
أما قتال الهجوم على من لا يحل قتاله فإن ذلك لا يجيز صلاة الخوف، بل نقول لمن قاتل على هذا الوجه: يجب عليك أن تكف عن القتال.
والقتال المباح أنواع: قتال الكفار، وقتال المدافعة، وقتال من تركوا صلاة العيد، أو الأذان أو الإِقامة، وغير ذلك من شعائر الإِسلام الظاهرة، وقتال الطائفة المعتدية فيما إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين فإن الله يقول: ) بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه)(الحجرات: من الآية9)
قوله: «ويستحب أن يحمل» أفاد أن حمل السلاح في صلاة الخوف مستحب وهذا ما ذهب إليه كثير من أهل العلم.(166/67)
والصحيح أن حمل السلاح واجب، لأن الله أمر به فقال: (فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ)(النساء: من الآية102) [النساء: 102] ولأن ترك حمل السلاح خطر على المسلمين، وما كان خطراً على المسلمين فالواجب تلافيه والحذر منه.
قال العلماء: وفي هذه الحال لو فرض أن السلاح متلوث بدم نجس فإنه يجوز حمله للضرورة، ولا إعادة عليه، وهو كذلك.
قوله: «في صلاتها» ، أي: صلاة الخوف.
قوله: «ما يدفع به عن نفسه» يفيد أنه لا يحمل سلاحاً هجومياً، بل يحمل سلاحاً دفاعياً، لأنه مشغول في صلاته عن مهاجمة عدوه، لكنه مأمور أن يتخذ من السلاح الدفاعي ما يدفع به عن نفسه.
قوله: «ولا يشغله» يفهم منه أنه لا يحمل سلاحاً يشغله عن الصلاة، لأنه إذا حمل ما يشغله عن الصلاة زال خشوعه، وأهم شيء في الصلاة الخشوع، فهو لبُّ الصلاة وروحها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بحضرة طعام ولا هو يدافعه الأخبثان» ، لأن ذلك يذهب الخشوع، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن الرجل لينصرف وما كتب له إلا عشرها أو ربعها» ، فالخشوع له أثر عظيم في صحة الصلاة، فاشترط المؤلف في حمل السلاح شرطين:
1 _ أن يكون دفاعياً فقط.
2 _ ألّا يشغله.
قوله: «كسيف ونحوه» أي: كالسكين، والرمح القصير، وفي وقتنا كالمسدس.
تم بحمد الله تعالىالمجلد الرابع
ويليه بمشيئة الله عز وجل
المجلد الخامس
وأوله باب صلاة الجمعة(166/68)
المجلد الخامس(/)
الشرح الممتع - المجلد الخامس
باب صلاة الجمعة
محمد بن صالح العثيمين
باب صلاة الجمعة
قوله: "صلاة الجمعة" أي: الصلاة التي تجمع الخلق، وذلك أن المسلمين لهم اجتماعات متعددة، اجتماعات حي في الصلوات الخمس في مسجد الحي، واجتماعات بلد في الجمعة والعيدين، واجتماعات أقطار في الحج بمكة، هذه اجتماعات المسلمين صغرى وكبرى ومتوسطة، كل هذا شرعه الله من أجل توطيد أواصر الألفة والمحبة بين المسلمين.
وليعلم أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وما طلعت الشمس على يوم خير منه، وأن الله خصّ به هذه الأمة بعد أن أضل عنه الأمم السابقة، فإن اليهود اختلفوا فيه فصارت جمعتهم السبت، والنصارى أشد اختلافاً فصارت جمعتهم الأحد، فصاروا - والحمد لله - تبعاً لنا ونحن متأخرون عنهم زمناً لكنهم متأخرون عنا رتبة؛ لأن هذه الأمة أفضل أمة عند الله وأكرمها .
وليوم الجمعة خصائص ذكرها ابن القيم في زاد المعاد.
قوله: "تلزم كل ذكر" الضمير يعود على صلاة الجمعة، أي: تلزم صلاة الجمعة كل من اتصف بالشروط الآتية:
الأول: كونه ذكراً فخرج به الأنثى والخنثى، فلا تلزمهم صلاة الجمعة، [والدليل على اشتراط الذكورية أن صلاة الجمعة صلاة جمع؛ لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله، وبيوتهن خير لهن" ، هذا إن لم يصح الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا على أربعة..." ، فإن صح فالأمر فيه واضح.
أما عدم وجوبها على الخنثى فلعدم تحقق الشرط فيه؛ لأنه لا يدرى أذكر هو أم أنثى، والأصل براءة الذمة حتى يتيقن شرط وجوبها، وهذا لم يتيقن.
وأما الأنثى فلأنها ليست من أهل الجماعة.
قوله: "حر" ، هذا هو الشرط الثاني.
وضد الحر العبد، والمراد بالعبد المملوك، ولو كان أحمر، أو قبلياً، فالعبد لا تلزمه الجمعة وذلك لما يلي:(167/1)
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الجمعة حق واجب على كل مسلم إلا أربعة: عبد مملوك أو امرأة أو صبي أو مريض" .
ولأنه مشغول في خدمة سيده.
وقال بعض العلماء:
تلزمه الجمعة؛ لأنه داخل في عموم قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )(الجمعة: من الآية9) ، والحديث الوارد في نفي وجوب صلاة الجمعة عن العبد ضعيف.
والتعليل بأنه مشغول في خدمة سيده أضعف؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وقال بعض العلماء:
إذا أذن له سيده لزمته؛ لأنه لا عذر له؛ [لزوال العلة التي هي سبب منع الوجوب]، وإن لم يأذن له لم تلزمه
وهذا قول وسط؛ لأن حال العبد في الحقيقة إذا تصوره الإنسان حال شخص ضعيف مملوك، لا يستطيع أن يقول: سأذهب إلى الجمعة يا سيدي رضيت أم كرهت، فيكون في إلزامه بشيء لا يستطيعه حرج، وقد نفى الله في هذا الدين الحرج عن الأمة فقال: ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(الحج: من الآية78)وهذا القول قول وسط بين قول من يلزمه الجمعة مطلقاً، وقول من لا يلزمه مطلقاً، ووجهه قوي جداً، ويمكن أن يحمل الحديث عليه فيقال: قوله صلى الله عليه وسلم: "عبد مملوك" ، ليس على إطلاقه، بل العبد المملوك هو الذي يشغل بمالكه، وربما يقال: إن قوله صلى الله عليه وسلم: "مملوك" إشارة إلى علة الحكم، وهي أنه ملك، فسيده يتصرف فيه فيشغله.
والعجيب أن الذين قالوا: إن الجمعة لا تجب على العبد قالوا: إن الجماعة تجب عليه، وعندي أنه لو صح حديث طارق أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى العبد لكان عدم وجوب الجماعة من باب أولى؛ لأن الجماعة تكرر خمس مرات، فإذا أسقط عنه ما يجب في الأسبوع مرة فما يجب في اليوم خمس مرات من باب أولى، وإذا أوجبنا عليه الجماعة فالجمعة من باب أولى.(167/2)
قوله: "مكلف" هذا هو الشرط الثالث ، والمكلف عند العلماء من جمع وصفين:
أحدهما: البلوغ.
والثاني: العقل.
والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى يستيقظ" ، ولكن [الصغير تصح منه الجمعة والمجنون لا تصح منه؛ لأن المجنون لا عقل له، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات" ، ومن لا عقل له لا نية له، بخلاف الصبي المميز فإن له نية.
ولكن هل يؤمر بها الصغير؟
الجواب: يؤمر بها لسبع، ويضرب عليها لعشر؛ لدخوله في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "مروا أبناءكم عليها لسبع واضربوهم عليها لعشر" .
قوله: "مسلم" ، هذا هو الشرط الرابع.
وضده الكافر، فالكافر لا تجب عليه الجمعة، بل ولا تصح منه، ودليل هذا:
قوله تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ)(التوبة: من الآية54)، فإذا كانت النفقات مع كون نفعها متعدياً لا تقبل منهم، فالعبادات التي نفعها غير متعدٍ من باب أولى لا تقبل منهم.
قول النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن: "ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأعلمهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة" ، فجعل فرض الصلوات بعد الشهادتين.
فإن قال قائل: إذا كان من شرط وجوب الجمعة الإسلام، فهل يسلَم الكافر من الإثم؛ لأن الجمعة غير واجبة عليه؟(167/3)
فالجواب: أنه لا يسلَم من الإثم؛ لأن القول الراجح من أقوال أهل العلم أن الكافر مخاطب بفروع الإسلام، كما هو مخاطب بأصوله، والدليل على ذلك قوله تعالى: {)إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ(39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ(40)عَنِ الْمُجْرِمِينَ(41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ(42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ(43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ(44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ(45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ(46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ(47) [المدثر] ، ووجه الدلالة من الآية: أنهم ذكروا من أسباب دخولهم النار أنهم لم يكونوا من المصلين، ولا من المطعمين للمسكين، بل أقول: إن الكافر معاقب على أكله وشربه ولباسه، لكنه ليس حراماً عليه بحيث يمنع منه إنما هو معاقب عليه.
ودليل ذلك قوله تعالى: {)لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } [المائدة: 93] ، فقوله: {{)لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ } يدل بمفهومه على أن غيرهم عليهم جناح فيما طعموا، والطعام يشمل الأكل والشرب؛ لقوله تعالى: {) فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي )(البقرة: من الآية249) ، ودليل اللباس قوله تعالى: { )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(لأعراف: من الآية32) ، فقوله: (لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا)(لأعراف: من الآية32) } يفهم منه أنها ليست للذين كفروا، وقوله: { خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } يفهم منه أنها لغير المؤمنين ليست خالصة لهم، بل يعاقبون عليها.(167/4)
والمعنى يقتضي ما دلت عليه النصوص من معاقبة الكافر على الأكل والشرب واللباس والنعمة والصحة، وكل شيء؛ وذلك لأن العقل يقتضي طاعة من أحسن إليك، وأنك إذا بارزته بالمعصية وهو يحسن إليك، فإن هذا خلاف الأدب والمروءة، وبه تستحق العقوبة، فصارت النصوص مؤيدة لما يقتضيه العقل.
قوله: "مستوطن" ، هذا هو الشرط الخامس.
وضد المستوطن المسافر والمقيم.
فالمسافر لا جمعة عليه، ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره لم يكن يصلي الجمعة، مع أن معه الجمع الغفير، وإنما يصلي ظهراً مقصورة.
فإذا قال قائل: ألا يمكن أن يكون جمعه وقصره في غير يوم الجمعة، وأنه يقيم صلاة الجمعة في السفر؟
فالجواب على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أن لدينا نصاً ظاهراً جداً في أنه لا يصلي الجمعة في سفره، وذلك في يوم عرفة، فإن يوم عرفة كان يوم الجمعة في حجة الوداع، وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "لما وصل بطن الوادي يوم عرفة نزل فخطب الناس، ثم بعد الخطبة أذَّن بلال، ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر" . وهذه الصفة تخالف صلاة الجمعة من وجوه:
لأن صلاة الجمعة الخطبة فيها بعد الأذان، وهنا الخطبة قبل الأذان.
صلاة الجمعة يتقدمها خطبتان، وحديث جابر ليس فيه إلا خطبة واحدة.
صلاة الجمعة يجهر فيها بالقراءة، وحديث جابر يدل على أنه لم يجهر، لأنه قال: "صلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر".
صلاة الجمعة تسمى صلاة الجمعة، وفي حديث جابر قال: "صلى الظهر".
صلاة الجمعة لا تجمع إليها العصر، وحديث جابر يقول: "صلى الظهر ثم أقام فصلى العصر" ، وهذا نص صريح واضح في هذا الجمع الكثير الذي سيتفرق فيه المسلمون إلى بلادهم فيقولون: صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة ظهراً يدل دلالة قطعية على أن المسافر لا يصلي الجمعة.(167/5)
الوجه الثاني: لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الجمعة في أسفاره لكان ذلك مما تتوافر الدواعي على نقله، ولنقل إلينا.
ولو كانت واجبة لصلاها، بل لو كانت جائزة لصلاها، فإذا صلى الإنسان الجمعة وهو في السفر، فصلاته باطلة، وعليه أن يعيدها ظهراً مقصورة؛ لأن المسافر ليس من أهل الجمعة.
فإذا قال قائل: تَرْك النبي صلى الله عليه وسلم للجمعة لا يدل على أنها غير مشروعة؟
فالجواب: بلى؛ لأنها لو كانت مشروعة لكانت عبادة، وهي فريضة واجبة، ولا يمكن أن يدع النبي صلى الله عليه وسلم الواجب، فإذا كان سبب الفعل موجوداً، ولم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك علم أن فعله يكون بدعة، وقد قال صلى الله عليه وسلم "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو ردّ" . وهذه قاعدة مفيدة لطالب العلم (كل شيء سببه موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفعله، فالتَّعبُّد بِهِ بدعة)، فالجمعة في السفر سببها موجود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لم يفعلها، فإذا فعلها إنسان قلنا له: عملت عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فيكون عملاً مردوداً.
أما المسافر في بلد تقام فيه الجمعة، كما لو مرَّ إنسان في السفر ببلد، ودخل فيه ليقيل، ويستمر في سيره بعد الظهر فإنها تلزمه الجمعة؛ لعموم قوله تعالى: { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْع)(الجمعة: من الآية9) ، وهذا عام، ولم نعلم أن الصحابة الذين يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبقون إلى يوم الجمعة يتركون صلاة الجمعة، بل إن ظاهر السنة أنهم يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقالت الظاهرية: إن المسافر تلزمه الجمعة.
واستدلوا على ذلك: بعمومات الأدلة الدالة على وجوب صلاة الجمعة، وهذا الاستدلال مردود بالأدلة المخصصة للعمومات.(167/6)
فالمسافر لا جمعة عليه، والمقيم أيضاً لا جمعة عليه، لكن إن أقامها مستوطنون في البلد لزمته بغيره لا بنفسه، ومعنى قولنا بغيره أنه إذا أقامها من تصح منهم إقامتها لزمته تبعاً لغيره، لكن لا يحسب من العدد المشروط.
وبناء على هذا ينقسم الناس إلى ثلاثة أقسام:
- مستوطن.
- مسافر.
- مقيم لا مسافر ولا مستوطن.
مثال ذلك:
رجل وصل إلى بلد، ونوى أن يقيم فيها أكثر من أربعة أيامٍ، هذا ليس مستوطناً؛ لأنه لم يتخذ هذا البلد وطناً، وليس مسافراً؛ لأنه نوى إقامة تقطع السفر فهو مقيم، فإن أقيمت الجمعة في البلد بأناس مستوطنين لزمته، وإن لم تقم لم تلزمه، وبناء على هذا لو وُجِدَ جماعة مسلمون سافروا إلى بلاد كفر، وهم مائة رجل يريدون أن يدرسوا فيها لمدة خمس سنوات أو ست أو عشر، فإن الجمعة لا تلزمهم، بل ولا تصح منهم لو صلوا جمعة؛ لأنه لا بد من استيطان، وهؤلاء ليسوا بمستوطنين، فلا تصح منهم الجمعة، ولا تلزمهم، لكن لو وجد في هذه القرية أربعون مستوطناً لزمت الجمعة الأربعين، ثم تلزم هؤلاء تبعاً لغيرهم، هذا هو تقرير المذهب؛ وعليه يكون من نوى إقامة أكثر من أربعة أيام مسافراً من بعض الوجوه غير مسافر من بعض الوجوه فيلزمه إتمام الصلاة، ولا يترخص برخص السفر؛ لانقطاع حكم السفر في حقه، ولا يصح أن يكون إماماً في الجمعة ولا خطيباً فيها ولا يكمل به العدد المشروط، ولكن تلزمه الجمعة إذا أقيمت، وهذا تناقض.
ولهذا كان الصحيح أن حكم السفر لا ينقطع في حقه، وأنه يصح أن يكون إماماً وخطيباً في الجمعة، ويكمل به العدد المشروط.(167/7)
قوله: "ببناء" أي بوطن مبني، ولم يبين المؤلف بأي شيء بني، فيشمل ما بني بالحجر، والمدر، والإِسمنت، والخشب، وغيرها، وهو يحترز بذلك مما لو كانوا أهل خيام كأهل البادية، فإنه لا جمعة عليهم؛ لأن البدو الذين كانوا حول المدينة لم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الجمعة مع أنهم مستوطنون في أماكنهم؛ لكونها ليست ببناء، ولهذا إذا ظعنوا عن هذا الموطن ظعنوا ببيوتهم، ولم يبق لها أثر؛ لأنها خيام.
قوله: "اسمه واحد، ولو تفرق" ، أي: أن يكون مستوطناً ببناء، اسم هذا البناء واحد، مثل: مكة، المدينة، عنيزة، بريدة، الرياض، المهم أن يكون اسمه واحداً، حتى لو تباعد، وتفرق بأن صارت الأحياء بينها مزارع، لكن يشملها اسم واحد، فإنه يعتبر وطناً واحداً، وبلداً واحداً؛ ولهذا قال المؤلف: "ولو تفرق" مشيراً بذلك للخلاف في هذه المسألة.
وقال بعض العلماء:
لو تفرق، وفرقت بينه المزارع، فليس بوطن واحد، وعلى هذا القول يكون كل حي وحده مستقلاً.
ولكن الصحيح أنه ما دام يشمله اسم واحد فهو بلد واحد، ولو فرض أن هذا البلد اتسع وصار بين أطرافه أميال أو فراسخ فهو وطن واحد تلزم الجمعة من بأقصاه الشرقي كما تلزم من بأقصاه الغربي، وهكذا الشمال والجنوب؛ لأنه بلد واحد.
قوله: "ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ" .
هذا الشرط السادس أي: ليس بين الإنسان وبين المسجد أكثر من فرسخ، والفرسخ سبق لنا: أنه ثلاثة أميال، والميل: اثنا عشر ألف ذراع، فعلى هذا لا يلزم الشخص الذي يكون بينه وبين البلد أكثر من فرسخ جمعة، هذا إذا كان خارج البلد، أما إذا كان البلد واحداً فإنه يلزمه، ولو كان بينه وبين المسجد فراسخ.
وذكر علماؤنا أن مسيرة الفرسخ ساعة ونصف الساعة في سير الإبل والقدم، لا بسير السيارة؛ فإن كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ قالوا: فإنها تلزمه بغيره أي: إن أقيمت الجمعة وهو في البلد لزمته وإلا فلا، فصارت الشروط ستة في وجوب الجمعة عيناً.(167/8)
[فإن قال قائل: ما الدليل على التقييد بالفرسخ؟ فالجواب: يقولون الغالب أن من كان بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ فالغالب أنه لا يسمع النداء، مع أن بعض العلماء قدَّره بالأذان، والذين قدَّروه بالفرسخ قالوا: الأذان يختلف بحسب صوت المؤذن والرياح وارتفاع المؤذن وهدوء الأصوات، فلا يمكن انضباطه، والفرسخ منضبط، إذاً ليس هناك دليل بل هو تعليل، والدليل الذي دلت عليه السنة هو سماع الأذان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "هل تسمع النداء" ؟ قال: نعم، قال: "فأجب.
وقوله: "ولا تجب على مسافر سفر قصر" ، الضمير يعود على الجمعة، فلا تجب على مسافر سفر قصر، وقد سبق بيان هذا وذكر الأدلة عليه.
وقوله: "على مسافر سفر قصر" أي: سفراً يحل فيه القصر، فلا تجب عليه، لكن تجب عليه بغيره كما سبق، [ومعنى ذلك أنها إن أقيمت الجمعة وجبت عليه وإلا فلا.
فلو أن رجلاً من أهل عنيزة سافر إلى بريدة، فالسفر على المشهور من المذهب ليس سفر قصر؛ لأنه دون المسافة، فإذا أقيمت الجمعة هناك يجب عليه أن يصلي؛ لأن السفر ليس سفر قصر.
ولو أن رجلاً سافر إلى بلد يبلغ المسافة، ولكن سفره محرّم أي سافر - والعياذ بالله - ليفعل الفواحش، ويشرب الخمر، وما أشبه ذلك، فلا تسقط عنه الجمعة؛ لأن السفر ليس سفر قصر، لأن من شروط سفر القصر أن يكون السفر مباحاً.
ولو أن رجلاً دخل بلداً ليقيم فيه خمسة أيام مثلاً، ثم يسافر فتلزمه الجمعة بغيره؛ لأنه ليس مسافراً سفر قصر، بل هو مقيم إقامة تمنع القصر، فتلزمه الجمعة.
قوله: "ولا على عبد ولا امرأة" ، لأن من شرط الوجوب أن يكون حراً ذكراً.
وقد سبق الكلام عليه.
قوله: "ومن حضرها منهم أجزأته ولم تنعقد به" ، أي: المسافر سفر قصر، والعبيد، والنساء، من حضر الجمعة منهم، وصلى مع الإمام أجزأته جمعة.
فإن قيل: كيف تجزئهم وليسوا من أهل الوجوب؟(167/9)
فالجواب: أن إسقاطها عنهم تخفيف، فإذا حضروا وصلوا فهم الذين اختاروا ذلك لأنفسهم فتصح، ولكن لو قيل بتعليل سوى هذا، وهو: أنهم ائتموا بمن يصلي الجمعة، فأجزأتهم تبعاً لإمامهم، وقد يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً، لكان أولى.
وقوله: "ولم تنعقد به" أي: لم تنعقد بواحد من هؤلاء، ومعنى لم تنعقد به أي: لا يحسب من العدد المعتبر؛ لأنهم ليسوا من أهل الوجوب، والعدد كما سيأتينا إن شاء الله على المذهب أربعون رجلاً.
مثال ذلك: لو حضر تسعة وثلاثون رجلاً حرّاً، وجاء عبد فإنه لا يتمم به العدد فيصلون ظهراً؛ لأنها لا تنعقد به.
مثال آخر:
قدم شخص قرية صغيرة فيها تسعة وثلاثون رجلاً، وهو مسافر فلا يكمل به العدد؛ لأنه مسافر.
قوله: "ولم يصح أن يؤم فيها" ، أي لا يصح أن يكون أحد من هؤلاء إماماً في الجمعة.
أما المرأة فلا شك أنه لا يصح أن تؤم فيها، ولا تنعقد بها؛ لأن المرأة لا تكون إماماً للرجال، وليست من أهل الوجوب.
وأما العبد فلا يصح أن يكون إماماً فيها؛ لأنه ليس من أهل الوجوب، فلو كان هذا العبد قارِئاً عالماً فقيهاً عابداً، والذين في القرية أربعون رجلاً كل واحد منهم يحسن القراءة الواجبة، ولكنهم دون العبد في القراءة والعلم والفقه والعبادة فإنه لا يؤمهم في الجمعة.
هذا ما يقتضيه كلام المؤلف؛ لأنه ليس من أهل الوجوب.
ومذهب أبي حنيفة والشافعية أن العبد يصح أن يكون إماماً في الجمعة.
هذا إذا قلنا: إن العبد لا تلزمه الجمعة، أما إذا قلنا: بأن العبد تلزمه الجمعة فإنها تنعقد به أي: يكمل به العدد، ويصح أن يكون إماماً فيها.
وأما المسافر فلا يصح أن يكون إماماً في الجمعة ولا خطيباً فيها، مثاله:(167/10)
مسافر قدم إلى بلد أهله كلهم عوام، والخطيب فيهم واحد منهم، فقدم البلد هذا الرجل العالم المتضلع في العلم العابد، وصلى بهم فلا تصح صلاتهم على قول المؤلف؛ لأنه مسافر، ولو خطب بهم وصلى أحدهم، فلا تصح؛ لأن من شرط الخطبة أن تكون ممن تصح إمامته في الجمعة، والعمل الآن على خلاف ذلك، وهو مذهب الأئمة الثلاثة وهو الراجح.
يأتي الرجل الداعية إلى قرية من القرى ويخطب فيهم الجمعة، ويصلي بهم وينصرفون وهم يعتقدون أن صلاتهم صحيحة، لكن المذهب أن صلاتهم غير صحيحة فيلزمهم أن يعيدوها جمعة إن كان وقتها باقياً وإلا صلوها ظهراً.
والخلاصة أن المرأة كما قال المؤلف لا يصح أن تكون خطيباً، ولا أن تكون إماماً، ولا تحسب من الأربعين
وأما العبد والمسافر، فالصحيح أنها تنعقد بهما، ويصح أن يكونا أئمة فيها وخطباء أيضاً؛ لأن القول بعدم صحة ذلك لا دليل عليه، فالعبد من أهل التكليف، والمسافر من أهل التكليف، وكيف يقال: إنه إذا صلى العبد خلف الإمام جمعة صحت، ولو كان هو الإمام لم تصح؟! فلا يظهر الفرق، والقول بأن صلاته صحت تبعاً ويثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً لا يسلم في كل موضع.
قوله: "ومن سقطت عنه" ، أي الجمعة.
قوله: "لعذر" كمرض.
قوله: "وجبت عليه وانعقدت به" ، يعني إذا حضرها وجبت عليه وانعقدت به؛ لأنه من أهل الوجوب، لكن سقط عنه الحضور للعذر، فإذا حضر ثبت الوجوب.
مثال ذلك:(167/11)
مريض سقطت عنه الجمعة من أجل المرض، ولكنه تحمل المشقة وحضر إلى الجمعة، فإنها تنعقد به، فيحسب من الأربعين ويصح أن يكون إماماً، وأن يخطب فيها؛ لأنه أهل للوجوب، ولكن وجد فيه مانع الوجوب؛ وفرق بين من فقد منه شرط الوجوب، ومن وجد فيه مانع الوجوب؛ لأن من فقد منه شرط الوجوب ليس أهلاً للعبادة أصلاً، ومن وجد فيه مانع الوجوب فهو في الأصل أهل للوجوب، فإذا وصل إلى محل الجمعة زال مانع الوجوب؛ لأن مانع الوجوب مشقة الوصول إلى المسجد فصار الآن من أهل الوجوب فتلزمه، وتنعقد به، ويصح أن يؤم فيها.
وكذا الخائف: تسقط عنه الجمعة، لكنه إذا حضرها تلزمه وتنعقد به، ويصح أن يكون إماماً فيها.
فإذا قال قائل: ما الفرق بينه وبين المسافر والعبد؟
فالجواب: أن المسافر والعبد لم يوجد فيهما شرط الوجوب، فليسا من أهله، وأما من سقطت عنه لعذر ففيه مانع الوجوب وهو من أهله، فإذا حضر إلى مكانها زال المانع، فصار كالذي ليس فيه مانع.
قوله: "ومن صلى الظهر ممن عليه حضور الجمعة قبل صلاة الإمام لم تصح" ، أي: من صلى الظهر وهو ممن يلزمه الحضور، فإن صلاته لا تصح، وتأمل قول المؤلف: "ممن عليه حضور الجمعة" ولم يقل: ممن تجب عليه الجمعة، وذلك من أجل أن يكون كلامه - رحمه الله - شاملاً للذي تجب عليه بنفسه، والذي تجب عليه بغيره؛ لأن الفقهاء - رحمهم الله - يقسمون الناس إلى قسمين:
الأول: من تلزمه الجمعة بغيره، وهذا لا تنعقد به ولا يصح أن يكون إماماً فيها.
والثاني: من تلزمه بنفسه، وهذا يصح أن يكون إماماً فيها وتنعقد به.(167/12)
مثال ذلك: مسافر حلَّ بلداً تقام فيه الجمعة، وأذِّن لصلاة الجمعة، فهذا عليه الحضور، وليست واجبة عليه بنفسه، بل بغيره، فإذا صلى هذا المسافر قبل صلاة الإمام فإن صلاته لا تصح؛ لأنه فعل ما لم يؤمر به، وترك ما أمر به، فيكون هذا الرجل عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله؛ لأنه مأمور أن يحضر الجمعة ويصليها، وقد صلى ظهراً فلا تقبل منه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" ، أي مردود عليه؛ ولأن صلاته الظهر مع وجوب الحضور عليه يكون كالذي غصب الزمن؛ لأن هذا الزمن الأصل فيه أن يكون للجمعة.
مثال آخر:
رجل مقيم في البلد، وكان معه أصحابه في البيت فجاء وقت الظهر فصلوا الظهر قبل صلاة الجمعة، فلا تصح.
مثال ثالث:
رجل في أقصى البلد، - ويعلم أنه لو ذهب لم يدرك الجمعة - فصلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فلا تصح على مقتضى كلام المؤلف؛ لعموم قوله: "من صلى الظهر قبل صلاة الإمام" أي: حتى في الحال التي يعلم أنه لو سعى لم يدرك الجمعة، فإنه ينتظر حتى يفرغ الإمام من الجمعة، فيقدر ذلك.
وقيل: له أن يصلي الظهر إذا علم أنه لن يدرك الجمعة؛ لأنه في هذه الحال لا يلزمه السعي إليها، فلا فائدة في الانتظار.
قوله: "وتصح ممن لا تجب عليه" ، أي: تصح الظهر ممن لا تجب عليه الجمعة، وإن لم يُصلِّ الإمام.
مثال ذلك: مريض مرضاً تسقط به عنه الجمعة صلى الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة فتصح؛ لأنه لا تلزمه الجمعة.
مثال آخر:
لو صلّت امرأة الظهر قبل صلاة الإمام الجمعة صحت؛ لأن الجمعة لا تلزمها.(167/13)
قوله: "والأفضل حتى يصلي الإمام" ، أي: أن الأفضل لمن لا تلزمه الجمعة أن يؤخر صلاة الظهر حتى يصلي الإمام، وعلى هذا نقول للنساء: الأفضل في يوم الجمعة ألا تصلين الظهر حتى يصلي الإمام. قالوا: ربما يزول عذره فيدرك صلاة الجمعة، وإذا كان هذا هو التعليل، فإنه لا ينطبق على النساء؛ إذ إن النساء لا يمكن أن يزول عذرهن، فالمرأة امرأة، وعليه فنقول للمرأة: الأفضل أن تصلي الظهر في أول الوقت، ولو قبل صلاة الإمام؛ لأن الصلاة في أول الوقت أفضل من الصلاة في آخر الوقت، وحينئذٍ نقول: إذا كان من لا تلزمه الجمعة ممن يرجى أن يزول عذره ويدركها، فالأفضل أن ينتظر، وإذا كان ممن لا يرجى أن يزول عذره فالأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها؛ لأن الأفضل في الصلوات تقديمها في أول الوقت إلا ما استثني بالدليل.
قوله: "ولا يجوز لمن تلزمه السفر في يومها بعد الزوال" ، السفر: فاعل يجوز، أي: لا يجوز السفر في يوم الجمعة بعد الزوال لمن تلزمه، سواء كانت تلزمه بنفسه، أو بغيره؛ وذلك أنه بعد الزوال دخل الوقت بالاتفاق، والغالب أنه إذا دخل الوقت يحضر الإمام فيؤذن للجمعة وتصلى، فيحرم أن يسافر.
فإذا قال قائل: ما الدليل على التحريم؟
فالجواب: قوله تعالى: { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ )(الجمعة: من الآية9، فأمر بالسعي إليها، وترك البيع، وكذا يترك السفر؛ لأن العلة واحدة، فالبيع مانع من حضور الصلاة، والسفر كذلك مانع من حضور الصلاة، لكن المؤلف علق الحكم بالزوال؛ لأن الزوال هو سبب وجوب الجمعة؛ إذ إنه يدخل به الوقت، ودخول الوقت سبب، فعلق الحكم بالسبب.(167/14)
والأَوْلَى: أن يعلق الحكم بما علقه الله به وهو النداء إلى الجمعة؛ لأنه من الجائز أن يتأخر الإمام عن الزوال، ولا يأتي إلا بعد الزوال بساعة، فلا ينادى للجمعة إلا عند حضور الإمام، لذلك نقول: المعتبر النداء، وما مشى عليه المؤلف يشبه من بعض الوجوه قولهم: من باع نخلاً بعد أن تشقق فثمرته للبائع، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من باع نخلاً بعد أن تؤبر - أي: تلقح وذلك بوضع اللقاح فيها - فثمرتها للبائع" . فعلقوا الحكم على التشقق، قالوا: لأن التشقق هو سبب التأبير فعلق الحكم به.
والجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالتأبير، فلا يمكن أن نلغي ما علق الشارع الحكم عليه، ونعتبر شيئاً آخر، كذلك هنا علق الحكم بالأذان، فإذا علق الحكم بالأذان، فلا يمكن أن نتجاوز ونعلقه بالزوال، ولكن الغالب أن الإمام يحضر إذا زالت الشمس.
ويفهم من قول المؤلف: "بعد الزوال" أن السفر قبل الزوال يوم الجمعة جائز وهو كذلك؛ وذلك لأنه لم يؤمر بالحضور فلم يتعلق الطلب به، فجاز له أن يسافر قبل الزوال.
لكن بعض العلماء كرهه، وقال: لئلا يفوت على نفسه فضل الجمعة؛ لأن الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر، فمن أجل أن لا يفوت فضل الجمعة كرهوا له أن يسافر قبل الزوال، ويستثنى من تحريم السفر مسألتان:
الأولى: إذا خاف فوات الرفقة، أي: أن له رفاقاً يريدون أن يسافروا قبل صلاة الجمعة فزالت الشمس، وخاف أن تفوته الرفقة فإن له أن يسافر؛ لأن هذا عذر في ترك الجمعة نفسها، فكذلك يكون عذراً في السفر بعد الزوال.
الثانية: إذا كان يمكنه أن يأتي بها في طريقه.
فمثلاً: لو قدرنا أن شخصاً يريد أن يسافر من عنيزة إلى حائل، وسيمر ببريدة، فهنا يمكن أن يأتي بها في طريقه، فلا يحرم عليه السفر؛ لأن علة التحريم هي خوف فوات الجمعة، وهنا الجمعة لن تفوت.
مسألة: هل مثل ذلك خوف إقلاع الطائرة؟(167/15)
الجواب: نعم، فلو فرض أن الطائرة ستقلع في وقت صلاة الجمعة، ولو جلس ينتظر فاتته، فهو معذور وله أن يسافر ولو بعد الزوال. فصل
قوله: "يشترط لصحتها شروط"
الشروط: جمع شرط، وهو في اللغة: العلامة.
وفي الشرع: ما يتوقف عليه الشيء، إن كان شرطاً للوجوب فهو ما يتوقف عليه الوجوب، وإن كان شرطاً للصحة فهو ما تتوقف عليه الصحة، وإن كان شرطاً للإجزاء فهو ما يتوقف عليه الإجزاء، هذه ثلاثة أنواع كلها موجودة في شروط الحج.
وهنا يجب أن تعرف الفرق بين شروط الشيء والشروط في الشيء، فمنها:
- شروط الشيء موضوعة من قبل الشرع، فلا يمكن لأحد إسقاطها، والشروط في الشيء موضوعة من قبل العبد فيجوز لمن هي له أن يسقطها.
- شروط الشيء ما يتوقف عليه الشيء صحة أو وجوباً أو إجزاء، أو وجوداً في أمور العقليات، والشروط في الشيء ما يتوقف عليه لزوم الشيء.
مثال ذلك: العلم بالمبيع شرط للصحة، فلو باع مجهولاً لم يصح البيع ولو رضي الطرفان؛ لأنه من وضع الشرع.
مثال آخر:
باع شخص بيتاً، واشترط سكناه لمدة سنة، فهذا شرط في البيع لو أسقطه من له الشرط جاز، ولو لم يشترط البائع سكنى الدار لم يثبت له سكنى الدار، فهو لم يثبت إلا من وضع البشر، لمن له الحق أن يسقطه.
فشروط صحة الجمعة ما يتوقف عليها صحة الجمعة، أي: إذا فقد واحد من الشروط لم تصح الجمعة.
قوله: "ليس منها إذن الإمام" ، إذا قال العلماء: (إمام) فهو صاحب أعلى سلطة في البلد، سواء سمي إماماً أو خليفة أو أميراً أو رئيساً أو شيخاً أو غير ذلك.
أي: لو صلى الناس بدون إذن الإِمام فصلاتهم صحيحة.
فإذا قال قائل: لماذا نص المؤلف على نفي هذا الشرط، مع أن السكوت عنه يقتضي انتفاءه؟
فالجواب: لأن في ذلك خِلافاً، فالمذهب: لا يشترط إذن الإمام.(167/16)
وقال بعض العلماء: لا تقام الجمعة إلا بإذن الإمام؛ وذلك لأنها صلاة جامعة لكل أهل البلد، فلا يجوز أن تقام إلا بإذن الإمام، والإمام إذا استؤذن يجب عليه أن يأذن، ولا يحل له أن يمنع، فلو فرض أنه امتنع ومنعهم من إقامة الجمعة مع وجوبها فحينئذٍ يسقط استئذانه.
ولكن لو قيل بالتفصيل، وهو: أن إقامة الجمعة في البلد لا يشترط لها إذن الإمام، وأنه إذا تمت الشروط وجب إقامتها، سواء أذن أم لم يأذن، وأما تعدد الجمعة فيشترط له إذن الإمام؛ لئلا يتلاعب الناس في تعدد الجمع، فلو قيل بهذا القول لكان له وجه، والعمل عليه عندنا لا تقام الجمعة إلا بعد مراجعة دار الإفتاء، وهذا القول لا شك أنه قول وسط يضبط الناس؛ لأننا لو قلنا: إن كل من شاء من أي حي أقام الجمعة بدون مراجعة الإمام، أو نائبه؛ لأصبح الناس فوضى، وصار كل عشرة في حي، ولو صغيراً يقيمون الجمعة.
قوله: "أحدها الوقت" ، هذا هو الشرط الأول وبدأ به المؤلف؛ لأن الوقت آكد شروط الصلاة، سواء هنا أو في أوقات الصلوات الخمس، ولهذا إذا دخل الوقت يصلي الإنسان على حسب حاله، ولو ترك ما لا يقدر عليه من الشروط والأركان، فلو دخل الوقت والإنسان عارٍ ليس عنده ما يستر عورته، أو ليس عنده ماء ولا تراب، أو لا يستطيع أن يتطهر، أو لا يستطيع القيام، أو لا يستطيع التوجه إلى القبلة، أو ببدنه نجاسة لا يستطيع غسلها، فلا نقول: انتظر حتى تتحقق الشروط، بل يصلي إذا خاف فوت الوقت على حسب الحال.
والمؤلف قال هنا: "أحدها الوقت" ، وفي شروط الصلاة، قال: "دخول الوقت" ، فهل هذا اختلاف تعبير لا يختلف به الحكم، أو اختلاف تعبير يختلف به الحكم؟(167/17)
الجواب: الثاني، أي: أنه اختلاف حكم؛ لأن الشرط السابق في شروط الصلاة هو: دخول الوقت، فتصح الصلاة ولو بعد وقتها، أما هنا فلا تصح الصلاة إلا في وقتها، فلو خرج الوقت ولم يصل ولو لعذر كالنسيان والنوم، فإنه لا يصلي الجمعة، بل يصلي ظهراً، والصلاة قبل الوقت في الجمعة وغيرها لا تصح؛ لأنه في غير الجمعة نقول: لم يدخل الوقت، وفي الجمعة نقول: ليست في الوقت، والصلاة بعد خروج الوقت في غير الجمعة صحيحة إما مطلقاً، وإما لعذر على القول الراجح، وصلاة الجمعة بعد الوقت لا تصح مطلقاً.
والدليل على اشتراط الوقت: الإِجماع على أنها لا تصح إلا فيه، فلا تصح قبله ولا بعده.
قوله: "وأوله أول وقت صلاة العيد" هذه إحالة على معدم؛ لأن طالب العلم الذي ابتدأ الكتاب، ومشى عليه لم يعرف وقت صلاة العيد، فباب صلاة العيدين بعد صلاة الجمعة، فإذاً تكون الإِحالة على معدم.
وإن قلنا: إن باب العبادات يعتبر شيئاً واحداً فالإحالة على مليء؛ لأن أول العبادات وآخرها واحد.
وعلى كلِّ حال فالذي ينبغي لمن يؤلف أن لا يحيل إلا على شيء معلوم سابق، فلا يحيل على شيء لم يأت بعد.
وعلى كل حال، أول وقت صلاة الجمعة بعد ارتفاع الشمس قِيد رمح أي: قدر رمح، والرمح حوالي متر، فلنا أن نصليها من حين أن ترتفع الشمس قدر رمح.
ولو قال قائل: لماذا خص الوقت بما بعد ارتفاع الشمس قيد رمح، ولم يكن من حين طلوع الشمس؟(167/18)
فالجواب: لأن الشمس كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "تطلع بين قرني شيطان - أي: الشيطان يقارنها حقيقة - فإذا رآها المشركون سجدوا" . فاهتز الشيطان طرباً، وقال: سجدوا لي، مع أنهم إنما يسجدون للشمس، لكنهم في الحقيقة إذا سجدوا للشمس فقد أطاعوا الشيطان، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة حين طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح، وقدره عشر دقائق إلى ربع ساعة، وفي هذه المدة يكون سجود المشركين للشمس قد انتهى، وكل هذا من أجل البعد عن مشابهة المشركين، حتى في العبادات يجب أن نبتعد عن مشابهتهم، وإن كان الوارد الذي يرد على القلب في المشابهة في العبادات أمراً بعيداً، فإذا كنا نهينا أن نتشبه بالمشركين في العبادات التي يكون التشبه فيها بعيداً، فالعادات من باب أولى؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من تشبه بقوم فهو منهم" ، وإسناد الحديث جيد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه - الذي هو من أفيد ما يكون، ولا سيما في الوقت الحاضر - "اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم": (أقل أحوال هذا الحديث التحريم، وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم)؛ لأنه قال: "من تشبه بقوم فهو منهم" فظاهره أنه كافر، لكن هو منهم فيما تشبه به فيهم، فيكون هذا الحديث دالًّا على التحريم، وهو القول الراجح الذي لا شك فيه أن التشبه بالكفار حرام، ولكن لا بد أن نعرف ما هو التشبه، وهل يشترط قصد التشبه؟
فالجواب: أن التشبه أن يأتي الإنسان بما هو من خصائصهم بحيث لا يشاركهم فيه أحد كلباس لا يلبسه إلا الكفار، فإن كان اللباس شائعاً بين الكفار والمسلمين فليس تشبهاً، لكن إذا كان لباساً خاصاً بالكفار، سواء كان يرمز إلى شيء ديني كلباس الرهبان، أو إلى شيء عادي لكن من رآه قال: هذا كافر بناء على لباسه فهذا حرام.
وهل يشترط قصد التشبه أو لا؟(167/19)
الجواب: قد يقول قائل: إنه يشترط قصد التشبه؛ لأنه قال: "من تشبه" وتفعّل تقتضي فعلاً وقصداً، ولكن من نظر إلى العلة عرف أنه متى حصل التشابه ثبت الحكم، ولهذا نص شيخ الإسلام - - على أنه متى حصلت المشابهة، ولو بغير قصد، ثبت الحكم؛ وذلك لأن العلة لا تختلف بالقصد وعدمه، فالعلة أن من رأى هذا الرجل قال: هذا كافر، وهذا لا يشترط فيه القصد.
لكن لو فرض أن الإنسان في بلد ليس فيه من الكفار من يلبس هذا اللباس، وهو لا يعرف عن لباس الكفار في بلادهم، ولبس لباساً يشبه لباس الكفار في بلادهم، وهو لم يقصد، فهنا قد نقول: إنه لا تشبه؛ لأن العلة قد زالت تماماً.
فإن قال قائل: على قولكم حرموا قيادة الطائرات التي تحمل الصواريخ، وما أشبه ذلك؛ لأن الذين يقودونها كفار؟
فالجواب: أن هذه ليست من أزيائهم التي يتحلون بها، ويتخذونها شعاراً لهم، فهذه آلة يقودها الكفار، ويقودها المسلمون، والصحابة - - لما فتحوا البلاد ركبوا السفن التي يصنعها الكفار، والتي هم بها أدرى، ولم يقولوا: إذا ركبنا السفينة صرنا متشبهين.
قوله: "وآخره آخر وقت صلاة الظهر" ، أي آخر وقت صلاة الجمعة، آخر وقت صلاة الظهر، وذلك إذا كان ظل الشيء كطوله بعد فيء الزوال.
وعلامة ذلك: أن الشمس إذا طلعت يكون لكل شاخص - أي: لكل شيء قائم - ظل من جهة المغرب، ثم لا يزال هذا الظل ينقص شيئاً فشيئاً، كلما ارتفعت الشمس نقص إلى أن يقف، فإذا وقف وزاد أدنى زيادة زالت الشمس، فاجعل علامة على المحل الذي بدأ يزيد منه وسيزداد الظل، فإذا كان من العلامة التي زالت عليه الشمس إلى منتهى الظل طول الشاخص، فهنا يخرج وقت الظهر، ويدخل وقت العصر.(167/20)
فإن قيل: ما هو الدليل على هذا التحديد ابتداء وانتهاء؟ فالجواب: أن عندنا قاعدة مفيدة (أن كل تحديد بمكان أو زمان أو عدد، فإنه لا بد له من دليل)؛ لأن التحديد يحتاج إلى توقيف، فمثلاً: الذين حددوا الحيض بأن أقله يوم وليلة، وأكثره خمسة عشر يوماً فلا بد لهم من الدليل، وإلا فلا قبول، والذين حددوا مسافة القصر بيومين لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا الإقامة التي تقطع حكم السفر بأربعة أيام لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا الفطرة بصاع لا بد لهم من الدليل، والذين حددوا دخول وقت الجمعة بارتفاع الشمس بقيد رمح نقول: أين الدليل؟ لأن المعروف أن الجمعة تكون عند الزوال، أو بعد الزوال، فحديث أبي هريرة: "من اغتسل، ثم راح في الساعة الأولى، ثم قال: في الثانية، ثم قال: في الثالثة، ثم قال: في الرابعة، ثم الخامسة" ، يدل على أن هناك فسحة طويلة بين طلوع الشمس ووقت الصلاة، وعليه فالدليل على ابتداء وقت صلاة الجمعة أثر عبد الله بن سيدان - - قال: "شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار، ثم شهدتها مع عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار، فما رأيت أحداً عاب ذلك ولا أنكره" . رواه الدارقطني، وأحمد، واحتج به . ولكن هذا الحديث لا يستقيم الاستدلال به على أن وقت صلاة الجمعة يكون من ارتفاع الشمس قيد رمح لما يلي:
أولاً: الأثر ضعيف كما قاله النووي وغيره، وراويه يقول عنه البخاري: إنه لا يتابع على حديثه.(167/21)
ثانياً: لو صح هذا الأثر فليس فيه دليل على دخول وقت الجمعة بارتفاع الشمس قيد رمح؛ لأن قوله: "كانت خطبته وصلاته قبل نصف النهار" ، يدل على أنها قريبة من النصف وهو الزوال، ولو كانت في أول النهار لقال: كانت صلاته وخطبته في أول النهار، فهناك فرق بين أن يقال: قبل النصف وأن يقال: من أول النهار؛ لأن قبل النصف يعني أنها قريبة؛ ولهذا قال: "ثم شهدتها مع عمر، فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد انتصف النهار ثم شهدتها مع عثمان فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول: قد زال النهار" ، وهذا يدل على أن صلاة أبي بكر - - كانت قريبة من الزوال، والقول بأن صلاة الجمعة تصح قبل الزوال هو المذهب، وهو من المفردات.
القول الثاني: أنها لا تصح إلا بعد الزوال، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة.
القول الثالث: أنها تصح في الساعة السادسة قبل الزوال بساعة استناداً إلى حديث أبي هريرة - -: "من راح في الأولى، ثم الثانية، ثم الثالثة، ثم الرابعة، ثم الخامسة، فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر" ، فيكون حضور الإمام على مقتضى حديث أبي هريرة - - في الساعة السادسة، ولهذا رجح الموفق - - في المغني - وهو من أكابر أصحاب الإمام أحمد - أنها لا تصح قبل السادسة، ولا في أول النهار كما ذهب إليه كثير من الأصحاب، ومنهم الخرقي، وهذا القول هو الراجح أنها لا تصح في أول النهار، إنما تصح في السادسة، والأفضل على القول بأنها تصح في السادسة، أن تكون بعد الزوال وفاقاً لأكثر العلماء.
قوله: "فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً، وإلا فجمعة" ، أي: إن خرج وقت الجمعة قبل أن يدركوا تكبيرة الإحرام في الوقت فإنهم يصلون ظهراً، وهذه المسألة تكاد تكون فرضية لا واقعية؛ لأنه يبعد أن يترك أهل بلد كامل صلاة الجمعة إلى ألا يبقى من الوقت إلا مقدار ما يجب من الخطبة وتكبيرة الإحرام.(167/22)
وأيضاً من الذي يقدر أنه بقي مقدار تحريمة قبل أن يصير ظل الشاخص مثله، فهذا صعب جداً، وفي الزمن السابق ليس عندهم دقة هذا الحساب، فهذه المسألة في الحقيقة من الأمور التي تكون فرضية، ولكن الفقهاء - رحمهم الله وجزاهم عن أمة محمد خيراً - يفرضون المسائل المتوقعة خوفاً من أن تقع ولو في ألف سنة مرة؛ من أجل تمرين الذهن على تطبيق المسائل على أصولها، وهذا من حسن التربية والتعليم أن يذكر المعلم الأصول، ثم يفرع عليها التفريعات، وإن كانت نادرة الوقوع أو فرضية الوقوع، فقول المؤلف: "إذا خرج وقتها قبل أن يكبروا تكبيرة الإحرام صلوها ظهراً" ؛ لأن الظهر تقضى والجمعة لا تقضى، ولكن لا بد أن يتقدم تكبيرةَ الإحرام واجبٌ الخطبة أي: خطبتان بأركانهما، ثم تكبيرة الإحرام، هذا ما ذهب إليه المؤلف بناء على أن إدراك تكبيرة الإحرام معتبر كما هو المذهب. والمذهب جميع الإدراكات تعتبر تكبيرة الإحرام إلا إدراكاً واحداً، وهو إدراك الرجل صلاة الجمعة لا يكون إلا بإدراك ركعة كاملة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
والصحيح: أن جميع الإدراكات لا تكون إلا بركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" ، هذا منطوق الحديث، ومفهومه أن من لم يدرك ركعة لم يدرك الصلاة، وهذا عام في جميع الإدراكات، فمن ذلك:
- لو حاضت المرأة بعد غروب الشمس بمقدار تكبيرة الإحرام، فعلى المذهب أدركت المغرب، وعلى القول بأنه لا بد من ركعة لم تدرك، وينبني عليه هل إذا طهرت من الحيض تقضي هذه الصلاة أو لا تقضيها؟
والجواب: على المذهب أنها تقضيها، وعلى القول الثاني لا تقضيها.(167/23)
وهناك قول ثالث في هذه المسألة بالذات: أنه لا قضاء عليها إلا إذا أخرت الصلاة حتى ضاق وقتها، ثم حاضت فحينئذٍ يلزمها القضاء، ويعللون ذلك: بأن هذه المرأة لها الحق في تأخير الصلاة إلى أن يضيق الوقت عن فعلها، فهي إذا أخرت غير آثمة، فإذا جاءها المانع في وقت هي غير آثمة فيه فإنها لا تعد مفرطة، ثم الظاهر من نساء الصحابة أنهن إذا حضن في الوقت لا يقضين صلاة الوقت، وإن كان يحتمل أنهن عند تحري الحيض يقدمن الصلاة في أول الوقت خشية أن يحدث لهن حيض، فالله أعلم.
- امرأة طهرت من الحيض قبل غروب الشمس بمقدار تكبيرة الإحرام؟
فعلى المذهب يلزمها صلاة العصر، وكذلك الظهر أيضاً؛ لأنها تجمع إليها.
وعلى القول الثاني لا تلزمها صلاة العصر ولا الظهر؛ لأن الظهر تلزمها تبعاً ولا تلزمها صلاة العصر؛ لأنها لم تدرك من الوقت مقدار ركعة.
مسألة: امرأة طهرت من الحيض قبل غروب الشمس بمقدار ركعة فتلزمها صلاة العصر على القولين.
والصحيح: أن صلاة الظهر لا تلزمها.
قوله: "فإن خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهراً، وإلا فجمعة" ، "إن خرج وقتها" أي: وقت الجمعة.
"قبل التحريمة" أي: قبل تكبيرة الإحرام، فإنهم يصلونها ظهراً؛ لأن الوقت قد فات، فإن الوقت لا يدرك إلا بتكبيرة الإحرام، فمن فاتته تكبيرة الإحرام قبل خروج الوقت فقد فاته الوقت، وهذا الذي مشى عليه المؤلف مبني على أن الإدراك يكون بتكبيرة الإحرام.
والصحيح: أن الإدراك لا يكون إلا بركعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة، فقد أدرك الصلاة" .
وعلى هذا فنقول: إن خرج وقتها قبل إدراك ركعة قبل خروجه فإنهم يصلون ظهراً.
مسألة: إذا بقي من الوقت مقدار الواجب من الخطبة فماذا تصلي؟(167/24)
الجواب: تصلي ظهراً؛ لأنه لا يمكن إقامة الجمعة؛ لأن الجمعة لا بد أن يتقدمها خطبتان، فإذاً لا بد أن يبقى من وقت الجمعة مقدار الواجب من الخطبتين، ومقدار تكبيرة الإحرام على قول المؤلف، أو ركعة على القول الذي رجحناه.
ولو قال قائل: هل يمكن أن يخرج وقت صلاة الجمعة على الناس جميعاً؟
فالجواب: يمكن، لكنه نادر، وصورة إمكانه: أن يكون الجو ملبداً بالغيوم، وليس عندهم ساعات، فيظنون أن الوقت مبكر، ثم تتجلى الغيوم وإذا هم قرب صلاة العصر.
قوله: "الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها" ، يعني أن الشرط الثاني لصحة الجمعة حضور أربعين، والمراد حضورهم الخطبتين والصلاة، وسبق بيان من هم أهل الوجوب، فلو حضر ثلاثون من أهل الوجوب الخطبة دون الصلاة لم تصح، ولو حضروا الصلاة دون الخطبة لم تصح الصلاة.
وسبق بيان من هم أهل وجوبها، وهو: كل ذكر، حر، مكلف، مسلم، مستوطن ببناء ليس بينه وبين المسجد أكثر من فرسخ - ستة شروط - فلا بد أن يكون هؤلاء الأربعون متصفين بهذه الصفات.
فإن حضر تسعة وثلاثون حراً وعبد، فإنها لا تصح؛ لأن العبد ليس من أهل الوجوب، وبه تمام الأربعين، فإن حضر تسعة وثلاثون مستوطناً ومسافر مقيم فلا تصح؛ لأن المسافر المقيم غير مستوطن، ونحن اشترطنا أن يكون مستوطناً، فإن حضرت امرأة وتسعة وثلاثون رجلاً فلا تصح؛ لأنها ليست من أهل الوجوب، ولو اجتمع في بلد من بلاد الكفار طلبة يبلغون مائة، وليس فيهم أحد من أهل البلد، فإنهم لا يقيمون الجمعة؛ لأنهم غير مستوطنين.
واستدلوا على اشتراط الأربعين بما يلي:(167/25)
- قال أحمد: "بعث النبي صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير إلى أهل المدينة، فلما كان يوم الجمعة جمع بهم وكانوا أربعين، وكانت أول جمعة جمعت بالمدينة" ، ويجاب: إن صح هذا الأثر فإنه لا يصح الاستدلال به؛ وذلك لأن بلوغهم هذا العدد وقع اتفاقاً لا قصداً، فلم يقل: إنهم أمروا أن يجمعوا فلما بلغوا أربعين أقاموا جمعة، فلو كان لفظ الحديث هكذا لكان فيه شيء من الاستدلال.
- قال جابر: "مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق جمعة، وأضحى، وفطراً" .
لكن هذا الحديث لا يصح، وبهذا يتبين أن دليل المؤلف إما صريح غير صحيح مثل حديث جابر، وإما صحيح غير صريح مثل حديث مصعب بن عمير، والحديث الذي تثبت به الأحكام لا بد أن يكون صحيحاً وصريحاً؛ لأن الضعيف ليس بحجة، وكذا الصحيح غير الصريح يكون محتملاً، ومن القواعد المقررة عند العلماء في الاستدلال "أنه إذا وجد الاحتمال سقط الاستدلال"، وعلى هذا فاشتراط الأربعين لإقامة الجمعة غير صحيح؛ لأن ما بني على غير صحيح فليس بصحيح، ثم يقال: إنه ثبت في صحيح مسلم "أن الصحابة - - لما قدمت العير من الشام إلى المدينة وكانوا في شفقة لقدومها لشدة حاجتهم انفضوا إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، ولم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً - أقل من الأربعين - وبقي مقيماً لصلاة الجمعة" .
لكن قالوا: لعل هؤلاء الذين خرجوا رجعوا فوراً قبل أن يمضي النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته.
ويجاب: أن هذا الاحتمال خِلاف الأصل والظاهر.
فهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل أن من خرج لا يعود حتى يثبت دليل أنه عاد.(167/26)
وخلاف الظاهر؛ لأنه ليس من الظاهر أنهم يخرجون ينظرون فقط، ثم يرجعون، بل سيبقون هناك يشترون من المتاع الذي حضر؛ ولهذا عاتبهم الله عزّ وجلّ فقال: { )وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً)(الجمعة: من الآية11، فصعبٌ على النفوس أن الرسول صلى الله عليه وسلم يترك {قائماً} فيهم يعظهم، ويرشدهم ثم يتركونه قبل فراغ الخطبة، فوبخهم بما هو أشد في قوله: )قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(الجمعة: من الآية11)
القول الثاني: أنه لا بد من اثني عشر رجلاً من أهل الوجوب.
واستدلوا: بحديث جابر السابق ، وأجيب: بأن هذا وقع اتفاقاً فلم يكن قصداً، فربما يبقى أكثر، وربما يبقى أقل، [ولا يصح الاستدلال به].
القول الثالث: أنه يشترط أربعة رجال، [إمام وثلاثة يوجه إليهم الخطاب]، وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لقوله تعالى: { )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْر)(الجمعة: من الآية9) } و"آمنوا" جمع، وأقل الجمع ثلاثة، والإمام هو الذي يُسعى لخطبته.
وأجيب: بأن الاستدلال ليس بصحيح؛ لأن قوله: {)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } [الجمعة: 9] وإن كان جمعاً، فالمراد به الجنس، ولهذا يؤمر بالحضور إلى الجمعة، ولو كان واحداً.
القول الرابع: أنه يشترط أن يكونوا ثلاثة: خطيب ومستمعان، واستدلوا:
- أن الثلاثة أقل الجمع.(167/27)
- أنه روى الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي الدرداء - - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان" ، والصلاة عامة تشمل الجمعة وغيرها، فإذا كانوا ثلاثة في قرية لا تقام فيهم الصلاة، فإن الشيطان قد استحوذ عليهم، وهذا يدل على وجوب صلاة الجمعة على الثلاثة، ولا يمكن أن نقول: تجب على الثلاثة، ثم نقول: لا تصح من الثلاثة؛ لأن إيجابها عليهم ثم قولنا: إنها غير صحيحة تضاد، معناه: أمرناهم بشيء باطل، والأمر بالشيء الباطل حرام، هذا القول قوي، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - -.
القول الخامس: أن الجمعة تجب على اثنين فما فوق؛ لأن الاثنين جماعة فيحصل الاجتماع، ومن المعلوم أن صلاة الجماعة في غير الجمعة تنعقد باثنين بالاتفاق، والجمعة كسائر الصلوات، فمن ادعى خروجها عن بقية الصلوات، وأن جماعتها لا بد فيها من ثلاثة فعليه الدليل، وهذا مذهب أهل الظاهر، واختاره الشوكاني في شرح المنتقى، وهو قول قوي، لكن ما ذهب إليه شيخ الإسلام أصح؛ إذ لا بد من جماعة تستمع، وأقلها اثنان، والخطيب هو الثالث، وحديث أبي الدرداء يؤيد ما قاله الشيخ.
القول السادس: أن الجمعة تصح حتى من واحد؛ لأن الجمعة فرض الوقت، فما الفرق بين الجماعة والواحد، كما أن الظهر فرض الوقت ولا فرق بين الواحد والجماعة، ومن ادعى شرطية العدد في الجمعة فعليه الدليل، ولكن هذا قول شاذ، وهناك أقوال أخرى.
وأقرب الأقوال إلى الصواب: أنها تنعقد بثلاثة، وتجب عليهم، وعلى هذا فإذا كانت هذه القرية فيها مائة طالب، وليس فيها من مواطنيها إلا ثلاثة فتجب على الثلاثة بأنفسهم، وعلى الآخرين بغيرهم، وإذا كان فيها مواطنان ومائة مسافر مقيم لا تجب عليهم.(167/28)
مسألة: إذا حضر تسعة وثلاثون، والإمام يرى أن الواجب أربعون، والتسعة والثلاثون يرون أن الواجب ثلاثة فنقول: الإمام لا يصلي بهم، ويصلي واحد من هؤلاء الذين لا يرون الأربعين، ثم يلزم الإمام أن يصلي؛ لأنها أقيمت صلاة الجمعة.
وإذا كان بالعكس الإمام لا يرى العدد أربعين، والتسعة والثلاثون يرون العدد أربعين فلا يصلون جمعة؛ لأن التسعة والثلاثين يقولون: نحن لن نصلي فيبقى واحد، فلا تنعقد به الجمعة فيصلون ظهراً.
وهذه المسألة التي ذكرها العلماء - رحمهم الله - تدلنا على أن الإنسان ينبغي أن يكون واسع الأفق، فالعلماء أسقطوا الجمعة من أجل الخلاف، وأوجبوها من أجل الخلاف، فالمسائل الخلافية التي يسوغ فيها الاجتهاد لا ينبغي للإنسان أن يكون فيها عنيفاً بحيث يضلل غيره، فمن رحمة الله عزّ وجلّ أنه لا يؤاخذ بالخلاف إذا كان صادراً عن اجتهاد، فمن أصاب فله أجران، ومن أخطأ فله أجر واحد، وأهل السنة والجماعة من هديهم وطريقتهم ألا يضللوا غيرهم ما دامت المسألة يسوغ فيها الاجتهاد، حتى إنهم قالوا: الخلفاء أربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي من خالف ترتيبهم في الخلافة فهو ضال، أي من قال: إن علياً أولى من أبي بكر بالخلافة فهو ضال، حتى قال الإمام أحمد - -: "هو أضل من حمار أهله"، ومن خالف في التفضيل بين عثمان وعلي، فقال: علي أفضل من عثمان فإنه لا يضلل؛ لأن هذه مسألة فيها خلاف بين أهل السنة، لكن استقر أمر أهل السنة على تفضيل عثمان تبعاً للخلافة، فإذا كان يرى أن الأحاديث الواردة في فضل علي - - تفوق الأحاديث الواردة في فضل عثمان - - فلا يضلل، لكن من فضَّل عليًّا على أبي بكر وعمر فقد قدح في علي نفسه؛ لأن علي بن أبي طالب - - يقول على منبر الكوفة، وهو يخطب الناس: "خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر" .(167/29)
قوله: "الثالث أن يكونوا بقرية مستوطنين" ، أي: يشترط لصحة صلاة الجمعة أن يكون العدد المشروط مستوطنين بقرية، وهذا هو الشرط الثالث لصحة صلاة الجمعة، فإن كانوا في خيام كالبادية، فإنه لا جمعة عليهم، ولا تصح منهم الجمعة.
ودليل هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر البدو الذين حول المدينة بإقامة جمعة؛ لأنهم ليسوا مستوطنين، فربما يكونون هذا العام في هذا المكان، وفي العام الثاني أو الثالث في مكان آخر؛ لأنهم يتبعون الربيع والعشب.
والقرية في اللغة العربية: تشمل المدينة والمصر؛ لأنها مأخوذة من الاجتماع.
وانظر إلى مكة أم القرى سماها الله قرية، قال الله تعالى: { )وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ )(محمد: من الآية13) } ، مع أن الله قال: { )وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(الشورى: من الآية7).
والقرية في اللغة غير المفهوم في عرفنا.
فالمراد بالقرية: المدينة سواء كانت صغيرة أو كبيرة.
وقوله: "مستوطنين" ، أي: لا بد أن يكونوا مستوطنين، أي: متخذيها وطناً، سواء كانت وطنهم الأول أم وطنهم الثاني، فالمهاجرون من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه اتخذوا المدينة وطناً ثانياً.
وضد المستوطن: المسافر والمقيم، فالمسافر هو الذي على جناح سفر مرَّ في البلد، ليقضي حاجة ويمشي، والمقيم من أقام يوماً أو ثلاثة أيام، أو خمسة أيام، أو أكثر لشغل ثم يرجع، ومن أقام بقرية وهو عازم على السفر، فهل هو مقيم أو مسافر؟
الجواب: شيخ الإسلام يرى أنه مسافر، ويقول: ليس في الكتاب ولا في السنة تقسيم الناس إلى مستوطن ومقيم ومسافر، وليس فيهما إلا مسافر ومستوطن، والمستوطن هو المقيم.
قوله: "وتصح" أي: الجمعة.
قوله: "فيما قارب البنيان من الصحراء" .(167/30)
أي: إن أهل القرية لو أقاموا الجمعة خارج البلد في مكان قريب، فإنها تصح، فلا يشترط أن تكون في نفس البلد، بشرط أن يكون الموضع قريباً، مثل: مصلى العيد يكون في الصحراء من البلد؛ لأنّهم في الحقيقة لم يخرجوا من القرية.
وقول المؤلف - -: "فيما قارب البنيان من الصحراء" يفهم منه أن ما كان بعيداً لا تصحُّ فيه الجمعة، أي: لو أن أهل القرية خرجوا في نزهة بعيداً عن البلد، وأقاموا الجمعة هناك في مكان النزهة البعيد عن البلد، فإنها لا تجزئ؛ لأنهم انفصلوا عن البلد.
فإذا قال قائل: هل القرب هنا محدد بالعرف أو محدد بالمسافة؟
فالجواب: أن العلماء إذا أطلقوا الشيء، ولم يحددوه يرجع في ذلك إلى العرف، كما (أن الكتاب والسنة إذا أطلق الشيء فيهما، وليس له حد شرعي فإن مرجعه إلى العرف) هذه قاعدة مفيدة، وعلى ذلك قال الناظم:
وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد وقول الناظم: (كالحرز) أي حرز الأموال، فمثلاً: أودعتك وديعة، ووضعتها في مكان غير محرز، وسرقت فعليك الضمان، فإذا قال الناس: هذا الرجل مفرط في وضعه المال في هذا المكان، فهذا غير محرز فعليه الضمان، [والذي يدلنا على أن المكان محرز أو غير محرز العرف].
وفي السرقة أيضاً يشترط للقطع أن تكون من حرز، فلو سرقها من غير حرز فلا قطع عليه؛ لأن المفرط صاحب المال.
مثاله: وضع الدراهم عند باب الدكان، ونسي أن يدخلها الدكان، فجاء رجل بالليل وسرقها فلا تقطع يده؛ لأنه ليس من حرز.
ولو وضعها داخل البيت على الصندوق، لكن لم يدخلها، والبيت دائماً مفتوح الباب فسرقت، فهو مفرط، لا سيما إذا ضعف الأمن، والحرز يختلف باختلاف الأمن، فقد تكون السلطة ضعيفة فيتجرأ السراق، وقد تكون السلطة قوية فيرتدع الناس.(167/31)
فالمؤلف هنا أطلق القرب من البنيان، وإذا أطلق يرجع فيه إلى العرف، فلو أن أهل القرية - مثلاً - ذهبوا إلى عشرة كيلومترات وأقاموا الجمعة فإن هذا بعيد، ولا ينسب إلى البلد، لكن لو أقاموها على طرف البنيان، فكل يعرف أن هؤلاء هم أهل البلد.
وقال بعض العلماء: لا يجوز أن تقام الجمعة إلا في البنيان فلو خرجوا قريباً من البنيان فإنها لا تجزئ، لكن ما ذهب إليه المؤلف هو الصحيح، بدليل أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخرج يوم الفطر والأضحى إلى المصلى .
قوله: "فإن نقصوا قبل إتمامها استأنفوا ظهراً" ، "نقصوا" الضمير يعود على العدد المشترط أي: إن نقصوا واحداً فأكثر استأنفوا ظهراً، أي: بطلت صلاتهم، ووجب عليهم أن يستأنفوا ظهراً. مثاله:
دخلوا في الجمعة على أنهم أربعون، ثم أحدث أحدهم وخرج فيستأنفون ظهراً؛ لأنه يشترط أن يكون العدد المطلوب من أول الصلاة إلى آخرها.
وقوله: "استأنفوا ظهراً" يستثنى من ذلك ما إذا كان الوقت متسعاً لإعادتها جمعة، فإن اتسع الوقت لإعادتها جمعة بحيث حضر الرجل الذي ذهب ليتوضأ، والوقت متسع فإنه يلزمهم إقامتها جمعة؛ لأن الجمعة فرض الوقت، وقد أمكن إقامتها، فكلام المؤلف ليس على إطلاقه، [بل نقيده بما إذا لم تمكن إعادتها جمعة].
وقال بعض العلماء: بل يتمونها جمعة؛ لأن الصلاة انعقدت على وجه صحيح، فإبطالها بعد انعقادها يحتاج إلى دليل، وإذا لم يكن هناك دليل فإنه يبنى آخرها على أولها.
القول الثالث: قول وسط - والغالب أن الوسط من أقوال العلماء هو الصحيح الراجح - أنهم إن نقصوا بعد أن أتموا الركعة الأولى أتموا جمعة، فإذا كان النقص في الركعة الثانية فما بعد أتموا جمعة، وإن نقصوا في الركعة الأولى استأنفوا ظهراً ما لم يمكن إعادتها جمعة، وهذا اختيار الموفق - -، وهذا القول هو الراجح.(167/32)
ودليله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" ، وكما أنه لو أدرك من الجمعة ركعة أتمها جمعة مع أنه يصلي الثانية وحده.
أما القول بأنهم يتمونها جمعة مطلقاً؛ لأنهم ابتدؤوا الصلاة على وجه صحيح فنحتاج إلى دليل على بطلانها.
فجوابه: أن هذه الصلاة من شرط صحتها العدد، فإذا فقد الشرط في أثنائها بطلت، كما لو أحدث في أثنائها، أو انكشفت عورته، أو ما أشبه ذلك.
قوله: "ومن أدرك مع الإمام منها ركعة أتمها جمعة" "مع الإمام" أي: إمام الجمعة.
"منها" أي: الجمعة.
"ركعة" أي: ركعة تامة بسجدتيها أتمها جمعة.
ودليله: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة" .
قوله: "وإن أدرك أقل من ذلك أتمها ظهراً" ، أي: بأن جاء بعد رفع الإمام رأسه من ركوع الركعة الثانية فهنا لم يدرك ركعة فيتمها ظهراً لما سبق من الحديث.
قوله: "إذا كان نوى الظهر" أي: يشترط لإتمامها ظهراً أن ينوي الظهر، وأن يكون وقتها قد دخل، وإنما أضفنا هذا الشرط؛ لأن فيه احتمالاً أن تُصلَّى الجمعة قبل الزوال، فإذا صليت قبل الزوال وأدرك منها أقل من ركعة فإنه لا يتمها ظهراً، بل يتمها نفلاً، ثم إذا دخل وقت الظهر صلى الظهر، فيشترط إذاً لمن أدرك مع الإمام أقلّ من ركعة لإتمامها ظهراً شرطان هما:
- أن ينوي الظهر.
- أن يكون وقت الظهر قد دخل.
فإن لم ينو الظهر بأن دخل مع الإمام بنية الجمعة؛ لأنه يظن أن هذه هي الركعة الأولى، وذلك بأن جاء والإمام قد قال: "سمع الله لمن حمده" في الركعة الثانية، فظن أنها الركعة الأولى، ثم تبين أنها الركعة الأخيرة، فعلى كلام المؤلف يتمها نفلاً؛ لأنه لم ينو الظهر، وعلى هذا يحتاج المسبوق إذا جاء إلى الجمعة وهو لا يدري هل هي الركعة الأولى أو الثانية؟ أن ينتظر فإن جلس الإمام للتشهد دخل معه بنية الظهر، وإن قام دخل معه بنية الجمعة.(167/33)
القول الثاني: أنه إذا دخل معه بنية الجمعة، فتبين أنه لم يدرك ركعة، فلينوها ظهراً بعد سلام الإمام، وهذا هو الذي لا يسع الناس إلا العمل به، خصوصاً العامة؛ لأن العامي ولو علم أنها الركعة الثانية وقد فاته ركوعها، فإنه سينوي الجمعة، ثم إذا سلم الإمام، فمن العامة من يتمها جمعة أيضاً، ومنهم من يتمها ظهراً، لكن لا ينوي الظهر إلا بعد أن يسلم الإمام، وهذا القول هو الصحيح؛ لأن الظهر فرع عن الجمعة، فإذا انتقل من الجمعة إلى الظهر، فقد انتقل من أصل إلى بدل، وكلاهما فرض الوقت، وفي هذه المسألة قد تنخرم القاعدة التي يقال فيها: (إن الانتقال من معين إلى معين يبطل الأول، ولا ينعقد الثاني به).
مثاله: إنسان دخل في الصلاة بنية الظهر ناسياً، ثم ذكر أنه في وقت العصر، وأنه قد صلى الظهر من قبل، وفي أثناء الصلاة نواها عصراً.
فنقول: الظهر بطلت؛ لأنك أبطلتها، والعصر لم تنعقد؛ لأنك لم تنوها عصراً من أولها، والمعين لا بد أن تنويه من أوله، ولكن نقول: هذه المسألة يمكن أن تستثنى من القاعدة بناء على أن الظهر بدل عن الجمعة إذا فاتت فهي فرع لها، وهو لم ينتقل من شيء مغاير من كل وجه.
مسألة مهمة تعتري الناس في أيام موسم الحج والعمرة في المسجد الحرام وهي:
ما إذا زحم الإنسان عن السجود. قال في الروض: "ومن أحرم مع الإمام، ثم زحم عن السجود لزمه السجود على ظهر إنسان أو رجله".
مثاله: إنسان دخل مع إمام الجمعة، لكن الناس متضايقون، فلما أراد السجود ما وجد مكاناً يسجد فيه، نقول: يجب عليك أن تسجد على ظهر إنسان، أو على رجله.
وقال بعض العلماء: إذا زحم فإنه ينتظر حتى يقوم الناس، ثم يسجد، ويكون التخلف هنا عن الإمام لعذر.(167/34)
وقال بعض العلماء: يومئ إيماء أي: يجلس ويومئ بالسجود إيماء؛ لأن الإيماء في السجود قد جاءت به السنة عند التعذر بخلاف التخلف عن الإمام فإنه لم يأت إلا لعذر، وهذا القول أرجح، ويليه القول بأنه ينتظر، ثم يسجد، بعد الإمام، وأما القول بأنه يسجد على ظهر إنسان أو رجله فإنه ضعيف؛ لما يلزم عليه من التشويش التام على المسجود عليه، وقد يقاتل المسجود عليه الساجد، وقد يكون الذي أمامه امرأة.
وأيضاً السجود على ظهر إنسان لا تتأتى معه صورة السجود، لعلو الإنسان في السجود فيكون وجهه محاذياً لرجليه، وهنا الساجد أيضاً يكون رفيعاً.
قال في الروض: "وإن أحرم، ثم زحم، وأخرج عن الصف فصلى فذاً لم تصح" أي: لو أنه زحم، وعجز عن أن يطيق الوقوف في الصف حتى خرج، فإنه على المذهب لا تصح صلاته؛ لأنه فذ.
والصحيح: أن صلاته تصح؛ لأنه معذور في الفذية.
فإذا كان قد صلى الركعة الأولى في الصف فإنه إذا زحم حتى خرج من الصف ينوي الانفراد ويتمها جمعة؛ لأنه أدرك ركعة كاملة فيتمها جمعة هذا على المذهب، والقول الراجح أنه يتمها جمعة مع الإمام؛ لأن انفراده هنا للعذر.
قوله: "ويشترط تقدم خطبتين" ، بضم الخاء؛ لأن الخِطبة بالكسر: خطبة النكاح أي: أن يخطب الرجل المرأة، والخُطبة بالضم: خطبة الوعظ، وما أشبه ذلك.
أي: يشترط لصحة الجمعة أن يتقدمها خطبتان، وهذا هو الشرط الرابع ، فإن لم يتقدمها خطبتان لم تصح.
ولو تأخرت الخطبتان بعد الصلاة لم تصح والدليل على اشتراط تقدم الخطبتين ما يلي:(167/35)
- قوله تعالى: {)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ )(الجمعة: من الآية9) ، فأمر بالسعي إلى ذكر الله من حين النداء، وبالتواتر القطعي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أذن المؤذن يوم الجمعة خطب، إذاً فالسعي إلى الخطبة واجب، وما كان السعي إليه واجباً فهو واجب؛ لأن السعي وسيلة إلى إدراكه وتحصيله، فإذا وجبت الوسيلة وجبت الغاية.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب فقد لغوت" ، وهذا يدل على وجوب الاستماع إليهما، ووجوب الاستماع إليهما يدل على وجوبهما.
- مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليهما مواظبة غير منقطعة، فلم يأتِ يوم من أيام الجمعة لم يخطب فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الدوام المستمر صيفاً وشتاءً، شدةً ورخاءً يدل على وجوبهما.
- أنه لو لم تجب لها خطبتان لكانت كغيرها من الصلوات، ولا يستفيد الناس من التجمع لها، ومن أهم أغراض التجمع لهذه الصلاة الموعظة وتذكير الناس.
قوله: "من شرط صحتهما: حمد الله، والصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، أي: أن الخطبتين لهما شروط لا تصحان بدونها، ذكر منها المؤلف: "حمد الله" ، وهذا هو الشرط الأول بأن يحمد الله بأي صيغة، سواء كانت الصيغة اسمية أم فعلية، أي: سواء قال: الحمد لله، أو قال: أحمد الله، أو قال: نحمد الله، وسواء كان الحمد في أول الخطبة، أم في آخرها، والأفضل أن يكون في أول الخطبة.
والدليل على اشتراط حمد الله تعالى:
- قول النبي عليه الصلاة والسلام: "كل أمر لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع" ، والأقطع: الناقص البركة والخير.
- حديث جابر في صحيح مسلم: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب حمد الله وأثنى عليه" ، وهذا استدلال قد يعارض؛ لأنه مجرد فعل، والفعل المجرد لا يدل على الوجوب، لكن لا شك أنه أفضل وأحسن.(167/36)
الشرط الثاني: من شروط صحة الخطبة الصلاة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم أي: أن يصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم بأي اسم من أسمائه أو صفة تختص به فيقول: اللهم صلِّ على محمد، أو اللهم صل على أحمد، أو اللهم صل على العاقب، أو اللهم صل على الحاشر، أو اللهم صل على خاتم النبيين، أو المرسل إلى الناس أجمعين.
قال بعض العلماء: ولا بد أن يصلى عليه باسم مُظهر، فإن صلى عليه مضمراً لا مظهراً لم تصح، كما لو قال: أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتفياً بذلك، ولكن هذا غير صحيح فإن المضمر يحل محل المظهر متى علم مرجعه.
والدليل على اشتراط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم: أن كل عبارة افتقرت إلى ذكر الله افتقرت إلى ذكر رسوله صلى الله عليه وسلم هكذا علل بعض العلماء.
وهذا التعليل عليل، وليس بصحيح، وما أكثر العبادات التي لا تفتقر إلى ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي تفتقر إلى ذكر الله. مثلاً: لو أراد الإنسان أن يتوضأ يقول: باسم الله، ولا يقول: الصلاة والسلام على رسول الله.
ولو أراد الإنسان أن يذبح يقول: بسم الله، دون أن يصلي على رسول الله (ص)، بل كره بعض العلماء: أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم عند الذبح، وقال: لأن هذا يؤدي إلى الشرك، وحتى لا يكون الإنسان يذبح لله ولرسول الله (ص).
والأذان يفتقر إلى ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن لا يفتقر إلى ذكر الصلاة عليه، فالعلة هنا منتقضة، وانتقاض العلة يدل على بطلانها، ولهذا ليس هناك دليل صحيح يدل على اشتراط الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الخطبة.
والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم تكون بلفظ الطلب، أو بلفظ الخبر الذي بمعنى الطلب، مثالها بلفظ الطلب: اللهم صل على محمد.
ومثالها بلفظ الخبر الذي بمعنى الطلب: صلى الله على محمد.
قوله: "وقراءة آية" .(167/37)
هذا هو الشرط الثالث لصحة الخطبة، وهو قراءة آية فأكثر من كتاب الله، فإن لم يقرأ آية لم تصح الخطبة، ولكن يشترط في الآية أن تستقل بمعنى، فإن لم تستقل بمعنى لم تجزئ، فلو قرأ { ثم نظر} [المدثر] فلا تستقل بمعنى، من الذي نظر؟ لا يعلم.
ولو قرأ { مدهاماتان} [الرحمن] فلا تجزئ، ما معنى مدهامتان؟ أي: سوداوان، يفهم منها معنى، لكن ما هما الموصوفتان بهذه الصفة؟
ولو قرأ(فصل لريك وأنحر) (الكوثر] صحت؛ لأنه كلام مستقل مفهوم واضح، والدليل على اشتراط قراءة الآية: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ يوم الجمعة بـ"ق~ والقرآن المجيد" يخطب بها، ولكن هذا ليس بدليل؛ لأن الفعل المجرد لا يدل على الوجوب.
ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا تشترط لصحة الخطبة قراءة شيء من القرآن متى تضمنت الموعظة المؤثرة في إصلاح القلوب وبيان الأحكام الشرعية، وهذه الرواية الثانية عن أحمد - -.
قوله: "والوصية بتقوى الله عز وجل" .
هذا هو الشرط الرابع لصحة الخطبة، وهو الوصية بتقوى الله عز وجل.
والوصية: هي أن يوصي الخطيب المستمعين بتقوى الله سواء قال: أوصيكم بتقوى الله، أو قال: يا أيها الناس اتقوا الله، فلا بد أن يوصي بتقوى الله؛ لأن هذا هو لبُّ الخطبة الذي يحصل به وعظ الناس، ويذكرهم ويلين قلوبهم، ويوصيهم بما ينفعهم.
فإن أتى بمعنى التقوى دون لفظها بأن قال: يا أيها الناس افعلوا أوامر الله، واتركوا نواهي الله فيصح، أو قال: يا أيها الناس أطيعوا الله، وأقيموا أوامره، واتركوا نواهيه فيجزئ.
قوله: "وحضور العدد المشترط" .
هذا هو الشرط الخامس لصحة الخطبة، وهو أن يحضر الخطبتين العدد المشترط، فلا بد أن يحضر أربعون من أهل وجوبها، فإن حضر الخطبة عشرون، ثم لما أقيمت الصلاة قبل أن يشرع في الصلاة تموا أربعين، فإنه لا تجزئ الخطبتان، وعليه إعادتهما.
ولو حضر أربعون نصف الخطبة لم يجزئ.(167/38)
والصحيح: أن تقدير العدد بأربعين ليس بصواب كما سبق، لكننا إذا قلنا يشترط حضور ثلاثة صار لا بد من حضور الثلاثة.
وقوله: "من شرط صحتهما"، "من" هذه تدل على التبعيض، والتبعيض يدل على أن بعضاً من الشروط لم يذكر، وأن المذكور بعضها، لا كلها، فهناك شروط أخرى تضاف إلى ما ذكر.
الشرط السادس: أن تكون الخطبتان بعد دخول الوقت، فإن خطب قبل دخول الوقت لم تصح الخطبتان، ثم لا تصح الجمعة بعد ذلك.
وقال بعض أهل العلم: إن الشرط الأساسي في الخطبة أن تشتمل على الموعظة المرققة للقلوب، المفيدة للحاضرين، وأن الحمد لله، أو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقراءة آية، كله من كمال الخطبة.
ولكن هذا القول وإن كان له حظ من النظر لا ينبغي للإنسان أن يعمل به إذا كان أهل البلد يرون القول الأول الذي مشى عليه المؤلف؛ لأنه لو ترك هذه الشروط التي ذكرها المؤلف لوقع الناس في حرج، وصار كلٌّ يخرج من الجمعة، وهو يرى أنه لم يصل الجمعة، وإذا أتيت بهذه الشروط لم تقع في محرم، ومراعاة الناس في أمر ليس بحرام هو مما جاءت به الشريعة، فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الصوم والفطر في رمضان في حال السفر، وراعاهم عليه الصلاة والسلام في بناء الكعبة حيث قال لعائشة - -: "لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لهدمت الكعبة وبنيتها على قواعد إبراهيم" ، وهذه القاعدة معروفة في الشرع.
أما إذا راعاهم في المحرم فهذه تسمى مداهنة لا تجوز، وقد قال الله تعالى:(وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم: 9
قوله: "ولا يشترط لهما الطهارة" أي: لا يشترط للخطبتين أن يكون على طهارة، فلو خطب وهو محدث فالخطبة صحيحة؛ لأنها ذكر وليست صلاة.
وإذا خطب وهو جنب ففيه مشكلتان:
المشكلة الأولى: اللبث في المسجد، وزوالها أن يقال: إنه يتوضأ فتزول المشكلة بهذا الوضوء.(167/39)
المشكلة الثانية: قراءة القرآن وهو جنب، والمذهب أن قراءة الآية شرط لصحة الخطبة، وقراءة الجنب للقرآن حرام، فكيف تصح هذه القراءة، وليس عليها أمر الله ورسوله؟ بل الذي عليها النهي، لكن قالوا: إن النهي هنا لا يتعلق بقراءة الآية في الخطبة، بل هو عام، فلو ورد نهي: لا تقرأ القرآن وأنت جنب حال الخطبة، ثم قرأ قلنا: إن الخطبة لا تصح؛ لأنه فعل فعلاً محرماً في نفس العبادة.
وهذا صحيح، لكنه أحياناً ينتقض على المذهب، فقد قالوا: إن الرجل لو صلى بثوب مغصوب فصلاته باطلة، مع أن تحريم لباس المغصوب ليس خاصاً في الصلاة، بل عام، ومع ذلك يقولون: إنها لا تصح الصلاة؛ لأنه ثوب محرم، ولكن الصحيح أن الصلاة تصح بالثوب المغصوب.
ولو توضأ بماء مغصوب فلا يصح الوضوء على المشهور من المذهب؛ لأن الماء المغصوب يحرم استعمالهوالقول الثاني: وهو الراجح: أنه يصح أن يتوضأ بماء مغصوب مع الإثم، وعليه ضمانه لصاحبه.
وهذه المسألة أي: صحة قراءة الآية من القرآن وهو جنب مع الإثم مما يقوي القول الذي رجحناه، وهو صحة الوضوء بالماء المغصوب، وصحة الصلاة بالثوب المغصوب، وصحة الصلاة بالبقعة المغصوبة أيضاً.
وقد سبق أن بعض أهل العلم لا يشترط قراءة آية، وعليه لا يرد هذا الإشكال أصلاً.
قوله: "ولا أن يتولاهما من يتولى الصلاة" أي: لا يشترط أن يتولى الخطبتين من يتولى الصلاة، فلو خطب رجل وصلى آخر فهما صحيحتان، والصلاة صحيحة.
لكن هل يشترط أن يتولاهما واحد، أو يجوز أن يخطب الخطبة الأولى واحد والثانية آخر؟
الجواب: يجوز، أي: لا يشترط أن يتولاهما واحد، فلو خطب رجل، وخطب الثانية رجل آخر صح.(167/40)
ولكن هل يشترط أن يتولى الخطبة الواحدة واحد؟ أي: لو أن رجلاً خطب الخطبة الأولى في أولها، وفي أثنائها تذكر أنه على غير وضوء مثلاً فنزل، ثم قام آخر وأتم الخطبة، لم أر حتى الآن من تكلم عليها، ولكنهم ذكروا في الأذان أنه لا يصح من رجلين أي: لا يصح أن يؤذن الإنسان أول الأذان، ثم يكمله الآخر؛ لأنه عبادة واحدة، فكما أنه لا يصح أن يصلي أحد ركعة، ويكمل الثاني الركعة الثانية، فكذلك لا يصح أن يؤذن شخص أول الأذان ويكمله آخر، أما الخطبة فقد يقال: إنها كالأذان أي: لا بد أن يتولى الخطبة الواحدة واحد، فلا تصح من اثنين، سواء لعذر أو لغير عذر، فإن كان لغير عذر فالظاهر أن الأمر واضح؛ لأن هذا شيء من التلاعب.
وإذا كان لعذر مثل: أن يذكر الذي بدأ الخطبة أنه على غير وضوء، ثم ينزل ليتوضأ، فهنا نقول: الأحوط أن يبدأ الثاني الخطبة من جديد، حتى لا تكون عبادة واحدة من شخصين.
مسألة: هل يشترط أن يكون العدد الحاضر لهما هو العدد الحاضر للصلاة.
مثلاً: بأن خطب بأربعين، ثم خرج الأربعون، وجاء أربعون غيرهم وصلوا الجمعة.
فالجواب: أنه يشترط؛ لأنه لا بد أن يحضروا الخطبتين والصلاة.
مسألة: لم يذكر صاحب المتن ما يبطل الخطبتين، لكن ذكر الشارح في الروض أنهما تبطلان بالكلام المحرم، أي: لو أن الخطيب في أثناء الخطبة تكلم كلاماً محرماً، كقذف أو لعن، أو ما أشبه ذلك، فإنها تبطل؛ لأن ذلك ينافي مقتضى الخطبة.
فالمقصود بالخطبة وعظ الناس وزجرهم عن الحرام، فإذا كان الخطيب نفسه يفعل الحرام فإنها تبطل.
مسألة: لم يذكر الماتن أيضاً هل يشترط أن تكون الخطبتان باللغة العربية أم لا؟
والجواب: إن كان يخطب في عرب، فلا بد أن تكون بالعربية، وإن كان يخطب في غير عرب، فقال بعض العلماء: لا بد أن يخطب أولاً بالعربية، ثم يخطب بلغة القوم الذين عنده.(167/41)
وقال آخرون: لا يشترط أن يخطب بالعربية، بل يجب أن يخطب بلغة القوم الذين يخطب فيهم، وهذا هو الصحيح؛ لقوله تعالى: { )وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ )(ابراهيم: من الآية4) }. ولا يمكن أن ينصرف الناس عن موعظة، وهم لا يعرفون ماذا قال الخطيب؟ والخطبتان ليستا مما يتعبد بألفاظهما حتى نقول: لا بد أن تكونا باللغة العربية، لكن إذا مرَّ بالآية فلا بد أن تكون بالعربية؛ لأن القرآن لا يجوز أن يغير عن اللغة العربية.
قوله: "ومن سننهما أن يخطب على منبر" أي: من سنن الخطبتين أن يخطب على منبر، والمنبر: على وزن مفعل من النبر، وهو الارتفاع، أي: على شيء مرتفع، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب في أول الأمر إلى جذع نخلة في مسجده، ثم صنع له منبر من خشب الغابة (الأثل) فصار يخطب عليه، ولما خطب عليه أول جمعة صاح جذع النخلة كما تصيح الإبل العشار، حتى نزل النبي صلى الله عليه وسلم وسكته فسكت، والناس يسمعون ، وإنما كان ذلك سنة اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأن ذلك أبلغ في إيصال الخطبة إلى الناس؛ لأنه إذا كان مرتفعاً سمعه الناس أكثر، وكذلك إذا كان مرتفعاً رآه الناس بأعينهم، ولا شك أن تأثر السامع إذا رأى المتكلم أكثر من تأثره وهو لا يراه، وهذا أمر مشاهد، ولهذا كان من هدي الصحابة على ما ذكر - أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب استقبلوه بوجوههم ؛ ليكون ذلك أبلغ في حضور القلب والانتفاع بالخطبة، قال العلماء: ينبغي أن يكون المنبر على يمين مستقبل القبلة في المحراب كما هو معمول به الآن؛ من أجل أن الإمام إذا نزل منه ينفتل عن يمينه.
قوله: "أو موضع عال" أي: إذا لم يوجد منبر، خطب على موضع مرتفع، ولو كومة من التراب، من أجل أن يبرز أمام الناس، وكما ذكرنا سابقاً؛ لأن ذلك أبلغ في الصوت، وأبلغ في التلقي عن الخطيب؛ لأن من يُشَاهَدُ يتلقى منه أكثر.(167/42)
قوله: "ويسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم" أي: يسن إذا صعد المنبر أن يتجه إلى المأمومين، ويسلم عليهم؛ لأن ذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإن كان الحديث المرفوع فيه ضعف، لكن الأمة أجمعت على العمل به، واشتهر بينها أن الخطيب إذا جاء وصعد المنبر استقبل الناس وسلم عليهم، وهذا التسليم العام.
أما الخاص فإنه إذا دخل المسجد سلم على من يمر عليه أولاً، وهذا من السنة بناء على النصوص العامة أن الإنسان إذا أتى قوماً فإنه يسلم عليهم، فيكون إذاً للإمام سلامان:
السلام الأول: إذا دخل المسجد سلم على من يمر به.
والسلام الثاني: إذا صعد المنبر، فإنه يسلم تسليماً عاماً على جميع المصلين.
قوله: "ثم يجلس إلى فراغ الأذان" ، أي: يسن إذا سلم على المأمومين أن يجلس حتى يفرغ المؤذن، وفي هذه الحال يتابع المؤذن على أذانه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن" ، وهذا عام فينبغي للإمام وهو على المنبر أن يجيب المؤذن، وكذلك المأمومون يجيبون المؤذن، فيقولون مثل ما يقول إلا في الحيعلتين، فإنهم يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قوله: "ويجلس بين الخطبتين" أي: يسن أن يجلس بين الخطبتين؛ لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يجلس بين الخطبتين" ، ولأنه لو لم يجلس لم يتبين التمييز بينهما؛ إذ قد يظن الظان أنه سكت لعذر منعه من الكلام، لكن إذا جلس تميزت الخطبة الأولى عن الثانية.
وعلى هذا يكون للخطيب جلستان: الأولى عند شروع المؤذن في الأذان، والثانية بين الخطبتين.
قوله: "ويخطب قائماً" أي: يسن أن يخطب قائماً؛ لفعل النبي صلى الله عليه وسلم ؛ ولأن ذلك أبلغ بالنسبة للمتكلم؛ لأن القائم يكون عنده من الحماس أكثر من الجالس؛ ولأنه أبلغ أيضاً في إيصال الكلام إلى الحاضرين، لا سيما في الزمن السابق، إذ ليس فيه مكبر صوت.(167/43)
قوله: "ويعتمد على سيف أو قوس أو عصا" أي: يسن أن يعتمد حال الخطبة على سيف، أو قوس، أو عصا.
واستدلوا بحديث يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحته نظر ، وعلى تقدير صحته قال ابن القيم: إنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد اتخاذه المنبر أنه اعتمد على شيء.
ووجه ذلك: أن الاعتماد إنما يكون عند الحاجة، فإن احتاج الخطيب إلى اعتماد، مثل أن يكون ضعيفاً يحتاج إلى أن يعتمد على عصا فهذا سنة؛ لأن ذلك يعينه على القيام الذي هو سنة، وما أعان على سنة فهو سنة، أما إذا لم يكن هناك حاجة، فلا حاجة إلى حمل العصا.
ثم إن تعليلهم بأنه إشارة إلى أن هذا الدين قام بالسيف فيه نظر أيضاً.
فالدين لم يفتح بالسيف؛ لأن السيف لا يستعمل للدين إلا عند المنابذة، فإذا أبى الكفار أن يسلموا أو يبذلوا الجزية فإنهم يقاتلون، أما إذا بذلوا الجزية فإنهم يتركون، وهذا هو القول الذي تدل عليه الأدلة.
ثم إن المسلمين لم يفتحوا البلدان إلا بعد أن فتحوا القلوب أولاً بالدعوة إلى الإسلام، وبيان محاسنه بالقول وبالفعل، وليس كزمننا اليوم نبيّن محاسن الإسلام بالقول إن بيّناه، أما بالفعل فنسأل الله أن يوفق المسلمين للقيام بالإسلام، فإذا رأى الإنسان الأجنبي البلاد الإسلامية، ورأى ما عليه بعض المسلمين من الأخلاق التي لا تمت إلى الإسلام بصلة، من شيوع الكذب فيهم، وكثرة الغش، وتفشي الظلم والجور استغرب ذلك، ويقول: أين الإسلام؟! فالإسلام في الحقيقة إنما فتحت البلاد به، لا بالسيف، والسيف يستعمل عند الضرورة إليه، إذا لم يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، كما سبق.(167/44)
وأيضاً: لا نستعمل السيف إلا بعد القدرة، أما إذا كان أعداؤنا أكثر منا بكثير وأقوى منا فإن استعمال السيف يعتبر تهوراً، ولهذا أباح الله لنا ألا نقابل أكثر من مثلينا قال تعالى: { )الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:66) وفيه أيضاً: حجة للكفار حيث يقولون: إنكم أنتم أيها المسلمون فتحتم بلادنا في الأول بالقوة، لا بالدعوة.
قوله: "ويقصد تلقاء وجهه" أي: يسن للخطيب أن يتجه تلقاء وجهه، فلا يتجه لليمين أو لليسار، بل يكون أمام الناس؛ لأنه إن اتجه إلى اليمين أضر بأهل اليسار، وإن اتجه إلى اليسار أضر بأهل اليمين، وإن اتجه تلقاء وجهه لم يضر بأحد، والناس هم الذين يستقبلونه مع الإمكان.
فإن قال قائل: هل من السنة أن يلتفت يميناً وشمالاً؟
فالجواب: أن هذا ليس من السنة فيما يظهر، وأن الخطيب يقصد تلقاء وجهه، ومن أراده التفت إليه.
وهل من السنّة أن يحرك يديه عند الانفعال؟
الجواب: ليس من السنّة أن يحرك يديه، وإن كان بعض الخطباء بلغني أنهم يفعلون ذلك، لكن يشير في الخطبة بأصبعه عند الدعاء.
أما الخطبة التي هي غير خطبة الجمعة فقد نقول: إنه من المستحسن أن الإنسان يتحرك بحركات تناسب الجمل التي يتكلم بها، أما خطبة الجمعة فإن المغلَّب فيها التعبد، ولهذا أنكر الصحابة على بشر بن مروان حين رفع يديه في الدعاء ، مع أن الأصل في الدعاء رفع اليدين، فلا يشرع فيها إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: "ويقصر الخطبة" أي: يسن أن يجعلها قصيرة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مَئِنَّة من فقهه" ، فالأولى أن يقصر الخطبة؛ لأن في تقصير الخطبة فائدتين:(167/45)
- ألا يحصل الملل للمستمعين؛ لأن الخطبة إذا طالت لا سيما إن كان الخطيب يلقيها إلقاءً عابراً لا يحرك القلوب، ولا يبعث الهمم فإن الناس يملون ويتعبون.
- أن ذلك أوعى للسامع أي: أحفظ للسامع؛ لأنها إذا طالت أضاع آخرها أولها، وإذا قصرت أمكن وعيها وحفظها، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: "إن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه" ، أي: علامة ودليل على فقهه، وأنه يراعي أحوال الناس، وأحياناً تستدعي الحال التطويل، فإذا أطال الإنسان أحياناً لاقتضاء الحال ذلك، فإن هذا لا يخرجه عن كونه فقيهاً؛ وذلك لأن الطول والقصر أمر نسبي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يخطب أحياناً بسورة "ق" مع الترتيل والوقوف على كل آية تستغرق وقتاً طويلاً.
قوله: "ويدعو للمسلمين" أي: يسن أيضاً في الخطبة أن يدعو للمسلمين الرعية والرعاة؛ لأن ذلك الوقت ساعة ترجى فيه الإجابة، والدعاء للمسلمين لا شك أنه خير، فلهذا استحبوا أن يدعو للمسلمين.
ولكن قد يقول قائل: كون هذه الساعة مما ترجى فيها الإجابة، وكون الدعاء للمسلمين فيه مصلحة عظيمة موجود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله فتركه هو السنة؛ إذ لو كان شرعاً لفعله النبي صلى الله عليه وسلم، فلا بد من دليل خاص يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو للمسلمين، فإن لم يوجد دليل خاص فإننا لا نأخذ به، ولا نقول: إنه من سنن الخطبة، وغاية ما نقول: إنه من الجائز، لكن قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة" ، فإن صح هذا الحديث فهو أصل في الموضوع، وحينئذٍ لنا أن نقول: إن الدعاء سنّة، أما إذا لم يصح فنقول: إن الدعاء جائز، وحينئذٍ لا يتخذ سنّة راتبة يواظب عليه؛ لأنه إذا اتخذ سنّة راتبة يواظب عليه فهم الناس أنه سنّة، وكل شيء يوجب أن يفهم الناس منه خلاف حقيقة الواقع فإنه ينبغي تجنبه. فصل(167/46)
قوله: "والجمعة ركعتان" وهذا بالنص، والإجماع.
أما النص: فإن هذا أمر متواتر مشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي الجمعة ركعتين فقط.
وأما الإجماع: فهو أيضاً إجماع متواتر لم يختلف أحد من المسلمين فيه.
وفي هذا دليل على أن الجمعة صلاة مستقلة، وليست ظهراً، ولا بدلاً عن الظهر، ومن زعم أنها ظهر مقصورة، أو بدل عنها فقد أبعد النجعة، بل الجمعة صلاة مستقلة لها شرائطها وصفتها الخاصة بها، ولذلك تصلى ركعتين، ولو في الحضر.
وقوله: "يسن أن يقرأ جهراً" هذا مما تختلف فيه عن صلاة الظهر، أنها تسنّ القراءة فيها جهراً من بين سائر الصلوات النهارية، ونحن إذا تأملنا الصلوات الجهرية وجدنا أنها الصلوات الليلة المكتوبة: المغرب، والعشاء، والفجر، وأنها أيضاً الصلاة ذات الاجتماع العام، ولو نهاراً مثل: الجمعة، والعيد، والكسوف، والاستسقاء؛ لأن هذه يجتمع فيها الناس اجتماعاً عاماً، فالسنة في الكسوف مثلاً أن يصليها أهل البلد كلهم في مسجد واحد في الجامع، وكذلك صلاة الاستسقاء، وصلاة العيد، وصلاة الجمعة.
والحكمة من ذلك - أنه يجهر في هذه الصلوات ذوات الاجتماع العام - هي إظهار الموافقة والائتلاف التام؛ لأنه إذا كان الإمام يجهر صارت قراءته قراءة للجميع، فكأنه عنوان على ائتلاف أهل البلد كلهم.
أما في الليل فالحكمة من ذلك هي أنه قد يكون أنشط للمصلين إذا استمعوا القراءة، لا سيما إذا كان الصوت جيداً، والقراءة لذيذة، ولأجل أن يتواطأ القلب واللسان من جميع الحاضرين.
وقوله: "يسن أن يقرأ جهراً" ، يؤخذ منه أنه لو قرأ سراً لصحّت الصلاة، لكن الأفضل الجهر.
قوله: "في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين" أي: يقرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية بالمنافقين، ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والمناسبة فيهما ظاهرة.(167/47)
أما "سورة الجمعة" فالمناسبة أظهر من الشمس؛ لأن فيها ذكر الأمر بالسعي إلى صلاة الجمعة، وأيضاً ذكر الله فيها الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها - أي: لم يعملوا بها - أن مثلهم كمثل الحمار، ففيه تحذير للمسلمين أن يتركوا العمل بالقرآن، فيصيروا مثل اليهود أو أخبث؛ لأن من ميّز عن غيره بفضل كان تكليفه بالشكر أكثر.
وأما "المنافقون" فالمناسبة ظاهرة أيضاً: من أجل أن يصحح الناس قلوبهم ومسارهم إلى الله تعالى كل أسبوع، فينظر الإنسان في قلبه، هل هو من المنافقين أو من المؤمنين؟ فيحذر ويطهر قلبه من النفاق، وفيه أيضاً فائدة أخرى أن يقرع أسماع الناس التحذير من المنافقين كل جمعة؛ لأن الله قال فيها عن المنافقين(هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ)(المنافقون: من الآية4
وله أن يقرأ بـ{سبح } و{الغاشية } ثبت ذلك أيضاً في صحيح مسلم ، فالسنة: أن يقرأ مرة بهذا، ومرة بهذا، ولكن لو أن الإنسان راعى أحوال الناس ففي أيام الشتاء البارد يقرأ بسبح والغاشية؛ لأن الناس ربما يحتاجون إلى كثرة الخروج للتبول بسبب البرودة، وكذا في أيام الحر الشديد أيضاً يقرأ بسبح والغاشية، لا سيما إذا كان المسجد ليس فيه تبريد كافٍ؛ لأجل التسهيل على الناس، وذلك أن من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه ما خيّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً .
والقاعدة العامة في الشريعة الإسلامية هي (التيسير)، فإذا علمنا أن الأيسر على المصلين أن نقرأ بسبّح والغاشية، وذلك في شدة البرد والصيف، فالأفضل أن نقرأ بهما، وأما في الأيام المعتدلة الجو فينبغي أن يقرأ بهذا أحياناً، وبهذا أحياناً؛ لئلا تهجر السنّة، والمناسبة فيهما ظاهرة؛ لأن في "سبّح" أمر الله تعالى بالتذكير فقال: { )فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى(:9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى(10) [الأعلى] ، والإمام قد ذكر في الخطبة، فينبّه الناس على أنهم إن كانوا من أهل خشية الله فسوف يتذكرون.(167/48)
وفي "الغاشية" ذكر يوم القيامة وأحوال الناس فيها، قال تعالى: { )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ(2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) (الغاشية:3) وقال: { )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ(8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ(9) [الغاشية] ، وفيها أيضاً التذكير: { )فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ(21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ(22) } [الغاشية] .
قوله: "وتحرم إقامتها في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة" أي: تحرم إقامة صلاة الجمعة في أكثر من موضع من البلد إلا لحاجة، ويأتي دليل ذلك.
وهذا أيضاً من خصائص الجمعة، أما غير الجمعة فإنها تصلى في الدور (الأحياء)، ففي حديث عائشة - - أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب" أي الأحياء، ولهذا يقال: دار بني فلان، ودار بني فلان أي: حيّهم، فالجمعة يجب أن تكون في مسجد واحد؛ لأنها لو فرقت في مساجد الأحياء لانتفى المعنى الذي من أجله شرعت الجمعة، ولتفرق الناس، وصار كل قوم ينفضون عن موعظة تختلف عن موعظة الآخر، فيتفرق البلد، ولا يشربون من نهر واحد.(167/49)
وأيضاً لو تعددت الجمعة لفات المقصود الأعظم، وهو اجتماع المسلمين وائتلافهم؛ لأنه لو ترك كل قوم يقيمون الجمعة في حيّهم ما تعارفوا ولا تآلفوا، وبقي كل جانب من البلد لا يدري عن الجانب الآخر، ولهذا لم تقم الجمعة في أكثر من موضع، لا في زمن أبي بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا الصحابة كلهم، ولا في زمن التابعين، وإنما أقيمت في القرن الثالث بعد سنة (276هـ) تقريباً، فكان المسلمون إلى هذا الزمن يصلون على إمام واحد، حتى إن الإمام أحمد سئل عن تعدد الجمعة؟ فقال: ما علمت أنه صلي في المسلمين أكثر من جمعة واحدة، والإمام أحمد توفي سنة (241هـ)، إلى هذا الحد لم تقم الجمعة في أكثر من موضع في البلد، وأقيمت في بغداد أول ما أقيمت لما صار البلد منشقاً بسبب النهر في الشرقي منه والغربي، فجعلوا فيها جمعتين؛ لأنه يشق أن يعبر الناس النهر كل أسبوع.
وعلي بن أبي طالب - - أقام صلاة العيد في الكوفة في الصحراء، وجعل واحداً من الناس يقيمها في المسجد الجامع داخل البلد للضعفاء ، فمن هنا ذهب الإمام أحمد - - إلى أن صلاة الجمعة يجوز تعددها للحاجة.(167/50)
والدليل على التحريم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ، وحافظ النبي صلى الله عليه وسلم على صلاته الجمعة في مسجد واحد طول حياته، والخلفاء من بعده، والصحابة من بعدهم، وهم يعلمون أن البلاد اتسعت، ففي عهد عثمان اتسعت المدينة فزاد أذاناً ثالثاً فصار أذان أول، ثم أذان عند حضور الإمام، ثم الإقامة، ولم يعدد الجمعة، وكانت أحياء العوالي في عهده صلى الله عليه وسلم بعيدة عن مكان الجمعة، ومع ذلك يحضرون إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن مع الأسف الآن أصبح كثير من بلاد المسلمين لا يفرقون بين الجمعة وصلاة الظهر، أي: أن الجمعة تقام في كل مسجد، فتفرقت الأمة، وصار الناس يقيمون صلاة الجمعة، وكأنها صلاة ظهر، وهذا لا شك أنه خلاف مقصد الشرع وهدي الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا جزم المؤلف بتحريم إقامتها في أكثر من موضع في البلد.
وقوله: "إلا لحاجة" ، والمراد بالحاجة هنا: ما يشبه الضرورة؛ لأن هناك ضرورة وحاجة، والفرق بين الحاجة والضرورة:
أن الحاجة: هي التي يكون بها الكمال.
والضرورة: هي التي يندفع بها الضرر؛ ولهذا نقول: المحرَّم لا تبيحه إلا الضرورة، قال الله تعالى: (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْه)(الأنعام: من الآية119)
مثال الحاجة: إذا ضاق المسجد عن أهله، ولم يمكن توسيعه؛ لأن الناس لا يمكن أن يصلوا في الصيف في الشمس، ولا في المطر في أيام الشتاء.(167/51)
وكذا إذا تباعدت أقطار البلد، وصار الناس يشق عليهم الحضور فهذا أيضاً حاجة، لكن في عصرنا الآن ليس هناك حاجة من جهة البعد، بل هناك حاجة من جهة الضيق؛ لأن الذين يأتون بالسيارات من أماكن بعيدة يحتاجون إلى مواقف، وقد لا يجدون مواقف، لكن إذا كان هناك مواقف، أو كانت السيارات قليلة فإنه يجب على الإنسان أن يحضر ولو بعيداً، ويقال للقريبين: لا تأتوا بالسيارات؛ لأجل أن يفسحوا المجال لمن كانوا بعيدين.
ومن الحاجة أيضاً: أن يكون بين أطراف البلد حزازات وعداوات، يخشى إذا اجتمعوا في مكان واحد أن تثور فتنة، فهنا لا بأس أن تعدد الجمعة، لكن هذا مشروط بما إذا تعذر الإصلاح، أما إذا أمكن الصلح وجب الإصلاح، وتوحيدهم على إمام واحد.
وليس من الحاجة أن يكون الإمام مسبلاً أو فاسقاً؛ لأن الصحابة صلوا خلف الحجاج بن يوسف ، وهو من أشد الناس ظلماً وعدواناً، يقتل العلماء والأبرياء، وكانوا يصلون خلفه، بل الصحيح أنه يجوز أن يكون الإمام فاسقاً، ولو في غير الجمعة، ما لم يكن فسقه إخلالاً بشرط من شروط الصلاة يعتقده هو شرطاً فحينئذٍ لا نصلي خلفه، وإن كان الإخلال بشرط من شروط الصلاة نعتقده نحن شرطاً وهو لا يعتقده فهذا لا يضر.
مثاله: أن نعتقد أن أكل لحم الإبل ناقض للوضوء، والإمام يعتقد أنه لا ينقض فأكل منه ولم يتوضأ ثم صلى بنا، فإننا نصلي خلفه؛ لأن هذا اختلاف اجتهاد.(167/52)
قوله: "فإن فعلوا فالصحيحة ما باشرها الإمام" ، أي: صلوا الجمعة في موضعين فأكثر بلا حاجة فالصحيحة ما باشرها الإمام وأذن فيها، وإذا قال العلماء: "الإمام" فمرادهم من له أعلى سلطة في الدولة؛ وذلك لأن الإمام العام فقد منذ نشأ النزاع بين الخلفاء في أول خلافة بني أمية، وصارت الأمة الإسلامية مع الأسف دويلات، فإن تعددت الجمعة في موضع واحد لغير حاجة، فالصحيحة ما باشرها الإمام أي: ما صلى فيها، سواء كان هو الإمام، أو كان مأموماً، وكانوا فيما سبق لا يصلي الجمعة إلا الإمام يتولى الإمامة في صلاة الجمعة، وصلاة العيدين، وقيادة الحجيج.
قوله: "أو أذن فيها" ، أي: إن لم يباشرها، مثل: أن يكون بلد الإمام في محل آخر وهذا البلد الذي فيه تعدد الجمعة لم يكن فيه الإمام حاضراً، لكنه قال: أذنت لكم أن تقيموا جمعتين فأكثر، وهذه المسألة ليست مبنية على ما سبق في قول المؤلف: "لا يشترط لها إذن الإمام" ؛ لأن إذن الإمام هناك لا يشترط في إقامة الجمعة الواحدة، أما في التعدد فلا بد من إذن الإمام، والفرق بينهما ظاهر، فالأولى لو قلنا: إنه يشترط لإقامة الجمعة إذن الإمام لكانت الفرائض باختيار الأئمة، أما تعدد الجمعة فلا بد من إذن الإمام؛ لئلا يفتات عليه وتتفرق الأمة، وهذا أمر يرجع إلى الدين من جهة، وإلى نظام الدولة من جهة أخرى.
فرجوعه إلى الدين؛ لأن الدين ينهانا عن التفرق في دين الله قال تعالى: { )وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(آل عمران: من الآية103، وقال تعالى: ) أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ )(الشورى: من الآية13)
وأما رجوعه إلى نظام الدولة فإن ولي الأمر هو الذي له الكلمة فيكون في إقامة الجمعة الثانية افتيات على الإمام، فتكون كل طائفة من الناس تود أن تتزعم البلد فتجعل في محلها جمعة.(167/53)
قوله: "فإن استوتا في إذن أو عدمه فالثانية باطلة" ، فإن استوتا، أي: الجمعتان في إذن أو عدمه بأن يكون الإمام قد أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً، وبهذا نعرف أن القسمة ثلاثية:
- يأذن في إحداهما.
- يأذن فيهما.
- لا يأذن في واحدة منهما.
فإن أذن في إحداهما فهي الصحيحة، سواء تأخرت أو تقدمت.
وإن أذن فيهما جميعاً، أو لم يأذن فيهما جميعاً فالثانية باطلة على ما يقتضيه كلام المؤلف.
والمراد بالثانية ما تأخرت عن الأخرى بتكبيرة الإحرام، وإن كانت الأخرى أسبق منها إنشاء، ولكن كيف نعلم ذلك؟
الجواب: أما في الزمن السابق فالعلم بتقدم إحداهما بالإحرام قد يكون صعباً، أما في الزمن الحاضر فالعلم بتقدم إحداهما بالإحرام قد يكون سهلاً بوسيلة مكبر الصوت إذا سمعنا قول الإمام في الأولى: "الله أكبر"، ثم قال الإمام في الثانية بعده مباشرة: "الله أكبر"، قلنا للثاني: صلاتك باطلة، وللأول: صلاتك صحيحة؛ لأن الأول لما سبق بالإحرام تعلق بها الفرض؛ لأنها سبقت، وعلى المذهب تدرك الصلاة بتكبيرة الإحرام، فإذا سبقت بتكبيرة الإحرام تعلق الفرض بها وصارت هي الصلاة المفروضة، والثانية باطلة.
وقال بعض العلماء: المعتبر السبق زمناً، فالتي قد أنشئت أولاً فالحكم لها؛ لأن الثانية هي التي حدثت على الأولى، فهي تشبه مسجد الضرار الذي بناه المنافقون عند مسجد قباء، وقال الله لنبيه: )لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً )(التوبة: من الآية108).
وهذا القول هو الصحيح، أن المعتبر السابقة زمناً وإنشاء ولو تأخرت عملاً، فلو فرضنا أن الجديدة - التي أنشئت حديثاً، وبدون إذن الإمام - صلوا ركعة قبل أن تقام الثانية - التي هي الأولى إنشاءً - فإن صلاتهم لا تصح جمعة؛ لأن الناس مجتمعون على الأولى، فجاء هؤلاء وأنشؤوا مسجداً جامعاً وفرقوا الناس.(167/54)
قوله: "وإن وقعتا معاً" أي: إن وقعتا معاً بطلتا معاً، فمثلاً إذا كنا نحن نستمع إلى المسجد الشمالي والمسجد الجنوبي فقال إمام كل مسجد منهما: "الله أكبر" في نفس الوقت فنقول لهم: صلاتكم جميعاً باطلة؛ لأنه لم تتقدم إحداهما حتى يكون لها مزية، وإذا لم يكن لها مزية صارت كل واحدة منهما تبطل الأخرى، كالبينتين إذا تعارضتا تساقطتا، وعلى هذا يلزم الجميع إعادتها جمعة في مكان واحد مع بقاء الوقت، وإلا صلوا ظهراً.
وعلى القول الذي رجحناه نقول: أهل المسجد الشمالي صحت جمعتهم، وأهل المسجد الجنوبي لم تصح جمعتهم؛ لأن الجمعة في الشمالي هي الأولى إنشاءً.
قوله: "أو جهلت الأولى بطلتا" أي: لو أقيمت جمعتان بلا حاجة، واستوتا في إذن الإمام وعدمه. وجهلت الأولى منهما، ولم يعلم أيهما أسبق بتكبيرة الإحرام بطلتا أي: الجمعتان، ولزمهم صلاة الظهر، ولا يصح استعمال القرعة هنا؛ لأنها عبادة، وهنا تلزمهم صلاة الظهر، ولا تصح إعادتها جمعة.
وقد سبق في المسألة التي قبلها أنه يلزمهم إعادتها جمعة إن أمكن.
والفرق بين المسألتين ظاهر: لأنه في المسألة الأولى بطلت الجمعتان جميعاً، كل واحدة أبطلت الأخرى فلم تصح واحدة منهما، فيجب إعادة الجمعة إن استطاعوا، وإلا صلوا ظهراً، وفي المسألة الثانية إحداهما صحيحة وهي التي سبقت لكنها مجهولة، والجمعة لا تعاد مرتين، فحينئذٍ لا تعاد الصلاة، ولو اجتمعوا في مسجد واحد، فيجب على الجميع إعادة الصلاة ظهراً.
قوله: "وأقل السنّة بعد الجمعة ركعتان، وأكثرها ست" ، شرع المؤلف في بيان السنن التوابع للجمعة، فأقلها ركعتان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يصلي بعد الجمعة ركعتين في بيته " ، ثبت ذلك عنه في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر - -.(167/55)
وأكثرها ست؛ لأنه ورد عن عبد الله بن عمر بإسناد صححه العراقي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بعد الجمعة ستاً، فقد كان ابن عمر "إذا صلى في مكة تقدم بعد صلاة الجمعة فصلى ركعتين، ثم صلى أربعاً، وفي المدينة يصلي ركعتين في بيته، ويقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يفعله" .
أما الأربع فلأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك فقال: "إذا صلّى أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربعاً" .
فصارت السنة بعد الجمعة، إما ركعتين، أو أربعاً، أو ستاً، ولكن هل هذا مما وردت به السنة على وجوه متنوعة، أو على أحوال متنوعة، فيه أقوال:
القول الأول: أنها على أحوال متنوعة.
وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية فيقال: إن صليت راتبة الجمعة في المسجد فصل أربعاً، وإن صليتها في البيت فصل ركعتين.
القول الثاني: أنها متنوعة على وجوه فصلِّ أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين.
القول الثالث: أنها أربع ركعات مطلقاً؛ لأنه إذا تعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله يقدم قوله.
والأولى للإنسان - فيما أظنه راجحاً - أن يصلي أحياناً أربعاً، وأحياناً ركعتين.
