القسم الثالث : من تجده مكبًّا على علم الحديث وعلم تحقيق الأسانيد وما فيها من علل وما يتعلق بالحديث من حيث القبول أو الرد؛ ولكنه في علوم القرآن ضعيف جدًّا، فلو سألته عن تفسير أوضح آية في كتاب الله فلا يعرف تفسيرها، وكذلك في علم التوحيد والعقيدة ولو سُئِلَ لم يعرف، وهذا قصور كبير بلا شك .
القسم الرابع : من كان حريصًا على الجمع بين الكتاب والسنة الصحيحة، وما كان عليه سلف الأمة مما يتعلق بعلم الكتاب والسنة، ومع ذلك ليس معرضًا عما قاله أهل العلم في كتبهم بل هو يقيم له وزنًا ويستعين به على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العلماء ـ رحمهم الله ـ وضعوا قواعد وضوابط وأصولا ينتفع بها طالب العلم، حتى المفسر في تفسير القرآن وحتى طالب السنة في معرفة السنة أو في شرح معانيها فيكون مركزًا على الكتاب والسنة ومستعينًا بما قاله أهل العلم في كتبهم وهذا هو خير الأقسام .
ولننظر هل نحن طبقنا سير العلم على هذه الطريقة الأخيرة أو أننا من القسم الأول أو الثاني أو الثالث .(132/217)
فإذا كان غير القسم الأخير فإنه يجب أن نُصحح طريقنا؛ لأن الله يقول في كتابه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء ، الآية : 59] وأولي الأمر يشمل العلماء ويشمل الأمراء : { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ } ... الآية ) [النساء ، الآية : 59]. ونحن دائمًا لا سيما إذا رجعنا إلى المأخوذ عن الصحابة والتابعين نجدهم دائمًا يتحاكمون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومع ذلك فإني لا أقول : إنه يجب أن تهدر أقوال العلماء، بل أقوال العلماء لها قيمتها ووزنها واعتبارها ويستعان بها على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
* * * 82ـ سئل ـ غفر الله له ـ : ما قول فضيلتكم في بعض الطلاب الذين يدرسون من أجل الوظيفة والراتب، وكذلك ما يفعله البعض من استئجار من يكتب لهم البحوث، أو يعد لهم الرسائل، أو يحقق بعض الكتب فيحصلون به على شهادات علمية؟(132/218)
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على طلبة العلم إخلاص النية لله -عز وجل- وأن يعتقد أنه ما قرأ حرفًا ولا كلمة، ولا أتم صفحة في العلم الشرعي إلا وهو يقربه إلى الله -عز وجل- ولكن كيف يمكن أن ينوي التقرب إلى الله بطلب العلم؟
الجواب: يمكن ذلك؛ لأن الله أمر به، والله إذا أمر بشيء ففعله الإنسان امتثالا لأمر الله، فتلك عبادة الله؛ لأن عبادة الله هي امتثال أمره، واجتناب نهيه، وطلب مرضاته، واتقاء عقوبته.(132/219)
ومن إخلاص النية في طلب العلم أن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره من الأمة، وعلامة ذلك أن الرجل تجده بعد طلب العلم متأثرًا بما طلب، متغيرًا في سلوكه ومنهاجه، وتجده حريصًا على نفع غيره، وهذا يدل على أن نيته في طلب العلم رفع الجهل عنه وعن غيره فيكون قدوة، صالحًا مصلحًا، وهذا ما كان عليه السلف الصالح، أما ما عليه الخلف اليوم فيختلف كثيرًا عن ذلك، فتجد الأعداد الكبيرة من الطلاب في الجامعات والمعاهد، منهم من نيته لا تنفعه في الدنيا والآخرة، بل تضره، فهو ينوي أن يصل إلى الشهادة لكي يتوصل بها إلى الدنيا فقط، وقد جاء التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: « من تعلم علمًا مما يبتغى به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة » أي ريحها ـ .
وهذا خطر عظيم، فعلم شرعي تجعله وسيلة إلى عرض الدنيا، هذا قلب للحقائق، والطالب إذا أخلص النية جاءته الدنيا تبعًا ولن يفوته شيء وسيخرج هو ومن يريد الشهادة للدنيا على حد سواء، بل المخلص أكثر تحصيلا للعلم وأبلغ رسوخًا فيه.(132/220)
وإن مما يؤسف له ـ كما ذكر السائل ـ أن بعض الطلاب يستأجرون من يعد لهم بحوثًا أو رسائل يحصلون على شهادات علمية، أو من يحقق بعض الكتب فيقول لشخص حضِّر لي تراجم هؤلاء وراجع البحث الفلاني، ثم يقدمه رسالة ينال بها درجة يستوجب بها أن يكون في عداد المعلمين أو ما أشبه ذلك، فهذا في الحقيقة مخالف لمقصود الجامعة ومخالف للواقع، وأرى أنه نوع من الخيانة؛ لأنه لا بد أن يكون المقصود من ذلك الشهادة فقط فإنه لو سئل بعد أيام عن الموضوع الذي حصل على الشهادة فيه لم يجب.
لهذا أحذر إخواني الذين يحققون الكتب أو الذين يحضّرون رسائل على هذا النحو من العاقبة الوخيمة، وأقول: إنه لا بأس من الاستعانة بالغير ولكن ليس على وجه أن تكون الرسالة كلها من صنع غيره، وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح ، إنه سميع مجيب .
* * * 83ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ : هل العلوم كالطب والهندسة من التفقه في دين الله؟(132/221)
فأجاب فضيلته بقوله: ليست هذه العلوم من التفقه في دين الله؛ لأن الإنسان لا يدرس فيها الكتاب ولا السنة، لكنها من الأمور التي يحتاجها المسلمون، ولهذا قال بعض أهل العلم: عن تعلم الصناعات والطب والهندسة والجيولوجيا وما أشبه ذلك من فروض الكفايات، لا لأنها من العلوم الشرعية، ولكن لأنها لا تتم مصالح الأمة إلا بها، ولهذا أنبه الإخوان الذين يدرسون مثل هذه العلوم أن يكون قصدهم بتعلم هذه العلوم نفع إخوانهم المسلمين ورفع أمتهم الإسلامية. الأمة الإسلامية الآن ملايين لو أنها استغلت مثل هذه العلوم فيما ينفع المسلمين لكان في ذلك خير كثير، ولا ما احتجنا إلى الكفار في تحصيل كمالياتنا بل وفي تحصيل ضرورياتنا أحيانًا، فهذه العلوم إذا قصد بها الإنسان القيام بمصالح العباد صارت مما يقرب إلى الله لا لذاتها ولكن لما قُصد بها، أما أنها فقه في الدين فليست فقهًا في الدين؛ لأن الفقه في الدين هو الفقه في أحكام الله تعالى الشرعية والقدرية، والفقه في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته.
* * *
84ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : بِمَ يكون الإخلاص في طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإخلاص في طلب العلم يكون بأمور:(132/222)
الأمر الأول: أن تنوي بذلك امتثال أمر الله؛ لأن الله أمر بذلك فقال : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } (محمد: من الآية 19). وحث سبحانه وتعالى على العلم، والحث على الشيء يستلزم محبته والرضا به والأمر به.
الأمر الثاني: أن تنوي بذلك حفظ شريعة الله؛ لأن حفظ شريعة الله يكون بالتعلم والحفظ في الصدر ويكون كذلك بالكتابة.
الأمر الثالث: أن تنوي حماية الشريعة والدفاع عنها؛ لأنه لولا العلماء ما حُميت الشريعة ولا دافع عنها أحد، ولهذا نجد مثلا شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أهل العلم تصدوا لأهل البدع وبيَّنوا بطلان بدعهم، نرى أنهم حصلوا على خير كثير.
الأمر الرابع: أن تنوي بذلك اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنك لا يمكن أن تتبع شريعته حتى تعلم هذه الشريعة.
الأمر الخامس: أن تنوي بذلك رفع الجهل عن نفسك وعن غيرك.
* * * 85ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ : يقول بعض الناس : إن إخلاص النية في عصرنا الحاضر صعب أو قد يكون مستحيلا؛ لأن الذين يطلبون العلم ولا سيما الطلب النظامي يطلبون العلم لنيل الشهادة فحسب؟(132/223)
فأجاب فضيلته بقوله: نقول: إذا كنت تطلب العلم لنيل الشهادة، فإن كنت تريد من هذه الشهادة أن ترتقي مرتقى دنيويًّا فالنية فاسدة، أما إذا كنت تريد أن ترتقي إلى مرتقى تنفع الناس به لأنك تعرف اليوم أنه لا يمكَّن الإنسان من ارتقاء المناصب العالية النافعة للأمة إلا إذا كان معه شهادة، فإذا قصدت بهذه الشهادة أن تنال ما تنفع الناس به فهذه نية طيبة لا تنافي الإخلاص.
* * * 86ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما نصيحة فضيلتكم حول العمل بالعلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا بد من العمل بالعلم، لأن ثمرة العلم العمل؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه صار من أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة كما قيل:
وعالم بعلمه لم يعملن ... معذب من قبل عبّاد الوثن(132/224)
فإذا لم يعمل بعلمه أورث الفشل في العلم وعدم البركة ونسيان العلم، لقول الله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } (المائدة: من الآية 13) وهذا النسيان يشمل النسيان الذهني والنسيان العملي، فيكون بمعنى ينسونه ذهنيًّا أو ينسونه يتركونه؛ لأن النسيان في اللغة العربية يطلق بمعنى الترك، أما إذا عمل الإنسان بعلمه فإن الله تعالى يزيده هدى، قال تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى } . [محمد ، الآية : 17]. ويزيده تقوى ولهذا قال : { وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [محمد، الآية :17]. فإذا عمل بعلمه ورَّثه الله علم ما لم يعلم ولهذا قال بعض السلف : العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
* * * 87ـ سئل الشيخ ـ وفقه الله تعالى : ما الأمور التي جب توافرها فيمن يتلقى عنه العلم؟(132/225)
فأجاب فضيلته بقوله: لا بد أن يُطلب العلم على شيخ متقن ذي أمانة؛ لأن الإتقان قوة، والقوة لا بد معها من أمانة، قال الله تعالى: { إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ } (القصص: من الآية 26). ربما يكون العالم عنده إتقان وسعة علم وقدرة على التفريع والتقسيم، ولكن ليس عنده أمانة فربما أضلك من حيث لا تشعر، وليعلم أن أخذ العلم عن الشيخ أفيد من الكتب من وجوه:
الأول:قصر المدة.
الثاني: قلة التكلفة.
الثالث: أن ذلك أحرى بالصواب.(132/226)
لأن هذا الشيخ قد علم وتعلم ورجح وفهم فيعطيك الشيء ناضجًا، لكنه يمرنك على المطالعة والمراجعة إذا كان عنده شيء من الأمانة، أما من اعتمد على الكتب فلا بد أن يكرس جهوده ليلا ونهارًا، ثم إذا طالع الكتب التي يقارن فيها بين أقوال العلماء فسيقت أدلة هؤلاء وسيقت أدلة هؤلاء من يدله على أن هذا أصوب؟ يبقى متحيِّرًا، ولهذا نرى أن ابن القيم حينما يناقش قولين لأهل العلم سواء في زاد المعاد أو إعلام الموقعين إذا ساق أدلة القول الأول وعلله نقول هذا هو القول الصواب ولا يجوز العدول عنه بأي حال من الأحوال ثم ينقضه ويأتي بالقول المقابل ويذكر أدلته وعلله فتقول هذا هو القول الصواب، فيحصل عندك من الإشكال والتردد، فلا بد أن تكون قراءتك على شيخ متقن أمين .
* * * 88ـ وسئل فضيلة الشيخ : بعض المبتدئين يبدءون في القراءة من كتاب المحلى لابن حزم بحجة التمرن على المناظرة وحينما تنصحهم بأن هذا سابق لأوانه فيقولون نريد التمرن فهل هذا صحيح؟(132/227)
فأجاب فضيلته بقوله: مناظرة ابن حزم -رحمه الله- مناظرة صعبة، يشدد على خصمه، ويحصل منه أحيانًا سبّ لمخالفه، فهو -رحمه الله- كان شديدًا جدًّا، وأخشى أن يكون طالب العلم الصغير إذا تعود على مثل ما كان عليه ابن حزم أخشى عليه من المماراة، فلو أنه سلاك مسلكًا سهلا لكان أحسن، وإذا حصل على قدر كبير من العلم ـ إن شاء الله ـ وعرف كيف يستفيد من ابن حزم فليطالع في كتابه، لذلك لا أنصح بمطالعته للطالب المبتدئ، لكن التمرن على المجادلة لإثبات الحق أمر لا بد منه، فكثير من الناس عنده علم واسع لكنه عند المجادلة لا يستطيع إثبات الحق.
* * * 89ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : إذا أراد طالب العلم الفقه فهل له الاستغناء عن أصول الفقه؟(132/228)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أراد طالب العلم أن يكون عالمًا في الفقه فلا بد أن يجمع بين الفقه وأصول الفقه ليكون متبحرًا متخصصًا فيه، وإلا فيمكن أن تعرف الفقه بدون علم الأصول، ولكن لا يمكن أن تعرف أصول الفقه، وتكون فقيهًا بدون علم الفقه، أي أنه يمكن أن يستغني الفقيه عن أصول الفقه ولا يمكن أن يستغني الأصولي عن الفقه إذا كان يريد الفقه، ولهذا اختلف علماء الأصول هل الأولى لطالب العلم أن يبدأ بأصول الفقه حتى يبني الفقه عليها، أو بالفقه لدعاء الحاجة إليه، حيث إن الإنسان يحتاج إليه في عمله، في عبادته ومعاملاته قبل أن يتقن أصول الفقه، والثاني هو الأولى وهو المتبع غالبًا.
* * * 90ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين : بعض طلبة العلم يأتي إلى مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها بأدلتها ومناقشتها مع العلماء، فإذا حضر مجلس عالم يشار إليه بالبنان، قال: ما تقول أحسن الله إليك في كذا وكذا، قال: هذا حرام مثلا، قال: كيف؟ بم تجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم كذا ؟ عن قول فلان كذا؟ ثم أتى بأدلة لا يعرفها العالم؛ لأن العلام ليس محيطًا بكل شيء حتى يُظهر نفسه أنه أعلم من هذا العالم فما رأي فضيلتكم؟(132/229)
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة تقع كثيرًا يأتي الإنسان يكون باحثًا المسألة بحثًا دقيقًا جيدًا ثم يباغت العلماء بمثل هذا، وعلى الإنسان أن يكون سؤاله لطلب العلم ومعرفة الحق لا ليظهر علمه وضعف علم غيره .
والحاصل أن الإنسان يجب أن يكون متأدبًا مع من هو أكبر منه، وإذا حصل خطأ ممن هو أكبر، فالخطأ يجب أن يُبين بحال لبقة أو ينتظر حتى يخرج مع هذا العالم ويكلمه بأدب، والعالم الذي يتقي الله إذا بان له الحق فإنه سوف يرجع إليه، وسوف يبين للناس أنه رجع عن قوله.
* * *
91ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما توجيهكم حول استغلال الوقت وحفظه من الضياع؟
فأجاب فضيلته قائلا: ينبغي لطالب العلم أن يحفظ وقته عن الضياع، وضياع الوقت يكون على وجوه:
الوجه الأول: أن يدع المذاكرة ومراجعة ما قرأ.
الوجه الثاني:أن يجلس إلى أصدقائه ويتحدث بحديث لغو ليس فيه فائدة.(132/230)
الوجه الثالث: وهو أضرها على طالب العلم ألا يكون له هم إلا تتبع أقوال الناس وما قيل وما قال، وما حصل وما يحصل في أمر ليس معنيًّا به، وهذا لا شك أنه من ضعف الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » (1) ، والاشتغال بالقيل والقال وكثرة السؤال مضيعة للوقت، وهو في الحقيقة مرض إذا دبَّ في الإنسان ـ نسأل الله العافية ـ صار أكبر همه، وربما يعادي من لا يستحق العداء، أو يوالي من لا يستحق الولاء، من أجل اهتمامه بهذه الأمور التي تشغله عن طلب العلم بحجة أن هذا من باب الانتصار للحق، وليس كذلك، بل هذا من إشغال النفس بما لا يعني الإنسان، أما إذا جاءك الخبر بدون أن تلقفه وبدون أن تطلبه، فكل إنسان يتلقى الأخبار، لكن لا ينشغل بها، ولا تكون أكبر همه؛ لأن هذا يشغل طالب العلم، ويفسد عليه أمره ويفتح في الأمة باب الحزبية فتتفرق الأمة.
* * * 92ـ وسئل فضيلة الشيخ : هل يجوز لطالب العلم إذا كان في مجلس عامة أن يقول لهم من عنده مسألة أو مشكلة فليطرحها حتى أجيب عليها وتحصل الفائدة؟
_________
(1) تقدم تخريجه 93.(132/231)
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز عرض العالم على المتعلم وعامة الناس أن يسألوا عما بدا لهم ولا يعد ذلك إعجابًا من العالم بنفسه؛ لأنه قد يقول قائل: لماذا يقول اسأل عما بدالك، هذا تعظيم لنفسه، وكبر منه؟ نقول: ليس هذا المراد بل المراد نشر العلم، والإنسان لا يعلم عما في قلب أخيه حتى يحدثه به، لذلك لا يقال هذا الفعل خطأ ما دام الإنسان ليس قصده الإعجاب بالنفس وإنما قصده بث العلم فلا حرج في ذلك.
* * * 93ـ وسئل فضيلة الشيخ : هل تعتبر أشرطة التسجيل طريقة من طرق العلم؟ وما هي الطريقة المثلى للاستفادة منها؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما كون هذه الأشرطة وسيلة من وسائل تحصيل العلم فهذا لا يَشُكُّ فيه أحد ، ولا نجحد نعمة الله علينا في هذه الأشرطة التي استفدنا كثيرًا من العلم بها؛ لأنها توصّل إلينا أقوال العلماء في أي مكان كنا.
ونحن في بيوتنا قد يكون بيننا وبين هذا العالم مفاوز ويسهل علينا أن نسمع كلامه من خلال هذا الشريط. وهذه من نعم الله -عز وجل- علينا، وهي في الحقيقة حجة لنا وعلينا، فإن العلم انتشر انتشارًا واسعًا بواسطة هذه الأشرطة.
وأما كيف يستفاد منها؟(132/232)
فهذا يرجع إلى حال الإنسان نفسه، فمن الناس من يستطيع أن يستفيد منها ، وهو يقود السيارة، ومنهم من يستمع إليه أثناء تناوله لطعام الغداء أو العشاء أو القهوة.
المهم أن كيفية الاستفادة منها ترجع إلى كل شخص بنفسه، ولا يمكن أن نقول فيها ضابطًا عامًّا.
* * * 94ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : أيهما أفضل: قيام الليل، أم طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: طلب العلم أفضل من قيام الليل؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد :" لا يعدله شيء لمن صحت نيته ينوي به رفع الجهل عن نفسه وعن غيره". فإذا كان الإنسان يسهر في أول الليل لطلب العلم ابتغاء وجه الله سواء كان يُدرسه ويعلمه الناس فإنه خير من قيام الليل، وإن أمكنه أن يجمع بين الأمرين فهو أولى ، لكن إذا تزاحم الأمران فطلب العلم الشرعي أفضل وأولى، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة : « أن يوتر قبل أن ينام » (1) قال العلماء: وسبب ذلك أن أبا هريرة كان يحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أول الليل وينام آخر الليل فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يوتر قبل أن ينام .
_________
(1) تقدم تخريجه ص154 .(132/233)
* * * 95ـ سئل فضيلة الشيخ : هل من توجيه إلى طلبة العلم حتى يكونوا دعاة ؟ حيث إنهم يحتجون بطلب العلم وأنه يشغلهم عن الدعوة ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة التي تكون دون طلب العلم لا خير فيها، بمعنى أنها تفوِّت خيرًا كثيرًا، والواجب على طالب العلم أن يطلب العلم مع الدعوة إلى الله. ما المانع لطالب العلم إذا رأى شخصًا معرضًا بالمسجد الذي يطلب فيه العلم أن يدعوه إلى الله -عز وجل-؟ ما المانع إذا خرج إلى السوق ليقضي حوائجه أن يدعو إلى الله ـ عز وجل في السوق إذا رأى معرضًا عن دين الله؟ ما المانع إذا كان بالمدرسة ورأى من الطلبة من هو معرض أن يدعوه إلى الله عز وجل ـ ويأخذ بيده . لكن المشكلة أن الإنسان إذا رأى مخالفًا له بمعصية أو ترك أمر كرهه واشمأز منه، وأبعد عنه، ويئس من إصلاحه والله ـ سبحانه وتعالى ـ بيَّن لنا أن نصبر، وأن نحتسب.(132/234)
قال الله لنبيه : { فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ } (الأحقاف: من الآية 35) فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب، ولو رأى في نفسه شيئًا أو على نفسه شيئًا من الغضاضة فليجعل ذلك في ذات الله -عز وجل- « إن النبي عليه الصلاة والسلام لما أدميت أصبعه في الجهاد، قال:
هل أنت إلا أصبع دَميت وفي سبيل الله ما لَقِيت » (1)
* * * 96ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ : إذا اجتهد العالم في مسألة من المسائل ولم يصب الحكم الصحيح فبم يحكم عليه؟
فأجاب فضيلته قائلا: العالم إذا اجتهد في مسألة من المسائل قد يصيب وقد يخطئ لما ثبت من حديث بريدة -رضي الله عنه-: « وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا » . رواه مسلم (2) .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد » . متفق عليه (3) ، وعليه فهل نقول : إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد، ومسلم ، كتاب الجهاد.
(2) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد، باب: تأمير الإمام الأمراء.
(3) تقدم تخريجه ص176.(132/235)
الجواب: قيل: كل مجتهد مصيب، وقيل: ليس كل مجتهد مصيبًا. وقيل: كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، حذرًا من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول.
والصحيح: أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث موافقته للحق؛ فإنه يخطئ ويصيب، ويدل قوله صلى الله عليه وسلم: « فاجتهد فأصاب، »« واجتهد فأخطأ » ؛ فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطئ ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان المجتهدين؛ لأنه لا يمكن أن يكون مصيبًا والسلف غير مصيبين سواء في علم الأصول أو الفروع.(132/236)
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقالا: إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئًا من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون: إنها من الفروع؛ لأنها ليست من العقيدة، ولكن فرع من فروعها، ونحن نقول: إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة؛ فكل الدين أصول؛ لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروع؛ فهذا عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها.
والصحيح: أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف فليس بمقبول مطلقًا.
* * *
97- سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ : عمن يقول بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن باب الاجتهاد باق بدليل السنة كما في حديث عمرو بن العاص -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد » (1) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص176.(132/237)
لذلك قول من يقول: بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين، قول ضعيف ويترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذ منها، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثًا في هذا الحكم حتى يتثبت؛ لأن هذا الحكم قد يكون منسوخًا أو مقيدًا أو عامًّا وأنت تظنه بخلاف ذلك.(132/238)
وأما أن نقول لا تنظر في القرآن والسنة؛ لأنك لست أهلا للاجتهاد، فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا: أن باب الاجتهاد مفتوح؛ لا يجوز أبدًا أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم؛ لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين، فكونك تقدح فيهم، أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم فهذا أيضًا لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال، ويقولون: كذا وكذا. مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادرة قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها.
* * * 98ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : ما قولكم فيما يحصل من البعض من قدح في الحافظين النووي وابن حجر وأنهما من أهل البدع؟ وهل الخطأ من العلماء في العقيدة ولو كان عن اجتهاد وتأويل يلحق صاحبه بالطوائف المبتدعة؟ وهل هناك فرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية؟
فأجاب فضيلته بقوله:(132/239)
إن الشيخين الحافظين ( النووي ابن حجر ) لهما قدم صدق ونفع كبير في الأمة الإسلامية ولئن وقع منهما خطأ في تأويل بعض نصوص الصفات إنه لمغمور بما لهما من الفضائل والمنافع الجمة ولا نظن أن ما وقع منهما إلا صادر عن اجتهاد وتأويل سائغ ـ ولو في رأيهما ، وأرجو الله تعالى أن يكون من الخطأ المغفور وأن يكون ما قدماه من الخير والنفع من السعي المشكور وأن يصدق عليهما قول الله تعالى { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } (هود: من الآية 114). والذي نرى أنهما من أهل السنة والجماعة، ويشهد لذلك خدمتهما لسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وحرصهما على تنقيتها مما ينسب إليها من الشوائب، وعلى تحقيق ما دلت عليه من أحكام ولكنهما خالفا في آيات الصفات وأحاديثها أو بعض ذلك عن جادة أهل السنة عن اجتهاد أخطئا فيه، فنرجو الله تعالى أن يعاملهما بعفوه.(132/240)
وأما الخطأ في العقيدة: فإن كان خطأ مخالفًا لطريق السلف، فهو ضلال بلا شك ولكن لا يحكم على صاحبه بالضلال حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة، وأصر على خطئه وضلاله، كان مبتدعًا فيما خالف فيه الحق، وإن كان سلفيًّا فيما سواه، فلا يوصف بأنه مبتدع على وجه الإطلاق، ولا بأنه سلفي على وجه الإطلاق، بل يوصف بأنه سلفي فيما وافق السلف، مبتدع فيما خالفهم، كا قال أهل السنة في الفاسق: إنه مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق بما معه من العصيان، فلا يعطي الوصف المطلق ولا ينفى عنه مطلق الوصف، وهذا هو العدل الذي أمر الله به، إلا أن يصل المبتدع إلى حد يخرجه من الملة فإنه لا كرامة له في هذه الحال .(132/241)
وأما الفرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية: فلا أعلم أصلا للتفريق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية لكن لما كان السلف مجمعين -فيما نعلم- على الإيمان في الأمور العلمية الحيوية والخلاف فيها إنما هو في فروع من أصولها لا في أصولها كان المخالف فيها أقل عددًا وأعظم لومًا. وقد اختلف السلف في شيء من فروع أصولها كاختلافهم، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في اليقظة واختلافهم في اسم الملكين اللذين يسألان الميت في قبره، واختلافهم في الذي يوضع في الميزان أهو الأعمال أم صحائف الأعمال أم العامل؟ واختلافهم هل يكون عذاب القبر على البدن وحده دون الروح؟ واختلافهم هل يسأل الأطفال وغير المكلفين في قبورهم؟ واختلافهم هل الأمم السابقة يسألون في قبورهم كما تسأل هذه الأمة؟ واختلافهم في صفة الصراط المنصوب على جهنم؟ واختلافهم هل النار تفنى أو مؤبدة، وأشياء أخرى وإن كان الحق مع الجمهور في هذه المسائل، والخلاف فيها ضعيف.
وكذلك يكون في الأمور العملية خلاف يكون قويًّا تارة وضعيفًا تارة.(132/242)
وبهذا تعرف أهمية الدعاء المأثور: « اللهم فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » .
* * * 99ـ سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته ـ عما يحصل من اختلاف الفتيا من عالم لآخر في موضوع واحد. ما مرد ذلك؟ وما موقف متلقي الفتيا؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله : مرد ذلك إلى شيئين:
الأول : العلم. فقد يكون أحد المفتين ليس عنده من العلم ما عند المفتي الآخر، فيكون المفتي الآخر أوسع اطلاعًا منه، يطلع على ما لم يطلع عليه الآخر.(132/243)
والثاني : الفهم، فإن الناس يختلفون في الفهم اختلافًا كثيرًا قد يكونون في العلم سواء، ولكن يختلفون في الفهم، فيعطي الله تعالى هذا فهمًا واسعًا ثاقبًا؛ يفهم مما علم أكثر مما فهمه الآخر، وحينئذ يكون الأكثر علمًا والأقوى فهمًا أقرب إلى الصواب من الآخر. أما بالنسبة للمستفتي فإنه إذا اختلف عليه عالمان مفتيان فإنه يتبع من يرى أنه أقرب إلى الصواب، إما لعلمه، وإما لورعه ودينه، كما أنه لو كان الإنسان مريضًا واختلف عليه طبيبان فإنه سوف يأخذ بقول من يرى أنه أقرب إلى الصواب فإنه تساوى عنده الأمران ولم يرجح أحد المفتين على الآخر فإنه يخير إن شاء أخذ بهذا وإن شاء أخذ بهذا وما اطمأنت إليه نفسه أكثر فليأخذ به.
* * *
100ـ سئل فضيلة الشيخ : ما قولكم فيمن يتخذ من أخطأ العلماء طريقًا للقدح فيهم ورميهم بالبهتان؟ وما النصيحة التي توجهها لطلبة العلم في ذلك؟(132/244)
فأجاب فضيلته بقوله: العلماء ـ بلا شك ـ يخطئون ويصيبون وليس أحد منهم معصومًا، ولا ينبغي لنا بل ولا يجوز أن نتخذ خطئهم سلمًا للقدح فيهم، فإن هذه طبيعة البشر كلهم أن يخطئوا إذا لم يوفقوا للصواب، ولكن علينا إذا سمعنا عن عالم أو عن داعية من الدعاة أو عن إمام من أئمة المساجد إذا سمعنا خطأ أن نتصل به، حتى يتبين لنا ؛ لأنه قد يحصل في ذلك خطأ في النقل عنه، أو خطأ في الفهم لما يقول، أو سوء قصد في تشويه سمعة الذي نقل عنه هذا الشيء، وعلى كل حال فمن سمع منكم عن عالم أو عن داعية أو عن إمام مسجد أو أي إنسان له ولاية، من سمع منه ما لا ينبغي أن يكون، فعليه أن يتصل به وأن يسأله: هل وقع ذلك منه أم لم يقع، ثم إذا كان قد وقع فليبين له ما يرى أنه خطأ، فإما أن يكون قد أخطأ فيرجع عن خطئه، وإما أن يكون هو المصيب، فيبين وجه قوله حتى تزول الفوضى التي قد نراها أحيانًا ولا سيما بين الشباب. وإن الواجب على الشباب وعلى غيرهم إذا سمعوا مثل ذلك أن يكفوا ألسنتهم وأن يسعوا بالنصح، والاتصال بمن نُقل عنه ما نُقل حتى يتبين الأمر، أما الكلام في المجالس ولا سيما في مجالس العامة أن يقال ما تقول في فلان؟ ما تقول في فلان الآخر(132/245)
الذي يتكلم ضد الآخرين؟ فهذا أمر لا ينبغي بثه إطلاقًا؛ لأنه يثير الفتنة والفوضى فيجب حفظ اللسان، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل -رضي الله عنه-: « ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، وقال: كف عليك هذا. قلت: يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به . قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجهوهم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم » (1) .
وأنصح طلبة العلم وغيرهم أن يتقوا الله وألا يجعلوا أعراض العلماء والأمراء مطية يركبونها كيف ما شاءوا، فإنه إذا كانت الغيبة في عامة الناس من كبائر الذنوب فهي في العلماء والأمراء أشد وأشد، حمانا الله وإياكم عما يغضبه، وحمانا عما فيه العدوان على إخواننا، إنه جواد كريم.
101ـ سئل فضيلة الشيخ ـ غفر الله له ـ : ما توجيهكم حول ما يحصل من البعض من التفرق والتحزب؟
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد 3 / 413، وابن ماجه (3973).(132/246)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن التحزب والتفرق في دين الله منهي عنه محذر منه، لقوله تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:105) وقوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ } (الأنعام:159) فلا يجوز للأمة الإسلامية أن يتفرقوا أحزابًا، لكل طائفة منهج مغاير لمنهج الأخرى، بل الواجب اجتماعهم على دين الله على منهج واحد وهو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين والصحابة المرضيين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة » (1) .
وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن تتفرق الأمة أحزابًا لكل حزب أمير ومنهج، وأمير الأمة الإسلامية واحد، وأمير كل ناحية واحد، من قِبَل الأمير العام.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد(4 / 126 ـ 127)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجه (42ـ 44).(132/247)
وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ أمير السفر؛ لأن المسافرين نازحون عن المدن والقرى التي فيها أمراء من قبل الأمير العام، وربما تحصل مشاكل لا تقبل التأخير إلى وصول هذه المدن والقرى، أو مشاكل صغيرة لا تحتمل الرفع إلى أمراء المدن والقرى؛ كالنزول في مكان والنزوح عنه وتسريح الرواحل وحبسها ونحو ذلك، فكان من الحكمة أن يُؤَمِّر المسافرون أحدَهم لمثل هذه الحالات.
ونصيحتي للأمة أن يتفقوا على دين الله ولا يتفرقوا فيه، وإذا رأوا من شخص أو طائفة خروجًا عن ذلك نصحوه وبيّنوا له الحق وحذروه من المخالفة وبينوا له أن الاجتماع على الحق أقرب إلى السداد والفلاح من التفرق. وإذا كان الخلاف عن اجتهاد سائغ فإن الواجب أن لا تتفرق القلوب وتختلف من أجل ذلك، فإن الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ حصل بينهم خلاف في الاجتهاد في عهد نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعده، ولم يحصل بينهم اختلاف في القلوب أو تفرق فليكن لنا فيهم أسوة، فإن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها.
وفقنا الله إلى ما يحبه ويرضاه.(132/248)
* * * 102ـ سئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : ما الواجب على العامي ومن ليس له قدرة على طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على من لا علم عنده ولا قدرة له على الاجتهاد أن يسأل أهل العلم؛ لقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (الأنبياء: من الآية 7). ولم يأمر الله تعالى بسؤالهم إلا من أجل الأخذ بقولهم، وهذا هو التقليد. لكن الممنوع في التقليد أن يلتزم مذهبًا معينًا يأخذ به على كل حال ويعتقد أن ذلك طريقه إلى الله -عز وجل- فيأخذ به وإن خالف الدليل.
وأما من له قدرة على الاجتهاد؛ كطالب العلم الذي أخذ بحظ وافر من العلم، فله أن يجتهد في الأدلة ويأخذ بما يرى أنه الصواب أو الأقرب للصواب.
وأما العامي وطالب العلم المبتدئ، فيجتهد في تقليد من يرى أنه أقرب إلى الحق؛ لغزارة علمه وقوة دينه وورعه.
* * * 103ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : من الأصول التي يرجع إليها طالب العلم الشرعي أقوال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فهل هي حجة يُعمل بها؟
فأجاب بقوله: قول الصحابي أقرب إلى الصواب من غيره بلا ريب، وقوله حجة، بشرطين:(132/249)
أحدهما: أن لا يخالف نص كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
والثاني: أن لا يخالفه صحابي آخر.
فإن خالف الكتاب أو السنة فالحجة في الكتاب أو السنة، ويكون قوله من الخطأ المغفور.
وإن خالف قول صحابي آخر طلب الترجيح بينهما، فمن كان قوله أرجح فهو أحق أن يتبع، وطرق الترجيح تعرف إما من حال الصحابي أو من قرب قوله إلى القواعد العامة في الشريعة أو نحو ذلك.
ولكن هل هذا الحكم عام لجميع الصحابة أو خاص بالخلفاء الراشدين أو بأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهماـ .
أما أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- فلا ريب أن قولهما حجة بالشريطين السابقين، وقولهما أرجح من غيرهما إذا خالفهما، وقول أبي بكر أرجح من قول عمر -رضي الله عنهما-. وقد روى الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر » (1) ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة -رضي الله عنه- في قصة نومهم عن الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا » (2) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص178.
(2) تقدم تخريجه ص 178 .(132/250)
وفي صحيح البخاري في باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر بن الخطاب قال: " هما المرءان يُقتدى بهما" (1) ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ـ رضي الله عنه .
وأما بقية الخلفاء الراشدين، ففي السنن والمسند من حديث العرباض بن سارية -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ » (2) . وأولى الناس بالوصف هذا الخلفاء الأربعة ـ رضي الله عنهم ـ فيكون قولهم حجة .
وأما بقية الصحابة، فمن كان معروفًا بالعلم وطول الصحبة فقوله حجة، ومن لم يكن كذلك فمحل نظر، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في أول كتابه (إعلام الموقعين): أن فتاوى الإمام مبينة على خمسة أصول، منها: فتاوى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، والعلماء مختلفون فيها ، لكن الغالب واللازم أن يكون هناك دليل يرجح قوله أو يخالفه فيعمل بذلك الدليل.
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
حفظه الله
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب: كسوة الكعبة، وفي كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) تقدم تخريجه ص 204.(132/251)
نرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عما إذا كان تحديد موعد منتظم أسبوعيًّا لإلقاء محاضرة دينية أو حلقة علم، بدعة منهيًا عنها باعتبار طلب العلم عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحدد موعدًا لهذه العبادة. وتبعًا لذلك هل إذا اتفق مجموعة من الإخوة على الالتقاء في المسجد ليلة محددة كل شهر لقيام الليل، هل يكون ذلك بدعة مع إيراد الدليل على ذلك؟ وجزاكم الله خيرًا، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
إن تحديد يوم معين منتظم لإلقاء محاضرة أو حلقة علم ليس ببدعة منهي عنها، بل هو مباح كما يقرر يوم معين في المدارس والمعاهد لحصة الفقة أو التفسير أو نحو ذلك. ولا شك أن طلب العلم الشرعي من العبادات لكن توقيته بيوم معين تابع لما تقتضيه المصلحة، ومن المصلحة أن يعين يوم لذلك حتى يا يضطرب الناس. وطلب العلم ليس عبادة موقتة بل هو بحسب ما تقتضيه المصلحة والفراغ. لكن لو خص يومًا معينًا لطب العلم باعتبار أنه مخصوص لطلب العلم وحده فهذا هو البدعة.(132/252)
وأما اتفاق مجموعة على الالتقاء في ليلة معينة لقيام الليل فهذا بدعة؛ لأن إقامة الجماعة في قيام الليل غير مشروعة إلا إذا فعلت أحيانًا وبغير قصد كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-.
كتبه محمد الصالح العثيمين
في 28 / 5 / 1415هـ.
104ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ : عما يحصل من البعض من الوقوع في أعراض العلماء الربانيين والقدح فيهم وغيبتهم وفقكم الله تعالى؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الوقوع في أعراض أهل العلم المعروفين بالنصح، ونشر العلم والدعوة إلى الله تعالى، من أعظم أنواع الغيبة التي هي من كبائر الذنوب.(132/253)
والوقيعة في أهل العلم أمثال هؤلاء ليست كالوقيعة في غيرهم؛ لأن الوقيعة فيهم تستلزم كراهتهم، وكراهة ما يحملونه، وينشرونه من شرع الله -عز وجل- فيكون في التنفير عنهم تنفير عن شرع الله -عز وجل- وفي هذا من الصد عن سبيل الله ما يتحمل به الإنسان إثمًا عظيمًا وجرمًا كبيرًا، ثم إنه يلزم من إعراض الناس عن أمثال هؤلاء العلماء، أن يلتفتوا إلى قوم جهلاء يضلون الناس بغير علم؛ لأن الناس لا بد لهم من أئمة يأتمون بهم ويهتدون بهديهم، فإما أن يكونوا أئمة يهدون بأمر الله وإما أن يكونوا أئمة يدعون إلى النار، فإذا انصرف الناس عن أحد الجنسين مالوا إلى الجنس الآخر.
وعلى المرء الواقع في أعراض أمثال هؤلاء العلماء أن ينظر في عيوب نفسه، فإن أول عيب يخدش به نفسه، وقوعه في أعراض هؤلاء العلماء، مع ما عنده من العيوب الأخرى التي يبرأ منها أهل العلم ويبرؤن أنفسهم من الوقيعة فيه من أجلها.
* * * 105ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : عن المسجلات الصوتية التي يُسجل فيها العالم، وهل هناك حرج من استعمالها؟(132/254)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن المسجلات الصوتية من نعم الله تعالى، إذا كان يسجل بها ما يفيد المسلم في دينه ودنياه، وأنه يحصل بها علم كثير مفيد، إذا كان من أهل العلم المعروفين بالتحقيق والأمانة، وهي بمنزلة الكتب المؤلفة، ومن المعلوم أنه لا أحد ينهى عن تأليف الكتب إذا كانت من أهل التحقيق والأمانة، وهي لا تصد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هي بيان وتفسير لكلام الله ورسوله ونشر لما تضمنه الكتاب والسنة من مواعظ تشتمل على أحاديث وآثار ضعيفة أو مكذوبة لقصد الترغيب أو الترهيب أو كليهما، والذين يسمعونها ممن لا معرفة لهم بالصحيح والضعيف يغترون بها ويأخذون بها مسلمة من غير بحث فيها ولا سؤال عنها ، فالله المستعان.
* * * 106ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : متى ينكر على المخالف في المسائل الخلافية التي بين أهل العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: مسائل الخلاف نوعان:
النوع الأول نوع يكون الدليل فيها واضحًا لا يمكن فيه الاجتهاد، فهذه ينكر على المخالف فيها لمخالفة النص وذلك كحلق اللحية وإسبال الثوب أسفل من الكعبين، والتفرق في دين الله، وغير ذلك.(132/255)
لكن لا يجعل ذلك وسيلة للتشاتم والتباغض، لا سيما مع العلم بحسن نية المخالف، بل تُعالج الأمور بحكمة حتى يحصل الوفاق.
والنوع الثاني: يكون فيها الدليل غير واضح، إما لخفاء ثبوت الدليل، أو الدلالة أو وجود شبهة مانعة، وغير ذلك، فهذا لا ينكر فيه على المخالف؛ لأن قول أحد المختلفين ليس حجة على الآخر، وأمثلة هذا كثيرة.
* * * 107ـ وسئل فضيلة الشيخ : إذا أراد الإنسان حفظ القرآن فبماذا تنصحونه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي ننصحه به أن يبدأ من البقرة، إلا إذا كان حفظه من المفصل أسهل له فليكن من المفصل؛ لأن بعض الناس يسهل عليه الحفظ من المفصل من أجل قصر سوره وآياته ، وكونه يسمعه من الأئمة في المساجد كثيرًا، فإذا كان هذا سهل عليه فليبدأ بما هو أسهل، وننصحه أيضًا بتعاهد حفظه كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وننصحه أيضًا أن يهتم بما كان حفظه أكثر من اهتمامه بكثرة الحفظ؛ لأن العناية بالموجود أولى من العناية بالمفقود.
* * *
رسالة
حول الاجتماع والائتلاف وترك التفرق والاختلاف
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:(132/256)
فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العظيم: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ }{ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } . آل عمران، الآيتان 102، 103. فأمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن نذكر نعمة الله علينا، إذا كنا أعداء فألف بين قلوبنا، فأصبحنا بنعمته إخوانا، فعلينا جميعًا أن نشكر الله على هذه النعمة وأن نحرص كل الحرص على أن تكون كلمتنا واحدة.
لأننا بذلك نكون أمة قوية مرموقة، وأما إذا تنازعنا وتفرقنا فإنه بلا شك سوف نفشل وتذهب ريحنا، كما قال الله تعالى { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (لأنفال:46)(132/257)
وإن الواجب على طلبة العلم خاصة، وعلى المسلمين عامة أن يدعوا الأحقاد والأضغان وأن يكون هدفهم واحد ودعواهم واحدة، وأن لا يظهروا الشماتة بأنفسهم بالتفرق والتنازع والتنابز بالألقاب والكراهية والبغضاء، فإن ذلك أعظم سلاح فتاك يبطل هيبة المسلمين، ويوجب أن يتسلط عليهم أعداؤهم فيقفون متفرجين عليهم ينظرون إليهم وهم يتنازعون ويتخاصمون ويقولون كفينا أن نفسد بين المسلمين، وأنه يجب على كل واحد منا أن يعذر أخاه فيما طريقه الاجتهاد، فإن اجتهاد كل واحد ليس حجة على الآخر، والحجة ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الخلاف سائغًا لم يظهر فيه العصيان والتعصب للنفس، فإن الواجب أن تتسع صدورنا له، ولا مانع حينئذ من المناقشة الهادئة التي يُراد بها التوصل إلى الحق، فإن هذا هو طريق الصحابة، وأما أن نتخذ من الخلاف السائغ مثارًا للكراهية والبغضاء والتحزب، فإن ذلك خلاف طريق السلف الصالح، ولينظر الإنسان وليتفكر في هذه الشريعة الإسلامية فإنها جاءت بما يوجب الألفة والمحبة، ونهت عن كل ما يوجب التفرق والبغضاء، فكثير من العبادات يشرع فيها الاجتماع كالصلوات، وكثير من الأشياء نهى الله عنها ؛ لأنها توجب(132/258)
العداوة والبغضاء كالبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته وغير ذلك.
فنصيحتي لإخواني أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفي أمتهم، وأن لا يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم.
وأسأل الله لنا جميعًا التوفيق لما يحب ويرضى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر في 29 / 3 / 1416هـ.
108ـ وسئل فضيلة الشيخ : هل يجوز استفتاء أكثر من عالم؟ وفي حالة اختلاف الفتيا هل يأخذ المستفتي بالأيسر أم بالأحوط؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالمًا واثقًا بقوله أن يستفتي غيره؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص، بحيث يسأل فلانًا، فإن لم يناسبه سأل الثاني، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا.
وقد قال العلماء:(من تتبع الرخص فسق)، لكن أحيانًا يكون الإنسان ليس عنده من العلماء إلا فلانًا مثلا، فيسأله من باب الضرورة، وفي نيته أنه إذا التقى بعالم أوثق منه في علمه ودينه سأله، فهذا لا بأس به، أن يسأل الأول للضرورة، ثم إذا وجد من هو أفضل سأله.(132/259)
وإذا اختلف العلماء عليه في الفتيا أو فيما يسمع من مواعظهم ونصائحهم مثلا، فإنه يتبع من يراه إلى الحق أقرب في علمه ودينه، فإن تساوى عنده الرجلان في العلم والدين، فقال بعض العلماء: يتبع الأحوط وهو الأشد، وقيل يتبع الأيسر، وهذا هو الصحيح؛ أنه إذا تعادلت الفتيا عندك، فإنك تتبع الأيسر؛ لأن دين الله -عز وجل- مبني على اليسر والسهولة، لا على الشدة والحرج.
وكما قالت عائشة ـرضي الله عنهاـ: « ما خُير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا » (1) ؛ ولأن الأصل البراءة وعدم التأثيم والقول بالأشد يستلزم شغل الذمة والتأثيم.
* * * 109ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : قلتم إن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الإمام أحمد، فكيف حكمنا على المذاهب الثلاثة الباقية؟
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلم كتاب الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام.(132/260)
فأجاب فضيلته بقوله: لا . . . ما أظن إننا قلنا هذا باعتبار أن المذاهب الثلاثة ليست على مذهب أهل السنة، لكن الإمام أحمد -رحمه الله- معروف بين أهل العلم أنه إمام أهل السنة وأنه قام بالدفاع عن السنة قيامًا لم يقمه أحد فيما نعلم. ومحنته مع المأمون ومن بعده مشهورة، وإلا فلا شك أن أئمة الإسلام -ولله الحمد- كلهم على خير وعلى حق، ولكن ذلك لا يعني أن نبرئ كل واحد منهم من الخطأ. بل كل واحد منهم قد يقع منه الخطأ بل الإمام أحمد نفسه قد يصرح بالرجوع عن القول وإن كان قد قاله من قبل كما في قوله في طلاق السكران حتى تبيّنته، يعني فتبين له أنه لا يقع؛ لأنه إذا أوقعه أتى خصلتين: تحريم هذه الزوجة على زوجها الذي طلقها وحلها لغيره، وإذا قال بعدم الوقوع أتى خصلة واحدة وهي حلها لهذا الزوج الذي لم يتحقق بينونتها منه.
* * * 110ـ وسئل فضيلته ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ : ما رأي فضيلتكم فيمن ينفّر من قراءة كتب الدعاة المعاصرين ويرى الاقتصار على كتب السلف الأخيار وأخذ المنهج منها؟ ثم ما هي النظرة الصحيحة أو الجامعة لكتب السلف ـ رحمهم الله ـ وكتب الدعاة المعاصرين والمفكرين؟(132/261)
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن أخذ الدعوة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء، وهذا رأينا جميعًا بلا شك، ثم يلي ذلك ما ورد عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة وعن أئمة الإسلام فيمن سلف.
أما ما يتكلم به المتأخرون والمعاصرون، فإنه يتناول أشياء حدثت هم بها أدرى، فإذا اتخذ الإنسان من كتبهم ما ينتفع به في هذه الناحية فقد أخذ بحظ وافر ، ونحن نعلم أن المعاصرين إنما أخذوا ما أخذوا من العلم ممن سبق ؛ فلنأخذ نحن مما أخذوا منه، ولكن أمورًا قد استجدت هم بها أبصر منا، ثم إنها لم تكن معلومة لدى السلف بأعيانها، ولهذا أرى أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، فيعتمد أولا على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وثانيًا على كلام السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة وأئمة المسلمين، ثم على ما كتبه المعاصرون الذين يكتبون عن أشياء حدثت في زمانهم لم تكن معلومة بأعيانها عند السلف.
* * * 111ـ وسئل فضيلته ـ غفر الله له ـ : هناك بعض طلبة العلم يبدأ طلب العلم بكتب الحديث ويعرض عن المتون الفقهية وحجتهم بأن المتون الفقهية خالية من أدلة الكتاب والسنة فهل هذا صحيح؟(132/262)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن يبدأ الطالب قبل كل شيء بفهم القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى قال { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (ص:29) ولأن القرآن لا يحتاج إلى أي عناء في ثبوته؛ لأنه ثابت بالتواتر، لكن السنة فيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف وفيها الموضوع فهي تحتاج إلى عناء، ثم هي أيضًا تحتاج إلى جمع أطرافها، فقد يبلغ الإنسان حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام يكون له مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه، أو يكون هذا الحديث منسوخًا وهو لا يعلم، ولهذا نجد كثيرًا ممن زعموا أنهم مستندون على الحديث يخطئون في فهمه أو في طريقة الاستدلال به. ولا شك أن السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام أصل من الأصول، فهي كالقرآن في وجوب العمل بها إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما جوابه بأن المتون خالية مما قال الله وقال رسوله فنعم، أكثر المتون الفقهية ليس فيها الدليل، ولكن توجد الأدلة في شروحها، فليست خالية من الأدلة باعتبار شروحها التي تحلل أغراضها وتبين معانيها.
والذي أرى أن يكون الإنسان بادئًا:
أولا: بكتاب الله -عز وجل- .(132/263)
وثانيًا: بالسنة الثابتة عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم .
وثالثًا : بكتب الفقه المبنية على الكتاب والسنة ؛ لأن هذه تضبط تصرفه وتصحح فهمه.
لكن هل الأولى أن يحفظ متنًا من متون الفقه أو متنًا مختصرًا من الحديث؟
الجواب: الأولى أن يحفظ متنًا مختصرًا من الحديث كعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، ولكن لا يدع الاستئناس بكلام أهل العلم وأهل الفقه.
* * *
112ـ وسئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : بعض طلبة العلم يكتفون بسماع أشرطة العلماء من خلال دروسهم فهل تكفي في تلقي العلم؟ وهل يعتبرون طلاب علم؟ وهل يؤثر في معتقدهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن هذه الأشرطة تكفيهم عن الحضور إلى أهل العلم إذا كان لا يمكنهم الحضور، وإلا فإن الحضور إلى العلماء أفضل وأحسن وأقرب للفهم والمناقشة، لكن إذا لم يمكنهم الحضور فهذا يكفيهم.
ثم هل يمكن أن يكونوا طلبة علم وهم يقتصرون على هذا ؟(132/264)
نقول: نعم يمكن إذا اجتهد الإنسان اجتهادًا كثيرًا كما يمكن أن يكون الإنسان عالمًا إذا أخذ العلم من الكتب، لكن الفرق بين أخذ العلم من الكتب والأشرطة وبين التلقي من العلماء مباشرة، أن التلقي من العلماء مباشرة أقرب إلى حصول العلم؛ لأنه طريق سهل تمكن فيه المناقشة بخلاف المستمع أو القارئ فإنه يحتاج إلى عناء كبير في جمع أطراف العلم والحصول عليه.
وأما قول السائل: هل يؤثر الاكتفاء بالأشرطة في معتقدهم، فالجواب: نعم يؤثر في معتقدهم إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة بدعية ويتبعونها، أما إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة من علماء موثوق بهم، فلا يؤثر على معتقداتهم، بل يزيدهم إيمانًا ورسوخًا واتباعًا للمعتقد الصحيح.
* * * 113 - وسئل فضيلة الشيخ : ما رأي فضيلتكم فيمن صار ديدنهم تجريح العلماء وتنفير الناس عنهم والتحذير منهم، هل هذا عمل شرعي يثاب عليه أو يعاقب عليه؟(132/265)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن هذا عمل محرَّم، فإذا كان لا يجوز للإنسان أن يغتاب أخاه المؤمن وإن لم يكن عالمًا فكيف يسوغ له أن يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين؟ والواجب على الإنسان المؤمن أن يكف لسانه عن الغيبة في إخوانه المؤمنين. قال الله تعالى { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ } (الحجرات:12) وليعلم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى أنه إذا جرَّح العالم فسيكون سببًا في رد ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال رد الحق وإثمه على هذا الذي جرح العالم؛ لأن جرح العالم في الواقع ليس جرحًا شخصيّا بل هو جرح لإرث محمد صلى الله عليه وسلم .(132/266)
فإن العلماء ورثة الأنبياء فإذا جرح العلماء وقدح فيهم لم يثق الناس بالعلم الذي عندهم وهو موروث عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ لا يتقون بشيء من الشريعة التي يأتي بها هذا العالم الذي جُرح. ولست أقول : إن كل عالم معصوم، بل كل إنسان معرض للخطأ، وأنت إذا رأيت من عالم خطأ فيما تعتقده، فاتصل به وتفاهم معه، فإن تبين لك أن الحق معه وجب عليك اتباعه، وإن لم يتبين لك ولكن وجدت لقوله مساغًا وجب عليك الكف عنه، وإن لم تجد لقوله مساغًا فحذر من قوله؛ لأن الإقرار على الخطأ لا يجوز، لكن لا تجرحه وهو عالم معروف مثلا بحسن النية، ولو أردنا أن نجرح العلماء المعروفين بحسن النية لخطأ وقعوا فيه من مسائل الفقه، لجرحنا علماء كبارًا، ولكن الواجب هو ما ذكرت وإذا رأيت من عالم خطأ فناقشه وتكلم معه، فإما أن يبتين لك أن الصواب معه فتتبعه أو يكون الصواب معك فيتبعك، أو لا يتبين الأمر ويكون الخلاف بينكما من الخلاف السائغ، وحينئذ يحب عليك الكف عنه وليقل هو ما يقول ولتقل أنت ما تقول.(132/267)
والحمد لله ، الخلاف ليس في هذا العصر فقط، الخلاف من عهد الصحابة إلى يومنا، وأما إذا تبين الخطأ ولكنه أصر انتصارًا لقوله وجب عليك أن تبين الخطأ وتنفر منه، لكن لا على أساس القدح في هذا الرجل وإرادة الانتقام من؛ لأن هذا الرجل قد يقول قولا حقًّا في غير ما جادلته فيه.
فالمهم أنني أحذر إخواني من هذا البلاء وهو تجريح العلماء والتنفير منهم، وأسأل الله لي ولهم الشفاء من كل ما يعيبنا أو يضرنا في ديننا ودنيانا.
* * * 114ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ورعاه ـ : ما هي نصيحتكم لمن ابتدأ في طلب العلم؟ بأي شيء يبدأ؟(132/268)
فأجاب فضيلته بقوله: عندي أن أهم شيء في طلب العلم أن يتعلم الإنسان تفسير كلام الله -عز وجل-؛ لأن كلام الله هو العلم كله، قال تعالى { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى } (النحل: من الآية 89) وكان الصحابة لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعًا، هذا أهم شيء عندي، وعلى هذا فيبدأ الشاب ولا سيما الصغار من الشباب بحفظ القرآن، والآن حفظ القرآن ـ ولله الحمد ـ متيسر، ففي المسجد حلقات يحفظون القرآن ، وعليهم أمناء من القراء يحفظونهم القرآن، ثم إنه في هذه المناسبة أود من إخواني الأغنياء أن يولوا أهمية لهذه الحلقات بتشجيعهم ماديًّا ومعنويًّا، وليعلموا أنهم إذا عانوا في تعليم القرآن فإن لهم مثل أجر المعلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « من جهز غازيًا فقد غزا » (1) ؛ ولأن الله تعالى قال { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } (المائدة: من الآية 2). ولم يأمرنا بالتعاون إلا أن لنا أجرًا، لذا أحث إخواني الأغنياء على دعم هذه الحلقات بالمال سواء كان المال نقدًا أو كان عقارات توقف لهذه الحلقات تنفعه بعد موته. وأحث
_________
(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب: فضل من جهّز غازيًا أو خلفه بخير، ومسلم ، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله .(132/269)
أيضًا القائمين على الحلقات على أن يهتموا بإنشاء ما يدر على هذه الحلقات في المستقبل؛ لأن التبرع المقطوع ينتهي، لكن إذا حرصوا على أن يؤسسوا منشآت تؤجر كان هذا حماية لهذه الحلقات من التوقف في المستقبل.(132/270)
بعد ذلك على الطالب أن يهتم بالسنة؛ لأنها هي مصدر التشريع الثاني، ولا أقول الثاني بالترتيب المعنوي، لكن بالترتيب الذكري؛ لأن ما ثبت في السنة كما ثبت في القرآن سواء بسواء؛ لأن الله تعالى يقول { وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ } (النساء: من الآية 113). فليحفظ السنة، ومن الكتب المختصرة في السنة "عمدة الأحكام" وهي أيضًا موثوقة؛ لأن جامعها -رحمه الله- جمع فيها ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، ولم يشذ عن هذا القيد إلا في أحاديث يسيرة، وإذا ترقى الإنسان شيئًا ما فليحفظ "بلوغ المرام" وهو من أحسن ما ألف في الحديث؛ لأنه ذكر الحديث ويذكر مرتبته فيعطي الإنسان قوة وقدرة على معرفة مرتبة الحديث؛ لأن الحديث ليس كالقرآن، فالقرآن لا يحتاج إلى البحث في سنده؛ لأنه ثابت متواتر، أما السنة فلا يتم الاستدلال بها إلا بأمرين: الأول: صحة الحديث، الثاني: دلالة الحديث على الحكم المطلوب. ولهذا إذا قال لك إنسان هذا حرام والدليل قوله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فعليك أن تطالبه بصحة النقل؛ لأن هناك أحاديث ضعيفة، وأحاديث مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم مثل:"حب الوطن من الإيمان" (1) .
_________
(1) انظر الدرر المنتثرة للسيوطي، ص110، وكشف الخفاء 1 / 325، والأسرار المرفوعة ص189.(132/271)
* * * 115ـ وسئل فضيلته ـ وفقه الله تعالى ـ: هل يجوز لإنسان أن يجتهد في إفتاء بعض الناس إذا كان لا يوجد من يفتي أو لم يتيسر سؤال العلماء؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان جاهلا فكيف يجتهد؟ وعلى أي أساس ينبي اجتهاده؟! والواجب على من لا يعلم الحكم أن يتوقف، وإذا سئل يقول : لا علم عندي، فالملائكة لما قال الله -عز وجل- لهم { أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } (البقرة: من الآية 31) { قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ } (البقرة:32) أما كونه يقول إذا لم يجد عالمًا يفتي أنا أفتي صواب أم خطأ فهذا خطأ ولا يجوز، فالجواب أن يقول للمستفتي: اسأل العلماء، والآن ولله الحمد الاتصالات سهلة يتصل عن طريق الهاتف أو البريد السريع أو البطيء.
* * * 116ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : يقع من بعض الناس ـ هداهم الله تعالى ـ التقليل من شأن العلماء بدعوى عدم فقه الواقع فما توجيه سماحتكم جزاكم الله خيرًا ووفقكم لما يحبه ويرضاه؟(132/272)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن فقه الواقع أمر مطلوب، وأن الإنسان لا ينبغي أن يكون في عزلة عما يقع حوله وفي بلده، بل لا بد أن يفقه لكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يكون الاشتغال بفقه الواقع مشغلا عن فقه الشريعة والدين الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » (1) ، لم يقل يفقهه في الواقع، فإذا كان عند الإنسان علم بما يقع حوله لكنه قد صرف جهده وجل أمره إلى الفقه في دين الله، فهذا طيب، أما أن ينشغل بالواقع والتفقه فيه ـ كما زعم ـ والاستنتاجات التي يخالفها ما يقع فيما بعد؛ لأن كثيرًا من المشتغلين بفقه الواقع يقدمون حسب ما تمليه عليهم مخيلتهم، ويقدرون أشياء يتبين أن الواقع بخلافها، فإذا كان فقه الواقع لا يشغله عن فقه الدين، فلا بأس به، لكن لا يعني ذلك أن نقلل من شأن علماء يشهد لهم بالخير وبالعلم وبالصلاح لكنهم يخفى عليهم بعض الواقع، فإن هذا غلط عظيم، فعلماء الشريعة أنفع للمجتمع من علماء فقه الواقع، ولهذا تجد بعض العلماء الذين عندهم اشتغال كثير في فقه الواقع وانشغال عن فقه الدين لو سألتهم عن أدنى مسألة في دين الله -عز وجل- لوقفوا حيارى أو تكلموا بلا علم،
_________
(1) تقدم تخريجه ص13.(132/273)
يتخبطون تخبطًا عشوائيًّا، والتقليل من شأن العلماء الراسخين في العلم المعروفين بالإيمان والعلم الراسخ جناية، ليس على هؤلاء العلماء بأشخاصهم، بل على ما يحملونه من شريعة الله تعالى، ومن المعلوم أنه إذا قلت هيبة العلماء وقلت قيمتهم في المجتمع فسوف يقل بالتبع الأخذ عنهم، وحينئذ تضيع الشريعة التي يحملونها أو بعضها، ويكون في هذا جناية عظيمة على الإسلام وعلى المسلمين أيضًا.
والذي أرى أنه ينبغي أن يكون عند الإنسان اجتهاد بالغ، ويصرف أكبر همه في الفقه في دين الله -عز وجل- حتى يكون ممن أراد الله بهم خيرًا، وألا ينسى نفسه من فقه الواقع، وأن يعرف ما حوله من الأمور التي يعملها أعداء الإسلام للإسلام.
ومع ذلك أكرر أنه لا ينبغي للإنسان أن يصرف جل همه ووقته للبحث عن الواقع بل أهم شيء أن يفقه في دين الله -عز وجل- وأن يفقه من الواقع ما يحتاج إلى معرفته فقط وكما أشرت سابقًا في أول الجواب ـ أن من فقهاء الواقع من أخطأوا في ظنهم وتقديراتهم وصار المستقبل على خلاف ما ظنوا تمامًا.(132/274)
لكن هم يقدرون ثم يبنون الأحكام على ما يقدرونه فيحصل بذلك الخطأ، وأنا أكرر أنه لا بد أن يكون الفقيه بدين الله عنده شيء من فقه أحوال الناس وواقعهم حتى يمكن أن يطبق الأحكام الشرعية على مقتضى ما فهم من أحوال الناس، ولهذا ذكر العلماء في باب القضاء: أن من صفات القاضي أن يكون عارفًا بأحوال الناس ومصطلحاتهم في كلامهم وأفعالهم.
* * *
117ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ : نحن طلبة نتلقى العلم، وندرس العقيدة على معلمين يدرسونا العقيدة الأشعرية، ويفسرون يد الله تعالى بقدرته أو نعمته واستواءه على عرشه بالاستيلاء عليه ونحو ذلك ، فما حكم الدراسة على هؤلاء المعلمين.(132/275)
فأجاب فضيلته بقوله: هؤلاء الذين يفسرون القرآن بهذا التفسير سواء سميناهم أشعرية أو غير هذا الاسم، لا شك أنهم أخطئوا طريقة السلف الصالح. فإن السلف الصالح لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه هؤلاء المتأولون، فليأتوا بحرف واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أبي بكر ، أو عمر ، أو عثمان، أو علي، أنهم أولوا اليد بالقدرة أو بالقوة أو أولوا الاستواء بالاستيلاء، أو أولوا الوجه بالثوب، أو أولوا المحبة بالثواب أو بغير الثواب، ليأتوا بحرف واحد عن هؤلاء أنهم فسروا هذه الآيات وأمثالها بما فسرَّ به هؤلاء، فإذا لم يأتوا فيقال: إما أن يكون السلف الصالح وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتقين عليه الصلاة والسلام إما أن يكونوا على جهل بمعاني هذه العقيدة العظيمة، وإما أن يكونوا على علم، ولكن كتموا الحق وكلا الأمرين لا يمكن أن يوصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه الراشدين ولا من صحابته المرضيين، فإذا كان ذلك لا يمكن في هؤلاء وجب أن نسير على هديهم.(132/276)
وإن نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يدعوا قول فلان وفلان وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وأن يعلموا أن لهم مرجعًا يرجعون إلى الله تعالى فيه، ولا يمكن أن يكون لهم حجة فيما قال فلان وفلان، والله إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئًا، إن الله تعالى يقول { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ } (القصص:65) ولم يقل: ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم فلان وفلان وإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العظيم : { فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (الأعراف: من الآية 158). فأمر بالإيمان به واتباعه وإذا كان كذلك فهل يمكن أن يكون الإنسان مؤمنًا بالله ورسوله تمام الإيمان ثم يعدل عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في عقيدته بربه ويحرف ما وصف الله به نفسه في كتاب أو وصفه به رسوله الله صلى الله عليه وسلم لمجرد وهميات يدعونها عقليات.(132/277)
إنني أنصحهم أن يرجعوا إلى الله -عز وجل- وأن يدعوا كل قول، لقول الله ورسوله فإنهم إن ماتوا على ذلك ماتوا على خير وحق وإن خالفوا ذلك فهم على خطر عظيم، ولن يغنوا عنهم من الله شيئًا، قال الله تعالى { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ } (النحل:111)(132/278)
أكرر النصيحة لكل مؤمن أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيما يعتقده بربه ومعبوده ـ جل وعلا ـ وفيما يعتقده في الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وفيما كان عليه أئمة المسلمين الذين قادوا الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون التحكم إلى العقول التي هي وهميات في الحقيقة فيما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته. ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية حق الإجادة في قوله عن أهل الكلام:{إنهم أوتوا فهومًا ولم يؤتوا علومًا، وأتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء} فعلى الإنسان أن يوسع مداركه في العلوم المبنية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يزكي نفسه باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أسأل الله تعالى أن يتوفانا جميعًا على الإيمان، وأن نلقاه وهو راضٍ عنا إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإني أدعوكم يا طلبة العلم أن تدعوا إخوانكم إلى ما سمعتم، فإنه والله هو الحق، ومن اطلع على حق سواه فإننا له قابلون وبه مستمسكون. أملاه محمد الصالح العثيمين .(132/279)
* * * 118ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ جزاه الله خيرًا ـ : كثيرًا ما يشاع بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان أو المكان، مثل: المذياع في أول ظهوره حرمه البعض، فنرجو من سماحتكم بيان الحق في هذه المسألة؟ والله يحفظكم ويرعاكم.
فأجاب فضيلته بقوله: الفتوى في الحقيقة لا تتغير بتغير الزمان، ولا بتغير المكان، ولا بتغير الأشخاص.
ولكن الحكم الشرعي إذا عُلِّق بعلة فإنه إذا وجدت فيه العلة ثبت الحكم الشرعي، وإذا لم توجد لم يثبت الحكم الشرعي، وقد يرى المفتي أن يمنع الناس من شيء أحله الله لهم لما يترتب على فعل الناس له من المحرم كما فعل عمر -رضي الله عنه- في الطلاق الثلاث حين رأى الناس تتايعوا فيها فألزمهم بها، وكان الطلاق الثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فلما رأى عمر الناس تتايعوا في هذا ألزمهم بالثلاث ومنعهم من الرجوع إلى زوجاتهم (1) .
وكذلك ما حصل في عقوبة شارب الخمر كانت العقوبة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر لا تزيد على أربعين جلدة، ثم إن الناس كثر شربهم الخمر فاستشار عمر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فأشروا بأن يجعل العقوبة ثمانين جلدة (2) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص160.
(2) تقدم تخريجه ص160.(132/280)
فالأحكام الشرعية لا يمكن أن يتلاعب بها الناس كلما شاءوا حرّموا وكلما شاءوا أوجبوا، وإنما يرجع إلى العلل الشرعية التي تقتضي الوجوب أو عدمه وأما بالنسبة للمذياع: فلم يقل أحد بتحريمه من علماء التحقيق، وإنما قال بتحريمه أناس جهلوا حقيقة الأمر، وإلا فإن العلماء المحققين، وأخص منهم شيخانا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- لم يروا أن هذا من المحرمات بل رأوا أن هذا من الأشياء التي علّمها الله -عز وجل- الخلق، وقد تكون نافعة، وقد تكون ضارة بحسب ما فيها، وكذلك مكبر الصوت ـ المكرفون ـ أيضًا أنكره بعض الناس أول ما ظهر لكن بدون تحقيق، وأما المحققون فلم ينكروه، بل رأوا أنه من نعمة الله عز وجل ـ أن يسر لهم ما يوصلوا به خطبهم ومواعظهم إلى البعيدين.
* * * 119ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : ما نصيحتكم لطلبة العلم حول دعوة الناس وتعليمهم العلم الشرعي؛ لأنه قد يوجد من بعضهم ـ هداهم الله تعالى ـ شيء من الغلظة والشدة في التعامل، نرجو التوجيه والإرشاد، سدد الله خطاكم ووفقكم لما يحبه ويرضاه؟(132/281)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي تدل عليه السنة المطهرة، سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب على الإنسان أن يدعو إلى الله تعالى بالحكمة وباللين وبالتيسير فقد قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل: من الآية 125) وقال الله تعالى له { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } (آل عمران:159) وقال الله تعالى حين أرسل موسى وهارون إلى فرعون { فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى } (طه:44)
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم « أن الله يعطي بالرفق ما لا يُعطي بالعنف » (1) . وكان يقول إذا بعث بعثًا: « يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين » (2)
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب فضل الرفق.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: قوله عليه الصلاة والسلام:«يسروا. . .»، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: الأمر بالتيسير وترك التنفير.(132/282)
وهكذا ينبغي على الداعية أن يكون لينًا طليق الوجه منشرح الصدر حتى يكون ذلك أدعى لقبول صاحبه الذي يدعوه إلى الله.
ويجب أن تكون دعوته إلى الله -عز وجل- لا إلى نفسه، لا يحب الانتصار أو الانتقام ممن خالف السبيل؛ لأنه إذا دعا إلى الله وحده صار بذلك مخلصًا ويسر الله له الأمر وهدى على يديه من شاء من عباده ، لكن إذا كان يدعو لنفسه كأنه يريد أن ينتصر لها، وكأنه يشعر بأن هذا عدو له يريد أن ينتقم منه، فإن الدعوة ستكون ناقصة وربما تنزع بركتها.
فنصيحتي لإخواني طلبة العلم أن يشعروا هذا الشعور، أي أنهم يدعون الخلق رحمة بالخلق وتعظيمًا لدين الله -عز وجل- ونصرة له.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وهدانا إلى صراطه المستقيم.
* * *
رسالة
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم . . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جوابًا لكتابكم ذي الرقم . . . والتاريخ 24ـ 25 / 9 / 1409هـ.
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى أن يحبك كما أحببتني فيه وأن يجعلنا جميعًا من دعاة الحق وأنصاره، ويوفقنا للصواب في الاعتقاد والقول والعمل.
ثم إن كتابكم المذكور تضمن ثلاث مسائل:(132/283)
المسألة الأولى: إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم الرجوع فيما أفتيتم به أو حكمتم.
المسألة الثانية: إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم مستقبلا أن تفتوا أو تحكموا بما تبين لكم رجحانه.
المسألة الثالثة: هل يجوز للإنسان في مسائل الخلاف أن يفتي لشخص بأحد القولين ولشخص آخر بالقول الثاني.
والجواب على هذه المسائل العظيمة بعون الله وتوفيقه أن نقول مستمدين من الله تعالى الهداية والصواب.
أما المسألة الأولى:
فمتى تبين للإنسان ضعف ما كان عليه من الرأي وأن الصواب في غيره وجب عليه الرجوع عن رأيه الأول إلى ما يراه صوابًا بمقتضى الدليل الصحيح، وقد دل على وجوب الرجوع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الخلفاء الراشدين وإجماع المسلمين وعمل الأئمة.(132/284)
أما كتاب الله تعالى: فمن أدلته قوله تعالى : { وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } (الشورى:10) فمتى كان الحكم في مسائل الخلاف إلى الله وجب الرجوع فيها إلى ما دل عليه كتاب الله. وقال تعالى { فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء: من الآية 59) وقال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (النساء:115)
ومن سبيل المؤمنين الرجوع إلى ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما السنة: فمن أدلتها قوله صلى الله عليه وسلم: « إنه من يعش منكم فسيرى اختلافًا كثيرًا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي » (1) .
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
_________
(1) تقدم تخريجه ص204.(132/285)
وأما أقوال الخلفاء الراشدين: فمن أشهرها قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في المشركة وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء حيث من الإخوة الأشقاء من الميراث لكونها عصبة، وقد استغرقت الفروض التركة ثم قضى بعد ذلك بتشريكهم مع الإخوة لأم، فقال له رجل: قد قضيت في هذا عام الأول بغير هذا، فقال: وكيف قضيت؟ قال: جعلته للإخوة للأم ولم تجعل للإخوة من الأب والأم شيئًا، قال عمر : ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. أخرجه ابن أبي شيبة 11 / 253، وقال -رضي الله عنه- في كتابه لأبي موسى في القضاء: لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.
وأما الإجماع: فقال الشافعي -رحمه الله-: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.(132/286)
وأما عمل الأئمة: فها هو الإمام أحمد يقول القول ويقول بخلافه، فتارة يصرح بالرجوع كما صرح بالرجوع عن القول بوقوع طلاق السكران، وتارة يصرح أصحابه برجوعه عنه كما صرح الخلال برجوع الإمام عن قوله فيمن ابتدأ مسح خفيه مقيمًا ثم سافر أنه يتم مسح مقيم إلى القول بأن يتم مسح مسافر، وتارة لا يصرح ولا يصرح عنه برجوع فيكون له في المسألة قولان.
والمهم أنه متى تبين للإنسان ضعف رأيه الأول وجب عليه الرجوع عنه ولكن يسوغ له نقض حكمه الأول ولا يلزمه إخبار المستفتي بالرجوع؛ لأن كلا من الرأيين الأول والثاني صادر عن اجتهاد، والاجتهاد لا ينقض بمثله وظهور خطأ اجتهاده الأول لا يمنع احتمال خطئه في الثاني، فقد يكون الاجتهاد الأول هو الصواب في الواقع، وإن ظهر له خلافه؛ لأن الإنسان غير معصوم في اجتهاده لا الثاني ولا الأول.