أما الست فإن حديث ابن عمر يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم "كان يفعلها". لكن الذي في الصحيحين أنه كان يصلي ركعتين، ويمكن أن يستدل لذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في بيته ركعتين، وأمر من صلى الجمعة أن يصلي بعدها أربعاً، فهذه ست ركعات: أربع بقوله وركعتان بفعله، وفيه تأمل.
وعُلم من قول المؤلف: "أقل السنة بعد الجمعة ركعتان" أنه ليس للجمعة سنّة قبلها، وهو كذلك، فيصلي ما شاء بغير قصد عدد، فيصلي ركعتين أو ما شاء، لكن إذا دخل الإمام أمسك.
فإن قال قائل: هل تختارون لي إذا جئت يوم الجمعة أن أشغل وقتي بالصلاة، أو أشغل وقتي بقراءة القرآن؟(167/56)
فالجواب: نرى أن ركعتين لا بد منهما، وهما تحية المسجد، وما عدا ذلك ينظر الإنسان ما هو أرجح له، فإذا كنت في مسجد يزدحم فيه الناس، ويكثر المترددون بين يديك، فالظاهر أن قراءة القرآن أخشع لقلب الإنسان وأفيد، وإذا كنت في مكان سالم من التشويش، فلا شك أن الصلاة أفضل من القراءة؛ لأن الصلاة تجمع قراءة وذكراً ودعاء وقياماً وقعوداً وركوعاً وسجوداً، فهي روضة من رياض العبادات فهي أفضل.
فمثلاً: المسجد الحرام في أيام المواسم إذا صلى الإنسان تعب بمضايقة الناس، فهنا قد تكون قراءة القرآن بتدبر وتمهل يحصل فيها من خشوع القلب، ورقته، وقوة الإيمان ما لا يحصل بالصلاة، لكن لا بد من تحية المسجد.
والإمام أحمد - سئل عن مسألة من مسائل العلم، فقال للسائل: "انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله"، وهذه كلمة عظيمة، ولا شك أن الإمام أحمد إنما يريد ما لم يرد فيه التفضيل، أما ما ورد فيه التفضيل فالقول ما قال الله ورسوله، لكن مع ذلك نحن نشاهد من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وحاله أنه يقدم أحياناً المفضول على الفاضل، فأحياناً يصوم حتى يقال: لا يفطر، وأحياناً يفطر حتى يقال: لا يصوم ، وكذلك في قيام الليل، وأحياناً يأتيه الوفود يشغلونه عن الراتبة فيجلس معهم، ولا يصلي الراتبة إلا بعد صلاة أخرى، كما أخر راتبة الظهر إلى ما بعد العصر ، فالإنسان العاقل الموفق يعرف كيف يتصرف في العبادات غير الواجبة، فيقارن، ويوازن بين المصالح، ويفعل ما هو أصلح.
قوله: "ويسن أن يغتسل" ، يعبر الفقهاء بيُسن، ويجب، ويشرع.
فإذا قالوا: يشرع فهو لفظ صالح للوجوب، والاستحباب.
وإذا قالوا: يجب فهو للوجوب.
وإذا قالوا: يسن فهو للاستحباب.
والسنّة في تعبير الفقهاء: هي ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه، فهي بين الواجب والمباح.
فقوله: "يسن أن يغتسل" أي: أنه إذا اغتسل ليوم الجمعة فهو أفضل، وإن لم يغتسل فلا إثم عليه.(167/57)
وقوله: "أن يغتسل" لم يبيّن كيفية الاغتسال، ولكنه إذا أطلق في لسان الشارع، أو في لسان أهل الشرع وهم الفقهاء، فإنه يحمل على الاغتسال الشرعي، لا على مجرد أن يغسل الإنسان بدنه، والغسل الشرعي له صفتان:
- واجبة: وهي أن يعم جميع بدنه بالماء، ولو بانغماس في بركة أو نهر أو بحر.
- مستحبة: وهي أن يتوضأ أولاً، كما يتوضأ للصلاة، ثم يفيض الماء على رأسه، ويخلل شعره ثلاث مرات، ثم يفيض الماء على سائر جسده.
وقول المؤلف: "يسن أن يغتسل" لم يبيّن متى يكون الاغتسال.
فقال بعضهم: إن أول وقته من آخر الليل.
وقال آخرون: بل من طلوع الفجر؛ لأن النهار لا يدخل إلا بطلوع الفجر.
وقال آخرون: بل من طلوع الشمس؛ لأن ما بين الفجر وطلوع الشمس وقت لصلاة خاصة، وهي الفجر، ولا ينتهي وقتها إلا بطلوع الشمس، وعلى هذا فيكون ابتداء الاغتسال من طلوع الشمس، وهذا أحوط الأقوال الثلاثة؛ لأن من اغتسل بعد طلوع الشمس فقد أتى على الأقوال كلها. وينتهي وقت الاغتسال بوجوب السعي إلى الجمعة على الأقوال كلها.
وقوله: "يسن أن يغتسل" ، لم يبيّن من الذي يغتسل، هل هم الرجال أو النساء؟
والسنّة تدل على أن الاغتسال خاص بمن يأتي إلى الجمعة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل" ، ولقوله: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" ، وكلمة "الجمعة" هنا يحتمل أن يكون المراد بها الصلاة، أو اليوم، لكن قوله: "إذا أتى أحدكم الجمعة" يعين أن المراد بها الصلاة، وعلى هذا فالنساء لا يسنّ لهن الاغتسال، وكذلك من لا يحضر لصلاة الجمعة لعذر، فإنه لا يسنّ له أن يغتسل للجمعة.
وقول المؤلف: "يسنّ أن يغتسل" هو المذهب، وعليه جمهور العلماء.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الاغتسال واجب.
وهذا القول هو الصحيح لما يلي:(167/58)
- قول أفصح الخلق وأنصحهم محمد صلى الله عليه وسلم "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" ، فصرّح النبي صلى الله عليه وسلم بالوجوب، ومن المعلوم أننا لو قرأنا هذه العبارة في مؤلف كهذا الذي بين أيدينا لم نفهم منها إلا أنه واجب يأثم بتركه، فكيف والتعبير من رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق بشريعة الله وأفصح الخلق وأنصح الخلق وأعلمهم بما يقول؟
ثم إنه علق الوجوب بوصف يقتضي الإلزام، وهو الاحتلام الذي يحصل به البلوغ، فإذا تأملنا ذلك تبيّن لنا ظاهراً أن غسل الجمعة واجب، وأن من تركه فهو آثم، لكن تصح الصلاة بدونه؛ لأنه ليس عن جنابة.
- أن عثمان بن عفان - دخل وعمر بن الخطاب - يخطب الناس على المنبر يوم الجمعة، فأنكر عليه تأخّره، فقال: والله يا أمير المؤمنين كنت في شغل، وما زدت على أن توضأت، ثم أتيت، فقال له - موبخاً - والوضوء أيضاً؟ - أي: تفعل الوضوء أيضاً -، وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمر بالغسل فأنكر عمر - عليه اقتصاره على الوضوء.(167/59)
وأما ما روي عن سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل" ، فهذا الحديث لا يقاوم ما أخرجه الأئمة السبعة وغيرهم، وهو حديث أبي سعيد الذي ذكرناه آنفاً: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" ، ثم إن الحديث من حيث السند ضعيف؛ لأن كثيراً من علماء الحديث يقولون: إنه لم يصح سماع الحسن عن سمرة إلا في حديث العقيقة، وإن كنا رجّحنا في المصطلح: أنه متى ثبت سماع الراوي من شيخه، وكان ثقة ليس معروفاً بالتدليس، فإنه يحمل على السماع، على أن الحسن - - رماه بعض العلماء بالتدليس، ثم إن هذا الحديث من حيث المتن إذا تأملته وجدته ركيكاً ليس كالأسلوب الذي يخرج من مشكاة النبوة "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت" ... "بها" أين مرجع الضمير؟ ففيه شيء من الركاكة أي: الضعف في البلاغة "ومن اغتسل فالغسل أفضل" فيظهر عليه أنه من كلام غير النبي صلى الله عليه وسلم.
فالذي نراه وندين الله به، ونحافظ عليه أن غسل الجمعة واجب، وأنه لا يسقط إلا لعدم الماء، أو للضرر باستعمال الماء، ولم يأت حديث صحيح أن الوضوء كاف، وأما ما ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فأحسن الوضوء ثم أتى الجمعة فاستمع وأنصت غفر له ما بينه وبين الجمعة وزيادة ثلاثة أيام" ، فإنه مرجوح، لاختلاف الرواة، فبعضهم قال: "من اغتسل" وهذه أرجح، وبعضهم قال: "من توضأ".
مسألة: بقي أن يقال: إذا لم يجد الماء، أو تضرر باستعماله.. فهل يتيمم لهذا الغسل، أو نقول: إنه واجب سقط بعدم القدرة عليه؟(167/60)
الجواب أن نقول: الثاني، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - -، ويقول شيخ الإسلام: جميع الأغسال المستحبة إذا لم يستطع أن يقوم بها فإنه لا يتيمم عنها؛ لأن التيمم إنما شرع للحدث؛ لقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (المائدة:6)
ومعلوم أن الأغسال المستحبة ليست للتطهير؛ لأنه ليس هناك حدث حتى يتطهر منه، وعلى هذا فلو أن الإنسان وصل إلى الميقات وهو يريد العمرة أو الحج، ولم يجد الماء، أو وجده وكان بارداً لا يستطيع استعماله، أو كان مريضاً، فلا يتيمّم بناء على هذا.
والفقهاء رحمهم الله يقولون: يتيمّم، والصحيح خلاف ذلك.
قوله: "وتقدم" ، أي: سبق ذكر استحباب الغسل ليوم الجمعة.
لكن صاحب الروض قال: "فيه نظر" ، وإذا قال العلماء: "فيه نظر" فيعنون أنه غير مسلم، والعلماء يعبرون أحياناً بقولهم: "فيه شيء"، إذا نقلوا كلام غيرهم.(167/61)
وقولهم: "فيه شيء"، أخف من قولهم: "فيه نظر"، وقول صاحب الروض: "فيه نظر"، أي: في قول الماتن: "وتقدم" نظر، وكأن صاحب الروض غفل عن قول صاحب المتن؛ لأن صاحب المتن في أقسام المياه قال: "وإن استعمل في طهارة مستحبة كتجديد وضوء وغسل جمعة" ، فهذا صريح في أن غسل الجمعة مستحب، وكأن صاحب الروض إنما قال: "فيه نظر" لما رأى المؤلف لم يذكره في باب الغسل، كما جرت به عادة الفقهاء في ذكر الأغسال المستحبة في باب الغسل.
قوله: "ويتنظف" أي: ويسنّ أن يتنظف كما جاءت به السنّة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر..." ، والتنظّف أمر زائد على الاغتسال، فالتنظّف بقطع الرائحة الكريهة وأسبابها، فمن أسباب الرائحة الكريهة الشعور والأظفار التي أمر الشارع بإزالتها، وعلى هذا فيسنّ حلق العانة، ونتف الإبط، وحف الشارب، وتقليم الأظفار، لكن من المعلوم أن هذا لا يكون في كل جمعة، فقد لا يجد الإنسان شيئاً يزيله، من هذه الأمور الأربعة، وقد وقّت النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأشياء الأربعة ألا تزيد على أربعين يوماً ، وقد قال الفقهاء: إن حف الشارب في كل جمعة.(167/62)
قوله: "ويتطيّب" أي: ويسنّ أيضاً أن يتطيّب، كما جاءت به السنة ، بأي طيب سواء من الدهن أو من البخور، في ثيابه وفي بدنه؛ وذلك من أجل اجتماع الناس في مكان واحد؛ لأن العادة أنه إذا كثر الجمع ضاق النفس، وكثر العرق، وثارت الرائحة الكريهة، فإذا وجد الطيب، وقد سبقه التنظّف، فإن ذلك يخفف من الرائحة؛ ولهذا نهى الرسول عليه الصلاة والسلام من أكل بصلاً أو ثوماً أن يقرب المسجد ، وكانوا إذا رأوا إنساناً أكل بصلاً أو ثوماً، أمروا به فأخرج من المسجد إلى البقيع، ومن الأسف أن بعض الناس اليوم يأتي إلى الجمعة، وثيابه وجسمه لهما رائحة كريهة، ثم لا يستطيع أحد أن يصلي إلى جنبه، وليس هذا من عند الله، بل من نفسه، فهو الذي يجلب لنفسه الأوساخ والأدران، ولا يهتم بنفسه، وفي هذا أذية للمصلين، وأذية للملائكة.
بل إن العلماء قالوا: إن ما كان من الله، ولا صنع للآدمي فيه إذا كان يؤذي المصلين فإنه يخرج، كالبخر في الفم، أو الأنف، أو من يخرج من إبطيه رائحة كريهة، فإذا كان فيك رائحة تؤذي فلا تقرب المسجد.
فإن قال: هذا من الله؟ فيقال: إذا ابتلاك الله به فلا تؤذ العباد، ولا تؤذ الملائكة، وأنت مأجور على الصبر على هذا الشيء واحتساب الأجر من الله، ولست آثماً إذا لم تصل مع الناس؛ لأنك إنما تركت ذلك بأمر الله.
فإذا قال: هذا ينقص إيماني؛ لأن صلاة الجماعة أفضل؟
قلنا: إنك لا تلام على هذا النقص؛ كما أن الحائض لا تصلي، وينقص إيمانها بذلك ولا تلام على النقص؛ لأن النقص الذي ليس بسبب الإنسان لا يلام عليه.
قوله: "ويلبس أحسن ثيابه" أي: ويسنّ لبس أحسن ثيابه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعد أحسن ثيابه للوفد والجمعة .(167/63)
وانظر كيف كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعامل الناس، فإذا جاء الوفد لبس أحسن ثيابه؛ ليظهر أمام الوفد بالمظهر اللائق، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام محذراً من الكبر: "لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال حبة خردل من كبر" ، قالوا: يا رسول الله، الرجل يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً؟ فقال: "إن الله جميل يحب الجمال" ، أي: يحب التجمل، وليس الجمال الطبيعي الخَلْقي؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بنى هذا الكلام على قولهم: "يحب أن يكون ثوبه حسناً ونعله حسناً" ؛ ولأن هذا هو الذي يستطيعه الإنسان، فيثاب عليه إذا فعله، أما الجمال الخَلْقي فهذا ليس من اختيار الإنسان.
فدل ذلك على أنه ينبغي أيضاً أن يحسّن الإنسان ثيابه، ويحسّن نعله، لكن بشرط ألا يؤدي ذلك به إلى الإسراف والفخر والخيلاء، ولهذا وردت أحاديث تدل على فضل التواضع في اللباس، وهذا في مكانه، أي: لو كان الإنسان يريد أن يأتي إلى قوم فقراء، ويخشى إذا جاء بلباسه الزاهي أن تنكسر قلوبهم، فهنا الأفضل أن يلبس ما يناسب الحال، ويكون مأجوراً على ذلك.
قال في الروض: "وأفضلها البياض، ويعتم، ويرتدي" أي: أفضلها البياض، ولا شك أن أفضل الثياب للرجال البياض، لكن أحياناً لا يجد الإنسان البياض مناسباً للوقت، مثل: أيام الشتاء فإنه يندر أن تجد ثياباً بيضاء تناسب الوقت، فهنا نقول: ارفق بنفسك، ويمكن أن تلبس ثياباً متعددة، ويكون الأعلى هو الأبيض.
قوله: "ويعتم" أي: يلبس العمامة.
والعمامة: هي ما يطوى على الرأس، ويكور عليه.
والدليل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يلبس العمامة، ويمسح عليها ، ولكن هل لباسه إياها كان تعبداً، أو لباسه إياها؛ لأنها عُرف؟
الجواب: الثاني هو الصحيح، واتباع العرف في اللباس هو السنة ما لم يكن حراماً؛ لأنّا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما لبس ما يلبسه الناس، والإنسان لو خالف ما يلبسه الناس لكانت ثيابه ثياب شهرة.(167/64)
قوله: "ويرتدي" أي: يلبس الرداء، وظاهر كلام المؤلف: ولو كان عليه قميص وهذا فيه نظر.
لكن بدل الرداء عندنا المشلح، وأكثر الناس اليوم لا يلبسونه، ولو لبسه الإنسان أمام الناس لاستنكروه، بينما كانوا في الأول يستنكرون من لا يلبسه.
قوله: "ويبكّر إليها" أي: يسنّ أن يبكّر إلى الجمعة.
ودليله: حديث أبي هريرة - -: "من اغتسل يوم الجمعة، ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة" .
وهذا يدل على أن الأفضل التبكير، ولكن بعد الاغتسال، والتنظّف والتطيّب، ولبس أحسن الثياب.
قوله: "ماشياً" ، أي: يسن أن يذهب إلى الجمعة ماشياً على قدميه، ودليله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من غسل واغتسل، وبكّر وابتكر، ودنا من الإمام، ومشى ولم يركب" . فقال: "مشى ولم يركب" ؛ ولأن المشي أقرب إلى التواضع من الركوب، ولأنه يرفع له بكل خطوة درجة، ويحط عنه بها خطيئة، فكان المشي أفضل من الركوب.
ولكن لو كان منزله بعيداً، أو كان ضعيفاً أو مريضاً، واحتاج إلى الركوب، فكونه يرفق بنفسه أولى من أن يشق عليها.
قوله: "ويدنو من الإمام" ، وهذا أيضاً من السنّة أن يدنو من الإمام.(167/65)
ودليل ذلك: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى" ، ولما رأى قوماً تأخروا في المسجد عن التقدم قال: "لا يزال قوم يتأخرون، حتى يؤخرهم الله" ، فأقل أحواله أن يكون التأخّر عن الأول فالأول مكروه؛ لأن مثل هذا التعبير يعد وعيداً من النبي عليه الصلاة والسلام وليس في هذا العمل فقط، بل في جميع الأعمال؛ لأن الإنسان إذا لم يكن في قلبه محبة للسبق إلى الخير بقي في كسلٍ دائماً، كما قال الله عز وجل: ) وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ)(الأنعام: من الآية110). ولهذا ينبغي للإنسان كلما سنحت له الفرصة في العبادة أن يفعل، ويتقدم إليها، حتى لا يعوّد نفسه الكسل، وحتى لا يؤخّره الله عز وجل.
مسألة: دلّت السنّة على أن يمين الصف أفضل من اليسار، والمراد عند التقارب، أو التساوي، وأما مع البعد فقد دلّت السنّة على أن اليسار الأقرب أفضل.
ودليل ذلك: أن الناس كانوا إذا وجد جماعة ثلاثة، فإن الإمام يكون بين الرجلين ، ثم نسخ ذلك فصار الإمام يتقدم الاثنين فأكثر، ولو كان اليمين أفضل على الإطلاق لصار مقام الرجلين مع الرجل عن اليمين. وأيضاً لو كان اليمين أفضل مطلقاً لقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أكملوا الأيمن فالأيمن"، كما كان الصف يكمل فيه الأول فالأول.
فلو فرض أن في اليمين عشرة رجال، وفي اليسار رجلين، فاليسار أفضل، لأنه أقرب إلى الإمام.
وطرف الصف الأول من اليمين أو اليسار أفضل من الصف الثاني، وإن كان خلف الإمام.
ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها؟ قالوا: كيف تصف الملائكة عند ربها؟ قال: يتراصون، ويتمون الأول فالأول" .
وعلى هذا فنكمل الأول فالأول، فالأول قبل الثاني، والثاني قبل الثالث، والثالث قبل الرابع... وهكذا.(167/66)
قوله: "ويقرأ سورة الكهف في يومها" ، أي: يسنّ أن يقرأ سورة الكهف في يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أضاء له من النور ما بين الجمعتين" وهذا روي مرفوعاً وموقوفاً.
وقد أعل بعض العلماء المرفوع بأن الحديث روي موقوفاً.
ونحن نقول: إذا كان الرافع ثقة، فهذه العلة غير قادحة، فلا توجب ضعف الحديث، والذي يوجب ضعف الحديث العلة القادحة، وهذا لا يقدح؛ لأن من روى الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ربما يحدّث به غير منسوب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا يقع كثيراً، لا سيما في غير مقام الاستدلال، أما في مقام الاستدلال فلا بد أن يرفعه، وعلى فرض أنه من قول أبي سعيد، فمثل هذا لا يقال بالرأي، فيكون له حكم الرفع؛ لأن أبا سعيد لا يعرف هذا الثواب، فيكون مرفوعاً حكماً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وسورة الكهف لها مزايا منها: أن من قرأ فواتحها على الدجال عصم من فتنته ، والدجال هو الأعور الذي يبعثه الله في آخر الزمان يبقى في الأرض أربعين يوماً، اليوم الأول كسنة، والثاني كشهر، والثالث كجمعة، والرابع كسائر الأيام، فتنته عظيمة جداً، ولهذا ما من نبي إلا أنذر قومه منه ، وأمرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نتعوذ بالله من فتنته في كل صلاة بعد التشهد الأخير قبل السلام ، وجاء في بعض الأحاديث أن من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من فتنته ، وفي بعض روايات الحديث: "من آخر الكهف" ، والجمع بينهما: أن يحتاط الإنسان فيقرأ عشراً من أولها، وعشراً من آخرها وفيها عبر:
منها: قصة أصحاب الكهف.
ومنها: قصة الرجلين ذوي الجنتين.
ومنها: قصة موسى مع الخضر.
ومنها: قصة ذي القرنين.
ومنها: قصة يأجوج ومأجوج.
ولهذا ورد الترغيب في قراءتها في يوم الجمعة قبل الصلاة أو بعد الصلاة.(167/67)
قوله: "ويكثر الدعاء" أي: يسن أن يكثر الدعاء يوم الجمعة؛ وذلك لأن في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه؛ [لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في الجمعة لساعة لا يوافقها عبد مسلم، وهو قائم يصلي يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه" ] ، فينبغي أن يكثر من الدعاء رجاء ساعة الإجابة.
ولم يذكر المؤلف - - نوع الدعاء الذي يكثره فهو راجع إليك، وكل إنسان له حاجات خاصة إلى ربه، فليسأل ربه ما شاء.
قوله: "ويكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" أي: يسن أن يكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإكثار الصلاة عليه يوم الجمعة ، كما أن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم مشروعة كل وقت بالاتفاق؛ لأن الله قال:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(الأحزاب: من الآية56)، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم معناها: أنك تسأل الله أن يثني عليه في الملأ الأعلى.
وقال بعض العلماء: صلاة الله على نبيه صلى الله عليه وسلم رحمته إياه، وهذا فيه نظر؛ لأن الله تعالى فرق بين الصلاة والرحمة فقال: )أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(البقرة: من الآية157)، والأصل في العطف المغايرة؛ ولأن العلماء مجمعون على أنه يجوز للإنسان أن يدعو بالرحمة لمن شاء من المؤمنين فيقول: اللهم ارحم فلاناً، ومختلفون في جواز الصلاة على غير الأنبياء، ولو كانت الصلاة هي الرحمة لم يختلف العلماء في جوازها.
إذاً فالصلاة أخص من الرحمة، فإذا صلى الإنسان على النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً، فلنكثر من الصلاة على نبينا صلى الله عليه وسلم حتى يكثر ثوابنا.(167/68)
قوله: "ولا يتخطى رقاب الناس" الواو للاستئناف، وليست للعطف على ما سبق؛ لأننا لو جعلناها للعطف على ما سبق لكان تقدير الكلام: "ويسن أن لا يتخطى"، وليس الأمر كذلك، بل "لا" نافية وليست ناهية؛ لأن الألف لم تحذف، ولو كانت ناهية لحذفت الألف للجزم، والنفي يحتمل أنه للكراهة، ويحتمل أنه للتحريم، وهذه المسألة خلافية، فالمشهور من المذهب أن تخطي الرقاب مكروه.
والصحيح: أن تخطي الرقاب حرام في الخطبة وغيرها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل رآه يتخطى رقاب الناس: "اجلس فقد آذيت" ، ولا سيما إذا كان ذلك أثناء الخطبة؛ لأن فيه أذية للناس، وإشغالاً لهم عن استماع الخطبة، إشغال لمن باشر تخطي رقبته، وإشغال لمن يراه ويشاهده، فتكون المضرة به واسعة.
قوله: "إلا أن يكون إماماً" أي: فإن كان إماماً، فلا بأس أن يتخطى؛ لأن مكانه متقدم، ولكن بشرط أن لا يمكن الوصول إلى مكانه إلا بالتخطي، فإن كان يمكن الوصول إلى مكانه بلا تخط بأن كان في مقدم المسجد باب يدخل منه الإمام، فإنه كغيره في التخطي؛ لأن العلة واحدة، وقد اعتاد الناس اليوم - والحمد لله - أن يجعلوا للإمام باباً في مقدم المسجد حتى يدخل منه، وكانوا في الزمن السابق لما كانت البيوت ملاصقة للمساجد من القبلة كان الإمام يدخل من الباب الخلفي ويتخطى الرقاب، ولكن الناس لا يرون في هذا بأساً؛ لأنه إمامهم فلا يتأذون بذلك.
قوله: "أو إلى فرجة" أي: مكان متسع في الصفوف المقدمة، فإن كان هناك فرجة، فلا بأس أن يتخطى إليها.
فإن قال قائل: الحديث عام "اجلس فقد آذيت" ؛ لأن ظاهر الحال أن هناك فرجة؛ لأنه ليس من العادة أن يتخطى الإنسان الرقاب إلا إلى فرجة.(167/69)
ولكن الفقهاء - رحمهم الله - استثنوا هذه المسألة، فقالوا: لأنه إذا كان ثمة فرجة فإنهم هم الذين جنوا على أنفسهم؛ لأنهم مأمورون أن يكملوا الأول فالأول، فإذا كان ثمة فرجة فقد خالفوا الأمر، وحينئذٍ يكون التفريط منهم، وليس من المتخطي.
ولكن الذي أرى: أنه لا يتخطى حتى ولو إلى فرجة؛ لأن العلة وهي الأذية موجودة، وكونهم لا يتقدمون إليها قد يكون هناك سبب من الأسباب، مثل: أن تكون الفرجة في أول الأمر ليست واسعة، ثم مع التزحزح اتسعت، فحينئذٍ لا يكون منهم تفريط، فالأولى الأخذ بالعموم وهو ألا يتخطى إلى الفرجة لكن لو تخطى برفق واستأذن ممن يتخطاه إلى هذه الفرجة فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس.
قوله: "وحرم أن يقيم غيره فيجلس مكانه" أي: يحرم أن يقيم غيره من المكان الذي كان جالساً فيه ويجلس مكانه.
قوله: "فيجلس مكانه" هذا قيد أغلبي؛ لأن الغالب أن الإنسان يقيم غيره من أجل أن يجلس في مكانه، ومع ذلك لو أقام غيره لا ليجلس في مكانه فقال: قم عن هذا ولم يجلس فيه كان حراماً.
ودليل هذا:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" .
- نهيه صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه فيجلس مكانه .
ففي الحديث الأول بيان الأحقية، وفي الحديث الثاني تحريم أن يقيم غيره فيجلس مكانه.
- أن ذلك يحدث العداوة والبغضاء بين المصلين، وهذا ينافي مقصود الجماعة، إذ إن من المقصود من الجماعة هو الائتلاف والمحبة، فإذا أقام غيره، ولا سيما أمام الناس، فلا شك أن هذا يؤذيه، ويجعل في قلبه ضغينة على هذا الرجل الذي أقامه.
قوله: "إلا من قدم صاحباً له في موضع يحفظه له" أي: إلا شخصاً قدم صاحباً له في موضع يحفظه له، مثل: أن يقول لشخص ما: يا فلان أنا عندي شغل، ولا ينتهي إلا عند مجيء الإمام، فاذهب واجلس في مكان لي في الصف الأول. فإذا فعل وجلس في الصف الأول فله أن يقيمه؛ لأن هذا الذي أقيم وكيل له ونائب عنه.(167/70)
وظاهر كلام المؤلف أن هذا العمل جائز، أي يجوز لشخص أن ينيب غيره ليجلس في مكان فاضل، ويبقى هذا المنيب حتى يفرغ من حاجاته، ثم يتقدم إلى المسجد.
وفي هذا نظر لما يلي:
أولاً: أن هذا النائب لم يتقدم لنفسه، وربما يراه أحد فيظنه عمل عملاً صالحاً، وليس كذلك.
ثانياً: أن في هذا تحايلاً على حجز الأماكن الفاضلة لمن لم يتقدم، والأماكن الفاضلة أحق الناس بها من سبق إليها.
وظاهر كلام المؤلف أنه يحرم أن يقيم غيره، ولو كان صغيراً.
والمذهب أنه يجوز أن يقيم الصغير، ويجلس مكانه، ولكن الصحيح أنه لا يجوز أن يقيم الصغير لما يلي:
أولاً: لعموم النهي: "لا يقيم الرجل أخاه" .
ثانياً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به" .
وهذا الصبي سابق فلا يجوز لنا أن نهدر حقه، وأن نظلمه ونقيمه.
ودليل المذهب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى" ، وهذا استناد إلى غير مستند؛ لأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى" حث أولي الأحلام والنهى أن يتقدموا، ولو قال: "لا يلني منكم إلا أولو الأحلام" لكان لنا الحق أن نقيم الصغير.
ثم نقول: إن في إقامة الصغير عن مكانه مفسدة عظيمة بالنسبة للصغير؛ إذ يبقى في قلبه كراهة للمسجد والتقدم إليه، وكراهة لمن أقامه من مجلسه أمام الناس، ولا سيما إذا كان له تمييز كالسابعة والثامنة.
وهناك مفسدة أخرى غير ما سبق، وهي أننا إذا أقمنا الصغار من الصف الأول، وجعلناهم في صف واحد مستقل فسيلعبون لعباً عظيماً، لكن إذا أبقيناهم في الصف الأول، وصار كل طفل إلى جنب رجل قلَّ لعبهم بلا شك، وهذا القول الراجح هو الذي صوَّبه صاحب الإنصاف، ومال إليه صاحب الفروع، وصرح به المجد جد شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهم الله.
وفي الروض يقول - -: "وكره إيثار غيره بمكانه الفاضل، لا قبوله، وليس لغير المُؤْثَر سبقه" .(167/71)
مثاله: أن تكون في الصف الأول، فأردت أن تتأخر إكراماً لشخص حضر ليجلس في مكانك، فيقول صاحب الروض: إن هذا مكروه.
والدليل على هذا: قول النبي عليه الصلاة والسلام: "لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا" ، فبيَّن الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أهمية الصف الأول أن الناس لو لم يجدوا إلا المساهمة - يعني القرعة - لاقترعوا عليه، فكيف تؤثر غيرك بهذا المكان، وتتأخر؛ ولأن هذا يدل على أنه ليس عندك رغبة في الخير ولا اهتمام بالشيء الفاضل.
والصحيح في هذه المسألة: أن إيثار غيره إذا كان فيه مصلحة كالتأليف فلا يكره، مثل: لو كان الأمير يعتاد أن يكون في هذا المكان من الصف الأول وقمت فيه، ثم حضر الأمير، وتخلفت عنه، وآثرت به الأمير فلا بأس، بل ربما يكون أفضل من عدم الإيثار.
وما دمنا في الإيثار فإنه ينبغي أن نتكلم عليه فنقول: الإيثار أقسام هي:
- الإيثار بالواجب: حرام.
- الإيثار بالمستحب: مكروه.
- الإيثار بالمباح: مطلوب.
- الإيثار بالمحرم: حرام على المؤثِر والمؤثَر.
مثال الإيثار بالواجب : رجل عنده ماء لا يكفي إلا لوضوء رجل واحد، وهو يحتاج إلى وضوء، وصاحبه يحتاج إلى وضوء، فهنا لا يجوز أن يؤثره بالماء ويتيمم هو؛ لأن استعمال الماء واجب عليه وهو قادر، ولا يمكن أن يسقط عن نفسه الواجب من أجل أن يؤثر غيره به.
مثال آخر: لو كان شخص في مفازة، ومعه صاحب له، وأتاهما العدو وسلب ثيابهما ولم يبق إلا ثوب واحد، فهنا لا يجوز أن يؤثر صاحبه به، لكن هذه المسألة ليست كالأولى؛ لأنه من الممكن أن يصلي به أولاً، ثم يعطيه صاحبه.
ومثال الإيثار بالمستحب : الإيثار بالمكان الفاضل كما لو آثر غيره بالصف الأول فهذا غايته أن نقول: إنه مكروه، أو خلاف الأولى.(167/72)
ومثال الإيثار بالمباح : أن يؤثر شخصاً بطعام يشتهيه وليس مضطراً إليه، وهذا محمود؛ لأن الله مدح الأنصار بقوله)وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ)(الحشر: من الآية9).
وقوله: "لا قبوله" أي: لا يكره قبول الإيثار، فلو قلت لشخص: تقدم في مكاني في الصف الأول، فإنه لا يكره له أن يقبل ويتقدم.
وقوله: "وليس لغير المؤثر سبقه" ، أي: لا يحل لغير المؤثر - بفتح التاء - سبقه، أي سبق المؤثر.
مثاله: لو آثر زيد عمراً بمكانه فسبق إليه بكر، فإنه لا يحل ذلك لبكر؛ لأن زيداً إنما آثر عمراً.
وأشد منه ما يفعله بعض الناس إذا جاء والصف تام جذب واحداً من الصف، فيتأخر المجذوب من أجل أن يصف معه، فيتقدم ذاك في مكانه؛ لأنه سيؤدي إلى بطلان صلاة المجذوب، ثم هو أحسن إليك وتأخر معك فتسيء إليه هذه الإساءة.
قوله: "وحرم رفع مصلى مفروش ما لم تحضر الصلاة" ، يعني أن رفع المصلى الذي وضعه صاحبه ليصلي عليه ثم انصرف حرام، و"المصلى": ما يصلى عليه، مثل: السجادة.
وصورة المسألة: رجل وضع سجادته في الصف، وخرج من المسجد فلا يجوز أن ترفع هذا المصلى.
التعليل: أن هذا المصلى نائب عن صاحبه، قائم مقامه، فكما أنك لا تقيم الرجل من مكانه فتجلس فيه، فكذلك لا ترفع مصلاه.
ومقتضى كلام المؤلف أنه يجوز أن يضع المصلى ويحجز المكان؛ لأنه لو كان وضع المصلى وحجز المكان حراماً لوجب رفع المصلى، وإنكار المنكر، فلما جعل المؤلف للمصلى حرمة دل ذلك على أن وضعه جائز، وهذا هو المذهب.(167/73)
ولكن الصحيح في هذه المسألة أن الحجز والخروج من المسجد لا يجوز، وأن للإنسان أن يرفع المصلى المفروش؛ لأن القاعدة: (ما كان وضعه بغير حق فرفعه حق) ، لكن لو خيفت المفسدة برفعه من عداوة أو بغضاء، أو ما أشبه ذلك، فلا يرفع (لأن درأ المفاسد أولى من جلب المصالح) ، وإذا علم الله من نيتك أنه لولا هذا المصلى المفروش لكنت في مكانه، فإن الله قد يثيبك ثواب المتقدمين؛ لأنك إنما تركت هذا المكان المتقدم من أجل العذر.
وقوله: "ما لم تحضر الصلاة" أي: فإن حضرت الصلاة بإقامتها فلنا رفعه؛ لأنه في هذه الحال لا حرمة له، ولأننا لو أبقيناه لكان في الصف فرجة، وهذا خلاف السنة. لكن هل لنا أن نصلي عليه بدون رفع؟
الجواب: ليس لنا أن نصلي عليه بدون رفع؛ لأن هذا مال غيرنا، وليس لنا أن ننتفع بمال غيرنا بدون إذنه، ولكن نرفعه.
مسألة: يستثنى من القول الراجح من تحريم وضع المصلى؛ ما إذا كان الإنسان في المسجد، فله أن يضع مصلى بالصف الأول، أو أي شيء يدل على الحجز، ثم يذهب في أطراف المسجد لينام، أو لأجل أن يقرأ قرآناً، أو يراجع كتاباً، فهنا له الحق؛ لأنه ما زال في المسجد، لكن إذا اتصلت الصفوف لزمه الرجوع إلى مكانه؛ لئلا يتخطى رقاب الناس.
وكذلك يستثنى أيضاً ما ذكره المؤلف:
بقوله: "ومن قام من موضعه لعارض لحقه، ثم عاد إليه قريباً فهو أحق به" ، فإذا حجز الإنسان المكان، وخرج من المسجد لعارض لحقه، ثم عاد إليه فهو أحق به، والعارض الذي يلحقه مثل أن يحتاج للوضوء، أو أصيب بأي شيء اضطره إلى الخروج، فإنه يخرج، وإذا عاد فهو أحق به.
ولكن المؤلف اشترط فقال: "ثم عاد إليه قريباً" ولم يحدد القرب؛ وكل شيء أتى ولم يحدد يرجع فيه إلى العرف كما قال الناظم:
وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد وظاهر كلام المؤلف أنه لو تأخر طويلاً فليس أحق به، فلغيره أن يجلس فيه.(167/74)
وقال بعض العلماء: بل هو أحق، ولو عاد بعد مدة طويلة إذا كان العذر باقياً، وهذا القول أصح؛ لأن استمرار العذر كابتدائه، فإنه إذا جاز أن يخرج من المسجد، ويُبقي المصلى إذا حصل له عذر، فكذلك إذا استمر به العذر، لكن من المعلوم أنه لو أقيمت الصلاة، ولم يزل غائباً فإنه يرفع.
مسألة: لو فرض أنه رجع قريباً - أو بعيداً على قولنا: إنه ما دام العذر فهو معذور -، ووجد في مكانه أحداً فأبى أن يقوم، فحصل نزاع، فالواجب أن يدرأ النزاع وله أجر، ويطلب مكاناً آخر إلا إذا أمكن أن يفسح الناس بأن كان الصف فيه شيء من السعة، فهنا يقول: افسحوا قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ)(المجادلة: من الآية11).
وقوله: "فهو أحق به" دليله قوله صلى الله عليه وسلم: "من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به"، رواه مسلم .
قال في الروض: "ولم يقيده الأكثر بالعود قريباً" . أي: أكثر أصحاب الإمام أحمد لم يقيدوه بالعود قريباً، كما هو ظاهر الحديث.
ولكن الذي ذكرناه قول وسط، وهو: أنه إذا عاد بعد مدة طويلة بناء على استمرار العذر فهو أحق به، أما إن انتهى العذر، ولكنه تهاون وتأخر، فلا يكون أحق به.
قوله: "ومن دخل والإمام يخطب" ، "من" : هذه شرطية، وجملة "والإمام يخطب" في موضع نصب على الحال.
قوله: "لم يجلس" ، أي: بمكانه.
قوله: "حتى يصلي ركعتين يوجز فيهما" ، والدليل على ذلك:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" ، وهذا عام
- أن النبي صلى الله عليه وسلم: "رأى رجلاً دخل المسجد فجلس، والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فقال: أصليت؟ قال: لا، قال: قم فصلِّ ركعتين" ، وفي رواية: "وتجوَّز فيهما" .(167/75)
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة، وقد خرج الإمام فليصل ركعتين وليتجوز فيهما" . فالسنة في هذا ظاهرة.
وقد استنبط بعض العلماء من هذا أن تحية المسجد واجبة، ووجه الاستنباط أن استماع الخطبة واجب، والاشتغال بالصلاة يوجب الانشغال عن استماع الخطبة، ولا يشتغل عن واجب إلا بواجب، وقد ذهب إلى هذا كثير من أهل العلم، ولكن بعد التأمل في عدة وقائع تبين لنا أنها سنة مؤكدة، وليست بواجبة، ويمكن الانفكاك عن القول بأنه ينشغل بأن يقال: قد ينشغل، وقد يسمع بعض الشيء وهو يصلي، والإنسان يسمع وهو يصلي، ويفهم وهو يصلي؛ ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس فإذا سمع بكاء الصبي تجوَّز في صلاته ، وهذا دليل على أن المصلي لا ينشغل انشغالاً كاملاً، فالذي ترجح عندي أخيراً أن تحية المسجد سنة مؤكدة، وليست بواجبة.
وقال بعض العلماء: تسن تحية المسجد لكل داخل مسجد إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل نقول: إلا المسجد الحرام، فإن تحيته الطواف لمن دخل ليطوف، فإنه يستغنى بالطواف عن الركعتين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد الحرام لطواف العمرة والحج لم يصل ركعتين، أما من دخل ليصلي، أو ليستمع إلى علم أو ليقرأ القرآن، أو ما أشبه ذلك فإن المسجد الحرام كغيره من المساجد تحيته ركعتان؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" .
قوله: "ولا يجوز الكلام والإمام يخطب إلا له أو لمن يكلمه" ، إذا قيل: لا يجوز فهي عند العلماء بمعنى يحرم، وعلى هذا فالكلام والإمام يخطب حرام.
وقول المؤلف: "والإمام يخطب" جملة حالية كما سبق في قوله: "ومن دخل والإمام يخطب" .(167/76)
وقوله: "والإمام يخطب" ، التعبير الدقيق أن يقال: "والخطيب يخطب"؛ لأنه قد يخطب غير الإمام فربما يكون الإمام لا يجيد الخطبة فيقوم بالخطبة واحد ويصلي آخر، وهذا هو مراد المؤلف - - لكن ذكر الإمام بناء على الغالب.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما أخرجه الإمام أحمد: "من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً - وهذا التشبيه للتقبيح والتنفير - والذي يقول له: أنصت، ليست له جمعة" ، مع أن الذي يقول له: أنصت، ينهى عن منكر، ومع ذلك يلغو، ومن لغا فلا جمعة له.
ومعنى "ليست له جمعة" أي: لا ينال أجر الجمعة، وليس معناه أن جمعته لا تصح، وأجر الجمعة أكثر من أجر بقية الصلوات.
وكذلك أيضاً جاء في الصحيحين: "إذا قلت لصاحبك: أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت" .
وقوله: "إلا له" أي: للإمام.
وقوله: "أو لمن يكلمه" ، أي: لمن يكلم الإمام أو يكلمه الإمام.
قوله: "لمصلحة" قيد للمسألتين جميعاً، وهما من يكلم الإمام أو يكلمه الإمام، فلا يجوز للإمام أن يتكلم كلاماً بلا مصلحة، فلا بد أن يكون لمصلحة تتعلق بالصلاة، أو بغيرها مما يحسن الكلام فيه، وأما لو تكلم الإمام لغير مصلحة، فإنه لا يجوز.
وإذا كان لحاجة فإنه يجوز من باب أولى، فمن الحاجة أن يخفى على المستمعين معنى جملة في الخطبة فيسأل أحدهم عنه، ومن الحاجة أيضاً أن يخطئ الخطيب في آية خطأ يحيل المعنى، مثل: أن يسقط جملة من الآية، أو يلحن فيها لحناً يحيل المعنى.(167/77)
والمصلحة دون الحاجة، فمن المصلحة مثلاً إذا اختل صوت مكبر الصوت فللإمام أن يتكلم، ويقول للمهندس: انظر إلى مكبر الصوت ما الذي أخله؟ وكذلك من يكلم الإمام للمصلحة والحاجة يجوز له ذلك. ودليل هذا: "أن رجلاً دخل المسجد والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلكت الأموال، وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا" .
يقول أنس راوي الحديث: "والله ما نرى في السماء من سحاب ولا قزعة، وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار - وسلع: جبل صغير في المدينة تأتي من قبله السحاب أي إن السماء صحو - فخرجت من وراء سلع سحابة مثل الترس - والترس: هو مثل الصاج الذي يخبز فيه يتخذ من جلد قوي أو من حديد يتقي به المقاتل سهام العدو يتترس به - فارتفعت في السماء، وانتشرت ورعدت، وبرقت، ثم نزل المطر فما نزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته" .
سبحان الله!! آية من آيات الله، ومن آيات الرسول صلى الله عليه وسلم.(167/78)
من آيات الله هذه القدرة العظيمة، ومن آيات الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله استجاب دعاءه، وبقي المطر ينزل أسبوعاً كاملاً لم يروا الشمس، فلما كانت الجمعة الثانية دخل الرجل أو رجل آخر فقال: يا رسول الله "تهدَّم البناء وغرق المال فادع الله يمسكها" ، لكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يدع الله أن يمسكها، بل قال: "اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام، والظراب، وبطون الأودية ومنابت الشجر"، أي: دعا الله تعالى أن يكون المطر على الأماكن التي فيها مصلحة، وليس فيها مضرة، يقول أنس: "فجعل يشير إلى السماء كلما أشار إلى ناحية انفرج السحاب" ؛ لأن الله عز وجل يأمره بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج الناس يمشون في الشمس بعد الجمعة ، فهذا الأعرابي الأول سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بالغيث، والثاني سأل الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله بالإمساك، فهذا لحاجة ومصلحة فلا بأس به.
وفي هذا الحديث دليل على أن صلاة العصر لا تجمع إلى الجمعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجمعها إلى الجمعة مع وجود المبيح للجمع، وهو المطر في الجمعة الأولى، والوحل في الجمعة الثانية.
مسألتان:
الأولى: إذا عطس المأموم يوم الجمعة فإنه يحمد الله خفية، فإن جهر بذلك فسمعه من حوله فلا يجوز لهم أن يشمِّتوه.
الثانية: إذا عطس الإمام وحمد الله جهراً فهل يجب على من سمعه أن يشمِّته؟
الجواب: على القول بأنه يجب أن يشمِّته كل من سمعه كما قال ابن القيم، فالظاهر أنه إن سكت الإمام من أجل العطاس فلا بأس أن يشمَّت، وإن لم يسكت فلا؛ لأن الخطبة قائمة.
والذي أراه في هذه المسألة أنه ينبغي للإمام أن يحمد سراً حتى لا يوقع الناس في الحرج، فإن حمد جهراً فإن استمر في الخطبة فلا يشمت؛ لأجل ألا يشغل عن استماع الخطبة، وإلا فلا بأس].(167/79)
قوله: "ويجوز قبل الخطبة وبعدها" أي: يجوز الكلام قبل الخطبة، وبعد الخطبة، ولو بعد حضور الخطيب، ولو بعد الأذان ما دام لم يشرع في الخطبة، ويجوز كذلك بعد انتهاء الخطبة، وسواء كان ذلك بعد انتهاء الخطبة الأولى، أو بعد انتهاء الخطبة الثانية؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قيد الحكم بما إذا كان الإمام يخطب، والمقيد ينتفي الحكم به بانتفاء القيد، ولكن ليس هذا الجواز على حد سواء؛ لأن الإنسان لو شرع يتكلم قبل أن يبدأ الإمام بالخطبة، فربما يستمر به الأمر حتى يتكلم والإمام يخطب، فالأفضل عدم الكلام؛ لئلا يستمر به الكلام والإمام يخطب.
مسألة: بعض الفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا شرع الإمام في الدعاء في حال الخطبة يجوز الكلام؛ لأن الدعاء ليس من أركان الخطبة، والكلام في غير أركان الخطبة جائز، ولكنه قول ضعيف؛ لأن الدعاء ما دام متصلاً بالخطبة فهو منها، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يستغفر للمؤمنين في كل جمعة في الخطبة"
فالصحيح: أنه ما دام الإمام يخطب، سواء في أركان الخطبة، أو فيما بعدها فالكلام حرام.(167/80)
الشرح الممتع - المجلد الخامس
باب صلاة العيدين
محمد بن صالح العثيمين
باب صلاة العيدين
قوله: "صلاة العيدين" من باب إضافة الشيء إلى وقته وإلى سببه، فهذه الصلاة سببها العيدان، وهي أيضاً لا تصلى إلا في العيدين.
وقوله: "العيدين" تثنية عيد، وهما عيد الأضحى وعيد الفطر، وكلاهما يقعان في مناسبة شرعية.
أما عيد الفطر ففي مناسبة انقضاء المسلمين من صوم رمضان.
وأما الأضحى فمناسبته اختتام عشر ذي الحجة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحب إلى الله من هذه الأيام العشر، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء" . فالمناسبة لهذين العيدين مناسبة شرعية، وهناك عيد ثالث وهو ختام الأسبوع وهو يوم الجمعة، ويتكرر في كل أسبوع مرة، وليس في الإسلام عيد سوى هذه الأعياد الثلاثة: الفطر، والأضحى، والجمعة، فليس فيه عيد بمناسبة مرور ذكرى غزوة بدر، ولا غزوة الفتح، ولا غزوة حنين ولا غيرها من الغزوات العظيمة التي انتصر فيها المسلمون انتصاراً باهراً، ناهيك عمّا يقام من الأعياد لانتصارات وهمية، بل إني أعجب لقوم يجعلون أعياداً للهزائم ذكرى يوم الهزيمة، أو ذكرى احتلال العدو البلد الفلاني، مما يدل على سفه عقول كثير من الناس اليوم؛ لأنهم لما حصل لهم شيء من البعد عن دين الإسلام صاروا حتى في تصرفهم يتصرفون تصرف السفهاء، وليس هناك أعياد لمناسبة ولادة أحد من البشر، حتى النبي عليه الصلاة والسلام لا يشرع العيد لمناسبة ولادته، وهو أشرف بني آدم فما بالك بمن دونه؟!
فإذا قال قائل: هذه المناسبات نقيمها من أجل الذكرى.(168/1)
قلنا: أما بالنسبة للرسول عليه الصلاة والسلام، فإن المسلمين فرض على أعيانهم أن يذكروه في اليوم والليلة خمس مرات على الأقل، وفرض على الكفاية أن يذكروه أيضاً خمس مرات في اليوم والليلة على الأقل، فالأذان يقول المسلمون فيه: أشهد أن محمداً رسول الله، وفي الصلاة في التشهد يقولون: أشهد أن محمداً عبده ورسوله، بل إن كل عبادة يتعبد بها الإنسان فهي ذكرى للرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن المتعبد يجب عليه أن يلاحظ في عبادته شيئين:
- الإخلاص لله عز وجل، وأنه فعل العبادة تقرباً إليه، وامتثالاً لأمره.
- المتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنه فعل العبادة اتباعاً للرسول (ص)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم أمامه فيها لتتم هذه العبادة، حتى لو تسوك الإنسان اتباعاً للسنة فهذه ذكرى، ولو قدم رجله اليمنى عند دخول المسجد اتباعاً للسنّة فهذه ذكرى، ولو قدم إدخال يده اليمنى في الكم قبل اليسرى اتباعاً للسنّة فهذه ذكرى.
فالمسلمون في كل أحوالهم يذكرون النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذكرى بهذه الطقوس المبتدعة التي ما أنزل الله بها من سلطان فإنها تدمر أكثر مما تعمر؛ لأن القلب يجد فراغاً واسعاً عندما تنتهي هذه المناسبة، أو الاحتفال بهذه المناسبة، ولهذا فإنه من حكمة الله أنه ما من بدعة تقام إلا وينهدم من السنّة مثلها أو أكثر.
إذاً كل من أقام عيداً لأي مناسبة، سواء كانت هذه المناسبة انتصاراً للمسلمين في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، أو انتصاراً لهم فيما بعد، أو انتصار قومية فإنه مبتدع، وقد قَدِمَ النبي عليه الصلاة والسلام المدينة فوجد للأنصار عيدين يلعبون فيهما فقال: "إن الله قد أبدلكم بخير منهما عيد الفطر وعيد الأضحى" ، مما يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يحب أن تحدث أمته أعياداً سوى الأعياد الشرعية التي شرعها الله عز وجل.
مسألة: أسبوع المساجد والشجرة ونحوهما مما يقام ما القول فيها؟(168/2)
أما أسبوع المساجد فبدعة؛ لأنه يقام باسم الدين ورفع شأن المساجد، فيكون عبادة تحتاج إقامته إلى دليل، ولا دليل لذلك.
وأما أسبوع الشجرة فالظاهر أنه لا يقام على أنه عبادة، فهو أهون، ومع ذلك لا نراه.
وأما أسبوع أو مؤتمر الشيخ محمد بن عبد الوهاب فهذا ليس عيداً؛ لأنه لا يتكرر، وفائدته واضحة وهي جمع المعلومات عن حياة هذا الشيخ ومؤلفاته، فحصل فيها نفع كبير.
مسألة: الحفلات التي تقام عند تخرُّج الطلبة، أو عند حفظ القرآن لا تدخل في اتخاذها عيداً لأمرين:
الأول: أنها لا تتكرر بالنسبة لهؤلاء الذين احتفل بهم.
الثاني: أن لها مناسبة حاضرة، وليست أمراً ماضياً.
قوله: "وهي فرض كفاية" ، أفاد المؤلف - - أنها فرض، وهذا القول الأول في المسألة، ومعلوم أن الفرض يحتاج إلى دليل، والدليل على هذا ما يلي:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر النساء أن يخرجنَ لصلاة العيد، حتى إنه أمر الحيَّض، وذوات الخدور أن يخرجن يشهدن الخير، ودعوة المسلمين، وأمر الحيَّض أن يعتزلنَ المصلى" ، والأمر يقتضي الوجوب، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء، فالرجال من باب أولى، لأن الأصل في النساء أنهنّ لسن من أهل الاجتماع، ولهذا لا تشرع لهن صلاة الجماعة في المساجد، فإذا أمرهن أن يخرجن إلى مصلى العيد ليصلين العيد ويشهدن الخير ودعوة المسلمين دلّ هذا على أنها على الرجال أوجب، وهو كذلك
- مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين على هذا العمل الظاهر، [وهذا يجعله بعض العلماء دليلاً] على الوجوب، فيقولون: إن مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العمل الظاهر، وعدم تخلفه عنه يدل على تأكده ووجوبه، وإن كان هذا فيه نظر؛ لأن الأصل في المداومة على الشيء إذا لم يكن فيه أمرٌ الاستحباب.(168/3)
- أنها من شعائر الدين الظاهرة، وشعائر الدين الظاهرة فرض كالأذان، فالأذان والإقامة من فروض الكفاية؛ لأنهما من شعائر الدين الظاهرة المعلنة، هكذا قال بعض أهل العلم.
ولكن أصح طريق للاستدلال على وجوب صلاة العيدين هو أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وأما مواظبته على هذا، وكونها من شعائر الدين الظاهرة فهي تؤيد الوجوب ولا تعينه.
قوله: "فرض كفاية" ، فرض الكفاية هو: ما قصد بالذات بقطع النظر عن الفاعل، أي: قصد به الفعل بقطع النظر عن الفاعل كالأذان، وعلى هذا فيكون فرض الكفاية مطلوباً من المجموع لا من الجميع، أي: مجموع الناس يلزمهم أن يقوموا بفرض الكفاية، لا من الجميع، فيلزم كل واحد بعينه إذاً فإذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فلو أقام صلاة العيد أربعون رجلاً، فإن بقية أهل البلد لا تلزمهم صلاة العيد، هذا معنى كونها فرض كفاية.
القول الثاني: أنها سنّة.
واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم الأعرابي فرائض الإسلام، ومنها الصلوات الخمس، عندما قال الأعرابي: هل عليّ غيرها؟ قال: "لا إلا أن تطوع" ، وهذا عام فإن كل صلاة غير الصلوات الخمس داخلة في هذا، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا" أي: ليست واجبة "إلا أن تطوع"، أي: إلا أن تفعلها على سبيل التطوع، وهذا مذهب مالك والشافعي.
القول الثالث: أنها فرض عين على كل أحد، وأنه يجب على جميع المسلمين أن يصلوا صلاة العيد، ومن تخلف فهو آثم، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - -.
واستدل هؤلاء بأن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر النساء حتى الحيَّض، وذوات الخدور أن يخرجنَ إلى المصلى ليشهدن الخير ودعوة المسلمين" ، وهذا يدل على أنها فرض عين؛ لأنها لو كانت فرض كفاية لكان الرجال قد قاموا بها، وهذا عندي أقرب الأقوال [وهو الراجح].(168/4)
قوله: "إذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام" أي: إذا ترك صلاة العيد أهل بلد فإن الإمام يقاتلهم، أي: إن لم يفعلوها، فإذا علم الإمام أن هؤلاء تركوها، ودعاهم إلى فعلها، ولكنهم أصروا على الترك، فإنه يجب عليه أن يقاتلهم حتى يصلوا.
والمقاتلة غير القتل، فهي أوسع، فليس كل من جازت مقاتلته جاز قتله، ولا يلزم من وجوب المقاتلة أن يكون المقاتل كافراً، بل قد يكون مؤمناً ويقاتل كما قال تعالى: )وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ(:9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10)
فأوجب قتال الفئة الباغية مع أنها مؤمنة لا تخرج عن الإيمان بالقتال.
فإذا قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر" ، وهذا يدل على أنهم ما داموا مسلمين فقتالهم حرام، فما الجواب؟
فالجواب: أن قتال المسلم كفر ما لم يوجد في الشرع ما يبيحه أو يوجبه.(168/5)
وأجاب بعض العلماء: بأن هذه من شعائر الإسلام الظاهرة البارزة التي يتميز بها الشعب المسلم عن غيره، فهي كالأذان، وكان من هدي النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه إذا نزل بقوم فسمع الأذان تركهم وإلا قاتلهم" ، هكذا قالوا. والمسألة فيها شيء من النظر؛ لأن القتال قد يستلزم القتل فقد يدافع هؤلاء عن أنفسهم، فيحصل اشتباك وقتل، لكن هذا القتل ليس مقصوداً بالذات. والحديث المذكور لا يدل على المطلوب؛ لأن قتال النبي صلى الله عليه وسلم لمن لم يسمع الأذان منهم ليس من أجل ترك الأذان، ولكن من أجل أن عدم أذانهم دليل على أنهم غير مسلمين فيقاتلهم على الكفر لا على ترك الأذان.
مسألة: وإن ترك صلاة عيد من ليسوا أَهْلَ بلدٍ أي: جماعة في البر، وهم قريبون من المدينة، فإنهم لا يقاتلون؛ لأنها إنما تجب على أهل القرى والأمصار كالجمعة، أما البدو الرحّل وما أشبههم فلا تقام فيهم صلاة العيد كما لا تقام فيهم صلاة الجمعة.
وقوله: "قاتلهم الإمام" ، المراد بالإمام عند الفقهاء هو أعلى سلطة في البلد، وكان المسلمون فيما سبق إمامهم واحد، لكن تغيّرت الأحوال.
مسألة: هل يقاتلهم غير الإمام؟
الجواب: لا يجوز أن يقاتلهم؛ لأن هذا افتيات على ولي الأمر، ولو فتح الباب للناس، وصار كل من رأى منكراً أنكره بالفعل والتغيير باليد لحصل في هذا فوضى كثيرة؛ لأن كثيراً من الناس، لا يدركون مدى الخطورة في مثل هذا الأمر فربما يعتقد أن هذا الشيء حرام فيحاول تغييره، وهو حلال، ويسطو على من فعله بحجة أنه حرام، وأن من رأى منكراً فليغيره بيده، فيحصل في هذا شر كثير؛ ولهذا قال العلماء: إن الحدود لا يقيمها إلا الإمام أو نائبه، وكذلك التعزيرات لا يقوم بتقديرها إلا الإمام أو نائبه، والمقاتلة في هذا وشبهه لا يقوم بها إلا الإمام أو نائبه، وليس لكل أحد أن يفعل ما شاء.(168/6)
قوله: "ووقتها كصلاة الضحى" أي: صلاة العيد وقتها كوقت صلاة الضحى، ومعلوم أن صلاة الضحى تكون من ارتفاع الشمس قيد رمح بعد طلوعها، وهو بمقدار ربع ساعة تقريباً.
فإذا قال قائل: لماذا لم يقل المؤلف: ووقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح، حتى يريح الإنسان من الرجوع إلى وقت صلاة الضحى؟
فالجواب: أن في هذا فائدة، فالعلماء يحيلون على ما مضى، أو على ما يستقبل من أجل أن يحملوا طالب العلم على البحث، فمثلاً هنا قال: كصلاة الضحى؛ لأرجع إلى صلاة الضحى، وأنظر متى وقتها فأجمع الآن بين معلومين: معلوم عن صلاة الضحى، ومعلوم عن صلاة العيد، لكن لو قال: من ارتفاع الشمس قيد رمح لم يحصل ذلك.
فإذا قال قائل: ما الدليل على أن وقتها كصلاة الضحى؟
فالجواب: الدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين لم يصلوها إلا بعد ارتفاع الشمس قِيد رمح . وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" ، وقال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" ، وفي رواية: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" .
قوله: "وآخره الزوال" أي: آخر وقت العيد زوال الشمس عن كبد السماء، وذلك أن الشمس إذا طلعت صار لكل شاخص - أي: لكل شيء مرتفع - ظل من جهة الغرب، وكلما ارتفعت نقص الظل، فإذا انتهى نقصه وبدأ بالزيادة، فهذه علامة زوال الشمس.(168/7)
قوله: "فإن لم يعلم بالعيد إلا بعده صلوا من الغد" أي: فإن لم يعلم بالعيد إلا بعد الزوال فإنهم لا يصلون، وإنما يصلون من الغد في وقت صلاة العيد، ودليل ذلك ما رواه أبو عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار قالوا: "غُمَّ علينا هلال شوال فأصبحنا صياماً، فجاء ركب في آخر النهار، فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يفطروا من يومهم، وأن يخرجوا غداً لعيدهم" ، رواه أحمد، وأبو داود، والدارقطني وحسّنه ، فإذا لم يعلم الناس بالعيد إلا بعد الزوال، فإنه في عيد الفطر يفطرون؛ لأنه تبين أن هذا يوم عيد، ويوم العيد صومه حرام، وفي عيد الأضحى ينتظرون الصلاة فلا يضحون إلا بعدها من الغد، وهنا يتم التقسيم بالنسبة لقضاء الصلوات، فإن الصلوات تنقسم في قضائها إلى أقسام:
الأول: ما يقضى على صفته إذا فات وقته من حين زوال العذر الشرعي، مثل الصلوات الخمس إذا فاتت، فإنك تقضيها بعد زوال العذر، فإن كان العذر نوماً فتقضيها إذا استيقظت، وإن كان نسياناً قضيتها إذا ذكرت
الثاني: ما لا يقضى إذا فات كالجمعة، فإن خرج وقتها قبل أن يصليها الناس لم يقضوها وصلوا ظهراً، وإن فاتت الإنسان مع الجماعة فهو لا يقضيها أيضاً، وإنما يصلي بدلها ظهراً.
الثالث: ما لا يقضى إذا فات وقته إلا في وقته من اليوم الثاني، وهو صلاة العيد، فإنها لا تقضى في يومها، وإنما تقضى في وقتها من الغد.
الرابع: ما لا يقضى أصلاً كصلاة الكسوف، فلو لم يعلموا إلا بعد انجلاء الكسوف لم يقضوا، وهكذا نقول: كل صلاة ذات سبب إذا فات سببها لا تقضى.
قوله: "وتسن في صحراء" أي: يسن إقامتها في الصحراء خارج البلد، وينبغي أن تكون قريبة؛ لئلا يشق على الناس.
والدليل: فعل النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فإنهم كانوا يصلونها في الصحراء ، ولولا أن هذا أمر مقصود لم يكلفوا أنفسهم ولا الناس أن يخرجوا خارج البلد.(168/8)
والتعليل: أن ذلك أشد إظهاراً لهذه الشعيرة.
قوله: "وتقديم صلاة الأضحى وعكسه الفطر" أي: ويسنّ تقديم صلاة الأضحى، وعكسه الفطر، أي: تأخير صلاة الفطر.
ودليل هذا أثر ونظر.
أما الأثر: 1 - ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام "أنه كان يصلي صلاة عيد الأضحى إذا ارتفعت الشمس قيد رمح، وصلاة الفطر إذا ارتفعت قيد رمحين" .
- أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حزم: "أن عجّل الأضحى، وأخّر الفطر، وذكِّر الناس في الخطبة" .
أما النظر: فلأن الناس في صلاة عيد الفطر محتاجون إلى امتداد الوقت ليتسع وقت إخراج زكاة الفطر؛ لأن أفضل وقت تخرج فيه زكاة الفطر صباح يوم العيد قبل الصلاة؛ لحديث ابن عمر: "أمر أن تؤدّى قبل خروج الناس إلى الصلاة" ، ومعلوم أنه إذا تأخرت الصلاة، صار هذا أوسع للناس.
وأما عيد الأضحى فإن المشروع المبادرة بالتضحية؛ لأن التضحية من شعائر الإسلام، وقد قرنها الله عز وجل في كتابه بالصلاة فقال: )فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2) ، وقال: )قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:162) ، ففعلها مبادراً بها في هذا اليوم أفضل، وهذا إنما يحصل إذا قدمت الصلاة؛ لأنه لا يمكن أن تذبح الأضحية قبل الصلاة.(168/9)
قوله: "وأكله قبلها، وعكسه في الأضحى إن ضحى" ، أي: يسن أكل الإنسان قبل صلاة عيد الفطر، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم "كان لا يخرج يوم الفطر حتى يأكل تمرات، ويأكلهنّ وتراً" لكن الواحدة لا تحصل بها السنة؛ لأن لفظ الحديث: "حتى يأكل تمرات" ، وعلى هذا فلا بد من ثلاث فأكثر: ثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة، المهم أن يأكل تمرات يقطعها على وتر، وكل إنسان ورغبته فليس مقيداً فله أن يشبع، وإن أكل سبعاً فحسن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تصبّح بسبع تمرات من تمرات العالية - وفي لفظ: من العجوة - فإنه لا يصيبه ذلك اليوم سم ولا سحر" .
سبحان الله حماية ووقاية بسبع تمرات من تمر العالية - مكان معروف بالمدينة - أو من العجوة، بل إن شيخنا ابن سعدي - - يرى أن ذلك على سبيل التمثيل، وأن المقصود التمر مطلقاً، فعلى هذا يتصبّح الإنسان كلَّ يوم بسبع تمرات، فإن كان النبي صلى الله عليه وسلم أرادها فقد حصل المطلوب، وإن لم يردها فلا شك أن إفطار الإنسان على هذا التمر الجامع بين ثلاثة أمور من أفضل الأغذية: الحلوى، والفاكهة، والغذاء؛ لأن التمر يشتمل على هذا كله: هو حلوى، وفاكهة يتفكّه به الإنسان، وغذاء، ولهذا لا تجد مثل التمر شيئاً من الثمر لا يفسد إذا أبطأ، بل هو دائماً صالح للأكل، إلا إذا أساء الإنسان كنزه، أو ما أشبه ذلك.
وعلى كلٍّ يأكل تمرات أقلها ثلاث قبل أن يخرج لصلاة عيد الفطر.
وقوله: "وعكسه في الأضحى إن ضحى" أي: عكس الأكل، وهو ترك الأكل في الأضحى، فلا يأكل قبل صلاة الأضحى حتى يضحي؛ لحديث بريدة: "كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يخرج يوم الفطر حتى يفطر، ولا يطعم يوم النحر حتى يصلي" رواه أحمد .(168/10)
ولأن ذلك أسرع إلى المبادرة في الأكل من أضحيته، والأكل من الأضحية واجب عند بعض العلماء؛ لقول الله تعالى: {فكلوا منها وأطعموا } [الحج: 28، 36] ، فبدأ بالأمر بالأكل، فالأفضل إذاً أن يمسك عن الأكل في عيد الأضحى حتى يأكل من أضحيته التي أمر بالأكل منها.
أما الحكمة من تقديم الأكل في عيد الفطر فمن أجل تحقيق الإفطار من أول النهار؛ لأن اليوم الذي كان قبله يوم يجب صومه، وهذا اليوم يوم يجب فطره، فكانت المبادرة بتحقيق هذا أفضل، وعليه فلو أكل هذه التمرات قبل أن يصلي الفجر حصل المقصود؛ لأنه أكلها في النهار، والأفضل إذا أراد أن يخرج.
وقوله: "إن ضحى" ، فُهم منه أنه إذا لم يكن لديه أضحية فإنه لا يشرع له الإمساك عن الأكل قبل الصلاة، بل هو بالخيار، فلو أكل قبل أن يخرج إلى الصلاة فإننا لا نقول له: إنك خالفت السنّة.
قوله: "وتكره في الجامع بلا عذر" أي: تكره إقامة صلاة العيد في جامع البلد بلا عذر. وظاهر كلام المؤلف أنها تكره في الجامع، سواء في مكة، أو المدينة، أو غيرهما من البلاد.
أما في المدينة فظاهر أن المدينة كغيرها، يسنّ لأهل المدينة أن يخرجوا إلى الصحراء، ويصلوا العيد، هذا هو الأفضل كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعله، ويكره أن يصلوا في المسجد النبوي إلا لعذر، لكن ما زال الناس من قديم الزمان يصلون العيد في المسجد النبوي.
أما في مكة فلا أعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أو أحداً من الذين تولوا مكة كانوا يخرجون عن المسجد الحرام، ولهذا استثنى في "الروض المربع" مكة المشرفة، ولعل الحكمة من ذلك - والله أعلم - أن الصلاة في الصحراء في مكة صعبة؛ لأنها جبال وأودية، فيشق على الناس أن يخرجوا، فلهذا كانت صلاة العيد في نفس المسجد الحرام.
وقوله: "بلا عذر" ، أفادنا - - أنه إذا صلوا في الجامع لعذر فلا كراهة.
والعذر مثل: المطر، والرياح الشديدة، والخوف كما لو كان هناك خوف لا يستطيعون أن يخرجوا معه عن البلد.(168/11)
وإذا قال قائل: ما الدليل على الكراهة وأنتم تقولون: إن ترك السنّة لا يلزم منه الكراهة إلا بدليل؟
فالجواب على ذلك أن نقول: إنما كره هذا؛ لأنه يفوت به مقصودٌ كبيرٌ، وهو إظهار هذه الشعيرة وإبرازها، وهذا شيء مقصود للشارع، وكما أسلفنا فيما سبق أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالخروج إليها مع المشقة، وهذا يدل على العناية بهذا الخروج.
قوله: "ويسنّ تبكير مأموم إليها ماشياً بعد الصبح" ، أي: يسنّ أن يبكّر المأموم إلى صلاة العيد من بعد صلاة الفجر، أو من بعد طلوع الشمس إذا كان المصلى قريباً، كما لو كانت البلدة صغيرة والصحراء قريبة.
وكان ابن عمر - -: "لا يخرج إلا إذا طلعت الشمس" ، لكن مصلى العيد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عهد الصحابة كابن عمر كان قريباً يمكن للإنسان أن يخرج بعد طلوع الشمس ويدرك الصلاة.
والدليل على سنية الخروج بعد صلاة الصبح ما يلي:
-عمل الصحابة - لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى المصلى إذا طلعت الشمس، ويجد الناس قد حضروا وهذا يستلزم أن يكونوا قد تقدموا.
-ولأن ذلك سبق إلى الخير.
-ولأنه إذا وصل إلى المسجد وانتظر الصلاة، فإنه لا يزال في صلاة.
-ولأنه إذا تقدم يحصل له الدنو من الإمام.
كل هذه العلل مقصودة في الشرع.
وقوله: "ماشياً" ، أي: يسنّ أن يخرج ماشياً، لا على سيارة، ولا على حمار، ولا على فرس، ولا على بعير كما جاء عن علي - -: "السنّة أن يخرج إلى العيد ماشياً" ، ولكن إذا كان هناك عذر كبعد المصلى، أو مرض في الإنسان، أو ما أشبه ذلك، فلا حرج أن يخرج إليها راكباً.
وقوله: "بعد الصبح" أي: بعد صلاة الصبح، فلا يخرج بعد الفجر؛ لأنه لو خرج بعد طلوع الفجر لم يصلِّ الجماعة مع الناس، وهذا حرام.
قوله: "وتأخر إمام إلى وقت الصلاة" أي: يسنّ أن يتأخر الإمام إلى وقت الصلاة.(168/12)
ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا خرج إلى العيد فأول شيء يبدأ به الصلاة" ، وهذا يدل على أنه لا يحضر فيجلس، بل يحضر ويشرع في الصلاة.
وكذلك نقول في الجمعة: إن السنّة للإمام أن يتأخر، وأما ما يفعله بعض أئمة الجمعة الذين يريدون الخير فيتقدمون ليحصلوا على أجر التقدم الوارد في قوله صلى الله عليه وسلم: "من راح في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة" ، فهؤلاء يثابون على نيتهم، ولا يثابون على عملهم؛ لأنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة إنما يأتي عند الخطبة ولا يتقدم، ولو كان هذا من الخير لكان أول فاعل له رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكذلك أيضاً هنا دليل نظري وهو: أن الإمام يُنتظر ولا ينتظر، أي: الناس ينتظرونه، أما هو فلا ينتظر الناس فإذا جاء شرع في الصلاة.
قوله: "على أحسن هيئة" ، أي: يسنّ أن يخرج على أحسن هيئة، وهذا يشمل الإمام والمأموم، في لباسه وفي هيئته كأن يحف الشارب، ويقلّم الأظفار، ويتنظّف، ويلبس أحسن ثيابه. وهذا يختلف باختلاف الناس، فمن الناس من أحسن ثيابهم القمص، ومن الناس من أحسن ثيابهم الثياب الفضفاضة، ومن الناس من أحسن ثيابهم المشالح مع ما تحتها، وذلك إظهاراً للسرور والفرح بهذا اليوم، وتحدثاً بنعمة الله تحدثاً فعلياً؛ لأن الله إذا أنعم على عبده نعمة يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
قوله: "إلا المعتكف ففي ثياب اعتكافه" أي: ينبغي أن يخرج المعتكف في ثياب اعتكافه، ولو كانت غير نظيفة، [قالوا]: لأن هذه الثياب أثر عبادة فينبغي أن يبقى أثر العبادة عليه، كما يشرع في دم الشهيد أن يبقى عليه؛ لأنه أثر عبادة، ولكن هذا القول في غاية الضعف أثراً ونظراً.
أما الأثر: فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف، ومع ذلك يلبس أحسن الثياب ، فهذا القول مخالف للسنّة.(168/13)
وأما النظر: فلأن توسخ ثياب المعتكف ليس من أثر اعتكافه، ولكن من طول بقائها عليه؛ ولهذا لو لبس ثوباً نظيفاً ليلة العيد، أو في آخر يوم من رمضان ما أثر، ولا يصح قياسه على دم الشهيد؛ لأن الشهيد يأتي يوم القيامة، وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.
فالصحيح أن المعتكف كغيره يخرج إلى صلاة العيد متنظّفاً لابساً أحسن ثيابه.
قوله: "ومن شرطها" ، أي: من شرط صلاة العيد.
قوله: "استيطان" ، أي: أن تقام في جماعة مستوطنين، فخرج بذلك المسافرون والمقيمون؛ لأن الناس على المشهور من المذهب ثلاثة أقسام:
-مسافر.
-مقيم.
-مستوطن.
أما المسافر فواضح.
وأما المقيم فهو: المسافر إذا نوى إقامة تقطع حكم السفر، وهي على المذهب أكثر من أربعة أيام، فهذا يسمونه مقيماً لا مسافراً ولا مستوطناً.
وأما المستوطن: فهو من كان في وطنه سواء كان وطناً أصلياً أو استوطنه فيما بعد.
فيشترط لصحة صلاة العيد أن تكون من قوم مستوطنين، وعلى هذا فإذا جاء العيد ونحن في سفر فإنه لا يشرع لنا أن نصلي صلاة العيد.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقم صلاة العيد إلا في المدينة، وسافر إلى مكة عام غزوة الفتح، وبقي فيها إلى أول شوال، وأدركه العيد، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم صلّى صلاة العيد، وفي حجة الوداع صادفه العيد وهو في منى، ولم يقم صلاة العيد؛ لأنه مسافر، كما أنه لم يقم صلاة الجمعة في عرفة؛ لأنه مسافر.
إذاً المسافرون لا يشرع في حقهم صلاة العيد، وهذا واضح؛ لأن هذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما المقيمون فكذلك على المذهب؛ لأنهم ليسوا من أهل إقامة الجمعة فلا يكونون من أهل إقامة العيد.(168/14)
فلو فرضنا أن جماعة تبلغ مائتين في بلد غير إسلامي، وكانوا قد أقاموا للدراسة لا للاستيطان، وصادفهم العيد فإنهم لا يقيمون صلاة العيد؛ لأنهم ليسوا مستوطنين، ولكن في هذا القول نظراً، ولهذا كان الناس الآن على خلاف هذا القول، فالذين أقاموا للدراسة في بلاد الكفر التي لا تقام فيها صلاة العيد يقيمون الجمعة، ويقيمون صلاة العيد، ويرون أنهم لو تخلفوا عن ذلك لكان في هذا مطعن عليهم في أنهم لا يقيمون شعائر دينهم في مناسباتها.
قوله: "وعدد الجمعة" أي: ومن شرطها أيضاً عدد الجمعة، وعدد الجمعة على المشهور من المذهب أربعون رجلاً من المستوطنين أيضاً، وقد سبق لنا أن القول الراجح في العدد المعتبر للجمعة ثلاثة، فهذا يبنى على ذاك، فلا بد من عدد يبلغون ثلاثة، فإن لم يوجد في القرية إلا رجل واحد مسلم، فإنه لا يقيم صلاة العيد، أو رجلان فلا يقيمان صلاة العيد، أما الثلاثة فيقيمونها.
قوله: "لا إذن إمام" أي: لا يشترط إذن الإمام لإقامة صلاة العيد، فلو أن أهل بلد ثبت عندهم الهلال وأفطروا، فلا يلزمهم أن يستأذنوا الإمام في إقامة صلاة العيد، حتى لو قال الإمام: لا تقيموها. فإنه يجب عليهم أن يقيموها وأن يعصوه؛ لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد سبق لنا في الجمعة أنه ينبغي أن يشترط إذن الإمام لتعدد الجمعة، فكذا العيد أيضاً نقول فيه ما نقول في الجمعة، أي: أنه لو احتاج الناس إلى إقامة مصلى آخر للعيد فإنه لا بد من إذن الإمام أو نائب الإمام، حتى لا يحصل فوضى بين الناس، ويصير كل واحد منهم يقيم مصلى عيد.
قوله: "ويسنّ أن يرجع من طريق آخر" ، أي: يسن إذا خرج من طريق لصلاة العيد أن يرجع من طريق آخر اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم، "فإنه كان إذا خرج يوم العيد خالف الطريق" .(168/15)
والحكمة من هذا متابعة النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الحكمة أعلى حكمة يقتنع بها المؤمن، أن يقال: هذا أمر الله ورسوله، ودليل ذلك قوله تعالى: { )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (الأحزاب:36) أي: يقتنعون غاية الاقتناع، وقول عائشة - - وقد سُئلت: لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: "كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نُؤْمر بقضاء الصلاة" ، ولم تذكر سوى هذا؛ لأن المؤمن لسانه وحاله: سمعنا وأطعنا، [فالخلاصة أن الحكمة بالنسبة لنا اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم أما بالنسبة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم فقد اختلف العلماء رحمهم الله في حكمته وعلته:]
فقال بعض العلماء: إن العلة إظهار هذه الشعيرة في أسواق البلد؛ لأن الناس إذا جاؤوا من هذا الطريق زرافات ووحداناً، وهجروا الطريق الثاني لم تتبيّن هذه الشعيرة في الطريق الثاني، وصارت منحصرة في الطريق الأول، فإذا خرجوا من هنا ورجعوا من هناك صار في هذا إظهار لهذه الشعيرة في الطريقين.
وقال بعض العلماء: إنه قد يكون في الطريق الثاني فقراء ليسوا في الطريق الأول فيجودون عليهم ويدخلون عليهم السرور؛ لأنه في يوم العيد ينبغي للإنسان أن يوسع على أهله وإخوانه، ويدخل السرور عليهم، ويبسط لهم في الرزق؛ لأن العيد يوم فرح وسرور.
وقال بعض العلماء: من أجل أن يشهد له الطريقان الأول والثاني؛ لأن الأرض يوم القيامة تحدث أخبارها، أي: تخبر بما عُمل عليها من خير وشر - سبحان الله - الأرض التي تطأ الآن عليها يوم القيامة ستكون شهيداً عليك أو لك، تشهد بما عملت من قول مسموع تسمعه وتعبر عنه، ومن فعل مرئي تراه وتعبر عنه، لا أعين لها، ولا آذان، لكن أنطقها الله الذي أنطق كل شيء.(168/16)
ولهذا عدَّى بعضهم هذا الحكم إلى الجمعة، وقالوا: يسنّ أن يأتي إلى الجمعة من طريق، ويرجع من طريق أخرى؛ لأنها صلاة عيد واجتماع، فيسنّ فيها مخالفة الطريق.
وعدَّى بعض العلماء هذا الحكم إلى سائر الصلوات، فقال: يسنّ أن يأتي للصلاة من طريق، ويرجع من طريق آخر.
وقال بعض العلماء: يسنّ لكل من قصد أمراً مشروعاً أن يذهب من طريق، ويرجع من طريق آخر.
فلو ذهبت لعيادة مريض، فإنه يسنّ لك أن تذهب إليه من طريق وترجع من طريق آخر، ولو ذهبت لصلة قريب فكذلك، ولكن التوسع في القياس إلى هذا الحد أمر ينظر فيه، بمعنى أن هذا لا يُسلم لمن قاس، لا سيما وأن هذه الأشياء التي ذكروها موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عنه أنه خالف الطريق إلا في العيد، ولدينا قاعدة مهمة لطالب العلم وهي: "أن كل شيء وجد سببه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يحدث له أمراً، فإن من أحدث له أمراً فإحداثه مردود عليه" .
لأننا نقول: هذا السبب الذي جعلته مناط الحكم موجود في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، فلماذا لم يفعله؟ فترك النبي صلى الله عليه وسلم الشيء مع وجود سببه يكون تركه سنّة، والتعبُّد به غير مشروع.
فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتي إلى الجمعة ولا يخالف الطريق، وكان يزور أصحابه ويعود المرضى ولا يخالف الطريق، وكان يأتي إلى الصلوات الخمس ولا يخالف الطريق.
فإن قالوا: ورد عنه أنه خالف الطريق في الحج دخل مكة من أعلاها، وخرج من أسفلها ، وفي عرفة ذهب من طريق، ورجع من طريق آخر ؟(168/17)
فالجواب: أن نقف على ما جاءت به السنّة، فالحج نخالف فيه الطريق؛ لأنه وردت به السنّة، على أن بعض العلماء قال: إن مخالفات الطريق في الحج غير مقصودة، بل لكون ذلك أسهل لخروج النبي صلى الله عليه وسلم ودخوله، كما قالوا في نزول المحصَّب، والمحصَّب حسب وصف الناس أنه في المكان الذي فيه الآن قصر الملك فيصل في مكة، فنزل صلى الله عليه وسلم في المحصب ليلة أربعة عشر، وفي آخر الليل أمر بالرحيل فارتحل، ونزل إلى المسجد الحرام وطاف طواف الوداع، وصلى الفجر وقرأ بالطور، ثم انصرف صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
وهذا النزول قال بعض العلماء: إنه سنّة.
وقالت عائشة - -: "ليس بسنّة إنما نزله النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه كان أسمح لخروجه" ، فيكون هذا النزول على كلام عائشة - - غير مُتعبّد به، ولكنه أيسر للخروج.
فالصواب مع من يرى أن مخالفة الطريق خاصةٌ بصلاة العيدين فقط، وهذا هو ظاهر كلام المؤلف - -؛ لأنه لم يذكر مخالفة الطريق في الجمعة، وذكره في العيدين، فدل ذلك على أن اختياره أنه لا تسن مخالفة الطريق إلا في صلاة العيدين.
قوله: "ويصليها ركعتين قبل الخطبة" ، أي: يصلى صلاة العيد ركعتين قبل الخطبة، فلا يقدم الخطبة على الصلاة.
قوله: "يكبر في الأولى بعد الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً" ، أي: يكبر تكبيرة الإحرام، ثم يستفتح بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد مرّ بنا أن أصح حديث في الاستفتاح، حديث أبي هريرة اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقّني من خطاياي كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرَد" ، فإذا استفتح بهذا أو بغيره مما ورد، فإنه يكبّر ست تكبيرات: الله أكبر، الله أكبر، إلى أن يكمل ستاً، ثم يستعيذ ويقرأ، فالاستفتاح إذاً مقدم على التكبيرات الزوائد.(168/18)
قوله: "وفي الثانية قبل القراءة خمساً" ، أي: يكبّر في الركعة الثانية قبل القراءة خمس تكبيرات، ليست منها تكبيرة القيام؛ لأن تكبيرة القيام قبل أن يستتم قائماً، فلا تحسب، فيكبّر خمساً بعد القيام، ولهذا قال: "وفي الثانية قبل القراءة خمساً" ، أي: وبعد أن يستتم قائماً، أما التكبير الذي عند النهوض من السجود فإنه يكون قبل أن يستتم قائماً، وقد مرّ بنا أن المذهب التشديد في هذه المسألة، وأنهم يقولون: لو أكمل التكبير بعد وقوفه لم يصح التكبير، فلا بد أن يكون التكبير فيما بين الانتقال والانتهاء، وقد سبق لنا بيان الخلاف في هذه المسألة وأنه ينبغي أن يكون الأمر في هذا واسعاً، وأنه لو ابتدأ التكبير قبل أن يستتم قائماً وكمّله بعد أن استتم قائماً فلا بأس.
والدليل على هذه التكبيرات الزوائد: أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل ذلك وإسناده حسن كما قال في الروض، ولكن لو أنه خالف فجعلها خمساً في الأولى والثانية، أو سبعاً في الأولى والثانية حسب ما ورد عن الصحابة، فقد قال الإمام أحمد - -: اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير، وكله جائز، أي: أن الإمام أحمد يرى أن الأمر في هذا واسع، وأن الإنسان لو كبّر على غير هذا الوجه مما جاء عن الصحابة، فإنه لا بأس به، وهذه جادة مذهب الإمام أحمد نفسه - - أنه يرى أن السلف إذا اختلفوا في شيء، وليس هناك نص فاصل قاطع، فإنه كله يكون جائزاً؛ لأنه - - يعظم كلام الصحابة ويحترمه، فيقول: إذا لم يكن هناك نص فاصل يمنع من أحد الأقوال فإن الأمر في هذا واسع.(168/19)
ولا شك أن هذا الذي نحا إليه الإمام أحمد من أفضل ما يكون لجمع الأمة واتفاق كلمتها؛ لأن من الناس من يجعل الاختلاف في الرأي الذي يسوغ فيه الاجتهاد سبباً للفرقة والشتات، حتى إنه ليضلل أخاه بأمر قد يكون فيه هو الضال، وهذا من المحنة التي انتشرت في هذا العصر على ما في هذا العصر من التفاؤل الطيب في هذه اليقظة من الشباب خاصة، فإنه ربما تفسد هذه اليقظة، وتعود إلى سبات عميق بسبب هذا التفرق، وأن كل واحد منهم إذا خالفه أخوه في مسألة اجتهادية ليس فيها نص قاطع ذهب ينفر عنه ويسبّه ويتكلم فيه، وهذه محنة أفرح من يفرح بها أعداء هذه اليقظة؛ لأنهم يقولون: سقينا بدعوة غيرنا، جعل الله بأسهم بينهم، حتى أصبح بعض الناس يبغض أخاه في الدين، أكثر مما يبغض الفاسق والعياذ بالله، وهذا لا شك أنه ضرر، وينبغي لطلبة العلم أن يدركوا ضرر هذا علينا جميعاً، وهل جاءك وحي من الله أن قولك هو الصواب؟ وإذا لم يأته وحي أن قوله هو الصواب، فما الذي يدريه؟ لعل قول صاحبه هو الصواب، وهو على ضلال، هذا هو الواقع، والآن ليس أحد من الناس يأتيه الوحي، فالكتاب والسنّة بين أيدينا، وإذا كان الأمر قابلاً للاجتهاد، فليعذر أحدنا أخاه فيما اجتهد فيه.
ولا بأس من النقاش المفيد الهادئ بين الإخوة، وأُفضِّل أن يكون النقاش بين المختلفين في غير حضور الآخرين؛ لأن الآخرين قد يحملون في نفوسهم من هذا النقاش ما لا يحمله المتناقشان، فربما يؤول الأمر بينهما إلى الاتفاق، لكن الآخرين الذين حضروا مثلاً قد يكون في قلوبهم شيء يحمل حتى بعد اتفاق هؤلاء، فيجري الشيطان بينهم بالعداوة، وحينئذٍ نبقى في بلائنا، فأقول: جزى الله الإمام أحمد خيراً على هذه الطريقة الحسنة: (أن السلف إذا اختلفوا في شيء، وليس هناك نص فاصل، فإن الأمر يكون واسعاً كله جائز).(168/20)
قوله: "يرفع يديه مع كل تكبيرة" ، أما تكبيرة الإحرام، فلا شك أنه يرفع يديه عندها؛ لأن هذا ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر - - وغيره ، وأما بقية التكبيرات فهي موضع خلاف بين العلماء:
القول الأول: يرفع يديه.
القول الثاني: لا يرفع يديه.
والصواب أنه يرفع يديه مع كل تكبيرة، وفي تكبيرات الجنازة أيضاً؛ لأن هذا ورد عن الصحابة - -، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم خلافه، ومثل هذا العمل لا مدخل للاجتهاد فيه؛ لأنه عبادة فهو حركة في عبادة، فلا يذهب إليه ذاهب من الصحابة إلا وفيه أصل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صح عن ابن عمر - -: "أنه كان يرفع يديه في تكبيرات الجنازة مع كل تكبيرة" ، بل إنه روي عنه مرفوعاً، ومنهم من صحّحه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
تنبيه: لم يبين المؤلف كيفية رفع اليدين وقد سبق ذلك في أول صفة الصلاة، وأما في صلاة العيد فورد عن عمر - -: "أنه كان يرفع يديه مع كل تكبيرة في الجنازة والعيد" ، وكذلك عن زيد بن ثابت - - رواهما الأثرم .
قوله: "ويقول: الله أكبر كبيراً..." ، أي: ويقول بين كل تكبيرة وأخرى: الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً... إلخ.
وهذا الذكر يحتاج إلى نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه ذكر معين محدد في عبادة، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك، وإنما أثر عن ابن مسعود - - أنه قال: "يحمد الله، ويثني عليه، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم" .
والحمد والثناء على الله يمكن أن يكون بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) ، هذا حمد، وثناء بنص الحديث الذي جاء فيه: "إذا قال المصلي: { الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } قال الله: "حمدني عبدي" ، وإذا قال: {الرحمن الرحيم قال: "أثنى عليّ عبدي" ، أما بهذا الذكر الطويل فهذا يحتاج إلى نص، ولا نص في ذلك.
وقال بعض العلماء: يكبّر بدون أن يذكر بينهما ذكراً.(168/21)
وهذا أقرب للصواب، والأمر في هذا واسع، إن ذكر ذكراً فهو على خير، وإن كبّر بدون ذكر، فهو على خير.
وقوله: "الله أكبر كبيراً" ، كلمة "أكبر" هنا مطلقة غير مقيدة، ومعلوم أن دلالتها على الكمال عند الإطلاق أقوى من دلالتها على الكمال عند التقييد، أي: لو قلت: "الله أكبر من كذا" صارت مقيدة، وإذا قلت: "الله أكبر" صارت مطلقة، أي: أكبر من كل شيء مهما بلغ عندك من التصور فالله أكبر - عز وجل -، وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم، والسماوات السبع والأرضون السبع في كفه - عز وجل - كخردلة في كف أحدنا، فلا أحد يتصوره فالله أكبر من كل شيء، أما التقييد فلا شك أنه ينقص من تصور الكمال من هذه الكلمة، ولهذا يوجد في بعض المقررات للصبيان الصغار: الله أكبر من أبيك، أكبر من التلفاز، أكبر من الحجرة، فالصبي إذا قلت له: الله أكبر من التلفاز، يتصور كبر الله داخل الحجرة فقط، وهذا خطأ عظيم قد يكون مخلاً بالعقيدة، وهؤلاء صبيان لا يتصورون الشيء إلا على حسب ما يشاهدون، فليس لهم عقول كبيرة ولهذا ينبغي أن ينظر في المقررات من طلبة العلم، ولا يحقرنّ أحد نفسه، ولكن لا يتكلم حتى يعرضه على من هو أكبر منه في العلم ليتبين الأمر، ودعونا نتعاون، ونعاون المسؤولين على مثل هذه الأمور؛ لأنهم قد يكلون الشيء إلى شخص لا يقدر هذه التقديرات، ويظن أن هذا هو الأسلوب الذي يناسب عقل الصبي، صحيح أنه يناسب عقله من جهة أن تقرن شيئاً بشيء يفهمه، لكن بالنسبة للرب - عز وجل - لا تجعل عقله يقرن الرب - عز وجل - بشيء من المخلوقات فيقع في الهاوية.
نعم، لو أن أحداً جادلك في كبر شخص، أو كبريائه، وقلت: إن كان صاحبك كبيراً فالله أكبر منه، فهذا لا بأس به كقوله تعالى: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(لأنفال: من الآية30)وكقوله: )وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) (المؤمنون:59)(168/22)
أما عند الثناء المطلق، فهذا لا ينبغي أن يقيد بشيء.
وقوله: "كبيراً" هذه حال من الضمير المستتر في "أكبر"؛ لأن "أكبر" اسم تفضيل خلافاً لمن قال: "الله أكبر" بمعنى كبير، أي: بمعنى اسم الفاعل، فإن هذا غلط؛ لأن اسم الفاعل أقل في الدلالة على الكمال من اسم التفضيل؛ لأن اسم التفضيل يمنع تساوي المفضل والمفضل عليه في الوصف، واسم الفاعل لا يمنع ذلك، فإذا قلت: "زيد عالم" لم يمنع أن يساويه عمرو في العلم إذا كان عالماً، وإذا قلت: "زيد أعلم من عمرو" دلّ على أنه لا يساويه وأن زيداً أعلم.
وبعض العلماء - رحمهم الله -: يفسرون الله أعلم، والله أكبر، وما أشبه ذلك باسم الفاعل حذراً من أن يكون هناك مفاضلة بين الخالق والمخلوق، ولا شك أن هذا خطأ، فالمفاضلة حاصلة ولا تستلزم تساوي المفضل والمفضل عليه، بل لا تقتضي ذلك بخلاف اسم الفاعل.
قوله: "والحمد لله كثيراً" ، الحمد تفسيره: وصف المحمود بالكمال، وليس الثناء على المحمود بالكمال؛ لأن الثناء إنما يقال عند التكرار، وقد فرّق الله بينهما في الحديث القدسي في قوله: "إذا قال - أي المصلي - الحمد لله رب العالمين} قال: حمدني عبدي، وإذ قال: {الرحمن الرحيم } قال: أثنى عليَّ عبدي" ، فجعل الثناء بتكرار الوصف - أي: وصف الكمال -.
وقوله: "كثيراً" حال من الحمد، أي: الحمد لله حال كونه أي: الحمد كثيراً، ويجوز أن يكون صفة لمصدر محذوف، والتقدير حمداً كثيراً.
قوله: "وسبحان الله" ، "سبحان" بمعنى تسبيح، فهي اسم مصدر، وهنا قاعدة في اسم المصدر يقولون: اسم المصدر هو: (ما دل على معنى المصدر دون حروفه) .
فسبحان مأخوذة من سبّح، والمصدرُ من سبّح (تسبيحٌ)
إذاً سبحان بمعنى تسبيح، لكن ليس فيه حروف المصدر فيكون اسم مصدر، ومثله (كلام) اسم مصدر، والمصدر (تكليم)، و(سلام) اسم مصدر، والمصدر (تسليم)
قوله: "بكرة" ، أي: في الصباح.
قوله: "أصيلاً" ، أي: في المساء.(168/23)
قال الله تعالى: { )فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (الروم:17)
وتنزيه الله يكون بأمور ثلاثة:
الأول: تنزيهه عن كل عيب.
الثاني: تنزيهه عن كل نقص في صفات كماله.
الثالث: تنزيهه عن مماثلة المخلوقين.
مثال الأول: العمى، والصمم، والجهل، وما أشبه ذلك.
ومثال الثاني: التعب عند الفعل، أي: يقدر على الفعل لكن مع تعب، فهذا ينزّه الله عنه، قال الله تعالى: )وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) (قّ:38)
ومثال الثالث: قوله تعالى: ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11)، ولأنه لو ماثل المخلوق لكان ناقصاً، فإلحاق الكامل بالناقص يجعله ناقصاً، بل محاولة المقارنة بين الناقص والكامل يجعل الكامل ناقصاً على حد قول الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل: إن السيف أمضى من العصا قوله: "وصلى الله على محمد" ، صلاة الله على عبده ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، هكذا اشتهر عن أبي العالية - -.
وفي نسخة: "وصلى الله على سيدنا" ، ولا شك أنه سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم وأنه سيدنا وإمامنا وقدوتنا وأسوتنا، ولكن لا أعلم حديثاً عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه وصف نفسه بالسيادة في الصلاة عليه، وإذا علمتم بحديث فدلونا عليه جزاكم الله خيراً. فكل الأحاديث: "اللهم صلّ على محمد" ، والصحابة يقولون: قال النبي صلى الله عليه وسلم، وما سمعنا أحداً يقول: قال: سيدنا، ولكن المتأخرين صاروا يقولون: "سيدنا" ونحن نقول: هو سيدنا لا شك، ولكن يحتاج في صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى توقيف في هذا.
قوله: "النبي" أي: محمد النبي صلى الله عليه وسلم(168/24)
قوله: "وآله" ، آله: أتباعه على دينه؛ لأن الآل إن ذكر معهم الأتباع والأصحاب، فهم المؤمنون من قرابته، وإن لم يذكر معهم ذلك فهم أتباعه على دينه، هذا هو الصحيح.
قوله: "وسلّم تسليماً كثيراً" ، أي: سلامة من كل آفة. والجملة في "صلى وسلم" خبرية بمعنى الدعاء.
قوله: "وإن أحب قال غير ذلك" ، أي: أن الأمر واسع، إن أحب قال غير ذلك، وإن أحب أن لا يقول شيئاً فلا بأس، المهم أن يكبّر التكبيرات الزوائد.
قوله: "ثم يقرأ جهراً" ، أي: يقرأ الفاتحة وما بعدها من السور جهراً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ، وهكذا كان يقرأ جهراً في كل صلاة جامعة، كما جهر في صلاة الجمعة، وجهر في صلاة الكسوف؛ لأنها جامعة، وكذلك في الاستسقاء.
قوله: "في الأولى بعد الفاتحة بسبّح، وبالغاشية في الثانية" ، لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه كان يقرأ بالأولى بسبّح، وبالثانية بالغاشية" ، كما ثبت عنه أنه كان يقرأ في الأولى بـ{ ق والقرآن المجيد}، وفي الثانية بـ{إقتربت الساعة وإنشق القمر } ، ولهذا ينبغي للإمام إظهاراً للسنّة وإحياء لها، أن يقرأ مرة بهذا، ومرةً بهذا، ولكن يراعي الظروف، مثل لو كان الوقت بارداً، وكان انتظار الناس يشق عليهم فالأفضل أن يقرأ بسبح والغاشية، وكذلك لو كان الوقت حاراً، وكذلك في عيد الأضحى؛ لأن الناس يحبون العجلة من أجل ذبح ضحاياهم.
وإذا لم يكن هناك مشقة، فالأفضل أن يقرأ بهذا مرة، وبهذا مرة.
فالسنن الميتة أي المهجورة ينبغي لطلبة العلم أن يحيوها، لكن إذا خافوا استنكار الناس لها، فليمهدوا لها أولاً، لا سيما إذا كان طالب العلم صغيراً لا يُهْتَمُّ بكلامه وينتقد، فهنا ينبغي أن يمهد أولاً؛ لأجل أن يروّض أفكار الناس على قبول هذا الشيء.(168/25)
فمثلاً: لو أن واحداً من علمائنا الكبار المشهود لهم بالثقة والعلم والأمانة في الدين فعل سنّة لا يعلم عنها الناس لوجدت الناس يقولون: سبحان الله! ما كنّا علمنا أن هذه سنّة، جزاه الله خيراً فتح لنا باباً من العلم، لكن لو فعلها أو قالها طالب علم صغير لقالوا: ما هذا الدين الجديد؟ وأخذوه والعياذ بالله بالسب والشتم، فينبغي للإنسان أن يكون حكيماً.
قوله: "فإذا سلم خطب خطبتين" ، أي: إذا سلم الإمام من الصلاة يخطب خطبتين، وإن خطب غيره فلا بأس كالجمعة، فيجوز أن يخطب واحد، ويصلي آخر.
وقوله: "خطبتين" هذا ما مشى عليه الفقهاء - رحمهم الله - أن خطبة العيد اثنتان؛ لأنه ورد هذا في حديث أخرجه ابن ماجه بإسناد فيه نظر، ظاهره أنه كان يخطب خطبتين ، ومن نظر في السنّة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة ، لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهنّ، فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل، مع أنه بعيد؛ لأنه إنما نزل إلى النساء وخطبهنّ لعدم وصول الخطبة إليهن وهذا احتمال.
ويحتمل أن يكون الكلام وصلهن ولكن أراد أن يخصهنّ بخصيصة، ولهذا ذكرهنّ ووعظهنّ بأشياء خاصة بهنّ.
قوله: "كخطبتي الجمعة" ، أي: يخطب خطبتين كخطبتي الجمعة في الأحكام حتى في تحريم الكلام، لا في وجوب الحضور، فخطبة الجمعة يجب الحضور إليها؛ لقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة:9) ، وأما خطبتا العيد فلا يجب الحضور إليهما؛ بل للإنسان أن ينصرف من بعد الصلاة فوراً لكن الأفضل أن يبقى [لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة فليجلس، ومن أحبّ أن يذهب فليذهب" ] وإذا بقي حرم عليه الكلام.(168/26)
وقال بعض أهل العلم: لا يجب الإنصات لخطبتي العيدين؛ لأنه لو وجب الإنصات لوجب الحضور، ولحرم الانصراف، فكما كان الانصراف جائزاً، وكان الحضور غير واجب، فالاستماع ليس بواجب.
ولكن على هذا القول لو كان يلزم من الكلام التشويش على الحاضرين حرم الكلام من أجل التشويش، لا من أجل الاستماع، وبناء على هذا لو كان مع الإنسان كتاب أثناء خطبة الإمام خطبة العيد فإنه يجوز أن يراجعه؛ لأنه لا يشوش على أحد.
أما على القول الذي مشى عليه المؤلف: فالاستماع واجب ما دام حاضراً.
قوله: "يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع" ، يعني: يستفتح الخطبة الأولى بتسع تكبيرات متتابعات والخطبة الثانية بسبع تكبيرات متتابعات.
والدليل على ذلك ما يلي:
- روي في هذا حديث، لكنه أعلّ بالانقطاع أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يستفتح الأولى بتسع تكبيرات والثانية بسبع" ، وصارت الأولى أكثر؛ لأنها أطول، وخُصّت بالتسع والسبع؛ من أجل القطع على وتر.
- أن الوقت وقت تكبير، ولهذا زيدت الصلاة بتكبيرات ليست معهودة، وكان هذا اليوم يوم تكبير، فمن أجل هذا شُرع أن يبدأ الخطبتين بالتكبير، فصار لهذا الحكم دليل وتعليل.
وقال بعض العلماء: إنه يبتدئ بالحمد كسائر الخطب، وكما هي العادة في خطب النبي صلى الله عليه وسلم أنه يبدأ خطبه بحمد الله، ويثني عليه.
وعلى هذا فيقول: الحمد لله كثيراً، والله أكبر كبيراً، فيجمع بين التكبير والحمد.
قوله: "يحثهم" الفاعل الخطيب، والمفعول به يعود على الناس، أي: يحث الناس.
قوله: "على الصدقة" أي: صدقة الفطر، فـ(ال) هنا للعهد الحضوري؛ لأن هذا الوقت وقت صدقة الفطر.
قوله: "ويبين لهم ما يخرجون" أي: يبيّن لهم ما يخرجون، فيبيّن لهم النوعية من أنها تخرج من الطعام من البر، والتمر، والرز، والذرة لمن كانت طعامه، والشعير لمن كان طعامه، وما أشبه ذلك.(168/27)
ويبيّن لهم القدر وهو صاع بالصاع النبوي، وهو أقل من الصاع المعهود عندنا "بخمس وخمس الخمس"، يقول شيخنا ابن سعدي - -: إن الصاع النبوي زنته ثمانون ريالاً فرنسياً، وزنة الصاع عندنا مئة وأربعة ريالات، فيكون الصاع عندنا زائداً على الصاع النبوي "الربع وخُمس الربع".
ويبيّن لهم الصفة فيقول: أخرجوا من الجيد؛ لأنه أفضل، ويبين أن الرديء كالمسوس والمبلول والمعفن لا يجزئ.
هكذا ذكر المؤلف أنه يبيّن زكاة الفطر في خطبة العيد، ولكن الصواب أنه يبين ذلك في خطبة آخر جمعة من رمضان، ويبين في خطبة العيد حكم تأخير صدقة الفطر عن صلاة العيد، وفي الحديث عن ابن عباس في السنن: "من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعدها فهي صدقة من الصدقات" .
قوله: "ويرغبهم في الأضحى..." إلخ، أي: يرغِّب الناس في خطبة عيد الأضحى في الأضحية، ويبيّن لهم فضلها، وأجرها وثوابها.
قوله: "ويبيّن لهم حكمها" ، يعني: هل هي سنّة أو واجبة، وسيأتي إن شاء الله بيان ذلك في بابه.
وكذلك يبيّن لهم ما يضحَّى به، وهو ثلاثة أنواع: الإبل والبقر والغنم.
ويبيّن لهم أيضاً مقدار السن مما يضحّى به، وهو أن تكون جذعة من الضأن أو ثنية من الإبل، والبقر، والمعز.
فإن ضحّى بثني من الضأن، فقال جمهور العلماء: إنها تجزئ.
وقال أهل الظاهر: إنها لا تجزئ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن" ، والثنية أكبر من الجذعة فلا تجزئ، اتباعاً لظاهر اللفظ.
ويبيّن لهم في خطبة الأضحى وقت الأضحية، وأنه من بعد صلاة العيد إلى تمام أربعة أيام، أي: يوم العيد وثلاثة أيام بعده، وهي: أيام التشريق على القول الراجح.(168/28)
وما ذكره المؤلف من أنه يبيّن الأضحية وما يتعلق بها في خطبة عيد الأضحى مناسب؛ كما جاءت به السنّة قوله: "والتكبيرات الزوائد" الزوائد أي: على الواجبة في الصلاة، وهي في الركعة الأولى ست على ما مشى عليه المؤلف، وفي الثانية خمس، وسماها زوائد، لأنها زائدة على الركن في الأولى، وفي الثانية زائدة على الواجب.
والدليل على سنية هذه التكبيرات الزوائد: أن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء في صلاته لم يذكر شيئاً من التكبيرات إلا تكبيرة الإحرام .
قوله: "والذكر بينها" سواء في ذلك ما ذكره المؤلف من قوله: "الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً..." إلخ، أو أي ذكر آخر يقوله الإنسان من عند نفسه هو سنّة. وقد سبق البحث في كونه سنّة أو ليس بسنة.
قوله: "والخطبتان سنّة" ، يعني: أن خطبتي العيد سنّة.
واستدلوا على كونها سنّة بأن النبي صلى الله عليه وسلم رخّص لمن حضر العيد أن يقوم ولا يحضر الخطبة ولو كانت واجبة لوجب حضورها، هكذا قالوا.
ولكن هذا التعليل عليل في الواقع؛ لأنه لا يلزم من عدم وجوب حضورها عدم وجوبها، فقد يكون النبي عليه الصلاة والسلام أذن للناس بالانصراف، وهي واجبة عليه فيخطب فيمن بقي، ثم إن الغالب ولا سيما في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا ينصرف أحد إلا من ضرورة، ولهذا لو قال أحد بوجوب الخطبة، أو الخطبتين في العيدين لكان قولاً متوجهاً؛ ولأن الناس في صلاة العيد في اجتماع كبير لا ينبغي أن ينصرفوا من غير موعظة وتذكير.
قوله: "ويكره التنفل قبل الصلاة وبعدها في موضعها" ، أي: يكره لمن حضر صلاة العيد أن يتطوع بنفل قبل الصلاة أو بعدها في موضعها، أي: موضع صلاة العيد، فيكره التنفل قبل الصلاة أو بعدها في الموضع، أما في بيته فلا كراهة.
وقول المؤلف: "يكره" ، ظاهره أنه مكروه للإمام وغير الإمام.(168/29)
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مصلى العيد وصلى العيد ركعتين لم يصلِّ قبلها ولا بعدها .
وفي هذا الاستدلال نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى مصلى العيد ليصلي بالناس فصلى بهم، ثم انصرف، كما أنه يوم الجمعة يخرج إلى المسجد ويخطب ويصلي وينصرف ويصلي في بيته، فهل يقول أحد: إنه يكره أن يصلي الإنسان في يوم الجمعة في المسجد قبل الصلاة وبعدها؟ ما سمعنا أحداً قال بهذا، فكذلك نقول في صلاة العيد، ولا فرق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم إمام يُنتظر ولا يَنْتَظِر، فجاء فصلى بالناس، ثم انصرف.
وكوننا نأخذ الكراهة من مجرد هذا الترك فيه نظر، ولو قالوا: إن السنّة أن لا يصلي لكان أهون من أن يقال: إنه يكره؛ لأن الكراهة حكم شرعي يحتاج إلى دليل نهي؛ إذ إن الكراهة لا تثبت إلا بنهي، إما نهي عام مثل: "كل بدعة ضلالة" ، وإما نهي خاص، ثم إن ترك النبي عليه الصلاة والسلام التنفل قبل الصلاة واضح السبب؛ لأنه إمام منتظر فجاء فصلى وانصرف، لكن نهي المأموم عن التنفل، والقول بكراهته له لا يخلو من نظر.
وقال بعض العلماء رحمهم الله: إن الصلاة غير مكروهة في مصلى العيد لا قبل الصلاة ولا بعدها، وقال: بيننا وبينكم كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم فأين الدليل على الكراهة؟ وهذا خير وتطوع، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: "عليك بكثرة السجود" ، وقال: "أعِنِّي على نفسك بكثرة السجود" ، فكيف تقولون بالكراهة؟
وهذا مذهب الشافعي - - في هذه المسألة، وهو الصواب.
وقال بعض العلماء: تكره الصلاة بعدها لا قبلها؛ [لأن المشروع أن ينصرف.
وقال بعض العلماء: تكره قبلها لا بعدها.
وبعض العلماء قال: يكره للإمام دون المأموم، وهذا قول للشافعي، أعني التفريق بين الإمام وغيره.(168/30)
والصحيح أنه لا فرق بين الإمام وغيره، ولا قبل الصلاة ولا بعدها، فلا كراهة، لكن لا نقول: إن السنّة أن تصلي، فقد يقال: إن بقاء الإنسان يكبّر الله قبل الصلاة أفضل، إظهاراً للتكبير والشعيرة، وهذا في النفل المطلق.
وأما تحية المسجد فلا وجه للنهي عنها إطلاقاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها، حتى إن كثيراً من العلماء قال: إنها واجبة، فإذا كانت سنّة مؤكدة كما تدل على ذلك السنّة، فكيف نقول لمن دخل مصلى العيد، لا تصل يكره لك ذلك؟
فإن قال قائل: مصلى العيد ليس بمسجد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" .
قلنا: بل إن مصلى العيد مسجد، ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر النساء أن يخرجن إلى صلاة العيد، وأمر الحيض أن يعتزلنَ المصلى . والمرأة لا تعتزل إلا المسجد، أما مصلاها في بيتها، أو مصلى رجل في بيته فإن الحائض لا يحرم عليها أن تمكث فيه، فكون النبي صلى الله عليه وسلم يعطي مصلى العيد حكم المسجد بالنسبة لمنع الحائض منه دليل على أنه مسجد، وعلى هذا نص فقهاؤنا، فقال صاحب المنتهى : "ومصلى العيد مسجد لا مصلى الجنائز" ، وهو عمدة فقهاء الحنابلة المتأخرين.
قوله: مصلى الجنائز فإنهم كانوا فيما سبق يجعلون للجنائز مصلى خاصاً يصلى فيه على الجنائز، وقد اقترح بعض الناس الآن أن يجعل مصلى خاص عند المقبرة يصلى فيه على الجنائز، وهذا محل دراسة، هل يوافق على هذا، أو يبقى الناس على ما هم عليه يصلون على جنائزهم في مساجدهم؛ لأنه المعتاد؛ ولأنه قد يكثر الجمع، فلا يسعهم المصلى الذي يجعل عند المقبرة.(168/31)
فالمهم أن مصلى العيد مسجد له أحكام المساجد، وأنه إذا دخله الإنسان لا يجلس حتى يصلي ركعتين، وأنه لا نهي عنهما بلا إشكال، وأما أن يتنفل بعدهما فنقول: لا بأس به، لكن الأفضل للإمام أن يبادر بصلاة العيد إن كان قد دخل وقتها لئلا يحبس الناس، وأما المأموم فالأفضل له إذا صلى تحية المسجد أن يتفرغ للتكبير والذكر.
والسنّة للإمام أن لا يأتي إلا عند الصلاة، وينصرف إذا انتهت فلا يتطوع قبلها ولا بعدها اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، أما المأموم فالأفضل له أن يتقدم ليحصل له فضل انتظار الصلاة.
قوله: "ويسنّ لمن فاتته أو بعضها قضاؤها على صفتها" السنّة عند الفقهاء: ما أثيب فاعلها، ولم يعاقب تاركها، فمن فاتته صلاة العيد سُنّ له أن يقضيها، وهذا لا ينافي قولنا: إن صلاة العيد فرض كفاية، لأن الفرض سقط بالصلاة الأولى.
وقوله: "أو بعضها" بالرفع عطفاً على الضمير المستتر في فاتته.
وقوله: "قضاؤها" نائب فاعل يسنّ.
وقوله: "على صفتها" ، أي: صفة الصلاة ركعتين بالتكبيرات الزوائد.
هذا هو المذهب أن قضاءها سنّة، وأن الأفضل أن يكون على صفتها.
وعلى هذا فلو ترك القضاء فلا إثم عليه.
ولو قضاها كراتبة من الرواتب فجائز؛ لأن كونها على صفتها على سبيل الأفضلية وليس بواجب.
والدليل على سنيّة القضاء قوله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" . ولكن في هذا الاستدلال نظر؛ لأن المراد بالحديثين الفريضة، أما هذه فصلاة مشروعة على وجه الاجتماع، فإذا فاتت فإنها لا تقضى إلا بدليل يدل على قضائها إذا فاتت، ولهذا إذا فاتت الرجل صلاة الجمعة لم يقضها، وإنما يصلي فرض الوقت وهو الظهر.(168/32)
ولهذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية - - إلى أنها لا تقضى إذا فاتت، وأن من فاتته، فلا يسنّ له أن يقضيها؛ لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنها صلاة ذات اجتماع معين، فلا تشرع إلا على هذا الوجه.
فإن قال قائل: أليست الجمعة ذات اجتماع على وجه معين، ومع ذلك تقضى؟
فالجواب: الجمعة لا تقضى، وإنما يصلى فرض الوقت، وهو الظهر، وصلاة العيد أيضاً نقول: فات الاجتماع فلا تقضى، وليس لهذا الوقت فرض، ولا سنّة أيضاً.
فهي صلاة شُرعت على هذا الوجه، فإن أدركها الإنسان على هذا الوجه صلاها، وإلا فلا.
وبناءً على هذا القول يتضح أن الذين في البيوت لا يصلونها، ولهذا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يخرجوا إليها، وأمر النساء العواتق، وذوات الخدور، وحتى الحيَّض أن يشهدن الخير ودعوة المسلمين ، ولم يقل: ومن تخلف فليصلِّ في بيته.
فإذا قال قائل: لماذا لا نقضيها فإن كنا مصيبين فهذا هو المطلوب، وإن كنا غير مصيبين فإننا مجتهدون؟
فالجواب: نعم، الإنسان إذا اجتهد وفعل العبادة على اجتهاد فله أجر على اجتهاده وعلى فعله أيضاً، لكن إذا تبيّنت السنّة، فلا تمكن مخالفتها.
قوله: "ويسنّ التكبير المطلق في ليلتي العيدين" ، أي: يسنّ التكبير المطلق أي المشروع في كل وقت للرجال والنساء والصغار والكبار في البيوت والأسواق والمساجد وغيرها إلا في الأماكن التي ليست محلاً لذكر الله تعالى.
وأفادنا المؤلف - - أن التكبير ينقسم إلى قسمين:
- مطلق.
- مقيد.
فالمطلق سبق القول فيه.
والمقيد هو الذي يتقيد بأدبار الصلوات، وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه.
وقوله: "في ليلتي العيدين" ، أي: عيدي الفطر والأضحى وذلك من غروب الشمس.(168/33)
ودليل ذلك في ليلة عيد الفطر قوله تعالى: ) وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ)(البقرة: من الآية185)، فقال: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) وإكمال العدة يكون عند غروب الشمس آخر يوم من رمضان، إما بإكمال ثلاثين، وإما برؤية الهلال، فإذا غابت الشمس آخر يوم من رمضان سنّ التكبير المطلق من الغروب إلى أن تفرغ الخطبة، لكن إذا جاءت الصلاة فسيصلي الإنسان ويستمع الخطبة بعد ذلك.
ولهذا قال بعض العلماء: من الغروب إلى أن يكبّر الإمام للصلاة.
ولم يفصح المؤلف - - بحكم الجهر والإسرار في هذا التكبير ولكن نقول: إن السنّة أن يجهر به إظهاراً للشعيرة، لكن النساء يكبرن سراً إلا إذا لم يكن حولهن رجال فلا حرج في الجهر.
وقوله: "في ليلتي العيدين" أي: عيد الأضحى، وعيد الفطر. والشريعة الإسلامية ليس فيها إلا ثلاثة أعياد فقط
عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع يوم الجمعة.
وفي كلٍّ منها مناسبة.(168/34)
أما مناسبة عيد الفطر، فلأن الناس أدوا فريضة من فرائض الإسلام، وهي الصيام، فجعل لهم الله - عز وجل - هذا اليومَ يومَ عيدٍ يفرحون فيه، ويفعلون فيه من السرور واللعب المباح ما يكون فيه إظهار لهذا العيد، وشكر لله - عز وجل - لهذه النعمة، لكنهم لا يفرحون بأنهم تخلصوا من الصوم، وإنما يفرحون بأنهم تخلصوا بالصوم، والفرق أن من نوى التخلص من الصوم يشعر أن الصوم ثقيل عليه، وأنه فرح أنه تخلص منه، وأما من نوى التخلص به فيفرح بأنه تخلص به من الذنوب؛ لأن من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. فالموفق يفرح بعيد الفطر؛ لأنه تخلص به من الذنوب حيث قد يغفر له ما تقدم من ذنبه، والغافل يفرح بعيد الفطر؛ لأنه تخلص من الصوم الذي يجد فيه العناء والمشقة، وفرق بين الفرحين.
أما عيد الأضحى فمناسبته أيضاً ظاهرة؛ لأنه يأتي بعد عشر ذي الحجة التي يسنّ للإنسان فيها الإكثار من ذكر الله - عز وجل -، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من أيام العمل الصالح فيهنّ أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر"؛ قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء" . كما أنه بالنسبة للحجاج مناسبته ظاهرة؛ لأن الواقفين بعرفة يطلع الله عليهم، ويشهد ملائكته بأنهم يرجعون مغفوراً لهم فيتخلصون من الذنوب، فكان يوم العيد الذي يلي يوم عرفة كيوم العيد في الفطر الذي يلي رمضان، ففيه نوع من الشكر لله عز وجل على هذه النعمة.(168/35)
أما يوم الجمعة فمناسبته ظاهرة أيضاً؛ لأن هذا اليوم فيه المبدأ والمعاد، ففيه خلق آدم، وفيه أخرج من الجنة، ونزل إلى الأرض لتعمر الأرض ببنيه، وفيه أيضاً تقوم الساعة، فهو يوم عظيم؛ ولهذا صار يوم عيد للأسبوع، وما عدا ذلك فليس في الشريعة الإسلامية أعياد، حتى ما يفعله بعض المسلمين اليوم من عيد لغزوة بدر في السابع عشر من رمضان، وما يفعله بعض المسلمين من عيد لميلاد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يفعله بعض المسلمين من عيد للمعراج ليلة سبع وعشرين من رجب، كل هذا لا أصل له، بل بعضه ليس له أصل حتى من الناحية التاريخية، فإن المعراج ليس في ليلة سبع وعشرين من رجب، بل إنه في ربيع الأول قبل الهجرة بنحو سنة أو سنتين أو ثلاث حسب الاختلاف بين العلماء، والميلاد أيضاً ليس في يوم الثاني عشر من ربيع الأول، بل حقّق الفلكيون المتأخرون بأنه يوم التاسع من ربيع الأول.
أما بدر فالمشهور عند المؤرخين أنها في السابع عشر من رمضان، ولكن مع ذلك لا يهمنا أن يصح التاريخ، أو لا يصح، فالذي يهمنا هل كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يتخذون مثل هذه الأيام أعياداً؟
الجواب: لا، إذاً إذا اتخذناها نحن أعياداً، فإن مضمون ذلك أحد أمرين:
الأول: أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه جاهلين ما في هذه الأيام من فضل.(168/36)
الثاني: أن يكونوا عالمين، ولكنهم لم يظهروا فضلها، وكتموه عن الناس، وكلا الأمرين شر، أي: لو اتهمنا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأنهم لم يعلموا فضل هذه الأيام لوصفناهم بالجهل، وكان هؤلاء المتأخرون أعلم منهم بما جعل الله تعالى لهذه المناسبات من الفضل، وإن قلنا: إنهم يعلمون، ولكنهم لم يفعلوا ذلك كتماناً للحق وتلبيساً على الناس لكان هذا أيضاً شراً عظيماً، فكيف يعلم الرسول عليه الصلاة والسلام أن لهذه المناسبات أعياداً ثم لا يشرعها للأمة، والله تعالى قد قال له: )يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ )(المائدة: من الآية67)، فإذا كانت هذه المناسبات العظيمة من ولادة النبي عليه الصلاة والسلام وغزوة بدر والمعراج وغيرها، ليس لها أعياد، فما دونها من باب أولى ألّا يكون لها أعياد، ويكفينا في هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هدي النبي صلى الله عليه وسلم خير الهدي، كما كان عليه الصلاة والسلام يعلنه في كل خطبة جمعة يقول: "خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم " .
قوله: "وفي فطر آكد" ، أي: التكبير في عيد الفطر آكد من التكبير في عيد الأضحى؛ لأن الله نص عليه في القرآن فقال: ) وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(البقرة: من الآية185)، وشيء نص عليه القرآن بعينه يكون آكد مما جاء على سبيل العموم.
أما عيد الأضحى فإنه داخل في عموم العمل الصالح الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح فيهن أحبّ إلى الله من هذه الأيام العشر" ، وهو داخل في عموم قوله تعالى: ) وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَام)(الحج: من الآية28)وقال بعض العلماء: إن التكبير في الأضحى أوكد من وجهين:(168/37)
الوجه الأول: أنه متفق عليه بين العلماء، والفطر مختلف فيه.
الوجه الثاني: أن في الأضحى تكبيراً مقيداً عقب الصلوات، والفطر ليس فيه تكبير مقيد على رأي أكثر العلماء.
فكل واحد منهما أوكد من الثاني من وجه؛ فمن جهة أن تكبير الفطر مذكور في القرآن يكون أوكد، ومن جهة أن التكبير في عيد الأضحى متفق عليه، وأنَّ فيه تكبيراً مقيداً يقدم على أذكار الصلاة، يكون من هذه الناحية أوكد.
قوله: "وفي كل عشر ذي الحجة" ، أي: ويسنّ التكبير المطلق في كل عشر ذي الحجة.
وتبتدئ من دخول شهر ذي الحجة إلى آخر اليوم التاسع، وسميت عشراً، وهي تسع من باب التغليب.
والدليل على مشروعية التكبير في عيد الأضحى قوله صلى الله عليه وسلم: "ما من أيام العمل الصالح..." ، فتدخل في عموم الحديث.
وكذلك عموم قوله تعالى(وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَات)ٍ.
ولو قال قائل: الذكر في الآية أعم من التكبير؟
فيقال: الدليل الخاص: حديث أنس " أنه سئل كيف كنتم تصنعون في الدفع من منى إلى عرفات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: منّا المكبِّر ومنّا المُهِلّ" . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقرهم على ذلك، فيدل هذا على أن التكبير المطلق سنّة.
ويدل لذلك أيضاً: فعل الصحابة، فقد كان أبو هريرة وابن عمر يخرجان إلى السوق يكبران فيكبر الناس بتكبيرهما .
قال في الروض: "ولو لم يرَ بهيمة الأنعام" ، و"لو" هنا إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء يقول: لا يسنّ التكبير في هذه الأيام إلا إذا رأى بهيمة الأنعام؛ لأن الله تعالى قال: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَام)(الحج: من الآية28فإذا رأيت بهيمة الأنعام فاذكر الله، وإذا لم ترها فلا.
لكن المشهور عندنا؛ مذهب الحنابلة: أنه يكبر وإن لم يرها.(168/38)
واختلف في محل هذا التكبير المقيد، هل هو قبل الاستغفار وقبل "اللهم أنت السلام ومنك السلام"، أو بعدهما؟
قال بعض العلماء: يكون قبل الاستغفار وقبل "اللهم أنت السلام ومنك السلام"، فإذا سلم الإمام وانصرف، كبّر رافعاً صوته حسب ما سيذكر المؤلف، ثم يستغفر ويقول: "اللهم أنت السلام ومنك السلام".
والصحيح أن الاستغفار، وقول: "اللهم أنت السلام" مقدم؛ لأن الاستغفار وقول: "اللهم أنت السلام" ألصق بالصلاة من التكبير، فإنَّ الاستغفار يسنّ عقيب الصلاة مباشرة؛ لأن المصلي لا يتحقق أنه أتقن الصلاة، بل لا بد من خلل، ولا سيما في عصرنا هذا، فالإنسان لا يأتيه الشيطان إلا إذا كبّر للصلاة.
فالشيطان - أعاذنا الله وإياكم منه - إذا دخل الإنسان في الصلاة فتح عليه باب الوسواس، والعجيب أنه مع انتهاء الصلاة تذهب عنه هذه الهواجيس، ولكن هل لهذا الداء من دواء؟
الجواب: نعم، فلقد شُكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الداء بعينه، فقال للذي اشتكى: "ذاك شيطان يقال له: خنزب، فإذا أحسست به فاتفل عن يسارك ثلاث مرات، وقل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثلاث مرات، فيذهب الله ذلك عنك، ففعل فأذهب الله ذلك عنه" .
قوله: "والمقيد عقب كل فريضة في جماعة" ، أفادنا المؤلف - - أن المقيد يختص بالفرائض، وهي الصلوات الخمس، والجمعة؛ لقوله: "عقب كل فريضة" ، وعلى هذا فالنافلة لا يسنّ بعدها تكبير مقيد.
وأفادنا قوله: "في جماعة" أنه لو صلاها منفرداً، فلا يسن له التكبير المقيد. وكذا النساء في بيوتهن لا يسن لهن تكبير مقيد؛ لأنهن غالباً لا يصلين جماعة.
والإنسان الذي تفوته الصلاة في الجماعة ويصليها منفرداً لا يسنّ له أن يكبر التكبير المقيد.
وكذلك قيدوا ذلك بالمؤداة فخرج به المقضية. فالشروط ثلاثة:
- أن تكون الصلاة فريضة.
- أن تكون جماعة.
- أن تكون مؤداة.
فلو صلى وحده، أو صلى نافلة، أو صلى قضاءً لم يشرع له التكبير المقيد، حتى ولو كانوا جماعة.(168/39)
وقال بعض العلماء: إن التكبير المقيّد سنّة لكل مصلٍّ، فريضة كانت الصلاة أو نافلة، مؤداة أو مقضية، للرجال وللنساء في البيوت.
والقول الأول أخص، وهذا أعم.
وقال بعض العلماء: إنَّه سنّة في الفرائض، مؤداة كانت أم مقضية، انفراداً كانت أو جماعة، دون النوافل.
والمسألة إذا رأيت اختلاف العلماء رحمهم الله فيها بدون أن يذكروا نصاً فاصلاً فإننا نقول: الأمر في هذا واسع.
فإن كبّر بعد صلاته منفرداً فلا حرج عليه، وإن ترك التكبير ولو في الجماعة فلا حرج عليه؛ لأن الأمر في هذا واسع والحمد لله.
قوله: "من صلاة الفجر يوم عرفة، وللمحرم من صلاة الظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق".
بيّن المؤلف في هذا وقت ابتداء التكبير المقيد، فابتداؤه من فجر يوم عرفة إلى عصر آخر أيام التشريق، فيكبّر ثلاثاً وعشرين صلاة.
أما المُحْرِم فمن ظهر يوم النحر؛ لأن المُحْرِم مشغول قبل ذلك بالتلبية؛ فالفقهاء - رحمهم الله - يرون أن التلبية ذكر يشرع عقب الفرائض، ويستدلون بعموم ما جاء في الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم "أهلَّ دبر الصلاة" . فقالوا: إن المحرم إذا سلم من الصلاة، ولم يحل التحلل الأول فإنه يسن له أن يلبي تلبية مقيدة دبر الصلاة، ويحل من التحلل الأول ضحى يوم النحر، ولهذا قالوا: التكبير للمحرم من ظهر يوم النحر؛ لأنه إلى فجر يوم النحر وهو لم يحل؛ إذ إن المحرم لا يحل إلا إذا رمى جمرة العقبة يوم العيد، وحلق أو قصر، فإذا رمى جمرة العقبة انقطعت التلبية.
وحينئذ إذا صلى الظهر يوم النحر على كلام المؤلف: يبتدئ التكبير المقيد؛ لأن التلبية انتهت.
فالتكبير باعتبار التقييد والإطلاق على المذهب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: ما فيه تكبير مطلق فقط.
الثاني: ما فيه تكبير مقيد فقط.
الثالث: ما اجتمع فيه الأمران المقيد والمطلق.
فالتكبير المطلق: في عيد الفطر، وفي عيد الأضحى في عشر ذي الحجة إلى أن ينتهي الإمام من خطبته.(168/40)
ويجتمع المقيد والمطلق من فجر يوم عرفة إلى أن تنتهي خطبة صلاة العيد يوم النحر.
والتكبير المقيد: من ظهر يوم النحر إلى عصر آخر أيام التشريق.
والصحيح في هذه المسألة: أن التكبير المطلق في عيد الأضحى ينتهي بغروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، وعلى هذا فيكون فيه مطلق ومقيد من فجر يوم عرفة إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق، والدليل على ذلك:
- قوله تعالى: )وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ )(البقرة: من الآية203)والأيام المعدودات هي أيام التشريق
- قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله" ، ولم يقيده بأدبار الصلوات بل قال: "وذكر لله" فأطلق.
- أن عمر - - كان يكبّر في منى بقبته فيكبّر الناس بتكبيره حتى ترتج منى تكبيراً، وكان ابن عمر يكبّر بمنى تلك الأيام .
فالصواب أن أيام التشريق ويوم النحر فيها ذكر مطلق، كما أن فيها ذكراً مقيداً.
وعلى هذا فالتكبير ينقسم إلى قسمين فقط:
- مطلق.
- مطلق ومقيد.
فالمطلق: ليلة عيد الفطر، وعشر ذي الحجة إلى فجر يوم عرفة.
والمطلق والمقيد: من فجر يوم عرفة إلى غروب الشمس من آخر يوم من أيام التشريق.
قوله: "وإن نسيه قضاه ما لم يحدث أو يخرج من المسجد" وقوله: "نسيه" أي التكبير المقيد، فالضمير هنا يعود على بعض مرجعه؛ لأن مرجعه يعود على التكبير، لكن المراد بعض التكبير وهو المقيد، أي: إن نسي التكبير المقيد بعد الصلاة قضاه، فلو أنه لما سلم من صلاته استغفر، وقال: "اللهم أنت السلام ومنك السلام" وسبّح ناسياً التكبير، فنقول: يقضيه إلا في ثلاث أحوال:
- ما لم يحدث.
- أن يخرج من المسجد.
- أن يطول الفصل.
فإذا أحدث لا يقضيه، فلو سلم ثم أحدث بعد السلام مباشرة ثم ذكر التكبير فلا يقضيه الآن؛ لأن الحدث يمنع من بناء الصلاة بعضها على بعض، فيمنع من بناء ما كان تابعاً لها عليها.(168/41)
والصحيح أنه لا يسقط بالحدث، والفرق بينه وبين الصلاة أن الصلاة يشترط لها الطهارة، وأما الذكر فلا تشترط له الطهارة، بل نقول: اقضه ولو أحدثت، إلا إذا طال الفصل، فإن لم يطل الفصل فاقضه.
وكذا إذا خرج من المسجد، فإنه لا يقضيه، وعللوا ذلك بأنه سنّة فات محلها، وهذا أيضاً فيه نظر.
والصحيح أنه إذا خرج من المسجد، فإن كان بعد طول مكث، فإنه يسقط لا بخروجه، ولكن بطول المكث، وإن خرج سريعاً فإنه لا يسقط فيكبر؛ لأنه إذا كانت الصلاة لو سلم منها ناسياً وخرج من المسجد وذكر قريباً رجع وأتم صلاته فبنى بعضها على بعض مع الخروج من المسجد، فهذا من باب أولى.
فالقول الراجح أن هذا التكبير المقيد يسقط بطول الفصل لا بخروجه من المسجد، ولا بحدثه؛ لأنها سنّة مشروعة عقب الصلاة، وقد فاتت بفوات وقتها، ولأنه إذا طال الفصل لم يكن مقيداً بالصلاة.
قوله: "ولا يسن عقب صلاة عيد" الضمير يعود على التكبير المقيد؛ لأننا نتكلم عن المقيد، فلو صلى العيد، وقال: أريد أن أكبِّر، قلنا: لا تكبر؛ لأنه إذا سلم الإمام من صلاة العيد قام إلى الخطبة وتفرغ الناس للاستماع والإنصات، ولا يكبرون.
ودليل هذا: أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه أنهم كانوا يكبرون عقب صلاة العيد، وما لم يرد عن الشارع من العبادات، فالأصل فيه المنع؛ لأن العبادة لا بد من العلم بأنها مشروعة.
قوله: "وصفته شَفْعاً: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد" .
قوله: "صفته" الضمير يعود على التكبير.
وقوله: "شفعاً" ، أي: الله أكبر مرتين، والثانية مرتين، وتختم الأولى بالإخلاص، والثانية بالحمد.
وهذه المسألة - أي: صفة التكبير - فيها أقوال ثلاثة لأهل العلم:
الأول: أنه شفع كما قال المؤلف: "الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد" .(168/42)
وعللوا ذلك أنه بـ "لا إله إلا الله" يختم بوتر، وكذلك إذا قال: "ولله الحمد".
الثاني: أنه وتر، "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
وعللوا ذلك بأن يكون تكبيره وتراً، فيوتر التكبير في المرة الأولى والثانية بناء على أن كل جملة منفردة عن الأخرى، ولا يصح أن يقال: إن الوتر حصل بقوله: "لا إله إلا الله" أو بقوله: "ولله الحمد"؛ لأنه من غير جنس التكبير، أو يقال: إن النوع مختلف.
الثالث: أنه وتر في الأولى، شفع في الثانية، "الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد".
وعللوا أن التكبير جنس واحد، والجملتان بمنزلة جملة واحدة، فإذا كبّر ثلاثاً واثنتين صارت خمساً وتراً، فيكون الإيتار بالتكبير بناء على أن الجملتين واحدة.
وهذا القول والذي قبله من حيث التعليل أقوى من قول من يقول: إنه يكبر مرتين مرتين؛ لأننا إذا اعتبرنا أن كل جملة منفصلة عن الأخرى صار الإيتار في الثنتين أولى، وإن اعتبرنا أن الجملتين واحدة صار الإيتار في الأولى والشفع في الثانية هو الذي ينقطع به التكبير على وتر.
والمسألة ليس فيها نص يفصل بين المتنازعين من أهل العلم، وإذا كان كذلك فالأمر فيه سعة، إن شئت فكبر شفعاً، وإن شئت فكبر وتراً، وإن شئت وتراً في الأولى وشفعاً في الثانية.
مسألة: قال في الروض: "ولا بأس بقوله لغيره: تقبّل الله منا ومنك كالجواب" ، أي: في العيد، لا بأس أن يقول لغيره: تقبّل الله منّا ومنك، أو عيد مبارك، أو تقبّل الله صيامك وقيامك، أو ما أشبه ذلك؛ لأن هذا ورد من فعل بعض الصحابة - - وليس فيه محذور.
قال: "وكذلك لا بأس بالتعريف عشية عرفة بالأمصار؛ لأنه ذكر ودعاء، وأول من فعله ابن عباس وعمرو بن حريث" . والتعريف عشية عرفة بالأمصار أنهم يجتمعون آخر النهار في المساجد على الذكر والدعاء تشبهاً بأهل عرفة.(168/43)
والصحيح أن هذا فيه بأس وأنه من البدع، وهذا إن صح عن ابن عباس فلعله على نطاق ضيق مع أهله وهو صائم في ذلك اليوم، ودعاء الصائم حري بالإجابة، فلعله جمع أهله ودعا عند غروب الشمس، وأما أن يفعل بالمساجد ويظهر ويعلن، فلا شك أن هذا من البدع؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه، أي: الصحابة، ولكان هذا مما تتوافر الدواعي على نقله.
والعبادة لا يصح أن يقال فيها: لا بأس بها؛ لأنها إما سنّة فتكون مطلوبة، وإما بدعة فيكون فيها بأس. أمَّا أنْ تكون عبادة لا بأس بها، فهذا محل نظر.(168/44)
الشرح الممتع - المجلد الخامس
باب صلاة الكسوف
محمد بن صالح العثيمين
باب صلاة الكسوف
قوله: "باب صلاة الكسوف" العلماء يعبرون بكتاب، وباب، وفصل، ولكل واحد منها اصطلاح.
فإذا كان الكلام جنساً واحداً عبروا بكتاب.
وإذا كان الكلام نوعاً من جنس عبروا بباب.
وإذا كانت مسائل من باب واحد عبروا بفصل.
فإذا كان الموضوع الطهارة، والصلاة...، يعبر بكتاب الطهارة، وكتاب الصلاة، وكتاب الزكاة، وكتاب الصيام، وكتاب الحج لأن كل واحد جنس.
وإذا كان الموضوع باب الوضوء، أو باب الغسل، أو باب التيمم، أو باب الحيض، أو باب إزالة النجاسة، فهذا يعبر عنه بباب؛ لأن الجنس واحد وهو الطهارة، والنوع مختلف لأن هذا وضوء، وهذا غسل، وهذا حيض، وهذه نجاسة.
وإذا كان نوع الموضوع واحداً لكنه مسائل مختلفة، فيعبر بالفصل.
فمثلاً: الغسل تحته مسائل مختلفة يقال:
فصل: موجبات الغسل، ثم يقال: فصل: وصفة الغسل، فصل: والأغسال المستحبة... وهكذا، هذا هو المعروف من اصطلاح العلماء.
وهنا قال: باب صلاة الكسوف، ولم يقل: كتاب صلاة الكسوف؛ لأن هذا نوع من الصلاة، فالصلاة جنس، وهذا نوع.
وقوله: "صلاة الكسوف" من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي باب الصلاة التي سببها الكسوف.
والكسوف والخسوف بمعنى واحد، يقال: كسفت الشمس، وخسفت، وكسف القمر وخسف.
وقال بعضهم: الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، ولعل هذا إذا اجتمعت الكلمتان فقيل: كسوف وخسوف، أما إذا انفردت كل واحدة عن الأخرى فهما بمعنى واحد، ولهذا نظائر في اللغة العربية.
والكسوف عرّفه الفقهاء بقولهم: ذهاب ضوء أحد النيرين أو بعضه.
والحقيقة أنه لا يذهب، وإنما ينحجب، ولهذا نقول: التعبير الدقيق للكسوف: "انحجاب ضوء أحد النيرين" ، أي: الشمس أو القمر "بسبب غير معتاد" .(169/1)
فسبب كسوف الشمس أن القمر يحول بينها وبين الأرض فيحجبها عن الأرض، إما كلها أو بعضها، لكن لا يمكن أن يحجب القمرُ الشمسَ عن جميع الأرض؛ لأنه أصغر منها، حتى لو كسفها عن بقعة على قدر مساحة القمر لم يحجبها عن البقعة الأخرى؛ لأنها أرفع منه بكثير، ولذلك لا يمكن أن يكون الكسوف كلياً في الشمس في جميع أقطار الدنيا أبداً، إنما يكون في موضع معين، مساحته بقدر مساحة القمر.
وإذا قلنا بهذا القول المحقق المتيقن: إنَّ سبب كسوف الشمس هو حيلولة القمر بينها وبين الأرض تبيّن أنه لا يمكن الكسوف في اليوم السابع أو الثامن أو التاسع أو العاشر لبعد القمر عن الشمس في هذه الأيام، إنما يقرب منها في آخر الشهر.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية - -: لا يمكن أن تكسف الشمس إلا في التاسع والعشرين أو الثلاثين أو آخر الثامن والعشرين؛ لأنه هو الذي يمكن أن يكون القمر فيه قريباً من الشمس فيحول بينها وبين الأرض.
كذلك القمر سبب كسوفه حيلولة الأرض بينه وبين الشمس؛ لأن القمر يستمد نوره من الشمس كالمرآة أمام القنديل.(169/2)
فالمرآة أمام القنديل يكون فيها إضاءة نور، لكن لو أطفأت القنديل أصبحت ظلمة، ولهذا سمى الله القمر نوراً، فقال : )تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (الفرقان:61) ، وقال تعالى: )وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً) (نوح:16) ، وعلى هذا التقدير الواقعي لا يمكن أن يكسف القمر في الليلة العاشرة، أو الثامنة، أو التاسعة، أو الحادية عشرة، أو السابعة عشرة، أو العشرين، أو الخامسة والعشرين، أو السابعة والعشرين، فلا يمكن أن يكسف إلا في ليالي الإبدار أي: الرابعة عشرة، والخامسة عشرة؛ لأنها هي الليالي التي يمكن أن تحول الأرض بينه وبين الشمس؛ لأنه في جهة والشمس في جهة، فهو في جهة الشرق، والشمس في جهة الغرب فيمكن أن تحول الأرض بينهما وحينئذٍ ينكسف القمر، قال تعالى)وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) (الاسراء:12)
فالشمس منيرة مبصرة بنفسها، وآية الليل القمر ممحو ليس فيه نور.
إذاً هذا هو سبب كسوف الشمس والقمر، وبه نعرف أنه لا يصح التعبير بقولنا: ذهاب ضوء الشمس.
لكن يمكن أن يصح التعبير في هذا بالنسبة للقمر؛ لأنه إذا حالت الأرض بينه وبين الشمس ذهب نوره؛ لأن أصله جرم مظلم امّحى النور الذي فيه.
ويمكن أن نوجه كلام الفقهاء - رحمهم الله - بأنه ذهاب ضوء أحد النيرين، باعتبار الرؤية، أي: رؤية الناس؛ لأن الناس لا يرون الحاجز بين جرم الشمس أو جرم القمر وهم في الأرض، بخلاف ما لو انحجب ضوؤهما بغمام أو سحاب، فهو معروف.
هذا السبب الذي ذكرته هو السبب الحسي.(169/3)
لكن هناك سبب شرعي لا يعلم إلا عن طريق الوحي، ويجهله أكثر الفلكيين ومن سار على منهاجهم.
والسبب الشرعي هو تخويف الله لعباده، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوف الله بهما عباده" ؛ ولهذا أمرنا بالصلاة والدعاء والذكر وغير ذلك كما سيأتي إن شاء الله.
فهذا السبب الشرعي هو الذي يفيد العباد؛ ليرجعوا إلى الله، أما السبب الحسي فليس ذا فائدة كبيرة، ولهذا لم يبينه النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كان فيه فائدة كبيرة للناس لبيّنه عن طريق الوحي؛ لأن الله - - يعلم سبب الكسوف الحسي، ولكن لا حاجة لنا به، ومثل هذه الأمور الحسية يكل الله أمر معرفتها إلى الناس، وإلى تجاربهم حتى يدركوا ما أودع الله في هذا الكون من الآيات الباهرة بأنفسهم.
أما الأسباب الشرعية، أو الأمور الشرعية التي لا يمكن أن تدركها العقول ولا الحواس، فهي التي يبيّنها الله للعباد.
فإن قال قائل: كيف يجتمع السبب الحسي والشرعي، ويكون الحسي معلوماً معروفاً للناس قبل أن يقع، والشرعي معلوم بطريق الوحي، فكيف يمكن أن نجمع بينهما؟(169/4)
فالجواب: أن لا تنافي بينهما؛ لأن الأمور العظيمة كالخسف بالأرض، والزلازل، والصواعق، وشبهها التي يحس الناس بضررها، وأنها عقوبة، لها أسباب طبيعية، يقدرها الله حتى تكون المسببات، وتكون الحكمة من ذلك هي تخويف العباد، فالزلازل لها أسباب، والصواعق لها أسباب، والبراكين لها أسباب، والعواصف لها أسباب، لكن يقدر الله هذه الأسباب من أجل استقامة الناس على دين الله. قال تعالى: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) ، ولكن تضيق قلوب كثير من الناس عن الجمع بين السبب الحسي والسبب الشرعي، وأكثر الناس أصحاب ظواهر لا يعتبرون إلا بالشيء الظاهر، ولهذا تجد الكسوف والخسوف لما علم الناس أسبابهما الحسية ضعف أمرهما في قلوب الناس حتى كأنه صار أمراً عادياً، ونحن نذكر قبل أن نعلم بهذه الأمور أنه إذا حصل الكسوف رعب الناس رعباً شديداً، وصاروا يبكون بكاءً شديداً، ويذهبون إلى المساجد خائفين مذعورين، كما وقع ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام لما كسفت الشمس أول مرة في عهده وكان ذلك بعد أن ارتفعت بمقدار رمح بعد طلوعها وأظلمت الدنيا، ففزع الناس، وفزع النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً عظيماً حتى إنه أدرك بردائه ، أي: من شدة فزعه قام بالإزار قاصداً المسجد حتى تبعوه بالرداء، فارتدى به، وجعل يجره، أي: لم يستقر ليوازن الرداء من شدة فزعه، وأمر أن ينادى الصلاة جامعة ؛ من أجل أن يجتمع الناس كلهم. فاجتمعت الأمة من رجال ونساء، وصلى بهم النبي عليه الصلاة والسلام صلاة لا نظير لها؛ لأنها لآية لا نظير لها.(169/5)
آية شرعية لآية كونية، أطال فيها إطالة عظيمة، حتى إن بعض الصحابة - مع نشاطهم وقوتهم ورغبتهم في الخير - تعبوا تعباً شديداً من طول قيامه عليه الصلاة والسلام، وركع ركوعاً طويلاً، وكذلك السجود، فصلى صلاة عظيمة، والناس يبكون يفزعون إلى الله، وعرضت على النبي عليه الصلاة والسلام الجنة والنار في هذا المقام، يقول: "فلم أرَ يوماً قط أفظع من هذا اليوم" ؛ حيث عرضت النار عليه حتى صارت قريبة فتنحى عنها، أي: رجع القهقهرى خوفاً من لفحها ، سبحان الله! فالأمر عظيم! أمر الكسوف ليس بالأمر الهين، كما يتصوره الناس اليوم، وكما يصوره أعداء المسلمين حتى تبقى قلوب المسلمين كالحجارة، أو أشد قسوة والعياذ بالله.
يكسف القمر أو الشمس والناس في دنياهم، فالأغاني تسمع، وكل شيء على ما هو عليه لا تجد إلا الشباب المقبل على دين الله أو بعض الشيوخ والعجائز، وإلا فالناس سادرون لاهون، ولهذا لا يتعظ الناس بهذا الكسوف لا بالشمس ولا بالقمر مع أنه أمر هام، ويجب الاهتمام به.
مسألة: هل من الأفضل أن يخبر الناس به قبل أن يقع؟
الجواب: لا شك أن إتيانه بغتة أشد وقعاً في النفوس، وإذا تحدث الناس عنه قبل وقوعه، وتروضت النفوس له، واستعدت له صار كأنه أمر طبيعي، كأنها صلاة عيد يجتمع الناس لها.
ولهذا لا تجد في الإخبار به فائدة إطلاقاً بل هو إلى المضرة أقرب منه إلى الفائدة.
ولو قال قائل: ألا نخبر الناس ليستعدوا لهذا الشيء؟
فالجواب: نقول: لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، بل إذا وقع ورأيناه بأعيننا فحينئذٍ نفعل ما أمرنا به.
مسألة: إذا قال الفلكيون: إنه سيقع كسوف أو خسوف فلا نصلي حتى نراه رؤية عادية؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم ذلك فصلوا" ، أما إذا منّ الله علينا بأن صار لا يرى في بلدنا إلا بمكبر أو نظارات فلا نصلي.(169/6)
قوله: "تسن جماعة، وفرادى" ، صلاة الكسوف مشروعة بالسنة والإجماع، وقال بعض العلماء: إنها مشروعة بالكتاب أيضاً، واستنبطها من قوله تعالى: )وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ )(فصلت: من الآية37)، وقال: إن الناس لا يسجدون للشمس ولا للقمر وهما على مجراهما الطبيعي العادي، وإنما يسجدون لهما إذا حصل منهما هذا الكسوف خوفاً منهما، فأمر الله - عز وجل - أن يكون السجود له.
وهذا الاستنباط وإن كان له شيءٌ من الوجاهة، لكن لولا ثبوت السنة لم نعتمد عليه.
وأفادنا المؤلف - - بقوله: "تسن" أن صلاة الكسوف سنة ليست فرض عين، ولا فرض كفاية، وأن الناس لو تركوها لم يأثموا؛ لأن السنة عند الفقهاء هي: ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه.
وقد جزم المؤلف - - بهذا، وهو المشهور عند العلماء.
وقال بعض أهل العلم: إنها واجبة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم ذلك فصلوا" .
قال ابن القيم في كتاب "الصلاة" : وهو قول قوي ، أي: القول بالوجوب، وصدق - - لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وخرج فزعاً، وقال: إنها تخويف، وخطب خطبة عظيمة، وعُرضت عليه الجنة والنار، وكل هذه القرائن العظيمة تشعر بوجوبها؛ لأنها قرائن عظيمة، ولو قلنا: إنها ليست بواجبة، وإن الناس مع وجود الكسوف إذا تركوها مع هذا الأمر من النبي عليه الصلاة والسلام والتأكيد فلا إثم عليهم لكان في هذا شيء من النظر، كيف يكون تخويفاً ثم لا نبالي وكأنه أمر عادي؟ أين الخوف؟
التخويف يستدعي خوفاً، والخوف يستدعي امتثالاً لأمر النبي عليه الصلاة والسلام.
واستدل الذين قالوا بأنها سنة بما يلي:
- الحديث المشهور في قصة الذي جاء يسأل عن الإسلام؛ وذكر له النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس، قال: "هل عليَّ غيرها؟"، قال: "لا إلا أن تطوع" .(169/7)
- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن في آخر حياته في السنة العاشرة، وقال: "أخبرهم بأن الله فرض عليهم خمس صلوات" ، ولم يذكر سواها.
قالوا: هذان الحديثان، وأمثالهما يدلان على أن الأمر بالصلاة في الكسوف للاستحباب، وليس للوجوب.
والذين قالوا بالوجوب قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلوات الخمس؛ لأنها اليومية التي تتكرر في كل زمان وفي كل مكان، أما صلاة الكسوف، وتحية المسجد على القول بالوجوب، وما أشبه ذلك، فإنها تجب بأسبابها، وما وجب بسبب فإنه ليس كالواجب المطلق.
قالوا: ولهذا لو نذر الإنسان أن يصلي ركعتين لوجب عليه أن يصلي مع أنها ليست من الصلوات الخمس، لكن وجبت بسبب نذره، فما وجب بسبب ليس كالذي يجب مطلقاً.
وهذا القول قوي جداً، ولا أرى أنه يسوغ أن يرى الناس كسوف الشمس أو القمر ثم لا يبالون به، كل في تجارته، كل في لهوه، كل في مزرعته، فهذا شيء يخشى أن تنزل بسببه العقوبة التي أنذرنا الله إياها بهذا الكسوف.
فالقول بالوجوب أقوى من القول بالاستحباب.
وإذا قلنا بالوجوب؛ الظاهر أنه على الكفاية.
وقوله: "جماعة وفرادى" ، أي: تسن جماعة، وتسن فرادى.
أي: أن الجماعة ليست شرطاً لها، بل يسن للناس في البيوت أن يصلوها.
ودليل ذلك: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم ذلك فصلوا" ، فهذا عام، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: فصلوا في مساجدكم، مثلاً، فدل ذلك على أنه يؤمر بها حتى الفرد، ولكن لا شك أن اجتماع الناس أولى، بل الأفضل أن يصلوها في الجوامع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام صلاها في مسجد واحد ودعا الناس إليها، ولأن الكثرة في الغالب تكون أدعى للخشوع وحضور القلب، ولأنها - أي: الكثرة - أقرب إلى إجابة الدعاء.
فهي تسن في المساجد والبيوت، لكن الأفضل في المساجد، وفي الجوامع أفضل.(169/8)
وقوله: "إذا كسف أحد النيرين" ، "إذا" : ظرف متعلقة بـ "تسن" أي: تسن إذا كسف أحد النيرين وهما: الشمس والقمر.
قوله: "ركعتين يقرأ في الأولى جهراً..." ، بيَّن المؤلف - - في هذه الجملة صفة صلاة الكسوف، وأنها تصلى ركعتين بلا زيادة، لكن هاتين الركعتين كل واحدة فيها ركوعان.
وقوله: "ركعتين" منصوب على الحالية، وهذا من المواضع التي تأتي فيها الحال جامدة مؤولة بالمشتق، أي: تسنّ حال كونها ركعتين.
وقوله: "يقرأ في الأولى جهراً" أطلق قوله: "جهراً" ولم يقل: في الليل، فدل هذا على أن السنّة في صلاة الكسوف الجهر سواء في الليل أو في النهار، وهو كذلك لحديث عائشة - -: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جهر في صلاة الخسوف بقراءته" ، وهي مبنية أيضاً على القاعدة التي سبقت لنا: (أن الصلاة الجهرية في النهار إنما تكون فيما يجتمع الناس عليه.
قوله: "بعد الفاتحة سورة طويلة" لم يعيّن، سورة البقرة، أو آل عمران، أو النساء، فالمهم أن تكون سورة طويلة؛ لأن الذي جاء في الحديث أنها طويلة أي: يختار أطول ما يكون، وقد سبق أن بعض الصحابة كان يسقط مغشياً عليه من طول القيام .
قوله: "ثم يركع طويلاً" أي: من غير تقدير، المهم أن يكون طويلاً.
وقال بعض العلماء: يكون بقدر نصف قراءته أي: الركوع يكون نصف القيام، ولكن الصحيح: أنه بدون تقدير، فيطيل بقدر الإمكان.
فإن قال قائل: طول القيام فهمنا ما يفعل فيه وهو القراءة، لكن إذا أطال الركوع فماذا يصنع؟
فالجواب: يكرر التسبيح "سبحان ربي العظيم"، "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي"، "سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم"، "سبحان الله وبحمده عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته"، لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما الركوع فعظموا فيه الرب" ، فكل ما حصل من تعظيم في الركوع فهذا هو المشروع.
قوله: "ثم يرفع" ، أي: ثم يرفع رأسه من الركوع.(169/9)
قوله: "ويسمع" ، أي: يقول: سمع الله لمن حمده.
قوله: "ويحمد" ، أي: يقول: ربنا ولك الحمد، بعد أن يعتدل كسائر الصلوات.
قوله: "ثم يقرأ الفاتحة وسورة طويلة دون الأولى" ، ومن هنا جاءت الغرابة في هذه الصلاة؛ لأن غيرها من الصلوات لا تقرأ الفاتحة بعد الركوع، بل الذي بعد الركوع هو السجود، أما هذه الصلاة فيقرأ الفاتحة، وسورة طويلة.
لكن هل هي دون الأولى بكثير أو بقليل؟
الجواب: جاء في الحديث "دون الأولى" ، فينظر إلى هذا الدون.
والظاهر: أنه ليس دونها بكثير، لكنه دون يتميّز به القيام الأول عن القيام الثاني.
قوله: "ثم يركع فيطيل، وهو دون الأول" ، ونقول هنا في قوله: "دون الأول" كما قلنا في القراءة.
قوله: "ثم يرفع" أي: ويسمع ويحمد.
وظاهر كلام المؤلف: أنه في الرفع الذي يليه السجود لا يطيل القيام، بل يكون كالصلاة العادية، ولكن هذا الظاهر فيه نظر، والصحيح: أنه يطيل هذا القيام بحيث يكون قريباً من الركوع؛ لأن هذه عادة النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته، قال البراء بن عازب - -: "رمقت صلاة النبي عليه الصلاة والسلام فرأيت قيامه، وقعوده، وركوعه، وسجوده قريباً من السواء" ، والمراد بقيامه هنا قيامه بعد الركوع؛ لأن قيام القراءة أطول بكثير من الركوع، ولأجل تناسب الصلاة.
قوله: "ثم يسجد سجدتين طويلتين" ، أي: بقدر الركوع.
وظاهر كلامه: أنه لا يطيل الجلوس بينهما؛ لأنه لو أراد إطالة الجلوس بينهما لنبّه عليه، فكونه يقول: "يسجد سجدتين" ويسكت عن الجلوس بينهما، كأنه يقول: والجلوس بينهما معروف، وأنه جلوسٌ لا إطالة فيه.
والصواب: أنه يطيل الجلوس بقدر السجود.
قوله: "ثم يصلي الثانية كالأولى، لكن دونها في كل ما يفعل" أي: من القراءة والركوع، والقيام بعده، والسجود، فالثانية تكون دون الأولى.(169/10)
ولكن هل معناه أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، والقيام الثاني في الثانية دون ذلك، أو معناه: أن كل ركعة وركوع دون الذي قبله؟
الجواب: أن السنّة ليس فيها ما يدل لهذا ولا لهذا. فليس لدينا دليل واضح في هذه المسألة، فيحتمل أن القيام الأول في الثانية كالقيام الثاني في الأولى، وهو إذا جعل القيام الثاني في الثانية دون القيام الأول صارت الركعة الثانية دون الأولى.
لكن الذي يظهر - والله أعلم - أن كل قيام وركوع وسجود دون الذي قبله.
ونضرب لهذا مثلاً: قرأ في القيام الأول من الأولى مائة آية، وفي الثاني ثمانين آية، وفي القيام الأول من الركعة الثانية هل يقرأ ثمانين آية، وفي القيام الثاني ستين آية، أو يقرأ في القيام الأول في الركعة الثانية ستين آية، وفي القيام الثاني أربعين آية؟
الجواب: هذا هو محل التردد والاحتمال، والذي يظهر الثاني، أي: أنه يجعل قراءته في القيام الأول من الركعة الثانية دون قراءته في القيام الثاني من الركعة الأولى؛ لتكون الصلاة بالتنزل كل ركعة دون التي قبلها.
وفي هذا من الحكمة مراعاة حال المصلي؛ لأن المصلي أول ما يدخل في الصلاة يكون عنده نشاط وقوة، ثم مع الاستمرار يضعف؛ فلهذا روعيت حاله، فكان القيام الأول أطول، ثم الثاني، ثم الثالث، ثم الرابع.
قوله: "ثم يتشهد ويسلم" ، أي: كغيرها من الصلوات، وبهذا انتهت هذه الصلاة.
وهذه الصفة اتفق عليها البخاري ومسلم ، أي: أنه يصلي ركعتين، في كل ركعة ركوعان وسجودان صح ذلك عن عائشة وغيرها عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تكون الصلاة طويلة.
وظاهر كلامه: أنه لا يشرع لها خطبة؛ لأنه لم يذكرها، وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.(169/11)
وقال بعض العلماء: بل يشرع بعدها خطبتان؛ لأنها صلاة رهبة فشرع لها خطبتان كالاستسقاء، ولكن هذا قياس غير صحيح؛ لأن الاستسقاء ليس فيه إلا خطبة واحدة، إلا على قول بعض العلماء الذي قال: إنها كصلاة العيد، وسيأتي إن شاء الله، ولا يصح قياسها على صلاة العيدين؛ لأن صلاة العيدين صلاة فرح وسرور.
وقال بعض العلماء: يسنّ لها خطبة واحدة، وهذا مذهب الشافعي، وهو الصحيح.
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى من صلاة الكسوف "قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد، ثم وعظ الناس" . وهذه الصفات صفات الخطبة.
وقولهم: إن هذه موعظة؛ لأنها عارضة. نقول: نعم، لو وقع الكسوف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، ولم يخطب لقلنا: إنها ليست بسنة، لكنه لم يقع إلا مرة واحدة، وجاء بعدها هذه الخطبة العظيمة التي خطبها وهو قائم، وحمد الله وأثنى عليه، وقال: أما بعد، ثم إن هذه المناسبة للخطبة مناسبة قوية من أجل تذكير الناس وترقيق قلوبهم، وتنبيههم على هذا الحدث الجلل العظيم.
قوله: "فإن تجلى الكسوف فيها" أي: كسوف الشمس، أو القمر؛ لأنَّ الكسوف عند الإطلاق يشمل الشمس والقمر، أما إذا اقترنا فالكسوف للشمس والخسوف للقمر.
وقوله: "فيها" أي: في الصلاة.
ويعلم التجلي بالرؤية، فإن كان في النهار فالأمر واضح، وإن كان في الليل فكذلك، وإن كان تحت السقف فبالخبر.
قوله: "أتمها خفيفة" ، ظاهر كلامه: حتى لو كانت خفة الركعة الثانية بالنسبة للأولى بعيدة جداً؛ فمثلاً: الركعة الأولى استغرقت نصف ساعة، والثانية إذا أتمها خفيفة تستغرق خمس دقائق.
فظاهر كلامه: أن الأمر يكون كذلك، وحينئذٍ تكون الصلاة وكأنها صلاة جذماء مقطوعة بعض الأعضاء.
وحجتهم في هذا:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا حتى ينكشف ما بكم" ، و"حتى" للغاية.
وهذا الحديث كما يمنع ابتداء الصلاة مرة أخرى يمنع أيضاً الاستمرار فيها واستدامتها.(169/12)
- أن السبب الذي من أجله شرعت الصلاة قد زال.
مسائل:
الأولى: لو حصل كسوف ثم تلبدت السماء بالغيوم فهل نعمل بقول علماء الفلك بالنسبة لوقت التجلي؟
الجواب: نعمل بقولهم؛ لأنه ثبت بالتجارب أن قولهم منضبط.
الثانية: إذا لم يعلم بالكسوف إلا بعد زواله فلا يقضى؛ لأننا ذكرنا قاعدة مفيدة، وهي (أن كل عبادة مقرونة بسبب إذا زال السبب زالت مشروعيتها) . فالكسوف مثلاً إذا تجلت الشمس، أو تجلى القمر، فإنها لا تعاد؛ لأنها مطلوبة لسبب وقد زال.
ويعبر الفقهاء - رحمهم الله - عن هذه القاعدة بقولهم: (سنة فات محلها)
الثالثة: إذا شرع في صلاة الكسوف قبل دخول وقت الفريضة ثم دخل وقت الفريضة، فماذا يفعل؟
الجواب: إن ضاق وقت الفريضة وجب عليه التخفيف؛ ليصليها في الوقت، وإن اتسع الوقت فيستمر في صلاة الكسوف.
قوله: "وإن غابت الشمس كاسفة" ، إذا غابت الشمس كاسفة، فإنه لا يصلى؛ لأنها لما غابت ذهب سلطانها، وكونها كاسفة أو غير كاسفة بالنسبة لنا حين غابت لا يؤثر شيئاً، فلما زال سلطانها سقطت المطالبة بالصلاة لكسوفها.
مسائل:
الأولى: إذا كسفت في آخر النهار، فلا يصلى الكسوف بناء على أنها سنّة، وأن ذوات الأسباب لا تفعل في وقت النهي وهذا هو المذهب.
ولكن الصحيح في هذه المسألة: أنه يصلى للكسوف بعد العصر، أي: لو كسفت الشمس بعد العصر فإننا نصلي؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم ذلك فصلوا" ، فيشمل كل وقت.
فإن قال قائل: عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة بعد العصر" يشمل كل صلاة، فعندنا الآن عمومان، وهما: عموم النهي عن كل صلاة في زمن معين وهو العصر مثلاً، وعموم الأمر بصلاة الكسوف في كل وقت، ومثل هذا يسمى العام والخاص من وجه، فأيهما نقدم عموم النهي أو عموم الأمر؟ إذا قلنا: نقدم عموم الأمر، قيل: بل عموم النهي؛ لأنه أحوط، لأنك تقع في معصية.(169/13)
وذكر شيخ الإسلام قاعدة قال: (إذا كان أحد العمومين مخصصاً، فإن عمومه يضعف) . أي: إذا دخله التخصيص صار ضعيفاً، فيقدم عليه العام الذي لم يخصص؛ لأن عمومه محفوظ، وعموم الأول الذي دخله التخصيص غير محفوظ، وهذا الذي قاله صحيح.
بل إن بعض العلماء - رحمهم الله - قال: إن العام إذا خصّص صارت دلالتُهُ على العموم ذاتَ احتمال، فأي فرد من أفراد العموم يستطيع الخصم أن يقول: يحتمل أنه غير مراد، كما خصّص في هذه المسألة التي وقع فيها التخصيص.
لكن الراجح: أن العام إذا خصص يبقى عاماً إلا في المسألة التي خصّص فيها فقط.
فحديث الأمر بالصلاة عند رؤية الكسوف لم يخصّص، وحديث الصلاة بعد العصر مخصّص بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم، فإنها لكما نافلة" .
فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر هذا للرجلين اللذين تخلفا عن صلاة الفجر، ولا صلاة بعد صلاة الفجر
كذلك أيضاً مخصّص بركعتي الطواف، فإن الإنسان إذا طاف ولو بعد العصر يسنّ أن يصلي ركعتين.
ومخصّص بقضاء الفريضة إذا نسيها، فمن نام عن صلاة أو نسيها، وذكرها ولو بعد العصر فإنه يصليها.
فعموم النهي إذاً مخصّص بعدة مخصّصات، فيكون عمومه ضعيفاً، ويقدم حديث الأمر، ومن ثمَّ صار القول الراجح في هذه المسألة: أن كل صلاة لها سبب تصلى حيث وجد سببها، ولو في أوقات النهي، وهي الرواية الثانية عن الإمام أحمد.
الثانية: إذا شرع في صلاة الكسوف بعد العصر ثم غابت كاسفة فإنه يتمها خفيفة؛ لأنها إذا غابت فهي كما لو تجلى.
الثالثة: إذا طلعت الشمس كاسفة فعلى المذهب لا يصلى إلا إذا ارتفعت قيد رمح، فإن تجلى قبل أن ترتفع قيد رمح سقطت، وعلى القول الصحيح تصلى مباشرة، فإذا تجلى قبل زوال وقت النهي أتمها خفيفة.
الرابعة: لو لم نعلم بكسوفها إلا حين غروبها فلا نصلي، ونعلل: بأن سلطانها قد ذهب، فنحن الآن في الليل لا في النهار، وهي آية النهار.(169/14)
قوله: "أو طلعت والقمر خاسف" ، هل يمكن أن تطلع والقمر خاسف؟
الجواب: يمكن، ففي نصف الشهر: يكون القمر في الغرب، والشمس في الشرق فربما يكسف بعدما تطلع الشمس، وهذا شيء قد وقع.
فإذا طلعت والقمر خاسف فإنه لا يصلي؛ لأنه ذهب سلطانه فإن سلطان القمر الليل، كما لو غابت الشمس، وهي كاسفة.
مسألة: لو طلع الفجر وخسف القمر قبل طلوع الشمس هل يصلى؟
الجواب: قد نقول: إن مفهوم قوله: "أو طلعت والقمر خاسف" إنها تصلى، ولكن المشهور من المذهب أنها لا تصلى بعد طلوع الفجر إذا خسف القمر؛ لأنه وقت نهي.
والصحيح: أنها تصلى إن كان القمر لولا الكسوف لأضاء، أما إن كان النهار قد انتشر، ولم يبق إلا القليل على طلوعٍ الشمس فهنا قد ذهب سلطانه، والناس لا ينتفعون به، سواء كان كاسفاً أو مبدراً.
قوله: "أو كانت آية غير الزلزلة لم يصل" ، أي: إذا وُجدت آية تخويف كالصواعق، والرياح الشديدة، وبياض الليل، وسواد النهار، والحمم، وغير ذلك فإنه لا تصلى صلاة الكسوف إلا الزلزلة، فإنه إذا زلزلت الأرض فإنهم يصلون صلاة الكسوف حتى تتوقف. والمراد بالزلزلة: الزلزلة الدائمة.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة:
القول الأول: ما مشى عليه المؤلف أنه لا يصلى لأي آية تخويف إلا الزلزلة.
وحجة هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت توجد في عهده الرياح العواصف، والأمطار الكثيرة، وغير ذلك مما يكون مخيفاً ولم يصل، وأما الزلزلة فدليلهم في ذلك أنه روي عن عبد الله بن عباس ، وعلي بن أبي طالب - -: أنهما كانا يصليان للزلزلة، فتكون حجة الصلاة في الزلزلة هي فعل الصحابة.
القول الثاني: أنه لا يصلى إلا للشمس والقمر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا رأيتموهما فصلوا" ، ولا يصلى لغيرهما من آيات التخويف.
وما يروى عن ابن عباس أو علي فإنه - إن صح - اجتهاد في مقابلة ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من ترك الصلاة للأشياء المُخيفة.(169/15)
القول الثالث: يصلى لكل آية تخويف.
واستدلوا بما يلي:
- عموم العلة وهي قوله صلى الله عليه وسلم: "إنهما آيتان من آيات الله يخوِّف الله بهما عباده" ، قالوا: فكل آية يكون فيها التخويف، فإنه يصلى لها.
- أن الكربة التي تحصل في بعض الآيات أشد من الكربة التي تحصل في الكسوف.
- أن ما يروى عن ابن عباس وعلي - - يدل على أنه لا يقتصر في ذلك على الكسوف وأن كل شيء فيه التخويف فإنه يصلى له.
- أن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة" ، أي: إذا كربه وأهمه؛ وإن كان الحديث ضعيفاً لكنه مقتضى قوله تعالى: {وإستعينوا بالصبر والصلاة } [البقرة: 45 .
وأما ما ذكر من أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت توجد في عهده العواصف، وقواصف الرعد، فإن هذا لا يدل على ما قلنا؛ لأنه قد تكون هذه رياحاً معتادة، والشيء المعتاد لا يخوِّفُ وإن كان شديداً، فمثلاً في أيام الصيف اعتاد الناس أن الرياح تهب بشدة وتكثر، ولا يعدُّون هذا شيئاً مخيفاً.
صحيح أنه أحياناً قد توجد صواعق عظيمة متتابعة تخيف الناس، فهل الصواعق التي وقعت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كهذه؟ لا يستطيع أحد أن يثبت أن هناك صواعق في عهد النبي عليه الصلاة والسلام خرجت عن المعتاد، لكن لو وجدت صواعق عظيمة متتابعة، فإن الناس لا شك سيخافون، وفي هذه الحال يفزعون إلى ربهم - عز وجل - بالصلاة.
وهذا الأخير هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - -، له قوة عظيمة. وهذا هو الراجح.
مسألة: فعلى القول بأنه يصلى لكل آية تخويف، فهل ذلك على سبيل الوجوب كالكسوف؟
الجواب: مقتضى القياس أن ذلك واجب، ولكن لا أظن أن ذلك يكون على سبيل الوجوب.
قوله: "وإن أتى" ، أي: المصلي.(169/16)
قوله: "في كل ركعة بثلاث ركوعات أو أربع أو خمس جاز" ، لأنه ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أنه صلى ثلاث ركوعات في ركعة واحدة"، أخرجه مسلم ، لكن هذه الرواية شاذة، ووجه شذوذها: أنها مخالفة لما اتفق عليه البخاري ومسلم من أن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلى صلاة الكسوف في كل ركعة ركوعان فقط" ، ومن المعلوم بالاتفاق أن الكسوف لم يقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصلِّ له إلا مرة واحدة فقط.
وعلى هذا فالمحفوظ أنه صلّى في كل ركعة ركوعين، وما زاد على ذلك فهو شاذ؛ لأن الثقة مخالف فيها لمن هو أرجح.
ولكن ثبت عن علي بن أبي طالب - -: "أنه صلّى في كل ركعة أربع ركوعات" ، وعلى هذا فيكون من سنّة الخلفاء الراشدين، وهذا ينبني على طول زمن الكسوف، فإذا علمنا أن زمن الكسوف سيطول فلا حرج من أن نصلي ثلاث ركوعات في كل ركعة، أو أربع ركوعات، كما قال المؤلف، أو خمس ركوعات؛ لأن كل ذلك ورد عن الصحابة - - وهو يرجع إلى زمن الكسوف إن طال زيدت الركوعات، وإن قصر فالاقتصار على ركوعين أولى.
وإن اقتصر على ركوعين وأطال الصلاة إذا علم أن الكسوف سيطول فهو أولى وأفضل، والكلام في الجواز، أما الأفضل فلا شك أن الأفضل ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أنه يصلي ركوعين في كل ركعة.
مسائل:
الأولى: ما بعد الركوع الأول هل هو ركن أو لا؟
يقول العلماء: إنه سنّة وليس ركناً، وبناء على ذلك لو صلاها كما تصلى صلاة النافلة، في كل ركعة ركوع فلا بأس؛ لأن ما زاد على الركوع الأول سنة.
الثانية: هل تدرك الركعة بالركوع الثاني؟
الجواب: لا تدرك به الركعة، وإنما تدرك الركعة بالركوع الأول، فعلى هذا لو دخل مسبوق مع الإِمام بعد أن رفع رأسه من الركوع الأول فإن هذه الركعة تعتبر قد فاتته فيقضيها.
وقال بعض العلماء: إنه يعتد بها؛ لأنها ركوع.(169/17)
وفصل آخرون فقالوا: يعتد بها إن أتى الإمام بثلاث ركوعات؛ لأنه إذا أدرك الركوع الثاني وهي ثلاث ركوعات فقد أدرك معظم الركعة فيكون كمن أدركها كلها.
والقول الصحيح الأول، لأن الركوع الأول هو الركن.
الثالثة: لو انتهت الصلاة والكسوف باق، فهل تعاد الصلاة أو لا؟ وإذا قلنا بالإعادة فهل تعاد كسائر النوافل، أو كصلاة الكسوف؟
والجواب: في هذا ثلاثة أقوال للعلماء:
القول الأول: أنها لا تعاد.
القول الثاني: أنها تعاد على صفتها.
القول الثالث: أنها تعاد على صفة النوافل الأخرى، أي: ركعتين.
فمن نظر لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فصلوا حتى ينكشف ما بكم" قال: إن المشروع أن تصلى كسائر النوافل؛ لأن الصلاة الأولى انقضت وامتثل بها الأمر.
ومن نظر إلى قوله: "فصلوا وادعوا.." ، قال: إن الصلاة حصلت فيبقى الدعاء. وعمل الناس على أنها لا تعاد، وأنا لم يترجح عندي شيء لكني أفعل الثاني، وهو: عدم الإعادة.
الرابعة: يسن النداء لصلاة الكسوف، ويقال: "الصلاة جامعة" مرتين أو ثلاثاً. بحيث يعلم أو يغلب على ظنه أن الناس قد سمعوا.
وإذا قلنا بهذا فإنه يختلف بين الليل والنهار، ففي الليل قد يكون الناس نائمين يحتاجون لتكرار النداء، وفي النهار لا سيما مع هدوء الأصوات يمكن أن يكفيهم النداء مرتين أو ثلاثاً.
ولا ينادى لغيرها من الصلوات بهذه الصيغة؛ لأن الصلوات الخمس ينادى لها بالأذان.
وقال بعض العلماء؛ وهو المذهب: إنه ينادى للاستسقاء، والعيدين "الصلاة جامعة".
لكن هذا القول ليس بصحيح، ولا يصح قياسهما على الكسوف؛ لوجهين:
الوجه الأول: أن الكسوف يقع بغتة، خصوصاً في الزمن الأول لما كان الناس لا يدرون عنه إلا إذا وقع.(169/18)
الوجه الثاني: أن الاستسقاء والعيدين لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ينادي لهما؛ وكل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفعله ففعله بدعة؛ لأنه ليس هناك مانع يمنع الرسول صلى الله عليه وسلم من النداء، ولو كان هذا السبب يشرع له النداء لأمر المنادي أن ينادي لها.
فالصواب: أن العيدين والاستسقاء لا ينادى لهما.
مسألة: تميزت صلاة الكسوف عن بقية الصلوات بأمور هي:
- زيادة ركوع في كل ركعة على الركوع الأول.
- أن فيها بعد الركوع قراءة.
- تطويل القراءة فيها والركوع والسجود.
- الجهر فيها بالقراءة ليلاً أو نهاراً.
- يشرع إذا انتهت الصلاة، ولم يتجل الكسوف: الذكر والاستغفار والتكبير والعتق. وهذا فرق خارج عن نفس الصلاة لكنه فرق صحيح.(169/19)
الشرح الممتع - المجلد الخامس
باب صلاة الاستسقاء
محمد بن صالح العثيمين
باب صلاة الإستسقاء
قوله: "باب صلاة الاستسقاء" ، من باب إضافة الشيء إلى نوعه، أي: باب الصلاة التي تكون للاستسقاء، وقد يجوز أن تكون من باب إضافة الشيء إلى سببه، أي: الصلاة التي سببها استسقاء الناس.
والاستسقاء: استفعال من سقى وهو: طلب السُقيا، سواء كان من الله، أو من المخلوق، فمن الممكن أن تقول لفلان: اسقني ماء فَيُسَمَّى هذا استسقاء أي طلب سُقيا، ومن الله - عز وجل - تسأل الله أن يغيثك، هذا طلب سُقيا أيضاً، لكن في عُرف الفقهاء إذا قالوا صلاة الاستسقاء: فإنما يعنون بها استسقاء الرب - عز وجل - لا استسقاء المخلوق.
وصلاة الاستسقاء لها سبب بيّنه المؤلف بقوله: "إذا أجدبت الأرض وقحط المطر صلوها جماعةً وفرادى" قوله: "إذا أجدبت الأرض" أي: خلت من النبات، وضده الإخصاب إذا أخصبت، أي: ظهر نباتها وكثر.
قوله: "وقحط المطر" أي: امتنع، ولم ينزل، ولا شك أنه يكون في ذلك ضرر عظيم على أصحاب المواشي، وعلى الآدميين أيضاً، فلهذا صارت صلاة الاستسقاء في هذه الحال سنة مؤكدة.
قوله: "إذا أجدبت الأرض وقحط المطر" ، ظاهره ولو كان ذلك في غير أرضهم.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يستسقي إلا لأرضه وما حولها مما يتضرر به البلد، أما ما كان بعيداً فإنه لا يضرهم، وإن كان يضر غيرهم، ما لم يأمر به الإمام فتصلى.
والاستسقاء الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ورد على أوجه متعددة منها:
الأول: "أنه دخل رجل يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال، وانقطعت السبل فادع الله يغيثنا، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه، ورفع الناس أيديهم، وقال: اللهم أغثنا ثلاث مرات، وكانت السماء صحواً فأنشأ الله سحابة فرعدت وبرقت وأمطرت، ولم ينزل النبي صلى الله عليه وسلم من المنبر إلا والمطر يتحادر من لحيته" .(170/1)
الثاني: "أنه كان في غزوة ونقص عليهم الماء، فاستغاث الله - عز وجل - فأنشأ الله مزناً فأمطرت وسقاهم وارتووا" .
الثالث: "دعا الله سبحانه وتعالى بأن يسقيهم فقام أبو لبابة - وكان فلاحاً - فقال: يا رسول الله إن التمر في البيادر" - والبيدر ما يجمع فيه التمر لييبس، وكانوا إذا جذُّوا النخل يضعونه في مكان معد لهذا حتى ييبس، ثم يدخلونه في البيوت يسمى "البيدر"، ويسمى "الجرين" أيضاً - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة فيسد ثعلب مربده بإزاره"، أي: الفجوة التي يدخل منها السيل إلى البستان فأمطرت السماء، وخاف الناس من فساد التمر فجاؤوا إلى أبي لبابة، وقالوا: اذهب إلى مربدك وسده بإزارك ليقف المطر، فذهب فسده بإزاره فوقف المطر ، فهذا من آيات الله عز وجل، وحينئذٍ سلم الناس من الضرر الكثير الذي يحصل لهم بالمطر في بيادرهم.
وهناك أيضاً صفات أخرى، وليس لازماً أن تكون على الصفة التي وردت عن النبي عليه الصلاة والسلام أي: طلب السُقيا، فللناس أن يستسقوا في صلواتهم، فإذا سجد الإنسان دعا الله، وإذا قام من الليل دعا الله عز وجل.
قوله: "صلوها جماعة وفرادى" ، أي: صلاة الاستسقاء وستأتي صفتها، والأفضل أن تكون جماعة كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.<> قوله: "وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد" .
وعلى هذا فتسنّ في الصحراء؛ لأن صلاة العيد تسنّ في الصحراء.
ويكبر في الأولى بعد التحريمة والاستفتاح ستاً، وفي الثانية خمساً، ويقرأ بسبّح والغاشية؛ لأن المؤلف قال: "صفتها في موضعها" أي: مكانها "وأحكامها كعيد" .
والدليل على هذا حديث ابن عباس - -: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها كما يصلي العيد .
ولكنها تخالف العيد في أنها سنّة، والعيد فرض كفاية.(170/2)
قوله: "وإذا أراد الإمام الخروج لها" ، يحتمل أن يريد به الإمام الذي يصلي بهم صلاة الاستسقاء، ويحتمل أن يراد به الإمام الأعظم وهو السلطان، والمعنى الأول أقرب.
قوله: "وعظ الناس" الموعظة هي: التذكير المقرون بترغيب أو تخويف، فيرغبهم في فعل الواجبات، ويحذّرهم من انتهاك الحرمات.
ولهذا قال: "وأمرهم بالتوبة من المعاصي" التوبة: الرجوع إلى الله - عز وجل - من معصيته إلى طاعته، وقد ذكر العلماء للتوبة شروطاً يحسن أن نذكرها الآن:
الأول: الإخلاص لله - عز وجل - بأن يقصد بتوبته إلى ربه رضا ربه، لا أن يتوب أمام الناس رياء وسمعة.
الثاني: أن يندم على ما حصل له من الذنب، وهذا الشرط قال بعض العلماء: إنه لا يمكن تحقيقه؛ لأن الندم انفعال في النفس، والانفعال لا يملكه الإِنسان.
ولكن الصحيح: أنه يمكن أن يملكه؛ لأن معنى الندم إظهار الغم والهم لما أصابه ووقع منه من الذنب، وهذا أمر يمكن أن يقع.
الثالث: أن يقلع عن المحرم، فإذا كانت التوبة من ترك الزكاة مثلاً، فلا بد أن يخرج الزكاة، وإذا كانت من التهاون بصلاة الجماعة فلا بد أن يصلي مع الجماعة، وإذا كانت من الغيبة فلا بد أن يقلع عن الغيبة، وإذا كانت أخذ مال لا يستحقه فلا بد أن يرده إلى صاحبه، وإذا كانت من ضرب إنسان اعتدى عليه بالضرب فلا بد أن يستحله أو يقول: اضربني كما ضربتك.
الرابع: أن يعزم على ألا يعود فلا يتوب توبة مؤقتة، وهنا نقول: يعزم على ألا يعود، ولا نقول: ألا يعود؛ لأنه لو فرضنا أن الشروط تمت، ثم بعد ذلك عاد فالتوبة الأولى صحيحة.
الخامس: أن تكون التوبة في الزمن الذي تقبل فيه، وذلك بأن تقع قبل الغرغرة، قبل حضور الأجل، فإن لم تقع إلا بعد حضور الأجل فقد قال تعالى)وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)(النساء: من الآية18)، وهذا زمن خاص باعتبار كل أحد بنفسه.(170/3)
وكذلك أيضاً تكون قبل طلوع الشمس من مغربها، وهذا زمن عام، فإن الشمس إذا طلعت من مغربها آمن الناس كلهم، وتابوا ورجعوا لكن ) لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً)(الأنعام: من الآية158).
قد يقول قائل: أين الدليل على أنه إذا أراد الخروج يعظ الناس، أليس النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى واستسقى ، فهل ورد أنه وعظهم؟
والجواب: أنه يعظهم وعظاً عاماً، كما لو صادف أنه يتكلم في خطبة الجمعة فيعظ الناس فهذا طيب، ولا يقال: إنه وعظهم من أجل الاستسقاء، ولكن من أجل خطبة الجمعة والمناسبة.
قوله: "والخروج من المظالم" ، من باب عطف الخاص على العام؛ وذلك لأن الخروج من المظالم من التوبة
والمظالم: جمع مظلمة، فتشمل المظلمة في حق الله، والمظلمة في حق العباد.
مثال المظلمة في حق الله: عدم إخراج زكاته، أو عدم إخراج كفارة كانت عليه، فليبادر بإخراج هذا الحق.
مثال المظلمة في حق العباد: لو كان عنده حق لشخص كدراهم، أو منافع أو غيرها، فإنه يخرج منها أيضاً بإيفائه.
فإن كان الحق غير مالي كالغيبة مثلاً، فإنه يخرج منها بأن يذهب إلى من تكلم فيه، ويقول: إني تكلمت فيك فحللني، ولا يخرج من عُهدتها إلا بذلك.
وقال بعض العلماء: إن كان الذي تكلم فيه قد علم فليذهب إليه ويستحله، وإن لم يعلم فلا يذهب إليه، بل يستغفر له، ويذكره بخير في الأماكن التي اغتابه فيها؛ لأنه ربما لو ذهب إليه وطلب أن يحلله تأخذه العزة بالإثم فيأبى؛ لأن بعض الناس لا يهمه أن يأتي إليه أخوه معتذراً، فيأبى أن يسامحه.
وهذا القول هو الصحيح.
فإن قال: أنا لا أحلك إلا إذا أعطيتني عشرة دراهم فيعطيه؛ لأن هذا حق له حتى لو طلب أكثر يعطيه؛ لأن إعطاءه في الدنيا أهون من إعطائه في الآخرة.(170/4)
قوله: "وترك التشاحن" أي: يأمر الإِمام الناس أن يتركوا التشاحن فيما بينهم وهو: الشحناء والعداوة، والبغضاء ؛ لأن التشاحن سبب لرفع الخير.
ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "خرج ذات يوم ليخبر أصحابه بليلة القدر فتلاحى رجلان من المسلمين فرفعت" ، أي: رفع العلم بها، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أُنسيها من أجل التشاحن.
قال العلماء: فنأخذ من هذا أنه إذا كنا نطلب الخير من الله فلا بد أن ندع التشاحن فيما بيننا.
فإذا قال قائل: كيف يمكن أن يزيل الإنسان ما في قلبه من الحقد أو الغل على أخيه؟
فالجواب: يستطيع الإِنسان أن يتخلص من ذلك بما يلي:
أولاً: أن يذكر ما في بقاء هذه العداوة من المآثم، وفوات الخير حتى إن الأعمال تعرض على الله يوم الاثنين والخميس، فإذا كان بين اثنين شحناء قال: "أَنظِروا هذين حتى يصطلحا" ، أي: الرب عز وجل لا ينظر في عملك يوم الاثنين والخميس إذا كان بينك وبين أخيك شحناء.
ثانياً: أن يعلم أن العفو والإصلاح فيه خير كثير للعافي، وأنه لا يزيده ذلك العفو إلا عزاً؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً" .
ثالثاً: أن يعلم أن الشيطان - وهو عدوه - هو الذي يوقد نار العداوة والشحناء بين المؤمنين؛ لأنه يحزن أن يرى المسلمين متآلفين متحابين ويفرح إذا رآهم متفرقين والعداوة والشحناء بينهم.
فإذا ذكر الإنسان المنافع والمضار فإنه لا بد أن يأخذ ما فيه المصالح والمنافع، ويدع ما فيه المضار والمفاسد.
فعليك أن تجاهد نفسك ولو أهنتها في الظاهر، فإنك تعزها في الحقيقة؛ لأن من تواضع لله رفعه، وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً.(170/5)
وجرب تجد أنك إذا فعلت هذا الشيء وعفوت، وأصلحت ما بينك وبين إخوانك تجد أنك تعيش في راحة وطمأنينة وانشراح صدر وسرور قلب، لكن إذا كان في قلبك حقد عليهم أو عداوة فإنك تجد نفسك في غاية ما يكون من الغم والهم، ويأتيك الشيطان بكل احتمالات يحتملها كلامه، أي لو احتمل كلامه الخير والشر قال لك الشيطان: احمله على الشر.
مع أن المشروع أن يحمل الإِنسان كلام إخوانه على الخير ما وجد له محملاً.
فمتى وجدت محملاً للخير فاحمله على الخير، سواء في الأقوال أو في الأفعال، ولا تحمله على الشر.
وبعض الناس - والعياذ بالله - يحمل الفعل أو القول على الشر ثم يؤزه الشيطان إلى أن يتجسس على أخيه، ويتابع أخاه، وينظر ماذا فعل؟ وماذا قال؟ فتجده دائماً يحلل أقواله وأفعاله، وليته يحمله على الأحسن، أو على الحسن، ولكن على السيء والأسوء، وذلك بإيحاء الشيطان - والعياذ بالله -.
والذي يجب على المؤمن إذا رأى من أخيه ما يحتمل الخير أو الشر أن يحمله على الخير ما لم توجد قرائن قوية تمنع حمله على الخير، فهذا شيء آخر، فلو صدر مثل هذا من رجل معروف بالسوء ومعروف بالفساد فلا بأس أن تحمله على ما يحتمله كلامه، أما رجل مستور ولم يعلم عنه الشر، فإذا وجد في كلامه، أو في فعاله ما يحتمل الخير والشر فاحمله على الخير حتى تستريح.
وربما يصاب هذا الرجل الذي يتبع عورات الناس وأخطاءهم القولية والفعلية بأن يسلط الله عليه من يتابعه هو بنفسه، ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته.
قوله: "والصيام" ، أي: يأمرهم أن يصوموا.
قال بعض العلماء: يأمرهم أن يصوموا ثلاثة أيام، ويخرج في اليوم الثالث.
وقال بعضهم: يجعل الاستسقاء يوم اثنين أو خميس؛ لأن يومي الاثنين والخميس مما يسن صيامهما، فيكون خروج الناس وهم صائمون، والصائم أقرب إلى إجابة الدعوة من المفطر، فإن للصائم دعوة لا ترد، هكذا قال المؤلف - -.(170/6)
ولكن في هذا نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج إلى الاستسقاء لم يأمر أصحابه أن يصوموا.
أما ما ذكره المؤلف أولاً من التوبة من المعاصي، والخروج من المظالم فهذه مناسبة، لكن الصيام طاعة تحتاج إلى إثباتها بدليل، وإذا كان الأمر قد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر أصحابه بالصيام، فلا وجه للأمر به.
لكن نقول: لو اختار يوم الاثنين - ولم يجعله سنة راتبة دائماً من أجل أن يصادف صيام بعض الناس، لو قيل بهذا لم يكن فيه بأس.
لكن كوننا نجعله سنة راتبة لا يكون الاستسقاء إلا في يوم الاثنين، أو نأمر الناس بالصوم، فهذا فيه نظر.
قوله: "والصدقة" أي: ويأمرهم أيضاً بالصدقة، والصدقة قد يقال: إنها مناسبة؛ لأن الصدقة إحسان إلى الغير، والإحسان سبب للرحمة لقول الله تعالى: ) إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)(لأعراف: من الآية56)، والغيث رحمة لقول الله تعالى: )وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ )(الشورى: من الآية28).والصدقة هنا ليست الصدقة الواجبة، بل المستحبة، أما الصدقة الواجبة فإن منعها سبب لمنع القطر من السماء كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في الحديث المروي عنه: "وما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء" .
قوله: "ويعدهم يوماً يخرجون فيه" ضمير الفاعل يعود على الإمام وضمير المفعول "هم" يعود على الناس. أي: يقول: سنخرج في يوم كذا، ويحسن أيضاً أن يعيِّن الزمن من هذا اليوم فيقول: في ساعة كذا؛ ليتأهبوا على وجه ليس فيه ضرر عليهم؛ لأن الناس ربما لو خرجوا مبكرين، وتأخر الإِمام حصل عليهم أذية من البرد إن كانوا في زمن شتاء صارم.
قوله: "ويتنظف، ولا يتطيب" ، إذا قال العلماء: "يتنظف" فالمراد إزالة ما ينبغي إزالته شرعاً أو طبعاً.(170/7)
فإزالة ما ينبغي إزالته شرعاً مثل: الأظفار، والعانة، والإِبط، وما ينبغي إزالته طبعاً مثل: العرق، والروائح الكريهة.
وإنما قالوا: إنه يستحب أن يتنظف؛ لأن هذا مكان اجتماع عام، وإذا كان الناس فيهم الرائحة المؤذية، فإن هذا يؤذي بعض الحاضرين، فلهذا استحبوا أن يتنظف، ولكن لا يتطيب.
وهذا يمكن أن تجعله لغزاً فتقول:
ما الصلاة التي لا ينبغي للإِنسان أن يتطيب لها؟
الجواب: هي صلاة الاستسقاء؛ لأن صلاة الجمعة يستحب لها الطيب، وغيرها لا يؤمر به، ولا ينهى عنه.
والاستسقاء لا يتطيب لها، وعللوا ذلك: بأنه يوم استكانة وخضوع، والطيب يشرح النفس ، ويجعلها تنبسط أكثر، والمطلوب في هذا اليوم الاستكانة والخضوع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج "متخشعاً متذللاً متضرعاً" .
وهذا أيضاً مما في النفس منه شيء؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الطيب، وكان يحب الطيب، ولا يمنع إذا تطيب الإنسان أن يكون متخشعاً مستكيناً لله - عز وجل -، ولهذا لو أراد الإِنسان أن يدعو الله بغير هذه الحال، لا نقول: الأفضل ألا تطيب من أجل أن تكون مستكيناً لله.
قوله: "ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً" ، هذه أوصاف تدل على أن الإنسان لا يخرج في فرح وسرور؛ لأن المقام لا يقتضيه.
قوله: "متواضعاً" أي: بقوله، وهيئته، وقلبه.
والتواضع معروف، حتى إنك ترى الرجل وتعرف أنه من المتواضعين، وترى الرجل وتعرف أنه من المتكبرين، فيكون متواضعاً للحق وللخلق.
قوله: "متخشعاً" الخشوع: سكون الأطراف، وأن يكون على وقار وهيبة.
قوله: "متذللاً" من الذل وهو الهوان، بمعنى: أن يضع من نفسه، وهو قريب من التواضع لكنه أشد؛ لأن الإِنسان يُري نفسه أنه ذليل أمام الله عز وجل.(170/8)
وقوله: "متضرعاً" التضرع يعني الاستكانة، أو شدة الإِنابة إلى الله - عز وجل -، قال تعالى: {أدعوا ربكم تضرعاً وخفية } [الأعراف: 55] ، أي في شدة اللجوء إلى الله - عز وجل -، ودليل هذه الأوصاف قول ابن عباس - -: "خرج النبي صلى الله عليه وسلم للاستسقاء متذللاً، متواضعاً، متخشعاً، متضرعاً" .
قوله: "ومعه أهل الدين والصلاح" ، لأن هؤلاء أقرب إلى إجابة الدعوة.
وقوله: "الدين والصلاح" من باب عطف المترادفين؛ لأن كل صاحب دين فهو صاحب صلاح.
قوله: "والشيوخ" ، أي: الكبار الذين أمضوا أعمارهم في الدين والصلاح؛ لأنهم أقرب إلى الإجابة.
قوله: "والصبيان المميزون" أي: الذين لم يبلغوا؛ لأنه لا ذنوب لهم، فيكونون أقرب إلى الإِجابة ممن ملأت الذنوب صحائفهم.
قوله: "المميزون" خرج به الصغار الذين لم يميزوا، فإنهم لا يخرجون؛ لأنه ربما يحصل منهم من الأذية والصياح والبكاء أكثر مما يحصل من المنفعة.
قول المؤلف: "معه" ، ظاهر كلامه أنهم يصحبونه في الممشى؛ لأنه قال: "يخرج ومعه" ، ويحتمل أنه أراد المعية في الصلاة، لا في كونهم يخرجون مصاحبين له في سيره إلى المسجد.
والأقرب: أن المراد بالمعية هنا المعية في الصلاة؛ لأنها هي المقصودة.
قال في الروض : "وأبيح التوسل بالصالحين" ، وهذه عبارة على إطلاقها فيها نظر، ولكنهم يريدون بذلك - رحمهم الله -: التوسل بدعاء الصالحين؛ لأن دعاء الصالحين أقرب إلى الإجابة من دعاء غير الصالحين
ودليل هذه المسألة: ما حصل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - - حين خرج يستسقي ذات يوم فقال: "اللهم إنا كُنَّا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإننا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ثم قال: قم يا عباس فادع الله فقام فدعا فسقاهم الله" .
والتوسل بدعاء الصالحين مقيد بعدم الفتنة؛ بأن يكون دعاؤه سبباً لفتنته هو، أو لفتنة غيره، فإن خيف من ذلك ترك.(170/9)
وأما التوسل بالصالحين بذواتهم فهذا لا يجوز؛ وذلك لأن التوسل فعل ما يكون وسيلة للشيء، وذات الصالح ليست وسيلة للشيء، فلا علاقة بين الدعاء، وذات الرجل الصالح.
وكذلك لا يجوز التوسل بجاه الصالحين؛ لأن جاه الصالحين إنما ينفع صاحبه، ولا ينفع غيره.
وأقبح من ذلك أن يتوسل بالقبور، فإن هذا قد يؤدي إلى دعاء أهل القبور والشرك الأكبر.
قوله: "وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا" ، أهل الذمة هم: الذين بَقُوا في بلادنا، وأعطيناهم العهد والميثاق على حمايتهم ونصرتهم بشرط أن يبذلوا الجزية.
وقد كان هذا موجوداً حين كان الإسلام عزيزاً، أما اليوم فإنه غير موجود، إلا أن يشاء الله وجوده في المستقبل، فإذا طلب أهل الذمة أن يستسقوا بأنفسهم منفردين عن المسلمين بالمكان لا باليوم، فإنه لا بأس به، مثل: أن يقولوا: نحن نخرج شمال البلد، وأنتم إلى جنوب البلد فإننا نمنحهم ذلك، وإن كانت صلاتهم باطلة ودعاؤهم باطلاً، ولكن إذا دعا المضطر ربه - عز وجل - فإنه يجيب دعاءه، ولو كان مشركاً، ولو علم الله أنه سيشرك بعد النجاة كما قال الله تعالى: )فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) (العنكبوت:65) ، فينجيهم الله - عز وجل -؛ لأنه يجيب دعوة المضطر ولو كان كافراً. فلا نمنعهم أن ينفردوا عنَّا بمكان، لا أن ينفردوا بيوم، فلو قالوا: نريد أن ننفرد بيوم الأحد، ونحن بيوم الاثنين، أو بالعكس، فإننا لا نوافقهم؛ لأنه ربما ينزل المطر في اليوم الذي استسقوا فيه فيكون في ذلك فتنة، ويقال: هم على حق.
ومثل ذلك أهل البدع، لو أن أهل البدع طلبوا منَّا أن ينفردوا بمكان أُذِن لهم، فإن طلبوا أن ينفردوا بزمان منعناهم؛ لأنه إذا منعنا أهل الذمة مع ظهور كفرهم فمنعنا لأهل البدع من باب أولى.(170/10)
فلو جاءنا قوم من الصوفية أو الرافضة، وقالوا: نحن نريد أن نستسقي في يوم الاثنين، وأنتم يوم الأحد نقول: لا؛ لأنه لو صادف نزول المطر يوم استسقائهم حصل بذلك مفسدة كبيرة.
فإن قال قائل: هل هذا أمر ممكن، أو أمر فرضي أن ينزل المطر في يوم يستسقي فيه أهل الذمة أو أهل البدع؟
فالجواب: أنه أمر قد يقع.
فإن قال قائل: كيف يقع وفيه فتنة وإغراء بهذا المذهب الباطل، أو هذا الدين الباطل؟
فالجواب: أن ذلك من الفتن التي يفتن الله بها عباده - نسأل الله أن يعيذنا وإياكم من الفتن - فقد يفتن الله العباد بشيء يكون سبباً في ضلالهم من حيث لا يشعرون، فإن طلب أهل الذمة أن يخرجوا معنا بلا انفراد بالمكان ولا بالزمان فإننا لا نمكنهم؛ لقول الله تعالى: )وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (لأنفال:25)
فإن قيل: كيف نأذن لأهل الذمة بالخروج للاستسقاء، وقد كان اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكونوا يخرجون للاستسقاء؟
فالجواب: الظاهر أنهم لم يطلبوا الخروج للاستسقاء.
مسألة: هل أهل الذمة كل كافر عقدنا معه الذمة، أو يختص بجنس معين من الكفار؟
الجواب: المذهب: أنه يختص بجنس معين من الكفار، وهم ثلاثة: اليهود، والنصارى، والمجوس.
والصحيح: أنه عام لكل كافر أبى الإِسلام، ورضخ للجزية، فإننا نعقد معه الذمة؛ لأن حديث بريدة بن الحصيب الذي ثبت في صحيح مسلم ذكر النبي عليه الصلاة والسلام له من جملة ما ذكر: "أنه إذا نزل على أهل حصن وأبوا الإِسلام فإنه يطلب منهم الجزية" .
قوله: "فيصلي بهم، ثم يخطب واحدة" الفاعل الإِمام، وأفادنا أن الخطبة تكون بعد الصلاة كالعيد، ولكن قد ثبتت السنة أن الخطبة تكون قبل الصلاة ، كما جاءت السنة بأنها تكون بعد الصلاة .(170/11)
وعلى هذا فتكون خطبة الاستسقاء قبل الصلاة، وبعدها ولكن إذا خطب قبل الصلاة لا يخطب بعدها، فلا يجمع بين الأمرين، فإما أن يخطب قبل، وإما أن يخطب بعد.
ومن هنا خالفت صلاة الاستسقاء صلاة العيد في أمور منها:
أولاً: أنه يخطب في العيد خطبتين على المذهب، وأما الاستسقاء فيخطب لها خطبة واحدة.
ثانياً: أنه في صلاة الاستسقاء تجوز الخطبة قبل الصلاة وبعدها، وأما في صلاة العيد فتكون بعد الصلاة.
ثالثاً: أنه في صلاة العيد تُبَيَّنُ أحكام العيدين، وفي الاستسقاء يكثر من الاستغفار، والدعاء بطلب الغيث.
قوله: "يفتتحها بالتكبير كخطبة العيد" سبق أن خطبة العيد يفتتحها بالتكبير على المشهور من المذهب، وأن في المسألة خلافاً، فمن العلماء من قال: يفتتحها بالحمد، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل في جميع خطبه وهكذا في خطبة الاستسقاء.
بل لو قال قائل: إن خطبة الاستسقاء تُبدأ بالحمد بخلاف خطبة العيد لكان متوجهاً؛ لأن خطبة العيد تأتي في الوقت الذي أُمرنا فيه بكثرة التكبير.
قوله: "ويكثر فيها الاستغفار" الاستغفار هو: طلب المغفرة، فيقول: اللهم اغفر لنا، اللهم إننا نستغفرك، وما أشبه ذلك.
والمغفرة هي: ستر الذنب، والعفو عنه. أي: أن يستر الله الذنب ويعفو عنه، فلا يؤاخذك به، مأخوذة من المِغْفَر، وهو الذي يضعه المقاتل على رأسه اتقاء السهام لئلا تصيبه.
ومعلوم أن المغفر يحصل به أمران: الستر، والوقاية.
قوله: "وقراءة الآيات التي فيها الأمر به" أي: مثل قوله تعالى: )فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً) (نوح:10) ، )وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ)(هود: من الآية3) ( فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْه)(هود: من الآية61) وغير ذلك من الآيات التي يستحضرها في تلك الساعة.(170/12)
قوله: "ويرفع يديه، فيدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم" ، أي: يرفع الإمام يديه، لحديث أنس بن مالك - "لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء حتى يرى بياض إبطيه" . والمراد: أنه حال الخطبة لا يرفع يديه إلا إذا دعا للاستسقاء، وكذلك المستمعون يرفعون أيديهم؛ لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم: "لما رفع يديه حين استسقى في خطبة الجمعة رفع الناس أيديهم" .
وينبغي في هذا الرفع أن يبالغ فيه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبالغ فيه حتى يُرى بياض إبطيه، ولا يرى البياض إلا مع الرفع الشديد حتى إنه جاء في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "جعل ظهورهما نحو السماء" .
واختلف العلماء في تأويله:
فقال بعض العلماء: يجعل ظهورهما نحو السماء.
وقال بعض العلماء: بل رفعهما رفعاً شديداً حتى كان الرائي يرى ظهورهما نحو السماء؛ لأنه إذا رفع رفعاً شديداً صارت ظهورهما نحو السماء.
وهذا هو الأقرب، وهو اختيار شيخ الإِسلام ابن تيمية - -، وذلك لأن الرافع يديه عند الدعاء يستجدي ويطلب، ومعلوم أن الطلب إنما يكون بباطن الكف لا بظاهره.(170/13)
قوله: "ومنه: اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً" .: اللهم اسقنا: بهمزة الوصل من سقى يسقي، وبهمزة القطع من أسقى يسقي، وكلاهما صحيح قال الله تعالى( وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً)(المرسلات: من الآية27)، وقال تعالى:( وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً)(الانسان: من الآية21) ، الآية الثانية من سقى الثلاثي، والأولى من أسقى الرباعي والغيث: هو المطر، قال تعالى: )وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا)(الشورى: من الآية28) ، وقال تعالى: )إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ)(لقمان: من الآية34) ومغيثاً أي: مزيلاً للشدة، وذلك لأن المطر قد ينزل ولا يزيل الشدة، ولهذا جاء في الحديث الصحيح: "ليست السَّنَةُ ألا تمطروا، بل السَّنَة أن تمطروا ولا تنبت الأرض شيئاً" .
وهذا يقع، فأحياناً تحصل أمطار كثيرة، ولا تنبت الأرض، وأحياناً تأتي أمطار خفيفة، ويكون الربيع كثيراً.
قوله: "إلى آخره" يعني آخر الدعاء، وذكره في "الروض المربع" فقال: "هنيئاً مريئاً، غدقاً مجللاً، عاماً سَحًّا، طبقاً دائماً، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين" .
الهنيء: ما لا مشقة فيه، وما يفرح الناس به ويستريحون له.
والمريء: ذو العاقبة الحسنى.
والغدق: الكثير، قال تعالى: )وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) (الجن:16) والسح: أي: الذي ليس فيه العواصف؛ لأن العواصف مع الأمطار تؤذي وتؤلم، وربما تفسد الجدران، وتهدم البيوت.
عاماً: أي: شاملاً.
طبقاً: أي: واسعاً.
دائماً: أي: مستمراً، ولكن هذا الدوام مشروط بألَّا يكون فيه ضرر.
مجللاً: أي: مغطياً للأرض، ومنه جلال الناقة الذي يغطى به ظهرها.
اللهم أسقنا الغيث: أي: المطر الذي يكون مغيثاً.(170/14)
ولا تجعلنا من القانطين: القانط هو: المستبعد لرحمة الله، وهذه حال تعتري الإِنسان، فيستبعد رحمة الله - عز وجل -؛ لأنه يرى ذنوبه كثيرة، ويرى الفساد منتشراً، فيقول: بعيد أن الله يرحمنا، وهذا خطأ.
قال الله تعالى: )قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر:56) فمن عرف حلم الله - عز وجل - ورحمته، فإنه لا يمكن أن يقنط حتى لو كانت ذنوبه كثيرة، ومعاصيه كبيرة، فإن عفو الله أوسع.
"اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب، ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق" إلخ .
مسألة: يسن على المذهب: أن يقلب رداءه في أثناء الخطبة، ويستقبل القبلة ويدعو.
وقال بعض العلماء: إنما يكون القلب بعد الدعاء؛ تفاؤلاً بأن الله أجاب الدعاء، وأنه سيقلب الحال من الشدة إلى الرخاء.
قوله: "وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله" ، الضمير يعود على الناس، أي: إن سقاهم الله وأنزل المطر قبل أن يخرجوا، فلا حاجة للخروج، ولو خرجوا في هذه الحال لكانوا مبتدعين؛ لأن صلاة الاستسقاء إنما تشرع لطلب السُقيا، فإذا سقوا فلا حاجة لها، ويكون عليهم وظيفة أخرى وهي وظيفة الشكر، فيشكرون الله - - على هذه النعمة بقلوبهم وبألسنتهم وبجوارحهم؛ لأن الشكر يتعلق بهذه الأشياء الثلاثة: القلب، واللسان، والجوارح.
- أما القلب: فأن يوقن الإِنسان بأن هذه النعمة من الله - عز وجل - تفضل بها.
- وأما اللسان: فأن يثني بها على الله، فيقول: الحمد الله الذي سقانا، وما أشبه ذلك من الكلمات.
- وأما الجوارح: فأن يقوم بطاعة الله بفعل أوامره، وترك نواهيه.
ولهذا قال الشاعر:
أفادتكم النعماء مني ثلاثةً يدي ولساني والضمير المحجبا قوله: "وسألوه المزيد من فضله" ، أي: سألوا الله أن يزيدهم من فضله، ومن ذلك أن يقولوا: "اللهم اجعله صيباً نافعاً" ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقوله(170/15)
قوله: "وينادى الصلاة جامعة" ، ينادى لصلاة الاستسقاء إذا حان وقتها: الصلاة جامعة، ويجوز فيها ثلاثة أوجه:
الأول: الصلاةُ جامعةٌ، مبتدأ وخبر.
الثاني: الصلاةَ جامعةً، فالصلاة مفعول لفعل محذوف، وجامعةً حال من الصلاة، أي احضروا الصلاة حال كونها جامعة.
الثالث: الصلاةُ جامعةً، فالصلاة خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه الصلاة، وجامعة حال من الصلاة، لكن هذا الوجه أضعفها.
فإذا جاء وقت صلاة الاستسقاء، وارتفعت الشمس قيد رمح يُنادى: الصلاةُ جامعة؛ ليحضر الناس؛ قياساً على صلاة الكسوف.
والمذهب: يرون أنه ينادى للكسوف، والعيد، والاستسقاء.
ولكن ما ذكره الأصحاب في المناداة للعيد، والاستسقاء، ضعيف جداً؛ وذلك لما يلي:
أولاً: أنه خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فالعيد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن ينادى لها، وصلاة الاستسقاء كذلك لم يكن ينادى لها، وقد ذكرنا قاعدة فيما سبق: (أن كل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يشرع له شيء من العبادات فشرع شيء من العبادات، من أجله يكون بدعة) ، لأننا يلزمنا الوقوف عند الشرع، عند أسبابه، وعند جنسه، وهيئته.
ثانياً: أن إلحاق ذلك بصلاة الكسوف غير صحيح أيضاً، أي: أنه يمتنع القياس؛ لأن صلاة الكسوف تأتي على غير تأهب بغتة، وصلاة العيد معلومة من قبل، والناس يتأهبون لها، وكذلك الاستسقاء، وقد سبق في كلام المؤلف أنه قال: "إن الإمام يعدهم يوماً يخرجون فيه" ، فالصلاة معلومة الوقت.
ولو قال قائل: إننا اليوم نعلم بالكسوف متى يحصل ابتداء وانتهاء، وفي أي وقت من نهار أو ليل؟
فنقول: حتى في هذه الحال ينادى الصلاة جامعة؛ لأن الحسّابين قد يخطئون، ونحن قد علقت الصلاة منّا بوجود الكسوف لا بالعلم به، قال صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتموهما فصلوا وادعوا" .(170/16)
فالنداء لصلاة الاستسقاء والعيد لا يصح أثراً ولا نظراً، وأما أثراً؛ فلعدم وروده مع وجود سببه في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأما نظراً؛ فلوجود الفرق بين الأصل والفرع.
قوله: "وليس من شرطها إذن الإِمام" ، أي: ليس من شرط إقامتها أن يأذن الإِمام بذلك، بل إذا قحط المطر وأجدبت الأرض خرج الناس وصلوا، ولو صلى كل بلد وحده لم يخرجوا عن السنة.
بل لو وجد السبب، وقال الإِمام: لا تصلوا، فإن في منعه إياهم نظراً؛ لأنه وجد السبب فلا ينبغي أن يمنعهم، ولكن حسب العُرف عندنا لا تقام صلاة الاستسقاء إلا بإذن الإِمام.
اللهم إلا أن يكون قوم من البادية بعيدون عن المدن ولا يتقيدون، فهنا ربما يقيمونها، وإن كان أهل البلد لم يقيموها.
قوله: "ويسن أن يقف في أول المطر" ، السنة في اصطلاح الفقهاء: هي ما يثاب فاعله امتثالاً، ولا يعاقب تاركه.
قوله: "أن يقف" ، أي: أن يقف قائماً أول ما ينزل المطر.
قوله: "وإخراج رحله وثيابه ليصيبهما المطر" ، أي: متاعه الذي في بيته، أو في خيمته إن كان في البر، وكذلك ثيابه يخرجها؛ لأن هذا روي عن ابن عباس - - .
والثابت من سنّة النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه إذا نزل المطر حسر ثوبه" ، أي: رفعه حتى يصيب المطر بدنه، ويقول: "إنه كان حديث عهد بربه" .
وهذه السنّة ثابتة في الصحيح، وعليه فيقوم الإِنسان ويخرج شيئاً من بدنه إما من ساقه، أو من ذراعه، أو من رأسه حتى يصيبه المطر اتباعاً لسنّة النبي صلى الله عليه وسلم وقوله في الحديث: "إنه كان حديث عهد بربه"، لأن الله خلقه الآن، فهو حديث عهد بخلق الله.
وهل يقال: إن هذا التعليل يتعدى لغيره مما يُحدثه الله - عز وجل -، أو نقول: إن هذا تعليل بعلة قاصرة على معلولها؟
الجواب: أن نقول: إن هذه علة قاصرة على معلولها، ولهذا لا يمكن أن نقول للإنسان: إنه ينبغي أن يصيب من بدنه ما ولد من حيوان أو نحوه مما هو حديث عهد بالله.(170/17)
ويستفاد من قوله: "إنه كان حديث عهد بربه"، ثبوت الأفعال الاختيارية لله - عز وجل - التي تقع بمشيئته، خلافاً لمن أنكر ذلك، فإن إنكاره عن جهل، وليس عن علم؛ فالرب عز وجل تقوم به الأفعال الاختيارية، ويفعل ما يشاء في أي وقت شاء.
قوله: "وإذا زادت المياه وخيف منها سنّ أن يقول: اللهم حوالينا ولا علينا" ، أي: إذا زادت مياه السماء أي: الأمطار، ومثل ذلك لو زادت مياه الأنهار على وجه يُخشى منه، فإنه يسنّ أن يقول هذا الذكر: "اللهم حوالينا ولا علينا" .
ودليل ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك - - "أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب الناس يوم الجمعة، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وتهدم البناء، فادع الله يمسكها عنا - فلم يدع الله بإمساكها، ولكنه دعا الله بإبقائها على وجه لا يضر - فقال: اللهم حوالينا ولا علينا...إلخ" .
وقوله: "اللهم" ، هذه منادى حذفت منها ياء النداء، وعوض عنها الميم، ولم تجعل الميم في أول الكلمة تيمناً بالبداءة باسم الله، وجُعلت في آخرها ميمٌ؛ لأن الميم تدل على الجمع، فكأن الداعي جمع قلبه على الله عز وجل.
وقوله: "حوالينا" أي: أنزله حوالينا، أي: حوالي المدينة.
وحوالي هنا: ملحق بالمثنى؛ لأنه نُصب بالياء بدلاً عن الفتحة حيث إنه لا يدل على اثنين، بل على واحد أي: حولنا.
وقوله: "ولا علينا" ، أي: ولا على المدينة التي خيف أن تتهدم من كثرة الأمطار.
قوله: "اللهمّ على الظراب" هي الروابي الصغار، أي: الأماكن المرتفعة من الأرض، لكن ليس ارتفاعاً شاهقاً؛ وذلك لأن المرتفع من الأرض يكون فيه النبات أسرع نمواً لأنه مرتفع قد تبين للشمس والهواء فيكون أحسن
قوله: "والآكام" الجبال الصغيرة، ولهذا يقال: أكمة للجبل الصغير.
قوله: "وبطون الأودية" أي: داخل الأودية، أي: الشعاب؛ لأن بطون الأودية إذا أمطرت سالت، ونبتت فيها أشجار كبيرة نافعة.(170/18)
قوله: "ومنابت الشجر" ، هذا عام يعم كل أرض تكون منبتاً للشجر.
فإذا قال قائل: هذه الدعوات هل شملت الأرض كلها؟
فالجواب: لم تشمل الأرض كلها، فخرج منها رؤوس الجبال العالية؛ لأنها ليست آكاماً، ولا ظراباً، وخرج منها الأرض القاحلة السبخة التي لا تنبت؛ لأنها ليست من منابت الشجر، ولا من بطون الأودية، فالنبي صلى الله عليه وسلم دعا الله - عز وجل - أن يكون نزول المطر على أراضٍ نافعة وهي هذه الأنواع الأربعة: الظراب، والآكام، وبطون الأودية، ومنابت الشجر.
قوله: "ربنا لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا به" ، هذه لم ترد عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنها مناسبة.
فإذا قالها الإِنسان لا على سبيل السنية فلا بأس، أما إذا قالها على أنها سنة فلا.
وهنا قال المؤلف: "ربنا لا تحمِّلنا" . وفي الآية: {ربنا ولا تحملنا }، و"الواو" إنما حذفها المؤلف؛ لأنها في الآية حرف عطف على ما سبق، وهنا لم يسبقها شيء تعطف عليه، فلهذا حذف الواو، فقال: "ربنا لا تحملنا ما لا طاقة لنا به" .
قوله: "الآية" ، أي: إلى آخر الآية، أي: أكمل الآية.
وإكمال الآية: ) وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا)(البقرة: من الآية286)أربع دعوات:
(رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه)(البقرة: من الآية286) ، وهذا من باب التخلية.
( وأعفوا عنا) كذلك من باب التخلية.
( وأغفرلنا) كذلك من باب التخلية.
(وأرحمنا ) من باب التحلية أي: من باب إيجاد الشيء.
فهذه الدعوات كلها دعوات مفيدة مناسبة، لكن بشرط ألا يتخذها الإِنسان على أنها سنة.
ذكر في الروض مسألة مفيدة قال: "يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويباح في نوء كذا، وإضافة المطر إلى النوء دون الله كفر إجماعاً، قاله في المبدع" .
النوء: هو النجم، أي: مطرنا مثلاً بالنجم الفلاني، بنجم الشولة، أو بنجم النعائم، أو بنجم سعد الذابح، أو بنجم سعد بلع، أو سعد السعود، وما أشبه ذلك.(170/19)
ودليله: ما ثبت في الصحيح من حديث زيد بن خالد الجهني "أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في الحديبية على إثر سماء كانت من الليل - أي: مطر نزل في الليل - فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من صلاة الصبح قال لهم: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فهو كافر بي مؤمن بالكوكب" .
وهذا نص صريح في أن من قال: مطرنا بنوء كذا فهو كافر، ولهذا حكى في المبدع إجماع أهل العلم على ذلك .
إذاً قول الإِنسان: مطرنا بنوء كذا محرم، بل هو من كبائر الذنوب، وهل يكون كفراً أكبر مخرجاً عن الملة؟
الجواب: أنه بحسب عقيدة القائل، إن كان يعتقد أن النوء هو الذي خلق هذا المطر، فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة؛ لأنه ادَّعى أَنَّ مع الله خالقاً، وإن كان يعتقد أن النوء سبب فإنه كافر كفراً دون كفر.
وإنما كان كافراً فيما إذا اعتقد أنه سبب؛ لأنه أثبت سبباً لم يثبته الله - عز وجل -، فإن النجوم ليس لها أثر، وإنما هي أوقات فقط.
مسألة: لو قال: مطرنا في نوء كذا؟
الجواب: هذا جائز؛ لأن في للظرفية، ومن ذلك استعمال العامة عندنا الباء هنا، وهم يريدون الظرفية، يقولون مثلاً: مطرنا بالمربعانية، ومطرنا بالشبط، ومطرنا بالعقارب، العقارب هي: السعود الثلاثة، سعد الذابح، وبلع، والسعود.
فإذا قال: مطرنا بسعد السعود، وهو يقصد في سعد السعود كما هي اللغة العامية عندنا فهنا لا يكون كافراً، والباء قد تأتي بمعنى (في) مثل قوله تعالى: )وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ(137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الصافات:138) ، أي: في الليل.(170/20)
الشرح الممتع - المجلد الخامس
كتاب الجنائز
محمد بن صالح العثيمين
كتاب الجنائز
ذكر المؤلف - - "الجنائز" في كتاب "الصلاة" ولم يذكرها في الوصايا والمواريث؛ لأن الصلاة أهم ما يفعل بالميت، وأنفع ما يكون له، حيث إنه يدعى له فيها.
والجنائز: جمع جنازة، وهي بفتح الجيم وكسرها، بمعنى واحد، وقيل: بالفتح اسم للميت، وبالكسر اسم لما يحمل عليه الميت، فإذا قيل: جَنازة أي ميت، وإذا قيل: جِنازة أي نعش.
وهذا تفريق دقيق؛ لأن الفتح يناسب الأعلى، والميت فوق النعش، والكسر يناسب الأسفل والنعش تحت الميت
وينبغي للإنسان أن يتذكر حاله ونهايته في هذه الدنيا، وليست هذه النهاية نهاية، بل وراءها غاية أعظم منها، وهي الآخرة، فينبغي للإنسان أن يتذكر دائماً الموت لا على أساس الفراق للأحباب والمألوف؛ لأن هذه نظرة قاصرة، ولكن على أساس فراق العمل والحرث للآخرة، فإنه إذا نظر هذه النظرة استعد وزاد في عمل الآخرة، وإذا نظر النظرة الأولى حزن وساءه الأمر، وصار على حد قول الشاعر:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة لذاته بادّكار الموت والهرم فيكون ذكره على هذا الوجه لا يزداد به إلا تحسراً وتنغيصاً، أما إذا ذكره على الوجه الأول وهو أن يتذكر الموت، ليستعد له ويعمل للآخرة، فهذا لا يزيده حزناً، وإنما يزيده إقبالاً على الله - عز وجل -، وإذا أقبل الإِنسان على ربه فإنه يزداد صدره انشراحاً، وقلبه اطمئناناً.
مسائل:
الأولى: هل يُسْأَلُ المريض كيف يصلي وكيف يتطهر، أو نقول: إن هذا من باب التدخل فيما لا يعني؟(171/1)
الجواب: الذي نرى أنه إن كان المريض من ذوي العلم الذين يعرفون، فلا حاجة أن تذكره؛ لأنه سيحمل تذكيرك إياه على إساءة الظن به، وأما إذا كان من العامة الجُهال فهنا يحسن أن يبين له؛ لأنه قد يخفى عليهم ما يحتاجون من الأحكام وقد عدت مريضاً فسألته عن حاله، فحمد الله وقال: لي شهر ونصف وأنا أجمع وأقصر الصلاة. فمثل هذا يحتاج إلى تنبيه وتعليم؛ لأنه يظن أن القصر مع الجمع، وأن من جمع قصر.
ومما ينبه عليه أيضاً: أنه اشتهر عند العامة أن من لا يستطيع الإيماء بالركوع والسجود فإنه يومئ بأصبعه، وهذا غير صحيح كما سبق بيانه.
الثانية: هل يؤمر المرضى بالتداوي؛ أو يؤمرون بعدم التداوي، أم في ذلك تفصيل؟
الجواب: قال بعض العلماء: ترك التداوي أفضل ولا ينبغي أن يتداوى الإنسان، واستدلوا لذلك بما يلي:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم "لما مرض وَلَدُّوه أمر بأن يُلَدَّ جميع من كان حاضراً إلا العباس بن عبد المطلب" ، قالوا: وهذا دليل على أنه كره فعلهم. واللدود: ما يُلَدُّ به المريض وهو نوع من الدواء.
- أن أبا بكر - - "لما مرض، وقيل له: ألا ندعو لك الطبيب؟ قال: إن الطبيب قد رآني، فقال: إني أفعل ما أريد" ، وأبو بكر هو خير الأمة بعد نبيها وهو قدوة وإمام.
وقال بعض العلماء: بل يسنّ التداوي لما يلي:
- أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
- أنه من الأسباب النافعة.
- أنَّ الإِنسان ينتفع بوقته، ولا سيما المؤمن المغتنم للأوقات، كل ساعة تمر عليه تنفعه.
- أن المريض يكون ضيق النفس، لا يقوم بما ينبغي أن يقوم به من الطاعات، وإذا عافاه الله انشرح صدره وانبسطت نفسه، وقام بما ينبغي أن يقوم به من العبادات، فيكون الدواء إذاً مراداً لغيره فيسنّ.
وقال بعض العلماء: إذا كان الدواء مما علم أو غلب على الظن نفعه بحسب التجارب فهو أفضل، وإن كان من باب المخاطرة فتركه أفضل.(171/2)
لأنه إذا كان من باب المخاطرة فقد يحدث فيه ما يضره، فيكون الإِنسان هو الذي تسبب لنفسه بما يضره، ولا سيما الأدوية الحاضرة (العقاقير) التي قد تفعل فعلاً مباشراً شديداً على الإِنسان بسبب وصفة الطبيب الخاطئة.
وقال بعض العلماء: إنه يجب التداوي إذا ظُن نفعه.
والصحيح: أنه يجب إذا كان في تركه هلاك، مثل: السرطان الموضعي، فالسرطان الموضعي بإذن الله إذا قطع الموضع الذي فيه السرطان فإنه ينجو منه، لكن إذا ترك انتشر في البدن، وكانت النتيجة هي الهلاك، فهذا يكون دواء معلوم النفع؛ لأنه موضعي يقطع ويزول، وقد خَرَّبَ الخَضِرُ السفينةَ بخرقها لإِنجاء جميعها، فكذلك البدن إذا قطع بعضه من أجل نجاة باقيه كان ذلك واجباً.
وعلى هذا فالأقرب أن يقال ما يلي:
- أن ما عُلم، أو غلب على الظن نفعه مع احتمال الهلاك بعدمه، فهو واجب.
- أن ما غلب على الظن نفعه، ولكن ليس هناك هلاك محقق بتركه فهو أفضل.
- أن ما تساوى فيه الأمران فتركه أفضل؛ لئلا يلقي الإِنسان بنفسه إلى التهلكة من حيث لا يشعر.
الثالثة: التداوي بالمحرم لا يجوز لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك حيث قال: "تداووا ولا تداووا بحرام" ، ولعموم الأدلة في تحريم المحرم، فهي عامة وليس فيها تفصيل، ولأنه لو كان فيه خير لم يمنع الله العباد منه، بل أحله لهم.
الرابعة: قال في الروض: "ويكره أن يستطب مسلم ذمياً لغير ضرورة، وأن يأخذ منه دواء لم يبيّن له مفرداته المباحة" . أي: يكره أن تذهب إلى ذمي أي: يهودي أو نصراني عقدنا له الذمة لتتداوى عنده؛ لأنه غير مأمون، وإذا كان كذلك فجعل هؤلاء مسؤولين على أطباء مسلمين من باب أولى؛ لأن المسؤول له كلمته، وربما يوجه إلى شيء محرم، أو إلى شيء يضر المسلمين، ولهذا نقول: إن استطباب غير المسلمين لا يجوز إلا بشرطين:
الأول: الحاجة إليهم.(171/3)
الثاني: الأمن من مكرهم؛ لأن غير المسلمين لا نأمن مكرهم إلا نادراً، ولا سيما في قضية الولادة أي التوليد؛ لأن هؤلاء النصارى في التوليد يحرصون على أن يقتلوا أولاد المسلمين، أو أن يمزعوا أيديهم عند إخراج الطفل في التوليد كما نقل لي بعض الناس، لذلك يجب التحرز منهم وسؤال الله - عز وجل - أن يرزقنا الاستغناء عنهم؛ لأنهم أعداء للمسلمين فإذا احتاج الناس إليهم وأمنوا منهم فلا بأس، فإن النبي عليه الصلاة والسلام استعمل دليلاً مشركاً يدله على الطريق من مكة إلى المدينة وقت الهجرة، مع أن هذا من أخطر ما يكون، فإن قريشاً كانوا يطلبون النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - -، ولكن لما أمنه النبي عليه الصلاة والسلام جعله دليلاً له .
الخامسة: اختلفوا في حكم التداوي ببول الغنم، فالمذهب أنه لا يجوز التداوي إلا ببول الإبل، وقيل: يجوز التداوي ببول كل ما يؤكل لحمه، وقيل: لا يجوز التداوي بالبول مطلقاً حتى ببول الإبل؛ لأنه نجس عندهم، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول" ، لكن هذا قول ضعيف؛ لأن في بعض ألفاظ الحديث: "فكان لا يستبرئ من بوله" . والتداوي ببول الإبل ثبتت به السنة في قصة العرنيين ، وقياس ذلك أنه لو ثبت أن في أبوال الغنم فائدة فإنه لا فرق بينهما وبين أبوال الإبل.
قوله: "تسنّ عيادة المريض" ، السنة عند الفقهاء: ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه. فهي من الأمور المرغب فيها، وليست من الأمور الواجبة.
وقول المؤلف: "عيادة المريض" ولم يقل: زيارة؛ لأن الزيارة للصحيح، والعيادة للمريض، وكأنه اختير لفظ العيادة للمريض من أجل أن تكرر؛ لأنها مأخوذة من العود، وهو: الرجوع للشيء مرة بعد أخرى، والمرض قد يطول فيحتاج الإِنسان إلى تكرار العيادة.(171/4)
وقول المؤلف: "عيادة المريض" (أل) هنا للجنس أي: من أصابه جنس المرض، وهي أيضاً باعتبار المريض عامة، فهي باعتبار المرض للجنس، وباعتبار المريض الذي أصابه المرض للعموم؛ لأنها اسم محلى بأل، والاسم المحلى بأل يفيد العموم، على أن بعض النحويين يقولون: إن أل اسم موصول؛ لأنه إذا كان اسم فاعل أو اسم مفعول مقروناً بأل فإن أل عندهم بمعنى اسم الموصول.
إذاً عندنا عمومان:
الأول: المرض، لأن (أل) للجنس.
الثاني: المصاب بالمرض.
أما المرض فالمراد من مرض مرضاً يحبسه عن الخروج مع الناس، فأما إذا كان لا يحبسه فإنه لا يحتاج إلى عيادة؛ لأنه يشهد الناس ويشهدونه، إلا إذا علم أن هذا الرجل يخرج إلى السوق أو إلى المسجد بمشقة شديدة، ولم يصادفه حين خروجه، وأنه بعد ذلك يبقى في بيته، فهنا نقول: عيادته مشروعة.
فالمرض بالزكام مرض لا شك، فإن حبس الإِنسان دخل في هذا، وإن لم يحبسه كما هو الغالب الكثير فإنه لا يحتاج إلى عيادة، والمريض بوجع الضرس إن حبس في بيته عدناه، وإن خرج وصار مع الناس لا نعوده، لكن لا مانع أن نسأل عن حاله إذا علمنا أنه مصاب بمرض الضرس، والمريض بوجع العين كذلك ينسحب عليه الحكم، إذا كان المرض قد حبسه فإنه يعاد، وإن كان يخرج مع الناس لا يعاد، لكن يسأل عن حاله.
وأما المصاب بالمرض فإن كان غير مسلم فلا يعاد، إلا إذا اقتضت المصلحة ذلك بحيث نعوده لنعرض عليه الإِسلام، فهنا تشرع عيادته إما وجوباً وإما استحباباً، وقد ثبت أنه "كان غلام يهوديٌّ يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده، فقعد عند رأسه، فقال له: أسلم فنظر إلى أبيه وهو عنده، فقال: أطع أبا القاسم صلى الله عليه وسلم فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار" .(171/5)
وأما الفاجر من المسلمين أعني الفاسق بكبيرة من الكبائر أو بصغيرة من الصغائر وأصر عليها، ففيه تفصيل أيضاً، فإذا كنا نعوده من أجل أن نعرض عليه التوبة ونرجو منه التوبة، فعيادته مشروعة إما وجوباً وإما استحباباً، وإلا فإن الأفضل ألا نعوده، وقد يقال: بل عيادته مشروعة ما دام أنه لم يخرج من وصف الإِيمان أو الإِسلام؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "حق المسلم على المسلم خمس" ، وفي رواية: "ست" . وذكر منها عيادة المريض.
وتشمل عيادة المريض القريب والبعيد، أي: القريبَ لك بصلة قرابة، أو مصاهرة، أو مصادقة، والبعيد للعموم؛ لأن هذا حق مسلم على مسلم لا قريب على قريب، ولكن كلما كانت الصلة أقوى كانت العيادة أشد إلحاحاً وطلباً، ومن المعلوم أنه إذا مرض أخوك الشقيق فليس كمرض ابن عمك البعيد، وكذلك إذا مرض من بينك وبينه مصاهرة أي: صلة بالنكاح فليس كمن ليس بينك وبينه مصاهرة، وكذلك الذي بينك وبينه مصادقة ليس كمن ليس بينك وبينه مصادقة، فالحقوق هذه تختلف باختلاف الناس.
وقوله: "تسنّ" ظاهره أنَّه سنة في حق جميع الناس، ولكن ليس هذا على إطلاقه؛ فإن عيادة المريض إذا تعينت براً أو صلة رحم صارت واجبة لا من أجل المرض، ولكن من أجل القرابة، فلا يمكن أن نقول لشخص مرض أبوه: إن عيادة أبيك سنة، بل واجبة؛ لأنها يتوقف عليها البر، وكذا عيادة الأخ؛ لأن الوجوب ليس لأجل المرض، ولكن من أجل الصلة في القرابة، أما من لا يعد ترك عيادته عقوقاً أو قطيعة فإن المؤلف يقول: إنه سنة.
وقال بعض العلماء: إنه واجب كفائي أي: يجب على المسلمين أن يعودوا مرضاهم، وهذا هو الصحيح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها من حق المسلم على المسلم ، وليس من محاسن الإِسلام أن يمرض الواحد منا ولا يعوده أحد، وكأنَّه مَرِضَ في برية، فلو علمنا أن هذا الرجل لا يعوده أحد فإنه يجب على من علم بحاله وَقَدِرَ أن يعوده.(171/6)
وعيادةُ المريض مَعَ كونها من أداء الحقوق على المسلم لأخيه ففيها جلب مودة وألفة لا يتصورها إلا من مرض ثم عاده إخوانه، فإنه يجد من المحبة لهؤلاء الذين عادوه شيئاً كثيراً، فتجده يتذوقها، ويتحدث بها كثيراً، ففيها مع الأجر تثبيتُ الألفةِ بين المسلمين.
قوله: "تسنّ عيادة المريض" ولم يبيِّن المؤلف في أي وقت يعاد المريض، ولم يبيّن هل يتحدث عنده، ويتأخر في المقام، أو لا يتحدث، ويتعجل في الانصراف؟
فنقول: عدم ذكرها أحسن، أما بالنسبة للزمن المناسب فيختلف بحسب ما تقتضيه حالة المريض ومصلحته، ولا نقيدها بأنها بكرة أو عشياً كما قيدها بعض العلماء، بل نقول: إن هذه ترجع إلى أحوال الناس، وهي تختلف بحسب حال المريض، فإذا قدرنا أن المريض قد جعل له وقتاً يجلس فيه للناس فليس من المناسب أن نعوده في غير هذا الوقت؛ لأن تخصيصه لزمن يعوده فيه الناس، يدل على أنه لا يرغب في غير هذا، وإلا لجعل الباب مفتوحاً.
وأما بالنسبة لكونه يتأخر عند المريض ويتحدث إليه، أو يعوده ثم ينصرف بسرعة فهذه أيضاً ينبغي ألا تقيد، وإن كان بعض العلماء يقول: الأفضل ألا تتأخر وأن تبادر بالانصراف؛ لأن المريض قد يثقل عليه ذلك، وكذلك أهل المريض ربما يثقل عليهم البقاء عنده؛ لأنهم يحبون أن يأتوا إلى مريضهم.
ولكن الصحيح في ذلك أنه يرجع إلى ما تقتضيه الحال والمصلحة، فقد يكون هذا المريض يحب من يعوده سواء محبة عامة أو محبة خاصة لشخص معين، ويرغب أن يبقى عنده، ويتحدث إليه، ولا سيما إذا أنس بك المريض، ورأيت أنه يحب أن تتحدث إليه، مثل أن يسألك عن أحوال الناس مثلاً، أو عن أشياء يحب أن يطلع عليها، فهنا ينبغي لك أن تمكث عنده، أما إذا علمت من حاله أنه يرغب ألا تبقى كثيراً، مثل: أن تراه يتململ، وأن صدره ضائق فهنا تخرج ولا تبقى؛ لأنك تعلم أنه لا يريد أن تبقى عنده، والناس يختلفون، لا المرضى ولا العائدون.(171/7)
ولهذا أنا أرى أن إطلاق المؤلف هذا الإِطلاق بدون تقييد بزمن ولا ببقاء من أحسن ما فعل - -.
مسألة: الاتصال بالهاتف لا يغني عن العيادة؛ لا سيما مع القرابة، أما إن كان بعيداً يحتاج لسفر فتغني.
قوله: "وتذكيره التوبة والوصية" ، أي: ويسنّ أن يذكره التوبة والوصية، فالتوبة من المعاصي والمظالم، سواء كان ذلك فيما يتعلق بحق الله - عز وجل -، أو بحقوق العباد، ويؤكد على حقوق العباد، ويبيّن له أنه إن لم يقضها في الدنيا ويتب إلى الله منها في الدنيا، فسوف تؤخذ من حسناته يوم القيامة التي هو أحوج الناس إليها، وأيضاً يذكره بأن الورثة كثير منهم لا يخافون الله ولا يرحمون الميت، فتجدهم يلعبون بالمال، والميت محبوس بدينه؛ من أجل أن يحرص على أداء المظالم قبل أن يموت.
ويذكره أيضاً الوصية، وليس المراد بالوصية ما يفهمه كثير من العامة من أنها الوصية بالعشاء والضحية، كما هو عندنا في نجد، فأكثر الوصايا عندنا هي: أوصى بثلث ماله أو بجزء منه يقدره بعشاء وأضحية، ويستدلون بالحديث الضعيف: "استفرهوا ضحاياكم فإنها مطاياكم على الصراط" ، أي: اتخذوا ضحايا فارهة، فإنها مطاياكم، فيقول: أنا أحب أن يكون لي مطية يوم القيامة، فأوصي بالأضحية. وليس هذا هو مراد العلماء.