وأما المسألة الثانية:
فجوابها يعلم من جواب المسألة الأولى وهو أنه يجب على الإنسان الرجوع إلى ما تبين له أنه الصواب، وإن كان يفتي أو يحكم بخلافه سابقًا.
وأما المسألة الثالثة:(132/287)
فإن كان في المسألة نص، كان الناس فيها سواء، ولا يفرق فيها بين شخص وآخر، وأما المسائل الاجتهادية فإنها مبنية على الاجتهاد، وإن كان الاجتهاد فيها في الحكم كذلك في محله، ولهذا لما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه أن الناس كثر شربهم الخمر زادهم في عقوبتها ولما رآهم تتايعوا في الطلاق الثلاث أمضاه عليهم، ولهذا ما يؤيده من كلام الله تعالى وما جاءت به السنة ففي كتاب الله تعالى يقول جل ذكره: { وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } (الأنعام:146) فعاملهم الله بما تقتضيه حالهم وحرم عليهم هذه الطيبات ببغيهم وظلمهم: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا } (النساء:160) . وفي السنة جاء قتل شارب الخمر في الرابعة إذا تكررت عقوبته ثلاثًا ولم يقلع، مع أن عقوبة شارب الخمر في الأصل لا تبلغ(132/288)
القتل.
فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة عومل بمقتضاه ما لم يخالف النص.
وكذلك إذا كان الأمر قد وقع وكان في إفتائه بأحد القولين مشقة وأفتى بالقول الثاني فلا حرج مثل أن يطوف في الحج أو العمرة بغير وضوء ويشق عليه إعادة الطواف لكونه نزح عن مكة أو لغير ذلك فيفتي بصحة الطواف بناء على القول بعدم اشتراط الوضوء فيه. وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- يفعل ذلك أحيانًا ويقول لي: هناك فرق بين من فعل ومن سيفعل وبين ما وقع وما لم يقع.
وفي مقدمة (المجموع) للنووي -رحمه الله- 1 / 88 ط المكتبة العالمية: قال الصيمري : إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامل بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجرًا له كما روي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه سئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكينًا قد قتل فلم أقنطه.(132/289)
وهذا الذي ذكرناه لا يكون مطردًا في كل صورة فلو أراد قاض أو مفت أن يأخذ في ميراث الإخوة مع الجد بقول من يرى توريثهم إذا رأى أنهم فقراء وأن التركة كثيرة وبقول من لا يرى توريثهم إذا كان المال قليلا وهم أغنياء لم يكن ذلك سائغًا؛ لأن في هذا إسقاط لحق الغير لمصلحة الآخرين بلا موجب شرعي.
هذا والله أسال أن يلهمنا جميعًا الصواب في القول والعمل والاعتقاد(132/290)
الفصل الثالث
فوائد متنوعة في العلم
الفائدة الأولى
لا بد لطالب العلم من مراعاة عدة أمور عند طلبه لأي علم من العلوم:
أولا: حفظ متن مختصر فيه.
فإذا كنت تطلب النحو، فإن كنت مبتدئًا فلا أرى أحسن من متن الآجرومية؛ لأنه واضح وجامع وحاصر وفيه بركة، ثم متن ألفية ابن مالك؛ لأنها خلاصة علم النحو كما قال هو نفسه:
أحصي من الكفاية الخلاصه ... كما اقتضى غنًى بلا خصاصه
وأما في الفقه فمتن زاد المستنقع؛ لأنه كتاب مخدوم بالشروح والحواشي والتدريس، وإن كان بعض المتون الأخرى أحسن منه من وجه، لكن هو أحسن من حيث كثرة المسائل الموجودة فيه، ومن حيث إنه مخدوم.
وأما في الحديث فمتن عمدة الأحكام، وإن ترقيت فبلوغ المرام، وإن كنت تقول إما هذا أو هذا، فبلوغ المرام أحسن؛ لأنه أكثر جمعًا للأحاديث، ولأن الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ بين درجة الحديث.
وأما في التوحيد فمن أحسن ما قرأنا متن كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وأما في توحيد الأسماء والصفات فمن أحسن ما قرأت العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهو كتاب جامع مبارك مفيد، وهلم جرا، خذ من كل فن تطلبه متنًا مختصرًا فيه واحفظه.(132/291)
ثانيًا: ضبطه وشرحه على شيخ متقن وتحقيق ألفاظه وما كان زائدًا أو ناقصًا.(132/292)
ثالثًا: عدم الاشتغال بالمطولات، وهذه الفقرة مهمة لطالب العلم، فلا بد لطالب العلم أن يتقن المختصرات أولا حتى ترسخ العلوم في ذهنه ثم يُفيض إلى المطولات، لكن بعض الطلبة قد يغرب فيطالع المطولات ثم إذا جلس مجلسًا قال: قال صحاب المغني، قال صاحب المجموع، قال صاحب الإنصاف، قال صاحب الحاوي، ليظهر أنه واسع الاطلاع، وهذا خطأ نحن نقول: ابدأ بالمختصرات حتى ترسخ العلوم في ذهنك، ثم إذا منَّ الله عليك، فاشتغل بالمطولات، وقياس ذلك بالأمر المحسوس أن ينزل مَنْ لم يتعلم السباحة إلى بحر عميق فإنه لا يستطيع أن يتخلص فضلا عن أن يتقن.(132/293)
رابعًا: لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب فهذا من باب الضجر، وهذه آفة تقطع على الطالب طلبه وتضيع عليه أوقاته، فإذا كان كل يوم له كتاب يقرأ فيه، فهذا خطأ في منهج طالب العلم، فإذا قرأت كتابًا من كتب العلم فاستمر فيه، ولا تقول : أقرأ كتابًا أو فصلا من هذا الكتاب ثم أنتقل للآخر، فإن هذا مضيعة للوقت.(132/294)
خامسًا: اقتناص الفوائد والضوابط العلمية، فهناك فوائد التي لا تكاد تطرأ على الذهن، أو يندر ذكرها والتعرض لها، أو تكون مستجدة تحتاج إلى بيان الحكم فيها، فهذه اقتنصها، وقيدها بالكتابة، ولا تقول هذه معلومة عندي، ولا حاجة أن أقيدها؛ لأنها سرعان ما تُنسى، وكم من فائدة تمر بالإنسان فيقول هذه سهلة ما تحتاج إلى قيد، ثم بعد فترة وجيزة يتذكرها ولا يجدها.
لذلك احرص على اقتناص الفوائد التي يندر وقوعها أو يتجدد وقوعها، ومن أحسن ما ألف في هذا الموضوع كتاب العلامة ابن القيم -رحمه الله-"بدائع الفوائد" فقد جمع فيه من بدائع العلوم، ما لا تكاد تجده في كتاب آخر، فهو جامع في كل فن، كلما طرأ على باله مسألة أو سمع فائدة قيدها، ولهذا تجد فيه من علم العقائد ، والفقه، والحديث، والتفسير، والنحو، والبلاغة وغيرها.
وأيضًا احرص على الاهتمام بالضوابط.(132/295)
ومن الضوابط: ما يذكره العلماء تعليلا للأحكام، فإن كل التعليلات للأحكام الفقهية تعتبر ضوابط؛ لأنها تبنى عليها الأحكام، فهذه احتفظ بها، وسمعت أن بعض الإخوان يتتبع هذا الضوابط في الروض المربع ويحررها، وقلت من الأحسن أن يقوم بهذه طائفة، تتبع الروض المربع من أوله إلى آخره كلما ذكر علة تُقيد ؛ لأن كل علة يبنى عليها مسائل كثيرة، إذ إن العلم له ضابط، فكل ضابط يدخل تحته جزئيات كثيرة.
فمثلا إذا شك في طهارة ماء أو بنجاسته فإنه يبني على اليقين، فهذه العلة تعتبر حكمًا وتعتبر ضابطًا.
أيضًا يعلل بأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا شك في نجاسة طاهر فهو طاهر، أو في طهارة نجس فهو نجس؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
فإذا حرص طالب العلم ودوّن كل ما مر عليه من هذه التعليلات وحررها وضبطها ثم حاول في المستقبل أن يبني عليها مسائل جزئية لكان في هذا فائدة كبيرة له ولغيره.(132/296)
سادسًا: جمع النفس للطلب، فلا يشتتها يمينًا ويسارًا، اجمع النفس على الطلب ما دمت مقتنعًا بأن هذا منهجك وسبيلك، وأيضًا اجمع نفسك على الترقي فيه لا تبقى ساكنًا. فكِّر فيما وصل إليه علمك من المسائل والدلائل حتى تترقى شيئًا فشيئًا، واستعن بمن تثق به من زملائك وإخوانك فيما إذا احتاجت المسألة إلى استعانة، ولا تستحي أن تقول يا فلان ساعدني على تحقيق هذه المسألة بمراجعة الكتب، الحياء لا ينال العلم به أحد، فلا ينال العلم مستحيي ولا مستكبر.(132/297)
الفائدة الثانية
مما ينبغي لطالب العلم مراعاته تلقي العلم عن الأشياخ؛ لأنه يستفيد بذلك فوائد عدة:
1ـ اختصار الطريق، فبدلا من أن يذهب يقلب في بطون الكتب وينظر ما هو القول الراجح وما سبب رجحانه، وما هو القول الضعيف وما سبب ضعفه، بدلا من ذلك كله، يمد إليه المعلم ذلك بطريق سهل ويعرض له خلاف أهل العلم في المسائل على قولين أو ثلاثة مع بيان الراجح، والدليل كذا، وهذا لا شك أنه نافع لطالب العلم.
2ـ السرعة في الإدراك، فطالب العلم إذا كان يقرأ على عالم فإنه يدرك بسرعة أكثر ممن ذهب يقرأ في الكتب؛ لأنه إذا قرأ في الكتب تمر عليه العبارات المشكلة والغامضة فيحتاج إلى التدبر وتكرار العبارة مما يأخذ منه الوقت والجهد، وربما فهمها على وجه خطأ وعمل بها.
3ـ الربط بين طلاب العلم والعلماء الربانيين، لذلك القراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه.(132/298)
الفائدة الثالثة
إذا دعت الحاجة للسؤال فليحسن طالب العلم السؤال، أما إذا لم تدع الحاجة فلا يسأل؛ لأنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل إلا إذا احتاج هو أو ظن أن غيره يحتاج إلى السؤال، فقد يكون مثلا في درس، وهو فاهم الدرس ولكن فيه مسائل صعبة تحتاج إلى بيانها لبقية الطلبة فليسأل من أجل حاجة غيره، والسائل لحاجة غيره كالمعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل وسأله عن الإيمان، والإحسان، والإسلام، والساعة وأشراطها، قال: « هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم » (1) ، فإذا كان الباعث على السؤال حاجة السائل فسؤاله وجيه، أو حاجة غيره وسأل ليعلم غيره فهذا أيضًا وجيه وطيب، أما إذا سأل ليقول الناس: ما شاء الله فلان عنده حرص على العلم، كثير السؤال، فهذا غلط، وعلى العكس من ذلك من يقول: لا أسأل حياءً، فالثاني مُفْرِط، وخير الأمور الوسط.
كذلك ينبغي أن يكون عند طالب العلم حسن الاستماع لجواب العالم، وصحة الفهم للجواب، فبعض الطلبة إذا سأل وأجيب تجده يستحي أن يقول ما فهمت.
والذي ينبغي لطالب العلم إذا لم يفهم أن يقول : ما فهمت لكن بأدب وتوقير للعالم.
_________
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان، باب: بيان أركان الإيمان والإسلام.(132/299)
الفائدة الرابعة
الحفظ ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: غريزي: يهبه الله تعالى لمن يشاء، فتجد الإنسان تمر عليه المسألة والبحث فيحفظه ولا ينساه.
والقسم الثاني: كسبي: بمعنى أن يمرن الإنسان نفسه على الحفظ، ويتذكر ما حفظ فإذا عوَّد نفسه تذكُّر ما حفظ سهل عليه حفظه.(132/300)
الفائدة الخامسة
المجادلة والمناظرة نوعان:
النوع الأول: مجادلة مماراة: يماري بذلك السفهاء ويجاري العلماء ويريد أن ينتصر قوله ؛ فهذه مذمومة.(132/301)
النوع الثاني: مجادلة لإثبات الحق وإن كان عليه ؛ فهذه محمودة مأمور بها، وعلامة ذلك ـ أي المجادلة الحقة ـ أن الإنسان إذا بان له الحق اقتنع وأعلن الرجوع، أما المجادل الذي يريد الانتصار لنفسه فتجده لو بان أن الحق مع خصمه، يورد إيرادات يقول: لو قال قائل، ثم إذا أجيب قال: لو قال قائل، ثم إذا أجيب قال: لو قال قائل، ثم تكون سلسلة لا منتهى له، ومثل هذا عليه خطر ألا يقبل قلبه الحق، لا بالنسبة للمجادلة مع الآخر ولكن في خلوته، وربما يورد الشيطان عليه هذه الإيرادات فيبقى في شك وحيرة، كما قال الله تبارك وتعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } (الأنعام:110) وقال الله تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ } (المائدة: من الآية 49). فعليك يا أخي بقبول الحق سواء مع مجادلة غيرك أو مع نفسك، فمتى تبين لك الحق فقل: سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا.(132/302)
ولهذا تجد الصحابة يقبلون ما حكم به الرسول عليه الصلاة والسلام أو ما أخبر به دون أن يوردوا عليه الاعتراضات.
فالحاصل أن المجادلة إذا كان المقصود بها إثبات الحق وإبطال الباطل فهي خير، وتعودها وتعلمها خير لا سيما في وقتنا هذا، فإنه كثُرَ فيه الجدال والمراء، حتى إن الشيء يكون ثابتًا وظاهرًا في القرآن والسنة فيورد عليه إشكالات.
وهنا مسألة : وهي أن بعض الناس يتحرج من المجادلة حتى وإن كانت حقًّا استدلالا بحديث: « وأنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًّا » (1) فيترك هذا الفعل.
فالجواب: من ترك المراء في دين الله فليس بمحقٍّ إطلاقًا؛ لأن هذا هزيمة للحق، لكن قد يكون محقًّا إذا كان تخاصُمه هو وصاحبه في شيء ليس له علاقة بالدين أصلا، قال: رأيت فلانًا في السوق، ويقول الآخر: بل رأيته في المسجد، ويحصل بينهما جدال وخصام فهذه هي المجادلة المذكورة في الحديث، أما من ترك المجادلة في نصرة الحق فليس بمحق إطلاقًا فلا يدخل في الحديث
_________
(1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب: حسن الخلق.(132/303)
الفائدة السادسة
من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يهتم بها المذاكرة، والمذاكرة نوعان:
النوع الأول: مذاكرة مع النفس، بأن تجلس مثلا جلسة وحدك ثم تعرض مسألة من المسائل أو مسألة قد مرت عليك، ثم تأخذ في محاولة عرض الأقوال وترجيح ما قيل في هذه المسألة بعضها على بعض، وهذه سهلة على طالب العلم، وتساعد على مسألة المناظرة السابقة.
النوع الثاني: مذاكرة مع الغير، بأن يختار من إخوانه الطلبة من يكون عونًا له على طلب العلم، مفيدًا له، فيجلس مع ويتذاكرون، يقرأ مثلا ما حفظاه، كل واحد يقرأ على الآخر قليلا، أو يتذاكران في مسألة من المسائل بالمراجعة أو بالمفاهمة إن قدرا على ذلك فإن هذا مما ينمي العلم ويزيده، لكن إياك والشغب والصلف؛ لأن هذا لا يفيد.(132/304)
الفائدة السابعة
كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق:
وهذه يُبتلى بها بعض الناس فيزكي نفسه، ويرى أن ما قاله هو الصواب وأن غيره إذا خالفه فهو مخطئ وما أشبه ذلك، كذلك حب المدح تجده يسأل عما يقال عنه فإذا وجد أنهم مدحوه انتفخ وزاد انتفاخه حتى يعجز جلده عن تحمل بدنه، كذلك التكبر على الخلق، بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ إذا آتاه الله علمًا تكبر، الغني بالمال ربما يتكبر ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم: « العائل المستكبر من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم » (1) ؛ لأنه ليس عنده مال يوجب الكبرياء، لكن العالم لا ينبغي أن يكون كالغني كلما ازداد علمًا ازداد تكبرًا، بل ينبغي العكس كلما ازداد علمًا ازداد تواضعًا؛ لأن من العلوم التي يقرأها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه كلها تواضع للحق وتواضع للخلق، لكن على كل حال إذا تعارض التواضع للحق مع التواضع للخلق أيهما يقدم؟
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، برقم (107).(132/305)
يقدم التواضع للحق، فمثلا لو كان هناك إنسان يسبّ الحق ويفرح بمعاداة من يعمل به، فإنا لا نتواضع له، تواضع للحق، وجادل هذا الرجل حتى وإن أهانك أو تكلم فيك فلا تهتم به، فلا بد من نصرة الحق.(132/306)
الفائدة الثامنة
زكاة العلم تكون بأمور:
الأمر الأول : نشر العلم: نشر العلم من زكاته، فكما يتصدق الإنسان بشيء من ماله، فهذا العالم يتصدق بشيء من علمه، وصدقة العلم أبقى دومًا وأقل كلفة ومؤنة، أبقى دومًا؛ لأنه ربما كلمة من عالم تُسمع ينتفع بها أجيال من الناس ومازلنا الآن ننتفع بأحاديث أبي هريرة -رضي الله عنه- ولم ننتفع بدرهم واحد من الخلفاء الذين كانوا في عهده، وكذلك العلماء ننتفع بكتبهم ومعهم زكاة وأي زكاة، وهذه الزكاة لا تنقص العلم بل تزيده كما قيل:
يزيده بكثرة الإنفاق منه ... وينقص إن به كفًّا شددت
الأمر الثاني: العمل به: لأنه العمل به دعوة إليه بلا شك، وكثير من الناس يتأسون بالعالم، بأخلاقه وأعماله أكثر مما يتأسون بأقواله، وهذا لا شك زكاة.
الأمر الثالث: الصدع بالحق: وهذا من جملة نشر العلم ولكن النشر قد يكون في حال السلامة وحال الأمن على النفس وقد يكون في حال الخوف على النفس، فيكون صدعًا بالحق.(132/307)
الأمر الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا شك أن هذا من زكاة العلم؛ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عارف للمعروف وعارف للمنكر ثم قائم بما يجب عليه من هذه المعرفة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(132/308)
الفائدة التاسعة
موقف طالب العلم من وَهْمِ وخطأ العلماء:
هذا الموقف له جهتان:
الأولى: تصحيح الخطأ: وهذا أمر واجب، يجب على من عثر على وهم إنسان ولو كان من أكبر العلماء أن ينبه على هذا الوهم وعلى هذا الخطأ لأن بيان الحق أمر واجب وبالسكوت يمكن أن يضيع الحق لاحترام من قال بالباطل؛ لأن احترام الحق أولى بالمراعاة.
لكن هل يصرح بقائل الوهم أو الخطأ؟ أو يقول توهم بعض الناس فقال كذا وكذا؟
الجواب: ينظر لما تقتضيه المصلحة، قد يكون من المصلحة ألا يصرح، كما لو كان يتكلم عن عالم مشهور في عصره موثوق عند الناس، محبوب إليهم، يقول: قال فلان: كذا، وكذا وهذا خطأ ؛ فإن العامة لا يقبلون كلامه بل يسخرون منه ولا يقبلون الحق، ففي هذه الحالة ينبغي أن يقول: من الخطأ أن يقول القائل كذا وكذا، ولا يذكر اسمه، وقد يكون هذا الرجل الذي توهم متبوعًا، يتبعه شرذمة من الناس وليس له قدر في المجتمع فحينئذ يصرح ؛ لئلا يغتر الناس به، فيقول: قال فلان كذا وكذا وهو خطأ.(132/309)
الثانية: أن يقصد بذلك بيان معايبه لا بيان الحق من الباطل، وهذه تقع من إنسان حاسد ـ والعياذ بالله ـ يتمنى أن يجد قولا ضعيفًا أو خطأ لشخص ما فينشره بين الناس، ولهذا نجد أهل البدع يتكلمون في شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وينظرون إلى أقرب شيء يمكن أن يقدح به فينشرونه ويعيبونه، مثلا يقولون خالفت الإجماع في أن الطلاق الثلاث واحدة فيقولون هذا شاذ، ومن شذ في النار، وأمثال هذا كثير.
المهم أن يكون قصدك من البيان إظهار الحق ومن كان قصده الحق وُفِّق لقبوله، أما من كان قصده أن يظهر عيوب الناس فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته، فإذا عثرت على وهم عالم، حاول أن تدفع اللوم عنه وأن تذُبّ عنه، لا سيما إذا كان من العلماء المشهود لهم بالعدالة والخير ونصح الأمة.(132/310)
الفائدة العاشرة
في المقصود ببركة العلم:
قبل بيان المقصود بالبركة في العلم لا بد أن نعرف البركة فهي كما يقول العلماء "الخير الكثير الثابت" ويعيدون ذلك إلى اشتقاق هذه الكلمة فإنها من البركة وهي مجمع الماء، والبركة التي هي مجمع الماء مكان واسع، ماؤه كثير ثابت، فالبركة هي الخيرات الكثيرة الثابتة، من كل شيء من المال والولد ومن العلم؟ وكل شيء أعطاه الله -عز وجل- لك تسأل الله سبحانه البركة فيه؛ لأن الله -عز وجل- إذا لم يبارك لك فيما أعطاك حرمت خيرًا كثيرًا.(132/311)
ما أكثر الناس الذين عندهم المال الكثير وهم في عداد الفقراء لماذا؟ لأنهم لا ينتفعون بمالهم، تجد عندهم من الأموال ما لا يحصى، لكن يقصر على أهله في النفقة، وعلى نفسه ولا ينتفع بماله، والغالب أن من كانت هذه حاله وبخل بما يجب عليه، أن يسلط الله على أمواله آفات تُذهبها، كثير من الناس عنده أولاد لكن أولاده لم ينفعوه، عندهم عقوق واستكبار على الأب، حتى إنه ـ أي الولد ـ يجلس إلى صديقه الساعات الطويلة يتحدث إليه ويأنس به ويفضي إليه أسراره ـ لكنه إذا جلس عند أبيه، فإذا هو كالطير المحبوس في القفص ـ والعياذ بالله ـ لا يأنس بأبيه، ولا يتحدث إليه، ولا يفضي إليه بشيء من أسراره، ويستثقل حتى رؤية والده: فهؤلاء لم يبارك لهم في أولادهم.
أما البركة في العلم فتجد بعض الناس قد أعطاه الله علمًا كثيرًا لكنه بمنزلة الأمي فلا يظهر أثر العلم عليه في عباداته، ولا في أخلاقه ولا في سلوكه، ولا في معاملاته مع الناس، بل قد يكسبه العلم استكبارًا على عباد الله وعلوًّا عليهم واحتقارًا لهم، وما علم هذا أن الذي منَّ عليه بالعلم هو الله، وإن الله لو شاء لكان مثل هؤلاء الجهال.(132/312)
تجده قد أعطاه الله علمًا، ولكن لم ينتفع الناس بعلمه. لا بتدريس ولا بتوجيه، ولا بتأليف، بل هو منحصر على نفسه، لم يبارك الله له في العلم، وهذا بلا شك حرمان عظيم، مع أن العلم من أبرك ما يعطيه الله العبد؛ لأن العلم إذا علمته غيرك، ونشرته بين الأمة، أُجرت على ذلك من عدة وجوه:
أولا: أن في نشرك العلم نشرًا لدين الله -عز وجل- فتكون من المجاهدين، فالمجاهد في سبيل الله يفتح البلاد بلدًا بلدًا حتى ينشر فيها الدين، وأنت تفتح القلوب بالعلم حتى تنشر فيها شريعة الله -عز وجل- .
ثانيًا: من بركة نشر العلم وتعليمه، أن فيه حفظًا لشريعة الله وحماية لها؛ لأنه لولا العلم لم تحفظ الشريعة، فالشريعة لا تحفظ إلا برجالها رجال العلم، ولا يمكن حماية الشريعة إلا برجال العلم، فإذا نشرت العلم، وانتفع الناس بعلمك، حصل في هذا حماية لشريعة الله، وحفظ لها.
ثالثًا: فيه أنك تُحسن إلى هذا الذي علمته؛ لأنك تبصره بدين الله -عز وجل- فإذا عبد الله على بصيرة؛ كان لك من الأجر مثل أجره؛ لأنك أنت الذي دللته على الخير، والدال على الخير كفاعل الخير، فالعلم في نشره خير وبركة لناشره ولمن نُشر إليه.(132/313)
رابعًا: أن في نشر العلم وتعليمه زيادة له، علم العالم يزيد إذا علَّم الناس؛ لأنه استذكار لما حفظ، وانفتاح لما لم يحفظ، وما أكثر ما يستفيد العالم من طلبة العلم، فطلابه الذين عنده أحيانًا يأتون له بمعان ليست له على بال، ويستفيد منهم وهو يعلمهم، وهذا شيء مشاهد.
ولهذا ينبغي للمعلم إذا استفاد من الطالب، وفتح له الطالب شيئًا من أبواب العلم ـ ينبغي له أن يشجع الطالب ، وأن يشكره على ذلك ؛ خلافًا لما يظنه بعض الناس أن الطالب إذا فتح عليه، وبيَّن له شيئًا كان خفيًّا عليه، تضايق المعلم، يقول هذا صبي يعلم شيخًا فيتضايق، ويتحاشى بعد ذلك أن يتناقش معه، خوفًا من أن يطلعه على أمر قد خفي عليه، وهذا من قصور علمه بل من قصور عقله.
لأنه إذا منَّ الله عليك بطلبة يذكرونك ما نسيت ويفتحون عليك ما جهلت، فهذا من نعمة الله عليك، فهذا من فوائد نشر العلم أنه يزيد إذا علمت العلم كما قال القائل مقارنًا بين المال والعلم يقول في العلم:
يزيد بكثرة الإنفاق منه ... وينقص إن به كفًّا شددت
إذا شددت به كفًّا، وأمسكته نقص، أي تنساه، ولكن إذا نشرته يزداد.(132/314)
وينبغي للإنسان عند نشر العلم أن يكون حكيمًا في التعليم، بحيث يلقي على الطلبة المسائل التي تحتملها عقولهم فلا يأتي إليهم بالمعضلات، بل يربيهم بالعلم شيئًا فشيئًا.
ولهذا قال بعضهم في تعريف العالم الرباني: العالم الرباني هو: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
ونحن نعْلَمُ جميعًا أن البناء ليس يؤتى به جميعًا حتى يوضع على الأرض، فيصبح قصرًا مشيدًا بل يبنى لبنة لبنة، حتى يكتمل البناء، فينبغي للمعلم أن يراعي أذهان الطلبة بحيث يلقي إليهم ما يمكن لعقولهم أن تدركه، ولهذا يؤمر العلماء أن يحدثوا الناس بما يعرفون.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: إنك لن تحدث قومًا حديثًا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
كذلك أيضًا ينبغي للمعلم أن يعتني بالأصول والقواعد؛ لأن الأصول والقواعد هي التي يبنى عليها العلم.
وقد قال العلماء: من حُرم الأصول حُرم الوصول، أي لا يصل إلى الغاية إذا حرم الأصول، فينبغي أن يلقي على الطلبة القواعد والأصول التي تتفرع عليها المسائل الجزئية؛ لأن الذي يتعلم على المسائل الجزئية لا يستطيع أن يهتدي إذا أتته معضلة فيعرف حكمها؛ لأنه ليس عنده أصل.(132/315)
رسائل مختارة
الرسالة الأولى
حسن الخلق وأهميته لطالب العلم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ووفق الله من شاء من عباده فاستجاب لدعوته، واهتدى بهديه، وخذل الله بحكمته من شاء من عباده فاستكبر عن طاعته، وكذب خبره، وعاند أمره، فباء بالخسران والضلال البعيد.
أيها الإخوة، يطيب لي أن أتحدث إليكم عن الخلق الحسن، والخلق كما يقول أهل العلم هو: صورة الإنسان الباطنة؛ لأن للإنسان صورتين:
صورة ظاهرة، وهي خِلقته التي جعل الله البدن عليه. وكما نعلم جميعًا أن هذه الصورة الظاهرة منها ما هو جميل حسن، ومنها ما هو قبيح سيئ، ومنها ما بين ذلك.
وصورة باطنة، منها صورة حسنة ومنها صورة سيئة، ومنها ما بين ذلك. وهذا ما يعبر عنه بالخلق.
فالخُلُق إذن هو:(132/316)
"الصورة الباطنة التي طُبعَ الإنسان عليها"، وكما يكون الخُلُق طبيعة فإنه يكون كسبًا. بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعًا على الخُلُق الحسن الجميل قد يحصل على الخُلُق الحسن الجميل عن طريق الكسب والمرونة، ولذلك « قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس :" إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة. قال يا رسول الله أهما خُلُقان تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما » (1) .
فهذا دليل على أن الأخلاق الفاضلة تكون طبعًا وتكون تطبُّعًا، ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع؛ لأن الخلق إذا كان طبيعيًّا صار سجية للإنسان وطبيعة له لا يحتاج في ممارسته إلى تكلف، ولا يحتاج في ممارسته إلى تصنع، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ومن حُرم هذا أي: من حرم الخُلق على سبيل الطبع فإنه يمكنه أن يناله على سبيل التطبع، وذلك بالمرونة والممارسة كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكثير من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخلق، دون معاملة الخالق. ولكن هذا الفهم قاصر فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب : الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ـ مختصر ـ والإمام أحمد 4 / 206، وأبي داود (5525) .(132/317)
فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق ـ جل وعلا ـ، ومعاملة الخلق أيضًا.
فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق؟
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاث أمور:
1ـ تلقِّي أخبار الله تعالى بالتصديق.
2ـ وتلقِّي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق.
3ـ وتلقِّي أقداره بالصبر والرضا.
فهذه ثلاث أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله ـ عز وجل
أولا: تلقي أخباره بالتصديق:
بحيث لا يقع عند الإنسان شك أو تردد في تصديق خبر الله تعالى؛ لأن خبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ صادر عن علم وهو أصدق القائلين كما قال تعالى عن نفسه: { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا } النساء، الآية :87.(132/318)
ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان واثقًا بها مدافعًا عنها مجاهدًا بها، بحيث لا يدخله شك، أو تشكيك في أخبار الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تخلق بهذا الخلق أمكنه أن يدفع كل شبهة يوردها المغرضون على أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه أم كانوا من غير المسلمين الذين يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولنضرب لذلك مثلا: ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن في إحدى جناحيه داء والأخرى شفاء » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ... إلخ .(132/319)
هذا خبر رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب لا ينطق بما أوحى الله إليه؛ لأنه بشر ، والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له: { قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ } [الأنعام، الآية :50]. هذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن الخلق ، وحسن الخلق نحو هذا الخبر أن نتلقى هذا الخبر بالقبول، وأن نجزم بأن ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فهو حق وصدق وإن اعترض عليه من يعترض. ونعلم علم اليقين أن ما خالف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه باطل؛ لأن الله تعالى يقول: { فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ } (يونس:32)
ومثال آخر:(132/320)
من أخبار يوم القيامة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم « أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل » (1) ، سواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة، هذه المسافة بين الشمس ورؤوس الخلائق قليلة، ومع ذلك فإن الناس لا يحترقون بحرّها مع أن الشمس لو تدنو الآن في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الدنيا، فقد يقول قائل كيف تدنو من رؤوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة ثم يبقى الناس؟ فما هو حسن الخلق نحو هذا الحديث؟ حسن الخلق نحو هذا الحديث أن نقبله ونصدق به، وأن لا يكون في صدورنا حرج منه، ولا ضيق، ولا تردد، وأن نعلم أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا فهو حق، ولا يمكن أن نقيس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا لوجود الفارق العظيم. فإذا كان كذلك فإن المؤمن يقبل مثل هذا الخبر بانشراح وطمأنينة ويتسع فهمه له.
_________
(1) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى:( إنا أرسلنا نوحًا إلى قومه . . .)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلا.(132/321)
ثانيًا: تلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق: إن حسن الخلق في معاملة الله بالنسبة للأحكام أن يتلقاها الإنسان بالقبول والتنفيذ والتطبيق فلا يرد شيئًا من أحكام الله، فإذا ردّ شيئًا من أحكام الله، فهذا سوء خلق مع الله سواء ردها منكرًا حكمها، أو ردها مستكبرًا عن العمل بها، أو ردها متهاونًا بالعمل بها، فإن ذلك مناف لحسن الخلق مع الله -عز وجل-.
ولنضرب لذلك مثلا، الصوم لا شك أنه شاقّ على الإنسان؛ لأن الإنسان يترك فيه المألوف من طعام وشراب ونكاح، وهذا أمر شاقّ، ولكن المؤمن حسن الخلق مع ربه -عز وجل- يقبل هذا التكليف بانشراح صدر وطمأنينة، وتتسع له نفسه فتجده يصوم الأيام الحارة الطويلة وهو بذلك راضٍ منشرح الصدر؛ لأنه يحسن الخلق مع ربه. أما سيئ الخُلُق مع الله فيقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية ولولا أنه يخشى من أمر لا تُحمد عقباه لكان لا يلتزم بالصيام.
ومثال آخر:(132/322)
الصلاة لا شك أنها ثقيلة على بعض الناس، وهي ثقيلة على المنافقين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: « أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر » (1) ، لكن الصلاة بالنسبة للمؤمن قرة عينه وراحة نفسه، قال الله تعالى : { وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ } (البقرة:45) { الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } (البقرة:46) على هؤلاء غير كبيرة بل إنها سهلة يسيرة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه سلم: « وجُعلت قرة عيني في الصلاة » (2) .
فحسن الخلق مع الله -عز وجل- بالنسبة للصلاة، أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن وعيناك قريرتان، تفرح إذا كنت متلبسًا بها وتنتظرها إذا أقبل وقتها، فإذا صليت الفجر كنت في شوق إلى صلاة الظهر، وإذا صليت الظهر كنت في شوق إلى صلاة العصر، وإذا صليت العصر كنت في شوق إلى صلاة المغرب، وإذا صليت المغرب كنت في شوق إلى صلاة العشاء، وإذا صليت العشاء كنت في شوق إلى صلاة الفجر، وهكذا دائمًا قلبك معلق بهذه الصلوات.
ونضرب مثالا ثالثًا في المعاملات:
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: فضل العشاء في الجماعة، ومسلم، كتاب المساجد، باب: فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة.
(2) أخرجه الإمام أحمد جـ3 ص128، والنسائي، كتاب النساء، باب: عشرة النساء، والحاكم في «المستدرك» جـ2 ص175 وقال:«حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» ووافقه الذهبي.(132/323)
في المعاملات حرم الله علينا الربا، حرَّمه تحريمًا صريحًا في القرآن كما قال الله تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (البقرة، الآية :275) وقال فيه: { فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } (البقرة: من الآية 275) فتوعد من عاد إلى الربا بعد أن جاءته الموعظة وعلم الحكم توعده بالخلود في النار والعياذ بالله. المؤمن يقبل هذا الحكم بانشراح ورضا وتسليم. وأما غير المؤمن؛ فإنه لا يقبله ويضيق صدره به، يتحيل عليه بأنواع الحيل لأننا نعلم أن في الربا كسبًا متيقنًا وليس فيه مخاطرة، لكنه في الحقيقة كسب لشخص وظلم لآخر. ولهذا قال الله تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ } (البقرة: من الآية 279) أما الأمر الثالث من موضوع حسن الخلق مع الله فهو تلقي أقداره بالصبر والرضا، وكلنا يعلم أن أقدار الله -عز وجل- التي ينفذها في خلقه بعضها ملائم وبعضها غير ملائم.(132/324)
هل المرض يلائم الإنسان؟ أبدًا الإنسان يحب أن يكون صحيحًا. وهل الفقر يلائم الإنسان ؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون غنيًّا. وهل الجهل يلائم الإنسان؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون عالمًا. لكن أقدار الله -عز وجل- بحكمته تتنوع منها ما يلائم الإنسان ويستريح له بمقتضى طبيعته، ومنها ما لا يكون كذلك. فما هو حسن الخلق مع الله -عز وجل- نحو أقدار الله؟
حسن الخلق مع الله نحو أقداره أن ترضى بما قدر الله لك، وأن تطمئن إليه، وأن تعلم أن الله سبحانه وتعالى ـ ما قدره لك إلا لحكمة وغاية محمودة يستحق عليها الشكر، وعلى هذا فإن حسن الخلق مع الله نحو أقداره هو أن الإنسان يرضى ويستسلم ويطمئن. ولهذا امتدح الله تعالى الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا : إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال: { وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ } . البقرة، الآية :155.
ونوجز ما سبق:
نقول : إن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق، وإن حسن الخلق في معاملة الخالق هو تلقي أخباره بالتصديق وتلقي أحكامه بالقبول والتطبيق. وتلقي أقداره بالصبر والرضا. هذا حسن الخلق مع الله.(132/325)
أما حسن الخلق مع المخلوق فعرفه بعضهم. ويذكر عن الحسن البصري أنه "كف الأذى، وبذل الندى، وطلاقة الوجه".
ثلاثة أمور:
1ـ كف الأذى.
2ـ بذل الندى.
3ـ طلاقة الوجه.