وأهم شيء أن يوصي بما يجب عليه من حقوق الله وحقوق العباد، فقد يكون عليه زكاة لم يؤدها، وقد يكون عليه حج لم يؤده، وقد يكون عليه كفارة، وقد يكون عليه ديون للناس فيذكر بالوصية بهذا.(171/8)
ويذكر بوصية التطوع، فيقال: لو أوصيت بشيء من مالك في وجوه الخير تنتفع به، وأحسن ما يوصي به للأقارب غير الوارثين؛ لأن الذي يترجّح عندي: أن الوصية للأقارب غير الوارثين واجبة؛ لأن الله قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ) (البقرة:180) ، وخص الوارث بآيات المواريث، ويبقى ما عداه على الأصل وهو الوجوب.والصحيح: أن الآية محكمة لا منسوخة، وعلى هذا فيوصي بما شاء، بالخمس مثلاً، فيقول: أنا أوصيت بالخمس يعطي الوصي منه ما يرى لأقاربي غير الوارثين، والباقي لأعمال الخير، وإذا كان له أقارب غير وارثين فقراء فهم أحق بالخمس كله.
وظاهر كلام المؤلف: يدل على أنه يذكر بذلك، سواء كان المرض مخوفاً أو غير مخوف، وسواء كان المريض يرتاع بذلك أو لا؛ لأن بعض المرضى إذا قلت له: تب إلى الله، واستغفره وانظر إلى المظالم التي عليك فأوصِ، تُدْني إليه الموت وربما يموت؛ لأنه سيقول: هذا رأى فيّ الموت.
وبعض الناس يكون عنده يقين ولا يهتم بهذا الشيء، ويعرف أن الوصية لا تقرب الأجل، وترك الوصية لا يبعد الأجل، وكذلك الأمر بالتوبة.
وقال بعض العلماء: لا يذكره بذلك إلا إذا كان مرضه مخوفاً.
وفصل بعضهم فقال: أما التوبة فيذكره بها مطلقاً، ولو كان المرض غير مخوف؛ لأن التوبة مطلوبة في كل حال، والوصية لا يذكره بها إلا إذا كان المرض مخوفاً.(171/9)
والذي يظهر لي أنه يذكره مطلقاً ما لم يخف عليه؛ وذلك لأن التوبة مشروعة في كل وقت، والوصية كذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده" ، ولو كان صحيحاً ينبغي له إذا ذكره الوصية أن يبيّن له الوصية المشروعة، التي ليس لها آثار سيئة، بأن يقول: أوص بما أراد الله في الأقارب لغير الوارثين، على نظر الوصي، ولبناء مساجد، أو شراء كتب، أو ما شابه ذلك، وتكون وصية منجزة لا تتأخر، وكذا إذا عرف من حال المريض أنه متهاون بمظالم الناس، وبما أوجب الله عليه، فينبغي أن يذكره على وجه لا يزعجه؛ لأن المريض ضعفت نفسه.
مثلاً: إذا كان مديناً يحسن أن يقال: كتابة الديون والإِشهاد عليها حسن، والآجال بيد الله، وما أشبه.
ويبيّن له مسألة هامة يهملها كثير من كتّاب الوصايا، فيكتب "وهذه الوصية ناسخة لما قبلها، أو سبقها"؛ لأننا وجدنا أن بعض الموصين يوصي بوصيتين: وصية سابقة فيها أشياء يطلب تنفيذها، ووصية لاحقة فيها أشياء يطلب تنفيذها، غير الأشياء الأولى، فيحصل بذلك تضارب وارتباك عند الأوصياء، ولهذا ينبغي كلما كتب وصية أن يقول: "وهذه الوصية ناسخة لما سبقها"؛ حتى لا يرتبك الوصي، وحتى لا يحصل تضارب الوصايا ويرتاح الإنسان، وهذه كلمة لا تضر، وإن كان قد يقول قائل: العبرة بالوصية الأخيرة؛ لأن المتأخر ناسخ، ولكن نقول: إذا أمكن الجمع فلا نسخ، وقد تكون الوصايا في الأولى كثيرة وفي الثانية كثيرة ولا يمكن الجمع بينهما.
ويسن إذا عاد مريضاً أن يرقيه، لا سيما إذا كان المريض يتشوف لذلك.(171/10)
قوله: "وإذا نزل به" ، أي: نزل به الملك لقبض روحه، والملك الذي يقبض الروح هو ملك واحد يسمى "ملك الموت" لقوله تعالى: )قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (السجدة:11) ، وتسميته (عزرائيل) لم تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما هي من أخبار بني إسرائيل، ولم يثبت من أسماء الملائكة إلا خمسة أسماء، وهي: جبرائيل، وميكائيل، وإسرافيل، ومالك، ورضوان، فهذه هي الأسماء الثابتة فيمن يتولون أعمال العباد، فأما (منكر ونكير) اللّذان يسألان الميت في قبره، فقد أنكرهما كثير من أهل العلم، ولكن وردت فيهما آثار.
والمهم: أن ملك الموت لا يسمى عزرائيل؛ لأنه لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من الأمور الغيبية التي يتوقف إثباتها ونفيها على ما ورد به الشرع.
ثم إن ملك الموت له أعوان يعينونه على إخراج الروح من الجسد حتى يوصلوها إلى الحلقوم، فإذا أوصلوها إلى الحلقوم قبضها ملك الموت، وقد أضاف الله تعالى الوفاة إلى نفسه، وإلى رسله أي: الملائكة، وإلى ملك واحد، فقال الله تعالى: )اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا)(الزمر: من الآية42)، وأضافها إلى ملك واحد في قوله تعالى)قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)(السجدة: من الآية11) ، وإلى الملائكة في قوله:( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ)(الأنعام: من الآية61) ، ولا معارضة بين هذه الآيات، فأضافه الله إلى نفسه؛ لأنه واقع بأمره، وأضافه إلى الملائكة؛ لأنهم أعوان لملك الموت، وأضافه إلى ملك الموت؛ لأنه هو الذي تولى قبضها من البدن.(171/11)
قوله: "سُنَّ تعاهد بلّ حلقه بماء أو شراب" ، أي: يسن أن يتعاهد الإِنسان بلَّ حلق المحتضَر بماء أو شراب، ولكن ليس بالماء الكثير؛ لأن الماء الكثير ربما يشرقه ويتضرر به، ولكن بماء قليل نقط تنقط بحلقه، وذلك من أجل أن يسهل عليه النطق بالشهادة؛ لأن المقام مقام رأفة بهذا المريض الذي بين يديك، فاسلك كل طريق يكون به أرفق.
وقول المؤلف: "بماء أو شراب" الماء معروف، والشراب: ما سوى الماء مثل العصير أو شبهه، المهم الشيء الذي يصل إلى حلقه ويبلّه.
قوله: "وتندّى شفتاه بقطنة" ، أي: أن الحاضر ينبغي له مع تنقيط الماء في حلق المحتضَر أن يندي شفتيه بقطنة؛ لأن الشفة يابسة، والحلق يابس فيحتاجان إلى تندية.
قوله: "وتلقينه لا إله إلا الله مرة" ، أي: تعليمه إياها كما يلقن التلميذ.
وهل يقولها بلفظ الأمر، فيقول: قل: "لا إله إلا الله" أو يقولها بدون لفظ الأمر بأن يذكر الله عنده حتى يسمعه؟
الجواب: ينبغي في هذا أن ينظر إلى حال المريض، فإن كان المريض قوياً يتحمل، أو كان كافراً فإنه يؤمر فيقال: قل: لا إله إلا الله، اختم حياتك بلا إله إلا الله، وما أشبه ذلك.
وإن كان مسلماً ضعيفاً فإنه لا يؤمر، وإنما يذكر الله عنده حتى يسمع فيتذكر، وهذا التفصيل مأخوذ من الأثر، والنظر.
أما الأثر فلأن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر عمه أبا طالب عند وفاته أن يقول: لا إله إلا الله، قال: يا عم قل: لا إله إلا الله" .(171/12)
وأما النظر: فلأنه إن قالها فهو خير، وإن لم يقلها فهو كافر، فلو فرض أنه ضاق صدره بهذا الأمر ولم يقلها فهو باق على حاله لم يؤثر عليه شيئاً، وكذا إذا كان مسلماً وهو ممن يتحمل فإن أمرناه بها لا يؤثر عليه، وإن كان ضعيفاً فإن أمرناه بها ربما يحصل به رد فعل بحيث يضيق صدره، ويغضب فينكر وهو في حال فِراق الدنيا، فبعض الناس في حال الصحة إذا قلت له قل: لا إله إلا الله، قال: لن أقول: لا إله إلا الله، فعند الغضب يغضب بعض الناس حتى ينسى، فيقول: لا أقول: لا إله إلا الله، فما بالك بهذه الحال؟
قوله: "تلقينه لا إله إلا الله" ولم يقل: محمداً رسول الله؛ لأن هذا هو الذي ورد فيه الحديث: "لقّنوا موتاكم لا إله إلا الله" ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة" . فكلمة التوحيد مفتاح الإِسلام، وما يأتي بعدها فهو من مكملاتها وفروعها.
ولو جمع بين الشهادتين؛ فقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، لا يمنع هذا من أن يكون آخر كلامه من الدنيا "لا إله إلا الله" ؛ لأن الشهادة للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة تابع لما قبلها ومتممٌ له، ولهذا جعلها النبي صلى الله عليه وسلم مع الشهادة لله بالألوهية ركناً واحداً، فلا يعاد تلقينه، وظاهر الأدلة أنه لا يكفي قول المحتضَر: أشهد أن محمداً رسول الله، بل لا بد أن يقول: لا إله إلا الله.
قوله: "ولم يزد على ثلاث" أي: لم يلقنه أكثر من ثلاث؛ لأنه لو زاد على ذلك ضجر؛ لأنه سيقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم يسكت، فلو كرر ربما يتضجر المريض؛ لأنه بحال صعبة لا يدركها إلا من كان على هذه الحال، ولأن من عادة النبي صلى الله عليه وسلم غالباً أنه إذا تكلم تكلم ثلاثاً، وإذا سلم سلم ثلاثاً، وإذا استأذن استأذن ثلاثاً، فالثلاث عدد معتبر في كثير من الأشياء.
قوله: "إلا أن يتكلم بعده فيعيد تلقينه برفق" .(171/13)
"إلا أن يتكلم" الفاعل المريض المحتضَر، فإذا تكلم بعد أن قال: لا إله إلا الله فإنه يعيد تلقينه، لكن برفق كالأول.
قوله: "فيعيدُ" بالرفع على الاستئناف؛ لأنها لا تصلح للعطف، والاستئناف بالفاء كثير، ومنه قوله تبارك وتعالى: ) وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَو تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ)(البقرة: من الآية284).
والمعنى يفسد فيما لو قلنا: "فيعيدَ" بالنصب عطفاً على "يتكلم"؛ لأن المعنى يكون إلا أن يتكلم فإنه يعيد، وهذا ليس هو المقصود؛ لأن المقصود إلا أن يتكلم فإذا تكلم أعاد تلقينه برفق.
قوله: "ويقرأ عنده {يس } " ، أي: يقرأ القارئ عند المحتضَر سورة {يس } لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا على موتاكم يس~" ، هذا الحديث مختلف فيه، وفيه مقال، ومن كان عنده هذا الحديث حسناً أخذ به. وقوله عليه الصلاة والسلام: "اقرؤوا على موتاكم" ، أي: من كان في سياق الموت، وسمي ميتاً باعتبار ما يؤول إليه، وتسمية الشيء بما يؤول إليه وارد في اللغة العربية، ومنه قول الرائي ليوسف: ) إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً )(يوسف: من الآية36)، وهو لا يعصر خمراً، وإنما يعصر عنباً يكون خمراً.
وقد ذكر بعض العلماء أن من فائدة قراءة يس~ تسهيل خروج الروح؛ لأن فيها تشويقاً، مثل قوله تعالى: {قيل أدخل الجنة } [يس: 26] ، والتشويق للجنة فيه تسهيل لخروج الروح، ولهذا إذا بُشّر - نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن تبشّر روحه بالجنة - إذا بشّر بالجنة سهل عليه، وأحب لقاء الله فأحب الله لقاءه. وفيها: (إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ(55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ) (يّس:56)
وفي آخرها إثبات قدرة الله - عز وجل - على إحياء الموتى.ولكن هل يقرؤها سراً أو جهراً، أو في ذلك تفصيل؟(171/14)
الجواب: قوله: "اقرؤوا على موتاكم" ، يقتضي أن تكون قراءتها جهراً، ولا سيما إذا قلنا: إن العلة تشويق الميت لما يسمعه في هذه السورة، ولكن إذا كان يخشى على المريض من الانزعاج، وأنه إذا سمع القارئ يقرأ سورة {يس }، أو كان في شك في كون الإِنسان في النزع فلا يرفع صوته بها، وإن كان جازماً، فالإِنسان الذي يكثر حضور المحتضَرين يعرف أنه احتُضِر أو لا، فإذا عرف أنه في سياق الموت فإنه يقرؤها بصوت مرتفع، ولا حرج في هذا، لأن الرجل يُحْتَضَر.
وهذه القراءة لا يكون معها نفث على المحتضَر؛ لأنه لم يرد.
قوله: "ويوجّهه إلى القبلة" أي: من حضر الميت يوجّه الميت إلى القبلة، أي: يجعل وجهه نحو القبلة، وذلك أن المحتضَر إما أن يستدبر القبلة، أو يكون رأسه نحو القبلة أو بالعكس، أو يستقبلها، والأخيرة أفضل الأحوال. وهذا يقتضي أن يكون على جنبه الأيمن، أو الأيسر حسب ما هو متيسر؛ لأن المجلس الذي يستقبل فيه الإنسان القبلة هو أفضل المجالس، كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أشرف مجالسكم ما استقبلتم به القبلة" ؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البيت الحرام قبلتكم أحياء وأمواتاً" ، وهذا يشمل الميت المحتضر والميت بعد دفنه في القبر، وكلا الحديثين ضعيف، لكن يشهد له ما أخرجه الحاكم والبيهقي عن أبي قتادة - - أن البراء بن معرور أوصى عند موته أن يستقبل به القبلة فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أصاب الفطرة" . فهذا يشهد للحديثين السابقين، وإلا فإن الذي يظهر من عمل النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة أنهم لا يتقصدون أن يوجّه المحتضَر إلى القبلة، ومن ذلك ما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم عند موته حيث مات في حجر عائشة، ولم يُذْكر أنها استقبلت به القبلة ، وإنما هذه الأحاديث، وإن كانت ضعيفة فربما تصل إلى درجة الحسن فتكون مقبولة.(171/15)
قوله: "فإذا مات سنّ تغميضه" ، كل ما تقدم من الكلام محله قبل الموت، فإذا مات فإنه تشرع في حق الميت أمور:
أولها: تغميض الميت، أي: إذا تحققنا موته، والإِنسان إذا مات شخص بصره، أي: انفتح يتبع روحه أين تذهب، فإذا مات فإنه سوف يشخص بصره، فيسنّ تغميضه، ولذلك دليلان: أثري، ونظري.
أما الأثري: ففعل النبي صلى الله عليه وسلم بأبي سلمة، "فإنه لما دخل على أبي سلمة ورأى بصره قد شخص قال: إن الروح إذا قبض اتبعه البصر، فسمعه من في البيت فضجوا" ، أي: علموا أن الرجل قد مات، "فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون" لأنه من عادة الجاهلية أنه عند المصائب يدعون على أنفسهم بالشر، فيقولون: واثبوراه، وانقطاع ظهراه، وما أشبه ذلك من الكلمات المعروفة عندهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل أبي سلمة: "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون" ، وإِنَّ دعاءً تؤمِّن عليه الملائكة لحريٌّ بالإِجابة، ولا سيما في هذه الحال التي يكون فيها الإِنسان مصاباً خاضعاً خاشعاً مفتقراً إلى ربه، عارفاً أنه لا ينجيه من هذه المصيبة إلا الله، فيكون حرياً بالإِجابة، ولهذا سُخِّرت الملائكة لتؤمِّن على دعائه، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، واخلفه في عقبه في الغابرين" ، دعوات عظيمة خير من الدنيا وما فيها، دعا له بهذه الدعوات الخمس، والأخيرة منها علمت، فإن الله تعالى خلفه في عقبه حيث سخر نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يتزوج أم سلمة، ويكون أبناء أبي سلمة ربائب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وما لم نعلمه من المغفرة، ورفع درجته في المهديين، والفسح له في قبره، وتنويره، فإننا نرجو أن يكون كذلك.(171/16)
وأما النظري: فهو: لدفع تشويه الميت؛ لأنه إذا كان البصر شاخصاً ففيه تشويه، فالذي ينظر إليه يجده مشوهاً، ففي تغميضه إزالة لهذا التشويه.
قال العلماء: وفيه أيضاً حجب الهوام أن تصل إلى حدقة العين، ولكن هذا تعليل بعيد؛ لأن الميت لن يبقى حتى تتسلط عليه الهوام؛ ولأنه سيأتي أنه يغطى، فالذباب وشبهه لن يصل إليه، لكن التعليل الأول الذي ذكرناه هو الأولى، وهو: درء التشويه؛ لأن الميت سوف يغسل، وسوف يكشف فإذا كشف وقد حصل له هذا يكون مشوهاً، وربما يتوجّه ما قاله بعض العلماء في منع الهوام من الوصول إلى الحدقة فيما إذا دفن في القبر؛ لأنه إذا بقي البصر منفتحاً ثم برد الميت لا يمكن أن ينضم بعد هذا فيبقى منفتحاً إلى أن يشاء الله.
وينبغي عند التغميض أن يدعو بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمة فيقول: "اللهم اغفر لفلان، وارفع درجته في المهديين، وافسح له في قبره، ونوّر له فيه، واخلفه في عقبه" كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون هنا سنّة فعلية وسنّة قولية، الفعلية هي: تغميض العينين. والقولية هي: هذا الدعاء.
قوله: "وشد لحييه" ، هذا هو الأمر الثاني مما يفعل بالميت، وهو: شد لحييه، أي: ربطهما، واللحيان: هما العظمان اللذان هما منبت الأسنان فليشدهما بحبل،أو بخيط، أو بلفافة؛ لأنه إذا لم يربطهما فربما ينفتح الفم، فإذا شدهما وبرد الميت بقي مشدوداً.
وهذا ليس فيه دليل أثري فيما أعلم، لكن فيه دليلاً نظرياً: وهو: درء تشويه الميت من وجه.
والوجه الثاني: حفظ باطنه من دخول الهوام عليه، ولو في القبر.
قوله: "وتليين مفاصله" ، هذا هو الأمر الثالث، وهو: تليين مفاصل الميت، أي: أن يحاول تليينها، والمراد مفاصل اليدين والرجلين، وذلك بأن يرد الذراع إلى العضد، ثم العضد إلى الجنب ثم يردهما.(171/17)
وكذلك مفاصل الرجلين: بأن يرد الساق إلى الفخذ، ثم الفخذ إلى البطن، ثم يردهما قبل أن يبرد؛ لأنه إذا برد بقي على ما هو عليه وصعب تغسيله، فيكون مشتداً لكن إذا ليّنت المفاصل صارت لينة عند الغسل وعند التكفين وربط الكفن، فسهل على الغاسل والمكفن التغسيل والتكفين، وهذا أيضاً لا أعلم فيه سنّة، لكن دليله نظري.
وهو ما فيه من تليين مفاصل الميت وهذه مصلحة، ولكن يجب أن تليّن برفق، وليس بشدة؛ لأن الميت محل الرفق والرحمة.
قوله: "وخلع ثيابه" ، هذا هو الأمر الرابع؛ وهو: خلع ثياب الميت، ودليل هذا أثري ونظري أيضاً:
أما الأثري: فهو قول الصحابة حين مات النبي صلى الله عليه وسلم: "هل نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا" ، فينبغي أن تخلع ثيابه.
أما النظري: فلأن الثياب لو بقيت لحمي الجسم، وأسرع إليه الفساد، أما إذا جرّد من ثيابه صار أبرد له، ويسجى كما سيأتي بثوب.
ويجب أن يكون الخلع برفق خلافاً لما رأيناه من بعض الناس، تجده ينزع الثياب بشدة، لا سيما في ثياب الشتاء إذا كانت على الميت، فهذا خلاف الرحمة والرفق.
قوله: "وستره بثوب" هذا هو الأمر الخامس، وهو: ستر الميت بثوب؛ أي: ستر الميت بثوب يكون شاملاً للبدن كله.
ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم "حين توفي سجي ببرد حِبَرة" ، والبُرد: ثوب يلتحف به يشمل كل الجسد، والحبرة: برود يمانية معروفة في ذلك العهد تأتي من اليمن، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يجرد من ثيابه، بل بقيت ثيابه عليه وستر بثوب .
قوله: "ووضع حديدة على بطنه" هذا هو الأمر السادس، وهو وضع حديدة على بطن الميت أي: يسن أيضاً أن يوضع على بطنه حديدة أو نحوها من الأشياء الثقيلة.
واستدلوا على هذا: بأثر فيه نظر، وبنظر فيه عِلة.(171/18)
أما الأثر: فذكروا عن أنس بن مالك - - أنه قال: "ضعوا على بطنه شيئاً من حديد" ، وهذا الأثر فيه نظر، ولا أظنه يثبت عن أنس بن مالك - -، والذي يظهر من حال الصحابة أنهم لا يفعلون ذلك.
وأما النظر الذي فيه عِلة فإنهم قالوا: لئلا ينتفخ البطن، إذا وضع عليه حديدة أو نحوها من الأشياء الثقيلة.
ولكن هل هذا يمنع الانتفاخ؟ لا أظنه يمنع؛ لأن الانتفاخ إذا حصل لا يغني وضع الحديدة شيئاً إلا إن كان سيوضع عليه حديدة وزن الجبل فهذا شيء ثان، أما إذا كانت حديدة مألوفة فإنه إذا انتفخ فإنها سوف ترتفع، ثم إن الزمن ليس طويلاً؛ لأن السنة هي الإِسراع بتجهيز الميت، وفي عصرنا الآن نستغني عن هذا، وهو أن يوضع في ثلاجة إذا احتيج إلى تأخير دفنه، وإذا وضع في الثلاجة فإنه لا ينتفخ، لأنه يبقى بارداً فلا يحصل الانتفاخ في بطنه.
قوله: "ووضعه على سرير غسله متوجهاً منحدراً نحو رجليه" هذا هو الأمر السابع، وهو: وضع الميت على سرير الغسل، أي: ينبغي أن يبادر في رفعه عن الأرض؛ لئلا تأتيه الهوام، ولعل ذكر الفقهاء - رحمهم الله لذلك؛ لكثرة الهوام في البيوت في زمانهم فلهذا قالوا: ينبغي أن يبادر فيرفع على سرير الغسل.
والسرير معروف، ويختلف سرير الغسل عند الناس، فمنهم من يكون السرير مختوماً أي: كله ألواح، ومنهم من يكون السرير غير مختوم أي: عبارة عن قطع من الخشب مصفوف بعضها إلى بعض مع الفتحات، كما هو موجود عندنا الآن.
وقوله: "متوجهاً" ، أي: إلى القبلة لأن هذا أفضل، ولا أعلم في هذا دليلاً من السنة.
وقوله: "منحدراً نحو رجليه" أي: يكون رأسه أعلى من رجليه لسببين:
الأول: لئلا يبقى الماء في السرير؛ وهذا لأن الأسرَّة كانت عندهم فيما سبق ألواحاً مختومة، أما السرير الموجود الآن فليس كذلك.
الثاني: من أجل أن يسهل خروج ما كان مستعداً للخروج من بطنه؛ لأنه إذا كان مرتفعاً نازلاً نحو رجليه، فالذي يكون متهيئاً للخروج يخرج.(171/19)
وقوله: "متوجهاً، منحدراً نحو رجليه" هذه صفة للوضع على السرير فلا نعدها أموراً مستقلة.
قوله: "وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة" ، هذا هو الأمر الثامن ، وهو: الإسراع في تجهيز الميت، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشر تضعونه عن رقابكم" ، لكن ظاهره فيما لو كانت محمولة؛ لأن قوله: "فشرٌّ تضعونه عن رقابكم" ظاهر: في أن المراد بذلك الإِسراع بها حين تشييعها. لكن نقول: إذا كان الإِسراع في التشييع مطلوباً مع ما فيه من المشقة على المشيعين، فالإِسراع في التجهيز من باب أولى.
أما حديث: "لا ينبغي لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهراني أهله" ، فهو ضعيف.
وقوله: "إن مات غير فجأة" ، فإن مات فجأة فإنه لا يسن الإِسراع بتجهيزه؛ لاحتمال أن تكون غشية لا موتاً، والمسألة خطيرة؛ لأنه لو كانت غشية ثم جهزناه ودفناه، ولم تكن موتاً صار في ذلك قتلٌ لنفس، فالواجب إن مات فجأة أن ننتظر به.
وهذا الذي ذكره العلماء - رحمهم الله - قبل أن يتقدم الطب، أما الآن فإنه يمكن أن يحكم عليه أنه مات بسرعة؛ لأن لديهم وسائل قوية تدل على موت المريض. لكن إذا لم يكن هناك وسائل فإن الواجب الانتظار إلى أن نتيقن موته.
قال في الروض: "يعرف موته بانخساف صدغيه، وميل أنفه، وانفصال كفيه، واسترخاء رجليه" ، فهذه أربع علامات:
الأولى: انخساف الصُدْغ؛ لأن اللحيين ينطلقان فإذا انطلقا صار الصدغ منخسفاً.
الثانية: ميل أنفه، فإذا مات يميل الأنف؛ لأن الأنف مستقيم ما دامت الحياة بالإِنسان، ثم إذا مات ارتخى ولان ومال.
الثالثة: انفصال كفيه، أي: عن ذراعه فتنطلق الكف عن الذراع، وتجدها مرتخية.
الرابعة: استرخاء رجليه، فتنفصل الرجل عن الكعب، فترتخي وتميل.
فهذه أربع علامات يعلم بها الموت، وهي علامات حسية بدون آلات، لكن الآن لدى الأطباء آلات تدل على الموت دون هذه العلامات.(171/20)
ويذكر: أن رجلاً أصيب بغشية فجهَّزوه، وحملوه إلى المقبرة، فمروا برجل ذي خبرة فقال لهم: ما هذا؟ قالوا: هذه جنازة نريد أن ندفنها، قال: هذا لم يمت أنزلوه، فنزلوه، فأتى بسوط فجعل يضرب هذا الميت حتى تحرك فقالوا: ما الذي حملك على هذا؟ وما الذي أعلمك أنه لم يمت؟ قال: إن الميت تسترخي رجلاه فلا تنتصبان، وهذا الذي حملتم، رجلاه منتصبتان، وأما ضربي إياه بالسوط؛ فلأن الضرب يحمي الجسم، وإذا حمي جسمه زالت عنه البرودة التي هي سبب الغشي، ثم حملوه راجعين به إلى بيته.
فهذا شاهد على ما قاله الفقهاء - رحمهم الله - أن من علامات الموت استرخاء الرجلين.
فإسراع التجهيز بشرط أن يموت غير فجأة، فإن مات فجأة وجب الانتظار، وبهذا التقرير نعلم خطأ ما يفعله بعض الناس اليوم يؤخرون الميت حتى يأتي أقاربه، وأحياناً يكون أقاربه خارج المملكة في أوربا أو غيرها، فينتظرون به يوماً، أو يوماً وليلة من أجل حضور الأقارب، وهذا في الحقيقة جناية على الميت، فالميت إذا كان من أهل الخير، فإنه يود أن يدفن سريعاً؛ لأنه يبشر بالجنة عند موته - نسأل الله أن يجعلنا منهم - وإذا خُرِجَ به من بيته تقول نفسه: قدموني تحُثهم أن يوصلوها إلى القبر ، فإذا حبسناه عما أعد الله له من النعيم صار في هذا جناية عليه مع مخالفة السنة، وأصبحت الآن الجنازة كأنها حفل عرس ينتظر به القادم حتى يحضر.
أما إذا أخر مثلاً لساعة أو ساعتين أو نحوهما، من أجل كثرة الجمع فلا بأس بذلك، كما لو مات بأول النهار وأخرناه إلى الظهر؛ ليحضر الناس، أو إلى صلاة الجمعة إذا كان في صباح الجمعة؛ ليكثر المصلون عليه، فهذا لا بأس به؛ لأنه تأخير يسير لمصلحة الميت.
فإن قال قائل: كيف نجيب عن فعل الصحابة - -، حيث لم يدفنوا النبي صلى الله عليه وسلم إلا ليلة الأربعاء مع أنه توفي يوم الاثنين؟(171/21)
فالجواب عن هذا: أنه من أجل إقامة الخليفة بعده، حتى لا يبقى الناس بلا خليفة، فالإِمام الأول محمد صلى الله عليه وسلم توفي، فلا نواريه بالتراب حتى نقيم خليفة بعده، وهو مما يحثهم على إنجاز إقامة الخليفة، ومن حين ما بويع أبو بكر - - شرعوا في تجهيز النبي صلى الله عليه وسلم ودفنه.
وعلى هذا إذا مات الخليفة، وكان لم يعين من يخلفه فلا حرج أن يؤخر دفنه حتى يقام خليفة بعده.
قوله: "وإنفاذِ وصيته" ، "إنفاذِ" بالكسر عطفاً على "تجهيز" ، أي: وإسراع إنفاذ وصيته، أما إنفاذ وصيته فهو واجب، لكن إسراع الإِنفاذ إما واجب أو مستحب؛ لأن الوصية إن كانت في واجب فللإِسراع في إبراء ذمته، وإن كانت في تطوع فلإِسراع الأجر له، والوصية إما واجبة وإما تطوع.
قال أهل العلم: فينبغي أن تنفذ قبل أن يدفن، سبحان الله إذا رأيت هذا الكلام، ورأيت ما يفعله بعض الظلمة من الورثة الذين يؤخرون وفاء الدين عن الميت لمصالحهم الخاصة، فتجد الميت عليه ديون ووراءه عقارات، فيقولون: لا نبيعها؛ بل نوفيه من الأجرة ولو بعد عشر سنين، أو يقولون: الأراضي - مثلاً كسدت الآن فننتظر حتى ترتفع قيمتها، وربما ترتفع قيمتها، وربما تنزل، وهذا ظلم - والعياذ بالله -، وربما يكون هؤلاء من ذرية الميت، فيكون فيه من العقوق ما لا يخفى على أحد؛ لأن الميت يتأثر بالدين الذي عليه إن صح الحديث: "نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه" ، وإن لم يصح فلا بد أن تتأثر النفس بهذا الدين الذي عليه، فالوصية بالواجب يجب المبادرة بإنفاذها، وبالتطوع يسن، لكن الإِسراع بذلك مطلوب، سواء أكانت واجبة أم مستحبة قبل أن يصلى عليه ويدفن، هذه هي السنة.
قوله: "ويجب الإِسراع في قضاء دينه" ، أي دين الميت، سواء كان هذا الدَّين لله، أو للآدمي.
فالدَّين لله مثل: الزكاة، والكفارة، والنذر، وما أشبه ذلك.(171/22)
والدَّين للآدمي: كالقرض، وثمن المبيع، والأجرة، وضمان تالف، وغير هذا من حقوق الآدميين فيجب الإِسراع بها بحسب الإمكان، فتأخيرها حرام.
والدليل: أثري ونظري:
أما الأثري: فقول النبي صلى الله عليه وسلم: "نفس المؤمن معلقة بدَينه حتى يقضى عنه" ، فهذا الحديث فيه ضعف، لكن يؤيده حديث أبي قتادة "في الرجل الذي جيء به إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسأل هل عليه دين؟ قالوا: نعم ديناران، فتأخر ولم يصلِّ عليه، فقال أبو قتادة: الديناران عليَّ يا رسول الله، قال: حقُ الغريم وبرئ منهما الميت؟ قال: نعم، فتقدم فصلى" .
وأما الدليل النظري: فلأن الأصل في الواجب المبادرة بفعله ولا يجوز تأخير الواجب إلا إذا اقتضى الدليل تأخيره.
فصل
قوله: "غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه فرض كفاية" .
هذه أربع مسائل:
الأولى: قوله: "غسل الميت" .
ودليل ذلك:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته يوم عرفة: "اغسلوه بماء وسدر" ، والأمر في الأصل للوجوب، ومن المعلوم أنه لا يريد من كل واحد من المسلمين أن يغسل هذا الميت، إنما يوجه الخطاب لعموم المسلمين، فإذا قام به بعضهم كفى.
- قول النبي عليه الصلاة والسلام للنساء اللاتي يغسلن ابنته:
"اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" ، والأصل في الأمر الوجوب.
وهذان دليلان أثريان.
أما الدليل النظري:
فلأنَّ هذا من حقوق المسلم على أخيه، بل هو من أعظم الحقوق أن يقدم الإِنسان أخاه إلى ربه على أكمل ما يكون من الطهارة.
والثانية: قوله: "وتكفينه" ، ودليله قوله صلى الله عليه وسلم: "كفنوه في ثوبيه" . وهذا أمر، والأصل في الأمر الوجوب، ومن المعلوم أنه واجب كفاية؛ لأنه لا يمكن أن يؤمر كل واحد من الناس أن يكفن الميت، وإنما المقصود أن يحصل الكفن.
وهذا هو الفرق بين فرض الكفاية وفرض العين، ففرض العين مطلوب من كل واحد، وفرض الكفاية المطلوب فيه وجود الفعل.(171/23)
الثالثة: قوله: "والصلاة عليه" ، فالصلاة عليه أيضاً فرض كفاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الأموات باستمرار، وكان يقول: "صلوا على صاحبكم" ، "وأمر أن يصلى على المرأة التي رجمت" ، وقال الله - عز وجل -: )وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ )(التوبة: من الآية84)، فلما نهى عن الصلاة على المنافقين دل على أن الصلاة على المؤمنين شريعة قائمة، وهو كذلك.
الرابعة: قوله: "ودفنه فرض كفاية" ، فدفن الميت أيضاً فرض كفاية؛ لأن الله تعالى امتن به على العباد فقال تعالى: )أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً(25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً(26) ، فكما أنَّ علينا إيواء المضطر في البيوت، وستره فيها عند الضرورة، فكذلك علينا ستر الميت في قبره.
وكذلك قوله تعالى: )ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ) (عبس:21) ، فإن هذا سيق على سبيل المنة؛ لأن الله أكرمه بدفنه، ولم يجعله كسائر الجيف تلقى في المزابل والأسواق والأفنية، بل أكرمه بدفنه وستره.
إذاً هذه الأربع كلها فرض كفاية، وسيأتي إن شاء الله بالتفصيل كيفية التغسيل، وكيفية التكفين، وكيفية الصلاة، وكيفية الدفن.
واعلم أن كل فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإن لم يوجد إلا واحد صار في حقه فرض عين.
وقول المؤلف: "دفنه فرض كفاية" ، وما يتوقف عليه الدفن فرض كفاية أيضاً، وكذلك ما تتوقف الصلاة عليه فرض كفاية، فحمله من بيته إلى المصلى فرض كفاية، وحمله من المصلى إلى المقبرة فرض كفاية؛ لأن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) .
فإذا قال قائل: إذا كانت هذه الأشياء تحتاج إلى مال، فمن أين يؤخذ هذا المال، فالغسل - مثلاً - يحتاج إلى مال، والكفن يحتاج إلى مال، والدفن يحتاج إلى مال، والحمل قد يحتاج إلى مال؟
فالجواب: أنه يكون أولاً من تركة الميت، ثم على من تلزمه نفقته، فإن لم يمكن فعلى عموم المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.(171/24)
قوله: "وأولى الناس بغسله وصيه" ، أي: لو تنازع الناس فيمن يغسل هذا الميت؟
قلنا: أولى الناس بغسله وصيه، أي: الذي أوصى أن يغسله.
واستفدنا من قول المؤلف: "وصيه" أنه يجوز للميت أن يوصي ألَّا يغسله إلا فلان، والميت قد يوصي بذلك لسبب، مثل: أن يكون هذا الوصي تقياً يستر ما يراه من مكروه، أو أن يكون عالماً بأحكام الغسل، أو أن يكون رفيقاً؛ لأن بعض الذين يغسلون الأموات يعاملونهم بشدة عند نزع ثيابهم، وكأنما يسلخون جلد شاة مذبوحة - نسأل الله العافية -، فيوصي لشخص معين، فإذا كان الميت قد أوصى لشخص معين بأن يغسله، فهو أولى الناس بتغسيله، فإن لم يوص فسيذكره المؤلف.
والدليل على استفادة أولوية التغسيل بالوصية: "أن أبا بكر - - أوصى أن تغسله امرأته" ، "وأوصى أنس بن مالك أن يغسله محمد بن سيرين" .
قوله: "ثم أبوه، ثم جده، ثم الأقرب فالأقرب من عصباته" ، هنا قدموا ولاية الأصول على ولاية الفروع، وفي باب الميراث قدموا الفروع على الأصول، وفي ولاية النكاح قدموا الأصول على الفروع؛ فلو كان للشخص الميت أب وابن ولم يوص أن يغسله أحد، فالأولى الأب لما يلي:
أولاً: أن الأب أشد شفقة وحنواً على ابنه من الابن على أبيه.
ثانياً: أن الأب في الغالب يكون أعلم بهذه الأمور من الابن لصغره، مع أنه قد يكون بالعكس، فقد يكون ابن الميت طالب علم وأبوه جاهلاً.
وقوله: "ثم جده" ، أي: من قبل الأب.
وقوله: "ثم الأقرب فالأقرب من عصباته" ، أي: بعد الأب والجد الأبناء، وإن نزلوا، ثم الإِخوة وإن نزلوا، ثم الأعمام وإن نزلوا، ثم الولاء على هذا الترتيب، ومن المعلوم أن مثل هذا الترتيب إنما نحتاج إليه عند المشاحة، فأما عند عدم المشاحة كما هو الواقع في عصرنا اليوم، فإنه يتولى غسله من يتولى غسل عامة الناس، وهذا هو المعمول به الآن، فتجد الميت يموت وهناك أناس مستعدون لتغسيله، فيذهب إليهم فيغسلونه.
قوله: "ثم ذوو أرحامه" ، أي: أصحاب الرحم.(171/25)
وهم: كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة، فأب الأم مثلاً من ذوي الأرحام، وأم الأب ليست من ذوي الأرحام، لكن لا تغسل الرجل، فإذاً لا ترد علينا وإن كانت من ذوي الفروض.
قوله: "وأنثى وصيتها" ، كما قلنا فيما سبق بالنسبة للرجل.
قوله: "ثم القربى فالقربى من نسائها" ، ولم يقل: ثم الأقرب فالأقرب من العصبات؛ لأن النساء ليس فيهن عصبة إلا بالغير أو مع الغير، ولهذا قال: "القربى فالقربى من نسائها" وعلى هذا نقول: الأولى بتغسيل المرأة إذا ماتت: وصيتها، ثم أمها وإن علت، ثم ابنتها وإن نزلت، ثم أختها من أب أو أم أو الشقيقة، ثم عماتها، فخالاتها، إلى آخره.
قوله: "ولكل من الزوجين غسل صاحبه" أي: تغسيله، فالزوج له أن يغسل زوجته إذا ماتت، والزوجة لها أن تغسل زوجها إذا مات.
ودليل هذا ما سبق من حديث أبي بكر - -: "أنه أوصى أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس" .
وكذلك بالعكس؛ لأنه يروى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة - -: "لو مُتِّ قبلي لغسلتك"
مسألة: لو مات زوج عن زوجته الحامل، ثم وضعت الحمل قبل أن يغسل فهل لها تغسيله؟
الجواب: ليس لها ذلك؛ لأنها بانت منه حيث إنها انقضت عدتها قبل أن يغسل فصارت أجنبية منه.
قوله: "وكذا سيد مع سُرِّيَته" المراد: مع أمته، ولو لم تكن سُرِّيته، فلو قدر أنها مملوكة، لكن لم يتسرها أي: لم يجامعها، ثم مات فلها أن تغسله، وله أن يغسلها.
قوله: "ولرجل وامرأة غسل من له سبع سنين فقط" ، أي: من ذكر أو أنثى.
ودليل هذا: أن إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم غسلته النساء ؛ لأنه مات في الرضاعة أي قبل أن يفطم؛ ولأن عورة من دون السبع لا حكم لها، فإذا ماتت طفلة لها أقل من سبع سنوات فلأبيها أن يغسلها، وإذا مات طفل له أقل من سبع سنوات فلأمه أن تغسله، فإن ماتت طفلة لها سبع سنوات فأكثر فليس لأبيها أن يغسلها؛ لأنه لا يغسل الرجل المرأة، ولا المرأة الرجل إلا في الزوجين، والمالك وأمته.(171/26)
قوله: "وإن مات رجل بين نسوة" ، أي إن مات رجل بين نسوة، وكذا من له سبع سنين فأكثر فإنهن لا يغسلنه إلا أن يكون معهن زوجة له أو أمة، فإن كان معهن زوجة أو أمة فإنها تغسله كما سبق، أما إذا لم يكن معهن زوجة ولا أمة فإنه لا يغسل، وإذا كان معهن بنته أو أُمُّه فإنهما لا تغسِّلانه.
قوله: "أو عكسه" أي: أو حصل عكسه؛ بأن ماتت امرأة بين رجال، فإنهم لا يغسلونها إلا أن يكون أحد الرجال سيداً أو زوجاً.
قوله: "يُمِّمت كخنثى مشكل" ، أفادنا المؤلف بقوله: "يممت" أنه متى تعذر غسل الميت فإنه ييمم، وتعذره له صور منها:
أولاً: هاتان الصورتان: أن تموت امرأة بين رجال ليس معهم من يصح أن يغسلها، أو رجل بين نساء، ليس فيهن من يصح أن تغسله.
ثانياً: إذا كان الميت خنثى مشكلاً كما ذكر المؤلف.
ثالثاً: لو عدم الماء بأن مات ميت في البر، وليس عندنا ماء فإنه ييمم.
رابعاً: لو تعذر تغسيله لكونه محترقاً؛ فإنه ييمم كما سيأتي في كلام المؤلف - -؛ بناء على أن طهارة التيمم تقوم مقام طهارة الماء.
وقال بعض العلماء: إن من تعذر غسله لا ييمم؛ وذلك لأن المقصود بالتيمم التعبد لله تعالى بتعفير الوجه واليدين بالتراب، وهذا لا يحتاجه الميت، إذ إن المقصود من تغسيل الميت هو التنظيف؛ بدليل قوله صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته ناقته: "اغسلوه بماءٍ وسدر" ، وقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: "اغسلنها ثلاثاً أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" ، بحسب ما يكون من نظافة جسد الميت أو عدم نظافته، فإذا كان نظيفاً فإنه لا يكرر إلا ثلاثاً، وإذا كان غير نظيف فإنه يكرر بحسب ما يحتاج إليه.
أما على القول بأنه ييمم فإنه يضرب رجل أو امرأة التراب بيديه، ويمسح بهما وجه الميت وكفيه.(171/27)
قوله: "ويحرم أن يغسل مسلم كافراً، أو يدفنه، بل يوارى لعدم" ، ووجه التحريم: أن الله تعالى قال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم )وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِه)(التوبة: من الآية84)، فإذا نهي عن الصلاة على الكافر، وهي أعظم ما يفعل بالميت وأنفع ما يكون للميت، فما دونها من باب أولى، ولأن الكافر نجس، وتطهيره لا يرفع نجاسته لقوله تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس)(التوبة: من الآية28)، ولمفهوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم لا ينجس" ، فيحرم أن يغسله.
فإن قيل: النجاسة في قوله تعالى: { إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَس } نجاسة معنوية؟
فنقول: من لم يطهر باطنه من النجاسة المعنوية فلا يصح أن يطهر ظاهره؛ ولهذا قال العلماء: من شرط صحة الغُسْلِ: الإسلامُ.
فالكافر بدنه ليس نجساً، لكنه ليس أهلاً للتطهير.
وكذلك يحرم أن يكفنه، والعلة ما سبق أنه إذا نهي عن الصلاة، وهي أعظم وأنفع ما يفعل للميت فما دونها من باب أولى.(171/28)
قال في الروض: "أو يتبع جِنَازته" ، يجوز فيها وجهان حسب ما سبق، أي: لا يجوز للمسلم أن يتبع جنازة الكافر؛ لأن تشييع الجنازة من إكرام الميت، والكافر ليس أهلاً للإكرام، بل يهان، قال الله تبارك وتعالى: )مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْأِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح:29) ، فدل هذا على أن غيظ الكفار مراد لله - عز وجل -، وقال تعالى(وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ)(التوبة: من الآية120)، وتشييع الكافر إكرام له، وإكرام لذويه؛ ولهذا يحرم أن يتبع جنازته.
وقوله: "أو يدفنه" لقوله تعالى: )وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)(التوبة: من الآية84)، والمراد: يحرم أن يدفنه كدفن المسلم، ولهذا قال: "بل يوارى لعدم" ، ومعنى يوارى: يغطى بالتراب، سواء حفرنا له حفرة ورمسناه بها رمساً، أو ألقيناه على ظهر الأرض وردمنا عليه تراباً؛ لكن الأول أحسن أي: أننا نحفر له حفرة ونرمسه فيها؛ لأننا لو وضعناه على ظهر الأرض وردمنا عليه بالتراب فلربما تحمل الرياح هذا التراب، ثم تظهر جثته.(171/29)
وقوله: "بل يوارى لعدم" أي يجب مواراة الكافر، ويشمل ذلك ما إذا وُوري بالتراب، أو وُوري بقعر بئر، أو نحوها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر بقتلى بدر من المشركين أن يلقوا في بئر من آبار بدر" .
ولئلا يتأذى الناس برائحته، ولئلا يتأذى أهله بمشاهدته.
وقوله: "لعدم" ، أي: لعدم من يواريه، فإن وجد من يقوم بهذا من أقاربه فإنه لا يحل للمسلم أن يساعدهم في هذا، بل يكل الأمر إليهم.
قوله: "وإذا أخذ في غسله ستر عورته" ، ابتدأ المؤلف بكيفية تغسيل الميت.
وقوله: "وإذا أخذ في غسله" لا يرضى النحويون بهذا التعبير من الفقهاء؛ لأن أخذ هنا من أفعال الشروع، ولا بد أن يكون خبرها جملة فعلها مضارع، وعلى هذا تكون العبارة على قاعدة النحويين: وإذا أخذ يغسله، ولكن عبارة الفقهاء ليس فيها خلل؛ لأن كل واحد يعرف أن معنى قوله: "وإذا أخذ في غسله" أي: إذا شرع في غسله.
وقوله: "في غسله" أي: في تغسيله.
وقوله: "ستر عورته" وجوباً وهذا فيمن له سبع سنين فأكثر. والعورة بالنسبة للرجل ما بين السرة والركبة، وكذلك بالنسبة للمرأة مع المرأة ما بين السرة والركبة، وعلى هذا فيجرد الميت من كل شيء إلا مما بين السرة والركبة إن كان رجلاً فهو بالنسبة للرجال، وإن كانت امرأة، بالنسبة للنساء.
فقول المؤلف: "عورته" يريد بها ما بين السرة والركبة.
قوله: "وجرَّده" ، أي: جرَّده من ثيابه فيستر عورته أولاً، ويلف عليها لفافة، ثم يجرده من ثيابه.
ودليل ذلك أثر، ونظر.
أما الأثر: فقول الصحابة حين أرادوا تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم: "هل نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا" .
وأما النظر: فلأن تجريده أبلغ في تطهيره، والمقام يقتضي التطهير، وكلما كان أكمل فيه كان أفضل.(171/30)
قوله: "وستره عن العيون" ، أي: ينبغي أن يستره عن العيون، وهذا غير ستر العورة؛ لأن ستر العورة واجب، وهذا مستحب أي: ينبغي أن يغسله في مكان لا يراه الناس، إما في حجرة، أو في خيمة إن كان في بر وما أشبه ذلك؛ لأن ستر الميت عن العيون أولى من كشفه، فإن الميت قد يكون على حال مكروهة، فيكون ظهوره للناس نوعاً من الشماتة به، وأيضاً ربما يكون مفزعاً لمن يشاهده مروعاً له، لا سيما عند بعض الناس؛ لأن بعض الناس يرتاع جداً إذا شاهد الميت، فستره عن العيون أولى وأحفظ.
قوله: "ويكره لغير معين في غسله حضوره" .
"حضوره" نائب الفاعل أي: يكره أن يحضره شخص إلا من احتيج إليه لمعونته؛ وذلك لأنه ربما يكون في الميت شيء لا يحب أن يطلع عليه الناس، كالجروح، أو أن فيه عيباً من برص أو نحوه لا يحب أن يطلع عليه الناس.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يحضر ولو كان من أقاربه، مثل أن يكون أباه أو ابنه، أو ما أشبه ذلك، لأنه لا حاجة إليه.
وسبق أنه من حين أن يموت يوضع على سرير تغسيله، فلا يقال: هل نغسله على الأرض أو نقول: نغسله على السرير؟ لأن هذا مفهوم مما سبق.
قوله: "ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه، ويعصر بطنه برفق، ويكثر صب الماء حينئذٍ" ، أي: بعد أن يجرده ويستر عورته يرفع رأسه إلى قرب الجلوس أي: رفعاً بيّناً، ويعصر بطنه برفق؛ لأجل أن يخرج منه ما كان متهيئاً للخروج؛ لأن الميت تسترخي كل أعصابه، فإذا رفع رأسه على هذا النحو، وعصر بطنه لكن برفق فإنه ربما يكون في بطنه شيء من القذر مُتهيئاً للخروج فيخرج، وربما لو تركنا هذا العمل فمع رجّ الميت عند حمله، وتقليبه في غسله، وتكفينه ربما يخرج هذا الشيء المتهيء للخروج، فلهذا قال الفقهاء - رحمهم الله -: ينبغي أن يرفع رأسه إلى قرب جلوسه ثم يعصر بطنه برفق، كما قال المؤلف.
أما الحامل فإنها لا يعصر بطنها؛ لئلا يسقط الجنين.(171/31)
وقوله: "ويكثر صب الماء حينئذٍ" ، أي: حين يعصر البطن؛ لأجل إزالة ما يخرج من بطنه حينئذٍ.
قوله: "ثم يلف على يده خرقة فينجّيه" ، أي: أنه إذا فعل ما ذكر من رفع رأسه وعصر بطنه، وخرج ما كان مستعداً للخروج، يلف على يده خرقة، وإذا كان هناك قفازان كما هو الآن متوفر - ولله الحمد - فإنه يلبس قفازين، ثم ينجّيه أي: ينجّي الميت فيغسل فرجه مما خرج منه، ومما كان قد خرج قبل وفاته، ولكنه لم يستنج منه، فينجيه بها.
قوله: "ولا يحل مس عورة من له سبع سنين" ، أي: يجب أن يضع هذه الخرقة إذا كان الميت له سبع سنين فأكثر، فأما إذا كان دون ذلك فله أن ينجيه مباشرة؛ لأن ما دون سبع سنين عند الفقهاء ليس لعورته حكم، بل عورته مثل يده، ولهذا يجوز النظر إليها، ولا يحرم مسها، فإذا تم السبع فإنه لا ينجيه إلا بخرقة.
قوله: "ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة" ، هذه غير الخرقة الأولى، فالأولى واجبة إذا كان له سبع سنين فأكثر؛ لئلا يمس عورته، وهذه خرقة ثانية جديدة غير الأولى يضعها على يده؛ لأجل أن يكون ذلك أنقى للميت؛ لأنه إذا دلكه بالخرقة كان أنقى له مما لو دلكه بيده، فيستحب ألا يمس سائره إلا بخرقة، مع أن الميت الآن بالنسبة للانكشاف كل بدنه مكشوف إلا العورة.
قوله: "ثم يوضئه ندباً .
ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: "ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها
وليس على سبيل الوجوب بدليل أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل الرجل الذي وقصته ناقته بعرفة فمات، فقال: "اغسلوه بماءٍ وسدر" ، ولم يقل: وضئوه، فدل على أن الوضوء ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الاستحباب.(171/32)
ولو قال قائل: ألا يدل قوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأن بميامنها، ومواضع الوضوء منها" على استحباب الوضوء؛ لأنه قرنه بالبدء بالميامن وهو مستحب؟ فنقول: لا يتم الاستدلال به على ذلك؛ لأن هذا من باب دلالة الاقتران وهي ضعيفة، بل الذي يصح دليلاً على الاستحباب: حديث الذي وقصته ناقته، وقد ذكرنا وجهه.
قوله: "ولا يدخل الماء في فيه ولا في أنفه" ، أي: لا يدخل الماء في فيه بدل المضمضة، ولا في أنفه بدلاً عن الاستنشاق؛ لأن الحي إذا أدخل الماء تمضمض به ومجّه وخرج، والميت لو صببنا الماء في فمه لانحدر لبطنه وربما يحرك ساكناً، وكذلك نقول في مسألة الاستنشاق: الميت لا يستنشق الماء، ولا يستطيع أن يستنثره، وحينئذٍ نقول: لا تدخل الماء في فمه ولا أنفه.
قوله: "ويدخل إصبعيه مبلولتين بالماء بين شفتيه فيمسح أسنانه، وفي منخريه فينظّفهما" ، وهذا يقوم مقام المضمضة، والاستنشاق.
وقوله: "يدخل إصبعيه" ، أي: ملفوفاً عليهما خرقة، وهي الخرقة التي كان يمس بشرته بها فيدخل إصبعيه في فمه ويمسح أسنانه، ويكون ذلك برفق، وكذلك يدخلهما في منخريه فينظّفهما برفق أيضاً.
قوله: "ولا يدخلهما الماء" ، لأنه لو أدخل فمه الماء نزل إلى بطنه، ولو أدخله إلى منخريه كذلك نزل إلى بطنه فيحرك ما كان ساكناً، ويغني عن ذلك ما ذكره المؤلف أن يجعل خرقة مبلولة فينظّف بها أنفه وأسنانه وبقية فمه.
قوله: "ثم ينوي غسله" ثم للترتيب، والنية بمعنى القصد.
وظاهر كلام المؤلف أن النية تكون بعد عمل ما سبق من الاستنجاء والتوضئة، ولكن هذا فيه نظر، بل النية تتقدم الفعل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" ، ولعل هذه نية أخرى ينوي بها عموم الغسل؛ لأن ما سبق لا بد أن يكون بنية.
قوله: "ويسمّي" أي: يقول باسم الله، وهذا أيضاً فيه نظر؛ لأن التسمية تكون بعد الاستنجاء قبل أن يوضئه، كما هي الحال في طهارة الحي.(171/33)
قوله: "ويغسل برغوة السّدر رأسه ولحيته فقط" .
أفادنا المؤلف - أنه لا بد أن يعد الغاسل سدراً يدقه ويضعه في إناء فيه ماء، ثم يضربه بيديه حتى يكون له رغوة، وهذه الرغوة يغسل بها رأسه ولحيته، وأما الثفل الباقي فإنه يغسل به سائر الجسد.
وإنما خُصّ الرأس واللحية بالرغوة؛ لأننا لو غسلناهما بالثفل لبقي الثفل متفرقاً في الشعور وصعب إخراجه منها، أما الرغوة فليس فيها ثفل.
وقوله: "ويغسل برغوة السدر رأسه ولحيته" .
إذا قال قائل: ما الدليل على استحباب السدر في تغسيل الميت؟
فالجواب: أن الدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "اغسلوه بماءٍ وسدر" ، مع أنه محرِم.
قوله: "ثم يغسل شقه الأيمن، ثم الأيسر" ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ابدأن بميامنها" ، فيغسل الشق الأيمن، ثم الأيسر.
قوله: "ثم كلّه ثلاثاً" لقول النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: "اغسلنها ثلاثاً" .
قوله: "يُمر في كل مرة يده على بطنه" ، من أجل أن يخرج ما كان متهيئاً للخروج، وعلى هذا فإنه يعصر بطنه أربع مرات، المرة الأولى التي قبل الاستنجاء عندما يرفع رأسه إلى قرب الجلوس، وثلاث مرات عند غسله.
قوله: "فإن لم ينق بثلاث زيد حتى ينقى" ، أي: إن لم ينق الميت بثلاث، فإنه يزيد حتى ينقى؛ لأن المقصود بذلك تطهيره، وعدم النقاء يكون في الغالب إذا كان الرجل صاحب حرفة بالطين والجبس، وما أشبه ذلك، أو كان مريضاً مرضاً طويلاً فإن الأوساخ تتراكم عليه، فإذا غسلوه ثلاث مرات ولم ينق فإنه يزاد حتى ينقى.
ودليل ذلك: قوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: "اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" . وهذا يرجع إلى رأي الغاسل، ولكن ليس مجرد رأي وتشهٍّ، وإنما هو الرأي الذي تقتضيه المصلحة.(171/34)
وضابط تخيير التشهي من تخيير المصلحة هو: أنه إذا كان المقصود التيسير على الفاعل، والأمر يعود له هو لا لغيره فهذا تخيير تشهٍّ. وإذا كان يعود إلى الغير فهو تخيير مصلحة.
مثال تخيير التشهي: قوله تعالى: ) فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ )(المائدة: من الآية89).ومثال تخيير المصلحة: إذا قيل لولي اليتيم: بع مال اليتيم، أو ضارب به.
قوله: "ولو جاوز السبع" أي: زاد عليها، وتعداها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك" ، ولأن المقصود من تغسيل الميت التطهير، وقد لا ينقى بسبع مرات، فيزاد حتى ينقى.
لكن ينبغي قطع الغسل على وتر، فلو نقى بأربع زاد خامسة؛ لأن هذا هو الذي ورد به الحديث.
قوله: "ويجعل في الغسلة الأخيرة كافوراً" ، لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "اجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور" ، والكافور: طيب معروف أبيض يشبه الشب يدق، ويجعل في الإناء الذي يغسل به آخر غسلة.
قال العلماء: وإنما اختير الكافور من بين سائر الأطياب لفائدتين:
- أنه بارد.
- أن من خصائصه أنه يطرد الهوام عن الميت؛ لأن الميت في القبر تأتيه الهوام، فرائحته تطرد الهوام عنه
قوله: "والماء الحار والإشنان والخلال يستعمل إذا احتيج إليه" ، الأفضل: أن نغسل الميت بماء بارد، ولكن إذا احتجنا إلى الماء الحار، مثل: أن تكون عليه أوساخ كثيرة متراكمة فإننا نستعمله، ولكن ليس الحار الشديد الحرارة الذي يؤثر على الجلد برخاوة بالغة، ولكنه حار ليكون أنقى من البارد، ويسخن بأي وقود سواء بالكهرباء، أو بالغاز، أو بالحطب، أو بغير ذلك، وعند عوامنا يقولون: إنه لا يسخن الماء الذي يغسل به الميت إلا بسعف النخل فقط، وغير ذلك لا يسخن به، وهذا لا أصل له، بل يسخن بما تحصل به السخونة.(171/35)
وقوله: "والإِشنان" والإشنان شجر معروف ينبت في البر يؤخذ وييبس ويدق، ويكون من جنس الرمل حبيبات تغسل به الثياب، ويغسل الإِنسان به جلده من أجل النظافة.
والإِشنان يستعمل عند الحاجة للتنظيف؛ لأنه قد يكون على الجلد أوساخ أو دهون لا يزيلها الماء وحده فيزيلها الإِشنان، فإن لم يحتج إليه فلا يستعمله.
وهل مثل ذلك الصابون؟
الجواب: نعم الصابون مثل الإِشنان، بل هو أقوى منه تنظيفاً، فإذا استعمل الصابون من أجل إزالة الوسخ، فلا حرج فيه.
وهل يستعمل مع الصابون ليفة؟
الجواب: لا؛ لأن الليفة تشطب الجلد، وربما هذا الذي يغسله من شدة الحرص على التنظيف يفركه بشدة فيتأثر الجلد، فيكفي أن يمسح باليد.
وقوله: "والخلال يستعمل إذا احتيج إليه" ، أي: خلال الأسنان، إذا كان بأسنانه طعام فإنه يستعمل؛ لأن في ذلك تنظيفاً لأسنانه.
قوله: "ويقص شاربه، ويقلّم أظفاره، ولا يسرح شعره، ثم ينشف بثوب" .
خصال الفطرة خمس: الختان، والاستحداد، وقص الشارب، وتقليم الأظفار، ونتف الإبط.
أما الختان: فلا يستعمل مع الميت، بل هو حرام؛ لأن الختان أخذ الجلدة، والجلدة جزء حي من الميت، فأخذها تمثيل بالميت ولا حاجة إليه؛ لأن الختان من حكمه أنه يطهر الإِنسان، ولهذا يسمى عندنا بالعامية "الطهار"، لكن إذا مات الإِنسان فلا حاجة له؛ ولهذا قال العلماء: "يحرم ختان الميت".
وأما الشارب والأظفار: فتؤخذ إذا طالت، فإذا كانت عادية، أو كان الميت أخذها عن قرب فإنها لا تؤخذ، بل تبقى على ما هي عليه.
وأما الإِبط: فكذلك، إن كثر فإنه يؤخذ، وإلا يبقى على ما هو عليه.
وأما العانة: إذا طالت وكثرت فإنها تؤخذ.
وقال بعض العلماء: إنها لا تؤخذ؛ لما في ذلك من كشف العورة بخلاف الإبط والأظفار، ولكن الأولى أن تؤخذ إذا كانت كثيرة، وكشف العورة هنا للحاجة.
وقوله: "ولا يسرح شعره" ، أي: أن الغاسل لا يسرح شعر الميت؛ لأن هذا يؤدي إلى تقطع الشعر بالتسريح والمشط.(171/36)
وقوله: "ثم ينشف بثوب" ، أي: بعد أن يغسل يستحب أن ينشف؛ لأنه إذا بقي رطباً عند التكفين أثر ذلك في الكفن، فالأفضل أن ينشف بثوب.
وهذه الطهارة تخالف طهارة الحي من عدة وجوه:
منها: أن طهارة الحي لا تزيد عن ثلاث، وهذه تزيد إلى سبع أو أكثر.
ومنها: أن الأفضل في طهارة الميت التنشيف، وأما طهارة الحي فقيل: الأفضل عدم التنشيف، وقيل: إن التنشيف وعدمه سواء، وإنه مباح إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.
قوله: "ويضفر شعرها ثلاثة قرون، ويسدل وراءها" ، أي: يجعل شعر المرأة ضفائر ثلاثاً، ويسدل من ورائها ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر النساء اللاتي يغسلن ابنته أن يضفرن شعرها ثلاثة قرون، ويسدلنه من ورائها" .
مسألة: ما حكم أسنان الذهب وغيرها مما ركبه الإنسان في حياته هل تدفن معه أم تخلع؟
الجواب: أما ما لا قيمة له فلا بأس أن يدفن معه كالأسنان من غير الذهب والفضة والأنف من غير الذهب، وأما ما كان له قيمة فإنه يؤخذ إلا إذا كان يخشى منه المُثلة، كما لو كان السن لو أخذناه صارت المُثلة فإنه يبقى معه. ثم إن شاء الورثة بعد أن يفنى الميت أن يحفروا القبر ويأخذوا الذهب فلهم ذلك.
قوله: "وإن خرج منه شيء بعد سبع حُشي بقطن" ، أي: خرج من الميت شيء من بول، أو غائط، أو دم، أو ما أشبه ذلك حُشي بقطن، أي سُد بالقطن من أجل أن يتوقف.
قوله: "فإن لم يستمسك فبطين حر" ، الطين الحر: الذي ليس مخلوطاً بالرمل أي: بطين قوي؛ لأن الطين القوي يسد الخارج، واختاروا الطين، لأنه أقرب إلى طبيعة الإنسان؛ حيث إن الإنسان خلق منه، وسيعاد إليه
قوله: "ثم يغسل المحل ويوضأ" ، يغسل المحل أي: الذي أصابه ما خرج، فيغسل للتنظيف وإزالة النجاسة إن كان نجساً، ثم يوضأ.(171/37)
قوله: "وإن خرج بعد تكفينه لم يعد الغسل" ، أي: إن خرج شيء بعد التكفين لم يعد الغسل؛ لأن في ذلك مشقة؛ إذ إننا لو أزلنا الكفن ثم نظفناه، ثم كفّناه مرة أخرى ربما يخرج شيء، وحينئذٍ يكون فيه مشقة، فإذا خرج بعد التكفين تركناه.
قال الفقهاء - رحمهم الله - وهو من اجتهادهم -: "إذا خرج قبل السبع وجب غسل المحل وإعادة الغسل، وإن خرج بعد السبع وجب غسل المحل والوضوء، وإن خرج بعد التكفين لم يجب غسل المحل ولا إعادة الوضوء" ، فله ثلاثة أحوال.
قوله: "ومحرم ميت كحيّ" ، أي: في أحكامه، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ، فدل ذلك على أنه باق على إحرامه، وإذا كان كذلك فهو كالحي.
قوله: "يغسل بماءٍ وسدر" ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: "اغسلوه بماءٍ وسدر" ؛ ولأن استعمال السدر للمحرم ليس بحرام، بل هو جائز.
قوله: "ولا يقرّب طيباً" لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تحنطوه" ؛ ولأن المحرم ممنوع من الطيب.
قوله: "ولا يلبس ذكرٌ مخيطاً" ، أي: لا يلبس الذكر قميصاً أو سراويل أو عمامة أو غيرها مما يحرم على الحي.
ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" .
قوله: "ولا يغطى رأسه" ، أي: لا يغطى رأسه، بل يبقى مكشوفاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا تخمروا رأسه" ، ولكن لا بأس أن يظلل بشمسية أو شبهها، كما يفعل بالمحرم الحي، أما التغطية باللف عليه، فهذا لا يجوز.
وأما وجهه فإنه يغطى، لأنه جائز حال الإحرام في الحياة فجاز بعد الوفاة، وأما رواية "ولا وجهه" في حديث الذي وقصته راحلته فشاذة.
قوله: "ولا وجه أُنثى" ، أي: لو ماتت أُنثى محرمة فإن وجهها لا يغطى، وهذا إن لم يُمر بها حول رجال أجانب، فإن مُر بها حول رجال أجانب فإن وجهها يستر، كما لو كانت حية.
وأما رأسها فيغطى؛ لأنه يجب تغطيته حال الحياة في الإحرام وغيره.(171/38)
وظاهر كلام المؤلف اجتناب هذه الأشياء حتى بعد التحلل الأول، ولعله غير مراد؛ لأن المحرم بعد التحلل الأول لا يحرم عليه إلا النساء فقط، وعلى هذا يصنع به كما يصنع بالمتحلل تحللاً أولاً، ويمكن أن يؤخذ ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ؛ لأنه إذا شرع في التحلل الأول انقطعت التلبية؛ لأنها تنقطع عند رمي جمرة العقبة.
وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" ، دليل على أنه لا يُقضى عنه ما بقي من نسكه ولو كان الحج فريضةً خلافاً لما ذهب إليه بعض أهل العلم، وقالوا: إنه يقضى عنه ما بقي من النسك إذا كان الحج فريضة؛ فإننا نقول رداً على هذا القول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لهم: اقضوا عنه بقية النسك، ولو كان قضاء بقية النسك واجباً لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأننا لو قضينا عنه بقية نسكه لفوتنا عليه فائدة كبيرة جداً، وهي أنه يبعث يوم القيامة ملبياً؛ لأنه لو قضي عنه بقية النسك لتحلل وانتهى من النسك، فيكون في قضاء بقية النسك عنه إساءة للميت. ونقول: هذا الرجل شرع في أداء النسك ومات قبل إكماله، ومن خرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم أدركه الموت فقد وقع أجره على الله، أما بالنسبة لنا فلا نتعرض له.
قوله: "ولا يغسل شهيد ومقتول ظلماً.
"لا" نافية، والنفي يحتمل الكراهة ويحتمل التحريم، ولهذا اختلف أصحابنا - رحمهم الله -، هل تغسيل الشهيد حرام أو مكروه؟
فقال بعضهم: إنه مكروه.
وقال بعضهم: إنه حرام.
والصحيح: أنه حرام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم "أمر بقتلى أحد أن يدفنوا بدمائهم ولم يغسلهم" ، ولأن التغسيل واجب، ولا يترك من أجل فعل المكروه، فلا يترك إلا لمحرم.
وقوله: "شهيد" المراد به هنا: شهيد المعركة الذي قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.(171/39)
أما من قاتل لوطنية أو قومية أو عصبية فليس بشهيد ولو قتل، لكن من قاتل حماية لوطنه الإسلامي من أجل أنه وطنٌ إسلاميٌ فقد قاتل لحماية الدين، فيكون من هذا الوجه في سبيل الله، ولهذا يجب أن نبيّن لإخواننا في الجيش أنهم إنما يتأهبون للقتال لا دفاعاً عن وطنهم من أجل أنه وطنهم، ولكن من أجل أنه وطن إسلامي يقاتلون لحماية الإسلام حتى يكونوا عند الموت شهداء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "سُئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل ليُرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال: "من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله" .
فالذي قاتل حمية نقول له:
لماذا تقاتل حمية؟ هل هو حدب على قومك، أو رغبة في بقاء الإسلام في بلادك؟
إن قال بالأول فليس بشهيد، وإن قال بالثاني فهو شهيد، كما لو قال: أقاتل حدباً على قومي، ليبقى الإسلام في بلادي.
وقوله: "ومقتول ظلماً" ، أي: المقتول ظلماً لا يغسل أيضاً؛ لأن المقتول ظلماً شهيد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون ماله فهو شهيد" .
والصحيح أن المقتول ظلماً يغسل كغيره من الناس؛ لأنه داخل في عمومات الأدلة الدالة على وجوب الغَسْل، وهذه العمومات لا يمكن أن يخرج منها شيء إلَّا ما دلّ الدليل عليه، وهو شهيد المعركة.
ولا يمكن أن يساوى المقتول ظلماً بشهيد المعركة، وإن كان يطلق عليه اسم شهيد، فالمطعون شهيد، والمبطون شهيد، والغريق شهيد، والحريق شهيد، وليس كل ما أطلق عليه اسم الشهيد يكون حكمه كشهيد المعركة؛ لأن شهيد المعركة مدَّ رقبته إلى عدوه ليقطعها في سبيل الله، والمقتول ظلماً أُكره على المقاتلة حتى قتل، فبينهما فرق عظيم.
ولهذا يجب ألا نظن أن الشهداء بمرتبة واحدة، وإن كانوا شهداء، فكل بمرتبته قال تعالى: { ولكل درجات مما عملوا} [الأحقاف: 19(171/40)
فالصحيح أن جميع الموتى من المسلمين يغسلون ويكفّنون ويصلّى عليهم إلا شهداء المعركة فقط، فهؤلاء لا يغسلون، ولا يكفّنون، ولا يصلّى عليهم؛ لأن المقصود بالصلاة عليهم الشفاعة لهم، وكفى ببارقة السيوف على رؤوسهم شفاعة، فيشفع لهم هذا البذل الذي بذلوه، فإنهم بذلوا أغلى ما عندهم وهو النفس لإعلاء كلمة الله.
قوله: "إلا أن يكون جنباً .
إذا كان المتن: "ولا يغسل شهيد معركة ومقتول ظلماً" فإن مقتضى القاعدة النحوية أن يقال: "إلا أن يكونا جنباً" ؛ لأن العطف بالواو يجعلهما شيئين، فيجب أن يكون الضمير عائداً على شيئين بصيغة المثنى، ولكنه في الروض المربع جعل المقتول ظلماً شرحاً، وهذا هو الذي يناسب العبارة "إلا أن يكون جنباً" ، أي: إلا أن يكون الشهيد جنباً؛ فإن كان الشهيد جنباً فإنه يغسل، وكذلك لو استشهدت امرأة أو قتلت ظلماً على المذهب، وكانت حائضاً ولم تغتسل من الحيض، فإنها كذلك تغسل، هذا ما ذهب إليه المؤلف.
ولكن ظاهر الأخبار أنه لا فرق بين الجنب وغيره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يغسل الذين قتلوا في أحد .
أما ما يذكر من أن حنظلة بن عبد الله - - غسلته الملائكة ، فهذا إن صح فليس فيه دليل على أنه يغسله البشر؛ لأن تغسيل الملائكة له ليس شيئاً محسوساً بماءٍ يطهر، بل إن صح فهو من باب الكرامة، وليس من باب التكليف.
فالصحيح أنه لا يغسل، سواء أكان جنباً أم غير جنب؛ لعموم الأدلة، ولأن الشهادة تكفر كل شيء، ولو قلنا بوجوب تغسيله إذا كان جنباً لقلنا بوجوب وضوئه إذا كان محدثاً حدثاً أصغر؛ ليكون على طهارة، ولم يقولوا به.
قوله: "ويدفن في ثيابه" ، أي: يدفن الشهيد في ثيابه التي قتل فيها؛ لأنه يبعث يوم القيامة على ما مات عليه من القتل، ولذلك يبعث وجرحه يثعب دماً، اللون لون الدم، والريح ريح المسك.(171/41)
قوله: "بعد نزع السلاح والجلود عنه" ، أي: إذا كان معه جلود مثل: سير ربط به إزاره أو رداءه، أو ما أشبه ذلك، أو معه سلاح قد حمله فإنه ينزع منه؛ لأن هذا لا يدخل في الثياب؛ ولأنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه أمر بقتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم" .
قوله: "وإن سُلبها كفن بغيرها" ، الضمير "ها" في قوله: "سُلبها" مفعول ثانٍ يعود على الثياب، ومعنى سلبه إياها: أن تؤخذ منه. مثل: أن يأخذها العدو ويدعه عارياً، كفن بغيرها وجوباً؛ لأنه لا بد من التكفين للميت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "كفنوه في ثوبيه" .
قوله: "ولا يصلى عليه" ، أي: لا يصلي عليه أحد من الناس لا الإمام ولا غير الإمام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل على شهداء أحد ؛ ولأن الحكمة من الصلاة الشفاعة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفّعهم الله فيه" ، والشهيد يكفر عنه كل شيء إلا الدَّين؛ لأن الدين لا يسقط بالشهادة، بل يبقى في ذمة الميت في تركته إن خلف تركة، وإلا فإنه إذا أخذه يريد أداءه أدى الله عنه.
فإن قال قائل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد خرج في آخر حياته إلى أُحد وصلى عليهم؟ .
فالجواب: أن هذه ليست صلاة الميت؛ لأن صلاة الميت يجب أن تكون قبل الدفن، ولكن هذه إما: صلاة بمعنى الدعاء، وإما صلاة مودع كما مال إليه ابن القيم - -.
وأما القول: بأنها الصلاة التي تصلى على الميت فغير صحيح؛ إذ لا يمكن أن يبقى الرسول عليه الصلاة والسلام من السنة الثانية إلى السنة العاشرة أو الحادية عشرة لم يصلِّ عليهم.
قوله: "وإن سقط عن دابته" ، أي: إن سقط الشهيد عن دابته بغير فعل العدو، غسل وصلي عليه. فإن سقط عن دابته بفعل العدو فمات من ذلك فإنه يكون شهيداً لا يغسل كما سبق.(171/42)
قوله: "أو وجد ميتاً ولا أثر به" ، أي: ليس به أثر جراحة، ولا خنق، ولا ضرب، ووجد ميتاً فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وهذا له دليل نظري، وذلك أن هذا الميت وجب بموته أن يغسل ويكفن ويصلى عليه، وكون موته من فعل العدو مشكوك فيه؛ لأنه ليس فيه أثر، ولا يمكن أن ندع اليقين للشك، بل يجب أن يغسل ويكفن ويصلى عليه.
وقول المؤلف: "ولا أثر به" يخرج به ما لو وجد به أثر مثل: جرح، أو خنق، أو ضرب أي ضربات مميتة، فإنه يحكم بالظاهر هنا، وهو أن الذي فعل به ذلك العدو، وعلى هذا يكون شهيداً لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وهنا غلّبنا الظاهر على الأصل؛ لأن الأصل وجوب التغسيل، وهنا أسقطنا هذا الواجب بهذا الظاهر الذي هو الأثر، وكذا إذا علمنا أنه مات بفعل العدو ولا أثر به كما لو استعمل الغازات.
واستثنى بعضهم من الأثر: الدم من الأنف، أو الفم، أو القبل، أو الدبر، قال: لأن هذا قد يقع ممن مات موتاً طبيعياً، فلا يدل على أن العدو هو الذي فعل به هذا، ولكن كلام المؤلف يدل على العموم فمتى وجد به أثر يحتمل أنه من فعل العدو فهو شهيد.
قوله: "أو حُمل فأكل" ، أي: من أرض المعركة فأكل، ثم مات، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، ولو علمنا أنه مات متأثراً بجراحه؛ لأن كونه يأكل يدل على أن فيه حياة مستقرة؛ إذ إن الذي في حكم الميت لا يأكل.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا أكل ومات ولم يطل الفصل فإنه يغسل.
وقال بعض الفقهاء: لا يغسل إذا لم يطل الفصل؛ لأنه قد يأكل بدون شعور وهو في النزع، ولكن هذا في الحقيقة بعيد أي إن أكله دليل على أن فيه حياة مستقرة.
وقول المؤلف: "أو حُمل فأكل" ظاهره: أنه إذا لم يحمل فأكل، ثم مات فإنه شهيد لا يغسل، وعبارة بعض الفقهاء: "أو جرح فأكل" ، وهذه العبارة الأخيرة أعم مما إذا حمل أم لم يحمل.
والأقرب: أنه إذا أكل سواء حمل، أم لم يحمل، فإن أكله دليل على أن فيه حياة مستقرة فيغسل ويكفن.(171/43)
فإن قال قائل: ما الدليل على أن الشهيد إذا جرحه العدو جرحاً مميتاً وبقي حياً حياة مستقرة أنه يغسل ويكفن؟
فالجواب: قصة سعد بن معاذ - - فإنه جُرح في أكحله عام الأحزاب، ولكنه سأل الله أن لا يميته حتى يقر عينه ببني قريظة، فاستجاب الله دعاءه، وبقي الجرح ملتئماً حتى حكم في بني قريظة بنفسه لأنه هو حليفهم .
وانظر الفرق بين سعد بن معاذ وعبد الله بن أُبي، فعبد الله بن أبي قام يجادل عن حلفائه من اليهود؛ لأنه كافر، أما سعد فسأل الله ألا يميته حتى يقر عينه بهم، فأقر الله عينه بهم، وصار هو الحاكم فيهم، وحكم بهم بالحكم الذي شهد النبي عليه الصلاة والسلام بأنه حكم الله من فوق سبع سموات ، ولما حكم فيهم انبعث الدم ومات - -، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن عرش الرب - عز وجل - اهتز لموته فرحاً بروحه؛ لأن روحه صعدت إلى الله - عز وجل -، وفي ذلك يقول حسان بن ثابت - -:
وما اهتز عرش الله من أجل هالك سمعنا به إلا لسعد أبي عمرو والحاصل: أن هذا دليل على أن الشهيد إذا طال بقاؤه، فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وألحق العلماء بذلك ما إذا وجد منه دليل الحياة المستقرة مثل الأكل.
قوله: "أو طال بقاؤه عُرفاً غسل وصلي عليه" ، أي: ليس مقدراً بزمان شرعاً بل إذا طال بقاؤه وعرف أنه ليس في سياق الموت فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه.
والذي يترجح عندي أنه إذا بقي متأثراً كتأثر المُحتضَر أنه لا يغسل، أما إذا بقي متألماً لكن بقي معه عقله فإنه يغسل ويصلى عليه.
وظاهر كلام المؤلف أنه لو شرب فإن ذلك لا يسقط حكم الشهادة، وهذا هو اختيار مجد الدين ابن تيمية - وهو عبد السلام جد شيخ الإسلام ابن تيمية -؛ لأن الإنسان قد يشرب، وهو في سياق الموت بخلاف الأكل، فكلام الماتن تابع لكلام المجد رحمه الله.(171/44)
قوله: "والسقط إذا بلغ أربعة أشهر غسل وصلي عليه" "السِّقط" بكسر السين، ويجوز الفتح، ويجوز الضم، ومعناه: الساقط، والمراد به: الحمل إذا سقط من بطن أمه.
فإذا بلغ أربعة أشهر من بدء الحمل، أي: إذا تم له أربعة أشهر، وليس المعنى إذا دخل الشهر الرابع.
والمراد بالأشهر هنا: الأشهر الهلالية؛ لأنها هي التي جعلها الله - عز وجل - مواقيت للناس، فقال تعالى: )يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ )(البقرة: من الآية189)، وهي التي وضعها الله - عز وجل - للناس جميعاً منذ خلق السموات والأرض، قال تعالى: )إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ)(التوبة: من الآية36).
وأما الأشهر الاصطلاحية التي هي أشهر النصارى ومن تابعهم، فهذه لا أصل لها شرعاً ولا قدراً.
أما الأصل القدري فلأن الله تعالى جعل الأشهر الهلالية هي المواقيت { قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ } (البقرة: 189 .
وأما الأصل الشرعي فإنه لم يرتب عليها لا صيام، ولا حج، ولا أشهر حرم، وكل أحكام الأشهر منفية عن هذه الأشهر الاصطلاحية التي جاءت من النصارى.
قوله: "غسل وصلي عليه" أي: وكفن، ودفن، فالمؤلف طوى ذكر الكفن والدفن؛ لأنه معلوم.
وإنما قيده ببلوغ أربعة أشهر؛ لأنه قبل ذلك ليس بإنسان، إذ لا يكون إنساناً حتى يمضي عليه أربعة أشهر، ودليل ذلك: حديث عبد الله بن مسعود - - حيث بين النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الجنين يكون في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك" ، فهذه أربعة أشهر، "ثم يرسل له الملك، فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات" إلخ.(171/45)
وعلى هذا فهو قبل هذه المدة يكون جماداً قطعة لحم يدفن في أي مكان بدون تغسيل، وتكفين، وصلاة، لكن بعد أربعة أشهر يكون إنساناً كما قال تعالى: ) ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ )(المؤمنون: من الآية14)، فيعامل معاملة من مات بعد خروجه.
قال العلماء: ويسمى؛ لأن هذا السقط يبعث يوم القيامة، فلا بد أن يسمى؛ لأن الناس يدعون يوم القيامة بأسمائهم وأسماء آبائهم، فيسمى حتى يدعى باسمه يوم القيامة.
قال العلماء: فإن شك فيه هل هو ذكر أو أنثى؟ - وهو بعيد - لكن ربما يقع، فإنه يسمى باسم صالح للذكر والأنثى مثل هبة الله، أو عطية الله، أو نحلة الله، وما أشبه ذلك.
أما إذا كان ذكراً فيسمى باسم الذكور كعبد لله، وإن كان أنثى يسمى بأسماء الإناث كزينب، وفاطمة.
قوله: "ومن تعذر غسله يُمم" ، أي: من امتنع غسله، أي: تغسيله، فإنه ييمم.
وكيفية التيميم: أنه يضرب الحي يديه على الأرض، ثم يمسح بهما وجه الميت وكفيه.
ويكون التعذر: إما بعدم الماء، وإما بتعذر استعماله في هذا الميت بأن يكون الميت قد تمزق، أو يكون محترقاً لا يمكن مسه إلا بتمزيق جلده فهنا ييمم؛ لأن تغسيل الميت طهارة مأمور بها، فإذا تعذر تطهيره بالماء عدلنا إلى بدله وهو التراب.
وقيل: بأنه لا ييمم إذا تعذر غسله؛ لأن هذه ليست طهارة حدث، وإنما هي طهارة تنظيف، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته: "اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك" وطهارة الحدث لا تزيد على ثلاث، فإذا كان المقصود تنظيف الميت وتعذر الماء، فإن استعمال التراب لا يزيده إلا تلويثاً، فتجنبه أولى.
وهذا هو الراجح. وهذا أقرب إلى الصواب من القول بتيميمه.(171/46)
قوله: "وعلى الغاسل ستر ما رآه إن لم يكن حسناً" ، أي: على غاسل الميت ستر ما رآه من الميت إن لم يكن حسناً، فربما يرى منه ما ليس بحسن، إما من الناحية الجسدية، وإما من الناحية المعنوية، فقد يرى - والعياذ بالله - وجهه مظلماً متغيراً كثيراً عن حياته، فلا يجوز أن يتحدث إلى الناس، ويقول: إني رأيت وجهه مظلماً؛ لأنه إذا قال ذلك ظن الناس به سوءاً.
وقد يكون وجهه مسفراً حتى إن بعضهم يُرى بعد موته متبسماً فهذا لا يستره.
أما السيء من الناحية الجسدية: فإن الميت قد يكون في جلده أشياء من التي تسوؤه إذا اطلع الناس عليها، كما قال الله تعالى في قصة موسى: ) تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ)(طه: من الآية22)، أي: قد يكون فيه برص يكره أن يطلع الناس عليه، فلا يجوز للإنسان أن يقول: رأيت فيه برصاً، وقد يتغير لون الجلد ببقع سوداء، والظاهر - والله أعلم - أنها دموية، فلا يذكرها للناس بل يجب أن يسترها.
قال العلماء: إلا إذا كان صاحب بدعة، وداعية إلى بدعته ورآه على وجهٍ مكروه، فإنه ينبغي أن يبين ذلك حتى يحذر الناس من دعوته إلى البدعة؛ لأن الناس إذا علموا أن خاتمته على هذه الحال، فإنهم ينفرون من منهجه وطريقه، وهذا القول لا شك قول جيد وحسن؛ لما فيه من درء المفسدة التي تحصل باتباع هذا المبتدع الداعية، وكذا لو كان صاحب مبدأ هدّام كالبعثيين والحداثيين.
وذكر في الروض كلاماً حسناً فقال: "فيلزمه ستر الشر، لا إظهار الخير" ، أي: ستر الشر واجب، وإظهار الخير ليس بواجب، ولكنه حسن ومطلوب لما فيه من إحسان الظن بالميت، والترحم عليه، ولا سيما إذا كان صاحب خير.
وقال: "ونرجو للمحسن ونخاف على المسيء" ، أي: بالنسبة للأموات نرجو للمحسن رحمة الله، ونخاف على المسيء، وخوفنا على المسيء يستلزم أن ندعو الله له، إذا لم تكن إساءته مخرجة إلى الكفر.(171/47)
فإذا مات الإنسان وهو معروف بالمعاصي التي لا توصل إلى الكفر، فإننا نخاف عليه، ولكننا ندعو الله له بالمغفرة والعفو؛ لأنه محتاج إلى ذلك.
وقال: "ولا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم" ، أي: بالجنة أو بالنار، والشهادة بالجنة أو بالنار على نوعين:
النوع الأول: شهادة للجنس، أي: يشهد بالجنة لكل مؤمن ولكل متق؛ لأن الله قال: {اعدت للمتقين } [آل عمران: 133] ، وهذا لا يخص شخصاً بعينه، بل يعم الجنس، وكذلك نشهد لكل كافر أنه في النار، قال الله تعالى في النار: ( أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(آل عمران: من الآية131.
النوع الثاني: شهادة للعين أي: أن تشهد لشخص بعينه، فلا نشهد إلا لمن شهد له النبي صلى الله عليه وسلم، مثل: العشرة المبشرين بالجنة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وستة مجموعون في بيت:
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهرٍ والزبير الممدح ومثل: سعد بن معاذ، وثابت بن قيس بن شماس، وعبد الله بن سلام، وبلال، وغيرهم من الصحابة .
نشهد لهم بالجنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شهد لهم.
وألحق شيخ الإسلام ابن تيمية - - من اتفقت الأمة أو جُلُّ الأمة على الثناء عليه.
مثل: الأئمة الأربعة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: لمَّا مرَّت جنازة وأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وجبت" - أي: وجبت له الجنة - ومرت جنازة أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: "وجبت" ثم قال لهم: "أنتم شهداء الله في أرضه" .
وعلى هذا فنشهد لهؤلاء الأئمة الذين أجمعت الأمة، أو جلها على الثناء عليهم بالجنة. لكن ليست شهادتنا لهم بالجنة، كشهادتنا لمن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: "ويحرم سوء الظن بمسلم ظاهره العدالة" ، أي: يحرم سوء الظن بمسلم، أما الكافر فلا يحرم سوء الظن فيه؛ لأنه أهل لذلك.(171/48)
وأما من عُرف بالفسوق والفجور، فلا حرج أن نسيء الظن به؛ لأنه أهل لذلك، ومع هذا لا ينبغي للإنسان أن يتتبع عورات الناس، ويبحث عنها؛ لأنه قد يكون متجسساً بهذا العمل.
قال: "ويستحب ظن الخير بالمسلم" ، أي: يستحب للإنسان أن يظن بالمسلمين خيراً، وإذا وردت كلمة من إنسان تحتمل الخير والشر، فاحملها على الخير ما وجدت لها محملاً، وإذا حصل فعل من إنسان يحتمل الخير والشر فاحمله على الخير ما وجدت له محملاً؛ لأن ذلك يزيل ما في قلبك من الحقد والعداوة والبغضاء ويريحك.
فإذا كان الله - عز وجل - لم يكلفك أن تبحث وتنقب، فاحمد الله على العافية، وأحسن الظن بإخوانك المسلمين، وتعوذ من الشيطان الرجيم.
وأما ما يذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام "احترسوا من الناس بسوء الظن" ، فهذا كذب لا يصح عن النبي عليه الصلاة والسلام، بل روى أبو داود من حديث ابن مسعود - - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحدثني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم، وأنا سليم الصدر" .
وهذا هو اللائق بالمسلم، أما من فُتن - والعياذ بالله - وصار يتتبع عورات الناس، ويبحث عنها، وإذا رأى شيئاً يحتمل الشر ولو من وجه بعيد طار به فرحاً ونشره، فليبشر بأن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جحر بيته. فصل
قوله: "يجب تكفينه" الكفن: ما يكفن به الميت من ثياب أو غيرها.
وحكم تكفين الميت الوجوب، والدليل:
- قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: "كفنوه في ثوبيه" ، والأصل في الأمر الوجوب
- أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطى النساء اللاتي غسلن ابنته حقوه، - أي: إزاره -، وقال: أشعرنها إياه" ، أي: اجعلنه شعاراً، وهو الذي يلي بدنها.
قوله: "يجب تكفينه" الوجوب هنا كفائي، والفرق بين الكفائي والعيني:
أن الكفائي يقصد به حصول الفعل بقطع النظر عن الفاعل.
والعيني يطلب الفعل من الفاعل، أي: يراعى فيه الفعل والفاعل.(171/49)
وفرض العين أفضل من فرض الكفاية؛ لأنه أوكد بدليل أن الله أمر به جميع الخلق.
قوله: "في ماله" ، أي: في مال الميت.
ودليل كونه واجباً في ماله قوله صلى الله عليه وسلم: "كفنوه في ثوبيه" ، فأضاف الثوبين إلى الميت.
ولكن لو فرض أن هناك جهة مسؤولة ملتزمة بذلك، فلا حرج أن نكفنه منها إلا إذا أوصى الميت بعدم ذلك، بأن قال: كفنوني من مالي، فإنه لا يجوز أن نكفنه من الأكفان العامة، سواء كانت من جهة حكومية، أو من جهة خاصة.
قوله: "مقدماً على دَين" ، "مقدماً" حال من قوله: "تكفينه" أي: حال كون التكفين مقدماً على دين وغيره.
والدَّين: هو كل ما ثبت في الذمة من ثمن مبيع، أو أجرة بيت، أو دكان، أو قرض، أو صداق، أو عوض خلع، وإن كان العامة لا يطلقون الدين إلا على ثمن المبيع لأجل، فهذا عرف ليس موافقاً لإطلاقه الشرعي.
قوله: "وغيره" يعني: الوصية، والإرث.
فالتكفين مقدم على كل شيء، وعموم قول المؤلف: "مقدماً على دين" يشمل ما إذا كان الدين فيه رهن أو لا، وعلى هذا فلو خلف الرجل شاة ليس له غيرها مرهونة بدين عليه، ولم نجد كفناً إلا إذا بعنا هذه الشاة واشترينا بقيمتها كفناً فتباع، ونشتري له كفناً؛ لأن الكفن مما تتعلق به حاجة الشخص خاصة، فيقدم على كل شيء وكذا لو أوصى بها.
قوله: "فإن لم يكن له مال فعلى من تلزمه نفقته" ، أي: إن لم نجد له مالاً، فعلى من تلزمه نفقته.
وإذا وجدنا ثوباً قد لبسه الميت وغترة، فهل نكفنه بهما أو لا بد أن نكفنه باللفائف؟
الجواب: إذا كانت ثيابه تقوم بالواجب، فإننا لا نلزم الناس أن يكفنوه ما دام في ماله - ولو ثيابه التي عليه - ما يكفي.(171/50)
قوله: "من تلزمه نفقته" ، أي: الميت حال حياته، وهم الأصول والفروع، فتجب نفقة الوالدين والأولاد بكل حال سواء كانوا وارثين أم لا، وعلى هذا فتجب نفقة الجد على ابن ابنه، وإن لم يكن وارثاً لوجود الابن، أي: وإن كان محجوباً بالابن، وابن البنت تجب نفقته وإن لم يكن وارثاً، وعليه فيجب كفنه على جده من قبل أمه.
أما غير الأصول والفروع، فلا تجب النفقة، إلا على من كان وارثاً بفرض أو تعصيب.
مسألة: الأخ هل يجب أن ينفق على أخيه؟
الجواب: إن كان لأخيه أولاد فإنه لا يلزمه أن ينفق عليه؛ لأنه محجوب بهم، وإن لم يكن له أولاد وجب أن ينفق عليه؛ لأنه وارث.
هذه القاعدة على المشهور من مذهب الإمام أحمد، والمقام هنا لا يقتضي البسط والترجيح.
قوله: "إلا الزوج لا يلزمه كفن امرأته" ، أي: لو ماتت امرأة، ولم نجد وراءها شيئاً تكفن منه، وزوجها موسر، فإنه لا يلزمه أن يكفنها.
وعللوا: بأن الإنفاق على الزوجة إنفاق معاوضة مقابل الاستمتاع، وهي إذا ماتت انقطع الاستمتاع بها، مع أن بعض علائق الزوجية باقية، بدليل أن الزوج يغسل امرأته بعد موتها.
وهذا هو المشهور من مذهب الحنابلة.
والقول الثاني: أنه يلزمه أن يكفّن امرأته.
وعللوا: أن هذا من العشرة بالمعروف، ومن المكافأة بالجميل، ولأن علائق الزوجية لم تنقطع.
وهذا القول أرجح، ومحل النزاع إذا كان موسراً. فإن لم يوجد من تلزمه النفقة، أو وجد وكان فقيراً ففي بيت المال، فإن لم يوجد بيت مال منتظم فعلى من علم بحاله من المسلمين؛ لأنه فرض كفاية.
فالمراتب إذاً أربع:
- في ماله.
- من تلزمه نفقته.
- بيت المال.
- عموم المسلمين.
وإنما قُدم بيت مال المسلمين على عموم المسلمين؛ لأنه لا منّة فيه على الميت؛ بخلاف ما إذا كان من المسلمين، فإن هذا الذي سوف يعطيه سيكون في قلبه منة عليه.
مسألة: لو مات الزوج وكان فقيراً، وكانت الزوجة غنية، فلا يلزمها قيمة الكفن؛ وذهب ابن حزم - - إلى أنه يلزمها ذلك.(171/51)
قوله: "ويستحب تكفين رجل في ثلاث لفائف بيض" ، الاستحباب هنا ليس منصباً على أصل التكفين؛ لأن أصل التكفين فرض كفاية، لكنه منصب على كون الكفن ثلاث لفائف، وكونها بيضاً.
والدليل على ذلك: أن هذا هو كفن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه: "كفِّن في ثلاث لفائف بيض سحولية ، ليس فيها قميص ولا عمامة" ، وكان من جملة الصحابة الذين كفنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر - -، وقد أمرنا باتباع سنتهما.
ثم إن بعض العلماء علل بعلة جيدة، فقال: لم يكن الله ليختار لنبيه صلى الله عليه وسلم إلا أفضل الأكفان على أيدي الصحابة - -.
وكذلك أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن نلبس البياض وأن نكفن فيها موتانا، وقال: "إنها خير ثيابكم" ، ولا شك أن البياض يبهج النفس أكثر من غيره من الألوان؛ ولهذا كان النهار أبيض، وتجد السرور إذا طلع الفجر بخلاف ما إذا جاء الليل.
وإن كفن بغير الأبيض جاز، وإن كفن بلفافة واحدة جاز أيضاً.
قوله: "تجمّر" أي: تبخر، وسمي التبخير تجميراً؛ لأنه يوضع في الجمر، ولكن ترش أولاً بماء، ثم تبخر؛ من أجل أن يعلق الدخان فيها.
قوله: "ثم تبسط بعضها فوق بعض" ، أي: تمد الأولى على الأرض، ثم الثانية، ثم الثالثة.
قوله: "ويجعل الحنوط فيما بينها" ، الحنوط: أخلاط من الطيب تصنع للأموات.
ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته راحلته: "ولا تحنطوه" ، فإن هذا يدل على أن من عادتهم تحنيط الأموات.
قوله: "ثم يوضع عليها مستلقياً" ، أي: على اللفائف مستلقياً؛ لأن وضعه مستلقياً أثبت، وأسهل لإدراجه فيها، إِذْ لو وضع على جنبه انقلب، وصار في إدراج هذه اللفائف شيء من الصعوبة.
قوله: "ويجعل منه في قطن بين أَليتيه" ، أي: من الحنوط في قطن بين أَليتيه، فيؤتى بهذا الطيب فيجعل منه ما بين الأكفان الثلاثة، ونأخذ منه بقطنة نجعلها بين أليتيه.(171/52)
وعللوا: لئلا يخرج شيء من دبره، والغالب أنه إذا خرج شيء من دبره أن تكون رائحته كريهة، وهذا الحنوط يبعد هذه الرائحة الكريهة.
قوله: "ويشد فوقها خرقة مشقوقة الطرف كالتبان" ، أي: فوق الحنوط الذي يوضع في القطن، والتبان هو: السروال القصير الذي ليس له أكمام.
قوله: "تجمع أليتيه ومثانته" أي: الخرقة المشقوقة، فيؤتى بخرقة مشقوقة الطرف من أجل أن يمكن إدارتها على الفخذين جميعاً، ثم تشد، ومعنى تشد، أي: تربط لتجمع بين أليتيه ومثانته.
إذاً تكون على السوءتين؛ لأنه لا يمكن أن تجمع المثانة مع الأليتين إلا إذا كانت ساترة لهما، وهذا من تمام الستر.
قوله: "ويجعل الباقي على منافذ وجهه، ومواضع سجوده" أي: الباقي من الحنوط الذي وضع في القطن يجعل على منافذ وجهه، وهي: العينان، والمنخران، والشفتان.
وفي الروض زيادة: "الأذنين" ، مع أن الأذنين من الرأس، لكنهما لقربهما من الوجه تلحقان به.
ويجعل الحنوط على المنافذ؛ من أجل أن يَمنع دخول الهوام من هذه المنافذ.
ويُجعل على مواضع السجود، وهي: الجبهة، والأنف، والكفان، والركبتان، وأطراف القدمين.
وعللوا ذلك بأن هذا من باب التشريف لها.
وكل هذا على سبيل الاستحباب من العلماء، أي: وضع الحنوط في هذه الأماكن، أما الحنوط من حيث أصله فقد جاءت به السنّة كما ذكرنا.
قوله: "وإن طيب كله فحسن" ، أي: إن طيب الميت كله فحسن؛ لأنه يكون أطيب، لكن ينبغي أن يطيب بطيب ليس حاراً؛ لأن الحار ربما يمزق البدن، بل يكون بارداً، وهذا لم يعرف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن فعله بعض الصحابة .
قوله: "ثم يرد طرف اللفافة العليا على شقه الأيمن، ويرد طرفها الآخر من فوقه، ثم الثانية، والثالثة كذلك" ، أي: نرد طرف اللفافة العليا وهي التي تلي الميت على شقه الأيمن، ثم نرد طرفها من الجانب الأيسر على اللفافة التي جاءت من قبل اليمين، نفعل بالأولى هكذا، ثم نفعل بالثانية كذلك، ثم بالثالثة كذلك.(171/53)
وإنما قال المؤلف هذا لئلا يظن الظان أننا نرد طرف اللفائف الثلاث مرة واحدة، بمعنى أن نجمع الثلاث ونردها على الجانب الأيمن، ثم نرد الثلاث على الجانب الأيسر، فأولاً أكمل رد اللفافة الأولى، فترد الطرف الذي يلي يمين الميت، ثم الطرف الذي يلي يساره، ثم الثانية، ثم الثالثة على نفس الطريقة.
قوله: "ويجعل أكثر الفاضل على رأسه" ، أي: إذا كان الكفن طويلاً، فليجعل الفاضل من جهة رأسه، أي: يرده على رأسه، وإذا كان يتحمل الرأس والرجلين فلا حرج، ويكون هذا أيضاً أثبت للكفن.
قوله: "ثم يعقدها" ، أي: يعقد اللفائف.
والحكمة من عقدها لئلا تنتشر وتتفرق.
أما بالنسبة لعدد العقد فيفعل ما يحتاج إليه، ومن المعلوم أنّ أقل ما يحتاج إليه هو عقدتان، عند الرأس، وعند الرجلين، وقد يحتاج إلى عقدتين أو ثلاث في الوسط، وأما أنه لا بد أن تكون سبع عقد فهذا لا أعلم له أصلاً
قوله: "وتحل في القبر" استدل في الروض "بأثر عن ابن مسعود - - قال: "إذا أدخلتم الميت القبر فحلوا العقد ولأن الميت ينتفخ في القبر فإذا كان مشدوداً بهذه العقد تمزق.
ولو فرض أنه نُسي أن تحل، ثم ذكروا عن قرب، فإن القبر ينبش من أجل أن تحل هذه العقد.
وقال في الروض: "وكره تخريق اللفائف" ؛ لأنه إفساد لها.
إذا قال قائل: إذا خرقتها لم تستره؟
فنقول: لا، بل تستره فخرق مثلاً العليا، ثم خرق التي تحتها من جهة أخرى لا تقابل الخرق الذي في العليا، ثم الثالثة كذلك.
وإنما ذكر صاحب الروض هذا؛ لأن بعض أهل العلم قال: إذا خيف من النباش فإنها تخرق اللفائف؛ لأنه كان هناك سُرَّاقٌ يأتون إلى المقابر ينبشونها ويأخذون الأكفان، فقال هؤلاء: إذا خفت من هؤلاء فخرق اللفائف؛ لكي تفسدها عليهم، كما خرق الخضر السفينة؛ لئلا يأخذها الملك الظالم.
لكن الفقهاء المتأخرين قالوا: لا تخرق.
قوله: "وإن كفن في قميص ومئزر ولفافة جاز" .(171/54)
بعد أن ذكر المؤلف - - المشروع في تكفين الرجل، وأنه يكفن في ثلاث لفائف بيض، كما كفن النبي صلى الله عليه وسلم بيّن القدر المجزئ من ذلك. فقال: "وإن كفن في قميص، ومئزر، ولفافة جاز" .
والقميص: هو الذي نلبسه، أي: الدرع ذو الأكمام.
والمئزر: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن.
واللفافة: عامة. أي: إذا كفن في هذه فلا بأس، ولكن غالب ما يكفن به الناس اليوم اللفائف الثلاث؛ لأن القميص يحتاج إلى خياطة ومدة أو إلى تجهيز أقمصة تكون مهيئة عند الذين يغسلون الموتى ويكفّنونهم.
قوله: "وتكفن المرأة في خمسة أثواب: إزار، وخمار، وقميص، ولفافتين" .
قوله: "إزار" من حيث الإعراب بدل بعض من كل.
والإِزار: ما يؤتزر به، ويكون في أسفل البدن.
والخمار: ما يغطى به الرأس.
والقميص: الدرع ذو الأكمام.
واللفافتان: يعمان جميع الجسد.
وقد جاء في هذا حديث مرفوع ، إلا أن في إسناده نظراً؛ لأن فيه راوياً مجهولاً، ولهذا قال بعض العلماء: إن المرأة تكفن فيما يكفن به الرجل، أي: في ثلاثة أثواب يلف بعضها على بعض.
وهذا القول - إذا لم يصح الحديث - هو الأصح؛ لأن الأصل تساوي الرجال والنساء في الأحكام الشرعية، إلا ما دلّ الدليل عليه، فما دلّ الدليل على اختصاصه بالحكم دون الآخر، خص به وإلا فالأصل أنهما سواء.
وعلى هذا فنقول: إن ثبت الحديث بتكفين المرأة في هذه الأثواب الخمسة فهو كذلك، وإن لم يثبت فالأصل تساوي الرجال والنساء في جميع الأحكام، إلا ما دلّ عليه الدليل.
قوله: "والواجب ثوب يستر جميعه" ، أي: الواجب في الكفن ثوب واحد يستر جميع الميت.
وقول المؤلف: "يستر جميعه" يدل على أنه لا بد أن يكون هذا الثوب صفيقاً بحيث لا ترى من ورائه البشرة، فإن رئيت من ورائه البشرة فإنه لا يكفي.(171/55)
والدليل على أن هذا واجب: أن الصحابة الذين قصرت بهم ثيابهم عن الكفن "أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يجعل الكفن من عند الرأس ويجعل على الرجلين شيء من الإذخر" ، وهو: نبات معروف.
فإذا لم يوجد شيء، مثل: أن يحترق بثيابه، ولم يوجد ثياب يكفن بها، فإنه يكفن بحشيش أو نحوه يوضع على بدنه ويلف عليه حزائم، فإن لم يوجد شيء فإنه يدفن على ما هو عليه؛ لعموم قول الله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم} [التغابن: 16] . قوله: "السنّة أن يقوم الإمام عند صدره وعند وسطها" ، لم يفصح المؤلف في هذا الفصل عن حكم الصلاة على الميت؛ لأنه ذكرها في أول الفصل في قوله: "غسل الميت، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه، فرض كفاية" .
وعلى هذا فنقول: الصلاة على الميت فرض كفاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصلاة على الميت فقال في قصة الرجل الذي عليه الدين: "صلوا على صاحبكم" .
وقال في الذي قتل نفسه بمشاقص: "صلوا على صاحبكم" .
وقال: "صلوا على من قال: لا إله إلا الله" .
ويشير إلى هذا قوله تعالى: )وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ )(التوبة: من الآية84)
فإن هذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان من هديه أن يصلي على الأموات.
فالصلاة على الميت فرض كفاية، وتسقط بمكلف، أي: لو صلّى عليه مكلف واحد ذكر، أو أنثى، فإن الفرض يسقط.
وقد يقال: كيف لا يوجد إلا رجل واحد أو امرأة واحدة؟
الجواب: هذا ممكن، مثل: أن يموت شخص في مكان مجهول، ولا يعلم عنه فيصلي عليه واحد من الناس فيكفي.
ومثل ذلك ما يسأل عنه بعض أهل البادية، يقولون: إنا كنا ندفن الأموات الصغار بدون صلاة؟.
فنقول لهم: يصلي واحد منكم على هؤلاء الذين دفنوا ويكفي، حتى لو صلت امرأة واحدة على أحد من الناس كفى؛ لأن فرض الكفاية يسقط بواحد.
واشترطنا أن يكون مكلفاً؛ لأن الصلاة على الجنازة فرض، والفرض لا يقوم به إلا المكلف.(171/56)
وأمَّا كيفية الصلاة على الميت فبينها المؤلف - - بقوله: "السنّة أن يقوم الإمام عند صدره، وعند وسطها" .
فيستحبُّ على هذا أن يقوم الإمام عند صدر الرجل، وعند وسط المرأة.
والصحيح أنه يقف عند رأس الرجل، لا عند صدره؛ لأن السنّة ثبتت بذلك .
وعند وسطها، أي وسط المرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "قام على امرأة ماتت في نفاسها عند وسطها
والحكمة في ذلك: أن وسطها محل العجيزة والفرج، فكان الإمام عنده ليحول بين المأمومين وبين النظر إليها، هذه من الحكمة، والله أعلم.
والوقوف عند رأس الرجل ووسط المرأة مستحب، فلو وقف عند الرجلين أجزأ، ولكن لو لم يكن الميت بين يدي الإمام لم يجزئ.
وقوله: "أن يقوم الإمام عند صدره" ، يفهم منه أن هذه الصلاة كغيرها من الصلوات يكون الإمام هو المتقدم والمأمومون خلفه، وقد جرت عادة كثير من الناس اليوم أن يقوم مع الإمام الذين قربوا الجنازة إلى الإِمام، فيقومون عن يمينه غالباً دون يساره، وأحياناً عن يمينه وعن يساره، وكل هذا خلاف السنة.
بل السنّة أن يتقدم الإمام، وأما الذين قدموا الجنازة إلى الإمام، فإن كان لهم محل في الصف الأول صفوا في الصف الأول، وإن لم يكن لهم محل صفوا بين الإمام وبين الصف الأول من أجل أن يتميز الإمام بمكانه، ويكون أمام المأمومين، ثم إن قدر أن المكان ضيق لم يتسع لوقوف الإمام وصف خلفه فإنهم يصفون عن يمينه وعن شماله وليس عن اليمين فقط؛ لأن صف المأمومين كلهم عن يمين الإمام خلاف السنّة أيضاً.
ودليل ذلك: أن السنّة أولاً إذا كانوا ثلاثة وقاموا جماعة فإن الإمام يكون بين الاثنين دلّ ذلك على أنه متى كان الصف مع الإمام فإنهم يكونون عن يمينه وعن يساره.
فإذا قال قائل: السنّة إذا كانوا ثلاثة أن يتقدم الإمام؟(171/57)
قلنا: نعم، هذا هو الذي آل إليه الحكم أخيراً، والحكم الأول وهو الصف مع الإمام عن يمينه وشماله نسخ، لكن الذي نسخ من الحكم الأول هو كون الإمام بينهما، أما إذا كانوا لا بد أن يصفوا معه، فإن السنّة باقية، أي: أن يكونوا عن يمينه وعن شماله.
تنبيه: لا يشترط أن يكون رأس الميت عن يمين الإمام، فيجوز أن يكون عن يسار الإمام ويمينه. خلافاً لما يعتقد بعض العامة من أنه لا بد أن يكون عن يمينه.
قوله: "ويكبّر أربعاً" التكبيرات عند الفقهاء هنا كلها أركان؛ لأنها بمنزلة الركعات، فكل تكبيرة عن ركعة.
والتكبيرات في الصلوات الأخرى، منها ما هو ركن، ومنها ما هو واجب، ومنها ما هو سنّة.
فالركن - في غير صلاة الجنازة - هي: تكبيرة الإحرام.
والسنّة هو: تكبيرة المسبوق إذا جاء والإمام راكع، فيكبّر تكبيرة الإحرام واقفاً، ثم يركع، والأفضل أن يكبّر للركوع وإن لم يكبر فلا حرج.
والواجب: ما عدا ذلك، هذا هو الراجح.
وذهب بعض العلماء: إلى أن التكبيرات سوى تكبيرة الإحرام سنّة، وأن الرجل لو تعمد تركها لم تبطل صلاته، لكن ما ذكرناه هو ما مشى عليه أصحاب الإمام أحمد - -.
قوله: "يقرأ في الأولى بعد التعوّذ الفاتحة" ، أي: في التكبيرة الأولى بعد التعوّذ، أي: بعد قول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يقرأ الفاتحة.
ودليل التعوذ عموم قوله تعالى: )فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ) (النحل:98) واعُلم من كلامه أنه لا استفتاح فيها.
وعلل العلماء القائلون بهذا: - بأن هذه الصلاة مبنية على التخفيف، ولهذا ليس فيها ركوع ولا سجود، ولا قراءة مطولة زائدة على الفاتحة، بل ولا قراءة زائدة مطلقاً على قول بعض العلماء، ولا تشهّد، وليس فيها إلا تسليم واحد.
وقال بعض أهل العلم: بل يستفتح؛ لأنها صلاة، فيستفتح لها كما يستفتح لسائر الصلوات.(171/58)
وقوله: "بعد التعوذ الفاتحة" ، أفادنا - -: أن الفاتحة لا بد منها، وهو كذلك.
والفاتحة في صلاة الجنازة ركن؛ لقول النبي عليه الصلاة والسلام: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ، وصلاة الجنازة صلاة؛ لقوله تعالى: { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً } فسماها الله صلاة، ولأن ابن عباس - - قرأ الفاتحة على جنازة، وقال: "لتعلموا أنها سنة" .
قوله: "ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم في الثانية كالتشهّد" ، أي: يصلي في التكبيرة الثانية "كالتشهّد" أي: كما يصلي عليه في التشهّد. والصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في التشهّد هي: "اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد" .
وإن اقتصر على قوله: "اللهم صلّ على محمد" كفى كما يكفي ذلك في التشهّد.
قوله: "ويدعو في الثالثة" أي: في التكبيرة الثالثة يدعو بالدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم إن كان يعرفه، فإن لم يكن يعرفه فبأي دعاء دعا جاز، إلا أنه يخلص الدعاء للميت، أي: يخصه بالدعاء.
والدعاء للميت: عام، وخاص، وقد ذكرهما المؤلف - -، فبدأ بالدعاء العام أوّلاً.
قوله: "فيقول: اللهم اغفر" ، أي: يا الله اغفر، والمغفرة: ستر الذنب مع التجاوز عنه، وليست ستر الذنب فقط، بل ستر وتجاوز، وهي مأخوذة من المغفر الذي يغطى به الرأس عند القتال؛ لأنه يتضمن ستراً ووقاية.
قوله: "لحينا وميتنا" ، أي: لحينا نحن المسلمين، وميتنا كذلك نحن المسلمين، وهذا عام؛ لأنه مفرد مضاف، والمفرد المضاف يعم فيشمل الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، والشاهد والغائب.
وإنما قلت هذا لتعتبر هذا فيما يأتي.(171/59)
قوله: "وشاهدنا وغائبنا" ، هذا أيضاً عموم داخل في العموم الأول، والعموم الأول داخل فيه أيضاً أي: يشمل الذكر والأنثى، والصغير والكبير، والحر والعبد، والحي والميت.
قوله: "وصغيرنا وكبيرنا" كسابقه، فهو عام.
قوله: "وذكرنا وأُنثانا" كسابقه، فهو عام.
إذا قال قائل: لماذا التطويل والتفصيل؟
قلنا: لأن مقام الدعاء ينبغي فيه البسط.
والسنّة في الدعاء أن تبسط وتطول لستة أسباب:
الأول: أن إطالة الدعاء تدل على محبة الداعي؛ لأن الإِنسان إذا أحب شيئاً أحب طول مناجاته، فأنت متصل بالله في الدعاء، فتطويلك الدعاء وبسطك له دليل على محبتك لمناجاة الله - عز وجل -.
الثاني: أن التطويل يظهر فيه من التفصيل ما يدل على شدة افتقار الإنسان إلى ربه في كل حال.
الثالث: أن ذلك أحضر للقلب.
الرابع: زيادة الأجر والتعبد لله تعالى؛ فالدعاء عبادة يؤجر عليها الإنسان.
الخامس: أن هذا من باب الإلحاح في الدعاء والله يحب الملحِّين في الدعاء.
السادس: أن بالتطويل في الدعاء قد يذكر شيئاً قد نسيه من الدعاء.
واعتبر هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، سره وعلانيته، وأوله وآخره" ، "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني" ، "اللهم اغفر لي جدي وهزلي، وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي" ، فهذا فيه تفصيل وعمومات، لكن فائدته ما أشرت إليه من قبل.
ولو قيل: إن صلاة الجنازة مبنية على التخفيف؛ ولهذا لا يقرأ فيها دعاء الاستفتاح، فكيف نبسط في الدعاء ونطول؟
فالجواب: أن الدعاء هو مضمون الصلاة، فينبغي البسط فيه، أما دعاء الاستفتاح فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستفتح في صلاة الجنازة.
قوله: "إنك تعلم منقلبنا ومثوانا" ، هذه الجملة تعليل لما سبق، أي: دعوناك بهذا الدعاء، لأننا نعلم أنك تعلم منقلبنا، أي: ما ننقلب إليه، ومثوانا، أي: ما نصير إليه؛ لأن المثوى والمصير معناهما واحد.(171/60)
قوله: "وأنت على كل شيء قدير" تتمة للدعاء، ولكنها من زيادات بعض الفقهاء؛ لأنها لم ترد في الحديث الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومعناها: أن الله قادر على كل شيء، قادر على أن يوجد المعدوم، وأن يعدم الموجود، وأن يغير الحال من حسن إلى أحسن أو من حسن إلى أردى، وهذه جملة عامة لا يستثنى منها شيء.
وقول صاحب تفسير الجلالين في قوله تعالى في سورة المائدة: )لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة:120)
قال: "خصّ العقل ذاته فليس عليها بقادر"، فهذا القول منكر، وذلك؛ لأن قوله: "خص العقل ذاته" نقول: أين العقل الذي خصّ ذاته بأنَّهُ ليس قادراً عليها، أليس الله يفعل ما يريد؟!
والفاعل لما يريد يفعل بنفسه؛ فهو قادر على أن يفعل ما شاء وأن يدع ما شاء.
نعم الشيء الذي لا يليق بجلاله لا يمكن أن يكون متعلق القدرة؛ لأن أصل القدرة لا تتعلق به.
كما لو قال قائل: هل يقدر الله على أن يخلق مثله؟
نقول: هذا مستحيل؛ لأن المثلية ممتنعة، فلو لم يكن من انتفاء المماثلة إلا أن الثاني مخلوق والأول خالق.
والأول: واجب الوجود.
والثاني: ممكن الوجود.
ويذكر أن جنود الشيطان جاءوا إليه فقالوا له: يا سيدنا نراك تفرح بموت الواحد من العلماء، ولا تفرح بموت آلاف العباد، فهذا العابد الذي يعبد الله ليلاً ونهاراً يسبّح ويهلل ويصوم ويتصدق لا تفرح بموت الألف منهم فرحك بالواحد من العلماء.
قال: نعم أنا أدلكم على هذا، فذهب إلى عابد فقال له: يا أيها الشيخ هل يقدر الله أن يجعل السموات في جوف بيضة؟
قال العابد: لا. وهذه غلطة كبيرة.
ثم ذهب إلى العالم وقال له: هل يقدر الله أن يجعل السموات في بيضة؟.
قال العالم: نعم، قال: كيف؟ قال: إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له: كن فيكون، فإذا قال للسموات: كوني في جوف بيضة كانت، فقال: انظروا الفرق بين هذا وهذا.(171/61)
فالمهم أنه يجب أن نطلق فنقول: إن الله على كل شيء قدير.
فإن قال قائل: عبارة ترد كثيراً عند الناس (إنه على ما يشاء قدير) هل هذا جائز؟.
قلنا: لا يجوز إلا مقيداً؛ لأنك إذا قلت: "إنه على ما يشاء قدير" أوهم أن ما لا يشاء لا يقدر عليه، وهو قادر على الذي يشاء والذي لا يشاء.
لكن إذا قُيِّدَتِ المشيئة بشيء معين صح، كقوله تعالى: (وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ)(الشورى: من الآية29)، أي: إذا يشاء جمعهم فهو قادر عليه.
وكذلك في قصة الرجل الذي أدخله الله الجنة آخر ما كان فقال الله له: "إني على ما أشاء قادر" ؛ لأنه يتعلق بفعل معين.
قوله: "اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام والسنّة، ومن توفيته منّا فتوفه عليهما" ، هذه الصيغة لم ترد، والوارد: "اللهم من أحييته منّا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان" .
فالوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم أولى أن من أحياه الله يحييه على الإسلام والانقياد التام، ومن أماته فليتوفه على الإيمان.
والحكمة من ذلك: أن الاستسلام الظاهر حين الوفاة قد لا يتمكن الإنسان منه؛ لأنه منهك وفي آخر قواه، فكان الدعاء له بالإيمان في هذه الحال أبلغ؛ ولأن الإيمان هو اليقين، ووفاة الإنسان على اليقين أبلغ.
وأما الإسلام فإنه استسلام ظاهر بالعمل، ويكون من المؤمن حقاً، ومن ضعيف الإيمان، ومن المنافق أيضاً.
مسألة: الدعاء الوارد عن النبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمحافظة عليه من الدعاء غير الوارد، وإن كان الأمر واسعاً.
قوله: "اللهم اغفر له وارحمه" ، هذا الدعاء الخاص، وبدأ بالدعاء العام؛ لأنه أشمل، أما الخاص فهو خاص بالميت.
وقد وردت السنّة بكل من الدعاء العام والخاص، وقد قال العلماء: يجمع بينهما، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أخلصوا له الدعاء" فلا بد من تخصيصه بدعاء، وإن كان الدعاء العام يشمله.(171/62)
والمغفرة: محو آثار الذنوب وسترها، والإنسان محتاج إلى ستر ذنوبه حياً وميتاً.
"وارحمه" أي: بحصول المطلوب.
ولهذا يجمع بين المغفرة والرحمة كثيراً؛ لأن بالمغفرة النجاة من المرهوب، وبالرحمة حصول المطلوب.
قوله: "وعافه واعف عنه" ، أي: عافه مما قد يصيبه من السوء كعذاب القبر مثلاً.
"واعف عنه" أي: تجاوز عنه ما فرط فيه من الواجب في حال حياته.
فالعفو: التسامح والتجاوز عن مخالفة الأوامر.
والمعافاة: السلامة من آثام المحرم.
والمغفرة: محو آثار الذنوب بالمخالفة.
قوله: "وأكرم نزله" ، "نُزُلَهُ" : بالضم، ويقال: نُزْله بالسكون، وهو القِرى، أي: الإكرام الذي يقدم للضيف، والإنسان الراحل هو في الحقيقة قادم على دار جديدة، فتسأل الله أن يكرم نزله أي ضيافته.
قوله: "وأوسع مدخله" ، يقال: مَدخل، ومُدخل، بالفتح وبالضم، فبالفتح: اسم مكان، أي: مكان الدخول، وبالضم: الإدخال، وعلى هذا فالفتح أحسن، أي: أوسع مكان دخوله، والمراد به القبر، أي: أن الله يوسعه له؛ لأن القبر إما أن يضيق على الميت حتى تختلف أضلاعه - والعياذ بالله - وإما أن يوسع له مد البصر، فأنت تسأل الله أن يوسع مدخله.
قوله: "واغسله بالماء والثلج والبرد" ، الغسل بالماء: أي: استعمال الماء فيما تلوث، وما حصل فيه أذى؛ من أجل إزالة التلويث والأذى.
والمراد بالغسل هنا: غسل آثار الذنوب، وليس المراد أن يغسل شيئاً حسياً؛ لأن الغسل الحسي قد تم بالنسبة للميت قبل أن يكفن.
ولهذا قال: "بالماء، والثلج، والبرد .
أورد بعض العلماء على هذا إشكالاً فقال:
إن الغسل بالماء الساخن أنقى، فلماذا قال: "بالماء، والثلج، والبرد" ؟.
والجواب عن ذلك: أن المراد غسله من آثار الذنوب، وآثار الذنوب نار محرقة، فيكون المضاد لها الماء والبرودة.
وقوله: "الثلج والبرد" الفرق بينهما: أن الثلج ما يتساقط من غير سحاب، فيتساقط من الجو مثل الرذاذ ويتجمد(171/63)
والبرد: يتساقط من السحاب ويسمى عند بعض أهل اللغة: حب الغمام؛ لأنه ينزل مثل الحب.
قوله: "ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" ، والوارد في الحديث، "ونقه من الخطايا" .
والخطايا: جمع خطيئة، وهي: ما خالف فيها الصواب، سواء كان فعلاً للمحظور أو تركاً للمأمور.
وقوله: "من الذنوب" ، لو صح الحديث بلفظ: "الذنوب والخطايا" كما أورده المؤلف. لقلنا: الذنوب: الصغائر، والخطايا: الكبائر.
ولكن الحديث ورد بلفظ "الخطايا" فقط.
وبناء عليه نقول: "الخطايا" هنا تشمل: الصغائر، والكبائر.
وقوله: "كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس" ، هذا التشبيه لقوة التنقية، أي: نقه نقاء كاملاً، كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وخص الأبيض؛ لأن ظهور الدنس على الأبيض أبين من ظهوره على غيره.
قوله: "وأبدله داراً خيراً من داره" الدار الأولى دار الدنيا، والثانية دار البرزخ، وهناك دار ثالثة وهي دار الآخرة.
قوله: "وأبدله داراً خيراً من داره" يشمل الدارين؛ دار البرزخ، ودار الآخرة.
قوله: "وزوجاً خيراً من زوجه" ، أي: سواء كان المصلى عليه رجلاً أم امرأة.
وهناك إشكال؛ لأنه إن كان المصلى عليه رجلاً، وقلنا: "أبدله زوجاً خيراً من زوجه" ، فهذا يقتضي أن الحور خير من نساء الدنيا، وإن كان امرأة فإننا نسأل الله أن يفرق بينها وبين زوجها، ويبدلها خيراً منه. فهذان إشكالان؟
أما الجواب عن الأول: "أبدله زوجاً خيراً من زوجه" ، فليس فيه دلالة صريحة على أن الحور خير من نساء الدنيا؛ لأنه قد يكون المراد خيراً من زوجه في الأخلاق، لا في الخيرية عند الله - عز وجل -.(171/64)
وبهذا الجواب يتضح الجواب عن الإشكال الثاني، فنقول: إن خيرية الزوج هنا ليست خيرية في العين، بل خيرية في الوصف، وهذا يتضمن أن يجمع الله بينهما في الجنة؛ لأن أهل الجنة ينزع الله ما في صدورهم من غل، ويبقون على أصفى ما يكون، والتبديل كما يكون بالعين يكون بالصفة، ومنه قوله تعالى: )يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ )(ابراهيم: من الآية48)فالأرض هي الأرض بعينها، لكنها اختلفت، وكذلك السموات.
فإن قيل: إذا كان الميت لم يتزوج فكيف تقول: "وزوجاً خيراً من زوجه" ؟.
فنقول: المراد زوجاً خيراً من زوجه لو تزوج.
وفي الحديث: زيادة "وأهلاً خيراً من أهله" ، لكن حذفها المؤلف - -.
قوله: "وأدخله الجنة" هي: دار المتقين، كما قال تعالى: )وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران:133)
قوله: "وأعذه من عذاب القبر" لأن القبر فيه عذاب، ولكن الله تعالى قد يقي الإنسان عذابه إذا ألح على الله بالدعاء كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "تعوذوا بالله من عذاب القبر" .
ولهذا أمر أن يتعوذ الإنسان في كل صلاة إذا تشهد التشهد الأخير، من عذاب القبر، وعذاب النار، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال .
قوله: "وعذاب النار" معروف.
فإن قال قائل: أليس إدخال الجنة يغني عن سؤال أن يعيذه الله من عذاب القبر، وعذاب النار؟
الجواب: لا، فإن الإنسان قد يدخل الجنة بعد أن يعذب في القبر، وبعد أن يعذب بالنار، فأنت تسأل الله أن تدخل الجنة نقياً من عذاب سابق، لا في القبر ولا في النار.
وقوله: "اللهم اغفر له" الضمير للمفرد المذكر، فإذا كان الميت أنثى، فهل نقول: اللهم اغفر له، أو نقول: اللهم اغفر لها بالتأنيث؟
الجواب: بالتأنيث؛ لأن ضمير الأنثى يكون مؤنثاً، فنقول: اللهم اغفر لها وارحمها، وعافها، واعف عنها..... إلى آخر الدعاء.(171/65)
فإن قيل: الحديث ورد بالتذكير فكيف نؤنث الضمير إذا كان الميت أنثى؟
فالجواب: أن هذا الحديث ورد في الدعاء لميت ذكر، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "إذا صليتم على الميت فقولوا: اللهم اغفر له... إلخ" لتوجه عدم التأنيث، فنأخذ بالنص ونؤوله على ما يناسب الحال.
وإن كان المقدم اثنين تقول: اللهم اغفر لهما...
وإن كانوا جماعة تقول: اللهم اغفر لهم.
وإن كن جماعة إناث تقول: اللهم اغفر لهن.
وإن كانوا من الذكور والإناث، فيغلب جانب الذكورية، فتقول: اللهم اغفر لهم، فالضمير يكون على حسب من يدعى له.
ونظير هذا من بعض الوجوه حديث ابن مسعود - - في دعاء الغمّ: "اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك
والمرأة تقول: "اللهم إني أمتك بنت عبدك بنت أمتك....".
وإن كان الإنسان لا يدري هل المقدم ذكر أو أنثى، فهل يؤنِّث الضمير أو يذكِّرُه؟.
الجواب: يجوز هذا وهذا، باعتبار القصد، فإن قلت: اللهم اغفر له، أي: لهذا الشخص، أو للميت، وإن قلت: اللهم اغفر لها، أي: لهذه الجنازة.
قوله: "وافسح له في قبره" أي: وسع له؛ لأن الفسحة السعة، وهذا التوسيع ليس توسيعاً محسوساً بحيث يكون قبره متسعاً يملأ المقبرة، لكنه فَسْحٌ غير محسوس إحساساً دنيوياً؛ لأنه من أحوال الآخرة.
وكما ترون في المنام أن الإنسان يرى أنه في مكان فسيح، وفي نخيل، وأشياء تبهج نفسه، وهو لا يزال في فراشه، فعذاب القبر يشبه من بعض الوجوه ما يراه النائم، وإن كان أشد منه في كونه حقيقة.
وإنما قلنا ذلك؛ لئلا يورد علينا مورد بأن الناس في قبورهم لا تتسع القبور أكثر مما هي عليه في الواقع؟
فنقول له: هذا أمر غيبي، وليس أمراً حسياً معروفاً.
قوله: "ونور له فيه" ، أي: اجعل له فيه نوراً.
قال في الروض: "ولا بأس بالإشارة بالأصبع حال الدعاء للميت" ، وهذا فيه نظر!!
قوله: "وإن كان صغيراً قال...." ، هذا فيه بيان صيغة الدعاء للصغير إذا صلي عليه.(171/66)
ولكن هل ثبت هذا الدعاء بهذه الصيغة للصغير؟
الجواب: لا، لم يثبت بهذه الصيغة للصغير، ولكن ورد أنه يصلى عليه، ويدعى له، ويدعى لوالديه .
ولكن العلماء - رحمهم الله - استحسنوا هذا الدعاء.
قوله: "اللهم اجعله ذخراً لوالديه" الذخر: بمعنى المذخور، أي: أنها مصدر، بمعنى اسم المفعول، أي: مذخوراً لوالديه يرجعان إليه عند الحاجة.
قوله: "وفرطاً" الفرط: السابق السالف، وهنا إشكال كيف نقول: إنه فرط لوالديه إذا كانا قد ماتا قبله؟
فيقال: إنه فرط لوالديه في الآخرة يتقدمهما؛ ليكون لهما أجرهُ.
قوله: "وأجراً" أي: اجعله لهما أجراً، وهذا ظاهر فيما إذا كانا حيَّين؛ لأنهما سوف يصابان به؛ فإذا أصيبا به فصبرا على هذه المصيبة صار أجراً لهما. أما إذا كانا ميتين، فلا يظهر هذا، لكن لعل الفقهاء ذكروا هذا بناء على الأغلب.
قوله: "شفيعاً" الشفيع: بمعنى الشافع، كالسميع بمعنى السامع.
والشفيع: هو الذي يتوسط لغيره بجلب منفعة، أو دفع مضرة. وسُمي شفيعاً؛ لأنه يجعل المشفوع له اثنين بعد أن كان وتراً، فصار بضم صوته إلى صوت المشفوع له شفيعاً له.
قوله: "مجاباً" لأن الشفيع قد يجاب، وقد لا يجاب، فسأل الله أن يكون شفيعاً مجاباً.
قوله: "اللهم ثقل به موازينهما" أي: موازين الأعمال، وذلك في كونه أجراً لهما؛ لأنه كلما كان أجراً ثقلت به الموازين.
والموازين: جمع ميزان، وهو: ما توزن به أعمال العباد يوم القيامة.
واختلف العلماء هل هو ميزان حقيقي أو كناية عن إقامة العدل؟
فذهبت المعتزلة إلى أنه كناية عن إقامة العدل، وأنه ليس هناك ميزان حسي.
والصواب أنه ميزان حسي لحديث صاحب البطاقة "أن ذنوبه تُجعل في كفة، ولا إله إلا الله في كفة" ، وهو ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان" ، فهو ميزان له كفتان، ولكن هاتين الكفتين لا نعلم كيفيتهما؛ لأن ذلك من أمور الغيب التي لم نعلم عنها.(171/67)
وهل الذي يوزن العمل، أو العامل، أو صحائف العمل؟
على أقوال ثلاثة للعلماء:
القول الأول: أن الذي يوزن العمل.
القول الثاني: أن الذي يوزن العامل.
القول الثالث: أن الذي يوزن صحائف الأعمال.
وذلك لاختلاف النصوص في ذلك.
فحجة من قال: إن الذي يوزن العمل ما يلي:
- قوله تعالى: )فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) (الزلزلة:7)
- قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان" .
وحجة من قال إن الذي يوزن صاحب العمل ما يلي:
- قوله تعالى: ) فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)(الكهف: من الآية105).
- حديث ابن مسعود - -: لما قام فهبت الريح فضحك الناس منه؛ لأنه - - دقيق الساقين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ساقيه في الميزان أعظم من أُحد .
وحجة من قال: إن الذي يوزن صحائف الأعمال: حديث صاحب البطاقة "الذي يؤتى له بسجلات عظيمة كلها ذنوب، حتى إذا رأى أنه قد هلك، قيل له: إن لك عندنا حسنة واحدة فيؤتى ببطاقة صغيرة فيها لا إله إلا الله، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم شيئاً، ثم توضع البطاقة في كفة، وبقية الأعمال في كفة، فترجح بهنَّ وتميل" .
فيجاب: إن حقيقة هذا وزن الأعمال؛ لأن الصحائف إنما تثقل وتخف بما فيها من العمل.
وقد يقال: إن الأكثر وزن الأعمال، وقد توزن صحائف الأعمال.
ولكن الراجح والذي عليه الجمهور أن الذي يوزن العمل.
قوله: "وأعظم به أجورهما" ، أي: اجعل أجورهما عظيمة، وهنا إشكال نحوي حيث قال: "أجورهما" مع أن المضاف إليه مثنى أي لم يقل: عظم به أجريهما؟(171/68)
والجواب على هذا: أن الأفصح في اللغة العربية إذا أضيف إلى المثنى أن يؤتى بالجمع، ثم الإِفراد، ثم التثنية، إلا أن يكون هناك حاجة؛ لأن يؤتى بالتثنية، أو الإفراد، أو الجمع، قال تعالى: )إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)(التحريم: من الآية4)، مع أنه ليس لهما إلا قلبان، كما قال تعالى)مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(الأحزاب: من الآية4)، ولم يقل فقد صغى قلباكما، ولم يقل: فقد صغى قلبكما؛ لأن الأفصح الجمع.
قوله: "وألحقه بصالح سلف المؤمنين، واجعله في كفالة إبراهيم" ، أي: بصغار المؤمنين الذين سلفوا، وذلك أن الصغار من الولدان يكونون في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد رآهم النبي صلى الله عليه وسلم حينما عُرج به - عند إبراهيم وسأل عنهم، فقيل له: هؤلاء ولدان المؤمنين ؛ ولهذا قال: "واجعله في كفالة إبراهيم" .
قوله: "وقه برحمتك عذاب الجحيم" ، "قه" من الوقاية، أي: اجعله سالماً من عذاب الجحيم.
"برحمتك" من باب التوسل بصفة الله - عز وجل -.
لكن كيف يقول: "قه برحمتك عذاب الجحيم" ، وهو صغير لم يبلغ، فليس عليه عذاب؟
قال بعض العلماء: ما من إنسان إلا ويلج النار، ومن ذلك الصغار؛ لقوله تعالى: )وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً) (مريم:71) ، فيكون هذا دعاء لهذا الصبي أن يقيه الله عذاب الجحيم إذا عرض عليها يوم القيامة.
قوله: "ويقف بعد الرابعة قليلاً" أي: يقف قليلاً؛ ليتميز التكبير من السلام، أو من أجل أن يتراد إليه نفسه.
وقوله: "يقف قليلاً" ظاهره أنه لا يدعو، وهو أحد الأقوال في المسألة.
واختار بعض الأصحاب - رحمهم الله - أنه يدعو بقوله: "اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده، واغفر لنا وله" .(171/69)
وقال بعضهم يدعو بقوله: "ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" ؛ لأن هذا الدعاء تختم به الأدعية، ولهذا جعله النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية كل شوط من الطواف، حيث يقول بين الركن اليماني والحجر الأسود: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" .
والقول بأنه يدعو بما تيسر أولى من السكوت؛ لأن الصلاة عبادة ليس فيها سكوت أبداً إلا لسبب كالاستماع لقراءة الإمام، ونحو ذلك.
قوله: "ويسلم واحدة عن يمينه" وإن سلم تلقاء وجهه فلا بأس، لكن عن اليمين أفضل.
وظاهر كلام المؤلف أنه لا يسن الزيادة على تسليمة واحدة وهو المذهب.
والصحيح: أنه لا بأس أن يسلم مرة ثانية؛ لورود ذلك في بعض الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم .
والذين قالوا: إنه يسلم واحدة استدلوا:
- بأثر في صحته نظر .
- بالمعنى: أن هذه الصلاة مبنية على التخفيف، والتسليمة الواحدة أخف.
لكن لو سلم مرتين، فلا حرج، ولا ينكر عليه.
وكذلك إذا سلم الإمام تسليمة واحدة فللمأموم أن يسلم تسليمتين لأنه لا يتحقق به المخالفة.
قوله: "ويرفع يديه مع كل تكبيرة" ، "ويرفع" الضمير يعود على المصلي، أي : يرفع يديه مع كل تكبيرة على صفة ما يرفعهما في صلاة الفريضة، أي: يرفعهما حتى يكونا حذو منكبيه، أو حذو فروع أذنيه.
وقوله: "مع كل تكبيرة" ، هذا هو القول الصحيح والدليل على ذلك ما يلي:
- ورود السنة بذلك ، بسند جيد، كما قال الشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله -، وأعله الدارقطني بعمر بن شيبة ، لكن قال الشيخ عبد العزيز: إن عمر ثقة، والزيادة من الثقة عند علماء الحديث مقبولة، إذا لم تكن منافية وهنا لا تنافي؛ لأن المسكوت عنه ليس كالمنطوق، ولا منافاة إلا إذا تعارض منطوقان، أما إذا كان أحدهما ناطقاً والثاني ساكتاً فلا معارضة؛ لأن عدم النقل ليس نقلاً للعدم.(171/70)
- أنه صح عن ابن عمر - - موقوفاً ، وله حكم الرفع؛ لأن مثله لا يثبت بالاجتهاد.
ولو قيل: لعل ابن عمر - - قاس ذلك على غيرها من الصلوات؟
فالجواب: أن الصلوات الأخرى ليس فيها رفع في كل تكبيرة، كما ثبت ذلك من حديث ابن عمر نفسه.
- أن المعنى يقتضيه؛ لأنه إذا حرك يديه اجتمع في الانتقال من التكبيرة الأولى قول وفعل، كسائر الصلوات، فإن الصلوات يكون مع القول فعل إما ركوع، أو سجود، أو قيام، أو قعود، فكان من المناسب أن يكون مع القول فعل، ولا فعل هنا يناسب إلا رفع اليدين؛ لأن الركوع والسجود متعذران فيبقى رفع اليدين.
وحينئذٍ يكون رفع اليدين في كل تكبيرة مؤيداً بالأثر، والنظر.
وقوله: "مع كل تكبيرة"، سبق في كتاب الصلاة أنه: إن شاء ابتدأ رفع اليدين مع ابتداء التكبير، وإن شاء إذا كبر رفع، وإن شاء رفع ثم كبر.
قوله: "وواجبها: قيام" أي: ما يجب فيها، وليس المراد الواجب الاصطلاحي الذي هو قسيم الركن أو الشرط، بل المراد بالواجب هنا: ما يجب فيها فلا ينافي ذلك أن يكون ركناً، كما نقول: قراءة الفاتحة واجبة في الصلاة.
فقوله: "وواجبها" ليس قسيم أركانها؛ لأن هذا الذي ذكره المؤلف أركانها.
وقوله: "قيام" ، أي: واجب إذا كانت فريضة، وعلى هذا فإذا أعيدت صلاة الجنازة مرة ثانية كان القيام في المرة الثانية سنة، وليس بواجب؛ لأن الصلاة المعادة ليست فريضة.
قوله: "وتكبيرات أربع" أي: أركان؛ لأن كل تكبيرة منها كالركعة.(171/71)
وقوله: "أربعٌ" أي: لا تقل عن أربع، وله الزيادة إلى خمس، وإلى ست، وإلى سبع، وإلى ثمان، وإلى تسع كل هذا ورد. لكن الثابت في صحيح مسلم إلى خمس ، ففيه أن زيد بن أرقم - - "صلى على جنازة فكبر عليها خمساً، وأخبر أن ذلك من فعل النبي صلى الله عليه وسلم" ، ولهذا ينبغي للأئمة أحياناً أن يكبروا على الجنازة خمس مرات إحياءً للسنة، وسيقول بعض الناس: إن إمامنا نسي فزاد خامسة، لكن إذا فعلها مرة بعد مرة، وبين للناس أن هذا من السنة فذلك حسن.
مسألة: إذا كبرنا خمساً، فماذا نقول بعد الرابعة والخامسة؟
الجواب: لا أعلم في هذا سنة، لكنني إذا أردت أن أكبر خمساً جعلت بعد الثالثة الدعاء العام، وبعد الرابعة الدعاء الخاص بالميت، وما بعد الخامسة ) رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)(البقرة: من الآية201)، ولهذا قد يعرف النبيه أنني أريد أن أكبر خمساً، إذا صار الدعاء بعد الثالثة قصيراً.
قوله: "والفاتحة" ، قراءة الفاتحة ركن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"
وقرأ ابن عباس - - الفاتحة، وجهر بها، وقال: "ليعلموا أنها سنة" ، أي: أنها مشروعة، وليس المعنى إن شئت فاقرأها وإن شئت فلا تقرأها.
ولا وجه لمن قال بعدم وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة؛ مع عموم الحديث: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" ، وهذه صلاة بدلالة الكتاب والسنة.
وإذا انتهى المأموم من قراءة الفاتحة قبل تكبير الإمام للثانية فإنه يقرأ سورة أخرى؛ لأن ذلك قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله: "والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم" ، أي: من واجبات الصلاة على الميت، وهو ركن على المشهور من المذهب، وهو مبني على القول بركنية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في الصلوات.(171/72)
أما إذا قلنا: بأنها ليست ركناً في الصلوات فهي هنا ليست بركن، لكن الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في هذا المقام لها شأن ؛ لأن الفاتحة ثناء على الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم صلاة عليه، والثالثة دعاء فينبغي للداعي أن يقدم بين يديه الثناء على الله، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
ولم يبين هنا كيفيته، ولكنه بين فيما سبق أنها كالتشهد، ويكفي أن يقول: اللهم صلِّ على محمد.
قوله: "ودعوة للميت" ، هذا من الأركان أيضاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء" ؛ ولأن هذا هو لبُّ هذه الصلاة، فأصل الصلاة على الميت إنما كانت للدعاء له.
قوله: "والسلام" أي: ركن، لكنه يكفي فيه تسليمة واحدة، كما سبق ذكره.
ودليله: قول عائشة - -: "كان يختم الصلاة بالتسليم" ، وهذا وإن لم يكن ظاهراً في عموم صلاة الجنازة، لكن يصح أن يكون متمسكاً؛ ولأنها عبادة افتتحت بالتكبير، فتختتم بالتسليم كالصلاة المفروضة.
والترتيب بين أركان صلاة الجنازة واجب فيبدأ بالفاتحة، ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم الدعاء؛ فلا يقدم بعضها على بعض. وكذلك تكميل التكبيرات الأربع؛ فإن سلم من ثنتين ساهياً أكمل مع القرب، وأعاد مع البعد.
قوله: "ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته" ، أي على صفة ما فاته؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما فاتكم فأتموا" .
ويستفاد من قول المؤلف: "شيء من التكبير" ، أن التكبيرة بمنزلة الركعة.
مسألة: إذا دخل مع الإمام في التكبيرة الثالثة هل يقرأ الفاتحة، أو يدعو للميت؛ لأن هذا مكان الدعاء؟(171/73)
الجواب: الظاهر لي: أنه يدعو للميت، حتى على القول بأن أول ما يدركه المسبوق أول صلاته، فينبغي في صلاة الجنازة أن يتابع الإمام فيما هو فيه؛ لأننا لو قلنا لهذا الذي أدرك الإمام في التكبيرة الثالثة: اقرأ الفاتحة، ثم كبر الإمام للرابعة، وقلنا: صلِّ على النبي ثم حملت الجنازة فاته الدعاء له.
وقول المؤلف: "ومن فاته شيء من التكبير قضاه على صفته" ، ظاهره: الوجوب.
وظاهره أيضاً: أنه يقضيه، سواء أخشي حمل الجنازة أم لم يخش.
ووجه ذلك: أنه إذا قدر أن الجنازة رفعت قبل أن يتم، فإنه يدعو لها ولو في غيبتها للضرورة.
ولكن قيده الأصحاب - رحمهم الله - فقالوا: "ما لم يخش رفعها" ، أي: إذا خشي الرفع تابع وسلَّم.
والغالب في جنائزنا أنها ترفع ولا يتأخرون فيها حتى يقضي الناس، وعلى هذا فيتابع التكبير ويسلِّم.
ومع هذا قالوا: "وله أن يسلم مع الإمام" ؛ لأن الفرض سقط بصلاة الإمام، فما بعد صلاة الإمام يعتبر نافلة، والنافلة يجوز قطعها.
وقيل: بل يقضيها على صفتها، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" ، فيلزم من هذا أن يتمه على صفته.
إذاً أحوال المسبوق في صلاة الجنازة ثلاث حالات:
الأولى: أن يمكنه قضاء ما فات قبل أن تحمل الجنازة فهنا يقضي، ولا إشكال فيه؛ لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: "ما فاتكم فأتموا" .
الثانية: أن يخشى من رفعها فيتابع التكبير، وإن لم يدع إلا دعاء قليلاً للميت.
الثالثة: أن يسلم مع الإمام، ويسقط عنه ما بقي من التكبير.
وعلته: أن الفرض سقط بصلاة الإمام، فكان ما بقي مخيراً فيه.
ومع هذا فليس هناك نص صحيح صريح في الموضوع؛ أعني سَلَامَهُ مَعَ الإمام، أو متابعته التكبير بدون دعاء، لكنَّهُ اجتهاد من أهل العلم رحمهم الله.(171/74)
قوله: "ومن فاتته الصلاة عليه صلى على القبر" ، أي: يصلي على القبر إن كانت دفنت، وإلا صلى عليها ولا ينتظر؛ لأن الصلاة على القبر إنما تكون للضرورة إذا لم يمكن حضور الميت بين يديه.
ودليل ذلك: قصة المرأة التي كانت تقمُّ المسجد، أي ترفع قمامته وتنظفه، فماتت ليلاً، ولم يؤذن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك تحقيراً لشأنها؛ ولئلا يشق على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما سأل عنها أخبروه أنها ماتت فقال: "هلَّا كنتم آذنتموني، - أي: أخبرتموني -، فقال: دلوني على قبرها فخرج بنفسه عليه الصلاة والسلام وصلى على قبرها" .
وفي هذا من عناية الرسول عليه الصلاة والسلام بأهل الخير ما هو ظاهر، إذ ليس لها عمل إلا أنها تقم المسجد، مع أنها امرأة سوداء.
وفيه عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالمساجد، كما جاء في حديث عائشة - - أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر ببناء المساجد في الدور، وأن تنظف وتطيب" .
وفيه تواضع النبي صلى الله عليه وسلم للخروج إلى قبرها ليصلي عليه، وإلا فبإمكانه أن يدعو لها في مكانه
وفيه تعظيم شأن هذه المرأة السوداء، والشكر لها على عملها.
مسائل:
الأولى: يصلى على القبر صلاة الجنازة المعروفة، إن كان رجلاً وقف عند رأسه، وإن كانت أنثى وقف عند وسط القبر، فيجعل القبر بينه وبين القبلة.
الثانية: لو سقط شخص في بئر ولم نستطع إخراجه، فيصلى عليه فيها ثم تطم البئر، ويسقط تغسيله، وتكفينه لعدم القدرة على ذلك.
الثالثة: إذا اجتمعت عدة قبور لم يصل عليها؛ فإن كانت كلها بين يديه فيصلى عليها جميعاً صلاة واحدة. وإلا فيصلى على كل قبر.
قوله: "وعلى غائب بالنية" ، لأن الغائب ليس بين يديه حتى ينوي الصلاة على شيء مشاهد، ولكن يصلي بالنية.
وقوله: "غائب" أي: غائب عن البلد، ولو دون المسافة، أما من في البلد فلا يشرع أن يصلي عليه صلاة الغائب، بل المشروع أن يخرج إلى قبره ليصلي عليه.(171/75)
ولهذا يخطئ بعض الجهال الذين يصلون على الميت في أطراف البلد وهو ميت في بلده، فإن هذا خلاف السنة، فالسنة أن تخرج إلى القبر وتصلي عليه.
قوله: "إلى شهر" ، أي: يصلى على الغائب، وعلى القبر إلى نهاية شهر.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "صلى على قبر إلى شهر" .
ولكن كون الرسول عليه الصلاة والسلام صلى على قبر له شهر لا يدل على التحديد؛ لأن هذا فعل وقع اتفاقاً ليس مقصوداً، وما فعل اتفاقاً فليس بدليل اتفاقاً؛ لأنه لم يقصد.
وخلاف الأصحاب في هذه المسألة لا يقدح في هذه القاعدة؛ لأنهم يخالفون في كونه وقع اتفاقاً، ويقولون: بل وقع قصداً.
والصحيح: أنه يُصلى على الغائب، ولو بعد شهر، ونصلي على القبر أيضاً ولو بعد الشهر.
إلا أن بعض العلماء قيده بقيد حسن قال: بشرط أن يكون هذا المدفون مات في زمن يكون فيه هذا المصلي أهلاً للصلاة.
مثال ذلك: رجل مات قبل عشرين سنة، فخرج إنسان وصلى عليه وله ثلاثون سنة فيصح؛ لأنه عندما مات كان للمصلي عشر سنوات، فهو من أهل الصلاة على الميت.
مثال آخر: رجل مات قبل ثلاثين سنة، فخرج إنسان وله عشرون سنة ليصلي عليه فلا يصح؛ لأن المصلي كان معدوماً عندما مات الرجل، فليس من أهل الصلاة عليه.
ومن ثم لا يشرع لنا نحن أن نصلي على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وما علمنا أن أحداً من الناس قال: إنه يشرع أن يصلي الإنسان على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، أو على قبور الصحابة، لكن يقف ويدعو.
وقوله: "وعلى غائب" أطلق فيشمل كل غائب؛ رجلاً كان أو امرأة، شريفاً أو وضيعاً، قريباً أو بعيداً، فتصلي على كل غائب.
وهذه المسألة اختلف فيها العلماء على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أنه يصلى على كل غائب، ولو صلى عليه آلاف الناس.(171/76)
وبناء على هذا القول اتخذ بعض العلماء عملاً لا يشك أحد في أنه بدعة، فقال: إذا أردت أن تنام فصلِّ صلاة الجنازة على كل من مات في اليوم والليلة من المسلمين تؤجر أجراً كثيراً، فقد يكون مات في هذه الليلة آلاف فيكون لك أجر آلاف الصلوات.
ولكن هذا القول لا شك أنه بدعة؛ لأن أعلم الناس بالشرع، وأرحم الناس بالخلق، وأحب الناس أن ينفع الناس الرسول عليه الصلاة والسلام لم يفعل ذلك، ولا فعله خلفاؤه الراشدون، ولا علم عن أحد من الصحابة - -
القول الثاني: أنه يصلى على الغائب إذا كان فيه غناء للمسلمين، أي: منفعة، كعالم نفع الناس بعلمه، وتاجر نفع الناس بماله، ومجاهد نفع الناس بجهاده، وما أشبه ذلك، فيصلى عليه شكراً له ورداً لجميله، وتشجيعاً لغيره أن يفعل مثل فعله.
وهذا قول وسط اختاره كثير من علمائنا المعاصرين وغير المعاصرين.
القول الثالث: لا يصلى على الغائب إلا على من لم يصلَّ عليه. حتى وإن كان كبيراً في علمه، أو ماله، أو جاهه، أو غير ذلك، فإنه لا يصلى عليه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - -.
واستدل لذلك: بأن الصلاة على الجنازة عبادة، والعبادة لا تشرع إلا من الكتاب والسنة، ولم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على غائب إلا على النجاشي؛ لأنه مات بين أمة مشركة، ليسوا من أهل الصلاة، وإن كان أحد منهم آمن، فلا يعرف عن كيفية الصلاة شيئاً. فأخبر به النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه، وهو في الحبشة، والرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة وقال: "إنه مات عبد لله صالح" ، وفي بعض الروايات: "إن أخاً لكم قد مات ثم أمرهم أن يخرجوا إلى المصلى" ، فالاستدلال بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لا يصح؛ لأنه لا يصح الاستدلال بالأخص على الأعم، لكن يستدل بالأعم على الأخص؛ لأن العام يشمل جميع أفراده، فقضية النجاشي قضية خاصة، وليست لفظاً عاماً.(171/77)
قوله: (أمرهم أن يخرجوا إلى المصلى) : إما مصلى الجنائز؛ لأنه في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم كان للجنائز مصلى خاص، وإما مصلى العيد، والحديث محتمل للقولين، وبكل من القولين قال بعض العلماء.
فمن قال: إن المراد مصلى العيد قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك إظهاراً لشرف هذا الرجل، ورداً لجميله؛ لأنه آوى الصحابة الذين هاجروا إليه، وكونه يصلى عليه في مصلى العيد أظهر.
وقال بعض العلماء: المراد مصلى الجنائز؛ لأن "أل" للعهد، وهذه صلاة جنازة، فتحمل على المعهود في صلاة الجنازة، وهو مصلى الجنائز.
المهم: أنه لم يحفظ عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه صلى على جنازة غائبة غير النجاشي، ولا عن الصحابة، مع أنه لا شك أنه يموت العظماء وذوو الغناء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عهد الخلفاء الراشدين.
وهذا القول أقرب إلى الصواب.
وقوله: "إلى شهر" ، أي: وبعد الشهر لا يصلى عليه إن صلي عليه، فإن كان لم يصلَّ عليه صلينا عليه، ولو بعد سنين.
وهذه مسألة تقع كثيراً في البادية في زمن الجهل، فقد يموت عندهم الرجل ويدفنونه بدون تغسيل، ولا تكفين، ولا صلاة. ثم يأتون الآن يسألون عن هذا، فالواجب أن يصلى عليه كما سبق.
قوله: "ولا يصلي الإمام على الغال" ، إذا أطلق الفقهاء الإمام فالمراد به: الإمام الأعظم، أي: رئيس الدولة فلا يصلي على الغال.
والغال: هو من كتم شيئاً مما غنمه في الجهاد.
مثاله: أن يغنم مع المجاهدين شيئاً، ويكتمه يريد أن يختص به لنفسه، فهذا قد فعل إثماً عظيماً - والعياذ بالله وأتى كبيرة من كبائر الذنوب. قال تعالى: (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(آل عمران: من الآية161). فسوف يأتي بما غله حاملاً إياه على رقبته يوم القيامة، خزياً وعاراً وفضيحة.(171/78)
ولما كانت المسألة كبيرة ومتعلقة بعموم المسلمين، امتنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي على الغال، نكالاً لمن يأتي بعده. ولا تسقط الصلاة عن بقية المسلمين، فيجب عليهم أن يصلوا عليه.
ودليل ذلك: ما روى زيد بن خالد - - قال: "توفي رجل من جهينة يوم خيبر فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيرت وجوه القوم، فلما رأى ما بهم، قال: إن صاحبكم غلَّ في سبيل الله، ففتشنا متاعه، فوجدنا فيه خرزاً من خرز اليهود لا يساوي درهمين" .
قوله: "ولا على قاتل نفسه" ، أي: لا يصلي الإمام على قاتل نفسه نكالاً لمن بقي بعده؛ لأن قاتل نفسه - والعياذ بالله - أتى كبيرة من كبائر الذنوب، وسوف يعذب في جهنم بما قتل به نفسه. فإن قتلها بخنجر ففي يده خنجر في نار جهنم يطعن به نفسه. وإن قتلها بسُم ففي فمه سم يتحسَّاه في النار، وإن قتلها بالتردي من أعلى جبل، أو جدار، أو ما أشبه ذلك فكذلك يعذب به في نار جهنم، كما جاء ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكثير من الناس غير المسلمين إذا ضاقت به الدنيا قتل نفسه والعياذ بالله - فيكون كالمستجير من الرمضاء بالنار؛ عجل العقوبة لنفسه - والعياذ بالله -؛ لأنه يعذب من حين أن يموت.
ودليل ذلك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل قد قتل نفسه بمشاقص فلم يصل عليه" .
ولكن هل يصلي عليه بقية الناس؟
الجواب: نعم، يصلي عليه بقية الناس؛ لأنه مسلم لا يكفر، وإن كان يخلد في النار إلى أن يشاء الله.
ولو قال قائل: أفلا ينبغي أن يعدى هذا الحكم إلى أمير كل قرية أو قاضيها أو مفتيها، أي من يحصل بامتناعه النكال، هل يتعدى الحكم إليهم؟
فالجواب: نعم يتعدى الحكم إليهم، فكل من في امتناعه عن الصلاة نكال فإنه يسن له أن لا يصلي على الغال، ولا على قاتل نفسه.
مسألة: هل يلحق بالغال، وقاتل النفس من هو مثلهم، أو أشد منهم أذية للمسلمين، كقطاع الطرق مثلاً؟(171/79)
الجواب: المشهور من المذهب: لا يلحق.
والقول الثاني: أن من كان مثلهم، أو أشد منهم، فإنه لا يصلي الإمام عليه؛ لأن الشرع إذا جاء في العقوبة على جرم من المعاصي، فإنه يلحق به ما يماثله، أو ما هو أشد منه.
فإذا كان الذي غلَّ هذا الشيء اليسير لم يصل عليه النبي صلى الله عليه وسلم فما بالك بمن يقف للمسلمين في الطرق، ويقتلهم ويأخذ أموالهم، ويروعهم، أليس هذا من باب أولى أن ينكل به؟
الجواب: بلى، ولهذا فالصحيح: أن ما ساوى هاتين المعصيتين، ورأى الإمام المصلحة في عدم الصلاة عليه، فإنه لا يصلي عليه.
مسألة: ما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم فيمن قتل نفسه: "خالداً مخلداً فيها أبداً" .
الجواب: هذا الحديث نظير الآية من بعض الوجوه: )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93) ، وقد أجاب العلماء عن هذا بأجوبة كثيرة منها
أن هذا فيمن كان مستحلاً للقتل، وعرض هذا الجواب على الإمام أحمد فضحك وقال: سبحان الله، إذا استحل القتل فهو كافر سواء قتل أو لم يقتل.
ومنهم من قال: إنه على شرط، أي هذا جزاؤه إن جازاه الله.
ومنهم من قال: إن هذا سبب، والسبب قد وجد فيه مانع وهو الإيمان.
ومنهم من قال: إن هذا على ظاهره أن من فعل هذا فإنه يختم له بسوء الخاتمة فإن تاب تاب الله عليه، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً" ، وهذا والذي قبله أحسن الأجوبة.
مسألة: إذا وجد بعض ميت فهل يغسل ويكفن ويصلى عليه؟
الجواب: إن كان الموجود جملة الميت؛ بأن وجدنا رجُلاً بلا أعضاء فإنه يغسل ويكفن ويصلى عليه، وإن كان الموجود عضواً من الأعضاء؛ فإن كان قد صلي على جملة الميت فلا يصلى عليه، وإن كان لم يُصلَّ عليه فإنه يصلى على هذا الجزء الموجود.(171/80)
قوله: "ولا بأس بالصلاة عليه في المسجد" ، أي: لا بأس بالصلاة على الميت في المسجد، وإنما قال: "لا بأس" رداً لقول من يقول: تكره الصلاة على الأموات في المساجد؛ لأن المساجد إنما بنيت للصلاة، وقراءة القرآن والذكر، لا لأن تحمل إليها الجنائز؛ ليصلى عليها فيها والرسول صلى الله عليه وسلم قد جعل للجنائز مصلى خاصاً بها، ولأنه ربما يحصل من الميت تلويث المسجد فيخرج منه خارج، أو يكون فيه رائحة كريهة، أو ما أشبه ذلك.
والصحيح: أنه لا بأس بذلك.
والدليل عليه: حديث عائشة - -: "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على سهل بن بيضاء في المسجد" ، والرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان له مصلى للجنائز، لكنه أحياناً يصلي على الجنائز في المسجد.
فإذا قال قائل: على القول بالكراهة فأين يصلى على الجنائز؟
الجواب: يعدُّ مصلى خاص للجنائز، كما هو متبع في كثير من البلاد الإسلامية، وينبغي أن يكون قريباً من المقبرة؛ لأنه أسهل على المشيعين؛ فالناس إذا اجتمعوا مثلاً في مسجد في داخل البلد صار في ذلك مضايقة؛ فسينفرون مع الجنازة جميعاً، وقد تكون المقبرة بعيدة، لكن إذا كان مصلى الجنائز قريباً من المقبرة صار الناس يأتون أرسالاً من بيوتهم إلى هذا المصلى، ثم يصلون عليها، ثم يخرجون إلى المقبرة بلا مشقة.
وعندنا في نجد لا يخصصون مصلى للجنائز، بل الجنائز يؤتى بها إلى المساجد، وإذا كان لا بأس به فإننا لا ننهى عنه، ولا نقول: إنه يخشى من الميت على المسجد، إلا إذا كان هناك قضية خاصة بأن يكون الميت مات بحادث، والدم لا زال ينزف منه، فهذا نمنع أن يصلى عليه في المسجد؛ لأنه يلوثه. قوله: "فصل" .
المؤلف - - مشى على الترتيب الآتي: تغسيل الميت، ثم التكفين، ثم الصلاة، ثم الحمل، والدفن.(171/81)
قوله: "يسن التربيع في حمله" ، التربيع في حمل الميت سنة، لحديث ابن مسعود - - وفيه: "من اتبع جنازة فليحمل من جوانب السرير كلها فإنه من السنة" ؛ ولأن الإنسان إذا ربع حمل الميت من جميع الجهات.
وصفة التربيع: أن يأخذ بجميع أعمدة النعش، ولهذا سميناه تربيعاً؛ لأن أعمدة النعش أربعة.
فيبدأ بالجهة الأمامية بالعمود الذي على يمين الميت، والميت على النعش، ثم يرجع إلى العمود الذي وراءه، ثم يتقدم مرة ثانية للعمود الذي عن يسار الميت، ثم يرجع إلى الخلف، وبعد ذلك يحمل بما شاء.
هذا ما اختاره أصحابنا رحمهم الله.
وقال بعض العلماء: بل يحمله بين العمودين.
قوله: "ويباح بين العمودين" ، هذا بيان حكم الحمل بين العمودين.
وقال بعض العلماء: يسن أن يحمل بين العمودين، أي: بأن يكون أحد العمودين على كتفه الأيمن والآخر على كتفه الأيسر، هذا إذا كان النعش صغيراً، أما إذا كان واسعاً فيجعل عموداً على يده اليمنى، وعموداً على يده اليسرى، ولكن لا شك أن فيه مشقة على الحامل، ولا سيما إذا كانت الجنازة ثقيلة.
واستدلوا: بأنه صلى الله عليه وسلم حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين .
والذي يظهر لي في هذا: أن الأمر واسع، وأنه ينبغي أن يفعل ما هو أسهل، ولا يكلف نفسه، فقد يكون التربيع صعباً أحياناً، فيما إذا كثر المشيعون فيشق على نفسه وعلى غيره.
وأما الحمل بين العمودين فهو شاق أيضاً، اللهم إلا إذا كان هناك عمودان يلتقيان عن قرب، بحيث يكون كل عمود على عاتقٍ، فيمكن أن يكون سهلاً.
هذا إذا كان الميت محمولاً على نعش، وإن كان صغيراً فيحمل بين الأيدي إذا كان لا يشق.
مسألة: هل ينبغي أن يوضع على النعش "مِكَبَّة" أو لا؟
والمكبة مثل الخيمة أعواد مقوسة توضع على النعش، ويوضع عليها سترٌ.
الجواب: إن كانت أنثى فنعم، وقد استحبه كثير من العلماء؛ لأن ذلك أستر لها.(171/82)
وقد ذكر البيهقي - -: أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم أوصت بذلك ، وقيل: غير هذا .
وهذا مستعمل في الحجاز، ولكنه في نجد لا يعرف، ولو فعله أحدٌ لكان محسناً، ولا ينكر عليه؛ لأنه تقدم أحياناً بعض الجنائز من النساء يشاهد الإنسان أشياء لا يحب أن يشاهدها، فإذا جعلت عليها "المكبة" فإنها تسترها.
قال في الروض: "فإن كانت اُمرأة استحب تغطية نعشها بمكبة؛ لأنه أستر لها ويروى أن فاطمة صنع لها ذلك بأمرها ويجعل فوق المكبة ثوب. وكذا إن كان بالميت حَدَبٌ ونحوه" ؛ لأجل ستر هذا التشويه.
أما الرجل فلا يسن فيه هذا، بل يبقى كما هو عليه؛ لأنه فيه فائدة، وهي: قوة الاتعاظ إذا شاهده من كان معه بالأمس جثة على هذا السرير، وإن ستر بعباءة كما هو معمول به عندنا فلا بأس.
قوله: "ويسن الإسراع بها" أي: يستحب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أسرعوا بالجنازة فإن تك صالحة فخيرٌ تقدمونها إليه، وإن تك سوى ذلك فشرٌ تضعونه عن رقابكم" ، إلا أن يخشى من تمزق الجنازة كما لو كان محترقاً، فيعمل ما يزول به هذا المحذور.
وليس المراد بالإسراع الخبب العظيم، كما يفعل بعض الناس، فإن هذا يتعب المشيعين، وقد ينزل من الميت شيء فيلوث الكفن، لارتخاء أعصابه، وأيضاً التباطؤ الشديد خلاف السنة؛ ولهذا قال في الروض: "الإسراع بها دون الخبب"، والخَبَب: الإسراع الشديد.
قال الفقهاء مفسرين للإسراع المشروع: "بحيث لا يمشي مشيته المعتادة" .
وهذا الإسراع على سبيل الاستحباب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم بَيَّنَ أنّ هذا من باب الشفقة على الميت إذا كان صالحاً، أو الشفقة على الحامل إذا كان غير صالح، ولم نَرَ أحداً قال بالوجوب.
قوله: "وكون المشاة أمامها والركبان خلفها" ، أي: ينبغي إذا كان المشيعون مختلفين ما بين راكب وماش أن يكون المشاة أمامها، والركبان خلفها.(171/83)
والدليل على ذلك: ورود السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وجاءت السنة أيضاً بتخيير الماشي بين أن يكون أمامها، أو عن يمينها، أو عن شمالها، أو خلفها، حسب ما يتيسر .
وأما السيارات فإن الأولى أن تكون أمام الجنازة؛ لأنها إذا كانت خلف الناس أزعجتهم، فإذا كانت أمامها لم يحصل إزعاج منها؛ لأن ذلك أكثر طمأنينة للمشيعين، وأسهل لأهل السيارات في الإسراع وعدمه.
مسألة: حمل الجنازة بالسيارة لا ينبغي إلا لعذر كبعد المقبرة، أو وجود رياح، أو أمطار، أو خوف، ونحو ذلك؛ لأن الحمل على الأعناق هو الذي جاءت به السنة؛ ولأنه أدعى للاتعاظ والخشوع.
قوله: "ويكره جلوس تابعها حتى توضع" ، أي: أن المشيع لا يجلس حتى توضع الجنازة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تبعتم جنازة فلا تجلسوا حتى توضع" ، ولأنه مشيع تابع، فإذا كانت الجنازة محمولة فلا ينبغي أن يجلس حتى توضع أي على الأرض للدفن ولحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم لما انتهى إلى قبر ولمَّا يلحد، جلس على الأرض وجلس الصحابة حوله، وكان معه مخصرة ينكت بها الأرض... إلخ الحديث
قوله: "ويسجى قبر امرأة فقط"
أي: يغطى قبر المرأة فقط عند إدخالها القبر من أجل ألا ترى المرأة، وذلك أستر لها.
وقوله: "فقط" ليخرج قبر الرجل، فإنه لا يسجى؛ لما روي عن علي - -: "أنه مر بقوم يدنون ميتاً رجلاً، وقد سجوه فجذبه، وقال: إنما يصنع هذا في النساء" .
مسألة: كيف يُدخل الميت القبر؟
الجواب؛ يدخل من عند رجليه، فيؤتى بالميت من عند رجلي القبر، ثم يدخل رأسه سلاً في القبر، هذا هو الأفضل .
والطريقة الثانية: أن يؤتى بالميت من قبل القبر ويوضع فيه بدون سل، وهذا أيضاً جائز، وعليه عمل الناس اليوم، فإن أمكنت الصفة الأولى فهي الأفضل، وإن لم تمكن فإن ذلك مجزئ.
قوله: "واللحد أفضل من الشق" ، أي: القبر إذا كان لحداً فهو أفضل.(171/84)
واللحد: أن يحفر للميت في قاع القبر حفرة من جهة القبلة ليوضع فيها، ويجوز من جهة خلف القبلة، لكنها من جهة القبلة أفضل؛ وسمي لحداً، لأنه مائل من جانب القبر.
قوله: "أفضل من الشق" ، الشق: أن يحفر للميت في وسط القبر حفرة. ولكن إذا احتيج إلى الشق فإنه لا بأس به، والحاجة إلى الشق إذا كانت الأرض رملية، فإن اللحد فيها لا يمكن؛ لأن الرمل إذا لحدت فيه انهدم، فتحفر حفرة، ثم يحفر في وسطها ثم يوضع لبن على جانبي الحفرة التي بها الميت؛ من أجل ألا ينهد الرمل، ثم يوضع الميت بين هذه اللبنات.
وعلم من قوله: "اللحد أفضل من الشق" أن الشق جائز، وهو كذلك، ولكنه خلاف الأفضل.
مسألة: هل يحفر بطول قامة الرجل، أو نصف الرجل، أو أقل، أو أكثر؟
الجواب: التعميق سنة، فيعمق في الحفر، والواجب: ما يمنع السباع أن تأكله، والرائحة أن تخرج منه، وأما كونه لا بد أن يمنع السباع والرائحة: فاحتراماً للميت؛ ولئلا يؤذي الأحياء، ويلوث الأجواء بالرائحة. هذا أقل ما يجب، وإن زاد في الحفر، فهو أفضل وأكمل لكن بلا حد. وبعضهم حده بأن يكون بطول القامة وهذا قد يكون شاقاً على الناس. ثم إنه أحياناً يعترضنا عند الحفر ماء. ففي هذه الحال لا بد أن نتخذ الإجراءات اللازمة لمنع الماء، إما ببناء لبنات، أو ما أشبه ذلك حتى يمتنع الماء عن الميت.
قوله: "ويقول مدخله بسم الله وعلى ملة رسول الله" ، أي: يقول مدخله عند وضعه بالقبر: بسم الله؛ لأن البسملة كلها خير وبركة، ودفن الميت أمر ذو بال، وكل أمر ذي بال لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر، وقد جاءت السنة بذلك أيضاً .
ولكن من الذي يتولى إدخاله؟
الجواب: إن كان له وصي، أي: قال قبل موته: فلان يتولى دفني فإننا نأخذ بوصيته، وإن لم يكن له وصي فنبدأ بأقاربه إذا كانوا يحسنون الدفن، وإن لم يكن له أقارب، أو كانوا لا يحسنون الدفن، أو لا يريدون أن ينزلوا في القبر، فأي واحد من الناس.(171/85)
ولا يشترط فيمن يتولى إدخال الميتة في قبرها أن يكون من محارمها، فيجوز أن ينزلها شخص، ولو كان أجنبياً.
ودليل ذلك: [ أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ماتت ابنته زوجة عثمان - -، وخرج إلى المقبرة وحان وقت دفنها، قال: "أيكم لم يقارف الليلة؟" - لم يقارف: قال العلماء: أي لم يجامع - فقال أبو طلحة: "أنا، فأمره أن ينزل في قبرها" ] ، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبوها، وزوجها عثمان بن عفان - - كانا حاضرين.
قوله: "ويضعه في لحده على شقه الأيمن" ، ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية أن يكون على الشق الأيمن.
وعللوا ذلك: بأنها سنة النائم، والنوم والموت كلاهما وفاة، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال للبراء بن عازب - -: "إذا اتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن" ، فالموت كذلك.
قوله: "مستقبل القبلة" أي: وجوباً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكعبة قبلتكم أحياء وأمواتاً" ، وهذا الحديث ضعيف، إلا أنَّ له شاهداً من حديث البراء بن معرور - - ، ولأن هذا عمل المسلمين الذي أجمعوا عليه؛ ولأنه أفضل المجالس.
فإن وضعه على جنبه الأيسر مستقبل القبلة، فإنه جائز، لكن الأفضل أن يكون على الجنب الأيمن.
ولم يذكر المؤلف - - أنه يضع تحته وسادة كلبنة، أو حجر، فظاهر كلامه أنه لا يسن، وهذا هو الظاهر عن السلف، فإن من خطب عمر بن عبد العزيز - - أنه قال: "إنكم تَدَعُونَ الميت في صدع من الأرض غير موسد ولا ممهد".
فالأصل: عدم السنية، ولا أعلم في ذلك سنة، ومن ادعى السنية فعليه الدليل، ولهذا عد ذلك بعض العلماء من البدع.
واستحب بعض العلماء: أن يوضع له وسادة لبنة صغيرة ليست كبيرة.
ثم إن المؤلف - - لم يذكر أنه يكشف شيء من وجهه، وعلى هذا فلا يسن أن يكشف شيء من وجه الميت، بل يدفن ملفوفاً بأكفانه، وهذا رأي كثير من العلماء.
وقال بعض العلماء: إنه يكشف عن خده الأيمن ليباشر الأرض.(171/86)
واستدلوا: بأن عمر بن الخطاب - - قال: "إذا أنا مت ووضعتموني في القبر فأفضوا بخدي إلى الأرض" ، أي: اجعلوه مباشراً للأرض، ولأن فيه استكانة وذلاً.
فأما كشف الوجه كله فلا أصل له، وليس فيه دليل إلا فيما إذا كان الميت محرماً، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تخمروا وجهه" . وإن كانت هذه اللفظة "وجهه" اختلف العلماء في ثبوتها، أما الرأس بالنسبة للمحرم فإنه لا يغطى.
مسألة: يسن لمن حضر الدفن أن يحثو ثلاث حثيات لفعل النبي صلى الله عليه وسلم .
مسألة: تلقين الميت بعد الدفن لم يصح الحديث فيه فيكون من البدع.
قوله: "ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر مسنماً" ، أي: السنة أن يرفع القبر عن الأرض، وكما أنه سنة، فإن الواقع يقتضيه؛ لأن تراب القبر سوف يعاد إلى القبر، ومعلوم أن الأرض قبل حرثها أشد التئاماً مما إذا حرثت، فلا بد أن يربو التراب.
وأيضاً فإن مكان الميت كان بالأول تراباً، والآن صار فضاءً، فهذا التراب الذي كان في مكان الميت في الأول سوف يكون فوقه.
وقول المؤلف: "قدر شبر" .<> الشبر: ما بين رأس الخنصر والإبهام، عند فتح الكف، ومعلوم أن المسألة تقريبية؛ لأن الناس يختلفون في كبر اليد وصغرها. فالإنسان الذي يده كبيرة وأصابعه طويلة سيكون شبره طويلاً، والعكس بالعكس.
والغالب: أن التراب الذي يعاد إلى القبر أنه يرتفع بمقدار الشبر، وقد يزيد قليلاً، وقد ينقص قليلاً.
واستثنى العلماء من هذه المسألة: إذا مات الإنسان في دار حرب، أي: في دار الكفار المحاربين، فإنه لا ينبغي أن يرفع قبره بل يسوى بالأرض خوفاً عليه من الأعداء أن ينبشوه، ويمثلوا به، وما أشبه ذلك.
وقوله: "مسنماً" أي: يجعل كالسنام بحيث يكون وسطه بارزاً على أطرافه، وضد المسنَّم: المسطح الذي يجعل أعلاه كالسطح.
والدليل على هذا: أن هذا هو صفة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وقبري صاحبيه.(171/87)
قوله: "ويكره" ، المكروه في اصطلاح الفقهاء هو: الذي يثاب تاركه امتثالاً، ولا يعاقب فاعله، وهو كراهة التنزيه، لا كراهة التحريم.
قوله: "تجصيصه" أي: أن يوضع فوقه جص؛ لأن هذا داخل في تشريفه، وقد قال علي بن أبي طالب - - لأبي الهياج الأسدي: "ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته" .
قوله: "والبناء" عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
والاقتصار على الكراهة في هاتين المسألتين فيه نظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن ذلك، أي: عن تجصيصها، وعن البناء عليها" ، والأصل في النهي التحريم؛ ولأن هذا وسيلة إلى الشرك، فإنه إذا بني عليها عظمت، وفي النهاية ربما تعبد من دون الله؛ لأن الشيطان يَجُرُّ بني آدم، من الصغيرة إلى الكبيرة، ومن الكبيرة إلى الكفر.
فالصحيح: أن تجصيصها والبناء عليها حرام.
وقد قال بعض المتأخرين: إن الفقهاء أرادوا بالكراهة هنا كراهة التحريم، ولكن هذا غير مسلم؛ لأن هذا خلاف اصطلاحهم.
قوله: "والكتابة" أي: على القبر، سواء كتب على الحجر المنصوب عليه، أو كتب على نفس القبر؛ لأن ذلك يؤدي إلى تعظيمه، وتعظيم القبور يخشى أن يوصل صاحبه إلى الشرك.
وظاهر كلام المؤلف - -: أن الكتابة مكروهة، ولو كانت بقدر الحاجة، أي حاجة بيان صاحب القبر؛ درءاً للمفسدة.
وقال شيخنا عبد الرحمن بن سعدي - -: المراد بالكتابة: ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من كتابات المدح والثناء؛ لأن هذه هي التي يكون بها المحظور، أما التي بقدر الإعلام، فإنها لا تكره.
قوله: "والجلوس والوطء عليه" ، أي: الجلوس على القبر مكروه - وعلى كلام المؤلف - كراهة تنزيه.
والصواب: أنه محرم.
فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الجلوس على القبر وقال: "لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتمضي إلى جلده خير له من أن يجلس على القبر" .(171/88)
وكذلك الوطء عليه، فيرى المؤلف: أنه مكروه.
والصحيح: أنه حرام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك ؛ ولأنه امتهان لأخيه المسلم.
قوله: "والاتكاء إليه" ، أي: أن يتكئ على القبر فيجعله كالوسادة له؛ لأن في هذا امتهاناً للقبر.
وانظر كيف نهى النبي صلى الله عليه وسلم: "أن يجصص القبر، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه، وأن يوطأ عليه" ، حيث جمع في هذا النهي بين ما يكون سبباً للغلو فيه، وسبباً لامتهانه.
فالغلو في البناء، والتجصيص، والكتابة.
والامتهان في الوطء؛ من أجل أن يعامل الناس أهل القبور معاملة وسطاً لا غلو فيها ولا تفريط.
قوله: "ويحرم فيه دفن اثنين فأكثر إلا لضرورة" ، أي: يحرم في القبر دفن اثنين فأكثر، سواءٌ كانا رجلين أم امرأتين أم رجلاً وامرأة.
والدليل على ذلك: عمل المسلمين من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن الإنسان يدفن في قبره وحده.
ولا فرق بين أن يكون الدفن في زمن واحد بأن يؤتى بجنازتين وتدفنا في القبر، أو أن تدفن إحدى الجنازتين اليوم والثانية غداً.
قوله: "إلا لضرورة" ، وذلك بأن يكثر الموتى، ويقل من يدفنهم، ففي هذه الحال لا بأس أن يدفن الرجلان والثلاثة في قبر واحد.
ودليل ذلك: "ما صنعه النبي صلى الله عليه وسلم في شهداء أحد حيث أمرهم أن يدفنوا الرجلين في قبر واحد، ويقول: انظروا أيهم أكثر قرآناً فقدموه في اللحد" .
وذهب بعض أهل العلم إلى كراهة دفن أكثر من اثنين كراهة تنزيه.
وعللوا: بأن مجرد الفعل لا يدل على التحريم: أي: مجرد كون المسلمين يدفنون كل جنازة وحدها لا يدل على تحريم دفن أكثر من واحدة، وإنما يدل على كراهة مخالفة عمل المسلمين.
وذهب آخرون: إلى أن إفراد كل ميت في قبره أفضل، والجمع ليس بمكروه ولا محرم.
ولا يلزم من ترك السنة والأفضل أن يقع الإنسان في المكروه؛ لأن المكروه منهي عنه حقيقة، وترك الأفضل ليس بمنهي عنه.(171/89)
ولهذا لو أن الإنسان ترك راتبة الظهر مثلاً لا نقول: إنه فعل مكروهاً، ولو أنه لم يرفع يديه عند الركوع لا نقول: إنه فعل مكروهاً.
والراجح عندي - والله أعلم - القول الوسط، وهو الكراهة كما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية - - ، إلا إذا كان الأول قد دفن واستقر في قبره، فإنه أحق به، وحينئذٍ فلا يُدخل عليه ثان، اللهم إلا للضرورة القصوى.
قوله: "ويجعل بين كل اثنين حاجز من تراب" ، أي: إذا جاز دفن اثنين فأكثر في القبر الواحد، فإن الأفضل أن يجعل بينهما حاجز من تراب ليكونا كأنهما منفصلان، ولكن هذا ليس على سبيل الوجوب، بل على سبيل الأفضلية.
قوله: "ولا تكره القراءة على القبر" ، القراءة على القبر لا تكره، ولها صفتان:
الصفة الأولى: أن يقرأ على القبر، كأنما يقرأ على مريض.
الصفة الثانية: أن يقرأ على القبر أي عند القبر؛ ليسمع صاحب القبر فيستأنس به.
فيقول المؤلف: إن هذا غير مكروه.
ولكن الصحيح: أنه مكروه، فنفي الكراهة إشارة إلى قول من قال بالكراهة، والصحيح أن القراءة على القبر مكروهة، سواء كان ذلك عند الدفن أو بعد الدفن؛ لأنه لم يعمل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عُهد عن الخلفاء الراشدين، ولأنه ربما يحصل منه فتنة لصاحب القبر، فاليوم يقرأ عنده رجاء انتفاع صاحب القبر وغداً يقرأ عنده رجاء الانتفاع بصاحب القبر، ويرى أن القراءة عنده أفضل من القراءة في المسجد فيحصل بذلك فتنة.
مسألة مهمة: قراءة (يس) على الميت بعد دفنه بدعة، ولا يصح الاستدلال لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: "اقرؤوا على موتاكم يس" ؛ لأنه لا فائدة من القراءة عليه وهو ميت، وإنما يستفيد الشخص من القراءة عليه ما دامت روحه في جسده، ولأن الميت محتاج للدعاء له؛ ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من حضر الميت أن يدعو له، وقال: "فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" .(171/90)
قوله: "وأي قربة فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك" ، هذه قاعدة في إهداء القُرب للغير، هل هو جائز، وهل ينفع الغير أو لا ينفع؟
يقول المؤلف في هذه القاعدة: "أي قربة فعلها - أي: جميع أنواع القربات - إذا فعلها وجعل ثوابها لميت مسلم أو حي نفعه ذلك" . ولو قال - -: لمسلم ميت أو حي لكان أحسن؛ لأن قوله: لميت مسلم أو حي.
قد يقول قائل: أو حي مسلم أو كافر.
لكن لو قال: لمسلم ميت أو حي، لكان أوضح، وهذا مراده بلا شك.
وقول المؤلف: "أي قربة" لم يخصصها بالقربة المالية ولا بالبدنية بل أطلق.
مثال ذلك: أن يصوم شخص يوماً عن شخص آخر تطوعاً، فهل ينفعه؟
يقول المؤلف: ينفعه ما دام مسلماً.
مثال ثان: رجل تصدق بمال عن شخص فهل ينفعه؟ الجواب: نعم ينفعه.
مثال ثالث: رجل أعتق عبداً ونوى ثوابه لشخص؟
الجواب: ينفعه.
مثال رابع: رجل حج ونوى ثوابه لشخص؟
الجواب: ينفعه.
فإن كان ميتاً ففعل الطاعة عنه قد يكون متوجهاً؛ لأن الميت محتاج ولا يمكنه العمل، لكن إن كان حياً قادراً على أن يقوم بهذا العمل ففي ذلك نظر؛ لأنه يؤدي إلى اتكال الحي على هذا الرجل الذي تقرب إلى الله عنه، وهذا لم يعهد عن الصحابة - -، ولا عن السلف الصالح.
وإنما الذي عهد منهم هو جعل القُرَب للأموات، أما الأحياء فلم يعهد، اللهم إلا ما كان فريضة كالحج، فإن ذلك عُهد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن بشرط أن يكون المحجوج عنه عاجزاً عجزاً لا يرجى زواله.
فإن قال قائل: ما الدليل على أن ذلك نافع؟
فالجواب: الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" .
فإذا نويت أن أتقرب إلى الله لفلان نفعه، ولا دليل على المنع.
وكذلك فبعض هذه المسائل وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأجازها.
فمن ذلك:
- أن سعد بن عبادة - - "تصدق ببستانه لأمه التي ماتت فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم" .(171/91)
- حديث عائشة - -: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن أمي افتلتت نفسها، وإنها لو تكلمت لتصدقت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم" .
- أن عمرو بن العاص - -: "سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل يتصدق عن أبيه بعتق خمسين رقبة لأن أباه أوصى أن يعتق عنه مائة رقبة، فتصدق أخو عمرو بخمسين، وعمرو سأل النبي صلى الله عليه وسلم أيعتق الخمسين الباقية؟ فبين النبي صلى الله عليه وسلم له أنه لو كان أبوه مسلماً لنفعه، فترك الإعتاق" لأنه كافر، والكافر لا ينتفع بعمل غيره، حتى عمله الذي عمله من خير، يقول الله فيه: )وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (الفرقان:23) . فلما وجدت هذه المسألة الفردية، قلنا: الأصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع، أما لو كان هناك دليل على المنع لقلنا: هذه القضايا التي وردت تكون مخصصة للمنع، لكن لم يرد ما يدل على منع التقرب إلى الله تعالى بقربة تكون للغير.
فإن قال قائل: ما الجواب عن قوله تعالى: )وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) (لنجم:39)
فالجواب: أن من قرأ الآيات عرف المراد بها قال تعالى: )أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى(36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى(37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى(38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (لنجم:39) ، فكما أن وزر غيرك لا يحمل عليك، فكذلك سعي غيرك لا يجعل لك.
والمعنى: أن سعيك لا يضيع، وأنك لا تحمل وزر غيرك، لكن لو أن أحداً سعى لك فما المانع؟ أليس الذي يظلم غيره يأخذ الناس من حسناته، وتضاف إلى حسناتهم مع أنهم ما سعوا لها؟
فالمعنى: أن الإنسان كما لا يزر وزر غيره، لا يملك سعي غيره؛ فليس له إلا ما سعى، وأما أن يسعى غيره له فهذا لا مانع منه، فالآية لا تدل على منع سعي الغير له، بل تدل على أنه لا يملك من سعي غيره شيئاً، كما أنه لا يحمل من وزر غيره شيئاً.(171/92)
يبقى النظر: هل عمل العامة اليوم على صواب؟ وعمل العامة أنهم لا يعملون شيئاً إلا جعلوه لوالديهم، وأعمامهم، وأخوالهم، وما أشبه ذلك، حتى في رمضان يقرؤون القرآن وأول ختمة للأم؛ والثانية للأب، والثالثة للجدة، والرابعة للجد، والخامسة للعم، والسادسة للعمة، والسابعة للخال، والثامنة للخالة، فهذا غلط ليس من هدي السلف.
وكذلك في مكة يعتمرون، الأولى له، واليوم الثاني لأمه، والثالث لأبيه، والرابع لجده.
حتى إن بعض الناس يفتيهم، ويقول: لا بأس أن تكرر العمرة كل يوم إذا لم تكن لنفسك.
والذين لا يعتمرون يطوفون، ويكثرون الطواف لموتاهم، مع أنَّ هاديَ الخلق ودالَّهم إلى الله محمداً صلى الله عليه وسلم لم يرشد الأمة إلى هذا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" .
وسياق الحديث في الأعمال النافعة التي تنفع الإنسان، فلو كان العمل الصالح للإنسان بعد موته نافعاً لقال: أو ولد صالح يعمل له، فعدول النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل إلى الدعاء، يدل: على أنه ليس من المشروع أن تجعل الأعمال للأموات، وإن كنت تريد أن تنفعهم فادع الله لهم، وهكذا قول المؤمنين: ) رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(الحشر: من الآية10)ونحن لا ننكر أن الميت ينتفع، لكن ننكر أن تكون المسألة بهذا الإفراط، فكل شيء يجعل للأموات!!
حتى إنني حُدثت حديثاً عجباً، وهو أنه إذا قُدم الغداء أفاضوا عليه أيديهم وقالوا: اللهم اجعل ثوابه لفلان، والعشاء كذلك، فلم يبق شيء من الأعمال الصالحة إلا جعلوه لهم، وكل هذا من البدع.
لكن مع الأسف أن الناس إذا عملوا عملاً ولم ينبهوا عليه صار هذا العمل البدعي سنة عندهم، وصاحوا بمن ينكر عليهم: أتحسد أمواتنا؟!!(171/93)
فأمواتنا محتاجون وأعمالهم منقطعة، فنقول: ادع لهم، فبدل أن تجعل العمل الصالح لهم، اجعله لنفسك وادع الله لهم، وهذا خير لك وأفضل، وأخذٌ بتوجيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وكنا ونحن صغار لا نعرف الأضحية عن الحي أبداً، فكل الضحايا للأموات، ولكن الآن - الحمد لله - تنَّور الناس، وعرفوا أن الأضحية في الأصل للحي.
وقد يتعلل بعض الناس: بأن الناس في الأول كانوا في شدة فقر وليس عندهم من الأضاحي إلا الوصايا التي أوصى بها الأموات في أموالهم وأملاكهم وعقاراتهم، لكن هذه العلة ساقطة عند العامي.
لأن العامي لا يقول لك: ليس عندي فلوس، بل يقول: الأضحية لا تكون إلا للميت، وأمثال هذا.
قوله: "وسن أن يصلح لأهل الميت طعام يبعث به إليهم" ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم حين جاء نعي جعفر بن أبي طالب - -: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم" .
وظاهر كلام المؤلف: أن صنع الطعام لأهل الميت سنة مطلقاً، ولكن السنة تدل على أنه ليس بسنة مطلقاً، وإنما هو سنة لمن انشغلوا عن إصلاح الطعام بما أصابهم من مصيبة لقوله: "فقد أتاهم ما يشغلهم" ، والإنسان إذا أصيب بمصيبة عظيمة انغلق ذهنه وفكره ولم يصنع شيئاً.
فظاهر التعليل: أنه إذا لم يأتهم ما يشغلهم فلا يسن أن يصنع لهم.
ومع ذلك غلا بعض الناس في هذه المسألة غلواً عظيماً لا سيما في أطراف البلاد، حتى إنهم إذا مات الميت يرسلون الهدايا من الخرفان الكثيرة لأهل الميت، ثم إن أهل الميت يطبخونها للناس، ويدعون الناس إليها فتجد البيت الذي أصيب أهله كأنه بيت عرس، فيضيئون في الليل المصابيح الكثيرة، ويصنعون الكراسي المتعددة، وقد شاهدت ذلك بنفسي.
وهذا لا شك أنه من البدع المنكرة، فهل نحن مأمورون عند المصائب أن نأتي بالمسليات الحسية التي تختم على القلب حتى ننسى المصيبة نسيان البهائم؟! نحن مأمورون بأن نتسلى بما أرشدنا الله إليه: "إنا لله وإنا إليه راجعون".(171/94)
لا بأن يأتي الناس من يمين وشمال؛ ليجتمعوا إلينا ويؤنسونا تأنيساً ظاهرياً.
وإذا لم تكن المصيبة منسية بما أمر الله - عز وجل - به ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنها لا خير فيها، فيكون هذا النسيان سلواً كسلو البهائم.
وقد قال الصحابة - -: "كنا نعد صنع الطعام والاجتماع إلى أهل الميت من النياحة" . والنياحة من كبائر الذنوب فإن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن النائحة والمستمعة" .
وقد صرح بعض العلماء أن هذا الاجتماع بدعة؛ وهذا إذا خلا من المحاذير الشرعية.
قوله: "ويكره لهم فعله للناس" ، أي: صنع الطعام مكروه لأهل الميت، أي: أن يصنعوا طعاماً ويدعوا الناس إليه؛ لأن الصحابة - - "كانوا يعدون صنع الطعام والاجتماع لأهل الميت من النياحة" . فصل
قوله: "تسن زيارة القبور" ، والسنة عند الفقهاء: ما أثيب فاعله امتثالاً ولم يعاقب تاركه. فهي في مرتبة بين المباح والواجب.
القبور: جمع قبر، وليس الجمع مراداً، بل تسن الزيارة ولو كان قبراً واحداً.
فلو أن شخصاً مات في فلاة من الأرض، ومررنا به، وعرجنا على قبره لنزوره فلا بأس به.
ودليل ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "استأذن الرب - عز وجل - أن يزور قبر أمه فأذن له، واستأذنه أن يستغفر لها فلم يأذن له" . لأنها ماتت على الكفر قبل الإسلام، ولا يحل لإنسان أن يستغفر لأي إنسان كافر.
وقوله: "تسن زيارة القبور" وهذه الزيارة زيارة للدعاء لهم، وليست زيارة لدعائهم.
وهل هي زيارة للاعتبار، أو للتبرك بأتربتهم؟
الجواب: زيارة للاعتبار.
وسنية الزيارة ثابتة: بالسنة، والإجماع، كما نقله النووي - -.
أما السنة فمن قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله.
أما قوله فقد قال صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم الآخرة" .
وأما فعله: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يخرج إلى البقيع فيسلم عليهم .(171/95)
وكان النبي صلى الله عليه وسلم نهى أولاً عن زيارة القبور؛ لأن الناس حديثو عهد بالكفر والشرك، فخاف أن يكون ذلك وسيلة للإشراك، ولما استقر الإيمان في القلوب أذن لهم. فقال لهم صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" ، ثم بين الرسول صلى الله عليه وسلم الحكمة من ذلك فقال: "فإنها تذكركم الآخرة" ، أي: تذكركم بلسان الحال لا بلسان المقال؛ لأن الإنسان إذا جاء إلى القبور، وتذكر أن فلاناً الذي في القبر الآن كان بالأمس معه، يأكل كما يأكل، ويشرب كما يشرب، ويتمتع بمتع الدنيا كما يتمتع، ويستطيع أن يعمل العمل الصالح كما يستطيع هو الآن، إذا تذكر ذلك فلا بد أن يؤثر على قلبه، وأن يستعد لهذا اليوم الذي آل إليه صاحبه بالأمس، فيتذكر أن مآله إلى هذا القبر، وأنه ربما يكون فيه عن قرب، فيتذكر، ويتعظ ويمتثل، ولهذا ينبغي للزائر أن يستشعر هذا المعنى، لا أن يستشعر مجرد الدعاء لهم؛ لأن هذا المعنى هو الذي علل به النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالزيارة فقال: "فإنها تذكركم الآخرة" .
قوله: "إلا لنساء" ، فليست بسنة، وفي المسألة خمسة أقوال:
فقيل: إنها سنة للنساء، كالرجال.
وقيل: تكره.
وقيل: تباح.
وقيل: تحرم.
وقيل: من الكبائر.
والمشهور من المذهب عند الحنابلة: أنها تكره، والكراهة عندهم للتنزيه، أي لو زارت المرأة القبور، فإنه لا إثم عليها.
والصحيح: أن زيارة المرأة للقبور من كبائر الذنوب.
ودليل ذلك ما يلي:
- أن النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن زائرات القبور" .
واللعن لا يكون إلا على كبيرة من كبائر الذنوب؛ لأن معناه الطرد والإبعاد عن رحمة الله، وهذا وعيد شديد
- من جهة النظر، فلأنَّ المرأة ضعيفة التحمل، قوية العاطفة، سريعة الانفعال فلا تتحمل أن تزور القبر، وإذا زارته حصل لها من البكاء، والعويل، وربما شق الجيوب، ولطم الخدود، ونتف الشعور، وما أشبه ذلك(171/96)
وأيضاً إذا ذهبت وحدها إلى المقابر، فالغالب أن المقابر تكون في مكان خال، يخشى عليها من الفتنة أو العدوان عليها، فكان النظر الصحيح موافقاً للأثر.
واستثنى الأصحاب من فقهاء الحنابلة: قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقبري صاحبيه، وقالوا: إن زيارة النساء لهذه القبور الثلاثة لا بأس بها.
وعللوا ذلك: بأن زيارتهن لهذه القبور الثلاثة لا يصدق عليها أنها زيارة؛ لأن بينهن وبين هذه القبور ثلاثة جدر، كما قال ابن القيم:
فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران والذي يترجح عندي: أنه لا استثناء؛ لأن وصولهن إلى القبور إما أن يكون زيارة، أو لا يكون، فإن كان زيارة وقعن في الكبيرة، وإن لم تكن زيارة فلا فرق بين أن يحضرن إلى مكان القبر، أو أن يسلمن على النبي صلى الله عليه وسلم من بعيد، وحينئذٍ يكون مجيئهن للقبور لغواً لا فائدة منه، بل في زماننا هذا قد يكون هناك مزاحمة للرجال، وأعمال لا تليق بالمرأة المسلمة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قال قائل: ما تقولون في حديث عائشة - -: "أنها زارت قبر أخيها" ؟
فالجواب: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يعارض بقول أحد كائناً من كان، وها هي عائشة - - تقول: "شبَّهتمونا بالحمير والكلاب" ، أي في قطع الصلاة إذا مرت المرأة من بين يدي المصلي مع أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بأن: "الكلب الأسود، والحمار، والمرأة تقطع الصلاة" ، فهي - - غير معصومة، ولا يمكن أن يستدل بفعلها مع قول النبي صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: ما تقولون في الحديث الثابت في صحيح مسلم "حيث فقدت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، وطلبته، ثم أدركته في البقيع يسلم عليهم، ثم رجع من البقيع ورجعت هي قبله حتى أدركها في البيت،.... قالت يا رسول الله: أرأيت إن خرجت ماذا أقول قال: قولي: السلام عليكم دار قوم مؤمنين...." إلخ؟(171/97)
فالجواب: يفرق بين المرأة إذا خرجت بقصد الزيارة، وإذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة، فإذا مرت بالمقبرة بدون قصد الزيارة، فلا حرج أن تسلم على أهل القبور، وأن تدعو لهم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة - -.
وأما إذا خرجت لقصد الزيارة فهذه زائرة للمقبرة فيصدق عليها اللعن.
فإن قيل: ما تقولون في اللفظ الوارد في الحديث: "لعن الله زوَّارات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج" "زوارات" بصيغة المبالغة؟
فالجواب: الحديث ورد بلفظين: "زائرات"، و"زوارات".
فإن كانت "زوارات" للنسبة فلا إشكال، وإن كانت للمبالغة فإن لفظ "زائرات" فيه زيادة علم، فيؤخذ به؛ لأن "زائرات" يصدق بزيارة واحدة.
و"زوارات" في الكثير للمبالغة، ومعلوم أن الوعيد إذا جاء معلقاً بزيارة واحدة، ومعلقاً بزيارات متعددة؛ فإن مع المعلق بزيارة واحدة زيادة علم؛ لأنه يحق الوعيد على من زار مرة واحدة على لفظ "زائرات"، دون لفظ: "زوارات".
ولو أخذنا "بزوارات" ألغينا دلالة "زائرات". وقد تكلم شيخ الإسلام رحمه الله على هذه المسألة في مجموع الفتاوى كلاماً جيداً ينبغي لطالب العلم أن يراجعه وذكر عدة أوجه في الرد على من قال: إن النساء يسن لهن زيارة القبور.
قوله: "ويقول إذا زارها" ، "يقولُ" بالضم، والفتح، فإن جعلنا الواو للاستئناف فبالضم، وإن جعلناها للعطف على "زيارة" فبالفتح؛ لأن المضارع إذا عطف على اسم خالص نصب بأن مضمرة جوازاً.
قال ابن مالك:
وإن على اسم خالص فعل عُطف تنصبه "أن" ثابتاً أو منحذف واستشهدوا لذلك بقوله:
ولُبْس عباءة وتقرَّ عيني أحب إلي من لبس الشفوف تقر: معطوف على "لبس" اسم خالص وهو مصدر.
و"يقول" عطف على "زيارة" فعليه يكون المعنى: ويسن أن يقول، أما إذا جعلناها بالرفع فإنها مستأنفة، "ويقول: إذا زارها، أو مر بها".
قوله: "إذا زارها" ، أي: قصد زيارتها وخرج إليها، أو مر بها مروراً قاصداً غيرها.(171/98)
قوله: "السلام عليكم" السلام: اسم من أسماء الله كما في قوله تعالى: {السلام المؤمن } [الحشر: 23] ، لكنه في التحية لا يراد به اسم الله، وإنما يراد به التسليم، فهو اسم مصدر كالكلام بمعنى التكليم، والمعنى التسليم عليكم، أي: الدعاء بالسلام عليكم.
والسلامة بالنسبة لأهل القبور تكون من العذاب.
فقد يكون الإنسان معذباً في قبره، ولو عذاباً خفيفاً، فإذا سألت الله له السلامة سلم، ثم أنت تسلم على عموم القبور.
وقوله: "السلام عليكم" ، أتى بكاف الخطاب، فهل الكاف هذه تدل على أنهم يسمعون؛ لأنه لا يخاطب إلا من يسمع ما لم يكن دليل ظاهر على أن المخاطب لا يسمع، وإنما قلت: ما لم يكن دليل ظاهر؛ لئلا يورد علينا مورد قول عمر - - للحجر الأسود: "إني لأعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر، ولولا أنني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقبِّلك ما قبَّلتك" ، فهنا خاطبه وهو حجر، لكن أهل القبور هل هم يخاطبون مخاطبة الحجر أو مخاطبة السامع؟.
الجواب: الظاهر الثاني، أي: "مخاطبة السامع".
وقد ذكر ابن القيم في كتاب الروح حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما مسلم يمر بقبر أخيه كان يعرفه في الدنيا فيسلم عليه إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام" ، وقد صححه ابن عبد البر، وأقره ابن القيم عليه، فلا يبعد أن يكون أهل المقبرة عموماً إذا سُلم عليهم يسمعون، ولا نقيسهم بالحجر الأسود؛ لأن الحجر عندنا دلالة حسية ملموسة أنه لا يسمع وهي أنه حجر، وحتى الحجر فإنه قد يسمع أيضاً. قال الله تعالى عن الأرض عموماً: )يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) (الزلزلة:4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (الزلزلة:5)
"تحدث أخبارها" أي: ما عمل عليها من خير أو شر، سواء قول مسموع أو فعل مرئي فتحدث به يوم القيامة، والجلود تنطق أنطقها الله الذي أنطق كل شيء، فلا تستبعد هذه الأمور؛ لأن قدرة الله - عز وجل - لا يمكن أن يدركها العقل.(171/99)
فلا يبعد أنك إذا قلت لأهل المقبرة: "السلام عليكم دار قوم مؤمنين" أنهم يسمعون. وأما قول الله تعالى: )إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى )(النمل: من الآية80)أي موتى القلوب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يخرج لأهل القبور يدعوهم.
قوله: "دار قوم مؤمنين" ، أي: يا دار قوم، والمراد بالدار هنا: أهلها، كما في قوله تعالى: )وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ (يوسف: من الآية82)المراد: أهلها.
قوله: "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" ، لاحقون على ماذا؟
الجواب: إذا قلنا: لاحقون بالموت ورد علينا إشكال، وهو تعليق ذلك بمشيئة الله مع أنه محقق، والمحقق لا يحتاج إلى تعليق بالمشيئة، والتعليق بالمشيئة في أمر لا يدرى عنه فيوكل إلى الله - عز وجل - قال تعالى: )قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُم)(الجمعة: من الآية8)، ولم يقل: فإنه لاحقكم؛ لأن اللاحق قد يدرك، وقد لا يدرك، لكن الملاقي مدرك لا محالة.
فقيل في التخلص من هذا الإشكال ما يأتي:
- أن المراد على الإيمان، فيكون لحوقاً معنوياً لا حسياً، بدليل قوله: "دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" . وحينئذٍ فتعليق ذلك بالمشيئة مشروع.
- أن المراد اللحاق على أصل الموت، لكن التعليق للتعليل، أي: أن لحوقنا إياكم سيكون بمشيئة الله.
- أن التعليق هنا ليس على أصل الموت، ولكن على وقت الموت، كأنه قال: وإنا إذا شاء الله أي: متى ما شاء الله، لحقناكم، أي: سنلحق بكم في الوقت الذي يشاء الله أن نلحق، والتعليق بالمشيئة هنا واضح.
والمقصود من هذه الجملة: توطين النفس على ما صار إليه هؤلاء من أجل تحقيق التذكر.
قوله: "يرحم الله المستقدمين منكم والمستأخرين" ، جملة خبرية لفظاً إنشائية معنى، أي: نسأل الله أن يرحم المستقدمين منكم، والمستأخرين.
قوله: "نسأل الله لنا ولكم العافية" ، أما بالنسبة لنا فإنها عافية حسية كعافية البدن، وعافية معنوية من الذنوب والمعاصي.(171/100)
أما العافية لأهل القبور فهي: العافية من عذاب القبر.
قوله: "اللهم لا تحرمنا أجرهم .
أجرنا على الأموات متعدد:
أولاً: الحزن عليهم، فكم من ميت في هذه المقبرة قد حزنت عليه، إما لقرابة، أو لصداقة، أو نفع، أو غير ذلك، ولا شك أن الإنسان إذا أصيب بمصاب وتحمل فله أجر.
ثانياً: أجر الزيارة، أي لا تحرمنا أجر الزيارة لهم؛ لأن زيارتنا لهم سنة أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم، وفعلها بنفسه، فنحن نفعلها امتثالاً واقتداءً.
امتثالاً لأمره، واقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم.
قوله: "ولا تفتنا بعدهم" هذه جملة عظيمة، فتسأل الله ألَّا يفتنك بعدهم؛ لأن الإنسان قد يفتن بعد موت أقاربه، وأصحابه، ومشايخه، وغير ذلك، فقد يفارقون هذا الرجل مستقيم الحال، ثم يفتن وبالعكس، فتسأل الله ألَّا يفتنك بعدهم بشبهات تعرض لك، أو بإرادات سيئة، وهي فتنة الشهوات، والإنسان ما دامت روحه في جسده، فهو معرض للفتنة.
يُذكر أن الإمام أحمد - -، وهو في سياق الموت يغمى عليه ويُسمع يقول: بعد، بعد، فلما أفاق قيل له: يا أبا عبد الله ما بعد، بعد، قال: رأيت الشيطان أمامي يعض على يديه، يقول: فُتَّنِي يا أحمد، أي: عجزت أن أدركك وأغويك، فأقول: بعد بعد. أي: ما دامت الروح في الجسد، فالإنسان على خطر، ويدل لهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيصدق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها" .(171/101)
ولهذا أوصي نفسي وإياكم أن نسأل الله دائماً الثبات على الإيمان وأن تخافوا؛ لأن تحت أرجلكم مزالق، فإذا لم يثبتكم الله - عز وجل - وقعتم في الهلاك، واسمعوا قول الله - - لرسوله صلى الله عليه وسلم أثبت الخلق وأقواهم إيماناً: {)وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (الاسراء:74) )إِذاً لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً) (الاسراء:75) أي: تميل ميلاً قليلاً، ولو فعلت ذلك
فإذا كان هذا للرسول صلى الله عليه وسلم فما بالنا نحن؛ ضعفاء الإيمان، واليقين، وتعترينا الشبهات، والشهوات؛ فنحن على خطر عظيم. فعلينا أن نسأل الله تعالى الثبات على الحق، وألَّا يزيغ قلوبنا.
وهذا هو دعاء أولي الألباب: )رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران:8)
قوله: "واغفر لنا ولهم" الغفر: هو ستر الذنب مع العفو، والتجاوز عنه، يدل على ذلك الاشتقاق؛ لأنه مشتق من المغفر، وهو ما يوضع على الرأس أثناء القتال؛ لأجل وقاية السهام، فهو ساتر وواقٍ.
قوله: "وتسن تعزية المصاب بالميت" ، السنة: ما يثاب فاعله، ولا يعاقب تاركه.
والتعزية: هي: التقوية، بمعنى: تقوية المصاب على تحمل المصيبة، وذلك بأن تورد له من الأدعية، والنصوص الواردة في فضيلة الصبر ما يجعله يتسلى وينسى المصيبة، لا أن تأتي إليه لتثير أحزانه مثل: أن تأتي لتعزيه بابنه، فتقول - مثلاً -: هذا ولد شاب صالح، فكيف يأخذه الموت، وما أشبه ذلك من الكلام.(171/102)
ولما خرجوا بعقيل بن علي بن عقيل أحد الفقهاء الحنابلة، وكان هذا الولد طالب علم، وخرج الناس قام رجل وصاح بأعلى صوته: )قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:78)
فزجره ابن عقيل - - وقال: يا هذا، القرآن نزل لتسكين الأحزان، لا لتهييج الأحزان، وكلامك هذا يهيج الأحزان.
وأحسن لفظ قيل في التعزية: ما اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما جاءه رسول من إحدى بناته يقول: إن عندها طفلاً يُحْتَضَر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لها: "إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب" .
قال: "إن لله ما أخذ وله وما أعطى" ، أي: ولدك الذي أصبت به ليس لك بل لله، أبوك الذي أصبت به هو لله ليس لك.
وقال: "وكل شيء عنده بأجل مسمى" ، أي: معين. قال تعالى: ) فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ)(لأعراف: من الآية34)، والمكتوب لا بد أن يقع، ولا يمكن أن يتغير عما كان عليه إطلاقاً، أي: لا تندم فتقول: ليتني ما فعلت كذا، وكذا وكذا.
قال: "مرها فلتصبر" ، أي: على هذه المصيبة.
والصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل فالصبر شديد لكن عواقبه حميدة.
قال: "ولتحتسب" ، أي: تحتسب الأجر على الله ؛ لأن الله قال : (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)(الزمر: من الآية10).
قوله: "تعزية المصاب" : ولم يقل: تعزية القريب؛ من أجل الطرد والعكس، فكل مصاب ولو بعيداً فإنه يعزى وكل من لم يصب ولو قريباً فإنه لا يعزى، من أصيب فعزِّه، ومن لم يصب فلا تعزه.(171/103)
مثال ذلك: إذا قدرنا أن هناك ولداً شريراً قد آذى أباه وأهله، ثم مات، وإذا وَجْهُ أبيه تبرق أساريره، ويقول: الحمد لله الذي أراحنا منه، فهذا لا يعزى، مع أن الناس يجعلون العلة في التعزية القرابة، وهذا غلط. فالعلة هي: المصيبة.
ولهذا قال العلماء: إذا أصيب الإنسان ونسي مصيبته لطول الزمن، فإننا لا نعزيه؛ لأننا إذا عزيناه بعد طول الزمن، فهذا يعني أننا جددنا عليه المصيبة والحزن.
قوله: "ويجوز البكاء على الميت" ، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم بكى على ابنه ابراهيم وقال: "العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون" ، "وبكى عند قبر إحدى بناته وهي تدفن" . وهذا في البكاء الذي تمليه الطبيعة، ولا يتكلفه الإنسان، فأما البكاء المتكلف فأخشى أن يكون من النياحة التي يحمل عليها قول النبي عليه الصلاة والسلام: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه .
"يعذب" : أي: في القبر، وقد اختلف العلماء في هذا الحديث، إذ كيف يعذب الإنسان على عمل غيره وقد قال الله تعالى: ) وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ث)(الزمر: من الآية7)؛ ولأن تعذيب الإنسان بعمل غيره ظلم له؛ فإنه عقوبة لغير الظالم بفعل الظالم، وهذا ينافي عدل الله وحكمته - عز وجل -؟!
فقال بعض العلماء: إن هذا في حق من أوصى به، أي: قال لأهله: إذا مت فابكوني.
وقيل: هذا في حق من كانت عادتهم، أي في قوم عادتهم البكاء، ولم ينه أهله عنه، فيكون كأنه أقرهم على ما اعتاده الناس من هذا الأمر.
وقيل: إن هذا في الكافر يعذب ببكاء أهله عليه.(171/104)
وقيل: إن التعذيب هنا ليس تعذيب عقوبة، ولكنه تعذيب ملل وشبهه، ولا يلزم من التعذيب الذي من هذا النوع أن يكون عقوبة، ويشهد لذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب" ، مع أن المسافر لا يعاقب، لكنه يهتم للشيء ويتألم به، فهكذا الميت يُعلم ببكاء أهله عليه فيتألم ويتعذب رحمة بهم، وكونهم يبكون عليه، وليس هذا من باب العقوبة.
وهذا الجواب هو أحسن الأجوبة.
ولكن البكاء الذي تمليه الطبيعة، ويحصل للإنسان بدون اختيار، فإن مثل هذا لا يؤلم أحداً؛ لأنه مما جرت به العادة، حتى الإنسان لا يتألم إذا رأى المصاب يبكي هذا البكاء المعتاد، وإنما يتألم ويرحم إذا بكى بكاء متكلفاً أو زائداً على العادة.
مسألة: هل يجوز للمصاب أن يحد على الميت بأن يترك تجارته أو ثياب الزينة، أو الخروج للنزهة، أو ما أشبه ذلك؟
الجواب: أن هذا جائز في حدود ثلاثة أيام فأقل إلا الزوجة، فإنه يجب عليها أن تحد مدة العدة أربعة أشهر وعشرة أيام إن لم تكن حاملاً، وإلا إلى وضع الحمل إن كانت حاملاً؛ ودليل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" .
وإنما جاز هذا الإحداد لغير الزوجة لإعطاء النفوس بعض الشيء مما يهوِّن عليها المصيبة؛ لأن الإنسان إذا أصيب ثم كُبت بأن قيل له: اخرج وكن على ما كنت عليه، فإنه ربما تبقى المصيبة في قلبه، ولهذا يقال: إن من جملة الأدب والتربية بالنسبة للصبيان أنه إذا أراد أن يبكي أن يترك يبكي مدة قصيرة من أجل أن يرتاح؛ لأنه يخرج ما في قلبه، لكن لو أسكتّه صار عنده كبت وانقباض نفسي.
مسألة: هل يجوز أن يحد في أمر يلحقه أو عائلته به ضرر، مثل: أن يكون رجلاً متجراً، لو عطل التجارة لتضررت كفايته؟
الجواب: لا، هذا ليس مباحاً، بل هو إما مكروه، وإما محرم.(171/105)
قوله: "ويحرم الندب" ، الندب: هو تعداد محاسن الميت بحرف الندبة وهو "وا" فيقول: واسيداه، وامن يأتي لنا بالطعام والشراب، وامن يخرج بنا إلى النزهة، وامن يفعل كذا وكذا.
وسمي ندباً؛ كأن هذا المصاب ندبه ليحضر بحرف موضوع للندبة.
كما قال ابن مالك في الألفية : وَوَا لِمَنْ نُدِبَ.
قوله: "والنياحة" وهي: أن يبكي، ويندب برنة تشبه نوح الحمام؛ لأن هذا يشعر بأن هذا المصاب متسخط من قضاء الله وقدره.
فلهذا ورد الوعيد الشديد على من فعل ذلك حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب" .
وإنما خص النائحة؛ لأن النياحة غالباً في النساء لضعفهن، وإلا فالرجال مثلهن إذا ناحوا على الميت.
قوله: "وشق الثوب" ، فيحرم شق الثوب، كما يجري من بعض المصابين، فيشقون ثيابهم إما من أسفل، وإما من فوق؛ إشارة إلى أنه عجز عن تحمل الصبر على هذه المصيبة.
قوله: "ولطم الخد" ، أي يحرم لطم الخد، وهو أن يلطم المصاب خد نفسه؛ لأن بعض المصابين من شدة إصابته يأخذ بلطم نفسه، فيضرب الخد الأيمن، ثم الأيسر، ثم الأيمن، ثم الأيسر، وهكذا.
وكذلك أيضاً لو لطم غير الخد، بأن لطم الرأس، أو ضرب برأسه الجدار، وما أشبه ذلك فكل هذا من المحرم.قوله: "ونحوه" مثل: نتف الشعر، فيأخذ بشعر رأسه وينتفه؛ لأن هذا كله يدل على تسخطه من المصيبة، وقد تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم من أمثال هؤلاء فقال: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية" .
ومثل أن يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وما أشبهه؛ لأنه ينبئ عن التسخط.
وليعلم أن الناس إزاء المصيبة على درجات:
الأولى: الشاكر.
الثانية: الراضي.
الثالثة: الصابر.
الرابعة: الجازع.
أمَّا الجازع: فقد فعل محرماً، وتسخط من قضاء رب العالمين الذي بيده ملكوت السموات والأرض، له الملك يفعل ما يشاء.(171/106)
وأمّا الصابر: فقد قام بالواجب، والصابر: هو الذي يتحمل المصيبة، أي يرى أنها مرة وشاقة، وصعبة، ويكره وقوعها، ولكنه يتحمل، ويحبس نفسه عن الشيء المحرم، وهذا واجب.
وأمّا الراضي: فهو الذي لا يهتم بهذه المصيبة، ويرى أنها من عند الله فيرضى رضاً تاماً، ولا يكون في قلبه تحسر، أو ندم عليها؛ لأنه رضي رضاً تاماً، وحاله أعلى من حال الصابر.
ولهذا كان الرضا مستحباً، وليس بواجب.
والشاكر: هو أن يشكر الله على هذه المصيبة.
ولكن كيف يشكر الله على هذه المصيبة وهي مصيبة؟
والجواب: من وجهين:
الوجه الأول: أن ينظر إلى من أصيب بما هو أعظم، فيشكر الله على أنه لم يصب مثله، وعلى هذا جاء الحديث: "لا تنظروا إلى من هو فوقكم، وانظروا إلى من هو أسفل منكم، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم" .
الوجه الثاني: أن يعلم أنه يحصل له بهذه المصيبة تكفير السيئات، ورفعة الدرجات إذا صبر، فما في الآخرة خير مما في الدنيا، فيشكر الله، وأيضاً أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، فيرجو أن يكون بها صالحاً، فيشكر الله على هذه النعمة.
ويُذكر أن رابعة العدوية أصيبت في أصبعها، ولم تحرك شيئاً فقيل لها في ذلك؟
فقالت: إن حلاوة أجرها أنستني مرارة صبرها.
والشكر على المصيبة مستحب؛ لأنه فوق الرضا؛ لأن الشكر رضا وزيادة.
------------------
انتهى بحمد الله تعالى المجلد الخامس(171/107)
******* الفتاوى(/)
المجلد الثاني عشر(/)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الثاني عشر
الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
1 ) سئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته : عن حكم الصلاة وعلى من تجب ؟
فأجاب بقوله : الصلاة من آكد أركان الإسلام ، بل هي الركن الثاني بعد الشهادتين ، وهي آكد أعمال الجوارح ، وهي عمود الإسلام كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( عموده الصلاة ) (1)يعني الإسلام ، وقد فرضها الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في أعلى مكان وصل إليه البشر، وفي أشرف ليلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وبدون واسطة لأحد ن وفرضها الله – عز وجل – على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم خمسين مرة في اليوم والليلة ، ولكن الله – سبحانه وتعالى - خفف على عبادة حتى صارت خمساً بالفعل وخمسين في الميزان ، وهذا يدل على أهميتها ومحبة الله لها ، وأنها جديرة بأن يصرف الإنسان شيئاً كثيراً من وقته فيها ، وقد دل على فرضيتها الكتاب ، والسنة ، وإجماع المسلمين :
ففي الكتاب يقول الله – عز وجل - : ( فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً 103) (2) . معنى ( كتاباً ) أي مكتوباً أي مفروضاً .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل – رضى الله عنه – حين بعثه إلى اليمن (( أعلمهم أن الله أفترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة )) (1)
وأجمع المسلمون على فرضيتها ، ولهذا قال العلماء رحمهم الله : إن الإنسان إذا جحد فرض الصلوات الخمس ، أو فرض واحدة منها فهو كافر مرتد عن الإسلام يباح دمه وماله إلا أن يتوب إلى الله – عز وجل – ما لم يكن حديث عهد بالإسلام لا يعرف من شعائر الإسلام شيئاً فإنه يعذر بجهله في هذه الحال ، ثم يعرف فإن أصر بعد علمه بوجوبها على إنكار فرضيتها فهو كافر .
وتجب الصلاة على كل مسلم ، بالغ ، عاقل ، من ذكر أو أنثى .(172/1)
فالمسلم ضده : الكافر ، فالكافر لا تجب عليه الصلاة ، بمعنى أنه لا يلزم بأدائها حال كفره ولا بقضائها إذا أسلم ، لكنه يعاقب عليها يوم القيامة كما قال الله تعالى ( إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين 46) (2) .
فقولهم ( قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) يدل على أنهم عوقبوا على ترك الصلاة مع كفرهم وتكذيبهم بيوم الدين .
وأما البالغ فهو الذي حصل له واحدة من علامات البلوغ وهي ثلاث بالنسبة للرجل ، وأربع بالنسبة للمرأة :
أحدها : تمام الخمس عشر سنة
والثانية : إنزال المني بلذة ويقظة كان أم مناماً .
والثالثة : إنبات العانة ، وهي الشعر الخشن حول القبل ، هذه الثلاث العلامات تكون للرجال والنساء ، وتزيد المرأة علامة رابعة وهي : الحيض فإن الحيض من علامات البلوغ .
وأما العاقل فضده : المجنون الذي لا عقل له ، ومنه الرجل الكبير أو المرأة الكبيرة إذا بلغ به الكبر إلى حد فقد التمييز ، وهو ما يعرف عندنا بالمهذري فإنه لا تجب عليه الصلاة حينئذ لعدم وجود العقل في حقه .
وأما الحيض أو النفاس فهو مانع من وجوب الصلاة فإذا وجد الحيض أو النفاس فإن الصلاة لا تجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة : (( أليس إذا حاضت لم تصل ، ولم تصم )) (1)
? ? ?
2 ) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله - : ورد في الحديث (( أنه لا خير في دين ليس فيه صلاة )) (2) ، فهل كانت الصلاة في الأديان السابقة مثل الصلاة في الإسلام أم تختلف عنها ؟(172/2)
فأجاب بقوله : هذا الحديث لا أعلم عنه ، ولا أظنه يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن الأديان السابقة قد ثبت فيها الصلاة وثبت فيها الركوع والسجود لقوله تعالى عن إسماعيل ( وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ ) (1) وقوله ( يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ43) (2). وقوله بعد ذكر طائفة من الأنبياء ( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً 58) (3) . والآيات في هذا كثيرة ولابد من الصلاة في كل شريعة لأنها على رأس العبادات العملية فهي أفضل العبادات بعد الشهادتين .
ولهذا كان القول الراجح من أقوال أهل العلم أن من تركها تهاوناً وكسلاً فإنه كافر مرتد عن الإسلام يحكم له بأحكام الكافرين .
? ? ?
3 3 ) وسئل فضيلة الشيخ : متى فرضت الصلاة بأركانها وواجباتها ؟
فأجاب قائلاً : فرضت الصلاة في ليلة المعراج حين عرج النبي صلى الله عليه وسلم وذلك قبل الهجرة بنحو ثلاث سنوات (4) ، وفرضت الصلاة أول ما فرضت ركعتين ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الفجر ، فصارت الظهر أربعاً ، والعصر أربعاً ، والعشاء أربعاً ، وبقيت الفجر على ركعتين لأنه يطول فيها القراءة ، وبقيت المغرب على ثلاث لأنها وتر النهار .
والظاهر أنها شرعت على هذا الوجه من قيام وركوع وسجود وقعود ، لأن حديث عائشة لم تذكر فيه إلا التغيير في عدد الركعات فقط ، فعلم بذلك أن ما سواه لم يتغير .
? ? ?
4) وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – عن فاقد الذاكرة والمغمى عليه هل تلزمهما التكاليف الشرعية ؟(172/3)
فأجاب بقوله : إن الله – سبحانه وتعالى – أوجب على الإنسان العبادات إذا كان أهلاً للوجوب ، بأن يكون ذا عقل يدرك به الأشياء ، وأما من لا عقل له فإنه لا تلزمه الشرائع ، ولهذا لا تلزم المجنون ولا تلزم الصغير الذي لم يميز، بل ولا الذي لم يبلغ أيضاً ، وهذا من رحمة الله تعالى ، ومثله أيضاً المعتوه الذي أصيب بعقله على وجه لم يلغ حد الجنون ، ومثله الكبير الذي بلغ فقدان الذاكرة فإنه لا يجب عليه صلاة ولا صوم ، لأنه فاقد الذاكرة وهو بمنزلة الصبي الذي لا يميز فتسقط عنه التكاليف فلا يلزم بها .
وأما الواجبات المالية فإنها تجب في ماله ولو كان فاقد الذاكرة .
فالزكاة مثلاً تجب في ماله ويجب على من تولى أمره أن يخرج الزكاة عنه ، لأن وجوب الزكاة يتعلق بالمال كما قال الله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ ) (1). فقال (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ) ولم يقل خذ منهم ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ عندما بعثه إلى اليمن : ( أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) (2). وعلى هذا فالواجبات المالية لا تسقط عن فاقد الذاكرة ، أما العبادات البدنية كالصلاة ، والطهارة والصيام فإنها تسقط عن مثل هذا الرجل لأنه لا يعقل .
وأما من زال عقله بإغماء من مرض ونحوه فإنه لا تجب عليه الصلاة على قول أكثر أهل العلم ، فإذا أغمى على المريض لمدة يوم أو يومين فلا قضاء عليه ، لأنه ليس له عقل ، وليس كالنائم الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) (1). لأن النائم معه إدراك بمعنى أنه يستطيع أن يستيقظ إذا أوقظ ، وأما المغمى عليه فلا يستطيع أن يستيقظ إذا أوقظ ، هذا إذا كان الإغماء بغير سبب ، أما إذا كان الإغماء بسبب منه كالذي أغمى عليه من البنج ونحوه فإنه يقضي الصلاة التي مرت عليه وهو حال الغيبوبة ، والله أعلم .(172/4)
? ? ?
5) وسئل فضيلته : عن رجل كبير أصبح لا يشعر بنفسه لكبر سنه ، فهو يتوضأ في أي وقت من الأوقات ويحسن الوضوء ، ولكنه يصلى في غير الوقت، ويقول في صلاته بعض الألفاظ التي لا تمت إلى الصلاة بصلة ، ويصلى الفريضة أكثر من مرة في اليوم. فهل صلاته مقبولة ؟ وماذا على أهله في ذلك ؟
فأجاب بقوله : مادام هذا الرجل قد سقط تمييزه ، ولا يدري هل هو في عبادة أم في غير عبادة ، فإنه لا صلاة عليه ، لأنه قد بلغ سناً سقط به التمييز ، فأصبح بمنزلة الطفل الذي ليس عليه صلاة ، وهو بهذه الحال مرفوع عنه القلم ولو كان لديه تمييز وعنده من يذكره فإنه في هذه الحال يؤمر بالصلاة ، ويكون عنده أحدكم ، يقول له : كبر ، اقرأ الفاتحة ، اركع ، ارفع من الركوع ، اسجد ، اجلس بين السجدتين ، إلى أخر أركان الصلاة ، ويكون لكم بذلك أجر عند الله سبحانه وتعالى ، لأن التعاون على البر والتقوى من طاعة الله سبحانه وتعالى .
? ? ?
6)وسئل فضيلة الشيخ : عن الفرق بين المجنون والمغمى عليه ؟ وهل يلزم
المغمى عليه قضاء الصلاة ؟
فأجاب بقوله : الفرق بين المجنون والمغمى عليه أن الأول فاقد العقل ، والثاني فاقد الإحساس ، فالأول تجده يتألم من الأمور المؤذية ويحس بها وينفر بطبيعته منها ، ويصيح إذا آلمته لكن لا تمييز له ، وأما الثاني فهو لا يتألم من ذلك ولا يصيح بل هو كالميت.
وأما لزوم قضاء الصلاة في حق المغمى عليه فهذا محل خلاف بين أهل العلم : فمنهم من أسقط عنه القضاء كمالك والشافعي ، ومنهم من أوجب القضاء عليه كالمشهور من مذهب أحمد ، ومنهم من فصل في ذلك بأنه إن أغمي عليه يوماً وليلة قضى ، وإن زاد على ذلك لم يقض كمذهب أبي حنيفة ، وفي الموطأ عن نافع أن عبد الله بن عمر أغمي عليه فذهب عقله فلم يقض الصلاة (1) ،
وهذا المروي عن ابن عمر هو الصحيح وأنه لا قضاء علي المجنون ولا المغمى عليه، والله الموفق .
? ? ?(172/5)
7) وسئل فضيلة الشيخ : عن رجل له مدة شهرين لم يشعر بشيء ولم يصل ولم يصم رمضان فماذا يجب عليه ؟
فأجاب بقوله : لا يجب عليه شيء لفقد شعوره ، ولكن إن قدر الله أن يفيق لزمه قضاء رمضان ، وإن قضى الله عليه بالموت فلا شيء عليه إلا أن يكون من زوي الأعذار المستمرة كالكبير ونحوه ففرضه أن يطعم وليه عنه عن كل يوم مسكيناً .
أما الصلاة فللعلماء في قضاءها قولان :
أحدهما : وهو قول الجمهور لا قضاء عليه لأن أبن عمر رضي الله عنهما أغمي عليه يوماً وليلة فلم يقض ما فاته (1).
والقول الثاني : عليه القضاء وهو المذهب عند المتأخرين من الحنابلة قال في الإنصاف وهو من مفردات المذهب وهو مروي عن عمار بن ياسر أنه أغمي عليه ثلاثاً وقضى ما فاته (2). حرر في 24/2/1394 هـ .
? ? ?
8 وسئل حفظه الله تعالى : هل يحاسب المولود المتخلف عقلياً؟ وهل تعتبر ولادة طفل متخلف عقلياً عقوبة لوالديه؟
فأجاب بقوله : المولود المتخلف عقلياً حكمه حكم المجنون ليس عليه تكليف ، ولا يحاسب يوم القيامة ، لكنه إذا كان من أبوين مسلمين أو أحدهما مسلماً فإن له حكم الوالد المسلم ، أي أن هذا الطفل يكون مسلماً فيدخل الجنة ، أما إذا كان من أبوين كافرين فإن أرجح الأقوال أنه يمتحن يوم القيامة بما أراد الله عز وجل فإن أجاب وامتثل أدخل الجنة ، وإن عصى أدخل النار .
هذا هو القول الراجح في حق هؤلاء ، وهو ما ينطبق على من لم تبلغهم دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كأناس في أماكن بعيدة عن بلاد الإسلام ولم يسمعوا عنه شيئاً ، فهؤلاء إذا كان يوم القيامة امتحنهم الله سبحانه بما شاء فمن أطاع منهم دخل الجنة ، ومن عصى دخل النار .
وقد يقول قائل : كيف يمتحنون وهم في دار الجزاء وليسوا في دار التكليف ؟
وجوابنا على هذا :
أولاً : أن الله سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء ، وله أن يكلف عباده في الآخرة كما كلفهم في الدنيا .(172/6)
ثانياً : أن التكليف في الآخرة ثابت بنص القرآن (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ *خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ) (1). فمثل هذا قد يقع في الآخرة .
إذن هذا المولود المتخلف عقلياً حكمه حكم المجانين وليس عليه تكليف ، وحكمه حكم أبويه : إن كانا كافرين ، وإن كانا مسلمين ، أو أحدهما مسلماً .
أما بالنسبة للشق الثاني من السؤال : فإن المصائب تكون تارة عقوبة وتارة امتحاناً ، فهي عقوبة إذا فعل الإنسان محرماً أو ترك واجباً فقد يعجل الله له العقوبة في الدنيا ويصيبه بما يشاء من مصيبة ، وقد يصاب الإنسان بالمصيبة لا عقوبة على ترك واجب ، أو فعل محرم ولكن من باب الامتحان إذ يمتحن الله بها الإنسان ليعلم أيصبر أم لا يصبر ؟ فإن صبر كانت المصيبة منحة لا محنة يرتقي بها الإنسان إلى المراتب العليا .
? ? ?
9) وسئل فضيلته : هل يجوز للإنسان تأخير الصلاة لتحصيل شرط من شروطها كما لو اشتغل باستخراج الماء ؟
فأجاب بقوله : الصواب أنه لا يجوز تأخير الصلاة عن وقتها مطلقاً ، وإذا خاف الإنسان خروج الوقت صلى على حسب حاله ، وإن كان يمكن أن يحصل الشرط
قريباً لقوله تعالى( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1) . وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقت أوقات الصلاة ، وهذا يقتضي وجوبها في وقتها ، ولأنه لو جاز انتظار الشروط ما صح أن يشرع التيمم ، لأن بإمكانه أن يحصل الماء بعد الوقت، ولا فرق بين أن يؤخرها إلى وقت طويل أو إلى وقت قصير ، لأن كليهما إخراج للصلاة عن وقتها وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى .
? ? ?
10) وسئل فضيلته : إذا كان الإنسان لا يتمكن من الصلاة لا بقلبه ولا بجوارحه لشدة الخوف فهل يجوز له تأخير الصلاة ؟(172/7)
فأجاب قائلاً : إذا كان الإنسان لا يتمكن من الصلاة بوجه من الوجوه لا بقلبه ولا بجوارحه لشدة الخوف فالصحيح أنه يجوز له تأخير الصلاة في هذه الحال ، لأنه لو صلى فإنه لا يدري ما يقول وما يفعل ، ولأنه يدافع الموت ، وقد ورد ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم كما في حديث أنس رضي الله عنه في فتح تستر فإنهم أخروا الصلاة عن وقتها إلى الضحى حتى فتح الله عليهم (1) ، وعليه يحمل تأخير النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عن وقتها يوم الخندق حينما شغل عن صلاة العصر إلى أن غربت الشمس كما في حديث جابر (2) ، وغزوة الخندق كانت في السنة الخامسة ، وغزوة ذات الرقاع كانت في السنة الرابعة على المشهور ، وقد صلى فيها صلاة الخوف فتبين أنه أخرها في الخندق لشدة الخوف .
? ? ?
11) وسئل أعلى الله درجته : عمن يسهر ولا يستطيع أن يصلي الفجر إلا بعد خروج الوقت فهل تقبل منه ؟ وحكم بقية الصلوات التي يصليها في الوقت ؟
فأجاب قائلاً: أما صلاة الفجر التي يؤخرها عن وقتها وهو قادر على أن يصليها في الوقت لأن بإمكانه أن ينام مبكراً فإن صلاته هذه لا تقبل منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) والذي يؤخر الصلاة عن وقتها عمداً بلا عذر قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردوداً عليه .
لكن قد يقول إنني أنام ، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم : (( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك )) (1).
فنقول : إذا كان بإمكانه أن ينام مبكراً ليستيقظ مبكراً ، أو يجعل عنده ساعة تنبهه ، أو يوصي من ينبهه فإن تأخيره الصلاة وعدم قيامه يعتبر تعمداً لتأخير الصلاة عن وقتها فلا تقبل منه .
أما بقية الصلوات التي كان يصليها في وقتها فإنها مقبولة .(172/8)
وإنني بهذه المناسبة أوجه كلمة وهي : أنه يجب على المسلم أن يقوم بعبادة الله على الوجه الذي يرضي الله عز وجل ، لأنه في هذه الحياة الدنيا إنما خلق لعبادة الله ولا يدري متى يفجؤه الموت فينتقل إلى عالم الآخرة إلى دار الجزاء التي ليس فيها عمل كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقةً جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له " (2) .
? ? ?
1212 ) وسئل فضيلته عن حكم من يضع توقيت الساعة لموعد الدوام الرسمي ويصلي الفجر في هذا الوقت سواء السابعة أو السادسة والنصف ؟ هل هو آثم في ذلك ؟ وما حكم صلاته ؟
فأجاب بقوله : هو آثم في ذلك بلا شك وهو ممن آثر الدنيا على الآخرة وقد أنكر الله ذلك في قوله تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (3). وصلاته هذه ليست مقبولة منه ، ولا تبرأ بها ذمته وسوف يحاسب عنها يوم القيامة ، وعليه أن يتوب إلى الله، وأن يصليها مع المسلمين ثم ينام بعد ذلك إلى وقت الدوام إن شاء .
? ? ?
13) وسئل فضيلته عمن ينام عن صلاة الفجر ولا يصليها إلا بعد طلوع الشمس قبيل ذهابه إلى الدوام وإذا قيل له : هذا أمر لا يجوز قال : " رفع القلم عن ثلاثة : عن النائم حتى يستيقظ " وهذا ديدنه ؟
فأجاب بقوله : هذا الشخص اسأله وقل : ما رأيك لو كان الدوام يبدأ بعد طلوع الفجر بنصف ساعة هل تقوم أو تقول : رفع القلم عن ثلاثة . فسيجيبك بأنه سيقوم .
فقل له إذا كنت تقوم لعملك في الدنيا فلماذا لا تقوم لعملك في الآخرة ؟!
ثم إن النائم الذي رفع عنه القلم هو الذي ليس عنده من يوقظه أو يتمكن من إيجاد شيء يستيقظ به ، أما شخص عنده من يوقظه أو يتمكن من إيجاد شيء يستيقظ به أما شخص عنده من يوقظه أو يتمكن من إيجاد شيء يستيقظ به كالساعة وغيرها ولم يفعل فإنه ليس بمعذور .(172/9)
وعلى هذا أن يتوب إلى الله – عز وجل – ويجتهد في القيام لصلاة الفجر ليصليها مع المسلمين .
? ? ?
14 ) وسئل فضيلة الشيخ : عن الذين يذهبون إلى رحلات برية ويقيمون المخيمات لعدة أيام وغالباً ما تكون في أيام الشتاء والملاحظ أن هؤلاء يقضون الليل بالسهر حتى قبيل الفجر بنحو ساعة ثم يخلدون إلى النوم ولا يستيقظون إلا بعد الظهر حوالي الساعة الواحدة والنصف ثم يصلون الفجر مع الظهر جمعاً فما الحكم ؟ علماً أن بعضهم يحتج بشدة البرد والبعض الآخر يحتج بالتعب بسبب السهر ، أفتونا مأجورين وجزاكم الله خيراً ؟
فأجاب فضيلته بقوله : مما لا شك فيه أن الصلاة ثانية أركان الإسلام التي بني عليها كما صح ذلك في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله ، وأقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج بيت الله الحرام " (1) . وأن الصلاة مفروضة بأوقات معينة لقوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (2) فلا تصح الصلاة قبل الوقت ولا بعده إلا بعذر.