ومعنى كف الأذى: أن الإنسان يكف أذاه عن غيره سواء كان هذا الأذى يتعلق بالمال، أو يتعلق بالنفس، أو يتعلق بالعرض. فمن لم يكف أذاه عن الخلق فليس من حسن الخُلق، بل هو سيئ الخُلق. وقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم في أعظم مجمع اجتمع به في أمته. قال: « إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:«لا ترجعوا بعدي كفارًا . . .».(132/326)
إذا كان رجل يعتدي على الناس بالخيانة، أو يعتدي على الناس بالضرب والجناية، أو يعتدي على الناس في العرض، أو بالسب والغيبة. فهذا ليس بحسن الخلق مع الناس؛ لأنه لم يكف أذاه عنهم، ويعظم إثم ذلك كلما كان موجهًا إلى من له حق عليك أكبر. فالإساءة إلى الوالدين مثلا أعظم من الإساءة إلى غيرهما، والإساءة إلى الأقارب أعظم من الإساءة إلى الأباعد، والإساءة إلى الجيران أعظم من الإساءة إلى من ليسوا من جيرانًا لك. ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ: « والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه » (1) وفي رواية لمسلم : « لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه » والبوائق هي: الشرور.
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب ، باب : إثم من لم يأمن جاره بوائقه ، ومسلم ، كتاب الإيمان ، باب : تحريم إيذاء الجار .(132/327)
وأما بذل الندى، الندى هو الكرم والجود. يعني أن تبذل الكرم والجود، والكرم ليس كما يظنه بعض الناس هو أن تبذل المال، بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال، إذا رأينا شخصًا يقضي حوائج الناس يساعدهم يتوجه في شئونهم إلى من لا يستطيعون الوصول إليه، ينشر علمه بين الناس، يبذل ماله بين الناس، فإنا نصفه بحسن الخلق؛ لأنه بذل الندى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن » (1) .
ومعنى ذلك أنك إذا ظُلمت أو أسيء إليك فإنك تعفو وتصفح، وقد امتدح الله العافين عن الناس فقال في الجنة { الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (آل عمران:134) وقال الله تعالى: { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } . البقرة، الآية : 237. وقال تعالى: { وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا } . النور، الآية : 22.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ5 ص153، والترمذي، كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشر الناس، والدارمي، كتاب الرقاق، باب: حسن الخلق.(132/328)
وكل إنسان يتصل بالناس فلا بد أن يجد من الناس شيئًا من الإساءة، فموقفه من هذه الإساءة أن يعفو ويصفح، وليعلم علم اليقين أنه بعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنى سوف تنقلب العداوة بينه وبين أخيه إلى ولاية وصداقة. قال الله تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } (فصلت:34) فما هو الأحسن، السيئة أم الحسنة؟ الحسنة. وتأملوا أيها العارفون باللغة العربية كيف جاءت النتيجة بـ(إذا) الفجائية تدل على الحدث الفوري في نتيجتها : { فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } ولكن هل كل أحد يوفق إلى ذلك؟ لا { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } (فصلت:35)
وهاهنا مسألة:
هل نفهم من هذا أن العفو عن الجاني مطلقًا محمود ومأمور به؟(132/329)
قد نفهم من هذا الكلام أن العفو مطلقًا محمود ومأمور به. ولكن ليكن معلومًا لديكم أن العفو إنما يُحمد إذا كان العفو أحمد، ولهذا قال الله تعالى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } (الشورى:40) فجعل العفو مقرونًا بالإصلاح، وهل يمكن أن يكون العفو غير إصلاح؟
الجواب: نعم. قد يكون هذا الذي اجترأ عليك وجنى عليك رجلٌ شرير، معروف بالشر والفساد، فلو عفوت عنه لتمادى في شره، وفساده، فما هو الأفضل حينئذ، أن نعفو أو نأخذ بالجريمة؟
الأفضل أن نأخذ بالجريمة؛ لأن في ذلك إصلاحًا.
قال شيخ الإسلام :{ الإصلاح واجب، والعفو مندوب}. فإذا كان في العفو فوات الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوبًا على واجب. وهذا لا تأتي به الشريعة. وصدق رحمه الله.
وإنني بهذه المناسبة أودّ أن أنبه على مسألة يفعلها كثير من الناس بقصد الإحسان، وهي أن تقع حادثة من شخص فيهلك بسببها شخص آخر، فيأتي أولياء المقتول فيسقطون الدية عن هذا الجاني الذي فعل الحادث، فهل إسقاطهم محمود ويعتبر من حسن الخلق أو في ذلك تفصيل؟ في ذلك تفصيل.(132/330)
لا بد أن نتأمل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث هل هو من الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة؟ هل هو من الطراز الذي يقول : أنا لا أبالي أن أصدم شخصًا لأن ديته في الدرج. والعياذ بالله؟
أم أنه رجل حصلت منه الجناية مع كمال التحفظ وكمال الاتزان ولكن الله تعالى قد جعل كل شيء بمقدار؟ فالجواب: إن كان من الطراز الثاني فالعفو بحقه أولى، ولكن قبل العفو حتى في الطراز الثاني يجب أن نلاحظ هل على الميت دين؟ إذا كان عليه دين فإنه لا يمكن أن نعفو.
ولو عفونا فإن عفونا لا يعتبر، وهذه مسألة ربما يغفل عنها كثير من الناس. لماذا نقول : إنه قبل العفو يجب أن نلاحظ هل على الميت دين أم لا؟ لماذا نقول ذلك؟(132/331)
لأن الورثة يتلقون الاستحقاق لهذه الدية من الميت الذي أصيب بالحادث ولا يرد استحقاقهم إلا بعد الدين ولهذا لما ذكر الله الميراث قال : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } (النساء: من الآية 11) هذه مسألة تخفى على كثير من الناس وعلى هذا فنقول: إذا حصلت حادث على شخص ما فمات فإنه قبل أن يقدم ورثته على العفو ننظر في حال المجني عليه فإن كان عليه دين لا وفاء له إلا من الدية فلا عفو؛ لأن الدين مقدم على الميراث، وإن لم يكن عليه دين نظرنا في حال الجاني فإن كان من المتهورين فترك العفو عنه أولى، وإن لم يكن منهم نظرنا في ورثة المجني عليه فإن كان غير مرشدين فلا يملك أحد إسقاط حقهم عن المجني عليه، وإن كانوا مرشدين فالعفو في هذه الحال أفضل.
والحاصل: أن من حسن الخلق العفو عن الناس، وهو بذل الندى؛ لأن بذل الندى: إما إعطاء، وإما إسقاط، والعفو من الإسقاط.
وأما طلاقة الوجه فهي أن يكون الإنسان طليق الوجه، وضد طليق الوجه عبوس الوجه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: « لا تحقرنّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق » (1) .
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء.(132/332)
طلاقة الوجه تُدخل السرور على من قابلك. وعلى من اتجه لك، وتجلب المودة والمحبة، وتوجب انشراح القلب، بل توجب انشراح الصدر منك وممن يقابلك ـ وجرب تجد ـ لكن إذا كنت عبوسًا فإن الناس ينفرون منك ، ولا ينشرحون بالجلوس إليك، ولا بالتحدث معك، وربما تصاب بمرض خطير يسمى بالضغط، فإن انشراح الصدر وطلاقة الوجه من أكبر العقاقير المانعة من هذا الداء داء الضغط. ولهذا فإن الأطباء ينصحون ابتلي بهذا الداء بأن يبتعد عما يثيره ويغضبه؛ لأن ذلك يزيد في مرضه، فطلاقة الوجه تقضي على هذا المرض؛ لأن الإنسان يكون منشرح الصدر محبوبًا إلى الخلق.
هذه الأصول الثلاثة التي يدور عليها حسن الخلق في معاملة الخلق.
ومما ينبغي أن يعرف من حسن الخلق حسن المعاشرة بأن يكون الإنسان مع من يعاشره من أصدقاء، وأقارب، وأهل، يكون حَسَن العشرة معهم لا يضيق بهم ولا يُضِّيق عليهم، بل يدخل السرور عليهم بقدر ما يمكنه في حدود شريعة الله. وهذا القيد لا بد منه أعني أن يكون في حدود شريعة الله؛ لأن من الناس من لا يسير إلا بمعصية الله والعياذ بالله وهذا لا يوافق عليه.(132/333)
لكن إدخال السرور على من يتصل بك من أهل وأصدقاء وأقارب من حسن الخلق . ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام : « إن خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي » (1) .
وكثير من الناس مع الأسف الشديد يحسن الخلق مع الناس، ولكنه لا يحسن الخلق مع أهله وهذا خطأ وقلب للحقائق. كيف تحسن الخلق مع الأباعد وتسيء الخلق مع الأقارب؟ فالأقارب أحق الناس بأن تحسن إليهم الصحبة والعشرة. ولهذا قال رجل: « يا رسول الله:"من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك. في الثالثة أو الرابعة » (2) .
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ2 ص250ـ472، وابن ماجه، كتاب النكاح، باب: حسن معاشرة النساء، والهيثمي جـ4 ص302ـ303.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم ، كتاب البر والصلة، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به.(132/334)
والحاصل أن إحسان العشرة مع الأهل والأصحاب والأقارب كل ذلك من حسن الخلق، وينبغي لنا في هذه المراكز الصيفية أن نستغل وجود الشباب بحيث نمرنهم على إحسان الخلق لتكون هذه المراكز مراكز تعليم وتربية؛ لأن العلم بدون تربية يكون ضرره أكثر من نفعه. لكن مع التربية يكون العلم مؤديًا لنتيجته المقصودة. ولهذا قال الله تعالى { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } (آل عمران:79) هذه فائدة العلم أن يكون الإنسان ربانيًّا بمعنى مُرَبِّيًا لعباد الله على شريعة الله.(132/335)
فهذه المراكز التي نأمل من القائمين عليها أن يجعلوها ميدانًا للتسابق في الأخلاق الفاضلة ومنها حسن الخلق. فحسن الخلق يكون بالطبع ويكون بالتطبع ـ كما تقدم ـ وحسن الخلق بالطبع أكمل من حسن الخلق بالتطبع. وأتينا على ذلك بدليل وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام: « بل جبلك الله عليهما » (1) . وحسن الخلق بالتطبع قد يفوت الإنسان في مواطن كثيرة؛ لأن حسن الخلق بالتطبع يحتاج إلى ممارسة وإلى معاناة وإلى تذكر عند وجود كل ما يثير الإنسان، ولهذا جاء رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: « يا رسول الله أوصني، قال:" لا تغضب" فردد مرارًا قال:"لا تغضب » (2) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام: « ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب » (3) .
والصرعة: هو الذي يغلب الرجال عند المصارعة.
إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يصرع نفسه ويملكها عند الغضب هو الشديد. وملك الإنسان نفسه عند الغضب يعتبر من أحسن الأخلاق، فإذا غضبت فلا تنفذ الغضب، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كنت قائمًا فاجلس وإذا كنت جالسًا فاضجع، وإذا زاد بك الغضب فتوضأ حتى يزول عنك.
_________
(1) تقدم تخريجه ص256
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب.
(3) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب.(132/336)
والمقصود أننا نقول: إن حسن الخلق طبع وتطبع وأن حسن الخلق بالطبع هو الأفضل؛ لأنه يكون سجية الإنسان ويسهل عليه في كل موطن، ولكن التطبع قد يفوته في بعض المواقف.
كذلك نقول: إن حسن الخلق يكون بالاكتساب بمعنى أن الإنسان يمرن نفسه، فكيف يكون الإنسان حسن الخلق؟ يكون الإنسان حسن الخلق بالآتي:
أولًا: بأن ينظر في كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم. ينظر النصوص الدالة على مدح ذلك الخلق العظيم، والمؤمن إذا رأى النصوص تمدح شيئًا من الأخلاق أو من الأعمال فإنه سوف يقوم به.
ثانيًا: مجالسة الأخيار والصالحين الموثوق بعلمهم وأمانتهم يقول النبي عليه الصلاة والسلام: « مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد لا يَعدمُك من صاحب المسك: إما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد: يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحًا خبيثة » (1) .
فعليكم أيها الشباب أن تصاحبوا من عُرفوا بحسن الأخلاق، والبعد عن مساوئ الأخلاق وسفاسف الأعمال، حتى تأخذوا من هذه الصحبة مدرسة تستعينون بها على حسن الخلق.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: في العطار وبيع المسك(132/337)
ثالثًا: أن يتأمل الإنسان ماذا يترتب على سوء خلقه، فسيئ الخلق ممقوت، وسيئ الخلق مهجور، وسيئ الخلق مذكور بالوصف القبيح. فإذا علم الإنسان أن سوء الخلق يفضي به إلى هذا فإنه يبتعد عنه.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهرًا وباطنًا وأن يتوفانا على ذلك، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
* * *(132/338)
السبب الأول :
أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه.
وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومن بعدهم . ونضرب مثالين وقعا للصحابة من هذا النوع:
الأول أننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري (1) وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- إلى الشام، وفي أثناء الطريق، ذكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابةـ رضي الله عنهم ـ فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين . . . وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائبًا في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك علمًا، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: « إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فرارًا منه » فكان هذا الحكم خافيًا على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبد الرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.
_________
(1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة.(132/339)
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- وعبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر. . أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عنده وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل (1) ؛ لأن الله تعالى يقول: { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (الطلاق: من الآية 4). ويقول { وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } (البقرة: من الآية 234) وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس -رضي الله عنهما- ولكن السنة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى: {
_________
(1) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الطلاق، آية: 4. ومسلم، كتاب الطلاق، باب: انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل.(132/340)
وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . الطلاق، الآية :4. وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعًا، ولم يذهبا إلى رأيهما.(132/341)
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلا أيضًا، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم.
« فاطمة بنت قيس ـ رضي الله عنها ـ طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا نفقة لها ولا سكنى » (1) ،
_________
(1) صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب: المطلقة ثلاثًا لا نفقة لها.(132/342)
وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملا لقوله تعالى : { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } (الطلاق: من الآية 6) عمر رضي الله عنه ـ ناهيك عنه فضلا وعلمًاـ خفيت عليه هذه السنة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، ورد حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضًا لمن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل، وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها نظرًا لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .(132/343)
السبب الثالث:
أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجَل مَن لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثًا، بل قد ينسى آية.(132/344)
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسيانًا، وكان معه أبي بن كعب ـ رضي الله عنه فلما انصرف من صلاته قال: « هلا كنت ذكرتنيها » (1) وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه: { سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى }{ إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى } [الأعلى، الآيتان:6، 7] ومن هذا ـ أي مما يكون قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه ـ قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسر -رضي الله عنهما- « حينما أرسلهما رسول الله في حاجة، فأجنبا جميعًا عمار وعمر » (2) . أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلى، أما عمر -رضي الله عنه- فلم يصل ... ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار : « إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ـ وضرب بيديه ووجهه ـ » وكان عمار -رضي الله عنه- يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة، فأجنبنا فأما أنت فلم تصل،
_________
(1) تقدم تخريجه ص128.
(2) البخاري ، كتاب التيمم ، باب : التيمم ضربة ، ومسلم ، كتاب الحيض ، باب : التيمم .(132/345)
وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: « إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا » . ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال : اتق الله يا عمار، فقال له عمار : إن شئت بما جعل الله عليَّ من طاعتك أن لا أحدث به فعلت، فقال له عمر : نوليك ما توليت ـ يعني فحدث به الناس ـ فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- وحصل بينه وبين أبي موسى ـ رضي الله عنهما مناظرة في هذا الأمر فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود : ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار ، فقال أبو موسى : دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية يعني آية المائدة، فلم يقل ابن مسعود شيئًا، ولكن لا شك في أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون : إن الجنب يتيمم، كما أن المحدث حدثًا أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي فيقول قولا يكون به معذورًا، لكن من علم الدليل فليس بمعذور، هذان سببان.(132/346)
السبب الرابع:
أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد.
فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السنة:
1ـ من القرآن قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا } . النساء، الآية :43.
اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في معنى أو لامستم النساء . ففهم بعض منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة. وفهم آخرون أن المراد به الجماع وهذا الرأي رأي ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ .(132/347)
وإذا تأملت الآية وجدت أن الصواب مع من يرى أنه الجماع؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ذكر نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله: { فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } (المائدة: من الآية 6) أما الأكبر فقوله: { وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا } (المائدة: من الآية 6). . . الآية . وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يذكر أيضًا موجبًا الطهارتين في طهارة التيمم فقوله تعالى: { أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ } إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر . . . وقوله: { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ } إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر . . ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذكر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر، وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن، فاللذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مس إنسان ذكر بشرة الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة انتقض، ولغير شهوة لا ينتقض، والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي «(132/348)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ » (1) ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضًا.
2ـ من السنة: « لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب، ووضع عدة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج وقال:" لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » (2)
الحديث ، فقد اختلف الصحابة في فهمه. فمنهم من فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلما حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها. ومنهم من فهم: أن مراد رسول الله أن لا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها. ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه. وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ6 ص210، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القُبلة، والترمذي، كتاب الطهارة ، باب: الوضوء من القبلة، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القبلة، والنسائي، كتاب الطهارة، باب: ترك الوضوء من القبلة، والدارقطني جـ1 ص138، والبيهقي جـ1 ص125.
(2) البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: المبادرة بالغزو.(132/349)
السبب الخامس:
أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ فيكون الحديث صحيحًا والمراد منه مفهومًا ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر؛ لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم الناسخ.
ومن هذا رأي ابن مسعود -رضي الله عنه- ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ويضعهما بين ركبتيه. هذا هو المشروع في أول الإسلام ثم نسخ ذلك وصار المشروع أن يضع يديه على ركبته. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود -رضي الله عنه- لم يعلم(132/350)
بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبهما، ولكنه -رضي الله عنه- نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق . . . لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه، قال تعالى { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ } (البقرة:286)(132/351)
السبب السادس:
أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعًا.
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظن أن لا مخالف لهم؛ لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص، فيجتمع في ذهنه دليلان، النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل ذلك برأي ابن عباس -رضي الله عنهما- في ربا الفضل.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « إنما الربا في النسيئة » (1) .
وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره: « أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة » (2)
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: بيع الطعام مثلا بمثل.
(2) مسلم، كتاب المساقاة، باب: صرف وبيع الذهب بالورق نقدًا.(132/352)
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة. أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله لو بعت صاعًا من القمح بصاعين يدًا بيد فإنه عند ابن عباس لا بأس به؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط . وإذا بعت مثلا مثقالا من الذهب بمثقالين من الذهب يدًا بيد فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخرت القبض، فأعطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا ؛ لأن ابن عباس -رضي الله عنهما- يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن : (إنما) تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دل عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا ؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: « من زاد أو استزاد فقد أربى » (1)
_________
(1) جزء من الحديث السابق.(132/353)
إذن ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس ؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضًا في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي ورد فيه قوله تعالى : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } (آل عمران:130) إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين": إلى تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد.(132/354)
السبب السابع:
أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالا ضعيفًا. وهذا كثير جدًّا، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح (1) وهو أن يصلي الإنسان، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويسبح خمس عشر تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها؛ لأنني لا أعتقد من حيث الشرع، ويرى آخرون: أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد -رحمه الله- وقال: إنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- وإن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها وجد أن فيها شذوذًا حتى بالنسبة للشرع ؛ إذ إن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب، ولا بد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سندًا ومتنًا، وأن من قال: إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام : أنه لم يستحبها أحد من الأئمة .
_________
(1) حديث صلاة التسبيح تقدم تخريجه ص138.(132/355)
وإنما مثلت بها ؛ لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمرًا مشروعًا، وإنما أقول بدعة، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس؛ لأننا نعتقد أن كل من دان لله ـ سبحانه ـ مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله فإنه بدعة.
كذلك أيضًا من يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال. الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث أحمد « ذكاة الجنين ذكاة أمه » (1)
فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أم الجنين إذا ذكيت فإن ذكاتها ذكاة له ـ أي لا يحتاج إلى ذكاة إذا أخرج منها بعد الذبح؛ لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.
ومن العلماء من فهم أن المراد به أي بالحديث . . . إن ذكاة الجنين
الجنين كذكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم ـ ولكن هذا بعيد والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل » (2) . ومن المعلوم أنه لا يمكن إنهار الدم بعد الموت، هذه الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثير، وبحر لا ساحل له . . ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 3 ص39، والترمذي، كتاب الأطعمة، باب: ذكاة الجنين، وابن ماجه، كتاب الذبائح، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والدرامي، كتاب الأضاحي، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والبيهقي، جـ 9 ص335، والحاكم في «المستدرك» جـ4 ص127، والطبراني في الكبير، جـ 4 ص192، وابن أبي شيبة في المصنف جـ14 ص179، والهيثمي في «المجمع» جـ4 ص35، وأبو نعيم في «الحلية» جـ7 ص92، وابن حبان (1077). قال الحاكم : «صحيح على شرط مسلم»، ووافقه الذهبي. وقال الزيلعي في «نصب الراية» جـ4 ص190 :«ورجاله رجال الصحيح، وليس فيه غير ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالسماع، فلا يحتج به، ومحمد بن الحسن الواسطي ذكره ابن حبان في »الضعفاء« وروى له هذا الحديث، وصححه الألباني في »الإرواء« جـ8 ص142.
(2) أخرجه البخاري، كتاب الذبائح، باب: التسمية على الذبيحة، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر.(132/356)
وما قلته في أول الموضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو اختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون من نتبع؟
تكاثرت الظباء على خراش ... فما يدري خراش ما يصيد
وحينئذ نقول: موقفنا من هذا الخلاف وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علمًا وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.
ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:
1ـ كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحرًا في العلم.(132/357)
2ـ ما موقفنا من اتباعهم؟ ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ أيتبع الإنسان إمامًا لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب. أم يتبع ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفًا لما ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟ الجواب هو الثاني، فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحدًا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يؤخذ بقوله فعلا وتركًا بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة؛ لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(132/358)
ولكن يبقى الأمر فيه نظر؛ لأننا لا نزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟ هذه مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صحابها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل، هو جيد أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسنة رسوله، لكن كوننا نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شيء، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع، والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1ـ عالم رزقه الله علمًا وفهمًا.
2ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحر.
3ـ عاميّ لا يدري شيئًا.
أما الأول:
فإنه له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس ؛ لأنه مأمور بذلك، قال تعالى: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء، الآية :83] وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني:(132/359)
الذي رزقه الله علمًا ولكنه لم يبلغ درجة الأول فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزًا في ذلك وألا يقصر عن سؤال من هو أعلى منه من أهل العلم ؛ لأنه قد يخطئ وقد لا يصل علمه إلى شيء خصص ما كان عامًّا، أو قيَّد ما كان مطلقًا، أو نسخ ما يراه محكمًا. وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث:
وهو من ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (الأنبياء: من الآية 7) وفي آية أخرى: { إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }{ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ } [النحل، الآيتان:43، 44] فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن من يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكل يقول: إنه عالم، أو كل يقال عنه: إنه عالم فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى من هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل من شئت ممن تراه من أهل العلم.
والمفضول قد يوفق للعمل في مسألة معينة، ولا يوفق من هل أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟(132/360)
فمنهم من يرى: أنه يجب على العاميّ أن يسأل من يراه أوثق في علمه من علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه من يراه أقوى في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علمًا إذًا لا فرق.
ومنهم من يرى: أن في ذلك ليس بواجب؛ لأن من هو أقوى علمًا قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.
وأخيرًا أنصح نفسي أولا وإخواني المسلمين، ولا سيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم فيقول؛ لئلا يقول على الله بلا علم.(132/361)
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « العلماء ورثة الأنبياء » (1) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : « أن القضاة ثلاثة: قاضٍ واحد في الجنة وهو من علم الحق فحكم به » (2) كذلك أيضًا من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك لا سيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.
وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمن سئل عن مسألة أن يكثر من الاستغفار، مستنبطًا من قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا } (النساء:105) { وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا } [ النساء، 106] لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل كما قال تعالى: { فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ } . المائدة، الآية :13.
_________
(1) تقدم تخرجه ص13.
(2) أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب: في القاضي يخطئ بلفظ :«القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار» قال أبو داود:« وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة». وأخرجه الترمذي، كتاب الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، بلفظ :« القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة ، رجل قضى بغير حق فعلم ذاك فذاك في النار. وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة». وأخرجه ابن ماجه، كتاب الأحكام، باب: الحاكم يجتهد فيصيب الحق، والبغوي في «شرح السنة» جـ10 ص94، والبيهقي جـ10 ص116 ، ص117، والطبراني في «المعجم الكبير» جـ2 ص5، والحاكم في «المستدرك» جـ4 ص91، وقال:«حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم» ووافقه الذهبي. قال الهيثمي:«رجاله ثقات» .(132/362)
وقد ذكر الشافعي أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
فلا جرم حينئذ أن يكون الاستغفار سببًا لفتح الله على المرء.
وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين أولا وأخيرًا.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *(132/363)
الرسالة الثالثة
حث طلبة العلم على الالتحاق بجماعات تحفيظ القرآن الكريم
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
نعم إن خير الحديث كتاب الله تعالى؛ لأنه كلام الله -عز وجل- تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين ( جبريل ) على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.(132/364)
وقد جاءت نصوص الكتاب والسنة في فضل تلاوة القرآن والعمل به، فقال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } (فاطر:29) { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ } (فاطر:30) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » (1) متفق عليه ، وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران » (2) متفق عليه، وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : « مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، ولا طعم لها، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها » . . ." (3) .
_________
(1) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن.
(2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه.
(3) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: فضل القرآن على سائر الكلام، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضيلة حافظ القرآن.(132/365)
وعن أبي أمامة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « اقرءوا القرآن، فإنه يأتي شافعًا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صاحبهما » (1) .
ولما كانت تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه بهذه المثابة هبَّ كثير من الشباب في بلادنا وغيرها إلى تلاوة الكتاب العزيز تعليمًا فأنشئت في بلادنا جماعات تحفيظ القرآن الكريم في مدن وقرى كثيرة تحت إشراف ورعاية وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد والتحق بها -ولله الحمد- جمّ غفير من الشباب ولم يقتصر نشاطها على الذكور، بل شمل النساء أيضًا وحصل بذلك خير كثير، حتى حفظ القرآن عن ظهر قلب كثير من هؤلاء الشباب، فالحمد لله رب العالمين.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: قراءة القرآن وسورة البقرة.(132/366)
وإنني لأحث إخواني الذين منَّ الله تعالى عليهم بالأولاد، أن يشجعوا أولادهم على الالتحاق بهذه الجماعات، وأن يتعاهدوهم حال التحاقهم، ويستعينوا على ذلك بالاتصال بالمسؤولين في هذه الجماعات للمتابعة. فإن تلاوة كتاب الله من أسباب الصلاح ، وصلاح الولد خير للوالد في دنياه وبعد مماته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له » (1) " .
ولا شك أن الالتحاق بهذه الجماعات -أعني جماعات تحفيظ القرآن- يحصل به مصالح وتندرئ به مفاسد.
يحصل به حفظ القرآن الكريم ومحبته والميل إليه.
ويحصل به ربط الدارس ببيوت الله -عز وجل- (المساجد) .
ويحصل به استغلال الوقت بهذا الهدف النبيل.
ويحصل به من حسن رعاية الطالب ما يثاب عليه أبوه أو غيره من ولاة أمره.
ويحصل به ثواب المجتمعين على تلاوة كتاب الله تعالى في بيت من بيوته « فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، » وكما تحصل به هذه المصالح فإنه تندرئ به مفاسد .
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية ، باب : ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.(132/367)
يندرئ به ضياع الوقت الذي هو أشد ضررًا من ضياع المال، فإن المال له ما يخلفه والوقت لا يخلفه شيء فإن كل وقت مضى لا يرجع كما قيل: أمس الدابر لا يعود.
تندرس به مفسدة الفراغ مفسدة بل مفاسد كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجده ... مفسدة للمرء أي مفسده
فمن مفاسد الفراغ أن الشباب ينشأ على حياة ضياع لا جدية فيها.
ومن مفاسد الفراغ أنه قد يكون سببًا للتخريب.
ومن مفاسد الفراغ أنه يفضي إلى التسكع في الأسواق والتجول، الذي ربما يفضي إلى فاسد الأخلاق.
ومن مفاسد الفراغ البدني أنه يفضي إلى الفراغ الذهني فيتبلد الذهن ويكون الشاب سطحيًّا ليس عنده تفكير عميق ولا ذهن حاد.
وإني لأحث إخواني الذين منَّ الله عليهم بالمال أن يجودوا بشيء مما منَّ الله به عليهم، فإن بذل المال في هذه الجماعات من أفضل الأعمال لمشاركة الباذل العامل فيها في الأجر كما جاء نحو ذلك فيمن جهَّز غازيًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب: فضل من جهَّز غازيًا أو خلفه بخير. ومسلم ، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي.(132/368)
كما أحث سائر إخواني المسلمين على تشجيع هذه الجماعات بكافة أنواع التشجيع المعنوي والمادي، عملا بقول الله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } [المائدة، الآية :2]
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعًا ممن حقق ذلك بمقاله وفعاله، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان مدى الأوقات.(132/369)
رسالة: في التحذير من الحسد وبيان خطره
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الحسد خُلق ذميم وهو: تمني زوال نعمة الله على الغير.
وقيل: الحسد كراهة ما أنعم الله به على غيره.
فالأول هو المشهور عند أهل العلم، والثاني هو الذي قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- فمجرد كراهة ما أنعم الله به على الناس يعتبر حسدًا، والحسد محرم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وحذر منه، وهو من خصال اليهود الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
والحسد مضارّهُ كثيرة: منها أنه اعتراض على قضاء الله وقدره وعدم رضا بما قدّره الله عز وجل؛ لأن الحسد يكره هذه النعمة التي أنعم الله بها على المحسود.(132/370)
ومنها : أن الحاسد يبقى دائمًا في قلق وحرقة ونكد؛ لأن نعم الله على العباد لا تحصى، فإذا كان كلما رأى نعمة على غيره حسده وكره أن تكون هذه النعمة حالّة عليه، فلا بد أن يكون في قلق دائم وهذا هو شأن الحاسد والعياذ بالله.
ومنها: أن الغالب أن الحاسد يبغي على المحسود فيحاول أن يكتم نعمة الله على المحسود أو يزيل نعمة الله على هذا المحسود فيجمع بين الحسد وبين العدوان.
ومنها: أن الحاسد فيه شبه من اليهود الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
ومنها: أن الحاسد يحتقر نعمة الله عليه؛ لأنه يرى أن المحسود أكمل منه وأفضل فيزدري نعمة الله عليه، ولا يشكره سبحانه تعالى عليها.
ومنها: أن الحسد يدل على دناءة الحاسد، وأنه شخص لا يحب الخير للغير؛ بل هو سافل ينظر إلى الدنيا، ولو نظر إلى الآخرة لأعرض عن هذا.
ولكن إذا قال قائل: إذا وقع الحسد في قلبي بغير اختياري فما هو الدواء؟
فالجواب: أن الدواء يكون بأمرين:
الأول: الإعراض عن هذا بالكلية، وأن يتناسى هذا الشيء، وأن يشتغل بما يهمه في نفسه.(132/371)
الثاني: أن يتأمل ويتفكر في مضارّ الحسد، فإن التفكر في مضارّ العمل يوجب النفور منه، ثم يجرب إذا أحب الخير لغيره واطمأن بما أعطاه الله، هل يكون هذا خيرًا، أم الخير أن يتتبع نعمة الله على الغير ثم تبقى حرقة في نفسه وتسخطًا لقضاء الله وقدره، وليختر أي الطريقين شاء، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.(132/372)
رسالة في بيان خطر التقول على العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ليس بغريب أن ينسب إلى أحد العلماء المعتبرين ما لم يقله بل ما يصرح بخلافه، وهذا معلوم من عهد السلف الصالح، ففي صحيح مسلم -في كتاب اللباس في باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة 3 / 1641- أن أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما- أرسلت مولاها إلى عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- فقالت:" بلغني عنك أنك تُحرم أشياء ثلاث: العلم في الثّوب، ومَيثرةَ الأُرجُوانِ وصوْمَ رجَبٍ كُلّه" . فقال عبد الله : أمّا ما ذَكرت من رجبٍ، فكيف بمن يصومُ الأبد.
وأما ما ذكرتَ من العَلمِ في الثّوبِ فإني سمعتُ عمر بن الخطّاب يقول: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "إنما يلبسُ الحرير من لا خَلاقَ له"، فخفتُ أن يكون العَلمُ منه.
وأما ميثرةُ الأرجُوان، فهذه ميثرةُ عبد الله ، فإذا هي أُرجُوانُ.(132/373)
فرجع مولى أسماء إليها فأخبرها بما قال عبد الله فقالت: هذه جُبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجتْ جُبَّةً طَيَالِسَةً كَسْرَِوَانِيَّةً لها لِبنةُ ديباجٍ وفرجيها مكفُوفين بالدّيباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتّى قُبضتْ. فلمّا قُبضت قبضتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَلبُسها فنحنُ نغسلُها للمرضى ليُستشفى بها.
الميثرةُ: وطاء يجعل على الرحل ليلين للراكب من الوثارة.
والأُرجُوان: بضم الهمزة والجيم هو الأحمر الشديد الحمرة.
ومعنى قول ابن عمر :" فكيف بمن يصوم الأبد" لإنكاره على من نسب إليه تحريم صوم رجب كله؛ لأنه -رضي الله عنه- كان يصوم الأبد.
وقد أنكر -رضي الله عنه- كل ما نسب إليه من تحريم الثلاثة، فأنكر صوم رجب بأنه كان يصوم الأبد، وتحريم علم الثوب بأنه كان تركه خوفًا من أن يكون من لبس الحرير فهو حكم احتياطي، وأنكر تحريم ميثرة الأرجوان بأنه كان له ميثرة أرجوان.
والمهم أن التقول على العلماء كان من قديم الزمان وله أسباب:
1ـ منها أن يسأل الشخص عالمًا سؤالا يقصد به معنى، فيفهمُ العالمُ المجيبُ خلاف ما قصد السائل، فيجيبُ بحسب ما فهم من السؤال ويفهم السائل الجواب على ما قصد من السؤال.(132/374)
2ـ ومنها أن يفهم العالم السؤال على ما قصده به السائل فيجيبه بحسبه لكن يفهم السائل منه خلاف ما قصده المجيب.
3ـ ومنها أن يكون له هوى في حكم مسألة ما، فيُشيع نسبته إلى عالمٍ معروفٍ ليكون أدعى لقبوله.
4ـ ومنها أن يكون الحكم غريبًا منكرًا، فينسبه إلى عالم ليشوه به سُمعته ويتخذ من ذلك وسيلةً إلى غيبته، والإيقاع به، مع أن العالم لم يكن منه فتوى في ذلك.
إلى غير ذلك من الأسباب وشر الأسباب التي ذكرناها هذا الأخير والذي قبله.
ولكن الواجب على من سمع من ذلك أن يتثبت أولا من صحة نسبة القول إلى العالم، ثم يتأمل في القول المنقول هل له حظ من النظر، فإن كان له حظ من النظر قبله ودافع عنه؛ لأنه حقٌّ والحقُّ يجبُ قبوله والدفاع عن القائل به.
وإن لم يكن حظٌّ من النظر، اتصل بقائله وناقشه بأدبٍ فيقول: بلغني كذا وكذا فما وجه ذلك في شريف علمكم، أو نحو هذه العبارة.(132/375)
ثم يأخذ في النقاش معه بأدب واحترام لقوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل: من الآية 125) إلا أن يكون معاندًا ظالمًا فيجادل بما يستحق، كما قال تعالى في مجادلة أهل الكتاب : { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: من الآية 46) وإذا تبين الحق بعد النقاش وجب على من تبين له اتباعه والدفاع عمن قال به, فإن لم يتبين لكل واحد أن الحق مع صاحبه، فالله تعالى حسيب الجميع وهو تعالى عند قلب كل قائل وقوله، وليس قول كل واحد حجة على الآخر، فليذهب كل واحد إلى ما تبين له أنه الحق ولا يُشّنعُ على صاحبه أو يُبدّعهُ أو يُفسّقُه ما دامت المسألة تحت مجهر الاجتهاد.
نسأل الله التوفيق للصواب والعمل بما يرضيه، وأن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
كتبه محمد الصالح العثيمين في 22 / 6 / 1417هـ.
* * *(132/376)
رسالة
في بيان الموقف الصحيح نحو العلماء
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
نسأل الله لكم التوفيق والسداد والعناية وأن يجزيكم على ما قدمتموه لهذا الدين خير الجزاء.(132/377)
سماحة الشيخ، نحن إخوانكم في إندونيسيا نحبكم في الله ونتابع أخباركم وفتاواكم ونستفيد كثيرًا من علومكم عن طريق كتبكم وأشرطتكم، وفي هذه المناسبة نستفتيكم فيما كتبه أحد الدعاة في إحدى مجلات إندونيسيا المسماة بـ"سلفي" قال:" أهل الرأي هم أهل الفكر الذي يستدلون بالقياس أكثر من استدلالهم بالقرآن والحديث وإمامهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت ". وقال:" وأهم شيء في هذا المبحث هو في أي مسألة نهينا أخذ مفاهيم دينية منه ( أبو حنيفة )، حتى لا نغتر بعده. روايات منقولة عنه ضل فيها هو" وقال:" بل أهل السنة يحترمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل احترام لكن لا يمنعهم ذلك من انتقادهم بأسلوب علمي مؤدب فيما أخطأوا فيه من أجل أن لا يتبعوا ما أخطأوا" ثم قال:" في المسائل العقدية والفقهية كثيرًا ما اعتمد أبو حنيفة على قياس وينقصه الاهتمام بالأدلة من السنة النبوية" ثم قال: "هناك روايات تؤكد على أن أبا حنيفة مرجئ والإرجاء مذهب بدعي مبني على أن الإيمان قول واعتقاد في القلب دون جعل العمل من ضمنه" ثم نقل أقوال العلماء الذين تكلموا على أبي حنيفة بكلام شديد التي رواها الإمام اللالكائي مثل قول الثوري وابن أبي ليلى(132/378)
والحسن بن صالح وشريك بن عبد الله وأقوال الأئمة الأخرى مثل ابن قتيبة وابن أبي شيبة ثم قال :"لكن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من مخالفة أبي حنيفة لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن موقف الأوزاعي منها، حيث قال: ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يعتمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى .(مجموع الفتاوى 20 / 304) ثم علق عليه وقال :"موقف شيخ الإسلام المذكور أعلاه لولا أنه خالف آراء الأئمة السابقين مثل الأوزاعي وابن قتيبة وابن أبي شيبة وغيرهم لقبلناه واعتمدنا عليه في موقفنا نحو أخطاء أبي حنيفة في المسائل الفقهية، لكن عصر شيخ الإسلام بعيد عن أبي حنيفة، والأئمة الذين خالفهم أبو حنيفة عاصروه أو جاءوا بعده بفترة قصيرة فيكون موقفهم نحو أبي حنيفة أرجح من موقف ابن تيمية نحوه.
السؤال: ما الموقف الصحيح نحو الإمام أبي حنيفة ؟ نرجو توجيهاتكم.
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.(132/379)
الموقف الصحيح نحو الأئمة الذين لهم أتباع، يشهدون بعدالتهم، واستقامتهم، أن لا نتهجم عليهم، وأن نعتقد أن ما خالفوا فيه الصواب، صادر عن اجتهاد، والمجتهد من هذه الأمة لا يخلو من أجر، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور.
وأبو حنيفة -رحمه الله- كغيره من الأئمة له أخطاء وله إصابات، ولا أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال الإمام مالك : كان يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والواجب الكف عن أئمة المسلمين، لكن القول إذا كان خطأ، فيذكر القول دون أن يتعرض أحد لقائله بسبب، يذكر القول إذا كان خطأ ويرد عليه، هذا هو الطريق السليم . حرر في 12 / 2 / 1420هـ.(132/380)
رسالة
في التحزّب خطره وضرره
سماحة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
لا يخفى على فضيلتكم كثرة الأحزاب في الساحة، فما توجيهكم حفظكم الله تعالى؟
فأجاب بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا شك أن تحزب المسلمين إلى أحزاب متفرقة متناحرة، مخالف لما تقتضيه الشريعة الإسلامية من الائتلاف والاتفاق، موافق لما يريده الشيطان من التحريش بين المسلمين، وإيقاع العداوة والبغضاء، وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، قال الله تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ } . الأنبياء، الآية :92.
وفي الآية الأخرى : { وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ } . المؤمنون، الآية :52. وقال تعالى: { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا } . آل عمران، الآية :103. وقال تعالى: { وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } (آل عمران:105).(132/381)
فاجتهدوا في جمع الكلمة، وترك التنابذ، والتفرق فإن التنازع والتفرق، سبب للخذلان والفشل.
أسأل الله تعالى أن يصلح أمور المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق إنه على كل شيء قدير. كتبه محمد الصالح العثيمين في 13 صفر سنة 1419هـ .(132/382)
رسالة
فضل تلاوة كتاب الله والحث على تعليمه
قال فضيلة الشيخ -أعلى الله درجته في المهديين-:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(132/383)
وبعد: فإن من المعلوم ما في فضل تلاوة كتاب الله العزيز، من الأجر العظيم، وحفظ شريعة الله -عز وجل- وصلة العبد بربه، حيث يتلو كتابه الذي هو كلامه، الموصوف بصفات العظمة، والمجد، والكرم، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ } (الحجر:87), وقال تعالى: { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ }{ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ } , وقال تعالى: { فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ }{ وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ }{ إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ }{ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ }{ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ }{ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } . (الواقعة، الآيات:75ـ80). ولهذا أقسم الله به كما في قوله تعالى: { ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ } . (ق، الآية :1). وأثنى على من يقوم بتلاوته، وبيَّن ما لهم من الثواب في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ }{ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(132/384)
} (فاطر، الآيتان:29، 30). وقال تعالى: { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } . البقرة، الآية :121.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « خيركم من تعلم القرآن وعلمه » (1) . وأنه قال: « ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده » (2) .
ولقد ظهر في زماننا هذا جماعات كُثُر لتحفيظ القرآن في جميع أنحاء البلاد، ومقر هذه الجماعات بيوت الله عز وجل، وهي المساجد، والتحق بها ولله الحمد شباب كثير من ذكور وإناث.
وإني أدعو إخواني المسلمين أن يحرصوا على مساعدة هذه الجماعات، لينالوا مثل أجر التالين لكتاب الله عز وجل ، فإن من أعان على خير أصابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا » (3) . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: « من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا، ومن خلف غازيًا في أهله بخير فقد غزا » (4) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص294.
(2) رواه مسلم ( 2700 ) في الذكر والدعاء .
(3) رواه مسلم (2674) .
(4) تقدم تخريجه ص296.(132/385)
وفق الله الجميع لما فيه الخير والهدى والصلاح والإصلاح إنه جواد كريم. كتبه محمد الصالح العثيمين في 7 / 8 / 1408هـ.
تم
بحمد الله تعالى
كتاب العلم(132/386)
((((( الطهارة )))))(/)
الشرح الممتع / المجلد الأول(/)
الشرح الممتع على زاد المستقنع
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
إنَّ الحمدَ و نحمدُهُ، ونستعينُهُ ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنفسنا، وسَيِّئَاتِ أعمالنا، مَنْ يهده اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ؛ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ، صَلَّى' اللهُ عليه وعلى آلهِ وأصحابِهِ؛ والذين اتَّبعوهم بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
أمَّا بعدُ:
فإنَّ كتابَ "زاد المستقنع في اختصار المقنع" ـ تأليف: أبي النَّجا موسى' بن أحمد بن موسى' الحجاوي ـ كتابٌ قليلُ الألفاظِ، كثيرُ المعاني، اختصره من "المقنع"، واقتصرَ فيه على قولٍ واحدٍ، وهو الرَّاجحُ من مذهب الإمامِ أحمدَ بنِ حنبل، ولم يَخرُجْ فيه عن المشهور من المذهب عند المتأخرين إلا قليلاً.
وقد شُغِفَ به المبتدئون من طُلاب العلم على مذهب الحنابلة، وحَفِظَهُ كثيرٌ منهم عن ظهرِ قلبٍ.
وكان شيخُنَا عبدُ الرَّحمن بن ناصر بن سعدي ـ رحمه الله تعالى' ـ يَحُثُّنَا على' حفظه، ويدرِّسُنَا فيه.
وقد انتفعنا به كثيراً وو الحمد، وصرنا نُدرِّسُ الطلبةَ فيه بالجامع الكبير بعُنَيْزَة، بحلِّ ألفاظه، وتَبْيينِ معانيه، وذِكْرِ القولِ الرَّاجحِ بدليله أو تعليله. وقد اعتنى' به الطَّلبةُ وسَجَّلُوه وكتبوه.
ولما كَثُر تداولُه بين النَّاس عَبرَ الأشرطة والمذكِّرات؛ قام الشَّيخان الكريمان الدكتور سليمان بن عبدالله أبا الخيل، والدكتور خالد بن علي المشيقح بإخراجه في كتاب سميَ : "الشَّرح الممتع على زاد المستقنع"، فخرَّجا أحاديثَهُ، ورقما آياتِهِ، وعلَّقا عليه ما رأياه مناسباً، وطبعاه الطَّبعة الأُولى'، فجزاهما الله خيراً.(133/1)
ولما كان الشَّرحُ بالتَّقرير لا يساوي الشَّرحَ بالتَّحرير؛ من حيثُ انتقاءُ الألفاظ؛ وتحريرُ العبارة؛ واستيعابُ الموضوع؛ تَبيَّنَ أنَّ من الضَّروري إعادةَ النَّظر في الكتاب، وتهذيبه وترتيبه. وقد تَمَّ ذلك فعلاً ـ وو الحمد ـ ؛ فحذفنا ما لا يُحتاج إليه، وزدنا ما تدعو الحاجةُ إليه، وأبقينا الباقي على ما كان عليه.
وقد كان في مقدَّمة من قرأه علينا في هذه الطَّبعة الدكتور خالد بن علي المشيقح، جزاه الله خيراً.
ثم قام بتخريج أحاديثه، وتصحيح تجارب طباعته، أخونا عُمَر بن سُليمان الحَفْيَان، فجزاه الله خيراً.
واللهَ أسألُ؛ أن يجعلَ عملنا خالصاً لوجهه، موافقاً لمرضاته، وأن ينفعَ به عبادَه، إنَّه سميعٌ قريبٌ، وصَلَّى' الله وسَلَّمَ على نبينا محمَّد؛ وعلى آله وأصحابه؛ والتَّابعين لهم بإحسان.
المؤلِّف
قوله:"بسم الله" الجار والمجرور متعلِّق بمحذوفِ فعلٍ مؤخَّرٍ مناسبٍ للمقام، فعندما تريد أن تقرأ تقدِّر: بسم الله أقرأُ، وعندما تريد أن تتوضَّأ تقدِّر: بسم الله أتوضَّأُ، وعندما تريد أن تذبحَ تقدِّر: بسم الله أذبحُ.
وإنما قَدّرناه فعلاً، لأن الأصلَ في العمل للأفعال، وقدَّرناه مؤخَّراً لفائدتين:
الأولى: التبرُّكُ بالبَداءة باسم الله سبحانه وتعالى.
الثانية: إفادةُ الحصر؛ لأن تقديم المتعلِّق يُفيد الحصر.
وقدّرناه مناسباً؛ لأنه أدلُّ على المُراد، فلو قلت مثلاً ـ عندما تريد أن تقرأَ كتاباً ـ: بسم الله أبتدئُ، ما يُدْرَى بماذا تبتدئُ؟ لكن: بسم الله أقرأ، يكون أدلَّ على المراد الذي أبتدئُ به.(133/2)
قوله: "الله" هو عَلَمٌ على الباري جلَّ وعلا، وهو الاسم الذي تَتْبَعُه جميعُ الأسماء، حتى إنه في قوله تعالى: كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى" صراط العزيز الحميد (1) الله الذي له ما في السموات وما في الأرض {إبراهيم: 1، 2} لا نقولُ: إن لفظ الجلالة "الله" صفة، بل نقول: هو عطف بيان؛ لئلا يكون لفظُ الجلالة تابعاً.
قوله: "الرحمن" من أسماءِ الله المختصَّةِ به، لا يُطلقُ على غيره، و"الرَّحْمَن" معناه: المتَّصف بالرَّحمةِ الواسعةِ.
قوله: "الرَّحيم" المُراد به ذو الرحمةِ الواصلةِ.
وإذا جُمِعَا ـ الرَّحمن الرَّحيم ـ صار المُراد بالرَّحيم: الموصل رحمته إلى من يشاء من عباده كما قال تعالى: يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون {العنكبوت: 21} فهو ملحوظٌ فيه الفعل.
وأما الرَّحمن: فهو الموصوف بالرَّحمة الواسعة؛ فهو ملحوظٌ فيه الصِّفةُ.
وابتدأَ المؤلِّفُ كتابَه بالبسملة اقتداءً بكتاب الله عزَّ وجلَّ، فإنه مبدوءٌ بالبسملة، واقتداءً بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فإنَّه كان يبدأ كُتُبَه بالبسملة(1).
قوله: "الحمدُ و" جملةٌ اسميَّةٌ مكوَّنةٌ من مبتدأ وخبر.
والحمدُ: وصفُ المحمود بالكمال؛ سواءٌ كان ذلك كمالاً بالعَظَمة؛ أو كمالاً بالإحسان والنِّعمة. واللهُ تعالى محمودٌ على أوصافه كلِّها وأفعاله كلِّها.
واللام في قوله : "و" قال أهل العلم: إنها للاختصاص والاستحقاق.
فالمستحِقُّ للحمد المطلق هو الله، والمختصُّ به هو الله؛ ولهذا كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذا أصابته السَّرَّاءُ قال: "الحمدُ و الذي بنعَمِه تَتِمُّ الصَّالحاتُ"، وإن أصابته الضَّرَّاءُ قال: "الحمدُ و على كُلِّ حالٍ"(1).
أما غيرُ اللهِ فيُحمَدُ على أشياءَ خاصَّة؛ ليس على كُلِّ حالٍ.
وأيضاً: هي للاختصاص، فالذي يَختصُّ بالحمد المطلق الكامل هو الله، فهو المستحقُّ له المختصُّ به.(133/3)
قوله: "حمداً لا ينفد". "حمداً" مصدر، والعامل فيه المصدر قبله، فهو مصدرٌ معمولٌ لمصدر. والمصدر المحلَّى بأل يعمل مطلقاً، و "حمداً" مصدرٌ مؤكِّدٌ لعامله؛ لأنه إذا جاء المصدر بلفظ الفعل أو معناه فهو مؤكِّدٌ؛ كقوله تعالى: وكلم الله موسى" تكليما {النساء: 164} ومع كونه مؤكِّداً وُصِفَ بقوله: "لا يَنفَدُ". فيكون أيضاً بصفته مبيِّناً لنوع الحمد؛ وأنَّه حمدٌ لا ينفَدُ؛ بل هو دائم، والربُّ ـ عزَّ وجلَّ ـ مُستَحِقٌّ للحمد الذي لا ينفَد؛ لأن كمالاته لا تنفد، فكذلك الحمد - الذي هو وصفه بالكمالات - لا ينفَد.
وليس المعنى: لا ينفَدُ منِّي قولاً، لأنَّه ينفَد منه بموته، أو بتشاغله بغيره. ولكن المعنى: أن الله مُستحِقٌّ للحمد الذي لا ينفَدُ باعتبار ذلك منسوباً إليه؛ فهو لا ينفَدُ.
قوله : "أفْضَلَ ما يَنْبَغِي أنْ يُحمدَ" صفةٌ لحمد، فيكون المؤلِّفُ - رحمه الله - وصفَ الحمدَ بوصفين:
الأول: الاستمرارية بقوله: "لا ينفَدُ".
الثاني: كمالُ النَّوعيَّة بقوله :"أفضل ما ينبغي أن يُحمَد" أي: أفضل حَمْدٍ يَستحقُّ أن يُحمدَهُ.
وعلى هذا تكون "ما" نكرة موصوفة، يعني: أفضل حمدٍ ينبغي أن يُحمَده.
قوله: "وصلَّى الله وسَلَّمَ". لما أثنى على الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بما ينبغي أن يُثْنَى عليه ثَنَّى بالصَّلاة والسَّلام على أفضل الخلق.
قال بعضُ العلماء: الصَّلاةُ من الله: الرَّحمة، ومن الملائكة: الاستغفار، ومن الآدميين: الدُّعاء(1) .
والصَّواب ما قاله أبو العالية: "إنَّ الصَّلاة من الله ثناؤه على المُصَلَّى عليه في الملأ الأعلى"(2) أي: عند الملائكة المقرَّبين. وهذا أخصُّ من الرَّحمة المطلقة.(133/4)
وعلى هذا فمعنى "صَلَّى الله على محمَّدٍ": أي: أثنى عليه في الملأ الأعلى. وهذه جملة خبرية لفظاً، إنشائية معنى؛ لأنه ليس المراد أنِّي أُخبرُ بأن الله صلَّى؛ ولكنَّني أدعو الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أن يُصلِّيَ، فهي بمعنى الدُّعاء، والدُّعاءُ إنشاءٌ.
وقوله: "وسلَّم" وهذه أيضاً جملة ٌخبريةٌ لفظاً، إنشائيَّةٌ معنى، أي: أدعو اللهَ تعالى بأن يُسَلِّمَ على محمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
والسَّلامُ: هو السَّلامةُ من النقائص والآفات. فإذا ضُمَّ السَّلامُ إلى الصَّلاةِ حَصَلَ به المطلوبُ، وزال به المرهوبُ، فَبالسَّلامِ يزولُ المرهوبُ وتنتفي النقائصُ، وبالصَّلاة يحصُلُ المطلوبُ وتَثْبُتُ الكمالاتُ.
قوله: "المُصْطَفَيْن" بضمِّ الميم وفتح الفاء، أصله "المصتفين" بالتَّاء من الصفوة؛ وهي خُلاصة الشَّيء. والمصطفَوْنَ من الرُّسل: أولو العزم من الرُّسل. وهم مَذْكُورون في القرآن الكريم في موضعين: في سورة الأحزاب: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى" وعيسى ابن مريم {الأحزاب: 7} وفي الشُّورى: شرع لكم من الدين ما وصى" به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى" وعيسى"{الشورى: 13} فهؤلاء الخمسة هم أولو العزم ، ومحمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أفضلهم. ويدلُّ على ذلك أنَّه خاتمهم(1)، وإمامُهم ليلة المعراج(2)؛ ولا يُقَدَّم إلا الأفضل، وصاحبُ الشَّفاعةِ العُظمى(3) وهناك أشياء أخرى تدلُّ على أنَّه أفضلُهم لكن هذه أمثلة.
قوله: "محمَّد". عطفُ بيان؛ لأن أفضل المُصطَفَيْن لا يُعرف من هو، فإذا قيل: "محمَّد" صار عطفَ بيان بَيَّنَ مَنْ هذا الأفضل.
وهو: محمد بن عبدالله بن عبدالمطَّلب بن هاشم القُرشي؛ كما قال عن نفسه: "إن الله اصطفى من بني إسماعيل كِنانة، واصطفى من كِنانة قريشاً، واصطفى من قريشٍ بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم، فأنا خِيارٌ من خِيارٍ"(1).(133/5)
قوله: "وعلى آله". إذا ذُكِر "الآل" وحده فالمرادُ جميعُ أتباعه على دينه، ويدخلُ بالأولويَّة مَنْ على دينه من قرابته؛ لأنهم آلٌ من وجهين: من جهة الاتِّباع، ومن جهة القَرابة. وأما إذا ذُكِرَ معه غيرُه فإنَّه يكون المرادُ بحسب السِّياق، وهنا ذُكِرَ الآلُ والأصحابُ ومن تعبَّد، فنفسِّرُها بأنهم المؤمنون من قرابته؛ مثل عليِّ بن أبي طالب، وفاطمة، وابن عبَّاس، وحمزة، والعبَّاس، وغيرهم.
قوله : "وأصحابِه" جمع صَحْب، وصَحْبٌ اسم جمعِ صاحبٍ، فأصحابه: كُلُّ من اجتمع به مؤمناً به، ومات على ذلك، ولو لم يَرَهُ، ولو لم تَطُل الصُّحبةُ.
وهذا من خصائصه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، أما غيرُه من النَّاس فلا يكون صاحباً له إلا من لازمه مُدَّة ًيَستحِقُّ بها أن ينطبق عليه وصفُ صاحب.
قوله: "ومن تعبَّد". مَنْ: اسم موصول، وهي للعموم.
وقوله: "تعبَّد" أي: تعبَّد و؛ وتذلَّل له بالعبادة والطَّاعة.
والعبادة مبنيَّة على أمرين:
1ـ الحُبّ.2ـ التَّعظيم.
فبالحُبِّ يكون طلب الوصول إلى مرضات المعبود، وبالتَّعظيم يكون الهرب من الوقوع في معصيته؛ لأنك تعظِّمه فتخافه، وتحبّه فتطلبه.
وأما شرطا قَبولها فهما: الإخلاصُ و، والمتابعةُ لرسوله.
وكلمة "من تعبّد" عامة في كل من تعبَّد و من هذه الأمَّة، ومن غيرها؛ ولهذا قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في قولنا: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصَّالحين: "إنكم إذا قلتم ذلك فقد سلَّمتم على كُلِّ عبدٍ صالحٍ في السَّماء والأرض"(1) حتى الملائكة، وصالحو الجنِّ وأتباع الأنبياء السابقين يدخلون في هذا.(133/6)
وهل يدخل فيها أصحابُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وآله المؤمنون؟ هذا مبنيٌّ على الخلاف بين العلماء، هل إذا عطفنا العامَّ على الخاصِّ يكون الخاصُّ داخلاً في العام، أو خارجاً بالتَّخصيص؟ في هذا قولان: فمنهم من يقول: إنه داخل فيه؛ لأن العموم يشمله. ومنهم من يقول: إنَّ ذكره بخاصَّته يدلُّ على أنه غير مراد(2).
وهذا الخلاف قد يترتَّبُ عليه بعضُ المسائل، لكن من قال: إنه يدخل في العموم قال: إن الخاصَّ يكون مذكوراً مرَّتين: مرَّة بالخصوص، ومرَّة بالعموم.
قوله:"أما بعد" هذه كلمة يُؤتى بها عند الدُّخول في الموضوع الذي يُقْصَدُ.
وأما قول بعضهم: إنها كلمة يُؤتى بها للانتقال من أسلوب إلى آخر(1). فهذا غيرُ صحيح، لأنه ينتقلُ العلماء ُدائماً من أسلوبٍ إلى آخر، ولا يأتون بأمَّا بعدُ.
وأما إعرابها فنقول: "أما" نائبة عن شرط وفعلِ الشَّرط، والتَّقدير: مهما يكن من شيءٍ بعد ذلك فهذا مختصرٌ، فيكون "أما" بمعنى مهما يكن من شيء، و"بعدُ" ظرف متعلِّق بـ "يكن" المحذوفة مع شرطها؛ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ نصبٍ، لأنه حُذف المضافُ إليه، ونُوِيَ معناه، وهذه الظُّروف ـ بعدُ وأخواتها ـ إذا حُذف المضاف إليه ونُويَ معناه بُنيت على الضمِّ؛ كما في قوله تعالى : لله الأمر من قبل ومن بعد {الروم: 4}.
قوله:"مختصرٌ" مُفْتَعَلٌ فهو اسم مفعول.
والمختصر: قال العلماء: هو ما قلَّ لفظُه وكثُرَ معناه(2).
قوله: "في الفقه" الفقه لغةً: الفهم، ومنه قوله تعالى: ولكن لا تفقهون تسبيحهم {الإسراء: 44}. وقوله: قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول {هود: 91}. بمعنى لا نفهم.
وفي الشَّرع:معرفة أحكام الله العَقَديَّه والعَمَليَّة.(133/7)
فالفقه في الشَّرع ليس خاصَّاً بأفعال المكلَّفين، أو بالأحكام العمليَّة، بل يشمل حتى الأحكام العَقَديَّة، حتى إن بعضَ أهل العلم يقولون: إن عِلمَ العقيدة هو الفقهُ الأكبرُ(1). وهذا حَقٌّ، لأنك لا تتعبَّد للمعبود إلا بعد معرفة توحيده بربوبيّته وألوهيَّتِه وأسمائه وصفاته، وإلا فكيف تتعبَّد لمجهول؟!
ولذلك كان الأساسُ الأولُ هو التَّوحيدُ، وحُقَّ أن يُسمَّى بالفقه الأكبر.
لكنَّ مرادَ المؤلِّف هنا: الفقه الاصطلاحي وهو: معرفة الأحكام العمليَّة بأدلتها التفصيلِيَّة.
شرح التَّعريف:
قولنا: "معرفة" ولم نقل: علم؛ لأن الفقه إما علمٌ وإما ظنٌّ. وليس كل ُّمسائل الفقه علميَّة قطعاً، ففيه كثيرٌ من المسائل الظنِّيَّة، وهذا كثيرٌ في المسائل الاجتهادية التي لا يصلُ فيها الإنسان إلى درجة اليقين، لكن لا يُكلِّفُ اللهُ نفساً إلا وسعها.
فقولنا: "معرفةُ" لأجل أن يتناول العلم والظنَّ.
وقولنا: "العمليَّة" احترازاً من الأحكام العَقَديّة، فلا تدخل في اسم الفقه في الاصطلاح، وإن كانت تدخل في الشرع.
وقولنا "بأدلتها التفصيليَّة" احترازاً من أصول الفقه، لأن البحث في أصول الفقه في أدلة الفقه الإجمالية، وربما تأتي بمسألة تفصيليَّة للتمثيل فقط.
وعُلِمَ من قولنا: "بأدلَّتها" أن المقلِّدَ ليس فقيهاً؛ لأنه لا يعرف الأحكام بأدلَّتها، غايةُ ما هنالك أن يكرِّرَها كما في الكتاب فقط. وقد نقل ابنُ عبد البَرِّ الإجماعَ على ذلك(1).
وبهذا نعرف أهميَّة معرفة الدَّليل، وأن طالب العلم يجب عليه أن يتلقَّى المسائل بدلائلها، وهذا هو الذي يُنجيه عند الله سبحانه وتعالى؛ لأنَّ الله سيقولُ له يوم القيامة : ماذا أجبتم المرسلين {القصص: 65} ولن يقول: ماذا أجبتم المؤلِّفَ الفلاني. فإذاً لابُدَّ أن نعرفَ ماذا قالت الرُّسل لنعمل به.(133/8)
ولكن التَّقليد عند الضَّرورة جائزٌ لقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون {النحل: 43} فإذا كُنَّا لا نستطيع أن نعرف الحقَّ بدليله فلا بُدَّ أن نسأل؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ: إن التَّقليد بمنزلة أكل الميتة، فإذا استطاع أن يستخرج الدَّليلَ بنفسه فلا يحلُّ له التقليد(2).
قوله : "من مُقْنِعِ" جار ومجرور، صفة لمختصر. و "مُقْنِع" اسم كتاب للموفّق مؤلّف "زاد المستقنع " نفسِه .
قوله: "الإمام" هذا من باب التَّساهل بعض الشيءِ، لأن الموفَّق ليس كالإمام أحمد، أو الشَّافعي، أو مالك، أو أبي حنيفة، لكنه إمام مقيَّد، له مَنْ يَنْصُرُ أقوالَه ويأخذُ بها، فيكون إماماً بهذا الاعتبار، أما الإمامةُ التي مثل إمامة الإمام أحمد ومَنْ أشْبَهَهُ فإنَّه لم يصلْ إلى دَرجتها. وقد كَثُر في الوقت الأخير إطلاق الإمام عند النَّاس؛ حتى إنه يكون الملقَّب بها من أدنى أهل العلم، وهذا أمرٌ لو كان لا يتعدَّى اللفظَ لكان هيِّناً، لكنه يتعدَّى إلى المعنى؛ لأنَّ الإنسان إذا رأى هذا يُوصفُ بالإمام تكون أقوالُه عنده قدوة؛ مع أنَّه لا يستحِقُّ. وهذا كقولهم الآن لكل مَنْ قُتِلَ في معركة: إنَّه شهيد. وهذا حرام، فلا يجوز أن يُشْهَدَ لكل شخصٍ بعينه بالشَّهادة، وقد بَوَّبَ البخاريُّ ـ رحمه الله ـ على هذه المسألة بقوله:(بابٌ: لا يقول: فلانٌ شهيدٌ.وقال النبيُّ صََلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "واللهُ أعلمُ بمن يُجاهدُ في سبيله، والله أعلم بمن يُكْلَمُ في سبيله")(1). وعمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ نهى عن ذلك(2).
نعم يقال: من قُتِل في سبيل الله فهو شهيد، ومن قُتِل بهدمٍ، أو غرق فهو شهيد، لكن لا يُشْهَدُ لرَجُلٍ بعينه.
ولو أنَّنَا سوَّغنا لأنفسنا هذا الأمر؛ لساغَ لنا أن نشهد للرَّجُلِ المعيَّن الذي مات على الإيمان أنَّه في الجنَّة؛ لأنَّه مؤمنٌ، وهذا لا يجوز.(133/9)
قوله: "الموفَّق أبي محمَّد". الموفَّق: اسم مفعول، وهو لقب لهذا الرَّجل العالم رحمه اللهُ(1).
"والمقنع": كتابٌ متوسِّطٌ يذكر فيه مؤلِّفُه القولين، والرِّوايتين، والوجهين، والاحتمالين في المذهب، ولكن بدون ذِكْرِ الأدلَّة أو التَّعليل إلا نادراً.
وله كتاب فوقه اسمه "الكافي" يذكر القولين، أو الرِّوايتين، أو الوجهين في المذهب، أو الاحتمالين، ولكنه يذكر الدَّليل والتَّعليل، إلا أنَّه لا يخرج عن مذهب أحمد.
وله كتاب فوق ذلك هو "المغني" فقه مُقَارَنٌ يذكر القولين، والرِّوايتين عن الإمام أحمد وغيره من علماء السَّلف والخلف.
وله كتاب "العُمدة في الفقه" وهو مختصر على قول واحد، لكنه يذكر الأدلة مع الأحكام.
ولذا قيل:
وذلك مما قاله الأديب يحيى بن يوسف الصَّرصري من قصيدة طويلة يُثني بها على الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ويمدح النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأصحابه ـ رضي الله عنهم ـ ويذكر جماعة من التَّابعين وتابعيهم، ويَذكر الإمام أحمد وجماعةً من أصحابه رحمهم الله تعالى(1).
وقد تُوفِّيَ الموفَّق؛ عبدالله بن أحمد بن قُدامة المقدسي سنة (620هـ).
قوله : "على قولٍ واحد" بمعنى أنه لا يأتي بأكثرَ من قولٍ لأجل الاختصار؛ وعدم تشتيت ذهن الطَّالب.
قوله: "وهو الرَّاجح" يعني: الرَّاجح من القولين، وقد لا يكون في المسألة إلا قولٌ واحد.
قوله :"في مذهب أحمد" المذهب في اللُّغَةِ: اسم لمكان الذَّهاب، أو زمانه، أو الذَّهابِ نفسِه.
وفي الاصطلاح: مذهب الشَّخص: ماقاله المجتهدُ بدليلٍ، ومات قائلاً به، فلو تغيَّر قولُه فمذهبه الأخير.
وقولنا: ما قاله المجتهدُ. خرج به ما قاله المقلِّدُ؛ لأن المقلِّدَ لا مذهبَ له، وليس عنده علم، وقد تقدَّم حكايةُ ابنِ عبد البَرِّ الإجماعَ على أنَّ المقلِّد ليس عالماً(1)، ولهذاقال ابنُ القيم ـ رحمه الله ـ في النونيَّة:(133/10)
وأحمد: هو ابن حَنْبَل الشيباني، إمام أهل السُّنَّة والفقه والحديث. فهو إمام أهل السُّنَّة في العقائد والتَّوحيد، وإمام أهل الفقه في المسائل الفقهية، وإمام أهل الحديث في روايته ونقد رجاله. وقد جرى عليه من المِحَنِ في ذات الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ما نرجو له به رِفْعَةَ الدَّرجات، وتكفير السِّيئات، ولم يصمُدْ أمام المأمون وأعوانه من المُحَرِّفين لكلام الله إلا هو ونفرٌ قليل؛ ولكنَّه ـ رحمه الله ـ أشدُّهم، وأوثقهم عند العامَّة؛ ولهذا كان النَّاس ينتظرون ما يقول أحمد في خلق القرآن، إلا أنَّه جزم بأنَّ القرآنَ كلام ُالله غيرُ مخلوقٍ، حتى إنهم كانوا يضربونه بالسِّياط فيُغشى عليه، ويجرُّونه في الأسواق، فأثابه الله بأن جعله إماماً وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون {السجدة: 24}.
واعلمْ أن قول العلماء: مذهب فلان، يُراد به أمران:
الأول: المذهب الشَّخصي.
الثاني: المذهب الاصطلاحي
والغالب عند المتأخِّرين إذا قالوا: هذا مذهب الشَّافعي، أو أحمد، أو ما أشبه ذلك، فالمُراد المذهب الاصطلاحي، حتى إنَّ الإمام نفسَه قد يقول بخلاف ما يُسمَّى بمذهبه، ولكنهم يجعلون مذهبه ما اصطلحوا عليه.
ومُراد المؤلِّف هنا بمذهب أحمد: المذهب الاصطلاحي.
قوله: "وربما حَذفتُ منه مسائلَ" منه: الضَّميرُ عائدٌ على "المقنع".
والمسائل: جمع مسألة، والمسألة ما يُستدلُّ له في العلم؛ ولهذا قالوا: العلم دلائل ومسائل. والدلائل سمعية: إن كانت نصًّا من كتاب أو سُنَّة أو إجماع، أو عقليَّة: إن كانت قياساً.
قوله: "نادرةَ الوقوعِ" يعني: قليلة الوقوع؛ لأن المسائل النادرة لا ينبغي للإنسان أن يشغل بها نفسه.
قوله: "وزدتُ ما على مثله يُعتَمد"."ما" اسم موصول بمعنى الذي، صلتها قوله: "يعتمد"، و "على مثله" متعلِّق بـ "يعتمد"، والمعنى: زدت من المسائل أشياء مهمة يُعتمد عليها.
إذاً؛ هذا الكتاب اشتمل على ثلاثة أمور:(133/11)
الأول: الاقتصار على قول واحد.
الثاني: حذف المسائل النادرة.
الثالث: زيادة ما يُعتمد عليه من المسائل.
قوله: "إذ الهِمَمُ قد قَصُرَتْ" إذ: حرف تعليل، والهمم مبتدأ، وجملة "قد قصرت" خبره.
والهمم: جمع همَّة وهي الإرادة الجازمة، وقد يُراد بالهمَّة ما دون الإرادة الجازمة، وهي شاملة لهذا وهذا.
والجملة تعليلٌ لقوله: "مختصر"، و"حَذفتُ".
قوله: "والأسباب المثبِّطةُ عن نيل المراد قد كَثُرت" مع قصور الهمم هناك صوارف، ولهذا قال: "والأسباب.... إلخ".
الأسباب: جمع سبب. وهو في اللغة: ما يُتوَصَّلُ به إلى المطلوبِ، وهو المراد هنا.
قوله: "المثبِّطة" بمعنى المفتِّرة للهمم.
قوله : "قد كثُرت" ولكن مع الاستعانة بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ وبذل المجهود يحصُل المقصود. وليُعلَمْ أنه كلَّما قَويَ الصَّارف، فإن الطَّالب في جهاد، وأنه كلَّما قوِيَ الصَّارف ودافعه الإنسان فإنه ينال بذلك أجرين: أجر العمل، وأجر دفع المقاوم؛ ولهذا قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إن أيام الصَّبر للعامل فيهن أجر خمسين من الصَّحابة"(1). لأن هناك أسباباً مثبِّطة كثيرة، ولكن إذا أَعْرَضْتَ فهذه المصيبة.
والذُّنوب من أكبر العوائق. قال الله تعالى: فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم {المائدة: 49}. وهذا دليل على أنَّ تولِّي الإنسان عن الذِّكر سببه الذُّنوب، ولكن مع الاستغفار وصدق النيَّة يُيسِّر الله الأمر.(133/12)
واستنبط بعض العلماء من قوله تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما 105 واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما {النساء: 105، 106} أنَّه ينبغي للإنسان إذا نزلت به حادثةٌ، سواءٌ إفتاء أو حكم قضائيٌّ، أن يُكْثِرَ من الاستغفار(2)؛ لأنَّ الله قال: لتحكم ثم قال: واستغفر الله وهذا ليس ببعيد؛ لأنَّ الذُّنوب تمنع من رؤية الحقِّ، قال تعالى: كلا بل ران على" قلوبهم ما كانوا يكسبون {المطففين: 14}.
قوله : "ومع صِغر حجمه حَوى ما يُغني عن التَّطويل". حوى: جَمَعَ. وهو أجمع من كتاب الشيخ مرعي ـ رحمه الله ـ "دليل الطَّالب"، و "دليل الطَّالب" أحسن من هذا ترتيباً؛ لأنه يذكر الشُّروط، والأركان، والواجبات، والمستحبَّات، على وجه مفصَّل.
قوله :"ولاحول ولا قُوَّة إلا بالله". لا: نافية للجنس. والحَوْلُ: التَّحوُّل وتَغيُّر الشيء عن وجهه.
و القوَّة: صفة يستطيع بها القويُّ أن يفعل بدون ضعف.
قوله: "إلا بالله" الباء للاستعانة. فكأن المؤلِّف استعان بالله تعالى أن يُيَسِّرَ له الأمر.
قوله: "وهو حسبنا" الضَّمير "هو" عائدٌ إلى الله، والحَسْبُ بمعنى الكافي، وكلُّ من توكَّلَ على الله فهو حَسْبُه، كما قال تعالى: ومن يتوكل على الله فهو حسبه {الطلاق: 3}. ومن لا يتوكَّل عليه فليس الله حَسْبَه، بل هو موكول إلى من توكَّل عليه.
قوله :"ونِعْمَ الوكيل" الوكيل: فاعل، وقال النَّحْويُّون :إن "نِعْم" يحتاج إلى فاعل ومخصوص. والمخصوصُ هنا محذوفٌ والتَّقدير: نِعْمَ الوكيل الله.
والوكيل: هو الذي فُوِّضَ إليه الأمر. فيكون تفويضنا الأمر إلى الله تفويضَ افتقار وحاجة؛ لأنه هو الذي منه الإعداد والإمداد، كما أنَّه هو الذي منه الإيجاد.