أما قبل الوقت فلا تصح مطلقاً حتى لو صلى إنسان ظاناً أن الوقت قد دخل ثم تبين له أنه لم يدخل فإن عليه أن يعيد صلاته بعد دخول الوقت ، وتكون الصلاة الأولى نفلاً . أما إذا صلاها بعد الوقت . فإن كان بعذر شرعي كالنسيان والنوم فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " (3). ولما نام صلى الله عليه وسلم وصحبه في السفر ولم يوقظهم إلا حر الشمس قضوا صلاة الفجر (4) .(172/10)
وإن أخرها عن وقتها بلا عذر شرعي فإنها لا تقبل منه ، لأنه إذا أخرجها عن وقتها بلا عذر شرعي عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله فيكون مردوداً ، لما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) . أي مردود على العامل .
إذا علم هذا فإن الواجب على الاخوة الذين يخرجون إلى الرحلات أن يشكروا الله تعالى على هذه النعمة حيث جعلهم في رخاء ويسر من العيش ، وفي أمن وأمان من الخوف ، ويقوموا بما أوجب الله عليهم من الصلاة في أوقاتها ، سواء صلاة الفجر أم غيرها ، ولا يحل لهم أن يؤخروا صلاة الفجر عن وقتها بحجة أنهم نائمون ، لأن هذا النوم لا يعذرون فيه غالباً لكونهم يستطيعون أن يكون لهم منبهات تنبههم للصلاة في وقتها ، ويستطيعون أن يناموا مبكرين حتى يقوموا نشيطين ، وأما البرد فليس عذراً في تأخير الصلاة عن وقتها وذلك لأنه يوجد ولله الحمد ما يسخن به الماء في هذه الرحلات فعليهم أن يسخنوا الماء ليتوضئوا به ، وإذا قدر أنه كان على الإنسان جنابة ولم يتمكن من تسخين الماء بمعني ليس عنده شيء يسخن به الماء وخاف على نفسه من البرد ففي هذه الحالة يتيمم ، فإذا أرتفع النهار وجاء الدفء اغتسل ، ولا يجوز أن يؤخر الصلاة عن وقتها لمثل هذه الأعذار الواهية .
فنصيحتي للأخوة الذين يخرجون للرحلات أن يتقوا الله سبحانه وتعالى ، وأن يخافوا يوم الحساب ، وأن يعلموا أنهم سيلاقون ربهم فيحاسبهم على ما عملوا كما قال الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (2). ونسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى .
? ? ?
15 ) وسئل فضيلة الشيخ : عمن يؤخر صلاة الفجر حتى يخرج وقتها ؟(172/11)
فأجاب بقوله : هؤلاء الذين يؤخرون صلاة الفجر حتى يخرج وقت الفجر إن كانوا يعتقدون حل ذلك فإن هذا كفر بالله عز وجل ، لأن من اعتقد حل تأخير الصلاة عن وقتها بلا عذر فإنه كافر لمخالفته الكتاب ، والسنة ، وإجماع المسلمين .
أما إذا كان لا يرى حل ذلك ، ويرى أنه عاص بالتأخير لكن غلبته نفسه وغلبه النوم فعليه أن يتوب إلي الله عز وجل ، وأن يقلع عما كان يفعله وباب التوبة مفتوح حتى لأكفر الكافرين ، فإن الله يقول :( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (1) ، وعلى من علم بهم أن ينصحهم ويوجههم إلي الخير ، فإن تابوا وإلا فعليه أن يبلغ الجهات المسؤولة بتأديب هذا وأمثاله . والله الموفق .
? ? ?
16 ) وسئل عن حكم من صلى الفجر بعد طلوع الشمس لعدم التمكن من القيام مبكراً ؟
فأجاب بقوله : يظهر من سؤال السائل أنه ما صلى الفجر إلا مع طلوع الشمس أو بعد طلوعها ، ولا ريب أن هذا عمل محرم ، وأنه لا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة عن وقتها بدون عذر ، والنوم عذر إذا لم يكن فيه تفريط ، فإذا كان فيه تفريط بأن تأخر في النوم ولم يجعل عنده شيئاً يوقظه كالمنبه ، أو شخصاً يوقظه عند الأذان ، فإنه مفرط ، ويكون آثماً بهذا الفعل .
أما إذا كان غير مفرط كأن يكون عادته أن يقوم لكنه عجز حتى طلعت الشمس فإنه يصلي الفجر كما يصليها ، فيتطهر ثم يصلي سنة الفجر ، ثم يصلي الفريضة ، كما ثبت ذلك من حديث أبي قتادة رضي الله عنه في قصة نومهم مع النبي صلى الله عليه وسلم حيث تقدم عن المكان الذي هم فيه وأمر بلالاً فإذن وصلوا ركعتي الفجر ، ثم أقيمت الصلاة بعد ذلك وصلي الفجر1 ، والمهم في ذلك أن الإنسان يتخذ الحيطة لصلاة الفجر من منبه أو شخص موثوق به حتى يؤدي الصلاة على الوجه الذي أمر به .
? ? ?(172/12)
17 ) وسئل فضيلة الشيخ- حفظه الله تعالى – عن فتاة أخرت صلاة المغرب بسبب النوم ولم تصلها إلا في الصباح ؟
فأجاب قائلاً : الحكم أن لا يجوز لأحد أن يتهاون في الصلاة حتى يخرج وقتها، وإذا كان الإنسان نائماً فإن بإمكانه أن يوكل من يوقظه حتى يصلي ، ولابد من ذلك ، ولا يمكن أن تؤخر صلاة المغرب ولا العشاء إلي الفجر ، بل الواجب أن تصلي الصلاة في وقتها ، فعلى هذه الفتاة أن تحرض أهلها على أن يوقظوها ، ولو فرض أن طرأت حاجة أو عارض من العوارض وكان فيها نوم عظيم وصلت المغرب وخافت إن لم تصلى العشاء فسيغلبها النوم حتى لا تقوم إلا مع الفجر ، فإنه لا حرج عليها في هذه الحال أن تجمع العشاء مع المغرب لئلا تفوت صلاة العشاء عن وقتها ، وهذا لا يكون إلا عند العوارض كما لو كانت سهرت ليالي متعددة ، أو كانت عاقبة مرض أو نحوه .
? ? ?
18) وسئل فضيلة الشيخ : عن امرأة تؤخر صلاة المغرب عن أول وقتها من أجل استماع برنامج نور علي الدرب فهل عليها إثم بهذا التأخير علماً بأنها تصلي الصلاة قبل خروج وقتها ؟
فأجاب بقوله : ليس عليها أثم في هذا التأخير ما دامت تصلي الصلاة قبل خروج وقتها ، ومن المعلوم أن وقت المغرب يمتد إلي دخول وقت العشاء ، أي إلي ما بعد ساعة وربع أو نحوها من غروب الشمس ، قد يصل أحياناً إلي ساعة وثلاثين دقيقة، وقد يقصر حتى يكون ساعة وربعاً ، والمهم أن تأخير صلاة المغرب عن أول وقتها من أجل الاستماع إلي هذا البرنامج لا بأس به ، لأن الاستماع إلي هذا البرنامج وغيره من البرامج الدينية استماع إلي حلقة علم ، ولا يخفى على أحد فضل طلب العلم والتماسه ، حتى قال النبي عليه الصلاة والسلام : " من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً ، سهل الله له به طريقاً إلي الجنة " (1) .(172/13)
وطلب العلم من أفضل القربات والعبادات حتى قال الإمام أحمد : " العلم لا يعدله شئ لمن صحت نيته " . قالوا : كيف تصلح النية يا أبا عبد الله ؟ قال : " ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره " .
وإذا علم الله من نية هذه المرأة المستمعة أنه لولا طلبها الاستماع إلي هذا البرنامج لصلت في أول الوقت ، لأنها إنما أخرت الصلاة عن أول الوقت لمصلحة شرعية قد تكون أفضل من تقديم الصلاة في أول وقتها .
? ? ?
19) سئل فضيلة الشيخ : قلتم حفظكم الله في الفتوى السابقة إن تأخير الصلاة عن أول وقتها من أجل استماع برنامج( نور علي الدرب ) جائز فنأمل من فضيلتكم بيان الدليل ؟
فأجاب بقوله : مسألة تأخير الصلاة عن أول وقتها من أجل استماع ( نور علي الدرب ) فلا أظنه يخفى أن الصلاة جائزة في أول الوقت وآخره بدلالة الكتاب والسنة .
أما الكتاب ففي قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً)(1). وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم مواقيتها من كذا إلي كذا فمن أداها فيما بين أول الوقت وآخره فقد صلاها في الزمن الموقوت لها.
وأما السنة ففي صحيح مسلم 1/427 من حديث ابن عمرو رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن وقت الصلاة فقال : " وقت صلاة الفجر ما لم يطلع قرن الشمس الأول ، ووقت صلاة الظهر إذا زالت الشمس عن بطن السماء ما لم يحضر العصر ، ووقت صلاة العصر ما لم تصفر الشمس ويسقط قرنها الأول ، ووقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقط الشفق ، ووقت صلاة العشاء إلي نصف(172/14)
الليل " (1) وفيه أيضاً 1/429 حديث بريدة أن النبي صلي الله عليه وسلم أتاه سائل يسأله عن المواقيت فذكر الحديث وفيه أن النبي صلي الله عليه وسلم صلى في اليوم الأول الصلوات في أول الوقت وصلاها في اليوم الثاني في آخره وقال " الوقت بين هذين " (2).وفي شرح المهذب للنووي 3/58 يجوز تأخير الصلاة إلي آخر وقتها بلا خلاف .فقد دل الكتاب ، والسنة، وأقوال أهل العلم على جواز تأخير الصلاة إلي آخر وقتها ، ولا أعلم أحداً قال بتحريم ذلك إلا إذا خشي مانعاً يمنعه من فعل الصلاة على الوجه الواجب في آخر الوقت فلا يجوز له التأخير حينئذ ، فإذا كان تأخير الصلاة إلي آخر الوقت جائزاً بمقتضى الكتاب ، والسنة ، وكلام أهل العلم بدون سبب ، فأي مانع من استماع الإنسان إلي برنامج علم يستفيد منه ويصلي بعده ما دام الوقت باقياً ؟! نعم إذا كان يفوت واجباً كالصلاة مع الجماعة فإنه لا يجوز إسقاط هذا الواجب لاستماع هذا البرنامج لأن الواجب لا يسقط بما دونه .
? ? ?
20 ) سئل فضيلة الشيخ : ما الواجب تجاه من يصلى الصلوات بعد فوات أوقاتها كمن يصلى الفجر بعد طلوع الشمس ؟ وما حكم عمله هذا ؟
فأجاب بقوله : أما الواجب تجاه هذا الرجل النصيحة ، أن تنصحوه ، وتخوفوه بالله ، وتبينوا له ما في المحافظة علي الصلاة من الأجر والثواب ، فأن اهتدى فلنفسه ، وأن لم يهتد فلا يضر إلا نفسه .
أما بالنسبة لفعله ، فهو إذا كان يستيقظ ولكنه يتكاسل ويضع رأسه على الوسادة فإن صلاته بعد طلوع الشمس لا تقبل منه ولا تنفعه عند الله ، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1).(172/15)
ومن المعلوم أن من لم يصلى صلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس عامداً ذاكراً قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله ، فيكون عمله هذا مردوداً ، ولا تقبل منه صلاته ، فإذا كان يوقظ ولكنه يتكاسل ويبقى نائماً ، فإن صلاته بعد طلوع الشمس لا تقبل منه ، وسوف يحاسب عنها يوم القيامة .
? ? ?
21) وسئل فضيلة الشيخ : عمن يؤخر صلاة الفجر حتى تطلع الشمس هل يعتبر كافراً ؟
فأجاب قائلاً : هذا لا يكفر لأنه لم يترك الصلاة لكن تهاون بها ولا يحل له أن يفعل ذلك ، فإن فعل وهو يستطيع أن يقوم فيصلي في الوقت فإنه لا تقبل منه صلاته ، لأن القاعدة " أن كل عبادة مؤقتة إذا تركها الإنسان حتى خرج وقتها بدون عذر فإنها لا تقبل منه " ، مثال ذلك ترك الصلاة حتى يخرج وقتها ثم يقوم الإنسان كي يصلي لا تقبل منه ، كذلك ترك صيام يوم من رمضان عمداً بدون عذر ، ثم أراد أن يقضيه بعد ذلك نقول : لا يقبل منه ، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم :(( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) (1)
? ? ?
22 ) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم تأخير الصلاة من أجل العمل ؟(172/16)
فأجاب بقوله : إذا كان التأخير من أول الوقت إلى آخره فقط ولكن الصلاة وقعت في وقتها فلا شيء عليه ، لأن تقديم الصلاة في أول وقتها على سبيل الأفضلية لا على سبيل الوجوب ، هذا إذا لم يكن هناك جماعة في المسجد ، وإلا وجب عليه حضور الجماعة ، إلا أن يكون له عذراً في تركها . وأما إذا كان هذا التأخير إلى ما بعد خروج الوقت فإن ذلك ليس بجائز ، اللهم إلا إذا نسي الإنسان واستغرق في الشغل حتى ذهل عن الصلاة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " (2) فهذا إذا ذكر يصليها ولا حرج عليه ، وأما أن يذكر الصلاة ولكن نظراً لهذا الشغل الذي هو مرتبط به أخرها من أجله فهذا حرام ولا يجوز، ولو صلاها بعد الوقت في هذه الحال لم تقبل منه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن من تعمد تأخير الصلاة عن وقتها بدون عذر شرعي فإنه لا صلاة له ، لأنه أخرجها عن الوقت الذي أمر أن يؤديها فيه بلا عذر فيكون قد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله ، والله الموفق .
? ? ?
23 ) وسئل فضيلة الشيخ : عن قول العوام : إن تأخير المرأة الصلاة حتى تنتهي الجماعة في المسجد أفضل فهل لهذا أصل في الشرع ؟(172/17)
فأجاب بقوله : هذا لا أصل له في الشرع ، بل المرأة كغيرها الأفضل لها أن تقدم الصلاة في أول وقتها ، إلا صلاة العشاء فالأفضل أن تؤخرها إلى ما بعد ثلث الليل ، فإذا كانت المرأة في بيتها فإننا نقول لها : ما دام ليس عليك مشقة فأخري صلاة العشاء إلى ما بعد ثلث الليل ، لكن لا تؤخريها إلى ما بعد نصف الليل ، والمعتبر نصف الليل من الغروب إلى طلوع الفجر ، فنصف ما بين الغروب إلى طلوع الفجر هذا هو وقت العشاء ، فالمرأة الأفضل لها أن تقدم الصلاة في أول وقتها كالرجل ، إلا صلاة العشاء فإن الأفضل لها وللرجال أيضاً إذا لم يشق عليهم الأفضل أن يؤخروا صلاة العشاء لأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تأخر ذات ليلة في صلاة العشاء فخرج إلى أصحابه فصلى ثم قال : " إن هذا لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (1) .
? ? ?
24) سئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته : عن حكم تأخير الصلاة عن وقتها بسبب عمل ما مثل الطبيب المناوب ؟(172/18)
فأجاب بقوله : تأخير الصلاة عن وقتها بسبب العمل حرام ولا يجوز لأن الله تعالى يقول : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (2) . والنبي صلى الله عليه وسلم وقت الصلاة بأوقات محددة ، فمن أخرها عن هذه الأوقات أو قدمها عليها فقد تعدى حدود الله ، ومن يتعدى حدود الله فأولئك هم الظالمون.ولهذا قال الله تعالى : ( فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً ) (1) أي إذا كنتم لا تتمكنون من أداء الصلاة على ما هى عليه وخفتم من العدو فرجالاً أو ركباناً ، أي حتى لو كنتم ماشين أو راكبين فصلوا ولا تؤخروها ، فلا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة عن وقتها لأي عمل كان ، ولكن إذا كانت الصلاة مما يجمع إلى ما قبلها أو إلى ما بعدها وشق عليه أن يصلي كل صلاة في وقتها فإن له أن يجمع . كما لو كانت نوبة العمل في صلاة الظهر ويشق عليه أن يصلي صلاة الظهر فإنه يجمعها مع صلاة العصر ، وهكذا في صلاة العشاء مع المغرب لأنه ثبت في " صحيح مسلم " من حديث بن عباس رضي الله عنهما أنه قال : " جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين صلاة الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر " فسألوا ابن عباس ما أراد بذلك ؟ قال : " أراد ألا يحرج أمته " (2) أي لا يلحقهم الحرج في ترك الجمع .
أما تأخير الصلاة عن وقتها كما لو أراد أن يؤخر الفجر حتى تطلع الشمس أو يؤخر العصر حتى تغرب الشمس أو غيره فإن هذا لا يجوز .
? ? ?
25 ) وسئل فضيلة الشيخ : أعمل جزاراً وأغلب أوقات الصلاة تحضرني وأنا في مكان العمل ، والملابس التي أرتديها لا تخلو من قطرات دم ، أو زبالة غنم ، مع العلم أن البيت بعيد عن مكان العمل وبعد انتهاء العمل أقضيها . فما حكم قضائي لتلك الأوقات ؟(172/19)
فأجاب بقوله : تأخيرك الصلاة عن وقتها عمل محرم ولا يجوز ، فإذا أخللت بها أخللت بدينك ، والواجب عليك أن تصلي كل صلاة في وقتها مع الجماعة ، ويمكنك أن تجعل عندك ثوباً نظيفاً ، فإذا أذن للصلاة خلعت الثوب الذي أصيب بالأوساخ ولبست الثوب النظيف للصلاة ، فإذا رجعت لبست الثوب الآخر وهكذا ، وبذلك تؤدي الصلاة على الوجه المطلوب وتخرج من الإثم .
أما تأخيرك الصلاة حتى تنتهي من العمل فإنه محرم ، ومع ذلك لا يجزئك من الصلوات إلا ما أدركت وقتها ، وما لم تدرك وقته فإنه لا يجزئك ، لأن القول الراجح أن من أخرج الصلاة عن وقتها بدون عذر فإنها لا تقبل منه ، ولو صلاها ألف مرة فانتبه يا أخي لنفسك ، واتق الله فيها ، وقم بما أوجب الله عليك .
وأعلم أن الطاعة مجلبة للرزق وأن المعصية هي محق الرزق ، فالله عز وجل يقول : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً *وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ ) (1) . والرزق الذي بغير طاعة ما هو إلا استدراج من الله ، كما قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (2). فاتق الله فاتق الله .
? ? ?
26) وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله - : عن حكم تارك الصلاة ؟ وحكم من يتهاون بالصلاة مع جماعة المسلمين ويصلي في بيته ؟ وحكم من يؤخرها عن وقتها ؟
فأجاب بقوله : هذه ثلاث مسائل :(172/20)
* أما المسألة الأولى : فإن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة ، وإذا كان له زوجة انفسخ نكاحه منها ، ولا تحل ذبيحته ، ولا يقبل منه صوم ولا صدقة ، ولا يجوز أن يذهب إلى مكة فيدخل الحرم،وإذا مات فإنه لا يجوز أن يغسل ، ولا يكفن ، ولا يصلى عليه ، ولا يدفن مع المسلمين ، وإنما يخرج به إلى البر ويحفر له حفرة يرمس فيها ، ومن مات له قريب وهو يعلم أنه لا يصلي فإنه لا يحل له أن يخدع الناس ويأتي به إليهم ليصلوا عليه ، لأن الصلاة على الكافر محرمة لقوله تعالى : (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) (1) . ولأن الله يقول : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (2) .
* وأما من لا يصلي مع الجماعة ويصلي في بيته فهو فاسق وليس بكافر ، لكنه إذا أصر على ذلك التحق بأهل الفسق وانتفت عنه صفة العدالة .
* وأما الذي يؤخرها عن وقتها فإنه أشد إثماً من الذي لا يصلي مع الجماعة ، وتأخير الصلاة حتى خروج الوقت بدون عذر شرعي حرام ولا يجوز ، ولو صلاها بعد الوقت في هذه الحال لم تقبل منه لقوله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . وعلى كل حال مسألة الصلاة من الأمور الهامة التي يجب على المؤمن أن يعتني بها وهي عمود الإسلام كما قال النبي ، عليه الصلاة والسلام ، ومن لا عمود لبنائه فإن بنائه لا يمكن أن يستقيم أبداً ، فعلى المسلمين التناصح فيما بينهم والتآمر بها والحرص عليها .
? ? ?
27 ) وسئل فضيلته : عن حكم من ترك صلاة الفجر وهو يسمع المؤذن يقول : الصلاة خير من النوم ؟(172/21)
فأجاب بقوله : ينبغي أن يقال ما حكم من ترك صلاة الجماعة وهو يسمع المؤذن يقول : حي على الصلاة ، لأجل أن يكون ذلك شاملاً لصلاة الفجر وغيرها ، ولأن قول المؤذن حي على الصلاة أبلغ من قوله : الصلاة خير من النوم ، ولأن قول الصلاة خير من النوم ليست ركناً من الأذان ، وحي على الصلاة ركن فيه .
والمهم أنه لا يجوز لأحد من الرجال سمع المؤذن يقول حي على الصلاة أن يتأخر إلا بعذر شرعي، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جاءه رجل أعمى، فقال : يا رسول الله ، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ، وأنا رجل أعمى ، فرخص له النبي عليه الصلاة والسلام ، فلما ولى دعاه فقال له :" هل تسمع النداء " قال : نعم ، قال : " فأجب " (1). وهذا دليل واضح على أن كل من سمع النداء فعليه أن يجيب المنادي .
? ? ?
2828 وسئل حفظه الله تعالى : عن حكم من ترك صلاة الفجر ؟
فأجاب فضيلته بقوله : ترك صلاة الفجر إن كان المقصود تركها مع الجماعة فإن ذلك محرم وإثم ، لأنه يجب على المرء أن يصلي مع الجماعة ، وإن كان المقصود أنه لا يصليها أبداً ، أو لا يصليها إلا بعد طلوع الشمس فإنه على خطر عظيم ، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا أخر الصلاة حتى خرج وقتها بدون عذر فإنه يكون بذلك كافراً ، والواجب على كل من كانت هذه حاله أن يتوب إلى الله ، وأن يقبل على ربه وعبادته .
? ? ?
29) وسئل فضيلته عن رجل لديه عمال لا يصلون فما نصيحتكم لهؤلاء العمال ؟ وما الواجب على صاحب العمل ؟(172/22)
فأجاب بقوله : لا شك أن المسلم ملتزم بجميع أحكام الإسلام : من الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج وغيرها ، والواجب عليه أن يقوم بذلك على حسب ما أوجبه الله عليه ، وترك الصلاة كفر مخرج عن الملة ، فمن تركها وهو مسلم فهو ملتحق – والعياذ بالله – بالكفار المرتدين ، ونصيحتي لهؤلاء العمال أن يتقوا الله عز وجل وأن يرجعوا إلى دينهم ، وأن يؤدوا الصلاة حسب ما أمر الله بها ، هذا بالنسبة لهم . أما بالنسبة لمن كانوا عنده فإن الواجب عليه إلزامهم بالصلاة . فإذا لم يفعلوا فليرفع بهم إلى ولاة الأمور ، ليقوموا بما يجب نحوهم . فإن لم يتمكن من ذلك فإن الأولى استبدالهم ، لأنه لا ينبغي أن يبقى عندك رجل مرتد عن الإسلام يعمل في ورشة أو غيرها . والله الموفق .
? ? ?
30) وسئل : عن امرأة توفي زوجها منذ خمس سنوات ، ولديها ولدان لا يصليان، فالكبير يبلغ من العمر تسعة عشر عاماً والثاني سبعة عشر عاماً ، ولقد أمرتهما بالصلاة ونصحتهما وأخبرتهما عن الصلاة وإثم تاركها ، ولكن دون فائدة ، مع العلم بأنها مريضة ، وكلما رأتهما على ذلك تأثرت ، فإذا رأياها كذلك توددا إليها فيصليان ويتركان ، فماذا تفعل لهما ؟ وهل عليها إثم إذا تركتهما ؟
فأجاب فضيلته بقوله : لا شك أن الإثم على الأولاد لأنهم بالغون ، وترك الصلاة كفر مخرج عن الملة إذا تركها الإنسان ولم يصل ، لأدلة كثيرة من الكتاب والسنة ، وقد حكى بعض أهل العلم إجماع الصحابة على ذلك ، ولا شك أن الذي لا يصلي ليس في قلبه إيمان ، لأن الإيمان مقتضٍ لفعل الطاعة ، وأعظم الطاعات البدنية الصلاة ، فإذا تركها فهو دليل أنه ليس في قلبه إيمان ، وإن ادعى أنه مؤمن ، فإن من كان مؤمناً فإنه بمقتضى هذا الإيمان يكون قائماً بهذه الصلاة العظيمة .(172/23)
وأما أنت فعليك أن تتقي الله سبحانه وتعالى في نصحهم ، وإرشادهم ، وأمرهم بالصلاة ، ونهيهم عن إضاعتها ، وإيقاظهم من النوم ، وزجرهم لأدائها ، فإذا لم يفعلوا فإنما حسابهم على الله عز وجل ، وأكثري أيتها الأخت لهم من الدعاء بالهداية والتوفيق، فلعل الله أن يستجيب لك فيكون بذلك سعادتك وسعادتهم إلى يوم القيامة .
? ? ?
31) وسئل فضيلة الشيخ : عن رجل خطب من رجل ابنته ، ولما سأل عنه إذا هو لا يصلي ، وأجاب المسئول عنه بقوله : يهديه الله ، فهل يزوج هذا ؟(172/24)
فأجاب جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً بقوله : أما إذا كان الخاطب لا يصلي مع الجماعة فهذا فاسق عاص الله ورسوله مخالف لما أجمع المسلمون عليه من كون الصلاة جماعة من أفضل العبادات ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – ص222 ج 23 من مجموع الفتاوى : " اتفق العلماء على أنها – أي صلاة الجماعة – من أوكد العبادات ، وأجل الطاعات ، وأعظم شعائر الإسلام " اهـ كلامه رحمه الله تعالى ، ولكن هذا الفسق لا يخرجه من الإسلام فيجوز أن يتزوج بمسلمة لكن غيره من ذوي الاستقامة على الدين والأخلاق أولى منه ، وإن كانوا أقل مالاً وحسباً كما جاء في الحديث : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " قالوا يا رسول الله وإن كان فيه ؟ قال : " إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه " ثلاث مرات ، أخرجه الترمذي (1) ، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " تنكح المرأة لأربع : لمالها ، ولحسبها ، ولجمالها ، ولدينها ، فاظفر بذات الدين تربت يداك " (2). ففي هذين الحديثين دليل على أنه ينبغي أن يكون أولى الأغراض بالعناية والاهتمام الدين والخلق من الرجل والمرأة، واللائق بالولي الذي يخاف الله تعالى ويرعى مسؤوليته أن يهتم ويعتني بما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه مسؤول عن ذلك يوم القيامة قال الله تعالى : (وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (1) . وقال : ( فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ* فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ) (2) .أما إذا كان الخاطب لا يصلي أبداً لا مع الجماعة ولا وحده فهذا كافر خارج عن الإسلام ، يجب أن يستتاب ، فإن تاب وصلى تاب الله عليه إذا كانت توبته نصوحاً خالصةً لله ، وإلا قتل كافراً مرتداً ، ودفن في غير مقابر المسلمين(172/25)
من غير تغسيل ، ولا تكفين ، ولا صلاة عليه ، والدليل على كفره نصوص من كتاب الله تعالى ، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم :فمن الكتاب قوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ). فقوله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ) (3). فقوله : (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ) دليل على أنه حين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات ليس بمؤمن . وقال تعالى : (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (4) . فدل على أن الأخوة في الدين لا تكون إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، لكن السنة دلت على أن تارك الزكاة لا يكفر إذا كان مقراً بوجوبها لكن بخل بها ، فبقيت إقامة الصلاة شرطاً في ثبوت الأخوة الإيمانية وليس فسقاً أو كفراً دون كفر ، لأن الفسق والكفر دون الكفر لا يخرج الفاعل من دائرة الأخوة الإيمانية كما قال الله تعالى في الإصلاح بين الطائفتين المقتتلتين من المؤمنين : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (1). فلم تخرج الطائفتان المقتتلتان من دائرة الأخوة الإيمانية مع أن قتال المؤمن من الكفر كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن ابن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (2).(172/26)
وأما الأدلة من السنة على كفر تارك الصلاة فمثل قوله صلى الله عليه وسلم : " إن بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة " (3) . رواه مسلم عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وعن بريدة بن الحصيب قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (4) . رواه الخمسة : الإمام أحمد وأصحاب السنن . وعن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا ينازعوا الأمر أهله ، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان (5) ، والمعنى أن لا ينازعوا ولاة الأمور فيما ولاهم الله عليه إلا أن يروا كفراً صريحاً عندهم فيه دليل من الله تعالى ، فإذا فهمت ذلك فانظر إلى ما رواه مسلم أيضاً من حديث أم سلمة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف بريء ( وفي لفظ : فمن كره فقد بريء ) ومن أنكر سلم ولكن من رضي وتابع " ، قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : " لا ، ما صلوا " (1) . فعلم من هذا الحديث أنهم إذا لم يصلوا قوتلوا ، وحديث عبادة قبله يدل على أنهم لا ينازعون ، ومن باب أولى أن لا يقاتلوا إلا بكفر صريح فيه من الله برهان فمن هذين الحديثين يؤخذ أن ترك الصلاة كفر صريح فيه من الله برهان .
فهذه أدلة من كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة كما جاء ذلك صريحاً فيما رواه ابن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تتركوا الصلاة عمداً فمن تركها عامداً متعمداً مخرج من الملة " (2) .
وأما الآثار عن الصحابة – رضي الله عنهم – فقد قال عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – " لا إسلام لمن ترك الصلاة " (3) .(172/27)
وقال عبد الله بن شقيق : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة (1) . رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرطهما .
وإذا كان الدليل السمعي الأثري يدل على كفر تارك الصلاة فكذلك الدليل النظري ، قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالى - : " كل مستخف بالصلاة مستهين بها فهو مستخف بالإسلام مستهين به ، وإنما حظهم في الإسلام على قدر حظهم من الصلاة ، ورغبتهم في الإسلام على قدر رغبتهم في الصلاة " ، وقال ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتاب " الصلاة " له ص400 من مجموعة الحديث : " لا يصر على ترك الصلاة إصراراً مستمراً من يصدق بأن الله أمر بها أصلاً ، فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقاً تصديقاً جازماً أن الله فرض عليه كل يوم وليلة خمس صلوات ، وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب وهو مع ذلك مصر على تركها ، هذا من المستحيل قطعاً ، فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبداً ، فإن الإيمان يأمر صاحبه بها فحيث لم يكن في قلبه ما يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان ، ولا تصغ إلى قول من ليس له خبرة ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها " اهـ كلامه رحمه الله . ولقد صدق فيما قال ، فإن من المستحيل أن يترك الصلاة مع يسرها وسهولتها وعظم ثوابها ، وعقاب تركها وفي قلبه شيء من الإيمان .(172/28)
وحيث تبين من نصوص الكتاب والسنة أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن ملة الإسلام فإنه لا يحل أن يزوج بمسلمة بالنص والإجماع قال الله تعالى : (َلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) (1) . وقال تعالى في المهاجرات : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُن ّ) (2). وأجمع المسلمون على ما دلت عليه هاتان الآيتان من تحريم المسلمة على الكافر ، وعلى هذا فإذا زوج الرجل من له ولاية عليها بنته أو غيرها رجلاً لا يصلي لم يصح تزويجه ، ولم تحل له المرأة بهذا العقد ، لأنه عقد ليس عليه أمر الله تعالى ورسوله ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – أنه قال : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3). أي مردود عليه .
وإذا كان النكاح ينفسخ إذا ترك الزوج الصلاة إلا أن يتوب ويعود إلى الإسلام بفعل الصلاة فما بالك بمن يقدم على تزويجه من جديد ؟!
وخلاصة الجواب : أن هذا الخاطب الذي لا يصلي إن كان لا يصلي مع الجماعة فهو فاسق لا يكفر بذلك ويجوز تزويجه في هذه الحال لكن غير أن ذوي الدين والخلق أولى منه .
وإن كان لا يصلي أبداً لا مع الجماعة ولا وحده فهو كافر مرتد خارج عن الإسلام لا يجوز أن يزوج مسلمة بأي حال من الأحوال إلا أن يتوب توبة صادقة ويصلي ويستقيم على دين الإسلام .
وأما ما ذكره السائل من أن والد المخطوبة سأل عنه فقال المسؤول عنه : يهديه الله . فإن المستقبل علمه عند الله تعالى وتدبيره بيده ، ولسنا مخاطبين إلا بما نعلمه في الحال الحاضرة ، وحال الخاطب الحاضرة حال كفر لا يجوز أن يزوج بمسلمة ، فنرجو الله تعالى له الهداية والرجوع إلى الإسلام حتى يتمكن من الزواج بنساء المسلمين وما ذلك على الله بعزيز .(172/29)
أجاب بهذا وحرره بيده الفقير إلى الله محمد الصالح العثيمين في 18 ذي الحجة سنة 1400 هـ أربعمائة وألف .
? ? ?
32) سئل فضيلة الشيخ - أعلى الله درجته -: عن رجل عمله متواصل وهو لا يصلي لذلك ، وعنده ماله لا يزكيه لكثرة ديونه وحاجته إليه فما الحكم ؟
فأجاب قائلاً : تضمن هذا الفعل أمرين أحدهما : ترك الصلاة ، والثاني ترك الزكاة ، وهما أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ، فأما الصلاة فإنه لا يعذر أحد بتركها بإي حال من الأحوال بل يجب على المسلم أن يصلي الصلاة لوقتها مهما كان الأمر ، حتى لو قدر أن الإنسان يفصل من عمله إلى عمل آخر ، أو إلى أن يخرج إلى البر ويحتطب ويبيع الحطب ويأكل ثمنه ، فإنه يجب عليه أن يؤدي الصلاة في وقتها ، ولا يحل له أن يؤجلها كما يفعله بعض الجهلة إذا جاءوا للنوم صلوا الصلوات الخمس ، صلاة ذلك اليوم الذي كانوا يعملون فيه ، فهذا محرم ولا يجوز وهو من كبائر الذنوب، بل من أكبر الكبائر ، لأنه قد يؤدي إلى الكفر .
وأما الزكاة فإن الإنسان إذا كان عنده مال وبقي عنده إلى أن تم الحول عليه فإن الزكاة تجب فيه ، وكون الإنسان في حاجة إليه لا يمنع وجوب الزكاة فيه إذا تم حوله ، والزكاة ليست شيئاً صعباً وليست جزءاً كبيراً من المال ما هي إلا واحد في الأربعين فقط ، يعني اثنين ونصف في المئة فهو شيء قليل وأمر يسير ، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الصدقة لا تنقص المال فالصدقة تزيده بركة ونمواً ، ويفتح الله للإنسان من أبواب الخير ما لا يخطر على باله إذا أدى ما أوجب الله عليه في ماله ، فعلى المسلم أن يزكي كل مال حال عليه الحول عنده ولو كان عليه دين على القول الراجح .
أما ما أنفق أو قضى الإنسان به دينه قبل أن يتم الحول عليه فإنه لا زكاة فيه .
? ? ?
33 ) وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله - : ماذا يفعل الرجل إذا أمر أهله بالصلاة ولكنهم لم يستمعوا إليه ، هل يسكن معهم ويخالطهم أو يخرج من البيت ؟(172/30)
فأجاب فضيلته – حفظه الله – بقوله : إذا كان هؤلاء الأهل لا يصلون أبداً فإنهم كفار ، مرتدون خارجون عن الإسلام ، ولا يجوز أن يسكن معهم ولكن يجب عليه أن يدعوهم ويلح ويكرر لعل الله أن يهديهم ، لأن تارك الصلاة كافر – والعياذ بالله – بدليل الكتاب ، والسنة ، وأقوال الصحابة ، والنظر الصحيح .
أما من القرآن فقوله تعالى عن المشركين : (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) (1). مفهوم الآية أنهم إذا لم يفعلوا ذلك فليسوا إخواناً لنا ، ولا تنتفي الأخوة الدينية بالمعاصي وإن عظمت ولكن تنتفي بالخروج عن الإسلام .
أما من السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " (1) .أخرجه مسلم . وقوله في حديث بريدة – رضي الله عنه – في السنن : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر "(2) .
أما أقوال الصحابة : فقال أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه - : " لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة " (3) . ، والحظ : النصيب وهو هنا نكرة في سياق النفي فيكون عاماً ، لا نصيب لا قليل ولا كثير ، وقال عبد الله بن شقيق : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " (4) .
أما من جهة النظر الصحيح فيقال : هل يعقل أن رجلاً في قلبه حبة خردل من إيمان يعرف عظمة الصلاة وعناية الله بها ثم يحافظ على تركها ؟؟! هذا شيء لا يمكن .وقد تأملت الأدلة التي استدل بها من يقول إنه لا يكفر فوجدتها لا تخرج عن أحوال أربع :
1- 1- إما أنها لا دليل فيها أصلاً .
2- 2- أو أنها قيدت بوصف يمتنع معه ترك الصلاة .
3- 3- أو أنها قيدت بحال يعذر فيها بترك هذه الصلاة .
4- 4- أو أنها عامة فتخص بأحاديث كفر تارك الصلاة .(172/31)
وليس في النصوص أن تارك الصلاة مؤمن ، أو أنه يدخل الجنة ، أو ينجو من النار ونحو ذلك مما يحوجنا إلى تأويل الكفر الذي حكم به على تارك الصلاة بأنه كفر نعمة ، أو كفر دون كفر .وإذا تبين أن تارك الصلاة كافر كفر ردة فإنه يترتب على كفره أحكام المرتدين ومنها :
أولاً : أنه لا يصح أن يزوج فإن عقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل ولا تحل له الزوجة به لقوله تعالى عن المهاجرات : ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (1).
ثانياً :أنه إذا ترك الصلاة بعد أن عقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة. للآية التي ذكرناها سابقاً على حسب التفصيل المعروف عند أهل العلم بين أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده .
ثالثاً : أن هذا الرجل الذي لا يصلي إذا ذبح لا تؤكل ذبيحته ، لماذا ؟ لأنها حرام ، ولو ذبح يهودي أو نصراني فذبيحته يحل لنا أن نأكلها ، فيكون – والعياذ بالله – ذبحه أخبث من من ذبح اليهود والنصارى .
رابعاً : أنه لا يحل له أن يدخل مكة أو حدود حرمها لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا )(2) .
خامساً : أنه لو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث منه ، فلو مات رجل عن ابن له لا يصلي ( الرجل مسلم يصلي والابن لا يصلي ) وعن ابن عم له بعيد ( عاصب ) فالذي يرثه ابن عمه البعيد دون ابنه لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أسامة : " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " (1) . متفق عليه . ولقوله صلى الله عليه وسلم : " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر " (2). متفق عليه ، وهذا مثال ينطبق على جميع الورثة .(172/32)
سادساً : أنه إذا مات لا يغسل ، ولا يكفن ، ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين ، إذاً ماذا نصنع به ؟ نخرج به إلى الصحراء ونحفر له وندفنه بثيابه ، لأنه لا حرمة له .
وعلى هذا فلا يحل لأحد مات عنده ميت وهو يعلم أنه لا يصلي أن يقدمه للمسلمين يصلون عليه .
سابعاً : أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف (3)، أئمة الكفر – والعياذ بالله – ولا يدخل الجنة ، ولا يحل لأحد من أهله أن يدعو له بالرحمة والمغفرة ، لأنه كافر لا يستحقها لقوله تعالى : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (4)
فالمسألة خطيرة جداً ، ومع الأسف فإن بعض الناس يتهاونون في هذا الأمر ، ويقرون في البيت من لا يصلي وهذا لا يجوز . والله أعلم . حرر في 6/2/1410 هـ
? ? ?
34 ) وسئل فضيلة الشيخ : عن رجل يصلي بعض الأوقات ويترك أخرى هل تجوز معاشرته ومصادقته ؟
فأجاب بقوله : هذا الرجل المصلي وقتاً والتارك آخر إن كان المقصود بالسؤال الصلاة مع الجماعة فإنه محرم ويفسق به ، لأن الجماعة واجبة ، فالواجب أداؤها في المساجد ولا يتأخر إلا لعذر شرعي .
وإن كان لا يصلي أبداً ، فإن كان ذلك عن إعتقاد فإنه كفر مخرج عن الملة ، فإن منكر فريضة الصلاة كافر إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام ولا يدري عن فرائض الإسلام وشرائعه ، فإنه يوضح له الحق فإن أصر على إنكاره لها كان كافراً مرتداً .(172/33)
أما إذا كان مقراً بالفريضة ولكن نفسه تغلبه كسلاً وتهاوناً فإن أهل العلم مختلفون في كفره ، فمنهم من يرى أن من ترك صلاة مفروضة ، حتى يخرج وقتها فإنه يكفر ، ومن العلماء من يراه لا يكفر إلا إذا تركها نهائياً ، وهذا هو الصحيح إذا تركها تركاً مطلقاً ، بحيث أنه لا يهتم بالصلاة ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل والشرك ترك الصلاة " (1) . فظاهر الحديث هو الترك المطلق ، وكذلك حديث بريدة : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (2). ولم يقل من ترك صلاة ، وعلى كل حال فالراجح عندي أنه لا يكفر إلا إذا تركها بالكلية .
أما حال المذكور في السؤال فإنه لا يكفر ولكنه يعتبر فاسقاً خارجاً من العدالة، فلا ولاية له على أقاربه ، ولا تقبل شهادته ، ولا يكون إماماً للمسلمين .
وأما معاشرته ومصادقته فإن كان يرجى منه خيراً فلا حرج ، وإن كان الأمر بالعكس فلا يعاشر ، ولذا أخبر صلى الله عليه وسلم عن جليس السوء " أنه كنافخ الكير إما أن يحرق ثيابك ، وإما أن تنال منه ريحاً خبيثة " (1). والله الهادي إلى سواء السبيل .
? ? ?
35) وسئل فضيلته : امرأة تقول هناك قريب لنا يزورنا ومعه زوجته أحياناً ، ونحن نشهد بأن زوجته لا تصلي ، وإذا أمرناها بالصلاة أبدت لنا أعذاراً ونحن بصفتنا نساء نعلم أن ما اعتذرت به ليس صحيحاً ، لأنه لا أثر لذلك عليها . فما حكم دخولها بيتنا ومجالستها ومحادثتها والأكل معها من إناء واحد ؟
فأجاب بقوله : هذه المرأة إذا صح ما ذكر عنها وأنها لا تصلي فإن من لا يصلي كافر ، وإذا تقرر أنها كافرة فإنها لا تحل لزوجها ، لأن الله تعالى يقول : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) (2). بل النكاح منفسخ من حين ثبتت ردة هذه المرأة .(172/34)
وأما إذا كانت لا تترك الصلاة ، وتعتذر بأن عليها مانعاً يمنعها من الصلاة فهذا راجع إليها ، وهذا بينها وبين الله عز وجل ، والقرائن التي تقولون عنها قد تكون مخطئة ، وقد تكون مصيبة ، ولا ينبغي اتهام المسلم الذي ظاهره الصلاح في مثل هذه الأمور .
أما إذا علمت علم اليقين أنها لا تصلي فإن الواجب على زوجها مفارقتها ولا يجتمع معها ، وكذلك أنتم لا يجوز لكم إيواؤها ، لأن المرتد من المسلمين أخبث حالاً من الكافر الأصلي ، وأخبث من اليهودي والنصراني الذي لم يزل على يهوديته ونصرانيته .
? ? ?
36 ) وسئل فضيلته : عن امرأة تقول : إن لي مشكلة وهي أن زوجي مدمن للخمر وتارك للصلاة ، إلا في شهر رمضان ، فإنه يترك شرب الخمر ويصلي ، ولي منه عدد من الأبناء والبنات . وقد تزوجت منهن بنتاً هو الذي تولى عقد النكاح لها ، وحاولت معه ونصحته ولكنه لا يبالي ، وخرجت من البيت ولكن حصل الصلح بيننا على شرط إرجاع الخادمة إلى بلدها ، ولكنه لم ينفذ الشرط وبقي على عادته السيئة ، وله تصرفات خاطئة ، منها محادثة الخادمة والجلوس معها ، ونحو ذلك كالجلوس مع غير المسلمين ، وكنت في بادئ الأمر لا أعلم من الأمر شيئاً ، وبعد أن علمت أنه مدمن خمر ، حرت في أمري وبقائي معه ، فما هو الحل لمثل ذلك بارك الله فيكم ؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً .(172/35)
فأجاب بقوله : هذه المسألة محزنة ومشكلة جداً ، لأنها تضمنت عدة شرور ، منها : وهو أهمها وأعظمها ترك الصلاة ، فإن ترك الصلاة على القول الراجح كفر مخرج عن الإسلام ، وينفسخ به النكاح من الزوج إلا أن يتوب إلى الله عز وجل ، ويعود إلى الإسلام وإلى إقامة الصلاة ، والواجب عليك في زوج هذا شأنه أن تبتعدي عنه حتى يتم الأمر ، وينظر في شأنه .وإني أوجه إليه النصيحة من قلب مخلص أن يتوب إلى الله سبحانه وتعالى ، وأن يقيم الصلاة وكافة أركان الإسلام حتى يموت مسلماً ، يلقى الله بحال يرضى بها عنه ، وأحذره من التنادي في ترك الصلاة لأنه لا يدري متى يفجأه الموت ، فقد يأتيه فجأة في مثل هذه الحال فيكون من أصحاب النار والعياذ بالله .
? ? ?
37 ) وسئل فضيلة الشيخ : عن من يصلي أحياناً هل يكون كافراً ؟ وكذلك الصيام ؟
فأجاب بقوله : إن كان يفعل ذلك إنكاراً للوجوب والفرضية ، أو شكاً في الوجوب فهو كافر ، كافر من أجل شكه في الوجوب أو إنكاره لوجوب هذا الشيء ، لأن فرض الصلاة والصيام معلوم بالكتاب والسنة ، وبالإجماع القطعي من المسلمين ، ولا ينكر فرضيته أحد من المسلمين إلا رجلاً أسلم حديثاً ولم يعرف من أحكام الإسلام شيئاً فقد يخفى عليه هذا الأمر .
إما إذا كان يترك بعض الصلوات أو بعض أيام رمضان وهو مقر بوجوب الجميع فهذا فيه خلاف بالنسبة لترك الصلاة ، أما الصيام فليس بكافر ، فلا يكفر بترك بعض الأيام بل يكون فاسقاً .
ولكن الصلاة هي التي نتكلم عنها ، فنقول :
اختلف العلماء القائلون بتكفير تارك الصلاة هل يكفر بترك فريضة واحدة ، أو فريضتين ، أو لا يكفر إلا بترك الجميع ؟(172/36)
والذي يظهر لي أنه لا يكفر إلا إذا ترك الصلاة تركاً مطلقاً بمعنى أنه كان لا يصلي ، ولم يعرف عنه أنه صلى وهو مستمر على ترك الصلاة ، فأما إذا كان أحياناً يصلي وأحياناً لا يصلي مع إقراره بالفرضية فلا أستطيع القول بكفره ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (1) ، فمن كان يصلي أحياناً لم يصدق عليه أنه ترك الصلاة ، والحديث الثاني : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (2). ولم يقل " من ترك صلاة فقد كفر " ، ولم يقل " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك صلاة " ، بل قال : " ترك الصلاة " ، فظاهره أنه لا يكفر إلا إذا كان تركها تركاً عاماً مطلقاً ، وأما إذا كان يترك أحياناً ويصلي أحياناً فهو فاسق ومرتكب أمراً عظيماً ، وجاني على نفسه جناية كبيرة ، وليس بكافر ما دام يقر بفرضيتها وأنه عاص بتركه ما تركه من الصلوات ، أما تاركها بالكلية فهو كافر مرتد عن الإسلام ولو كان تركه إياها تهاوناً وكسلاً كما يدل على ذلك الكتاب ، والسنة ، وأقوال الصحابة بل حكاه عبد الله بن شقيق إجماع الصحابة ، وحكى الإجماع عليه إسحاق بن راهويه .
? ? ?
38 ) وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – عن الإنسان الذي يصلي أحياناً ويترك الصلاة أحياناً ويترك الصلاة أحياناً أخرى فهل يكفر ؟
فأجاب بقوله : الذي يظهر لي أنه لا يكفر إلا بالترك المطلق بحيث لا يصلي أبداً ، وأما من يصلي أحياناً فإنه لا يكفر لقول الرسول ، عليه الصلاة والسلام : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة .
ولم يقل ترك صلاة ، بل قال : " ترك الصلاة " . وهذا يقتضي أن يكون الترك المطلق، وكذلك قال:" العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها – أي الصلاة – فقد كفر " (1) . وبناء على هذا نقول : إن الذي يصلي أحياناً ليس بكافر .
? ? ?(172/37)
39 ) وسئل فضيلة الشيخ عن حكم بقاء المرأة المتزوجة من زوج لا يصلي وله أولاد منها ؟ وحكم تزويج من لا يصلي ؟
فأجاب بقوله : إذا تزوجت امرأة بزوج لا يصلي مع الجماعة ولا في بيته فإن النكاح ليس بصحيح لأن تارك الصلاة كافر ، كما دل على ذلك الكتاب العزيز ، والسنة المطهرة ، وأقوال الصحابة ، كما قال عبد الله بن شقيق ، " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " (2) ، والكافر لا تحل له المرأة المسلمة لقوله تعالى : ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (3) .
وإذا حدث له ترك الصلاة بعد عقد النكاح فإن النكاح ينفسخ إلا أن يتوب ويرجع إلى الإسلام ، وبعض العلماء يقيد ذلك بانقضاء العدة فإذا انقضت العدة لم يحل له الرجوع إذا أسلم إلا بعقد جديد ، وعلى المرأة أن تفارقه ولا تمكنه من نفسها حتى يتوب ويصلي ، ولو كان معها أولاد منه لأن الأولاد في هذه الحال لا حضانة لأبيهم فيهم .
وعلى هذا أحذر إخواني المسلمين من أن يزوجوا بناتهم ومن لهم ولاية عليهن بمن لا يصلي لعظم الخطر في ذلك ، ولا يحابوا في هذا الأمر قريباً ولا صديقاً . وأسأل الله الهداية للجميع ، والله أعلم . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم . حرر في 9/10/1414 هـ .
40 ) وسئل فضيلته عن امرأة تقول : لي زوج لا يصلي في البيت ولا مع الجماعة ، وقد نصحته ولم يجد به نصحي شيئاً ، وقد أخبرت أبي وإخواني بذلك الأمر ، ولكنهم لم يبالوا بذلك ، وأخبركم أني أمنع نفسي منه ، فما حكم ذلك ؟ وكيف أتصرف ؟ مع العلم أنه ليس بيننا أولاد . أفيدوني جزاكم الله خيراً .
فأجاب بقوله : إذا كان حال الزوج لا يصلي في البيت ولا مع الجماعة فإنه كافر ونكاحه منك منفسخ إلا أن يهديه الله فيصلي .(172/38)
ويجب على أهلك وأبيك وأخوتك أن يعتنوا بهذا الأمر ، وأن يطالبوا زوجك إما بالعودة إلى الإسلام أو يفسخ النكاح ، وامتناعك هذا في محله لا بالجماع ولا فيما دونه وذلك لأنك حرام عليه حتى يعود إلى الإسلام ، والذي أرى لك أن تذهبي إلى أهلك ولا ترجعي ، وأن تفتدي منه نفسك بكل ما تملكين حتى تتخلصي منه ، ففري منه فرارك من الأسد .
وأما نصيحتي له أن يعود إلى الإسلام ، ويتقي ربه ، ويقيم الصلاة ، فإن لم يصلي فإنه كافر مخلد في نار جهنم ، يحشر مع فرعون وهامان وقارون وأبي بن خلف (1)، وإنه إذا مات على هذه الحال فإنه لا حق له على المسلمين ، لا بتغسيل ، ولا بتكفين ، ولا بصلاة ، ولا بدعاء ، وإنما يرمى في حفرة لئلا يتأذى الناس برائحته ، فعليه أن يخاف الله عز وجل ويرجع إلى دينه ، ويقيم الصلاة وبقية أركان الإسلام من زكاة وصيام وحج بيت الله الحرام ، وأن يقوم بكل ما أوجب الله عليه ، وأن يسأل الله الثبات إلى الممات .
? ? ?
رسالة
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم .... حفظه الله تعالى .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. كتابكم الكريم المؤرخ / وصل وفيه سؤالكم عن كفر تارك الصلاة ، فهذه المسألة كبيرة وهامة ، وظواهر الأدلة فيها تكاد تكون متكافئة، لكن أدلة تكفيره الكفر الأكبر أقوى أثراً ونظراً :
أما الأثر فقد ساق ابن القيم – رحمه الله تعالى – في كتاب " الصلاة " له من أدلة الكتاب والسنة ما فيه كفاية ، وقد فهمت من كتابك أنك قرأتها ، لكن ذكرت في كتابك أنه جرت مناظرة بين الإمام الشافعي والإمام أحمد في ذلك (1) وأن سابق ذكرها في فقه السنة مع أن ابن القيم نقل عن الطحاوي أنه حكى عن الشافعي نفسه تكفيره ، فلينظر في صحة المناظرة المذكورة .(172/39)
ومن أوضح الأدلة على أن كفر تارك الصلاة هو الكفر الأكبر المخرج عن الملة قوله صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (2). رواه مسلم ، بل في المنتقى رواه الجماعة إلا البخاري والنسائي ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب ( اقتضاء الصراط المستقيم ) ص70 فقوله " هما بهما كفر " أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر ، وهما
قائمتان بالناس ، إلى أن قال : " وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة " (1) . وبين كفر منكر في الإثبات " اهـ .
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة – رضي الله عنها – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون فمن عرف برىء " . وفي لفظ " فمن كره فقد برىء ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع " . قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما صلوا " (2) . فجعل الصلاة مانعة من قتالهم فمفهوم ذلك أنهم إذا لم يصلوا جاز قتالهم لزوال المانع . وفي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت أنهم بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم على أن لا ينازعوا الأمر أهله قال : "إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان " (3) فإذا جمعنا هذا الحديث إلى الحديث الذي قبله حيث كان يجوز بمقتضاه قتالهم لتركهم الصلاة نتج عن ذلك أن الصلاة من الكفر البواح وهذا واضح لمن تأمله .
فالأدلة النقلية الأثرية تقتضي كفره كفراً أكبر مخرجاً عن الملة .(172/40)
وأما الأدلة النظرية العقلية فيقال : كيف يكون شيء من الإيمان في قلب رجل يعلم أهمية الصلاة في الإسلام ، ويعلم النصوص الواردة في فضلها ، والنصوص الواردة في الوعيد على تاركها ، ويعلم أن الذي فرضها وأكد فرضيتها من وجوه شتى هو الله تعالى ، الذي يدعي هذا التارك لها أنه يؤمن به فأين الإيمان بالله تعالى ؟ وأين ثمرته ؟ بل أين بينته التي تشهد به ، وقد ترك أصل الأعمال في الإسلام وعموده ، وليس الإيمان بالله تعالى عند أهل السنة ، ولا في حقيقة الشرع مجرد الإيمان بوجود الله تعالى ، أو صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، أو فرضية الصلاة والزكاة ، فإن الإقرار بذلك موجود حتى من المشركين فها هو أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم يقر بالله ورسوله ، وصحة رسالته ، وصدقه ، ومع ذلك فهو مخلد في النار عليه نعلان من نار يغلي منهما دماغه .
وأما احتجاج من حمل كفر تارك الصلاة على مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (1) . فقد علمت ضعف حجته مما ذكره شيخ الإسلام في الإقتضاء من الفرق بين ( كفر ) المنكر و( الكفر ) المعرف ، ثم إن قتال المسلم فعل معصية ، وترك الصلاة تفويت واجب ، وتفويت الواجب من حيث هو أعظم من فعل المعصية كما قرر ذلك ابن القيم في كتاب ( الفوائد ) بأكثر من خمسة وعشرين وجهاً .
وأما دخول من شهد أن لا إله إلا الله خالصاً من قلبه الجنة فالحديث مقيد بكونه خالصاً من قلبه ، ولا يمكن لمن قالها خالصاً من قلبه أن يدع الصلاة أبداً ، كما لا يمكن أن ينكر القرآن ، أو اليوم الآخر ، أو نحوه ، ولو أخذنا بظاهر الحديث من غير أن نتفطن لقوله " خالصاً من قلبه " وما تتضمنه هذه الجملة من الإذعان والإنقياد والقبول ، لقلنا إن من قالها وأنكر القرآن واليوم الآخر ونحوهما يدخل الجنة ولا أحد من المسلمين يقول ذلك .(172/41)
ومثله حديث : " يخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان (1) . فإننا نقول : ليس الإيمان مجرد التصديق ، ولو كان كذلك لكان أبليس مؤمناً لأنه يصدق بالله، ولكان أبو طالب مؤمناً ، ولكان كل من أقر بالله مؤمناً ، ولكن الإيمان ما استلزم القبول والانقياد .
وأما ما نقلت عن ابن القيم – رحمه الله – من أنه كفر عملي لا يخرجه من الإسلام فيعتبر كالزاني ، والسارق ، وشارب الخمر حين نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عنهم ، فإن ابن القيم – رحمه الله تعالى – ذكر في الحكم بين الفريقين أصولاً في فصول ، فذكر في الفصل الأول : أن من شعب الإيمان القولية ما يزول بزوالها الإيمان قال : فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان . وذكر نحوه في شعب الكفر .
ثم ذكر أصلاً آخراً وهو : أن حقيقة الإيمان مركبة من قول ، وعمل ، والقول قسمان : قول القلب وقول اللسان، والعمل قسمان عمل القلب ، وعمل الجوارح ، قال : وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان به ، وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب وهو محبته وانقياده ، قال : وإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح ، قال : فإن الإيمان ليس مجرد التصديق وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد .
ثم ذكر أصلاً آخراً وهو أن الكفر نوعان : كفر عمل ، وكفر جحود وعناد ، وأن كفر الجحود يضاد الإيمان من كل وجه ، قال : وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان ، وما لا يضاده ، وذكر أن ترك الصلاة من الكفر العملي ، ثم قال في آخر الفصل : وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية .
ثم ذكر أصلاً آخر وهو : أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان إلى أن قال : وإذا حكم بغير ما أنزل الله ، أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفراً وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام .(172/42)
ثم ذكر أصلاً آخر وهو : أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمناً، ولا من قيام شعبة من شعب الكفر أن يسمى كافراً ، ثم قال يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار ؟ فيقال : ينفعه إن لم يكن المتروك شرطاً في صحة الباقي واعتباره ، وإن كان شرطاً لم ينفعه فيبقى النظر في الصلاة هل هي شرط لصحة الإيمان هذا سر المسألة ، والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه ، ورأس مال ربحه ، ومحال بقاء الربح بلا رأس مال ، فإذا خسرها خسر أعماله كلها ، ثم قال : ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها ودعي إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه ، ويشد للقتل ، وعصبت عيناه ، وقيل له تصلي وإلا قتلناك فيقول : اقتلوني ولا أصلي أبداً ، ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول هذا مؤمن مسلم .... وبعضهم يقول مؤمن كامل الإيمان أفلا يستحي من هذا قوله من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة أهـ .
وهذا الكلام من ابن القيم –رحمه الله – يقتضي كفر تارك الصلاة ، والمسألة التي فرضها لا تزيد الحكم عما لو تركها ولم يدع إليها على هذا الوجه ، ألا ترى أنه لو دعي على هذا الوجه ليصوم رمضان فأبى حتى قتل فإنه لا يحكم بكفره فالقاضي بكفر تارك الصلاة تركه إياها لا دعوته لها على هذا الوجه .(172/43)
ثم ذكر بن القيم في المسألة الرابعة : أن ترك الصلاة بالكلية لا يقبل معه عمل، كما لا يقبل مع الشرك عمل، وهذا الحكم لا يثبت إلا إذا كان ترك الصلاة كفراً وردة ، فإن الأعمال لا تحبط إلا بالردة لقوله تعالى:(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (1). وقد صرح ابن القيم في هذا المبحث بأنه إذا ترك الصلاة تركاً كلياً لا يصليها أبداً فإن هذا الترك يحبط العمل جميعه ، إلا أنه استدرك وقال : فإن قيل : كيف تحبط الأعمال بغير الردة ؟ قيل : نعم ، ثم حمل معنى الإحباط على المقابلة والمقاصة . وإنما نقلت ملخص كلامه ليتبين أنه رحمه الله لم يعط كلاماً فصلاً في هذا الموضوع بل كلامه يشبه كلام المتردد .(172/44)
ومهما يكن فالمرجع في هذه المسألة الكبيرة إلى ما تقتضيه الأدلة ، ثم كلام السلف الصالح والأئمة ، ومن تأمل الأدلة الواردة في تارك الصلاة وجد أنها تدل على أن كفره كفراً أكبر ، إما بمقتضى اللفظ ، أو بمقتضى الأحكام المرتبة على الترك ، والتي لا تكون إلا لكافر ، وأن بين إطلاق الكفر فيها وفي نحو " قتاله كفر " فرقاً بينا كما ذكره شيخ الإسلام في كتاب الاقتضاء ، وكما هو معلوم من دلالات الألفاظ ، وتأمل الدليل الثاني الذي ذكره ابن القيم – رحمه الله تعالى – في أدلة المكفرين حيث يقول فيه : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها ًفقد كفر (1). ونحن نرى – حسب ما بلغنا من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم - أن تارك الصلاة كافر كفراً أكبر مخرجاً عن الملة يترتب على كفره أحكام المرتدين الدنيوية والأخروية، وهذا قول جمهور السلف من الصحابة والتابعين حتى نقل بعضهم الإجماع عليه ، فقد نقل المنذري عن ابن حزم قوله : " وقد جاء عن عمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة – رضي الله عنهم – أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد ، ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة " اهـ ترغيب وترهيب ص393 ج1ط مصطفى الحلبي ، وقال بن رجب في شرح الأربعين النووية : " حكى إسحاق إجماع أهل العلم عليه "
وعلى هذا فإننا نأمل أن تتأمل النصوص وتقارن بينها ، وهل يعقل أن يترك مؤمن بالله ورسوله إيماناً حقيقياً الصلاة مع تأكدها وسهولة فعلها ؟! لا أظن أن ذلك يقع . والله المستعان ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
? ? ?(172/45)
41 ) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – عن القول بتكفير تارك الصلاة المقر بوجوبها مع أن حديث عبادة بن الصامت لم يصرح فيه بكفر تارك الصلاة ، ونص الحديث : " خمس صلوات فرضهن الله تعالى ، من أحسن وضؤهن ، وصلاتهن لوقتهن ، وأتم ركوعهن وخشوعهن ، كان له على الله عهد أن يغفر له ، ومن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه " . رواه أحمد ، وأبو داود.
وكذلك تقسيم الكفر إلى: أكبر وأصغر ، وكون ترك الصلاة من الكفر الأصغر ، كما أن مذهب أهل السنة عدم التكفير بالكبيرة .
وما ذكره السبكي في ترجمة الإمام الشافعي قال : " حكى أن أحمد ناظر الشافعي في تارك الصلاة ، فقال له الشافعي : يا أحمد أتقول : إنه يكفر ؟ قال نعم ، قال : إن كان كافراً فبم يسلم ؟ قال : يقول : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، قال : فالرجل مستديم لهذا القول لم يتركه ، قال يسلم بأن يصلي ، قال : صلاة الكافر لا تصح ولا يحكم بالإسلام بها فانقطع أحمد وسكت " ، وكل هذه تدل على عدم كفر تارك الصلاة ، فما جوابكم رعاكم الله عن هذه الإشكالات ؟
فأجاب بقوله : الحديث لا إشكال فيه مع القول بتكفير تارك الصلاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أحسن وضؤهن ، وأتم ركوعهن وخشوعهن " (1). ثم قال : " ومن لم يفعل " الخ أي ومن لم يحسن الوضوء ، ولم يتم الركوع ، والخشوع وهذا أخص من مجرد الترك ، فيكون المراد به من لم يفعلهن مطلقاً (2).
وأما كون الكفر يكون أكبر ويكون أصغر دون ذلك : فهذا صحيح ، لكن احتمال أن يكون المراد بكفر تارك الصلاة الكفر الأدون تأباه ظواهر النصوص من الكتاب ، والسنة ، وآثار الصحابة ، بل صريحها في البعض .(172/46)
وأما كون مذهب أهل السنة أن لا يكفر العاصي بالكبيرة فهو حق ، وهو عقيدتنا أن العاصي لا يكفر ، ولا يخرج من الإيمان بكبيرته ، حتى وإن سميت كفراً كقتال المؤمن ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم سماه كفراً ومع ذلك فإنه لا يخرج من الإيمان لقوله تعالى : (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ) إلى قوله : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (1) . لكن تارك الصلاة ليس من عصاة المؤمنين بل هو خارج عن الإسلام بدلالة النصوص والآثار ، فلا يدخل تحت قاعدة مذهب أهل السنة في فاعل الكبيرة .
وأما ما ذكره من محاجة الشافعي لأحمد بن حنبل – رحمهم الله تعالى – فلا أظن هذه المحاجة تصح عند من تأملها ، ثم على تقدير صحتها فالمرجع في الحكم إلى الله ورسوله كما قال الله تعالى:(وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) (2). وقال : ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (3).
وأما دخول المرء في الإسلام بالشهادتين فهذا صحيح لكن للشهادتين لوازم بعضها يؤدي عدم الالتزام به إلى الكفر ، أرأيت لو شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وكذب بعض ما أخبر الله به ورسوله أفلا يكون كافراً كفراً مخرجاً عن الملة ؟!
والحاصل أن الحكم بالتكفير وعدمه راجع إلى الله ورسوله فإذا دل كتاب الله تعالى ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو هما جميعاً على كفر شخص بفعل ، أو بترك وجب علينا قبوله ، وليس لنا الحق في رد ذلك ، أو التوقف فيه مع صحة الدليل ووضوح الدلالة ، كما أنه ليس لنا أن نرد أو نتوقف فيما دل على حل شيء أو حرمته لأن الكل حكم الله الذي له الحكم وإليه يرجع الأمر كله .
? ? ?(172/47)
42 ) سئل فضيلة الشيخ : ما قولكم رعاكم الله فيمن يستدل على أن تارك الصلاة ليس بكافر بحديث: " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب ، حتى لا يدرى ما صيام، ولا صلاة ، ولا نسك ، ولا صدقة ، وليسرى على كتاب الله عز وجل في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ، وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز ، يقولون : أدركنا آباءنا على هذه الكلمة " لا إله إلا الله " فنحن نقولها " (1) ، وحديث : " خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد فمن جاء بهن لم يضيع منهم شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء أدخله الجنة " (2) . وحديث أبي ذر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية من القرآن يرددها حتى صلاة الغداة وقال : دعوت لأمتي ، وأجبت بالذي لو اطلع عليه كثير منهم تركوا الصلاة ، فقال أبو ذر : أفلا أبشر الناس ؟ قال : "بلى" فانطلق ، فقال عمر : إنك إن تبعث إلى الناس بهذا يتكلوا عن العبادة ، فناداه أن ارجع فرجع (1)، والآية قوله تعالى : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (2) . أخرجه الإمام أحمد في مسنده .
فأجاب بقوله : جوابنا على ذلك :
الحديث الأول : إن صح فهذا غاية ما يقدرون عليه ، لأن معالم الإسلام قد اندسرت فلا يدرون عنها فيشبهون من آمنوا ثم ماتوا في أول الإسلام قبل أن تفرض الفرائض .
الحديث الثاني : قال ابن عبد البر فيه راو مجهول وعلى تقدير صحته فلفظه في أبي داود : " من أحسن وضؤهن ، وصلاتهن في وقتهن ، وأتم ركوعهن ، وخشوعهن كان له على الله عهد أن يغفر له ، وإن شاء عذبه " (3) .
فقوله : "ومن لم يفعل " أي يحسن الوضوء ويتم الركوع إلخ وهذا غير مجرد الفعل ، وعلى فرض أن يراد به مجرد الفعل فالنصوص الدالة على كفر تارك الصلاة فيها زيادة والأخذ بها واجب .(172/48)
الحديث الثالث : لعله من عجائب جسرة التي أشار إليها البخاري حيث قال : عند جسرة عجائب . وإذا لم يكن من عجائبها فقدامة ابن عبد الله الراوي عنها قيل : إنه أفلت أو فليت العامري الذي لم يفلت من كلام الناس بعضهم فيه ، فإن لم يكن إياه فليس الحديث بصريح في عدم كفر تارك الصلاة ، وإذا لم يكن صريحاً صار من المتشابهة الذي يجب رده إلى المحكم الدال على كفر تارك الصلاة .
هذا ما نراه من الجواب على هذه الأدلة ونرجو الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى ويهدينا الحق والصراط المستقيم .
? ? ?
43 ) وسئل فضيلة الشيخ عن الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم في أقوام يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة ، والأحاديث التي جاءت بكفر تارك الصلاة ؟
فأجاب قائلاً : يحمل قوله صلى الله عليه وسلم : إنهم يدخلون الجنة ولم يسجدوا لله سجدة على أناس يجهلون وجوب الصلاة ، كما لو كانوا في بلاد بعيدة عن الإسلام أو في بادية لا تسمع عن الصلاة شيئاً ، ويحمل أيضاً على من ماتوا فور إسلامهم دون أن يسجدوا لله سجدة .
وإنما قلنا بذلك لأن هذا الحديث الذي ذكرت من الأحاديث المتشابهة ، وأحاديث كفر تارك الصلاة من الأحاديث المحكمة البينة ، والواجب على المؤمن في الاستدلال بالقرآن أو السنة أن يحمل المتشابه على المحكم ، واتباع المتشابه واطراح المحكم طريقة من في قلوبهم زيغ والعياذ بالله ، كما قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ) (1) .(172/49)
ولعله بلغك قصة أصيرم بني عبد الأشهل ، الذي خرج إلى أحد وقتل فوجده قومه في آخر رمق وقالوا : يا فلان ما الذي جاء بك أحدب على قومك أم رغبة في الإسلام ؟ قال : بل رغبة في الإسلام ، آمنت بالله ورسوله ، فأخبروا النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إنه لمن أهل الجنة " (1) . مع أن هذا الرجل ما سجد لله سجدة ، لكنه من الله عليه بحسن الخاتمة ، نسأل الله أن يحسن لنا ولكم الخاتمة .
? ? ?
44 ) سئل فضيلة الشيخ : استدل بعض العلماء على عدم كفر تارك الصلاة بحديث الشفاعة الطويل الذي أخرجه البخاري ومسلم ، وبحديث عبادة ابن الصامت : خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد ...." فما قولكم حفظكم الله تعالى ؟
فأجاب بقوله : حديث الشفاعة الذي استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة عام مخصوص بمن قال لا إله إلا الله وأتى مكفراً مثل أن يقول لا إله إلا الله وهو ينكر تحريم الربا ، أو فرضية الصلاة ونحو ذلك ، لم يخرج من النار بشفاعة ولا غيرها ، فكذلك من قال لا إله إلا الله وترك الصلاة، فإنه لا يخرج من النار بشفاعة ولا غيرها ، لأنه كافر فأي فرق بين من كفر بجحد فرضية الصلاة مع نطقه بالشهادة ومن كفر بترك الصلاة مع نطقه بالشهادة ؟!! فكما أن الأول لا يدخل في الحديث فكذلك الثاني .
وأيضاً فإن قوله : " لم يعمل خيراً قط " عام يدخل فيه من لم يصل ، لأن الصلاة من الخير ، ولكن هذا العموم خص بالأدلة الدالة على كفر تارك الصلاة فيخرج تارك الصلاة من عمومه كما هو الشأن في العمومات المخصوصة .(172/50)
وأما حديث عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – فقد رواه مالك في الموطأ 1/254-255 عن عبادة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس صلوات كتبهن الله عز وجل على العباد ، فمن جاء بهن لم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة " . رواه مالك عن يحي بن سعيد ، عن محمد بن يحي بن حبان ، عن ابن محيريز أن رجلاً من كنانة يدعى المخدجي ، والمخدجي قال ابن عبد البر عنه : هو مجهول لا يعرف بغير هذا الحديث . وقد رواه أبو داود 2/62 من طريق مالك بلفظه . وقد رواه النسائي 1/186 من طريق مالك بلفظه أيضاً . ورواه الإمام أحمد في المسند 5/315 موافقاً لمالك في يحي بن سعيد فمن فوقه بلفظ مالك إلا أنه قال : " إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " .ورواه أيضاً 5/319 موافقاً لمالك في يحي بن سعيد فمن فوقه بنحو لفظ مالك .ورواه أيضاً 5/322 موافقاً لمالك في محمد بن يحي بن حبان فمن فوقه بلفظ : " فمن لقيه بهن لم يضيع منهن شيئاً لقيه وله عنده عهد يدخله به الجنة ، ومن لقيه وقد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لقيه ولا عهد له إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له " . ورواه أيضاً 5/317 قال : حدثنا حسين بن محمد ، حدثنا محمد بن مطرف ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، عن عبد الله الصنابحي أن عبادة بن الصامت قال : أشهد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " خمس صلوات افترضهن الله على عباده من أحسن وضؤهن ، وصلاهن لوقتهن ، فأتم ركوعهن ، وسجودهن ، وخشوعهن ، كان له عند الله عهد أن يغفر له ، ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد ، إن شاء غفر ، له وإن شاء عذبه " ورواه أبو داود 1/115 موافقاً لأحمد في محمد بن مطرف فمن فوقه بلفظ أحمد إلا أنه لم يذكر سجودهن . ورواه ابن ماجه 1/448 موافقاً لمالك في محمد بن يحي بن حبان فمن فوقه بلفظ : " خمس صلوات(172/51)
افترضهن الله على عباده فمن جاء بهن لم ينتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن فإن الله جاعل له يوم القيامة عهداً أن يدخله الجنة ، ومن جاء بهن قد انتقص منهن شيئاً استخفافاً بحقهن لم يكن له عند الله عهد ، إن شاء عذبه ، وإن شاء غفر له " .
فأنت ترى هذا الحديث واضطراب الرواة في لفظه ، وأن أحد رواته في الموطأ مجهول لا يعرف إلا بهذا الحديث كما قال بن عبد البر ، وترى رواية المسند 5/317 وأبي داود 1/115 أسلم من حيث الإسناد وفيها أن تعليق المغفرة بالمشيئة فيمن لم يأت بهن على وجه الكمال ، فلا يكون فيه دليل على أن تارك الصلاة تركاً مطلقاً داخل تحت المشيئة فلا يعارض النصوص الدالة على كفره .
وأما لفظ رواية مالك : " ومن لم يأت بهن " فيحمل على أن المراد لم يأت بهن غير مضيع منهن شيئاً ويؤيد ذلك لفظ رواية ابن ماجه ، وعلى هذا فتكون رواية مالك موافقة لرواية أحمد 5/317 .
والحاصل أن هذا الحديث لا يعارض النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة لصحتها وصراحتها ، وعلى هذا تبقى أدلة الكفر قائمة سالمة من المعارض المقاوم، وحينئذ يجب العمل بمقتضاها ، ويحكم بكفر من ترك الصلاة تركاً مطلقاً ، سواء جحد وجوبها ، أو أقر به ولكن تركها تهاوناً وكسلاً ، ولا يصح أن تحمل هذه الأدلة على أن المراد بها كفر دون كفر ، أو أن المراد من تركها جاحداً .
أما الأول : فلأننا لا يحل لنا أن نحمل أدلة الكفر على ذلك إلا حيث يقوم دليل صحيح على منع حملها على الكفر المطلق المخرج عن الملة ، ولا دليل هنا . ولأنه قد قام الدليل على أن المراد به الكفر المطلق المخرج من الملة فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (1) . فذكر الكفر معرفاً بال فدل ذلك أنه الكفر المطلق ، ولأنه صلى الله عليه وسلم جعل ذلك حداً فاصلاً بين الإيمان والكفر ، والمتحادان لا يجتمعان لانفصال بعضهما عن بعض .(172/52)
وأيضاً فإن الله تعالى قال : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (2). فجعل ثبوت الاخوة في الدين مشروطاً بالتوبة من الشرك ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فإذا انتفى الشرط انتفى المشروط ، ولا تنتفي الأخوة في الدين إلا بالكفر المخرج من الدين أما المعاصي مهما عظمت فلا تنتفي بها الأخوة الدينية ، ولهذا جعل الله تعالى القاتل عمداً أخاً للمقتول مع أن القتل عمداً من كبائر الذنوب .
وأما الثاني : فلأننا لو حملنا نصوص الترك على من تركها جاحداً لوجوبها لكان في ذلك محذوران :
المحذور الأول : إلغاء الوصف الذي علق الشارع الحكم به وهو الترك ، وذلك لأن الجحود موجب للكفر سواء صلى الإنسان أم ترك الصلاة فيكون ذكر الشارع للترك لغواً من القول لا فائدة فيه سوى إيجاد الغموض والإشكال .
المحذور الثاني : إدخال قيد في النصوص لم يقم الدليل عليه ، وهذا يقتضي تخصيص لفظ الشارع أو تقييده بما لا دليل عليه فيكون قولاً على الله بلا علم والله المستعان . حرر في 8/10/1406 هـ .
? ? ?
45) وسئل فضيلة الشيخ : عما ينسب للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من تهاون بالصلاة عاقبه الله بخمسة عشر عقوبة ست منها في الدنيا وثلاث عند الموت ، وثلاث في القبر ، وثلاث يوم القيامة " .
أما التي تصيبه في الدنيا فهي :
1 - ينزع الله البركة من عمره .
2 - يمسح الله سيم الصالحين من وجهه .
3 - كل عمل لا يؤجر عليه من الله .
4 - لا يرفع الله له دعاءً إلى السماء .
5 - تمقته الخلائق في دار الدنيا .
6 - ليس له حظ في دعاء الصالحين .
وأما التي تصيبه عند الموت فهي :
1 - أنه يموت ذليلاً .
2 - أنه يموت جائعاً .
3 - أنه يموت عطشاناً لو سقي مياه بحار الدنيا ما روي من عطشه .
وأما التي تصيبه في قبره فهي :
1 - يضيق الله عليه قبره ويعصره حتى تختلف ضلوعه .
2 - يدق الله عليه في قبره ناراً في جمرها .(172/53)
3 - يسلط الله عليه ثعبان يسمى الشجاع الأقرع يضربه على ترك صلاة الصبح من الصبح إلى الظهر . وعلى تضييع صلاة الظهر من الظهر إلى العصر . وهكذا كلما ضربه يغوص في الأرض سبعون ذراعاً .
وأما التي تصيبه يوم القيامة فهي :
1 - يسلط الله عليه من يسحبه على وجهه إلى نار جهنم .
2 - ينظر الله تعالى إليه بعين الغضب وقت الحساب فيقع لحم وجهه .
3 - يحاسبه الله عز وجل حساباً شديداً ما عليه من مزيد ويأمر الله به إلى النار وبئس القرار .
فهل هذا الحديث صحيح ؟ وهل يجوز نشره بين الناس ؟
فأجاب فضيلته بقوله : هذا الحديث موضوع مكذوب على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يحل لأحد نشره إلا مقروناً ببيان أنه موضوع حتى يكون الناس على بصيرة منه .
? ? ?
46) سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى - : عن الحكم فيمن يصلي في رمضان فقط ؟
فأجاب بقوله : لا ريب أن الذي يفعل هذا الفعل على خطر عظيم ، لأنه لا يفيده صيام رمضان شيئاً ، وذلك لأن من لا يصلي فهو كافر - والعياذ بالله - والدليل على كفره من كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإجماع الصحابة - رضي الله عنهم - :(172/54)
أما في القرآن فإن الله تعالى يقول : (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ )(1) . فجعل الأخوة في الدين لا تكون إلا بهذه الأمور الثلاثة : التوبة من الشرك ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، ومقتضى هذا أنه إذا فقد واحد من هذه الثلاثة فقدت الأخوة في الدين ، والأخوة في الدين لا تفقد إلا حيث يفقد الدين ، فإن المعاصي وإن عظمت لا تفقد بها الأخوة في الدين ، قال الله تعالى في آية القصاص فيمن قتل أخاه المؤمن عمداً قال : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ )(2) . وقتل المؤمن من أعظم الذنوب وأكبرها ، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر " (3. (وقال تعالى:( َإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ )(1). فدل هذا على أن الأخوة الإيمانية باقية مع المعاصي ، وأنها مع الكفر لا تبقى ، وعلى هذا ففي آية التوبة التي صدرنا بها الجواب دليل على كفر تارك الصلاة .
وقد يقول قائل : كفروه بترك الزكاة .
فنقول : لولا حديث أبي هريرة الذي في صحيح مسلم في عقوبة تارك الزكاة وأنه قال عليه الصلاة والسلام : " ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " (2) لقلنا بكفر تارك الزكاة كما قال به بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد رحمه الله .(172/55)
وأما السنة فقد دلت أيضاً عل كفر تارك الصلاة مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم - رحمه الله - من حديث جابر - رضي الله عنه - قال النبي صلى الله عليه وسلم :" بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة "(3) . وفي حديث بريدة الذي في السنن : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر "(4) .
وقد نقل بعض أهل العلم إجماع الصحابة - رضي الله عنهم - على كفر تارك الصلاة .
وعلى هذا فنقول : هذا الذي لا يصلي وهو يصوم لا ينفعه صومه ، لأن من شرط صحة الصيام : الإسلام ، وتارك الصلاة ليس بمسلم فلا ينفعه صوم ولا زكاة ، ولا حج ، بل ولا يجوز له دخول المسجد الحرام وحرم مكة ما دام على تركه الصلاة ، لأنه - والعياذ بالله – مرتد خارج عن الإسلام ويترتب على ترك الصلاة إضافة لما ذكرنا من عدم قبول أعماله الصالحة يترتب عليه إنه إن كان ذا زوجة فإن زوجته ينفسخ نكاحها منه ، وكذلك لا يجوز لأحد أن يزوجه ما دام لا يصلي ، وإذا مات فإنه لا يجوز أن يغسل ، أو يكفن ، أو يصلى عليه ، أو يدفن في مقابر المسلمين ، بل الواجب على أهله الذين يعلمون منه أنه لا يصلي إذا مات أن يخرجوا به بعيداً ويحفروا له حفرة فيدفنوه فيها ، لأنه ليس من المسلمين - نسأل الله العافية - كما أنه أيضاً إذا مات على هذه الحال فإن أقاربه لا يرثون منه ولا يحل لهم أن يرثوا شيئاً من ماله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الصحيح حديث أسامة بن زيد : " لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم "(1) . وهذا عام في الكافر الأصلي والكافر المرتد ، ثم إن تارك الصلاة إذا مات على ذلك فإنه يدخل النار - والعياذ بالله - ويخلد فيها كما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن من لم يحافظ عليهن - أي الصلوات الخمس - لم تكن له نوراً ولا برهاناً ، ولا نجاةً يوم القيامة وحشر مع فرعون ، وهامان ، وقارون ، وأبي بن خلف " (2). فالمسألة خطيرة في ترك الصلاة(172/56)
ولكنه للأسف الشديد أن كثيراً من المسلمين اليوم يتهاونون بالصلاة فيتركونها عمداً بدون عذر شرعي ثم يتصدقون وينفقون ويحجون وهذه كلها وكل الأعمال لا تقبل مع الكفر ، قال الله تعالى : ( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (3)فنصيحتي لأخواني أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ، وأن يعودوا إلى دينهم فيقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ( وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (1) . وهكذا أيضاً من يفرط في الوضوء فلا يتوضأ ويصلي بغير وضوء ، أو يفرط في الاستنجاء فلا يستنجي ، فإن بعض الناس يبول أو يتغوط ثم يقوم بدون استنجاء ولا استجمار شرعي فقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال : " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما : فكان لا يستتر من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة فأخذ جريدة رطبة فشقها نصفين فغرز في كل قبر واحدة " فقالوا : يا رسول الله لم فعلت هذا ؟ قال : " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا " (2). والله المستعان .
? ? ?(172/57)
47 سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – عن امرأة مات زوجها وهو شاب في حادث سيارة وأنه كان في صغره مستقيماً وحتى بعد زواجه لكن قبل وفاته بأربع سنوات كان لا يصلي ، ولا يصوم ، ولم يحج ، وكان جوابه إذا نصحته : اللى ما يهديه الله ما يهديه الناس وتسأل : هل مات كافراً ضالاً ؟ وهل تدعوا له بالرحمة والمغفرة ؟ وهل تقضي عنه الصلاة ، والصيام ، والحج ؟ وهل تذبح الذبيحة التي حلف أن يذبحها ؟ وهل هو شهيد لأنه مات بحادث ؟ وحكم تمني الموت لتلحق به ، وهل تحد عليه ؟(172/58)
فأجاب بقوله : إذا كان زوجك أيتها السائلة قد مات وهو لا يصلي ، ولا يصوم فقد مات كافراً – نعوذ بالله من حاله – لأن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة كما دلت على ذلك نصوص الكتاب ، والسنة ، وما روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وعلي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – قال عمر – رضي الله عنه - : " لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة " ، وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه - : " من لم يصل فهو كافر " ، وروى مثله عن جابر ، وقال بن مسعود : " من ترك الصلاة فلا دين له " . وقال بن عباس : " من ترك الصلاة فقد كفر " . ونقل القول بتكفير تارك الصلاة عن معاذ بن جبل ، وعبدالرحمن بن عوف ، وأبي هريرة ، وأبي الدرداء ، وغيرهم من الصحابة . وقال به الإمام أحمد بن حنبل – رحمه الله تعالى - ، وعلى هذا فلا يجوز لك أن تدعي له بالرحمة والمغفرة ، لأن الله تعالى يقول : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) (1). ويقول لنبيه صلى الله عليه وسلم في المنافقين : ( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ) (2). ولا يجوز لوالديه ولا لغيرهم أن يدعوا له بالمغفرة والرحمة ، لأن من مات كافراً فهو من أصحاب الجحيم ، بقول الله الذي لا يخلف ، فسؤال الله أن يغفر له اعتداء في الدعاء ، لأنه سؤال ما لا يمكن إجابته . ولا يجوز العطف والحنو على من مات وهو لا يصلي ، ولا أن يغسل، أو يكفن ، أو يصلى عليه ، أو يدفن في مقابر المسلمين ، لأنه ليس منهم ولا يحشر معهم ، وإنما يحشر مع أئمة الكفر فرعون ، وهامان ، وقارون ، وأبي بن خلف كما جاء في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الإمام أحمد بإسناد جيد (1) .(172/59)
والمسلم المؤمن بالله واليوم الآخر لا تحمله العاطفة على أن يفعل ما لا يرضي الله ، أو أن يحب ما لا يحبه الله . قال الله تعالى ( لاتجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ ) (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ألا إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء إنما وليي الله وصالح المؤمنين " (3) .رواه مسلم . وسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن رجل كان في الجاهلية يصل الرحم ويطعم المسكين فهل ذلك نافعه؟ قال : " لا ينفعه " (4) . وسأل عمرو بن العاص رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يقضي عن أبيه العاص نذراً كان عليه ؟ فقال : " أما أبوك فلو كان أقر بالتوحيد فصمت ، وتصدقت عنه ، نفعه ذلك " (5) .
وبناء على هذين الحديثين فلا تصلين عنه ، ولا تصومين ، ولا تحجين ، لأن الصلاة لا تقضى عن الميت ، والصيام ، والحج لا يقضيان عمن مات كافراً ، لأن العمل الصالح لا ينفع من مات على الكفر ، ولو كان من عمله هو ، فكيف إذا كان من عمل غيره ؟
وخلاصة الجواب عن سؤالك الذي ذكرت فيه أن زوجك مات بحادث وهو لا يصلي ولا يصوم من حوالي أربع سنوات إلى آخر ما ذكرت ما يلي :
1- أنه مات كافراً .
2- أنه لا يجوز لك ولا لغيرك أن تدعي له بالمغفرة والرحمة .
3- أنه لا يجوز أن تصلي عنه ، أوتصومي ، أو تحجي ، أو تقضي عنه الذبيحة التي حلف أن يذبحها
4- أن من مات بحادث وهو لا يصلي فليس بشهيد ، لأنه ليس بمسلم فضلاً عن أن يكون شهيداً .
5- أنه لا يجوز لمؤمن يخاف الله تعالى ان يعطف على من مات وهو لا يصلي ولو كان أقرب الناس له .(172/60)
ولا يجوز لك أن تتمنى الموت لنفسك وأطفالك عن قريب لتلحقي به ، بل الواجب عليك الإعراض عن التفكير فيه ، وأن تسألي الله لك ولأولادك الصلاح ، لأن هذا هو المهم ، أما من مات على الحال التي ذكرت فلا ينبغي أن يهتم به المؤمن .
6- أما الإحداد فلا أرى أنه يجب عليك ، وذلك لأن أهل العلم يقولون إن الزوج إذا ارتد عن الإسلام ولم يعد إليه قبل مضي زمن العدة بعد ردته فإنه ينفسخ نكاحه من حين ارتد ، وقد ذكرت أن لزوجك حوالي أربع سنوات وهو لا يصلي ولا يصوم ، وعلى هذا فلست زوجة له شرعاً من حين ترك الصلاة فلا يلزمك الإحداد حينئذ . هذا ما أراه والعلم عند الله تعالى . في 24/2/1403هـ .
? ? ?
48) وسئل فضيلة الشيخ : عن شخص ترك الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج وحلف أيماناً كثيرة لا يعلم عددها وكلها يحنث فيها وتكرر منه الطلاق ثم تاب من ذلك، فما الحكم في ذلك كله ؟
فأجاب قائلاً : أما بالنسبة للعبادات التي تركها في ذلك الوقت فإنه إذا تاب توبة نصوحاً إلى الله – عز وجل – غفر الله له ما سلف لقوله تعالى : ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (1).
وأما بالنسبة للأيمان فإن عليه أن يكفر كفارة يمين واحدة وتجزيء عن جميع الإيمان على المشهور من مذهب الإمام أحمد – رحمه الله – وذلك لأن الإيمان مهما تعددت فإن الواجب فيها شيء واحد وهو إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة ، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعة .
وذهب كثير من أهل العلم إلى أن الإيمان إذا كانت على أشياء متعددة فإن عليه لكل يمين كفارة ، وعلى هذا القول يجب على ذلك الشخص أن يتحرى الإيمان التي حلف بها وهي متباينة ويخرج عن كل يمين منها كفارة .(172/61)
وأما بالنسبة للطلاق الذي وقع منه فإن كان الطلاق أكثر من اثنتين فإن زوجته لا تحل له ، لأن الإنسان إذا طلق زوجته ثلاثاً فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ، لقوله تعالى : ( الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (1) . إلى أن قال سبحانه وتعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (2). فعليه إذا تيقن أنه طلقها ثلاثاً فأكثر أن يفارقها ولا تحل له حينئذ ومن ترك شيئاً لله عوضه خيراً منه .
? ? ?
رسالة
من محمد الصالح العثيمين إلى الأخ المكرم ...... حفظه الله تعالى .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد ، فقد اطلعت على الصورة التي أرسلتم مع الأخ ..... من فتاوى مجلة ..... فيمن تزوج بامرأة مسلمة وهو لا يصلي ، وأن المفتي ذكر أن الصحيح أن تارك الصلاة يفسق ولا يكفر ، وأن هذا ما تؤيده الأدلة الشرعية الواضحة ، وأنه لو فرض أن تارك الصلاة كافر فإنه إذا صلى فقد أسلم ، والكافر إذا أسلم لا يطلب منه إعادة عقد النكاح بل أنكحة غير المسلمين صحيحة .... الخ .(172/62)
والصواب أن تارك الصلاة يكفر لأدلة أصرحها ما ثبت في صحيح مسلم عن جابر – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (1) . وما رواه أهل السنن عن بريدة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، فمن تركها فقد كفر " (2). وهذا قول عمر بن الخطاب ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وأبي هريرة وغيرهم ذكره عنهم بن حزم وقال : ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة . وهذا مذهب الإمام أحمد بن حنبل وأحد قولي الشافعي . ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة يدخل الجنة ، أو أنه ينجو من النار ، أو أنه مؤمن ، أو أنه ليس بكافر ، فأين الأدلة الشرعية الواضحة التي تؤيد أنه يفسق ولا يكفر ؟! وغاية ما في ذلك عمومات مخصوصة بأدلة التكفير ، أو مقيدة بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة ، أو بحال يعذر فيها بترك الصلاة . فإذا قلنا أن تارك الصلاة كافر فإن تزوجه بمسلمة حرام بنص القرآن ، قال الله تعالى : ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (1).
وهذا أعني نكاح الكافر المسلمة محرم بإجماع المسلمين ، وقال في المغني 130/8 في باب المرتد : " وإن تزوج لا يصح تزوجه ، لأنه لا يقر على النكاح ، وما منع الإقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة " ، وقال في مجمع الأنهر للحنفية 302/1 : " ولا يصح تزوج المرتد ولا المرتدة أحداً لإجماع الصحابة – رضوان الله عليهم أجمعين – " اهـ .(172/63)
وهذا ليس كالكافر إذا تزوج كافرة ثم أسلما فإن الصحيح أن أنكحة الكفار صحيحة ويقرون عليها إذا أسلموا ولم يكن مانع النكاح قائماً ، والفرق بين هذا وبين تارك الصلاة المتزوج مسلمة : أن الزوج والزوجة في هذا كلاهما كافر من أصله فهو زواج كافر بكافرة ، أما تارك الصلاة فهو زواج كافر مرتد بمسلمة فافترقت المسألتان حقيقة ، واختلفتا حكماً والله يحفظكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
? ? ?
49) وسئل فضيلته : إذا تزوجت امرأة برجل لا يصلي ، أو تزوج رجل بامرأة لا تصلي فما الحكم ؟
فأجاب بقوله : إذا تزوجت امرأة برجل لا يصلي ، أو تزوج رجل بامرأة لا تصلي فإن النكاح بينهما باطل لا تحل به المرأة ، لأن تارك الصلاة كافر كما دل على ذلك كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الصحابة – رضي الله عنهم – وعلى هذا فلا يحل للمسلمة أن تتزوج بشخص لا يصلي ولا يحل للمسلم أن يتزوج بامرأة لا تصلي . لقوله تعالى في المهاجرات : ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (1) . فمن تزوجت برجل لا يصلي فهي حرام عليه ، ويجب عليها أن تمنعه من نفسها وتحاول التخلص منه بقدر ما تستطيع ، فإن تاب وصلى وجب إعادة العقد من جديد إن رضيت الزوجة بذلك .
أما إذا تزوجت برجل يصلي ثم ترك الصلاة فإن النكاح ينفسخ ولا يحل لها أن تبقى معه ولو كان لها أولاد منه ، لأن أولادها في هذه الحال يتبعونها ولا حق لأبيهم في حضانتهم ، لأنه كافر ، ولا حضانة لكافر على مسلم ، فإن هداه الله تعالى وصلى عادت إليه زوجته على حسب التفصيل المعروف عند أهل العلم .(172/64)
وإني أحث جميع إخواني المسلمين على تقوى الله – عز وجل – فيمن ولاهم الله عليهن من النساء ، وأن لا يخاطروا فيهن كما يفعله بعض الناس الآن يزوج إبنته أو نحوها بشخص لا يصلي ويقول لعل الله يهديه في المستقبل فإن هذا حرام عليه ، والمستقبل غير معلوم ، وربما يكون الأمر بالعكس فيجرها إلى التهاون بالصلاة وإضاعتها .
أسأل الله لي ولإخواني المسلمين التوفيق لما يحب ويرضى .
حرر في 20/3/1410 هـ .
? ? ?
50) سئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته - : ماذا يجب على الزوج إذا كانت زوجته تصوم ولا تصلي ؟
فأجاب بقوله : يجب على الزوج أن يفارقها وذلك لأن تركها للصلاة موجب للكفر المخرج عن الملة فتكون كافرة بترك الصلاة والكافرة لا تحل للمؤمن لقوله تعالى : ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ) (1) . وقال تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ) (2) . وقال تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر) (3) . فالواجب عليك أيها الزوج أن لا تمسك بعصمة هذه المرأة لأنها كافرة ، وليس لها الحق في حضانة أولادها لأنه لا ولاية لكافر على مسلم .(172/65)
وأنني أقول لتلك المرأة إن صيامها لرمضان غير مقبول وليس لها منه إلا التعب والعناء وذلك لأن الكافر لا يقبل منه أي عمل صالح قال الله تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (4). وقال تعالى : ( وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (5) . وقال سبحانه وتعالى : ( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه ِ) (1) .فإذا كانت النفقات ونفعها متعدي لا تقبل فكيف بالعبادات الخاصة التي لا تتعدى فاعلها ، والحاصل أن تلك المرأة قد انفسخ عقد نكاحها إلا أن تتوب إلى الله وترجع إلى الإسلام وتصلي فإن رجعت وصلت فهي زوجة له .
? ? ?
51) وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله - : إذا تاب تارك الصلاة فهل عليه الغسل والتلفظ بالشهادتين ؟
فأجاب بقوله : إذا ترك الإنسان الصلاة على وجه يكفر به ثم تاب إلى الله ورجع فإنه يغتسل لأنه تاب من الكفر ، وينبغي لمن دخل في الإسلام بعد الكفر أن يغتسل ، إما وجوباً ، أو استحباباً على الخلاف في ذلك ، وأما الشهادتان فلا حاجة لأن يذكرهما لأنه يعترف بهما ، والعلماء يقولون من كانت ردته بشيء معين فإن دخوله في الإسلام بفعل ذلك الشيء المعين إن كان كفره بتركه ، وبتركه إن كان كفره بفعله .
? ? ?
52) سئل فضيلة الشيخ – غفر الله له ورفع درجته - : عن من ترك الصلاة والصيام ثم تاب إلى الله فماذا يلزمه ؟
فأجاب قائلاً : هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم فيمن ترك العبادات المؤقتة حتى خرج وقتها بدون عذر ، فمنهم من قال : إنه يجب عليه القضاء ومنهم من قال : إنه لا يجب عليه القضاء .(172/66)
مثال ذلك : رجل ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها بدون عذر أو لم يصم رمضان عمداً حتى خرج وقته بدون عذر فمن أهل العلم من يقول : إنه يجب عليه القضاء ، لأن الله تعالى أوجب على المسافر والمريض القضاء فإذا أوجب الله القضاء على المعذور فغيره من باب أولى ، وثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها "(1). فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على من نسيها حتى خرج وقتها ، وأوجب على من نام عنها حتى خرج وقتها أن يقضيها ، قالوا : فإذا وجب القضاء على المعذور فغير المعذور من باب أولى .
والقول الثاني في المسألة : أنه لا يجب القضاء على من ترك عبادة مؤقتة حتى خرج وقتها بدون عذر ، وذلك لأن العبادة المؤقتة عبادة موصوفة أن تقع في ذلك الزمن المعين ، فإذا أخرجت عنه بتقديم أو تأخير فإنها لا تقبل ، فكما أن الرجل لو صلى قبل الوقت لم تقبل منه على أنها فريضة ، ولو صام قبل رمضان لم يقبل منه على أنه فريضة ، فكذلك إذا أخر الصلاة عن وقتها بدون عذر فإنها لا تقبل منه ، وكذلك لو أخر صيام رمضان بدون عذر فإنه لا يقبل منه ، وهذا القول هو الراجح وذلك لأن الإنسان إذا أخرج العبادة عن وقتها وعملها بعده فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (2) وإذا كان عمله مردوداً فإن تكليفه بقضائه تكليف بما لا فائدة منه ، وعلى هذا السائل أن يتوب إلى الله توبة صادقة نصوحاً ، ويكثر من الأعمال الصالحة ، والتوبة تجب ما قبلها كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم...
53) سئل فضيلة الشيخ عن إنسان لا يصلي ولا يصوم وتاب فهل يقضي ما ترك ؟(172/67)
فأجاب بقوله : ما مضى من الطاعات التي تركها من صيام ، وصلاة ، وزكاة وغيرها لا يلزمه قضاؤها ، لأن التوبة تجب ما قبلها ، فإذا تاب إلى الله وأناب إليه وعمل عملاً صالحاً فإن ذلك يكفيه عن إعادة هذه الأعمال ، وهذا أمر ينبغي أن نعرفه وهو أن القاعدة " أن العبادة المؤقتة بوقت إذا أخرجها الإنسان عن وقتها بلا عذر فإنها لا تنفع ولا تجزيء " مثل الصلاة ، والصيام لو تعمد الإنسان أن لا يصلي حتى خرج الوقت فجاء يسأل هل يجب علي القضاء ؟ قلنا له : لا يجب عليك ، لأنك لن تنتفع به لأنه مردود عليك ، ولو أن أحد أفطر يوما من رمضان وجاء يسألنا هل يجب علي ً قضاؤه ؟ قلنا له : لا يجب عليك القضاء ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) . والإنسان إذا أخر العبادة المؤقتة عن وقتها ثم أتى بها بعد الوقت فقد عمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم فتكون باطلة ولا تنفعه . ولكن قد يقول قائل : إذا كان الشارع أمر بالقضاء عند العذر – كالنوم – فمع عدم العذر من باب أولى .
فنقول في الجواب : الإنسان المعذور يكون وقت العبادة في حقه إذا زال عذره ، فهو لا يؤخر العبادة عن وقتها ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في الصلاة إذا نسيها : " فليصلها إذا ذكرها ".أما من تعمد ترك العبادة حتى خرج وقتها فقد أداها في غير وقتها المحدد فلا تقبل منه .
? ? ?
54)سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله – عن من ترك الصلاة عمداً ثم تاب هل يقضي ما ترك ؟
فأجاب بقوله : من ترك الصلاة عمداً ثم تاب إلى الله ورجع إليه فقد اختلف أهل العلم هل يجب عليه قضاء ما ترك من الصلوات ، أو لا يجب ؟ على قولين لأهل العلم .(172/68)
والذي يترجح عندي ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – أن من ترك الصلاة متعمداً حتى خرج وقتها فإنه لا ينفعه قضاؤها ، وذلك لأن العبادة المؤقتة بوقت لابد أن تكون في نفس الوقت المؤقت ، فكما لا تصح قبله لا تصح كذلك بعده ، لأن حدود الله يجب أن تكون معتبرة ، فهذه الصلاة فرضها الشارع علينا من كذا إلى كذا هذا محلها ، فكما لا تصح الصلاة في المكان الذي لم يجعل مكاناً للصلاة ، كذلك لا تصح في الزمان الذي لم يجعل زماناً للصلاة ، لكن على من ترك الصلاة أن يكثر من التوبة والإستغفار والعمل الصالح وبهذا نرجو أن الله تعالى يعفو عنه ويغفر له ما ترك من صلاة ، والله الموفق .
? ? ?
55) سئل فضيلة الشيخ : إذا تاب تارك الصلاة فهل تعاد له زوجته ؟ وماذا يجب عليه لما مضى ؟ وما حكم أولاده قبل ذلك ؟
فأجاب قائلاً : هذا السؤال يشتمل على ثلاث نقاط :
الأولى : إذا أسلم تارك الصلاة وتاب وأخلص لله – عز وجل – فهل تعود زوجته إليه ؟
نقول : إذا كان تركه الصلاة قبل الدخول والخلوة الموجبة للعدة فإن النكاح ينفسخ ولا تحل له إلا بعقد جديد ، وإذا كان حدوث ذلك بعد الدخول أو الخلوة الموجبة للعدة فإن الأمر يقف على انقضاء العدة ، إن حصلت له التوبة قبل انقضاء العدة فهي زوجته ، وإن حصلت بعد انقضاء العدة فأكثر أهل العلم يرون أنها لا تحل له إلا بعقد جديد ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها تحل له إذا رجع إليها ، وأن انقضاء العدة يسقط سلطانه عليها ولا يحرمها عليه لو عاد إلى الإسلام ، فبناء على هذين الحالين يتبين حكم هذا الرجل بالنسبة لرجوعه إلى زوجته .
النقطة الثانية : ماذا يجب عليه لما مضى ؟ نقول : إن التوبة تجب ما قبلها لقوله تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) (1) . وقال النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن العاص : " إن الإسلام يهدم ما قبله " (2).(172/69)
النقطة الثالثة : في أولاده فإن كان يعتقد أن النكاح باق لكونه مقلداً لمن لا يرى الكفر بترك الصلاة ، أو كان لا يعلم أن تارك الصلاة يكفر فإن أولاده يكونون له ويلحقون به ، وأما إذا كان يعلم أن ترك الصلاة كفر ، وأن الزوجة لا تحل له مع ترك الصلاة ، وأن وطأه لها وطء محرم فإن أولاده لا يلحقون به في هذا الحال .
وبعد فإن المسألة من المسائل الكبيرة التي ابتلي بها بعض الناس اليوم نسأل الله لنا ولهم السلامة والعاقبة الحميدة .
? ? ?
56) سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى – عن رجل ترك الصلاة ثلاثة أسابيع لعدم استطاعته الوضوء بسبب البرد الشديد والثلج ؟
فأجاب بقوله : هذا الفعل الذي صدر منك خطأ وجهل ، والواجب عليك أن تصلي على حسب استطاعتك ، فإذا كان هناك برد وثلج ولا يمكنك الوضوء فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل بدل الماء التراب ، قال تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (1) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً،فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل"(2) .
فإذا حان وقت الصلاة وجب عليك أن تصلي ، إن كنت قادراً على استعمال الماء فذلك هو المطلوب ، وإلا فعليك بالتراب فإنه يكفيك ، ويجب عليك أن تتوب إلى الله عز وجل ، وأن تقضي صلوات الأيام التي تركتها مع الصدق في التوبة والاستغفار .
? ? ?
57) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله : هل يكفر من ترك صلاة واحدة بغير عذر ؟ وإذا تاب هل يقضي ما ترك ؟(172/70)
فأجاب قائلاً : من ترك صلاة عمداً بغير عذر فإنه لا يخرج من الإسلام إلا بترك الصلاة تركاً كلياً ، أما في صلاة واحدة فلا يكفر على القول الراجح إلا من تركها تركاً مطلقاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " (1) .ولم يقل ترك صلاة ، وكذلك قوله صلى الله عليه سلم : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (2) . وليس عليه قضاء ما دام تركها بغير عذر ، وإنما عليه أن يتوب إلى الله عز وجل ، وإذا تاب توبة نصوحاً ، فإن الله يقول : ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) (3).
? ? ?
58 وسئل فضيلة الشيخ : بعض المرضى يترك الصلاة بحجة عدم استطاعة الوضوء ونجاسة الملابس ، فما حكم هذا العمل ؟(172/71)
فأجاب قائلاً : هذا العمل جهل وخطر ، فإن الواجب علىالمؤمن أن يقيم الصلاة في وقتها بقدر استطاعته ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : " صلى الله عليه وسلم قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب "(4) . وقال الله تعالى في القرآن : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (5). فجعل الله للمريض الذي لا يستطيع استعمال الماء جعل الله له بدلاً بالتيمم ، وكذلك بالنسبة للصلاة فالرسول عليه الصلاة والسلام جعلها مراحل ، فقال : " صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب " . فيجب على المريض أن يتوضأ أولاً، فإن لم يستطع تيمم ، ثم يجب أن يصلي قائماً، فإن لم يستطع فقاعداً يوميء بالركوع والسجود ويجعل السجود أخفض إذا لم يستطع السجود ، فإن كان يتمكن من السجود سجد ، فإن لم بستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنب ويوميء بالركوع والسجود ، فإن لم يستطع الحركة إطلاقاً لكن قلبه يعقل فإنه ينوي الصلاة ينوي الأفعال ، ويتكلم بالأقوال ، فمثلاً يكبر ويقرأ الفاتحة ، فإذا وصل إلى الركوع نوى أنه ركع ، وقال الله أكبر ، وسبح سبحان ربي العظيم ، ثم قال سمع الله لمن حمده ، ونوى الرفع ، وهكذا بقية الأفعال ، ولا يجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها ، حتى لو فرض أن عليه نجاسة في بدنه ، أو في ثوبه ، أو في الفراش الذي تحته ولم يتمكن من إزالتها فإن ذلك لا يضره فيصلي على حسب حاله لقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (1). والله الموفق .
? ? ?
59) وسئل فضيلة الشيخ : عن مريض قبل وفاته بأربعة أيام ترك الصلاة لعدم قدرته على الحركة ، ولعدم قدرته على الوضوء ولعدم قدرته على أداء الصلاة فهل تقضى عنه الصلاة ؟(172/72)
فأجاب بقوله : الصلاة لا تقضى عن المريض إذا مات ، ولكن أنصح السائل وغيره فأقول : إن هذه المشكلة تواجه كثيراً من المرضى تجده يكون متعباً من مرضه ، ولا يجد ماءً يتوضأ به ، ولا يجد تراباً يتيمم به ، وربما تكون ثيابه ملوثة بالنجاسة فيفتي نفسه في هذه الحال أنه لا يصلي وأنه بعد أن يبرأ يصلي ، وهذا خطأ عظيم ، والواجب على المريض أن يصلي بحسب حاله ، بوضوء إن أمكن ، فإن لم يمكن فيتيمم ، فإن لم يمكن فإنه يصلي ولو بغير تيمم ثم يصلي وثيابه طاهرة ، فإن لم يكن صلى بها ولو كانت نجسة ، وكذلك بالنسبة للفراش إذا كان طاهراً ، فإن لم يكن تطهيره ولا إزالته وإبداله بغيره ولا وضع ثوب صفيق عليه فإنه يصلي عليه وإن كان نجساً.وكذلك بالنسبة لاستقبال القبلة يصلي مستقبل القبلة ، فإن لم يكن يستطع صلى بحسب حاله .والمهم أن الصلاة لا تسقط ما دام العقل ثابتاً فيفعل ما يمكنه ، حتى ولو فرض أنه لا يستطيع الحركة لا برأسه ولا بعينه فإنه يصلي بقلبه . وأما الصلاة بالإصبع كما يفعله العامة فهذا لا أصل له فإن بعض العوام يصلي بأصبعه ، وهذا ليس له أصل لا من السنة ، ولا من كلام أهل العلم .
فالمهم أنه يجب على المريض أن يصلي بحسب حاله لأن الله يقول : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " (2).
? ? ?
6060 ) سئل فضيلته : عن حكم بقاء المرأة المتزوجة مع زوج لا يصلي وله أولاد منها ؟ وحكم تزويج من لا يصلي ؟(172/73)
فأجاب بقوله : إذا تزوجت امرأة بزوج لا يصلي مع الجماعة ولا مع غير الجماعة فإنه لا نكاح بينهما ، ولا تكون زوجة له لتركه للصلاة ، ولا يجوز لها أن تمكنه من نفسها ، وليس له الحق في أن يستبيح منها ما يستبيحه الرجل من زوجته ؛ لأنها امرأة أجنبية منه ، ويجب عليها في هذه الحال أن تتركه وتذهب إلى أهلها ، وأن تحاول قدر ما تستطيع التخلص من هذا الرجل ؛ لأنه كافر بتركه الصلاة .
فعليه نقول ونرجو أن يعلم كافة المسلمين أن أي امرأة زوجها لا يصلي لا يجوز لها أن تبقى معه ، حتى لو كان لها أولاد منه ؛ فإن الأولاد في هذه الحال سيتبعونها ولا حق لأبيهم بحضانتهم ؛ لأنه لا حضانة لكافر على مسلم ، وعلى المسلم الذي يخاف الله أن يعلم أن من عقد زواجاً لابنته على رجل لا يصلي فإن العقد باطل وغير صحيح ، حتى ولو كان على يد مأذون شرعي ، فإن من الناس من يخفي الواقع على المأذون فاتقوا الله في نسائكم ولا تعرضوهن للتجارب كما يفعل بعض الناس الآن ، يزوج ابنته على من لا يصلي ويقول لعل الله يهديه فقد قال الله تعالى : ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ
وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ) (1). أما من تاب وأقام الصلاة فإنه يعقد له عقد جديد ، والله الهادي إلى سواء السبيل .
? ? ?
6161 ) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم الشخص الذي لا يصلي إطلاقاً ؟
الجواب : الذي لا يصلي مرتد عن الإسلام كافر بالله تعالى كفراً مخرجاً عن الملة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل وبين الكفر والشرك ترك الصلاة " (2) . رواه مسلم . وهناك أدلة أخرى لا نطيل بذكرها .
ويترتب على تركه الصلاة أمور دنيوية وأمور أخروية :
أما الأمور الدنيوية فمنها :
1 - أنه يجب على ولاة الأمور أن يدعوه إلى الصلاة فإن تاب مخلصاً لله تعالى وصلى تاب الله عليه وإلا وجب قتله كافراً مرتداً 0(172/74)
2 - لا يحل لأحد أن يزوجه ، فإن زوجه فالنكاح باطل لا تحل به الزوجة 0
3 - تحرم عليه زوجته التي معه ، وينفسخ نكاحها منه فيجب عليها مفارقته حتى يرجع إلى الإسلام 0
4 - لا تحل ذبيحته ولا تؤكل بينما ذبيحة اليهودي والنصراني تحل وتؤكل 0
5 - إذا مات أحد من أقاربه فإنه لا شيء له من ميراثه ، وإذا مات هو لم يرثه أحد من قرابته بل يصرف ماله إلى صندوق الدولة لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يرث المسلم الكافر ، ولا الكافر المسلم " (1) .
6 - لا يحل له دخول حرم مكة وهو ما كان داخل الأميال 0
7 - لا يقبل له عمل صالح من صدقة ، ولا صيام ، ولا حج ولا غيره 0
8 - إذا مات لا يغسل، ولا يكفن، ولا يصلى عليه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، ولا يدعى له بالرحمة والمغفرة ، ولا يحل لأحد من أهله يعلم حاله أن يقدمه إلى المسلمين ليصلوا عليه ، أو يدفنه في مقابرهم ، وإنما يخرج به إلى مكان فيحفر له ويدفنه 0
وأما الأمور الأخروية المترتبة على ترك الصلاة فمنها :
1 - العذاب الدائم في قبره كما يعذب الكافرون أو أشد
2 - أنه يحشر يوم القيامة مع فرعون ، وهامان ، وقارون ، وأبي بن خلف .
3 - أنه يدخل النار فيها أبد الآبدين .
? ? ?
62 ) وسئل فضيلته : عن رجل لا يصلي الصلاة إطلاقاً مع إقراره بوجوبها ويصوم رمضان لكنه لا يصلي هل يحكم بإسلامه ؟
فأجاب بقوله : الصلاة أمرها عظيم وشأنها كبير ، وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين بإجماع أهل العلم ، وورد الوعيد الشديد في إضاعتها في الكتاب والسنة ، ولا أظن أن أحداً يؤمن بفرضيتها وتأكدها والوعيد على إضاعتها ثم يتركها مع أنها عمل يسير سهل موزع في اليوم والليلة ولا يتركها إلا أحد رجلين:
إما شاك في فرضيتها ، أو معاند أعظم عناد لله ورسوله .(172/75)
ومن زعم أنه مقر بوجوبها ، أو قال إنه مقر بوجوبها ولكنه لم يصل فهو كافر وإن كان يصوم ويحج ويزكي لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (1) . رواه مسلم . وقال : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (2) . رواه الخمسة ، وقال عبد الله بن شقيق : " كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " (3) . رواه الترمذي . وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه -:لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة (1) . – يعني لا نصيب له – وقال الإمام أحمد في حديث : آخر ما تفقدون من دينكم الصلاة . قال : كل شيء ذهب آخره لم يبق منه شيء فإذا ذهبت صلاة المرء ذهب دينه . وقال بن حزم : وقد جاء عن عمر وعبدالرحمن بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة – رضي الله عنهم – أن من ترك صلاة فرضٍ واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد ، ولا نعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفاً. وزاد المنذري : عبدالله بن مسعود ، وابن عباس ، وجابر بن عبدالله ، وأبا الدرداء ، وهذا المذكور في هذا الحديث كفر مخرج عن الإسلام . وقال ابن رجب في شرح الأربعين : وأما إقام الصلاة فقد وردت أحاديث متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام . قلت : ولهذا لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأمراء الذين نعرف منهم وننكر قالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما صلوا " (2) . فجعل الصلاة مانعة من قتالهم ، فإذا لم يصلوا جاز قتالهم ، ولا يجوز قتالهم إلا إذا كفروا كما في حديث عبادة بن الصامت قال : " بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان " (3) . وإذا تبين كفر تارك الصلاة فإنه لا يقبل منه عمل وتنفسخ منه زوجته فلا تحل له لقول الله تعالى في المهاجرات المؤمنات : ( فَلا(172/76)
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنّ) (4). وإذا مات لا يغسل ، ولا يكفن ، ولا يصلي عليه ، ولا يدفن مع المسلمين بل يحفر له في مكان ويدفن ، ولا يدعى له بالرحمة والمغفرة ، ولا يورث ماله بل يصرف إلى بيت المال فيجب الحذر كل الحذر من ترك الصلاة والتهاون بها ، لأن الأمر عظيم والخطب جسيم نسأل الله السلامة والهداية .
? ? ?
63) وسئل فضيلته : عن رجل متزوج من امرأة وله منها أربع بنات ولكنها لا تصلي علماً أنها تصوم رمضان ، وحينما طلب منها أن تصلي أفادت بأنها لا تعرف الصلاة ، ولا تعرف القراءة ، فما الحكم ؟
فأجاب بقوله : ذكرت أن زوجتك لا تصلي ولكنها تصوم ، وأنك إذا أمرتها بالصلاة تقول إنها لا تعرف القراءة ، والواجب عليك حينئذ أن تعلمها القراءة إذا لم يقم أحد بتعليمها ، ثم تعلمها كيف تصلي ما دام عذرها الجهل ، فإن من كان عذره الجهل فإنه يزول بالتعليم فعلمها وأرشدها إلى ذلك ، ثم إن أصرت على ترك الصلاة بعد العلم فإنها تكون كافرة والعياذ بالله ، وينفسخ نكاحها ، فإن لم تحسن القراءة فإنها تذكر الله وتسبحه وتكبره ثم تستمر في صلاتها ويكون هذا الذكر بدلاً عن القراءة حتى تتعلم ما يجب عليها .
? ? ?
64) وسئل فضيلته: عمن ترك الصلاة في السنين الأولى من عمره هل يقضي ؟
فأجاب بقوله : هذه المسألة من المسائل الكبيرة الهامة ، والعلماء مختلفون فيها :(172/77)
فجمهورهم قالوا : يجب عليه قضاء جميع الصلوات التي تركها بعد البلوغ ولو كانت أكثر من خمسين سنة ، وهذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والشافعي ، وأحمد ، فجميع هؤلاء الأئمة الأربعة متفقون على أنه يجب عليه قضاء ما فاته بعد بلوغه ، وحجتهم : أن هذا الشخص بالغ عاقل مسلم ملتزم لأحكام الإسلام ، والصلاة من أوجب واجبات الإسلام ، بل هي أعظم أركانه بعد الشهادتين ، ولم يقم دليل على أن تأخيرها عن وقتها مسقط لوجوبها ، بل لو كان تأخيرها عن الوقت عمداً مسقطاً لوجوبها لكان فيه فتح باب للتلاعب وإضاعة الصلاة ، وهذا الشخص إذا صح أنه تائب فإن من تمام توبته أن يقضي ما وجب عليه في ذمته ، كالدين لآدمي إذا أنكره ثم ندم وتاب فإنه لا يبرأ منه إلا بدفعه إلى صاحبه ، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من نام عن الصلاة أو نسيها أن يصليها إذا ذكرها أو استيقظ (1) ، فإذا كان هذا في حق النائم أو الناسي وهما معذوران فكيف بحال المستيقظ الذاكر المتعمد لتركها أفلا يكون أولى بالأمر بالقضاء ممن كان معذوراً ؟ وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما شغله المشركون عام الخندق عن الصلاة صلاها بعد الغروب (2) ، فدل ذلك على وجوب قضاء الصلاة إذا فاتت ، فهذه أربعة أدلة على وجوب القضاء مجملها كما يلي :
1- أنه شخص بالغ عاقل مسلم ملتزم لأحكام الإسلام فوجب عليه قضاء الصلاة إذا فوتها ، كما يجب عليه أداؤها في الوقت .
2- أنه شخص عاص لله ورسوله على بصيرة فلزمته التوبة ومن تتمتها أن يقضي ما فاته من الواجب .
3- أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب على المعذور بنوم أو نسيان قضاء ما فاته من الصلوات فغير المعذور من باب أولى .
4- أن النبي صلى الله عليه وسلم انشغل بالجهاد عن الصلاة في غزوة الخندق فقضاها بعد فوات وقتها فغير المشغول بالجهاد من باب أولى .(172/78)
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إلى عدم وجوب القضاء على من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها ، وقال : إنه لو صلى آلاف المرات عن الصلاة الماضية التي فوتها باختياره عمداً لم تنفعه شيئاً ، ولكن يجب عليه أن يحقق التوبة واللجوء إلى الله ويكثر من الاستغفار والنوافل،والتوبة تجب ما قبلها وتهدمه ، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له ، وفي هذا مصلحة للتائب وتسهيل عليه وترغيب له في التوبة ، فإنه ربما يستصعب التوبة إذا علم أنه لا تقبل توبته حتى يقضي صلاة ثلاثين سنة ونحوها والله تعالى يحب من عباده أن يتوبوا إليه ، وقد يسر لهم باب التوبة وفتحه لهم ، وأزال العوائق دونه ، ورغبهم في دخوله غاية الترغيب . واستدل لمذهب شيخ الإسلام رحمه الله تعالى بأدلة منها :
1 - أن الله فرض الصلاة على المؤمنين ، ووقتها بوقت محدود لا يصح فعلها قبله بإجماع العلماء ، فلو صلى الظهر قبل الزوال ، أو المغرب قبل الغروب ، أو الفجر قبل طلوع الفجر لم تصح صلاته بإجماع المسلمين ، فكذلك إذا صلاها بعد الوقت فقد أخرجها عن وقتها المحدد ، فما الذي يجعلها تصح بعد الوقت ولا تصح قبله مع أن الوقت محدد أوله وآخره .
2- وأن جبريل صلى بالنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت وآخره وقال:يا محمد الصلاة ما بين هذين الوقتين (1) يعني أول الوقت وآخره . وقال تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (2) .
3- وأنه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (3) . فمفهوم هذا الحديث أن من أدرك أقل من ركعه فإنه لم يدرك ، فكيف بمن أخرج الصلاة كلها عن الوقت فإنه غير مدرك لها فلا تنفعه ، وإذا لم تنفعه فلا فائدة من إلزامه بفعلها .(172/79)
4- وأيضاً فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (4) . أي مردود عليه ، ومصلي الصلاة بعد خروج وقتها بلا عذر قد عمل عملاً ليس عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بل فيه نهيه الشديد ، وإذا كان كذلك صارت صلاته بعد الوقت مردودة إذا لم يكن معذوراً بالتأخير لأنها مخالفة لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، والمردود لا فائدة منه سوى العناء وإضاعة الوقت بلا فائدة ، فهذه أربعة أدلة لما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية في عدم وجوب قضاء الصلاة لمن أخرجها عن وقتها بلا عذر ونجمل هذه الأدلة فيما يأتي :
1- قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1). أي فرضاً محدداً بوقت والمحدد بوقت كما لا يصح قبله لا يصح بعده بلا عذر وإلا لما كان لتحديد آخره فائدة سوى تحريم التأخير .
2- أن جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم في أول الوقت وآخره وقال : " يا محمد الصلاة ما بين هذين الوقتين " (2) .
3- قوله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (3) . وكذلك في الصبح فمفهوم الحديث أن من لم يدرك ركعة لم يدرك الصلاة .
4- قوله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (4) . والصلاة بعد الوقت بلا عذر ليس عليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بل فيها نهيه الشديد فتكون مردودة .
وقد أجاب شيخ الإسلام عن أدلة الجمهور بما يلي :(172/80)
1- عن الدليل الأول : بأنه صحيح شخص بالغ مسلم ملتزم لأحكام الإسلام ولكن إلتزامه مقيد بالحدود الشرعية فإذا أتى بالعمل على غير الوجه المشروع لم يكن ملتزماً فلا يكون عمله صحيحاً وإذا لم يكن صحيحاً فأي فائدة في إلزامه به ، وليس هناك دليل على إلزام الشخص بعمل مردود لا فائدة فيه ؛ لأن إلزامه بمثل هذا عبث تأباه حكمة الشرع . نعم لو قدر أن في إلزامه بذلك مصلحة لردعه عن تكرر الترك لكان إلزامه بقضاء ما فاته لهذه المصلحة قولاً حسناً كما قال الجمهور .
2- وعن الدليل الثاني : أنا لا نسلم أن من تمام التوبة قضاء ما فاته بعد خروج وقته بل تصح توبته وإن لم يقض ، لأنه فات وقته ، وقد أخبر الله تعالى عمن تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً بأنه تعالى يبدل سيئاته حسنات وكان الله غفوراً رحيماً .
وأيضاً فإن عدم إلزامه بالقضاء قد يكون أقرب إلى تحقيق توبته وتمامها ؛ لأنه يجد الباب أمامه مفتوحاً والطريق سهلاً فيتشوق إلى التوبة ويفرح بها ويراها نعمة من الله عليه أن يسر له التوبة وسهلها من غير تعب ولا مشقة ، وإذا قدر أن همته كبيرة وعزيمته قوية وأنه سيقدم على قضاء ما فاته فربما تصغر همته وتضعف عزيمته بعد الشروع في القضاء خصوصاً إذا كثرت الفوائت ، وكثرت الشواغل فتثقل عليه التوبة وينغلق عليه بابها .
إذن فالقول بعدم وجوب قضاء ما فاته أقرب إلى تمام التوبة وتحقيقها من القول بوجوب القضاء .
وأما قياس ذلك على من عليه دين فأنكره ثم تاب فإنها لا تصح توبته حتى يقضيه : فهذا قياس فاسد غير صحيح لأن قضاء الدين ليس لوقته آخر متى قضاه بريء منه ، بخلاف الصلاة فإن وقتها محدود ابتداء ونهاية والقياس الصحيح أن نقول : كما أن الجمعة إذا أخرها الناس حتى خروج وقتها فإنها لا تصح منهم جمعة فكذلك بقية الصلوات ؛ لأن الكل مؤقت بوقت ولا دليل للتفريق بين الجمعة وغيرها .(172/81)
3- وعن الدليل الثالث : أت المعذور بنوم أو نسيان حتى خرج وقت الصلاة يصليها متى زال عذره ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل حقها في وقت المعذور هو وقت زوال عذره ، فالمعذور إذا صلى الصلاة حين زوال عذره فقد صلاها في وقتها الذي حدده رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله : " فليصلها إذا ذكرها " (1). وإذا كانت صلاته إياها في الوقت فقد وقعت على الوجه المأمور به فتكون صحيحة مقبولة .
4- وعن الدليل الرابع : ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الخندق حيث أخر صلاة النهار إلى ما بعد الغروب فلأنه كان مشغولاً بالجهاد ولذلك قال : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر " (2) ، فيكون تأخيرها حتى خرج الوقت لعذر ، فوقتها وقت زوال العذر ، وأيضاً ففعله صلى الله عليه وسلم ذلك كان قبل مشروعية صلاة الخوف على رأي كثير من أهل العلم ، ولما شرعت صلاة الخوف صار المسلمون يصلونها في وقتها .
ونحن نفرق بين المعذور وغيره فنقول : المعذور يصليها إذا زال عذره ولو بعد الوقت ، وإما غير المعذور فلا تصح منه بعد الوقت ، وإلا لما كان لتحديد الوقت فائدة سوى تحريم التأخير ؛ ولأنها بعد الوقت غير موافقة لأمر الله ورسوله وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . من هذا تبين أن للعلماء فيها رأيين :
أحدهما: وجوب القضاء وهو رأي الجمهور وقد ذكرنا أدلتهم التي نعرفها .
الثاني : عدم وجوب القضاء وأنه يكفي تحقيق التوبة ، والإكثار من الاستغفار والعمل الصالح ، وهو رأي شيخ الإسلام ابن تيمية ، وهو الراجح لقوة دليله . والله أعلم .
? ? ?
65) وسئل فضيلة الشيخ : ما حكم موالاة الذي لا يصلي إلا يوم الجمعة ، وإذا كانت المقاطعة ضرراً على العائلة ، فهل يجوز مقاطعته ؟(172/82)
فأجاب بقوله : أولاً : إذا قلنا بأن الرجل لا يكفر إلا بترك الصلاة بالكلية ، فإن هذا الذي لا يصلي إلا يوم الجمعة لا يكفر ؛ لأنه لم يتركها مطلقاً ، وإن قلنا بأنه يكفر بترك الصلاة الواحدة أو الصلاتين يجمع أحدهما إلى الأخرى ، فإن هذا يكون كافراً .فمتى حكمنا بالكفر فإنه يجب هجره ومقاطعته ، بل يجب أن يستتاب فإن تاب وإلا قتل ، أما إذا لم نحكم بكفره فإنه يبقى غير كافر ويكون هجره وعدم هجره مبنياً على مصلحة ، فإن وجدنا مصلحة في هجره هجرناه ، وإن لم نجد مصلحة فإننا لا نهجره .
? ? ?
66) وسئل فضيلته عن رجل لا يصلي ، ولكنه يعمل أعمالاً صالحه فما الحكم ؟
فأجاب بقوله : الرجل الذي يفعل الخير فيتصدق ويحسن العشرة ، ويحسن الخلق ، ويصل الرحم وغير ذلك لكنه لا يصلي فلا ينفعه هذا كله عند الله ، قال تعالى : ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) (1). وقال تعالى : ( وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِه) (2). ومع أن النفقات نفعها متعد إلا أنهم لم تقبل منهم ؛ لأنهم كفروا بالله . وكل كافر مهما عمل من الخير فلا ينفعه عند الله تعالى .
ويجب أن نعرف الفرق بين المرتد وبين الكافر الأصلي ، فالكافر الأصلي يمكن أن نتركه على دينه ولا نقول له شيئاً ، أما المرتد فنطالبه بالرجوع إلى الإسلام فإن أبى فقد وجب قتله ولا يجوز أن يبقى على ظهر الأرض ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من بدل دينه فاقتلوه " (1) ، والكافر الأصلي قد تكون له أحكام كحل ذبيحته مثل أهل الكتاب ، أما تارك الصلاة فلا تحل ذبيحته ولو سمى وأنهر الدم فذبيحته ميتة خبيثة .
? ? ?
67) وسئل فضيلته : عن امرأة زوجها لا يصلي فهل تطلب الطلاق منه ، مع العلم أنها ليس لها عائل غيره ؟(172/83)
فأجاب بقوله : إذا كان الزوج لا يصلي مع الجماعة فهو فاسق والزوجة تحل له ، أما إذا كان لا يصلي أبداً ونصحته زوجته بالصلاة فأصر فهو كافر مرتد عن الملة ، لا تحل له زوجته ، ولا يجوز أن تبقى معه ، ولا يحل هو لها ، ويجب عليها الامتناع منه ، ولتذهب هي وأولادها إلى أهلها ، ولا ولاية له ولا حضانة على الأولاد ، لقول الله تعالى:( وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (2). فهذا في الآخرة وكذلك في الدنيا .
وقد نص العلماء على ذلك كما في زاد المستقنع : " ولا حضانة لكافر على مسلم " . وعلاج هذا الداء سهل وهو أن يسلم الرجل ويدخل في دينه فيصلي ، وإلا فالحل الفراق .
والدليل على كفره كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكلام السلف الصالح والنظر الصحيح ؛ فالأدلة في ذلك سمعية وعقلية .
أما الكتاب ، فقوله تعالى عن المشركين : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (1) . أي فإن لم يتوبوا من الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فليسوا إخواناً لنا في الدين ، ومن المعلوم أن الأخوة في الدين لا تنتفي إلا بالكفر،ولا تنتفي بالمعاصي مهما عظمت ، حتى قتل المؤمن عمداً فقد قال الله فيه : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ) (2). فجعل القاتل أخاً للمقتول . ومقاتلة المسلمين وهي من أعظم الذنوب قال الله فيه : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ) (3). ولو كان ترك الصلاة معصية وكبيرة فقط لو تنتف به الأخوة الإيمانية ، وعلى هذا فترك الصلاة مخرج من الملة بمقتضى هذه الآية الكريمة .
فإن قيل : هذه الآية فيها أيضاً عدم إيتاء الزكاة وأنه ينفي الأخوة الإيمانية ، فهل تقول بذلك ؟(172/84)
فالجواب : لولا وجود ما يمنع من ذلك لقلنا به ، وهو ما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار وأحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه وظهره ، كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضيين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار"(1) . ومن المعلوم أنه إن كان يمكن أن يرى سبيله إلى الجنة فليس بكافر .
ومن السنة : ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (2) . فجعل ترك الصلاة فاصلاً بين الإيمان والكفر ، ومن المعلوم أن الفاصل يخرج المفصول بعضه عن بعض ويقطع الاتصال نهائياً . فإما صلاة وإما كفر .
وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (3) .ومن كلام الصحابة قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : " لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة " (4) . والحظ هو النصيب ، والحظ منفي هنا بلا النافية التي تمنع أي شيء من منفيها ، فلاحظ قليل ولا كثير من الإسلام لتارك الصلاة .وكذلك قول عبد الله بن شقيق التابعي الثقة : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة " (5) .وهذا حكاية إجماع .وقد حكى إجماع الصحابة على كفر تارك الصلاة إسحاق بن راهويه .
أما النظر : فلأن كل إنسان لا يصلي مع علمه بأهمية الصلاة في الإسلام ، وأنها ثاني أركانه ، وأن لها من العناية حين فرضها ، وحين أدائها ما لا يوجد في عبادة أخرى ، لا يمكن أن يدعها مع ذلك وفي قلبه شيء من الإيمان .(172/85)
وليس الإيمان مجرد التصديق بوجود الله وصحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فالتصديق بهذا كان موجوداً حتى في الكفار وقد شهد بذلك أبو طالب ، لكن لابد أن يستلزم الإيمان القبول للخبر والإذعان ، فإذا لم يكن إذعان ولا قبول فلا إيمان . وعلى هذا فتارك الصلاة كافرخارج عن الملة إذا مات فلا يغسل ولا يكفن ، ولا يصلى عليه ، ولا يدفن في مقابر المسلمين ، ولا يدعى له بالرحمة ؛ لأنه خالد في نار جهنم ، فهو كافر كفراً أكبر ، نسأل الله لنا ولكم السلامة .أما الذي يصلي ويترك ، فهذا موضع خلاف بين العلماء القائلين بكفر تارك الصلاة :
فمنهم من كفره بفرضين . ومنهم من كفره بترك فرض واحد . ومنهم من قال : إذا كان أكثر وقته لا يصلي فهو كافر .والذي يظهر أنه لا يكفر إلا إذا كان لا يصلي أبداً ، فإن كان يصلي الجمعة أو رمضان ننظر: فإن كان يفعل ذلك لعدم اعتقاد وجوب غيرهما فهو كافر ، لا لترك الصلاة وإنما لإنكار الوجوب ، وإنكار الوجوب لا يشترط فيه الترك، فلو أنكر رجل وجوب الصلاة فهو كافر وإن صلى.
وبهذا يتبين خطأ من حمل الأحاديث الواردة في كفر تارك الصلاة على تاركها جحوداً لوجوبها ، لأن ذلك لا يصح طرداً ولا عكساً ، فمن جحد وجوبها كفر وإن صلى ، ومن جهة العكس لا يصح ؛ لأن الحديث دل على كفر تاركها فإذا ألغينا هذا الوصف واعتبرنا وصفاً لم يعتبره الشرع بل ألغاه فلا يصح .(172/86)
وقد أورد البعض على هذا حديث عبادة بن الصامت : " خمس صلوات فرضهن الله على عباده من أتى بهن فأتم ركوعهن وسجودهن ووضوءهن أدخله الله الجنة ، ومن لم يأت بهن لم يكن له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له " (1)وهذا الحديث لا يقابل الأحاديث الدالة على كفره في الصحة ومعلوم أنه عند التعارض يقدم الأقوى . وكذلك فلا يدل هذا الحديث على المراد ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " فأتم ركوعهن وسجودهن ووضوءهن " . ومن لم يأت بهن على هذا الوصف أي وصف التمام فليس له عهد . فنفى الإتيان منصب على الإتيان على وجه التمام ؛ لأنه المذكور في أول الحديث ، أما من لم يأت بهن أبداً فالأدلة واضحة في كفره .
أما قول المرأة إنها ليس لها من يعولها فهذا من ضعف توكلها على الله ، فإن الله تعالى يعول خلقه ، وقد قال سبحانه : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِب ) (2) . وقال : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً 4) (1). فلتستعن بالله ولتفارق هذا الزوج الذي لا يصلي وسيجعل الله لها فرجاً ومخرجاً .
? ? ?
68) سئل فضيلة الشيخ عن رجل كان لا يصلي مطلقاً لثلاث سنوات مضن وتاب فهل يقضي ؟
فأجاب بقوله : لا قضاء عليه فيما مضى لوجهين :
الأول : أن ترك الصلاة ردة عن الإسلام يكون به الإنسان كافراً على القول الراجح الذي تدل عليه نصوص الكتاب والسنة . وعلى هذا فإن رجوعه إلى الإسلام يمحو ما قبله لقوله تعالى : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ) (2).
الوجه الثاني : أن من ترك عبادة مؤقتة حتى خرج وقتها دون عذر شرعي كالصلاة والصيام ثم تاب فإنه لا يقضي ما ترك لأن العبادة المؤقتة محدودة من قبل الشارع بحد أول وآخر .(172/87)
وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . ولا يرد على هذا مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " (4) . وقوله تعالى في الصيام : ( وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (5). لأن التأخير هنا للعذر وقضاء المعذور بعد الوقت كالأداء في أجره وثوابه .
وعلى هذا فلا يلزمك أيها الأخ قضاء ما تركته من واجبات مدة السنوات الثلاث التي ذكرتها
? ? ?
69 ) وسئل فضيلته : هناك اهتمام خاص عند كثير من الناس بالصلاة خاصة في رمضان دون غيره ، فبماذا تنصحهم ؟
فأجاب بقوله : أنصحهم بأن يتقوا الله سبحانه وتعالى في جميع أوقاتهم في رمضان وغيره ؛ لأن الإنسان مأمور بعبادة الله إلى الموت . قال تعالى : ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ 99) (1).
? ? ?
70) وسئل فضيلته : كثير من الآباء لا يهتمون بتربية أولادهم وخاصة من الناحية الدينية ، فيقصرون بحجة التعب بعد عناء العمل ، وما رأيكم فيمن يدعون الإسلام وهم قلما صاموا رمضان أو تذكروا الصلاة ؟(172/88)
فأجاب قائلاً : الواجب على المؤمن أن يهتم بتربية أولاده اهتماماً بالغاً ليكون ممتثلاً لقول الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يؤْمَرُونَ) (2). وليقم بالمسئولية التي حملها إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " الرجل راع في أهله ، ومسئول عن رعيته " (3) . ولا يحل له أن يهملهم بل عليه أن يؤدبهم بحسب أحوالهم وبحسب جرائمهم ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع ، واضربوهم عليها لعشر " (1) . وليعلم أن هذه الأمانة التي حملها سوف يسأل عنها يوم القيامة ، فليعد الجواب الصواب حتى يتخلص من هذه المسئولية ، وسيجني ثمار ما عمل : إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وربما يعاقب به في الدنيا فيبتلى بأولاد يسيئون إليه ويعقونه ولا يقومون بحقه .
وأما رأينا فيمن يدعون الإسلام وهم قلما صاموا رمضان أو تذكروا الصلاة: فإن كان هؤلاء الذين لا يصومون رمضان يعتقدون أن الصيام ليس بواجب وأنه إنما هو رياضة بدنية إن شاء الإنسان صامه وإن شاء أفطره فهؤلاء كفار ؛ لأنهم جحدوا فريضة من فرائض الإسلام وهم غير معذورين بجهلها لكونهم يعيشون في بيئة إسلامية .
وإما إن كانوا لا يصومون رمضان مع اعتقادهم أنه فريضة وواجب وأنهم بذلك عصاة ، فإنهم لا يكفرون على القول الراجح من أقوال أهل العلم .
وأما الصلاة فإن كانوا لا يصلون أبداً فهم كفار ، سواء أقروا بوجوبها أو أنكروا وجوبها ، والدليل على كفرهم أدلة من كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم وقد سبق شيء من ذلك .(172/89)
ولم يرد في الكتاب ولا في السنة أن تارك الصلاة ليس بكافر ، أو أنه مؤمن ، أو أنه يدخل الجنة ، أو أنه لا يدخل النار ونحو ذلك ، وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وثواب ذلك ، وهي إما مقيدة بوصف لا يمكن معه ترك الصلاة ، وإما واردة في أحوال معينة يعذر فيها الإنسان بترك الصلاة ، وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة ؛ لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة ، والخاص مقدم على العام كما هو معروف في أصول الفقه ومصطلح الحديث .
فإن قال قائل : ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحداً لوجوبها ؟
قلنا : لا يجوز ذلك ؛ لأن فيه محذورين :
المحذور الأول : إلغاء وصف اعتبره الشارع وعلق الحكم به ، فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود ، ورتب الأخوة في الدين على إقامة الصلاة دون الإقرار بوجوبها . ولم يقل الله تعالى ( فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة ) ، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ( بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة ، فمن جحد وجوبها فقد كفر ) ، ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيان الذي جاء به القرآن . قال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (1). وقال تعالى مخاطباً نبيه : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (2) .
المحذور الثاني : اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطاً للحكم ، فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواء صلى أم ترك ، فلو صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل شروطها وأركانها وواجباتها ومستحباتها لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه كان كافراً مع أنه لم يتركها .(172/90)
فتبين بذلك أن حمل النصوص على من تركها جاحداً لوجوبها غير صحيح ، وأن الحق أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً من الملة ، كما جاء ذلك صريحاً فيما رواه بن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تتركوا الصلاة عمداً ، فمن تركها عمداً متعمداً فقد خرج من الملة " (1) . وأيضاً فإننا لو حملناه على ترك الجحود لم يكن لتخصيص الصلاة في النصوص فائدة ، لأن هذا الحكم عام في الصلاة والزكاة والحج مما علم وجوبه بالضرورة من الدين ، فمن ترك منها واحداً جحداً لوجوبه كفر إن كان غير معذور بجهل .
وكما أن كفر تارك الصلاة مقتضى الدليل السمعي الأثري ، فهو مقتضى الدليل العقلي النظري ، فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هي عمود الدين ، وجاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يقوم بها ويبادر إلى فعلها ؟! وجاء من الوعيد على تركها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها ، فتركها مع قيام هذا المقتضى لا يبقي إيماناً مع التارك . وجمهور الصحابة – رضي الله عنهم – حكى غير واحد إجماعهم على كفر تارك الصلاة ، قال عبد الله بن شقيق : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة "(1). رواه الترمذي والحاكم وصححه على شرطهما، وقال الإمام اسحاق بن راهويه الإمام المعروف : " صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر "(172/91)
وذكر بن حزم أنه قد جاء عن عمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة – رضي الله عنهم أجمعين - ،قال:"ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة " . نقله عنه المنذري في الترغيب والترهيب ، وزاد من الصحابة عبد الله بن مسعود ، وعبد الله بن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وأبا الدرداء – رضي الله عنهم – قال : ومن غير الصحابة : أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وعبد الله بن المبارك ، والنخعي ، والحكم بن عتيبة ، وأيوب السختياني ، وأبو داود الطيالسي ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب وغيرهم ، قلت : وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، وهو أحد قولي الشافعي كما ذكره بن كثير في تفسيره لقوله تعالى : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (2). وذكر بن القيم في كتابه الصلاة أنه أحد الوجهين في المذهب الشافعي وأن الطحاوي نقله عن الشافعي نفسه .
فإن قيل : ما الجواب عما استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة ؟
قلنا : الجواب عن ذلك أن ما استدل به هؤلاء فإما أن لا يكون فيه دلالة أصلاً ، وإما أن يكون مقيداً بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة ، وإما أن يكون مقيداً بحال يعذر فيها بترك الصلاة ، وإما أن يكون عاماً مخصوصاً بأدلة تكفير تارك الصلاة – فلا تخرج الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة عن هذه الأحوال الأربع .(172/92)
وهذه المسألة من أهم المسائل وأعظمها ، والواجب على الإنسان أن يتقي الله تعالى في نفسه ، وأن يحافظ على الصلاة حتى يكون ممن قال الله فيهم : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) (1).
? ? ?
71) وسئل فضيلة الشيخ : عن شاب مستقيم ولكنه يتعب كثيراً في عمله حتى إنه لا يستطيع أن يصلي الفجر في وقتها من شدة التعب والإرهاق ؟
فأجاب بقوله : الواجب عليه أن يدع العمل الذي يكون سبباً في تأخير صلاة الفجر ؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد إذا كان يعرف أنه لو ترك الإجهاد تمكن من صلاة الفجر فالواجب عليه أن لا يجهد نفسه حتى يصلي الفجر في وقتها مع المسلمين .
? ? ?
72)72) وسئل فضيلة الشيخ : عن رجل عنده الاستعداد التام للقيام لصلاة الفجر فيضع جميع الأسباب لكن لا يقوم للصلاة ، فما نصيحتكم له ؟ وهل هو آثم في ذلك ؟
فأجاب قائلاً : يجب عليه أن يعمل كل الأسباب التي تجعله يصلي الفجر جماعة ، ومن ذلك أن ينام مبكراً ، لأن بعض الناس يتأخر في النوم ولا ينام إلا قبيل الفجر ثم لا يتمكن من القيام ، ولو وضع المنبه ، ولو أمر من ينبهه ، لذلك نحن ننصح هذا وأمثاله بأن يناموا مبكرين حتى يقوموا نشيطين ويصلوا جماعة .
أما هل هو آثم ؟ نعم هو آثم إذا كان هذا بسببه سواء كان بتأخره في المنام أو كان ذلك بترك الاحتياط بالاستيقاظ فإنه آثم .
? ? ?
73) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم من فاتته صلاة الفجر جماعة مع المسلمين بسبب إيقاظ أبنائه ؟ وبماذا تنصحه ؟(172/93)
فأجاب بقوله : أنصحه بأن يوقظ أبنائه قبل الآذان حتى يتمكن من صلاة الجماعة ، ولا يحل له أن يدع صلاة الجماعة من اجل إيقاظ أبنائه ، وعلاج ذلك أن يتقدم بإيقاظهم في وقت يتمكن من إيقاظهم ، وإدراك الجماعة ، أما أن يدعهم حتى يؤذن ثم يقوم فيوقظهم ، وهم قد يكونون كثيرين ، وقد يكونون ثقيلي النوم فهذا تفريط منه .
? ? ?
74) سئل فضيلة الشيخ:ما حكم من يؤدي الصلوات في جماعة دون صلاة الفجر ؟
فأجاب قائلاً : هو آثم بتركه أداء صلاة الفجر مع الجماعة ، ويجب عليه أن يتوب إلى الله ، وأن يؤدي صلاة الفجر مع الجماعة ويخشى على من هذه حاله من النفاق ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً " (1) . متفق عليه .
? ? ?
75) وسئل فضيلته : ما هي النصيحة العامة التي توجهها للرجال والنساء جميعاً في شأن صلاة الفجر خاصة ؟
فأجاب بقوله: أنصح كل إنسان مسلم أن يحافظ على صلاة الفجر وغيرها؛ لأن الصلاة هي عمود الدين وهي أوكد العبادات بعد الشهادتين ومن تركها فقد كفر، ومن أضاعها فهو على خطر ، قال تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً *إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ ) (2). فإن تاب هؤلاء وآمنوا وعملوا صالحاً فإنه يرجى لهم أن يكونوا ممن وعدهم الله بقوله : ( فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (3).
? ? ?
76) وسئل فضيلة الشيخ : إذا كان معي في العمل شخص لا يصلي ، وقد حاولت معه كل المحاولات ، ولم أستطع ، فماذا يجب علي تجاهه ؟(172/94)
فأجاب بقوله : إذا قمت بما يجب عليك من النصيحة فإنما إثمه على نفسه ، وأنت لم تجتمع به في بيتك حتى تقول : إن هذا إكرام له ، ولم تجتمع في بيته أيضاً حتى تقول : إن هذه إجابة دعوة له ، وإنما اجتمعت به في مكان عام له ولغيره ، ولكنني أحثك على أن تواصل نصيحته فلعل الله أن يهديه فتكون سبباً في هدايته ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب : " لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم " (1) .
? ? ?
77) وسئل فضيلة الشيخ : عن واجب الأسرة نحو الأبناء تاركي الصلاة ؟
فأجاب بقوله : إذا كان عندهم أولاد لا يصلون ، فالواجب عليهم أن يلزموهم بالصلاة؛ إما بالقول والأمر، وإما بالضرب لقوله صلى الله عليه وسلم : "واضربوهم عليها لعشر " (2) . فإن لم يفد معهم الضرب فإنه يرفع بهم إلى الجهات المسئولة في الدولة – وفقها الله – من أجل إلزامهم بأدائها ، ولا يحل السكوت عنهم ، فإن ذلك من باب الإقرار على المنكر ؛ لأن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة ، فتارك الصلاة كافر مخلد في النار، فلا يجوز إذا مات على ذلك أن يغسل ، أو يصلى عليه ، أو يدفن في مقابر المسلمين . نسأل الله السلامة .
? ? ?
رسالة في حكم تارك الصلاة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له،ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد ، فإن كثيراً من المسلمين اليوم تهاونوا بالصلاة وأضاعوها حتى تركها بعضهم تركاً مطلقاً تهاوناً ، ولنا كانت هذه المسألة من المسائل العظيمة الكبرى التي أبتلي بها الناس اليوم واختلف فيها علماء الأمة وأئمتها قديماً وحديثاً أحببت أن أكتب فيها ما تيسر .
ويتلخص في تحرير ثلاث مقامات :(172/95)
المقام الأول : في حكم تارك الصلاة .
المقام الثاني : في حكم تزويجه بمسلمة .
المقام الثالث : في حكم أولاده منها .
فأما المقام الأول : فإن هذه المسألة من مسائل العلم الكبرى وقد تنازع فيها أهل العلم سلفاً وخلفاً فقال الإمام أحمد بن حنبل : تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة يقتل إذا لم يتب ويصلِ . وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : فاسق ولا يكفر ، ثم اختلفوا فقال مالك والشافعي يقتل حداً. وقال أبو حنيفة : يعزر ولا يقتل .
وإذا كانت هذه المسألة من مسائل النزاع فالواجب ردها إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى : ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ) (1) . وقوله ( فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (2). ولأن كل واحد من المختلفين لا يكون قوله حجة على الآخر ؛ لأن كل واحد يرى أن الصواب معه ، وليس أحدهما أولى بالقبول من الآخر ، فوجب الرجوع في ذلك إلى حكم بينهما وهو كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
وإذا رددنا هذا النزاع إلى الكتاب والسنة وجدنا أن الكتاب والسنة كلاهما يدل على كفر تارك الصلاة الكفر الأكبر المخرج عن الملة .
أما الكتاب : فقوله تعالى في سورة التوبة : ( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (3). وقوله في سورة مريم : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (4).(172/96)
فوجه الدلالة من الآية الثانية آية سورة مريم أن الله قال في المضيعين للصلاة المتبعين للشهوات ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَن )َ . فدل على أنهم حين إضاعتهم للصلاة واتباع الشهوات غير مؤمنين .
ووجه الدلالة من الآية الأولى أية سورة التوبة أن الله تعالى اشترط لثبوت الأخوة بيننا وبين المشركين ثلاثة شروط : أن يتوبوا من الشرك وأن يقيموا الصلاة ، وأن يؤتوا الزكاة ، فإن تابوا من الشرك ولم يقيموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوة لنا ، وإن أقاموا الصلاة ولم يؤتوا الزكاة فليسوا بإخوة لنا ، والأخوة في الدين لا تنتفي إلا حيث يخرج المرء من الدين بالكلية فلا تنتفي بالفسوق والكفر دون الكفر .
ألا ترى إلى قوله تعالى في آية القصاص من القتل : ( فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ) (1). فجعل الله القاتل عمداً أخاً للمقتول ، مع أن القتل عمداً من أكبر الكبائر لقوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (2) .
ثم ألا ترى إلى قوله تعالى في الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا : ( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) إلى قوله : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُم ْ) (3). فأثبت الله تعالى الأخوة بين الطائفة المصلحة والطائفتين المقتتلتين مع أن قتال المؤمن من الكفر كما ثبت في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن بن مسعود – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (4) . لكنه كفر لا يخرج من الملة إذ لو كان مخرجاً من الملة ما بقيت الأخوة الإيمانية معه ، والآية الكريمة قد دلت على بقاء الأخوة الإيمانية مع الاقتتال .(172/97)
وبهذا علم أن ترك الصلاة كفر مخرج عن الملة إذ لو كان فسقاً أو كفراً دون كفر ما انتفت الأخوة الدينية به كما لم تنتف بقتل المؤمن وقتاله .
فإن قال قائل : هل ترون كفر تارك إيتاء الزكاة كما دل عليه مفهوم آية التوبة ؟
قلنا : كفر تارك إيتاء الزكاة قال به بعض أهل العلم وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – ولكن الراجح عندنا أنه لا يكفر ، لكنه يعاقب بعقوبة عظيمة ذكرها الله تعالى في كتابه ، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في سنته ، ومنها ما في حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عقوبة مانع الزكاة وفي آخره : " ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار "(1) ، وقد رواه مسلم بطوله في باب إثم مانع الزكاة وهو دليل على أنه لا يكفر إذ لو كان كافراً ما كان له سبيل إلى الجنة ، فيكون منطوق هذا الحديث مقدماً على مفهوم آية التوبة لأن المنطوق مقدم على المفهوم كما هو معلوم في أصول الفقه .
وأما دلالة السنة على كفر تارك الصلاة فقوله صلى الله عليه وسلم : " إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة " (2) . رواه مسلم في كتاب الإيمان عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وعن بريدة بن الحصيب – رضي الله عنه – قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر " (1). رواه أحمد ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه .
والمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة فصلاً بين المؤمنين والكافرين ، ومن المعلوم أن ملة الكفر غير ملة الإسلام فمن لم يأت بهذا العهد فهو من الكافرين .(172/98)
وفي صحيح مسلم عن أم سلمة – رضي الله عنها – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ستكون أمراء فتعرفون وتنكرون ، فمن عرف بريء ، ومن أنكر سلم ، ولكن من رضي وتابع " . قالوا : أفلا نقاتلهم ؟ قال : " لا ما أقاموا فيكم الصلاة " (2) .
وفيه من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم ، ويصلون عليكم وتصلون عليهم ، وشرار ائمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم ، وتلعنونهم ويلعنونكم " . قيل يا رسول الله أفلا ننابذهم بالسيف ؟ قال : " لا ما أقاموا فيكم الصلاة " (3) .
ففي هذين الحديثين دليل على منابذة الولاة وقتالهم بالسيف إذا لم يقيموا الصلاة ، ولا تجوز منازعة الولاة وقتالهم إلا إذا أتوا كفراً صريحاً عندنا فيه برهان من الله تعالى لقول عبادة بن الصامت – رضي الله عنه - : دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا ، وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله .
قال : " إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان " (1) . وعلى هذا فيكون تركهم للصلاة الذي علق عليه النبي صلى الله عليه وسلم منابذتهم وقتالهم بالسيف كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان .
ولم يرد في الكتاب والسنة أن تارك الصلاة ليس بكافر ، أو أنه مؤمن ، وغاية ما ورد في ذلك نصوص تدل على فضل التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وثواب ذلك ، وهي إما مقيدة بقيود في نفس النص يمتنع معها أن يترك الصلاة ، وإما واردة في أحوال معينة يعذر الإنسان فيها بترك الصلاة ، وإما عامة فتحمل على أدلة كفر تارك الصلاة ؛ لأن أدلة كفر تارك الصلاة خاصة والخاص مقدم على العام .
فإن قال قائل : ألا يجوز أن تحمل النصوص الدالة على كفر تارك الصلاة على من تركها جاحداً لوجوبها ؟
قلنا : لا يجوز ذلك لأن فيه محذورين :(172/99)
الأول : إلغاء الوصف الذي اعتبره الشارع وعلق الحكم به ، فإن الشارع علق الحكم بالكفر على الترك دون الجحود ، ورتب الأخوة في الدين على إقام الصلاة دون الإقرار بوجوبها لم يقل الله تعالى : ( فإن تابوا وأقروا بوجوب الصلاة ) ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم ( بين الرجل وبين الشرك والكفر جحد وجوب الصلاة ) . ( أو العهد الذي بيننا وبينهم الإقرار بوجوب الصلاة فمن جحد وجوبها فقد كفر ) . ولو كان هذا مراد الله تعالى ورسوله لكان العدول عنه خلاف البيان الذي جاء به القرآن قال الله تعالى : ( ِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء ) (2) . وقال تعالى مخاطباً نبيه : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (1).
المحذور الثاني : اعتبار وصف لم يجعله الشارع مناطاً للحكم فإن جحود وجوب الصلوات الخمس موجب لكفر من لا يعذر بجهله فيه سواء صلى أم ترك ، فلو صلى شخص الصلوات الخمس وأتى بكل ما يعتبر لها من شروط وأركان وواجبات ومستحبات لكنه جاحد لوجوبها بدون عذر له فيه لكان كافراً مع أنه لم يتركها . فتبين بذلك أن حمل النصوص على من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها غير صحيح ، وأن الحق أن تارك الصلاة كافر كفراً مخرجاً عن الملة كما جاء ذلك صريحاً فيما رواه بن أبي حاتم في سننه عن عبادة بن الصامت – رضي الله عنه – قال أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تشركوا بالله شيئاً ولا تتركوا الصلاة عمداً فمن تركها عمداً متعمداً فقد خرج من الملة " (2) .
وكما أن هذا مقتضى الدليل السمعي الأثري فهو مقتضى الدليل العقلي النظري فكيف يكون عند الشخص إيمان مع تركه للصلاة التي هي عمود الدين وجاء من الترغيب في فعلها ما يقتضي لكل عاقل مؤمن أن يحذر من تركها وإضاعتها ؟! فتركها مع قيام هذا المقتضى لا يبقى إيماناً مع التارك .(172/100)
فإن قال قائل : ألا يحتمل أن يراد بالكفر في تارك الصلاة كفر النعمة لا كفر الملة ؟ أو أن المراد به كفر دون الكفر الأكبر ؟ فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم :" اثنتان في الناس هما بهما كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت " (1) . وقوله : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " (2) . ونحو ذلك .
قلنا : هذا الاحتمال والتنظير له لا يصح لوجوه :
الأول : أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة حداً فاصلاً بين الكفر والإيمان ، وبين المؤمنين والكفار ، والحد يميز المحدود ويخرجه عن غيره ، فالمحدودان متغايران لا يدخل أحدهما في الآخر .
الثاني : أن الصلاة ركن من أركان الإسلام فوصف تاركها بالكفر يقتضي أنه الكفر المخرج من الإسلام ؛ لأنه هدم ركناً من أركان الإسلام بخلاف إطلاق الكفر على من فعل فعلاً من أفعال الكفر .
الثالث : أن هناك نصوصاً أخرى دلت على كفر تارك الصلاة كفراً مخرجاً عن الملة فيجب حمل الكفر على ما دلت عليه لتتلاءم النصوص وتتفق .
الرابع : أن التعبير بالكفر مختلف ففي ترك الصلاة قال : " بين الرجل وبين الشرك والكفر " فعبر ب ( ال ) الدالة على أن المراد بالكفر حقيقة الكفر بخلاف كلمة – كفر – منكراً ، أو كلمة – كفر – بلفظ الفعل فإنه دال على أن هذا من الكفر أو أنه كفر في هذه الفعلة، وليس هو الكفر المطلق المخرج عن الإسلام .(172/101)
قال شيخ الإسلام بن تيمية في كتاب( اقتضاء الصراط المستقيم ) ص70 ط السنة المحمدية على قوله صلى الله عليه وسلم:" اثنتان في الناس هما بهم كفر " (1). قال : فقوله : " هما بهم كفر " أي هاتان الخصلتان هما كفر قائم بالناس ، فنفس الخصلتين كفر حيث كانتا من أعمال الكفر ، وهما قائمتان بالناس ، لكن ليس كل من قام به شعبة من شعب الكفر يصير بها كافراً الكفر المطلق حتى تقوم به حقيقة الكفر ، كما أنه ليس كل من قام به شعبة من شعب الإيمان يصير بها مؤمناً حتى يقوم به أصل الإيمان وحقيقته ، وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " ليس بين العبد وبين الكفر والشرك إلا ترك الصلاة " (2) . وبين كفر منكر في الإثبات اهـ كلامه .
فإذا تبين أن تارك الصلاة بلا عذر كافر كفراً مخرجاً عن الملة بمقتضى هذه الأدلة كان الصواب فيما ذهب إليه الإمام أحمد بن حنبل وهو أحد قولي الشافعي ذكره ابن كثير في تفسير قوله تعالى : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ) (3). وذكر بن القيم في كتاب الصلاة أنه أحد الوجهين في مذهب الشافعي وأن الطحاوي نقله عن الشافعي نفسه .(172/102)
وعلى هذا القول جمهور الصحابة بل حكى غير واحد إجماعهم عليه ، قال عبد الله بن شقيق : " كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة " (4) ، رواه الترمذي والخمسة وصححه على شرطهما . وقال إسحاق بن راهويه الإمام المعروف " صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر " ، وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يخرج وقتها كافر ، وذكر بن حزم أنه قد جاء عن عمر، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة قال : " ولا نعلم لهؤلاء مخالفاً من الصحابة " نقله عنه المنذري في الترغيب والترهيب وزاد من الصحابة : عبد الله بن مسعود ، وعبدالله بن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وأبا الدرداء – رضي الله عنهم – قال : ومن غير الصحابة أحمد بن حنبل ، وإسحاق بن راهويه ، وعبدالله بن المبارك ، والنخعي ، والحكم بن عتيبة ، وأيوب السختياني ، وابو داود الطيالسي ، وأبو بكر بن أبي شيبة ، وزهير بن حرب وغيرهم اهـ .
فإن قال قائل : ما الجواب عن الأدلة التي استدل بها من لا يرى كفر تارك الصلاة ؟
قلنا : الجواب أن هذه الأدلة لم يأت فيها أن تارك الصلاة لا يكفر ، أو أنه مؤمن ، أو أنه لا يدخل النار ، أو أنه في الجنة ونحو ذلك ، ومن تأملها وجدها لا تخرج عن أربعة أقسام كلها لا تعارض أدلة القائلين بأنه كافر .(172/103)
القسم الأول : ما لا دليل فيه أصلاً للمسألة مثل استدلال بعضهم بقوله تعالى : ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) (1) . فإن معنى قوله ( مَا دُونَ ذَلِكَ ) ما هو أقل من ذلك ، وليس معناه ما سوى ذلك بدليل أن من كذب بما أخبر الله به ورسوله فهو كافر كفراً لا يغفر وليس ذنبه من الشرك ولو سلمنا أن معنى ( مَا دُونَ ذَلِكَ )ما سوى ذلك لكان هذا من باب العام المخصوص بالنصوص الدالة على الكفر بما سوى الشرك ، والكفر المخرج عن الملة من الذنب الذي لا يغفر وإن لم يكن شركاً .
القسم الثاني : عام مخصوص بالأحاديث الدالة على كفر تارك الصلاة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل : " ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار " (1).
وهذا أحد ألفاظه وورد نحوه من حديث أبي هريرة ، وعبادة بن الصامت ، وعتبان بن مالك – رضي الله عنهم - .(172/104)
القسم الثالث : عام مقيد بما لا يمكن معه ترك الصلاة مثل قوله صلى الله عليه وسلم في حديث عتبان بن مالك : " فإن الله حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله " (2) . كما رواه البخاري . وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ : " ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار " (3) . كما رواه البخاري ، فتقييد الإتيان بالشهادتين بإخلاص القصد وصدق القلب يمنع من ترك الصلاة ، إذ ما من شخص يصدق في ذلك ويخلص إلا حمله صدقه وإخلاصه على فعل الصلاة ولابد ، فإن الصلاة عمود الإسلام ، وهي الصلة بين العبد وربه ، فإذا كان صادقاً في ابتغاء وجه الله فلابد أن يفعل ما يوصله إلى ذلك ، ويتجنب ما يحول بينه وبينه ، وكذلك من شهد أن لا إله إلا الله ،وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه فلابد أن يحمله ذلك الصدق على أداء الصلاة مخلصاً بها لله تعالى ، متبعاً فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن ذلك من مستلزمات تلك الشهادة الصادقة .(172/105)
القسم الرابع : ما ورد مقيداً بحال يعذر فيها بترك الصلاة كالحديث الذي رواه ابن ماجه عن حذيفة بن اليمان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب " .... الحديث ، وفيه : " وتبقى طوائف من الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة : لا إله إلا الله فنحن نقولها " فقال له صلة : ما تغني عنهم لا إله إلا الله وهم لا يدرون ما صلاة ، ولا صيام ، ولا نسك ، ولا صدقة ؟ فأعرض عنه حذيفة ، ثم ردها عليه ثلاثاً كل ذلك يعرض عنه حذيفة ، ثم أقبل عليه في الثالثة فقال : " يا صلة تنجيهم من النار " ثلاثاً (1) . فإن هؤلاء الذين أنجتهم الكلمة من النار كانوا معذورين بترك شرائع الإسلام ، لأنهم لا يدرون عنها فما قاموا به هو غاية ما يقدرون عليه ، وحالهم تشبه حال من ماتوا قبل فرض الشرائع ، أو قبل أن يتمكنوا من فعلها كمن مات عقب شهادته قبل أن يتمكن من فعل الشرائع ، أو أسلم في دار الكفر قبل أن يتمكن من العلم بالشرائع .
والحاصل أن ما استدل به من لا يرى كفر تارك الصلاة لا يقاوم كفر ما استدل به من يرى كفره ؛ لأن ما استدل به أولئك إما أن لا يكون فيه دلالة أصلاً ، وإما أن يكون مقيداً بوصف لا يتأتى معه ترك الصلاة ، أو مقيداً بحال يعذر فيها بترك الصلاة ، أو عاماً مخصوصاً بأدلة تكفيره .
فإذا تبين كفره بالدليل السالم عن المعارض المقاوم وجب أن تترتب أحكام الكفر عليه ، ضرورة أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً وبهذا يتبين :(172/106)
المقام الثاني:وهو أن تارك الصلاة لا يحل أن يعقد له على امرأة مسلمة ؛ لأنه كافر والكافر لا تحل له المرأة المسلمة بالنص والإجماع قال الله تعالى:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارلا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ )(1). وقال في المغني 592/6 : " وسائر الكفار غير أهل الكتاب لا خلاف بين أهل العلم في تحريم نسائهم وذبائحهم " قال : " والمرتدة يحرم نكاحها على أي دين كانت ؛ لأنه لم يثبت لها حكم أهل الدين الذي إنتقلت إليه في إقرارها عليه ففي حلها أولى"، وقال في باب المرتد : " وإن تزوج لم يصح تزوجه لأنه لا يقر على النكاح ، وما منع الإقرار على النكاح منع انعقاده كنكاح الكافر المسلمة " . وفي مجمع الأنهر للحنفية آخر باب نكاح الكافر ص302/ج1: " ولايصح تزوج المرتد ولا المرتدة أحداً لإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين " . فأنت ترى أنه صرح بتحريم نكاح المرتدة، وأن نكاح المرتد غير صحيح فماذا يكون لو حصلت الردة بعد العقد؟ قال في المغني 298/6 : " إذا ارتد أحد الزوجين قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال ، ولم يرث أحدهما الآخر ، وإن كانت ردته بعد الدخول ففيه روايتان : إحداهما تتعجل الفرقة ، والثاني : تقف على انقضاء العدة " ، وفي ص639 منه أن انفساخ النكاح بالردة قبل الدخول قول عامة أهل العلم واستدل له ، وأن انفساخه في الحال إذا كان بعد الدخول قول مالك وأبي حنيفة ، وتوقفه على انقضاء العدة قول الشافعي ، وهذا يقتضي أن الأئمة الأربعة متفقون على انفساخ النكاح بردة أحد الزوجين ، لكن إن كانت الردة قبل الدخول انفسخ النكاح في الحال ، وإن كانت بعد الدخول فمذهب مالك وأبي حنيفة الانفساخ في الحال ، ومذهب الشافعي الانتظار إلى انقضاء(172/107)
العدة ، وعن أحمد روايتان كالمذهبين وفي ص640 منه : " وإن ارتد الزوجان معاً فحكمهما حكم ما لو ارتد أحدهما إن كان قبل الدخول تعجلت الفرقة ، وإن كان بعده فهل تتعجل أو تقف على انقضاء العدة ؟ على روايتين ، وهذا مذهب الشافعي ، ثم نقل عن أبي حنيفة أن النكاح لا ينفسخ استحساناً لأنه لم يختلف بهما الدين فأشبه ما لو أسلما ، ثم نقض قياساً طرداً وعكساً .
وإذا تبين أن نكاح المرتد لا يصح من مسلم سواء كان أنثى أم رجلاً وأن هذا مقتضى دلالة الكتاب والسنة ، وتبين أن تارك الصلاة كافر بمقتضى دلالة الكتاب ، والسنة ، وقول عامة الصحابة تبين أن الرجل إذا كان لا يصلي وتزوج امرأة مسلمة فإن زواجه غير صحيح ، ولا تحل له المرأة بهذا العقد ، وأنه إذا تاب إلى الله تعالى ورجع إلى الإسلام وجب عليه تجديد العقد .
وهذا بخلاف أنكحة الكفار حال كفرهم مثل أن يتزوج كافر بكافرة ثم تسلم الزوجة فهذا إن كان إسلامها قبل الدخول إنفسخ النكاح ، وإن كان إسلامها بعده لم ينفسخ النكاح ولكن ينتظر فإن أسلم الزوج قبل انقضاء العدة فهي زوجته ، وإن انقضت العدة قبل إسلامه فلا حق له فيها لأنه تبين أن النكاح قد انفسخ منذ أن أسلمت .وقد كان الكفار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يسلمون مع زوجاتهم ويقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على أنكحتهم إلا أن يكون سبب التحريم قائماً مثل أن يكون الزوجان مجوسيين وبينهما رحم محرم فإذا أسلما حينئذ فرق بينهما لقيام سبب التحريم .وهذه المسألة ليست كمسألة المسلم الذي كفر بترك الصلاة ثم تزوج مسلمة، فإن المسلمة لا تحل للكافر بالنص والإجماع كما سبق ولو كان الكافر أصلياً غير مرتد ، ولهذا لو تزوج كافر مسلمة فالنكاح باطل ويجب التفريق بينهما فلو أسلم وأراد أن يتزوجها لم يكن له ذلك إلا بعقد جديد .(172/108)
المقام الثالث : في حكم أولاد تارك الصلاة من مسلمة تزوج بها فأما بالنسبة للأم فهم أولاد لها بكل حال ، وأما بالنسبة للمتزوج فعلى قول من لا يرى كفر تارك الصلاة فهم أولاد يلحقون به بكل حال ؛ لأن نكاحه صحيح ، وأما على قول من يرى كفر تارك الصلاة وهو الصواب على ما سبق تحقيقه في – المقام الأول – فإننا ننظر :
فإن كان الزوج لا يعلم أن نكاحه باطل ، أو لا يعتقد ذلك فالأولاد أولاده يلحقون به ؛ لأن وطئه في هذه الحال مباح في اعتقاده فيكون وطء شبهة ، ووطء الشبهة يلحق به النسب .
وإن كان الزوج يعلم أن نكاحه باطل ويعتقده فإن أولاده لا يلحقون به ؛ لأنهم خلقوا من ماء من يرى أن جماعه محرم لوقوعه في امرأة لا تحل له .
هذا هو تحرير القول في هذه المسألة العظيمة التي ابتلي بها كثير من الناس اليوم .والله نسأل أن يهيىء لنا من أمرنا رشدا ، وأن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
تم تحريره في الثالث عشر من شهر رجب سنة 1405 هـ بقلم محمد الصالح العثيمين .
? ? ?
فصل(1)
قال فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته في المهديين - :(172/109)
الركن الثاني من أركان الإسلام إقام الصلاة وينبغي أيها المسلمون أن تعلموا أن الصلاة هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين ، وأن الله تعالى اعتنى بها اعتناءً عظيماً لم يعتن بأي ركن من أركان الإسلام العملية اعتناءه بها ، حتى إنه تبارك وتعالى فرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم دون واسطة ، كلمه بها وبفرضيتها بدون واسطة ، لم يرسل بها جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولكنه فرضها عليه منه تعالى إليه صلى الله عليه وسلم وفرضها في أعظم ليلة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ليلة المعراج التي هي أعظم ليلة كانت للنبي صلى الله عليه وسلم ، وفرضها أيضاًَ في أعلى مكان وصل إليه بشر ، فرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في السماء السابعة ، يكلمه سبحانه وتعالى من فوق العرش يفرض عليه الصلاة .
إذاً هذه الصلاة متأكدة من حيث مكان فرضيتها ، وزمان فرضيتها ، وكيفية وحي الله بها إلى رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم إنها مؤكدة بأن الله فرضها على رسوله صلى الله عليه وسلم خمسين صلاة في اليوم والليلة ، وهذا دليل على محبة الله لها ، وأنها جديرة بأن يفني الإنسان معظم وقته فيها ؛ لأن خمسين صلاة في اليوم والليلة تستوعب منا وقتاً كبيراً ، وهذا دليل على أنها من أهم العبادات بل هي أهم العبادات بعد الشهادتين .
أيها الاخوة المسلمون : هذه الصلاة العظيمة التي فيها هذا الفضل والقدر وفيها هذه العناية من ربنا جل ذكره أضاعها كثير من المسلمين اليوم فصدق عليهم قول الله عز وجل : ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً) (1).(172/110)
أضاعوها فلم يقوموا بواجبها ، ولم يربوا أولادهم وأهلهم عليها ، مع أن الله يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ ) (2). ومع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر " (3) .
ترى الواحد يخرج من بيته للمسجد وأولاده يلعبون في السوق لا يأمرهم بالصلاة وهم لسبع ، ولا يضربهم عليها إذا بلغوا عشراً مع أهميتها وعظمها ، حتى إن الصلاة لا تسقط عن الإنسان أبداً ما دام عاقلاً تجب عليه إذا كان قادراً أن يقيمها بأركانها وشروطها وواجباتها ، وبما قدر عليه منها إن عجز حتى إنها لا تسقط عن المريض ما دام عقله ثابتاً .(172/111)
أيها الاخوة المسلمون : يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " وتقيم الصلاة " (4) ، ولم يقل ( وتصلي ) وفرق بين قوله " تقيم الصلاة " وبين قوله : ( وتصلي ) لأنه لابد من إقامة الصلاة بأن يكون الإنسان مقيماً لها إقامة كاملة يأتي بها بشروطها وأركانها وواجباتها غير ناقص منها شيئاً ، ونحن نتكلم هنا عن أوقات الصلاة فنقول : إن أوقات الصلاة مذكورة في كتاب الله مجملة ، وفي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم مفصلة ، أما إجمالها في القرآن ففي آيتين من كتاب الله يقول الله سبحانه وتعالى : ( فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ *وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ)(1).ويقول سبحانه وتعالى:( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً)(2) يقول الله سبحانه وتعالى : ( لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) ، دلوك الشمس هو زوال الشمس (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ) ، غسق الليل منتهى ظلمته وغاية ظلمته وذلك منتصف الليل ، وعلى هذا فالصلاة من انتصاف النهار إلى انتصاف الليل كلها أوقات ممتدة يلي بعضها بعضاً لا يفصل بينها بشيء ، ولذلك كان وقت صلاة الظهر كما جاء مبيناً مفصلاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله ، بإسقاط فيء الزوال ، وصلاة العصر من أن يصيرظل كل شيء مثله إلى أن تصفر الشمس ، والضرورة إلى غروبها ، وصلاة المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر ، وصلاة العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى منتصف الليل ، ثم ينقطع وقت صلاة الفريضة ، وما بين نصف الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة مفروضة ، وما ذهب إليه كثير من الفقهاء من أن وقت العشاء يمتد إلى الفجر لا دليل عليه من القرآن ولا من السنة ، فالقول الصواب أن وقت العشاء ينتهي بمنتصف الليل ، وأن ما بعد منتصف(172/112)
الليل إلى طلوع الفجر ليس وقتاً لصلاة مفروضة ، وإنما هو وقت لصلاة الليل ، ثم بعد ذلك يدخل وقت صلاة الفجر ويبدأ من طلوع الفجر إلى شروق الشمس ولهذا فصل الله بينه وبين ما قبله فقال : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (1) . ففصل قراءت الفجر عن ما قبله ، وذلك لأن بينه وبين العشاء وقت – من منتصف الليل إلى طلوع الفجر – وبينه وبين الظهر وقت – من طلوع الشمس إلى زوالها – هذه الأوقات الخمسة ، لا يجوز لأحد أن يصلي الصلاة قبل وقتها ، ومن صلى الصلاة قبل وقتها فلا صلاة له ، فإذا علم أنه صلاها قبل الوقت فإن الواجب أن يعيدها عند حضور وقتها . ومثال ذلك : صليت الفجر قبل وقته وظننت أنه دخل وقته ثم تبين لك أن وقت الفجر لم يطلع فالواجب أن تعيد الصلاة في وقتها ؛ لأن من صلى الصلاة قبل وقتها صارت نافلة لا تسقط بها الفريضة ، إذا كان جاهلاً ، أما إذا كان متعمداً فإنه آثم ولا تسقط بها الفريضة ولا يثبت بها أجر النافلة ، كذلك أيضاً من أخر الصلاة عن وقتها حتى خرج وقتها فإنه لا صلاة له ولا تقبل منه إلا إذا كان معذوراً ، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة له إلا ذلك "(2). هذا في حق المعذور ، أما الإنسان المتهاون الذي تهاون حتى خرج وقت الصلاة فإنه وإن صلاها لا تقبل منه الصلاة أبداً ؛ لأنه أخرجها عن وقتها المحدد فيكون قد عملها على غير الوجه الذي أمر الله به ورسوله . وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . إلا أنه يجوز للإنسان المعذور أن يجمع بين الصلاتين فيجمع بين صلاة الظهر وصلاة العصر جمع تقديم أو تأخير حسب ما هو أيسر له إذا كان معذوراً ، وكذلك يجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير إذا كان معذوراً ، والأفضل(172/113)
له أن يفعل ما هو أيسر . فإذا كان الأيسر عليه جمع التقديم فإنه يجمع جمع تقديم ، وإذا كان أيسر جمع جمع تأخير ، ونضرب لذلك مثلاً : رجل مريض يشق عليه أن يتوضأ لكل صلاة فنقول له : لا بأس أن تجمع بين الظهر والعصر جمع تقديم أو تأخير ، ولا بأس أن تجمع بين المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا زالت الشمس وهو في مكان صلى الظهر والعصر ثم ارتحل ، وإذا كان مرتحلاً قبل زوال الشمس فإنه يؤخر الظهر ويصليها مع العصر (1).
وها هنا مسألة أحب أن أنبه عليها وهي : أن بعض الناس يظنون أنه إذا جاز الجمع للمريض أو المسافر فإنه لابد أن يجمع بين الصلاتين في وسطهما أي في آخر وقت الظهر وأول وقت العصر وهذا ليس بشيء وليس بصحيح ، بل أن الإنسان إذا جاز له أن يجمع بين الصلاتين فإنه إن شاء جمع في وقت الأولى ، أو في أول وقت الثانية ، أو في أخر وقت الثانية ، أو في ما بينهما ، والمهم أنه إذا جاز الجمع صار الوقتان وقتاً واحداً ، ومن المعلوم أن الجمع إنما يجوز بين الظهر والعصر ، أو بين المغرب والعشاء ، وأنه لا يمكن أن يجمع الإنسان بين الصلوات الأربع الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء جميعاً .
ومما يتعلق بالوقت وأحكامه : أن المرأة إذا طهرت في آخر الوقت فإنه يجب عليها أن تصلي هذا الوقت الذي طهرت فيه مثال ذلك : امرأة طهرت من الحيض قبل غروب الشمس فإنه يجب عليها أن تصلي صلاة العصر ، وقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أنه إذا طهرت قبل غروب الشمس وجب عليها صلاة العصر وصلاة الظهر أيضاً فإذا فعلت ذلك وصلت الظهر قبل العصر فإن ذلك خير، وإن لم تفعل واقتصرت على صلاة العصر فلا حرج عليها في ذلك لأنها لم تدرك إلا وقت العصر .
ولو أن امرأة أتاها الحيض بعد دخول الوقت فإنه يجب عليها أيضاً أن تقضي ذلك الفرض الذي دخل وقته عليها وهي طاهرة .(172/114)
مثال آخر : امرأة حاضت بعد غروب الشمس بدقيقة واحدة قيل يجب عليها إذا طهرت أن تصلي صلاة المغرب ؛ لأنها أدركت وقتها ولكن الصواب أنه لا تجب عليها الصلاة إلا إذا أدركت من وقتها مقدار ركعة ، وأنها إذا أدركت أقل من ركعة لم تجب عليها ، لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " (1) . فعلى هذا إذا حاضت المرأة بعد غروب الشمس بنحو دقيقة فإنه لا يجب عليها صلاة المغرب لأنها لم تدرك من وقتها مقدار ركعة.(172/115)
ومن شروط الصلاة : استقبال القبلة لأن الله تعالى قال للرسول عليه الصلاة والسلام : ( قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَه) (2). فالواجب في استقبال القبلة إذا كان الإنسان هنا في المسجد الحرام ، أو في مكان يشرف على الكعبة الواجب عليه أن يستقبل نفس بناية الكعبة بجميع بدنه ، وهنا نشاهد من المصلين اناساً كثيرين لا يستقبلون القبلة تجدهم يكون الصف ممتداً ويكون اتجاهه إلى غير الكعبة وهذا خطأ عظيم ، الإنسان الذي في المسجد الحرام يجب أن يتجه بجميع بدنه إلى بناية الكعبة لا يخرج بشيء من بدنه عن بناية الكعبة ؛ لأنه أمكنه مشاهدتها ، ومن أمكنه مشاهدتها وجب عليه استقبال عينها ، أما إذا كان لا يمكنه مشاهدتها فإنه يكفي أن يستقبل جهتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيحين من حديث أبي أيوب رضي الله عنه : " إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة بغائط أو بول ولا تستدبروها ، ولكن شرقوا أو غربوا " (1) . فأمر النبي عليه الصلاة والسلام أهل المدينة أن يشرقوا أو يغربوا عند قضاء الحاجة لأجل ألا يستقبلوا القبلة أو يستدبروها ، فدل هذا على أن قبلة أهل المدينة الجنوب كل الجنوب من طرفه إلى طرفه فيكون فرضهم استقبال الجهة ، وهكذا أيضاً من لم تمكنه مشاهدة الكعبة فإنه يجب عليه استقبال جهتها ، ولهذا قال بعض أهل العلم من كان في المسجد استقبل عين الكعبة ، ومن كان خارج المسجد استقبل المسجد ، ومن كان بعيداً استقبل مكة ، ومن كان أبعد استقبل الجهة ، ولكن هذا التفصيل ليس عليه دليل ، ولكن المهم أن من أمكنه أن يشاهد الكعبة وجب عليه استقبالها ومن لم يمكنه وجب عليه استقبال جهتها .(172/116)
وأنا أحذر كثيراً من المصلين الذين يصلون في المسجد الحرام من أنهم لا يستقبلون الكعبة عن يمينهم أو عن يسارهم ولا يستقبلون عينها وهذا
خطأ عظيم لا تصح معه الصلاة .
والله الموفق .
? ? ?
رسالة
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً :
الصلاة : هي الركن الثاني من أركان الإسلام وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين.
الصلاة:صلة بين العبد وبين ربه ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن أحدكم إذا صلى يناجي ربه " (1) . وقال الله تعالى في الحديث القدسي : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل ، فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين . قال الله تعالى : قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، ولعبدي ما سأل فإذا قال العبد : الحمد لله رب العالمين ، قال الله تعالى حمدني عبدي . وإذا قال : الرحمن الرحيم ، قال الله تعالى أثني علي عبدي . وإذا قال مالك يوم الدين ، قال : مجدني عبدي . فإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين قال : هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل . فإذا قال : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين . قال : هذا لعبدي ولعبدي ما سأل (2) .
الصلاة : روضة عبادات فيها من كل زوج بهيج ، تكبير يفتتح به الصلاة ، وقيام يتلو فيه المصلي كلام الله ، وركوع يعظم فيه الرب ، وقيام من الركوع يملؤه بالثناء على الله ، وسجود يسبح الله تعالى فيه بعلوه ويبتهل إليه بالدعاء ، وقعود للدعاء والتشهد ، وختام بالتسليم .
الصلاة:عون في المهمات ونهي عن الفحشاء والمنكرات ، قال الله تعالى : ( وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ) (1). وقال تعالى : ( اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (2).(172/117)
الصلاة : نور المؤمنين في قلوبهم ومحشرهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " الصلاة نور " (3) . وقال : " من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً يوم القيامة " (4) .
الصلاة : سرور نفوس المؤمنين وقرة أعينهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " جعلت قرة عيني في الصلاة " (5) .
الصلاة:تمحى بها الخطايا وتكفر السيئات، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه ( وسخه ) شيء " ؟ قالوا : لا يبقى من درنه شيء ، قال : " فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا " (6) . وقال صلى الله عليه وسلم : " الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهن ما لم تغش الكبائر " (7) .
" صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة " . رواه ابن عمر عن النبي (1) . وقال ابن مسعود رضي الله عنه : من سره أن يلقى الله غداً مسلماً فليحافظ على هؤلاء الصلوات حيث ينادى بهن فإن الله تعالى شرع لنبيكم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكل خطوة يخطوها حسنة ، ويرفعه بها درجة ، ويحط عنه بها سيئة ، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف " (2) .(172/118)
الخشوع في الصلاة ( وهو حضور القلب ) والمحافظة عليها من أسباب دخول الجنات ، قال الله تعالى : ( قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ *إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ *فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ *وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (3).
الإخلاص لله تعالى في الصلاة وأدائها كما جاءت به السنة هما الشرطان الأساسيان لقبولها ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرىء ما نوى " (1) . وقال : " صلوا كما رأيتموني أصلي " (2) .
فتطهر من الحدث والنجاسة ، ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم استفتح ، ثم اقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن ثم كبر حين تهوي للركوع واركع حتى تطمئن راكعاً ، وقل سبحان ربي العظيم ، ثم ارفع من الركوع قائلاً : سمع الله لمن حمده ، وبعد القيام ربنا ولك الحمد ، واطمئن قائماً ، ثم كبر حين تهوي للسجود واسجد حتى تطمئن ساجداً على الأعضاء السبعة : الجبهة مع الأنف ، والكفين والركبتين ، وأطراف القدمين ، وقل سبحان ربي الأعلى ، ثم انهض مكبراً واجلس حتى تطمئن جالساً ، وقل : رب اغفر لي ، وارحمني ، واجبرني ، واهدني ، وارزقني ، ثم اسجد مكبراً حتى تطمئن ساجداً على الأعضاء السبعة وقل : سبحان ربي الأعلى ، ثم ارفع مكبراً للركعة الثانية وافعل فيها كالأولى بدون استفتاح ، ثم اجلس بعد انتهائها للتشهد ثم سلم .(172/119)
وإن كنت في ثلاثية أو رباعية فقم بعد التشهد الأول وأتمها مقتصراً على الفاتحة ، وإذا انتهيت من الصلاة فاستغفر الله ثلاثاً واذكر الله كما جاءت به السنة .
والله الموفق .
كتبه محمد الصالح العثيمين في 13/4/1406 هـ
رسالة
الحمد لله ، وبعد فقد اطلعت على ما نشر في جريدة ( .... ) الأثنين 22 من ذي القعدة عام 1417 هـ حول الفتوى الصادرة مني في امرأة تسأل عن زوجها الذي لا يصلي صلاة الجمعة ولا مع الجماعة مع أنه يصلي الأوقات التي تحضره وهو في البيت فإنه يأتي ويقول إني صليت ، والله أعلم ، فما الحكم هل تبقى معه الزوجة أم تطلب الطلاق ؟ اهـ .
وكانت الإجابة:هذا الزوج لا يخرج من الإسلام لأنه لم يترك الصلاة كلياً ، لكنه – والعياذ بالله – من أفسق الناس ، وفعله هذا أعظم من فعل الفواحش ، فإن تمكنت من مفارقته فهو أولى إلا أن يهديه الله تعالى ويتوب ، أما إن كان لا يصلي أبداً فإنه لا يجوز لها أن تبقى معه ؛ لأنها حرام عليه حينئذ ؛ لأن الذي لا يصلي يعتبر كافراً ، والمؤمنة لا تحل لكافر . عليك أن تنصحيه وأن تهدديه بطلب الطلاق لعل الله يهديه . اهـ .
وكان الخطأ الذي اقتضى ما نشر هو أن السؤال كتب هكذا : لا يصلي صلاة الجماعة ولا مع الجماعة . والصواب لا يصلي صلاة الجمعة . وحقيقة حال الزوج حسب السؤال :
1 - أنه لا يصلي الجمعة .
2 - أنه لا يصلي مع الجماعة .
3 - أنه يصلي الصلاة التي تحضره في البيت وأما خارجه فهو يقول إنه صلى ، والمرأة شاكة فيه وليس ذنبه أنه لا يصلي مع الجماعة فقط .(172/120)
ومن المعلوم أن من علماء السلف من قال بأن من ترك صلاة واحدة متعمداً حتى خرج وقتها فهو كافر مرتد نقله المنذري في الترغيب والترهيب عن أبي محمد ابن حزم قال –أي ابن حزم – وقد جاء عن عمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، ومعاذ بن جبل ، وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمداً حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد ، ولا نعلم لهؤلاء من الصحابة مخالفاً (1). اهـ . وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من ترك ثلاث جمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه (2) . ومما لا شك فيه أن العمل الذي يكون به مرتداً أعظم من الفواحش الموجبة للفسق .
وللبيان حرر بقلم محمد الصالح العثيمين في 24/11/1417 هـ .
---
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/231 والترمذي : كتاب الإيمان / باب ما جاء في حرمة الصلاة ( 2616) ، والنسائي في ( الكبرى ) : كتاب التفسير / باب قوله تعالى ( تتجافى جنوبهم عن المضاجع ( ( 11394) . وابن ماجة : كتاب الفتن / باب كف اللسان في الفتنة ( 3973 ) . وقال الترمذي حديث حسن صحيح .
(2) سورة النساء ، الآية 103 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الزكاة / باب وجوب الزكاة . ومسلم : كتاب الإيمان / باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام .
(2) سورة المدثر ، الآيات : 39-46 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الحيض / باب ترك الحائض الصوم ، وكتاب الصوم / باب الحائض تترك الصوم والصلاة .
(2) أخرجه الإمام أحمد 4/218 من حديث عثمان بن أبي العاص مطولاً وفيه : ( لا خير في دين لا ركوع فيه ) . وأبو داود : في كتاب الخراج / باب خبر الطائف ، وضعفه الألباني – ضعيف أبي داود 300 .
(1) _ سورة مريم ، الآية : 55.
(2) سورة أل عمران ، الآية : 43 .
(3) سورة مريم ، الآية : 58.
(4) البخاري : كتاب بدء الخلق / باب ذكر الملائكة ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب الإسراء وفرض الصلوات .
(1) سورة التوبة ، الآية 103 .
(2) تقدم تخريجه ص 12 .(172/121)
(1) أخرجه البخاري : كتاب المواقيت / باب من نسى صلاة فليصلها إذا ذكرها ، ومسلم : كتاب المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة .
(1) أخرجه مالك / باب ما جاء في جامع الوقت (23) .
(1) تقدم ص17 .
(2) أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى " 1/387 .
(1) سورة القلم ، الآيتان : 42، 43 .
(1) سورة النساء ، الآية : 103.
(1) أخرجه البخاري : في كتاب الخوف / باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو . معلقاً بصيغة الجزم وقال الحافظ في " الفتح " 2/ 504 : وصله ابن سعد وابن أبي شيبة من طريق قتادة عنه .
(2) أخرجه البخاري : كتاب المواقيت / باب قضاء الصلوات الأولى فالأولى ، ومسلم : كتاب المساجد / باب الدليل لمن قال الصلاة الوسطى صلاة العصر .
(3) أخرجه مسلم : كتاب الأقضية / باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور .
(1) تقدم تخريجه ص 16 .
(2) أخرجه مسلم : كتاب الوصية / باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته .
(3) سورة الأعلى ، الآيتان 16، 17.
(1) أخرجه البخاري : كتاب الإيمان / باب الإيمان وقول النبي (صلى الله عليه وسلم ) :" بني الإسلام ... " . ومسلم : كتاب الإيمان / باب بيان أركان الإسلام ...
(2) سورة النساء ، الآية : 103 .
(3) تقدم ص16 .
(4) أخرجه البخاري : كتاب التيمم / باب الصعيد الطيب ، ومسلم : كتاب المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة .
(1) تقدم تخريجه ص 21 .
(2) سورة الأنشقاق ، الآية :6 .
(1) سورة الزمر ، الآية : 53 .
(1) أخرجه مسلم : كتاب الدعوات / باب فضل الاجتماع علي تلاوة القرآن .
(1) سورة النساء ، الآية : 103 .
(1) أخرجه مسلم : كتاب المساجد /باب أوقات الصلوات الخمسة .
(2) أخرجه مسلم : كتاب المساجد /باب أوقات الصلوات الخمسة .
(1) تقدم تخريجه ص21 .
(1) تقدم تخريجه ص21 .
(2) تقدم تخريجه ص 16 .
(1) أخرجه مسلم : كتاب المساجد / باب وقت العشاء .
(2) سورة النساء ، الآية : 103 .(172/122)
(1) سورة البقرة ، الآية : 239 .
(2) أخرجه مسلم : كتاب صلاة المسافرين / باب الجمع بين الصلاتين في الحضر .
(1) سورة الطلاق ، الآيتان : 2، 3 .
(2) سورة الأعراف ، الآيتان : 182 ، 183 .
(1) سورة التوبة ، الآية : 84 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 113 .
(3) تقدم تخريجه ص21 .
(1) أخرجه مسلم : كتاب المساجد ومواضع الصلاة / باب يجب إتيان المسجد على من سمع النداء .
(1) (1) أخرجه الترمذي : كتاب النكاح / باب ما جاء إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه 1085) وقال الترمذي:هذ حديث حسن غريب . وابن ماجة ( 1967 ) والحاكم 2/175 .
(2) أخرجه البخاري : كتاب النكاح / باب الأكفاء في الدين ، ومسلم : كتاب الرضاع / باب استحباب نكاح ذات الدين .
(1) سورة القصص ، الآية : 65 .
(2) سورة الأعراف ، الآيتان : 6، 7 .
(3) سورة مريم ،الآيتان : 59 ، 60 .
(4) سورة التوبة ، الآية : 11 .
(1) سورة الحجرات ، الآية : 10 .
(2) أخرجه البخاري : كتاب الإيمان/ باب خوف المؤمن أن يحبط عمله وهو لا يشعر ، ومسلم : كتاب الإيمان/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " سباب المسلم فسوق ......." .
(3) أخرجه مسلم : كتاب الإيمان/ باب بيان إطلاق الكفر على من ترك الصلاة .
(4) أخرجه الإمام أحمد 5/346 ، والترمذي : كتاب الإيمان/ باب ما جاء في ترك الصلاة (2621) ، والنسائي : كتاب الصلاة/ باب الحكم في تارك الصلاة . وابن ماجة : كتاب إقامة الصلاة/ باب ما جاء فيمن ترك الصلاة (1079) . وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح غريب .
(5) أخرجه البخاري : كتاب الفتن/ باب ما جاء في قول الله تعالى :(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً ) ، ومسلم : كتاب الإمارة/ باب وحوب طاعة الأمراء في غير معصية وتحريمها في المعصية .
(1) أخرجه مسلم : كتاب الإمارة/ باب وجوب الإنكار على الأمراء فيما يخالف الشرع وترك قتالهم ما صلوا ، ونحو ذلك .(172/123)
(2) أخرجه الهيثمي في " المجمع " 4/216 ، ونحوه عند الحاكم في " المستدرك " 4/44 .
(3) أخرجه بن أبي شيبة في " الإيمان " 34 .
(1) أخرجه الترمذي : كتاب الإيمان/باب ما جاء في ترك الصلاة .
(1) سورة البقرة ، الآية : 221 .
(2) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(3) تقدم تخريجه ص21 .
(1) سورة التوبة ، الآية : 11 .
(1) ) تقدم تخريجه ص42 .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(3) ) تقدم تخريجه ص43 .
(4) ) تقدم تخريجه ص44 .
(1) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 28 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الفرائض/ باب لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم، ومسلم : كتاب الفرائض .
(2) أخرجه البخاري : كتاب الفرلئض/ باب ميراث الولد من أبيه وأمه ( 6732 ) ، ومسلم : كتاب الفرائض/ باب ألحقوا الفرائض بأهلها .
(3) أخرجه الإمام أحمد في" المسند " 2/169 .
(4) سورة التوبة ، الآية : 113 .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الذبائح والصيد/ باب المسك ، ومسلم : كتاب البر والصلة /باب إستحباب مجالسة الصالحين .
(2) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(1) ) تقدم تخريجه ص42 .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(2) تقدم تخريجه ص 42 .
(3) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(1) تقدم تخريجه ص50 .
(1) انظر نص المناظرة في الفتوى التالية .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(2) تقدم تخريجه ص43 .
(3) تقدم تخريجه ص42 .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(1) أخرجه الترمذي : كتاب صفة جهنم/باب ما جاء أن للنار نفسين ، وما ذكر من يخرج من النار من أهل التوحيد (2598 ) وقال : هذا حديث حسن صحيح .
(1) سورة البقرة ، الآية : 217 .
(1) تقدم تخريجه ص 42 .
(1) انظر تخريج فضيلة الشيخ له ص72 .
(2) انظر ذلك في ص72 .
(1) سورة الحجرات ، الآيتان : 9 ، 10 .
(2) سورة الشورى ، الآية : 10 .
(3) سورة النساء ، الآية : 59 .(172/124)
(1) أخرجه ابن ماحه : كتاب الفتن/ باب ذهاب القرآن ، والحاكم 4/520 وصححه ، قال ابن حجر في الفتح 13/16 : إسناده قوي .
(2) انظر ص72 .
(1) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 5/170 ، والنسائي (1009) ، وابن ماجة (1350) مختصراً .
(2) سورة المائدة ، الآية : 118 .
(3) أنظر ص 72 .
(1) سورة آل عمران ، الآية : 7 .
(1) أخرجه الإمام أحمد في" المسند " 5/ 428 ، والهيثمي في " المجمع " 9/362 وقال : "رجاله ثقات " .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 11 .
(1) سورة التوبة ، الآية : 113 .
(2) سورة التوبة ، الآية 84 .
(1) تقدم تخريجه ص50 .
(2) سورة المجادلة ، الآية : 22 .
(3) أخرجه مسلم : كتاب الإيمان / باب موالاة المؤمنين ومقاطعة غيرهم والبراءة منهم .
(4) أخرجه مسلم : كتاب الإيمان / باب الدليل على أن من مات على الكفر لا ينفعه عمل .
(5) أخرجه الإمام أحمد 2/182 .
(1) سورة الزمر ، الآية : 53 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 229 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 230 .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(1) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(1) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(1) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 221 .
(3) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(4) سورة الفرقان ، الآية : 23 .
(5) سورة الأنعام ، الآية : 88 .
(1) سورة التوبة ، الآية : 45 .
(1) تقدم تخريجه ص16 .
(1) تقدم تخريجه ص 21 .
(1) سورة التوبة ، الآية : 54 .
(2) أخرجه مسلم : كتاب الإيمان / باب كون الإسلام يهدم ما قبله .....
(1) سورة المائدة ، الآية : 6 .
(2) أخرجه البخاري : كتاب المساجد / باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً " ومسلم : كتاب المساجد ومواضع الصلاة .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(3) سورة الشورى ، الآية : 25 .(172/125)
(4) أخرجه البخاري : كتاب تقصير الصلاة / باب إذا لم يطق قاعداً صلى على جنب .
(5) سورة المائدة ، الآية : 6 .
(1) سورة التغابن ، الآية : 16 .
(1) سورة التغابن ، الآية : 16 .
(2) أخرجه البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب الاقتداء بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسلم : كتاب الحج / باب فرض الحج مرة في العمر .
(1) سورة الممتحنة ، الآية : 10.
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(1) تقدم تخريجه ص50 .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(3) تقدم تخريجه ص44 .
(1) تقدم تخريجه ص 43 .
(2) تقدم تخريجه ص43 .
(3) تقدم تخريجه ص42 .
(4) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(1) تقدم تخريجه ص16 .
(2) تقدم تخريجه ص21 .
(1) تقدم تخريجه ص30 .
(2) سورة النساء ، الآية : 103 .
(3) أخرجه البخاري : كتاب مواقيت الصلاة / باب من أدرك من الفجر ركعة ، ومسلم : كتاب المساجد / باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة .
(4) تقدم تخريجه ص21 .
(1) سورة النساء ، الآية : 103 .
(2) تقدم تخريجه ص30 .
(3) تقدم تخريجه ص106 .
(4) تقدم تخريجه ص21 .
(1) تقدم تخريجه ص16 .
(2) تقدم تخريجه ص21 .
(3) تقدم تخريجه ص21 .
(1) سورة الفرقان ، الآية : 23 .
(2) سورة التوبة ، الآية : 54 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الجهاد / باب لا يعذب بعذاب الله .
(2) سورة النساء ، الآية : 141 .
(1) سورة التوبة ، الآية : 11 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 10 .
(3) سورة الحجرات ، الآية : 10 .
(1) تقدم تخريجه ص78 .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(3) تقدم تخريجه ص42 .
(4) تقدم تخريجه ص43 .
(5) تقدم تخريجه ص44 .
(1) تقدم تخريجه ص72 .
(2) سورة الطلاق ، الآيتان : 2، 3 .
(1) سورة الطلاق ، الآية : 4 .
(2) سورة الأنفال ، الآية : 38 .
(3) تقدم تخريجه ص21 .
(4) تقدم تخريجه ص16 .
(5) سورة البقرة ، الآية : 185 .
(1) سورة الحجر ، الآية : 99 .
(2) سورة التحريم ، الآية : 6 .(172/126)
(3) أخرجه البخاري : كتاب النكاح / باب المرأة راعية في بيت زوجها ، ومسلم : كتاب =
(1) أخرجه الإمام أحمد 2/187 ، وأبو داود : كتاب الصلاة / باب متى يؤمر الغلام بالصلاة( (495 و 496 ) ، وهو في صحيح الجامع رقم ( 5868 )
(1) سورة النحل ، الآية : 89 .
(2) سورة النحل ، الآية : 44 .
(1) تقدم تخريجه ص43 .
(1) تقدم تخريجه ص44 .
(2) سورة مريم ، الآية : 59 .
(1) سورة المؤمنون ، الآيات : 1-6 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الآذان / باب فضل العشاء في جماعة ، ومسلم : كتاب المساجد / باب فضل صلاة الجماعة ....
(2) سورة مريم ، الآيتان ، 59 ، 60 .
(3) سورة مريم ، الآية : 60 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الجهاد / باب فضل من أسلم على يديه رجل ، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة / باب من فضائل علي بن أبي طالب .
(2) تقدم تخريجه ص118 .
(1) سورة الشورى ، الآية : 10 .
(2) سورة النساء ، الآية : 59 .
(3) سورة التوبة ، الآية : 11 .
(4) سورة مريم ، الآيتان : 59 ، 60 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 178 .
(2) سورة النساء ، الآية : 93 .
(3) سورة الحجرات ، الآيتان : 9 ،10 .
(4) تقدم تخريجه ص42 .
(1) تقدم تخريجه ص 78 .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(2) تقدم تخريجه ص43 .
(3) أخرجه مسلم : كتاب الإمارة / باب خيار الأئمة وشرارهم .
(1) تقدم تخريجه ص42 .
(2) سورة النحل ، الآية : 89 .
(1) سورة النحل ، الآية : 44 .
(2) تقدم تخريجه ص43 .
(1) أخرجه مسلم : كتاب الإيمان / باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب والنياحة .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(1) تقدم تخريجه ص133 .
(2) تقدم تخريجه ص42 .
(3) سورة مريم ، الآية : 59 .
(4) تقدم تخريجه ص44 .
(1) سورة النساء ، الآية : 48 .
(1) أخرجه الإمام أحمد 5/229 .(172/127)
(2) أخرجه البخاري : كتاب المساجد / باب المساجد في البيوت ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً .
(3) أخرجه البخاري : كتاب الأطعمة ، ومسلم : كتاب الإيمان ، باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة قطعاً .
(1) تقدم تخريجه ص68 .
(1) سورة الممتحنة ، الآية : 10 .
(1) سورة مريم ، الآية : 59 .
(2) سورة التحريم ، الآية : 6 .
(3) تقدم تخريجه ص78 .
(4) أخرجه البخاري : كتاب الزكاة / باب وجوب الزكاة ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب بيان الإيمان ..
(1) سورة الروم ، الآيتان : 17 ، 18 .
(2) سورة الإسراء ، الآية : 78 .
(1) سورة الإسراء ، الآية : 78 .
(2) تقدم تخريجه ص16 .
(3) تقدم تخريجه ص21 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب تقصير الصلاة / باب إذا ارتحل بعدما زاغت الشمس ، ومسلم : كتاب صلاة المسافرين / باب جواز الجمع بين الصلاتين في السفر .
(1) أخرجه البخاري : كتاب مواقيت الصلاة / باب من أدرك من الصلاة ركعة ، ومسلم : كتاب المساجد / باب من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة .
(2) سورة البقرة ، الآية : 144 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الوضوء / باب لا تستقبل القبلة بغائط أو بول إلا عند البناء : الجدار أو نحوه ، ومسلم : كتاب الطهارة / باب الاستطابة .
(1) أخرجه البخاري : كتاب مواقيت الصلاة / باب المصلي يناجي ربه عز وجل .
(2) تقدم تخريجه ص 150 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 45 .
(2) سورة العنكبوت ، الآية : 45.
(3) أخرجه مسلم : كتاب الطهارة / باب فضل الوضوء .
(4) تقدم تخريجه ص50 .
(5) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 3/199 .
(6) خرجه البخاري : كتاب مواقيت الصلاة / باب الصلوات الخمسة كفارة ، ومسلم : كتاب المساجد / باب المشي إلى الصلاة ..
(7) أخرجه مسلم : كتاب الطهارة / باب الصلوات الخمس ....(172/128)
(1) أخرجه البخاري : كتاب الجماعة / باب فضل صلاة الجماعة ، ومسلم : كتاب المساجد / باب فضل صلاة الجماعة .
(2) أخرجه مسلم : كتاب المساجد / باب صلاة الجماعة من سنن الهدى .
(3) سورة المؤمنون ، الآيات : 1-11 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب بدء الوحي / باب كيف كان بدء الوحي ...، مسلم : كتاب الإمارة / باب قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال ... ) .
(2) أخرجه البخاري : كتاب الآذان / باب الآذان للمسافر إذا كانوا جماعة ...
(1) الترغيب والترهيب 1/266 .
(2) أخرجه الإمام أحمد في " المسند " 3/425 .(172/129)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الثاني عشر
الأذان و الإقامة
محمد بن صالح العثيمين
78) سئل فضيلة الشيخ : أيهما أفضل الأذان أم الإمامة ؟
فأجاب فضيلته بقوله : هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم ، والصحيح أن الأذان أفضل من الإمامة ، لورود الأحاديث الدالة على فضله ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ، ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا " (1) . وكقوله صلى الله عليه وسلم : " المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة " (2) .
فإن قال قائل : الإمامة ربطت بأوصاف شرعية مثل " يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله " ومعلوم أن الأقرأ أفضل ، فقرنها بأقرأ يدل على أفضليتها ؟
فالجواب : أننا لا نقول لا أفضلية في الإمامة بل الإمامة ولاية شرعية ذات فضل ، ولكننا نقول : إن الأذان أفضل من الإمامة لما فيه من إعلان ذكر الله تعالى وتنبيه الناس على سبيل العموم ، ولأن الأذان أشق من الإمامة ، وإنما لم يؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ؛ لأنهم اشتغلوا بأهم من المهم ، لأن الإمام يتعلق به جميع الناس فلو تفرغ لمراقبة الوقت لانشغل عن مهمات المسلمين .
? ? ?
79) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم الإقامة للصلاة في حق المرأة ؟
فأجاب قائلاً : لا حرج على المرأة أن تقيم الصلاة إذا كانت تصلي في بيتها ، وإن لم تقم الصلاة فلا حرج عليها أيضاً ، لأن إقامة الصلاة إنما تجب على جماعة الرجال ، حتى الرجل المنفرد إذا صلى منفرداً فإن الإقامة لا تجب عليه ، وإن أقام فهو أفضل ، وإن لم يقم فلا حرج عليه .
? ? ?
80) وسئل فضيلته : عن حكم الأذان في حق المسافرين ؟(173/1)
فأجاب بقوله : هذه المسألة محل خلاف ، والصواب وجوب الأذان على المسافرين ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك بن الحويرث وصحبه : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (1) . وهم وافدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم مسافرون إلى أهليهم ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع الأذان ولا الإقامة حضراً ولا سفراً ، فكان يؤذن في أسفاره ويأمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن .
? ? ?
81) وسئل حفظه الله : هل يلزم المسافر الأذان والإقامة ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الأذان للصلاة والإقامة لها لا يلزمك إن لم يوجد غيرك بل هما سنة لك ، أما إذا كان معك أحد فالأذان والإقامة واجبان عليكما ففي صحيح البخاري عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال : أتى رجلان إلى النبي صلى الله عليه وسلم يريدان السفر فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أنتما خرجتما فأذنا ثم أقيما " (2) . الحديث .
82) وسئل فضيلة الشيخ : ما حكم الأذان والإقامة للمنفرد ؟
فأجاب بقوله : الأذان والإقامة للمنفرد سنة ، وليسا بواجب ؛ لأنه ليس لديه من يناديه بالأذان ، ولكن نظراً لأن الأذان ذكراً لله عز وجل ، وتعظيماً ، ودعوة لنفسه إلى الصلاة وإلى الفلاح ، وكذلك الإقامة كان سنة ، ويدل على استحباب الأذان ما جاء في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " يعجب ربك من راعي غنم على رأس الشظية للجبل يؤذن للصلاة ، فيقول الله : انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم للصلاة يخاف مني قد غفرت لعبدي ، وأدخلته الجنة " (1) .
? ? ?
83) وسئل : إذا جمع الإنسان الظهر والعصر فهل لكل واحدة منهما إقامة ؟ وهل للنوافل إقامة ؟
فأجاب قائلاً : لكل واحدة إقامة ، كما في حديث جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث ذكر جمعه في مزدلفة قال : " أقام فصلى المغرب ، ثم أقام فصلى العشاء ولم يسبح بينهما " (2) .(173/2)
وأما النوافل فليس لها إقامة .
? ? ?
84) وسئل قضيلة الشيخ : هل الأذان واجب على المنفرد ؟ وما صحة الاستدلال بحديث : " إذا قمت إلى الصلاة فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأقم " على وجوب الأذان والإقامة على المنفرد ؟
فأجاب قائلاً : الأذان للمنفرد إذا كان في مكان ليس فيه مؤذنون مشروع ، إما وجوباً ، وإما استحباباً على قولين في ذلك هما روايتان عن الإمام أحمد .
وأما الاستدلال بحديث : " ...... فتوضأ كما أمرك الله ثم تشهد فأقم " فيحتمل أن المراد بالتشهد ما يقال بعد الوضوء ، والله أعلم .
? ? ?
85) وسئل فضيلة الشيخ : عن مسجد في مزرعة قريبة من البلد ويسمعون أذان البلد فهل يؤذنون ؟
فأجاب بقوله : إذا كان للمسجد مؤذن معين من قبل الأوقاف فلا بأس به وإن كانوا يسمعون أذان البلد .
? ? ?
86) سئل فضيلة الشيخ : عن إمام دخل المسجد وقد أذن المؤذنون في البلد ولم يؤذن في مسجده فهل يؤذن أن يقيم مباشرة ؟
فأجاب قائلاً : إذا دخل الإمام مسجداً لم يؤذن فيه فلا حرج أن يقيم الصلاة بدون أذان ، لأن الأذان فرض كفاية ، وقد حصل بأذان الآخرين في المساجد المجاورة .
أما إذا دخل الإمام مسجداً ليس حوله مؤذنون فإنه يؤذن ، مثل رجل مسافر وكان حال الأذان في البر ولا يسمع النداء فدخل هو وأصحابه المسجد ليصلوا ، ورأو الناس قد صلوا فإنه يحسن أن يؤذنوا ثم يقيموا ، ولكن يكون الأذان بقدر ما يسمعون هم أنفسهم دون أن يكون فيه مكبر صوت أو بصوت عال ، لئلا يشوش على الناس .
? ? ?
87) وسئل فضيلة الشيخ : هل يجب الأذان للصلاة المقضية ؟
فأجاب بقوله : إذا كان الإنسان في بلد قد أذن فيه للصلاة كما لو نام جماعة في البلد ولم يستيقظوا إلا بعد طلوع الشمس فلا يجب عليهم الأذان اكتفاءً بالأذان العام في البلد ؛ لأن الأذان العام في البلد حصل به الكفاية وسقطت به الفريضة .(173/3)
أما إذا كان في مكان لم يؤذن فيه فالأذان واجب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نام عن صلاة الفجر في سفره ولم يستيقظ إلا بعد طلوع الشمس أمر بلالاً أن يؤذن (1) وأن يقيم وهذا يدل على وجوبه ، ولعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (2) . فإنه يشمل حضورها بعد الوقت وفي الوقت .
? ? ?
88) وسئل فضيلته عن حكم أخذ الأجرة على الأذان ؟
فأجاب قائلاً : لا يجوز أخذ الأجرة على الأذان لأنه قربة من القرب وعبادة من العبادات ، والعبادات لا يجوز أخذ الأجرة عليها لقوله تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (3). ولأنه إذا أراد بالأذان الدنيا بطل عمله ، فلم يكن أذانه صحيحاً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) إلا الرزق فلا يحرم أن يعطى المؤذن والمقيم عطاء من بيت المال وهو ما يعرف في وقتنا الحاضر بالراتب ؛ لأن بيت المال إنما وضع لمصالح المسلمين ، والأذان والإقامة من مصالح المسلمين .
? ? ?
89) وسئل فضيلة الشيخ – أعلى الله درجته - : عن حكم أخذ المال على فعل الطاعات ؟
فأجاب بقوله : العوض الذي يعطاه من قام بطاعة من الطاعات ينقسم إلى ثلاثة أقسام :(173/4)
القسم الأول : أن يكون ذلك بعقد أجرة مثل أن يتفق هذا العامل القائم بهذه الطاعة مع غيره على عقد إجازة ملزمة يكون فيها كل من العوضين مقصوداً ، فالصحيح أن ذلك لا يصح كما لو قام أحد بالإمامة والأذان بأجرة ، وذلك لأن عمل الآخرة لا يصح أن يكون وسيلة للدنيا ؛ لأن عمل الآخرة أشرف وأعلى من أن يكون وسيلة لعمل الدنيا الذي هو أدنى ، قال تعالى : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى *إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى *صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) (2).
القسم الثاني : أن يأخذ عوضاً على هذا العمل على سبيل الجعالة مثل أن يقول قائل : من قام بالأذان في هذا المسجد فله كذا وكذا ، أو من قام بالإمامة في هذا المسجد فله كذا وكذا فالصحيح من أقوال أهل العلم في هذه المسألة أن ذلك جائزاً ؛ لأن هذا العمل ليس أجرة وليس ملزماً .
القسم الثالث : أن يكون العوض من بيت المال تبذله الدولة لمن قام بهذا العمل فهذا جائز ولا شك فيه ؛ لأنه من المصارف الشرعية لبيت المال ، وأنت مستحق له بمقتضى هذا العمل فإذا أخذته فلا حرج عليك ، ولكن ينبغي أن يعلم أن هذه الأموال التي تباح لمن قام بهذه الوظائف لا ينبغي أن تكون هي مقصود العبد ، فإنه إذا كانت مقصودة حرم الأجر ، وأما إذا أخذها ليستعين بها على طاعة الله ، وعلى القيام بهذا العمل فإنها لا تضره .
? ? ?
90) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم أخذ الأجرة على قراءة القرآن ؟(173/5)
فأجاب بقوله : قراءة القرآن بالأجرة حرام،لأن قراءة القرآن عمل صالح ، والعمل الصالح لا يجوز أن يتخذ وسيلة للدنيا ، فإن اتخذ وسيلة لها بطل ثوابه لقوله تعالى : ( مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ *أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه " (2) . فقاريء القرآن لأخذ الأجرة ليس له ثواب عند الله وعلى هذا فلا ينتفع الميت بقراءته .
? ? ?
91)وسئل فضيلة الشيخ : هل يجوز أذان حالق اللحية إذا كان حسن الصوت ؟
فأجاب قائلاً : نقول في هذا : إن أذان حالق اللحية صحيح ؛ لأنه أداه على الوجه الذي جاء به الشرع ، فإذا كان يؤدي الأذان أداءً صحيحاً سليماً فلا بأس .
وإنني بهذه المناسبة أحب أن أنبه على بعض الأخطاء في الأذان :
1 - فمن ذلك : لو قال المؤذن : " آلله أكبر " بمد الهمزة ، فأذانه غير صحيح ؛ لأنه إذا مد الهمزة فهو يستفهم قال الله : ( قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ) (1). فهذا الأذان لا يصح من أي إنسان .
2 - ولو قال مؤذن: " الله أكبار " لم يصح أذانه ؛ لأن أكبار جمع كبر والكبرالطبل
3 - ولو قال : " أشهد أنِ لا إله إلا الله " قلنا الصواب أن تقول " أنْ لا إله إلا الله " بسكون النون مدغمة ، ف ( أنْ ) هنا مخففة من الثقيلة ، وإذا خففت وهي ساكنة ووليتها اللام فإنها تدغم في اللام فيقال أشهد ألاإله إلا الله .
4 - وإذا استمعنا إلى أذان كثير من الناس نجدهم يقولون " أشهد أن محمداً رسولَ الله " بفتح اللام .(173/6)
فإذا قيل : هل هناك مخرج يمكن أن نتخرج به ، حتى لا نبطل أذان كثير من المؤذنين ؟ قلنا : نعم اللغة العربية – والحمد لله – واسعة ففيه لغة عربية صحيحة تنصب الجزئين مع " أن " و " إن " تنصب المبتدأ والخبر فتقول إن زيداً قائماً ، ومنه قول الشاعر عمر بن أبي ربيعة :
إذا اسود جنح الليل فلتأت ولتكن خطاك خفافاً إن حراسنا أسدا
ولو جاء على اللغة المشهورة لقال : " أن حراسنا أسدٌ " بضم أُسد ، فما دمنا وجدنا مخرجاً في اللغة العربية لتصحيح أذان المؤذنين فنصححه .
على أن المؤذن لو سألته : ماذا تعني بقول أشهد أن محمداً رسولَ الله ؟ لقال أعني أن محمداً رسول الله .
5 - وإذا قال المؤذن " الله وكبر " أي يجعل الهمزة واواً فنقول هذا جائز في اللغة العربية ، فإذا وقعت الهمزة بعد ضم جائز قلبها واواً وعلى هذا فالذين يقولون " الله وكبر " أذانهم صحيح ، على أن الأولى أن يقولوا " الله أكبر " بتحقيق الهمزة . والمهم أن أذان حالق اللحية ، وشارب الدخان وما أشبههم ممن يصرون على المعاصي أذانهم صحيح ما داموا يأتون به على الوجه السليم الذي لا يتغير به المعنى .
? ? ?
92) وسئل فضيلته : إذا حضرت الصلاة في حال الحرب فهل يرفع المؤذن صوته علماً بأن العدو إذا سمع الأذان اكتشف الموقع ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الأذان يكفي أن يسمعه من أُذن له ، فإذا رفع صوته بقدر ما يسمعه الحاضرون فقد أجزأ .
ولا يجوز أن يرفع صوته بالأذان ليدل العدو على مكانه ؛ لأن هذا من الإلقاء بالنفس إلى التهلكة .
? ? ?
93) وسئل فضيلة الشيخ:عن حكم وضع مكبر الصوت في المنارة للتأذين به؟
فأجاب جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً بقوله : لا نرى بأساً بوضع مكبر الصوت الذي يسمى ( الميكرفون ) في المنارة للتأذين به ، وذلك لما يشتمل عليه من المصالح الكثيرة ، وسلامته من المحذور ، ويدل على ذلك أمور :(173/7)
الأول : أنه مما خلق الله تعالى لنا في هذه الأرض ، وقد قال الله تعالى ممتناً على عباده بإباحته لهم جميع ما في الأرض ، وتسخيره لهم ما في السماوات والأرض ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (1). وقال : ( وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (2). ولا ينبغي للعبد أن يرد نعمة الله عليه فيحرم نفسه منها بغير موجب شرعي فإن الله تعالى يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (3) ويقول راداً على من يحللون ويحرمون بأهوائهم : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) (4). ويقول ناهياً عن ذلك : ( وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (1). وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قال كما ثبت عنه في صحيح مسلم في شأن البصل والكراث " إنه ليس لي تحريم ما أحل الله " (2) ، فكيف يجوز لغيره أن يحرم ما أحل الله ؟!
فإن قال قائل : إن الميكرفون حرام .
قلنا له : ليس لك أن تحرم شيئاً إلا بدليل ، ولا دليل لك على تحريمه ، بل الدليل كما أثبتنا يدل على حله لأنه مما خلق الله لنا في الأرض وقد أحله لنا كما تفيده الآية السابقة ( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) (3).
الثاني : أن من القواعد المقررة عند أهل العلم أن " الأصل في الأعيان والمنافع الحل والإباحة إلا ما قام الدليل على تحريمه " ، وهذه القاعدة مستمدة من نصوص الكتاب ، والسنة .
أما الكتاب:فمن قوله تعالى:( هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعا) (4).(173/8)
وأما السنة فمن قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها ، وحد حدوداً فلا تعتدوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها " (5) وأخبر أن " ما سكت عنه فهو عفو " (6) . والميكرفون مما خلق الله تعالى في الأرض ، وسكت عنه فيكون عفواً مباحاً .
الثالث : أن قاعدة الشرع الأساسية جلب المصالح ودفع المفاسد والميكرفون يشتمل على مصالح كالمبالغة برفع الصوت بتكبير الله تعالى وتوحيده ، والشهادة لرسوله صلى الله عليه وسلم بالرسالة ، والدعوة إلى الله خصوصاً ، وإلى الفلاح عموماً ، ومن مصالحه تنبيه الغافلين ، وإيقاظ النائمين ، ومع هذه المصالح ليس فيه مفسدة تقابل أو تقارب هذه المصالح بل ليس فيه مفسدة مطلقاً فيما نعلم .
الرابع : أن من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية أن الوسائل لها أحكام المقاصد ، والميكرفون وسيلة ظاهرة إلى إسماع الناس الأذان والدعوة إلى الصلاة ، وإبلاغهم ما يلقى فيه من خطب ومواعظ ، وإسماع الناس الأذان ، والدعوة إلى الصلاة ، وإبلاغهم المواعظ والخطب من الأمور المأمور بها بإجماع أهل العلم ، فما كان وسيلة إلى تعميمها وإيصالها إلى الناس كان مأموراً بها أيضاً .
الخامس : أن أهل العلم قالوا : ينبغي أن يكون المؤذن صيتاً أي : رفيع الصوت ليكون أشمل لإبلاغ الأذان ، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن زيد بن عبد ربه الذي رأي في المنام من يعلمه الأذان : " أذهب فألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً " (1). فدل هذا على طلب علو الصوت في الأذان ، والميكرفون من وسائله بلا شك فيكون مطلوباً .(173/9)
السادس : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى من كان عالي الصوت في إبلاغ الناس كما أمر أبي طلحة أن ينادي عام خيبر : " إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس " (1) ، وكما أمر العباس أن ينادي في الناس بأعلى صوته حين انصرفوا في حنين يقول مستحثاً لهم على الرجوع : " يا أصحاب السمرة ، يا أصحاب صورة البقرة ، أو يا أهل " (2) . وهذا يدل على التماس ما هو أبلغ في إيصال الأحكام الشرعية والدعوة إلى الله تعالى . ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على راحلته ليكون أبلغ في إيصال صوته.
السابع : أن الميكرفون آلة لتكبير الصوت وتقويته فكيف نقول إنه محرم ولا نقول إن نظارة العين التي تقوي النظر وتكبر الحرف إنها محرمة ؟! هذه تكبر الحرف وتقوي نظر العين ، وذاك يقوي الصوت ويضخم الكلمات ولا فرق بين الأمرين .
وأما توهم بعض الناس أن الميكرفون لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .(173/10)
فنقول : ما أكثر الأشياء التي وجدت بعد عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأجمع المسلمون على جوازها ، فإن تدوين السنة وتصنيفها في الكتب لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعارض في جواز ذلك إلا نفر قليل من الصدر الأول خوفاً من اختلاطها بالقرآن ، ثم انعقد الإجماع على الجواز بعد ذلك ، وبناء المدارس لم يكن معروفاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد أجمع المسلمون على جوازه ، وتصنيف الكتب في علم التوحيد والفقه وغيرها لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أجمع المسلمون على جوازه ، والمطابع التى تطبع الكتب لم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وقد أجمع المسلمون من بعد حدوثها على جواز طباعة كتاب الله تعالى ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وكلام أهل العلم في التفسير وشرح السنة ، وعلم التوحيد ، والفقه وغيرها بهذه المطابع ، ولم يقل أحد إنا لا نطبع بها لأنها لم تكن موجودة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
الثامن : أن الميكروفون يستعمل في أفضل المساجد المسجد الحرام ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم وما علمنا أن أحداً ممن يقتدي به من أهل العلم عارض ذلك أو أنكر على ولاة الأمور ، وهذا أمر واضح ولله الحمد ، ولا حرج عليكم في استعمال الميكروفون في المنارة للتأذين به ، وإذا كان أحد من الإخوان يكرهه فلا ينبغي أن يحرمه على غيره كما قال البراء بن عازب رضي الله عنه لمن قال إنه يكره أن يكون في أذن الأضحية أو قرنها نقص فقال له البراء : ما كرهت فدعه ولا تحرمه على غيرك . والله الموفق . في 13/6/1399 هـ .
? ? ?
فائدة (1)
صفات الأذان والإقامة عند العلماء :(173/11)
قال الإمام أحمد : الأذان خمس عشرة جملة ، أربع تكبيرات في أوله ، وشهادة الوحدانية لله تعالى ، والرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، مثنى مثنى ، بدون ترجيع وحيعلة الصلاة مرتين ، وحيعلة الفلاح مرتين ، وتكبيرتان ولا إله إلا الله .
ومذهب الشافعي كمذهب أحمد ، لكن يرجع الشهادتين في الأذان خاصة بأن يأتي بهما خافضاً صوته جميعاً ثم يعيدهما رافعاً صوته ، وليس كما نقل عنه يخفض شهادة التوحيد أولاً ثم يأتي بها رافعاً صوته ثم يأتي بشهادة الرسالة كذلك .
وعلى هذا يكون الأذان تسع عشرة جملة .
ومذهب مالك كمذهب الشافعي في الأذان إلا أن التكبير في أوله مرتان فقط، فيكون الأذان سبع عشرة جملة .
أما الإقامة فهي وتر في جميع جملها ما عدا التكبير فمثنى فتكون عشر جمل ، الله أكبر مرتين ، الشهادتان والحيعلتان وقد قامت الصلاة مرة مرة الله أكبر مرتين لا إله إلا الله .
ومذهب أبي حنيفة كمذهب أحمد في الأذان فيكون خمس عشرة جملة غير مرجع .
وأما الإقامة فهي كالأذان عنده بزيادة قد قامت الصلاة مرتين فتكون سبع عشرة جملة . وذكر في شرح المهذب ص100 ج 3 أقوالاً للشافعية في الإقامة : منها : أن يكون تسع جمل بإفراد كل جملها ما عدا التكبير في أولها فمرتين .
ومنها : أن تكون ثماني جمل بإفراد جميع جملها .
قلت : وحديث أنس " أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة " (1) . يدل على أن الأذان مثنى مثنى في تكبيره ، وتشهده وحيعلته ما عدا التوحيد في آخره فهو مرة ليقطع على وتر ، وأن الإقامة مرة مرة ما عدا قد قامت الصلاة .(173/12)
ويؤيده ما ذكره في شرح المهذب ص102 ج3 عن ابن عمر – رضي الله عنهما – قال : " إنما كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرتين ، والإقامة مرة مرة ، غير أنه يقول قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة " (2) . رواه أبو داود والنسائي بإسناد صحيح فإن كان أحد من أهل العلم قال بذلك فهو أقرب الأقوال إلى الصواب وإلا فلا يمكن الخروج عما أجمعت عليه الأمة . والله أعلم .
? ? ?
94 ) وسئل فضيلته : عن حكم من قدم ( حي على الفلاح ) على ( حي على الصلاة ) في الأذان مع الدليل ؟
فأجاب قائلاً : يجب عليه إذا قدم ( حي على الفلاح ) على ( حي على الصلاة ) أن يعيد ( حي على الفلاح ) بعد ( حي على الصلاة ) لأنه يشترط في الأذان الترتيب ، فإن الأذان ورد على هذه الصفة مرتباً فإذا نكسه الإنسان فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) .
? ? ?
95) وسئل فضيلته : هل يلتفت المؤذن يميناً ل ( حي على الصلاة ) في المرة الأولى ، وشمالاً للمرة الثانية ، ويميناً ل ( حي على الفلاح ) في المرة الأولى وشمالاً للمرة الثانية ، أو يلتفت يميناً لحي على الصلاة ، وشمالاً ل ( حي على الفلاح ) ؟
فأجاب بقوله : قيل : إنه يلتفت يميناً ل ( حي على الصلاة ) في المرتين جميعاً ، وشمالاً ل (حي على الفلاح ) للمرتين جميعاً .
وقال بعضهم : يلتفت يميناً ل ( حي على الصلاة ) في المرة الأولى ، وشمالاً للمرة الثانية ، و( حي على الفلاح ) يميناً للمرة الأولى وشمالاً للمرة الثانية ليعطي كل جهة حظها من ( حي على الصلاة ) و(حي على الفلاح ) ، ولكن المشهور وهو ظاهر السنة أنه يلتفت يميناً ل ( حي على الصلاة ) في المرتين جميعاً وشمالاً ل ( حي على الفلاح ) في المرتين جميعاً ، ولكن يلتفت في كل الجملة وما يفعل بعض المؤذنين أنه يقول : حي على ثم يلتفت لا أصل له .
? ? ?(173/13)
9696 ) سئل فضيلته : إذا كان المؤذن يؤذن عبر مكبر صوت فهل يلتفت عند حي على الصلاة ، حي على الفلاح ؟
فأجاب بقوله : إذا كان المؤذن يؤذن عبر مكبر الصوت فإنه لا يلتفت لحي على الصلاة ، وحي على الفلاح ، لأنه يضعف الصوت .
? ? ?
97) وسئل فضيلة الشيخ : إذا نسي المؤذن قول " الصلاة خير من النوم " فما الحكم ؟
فأجاب قائلاً : إذا نسي المؤذن قول " الصلاة خير من النوم " فإن المعروف عند أهل العلم أن أذانه صحيح لأن قول " الصلاة خير من النوم " في أذان الفجر سنة وليس بواجب بدليل أن عبدالله بن زيد رضي الله عنه لما رأى الأذان في المنام لم تكن فيه هذه الجملة " الصلاة خير من النوم " فيكون قولها ليس بشرط إن قالها الإنسان في أذان الفجر الذي يكون بعد طلوع الفجر فهو أفضل ، وإن لم يقلها فلا حرج .
? ? ?
98) وسئل فضيلته : كلمة ( الصلاة خير من النوم ) هل هي في الأذان الأول أو في الأذان الثاني ؟
فأجاب بقوله : كلمة ( الصلاة خير من النوم ) في الأذان الأول كما جاء في الحديث : " فإذا أذنت أذان الصبح الأول فقل : ( الصلاة خير من النوم ) " (1) . فهي في الأذان الأول ، لا الثاني .
ولكن يجب أن يُعلم ما هو الأذان الأول في هذا الحديث ؟
هو الأذان الذي يكون بعد دخول الوقت ، والأذان الثاني هو الإقامة ؛ لأن الإقامة تسمى ( أذاناً ) قال النبي صلى الله عليه وسلم : " بين كل أذانين صلاة " (2) . والمراد : الأذان والإقامة .
وفي صحيح البخاري أن أمير المؤمنين عثمان بن عفان زاد الأذان الثالث في الجمعة .
إذن الأذان الأول الذي أمر فيه بلال أن يقول : ( الصلاة خير من النوم ) هو الأذان لصلاة الفجر .(173/14)
أما الأذان الذي قبل طلوع الفجر ، فليس أذاناً للفجر ، فالناس يسمون أذان آخر الليل الأذان الأول لصلاة الفجر ، والحقيقة أنه ليس لصلاة الفجر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ويرجع قائمكم " (1) . أي لأجل النائم يقوم ويتسحر ، والقائم يرجع ويتسحر .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لمالك بن الحويرث : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (2) . ومعلوم أن الصلاة لا تحضر إلا بعد طلوع الفجر. إذن الأذان الذي قبل طلوع الفجر ليس أذاناً للفجر .
وعليه فعمل الناس اليوم وقولهم ( الصلاة خير من النوم ) في الأذان الذي للفجر هذا هو الصواب .
وأما من توهم بأن المراد بالأذان الأول في الحديث هو الأذان الذي قبل طلوع الفجر ، فليس له حظ من النظر .
قال بعض الناس : الدليل أن المراد به الأذان الذي يكون في آخر الليل لأجل صلاة النافلة أنه يقال : ( الصلاة خير من النوم ) وكلمة (خير ) تدل على الأفضل .
فنقول : إن كلمة ( خير ) تكون في الشيء الواجب الذي هو من أوجب الواجبات ، مثل قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ *تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (1). مع أنه إيمان . وقال تعالى في صلاة الجمعة :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) (2).
فالخيرية تكون في الواجب وتكون في المستحب .
? ? ?
99) سئل فضيلته : هل يكتفى بالأذان الأول لصلاة الفجر ؟(173/15)
فأجاب بقوله : لا يكتفى بالأذان الأول لصلاة الفجر ؛ لأن أذان الصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (3) . والصلاة لا تحضر قبل دخول وقتها .
? ? ?
100) 100) وسئل فضيلة الشيخ : عن قول المؤذن في أذان الفجر : " الصلاة خير من النوم " هل هو مشروع ؟
فأجاب قائلاً : قول المؤذن " الصلاة خير من النوم " في أذان الفجر يقال له ( التثويب ) وقد اختلف أهل العلم في مشروعيته :
فمنهم من قال : إنه مشروع . ومنهم من قال إنه بدعة .
والصواب : أنه مشروع في الأذان لصلاة الفجر لكثرة الأحاديث الواردة فيه وهي وإن كانت لا تخلو من مقال فمجموعها يلحق الحديث بالحجة والاستدلال ، وقد ورد التثويب في أذان بلال ، وأذان أبي محذورة :فأما حديث بلال فرواه الإمام أحمد من حديث سعيد بن المسيب عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه وفيه أن بلالاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة إلى الفجر فقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم قال:فصرخ بلال بأعلى صوته :" الصلاة خير من النوم " قال سعيد بن المسيب : فأدخلت هذه الكلمة في التأذين إلى صلاة الفجر " (1) ، وأما حديث أبي محذورة فرواه أبو داود عنه أنه قال : يا رسول الله ! علمني الأذان فذكر الحديث ، وفيه بعد ذكر حي على الفلاح " فإن كان صلاة الصبح قلت : الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم " (2) ، وفي رواية في هذا الحديث : "الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم في الأولى من الصبح " وفي أخرى: "فإذا أذنت بالأول من الصبح فقل:الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم "(3)، وعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : " من السنة إذا قال المؤذن في الفجر حي على الفلاح قال الصلاة خير من النوم " .(173/16)
فهذه الأحاديث تبين أن التثويب مشروع في الأذان لصلاة الفجر والأذان لصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها وحضورها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (1) . وعلى هذا فالأذان لصلاة الصبح لا يكون إلا بعد دخول وقتها ، أما الأذان قبل الفجر الذي حصل من بلال – رضي الله عنه – أيام الصيام فليس أذاناً لصلاة الفجر بل هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا يمنعن أحدكم أو أحد منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن ، أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ، ولينبه نائمكم " . رواه البخاري من حديث عبد الله بن مسعود (2) – رضي الله عنه – فبين صلى الله عليه وسلم بنصه الصريح أن الأذان قبل الفجر ليس لصلاة الفجر وإنما هو لإرجاع القائم وتنبيه النائم ، فلا ينبغي أن ينسب لصلاة الفجر ، وعلى هذا فالتثويب في أذان صلاة الفجر إنما يكون في الأذان الذي بعد دخول الوقت ؛ لأنه هو أذان صلاة الفجر ، أما ما كان قبل وقتها فليس أذاناً لها وإن سماه بعض الناس الأذان الأول للفجر ، وأما تقييد الأذان بالأول أو بالأولي في بعض روايات حديث أبي محذورة – رضي الله عنه – فلا يتعين أن المراد به ما قبل الفجر ؛ لأنه يحتمل أنه وصف بكونه أولاً بالنسبة إلى الإقامة فإن الإقامة يطلق عليها اسم الأذان إطلاقاً تغليبياً كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " بين كل أذانين صلاة " (3) . أي بين كل أذان وإقامة . أو إطلاقاً مجازياً أو حقيقياً باعتبار معنى الأذان العام لغة كما في صحيح البخاري عن السائب بن يزيد – رضي الله عنه – قال : " إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان – رضي الله عنه – حين كثر أهل المدينة " . الحديث . وليس في الجمعة سوى أذانين وإقامة ، فسمى الإقامة أذاناً إما تسمية مجازية أو حقيقية باعتبار معنى الأذان العام لغة ، فإن الأذان في اللغة الإعلام ، والإقامة إعلام بالقيام إلى الصلاة .(173/17)
ويؤيد هذا الاحتمال أنه لم ينقل أن أبا محذورة كان يؤذن للفجر مرتين مرة قبله ومرة بعده . ثم رأيت في صحيح البخاري في ( باب من انتظر الإقامة ) حديث عائشة – رضي الله عنها – رقم 626 / 109 فتح أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سكت المؤذن بالأولى من صلاة الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين قبل صلاة الفجر بعد أن يستبين الفجر . ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة (1) وهذا يؤيد ما ذكرته من الاحتمال . وفي صحيح مسلم في ( باب صلاة الفجر ) عنها – رضي الله عنها – قالت : كان ينام أول الليل ويحيي آخره . وفيه : فإذا كان عند النداء الأول قالت : وثب فأفاض عليه الماء ، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى الركعتين (2) ، صحيح مسلم 1/ 510 ، والمراد بالنداء الأول أذان الفجر كما دلت عليه روايات أخرى لمسلم 1/508 –509 .