ونظيرُ هذا في القرآن قوله تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل {آل عمران: 173}(133/13)
قال ابن عبَّاس رضي الله عنهما :" قالها إبراهيمُ عليه الصَّلاة والسَّلام حين أُلقيَ في النَّار" (1) دفعاً للمكروه، وطلباً للمحبوب وهو النَّجاة.(133/14)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
كِتَابُ الطَّهارة
محمد بن صالح العثيمين
وهِيَ ارتِفَاعُ الحَدَثِ،
ومَا في مَعْنَاهُ، وَزَوَالُ الخَبَثِ.
...............................................
المِياهُ ثلاثةٌ: طَهُورٌ
لا يَرْفعُ الحَدَثَ،
ولا يُزِيْلُ النَّجَسَ الطَّارِيءَ غَيْرُهُ.
..................................................
وَهُوَ البَاقِي على خِلْقَتِهِ، فَإنْ تَغَيَّرَ بغير مُمَازجٍ كَقِطَع كَافُور،
..............................................
أو دُهْنٍ، أو بملْحٍ مَائِيٍّ، أوْ سُخِّن بنَجَسٍ كُره.
وإنْ تَغَيَّربمكثِهِ، أو بما يُشقُّ صَونُ الماءِ عنه من نابتٍ فيه، وَوَرَقِ شَجَرٍ،
أو بمُجَاوَرةِ مَيْتةٍ، أُو سُخِّنَ بالشَّمس،
أو بطَاهر؛ لم يُكْرَه، وإن استُعْمِلَ في طهارةٍ مُسْتَحبَّةٍ كتجديد وُضُوءٍ،
وغُسْل جُمُعَةٍ، وغَسْلةٍ ثانيةٍ، وثالثةٍ كُرِهَ.
وإن بلغ قُلَّتين ـ وهو الكثيرُ ـ وهما خَمسمائة رطْلٍ عراقيٍّ تقريباً،
فَخالَطَتْهُ نجاسة ٌ
غَيرُ بولِ آدميٍّ، أو عَذِرتِه المائعةِ، فلم تغيِّرهُ،
.......................................
أوْ خَالَطَهُ البَولُ، أو العَذِرَةُ، ويَشُقُّ نَزْحُه كمَصَانع طَرِيقِ مَكَّةَ فَطَهُورٌ.
قوله: "كتاب" فِعال بمعنى مفعول: أي مكتوب. يعني: هذا مكتوب في الطَّهارة.
والطَّهارة لُغةً: النَّظافة. طَهُرَ الثَّوبُ من القَذَر، يعني: تنظَّفَ.
وفي الشَّرع: تُطلقُ على معنيين:
الأول: أصْل، وهو طهارة القلب من الشِّرك في عبادة الله، والغِلِّ والبغضاء لعباد الله المؤمنين، وهي أهمُّ من طهارة البدن؛ بل لا يمكن أن تقومَ طهارة البدن مع وجود نَجَس الشِّرك قال تعالى: إنما المشركون نجس {التوبة: 28}.
وقال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّ المؤمن لا يَنْجُسُ"(1).
الثَّاني: فَرْع، وهي الطَّهارة الحسِّيَّةُ.(134/1)
قوله: "وهي ارتفاعُ الحَدَث" أي: زواله.
والحَدَثُ: وصفٌ قائمٌ بالبدن يمنع من الصَّلاة ونحوها مما تُشْتَرطُ له الطَّهارةُ.
مثاله: رجل بَالَ واستنجى، ثم توضَّأ. فكان حين بوله لا يستطيع أن يُصلِّيَ، فلما توضأ ارتفع الحَدَثُ، فيستطيع بذلك أن يصلِّيَ لزوال الوصف المانع من الصَّلاة.
قوله "وما في معناه" الضَّمير يعود على "ارتفاع"، لا على الحَدَث، أي: وما في معنى ارتفاع الحَدَث، فلا يكون فيها ارتفاع حَدَث، ولكن فيها معناه.
مثاله: غسل اليدين بعد القيام من نوم الليل، فهذا واجب، ويُسمَّى طهارة، وليس بحَدَث؛ لأنَّه لا يرتفع به الحَدَث، فلو غُسلت الأيدي ما جازت الصَّلاة. وأيضاً لو جَدّد رجلٌ وضُوءَه، أي توضَّأ وهو على وضُوء، فلا يكون فيه ارتفاع للحدث مع أنه يُسمَّى طهارة؛ لأنَّه في معنى ارتفاع الحدث.
وأيضاً: صاحب سَلَسِ البول لو توضَّأ من البول ليُصلِّيَ، فيكون هذا الوضُوء حصل به معنى ارتفاع الحدث؛ لأن البول لم يزل.
فصار معنى ارتفاع الحدث: هو كل طهارة لا يحصُل بها رفع الحَدَث، أو لا تكون عن حَدَث.
قوله: "وزوال الخَبَث" لم يقل: وإزالة الخَبَث. فزوال الخَبَث طهارة، سواءٌ زال بنفسه، أو زالَ بمزيل آخر، فيُسمَّى ذلك طهارةٌ.
والخَبَثُ: هو النَّجاسة.
والنَّجاسة: كلُّ عَينٍ يَحْرُم تناولُها؛ لا لحرمتها؛ ولا لاستقذارها؛ ولا لضررٍ ببدَنٍ أو عقلٍ. وإن شئت فقل: كلُّ عينٍ يجب التَّطهُّرُ منها. هكذا حدُّوها(1).
فقولنا: "يحرم تناولُها" خرج به المباحُ، فكلُّ مباحٍ تناولُه فهو طاهر.
وقولنا: "لا لضررها" خرج به السُّمُّ وشبهُه؛ فإنَّه حرام لضرره، وليس بنجس.
وقولنا: "ولا لاستقذارها": خرج به المخاطُ وشبهُه، فليس بنجس؛ لأنَّه محرَّمٌ لاستقذاره.
وقولنا: "ولا لحرمتها" خرج به الصَّيْدُ في حال الإحرام، والصَّيْدُ داخلَ الحرمِ؛ فإنه حرام لحرمته.(134/2)
فيكون قوله: "وزوال الخَبَث" أعمُّ من إزالة الخَبَث؛ لأن الخَبَث قد يزول بنفسه. فمثلاً: إذا فرضنا أن أرضاً نجسة بالبول، ثم جاء المطر وطَهَّرَها، فإنها تَطْهُرُ بدون إزالةٍ مِنَّا، ولو أنَّ عندنا ماءً متنجِّساً بتغيُّر رائحته، ثم زالت الرائحة بنفسها طَهُرَ، ولو كان عندنا خَمْرٌ ثم تخلَّل بنفسه صار طاهراً، وإن كان الصَّواب أن الخمرَ ليست بنجسة؛ ولو كانت على صفتها خَمْراً؛ كما سيأتي ـ إن شاء الله ـ في باب "إزالة النجاسة".
وبدأ المؤلِّفُ بالطَّهارة لسببين:
الأول: أنَّ الطَّهارة تخليةٌ من الأذى.
الثاني: أنَّ الطَّهارةَ مفتاح الصَّلاة. والصَّلاة آكدُ أركان الإسلام بعد الشَّهادتين، ولذلك بدأ الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بكتاب الطَّهارة.
والطَّهارة تحتاج إلى شيء يُتطهَّرُ به، يُزَال به النَّجسُ، ويُرفعُ به الحدثُ وهو الماء؛ ولذلك بدأ المولِّفُ به.
قوله: "المياهُ ثلاثةٌ: طَهُورٌ" المياه: جمعُ ماء، والمياه ثلاثة أقسام:
الأول: الطَّهور، بفتح الطَّاء على وزن فَعول، وفَعول: اسم لما يُفعَلُ به الشيءُ، فالطَّهورُ ـ بالفتح ـ: اسم لما يُتطهَّر به، والسَّحور ـ بالفتح ـ: اسم للطَّعام الذي يُتسحَّرُ به.
وأما طُهور، وسُحور بالضمِّ، فهو الفعل.
والطَّهور: الماء الباقي على خلقته حقيقة، بحيث لم يتغيَّر شيء من أوصافه، أو حكماً بحيث تغيَّر بما لا يسلبُه الطَّهوريَّةَ.
فمثلاً: الماء الذي نخرجه من البئر على طبيعته ساخناً لم يتغيَّر، وأيضاً: الماء النَّازل من السَّماء طَهور، لأنَّه باقٍ على خلقته. هذان مثالان للباقي على خلقته حقيقة، وقولنا: "أو حُكْماً" كالماء المتغيِّر بغير ممازج، أو المتغيِّر بما يشقُّ صون الماء عنه، فهذا طَهور لكنه لم يبقَ على خلقته حقيقة، وكذلك الماء المسخَّن فإنه ليس على حقيقته؛ لأنَّه سُخِّن، ومع ذلك فهو طَهور؛ لأنَّه باقٍ على خلقته حكماً.(134/3)
قوله :"لا يرفع الحدث غيره" أي: لا يرفع الحَدَث إلا الماء الطَّهُور. فالبنزين وما أشبهه لا يرفع الحَدَثَ؛ فكلُّ شيء سوى الماء لا يرفع الحَدَث، والدَّليل: قوله تعالى: فلم تجدوا ماء فتيمموا {المائدة: 6} فأمر بالعدول إلى التيمُّم إذا لم نجد الماء، ولو وجدنا غيره من المائعاتِ والسوائل.
والتُّراب في التيمُّم على المذهب لا يرفع الحَدَث. والصَّواب أنَّه يرفع الحَدَث(1) لقوله تعالى عَقِبَ التيمُّم: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم {المائدة: 6} ومعنى التَّطهير: أن الحَدَث ارتفع، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: " جُعلت ليَ الأرضُ مسجداً وطَهُوراً" (2) بالفتح، فيكون التُّراب مطهِّراً. لكن إذا وُجِدَ الماءُ، أو زال السَّبب الذي من أجله تيمَّم؛ كالجرح إذا برئ، فإنه يجب عليه أن يتوضَّأ، أو يغتسل إن كان تيمَّم عن جنابة.
قوله: "ولا يزيل النَّجس الطارئَ غيرُه" أي : لا يزيل النَّجس إلا الماء، والدَّليل: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في دم الحيض يصيب الثَّوب: "تَحُتُّه، ثم تَقْرُصُه بالماء، ثم تَنْضِحُه، ثم تُصلِّي فيه"(1). والشَّاهد قوله: "بالماء" فهذا دليل على تعيُّن الماء لإزالة النَّجاسة.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الأعرابي الذي بَالَ في المسجد:"أهْريقوا على بوله سَجْلاً من ماء"(2).
"ولمَّا بال الصبيُّ على حِجْره؛ دعا بماء فأتْبَعَهُ إيَّاه"(3)، فدلَّ هذا على أنَّه لا يزيل النَّجَس إلا الماء، فلو أزلنا النَّجاسة بغير الماء لم تَطْهُر على كلام المؤلِّفِ.(134/4)
والصَّواب: أنَّه إذا زالت النَّجاسة بأي مزيل كان طَهُر محلُّها؛ لأنَّ النَّجاسة عينٌ خبيثة، فإذا زالت زال حكمها، فليست وصفاً كالحدث لا يُزال إلا بما جاء به الشَّرع، وقد قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ : "إذا زال تغيُّر الماء النَّجس الكثير بنفسه صار طَهُوراً(1)، وإذا تخلَّلت الخمر بنفسها صارت طاهرة"(2) وهذه طهارة بغير الماء. وأما ذِكْرُ الماء في التَّطهير في الأدلة السَّابقة فلا يدلُّ تعيينُه على تعيُّنِهِ؛ لأن تعيينَه لكونه أسرعَ في الإزالة، وأيسرَ على المكلَّف.
وقوله: "النَّجس الطَّارئ" أي: الذي وَرَدَ على محَلٍّ طاهر.
فمثلاً: أن تقع النَّجاسة على الثَّوب أو البساط، وما أشبه ذلك، فقد وقعت على محَلٍّ كان طاهراً قبل وقوع النَّجاسة، فتكون النَّجاسةُ طارئةً.
أما النَّجاسة العينيَّة فهذه لا تطهُر أبداً، لا يطهِّرُها لا ماء ولا غيره؛ كالكلب، فلو غُسِلَ سبع مرات إحداهن بالتُّراب فإنَّه لا يَطْهُر؛ لأنَّ عينَه نجسه.
وذهب بعض العلماء إلى أنَّ النَّجاسة العينية إذا استحالت طَهُرت(3)؛ كما لو أوقد بالرَّوث فصار رماداً؛ فإنه يكون طاهراً، وكما لو سقط الكلب في مملحة فصار ملحاً؛ فإنه يكون طاهراً، لأنَّه تحوَّلَ إلى شيء آخر، والعين الأولى ذهبت، فهذا الكلب الذي كان لحماً وعظاماً ودماً، صار ملحاً. فالملح قضى على العين الأولى.
قوله: "وهو الباقي على خلقته" هذا تعريفُ الماء الطَّهور، وقد تقدم شرحُه.
قوله: "فإن تغيَّر بغير ممازجٍ كقطع كافور" إن تغيَّر الماءُ بشيء لا يُمازجه كقطع الكافور؛ وهو نوع من الطِّيب يكون قِطعاً، ودقيقاً ناعماً غير قطع، فهذه القطع إذا وُضِعَت في الماء فإنها تُغيِّر طعمه ورائحته، ولكنها لا تمازجُه أي: لا تُخالطه، أي: لا تذوب فيه، فإذا تغيَّر بهذا فإنه طَهُور مكروه.
فإن قيل: كيف يكون طهوراً وقد تغيَّر؟(134/5)
فالجواب: إن هذا التغيُّر ليس عن ممازجة، ولكن عن مجاورة، فالماء هنا لم يتغيَّر لأن هذه القطع مازجته، ولكن لأنها جاورته.
فإن قيل: لماذا يكون مكروهاً؟
فالجواب: لأن بعض العلماء يقول: إنه طاهر غير مطهِّر(1). فيرون أن هذا التغيُّر يسلبه الطَّهوريَّةَ فصار التَّعليل بالخلاف، فمن أجل هذا الخلاف كُرِهَ.
والصَّواب: أن التَّعليل بالخلاف لا يصحُّ؛ لأنَّنا لو قُلنا به لكرهنا مسائل كثيرة في أبواب العلم، لكثرة الخلاف في المسائل العلمية، وهذا لا يستقيم.
فالتَّعليل بالخلاف ليس علَّة شرعية، ولا يُقبل التَّعليل بقولك: خروجاً من الخلاف؛ لأنَّ التَّعليل بالخروج من الخلاف هو التَّعليل بالخلاف. بل نقول: إن كان لهذا الخلاف حظٌّ من النَّظر، والأدلَّة تحتمله، فنكرهه؛ لا لأنَّ فيه خلافاً، ولكن لأنَّ الأدلَّة تحتمله، فيكون من باب "دَعْ ما يَريبُك إلى ما لا يَريبُك"(1).
أما إذا كان الخلاف لا حَظَّ له من النَّظر فلا يُمكن أن نعلِّلَ به المسائل؛ ونأخذ منه حكماً.
فليس كلُّ خلافٍ جاء مُعتَبراًإلا خلافٌ له حظٌّ من النَّظر(2)
لأنَّ الأحكام لا تثبت إلاّ بدليل، ومراعاة الخلاف ليست دليلاً شرعياً تثبتُ به الأحكامُ، فيقال: هذا مكروه، أو غير مكروه.
قوله: "أودُهْنٍ" معطوف على "غير ممازج" أو على "قطع كافور". مثاله: لو وضع إنسان دُهْناً في ماء، وتغيَّر به، فإنه لا يسلبه الطَّهوريةَ، بل يبقى طَهوراً؛ لأن الدُّهن لا يمازج الماء فتجده طافياً على أعلاه، فتغيُّره به تغيُّر مجاورة لا ممازجة.
قوله: "أو بملح مائي" وهو الذي يتكوَّن من الماء، فهذا الملح لو وضعتَ كِسْرة منه في ماء، فإنه يُصبح مالحاً، ويبقى طَهوراً مع الكراهة خروجاً من الخلاف(1).
فإن قيل: لماذا لا تنسلب طَهوريته؟
فالجواب: أن يقال: لأن هذا الملح أصله الماء.
والتَّعليل بالخلاف للكراهة قد تقدَّم الكلام عليه.(134/6)
وعُلِم من قوله: "مائي" أنَّه لو تغيَّر بملح معدني يُستخرَجُ من الأرض فإنه يسلبه الطَهوريَّة َعلى المذهب، فيكون طاهراً غير مطهِّر.
قوله: "أو سُخِّن بنَجَسٍ كُرِه" أي: إذا سُخِّن الماءُ بنجَسٍ تَغيَّر أو لم يتغيَّر فإنه يُكره.
مثاله: لو جمع رجلٌ روث حمير، وسخَّن به الماء فإنه يُكره، فإن كان مكشوفاً فإنَّ وجه الكراهة فيه ظاهر، لأن الدُّخان يدخله ويؤثِّر فيه.
وإن كان مغطَّى، ومحكم الغطاء كُره أيضاً؛ لأنَّه لا يَسْلَمُ غالباً من صعود أجزاء إليه. والصَّواب: أنَّه إذا كان محكم الغطاءِ لا يكره.
فإن دخل فيه دخان وغَيَّرَهُ، فإنه ينبني على القول بأن الاستحالةَ تُصيِّرُ النَّجس طاهراً، فإن قلنا بذلك لم يضر. وإن قلنا بأن الاستحالة لا تُطهِّر؛ وتغيَّر أحد أوصاف الماء بهذا الدُّخان كان نجساً.
قوله: "وإن تغيَّرَ بمكثه" أي: بطول إقامته، فلا يضرُّ، لأنه لم يتغيَّر بشيء حادث فيه، بل تغيَّر بنفسه، فلا يكره.
قوله: "أو بما يُشقُّ صون الماء عنه من نابتٍ فيه ووَرَقِ شَجَرٍ" مثل: غدير نَبَتَ فيه عُشبٌ، أو طُحلب، أو تساقط فيه ورقُ شجر فتغيَّر بها، فإنَّه طَهُورٌ غير مكروه؛ ولو تغيَّر لونُه وطعمُه وريحُه. والعِلَّة في ذلك أنه يشقُّ التحرُّز منه، فيشُقُّ ـ مثلاً ـ أن يمنع أحدٌ هذه الأشجار من الرِّياح حتى لا تُوقع أوراقها في هذا المكان. وأيضاً يشُقُّ أن يمنع أحدٌ هذا الماء حتى لا يتغيَّر بسبب طول مُكثه.
ولو قلنا للنَّاس: إن هذا الماء يكون طاهراً غيرَ مطهِّر، لشققنا عليهم.
وإن تغيَّر بطين كما لو مشى رجل في الغدير برجليه، وأخذ يحرِّك رجليه بشدَّة حتى صار الماء متغيِّراً جدًّا بالطِّين؛ فإنَّ الماء طَهُورٌ غيرُ مكروه؛ لأنه تغيَّر بمُكْثِه.(134/7)
قوله: "أو بمجَاورة مَيْتَةٍ" مثاله: غدير عنده عشرون شاةً ميتة من كُلِّ جانب، وصار له رائحة كريهة جدًّا بسبب الجِيَفِ. يقول المؤلِّفُ: إنه طَهُور غير مكروه؛ لأن التغيُّر عن مجاورة، لا عن ممازجة. وبعض العلماء حكى الإجماع على أنه لا ينجس بتغيُّره بمجاورة الميتة(1)، وربما يُستَدَلُّ ببعض ألفاظ الحديث :"إنَّ الماءَ طاهرٌ، إلا إن تغيَّر طعمُه أو لونه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه(2)" على القول بصحَّة الحديث.
ولا شكَّ أن الأَوْلَى التنزُّه عنه إن أمكن، فإذا وُجِدَ ماء لم يتغيَّر فهو أفضل. وأبعد من أن يتلوَّث بماء رائحته خبيثة نجسة، وربما يكون فيه من النَّاحية الطبيَّة ضرر، فقد تحمل هذه الروائح مكروبات تَحُلُّ في هذا الماء.
قوله: "أو سُخِّن بالشَّمس" أي: وُضِعَ في الشَّمس ليسْخُنَ. مثاله: شخص في الشِّتاء وضع الماء في الشمس ليسْخُنَ فاغتسل به، فلا حرج، ولا كراهة.
قوله: "أو بطاهر" يعني: أو سُخِّن بطاهر مثل الحطب، أو الغاز، أو الكهرباء، فإنه لا يُكره.
قوله: "وإن استُعْمِل" الضَّمير يعود على الماء الطَّهور. والاستعمال: أن يُمَرَّ الماء على العضو، ويتساقط منه، وليس الماء المستعمل هو الذي يُغْتَرفُ منه، بل هو الذي يتساقط بعد الغَسْل به.
مثاله: غسلت وجهك، فهذا الذي يسقط من وجهك هو الماء المستعمل.
قوله: "في طهارة مستحبَّة" أي: مشروعة من غير حَدَث.
قوله: "كتجديد وضوء" تجديد الوُضُوء سُنَّة، فلو صَلَّى إنسان بوُضُوئه الأول ثم دخل وقت الصَّلاة الأُخرى، فإنه يُسنُّ أن يجدِّدَ الوُضُوء ـ وإن كان على طهارة ـ فهذا الماء المستعمل في هذه الطَّهارة طَهُور لكنه يُكره.
يكون طَهُوراً؛ لأنه لم يحصُلْ ما ينقله عن الطَّهورية، ويكون مكروهاً للخلاف في سلبه الطَّهورية؛ لأن بعض العلماء قال: لو استُعْمل في طهارة مستحبَّة فإنه يكون طاهراً غير مطهِّر(1). وقد سبق الكلام على التَّعليل بالخلاف.(134/8)
قوله "وغُسْل جُمُعَة" هذا على قول الجمهور أن غُسْل الجمعة سُنَّةٌ(1)، فإذا استُعْمِل الماء في غُسْلِ الجمعة فإنه يكون طَهُوراً مع الكراهة.
قوله: "وغَسْلة ثانية وثالثة كُرِهَ" الغَسْلةُ الثانية والثالثة في الوُضُوء ليست بواجبة، والدَّليل قوله تعالى : فاغسلوا وجوهكم {المائدة: 6} والغُسْل يصدق بواحدة، ولأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ثبت أنه توضَّأ مرَّةً مرَّةً (2). فالثانية، والثالثة طهارة مستحبَّة، فالماء المستعمل فيهما يكون طَهُوراً مع الكراهة، والعِلَّةُ هي: الخلاف في سلبه الطَّهورية(3).
والصَّواب في هذه المسائل كلِّها: أنه لا يُكره؛ لأن الكراهة حكمٌ شرعيٌّ يفتقر إلى دليل، وكيف نقول لعباد الله: إنه ُيكره لكم أن تستعملوا هذالماء. وليس عندنا دليلٌ من الشَّرع.
ولذلك يجب أن نعرف أن منع العباد مما لم يدلَّ الشرعُ على منعه كالتَّرخيص لهم فيما دَلَّ الشَّرع على منعه؛ لأن الله جعلهما سواء فقال: ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام {النحل: 116} بل قد يقول قائل: إن تحريم الحلال أشدُّ من تحليل الحرام؛ لأن الأصلَ الحِلُّ، والله عزَّ وجلَّ يحبُّ التَّيسير لعباده.
قوله: "وإن بلغ قُلَّتين" الضَّمير يعود على الماء الطَّهور.
والقُلَّتان: تثنية قُلَّة. والقُلَّة مشهورة عند العرب، قيل: إنها تَسَعُ قِربتين ونصفاً تقريباً.
قوله: "وهو الكثير" جملة معترضة بين فعل الشَّرط وجوابه.
أي: إن القُلَّتين هما الكثير بحسب اصطلاح الفقهاء، فالكثير من الماء في عرف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ ما بلغ القُلَّتين، واليسير: ما دون القُلَّتين.
قوله: "وهما خمسمائة رَطْلٍ عراقيٍّ تقريباً". مائة الرَّطل العراقي(1) يزن قِربة ماء تقريباً، وعلى هذا تكون خمس قِرب تقريباً. وأفادنا المؤلِّف بقوله: "تقريباً" أن المسألة ليست على سبيل التَّحديد، فلا يضرُّ النَّقصُ اليسير.(134/9)
قوله: "فخالطته نجاسة" أي: امتزجت به، وتقدَّم تعريف النَّجاسة(2).
قوله: "غَيرُ بولِ آدميٍّ، أو عَذِرتِه المائعةِ، فلم تغيِّرهُ" المراد لم تغيِّرْ طعمه، أو لونه، أو رائحته. وهذه المسألة ـ أعني مسألة ما إذا خالطت الماءَ نجاسةٌ ـ فيها ثلاثة أقوال(1):
القول الأول ـ وهوالمذهب عند المتقدِّمين ـ: أنه إذا خالطته نجاسة ـ وهو دون القُلَّتين ـ نَجُسَ مطلقاً، تغيَّر أو لم يتغيَّر، وسواء كانت النَّجاسة بولَ الآدميِّ أم عَذِرَتَهُ المائعةَ، أم غير ذلك. أمَّا إذا بلغ القُلَّتين فيُفرَّق بين بولِ الآدميِّ وعَذِرَتِهِ المائعةِ، وبين سائر النَّجاسات، فإذا بلغ القُلَّتين وخالطه بولُ آدميٍّ أو عَذِرَتُهُ المائعةُ نَجُسَ وإن لم يتغيَّر، إلا أن يَشُقَّ نَزْحُه، فإن كان يَشُقُّ نَزْحُه، ولم يتغيَّر فَطَهُورٌ، وإن كان لا يَشُقُّ نَزْحُه ولو زاد على القُلَّتين فإنَّه يَنْجُس بمخالطة بول الآدميِّ، أو عَذِرَتِهِ المائعةِ وإن لم يتغيَّر.
فالمعتبر ـ بالنِّسبة لبول الآدميِّ وعَذِرَتِهِ المائعةِ ـ مشقَّة النَّزْح، فإن كان يَشُّقُّ نَزْحُه ولم يتغيَّر فطَهُور، وإن كان لا يَشُقُّ نَزْحُه فنجس بمجرد الملاقاة. وأما بقيَّة النَّجَاسات فالمعتبر القُلَّتان، فإذا بلغ قُلَّتين ولم يتغيَّر فطَهورٌ، وإن لم يبلغ القُلَّتين فنجسٌ بمجرد الملاقاة.
مثال ذلك: رجل عنده قِربةٌ فيها ماء يبلغ القُلَّتين، فسقط فيها روث حمار، ولكن الماء لم يتغيَّر طعمُه، ولا لونه، ولا رائحته فَطَهُورٌ.
مثال آخر: عندنا غدير، وهذا الغدير أربع قلال من الماء، بالَ فيه شخص نقطة واحدة وهو لا يَشُقُّ نَزْحُه؛ ولم يتغيَّر؛ فإنه يكون نجساً؛ لأن العبرة بمشقَّة النَّزْحِ.(134/10)
واستدلُّوا على أنه إذا بلغ قُلَّتين لا ينجُس إلا بالتغيُّر بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إن الماء طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ"(1) مع قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ : "إذا كان الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَثَ"(2).
واستدلُّوا على الفرق بين بول الآدميِّ وغيره من النَّجاسات بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: " لا يبولَنّ أحدُكم في الماء الدائم الذي لا يجري ثم يغتسل فيه"(1) فنهى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن البول ثم الاغتسال. وهذا عام؛ لكن عُفي عما يَشُقُّ نَزْحُه من أجل المشقَّة.
القول الثاني ـ وهو المذهب عند المتأخرين ـ: أنه لا فرق بين بول الآدميِّ عَذِرَتِهِ المائعةِ، وبين غيرهما من النَّجَاسات، الكُلُّ سواء(2)، فإذا بلغ الماء قلُتَّين لم يَنْجُسْ إلا بالتَّغيُّر، وما دون القلَّتين يَنْجُسُ بمجرَّد الملاقاة.
القول الثَّالث ـ وهو اختيار شيخ الإسلام(3) وجماعة من أهل العلم(4) ـ: أنه لا ينجس إلا بالتَّغيُّر مطلقاً؛ سواء بلغ القُلَّّتين أم لم يبلغ، لكن ما دون القلّتين يجب على الإنسان أن يتحرَّز إذا وقعت فيه النَّجَاسة؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ ما دونهما يتغيَّر.
وهذا هو الصحيح للأثر، والنَّظر:
فالأثر قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إن الماء طَهُور لا ينجِّسُهُ شيءٌ" ولكن يُستثنى من ذلك ما تغيَّر بالنَّجَاسة فإنه نجسٌ بالإجماع. وهناك إشارة من القرآن تدُلُّ على ذلك قال تعالى: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به {المائدة: 3} وقال تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على" طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس {الأنعام: 145} فقوله: "فإنه رجس" معلِّلاً للحكم دليلٌ على أنه متى وُجِدَت الرجسيةُ ثبت الحكم، ومتى انتفت انتفى الحكم. فإذا كان هذا في المأكول فكذلك في الماء.(134/11)
فمثلاً: لو سقط في الماء دم مسفوح فإذا أثَّر فيه الدَّمُ المسفوح صار رجساً نجساً، وإذا لم يؤثِّر لم يكن كذلك.
ومن حيث النَّظرُ: فإن الشَّرع حكيم يُعلِّل الأحكام بعللٍ منها ما هو معلوم لنا؛ ومنها ما هو مجهول. وعِلَّةُ النَّجاسة الخَبَثُ. فمتى وُجِد الخَبَثُ في شيء فهو نَجِسٌ، ومتى لم يوجد فهو ليس بنجس، فالحكم يدور مع عِلَّته وجوداً وعدماً.
فإن قال قائل: من النَّجاسات مالا يُخالف لونُه لونَ الماء؛ كالبول فإنه في بعض الأحيان يكون لونُه لونَ الماء.
فالجواب: يُقدَّر أن لونَه مغايرٌ للون الماء، فإذا قُدِّر أنه يغيّر لونَ الماء؛ حينئذٍ حكمنا بنجاسة الماء على أن الغالب أن رائحته تغيِّر رائحة الماء، وكذا طعمه.
وأما حديث القُلَّتين فقد اختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه. فمن قال: إنه ضعيف فلا معارضة بينه وبين حديث: "إن الماء طَهُور لا ينجِّسه شيء" ؛ لأن الضَّعيف لا تقوم به حُجَّة.
وعلى القول بأنه صحيح فيقال: إن له منطوقاً ومفهوماً. فمنطوقه: إذا بلغ الماء قُلتين لم ينجس، وليس هذا على عمومه؛ لأنه يُستثنى منه إذا تغير بالنَّجاسة فإنه يكون نجساً بالإجماع.
ومفهومه أن ما دون القُلّتين ينجس، فيقال: ينجس إذا تغيَّر بالنَّجاسة؛ لأن منطوق حديث: "إن الماء طَهُور لا يُنَجِّسُه شيء" مقدَّم على هذا المفهوم، إذ إنَّ المفهوم يصدق بصورة واحدة، وهي هنا صادقة فيما إذا تغيَّر.
وأما الاستدلال على التَّفريق بين بول الآدمي وعَذِرَتِه وغيرهما من النَّجاسات بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لا يبولنَّ أحدُكم في الماء الدَّائم ثم يغتسل فيه".(134/12)
فيقال: إن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يقل: إنه ينجس، بل نهى أن يبول ثم يغتسل؛ لا لأنه نجس، ولكن لأنَّه ليس من المعقول أن يجعل هذا مَبَالاً ثم يرجع ويغتسل فيه. وهذا كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لا يجلدُ أحدُكم امرأته جَلْدَ العبد؛ ثم يضاجعُها"(1) فإنَّه ليس نهياً عن مضاجعتها؛ بل عن الجمع بينهما فإنه تناقض.
والصَّواب: ما ذهب إليه شيخ الإسلام للأدلة النَّظرية والأثريَّة.
قوله: " أو خَالَطَهُ البَولُ، أو العَذِرَةُ، ويَشُقُّ نَزْحُه كمصانِع طريق مكَّة فَطَهُورٌ" مصانعُ جمعُ مصنعٍ؛ وهي عبارةٌ عن مجابي المياه في طريق مكَّة من العراق، وكان هناك مجابٍ في أفواه الشِّعاب. وهذه المجابي يكون فيها مياهٌ كثيرة، فإذا سقط فيها بول آدمي أو عَذِرَتُه المائعةُ ولم تغيِّره فطَهُورٌ؛ حتى على كلام المؤلِّف؛ لأنه يَشُقُّ نزحُه.
وقوله:"كمصانع" هذا للتَّمثيل؛ يعني: وكذلك ما يشبهها من الغُدران الكبيرة، فإذا وجدنا مياهاً كثيرة يشقُّ نزحُها فإنها إذا لم تتغيَّر بالنَّجاسة فهي طَهُورٌ مطلقاً.
والمشهور من المذهب عند المتأخِّرين خلافُ كلام المؤلِّف، فلا يفرّقون بين بول الآدمي وعَذِرَتِهِ المائعةِ، وبين سائر النَّجاسات، وقد سبق بيانُه(2).
ولا يَرْفَعُ حَدَثَ رَجُلٍ طَهُورٌ يَسيرٌ خَلَتْ به امرأةٌ لطَهَارةٍ كَامِلةٍ عن حََدَثٍ
..................................................
.................................................
وإن تغيَّر لونُه، أو طعْمُه، أو ريحُه بطَبْخٍ،
أو سَاقِطٍ فيه،
أوْ رُفِعَ بقليله حَدَثٌ،
أو غُمِسَ فيه يَدُ قائمٍ مِنْ نَوْمِ ليلٍ ناقضٍ لوضُوءٍ،
..................................................
..................................................
..................................................
أوْ كان آخرَ غَسْلةٍ زالت بها النجاسة فَطَاهرٌ.(134/13)
..................................................
والنَّجسُ ما تغيَّرَ بنجاسةٍ، أوْ لاَقَاهَا، وهو يسيرٌ،
أوْ انفَصَلَ عَنْ محلِّ نَجَاسةٍ قَبْلَ زوالها، فإن أضِيفَ إلى الماء النَّجسِ طَهُورٌ كثيرٌ غيرُ ترابٍ، ونحوِه،
أوْ زال تغيُّرُ النجسِ الكثير بنفسِهِ، أوْ نُزِحَ منه فَبَقِيَ بعده كثيرٌ غَيْرُ مُتغيرٍ طَهُرَ.
..................................................
وإن شَكَّ في نجاسةِ ماءٍ، أو غيرِه، أوْ طَهارته
بَنَى' على اليَقينِ،
..................................................
وإن اشْتَبَه طَهُورٌ بنجسٍ حَرُمَ استِعْمَالُهُمَا،
ولم يَتَحرَّ،
ولا يُشْتَرطُ للتيمم إراقتُهمَا، ولا خَلْطُهُمَا،
وإن اشتَبَه بطَاهِر تَوَضَّأ منهمَا وُضُوءًا واحدًا، مِنْ هذا غَرْفَةٌ، ومن هذا غَرفةٌ، وصَلَّى صلاةً واحدةً.
..................................................وإن اشْتَبَهتْ ثيابٌ طاهرةٌ بنجسةٍ
أوبمحرَّمةٍ صلَّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بعددِ النَّجس أو المحرَّم، وَزاد صلاةً.
..................................................
..................................................
.................................................
كُلُّ إناءٍ طَاهِرٍ،
ولو ثَمِيناً يُبَاحُ اتخاذُهُ واستِعْمَالُه،
إلا آنيةَ ذَهَبٍ وفضةٍ،
ومُضَبَّباً بهما، فإنه يحرُمُ اتخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى
..................................................
..................................................
..................................................
..................................................
وتَصِحُّ الطهارةُ منها،
إلا ضَبَّةً يسيرةً من فضةٍ لحاجةٍ
..................................................(134/14)
قوله: "ولا يرفع حَدَثَ رَجُلٍ طَهُورٌ يَسيرٌ خَلَتْ به امرأةٌ لطَهَارةٍ كَامِلةٍ عن حََدَثٍ". "حَدَثَ" هذا قيد، "رجل" قيد آخر، "طَهُور يسيرٌ" قيد ثالث، "خلت به" قيد رابع، "امرأة" قيد خامس، "لطهارة كاملة" قيد سادس،"عن حَدَث" قيد سابع. إذا تمَّت هذه القيودُ السَّبعةُ ثَبَتَ الحكم، فإذا تطهَّرَ به الرَّجُلُ عن حَدَثٍ لم يرتفع حدثُه، والماء طَهُور.
مثال ذلك: امرأة عندها قِدْرٌ من الماء يسع قُلَّةً ونصفاً ـ وهو يسير في الاصطلاح ـ خَلَت به في الحمَّام، فتوضَّأت منه وُضُوءاً كاملاً، ثم خرجت فجاء الرَّجُلُ بعدها ليتوضَّأَ به، نقول له: لا يرفعُ حَدَثَك.
والدَّليل: نهيُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يغتسل الرَّجل بفضل المرأة، والمرأة بفضل الرَّجل(1). وأُلحقَ به الوُضُوءُ.
فنهى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن الوُضُوء به، والنهي يقتضي الفساد، فإن توضَّأ فقد فعل عبادة على وجه منهيٍّ عنه فلا تكون صحيحة.
ومن غرائب العلم: أنهم استدلُّوا به على أن الرَّجل لا يتوضَّأ بفضل المرأة، ولم يستدلُّوا به على أن المرأة لا تتوضَّأ بفضل الرَّجل(1)، وقالوا: يجوز أن تغتسلَ المرأةُ بفضل الرَّجل، فما دام الدَّليل واحداً، والحكم واحداً والحديث مقسَّماً تقسيماً، فما بالنا نأخذ بقسم، ولا نأخذ بالقسم الثَّاني؛ مع العلم بأن القسم الثاني قد ورد في السُّنَّة ما يدلُّ على جوازه، وهو أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ اغتسل بفضل ميمونة(2) ولم يرد في القسم الأوَّل ما يدلُّ على جواز أن تغتسل المرأة بفضل الرَّجل، وهذه غريبة ثانية.