وبسلوك هذا الاحتمال تجتمع الأدلة ويحصل الائتلاف بينها حيث يكون حديث أبي محذورة موافقاً لحديث مالك بن الحويرث الدال على أنه لا يؤذن للصلاة إلا عند حضورها بدخول وقتها ، ولحديث ابن مسعود الدال على الأذان قبل الفجر ليس أذاناً لصلاة الفجر ، ولظاهر حديث عبدالله بن زيد بن عبدربه في أذان بلال ودعائه النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة الغداة حيث لا يكون دعاؤه لها إلا بعد دخول وقتها ، وعلى هذا فتكون السنة دالة على أن التثويب في أذان الفجر ، وأذان
الفجر لا يكون إلا بعد دخول وقت صلاة الفجر ، فالأذان قبل الفجر لا تثويب فيه وهو عمل الناس عندنا من قديم ، وأما كلام فقهائنا رحمهم الله فظاهره أن التثويب في أذان الفجر سواء أذن بعذ الفجر أم قبله ولكن ما دلت عليه السنة أولى .(173/18)
وأما استنباط بعض الناس كون التثويب في الأذان الذي قبل الفجر بقول المثوب " الصلاة خير من النوم " والخيرية ترغيب في الشيء ولا تقتضي الإلزام به ، وهذا إنما يكون في النداء الذي قبل الفجر ؛ لأن النداء بعد الفجر ملزم بصلاة الفجر . فليس هذا الاستنباط بشيء ، وذلك لأن الخير في الواجب الملزم به أبلغ منه في المندوب إليه من غير إلزام ؛ لأن الله تعالى يقول في الحديث القدسي : " ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه " (1) . وخيرية الشيء وردت في القرآن في الأمور الواجبة والمندوب إليها من غير إيجاب فقال تعالى في سورة الصف : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (2). فقد وردت الخيرية في أوجب الأمور وهي العقيدة وحمايتها ، وقال تعالى في سورة الجمعة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (3). والسعي إلى الجمعة وترك البيع بعد ندائها واجب ، وقال تعالى : ( إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ) (1).
والخيرية هنا واردة فيما هو مندوب وليس بواجب .
وبهذا تبين أن الاستنباط المذكور ليس بشيء والله أعلم .
? ? ?
101) وسئل فضيلته : عن الأحاديث الواردة في التثويب في أذان الفجر ؟(173/19)
فأجاب بقوله : الأحاديث الواردة في التثويب في أذان الفجر ليس فيها حديث صحيح لذاته ، لكن فيها أحاديث كثيرة لا تخلو من مقال ، إلا أنها بمجموعها ترتقي إلى درجة الصحة لكثرتها وشهرتها وعمل المسلمين بها ، وقد وردت في أذان بلال ، وأذان أبي محذورة ، فأما حديث بلال فظاهره أنه يقال في الأذان الثاني فإن فيه أن بلالاً دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة لصلاة الفجر فقيل إنه نائم فنادى بأعلى صوته : الصلاة خير من النوم ، قال سعيد بن المسيب فأدخلت هذه في التأذين إلى صلاة الفجر (2) ، وأما حديث أبي محذورة فظاهره أنه يقال في الأذان الأول فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : " فإذا أذنت بالأول من الصبح فقل الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم " (3) ، وفي رواية : " في الأولى من الصبح " ، وفي رواية : " فإن كانت صلاة الصبح قلت الصلاة خير من النوم ، الصلاة خير من النوم " (4) ، ولم تقيد بالأذان الأول . وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " من السنة إذا قال المؤذن في الفجر : حي على الفلاح قال : الصلاة خير من النوم " . ولم يقيده بالأذان الأول .(173/20)
وتقييد الأذان بالأول في حديث أبي محذورة لا يتعين أن يكون المراد به الأذان الذي يكون في آخر الليل قبل الفجر ، بل يحتمل أن يكون المراد بالأذان الذي بعد الفجر وسمي أولاً بالنسبة للإقامة حيث يصح إطلاق اسم الأذان عليها كما في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: " بين كل أذانين صلاة " (1) . والمراد بالأذانين الأذان والإقامة ، وسميت الإقامة أذاناً لأن الأذان في اللغة الإعلام وهي إعلام بالقيام إلى الصلاة فصح إطلاق الأذان عليها لغة . وفي صحيح البخاري عن السائب بن يزيد رضي الله عنه قال : " إن الذي زاد التأذين الثالث يوم الجمعة عثمان بن عفان رضي الله عنه حين كثر أهل المدينة " . الحديث . وليس في يوم الجمعة سوى أذانين وإقامة فسماها أذاناً ، ويؤيد هذا الاحتمال أنه لم ينقل أن أبا محذورة كان يؤذن للفجر مرة قبل طلوعه ومرة بعده ، ويؤيده أيضاً أن الأذان قبل الفجر ليس لصلاة الفجر بل قد بين النبي صلى الله عليه وسلم الغرض منه حيث قال فيما ثبت عنه في صحيح البخاري من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه : " لا يمنعن أحدكم أو أحداً منكم أذان بلال من سحوره فإنه يؤذن أو ينادي بليل ليرجع قائمكم ، ولينبه نائمكم " (2) فبين النبي صلى الله عليه وسلم سبب هذا الأذان وأنه ليس لصلاة الصبح . والأذان للصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث والوفد الذين معه : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (1) ، وحضور الصلاة إنما يكون بعد دخول وقتها ، فإذا أضيف الأذان إلى الصبح أو صلاة الصبح تعين أن يحمل على الأذان الذي يكون لها عند دخول وقتها .(173/21)
ويدل على تعيينه أيضاً ما رواه مسلم في صحيحه في ( باب صلاة الليل ) عن عائشة رضي الله عنها قالت:" كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام أول الليل ، ويحي آخره ، ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام ، فإذا كان عند النداء الأول وثب فأفاض عليه الماء ، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى الركعتين " (2) . يعني سنة الفجر .
فإن قيل : إن قوله صلى الله عليه وسلم : " إن بلالاً يؤذن بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم" (3) يدل على أنه لا تثويب في الأذان بعد الفجر إذ لو كان كذلك لم يحصل اشتباه بين الأذانين حتى يحتاج الناس للتنبيه عليه.
فالجواب : أن التثويب لا يكون من أول الأذان حتى يزول الاشتباه به ، والإمساك معلق بسماع أول الأذان فكان لابد من التنبيه لئلا يمسكوا من حين أن يسمعوا أول الأذان .
هذا ما تبين لي من السنة أن التثويب إنما يكون في أذان صلاة الفجر وهو ما كان بعد دخول الوقت ، أما كلام فقهائنا فظاهره أن التثويب يكون في أذان صلاة الفجر سواء كان قبل الوقت أم بعده ولكن اتباع السنة أولى ، والله الموفق.
102) وسئل فضيلته : متى يقول المؤذن " الصلاة خير من النوم " في الأذان الأول أو الثاني ؟
فأجاب قائلاً : قول المؤذن " الصلاة خير من النوم " يكون في الأذان لصلاة الصبح ، وهو الأذان الذي يكون بعد طلوع الفجر الذي تحل به صلاة الفجر ويحرم به الأكل على الصائم ، ولا يكون في الأذان الذي قبل الفجر ، لأن الأذان الذي قبل الفجر ليس أذاناً لصلاة الفجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن بلالاً يؤذن بليل ليوقظ نائمكم ، ويرجع قائمكم " (1) وأذان الفجر لا يكون إلا بعد طلوع الفجر لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث : " إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (2) ، وحضور الصلاة لا يكون إلا بعد دخول وقتها .(173/22)
وقد توهم بعض الناس فظن أنها تقال في الأذان الذي قبل الفجر لقوله في الحديث :إذا أذنت الأول لصلاة الصبح " (3) فظن أن الأول الذي يكون قبل الفجر ، ولكن ليس الأمر كما ظن ، لأن ما قبل الفجر ليس أذاناً لصلاة الصبح كما علمت مما سبق وإنما المراد به ما بعد الفجر لكن سماه أذاناً أول باعتبارالإقامة فإن الإقامة تسمى أذاناً لقوله صلى الله عليه وسلم : " بين كل أذانين صلاة " (4) أي بين كل أذان وإقامة صلاة ، ولأنها إعلام بالقيام إلى الصلاة ، والإٌعلام بالشيء يسمى أذاناً لقوله تعالى:( وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ) (1)، أي إعلام من الله ورسوله . وقوله : ( وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ) (2) ، وعلى هذا يكون الأذان لصلاة الصبح بعد طلوع الفجر أذاناً أول باعتبار الإقامة التي هي الأذان الثاني . وفي صحيح مسلم ص510 ج1 تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي عن عائشة رضي الله عنها في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الليل قالت : " كان ينام أول الليل ويحيي آخره ثم إن كانت له حاجة إلى أهله قضى حاجته ثم ينام ، فإذا كان عند النداء الأول قالت وثب ( ولا والله ما قالت قام ) فأفاض عليه الماء ، وإن لم يكن جنباً توضأ وضوء الرجل للصلاة ثم صلى الركعتين " (3) . فأنت ترى أنها أطلقت النداء الأول على أذان الصبح الذي بعد طلوع الفجر لقولها " ثم صلى الركعتين " وهما سنة الفجر ولا تكون صلاتهما إلا بعد طلوعه .(173/23)
هذا وقد تعلل بعض القائلين بأن قول الصلاة خير من النوم في الأذان الذي في آخر الليل بأن قوله خير من النوم يدل على أن الصلاة نافلة وهذا قبل الفجر ، لكن هذه علة عليلة ، فإن الخيرية تكون في النوافل والواجبات كما في قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِه) إلى قوله : (ْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُم)(4) وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح .
? ? ?
103) وسئل فضيلة الشيخ : بعض الناس عندما يريد الإقامة للصلاة يقول قد أقامت الصلاة فهل يصح ذلك ؟
فأجاب بقوله : لا يصح أن يقول : أقامت بدل قامت ؛ لأن المعنى يتغير فإن أقام فعل رباعي مُعَدَ للغير ، وأما قام فهو فعل ثلاثي لازم ، فكما أنه لا يصح أن يقول القائل : أقام زيد بمعنى قام زيد فلا يصح أن يقول أقامت الصلاة بمعنى قامت الصلاة .
? ? ?
104 104 ) وسئل فضيلته:إذا نسي المؤذن قول(الصلاة خير من النوم) فماذا يلزمه؟
فأجاب قائلاً : إذا نسي المؤذن قوله ( الصلاة خير من النوم ) فإن المعروف عند أهل العلم أن أذانه صحيح ؛ لأن قول ( الصلاة خير من النوم ) في أذان الفجر سنة وليست واجباً ، فإن قالها الإنسان في صلاة الفجر الذي يكون بعد طلوع الفجر فهو أفضل ، وإن لم يقلها فلا حرج .
? ? ?
105 ) وسئل فضيلة الشيخ : هل يصح الأذان بالمسجل ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الأذان بالمسجل غير صحيح ؛ لأن الأذان عبادة ، والعبادة لابد لها من نية .
? ? ?
106) وسئل فضيلة الشيخ : عن الأذان إذا كان مُلَحناً أو مَلْحُوناً ؟
فأجاب بقوله : الأذان الملحن أي المطرب به يجزيء لكنه مكروه . وأما الملحون فإن كان اللحن يتغير به المعنى فإن الأذان لا يصح كما لو قال المؤذن " الله أكبار " فهذا لا يصح ، لأنه يحيل المعنى فإن أكبار جمع كبر وهو الطبل .(173/24)
وأما إذا كان اللحن لا يتغير به المعنى فإن الأذان يصح مع الكراهة .
? ? ?
107 107 ) وسئل فضيلة الشيخ : هل يجزيء الأذان قبل الوقت ؟
فأجاب بقوله: الأذان قبل الوقت لا يجزيء لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم " (1) والصلاة لا تحضر إلا بدخول الوقت والحديث عام لا يستثنى منه شيء ولا يعارض حديث " إن بلالاً يؤذن بليل " (2) لأننا نقول إن أذان بلال ليس لصلاة الفجر لقوله صلى الله عليه وسلم : " ليرجع قائمكم ، ويوقظ نائمكم " .
? ? ?
108) سئل فضيلة الشيخ : ما رأي فضيلتكم في كلمة " رفع الأذان " أو " يرفع الأذان فلان " ؟
فأجاب قائلاً : الأولى أن يعبر بالأذان دون رفع الأذان ؛ لأن التعبير بالأذان هو التعبير الشرعي ، ولأنه أوضح للناس .
? ? ?
109) وسئل فضيلته : عن حكم تأخير الأذان عن أول الوقت ؟
فأجاب بقوله: إذا كان الإنسان في بلد فلا ينبغي أن يتأخر عن أول الوقت ؛ لأن ذلك يؤدي إلى الفوضى واختلاف المؤذنين والاشتباه على الناس أيهما أصوب هذا المتقدم أو المتأخر .
أما إذا كان في غير البلد فالأمر إليهم ، لكن الأفضل أن يؤذنوا في أول الوقت ويصلوا ؛ لأن تقديم الصلاة في أول وقتها أفضل ، إلا ما شرع تأخيره ، فما شرع تأخيره فإنه يؤخر فيه الأذان ولهذا ثبت في صحيح البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان في سفر فقام المؤذن ليؤذن فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبرد " ثم أراد أن يقوم فقال : " أبرد " ثم أراد أن يقوم فقال : " أبرد " (1) حتى ساوى التل ظله ثم أذن ، وهذا يدل على أن الأذان مشروع حيث تشرع الصلاة ، فإذا كانت الصلاة مما ينبغي تأخيره كصلاة الظهر في شدة الحر ، وصلاة العشاء فإنه يؤخر هذا في غير المدن والقرى التي فيها مؤذنون وإلا فلا ينبغي للإنسان أن يتخلف عن الوقت الذي يؤذن فيه الناس .
? ? ?
110) سئل فضيلة الشيخ : هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحدد وقتاً بين الأذان والإقامة ؟(173/25)
فأجاب قائلاً : كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الصلاة في أول الوقت إلا العشاء الآخرة فإنه كان ينظر إلى اجتماع الناس إذا رآهم اجتمعوا عجل ، وإذا رآهم أبطؤوا أخر (2)، وكان يبقى في البيت حتى يأتيه المؤذن فيعلمه بحضور الصلاة وربما خرج إليها بدون إعلام .
فالسنة تعجيل جميع الصلوات إلا العشاء وإلا الظهر عند اشتداد الحر ، ولكن الصلوات التي لها نوافل راتبة كالفجر والظهر ينبغي للإنسان أن يراعي حال الناس بحيث يتمكنون من الوضوء بعد الأذان ومن صلاة هذه الراتبة .
? ? ?
111) وسئل فضيلته : عن إمام مسجد يتأخر عن الجماعة في صلاتي الفجر والظهر ، ويؤخر أحياناً الصلاة حوالي ساعة ، بم تنصحونه ؟
فأجاب بقوله : يجب على الإمام ألا يتأخر عن الصلاة لا في صلاة الظهر ولا الفجر ، ولا في غيرهما من الأوقات ؛ لأنه ملزم بذلك ، وأما تأخره في الإقامة فإنه لا ينبغي إلا في صلاة العشاء ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رآهم اجتمعوا عجل ، وإذا رآهم أبطؤوا تأخر (1) ، وأما في بقية الصلوات فالتقديم أفضل لكن يراعي في الصلوات التي يكون لها راتبة قبلها ، فيمهل الناس حتى يتمكنوا من أداء الراتبة والوضوء والله الموفق .
? ? ?
112 112 ) وسئل فضيلته : مؤذن يقول : عند صلاة الصبح كلما أريد أن أقيم الصلاة لضيق الوقت يطلب مني المصلون أن أجلس حتى يأذن لي الإمام ويقولون أنه لا يجوز أن أقيم الصلاة حتى يأذن لي الإمام فهل هذا صحيح ؟
فأجاب قائلاً : المؤذن أملك بالأذان فإليه يرجع الأذان ، وأما الإقامة فإن الإمام أملك بها فلا يقيم المؤذن إلا بحضور الإمام وإذنه .(173/26)
وأما قوله : لضيق الوقت فنعم إذا تأخر الإمام حتى كادت الشمس تطلع وضاق الوقت فحينئذ يصلون ولا ينتظرونه ، أما ما دام الوقت باقياً فإنهم لا يصلون حتى يحضر الإمام ، لكن ينبغي للإمام أن يحدد وقتاً معيناً للناس فيقول مثلاً : إذا تأخرت عن هذا الوقت فصلوا ليكون في هذا الحال أيسر لهم وأصلح له هو أيضاً ولا يقع الناس في حرج أو ضيق .
? ? ?
113 113 ) وسئل فضيلة الشيخ : إذا جمع الإنسان الصلاة فهل يؤذن ويقيم لكل صلاة ؟
فأجاب بقوله : إذا جمع الإنسان أذن للأولى وأقام لكل فريضة إلا إذا كان في البلد فإن أذان البلد يكفي وحينئذ يقيم لكل فريضة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة أذن ثم أقام فصلى الظهر ، ثم أقام فصلى العصر ، وكذلك في مزدلفة حيث أذن وأقام فصلى المغرب ثم أقام فصلى العشاء (1) .
? ? ?
114 114 ) وسئل فضيلته : إذا دخل الإنسان المسجد والمؤذن يؤذن فما الأفضل له ؟
فأجاب قائلاً : الأفضل أن يجيب المؤذن ثم يدعو بعد ذلك بما ورد ، ثم يدخل في تحية المسجد ، إلا أن بعض العلماء استثنوا من ذلك من دخل المسجد والمؤذن يؤذن يوم الجمعة الأذان الثاني فإنه يصلي تحية المسجد لأجل أن يستمع الخطبة ، وعللوا ذلك بأن استماع الخطبة واجب وإجابة المؤذن ليست واجبة ، والمحافظة على الواجب أولى من المحافظة على غير الواجب .
? ? ?
115) وسئل فضيلته : عن حكم أداء تحية المسجد والمؤذن يؤذن مع العلم أنه لا يوجد فترة بين الأذان والإقامة تكفي لأداء التحية ؟
فأجاب بقوله : الأولى الإنتظار للإجابة ، ثم يقول : " اللهم رب هذه الدعوة التامة …." إلا في صلاة الجمعة فالأولى السنة .
? ? ?
116) وسئل فضيلته : إذا سمع الإنسان مؤذناً ثم سمع آخر فهل يجيب ؟
فأجاب فضيلته بقوله : يجيب الأول ويجيب الثاني لعموم قوله صلى الله عليه وسلم : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " (1) .(173/27)
ولكن لو صلى ثم سمع مؤذناً بعد الصلاة فظاهر الحديث أنه يجيب لعمومه .
وقال بعض العلماء : إنه لا يجيب لأنه غير مدعو بهذا الأذان فلا يتابعه ، ولا يمكن أن يؤذن آخر بعد أن تؤدى الصلاة فيحمل الحديث على المعهود في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لا تكرار في الأذان ، ولكن لو أخذ أحد بعموم الحديث وقال إنه ذكر وما دام الحديث عاماً فلا مانع من أن أذكر الله عز وجل فهو على خير .
? ? ?
117) وسئل فضيلته : هل المقام المحمود الذي وعده الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم خاص بالشفاعة ؟
فأجاب قائلاً : الصحيح أن المقام المحمود عام ؛ كل مقام يحمده الناس فيه ، ومن ذلك الشفاعة العظمى ، حين يتدافع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الشفاعة ، حتى تصل إليه صلى الله عليه وسلم فيشفع فيشفعه الله عز وجل ، فالصحيح أنه عام .
? ? ?
118) وسئل فضيلته : ورد في الحديث أن الإنسان يقول عند متابعته للمؤذن " رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً " فمتى يقول هذا ؟
فأجاب بقوله : ظاهر الحديث أن المؤذن إذا قال أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله واجبته تقول بعد ذلك رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً ، لأن الحديث جاء فيه : " من قال حين يسمع النداء أشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً رسول الله ، رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً " (1) ، وفي رواية : " من قال وأنا أشهد " وفي قوله : " وأنا أشهد " دليل على أنه يقولها عقب قول المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله لأن الواو حرف عطف فيعطف قوله على قول المؤذن .
? ? ?
119) سئل فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى: بماذا يجاب المؤذن عندما يقول : "الصلاة خير من النوم " ؟(173/28)
فأجاب فضيلته قائلاً : يجيبه بمثل ما قال فيقول : " الصلاة خير من النوم " لأن المؤذن إذا قال " الله أكبر " قال المجيب " الله أكبر " ، وإذا قال : " أشهد أن لا إله إلا الله " قال : " أشهد أن لا إله إلا الله " ، وإذا قال : " أشهد أن محمداً رسول الله " قال : " أشهد أن محمداً رسول الله " ، ثم يقول المجيب بعد الشهادتين : " رضيت بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً " ، فإذا قال : " حي على الصلاة " قال المجيب " لا حول ولا قوة إلا بالله " وهكذا حي على الفلاح فإذا قال : " الله أكبر " قال " الله أكبر " ، وإذا قال : " لا إله إلا الله " ، قال: " لا إله إلا الله " ، وإذا قال : " الصلاة خير من النوم " قال المجيب : " الصلاة خير من النوم " .
وقيل : يقول : " صدقت وبررت " . وقيل : يقول : " لا حول ولا قوة إلا بالله " . والصحيح الأول ، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " (1) . وهذا لم يستثن منه في السنة إلا حي على الصلاة ، وحي على الفلاح ، فيقال : لا حول ولا قوة إلا بالله ، فيكون العموم باقياً فيما عدا هاتين الجملتين .
فإذا قال قائل : أليس قول " الصلاة خير من النوم " صدقاً ؟
قلنا : بلى ، وقول " الله أكبر " صدق وقول " لا إله إلا الله " صدق فهل تقول إذا قال الله أكبر صدقت وبررت ؟ ما تقول هذا ، إذاً إذا قال " الصلاة خير من النوم " فقل كما يقول هكذا عموم أمر النبي صلى الله عليه وسلم .
? ? ?
120) سئل فضيلة الشيخ : عن الأذان في المذياع أو التلفاز هل يُجاب ؟
فأجاب قائلاً : الأذان لا يخلو من حالين :(173/29)
الحال الأولى : أن يكون على الهواء أي أن الأذان كان لوقت الصلاة من المؤذن فهذا يجاب لعموم امر النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " . إلا أن الفقهاء رحمهم الله قالوا : إذا كان قد أدى الصلاة التي يؤذن لها فلا يجيب .
الحال الثانية : إذا كان الأذان مسجلاً وليس أذاناً على الوقت فإنه لا يجيبه لأن هذا ليس أذاناً حقيقياً أي أن الرجل لم يرفعها حين أمر برفعه وإنما هو شيء مسموع لأذان سابق . وإن كان لنا تحفظ على كلمة يرفع الأذان ولذا نرى أن يقال أذن فلان لا رفع الأذان (1) .
? ? ?
121) سئل فضيلة الشيخ – رعاه الله – هل يلزم متابعة كل مؤذن في البلد أو يكتفي بالأول ؟
فأجاب بقوله : إجابة المؤذن ليست بلازمة لا في أول مؤذن ولا في آخر مؤذن .
لكن هل يشرع ويستحب فأنا أقول : الفقهاء – رحمهم الله – يقولون : إنه يجيب المؤذن كلما سمعوا واستدلوا بعموم قول الرسول عليه الصلاة والسلام : " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " (1) . وهذا عام إلا أنهم استثنوا إذا صلى فإنه لا يجيب المؤذن ، يعني لو فرضنا أن أحد من المؤذنين تأخر ولم يؤذن إلا بعد أن صليت قالوا : فهنا لا يجيب المؤذن وعللوا ذلك بأنه غير مدعو بهذا الأذان ، لأن المؤذن هذا يقول حي على الصلاة وأنت قد صليت . فلا تجيبه في هذه الحال ، ولكن لو أجبته فأنت على خير أخذاً بالعموم " إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول المؤذن " .
? ? ?
122) سئل فضيلة الشيخ : عن حكم الزيادة في الأذان ؟(173/30)
فأجاب قائلاً : الأذان عبادة مشروعة بأذكار مخصوصة بينها النبي صلى الله عليه وسلم لأمته بإقراره لها ، فلا يجوز للإنسان أن يتعدى حدود الله تعالى فيها ، أو يزيد فيها شيئاً من عنده لم يثبت به النص ، فإن فعل كان ذلك مردوداً عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " (2) . وفي لفظ : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (3) . وإذا زاد الإنسان في الأذان شيئاً لم يثبت به النص كان خارجاً عن ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون فيما زاده ، والشرع كما يعلم جميع المسلمين توقيفي يتلقى من الشارع، فما جاء به الشرع وجب علينا التعبد به استحباباً في المستحبات، وإلزاماً في الواجبات ، وما لم يرد به الشرع فليس لنا أن نتقدم بين يدي الله ورسوله بزيادة فيه أو نقص .
? ? ?
123) وسئل فضيلة الشيخ : إذا أذن المؤذن بدون مكبر الصوت لانقطاع التيار الكهربائي ، ثم بعد أذانه مباشرة جاء التيار ، فهل يعيد الأذان في مكبر الصوت أو يكتفي بأذانه الأول ؟
فأجاب بقوله : يكفي اذانه الأول ولا حاجة للإعادة ؛ لأن هناك مساجد أخرى حوله قد سمع الناس التأذين منها ، أما لو كان مسجداً منفرداً ليس هناك غيره فهنا يعيد ؛ حتى يعلم الناس بدخول وقت الصلاة .
? ? ?
124) وسئل فضيلته : إذا أتى المؤذن بالدعاء الوارد بعد الأذان بصوت مرتفع في مكبر الصوت هل في ذلك شيء أم لا ؟(173/31)
فأجاب بقوله : نعم في هذا شيء ؛ لأن المؤذن إذا أتى بهذا الدعاء المشروع بعد الأذان في مكبر الصوت صار كأنه من الأذان ، ثم إن هذا الأمر لم يكن معروفاً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فهو من البدع التي نهي عنها ، حتى لو قلت مثلاً إنني أقصد التعليم بهذا ليعرف الناس مشروعية هذا الذكر نقول : إن التعليم يمكن بعد أن تفرغ من الصلاة ويحضر الناس تنبههم إلى هذا ولو عن طريق مكبر الصوت وتقول إنه ينبغي للإنسان إذا فرغ من الأذان أن يقول كذا وكذا ، ولا تظهره في الأذان بحيث يظن الظان أنه منه فهذا من البدع.
? ? ?
125) وسئل فضيلته : عن زيادة " إنك لا تخلف الميعاد " في الذكر الذي بعد الأذان ؟
فأجاب قائلاً : هذه الزيادة محل خلاف بين علماء الحديث :
فمنهم من قال : إنها غير ثابته لشذوذها ، لأن أكثر الذين رووا الحديث لم يرووا هذه الكلمة ، والمقام يقتضي ألا تحذف ، لأنه مقام دعاء وثناء وما كان على هذا السبيل فإنه لا يجوز حذفه لأنه متعبد به .
ومن العلماء من قال : إن سندها صحيح وأنها تقال ولا تنافي غيرها ، وممن ذهب إلى تصحيحها الشيخ عبد العزيز بن باز وقال : إن سندها صحيح حيث أخرجها البيهقي بسند صحيح (1) .
? ? ?
126) سئل فضيلة الشيخ : يزيد بعض المؤذنين بعد الأذان بصوت مرتفع مثل قولهم : " صلى الله وسلم على نبينا وسيدنا محمد " أو " الصلاة الصلاة يرحمكم الله " أو يقول أثناء الأذان : " الله أكبرَ " بفتحها ، أو " الله آكبر " أو " الله أكبار " أو " الله إكبر " فما جوابكم على ذلك ؟
فأجاب قائلاً : كل ذكر أو دعوة يلحق بالأذان فإنه بدعة ، والأذان كاف عن كل شيء ، ومن ذلك قوله " الصلاة الصلاة يرحمكم الله " إذا انتهى من الأذان فهذا من البدع ، وحقيقته أن هذا الذي يقول ذلك كأنه غير مقتنع بالأذان الذي جعله الشارع علامة على دخول الوقت .(173/32)
وأما اللحن الذي ذكره السائل فهو مختلف فإن قول " الله أكبرَ " لا يحيل المعنى فلا يكون محرماً ولا مبطلاً للأذان ، وأما " الله آكبر " فهو لحن مغير للمعنى فلا يجوز ، وأما " أكبار " فهو لفظ محيل للمعنى فلا يجوز ، وأما " إكبر " فهو لحن لكن لا أعلم أنه يحيل المعنى ولكن كلما كان أصح فهو أفضل .
? ? ?
127) سئل فضيلة الشيخ جزاه الله خيراً : عن حكم الخروج من المسجد بعد الأذان ؟
فأجاب بقوله : رأى أبو هريرة رجلاً خرج بعد الأذان من المسجد فقال : " أما هذا فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم " (1) ، والمعصية في الأصل للتحريم ، قال تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (2).
فلهذا قال أهل العلم : إنه لا يجوز للإنسان أن يخرج من المسجد بعد الأذان إلا لعذر مثل أن يخرج ليتوضأ ويرجع ، إلا أنه إذا كان يخشى أن تفوته الجماعة فإنه لا يخرج ما لم يكن مدافعاً للبول أو الغائط ، فإن كان مدافعاً للبول أو الغائط فليخرج ولو فاتت الصلاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان " (3) . فإذا فرضنا أن أحداً ينتظر الصلاة ثم حصر ببول أو غائط أو بريح أيضاً ؛ لأن بعض الناس قد يكون عنده غازات تشغله فلا حرج عليه أن يخرج ويقضي حاجته ، ثم يرجع إن أدرك الجماعة فبها ونعمت ، وإن لم يدركها فلا حرج عليه .
? ? ?
128) وسئل فضيلته : عن الخروج من المسجد بعد الأذان لأمر واجب كإيقاظ نائم ؟ وما حكم اتخاذ المسجد ممراً ؟
فأجاب بقوله : الخروج بعد الأذان لعذر لا بأس به كإيقاظ نائم ونحوه بشرط أن يرجع قبل الإقامة ، ومثل ذلك إذا أمره والده بالخروج لحاجة وهو يمكن أن يرجع قبل فوات الجماعة .
واتخاذ المسجد ممراً لا ينبغي إلا لحاجة ؛ لأن المساجد إنما بنيت للصلاة والقرآن والذكر ، لكن مع الحاجة يجوز المرور لقوله تعالى : ( وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ) (1).(173/33)
? ? ?
129 129 ) وسئل فضيلته : عن المتابعة في الإقامة ؟
فأجاب قائلاً : المتابعة في الإقامة فيها حديث أخرجه أبو داود (2)، لكنه ضعيف لا تقوم به الحجة ، والراجح أنه لا يتابع .
? ? ?
130) وسئل فضيلة الشيخ : نسمع من بعض الناس بعد إقامة الصلاة قولهم : أقامها الله وأدامها ، فما حكم ذلك ؟
فأجاب بقوله : ورد في هذا الحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا قال المؤذن : " قد قامت الصلاة " قال " أقامها الله وأدامها " (3) ، لكن الحديث ضعيف لا تقوم به حجة .
131) سئل فضيلة الشيخ : عن الرجل إذا جاء المسجد يوم الجمعة والمؤذن يؤذن الأذان الثاني فهل يتابعه أو يصلي تحية المسجد ؟
فأجاب قائلاً : ذكر أهل العلم أن الرجل إذا دخل المسجد وهو يسمع الأذان الثاني فإنه يصلي تحية المسجد ولا يشتغل بمتابعة المؤذن وإجابته ، وذلك ليتفرغ لاستماع الخطبة لأن استماعها واجب ، وإجابة المؤذن سنة ، والسنة لا تزاحم الواجب .
? ? ?
132) وسئل فضيلة الشيخ : إذا أذن المؤذن للصلاة والمرأة شعرها مكشوف وهي في بيتها أو بيت أهلها أو عند الجيران ولا يراها غير المحارم أو النساء ، فهل هذا حرام ؟ وأن الملائكة تلعنها طوال مدة الأذان ؟
فأجاب بقوله : هذا ليس بصحيح ، فللمرأة أن تكشف شعرها ولو كان المؤذن يؤذن ، إذا لم يرها أحد من الأجانب ، ولكنها إذا أرادت أن تصلي فعليها أن تستر جميع بدنها إلا وجهها ، مع أن كثير من أهل العلم رخص لها في كشف كفيها وقدميها أيضاً ، ولكن الاحتياط سترهما إلا الوجه فلا حرج عليها من كشفه ، هذا إذا لم يكن حولها رجال أجانب ، فإن كانوا فلابد من ستره ؛ لأنها لا يجوز لها كشفه إلا لزوجها ومحارمها .
? ? ?
---
(1) أخرجه البخاري : كتاب الأذان / باب الاستهام في الأذان ، ومسلم : كتاب الصلاة / باب تسوية الصفوف ....
(2) أخرجه مسلم : كتاب الصلاة / باب فضل الأذان .(173/34)
(1) أخرجه البخاري : كتاب الأذان / باب الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة ، ومسلم : كتاب المساجد / باب من أحق بالإمامة .
(2) أخرجه البخاري : كتاب الأذان / باب الأذان للمسافر ....، ومسلم : كتاب المساجد / باب من أحق بالإمامة .
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/145 و157 ، وأبو داود : كتاب الصلاة / باب الأذان في السفر .
(2) أخرجه البخاري : كتاب الحج / باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة ، ، ومسلم : كتاب الحج / باب الإفاضة من عرفات ...
(1) تقدم تخريجه ص27 .
(2) تقدم تخريجه ص160 .
(3) سورة هود ، الآيتان : 15 ، 16
(1) تقدم تخريجه ص21 .
(2) سورة الأعلى ، الآيات : 16-19 .
(1) سورة هود ، الآيتان : 15 ، 16 .
(2) أخرجه البخاري : كتاب الإيمان / باب ما جاء إن الأعمال بالنية والحسبة ، ومسلم : كتاب الإمارة / باب قوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات " .
(1) سورة يونس ، الآية : 59 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 29 .
(2) سورة الجاثية ، الآية : 13 .
(3) سورة المائدة ، الآية : 87 .
(4) سورة الأعراف ، الآية : 32 .
(1) سورة النحل ، الآية : 116 .
(2) أخرجه مسلم : كتاب المساجد / باب نهي من أكل ثوماً أو بصلاً " .
(3) سورة البقرة ، الآية : 29 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 29 .
(5) أخرجه البيهقي في " السنن " 10/30 ، وقال النووي في " الأربعين " : " حديث حسن " .
(6) أخرجه الحاكم في " المستدرك " 2/407 ، وصححه ووافقه الذهبي ، والهيثمي في " المجمع " 7/55 وقال : رجاله ثقات .
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/43 ، وأبو داود : كتاب الصلاة / باب كيف الأذان ( 499) ، والترمذي : أبواب الصلاة / باب ما جاء في بدء الأذان (189 ) ، وابن ماجه : كتاب الأذان / / باب بدء الأذان (706 ) ، وقال الترمذي : حديث صحيح(173/35)
(1) ) أخرجه البخاري : كتاب الذبائح والصيد / باب لحوم الحمر الإنسية ، ومسلم : كتاب الصيد والذبائح / باب تحريم أكل لحوم الحمر الإنسية.
(2) أخرجه مسلم : كتاب الجهاد / باب في غزوة حنين .
(1) انظر المنتقى من فرائد الفوائد لفضيلة الشيخ ص221 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الأذان / باب الأذان مثنى مثنى ن ومسلم : كتاب الصلاة / باب الأمر بشفع الأذان وإيتار الإقامة .
(2) أخرجه الإمام أحمد 2/85 و87 ، وأبو داود : كتاب الصلاة / باب في الإقامة ( 510 ) ، والنسائي : كتاب الأذان / باب تثنية الأذان (627 ) .
(1) تقدم تخريجه ص21 .
(1) أخرجه الإمام أحمد 3/408 .
(2) ) أخرجه البخاري : كتاب الأذان / باب بين كل أذانين صلاة لمن شاء ، ومسلم : كتاب صلاة المسافرين / باب بين كل أذانين صلاة .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الأذان / باب الأذان قبل الفجر ، ومسلم : كتاب الصيام / باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل ....
(2) تقدم تخريجه ص160 .
(1) سورة الصف ، الآيتان : 10 ،11 .
(2) سورة الجمعة ، الآية : 9 .
(3) تقدم تخريجه ص160 .
(1) أخرجه الإمام أحمد 4/24 .
(2) أخرجه الإمام أحمد 3/408 ، وأبو داود : كتاب الصلاة /باب كيف الأذان ( 501 ) ، والنسائي : كتاب الأذان / باب الأذان في السفر ( 632 ) .
(3) تقدم تخريجه ص176 .
(1) تقدم تخريجه ص160.
(2) تقدم تخريجه ص177 .
(3) تقدم تخريجه ص176 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الأذان / باب من انتظر الإقامة .
(2) أخرجه مسلم : كتاب صلاة المسافرين / باب صلاة الليل ...
(1) اخرجه البخاري : كتاب الرقاق / باب التواضع .
(2) سورة الصف ، الآيتان : 10 ، 11 .
(3) سورة الجمعة ، الآية : 9 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 271 .
(2) تقدم تخريجه ص179 .
(3) تقدم تخريجه ص176 .
(4) تقدم تخريجه ص176 .
(1) تقدم تخريجه ص176 .
(2) تقدم تخريجه ص 177 .
(1) تقدم تخريجه ص160 .
(2) تقدم تخريجه ص181 .(173/36)
(3) أخرجه البخاري : كتاب الأذان / باب الأذان قبل الفجر ، ومسلم : كتاب الصيام / باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر
(1) تقدم تخريجه ص177 .
(2) تقدم تخريجه ص160 .
(3) تقدم تخريجه ص176 .
(4) تقدم تخريجه ص176 .
(1) سورة التوبة ، الآية : 3 .
(2) سورة الحج ، الآية : 27 .
(3) تقدم تخريجه ص181 .
(4) سورة الصف ، الآيتان : 10 ، 11
(1) تقدم تخريجه ص160
(2) تقدم تخريجه ص177 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب المواقيت / باب الإبراد بالظهر في السفر ، ومسلم : كتاب المساجد / باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر
(2) أخرجه البخاري : كتاب المواقيت / باب وقت المغرب ، ومسلم : كتاب المساجد / باب استحباب التبكير بالصبح .
(1) تقدم تخريجه ص190 .
(1) تقدم تخريجه ص161 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب الأذان / باب ما يقول إذا سمع المنادي ، ومسلم : كتاب الصلاة / باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن .
(1) أخرجه مسلم : كتاب الصلاة / باب استحباب القول مثل قول المؤذن .
(1) تقدم تخريجه ص193 .
(1) انظر الفتوى رقم 108 ص189 .
(1) تقدم تخريجه ص193 .
(2) أخرجه البخاري : كتاب الصلح / باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود ، ومسلم : كتاب الأقضية / باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور .
(3) تقدم تخريجه ص21 .
(1) أخرجه البيهقي في " السنن " 1/410 ، وانظر : فتاوى اللجنة 6/88 .
(1) اخرجه مسلم : كتاب المساجد / باب النهي عن الخروج من المسجد .
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 36 .
(3) أخرجه مسلم : كتاب المساجد / باب كراهة الصلاة بحضرة الطعام .
(1) سورة النساء ، الآية : 43 .
(2) أخرجه أبو داود : كتاب الصلاة / باب ما يقول إذا سمع الإقامة ، قال الحافظ في : التلخيص 1/212 : ضعيف .(173/37)
(3) أخرجه أبو داود : كتاب الصلاة / باب ما يقول إذا سمع الإقامة ، والبيهقي 1/411، والبغوي في " شرح السنة " 2/288 ، قال الحافظ في " التلخيص " 1/211 : " ضعيف " ، وضعفه الألباني في " الإرواء " 1/258 .(173/38)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الثاني عشر
المواقيت
محمد بن صالح العثيمين
133) سئل فضيلة الشيخ : هل يسن الإبراد بالظهر لمن يصلي وحده وللنساء ؟
فأجاب بقوله : الإبراد بالظهر عام للجميع ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " (1) . والخطاب للجميع ولم يعلل صلى الله عليه وسلم ذلك بمشقة الذهاب إلى الصلاة بل قال:" فإن شدة الحر من فيح جهنم " . وهذا يحصل لمن يصلي جماعة ، ولمن يصلي وحده ، ويدخل في ذلك النساء فيسن لهن الإبراد بالظهر في شدة الحر .
? ? ?
134) وسئل فضيلته : إذا تأخر الحاج في الخروج من عرفة لشدة الزحام وخاف أن يخرج وقت العشاء قبل أن يصل إلى مزدلفة فماذا يصنع ؟
فأجاب قائلاً : إذا خاف خروج الوقت وجب عليه أن ينزل فيصلي ، وبعض الحجاج لا يصلي المغرب والعشاء حتى يصل إلى مزدلفة ولو خرج وقت صلاة العشاء ، وهذا لا يجوز وهو حرام من كبائر الذنوب ؛ لأن تأخير الصلاة عن وقتها محرم بمقتضى دلالة الكتاب ، والسنة ، قال الله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (2)وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوقت وحدده قال الله تعالى :( وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (3)وقال : ( وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (1).
? ? ?
135) وسئل فضيلة الشيخ : قلتم في الفتوى السابقة بأن الحاج إذا خاف خروج الوقت وجب عليه أن ينزل فإن كان لا يتمكن من النزول للزحام وحركة السيارات؟(174/1)
فأجاب قائلاً : إذا لم يتمكن من النزول صلى ولو على راحلته لقوله تعالى : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (2) ، وإن كان عدم تمكنه من النزول في هذه الحال أمراً بعيداً ، لأنه بإمكان كل إنسان أن ينزل ويقف على جانب الخط ويصلي ، وعلى كل حال فإنه لا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة المغرب والعشاء حتى يخرج وقت العشاء بحجة أنه يريد أن يطبق السنة فلا يصلي إلا في مزدلفة فإن تأخيره هذا مخالف للسنة ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أخر لكنه صلى الصلاة في وقتها .
? ? ?
136) وسئل فضيلة الشيخ : عن بلاد يتأخر فيها مغيب الشفق الأحمر الذي به يدخل وقت العشاء ويشق عليهم انتظاره ؟
فأجاب بقوله : إن كان الشفق لا يغيب حتى يطلع الفجر ، أو يغيب في زمن لا يتسع لصلاة العشاء قبل طلوع الفجر فهؤلاء في حكم من لا وقت للعشاء عندهم فيقدرون وقته بأقرب البلاد إليهم ممن لهم وقت عشاء معتبر ، وقيل يعتبر بوقته في مكة لأنها أم القرى .
وإن كان الشفق يغيب قبل الفجر بوقت طويل يتسع لصلاة العشاء فإنه يلزمهم الانتظار حتى يغيب إلا أن يشق عليهم الانتظار فحينئذ يجوز لهم جمع العشاء إلى المغرب جمع تقديم دفعاً للحرج والمشقة لقوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (1)،ولقوله:( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج) (2) . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما،" أن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر،وبين المغرب والعشاء في المدينة من غير خوف ولا مطر"،قالوا: ما أراد إلى ذلك ؟ قال : " أراد أن لا يحرج أمته " (3) ، أي لا يلحقها الحرج بترك الجمع . وفق الله الجميع لما فيه الخير والصلاح . حرر في 25/11/1411 هـ .
? ? ?
137) وسئل فضيلته : عن الفرق بين الفجر الأول والفجر الثاني ؟
فأجاب قائلاً : ذكر العلماء أن بينهما ثلاثة فروق :(174/2)
الأول : أن الفجر الأول ممتد لا معترض ، أي ممتد طولاً من الشرق إلى الغرب ، والثاني معترض من الشمال إلى الجنوب .
الثاني : أن الفجر الأول يظلم أي يكون هذا النور لمدة قصيرة ثم يظلم ، والفجر الثاني لا يظلم بل يزداد نوراً وإضاءة .
الثالث : أن الفجر الثاني متصل بالأفق ليس بينه وبين الأفق ظلمة ، والفجر الأول منقطع عن الأفق بينه وبين الأفق ظلمة .
? ? ?
138) وسئل فضيلة الشيخ : عن نهاية وقت صلاة العشاء ، وهل يمتد وقتها إلى طلوع الفجر ؟
فأجاب بقوله : وقت العشاء إلى نصف الليل ولا يمتد وقتها إلى طلوع الفجر ؛ لأنه خلاف ظاهر القرآن وصريح السنة حيث قال الله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل) (1)ولم يقل ( إلى طلوع الفجر ) ، وصرحت السنة بأن وقت صلاة العشاء ينتهي بنصف الليل كما في حديث عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر العصر ، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ، ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق ، ووقت العشاء إلى نصف الليل الأوسط " وفي رواية : " ووقت العشاء إلى نصف الليل " (2) . ولم يقيده بالأوسط فوقت العشاء ينتهي عند نصف الليل .
? ? ?
139) وسئل : هل الأفضل تأخير العشاء إلى ثلث الليل ؟(174/3)
فأجاب فضيلته بقوله : إذا سهل فالأفضل تأخيرها إلى ثلث الليل لحديث أبي برزة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحب أن يؤخر من العشاء (3) ، ولحديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر ذات ليلة حتى ذهب عامة الليل فقام إليه عمر فقال : يا رسول الله رقد النساء والصبيان ، فخرج ورأسه يقطر وقال : " إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (1) . لكن ذلك إن سهل ، وإن صلى بالناس نقول الأفضل مراعاة الناس إذا اجتمعوا صلى ، وإن تأخروا أخر لحديث جابر رضي الله عنه : " إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا اجتمعوا صلى ، وإن تأخروا أخر لحديث جابر رضي الله عنه : " إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر " (2) .
? ? ?
140) وسئل فضيلته:هل يجوز تأخير صلاة العشاء أم الأفضل أداؤها في وقتها ؟
فأجاب قائلاً : إذا تأخرت صلاة العشاء عن وقتها فإن ذلك حرام ، ولا يحل لأحد أن يؤخر صلاة العشاء أو غيرها عن وقتها ، فإن أخرها عن وقتها بدون عذر فهي صلاة باطلة غير مقبولة ولو صلاها ألف مرة .
وأما تأخير صلاة العشاء إلى آخر وقتها فإن ذلك أفضل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة وقد ذهب عامة الليل فقال : " إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (3) . فإذا كانت المرأة في المنزل مشغولة وأخرت صلاة العشاء إلى آخر وقتها فإن ذلك أفضل ، وكذلك لو كانوا جماعة في مكان وليس حولهم مسجد ، أو هم أهل المسجد أنفسهم ، فإن الأفضل لهم التأخير إذا لم يشق عليهم إلى أن يمضي ثلث الليل ، فما بين الثلث إلى النصف فهذا أفضل وقت للعشاء ، وأما تأخيرها إلى ما بعد النصف فإنه محرم ؛ لأن آخر صلاة العشاء هو نصف الليل .(174/4)
والتأخير لا يمتد إلى طلوع الفجر ؛ لأن الأحاديث الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل فقط ، وما بين نصف الليل إلى طلوع الفجر فليس وقتاً للصلاة المفروضة ، كما أن ما بين طلوع الشمس إلى زوالها ليس وقتاً لصلاة مفروضة ، ولهذا قال تعالى:(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (1) . فقال : ( لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) أي : زوالها ، وغسق الليل نصفه ، وهو الذي يتم به الغسق وهو الظلمة . فمن الزوال إلى نصف الليل كله أوقات صلوات متوالية : فيدخل وقت الظهر بالزوال ، ثم ينتهي إذا صار ظل كل شيء مثله ، ثم يدخل وقت العصر مباشرة ، ثم ينتهي بغروب الشمس ، ثم يدخل وقت المغرب مباشرة ثم ينتهي بمغيب الشفق الأحمر ، ثم يدخل وقت العشاء وينتهي بنصف الليل ، ولهذا فصل الله صلاة الفجر وحدها فقال : ( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) لأنها لا يتصل بها وقت قبلها ، ولا يتصل بها وقت بعدها .
وقولنا إن صلاة العصر إلى غروب الشمس ذلك أن وقتها يمتد إلى الغروب لقوله صلى الله عليه وسلم : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (2) . وليس المعنى أنه يجوز تأخيرها إلى الغروب ، فإنه لا يجوز تأخيرها إلى ما بعد اصفرار الشمس ، والله الموفق .
? ? ?
141 141 ) سئل فضيلة الشيخ : ما حكم تأخير صلاة العشاء إلى وقت متأخر ؟
فأجاب بقوله : الأفضل في صلاة العشاء أن تؤخر إلى آخر وقتها وكلما أخرت كان أفضل ، إلا أن يكون رجلاً فإن الرجل إذا أخرها فاتته صلاة الجماعة فلا يجوز له أن يؤخرها وتفوته الجماعة ، أما النساء في البيت فإنهن كلما أخرن صلاة العشاء كان ذلك أفضل لهن ، لكن لا يؤخرنها عن منتصف الليل .
? ? ?
142) وسئل فضيلته : أيهما أفضل تعجيل الفجر أم تأخيرها ؟(174/5)
فأجاب بقوله : تعجيلها أفضل لقوله تعالى : ( فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَات) (1)وهذا يحصل بالمبادرة بفعل الطاعة ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجل بصلاة الفجر ويصليها بغلس وينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه وكان يقرأ بالستين إلى المئة (2) ، وقراءة النبي صلى الله عليه وسلم مرتلة يقف عند كل آية مع الركوع والسجود وبقية أفعال الصلاة فدل ذلك على أنه كان يبادر بها جدا .
فإن قيل : جاء في الحديث : " أسفروا بالفجر فإنه أعظم لأجوركم " (3) .
فالجواب : أن المراد لا تتعجلوا بها حتى يتبين لكم الإسفار وتتحققوا منه ، وبهذا نجمع بين هدي النبي صلى الله عليه وسلم الراتب الذي كان لا يدعه وهو التغليس بالفجر وبين هذا الحديث والله أعلم .
? ? ?
143) وسئل فضيلته : بما تدرك الصلاة ؟
فأجاب بقوله : الصحيح أن الصلاة لا تدرك إلا بإدراك ركعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة " (1) . ومفهومه أن من أدرك دون ركعة فإنه لم يدرك ، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
? ? ?
144) وسئل فضيلته : عن أفضل وقت تؤدى فيه الصلاة ؟ وهل أول الوقت هو الأفضل ؟
فأجاب قائلاً : الأكمل أن تكون على وقتها المطلوب شرعاً ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في جواب من سأله أي العمل أحب إلى الله عز وجل ؟ قال : " الصلاة على وقتها " (2) ولم يقل ( الصلاة في أول وقتها ) وذلك لأن الصلوات منها ما يسن تقديمه ، ومنها ما يسن تأخيره ، فصلاة العشاء مثلاً يسن تأخيرها إلى ثلث الليل ، ولهذا لو كانت امرأة في البيت وقالت أيهما أفضل لي أن أصلي صلاة العشاء من حين أذان العشاء أو أؤخرها إلى ثلث الليل ؟(174/6)
قلنا : الأفضل أن تؤخرها إلى ثلث الليل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم تأخر ذات ليلة حتى قالوا : يا رسول الله رقد النساء والصبيان . فخرج وصلى بهم وقال : " إن هذا لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (1) . فالأفضل للمرأة إذا كانت في بيتها أن تؤخرها .وكذلك لو فرض أن رجالاً محصورين ، يعني رجالاً معينين في سفر فقالوا : نؤخر الصلاة أو نقدم ؟ فنقول : الأفضل أن تؤخروا . وكذلك لو أن جماعة خرجوا في نزهة وحان وقت العشاء فهل الأفضل أن يقدموا العشاء أو يؤخروها ؟ نقول:الأفضل أن يؤخروها إلا إذا كان في ذلك مشقة .
وبقية الصلوات الأفضل فيها التقديم إلا لسبب، فالفجر تقدم ، والظهر تقدم ، والعصر تقدم ، والمغرب تقدم ، إلا إذا كان هناك سبب . فمن الأسباب : إذا اشتد الحر فإن الأفضل تأخير صلاة الظهر إلى أن يبرد الوقت ، يعني إلى قرب صلاة العصر ؛ لأنه يبرد الوقت إذا قرب وقت العصر ، فإذا اشتد الحر فإن الأفضل الإبراد لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " (2) . وكان صلى الله عليه وسلم في سفر فقام بلال ليؤذن فقال : " أبرد " ثم قام ليؤذن فقال : " أبرد " (3) ثم قام ليؤذن ، فأذن له .
ومن الأسباب أيضاً أن يكون في آخر الوقت جماعة لا تحصل في أول الوقت ، فهنا التأخير أفضل ، كرجل أدركه الوقت وهو في البر وهو يعلم أنه سيصل إلى البلد ويدرك الجماعة في آخر الوقت ، فهل الأفضل أن يصلي من حين أن يدركه الوقت ، أو أن يؤخر حتى يدرك الجماعة ؟
نقول : إن الأفضل أن تؤخر حتى تدرك الجماعة ، بل قد نقول بوجوب التأخير هنا تحصيلاً للجماعة .
? ? ?
145) وسئل فضيلته : هل تأدية الصلوات الخمس في أول الوقت أفضل أم في آخره ؟(174/7)
فأجاب بقوله : أما تأدية الصلوات في أول الوقت فهو أفضل إلا في العشاء الآخرة ، فإن تأخيرها إلى ثلث الليل أفضل ما لم يشق على المأمومين ، وإن كان يشق عليهم أو على بعضهم فتقديمها أفضل ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء حتى ذهب عامة الليل، فقال:"إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي " (1). قال جابر رضي الله عنه : " كان الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة العشاء أحياناً وأحياناً ؛ إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر " (2) .
وكذلك يستثنى صلاة الظهر في شدة الحر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم " (3) . والله الموفق .
146) وسئل فضيلة الشيخ : عن جماعة لا يعرفون وقت الفجر ويصلون بخبر من يثقون به ولكن بعضهم لديه شك ؟
فأجاب قائلاً : ما داموا واثقين منه ، ويعرفون أن هذا الرجل عنده علم بدخول الوقت فلا شيء عليهم ؛ لأنهم لم يتبينوا أنهم صلوا قبل الوقت ، فإذا لم يتبينوا وأخذوا بقول هذا الرجل الذي يثقون به ، فلا حرج ، لكن ينبغي للإنسان أن يحتاط ما دام شاكاً ، فلا يصلي حتى يغلب على ظنه أو يتيقن ، وعليه أن ينبه الجماعة على ذلك ، يشير عليهم ويقول : انتظروا خمس دقائق أو عشر دقائق ولا يضرهم ذلك ؛ لأن انتظار الإنسان عشر دقائق أو ربع ساعة خير من كونه يتقدم بدقيقة واحدة .
? ? ?
147 147 ) وسئل فضيلة الشيخ : إذا صلى الإنسان قبل الوقت جهلاً فما الحكم ؟(174/8)
فأجاب بقوله : صلاة الإنسان قبل الوقت لا تجزئه عن الفريضة لأن الله تعالى يقول : ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1)، وبين النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوقات في قوله : " وقت الظهر إذا زالت الشمس " (2) الخ الحديث . وعلى هذا فمن صلى الصلاة قبل وقتها فإن صلاته لا تجزئه عن الفريضة لكنها تقع نفلاً بمعنى أنه يثاب عليها ثواب نفل ، وعليه أن يعيد الصلاة بعد دخول الوقت . والله أعلم .
? ? ?
148 148 ) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم الصلاة قبل وقتها ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الصلاة قبل وقتها لا تجزيء حتى ولو كانت قبل الوقت بدقيقة واحدة ، فلو كبر الإنسان للإحرام قبل الوقت فإنها لا تصح الصلاة ، لأن الله تعالى يقول: ( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً ) (1)أي مؤقتة محددة فلا تصح الصلاة قبل وقتها ويجب إعادة تلك الصلاة التي صليت قبل وقتها والله الموفق .
? ? ?
149) وسئل فضيلة الشيخ : عن امرأة صلت بعد سماع أول مؤذن في البلد وعندما شرعت في الركعة الأخيرة سمعت أذاناً من مؤذنين أُخر فما حكم صلاتها؟
فأجاب قائلاً : على المرء المسلم أن يحتاط لدينه فلا يصلي قبل الوقت ؛ لأن بعض المؤذنين قد يؤذن قبل الوقت ، فلا ينبغي أن يغتر بهم المصلي ، وأنتِ إذا كان المؤذن الذي أذن ليس بينه وبين المؤذنين إلا دقيقة أو دقيقتان فليس عليك إعادة الصلاة ، ولكن عليك مستقبلاً أن تصبري حتى يكثر أذان المؤذنين ، لأن الاحتياط أولى وافضل ، والله الموفق .
? ? ?
150) سئل فضيلة الشيخ : إذا دخلت الطالبة الحصة الدراسية مع دخول وقت الظهر وتستمر الحصة لمدة ساعتين فكيف تصنع ؟(174/9)
فأجاب بقوله : إن الساعتين لا يخرج بهما وقت الظهر فإن وقت الظهر يمتد من زوال الشمس إلى دخول وقت العصر ، وهذا زمن يزيد على الساعتين فبالإمكان أن تصلي صلاة الظهر إذا انتهت الحصة لأنه سيبقى معها زمن ، هذا إذا لم يتيسر أن تصلي أثناء وقت الحصة فإن تيسر فهو أحوط ، وإذا قدر أن الحصة لا تخرج إلا بدخول وقت العصر ، وكان يلحقها ضرر أو مشقة في الخروج عن الدرس ففي هذه الحال يجوز لها أن تجمع بين الظهر والعصر فتؤخر الظهر إلى العصر لحديث بن عباس رضي الله عنهما قال : " جمع النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر " ، فقيل له في ذلك . فقال رضي الله عنه : " أراد – يعني النبي صلى الله عليه وسلم - أن لا يحرج أمته " (1) . فدل هذا الكلام من بن عباس رضي الله عنهما على أن ما فيه حرج ومشقة على الإنسان يحل له أن يجمع الصلاتين اللتين يجمع بعضهما إلى بعض في وقت أحدهما ، وهذا داخل في تيسير الله عز وجل لهذه الأمة دينه وأساس هذا قوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (2)، وقوله تعالى : ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) (3) وقوله : ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (4) . وقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الدين يسر " (5) إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالة على يسر هذه الشريعة ، ولكن هذه القاعدة العظيمة ليست تبعاً لهوى الإنسان ومزاجه ، ولكنها تبع لما جاء به الشرع فليس كل ما يعتقده الإنسان سهلاً ويسراً يكون من الشريعة ؛ لأن المتهاونين الذين لا يهتمون بدينهم كثيراً ربما يستصعبون ما هو سهل فيدعونه إلى ما تهواه نفوسهم بناء على هذه القاعدة ، ولكن هذا فهم خاطىء ، فالدين يسر في جميع تشريعاته وليس يسراً باعتبار أهواء الناس ، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن .(174/10)
? ? ?
151) وسئل فضيلته : عن المرأة إذا حاضت أو طهرت وقد أدركت من وقت الصلاة مقدار ركعة فهل تجب عليها تلك الصلاة ؟
فأجاب بقوله:المرأة إذا حاضت بعد دخول وقت الصلاة فإنه يجب عليها إذا طهرت أن تقضي تلك الصلاة التي حاضت في وقتها إذا لم تصلها قبل أن يأتيها الحيض وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " (1) . فإذا أدركت المرأة من وقت الصلاة مقدار ركعة ثم حاضت قبل أن تصلي فإنها إذا طهرت لزمها القضاء .
وكذلك إذا طهرت من الحيض قبل خروج وقت الصلاة فإنه يجب عليها قضاء تلك الصلاة فلو طهرت قبل أن تطلع الشمس بمقدار ركعة وجب عليها قضاء صلاة الفجر ، ولو طهرت قبل غروب الشمس بمقدار ركعة وجب عليها قضاء صلاة العصر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر " (2) .
? ? ?
152) سئل فضيلة الشيخ : استيقظت امرأة لصلاة الفجر بعد الإشراق ورأت الدم عليها فماذا عليها ؟
فأجاب بقوله : عليها قضاء صلاة الفجر ؛ لأن الأصل أن الدم لم يخرج ، وإذا كان الأصل عدم خروجه فمقتضى ذلك أنه صادفها الوقت قبل أن تحيض ، ولكن يؤسفني أن تكون لم تستيقظ لصلاة الفجر إلا بعد طلوع الشمس ؛ لأن الواجب على الإنسان أن يحتاط لنفسه وأن يتخذ الوسائل اللازمة لكي يستيقظ ويصلي في الوقت . والله الموفق .
? ? ?
153) وسئل فضيلته : عن إمام لم يصلي العصر ناسياً ، ودخل في صلاة المغرب ، وفي أثناء الصلاة تذكر أنه لم يصل العصر فماذا يفعل في هذه الحالة ؟
فأجاب قائلاً : هذا الإمام الذي نسي صلاة العصر ودخل في صلاة المغرب وتذكر في أثناء الصلاة أنه لم يصل العصر يستمر في صلاة المغرب فإذا أتمها أتى بصلاة العصر وتصح منه صلاة العصر حينئذ ولا يلزمه أن يقطع صلاته ولا يجوز له أيضاً ؛ وذلك لأنه شرع في فريضة والفريضة إذا شرع فيها الإنسان لزمه إتمامها إلا بعذر شرعي .
? ? ?(174/11)
154 154 ) وسئل فضيلته:إذا فاتت الإنسان صلاة الفجر بسبب النوم فمتى يقضيها ؟
فأجاب بقوله : يقضيها فور قيامه لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " (1) . فقوله : " إذا ذكرها " يدل على أنها تقضى فور الذكر وفور الاستيقاظ ؛ لأن الأصل في الأمر الوجوب والفورية .
فإن قيل : أليس النبي صلى الله عليه وسلم لما استيقظ أمرهم أن يرتحلوا من مكانهم إلى مكان آخر ؟
فالجواب : بلى ولكنه عليه الصلاة والسلام علل ذلك بأنه " مكان حضر فيه الشيطان " (2) ، فلا ينبغي أن يصلي في أماكن حضور الشياطين .
? ? ?
155) وسئل فضيلة الشيخ : عن إنسان صلى بعد انتهاء مدة المسح ولم يذكر إلا بعد حضور الصلاة التي بعدها بحيث لو قام لقضاء الصلاة الأولى لفاتته الثانية مع الجماعة فهل يقضي الصلاة الأولى ولو فاتته الجماعة في الثانية ، أو يصلي الثانية مع الجماعة ويقضي الأولى بعدها ؟
فأجاب بقوله : المشهور من المذهب أنه يلزمه قضاء الفائتة وإن فاتته الجماعة ، والصحيح أنه يصلي الحاضرة مع الجماعة ويقضي الفائتة بعد ذلك ، وإن شاء صلى مع الجماعة ونواها الفائتة ثم يصلي الحاضرة بعد ذلك .
? ? ?
156) وسئل فضيلته : هل يسقط الترتيب بين الصلوات المقضية بسبب النسيان والجهل ؟
فأجاب حفظه الله بقوله : هذه المسألة محل خلاف ، والصواب أنه يسقط والدليل عموم قوله تعالى : ( رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا ) (1) ، وقال عليه الصلاة والسلام : " إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " (2) .
? ? ?
157) وسئل : عن حكم من نام عن صلاة العشاء ثم قام لصلاة الفجر وصلاها ولكن تذكر صلاة العشاء وهو يصلي الفجر ؟ هل يكمل صلاة الفجر أم ماذا يفعل ؟
فأجاب فضيلة الشيخ بقوله : نعم ، يكمل صلاة الفجر ثم يصلي صلاة العشاء.
? ? ?(174/12)
158) سئل فضيلة الشيخ : عن شخص دخل المسجد لصلاة العشاء ثم تذكر أنه لم يصل المغرب فماذا يعمل ؟
فأجاب بقوله : إذا دخلت المسجد وصلاة العشاء مقامة ثم تذكرت أنك لم تصل المغرب فتدخل مع الجماعة بنية صلاة المغرب ، وإذا قام الإمام إلى الركعة الرابعة ، فتجلس أنت في الثالثة وتنتظر الإمام ثم تسلم معه ، ولك أن تسلم ثم تدخل مع الإمام فيما بقي من صلاة العشاء ، ولا يضر اختلاف النية بين الإمام والمأموم على الصحيح من أقوال أهل العلم ، وإن صليت المغرب وحدك ثم صليت مع الجماعة فيما أدركت من صلاة العشاء فلا بأس .
? ? ?
159) سئل فضيلة الشيخ : كيف تقضي الفوائت ؟
فأجاب قائلاً : الفوائت من الفرائض تقضى بكل حال في الوقت الذي يزول فيه العذر ولابد من الترتيب،وكذلك صلاة النوافل المؤقتة بوقت كالوتر والرواتب .
وأما النوافل المطلقة فلا تقضى لأنه لا وقت لها ، وإنما يصلي نفلاً متى شاء في غير وقت النهي ، وأما النوافل ذوات الأسباب فإنه إذا فاتت أسبابها لا تقضى لأنها مربوطة بسببها فإذا تأخرت عنه لم تكن فعلت من أجله فلا تقضى .
? ? ?
160) وسئل فضيلته عن مريض أجرى عملية جراحية ففاتته عدة فروض من الصلوات ، فهل يصليها مجتمعة بعد شفائه ؟ أم يصليها كل وقت مع وقته كالظهر مع الظهر وهكذا ؟
فأجاب بقوله : عليه أن يصليها جميعاً في آن واحد ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة العصر في غزوة الخندق صلاها قبل المغرب (1) وعلى الإنسان إذا فاتته بعض فروض الصلاة أن يصليها جميعاً ولا يؤخرها .
? ? ?
161 161 وسئل : عن جماعة فاتتهم صلاة العصر نسياناً ولم يتذكروا إلا عند سماع أذان المغرب فصلوا المغرب ثم العصر ؟
فأجاب فضيلته بقوله : إذا نسي الإنسان صلاة أو نام عنها وليس عنده من يوقظه أو يذكره حتى خرج وقتها ، فإنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( يصليها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك )) (1) .(174/13)
وفي هذه الحالة التي وقعت للسائل فإنه ينبغي عليه أن يبدأ أولاً بصلاة العصر ثم المغرب حتى يكون الترتيب على حسب ما فرض الله عز وجل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته الصلوات في أحد الأيام في غزوة الخندق قضاها مرتبة . وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( صلوا كما رأيتموني أصلي )) (2) . وبناء على هذا فلو أنكم حينما جئتم إلى المسجد وهم يصلون المغرب دخلتم معهم بنية العصر ، ثم إذا سلم الإمام من صلاة المغرب تأتون ببقية صلاة العصر فتكون الصلاة مغرباً للجماعة ، وتكون لكم عصراً ، وهذا لا يضر – أعني اختلاف نية الإمام والمأموم – لأن الأفعال واحدة ، والذي نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن الاختلاف في على الإمام وهي الأفعال دون النية . وما وقع منكم على سبيل الجهل،حيث قدمتم المغرب على العصرفإنه لا حرج عليكم في ذلك
? ? ?
162 162 ) وسئل فضيلته : إذا فاتت الإنسان الصلاة لعذر فهل يجوز تأخيرها بعد زوال العذر ؟
فأجاب قائلاً : لا يجوز لك أن تؤخر الصلاة عن وقتها إذا زال العذر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (( فليصلها إذا ذكرها )) (1) . فجعل وقت قضائها وقت الذكر ، فإن أخرت فأنت آثم .
? ? ?
163 163 ) سئل فضيلة الشيخ : إذا فاتني فرض أو أكثر لنوم أو نسيان ، فكيف أقضي الصلاة الفائتة ؟ وهل أصليها أولاً ثم الصلاة الحاضرة أم العكس .(174/14)
فأجاب بقوله : تصلها أولاً ، ثم تصل الصلاة الحاضرة ، ولا يجوز لك التأخير ، وقد شاع عند الناس أن الإنسان إذا فاته فرض فإنه يقضيه مع الفرض الموافق له من اليوم الثاني ، فمثلاً لو أنه لم يصل الفجر يوماً فإنه لا يصليه إلا مع الفجر في اليوم الثاني ، وهذا غلط ، وهو مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم القولي والفعلي، أما القولي : فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها )) (2) . ولم يقل : فليصلها من اليوم الثاني إذا جاء وقتها ، بل قال : (( فليصلها إذا ذكرها )) .
وأما الفعلي : فحين فاتته الصلوات في يوم من أيام الخندق صلها قبل الصلاة الحاضرة ، فدل هذا على أن الإنسان يصلي الفائتة ثم يصلي الحاضرة ، لكن لو نسي فقدم الحاضرة على الفائتة،أو كان جاهلاً لا يعلم فإن صلاته صحيحة ، لأن هذا عذر له .وبهذه المناسبة أود أن أقول : إن الصلوات بالنسبة للقضاء على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : يقضي متى زال العذر ، أي عذر التأخير وهي الصلوات الخمس ، فإنه متى زال العذر بالتأخير وجب قضاؤها .(174/15)
القسم الثاني : إذا فات لا يقضى وإنما يقضى بدله ، وهو صلاة الجمعة ، إذا جاء بعد رفع الإمام من الركعة الثانية فإنه في هذه الحال يصلي ظهراً ، فيدخل مع الإمام بنية الظهر ، وكذلك من جاء بعد تسليم الإمام فإنه يصلي ظهراً ، وأما من أدرك الركوع من الركعة الثانية فإنه يصلي جمعة ، أي يصلي ركعة بعدها إذا سلم الإمام ، وهذه يجهلها كثير من الناس ، فإن بعض الناس يأتي يوم الجمعة والإمام قد رفع من الركعة الثانية ، ثم يصلي ركعتين على أنها جمعة وهذا خطأ ، بل إذا جاء بعد رفعه من الركعة الثانية فإنه لم يدرك من الجمعة شيئاً فعليه أن يصلي ظهراً ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )) (1) . ومفهومه أن من أدرك أقل فإنه لم يدرك الصلاة ، والجمعة تقضى ظهراً ، ولهذا يجب على النساء في البيوت وعلى المرضى الذين لا يأتون الجمعة ، يجب عليهم أن يصلوا ظهراً ولا يصلوا جمعة ، فإن صلوا جمعة في هذه الحال فإن صلاتهم باطلة ومردودة.
القسم الثالث :صلاة إذا فاتت لا تقضى إلا في نظير وقتها وهي صلاة العيد إذا لم يعلم بها إلا بعد زوال الشمس،فإن أهل العلم يقولون : يصلونها من اليوم التالي من نظير وقتها .
إذن فالقضاء على ثلاثة أقسام :
الأول : ما يقضى من حين زوال العذر ، وهي الصلوات الخمس .كذلك الوتر ، وشبهه من السنن المؤقتة .
الثاني : ما يقضى بدله وهي صلاة الجمعة فإذا فاتت تقضى ظهراً .
الثالث : ما يقضى هو نفسه ولكن في نظير وقته من اليوم التالي ، وهو صلاة العيد إذا فاتت بالزوال فإنها تصلى في نظير وقتها من اليوم التالي . والله الموفق .
? ? ?
164 164 ) وسئل فضيلته : عن رجل فاتته صلاة الفجر لعذر شرعي ونسى أن يصليها وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم تذكر ، فماذا يفعل ؟ وهل صلاته للظهر والعصر والمغرب والعشاء صحيحة ؟(174/16)
فأجاب بقوله : إذا فاتت الإنسان صلاة الصبح لعذر شرعي ونسى أن يصليها ، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، ثم ذكر أنه لم يصل صلاة الفجر ، فإنه يؤدي صلاة الصبح ولا حرج عليه ، وصلاته للظهر والعصر والمغرب والعشاء صحيحة ، لأنه ترك الترتيب ناسياً ، والإنسان إذا ترك الترتيب ناسياً فصلاته صحيحة .
? ? ?
165 165 ) سئل فضيلة الشيخ:أعلى الله درجته – عمن نسي صلاة أو نام عنها ولم يذكر أو يستيقظ إلا بعد صلاة الفجر أو بعد العصر فهل يقضيها في هذين الوقتين؟
الجواب : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، فإذا نام الإنسان عن الفريضة أو صلى محدثاً ناسياً أو جاهلاً ثم ذكر ذلك بعد صلاة الفجر أو بعد صلاة العصر فإنه يقضيها لعموم الحديث الآنف الذكر .
أما إذا تركها متعمداً حتى خرج وقتها فإن القول الراجح أنها لا تقضي لأن ذلك لا يفيد .
وليعلم أن العلماء اختلفوا فيما إذا وجد سبب صلاة النافلة في وقت النهي هل يجوز فعلها أم لا ؟ والصحيح أنه يجوز فعل ذوات الأسباب في الأسباب في أوقات النهي ، فإذا دخلت المسجد بعد صلاة الفجر فصل ركعتين ، وإذا دخلت المسجد بعد صلاة العصر فصل ركعتين ، وهكذا كل نفل وجد سببه في أوقات النهي فإنه يفعل و لا نهي عنه ، هذا هو القول الراجح من ؟ أقوال أهل العلم ، ويكون النهي عن الصلاة في أوقات النهي مخصوصاً بالنوافل المطلقة التي ليس لها سبب،ووجه ترجيح هذا القول أن صلاة ذوات الأسباب جاءت عامة مقيدة بأسبابها فمتي وجد السبب مخصصة لعموم النهي،كما أن في بعض أحاديث النهي ما يدل على أن ذوات الأسباب لا تدخل فيه حيث جاء في بعض ألفاظه : " لا تتحروا الصلاة " (1) . وهذا يدل على أن ما فعل لسبب فلا بأس به لأن ذلك ليس تحرياً للصلاة في هذه الأوقات .
* * *(174/17)
166) سئل الشيخ حفظه الله تعالى : هناك جماعة من الناس عندهم عادة في رمضان وهي صلاتهم الفروض الخمسة بعد صلاة آخر جمعة ويقولون إنهاء قضاء عن أي فرض من هذه الفروض لم يصله الإنسان أو نسيه في رمضان فما حكم هذه الصلاة ؟ أفتونا مأجورين .
فأجاب فضيلته بقوله : الحكم في هذه الصلاة أنها من البدع ، وليس لها أصل في الشريعة الإسلامية ، وهي لا تزيد الإنسان من ربه إلا بعداً ، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول : " كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " (1) . فالبدع وإن استحسنها مبتدعوها ورأوها حسنة في نفوسهم فإنها سيئة عند الله عز وجل لأن نبيه صلي الله عليه وسلم يقول : " كل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار " . وهذه الصلوات الخمس التي يقضيها الإنسان في آخر جمعة من رمضان لا أصل لها في الشرع ، ثم إننا نقول هل لم يخل هذا الإنسان إلا في خمس صلوات فقط ربما أنه أخل في عدة أيام لا في عدة صلوات ، والنهم أن الإنسان ما علم أنه مخل فيه فعليه قضاءه متي علم ذلك لقوله صلي الله عليه وسلم " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها " (2) . وأما أن الإنسان يفعل هذه الصلوات الخمس احتياطاً – كما يزعمون – فإن هذا منكر و لا يجوز .
* * *
فصل
قال فضيلة لشيخ – جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير جزاء - :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام علي نبينا محمد صلي الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد : فأن الوقت من أهم شروط الصلاة ، لقول الله سبحانه :
( إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (103) (1) . وإذا كانت الصلوات خمساً فأوقاتها خمسة أو ثلاثة ، خمسة لغير أهل الأعذار ، وثلاثة لأهل الأعذار ، الذين يجوز لهم الجمع ، فالظهر والعصر يكون وقتهما وقتاً واحداً إذا جاز الجمع ، والمغرب والعشاء يكون وقتهما وقتاً واحداً إذا جاز الجمع .(174/18)
والفجر وقت واحد ولهذا فصلها الله عز وجل : )أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) (2) ولم يقل لدلوك الشمس إلي طلوع الشمس ، بل قال إلي (إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) وغسق الليل يكون عند منتصفه ، لأن أشد ما يكون ظلمة في الليل منتصف الليل ، لأن منتصف الليل هو أبعد ما تكون الشمس عن النقطة التي فيها هذا المنتصف .
ولهذا كان القول الراجح أن الأوقات خمسة كما يلي :
أولاً : الفجر من طلوع الفجر الثاني وهو البياض المعترض في الأفق إلي أن تطلع الشمس .
وهنا أنبه فأقول إن التقويم – تقويم أم القرى- فيه تقديم خمس دقائق في آذان الفجر على مدار السنة ، فالذي يصلي أول ما يؤذن يعتبر صلى قبل الوقت ، وهذا شئ اختبرناه في الحساب الفلكي ، واختبرناه أيضاً في الرؤية .
فلذلك لا يعتمد هذا بالنسبة لأذان الفجر لأنه مقدم وهذه مسألة خطرة جداً ، لو تكبر للإحرام فقط قبل أن يدخل الوقت ما صحت صلاتك فريضة ، لكن التقاويم الأخرى الفلكية التي بالحساب بينها وبين هذا التقويم خمس دقائق .
وعلى كل حال وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني إلي طلوع الشمس .
ثانياً : الظهر من زوال الشمس إلي أن يصير ظل كل شئ مثله لكن بعد أن تخصم ظل الزوال ، لأن الشمس خصوصاً في أيام الشتاء يكون لها ظل نحو الشمال ، هذا ليس بعبرة بل العبرة أنك تنظر الظل ما دام ينقص فالشمس لم تزل ، فإذا بدأ يزيد أدني زيادة فإن الشمس قد زالت ،
واجعل علامة على ابتداء زيادة الظل فإذا صار ظل الشيء كطوله خرج وقت الظهر ودخل وقت العصر
ثالثاً : وقت العصر إلي أن تصفر الشمس والضرورة إلي غروبها .
رابعاً : وقت المغرب من غروب الشمس إلي مغيب الشفق الأحمر وهو يختلف أحياناً يكون بين الغروب وبين مغيب الشفق ساعة وربع وأحياناً يكون ساعة واثنان وثلاثون دقيقة .(174/19)
خامساً : وقت العشاء من خروج وقت المغرب إلي منتصف الليل ، والمعني : أنك تقدر ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر ثم تنصفه ، فالنصف هو منتهى صلاة العشاء .
ويترتب على هذا فائدة عظيمة :
لو طهرت المرأة في الثلث الأخير من الليل فليس عليها صلاة العشاء و لا المغرب لأنها طهرت بعد الوقت .
وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " وقت العشاء إلي نصف
الليل " (1) ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث يدل على أن وقت العشاء يمتد إلي طلوع الفجر أبداً .
ولهذا كان القول الراجح أن وقت العشاء إلي نصف الليل ، والآية الكريمة تدل على هذا لأنه فصل الفجر عن الأوقات الأربعة : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) أي زوالها ( إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) جمع الله بينها لأنه ليس هناك بينها فاصل أما الفجر فقال :( وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) )(2)فالفجر لا
تتصل بصلاة لا قبلها ولا بعدها ، لأن بينها وبين الظهر نصف النهار الأول ، وبينها وبين صلاة العشاء نصف الليل الآخر .
واعلم أن الصلاة قبل دخول الوقت لا تقبل حتى لو كبر تكبيرة الإحرام ثم دخل الوقت بعد التكبيرة مباشرة فإنها لا تقبل على أنها فريضة ، لأن الشيء المؤقت بوقت لا يصح قبل وقته ، كما لو أراد الإنسان أن يصوم قبل رمضان بيوم واحد فإنه لا يجزئه عن رمضان ، كذلك الصلاة لكن إن كان جاهلاً لا يدري صارت نافلة ووجب عليه إعادتها فريضة .
أما إذا صلاها بعد الوقت فلا يخلو من حالين :
الحال الأولى : أن يكون معذوراً بجهل أو نسيان أو نوم فهذا تقبل منه .
الجهل : مثل أن لا يعرف أن الوقت قد دخل وقد خرج ، فهذا لا شئ عليه ، متي علم فإنه يصلي الصلاة وتقبل منه لأنه معذور .والنسيان : مثل أن يكون الإنسان اشتغل بشغل عظيم أشغله وألهاه حتى خرج الوقت فإن هذا يصليها ولو بعد خروج الوقت .(174/20)
النوم كذلك : فلو أن شخصاً نام على أنه سيقوم عند الآذان ولكن صار نومه ثقيلاً فلم يسمع الأذان و لا المنبه الذي وضعه عند رأسه حتى خرج الوقت فإنه يصلي إذا استيقظ لقول الرسول عليه الصلاة والسلام : " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " (1) .
الحال الثانية : أن يؤخر الصلاة عن وقتها عنداً من غير عذر فاتفق العلماء على أنه آثم وعاصي لله ورسوله .
وقال بعض العلماء : أنه يكفر بذلك كفراً مخرجاً عن الملة نسأل الله العافية .
ولكن الصحيح أنه لا يكفر وهذا قول الجمهور ، ولكن اختلفوا فيما لو صلاها في هذه الحال ، أي بعد أن أخرجها عن وقتها عمداً بلا عذر ثم صلى :
فمنهم من قال : أنها تقبل صلاته لأنه عاد إلي رشده وصوابه ، ولأنه إذا كان الناسي تقبل منه الصلاة بعد الوقت فالمتعمد كذلك .
ولكن القول الصحيح الذي تؤيده الأدلة أنها لا تقبل منه إذا أخرها عن وقتها عمداً ولو صلى ألف مرة وذلك لقول النبي عليه الصلاة والسلام : " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (2) . يعني مردود غير مقبول عند الله ، وإذا كان مردوداً فلن يقبل ، وهذا الذي أخرج الصلاة عن وقتها عمداً إذا صلاها على غير أمر الله ورسوله .وأما المعذور فهو معذور ، ولهذا أمره الشارع أن يصليها إذا زال عذره ، أما من ليس بمعذور فإنه لو بقي يصلي كل دهره فإنها لا تقبل منه هذه الصلاة التي أخرجها عن وقتها بلا عذر فعليه أن يتوب إلي الله ، ويستقيم ويكثر من العمل الصالح والاستغفار ومن تاب تاب الله عليه .
والحمد لله رب العالمين ، وصلي الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلي يوم الدين .
* * *
رسالة في مواقيت الصلاة(174/21)
أن الحمد لله ، نحمده ونستعينه ، ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمد عبده ورسوله . صلي الله عليه وسلم ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً .
أما بعد : فإن الله تعالى فرض على عباده خمس صلوات في اليوم والليلة موقتة بأوقات اقتضتها حكمة الله تعالي ليكون العبد على صلة بربه تعالي في هذه الصلوات مدة الأوقات كلها ، فهي للقلب بمنزلة الماء للشجرة تسقى به وقتاً فوقتاً لا دفعة واحدة ثم يقطع عنها .
ومن الحكمة في تفريق هذه الصلوات في تلك الأوقات أن لا يحصل الملل والثقل على العبد إذا أداها كلها في وقت واحد ، فتبارك الله تعالي أحكم الحاكمين .
وهذه رسالة موجزة نتكلم فيها على أوقات الصلوات في الفصول التالية :
الفصل الأول : في بيات المواقيت .
الفصل الثاني : في بيان وجوب فعل الصلاة في وقتها ، وحكم تقديمها في أوله أو تأخيرها عنه .
الفصل الثالث : فيما يدرك به الوقت وما يترتب على ذلك .
الفصل الرابع : في حكم الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما .
وقد مشينا فيها على ما تقضيه دلالة الكتاب والسنة ، وأسندنا المسائل إلي أدلتها ليكون المؤمن سائراً على بصيرة ويزداد ثقة و طمأنينة .
والله المسئول المرجو الإجابة أن يثبتا على ذلك وأن يجعل فيه الخير والبركة للمسلمين ، أنه جواد كريم .
الفصل الأول
في بيان المواقيت
قال الله تعالى : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ 44)(1) .
وقال تعالى: ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) (89)(2).(174/22)
فما من شئ يحتاج العباد في دينهم أو دنياهم إلي معرفة حكمه إلا بينه الله تعالى في كتابه أو سنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، فإن السنة تبين القرآن وتفسره وتخصص عمومه وتقيد مطلقه ، كما أن القرآن يبين لعضه بعضاً ويفسره ويخص عمومه ويقيد مطلقه ، والكل عند الله تعالى ، كما قال النبي صلي الله عليه وسلم " ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " (3) . رواه أحمد وأبو داود وسنده صحيح .
ومن أفراد هذه القاعدة الكلية العامة بيان أوقات الصلوات الخمس أوكد الأعمال البدنية فرضية وأحبها إلي الله عز وجل ، فقد بين الله تعالى هذه الأوقات في كتابه وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم بياناً شافياً ولله الحمد .
أما في كتاب الله فقد قال الله تعالى : )أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) (4) .
فأمر الله تعالى نبيه صلي الله عليه وسلم – والأمر له أمر لأمته معه – أن يقيم الصلاة لدلوك الشمس أي من زوالها عند منتصف النهار إلي غسق الليل وهو اشتداد ظلمته ، وذلك عند منتصفه ثم فصل فقال : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ) أي صلاة الفجر وعبر عنها بالقرآن لأنه يطول فيها .
واشتمل قوله تعالى :(لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ). أوقات صلوات أربع هي : الظهر والعصر ، وهما صلاتان نهاريتان في النصف الأخير من النهار .
والمغرب والعشاء ، وهما صلاتان ليليتان في النصف الأول من الليل .
أما وقت الفجر ففصله : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ )وعلم تعيين الوقت من إضافته إلي الفجر وهو تبين ضوء الشمس في الأفق .
وإنما جمع الله تعالى الأوقات الأربع دون فصل لأن أوقاتها متصل بعضها ببعض فلا يخرج وقت الصلاة منها إلا بدخول التالية ،(174/23)
وفصل وقت الفجر لأنه لا يتصل بوقت قبله ولا بعده فإن بينه وبين وقت صلاة العشاء نصف الليل الأخير ، وبينه وبين صلاة الظهر نصف النهار الأول كما يتبين ذلك من السنة إن شاء الله تعالى .
وأما في سنة رسول الله صلي الله عليه وسلم ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص – رضي الله عنهما – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال " وقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لن يحضر وقت العصر ، ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ،ووقت صلاة المغرب ما لم يغيب الشفق،ووقت العشاء إلي نصف الليل الأوسط،ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر ما لم تطلع الشمس "(1) وفي رواية : وقت العشاء إلي نصف الليل " ولم يقيده بالأوسط .
وله من حديث أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه – عن الرسول صلي الله عليه وسلم أنه أتاه سائل يسأله عن مواقيت الصلاة فلم يرد عليه شيئاً قال : فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً ثم أمره ( يعني أمر بلال كما في رواية النسائي) فأقام بالظهر حين زالت الشمس .
والقائل يقول : قد انتصف النهار وهو كان أعلم منهم ثم أمره فأقام بالعصر والشمس مرتفعة ثم أمره فأقام بالمغرب حين وقعت ( وفي رواية النسائي غربت ) ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشفق ، ثم الفجر من الغد حتى انصرف منها والقائل يقول : طلعت الشمس أو كادت . ثم أخر الظهر حتى كان قريباً من وقت العصر بالأمس ، ثم أخر العصر حتى انصرف منها والقائل يقول : قد احمرت الشمس ثم أخر المغرب حتى سقوط الشفق ، ثم أخر العشاء حتى ثلث الليل الأول،ثم أصبح فدعا السائل فقال : " الوقت بين هذين " (1)
فاتضح بهذه الآية الكريمة والسنة النبوية القولية والفعلية بيان أوقات الصلوات الخمس بياناً كافياً على النحو التالي :
وقت صلاة الظهر من زوال الشمس- وهو تجاوزها وسط السماء إلي أن يصير ظل كل شئ مثله ابتداء من الظل الذي زالت عليه الشمس .(174/24)
وقت صلاة العصر من كون ظل الشيء مثله إلي أن تصفر الشمس أو تحمر .
ويمتد وقت الضرورة إلي الغروب لحديث إبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر "(1) .متفق عليه
وقت صلاة المغرب من غروب الشمس إلي مغيب الشفق وهو الحمرة .
وقت صلاة العشاء الآخرة من مغيب الشفق إلي نصف الليل .
ولا يمتد وقتها ألي طلوع الفجر لنه خلاف ظاهر القرآن وصريح السنة حيث قال الله تعالي (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)(2)ولم يقل إلي طلوع الفجر . وصرحت السنة بأن وقت صلاة العشاء ينتهي بنصف الليل كما رأيت في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما .
وقت صلاة الفجر من طلوع الفجر الثاني- وهو البياض المعترض في الأفق الشرقي الذي ليس بعده ظلمة – إلي طلوع الشمس .
وهذه المواقيت المحددة إنما تكون في مكان يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة سواء تساوى الليل والنهار أم زاد أحدهما على الآخر زيادة قليلة أو كثيرة .
أما المكان الذي لا يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرون ساعة فلا يخلو : إما أن يكون ذلك مطرداً في سائر العام ، أو في أيام قليلة منه .
فإن كان في أيام قليلة منه مثل أن يكون المكان يتخلله الليل والنهار في أربع عشرون ساعة طيلة فصول السنة ، لكن في بعض الفصول يكون فيه أربعاً وعشرين ساعة أو أكثر والنهار كذلك ، ففي هذه الحالة إما أن يكون في الأفق ظاهرة حية يمكن بها تحديد الوقت كابتداء زيادة النور مثلاً أو انطماسه بالكلية ، فيعلق الحكم بتلك الظاهرة ، وإما أن لا يكون فيه ذلك فتقدر أوقات الصلاة بقدرها في آخر يوم قبل استمرار الليل في الأربع والعشرين ساعة أو النهار .(174/25)
فإذا قدرنا أن الليل كان قبل أن يستمر عشرين ساعة ، والنهار فيما بقي من الأربع والعشرين ، جعلنا الليل المستمر عشرين ساعة فقط .
والباقي نهاراً واتبعنا فيه ما سبق في تحدي أوقات الصلوات .
إما إذا كان المكان لا يتخلله الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة طيلة العام في الفصول كلها فإنه يحدد لأوقات الصلاة بقدرها لما رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان – رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم ذكر الدجال الذي يكون في آخر الزمان فسألوه عن لبثه في الأرض فقال : " أربعون يوماً ،يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم "
قالوا : يا رسول الله فذلك اليوم كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم ؟
قال : " لا ، اقدروا له قدره " (1)
فإذا ثبت أن المكان الذي لا يتخلله الليل والنهار يقدر له قدره فماذا نقدره ؟
يري بعض العلماء ، أنه يقدر بالزمن المعتدل ، فيقدر الليل باثنتي عشرة ساعة وكذلك النهار ، لأنه لما تعذر اعتبار هذا المكان بنفسه اعتبر بالمكان المتوسط ، كالمستحاضة التي ليس لها عادة ولا تمييز .
ويري آخرون أنه يقدر بأقرب البلاد إلي هذا المكان مما يحدث فيه ليل ونهار في أثناء العام ، لأنه لما تعذر اعتباره بنفسه اعتبر بأقرب الأماكن شبهاً به وهو أقرب البلاد إليه التي يتخللها الليل والنهار في أربع وعشرين ساعة .
وهذا القول أرجح لأنه أقوى تعليلاً وأقرب إلي الواقع . والله أعلم .
الفصل الثاني
وجوب فعل الصلاة في وقتها وحكم تقديمها في أوله
أو تأخيرها عنه
يجب فعل الصلاة جميعها في وقتها المحدد لها لقوله تعالى : (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (:103) (1).أي فرضاً ذا وقت . ولقوله تعالي " ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً) (78) .(2) . والأمر للوجوب .(174/26)
وعن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما – أن النبي صلي الله عليه وسلم ذكر يوماً فقال " من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة ، ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان و لا نجاة ،وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف "(3) . قال المنذري: رواه أحمد بإسناد جيد .
فلا يجوز للمسلم أن يقدم الصلاة كلها أو بعضها قبل دخول وقتها ، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالى والاستهزاء بآياته .
فإن فعل ذلك معذوراً بجهل أو نسيان أو غفلة فلا إثم عليه ، وله أجر ما عمل ، وتجب عليه الصلاة إذا دخل وقتها ، لأن دخول الوقت هو وقت الأمر فإذا أتى بها قبله لم تقبل منه ولن تبرأ بها ذمته لقول النبي صلي الله عليه وسلم " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد " (1) . أي : مردود . رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها ، ولا يجوز للمسلم أن يؤخر الصلاة وقتها ، لأن ذلك من تعدي حدود الله تعالي والاستهزاء بآياته ، فإن فعل ذلك بدون عذر فهو آثم وصلاته مردودة غير مقبولة ولا مبرئه لذمته ، لحديث عائشة السابق ، وعليه أن يتوب إلي الله تعالى ويصلح عمله فيما استقبل من حياته .
وأن أخر الصلاة عن وقتها لعذر من نوم أو نسيان ، أوشغل ظن أن يبيح له تأخيرها عن وقتها فإنه يصليها متى زال ذلك العذر لحديث أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك " (2). وفي رواية : " من نسي صلاة أو نام عنها " .متفق عليه .
وإذا تعددت الصلوات التي فاتته بعذر فإنه يصليها مرتبة من حين زوال عذره ولا يؤخرها إلي نظيرها من الأيام التالية لحديث جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما – أن النبي صلي الله عليه وسلم في غزوة الخندق توضأ بعدما غربت الشمس فصلى العصر ثم صلى بعدها المغرب(3). متفق عليه .(174/27)
وعن أبي سعيد الخدري – رضي الله عنه – قال : حسبنا يوم الخندق عن الصلاة حتى كان بعد المغرب بهوي من الليل قال : فدعا رسول الله صلي الله عليه وسلم بلالاً فأقام الظهر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فأقام العصر فصلاها فأحسن صلاتها كما كان يصليها في وقتها ثم أمره فأقام الصلاة للمغرب فصلاها كذلك .(1) . رواه أحمد .
وفي هذا الحديث دليل على أن الفائتة تصلى كما تصلى في الوقت ويؤيده حديث أبي قتادة – رضي الله عنه – في قصة نومهم مع النبي صلي الله عليه وسلم في سفر عن صلاة الفجر حتى طلعت الشمس قال : ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ركعتين ، ثم صلى الغداة فصنع كما كان يصنع كل يوم (2).الحديث رواه مسلم . وعلى هذا فإذا صلى بالنهار صلاة فائتة من صلاة الليل جهر فيها بالقراءة ، وإذا صلى في الليل فائتة من صلاة النهار أسر فيها بالقراءة كما يدل على الأول حديث أبي قتادة ، وعلى الثاني حديث أبي سعيد.
وإذا صلى الفوائت غير مرتبة لعذر فلا حرج عليه ، فإذا جهل أن عليه صلاة فائتة فصلى ما بعدها ثم علم بالفائتة صلاها ولن يعد التي بعدها ، وإذا نسي الصلاة الفائتة فصلى ما بعدها ثم ذكر الفائتة صلاها ولم يعد التي بعدها لقوله تعالى : (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )(3).
قال أهل العلم : وإذا كان عليه فائتة فذكرها أوعلم بها عند خروج وقت الحاضرة صلى الحاضرة أولاً ، ثم صلى الفائتة لئلا يخرج وقت الحاضرة قبل أن يصليها فتكون الصلاتين كلتهما فائتتين .
والأفضل تقديم الصلاة في أول وقتها ، لأن هذا هو فعل النبي صلي الله عليه وسلم وهو أسبق إلي الخير ، وأسرع في إبراء الذمة .(174/28)
ففي صحيح البخاري عن أبي برزة الأسلمي- رضي الله عنه – أنه سئل كيف كان النبي صلي الله عليه وسلم يصلى المكتوبة ؟ قال : كان يصلى الهجير التي تدعونها الأولى حين تدحض الشمس . وفي رواية : إذا زالت الشمس ، ويصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلي رحله في أقصى المدينة والشمس حية .
ونسيت ما قال في المغرب – لكن روى مسلم من حديث سلمة بن الأكوع أن النبي صلي الله عليه وسلم كان يصلي المغرب إذا غربت الشمس وتوارت بالحجاب (1)، ومن حديث رافع بن خديج : كنا نصلي المغرب مع رسول الله صلي الله عليه وسلم فينصرف أحدنا وأنه ليبصر مواقع نبله (2). وكان يستحب أن يؤخر من العشاء التي تدعونها العتمة وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه ويقرأ بالستين إلي المئة (3).
وله من حديث أنس : كان النبي صلي الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس مرتفعة حية فيذهب الذاهب إلي العوالي فيأتيهم والشمس مرتفعة وبعض العوالي من المدينة على أربعة أميال أو نحوه . زفي رواية : كنا نصلي العصر ثم يذهب الذاهب منا إلي قباء فيأتيهم والشمس مرتفعة (4)ولهما من حديث جابر- رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم يصلي صلاة العشاء أحياناً وأحياناً ، إذا رآهم اجتمعوا عجل ، وإذا رآهم أبطؤوا أخر ، والصبح كانوا أو كان النبي صلي الله عليه وسلم يصليها بغلس (1).
وفي صحيح البخاري عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : كن نساء المؤمنات يشهدن مع رسول الله صلي الله عليه وسلم صلاة الفجر متلفعات بمروطهن ثم ينقلبن إلي بيوتهن حين يقضين الصلاة لا يعرفهن أحد من الغلس (2) .(174/29)
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – قال : مكثنا ذات ليلة ننتظر رسول الله صلي الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة فخرج إلينا حين ذهب ثلث الليل أو بعده فذكر الحديث وفيه : " ولولا أن يثقل على أنتي لصليت بهم هذه الساعة ، ثم أمر المؤذن فأقام الصلاة وصلي " (3).
وفي صحيح البخاري عن أبي ذر الغفاري – رضي الله عنه- قال كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم في سفر فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر فقال النبي صلي الله عليه وسلم " أبرد " ثم أراد أن يؤذن فقال له " أبرد " حتى رأينا فيء التلول " . وفي رواية حتى ساوى الظل التلول . فقال النبي صلي الله عليه وسلم " إن شدة الحر من فيح جهنم ، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة " (4).ففي هذه الأحاديث دليل على أن السنة المبادرة بالصلاة في أول وقتها سوى صلاتين :
الأولى : صلاة الظهر في شدة الحر فتؤخر حتى يبرد الوقت وتمتد الأفياء .
الثانية : صلاة العشاء الآخرة فتؤخر إلي ما بعد ثلث الليل إلا أن يحصل في ذلك مشقة فيراعى حال المأمومين إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطؤوا أخر .
الفصل الثالث
فيما يدرك به الوقت وما يترتب على ذلك
يدرك الوقت بإدراك ركعة ،بمعني أن الإنسان إذا أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة فقد أدرك تلك الصلاة لحديث أبي هريرة – رضي الله عنه –أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة " (1). متفق عليه وفي رواية : " من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح ، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر "(2) .(174/30)
وفي رواية البخاري : " إذا أدرك أحدكم سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته ، و إذا أدرك سجدة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته " (3).فدلت هذه الروايات بمنطوقها على أن من أدرك ركعة من الوقت بسجدتيها فقد أدرك الوقت ، ودلت بمفهومها على أن من أدرك أقل من ركعة لم يكن مدركاً للوقت .
ويترتب على هذا الإدراك أمران :
أحدهما : إنه إذا أدرك من الصلاة ركعة في الوقت صارت الصلاة كلها أداء ، ولكن لا يعني ذلك أنه يجوز له أن يؤخر بعض الصلاة عن الوقت ، لأنه يجب فعل الصلاة جميعها في الوقت .
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : سمعت النبي صلي الله عليه وسلم يقول:" تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر فيها إلا قليلاً " (1) .
الأمر الثاني : إنه إذا أدرك من وقت الصلاة مقدار ركعة وجبت عليه سواء كان ذلك من أول الوقت أم من آخره .
مثال ذلك من أوله : أن تحيض امرأة بعد غروب الشمس بمقدار ركعة فأكثر ولم تصل المغرب ، فقد وجبت عليها صلاة المغرب حينئذ فيجب عليها قضاؤها إذا طهرت .
ومثال ذلك آخره : أن تطهر امرأة من الحيض قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة فأكثر ، فتجب عليها صلاة الفجر .
فإذا حاضت بعد غروب الشمس بأقل من مقدار ركعة أو طهرت قبيل طلوع الشمس بأقل من ركعة لم تجب عليها صلاة المغرب في المسألة الأولي و لا صلاة الفجر في المسألة الثانية ،لأن الإدراك فيها أقل من مقدار ركعة .
الفصل الرابع
في حكم الجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما(174/31)
سبق في الفصل الثاني بيان وجوب فعل كل صلاة في وقتها المحدد لها وهذا هو الأصل ، لكن إذا وجدت حالات تستدعي الجمع بين الصلاتين أبيح الجمع ، بل كان مطلوباً ومحبوباً ‘لي الله تعالى لموافقته لقاعدة الدين الإسلامي التي أشار الله تعالى إليها بقوله " ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(1) .
وقوله (ِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال " إن الدين يسر ولن يشاد أحد إلا غلبه فسددوا وقاربوا وأبشروا " (3) .
وفي الصحيحين عن أبي موسى أن النبي صلي الله عليه وسلم قال حين بعثه ومعاذاً إلي اليمن : " يسرا ولا تعسرا ، وبشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا " (4) .
وفي رواية لمسلم عن أبي موسى – رضي الله عنه – قال : كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا بعث أحداً من أصحابه في بعض أمره قال : " بشروا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا " (1) .وفيهما عن أنس – رضي الله عنه – أن النبي صلي الله عليه وسلم قال : " يسروا ولا تعسروا وبشروا ( وفي رواية : سكنوا ) ولا تنفروا " (2) .
إذا تبين هذا فقد وردت السنة بالجمع بين الصلاتين : الظهر والعصر ، أو المغرب والعشاء في وقت إحداهما في عدة مواضع :
الأول : في السفر سائراً أو نازلاً :
ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : كان النبي صلي الله عليه وسلم يجمع بين صلاة المغرب والعشاء في السفر (3) .
وفي صحيح مسلم عنه قال : كان النبي صلي الله عليه وسلم إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل أول العصر فيجمع بينهما (4).
وفيه أيضاً عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين في سفرة سافرها في غزوة تبوك ، فجمع بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء (5).(174/32)
وفيه عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال : خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعاً ، والمغرب والعشاء جميعاً (1) .
وفي صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة –رضي الله عنه – حين أتي النبي صلي الله عليه وسلم وهو في الأبطح بمكة في الهاجرة (أي وقت الظهر ) قال : فخرج بلال فنادى بالصلاة ، ثم دخل فأخرج فضل وضوء رسول الله صلي الله عليه وسلم فوقع الناس عليه يأخذون منه ، ثم دخل فأخرج العنزة وخرج النبي صلي الله عليه وسلم ( أي من قبة كان فيها أدم ) كأني أنظر إلي بياض ساقيه فركز العنزة ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين .(2) .
وظاهر هذه الأحاديث أنه كان يجمع بين الصلاتين وهو نازل ، فإما أن يكون ذلك لبيان الجواز ، أو أن ثمة حاجة إلي الجمع ، لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يجمع في حجته حين كان نازلاً بمنى ، وعلى هذا فنقول : الأفضل للمسافر النازل أن لا يجمع ، وأن جمع فلا بأس إلا أن يكون في حاجة إلي الجمع إما لشدة تعبه ليستريح ، أو لمشقة طلب الماء عليه لكل وقت ونحو ذلك فإن الأفضل له الجمع واتباع الرخصة .
وأما المسافر السائر فلأفضل له الجمع بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء – حسب الأيسر له – إما جمع تقديم يقد الثانية في وقت الأولي ، وإما جمع تأخير يؤخر الأولي إلي وقت الثانية .
ففي الصحيحين عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس – أي تزول – أخر الظهر إلي وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما ، فإذا زاغت الشمس قبل أن يرتحل
صلى الظهر ثم ركب (1) .
وذكر في فتح الباري أن إسحاق بن راهويه روى هذا الحديث عن شبابة فقال : كان إذا في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر جميعاً ثم ارتحل . قال : وأعل بتفرد إسحاق به شبابة ، ثم تفرد جعفر الغريابي به عن إسحاق قال : وليس ذلك بقادح فإنهما إمامان حافظان (2) .(174/33)
الثاني : عند الحاجة إلي الجمع بحيث يكون في تركه حرج ومشقة سواء كان ذلك في الحضر أم في السفر .
لما رواه مسلم عن ابن عباس – رضي الله عنهما- أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر فقيل لم فعل ذلك ؟ قال : " كي لا يحرج أمته " (3) .
وروي عن معاذ بن جبل – رضي الله عنه – قال : جمع رسول الله صلي الله عليه وسلم في غزوة تبوك بن الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، فقيل ما حمله على ذلك ؟ قال : " أراد أن لا يحرج أمته " (4) .
ففي هذين الحديثين دليل على أنه كلما دعت الحاجة إلي لجمع بين الصلاتين وكان في تركه حرج ومشقة فهو جائز سواء كان ذلك في حضر أو في سفر .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " فالأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن أمته ، فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة ، وذلك يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى والأحرى ، ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقتين إلا بحرج كالمستحاضة و أمثال ذلك من الصور" اهـ . ونقل في الإنصاف عنه أي عن شيخ الإسلام ابن تيمية جواز الجمع لتحصيل الجماعة إذا كانت لا تحصل له لو صلى في الوقت ، قلت : ودليل ذلك ظاهر من حديث ابن عباس حيث دل على جواز الجمع للمطر وما ذلك إلا لتحصيل الجماعة لأنه يمكن لكل واحد أن يصلي في الوقت منفرداً ويسلم من مشقة المطر بدون جمع .
الموضوع الثالث : الجمع في عرفة ومزدلفة أيام الحج :
ففي صحيح مسلم من حديث جابر –رضي الله عنه – في صفة حج النبي صلي الله عليه وسلم قال : فأجاز رسول الله صلي الله عليه وسلم حتى أتى عرفة فوجد القبة قد ضربت له بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له فأتي بطن الوادي فخطب الناس ، قال : ثم أذن ثم أقام فصلى الظهر ثم أقام فصلى العصر ولم يصل بينهما شيئاً (1) .(174/34)
وفي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد وكان رديف النبي صلي الله عليه وسلم من عرفة إلي المزدلفة قال : فنزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يسبغ الوضوء فقلت له : الصلاة أمامك " فركب فلما جاء
المزدلفة نزل فتوضأ ، فأسبغ الوضوء ، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاها ولم يصل بينهما شيئاً (1) .
وفي حديث جابر الذي رواه مسلم أنه صلى في المزدلفة المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين (2).
ففي هذين الحديثين أن النبي صلي الله عليه وسلم جمع في عرفة بين الظهر والعصر جمع تقديم ، وجمع في مزدلفة بين المغرب والعشاء جمع تأخير . وإنما أفردنا ذكرهما لأن العلماء اختلفوا في علة الجمع فيهما : فقيل : السفر وفيه نظر ، لان النبي صلي الله عليه وسلم لم يجمع في منى قبل عرفة ولا حين رجع منها .
وقيل: النسك ، وفيه أيضاً إذ لو كان كذلك لجمع النبي صلي الله عليه وسلم من حين أحرم ، وقيل : المصلحة والحاجة وهو الأقرب فجمع عرفة لمصلحة طول زمن الوقوف والدعاء ،و لأن الناس يتفرقون في الموقف فإن اجتمعوا للصلاة شق عليهم ، وإن صلوا متفرقين فاتت مصلحة كثرة الجمع . أما في مزدلفة فهم أحوج إلي الجمع ، لأن الناس يدفعون من عرفة بعد الغروب فلو حبسوا لصلاة المغرب فيها لصلوها من غير خشوع ولو أوقفوا لصلاتها في الطريق لكان ذلك أشق فكانت الحاجة داعية إلي تأخير المغرب لتجمع مع العشاء هناك .
وهذا عين الصواب والمصلحة لجمعه بين المحافظة على الخشوع في الصلاة ومراعاة أحوال العباد .
فسبحان الحكيم الرحيم ، و نسأله تعالى أن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب ،والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات ، وصلى الله على نبينا محمد خير المخلوقات ، وعلى آله و أصحابه والتابعين لهم بإحسان مدى الأوقات .
فصل
قال فضيلة الشيخ – جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً :(174/35)
من أهم شروط الصلاة الطهارة من الحدث والنجس وقد ذكرها الله تعالى في قوله : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْه)(1).
فالوضوء تطهير الأعضاء الأربعة : غسل الوجه ومنه المضمضة والاستنشاق ، غسل اليدين إلي المرفقين ، مسح الرأس ومنه الأذنان ، وغسل الرجلين إلي الكعبين ، هذا الوضوء وهذا هو الواجب فيه ، أما الأكمل فهو أن تسمي الله ، والتسمية على الوضوء سنة إن فعلها الإنسان فهو أكمل وأفضل ، وإن تركها فوضوءه صحيح لاسيما إذا كان ناسياً ، ثم اغسل كفيك ثلاث مرات، ثم تمضمض واستنشق ثلاث مرات بثلاث غرفات ، أو بست غرفات يكون المضمضة ثلاثة غرفات والاستنشاق ثلاث غرفات ، ثم اغسل وجهك طولاً من منابت الشعر إلي أسفل اللحية ، وما استرسل من اللحية فإنه داخل غسل الوجه ،ومن الأذن إلي الأذن عرضاً ، يجب عليك أن تغسل كل ذلك لأنه داخل في الوجه ، ويجب عليك بعد هذا أن تغسل اليدين من أطراف الأصابع إلي المرفقين ، والمرفقان داخلان في الغسل فيجب عليك أن تغسل المرفقين حتى تشرع في العضدين ، لأن أبا هريرة رضي الله عنه توضأ حتى أشرع في العضد ، وقال رأيت النبي صلي الله عليه وسلم يتوضأ .(174/36)
ثم تمسح رأسك بيديك ابتداء من المقدم إلي أن تصل إلي المؤخرة ثم ترجع إلي المقدم مرة ثانية ، ثم تمسح الأذنين تدخل السبابتين في صماخي الأذنين وتمسح بإبهاميهما ظاهر الأذنين ، والأفضل ألا تأخذ للأذنين ماءً جديداً لأن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه أخذ ماءً جديداً للأذنين وقد قال صلي الله عليه وسلم " الأذنان من الرأس " (1) .، ثم بعد ذلك تغسل الرجلين إلي الكعبين والكعبان داخلان في الغسل ، والسنة أن تثلث في غسل الكفين وغسل الوجه والمضمضة والاستنشاق وفي غسل اليدين إلي المرفقين ، وفي غسل الرجلين إلي الكعبين ، أما الرأس فلا ينبغي أن تثلث فيه لأن الرسول صلي الله عليه وسلم لم يثلث في الرأس ، وإذا كان الإنسان لابساً الشراب أو الكنادر فإنه إذا لبسهما على طهارة يمسح عليهما بدلاً عن غسل الرجلين ثلاث ليال بلياليها إن كان مسافراً ، ويوماً وليلة إن كان مقيماً ، والمسح يكون من أطراف الأصابع إلي الساق ، بشرط ألا يكون عليه جنابة فإن كان عليه جنابة فلابد أن يخلعهما ويغسل رجليه كما يغسل سائر جسده ، واعلم أن ابتداء المدة من أول مسحة يمسحها الإنسان بعد الحدث ، وليس من اللبس ، ولا من الحدث بعد اللبس ، فإذا تطهر ولبس خفيه لصلاة الفجر وأحدث في الضحى ولم يمسحهما إلا لصلاة الظهر فإن ابتداء المدة يكون من مسحهما لصلاة الظهر ، لأن النبي صلي الله عليه وسلم يقول : " يمسح المقيم " ، ويكون المسح إلا بتحققه فعلاً ،وكذلك إذا كان في الإنسان جرح أو كسر ووضع عليه خرقة بقدر الحاجة فإنه يمسحها بدلاً عن الغسل سواء كان في الجنابة أو الحدث الأصغر ، ولا يشترط أن يلبسها على طهارة بخلاف الخف فإنه لابد أن يلبسه على طهارة وذلك لأن الحديث الوارد عن الرسول صلي الله عليه وسلم ي الجبيرة ليس فيه اشتراط أن يلبسها على طهارة ، ويمسح الجبيرة مادامت عليه ، ولا يحتاج إذا مسح عليها أن يتيمم معها ، وذلك لأن المسح قائم مقام الغسل(174/37)
عند الضرورة ، وفي آخر الآية الكريمة ذكر الله تعالي أن الإنسان إن كان مريضاً يعني مرضاً يضره معه استعمال الماء ، أو كان مسافراً يعني يثقله حمل الماء فإنه في هذه الحال يتيمم ، والتيمم هو ضرب الأرض باليدين ثم مسح الوجه والكفين بعضهما ببعض ، ويسمى عند العامة العفور لأن الإنسان يعفر وجهه بالتراب تعبداً لله عز وجل ، واعلم أيها الأخ المسلم أن التيمم ينوب مناب الماء عند عدمه ، وأنه مطهر طهارة كاملة حتى يجد الإنسان الماء ،لأن النبي صلي الله عليه وسلم يقول " جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "(1) .والطهور ما يتطهر به وكذلك قال الله تعالى لما ذكر التيمم قال "(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) (2) فإذا تيممت لصلاة الفجر مثلاً وبقيت طهارتك إلي صلاة الظهر فإنك تصلي الظهر فإنك تصلى الظهر بتيمم الفجر و لا حرج عليك في ذلك ما دمت لم تنقض طهارتك وكذلك إذا تيممت لصلاة الظهر فلك أن تصلى العصر بذلك التيمم مادامت طهارتك باقية ، لأن الله تعالى جعل التيمم مطهراً ، فإذا كان مطهراً فإنه رافع الحدث ، ولكن رفعه للحدث مؤقت بزوال موجبه وهو فقد الماء أو المرض ، فإذا وجد الإنسان الماء وجب عليه أن يستعمل الماء وإذا برئ من المرض وجب عليه استعمال الماء ، وإذا قدر أن رجلاً كان مسافراً وأصابته جنابة وليس معه ماء فإنه يتيمم عن الجنابة ويصلى ولا يعيد التيمم عن الجنابة مرة ثانية عند الصلاة الثانية أو الثالثة لأن تيممه الول عن الجنابة رفع الجنابة ، ولكن يتيمم إن طرأ عليه حدث أصغر ، يتيمم للحدث الأصغر ، ثم إذا وجد الماء أو وصل إليه في البلد وجب عليه أن يغتسل من الجنابة التي أصابته في السفر ويتيمم لها لقول النبي صلي الله عليه وسلم : " الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين ، فإذا وجده فليتق الله وليمسه بشرته "(1) .هذه هي الطهارة من الأحداث وهي شرط للصلاة(174/38)
لا تصح إلا بها ، فلو صلى المحدث بغير وضوء ناسياً أو صلى من عليه جنابة بغير غسل ناسياً وجب عليه إعادة الصلاة لأن شرط لا يسقط بالنسيان .
---
(1) أخرجه البخاري : كتاب مواقيت الصلاة / باب الإبراد بالظهر في شدة الحر ، ومسلم : كتاب المساجد / باب استحباب الإبراد بالظهر ..
(2) سورة النساء ، الآية : 103 .
(3) سورة الطلاق ، الآية : 1 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 229 .
(2) سورة التغابن ، الآية : 16 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 185 .
(2) سورة الحج ، الآية : 78 .
(3) تقدم تخريجه ص34 .
(1) سورة الإسراء ، الآية : 78 .
(2) أخرجه مسلم : كتاب المساجد / باب أوقات الصلوات الخمس .
(3) أخرجه البخاري : كتاب المواقيت / باب ما يكره من السمر بعد العشاء .
(1) أخرجه مسلم : كتاب المساجد / باب وقت العشاء وتأخيرها .
(2) تقدم تخريجه صلى الله عليه وسلم 190 .
(3) تقدم تخريجه ص209 .
(1) سورة الإسراء ، الآية : 78 .
(2) تقدم تخريجه ص106 .
(1) سورة المائدة ، الآية : 48 .
(2) أخرجه البخاري : كتاب المواقيت / باب وقت الظهر عند الزوال ، ومسلم : كتاب الصلاة / باب القراءة في الصبح والمغرب .
(3) أخرجه الإمام أحمد 3/465 ، 4/140 ، وأبو داود : كتاب الصلاة / باب في وقت الصبح ( 424 ) والترمذي : أبواب الصلاة / باب ما جاء في الإسفار بالفجر ( 154 ) ، والنسائي : كتاب المواقيت / باب الإسفار ( 548 ) ، وابن ماجه : كتاب الصلاة / باب وقت صلاة الفجر ( 672 ) ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .
(1) تقدم تخريجه ص147 .
(2) أخرجه البخاري : كتاب المواقيت / باب فضل الصلاة لوقتها ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال .
(1) تقدم تخريجه ص209 .
(2) تقدم تخريجه ص205 .
(3) تقدم تخريجه ص190 .
(1) تقدم تخريجه ص209 .
(2) تقدم تخريجه ص109 .
(3) تقدم تخريجه ص205 .
(1) سورة النساء ، الآية : 103 .
(2) تقدم تخريجه ص208 .(174/39)
(1) سورة النساء ، الآية : 103 .
(1) تقدم تخريجه ص34 .
(2) سورة البقرة ، الآية : 185 .
(3) سورة المائدة ، الآية : 6 .
(4) سورة الحج ، الآية : 78 .
(5) أخرجه البخاري : كتاب الإيمان / باب الدين يسر .
(1) تقدم تخريجه ص147 .
(2) تقدم تخريجه ص106 .
(1) تقدم تخريجه ص16 .
(2) تقدم تحريجه ص27 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 286 .
(2) أخرجه بن ماجه : كتاب الطلاق / باب طلاق المكره والناسي .
(1) تقدم تخريجه ص21 .
(1) تقدم تخريجه ص 16 .
(2) تقدم تخريجه ص 153 .
(1) تقدم تخريجه ص 16 .
(2) تقدم تخريجه ص 16 .
(1) تقدم تخريجه ص 147 .
(1) أخرجه البخاري : كتاب مواقيت الصلاة / باب لا يتحرى الصلاة قبل غروب الشمس .
(1) أخرجه مسلم : كتاب الجمعة / باب تخفيف الصلاة والخطبة
(2) تقدم تخرجه ص 16
(1) سورة النساء ، الآية : 103
(2) سورة الإسراء ، الآية : 78
(1) تقدم تخريجه ص 208
(2) سورة الإسراء ، الآية :78 .
(1) تقدم تخريجه ص 16.
(2) تقدم تخريجه ص 21.
(1) سورة النحل ، الآية : 44
(2) سورة النحل ، الآية :89
(3) أخرجه الإمام أحمد 4/131 ، وأبو داود : كتاب السنة / باب في لزوم السنة (4604) .
(4) سورة الإسراء، الآية :78.
(1) تقدم تخريجه ص 208
(1) أخرجه مسلم : كتاب المساجد /باب أوقات الصلوات الخمس .
(1) تقدم تخريجه ص 106 .
(2) سورة الإسراء ، الآية 78.
(1) أخرجه مسلم : كتاب الفتنه وأشراط الساعة /باب ذكر الدجال وصفته وما معه .
(1) سورة النساء ، الآية : 103
(2) سورة النساء ، الآية : 78.
(3) تقدم تحريجه ص 50 .
(1) تقدم تخريجه ص 21 .
(2) تقد تخريجه ص 16 .
(3) تقدم تخريجه ص 21 .
(1) أخرجه الإمام أحمد 3/25 .
(2) أخرجه مسلم : كتاب المساجد /باب قضاء الصلاة الفائتة …
(3) سورة البقرة ، الآية :286 .
(1) أخرجه البخاري :كتاب مواقيت الصلاة / باب وقت العصر ، ومسلم : كتاب المساجد /باب استحباب التبكير بالعصر .(174/40)