وقوله: "حَدَثَ رجُلٍ" يُفهم منه أنه لو أراد هذا الرَّجل أن يُزيل به نجاسة عن بدنه أو ثوبه فإنها تطهُر، وكذلك لو غسل يديه من القيام من نوم الليل؛ لأنَّه ليس بحدث. ويُفهم منه أيضاً أنه لو تَطَهَّرت به امرأة بعد امرأة فإنه يجوز؛ لقوله: "حَدَثَ رَجُلٍ".(134/15)
وقوله: "يسير" يفهم منه أنه لو كان كثيراً فإنه يرفع حَدثه، والدَّليل أنَّه في بعض ألفاظ حديث ميمونة "في جَفْنَةٍ"(3) والجَفْنَةُ يسيرة.
وقوله: "خَلَتْ به" تفسير الخَلوة على المذهب: أن تخلوَ به عن مشاهدة مميِّز، فإن شاهدها مميِّزٌ زالت الخلوةُ ورَفعَ حَدَثَ الرَّجُلِ(1) .
وقيل: تخلو به؛ أي: تنفرد به بمعنى تتوضَّأ به(1)، ولم يتوضَّأ به أحدٌ غيرها. وهذا أقرب إلى الحديث؛ لأنَّ ظاهره العموم، ولم يشترط النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن تخلوَ به.
وقوله: "لطهارة كاملة" يُفهم منه أنه لو خلت به في أثناء الطَّهارة، أو في أولها، أو آخرها، بأن شاهدها أحد في أوَّل الطَّهارة ثم ذهب، أو قبل أن تُكمل طهارتها حضر أحدٌ، فإنه يرفعُ حدثه؛ لأنَّه لم تَخْلُ به لطهارة كاملة.
وقوله: "عن حَدَث" أي: تَطَهَّرتْ عن حَدَث، بخلاف ما لو تطهَّرتْ تجديداً للوُضُوء، أو خَلَتْ به لتغسلَ ثوبها من نجاسة، أو لتستنجيَ، فإنه يرفعُ حَدَث الرَّجل؛ لأنها لم تخلُ به لطهارة عن حَدَث.
هذا حكم المسألة على المذهب.
والصَّحيح: أنَّ النَّهي في الحديث ليس على سبيل التَّحريم، بل على سبيل الأَوْلَويَّة وكراهة التنزيه؛ بدليل حديث ابن عبَّاس رضي الله عنهما: اغتسل بعضُ أزواج النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في جَفْنَة، فجاء النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ ليغتسل منها، فقالت: إني كنت جُنباً. فقال: "إن الماء لا يُجنب" (1) وهذا حديث صحيح.
وهناك تعليل؛ وهو أن الماء لا يُجنب يعني أنها إذا اغتسلت منه من الجنابة فإن الماء باقٍ على طَهُوريته.
فالصَّواب: أن الرَّجل لو تطهَّر بما خلت به المرأةُ؛ فإن طهارته صحيحة ويرتفع حدثه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(2).
وخلاصة كلامهم: أنه إذا تمت الشُّروط التي ذكروها وغمس يده في الماء قبل غسلها ثلاثاً فإنه يكون طاهراً لا طَهُوراً.(134/16)
والصَّواب أنه طَهُور؛ لكن يأثم من أجل مخالفته النهي؛ حيث غمسها قبل غسلها ثلاثاً.
ومن أجل ضعف هذا القول قالوا ـ رحمهم الله ـ: إذا لم يجد الإنسان غيره استعمله ثم تيمَّم من باب الاحتياط(1) فأوجبوا عليه طهارتين، ولكن أين هذا الإيجاب في كتاب الله، أو سُنَّة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم!؟ فالواجب استعمال الماء أو التُّراب، لكن لشعورهم ـ رحمهم الله ـ بضعف هذا القول بأن الماء ينتقل من الطَّهُورية إلى الطَّهارة قالوا: يستعمله ويتيمَّم.
فإن قيل: ما الحكمة في النَّهي عن غمس اليد قبل غسلها ثلاثاً لمن قام من النَّوم؟
أُجيب: أنّ الحكمة بيَّنها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بقوله: "فإنَّ أحدكم لا يدري أين باتت يدُه" .
فإن قال قائل: وضعت يدي في جِراب، فأعرفُ أنها لم تمسَّ شيئاً نجساً من بدني، ثم إنني نمت على استنجاء شرعي، ولو فُرض أنَّها مسَّت الذَّكر أو الدُّبر فإنَّها لا تنجُس؟
فالجواب: أن الفقهاء ـ رحمهم الله ـ قالوا: إن العِلَّة غير معلومة فالعمل بذلك من باب التَّعبُّد المحض(1).
لكن ظاهر الحديث أن المسألة معلَّلةٌ بقوله: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يدُه".
وقد ذكر شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن هذا التَّعليل كتعليله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بقوله: "إذا استيقظ أحدكم من منامه؛ فليستنثر ثلاث مرَّات ؛ فإن الشيطان يبيت على خياشيمه"(1) فيمكن أن تكون هذه اليد عبث بها الشيطان، وحمل إليها أشياء مضرَّة للإنسان، أو مفسدة للماء فنهى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يغمس يده حتى يغسلها ثلاثاً(2).
وما ذكره الشيخ ـ رحمه الله ـ وَجِيهٌ، وإلا فلو رجعنا إلى الأمر الحسِّي لكان الإنسان يعلم أين باتت يده، لكن السُّنَّة يفسِّر بعضُها بعضاً.(134/17)
قوله: "أوْ كان آخرَ غَسْلةٍ زالت بها النجاسة فَطَاهرٌ". الضَّمير يعود إلى الماء القليل، والمعروف عند الفُقهاء أنه لابُدَّ لطهارة المحلِّ المُتَنَجِّس أن يُغسل سبعَ مرات(3)، فالغسلة الأولى إلى السادسة كلُّ المنفصل من هذه الغسلات نجس؛ لأنه انفصل عن محلٍّ نجس.
مثاله: رجل يغسل ثوبه من نجاسة فالذي ينفصل من الماء من الغسلة الأولى إلى السَّادسة نجس؛ لأنه انفصل عن محَلٍّ نجس وهو يسير، فيكون قد لاقى النَّجاسة وهو يسير، وما لاقى النَّجاسة وهو يسير فإنه ينجس بمجرَّد الملاقاة.
أما المنفصل في الغسلة السَّابعة فيكون طاهراً غير مطهِّر؛ لأنَّه آخر غسلة زالت بها النَّجاسة، فهو طاهر؛ لأنه أثَّر شيئاً وهو التطهير، فلما طَهُرَ به المحلُّ صار كالمستعمل في رفع حَدَث، ولم يكن نجساً لأنَّه انفصل عن محلٍّ طاهر، وأما المنفصل عن الثَّامنة فطَهُورٌ؛ لأنَّه لم يؤثِّر شيئاً ولم يُلاقِ نجاسة. وهذا إذا كانت عين النَّجاسة قد زالت، وإذا فُرِضَ أن النَّجاسة لم تزل بسبع غسلات، فإن ما انفصل قبل زوال عين النَّجاسة نجسٌ لأنه لاقى النَّجاسة وهو يسير.
وقوله: "فطاهر" هذا جواب قوله: "وإن تغيَّر طعمه ... إلخ".
وهذا هو الطَّاهر على قول من يقول: إن المياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام: طَهُور وطاهر، ونجس.
والصَّحيح أن الماء قسمان فقط: طَهُور ونجس. فما تغيَّر بنجاسة فهو نجس، ومالم يتغيَّر بنجاسة فهو طَهُور، وأن الطَّاهر قسم لا وجود له في الشَّريعة، وهذا اختيار شيخ الإسلام(1) ، والدَّليل على هذا عدم الدَّليل؛ إذ لو كان قسم الطَّاهر موجوداً في الشَّرع لكان أمراً معلوماً مفهوماً تأتي به الأحاديث بيِّنةً واضحةً؛ لأنه ليس بالأمر الهيِّن إذ يترتَّب عليه إما أن يتطهَّر بماء، أو يتيمَّم. فالنَّاس يحتاجون إليه كحاجتهم إلى العِلْم بنواقض الوُضُوء وما أشبه ذلك من الأمور التي تتوافر الدَّواعي على نقلها لو كانت ثابتة.(134/18)
قوله: "والنَّجس ما تغيَّر بنجاسة". أي: تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه بالنَّجاسة، ويُستثنى من المتغيِّر بالرِّيح ما إذا تغيَّر بمجاورة ميتة، وهذا الحكم مُجمَعٌ عليه، أي أن ما تغيَّر بنجاسة فهو نجس، وقد وردت به أحاديث مثل: "الماء طَهُور لا ينجِّسه شيء"(1).
قوله: "أو لاقاها وهو يسير" أي: لاقى النَّجاسة وهو دون القُلَّتين، والدَّليل مفهوم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"إذا بلغ الماء قُلَّتين لم ينجِّسْه شيء"(1).
ومفهوم قوله: "وهو يسير" أنه إن لاقاها وهو كثير فإنَّه لا ينجس، لكن يُستثنى من هذا بول الآدمي وعَذِرَتُه كما سبق.
والصَّحيح: أنَّ هذا ليس من قسم النَّجس إلا أن يتغيَّر.
ويُستثنى من ذلك ـ على المذهب ـ ما إذا لاقاها في محلِّ التطهير، فإنه لا ينجس(2). مثال ذلك: لو أن إنساناً في ثوبه نجاسة؛ وأراد إزالتها؛ فإنَّه يصبُّ عليها ماءً يسيراً دون القُلَّتين. فإن قلنا إنه تنجَّس بمجرد ملاقاة النَّجاسة في محلِّها وهو الثوب؛ لم يمكن تطهير هذا النَّجس؛ لأن الماء إذا تنجَّس بالملاقاة لم يطهِّر النَّجاسة، وهكذا لو صببت ماءً آخر، ومن أجل ذلك استثنوا هذه المسألة.
قوله: "أو انفصل عن محلِّ نجاسة قبل زوالها" أي: قبل زوال حكمها.
مثاله: ماء نطهِّر به ثوباً نجساً، والنَّجاسة زالت في الغسلة الأولى وزال أثرها نهائياً في الغسلة الثانية، فغسلناه الثَّالثة والرابعة والخامسة والسَّادسة، فالماء المنفصل من هذه الغسلات نجس؛ لأنه انفصل عن محلِّ النَّجاسة قبل زوال حكمها.
قوله: "فإن أُضيف إلى الماء النَّجِسِ طَهُورٌكثيرٌ غيرُ ترابٍ، ونحوِه". في هذا الكلام بيان طُرق تطهير الماء النَّجس، وقد ذكر ثلاث طُرقٍ في تطهير الماء النَّجس.
إحداها: أن يضيف إليه طَهُوراً كثيراً غير تراب ونحوه، واشترط المؤلِّفُ أن يكون المضافُ كثيراً؛ لأنَّنا لو أضفنا قليلاً تنجَّس بملاقة الماء النَّجس.(134/19)
مثاله: عندنا إناءٌ فيه ماء نجس مقداره نصف قُلَّة، وهذا الإناء كبير يأخذ أكثر من قُلَّتين، فإذا أردنا أن نطهِّره نأتي بقُلَّتين ثم نفرغ القُلَّتين على نصف القُلَّة، فنكون قد أضفنا إليه ماءً كثيراً؛ فيكون طَهُوراً إذا زال تغيُّره، فإن أضفنا إليه قُلَّة واحدة؛ وزال التغيُّر فإنَّه لا يكون طَهُوراً، بل يبقى على نجاسته؛ لأنه لاقى النَّجاسة وهو يسير فينجس به ولا يطهِّره، ولابُدَّ أن تكون إضافة الماء متَّصلة، لأنَّنا إذا أضفنا نصفَ قُلَّة، ثم أتينا بأخرى يكون الأول قد تنجَّس، وهكذا فيُشترط في المُضاف أن يكون طَهُوراً كثيراً، والمُضاف إليه لا يُشترط فيه أن يكون كثيراً أو يسيراً، فإذا كان عندنا إناءٌ فيه قُلَّتان نجستان ولكنَّه يأخذ أربع قِلال، وأضفنا إليه قُلَّتين وزال تغيُّره فإنَّه يَطْهُر مع أن النَّجس قُلَّتان.
قوله: "أو زال تغيُّر النَّجس الكثير بنفسه". الكثير: هو ما بلغ قُلَّتين، وهذه هي الطَّريقة الثَّانية لتطهير الماء النَّجس، وهي أن يزول تغيُّره بنفسه إذا كان كثيراً.
مثاله: ماء في إناء يبلغ قُلَّتين وهو نجس، ولكنه بقي يومين أو ثلاثة وزالت رائحته ولم يبقَ للنَّجاسة أثر، ونحن لم نُضِفْ إليه شيئاً، فيكون طَهُوراً، لأنَّ الماء الكثير يقوى على تطهير غيره، فتطهير نفسه من باب أولى.
والخلاصة: أنه إذا كان قُلَّتين فإنه يطهر بأمرين:
1ـ الإضافة كما سبق.2ـ زوال تغيُّره بنفسه.
قوله: "أو نُزِحَ منه فبقِيَ بعده كثيرٌ غَيْرُ مُتغيرٍ طَهُرَ" هذه هي الطَّريقة الثَّالثة لتطهير الماء النَّجس، وهي أن يُنزح منه حتى يبقى بعد النَّزح طَهُور كثير.
فالضَّمير في قوله: "منه" يعود إلى الماء الكثير، وفي قوله "بعده" إلى النَّزْح.
ففي هذه الصَّورة لابُدَّ أن يكون الماء المتنجِّس أكثر من قُلَّتين؛ لأنَّ المؤلِّفَ اشترط أن يبقى بعد النَّزْح كثير أي: قُلَّتان فأكثر.(134/20)
فإن كان عند الإنسان إناء فيه أربع قِلال وهو نجس، ونُزِحَ منه شيء وبقي قُلَّتان، وهذا الباقي لا تغيُّر فيه فيكون طَهُوراً
والخلاصة: أن ما زاد على القُلَّتين يمكن تطهيره بثلاث طُرق:
1ـ الإضافة كما سبق.
2ـ زوال تَغيُّرِه بنفسه.
3ـ أنْ يُنْزَح منه؛ فيبقى بعده كثير غير متغيِّر.
والقول الصَّحيح: أنه متى زال تغيُّر الماء النَّجس طَهُرَ بأي وسيلة كانت.
وقوله: "غير تراب ونحوه" استثنى المؤلِّفُ هذه من مسألة الإضافة، فلو أضفنا تراباً، ومع الاختلاط بالتُّراب وترسُّبه زالت النَّجاسة، فلا يَطْهُر مع أنَّه أحد الطَّهورين، قالوا: لأن التطهر بالتُّراب ليس حسِّيًّا، بل معنويٌّ(1)، فالإنسان عند التيمُّم لا يتطهَّر طهارة حسِّيَّة بل معنويَّة.
وقوله: "ونحوه" كالصَّابون وما شابهه؛ لأنه لا يُطهِّر إلا الماء، وما مشى عليه المؤلِّف هو المذهب.
والصحيح: أنه إذا زال تغيُّر الماء النَّجس بأي طريق كان فإنه يكون طَهُوراً؛ لأن الحكم متى ثبت لعِلَّة زال بزوالها.
وأيُّ فرق بين أن يكون كثيراً، أو يسيراً، فالعِلَّة واحدة، متى زالت النَّجَاسة فإنه يكون طَهُوراً وهذا أيضاً أيسر فهماً وعملاً.
واعلم أن هذا الحكم ـ على المذهب ـ بالنَّسبة للماء فقط، دون سائر المائعات، فسائر المائعات تَنْجُس بمجرَّد الملاقاة، ولو كانت مائة قُلَّة، فلو كان عند إنسان إناء كبير فيه سمن مائع وسقطت فيه شعرة من كلب؛ فإنَّه يكون نجساً، لا يجوز بيعه؛ ولا شراؤه؛ ولا أكله أو شربه.
والصَّواب: إن غير الماء كالماء لا يَنْجُس إلا بالتغيُّر.
قوله: "وإن شكَّ في نجاسة ماء، أو غيرِه، أوْ طَهارته" أي: في نجاسته إذا كان أصله طاهراً، وفي طهارته إذا كان أصله نجساً.
مثال الشَكِّ في النَّجاسة: لو كان عندك ماء طاهر لا تعلم أنَّه تنجَّس؛ ثم وجدت فيه روثة لا تدري أروثه بعير، أم روثة حمار، والماء متغيِّر من هذه الرَّوثة؛ فحصل شكٌّ هل هو نجس أم طاهر؟(134/21)
يسير، فيكون قد لاقى النَّجاسة وهو يسير، وما لاقى النَّجاسة وهو يسير فإنه ينجس بمجرَّد الملاقاة.
أما المنفصل في الغسلة السَّابعة فيكون طاهراً غير مطهِّر؛ لأنَّه آخر غسلة زالت بها النَّجاسة، فهو طاهر؛ لأنه أثَّر شيئاً وهو التطهير، فلما طَهُرَ به المحلُّ صار كالمستعمل في رفع حَدَث، ولم يكن نجساً لأنَّه انفصل عن محلٍّ طاهر، وأما المنفصل عن الثَّامنة فطَهُورٌ؛ لأنَّه لم يؤثِّر شيئاً ولم يُلاقِ نجاسة. وهذا إذا كانت عين النَّجاسة قد زالت، وإذا فُرِضَ أن النَّجاسة لم تزل بسبع غسلات، فإن ما انفصل قبل زوال عين النَّجاسة نجسٌ لأنه لاقى النَّجاسة وهو يسير.
وقوله: "فطاهر" هذا جواب قوله: "وإن تغيَّر طعمه ... إلخ".
وهذا هو الطَّاهر على قول من يقول: إن المياه تنقسم إلى ثلاثة أقسام: طَهُور وطاهر، ونجس.
والصَّحيح أن الماء قسمان فقط: طَهُور ونجس. فما تغيَّر بنجاسة فهو نجس، ومالم يتغيَّر بنجاسة فهو طَهُور، وأن الطَّاهر قسم لا وجود له في الشَّريعة، وهذا اختيار شيخ الإسلام(1) ، والدَّليل على هذا عدم الدَّليل؛ إذ لو كان قسم الطَّاهر موجوداً في الشَّرع لكان أمراً معلوماً مفهوماً تأتي به الأحاديث بيِّنةً واضحةً؛ لأنه ليس بالأمر الهيِّن إذ يترتَّب عليه إما أن يتطهَّر بماء، أو يتيمَّم. فالنَّاس يحتاجون إليه كحاجتهم إلى العِلْم بنواقض الوُضُوء وما أشبه ذلك من الأمور التي تتوافر الدَّواعي على نقلها لو كانت ثابتة.
قوله: "والنَّجس ما تغيَّر بنجاسة". أي: تغيَّر طعمه أو لونه أو ريحه بالنَّجاسة، ويُستثنى من المتغيِّر بالرِّيح ما إذا تغيَّر بمجاورة ميتة، وهذا الحكم مُجمَعٌ عليه، أي أن ما تغيَّر بنجاسة فهو نجس، وقد وردت به أحاديث مثل: "الماء طَهُور لا ينجِّسه شيء"(1).(134/22)
قوله: "أو لاقاها وهو يسير" أي: لاقى النَّجاسة وهو دون القُلَّتين، والدَّليل مفهوم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"إذا بلغ الماء قُلَّتين لم ينجِّسْه شيء"(1).
ومفهوم قوله: "وهو يسير" أنه إن لاقاها وهو كثير فإنَّه لا ينجس، لكن يُستثنى من هذا بول الآدمي وعَذِرَتُه كما سبق.
والصَّحيح: أنَّ هذا ليس من قسم النَّجس إلا أن يتغيَّر.
ويُستثنى من ذلك ـ على المذهب ـ ما إذا لاقاها في محلِّ التطهير، فإنه لا ينجس(2). مثال ذلك: لو أن إنساناً في ثوبه نجاسة؛ وأراد إزالتها؛ فإنَّه يصبُّ عليها ماءً يسيراً دون القُلَّتين. فإن قلنا إنه تنجَّس بمجرد ملاقاة النَّجاسة في محلِّها وهو الثوب؛ لم يمكن تطهير هذا النَّجس؛ لأن الماء إذا تنجَّس بالملاقاة لم يطهِّر النَّجاسة، وهكذا لو صببت ماءً آخر، ومن أجل ذلك استثنوا هذه المسألة.
قوله: "أو انفصل عن محلِّ نجاسة قبل زوالها" أي: قبل زوال حكمها.
مثاله: ماء نطهِّر به ثوباً نجساً، والنَّجاسة زالت في الغسلة الأولى وزال أثرها نهائياً في الغسلة الثانية، فغسلناه الثَّالثة والرابعة والخامسة والسَّادسة، فالماء المنفصل من هذه الغسلات نجس؛ لأنه انفصل عن محلِّ النَّجاسة قبل زوال حكمها.
قوله: "فإن أُضيف إلى الماء النَّجِسِ طَهُورٌكثيرٌ غيرُ ترابٍ، ونحوِه". في هذا الكلام بيان طُرق تطهير الماء النَّجس، وقد ذكر ثلاث طُرقٍ في تطهير الماء النَّجس.
إحداها: أن يضيف إليه طَهُوراً كثيراً غير تراب ونحوه، واشترط المؤلِّفُ أن يكون المضافُ كثيراً؛ لأنَّنا لو أضفنا قليلاً تنجَّس بملاقة الماء النَّجس.(134/23)
مثاله: عندنا إناءٌ فيه ماء نجس مقداره نصف قُلَّة، وهذا الإناء كبير يأخذ أكثر من قُلَّتين، فإذا أردنا أن نطهِّره نأتي بقُلَّتين ثم نفرغ القُلَّتين على نصف القُلَّة، فنكون قد أضفنا إليه ماءً كثيراً؛ فيكون طَهُوراً إذا زال تغيُّره، فإن أضفنا إليه قُلَّة واحدة؛ وزال التغيُّر فإنَّه لا يكون طَهُوراً، بل يبقى على نجاسته؛ لأنه لاقى النَّجاسة وهو يسير فينجس به ولا يطهِّره، ولابُدَّ أن تكون إضافة الماء متَّصلة، لأنَّنا إذا أضفنا نصفَ قُلَّة، ثم أتينا بأخرى يكون الأول قد تنجَّس، وهكذا فيُشترط في المُضاف أن يكون طَهُوراً كثيراً، والمُضاف إليه لا يُشترط فيه أن يكون كثيراً أو يسيراً، فإذا كان عندنا إناءٌ فيه قُلَّتان نجستان ولكنَّه يأخذ أربع قِلال، وأضفنا إليه قُلَّتين وزال تغيُّره فإنَّه يَطْهُر مع أن النَّجس قُلَّتان.
قوله: "أو زال تغيُّر النَّجس الكثير بنفسه". الكثير: هو ما بلغ قُلَّتين، وهذه هي الطَّريقة الثَّانية لتطهير الماء النَّجس، وهي أن يزول تغيُّره بنفسه إذا كان كثيراً.
مثاله: ماء في إناء يبلغ قُلَّتين وهو نجس، ولكنه بقي يومين أو ثلاثة وزالت رائحته ولم يبقَ للنَّجاسة أثر، ونحن لم نُضِفْ إليه شيئاً، فيكون طَهُوراً، لأنَّ الماء الكثير يقوى على تطهير غيره، فتطهير نفسه من باب أولى.
والخلاصة: أنه إذا كان قُلَّتين فإنه يطهر بأمرين:
1ـ الإضافة كما سبق.2ـ زوال تغيُّره بنفسه.
قوله: "أو نُزِحَ منه فبقِيَ بعده كثيرٌ غَيْرُ مُتغيرٍ طَهُرَ" هذه هي الطَّريقة الثَّالثة لتطهير الماء النَّجس، وهي أن يُنزح منه حتى يبقى بعد النَّزح طَهُور كثير.
فالضَّمير في قوله: "منه" يعود إلى الماء الكثير، وفي قوله "بعده" إلى النَّزْح.
ففي هذه الصَّورة لابُدَّ أن يكون الماء المتنجِّس أكثر من قُلَّتين؛ لأنَّ المؤلِّفَ اشترط أن يبقى بعد النَّزْح كثير أي: قُلَّتان فأكثر.(134/24)
فإن كان عند الإنسان إناء فيه أربع قِلال وهو نجس، ونُزِحَ منه شيء وبقي قُلَّتان، وهذا الباقي لا تغيُّر فيه فيكون طَهُوراً
والخلاصة: أن ما زاد على القُلَّتين يمكن تطهيره بثلاث طُرق:
1ـ الإضافة كما سبق.
2ـ زوال تَغيُّرِه بنفسه.
3ـ أنْ يُنْزَح منه؛ فيبقى بعده كثير غير متغيِّر.
والقول الصَّحيح: أنه متى زال تغيُّر الماء النَّجس طَهُرَ بأي وسيلة كانت.
وقوله: "غير تراب ونحوه" استثنى المؤلِّفُ هذه من مسألة الإضافة، فلو أضفنا تراباً، ومع الاختلاط بالتُّراب وترسُّبه زالت النَّجاسة، فلا يَطْهُر مع أنَّه أحد الطَّهورين، قالوا: لأن التطهر بالتُّراب ليس حسِّيًّا، بل معنويٌّ(1)، فالإنسان عند التيمُّم لا يتطهَّر طهارة حسِّيَّة بل معنويَّة.
وقوله: "ونحوه" كالصَّابون وما شابهه؛ لأنه لا يُطهِّر إلا الماء، وما مشى عليه المؤلِّف هو المذهب.
والصحيح: أنه إذا زال تغيُّر الماء النَّجس بأي طريق كان فإنه يكون طَهُوراً؛ لأن الحكم متى ثبت لعِلَّة زال بزوالها.
وأيُّ فرق بين أن يكون كثيراً، أو يسيراً، فالعِلَّة واحدة، متى زالت النَّجَاسة فإنه يكون طَهُوراً وهذا أيضاً أيسر فهماً وعملاً.
واعلم أن هذا الحكم ـ على المذهب ـ بالنَّسبة للماء فقط، دون سائر المائعات، فسائر المائعات تَنْجُس بمجرَّد الملاقاة، ولو كانت مائة قُلَّة، فلو كان عند إنسان إناء كبير فيه سمن مائع وسقطت فيه شعرة من كلب؛ فإنَّه يكون نجساً، لا يجوز بيعه؛ ولا شراؤه؛ ولا أكله أو شربه.
والصَّواب: إن غير الماء كالماء لا يَنْجُس إلا بالتغيُّر.
قوله: "وإن شكَّ في نجاسة ماء، أو غيرِه، أوْ طَهارته" أي: في نجاسته إذا كان أصله طاهراً، وفي طهارته إذا كان أصله نجساً.
مثال الشَكِّ في النَّجاسة: لو كان عندك ماء طاهر لا تعلم أنَّه تنجَّس؛ ثم وجدت فيه روثة لا تدري أروثه بعير، أم روثة حمار، والماء متغيِّر من هذه الرَّوثة؛ فحصل شكٌّ هل هو نجس أم طاهر؟(134/25)
فيُقال: ابْنِ على اليقين، واليقين أنه طَهُور، فتطهَّر به ولا حرج.
وكذا إذا حصل شكُّ في نجاسة غير الماء.
مثاله: رجل عنده ثوب فشكَّ في نجاسته، فالأصل الطَّهارة حتى يعلم النَّجاسة.
وكذا لو كان عنده جلد شاة، وشكَّ هل هو جلدُ مُذَكَّاة، أم جلد ميتة، فالغالب أنه جلد مُذَكَّاة فيكون طاهراً.
وكذا لو شَكَّ في الأرض عند إرادة الصَّلاة هل هي نجسة أم طاهرة، فالأصل الطَّهارة.
ومثال الشكِّ في الطَّهارة: لو كان عنده ماء نجس يعلم نجاسته؛ فلما عاد إليه شكَّ هل زال تغيُّره أم لا؟ فيُقال: الأصل بقاء النَّجاسة، فلا يستعمله.
وقوله: "بَنَى' على اليقين" اليقين: هو ما لا شَكَّ فيه، والدَّليل على ذلك من الأثر: حديث عبدالله بن زيد ـ رضي الله عنه ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ شُكِيَ إليه الرَّجل يجدُ الشيءَ في بطنه؛ فيُشكل عليه، هل خرج منه شيءٌ أم لا؟ فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجدَ ريحاً"(1) فأمرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بالبناء على الأصل، وهو بقاء الطَّهارة. ولما قال الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ: يا رسول الله، إنَّ قوماً يأتونا باللَّحم؛ لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "سَمُّوا أنتم وكُلُوه".
قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهي راويةُ الحديث: وكان القوم حديثي عهد بالكفر(1) مع أنَّه يغلب على الظنِّ هنا أنَّهم لم يذكروا اسمَ الله ، لحداثة عهدهم بالكُفر، ومع هذا لم يأمرْهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بالسؤال ولا البحث.
ويُروى أنَّ عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ مَرَّ هو وعمرو بن العاص بصاحب حوض، فسأل عمرو بن العاص صاحبَ الحوض: هل هذا نجس أم لا؟ فقال له عمر: يا صاحب الحوض، لا تخبرنا(2).
وفي رواية: أن الذي أصابهم ماء ميزاب، فقال عمر: يا صاحب الميزاب، لا تخبرنا.(134/26)
ومن النَّظر: أنَّ الأصل بقاء الشيء على ما كان حتى يتبيَّن التغيُّر، وبناء ًعليه: إذا مرّ شخص تحت ميزاب وأصابه منه ماء، فقال: لا أدري هل هذا من المراحيض، أم من غسيل الثِّياب، وهل هو من غسيل ثياب نجسة، أم غسيل ثياب طاهرة؟ فنقول: الأصل الطَّهارة حتى ولو كان لون الماء متغيِّراً. قالوا: ولا يجب عليه أن يشمَّه أو يتفقَّده، وهذا من سعة رحمة الله.
قوله: "وإن اشتبه طَهور بنجس حَرُمَ استعْمَالُهُمَا" يعني: إن اشتبه ماء طهور بماء نجس حرم استعْمَالُهُمَا؛ لأن اجتناب النَّجس واجب، ولا يتمُّ إلا باجتنابهما، وما لا يتمُّ الواجب إلا به فهو واجب، وهذا دليل نظري.
وربما يُستدلُّ عليه بأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال في الرَّجُل يرمي صيداً فيقع في الماء: "إن وجدته غريقاً في الماء فلا تأكلْ، فإنك لا تدري، الماءُ قَتَله أم سهمُك؟(1)"
وقال: "إذا وجدت مع كلبك كلباً غيره فلا تأكل، فإنَّك لا تدري أيُّهما قتله"(2)؟.
فأمر باجتنابه، لأنّه لا يُدرى هل هو من الحلال أم الحرام؟
قوله: "ولم يتحرَّ" أي: لا ينظر أيُّهما الطَّهور من النَّجس، وعلى هذا فيتجنَّبُهُما حتى ولو مع وجود قرائن، هذا المشهور من المذهب.
وقال الشَّافعي ـ رحمه الله ـ: يتحرّى(1). وهو الصَّواب، وهو القول الثَّاني في المذهب(2) لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في حديث ابن مسعود رضي الله عنه في مسألة الشكِّ في الصَّلاة: "وإذا شَكَّ أحدُكُم في صلاته فليتحرَّ الصَّوابَ ثم ليَبْنِ عليه"(3) فهذا دليل أثريٌّ في ثبوت التَّحرِّي في المشتبهات.(134/27)
والدَّليل النَّظري: أنَّ من القواعد المقرَّرة عند أهل العلم أنَّه إذا تعذَّر اليقين رُجع إلى غلبة الظنِّ، وهنا تعذَّر اليقينُ فنرجع إلى غلبة الظنِّ وهو التحرِّي. هذا إن كان هناك قرائن تدلُّ على أن هذا هو الطَّهور وهذا هو النَّجس؛ لأن المحلَّ حينئذ قابل للتحرِّي بسبب القرائن، وأما إذا لم يكن هناك قرائن؛ مثل أن يكون الإناءان سواء في النَّوع واللون فهل يمكن التَّحرِّي؟
قال بعض العلماء: إذا اطمأنت نفسُه إلى أحدهما أخذ به(4). وقاسوه على ما إذا اشتبهت القِبْلة على الإنسان؛ ونظر إلى الأدلَّة فلم يجد شيئاً، فقالوا: يصلِّي إلى الجهة التي تطمئنُّ إليها نفسُه. فهنا أيضاً يستعمل ما اطمأنت إليه نفسه، ولا شكَّ أن استعمال أحد الماءين في هذه الحال فيه شيء من الضَّعف؛ لكنَّه خير من العدول إلى التيمُّم.
قوله: "ولا يُشترط للتيمُّم إراقتُهما، ولا خلطُهما". أفادنا المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ أنه في حال اجتنابهما يتيمَّم.
مثاله: رجل عنده إناءان أحدهما طَهُور، والآخر نجس، وشكَّ أيُّهما الطَّهُور؛ فنقول: يجب عليه اجتنابُهما.
فإن قال: فماذا أعملُ إذا أردت الصَّلاة؟ نقول: تيمَّم؛ لأنك غير قادر على استعمال الماء؛ لاشتباه الطَّهور بالنَّجس؛ فيشمله قوله تعالى: فلم تجدوا ماء فتيمموا {المائدة: 6}.
وهل يُشترط للتيمُّم إراقتهما أو خلطهما؟ فيه قولان(1)، ولهذا نفى' المؤلِّف اشتراط إراقتهما أو خلطهما ردًّا للقول الثاني، وإلا لما كان لنفيه داعٍ، فقال: "ولا يُشتَرط... إلخ" لردِّ قول من قال: إنه يُشتَرط إراقتهما، أو خلطهما، وهو قولٌ في المذهب .
قالوا: لا يمكن أن يتيَمَّم حتى يُريقَ الماءين؛ ليكون عادماً للماء حقيقة، أو يخلطهما حتى يتحقَّق النَّجاسة.(134/28)
وعُلم من ذلك أنه إذا أمكن تطهيرُ أحدهما بالآخر وجب التطهير، ولا يحتاج إلى التيمُّم. وذلك إذا كان كلُّ واحد من الاناءين قُلَّتين فأكثر؛ فيُضاف أحدُهما إلى الآخر، فإن الطَّهور منهما يطهِّر النَّجس إذا زالَ تغيُّره.
قوله: "وإن اشتَبَه بطَاهِر تَوَضَّأ منهمَا وُضُوءًا واحدًا، مِنْ هذا غَرْفَةٌ، ومن هذا غَرفةٌ، وصَلَّى صلاةً واحدةً" هذه المسألة لا تَرِدُ على ما صحَّحناه؛ لعدم وجود الطَّاهر غير المطهِّر على القول الصِّحيح، لكن تَرِدُ على المذهب، وسبق بيان الطَّاهر(1).
مثاله: ماء غُمِسَ فيه يدُ قائم من نوم ليل ناقض للوُضُوء، فإنَّه يكون طاهراً غير مطهِّر، وماء طَهُور اشتبه أحدهما بالآخر، فلا يتحرَّى ولا يتيمَّم؛ لأنَّ استعمال الطَّاهر هنا لا يضرُّ؛ بخلاف المسألة السَّابقة التي اشتبه فيها الطَّهور بالنَّجس، فإنه لو استعمله تنجَّس ثوبه وبدنه، وعلى هذا فيتوضَّأُ وُضُوءاً واحداً من هذا غرفة، ومن هذا غرفة؛ لأجل أنَّه إذا أتمَّ وضوءه، فإنه تيقَّن أنه توضَّأ بطَهُور فيكون وضوءُه صحيحاً.
فإن قيل: لماذا لا يتوضَّأ من هذا وضوءاً كاملاً، ومن الآخر كذلك؟
فالجواب: أنه لا يصحُّ لوجهين:
الأول: إنه لو فعل ذلك لكان يخرج من كلِّ وُضُوء وهو شاكٌّ فيه، ولا يصحُّ التردُّد في النيَّة.
الثاني: إنه إذا توضَّأ وُضُوءاً كاملاً من الأوَّل، وقدَّرنا أنَّه هو الطَّهور ثم توضَّأ وُضُوءاً كاملاً من الثَّاني الذي هو الطَّاهر، فرُبَّما يجزم في الوُضُوء الأول، أو يغلب ظنِّه على أنَّه استعمل الطَّهور في غسل اليدين والطَّاهر في غسل الوجه، وفي الوُضُوء الثاني أنه استعمل الطَّاهر في غَسْلِ اليدين والطَّهور في غَسْل الوجه، فيكون غَسْلُ الوجه الذي حصلت به الطَّهارة ُ؛ بعد غَسَلِ اليدين وذلك إخلالٌ بالتَّرتيب.
ولا يُقال: إنه باجتماعهما حصل اليقينُ؛ لأن أحدهما حين فعله له كان شاكًّا فيه غير متيقِّن، ويُصلِّي صلاةً واحدة.(134/29)
وقال بعض العلماء: يتوضَّأ أولاً ثم يُصلِّي، ثم يتوضَّأ ثانياً ثم يُصلِّي(1)؛ لأجل أن يتيقَّن بالفعلين أنه توضَّأ وضوءاً صحيحاً، وصلّى صلاةً صحيحةً.
وأمَّا على القول الرَّاجح فهذه المسألة ليست واردةً أصلاً؛ لأن الماء لا يكون طاهراً، بل إما طَهورٌ، وإما نجس.
قوله: "وإن اشتبهت ثياب طاهرةٌ بنجسة...". هذه المسألة لها تعلُّق في باب اللباس، وفي باب ستر العورة في شروط الصَّلاة، ولها تعلُّق هنا، وتعلُّقها هنا من باب الاستطراد؛ لأن الثِّياب لا علاقة لها في الماء.
مثال هذه المسألة: رجل له ثوبان، أحدهما نجاسته متيقَّنة، والثاني طاهر، ثم أراد أن يلبسهما فشكَّ في الطَّاهر من النَّجس، فيصلِّي بعدد النَّجس ويزيد صلاة؛ لأنَّ كلَّ ثوبٍ يُصلِّي فيه يحتمل أن يكون هو النَّجس، فلا تصحُّ الصَّلاة به، ومن شروط الصَّلاة أن يُصلِّيَ بثوب طاهر، ولا يمكن أن يُصلِّي بثوبٍ طاهر يقيناً إلا إذا فعل ذلك.
فإن كان عنده ثلاثون ثوباً نجساً وثوب طاهر، فإنه يُصلِّي واحداً وثلاثين صلاة كلَّ وقت، وهذا فرضاً، وإلا فيُمكن أن يغسل ثوباً، أو يشتريَ جديداً، هذا ما مشى عليه المؤلِّف.
والصَّحيح: أنه يتحرَّى، وإذا غلب على ظَنِّه طهارة أحد الثِّياب صَلَّى فيه، والله لا يكلِّف نفساً إلا وسعها، ولم يوجب الله على الإنسان أن يُصلِّيَ الصَّلاة مرتين.
فإن قلت: ألا يحتمل مع التحرِّي أن يُصلِّيَ بثوب نجس؟
فالجواب: بلى، ولكن هذه قدرته، ثم إنَّ الصَّلاة بالثَّوب النَّجس عند الضَّرورة، الصَّواب أنها تجوز. أما على المذهب فيرون أنك تُصلِّي فيه وتُعيد، فلو فرضنا أن رجلاً في الصَّحراء، وليس عنده إلا ثوبٌ نجسٌ وليس عنده ما يُطهِّر به هذا الثوبَ، وبقيَ شهراً كاملاً، فيُصلِّي بالنَّجس وجوباً، ويُعيد كلَّ ما صَلَّى فيه إذا طهَّره وجوباً.
يُصلِّي لأنه حضر وقت الصَّلاة وأُمِرَ بها، ويعيد لأنَّه صلَّى في ثوب نجس.(134/30)
وهذا ضعيف، والرَّاجحُ أنَّه يُصلِّي ولا يعيد، وهم ـ رحمهم الله ـ قالوا: إنَّه في صلاة الخوف إذا اضطر إلى حمل السلاح النَّجس حَمَلَه ولا إعادة عليه للضَّرورة(1)، فيُقال: وهذا أيضاً للضَّرورة؛ وإلا فماذا يصنع؟
قوله: "أوبمحرَّمةٍ صلَّى في كلِّ ثوبٍ صلاةً بعددِ النَّجس أو المحرَّم، وَزاد صلاةً" أي: إذا اشتبهت ثيابٌ محرَّمةٌ بمباحة، هذه المسألة لها صورتان:
الأولى: أن تكون محرَّمة لحقِّ الله كالحرير.
فمثلاً: عنده عشرة أثواب حرير طبيعي، وثوب حرير صناعي فاشتبها؛ فيُصلِّي إحدى عشرة صلاة، ليتيقَّن أنه صَلَّى في ثوب حلال.
الثانية: أن تكون محرَّمةٌ لحقِّ الآدمي، مثل إنسان عنده ثوب مغصوب وثوب ملك له، واشتبه عليه المغصوب بالمِلْك، فيُصلِّي بعدد المغصوب ويزيد صلاة.
فإن قيل: كيف يُصلِّي بالمغصوب وهو مُلْكُ غيره؟ ألا يكون انتفع بملْك غيره بدون إذنه؟
فالجواب: أنَّ استعمال مُلْكِ الغير هنا للضَّرورة، وعليه لهذا الغير ضمان ما نقص الثوبُ، وأجرتُه، فلم يُضِعْ حقَّ الغير.
والصَّحيح: أنه يتحرَّى، ويُصلِّي بما يغلب على ظَنِّه أنَّه الثَّوب المباح ولا حرج عليه؛ لأن الله لا يكلِّف نفساً إلا وسعها.
ولو فرضنا أنه لم يمكنه التحرِّي لعدم وجود القرينة، فإنه يصلِّي فيما شاء؛ لأنه في هذه الحال مضطر إلى الصَّلاة في الثَّوب المحرَّم ولا إعادة عليه.
ثم إن في صحَّة الصَّلاة في الثَّوب المحرَّم نزاعاً يأتي التَّحقيق فيه إن شاء الله(1).(134/31)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
بابُ الآنية
محمد بن صالح العثيمين
قوله: "باب" الباب: هو ما يُدخَلُ منه إلى الشَّيء، والعُلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ يضعون: كتاباً، وباباً، وفصلاً.
فالكتاب: عبارة عن جملة أبواب تدخل تحت جنس واحد، والباب نوع من ذلك الجنس كما نقول: "حَبٌّ" فيشمل الشعيرَ، والذُّرةَ، والرُّزَ، لكنَّ الشَّعير شيءٌ، والرُّز شيءٌ آخر.
فمثلاً: كتاب الطَّهارة يشمل كلَّ جنس يصدق عليه أنه طهارة، أو يتعلَّق بها. لكن الأبواب أنواع من ذلك الجنس، كباب المياه، وباب الوُضُوء، وباب الغسل ونحو ذلك.
أما الفصول: فهي عبارة عن مسائل تتميَّز عن غيرها ببعض الأشياء، إما بشروط أو تفصيلات.
وأحياناً يُفَصِّلون الباب لطول مسائله، لا لأن بعضها له حكمٌ خاصٌّ، ولكن لطول المسائل يكتبون فصولاً.
قوله: "الآنية" جمع إناء، وهو الوعاء، وذكرها المؤلِّفُ هنا، وإن كان لها صلة في باب الأطعمة - لأن الأطعمة لا تؤكل إلا بأوانٍ- لأنَّ لها صلة في باب المياه، فإن الماء جوهر سيّال لا يمكن حفظه إلا بإناء؛ ولذلك ذكروا باب الآنية بعد باب المياه، ومعلوم أنَّ من الأنسب إذا كان للشيء مناسبتان أن يُذكرَ في المناسبة الأولى ويُحَالُ عليه في الثَّانية؛ لأنَّه إذا أُخِّرَ إلى المناسبة الثَّانية فاتت فائدتُه في المناسبة الأولى، لكن إذا قُدَّم في المناسبة الأولى؛ لم تَفُتْ فائدته في المناسبة الثانية اكتفاءً بما تقدَّم.(135/1)
والأصل في الآنية الحِلُّ، لأنها داخلة في عموم قوله تعالى: هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا {البقرة: 29} ومنه الآنية؛ لأنها مما خُلِقَ في الأرض، لكن إذا كان فيها شيء يوجب تحريمها، كما لو اتُّخذت على صورة حيوان مثلاً فهنا تحرم، لا لأنها آنية، ولكن لأنها صارت على صورة محرَّمةٍ . والدَّليل من السُّنَّة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "وما سَكَتَ عنه فهو عَفْوٌ"(1). وقوله أيضاً: "إن الله فَرَض فرائض فلا تضيِّعوها، وحَدَّ حدوداً فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء رحمةً بكم غير نسيان، فلا تبحثوا عنها"(1).
فيكون الأصل فيما سَكَتَ اللهُ عنه الحِلَّ إلا في العبادات، فالأصل فيها التَّحريم؛ لأن العبادة طريقٌ موصلٌ إلى الله عزَّ وجلَّ، فإذا لم نعلم أن الله وضعه طريقاً إليه حَرُمَ علينا أن نتَّخذه طريقاً. وقد دلّت الآيات والأحاديث على أن العبادات موقوفةٌ على الشَّرع.
قال تعالى: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله {الشورى: 21} فدلَّ على أن ما يَدينُ العبد به ربَّه لا بُدَّ أن يكون الله أَذِنَ به.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :"إيَّاكم ومحدثات الأمور، فإن كُلَّ بدعةٍ ضلالة"(2). ولا فرق في إباحة الآنية بين أن تكونَ الأواني صغيرةً أو كبيرةً، فالصَّغير والكبير مباح، قال تعالى عن نبيه سليمان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات {سبأ: 13}.
الجَفْنَة: تشبه الصَّحفة. وقوله: "وقُدورٍ راسيات" لا تُحْمل لأنَّها كبيرة، راسية لكثرة ما يُطبخ فيها، فتبقى على مكانها، ولكن إذا خرج ذلك إلى حدِّ الإسراف صار محرَّماً لغيره، وهو الإسراف لقوله تعالى: إنه لا يحب المسرفين {الأعراف: 31}.(135/2)
قوله: "كلُّ إناءٍ طاهر". هذا احتراز من النَّجس، فإنه لا يجوز استعماله؛ لأنَّه قذر، وفيما قال المؤلِّفُ نظر، لأن النَّجس يباح استعمالُه إذا كان على وجه لا يتعدَّى، والدَّليل على ذلك حديث جابر ـ رضي الله عنه ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال حين فتح مكَّة: "إن الله حرَّم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام" قالوا: يا رسول الله؛ أرأيت شُحوم الميتة، فإنَّها تُطلى بها السُّفن، وتُدهن بها الجلود، ويَستصبح بها النَّاس، فقال: "لا، هو حرام"(1) فأقرَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هذا الفعل مع أنَّ هذه الأشياء نجسة، فدلَّ ذلك على أن الانتفاع بالشيء النَّجس إذا كان على وجه لا يتعدَّى لا بأس به، مثاله أن يتَّخذ "زِنْبِيلاً" نجساً يحمل به التُّراب ونحوه، على وجهٍ لا يتعدَّى.
قوله: "و لو ثميناً". "لو": إشارة خلاف. والمعنى: ولو كان غالياً مثل: الجواهر، والزُّمرُّد، والماس، وما شابه ذلك فإنه مباح اتَّخاذه واستعماله.
وقال بعضَ العلماء: إنَّ الثمين لا يُباح اتِّخاذه واستعماله، لما فيه من الخُيلاء، والإسراف(2)، وعلى هذا يكون تحريمُه لغيره لا لذاته، وهو كونُه إسرافاً وداعياً إلى الخُيلاء والفخر، لا لأنَّه ثمين. قوله: "يُباحُ اتِّخاذه واستعماله". "يُباحُ": خبر المبتدأ وهو قوله: "كلُّ إناء"، والتَّركيب هنا فيه شيء من الإيهام؛ لأن قوله: "يُباح اتِّخاذُه واستعمَالُه" قد يَتَوَهَّم الواهم أنَّها صفة لا أنها خبر، ويتوقَّعُ الخبرَ، ولهذا لو قال: يُباح كُلُّ إناءٍ طاهر ولو ثميناً. لكان أَوْلَى، ولكن على كُلِّ حالٍ المعنى واضح.
وقوله: "اتِّخاذُه واستعمَالُه" هناك فرق بين الاتِّخاذ والاستعمال، فالاتِّخاذ هو: أن يقتنيَه فقط إما للزِّينة، أو لاستعماله في حالة الضَّرورة، أو للبيع فيه والشِّراء، وما أشبه ذلك.(135/3)
أما الاستعمال: فهو التلبُّس بالانتفاع به، بمعنى أن يستعمله فيما يستعمل فيه.
فاتِّخاذها جائز، وإن زادت على قَدْرِ الحاجة، فلو كان عند إنسان إبريق شاي وأراد أن يشتريَ إبريقاً آخر جاز له ذلك، بمعنى أنه يجوز اتِّخاذه وإن لم يستعمله الآن، لكن اتَّخذه لأنه رُبَّما يحتاجه فيبيعه، أو يستعيره منه أحد، أو يفسد ما عنده، أو يأتي ضيوف لا يكفيهم ما عنده.
قوله: "إلا آنيةَ ذهب وفضَّة". من القواعد الأصولية: "إن الاستثناء معيار العُمُوم".
يعني: لو أنَّ أحداً استثنى من كلام عام فإن ما سوى هذه الصُّورة داخل في الحكم، وعلى هذا فكلُّ شيء يُباحُ اتِّخاذه إلا آنيةَ الذَّهب والفضَّة .
وذكر بعض الفقهاء استثناءً آخر فقال: إلا عظم آدميٍّ وجلده، فلا يُباح اتِّخاذه واستعماله آنيةً، لأنَّه محترمٌ بحرمته(1)، وقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "كَسْرُ عظم ِالميِّتِ ككسره حيًّا"(1) وإسناده صحيح.
قوله: "ذهب" معروف؛ وهو المعدن الأحمر الثَّمين الذي تتعلَّقُ به النُّفوس، وتحبُّه، وتميل إليه، وقد جعل الله في فطر الخلق الميلَ إلى هذا الذَّهب؛ وكذلك الفضَّة، وهي في نفوس الخلق دون الذَّهب؛ ولهذا كان تحريمُها أخفَّ من الذَّهب.
وقوله: "إلا آنية ذَهبٍ وفضَّةٍ" يشمل الصَّغير، والكبير حتى الملعقة، والسِّكين.
قوله: "ومُضَبَّباً بهما، فإنه يحرُمُ اتخاذُها واستعمالُها، ولو على أنثى" الضبَّةُ: التي أخذ منها التضبيب، وهي شريطٌ يَجْمَعُ بين طرفي المنكسر، فإذا انكسرت الصَّحْفَةُ من الخشب يخرزونها خرزاً، وهذا في السَّنوات الماضية، فيكون المضبَّبُ بهما حراماً، وسواءٌ كان خالصاً أو مخلوطاً إلا ما استُثني.
والدَّليل: حديث حذيفة ـ رضي الله عنه ـ: "لاتشربوا في آنية الذَّهب والفضَّة، ولا تأكلوا في صحافها، فإنَّها لهم في الدُّنيا ولكم في الآخرة"(1).(135/4)
وحديث أمِّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ: "الذي يشربُ في آنية الفضَّة فإنما يجرجرُ في بطنه نارَ جَهنَّمَ" والنهي للتَّحريم، وفي حديث أمِّ سلمة توعَّده بنار جهنَّم، فيكون من كبائر الذُّنوب.
فإن قيل: الأحاديث في الآنية نفسِها، فكيف حُرِّم المضبَّبُ؟
فالجواب: أنه ورد في حديثٍ رواه الدَّارقطني: "إنَّه من شَرِب في آنية الذَّهب والفِضَّة، أو في شيء فيه منهما"(3).
وأيضاً: المحرَّم مفسدةٌ، فإن كان خالصاً فمفسدتُه خالصة، وإن لم يكن خالصاً ففيه بقدْرِ هذه المفسدة.
ولهذا فكلُّ شيء حرَّمه الشَّارع فقليله وكثيره حرام؛ لقول النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "وما نهيتكم عنه فاجتنبوه"(1).
وعندنا هنا ثلاث حالات: اتِّخاذ، واستعمال، وأكل وشرب.
أمَّا الأكل والشُّرب فيهما فهو حرام بالنَّص، وحكى بعضهم الإجماع عليه(2).
وأما الاتِّخاذ فهو على المذهب حرام، وفي المذهب قول آخر(1)، وهو محكِّيٌ عن الشَّافعي ـ رحمه الله ـ أنه ليس بحرام(2).
وأما الاستعمال فهو محرَّم في المذهب قولاً واحداً.
والصَّحيح: أن الاتِّخاذ والاستعمال في غير الأكل والشُّرب ليس بحرام؛ لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نهى عن شيء مخصوص وهو الأكل والشُّرب، ولو كان المحرَّم غيرَهما لكان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ وهو أبلغُ النَّاس، وأبينهم في الكلام ـ لا يخصُّ شيئاً دون شيء، بل إن تخصيصه الأكل والشرب دليل على أن ما عداهما جائز؛ لأنَّ النَّاس ينتفعون بهما في غير ذلك.
ولو كانت حراماً مطلقاً لأَمَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بتكسيرها، كما كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لا يدعُ شيئاً فيه تصاوير إلا كسره أو هتكه(3)، لأنها إذا كانت محرَّمة في كل الحالات ما كان لبقائها فائدة.(135/5)
ويدلُّ لذلك أن أمَّ سلمة ـ وهي راوية الحديث ـ كان عندها جُلجُل من فِضَّة جعلت فيه شعَرات من شعر النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فكان الناس يستشفون بها، فيُشفون بإذن الله، وهذا في "صحيح البخاري(1)" وهذا استعمال في غير الأكل والشُّرب.
فإن قال قائل: خصَّ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الأكل والشرب لأنَّه الأغلب استعمالاً؛ وما علَّق به الحكم لكونه أغلب لا يقتضي تخصيصه به كقوله تعالى: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم {النساء: 23} فتقييد تحريم الرَّبيبة بكونها في الحجر لا يمنع التَّحريم، بل تَحرُمُ، وإن لم تكن في حِجره على قول أكثر أهل العلم(2)؟
قلنا: هذا صحيح، لكن كون الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُعلِّق الحكم بالأكل والشُّرب؛ لأن مُظْهَرَ الأمة بالتَّرف في الأكل والشُّرب أبلغُ منه في مظهرها في غير ذلك، وهذه عِلَّة تقتضي تخصيص الحكم بالأكل والشُّرب، لأنه لا شكَّ أنَّ الذي أوانيه في الأكل والشُّرب ذهب وفِضَّة، ليس كمثل من يستعملها في حاجات تَخْفَى على كثير من النَّاس.
وقوله: "ومضبَّبَاً بهما... إلخ" يشمل الرِّجال والنِّساء، فلا يجوز للمرأة أواني الذَّهب والفِضَّة.
فإن قيل: أليس يجوز للمرأة أن تتحلَّى بالذَّهب؟
فالجواب: بلى، ولكن الرَّجل لا يجوز له ذلك.
فإن قيل: فما الفرق بين اتِّخاذ الحُلي واتِّخاذ الآنية واستعمالها فأُبيح الأوَّل دون الثاني؟
فالجواب: أنَّ الفرق أنَّ المرأة بحاجة إلى التجمُّل، وتجمُّلها ليس لها وحدها، بل لها ولزوجها، فهو من مصلحةِ الجميع، والرَّجل ليس بحاجة إلى ذلك فهو طالب لا مطلوب، والمرأة مطلوبة، فمن أجل ذلك أُبيح لها التحلِّي بالذَّهب دون الرَّجل، وأما الآنية فلا حاجة إلى إباحتها للنِّساء فضلاً عن الرِّجال.(135/6)
قوله: "وتصحُّ الطَّهارة منها" يعني: تصح الطَّهارة من آنية الذَّهب والفضَّة، فلو جعل إنسان لوضوئه آنيةً من ذهب، فالطَّهارة صحيحةٌ، والاستعمال محرَّمٌ.
وقال بعض العلماء: إن الطَّهارة لا تصحُّ(1)، وهذا ضعيف؛ لأنَّ التَّحريم لا يعود إلى نفس الوُضُوء، وإنما يعود إلى استعمال إنائه، والإناء ليس شرطاً للوُضُوء، ولا تتوقَّف صِحَّة الوُضُوء على استعمال هذا الإناء.
فالطَّهارة تصح ُّمن آنية الذهب والفِضَّة، وبها، وفيها، وإليها.
منها: بأن يغترف من الآنية.
بها: أي يجعلها آلةً يصبُّ بها، أي:يغرف بآنية من ذهب فيصبُّ على رجليه، أو ذراعه.
فيها: بمعنى أن تكون واسعة ينغمس فيها.
إليها: بأن يكون الماء الذي ينزل منه؛ ينزل في إناء من ذهب.
فحروف الجرِّ هنا غيَّرت المعنى، وهذا دليل على قُوَّة فقه اللُّغة العربية.
قوله: "إلا ضبَّةً يسيرةً من فِضَّة لحاجةٍ" هذا مستثنى من قوله: "يَحْرُم اتِّخاذها واستعمالها".
فشروطُ الجواز أربعةٌ:
1ـ أن تكون ضبَّةً.2ـ أن تكون يسيرةً.
3ـ أن تكون من فضَّةٍ 4ـ أن تكون لحاجةٍ.
والدَّليل على ذلك: ما ثبت في "صحيح البخاري" من حديث أنس رضي الله عنه: "أن قدح النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ انكسر فاتَّخذ مكان الشَّعْب سلسلة من فِضَّة"(1)
فيكون هذا الحديث مخصِّصاً لما سبق.
فإن قيل: من أين أخذتم اشتراط كونها يسيرة؟
قلنا: إن هذا هو الغالب في القدح، يعني كونه صغيراً، والغالب أنَّه إذا انكسر، فإنه لا يحتاج إلى شيء كثير، والأصل التَّحريم، فنقتصر على ما هو الغالب.
فإن قيل: أنتم قلتم ضبَّة، وهي ما يُجْبَرُ بها الإناء، فلو جعل الإنسان على خرطوم الإبريق فِضَّة؛ فَلِمَ لا يجوز؟
أُجيبَ: بأن هذا ليس لحاجة، وليس ضَبَّة، بل زيادة وإلحاق.
فإن قيل: لماذا اشترطتم كونها من فضَّة: لِمَ لا تقيسون الذَّهب على الفِضَّة؟(135/7)
نقول: إن النصَّ لم يرد إلا في الفِضَّة، ثم إن الذَّهب أغلى وأشدُّ تحريماً، ولهذا في باب اللِّباس حُرِّم على الرَّجُل خاتم ُالذَّهب، وأُبيح له خاتمُ الفِضَّة، فدلَّ على أن الفِضَّة أهون، حتى إن شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ قال في باب اللِّباس: إن الأصل في الفِضَّة الإباحة وأنها حلال للرِّجَال، إلا ما قام الدَّليل على تحريمه(1).
وأيضاً: لو كان الذَّهب جائزاً لجَبَر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ به الكسر؛ لأن الذَّهب أبعد من الصدأ بخلاف الفِضَّة، ولهذا لما اتَّخذ بعض الصَّحابة أنفاً من فِضَّة ـ لما قُطعَ أنفُه في إحدى المعارك (يوم الكُلاب في الجاهليَّة) ـ أنتن، فأمرهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يتَّخذ أنفاً من ذهب(1)، لأنه لا يُنتن.
ومأخذ اشتراط الحاجة في الحديث: أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يتَّخذْها إلا لحاجة، وهو الكسر.
قوله: "لحاجة" قال أهل العلم: الحاجة أن يتعلَّق بها غرضٌ غير الزِّينة(1)، بمعنى أن لا يتَّخذها زينة. قال شيخ الإسلام: وليس المعنى: ألاّ يجدَ ما يجبر به الكسرَ سواها؛ لأن هذه ليست حاجة، بل ضرورة(2) والضَّرورة تُبيح ُالذَّهبَ والفضة مفرداً وتبعاً، فلو اضطر إلى أن يشرب في آنية الذَّهب فله ذلك، لأنَّها ضرورة.
قوله: "وتُكره مباشرتها لغير حاجة" أي: تُكره مباشرة الضَبَّة اليسيرة، ومعنى مباشرتها: أنَّه إذا أراد أن يشرب من هذا الإناء المضبَّب شرب من عند الفِضَّة، فيباشرها بشفتيه وهي حلال. والمكروه عند الفقهاء: ما نُهي عنه لا على سبيل الإلزام بالتَّرك. وحكمه: أنه يُثابُ تاركُه امتثالاً، ولا يُعاقبُ فاعلُه. بخلاف الحرام، فإن فاعله يستحقُّ العقوبة، وهذا في اصطلاح الفقهاء.
أما في القرآن والسُّنَّة، فإن المكروه يأتي للمحرَّم، ولهذا لما عدَّد الله تعالى أشياء محرَّمة في سورة الإسراء قال: كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها {الإسراء: 38}.(135/8)
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"إن الله كَرِهَ لكم قيل وقال، وكَثْرَةَ السُّؤال، وإضاعة المال"(1).
والكراهة: حُكم شرعيٌّ لا تثبت إلا بدليل، فمن أثبتها بغير دليل، فإننا نردُّ قوله، كما لو أثبت التَّحريم بلا دليل، فإننا نردُّ قوله.
وبناءً على هذه القاعدة ننظر إلى كلام المؤِّلف، قال: "تُكره مباشرتها لغير حاجة" فإن احتاج إليها بأن كان الإناء يتدفَّق لو لم يشرب من هذه الجهة، أو جعل الإناء على النَّار، وصارت الجهة التي ليست فيها الضَّبَّة حارَّة لا يستطيع أن يشرب منها، وشرب من الجهة الباردة التي فيها الضَبَّة، فهذه حاجة فله أنْ يشربَ، ولا كراهة.
فإن لم يحتج فكلام المؤلِّفِ صريح في أنه تُكره مباشرتها.
والصَّواب: إنه ليس بمكروه، وله مباشرتها؛ لأن الكراهة حكم شرعيٌّ يُحتاج في إثباته إلى دليل شرعي، وما دام ثبت بمقتضى حديث أنس المتقدّم أنها مباحة، فما الذي يجعل مباشرتها مكروهة؟ وهل ورد أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يتوقَّى هذه الجهة من قدحه؟ الجواب: لا، فالصَّحيح أنَّه لا كراهة؛ لأن هذا شيء مباح؛ ومباشرة المباح مباحة.
قوله: "وتُباح آنية الكفَّار" قوله :"آنية" بالرَّفع على أنها نائب فاعل.
قوله " ولو لم تحلَّ ذبائحُهُم" بالرَّفع على أنها فاعل "تحلَّ".
وقوله "وثيابهم إن جُهل حالها" بالرَّفع على أنها معطوفة على "آنية" وكلام المؤلِّف ـ رحمه الله ـ يوهم أنها معطوفة على "ذبائحهم".
ولو قال: وتُباحُ آنيةُ الكفَّار وثيابُهم إن جُهِلَ حالها، ولو لم تحلَّ ذبائحهم. لسَلِمَ من هذا الإيهام.
وقوله: "الكفَّار" يشمل الكافر الأصلي والمرتد.(135/9)
وقوله: "ولو لم تحِلَّ ذبائحُهُم" إشارة خلاف(1). والكفَّار الذين تَحِلُّ ذبائحُهم هم اليهود والنَّصارى فقط. لقوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم {المائدة: 5} والمراد بطعامهم ذبائحهم كما فسَّر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما(2)، وليس المراد خبزهم وشعيرهم وما أشبه ذلك؛ لأن ذلك حلال لنا منهم ومن غيرهم، ولا تحلُّ ذبائح المجوس، والدَّهريِّين، والوثنيِّين وغيرهم من الكفار، أما آنيتهم فتحلُّ. فإن قال قائل: ما هو الدَّليل؟
قلنا: عموم قوله تعالى : هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا {البقرة: 29} ، ثم إن أهل الكتاب إذا أباح الله لنا طعامهم، فمن المعلوم أنهم يأتون به إلينا أحياناً مطبوخاً بأوانيهم، ثم إنَّه ثبت أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ دعاه غلام يهوديٌّ على خبز شعير، وإهالة سَنِخَة(1)فأكل منها. وكذلك أكل من الشَّاة المسمومة التي أُهديت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في خيبر(2) . وثبت أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ توضَّأ وأصحابه من مزادة امرأة مشركة(3)، كلُّ هذا يدلُّ على أن ما باشر الكُفَّار، فهو طاهر.
وأما حديث أبي ثعلبة الخشني أن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "لا تأكلوا فيها، إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها"(4).
فهذا يدلُّ على أن الأَوْلَى التنزُّه، ولكن كثيراً من أهل العلم حملوا هذا الحديث على أناس عُرفوا بمباشرة النَّجاسات من أكل الخنزير، ونحوه، فقالوا: إن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ منع من الأكل في آنيتهم إلا إذا لم نجد غيرها، فإننا نغسلها، ونأكل فيها(1). وهذا الحمل جيد، وهو مقتضى قواعد الشَّرع.(135/10)
وقوله "وثيابهم" أي تُباحُ ثيابُهم وهذا يشمل ما صنعوه وما لبسوه، فثيابهم التي صَنَعوها مباحة، ولا نقول: لعلهم نسجوها بمنْسَج نجس؛ أو صَبغُوها بصبغ نجس؛ لأنَّ الأصل الحِلُّ والطَّهارة، وكذلك ما لبسوه من الثياب فإنه يُباح لنا لُبسه، ولكن من عُرِفَ منه عدم التَّوقِّى من النَّجاسات كالنَّصارى فالأَوْلَى التنزُّه عن ثيابهم بناءً على ما يقتضيه حديث أبي ثعلبة الخُشني رضي الله عنه.
وقوله "إن جُهل حالها" هذا له مفهومان:
الأول: أن تُعلَمَ طهارتُها.
الثاني: أن تُعلَمَ نجاستُها، فإن عُلِمتْ نجاستُها فإنها لا تُستعمل حتى تُغسل. وإن عُلمتْ طهارتُها فلا إشكال، ولكن الإشكال فيما إذا جُهل الحال، فهل نقول: إن الأصل أنهم لا يتوقَّون النَّجاسات وإنَّها حرام، أو نقول: إن الأصل الطَّهارة حتى يتبيَّن نجاستها؟ الجواب هو الأخير.
قوله: "ولا يَطْهر جلدُ ميتة بدِبَاغ" الدَّبغ: تنظيف الأذى والقَذَر الذي كان في الجلد بواسطة مواد تُضاف إلى الماء.
فإذا دُبِغَ جلدُ الميتة فإنَّ المؤلِّف يقول: إنه لا يطهُر بالدِّبَاغ.
فان قيل: هل ينجُس جلد الميتة؟
فالجواب: إن كانت الميتة طاهرة فإن جلدها طاهر، وإن كانت نجسةً فجلدها نجس.
ومن أمثلة الميتة الطَّاهرة: السَّمك لقوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه {المائدة: 96}.
قال ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ: "صيده ما أُخِذَ حيًّا، وطعامه ما أُخِذَ ميتاً"(1).
فجلدها طاهر.
أما ما ينجُس بالموت فإن جلده ينجُس بالموت لقوله تعالى: إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس {الأنعام: 145} أي نَجِسٌ، فهو داخل في عموم الميتة.
فإن قيل: إن الميتة حرام، ولا يلزم من التَّحريم النَّجاسة؟(135/11)
فالجواب: أنَّ القاعدة صحيحة، ولهذا فالسُّمُ حرام، وليس بنجس، والخمر حرام وليس بنجس على القول الرَّاجح، ولكن الله لما قال: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على" طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس {الأنعام: 145} علَّل ذلك بقوله "رِجْسٌ" والرِّجس النَّجس، وهذا واضح في أن الميتة نجسة. فإذاً الميتة نجسة؛ وجلدها نجس؛ ولكن إذا دبغناه هل يطهُر؟.
اختَلفَ في ذلك أهلُ العلم(1)، فالمذهب أنه لا يطَهُر، قالوا: لأن الميتة نجسة العين، ونجس العين لا يمكن أن يطَهُر، فروثة الحمار لو غُسِلت بمياه البحار ما طَهُرت، بخلاف النَّجاسة الحُكمية، كنجاسة طرأت على ثوب ثم غسلناه، فإنه يطَهُر.
وهذا القياس مع أنَّه واضح جداً إلا أنه في مقابلة النصِّ، وهو حديث ميمونة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "مَرَّ بشاةٍ يجرُّونها، فقال: هلاَّ أخذتم إهابها؟ قالوا: إنها ميتة، قال: يُطهِّرُها الماءُ والقَرَظُ"(2)، وهذا صريح في أنَّه يَطْهُر بالدَّبغ.
ولكن قالوا: هذا الحديث منسوخ بما يُروى عن عبدالله بن عُكَيْم قال: "إن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كتب إلينا لا تنتفعوا من الميتة، بإهابٍ ولا عَصَب"(1). زاد أحمد وأبو داود: "قبل وفاته بشهر".
والجواب على ذلك:
أولاً: أنَّ الحديث ضعيف، فلا يقابل ما في "صحيح مسلم"(1).
ثانياً: أنَّه ليس بناسخ؛ لأننا لا ندري هل قضيَّة الشَّاة في حديث ميمونة قبل أن يموتَ بشهر، أو قبل أن يموتَ بأيَّام؟ ومن شرط القول بالنسخ العلم بالتَّاريخ.
ثالثاً: أنَّه لو ثبت أنه متأخِّر، فإنه لا يُعارض حديث ميمونة؛ لأن قوله: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب" يُحمَلُ على الإهاب قبل الدَّبغ، وحينئذٍ يُجمع بينه وبين حديث ميمونة.(135/12)
فإن قال قائل: كيف تقولون لو دُبِغَ اللحمُ ما طَهُرَ؛ ولو دُبِغَ الجلدُ طَهُرَ؟ وكلها أجزاء ميتة، ونحن نعرف أن الشريعة الحكيمة لا يمكن أن تفرِّق بين متماثلين؟
أجيب من وجهين:
الأول: أنَّه متى ثبت الفرق في الكتاب والسُّنَّة بين شيئين متشابهين، فاعلم أن هناك فرقاً في المعنى، ولكنَّك لم تتوصَّل إليه؛ لأن إحاطتك بحكمة الله غير ممكنة، فموقفك حينئذ التَّسليم.
الثاني: أن يُقالَ: إنه يمكن التَّفريق بين اللحم والجلد، فإن حلول الحياة فيما كان داخل الجلد أشدُّ من حلولها في الجلد نفسه، لأن الجلد فيه نوع من الصلابة بخلاف اللحوم، والشُّحوم، والأمعاء، وما كان داخله فإنه ليس مثله، فلا يكون فيه من الخَبَثِ ـ الذي من أجله صارت الميتة حراماً ونجسة ـ مثل ما في اللحم ونحوه.
ولهذا نقول: إنه يُعْطَى حكماً بين حكمين:
الحكم الأول: إنّ ما كان داخل الجلد لا يَطْهُر بالدِّباغ.
الحكم الثاني: إن ما كان خارج الجلد من الوبر والشَّعر فإنه طاهر، والجلد بينهما، ولهذا أُعطيَ حكماً بينهما.
وبهذا نعرفُ سُمُوَّ الشريعة، وأنها لا يمكن أن تُفرِّق بين متماثلين، ولا أن تَجمَعَ بين مختلفين، وأن طهارة الجلد بعد الدَّبغ من الحكمة العظيمة، ونجاسته بالموت من الحكمة العظيمة؛ لأنه ليس كالشَّعر والوبروالرِّيش، وليس كالشَّحم واللحم والأمعاء.
قوله: "ويُباحُ استعمالهُ بعد الدَّبْغِ في يَابِسٍ". يعني: يباح استعمال جلد الميتة بعد الدَّبغ في يابس.
فأفادنا المؤِّلفُ أن استعماله قبل الدَّبغ لا يجوز في يابس، ولا غيره؛ لأنه نجس.
وظاهر كلامه أن الاستعمال لا يجوز ولو بعد أن نَشِفَ الجلد وصار يابساً، وهذا فيه نظر؛ لأنَّنا نقول: إذا كان يابساً، واستُعمل في يابس فإن النَّجاسة هنا لا تتعدَّى كما لو قدَّدناه، وجعلناه حبالاً لا يباشر بها الأشياء الرَّطبة، فإن هذا لا مانع منه.(135/13)
قوله: "في يَابِس" خرج به الرَّطب فلا يجوز استعماله فيه، مثل أن نجعل فيه ماءً أو لبناً، ولا أيَّ شيء رطب، ولو بعد الدَّبغ؛ لأنَّه إذا كان نجساً، ولاقاه شيء رطب تنجَّس به، أما إذا كان في يابس، والجلد يابس فإنه لا يتنجَّس به؛ لأن النَّجاسة لا يتعدَّى حكمها إلا إذا تعدَّى أثرها، فإن لم يتعدَّ أثرها فإن حكمها لا يتعدَّى، وإذا قلنا بالقول الرَّاجح: وهو طهارته بالدِّباغ فإنه يُباح استعماله في الرَّطب واليابس.
ويدلُّ لذلك أنَّ الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ توضَّأ وأصحابه من مزادة امرأة مشركة(1)، وذبائح المشركين نجسة، وهذا يدلُّ على إباحة استعماله في الرَّطب، وأنه يكون طاهراً.
قوله: "من حيوانٍ طاهرٍ في الحياة" أفادنا المؤلِّفُ: أن الجلد الذي يُباحُ استعماله بعد الدَّبغ في اليابس هو ما كان من حيوان طاهر في الحياة.
والطاهر في الحياة ما يلي:
أولاً: كُلُّ مأكول كالإبل، والبقر، والغنم، والضَّبُعِ، ونحو ذلك.
ثانياً: كلُّ حيوان من الهِرِّ فأقلُّ خِلْقة ـ وهذا على المذهب ـ كالهِرَّة لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنها ليست بنَجَسٍ، إنَّها من الطَّوافين عليكم"(1).
ثالثاً: كُلُّ شيء ليس له نَفْسٌ سائلة، يعني إذا ذُبِحَ، أو قُتل ليس له دم يسيل.
رابعاً: الآدمي، ولكنه هنا غير وارد؛ لأن استعمال جلده محرَّم، لا لنجاسته، ولكن لحرمته.
فلو دَبغ إنسان جلد فأرة، أو هِرَّة فإنه لا يَطْهُرُ على المذهب، لكن يُباح استعماله في يابس.
وقيل: يَطْهُرُ، ويُباح استعمالُه في اليابسات والمائعات(2)، وعلى هذا يصحُّ أن نجعلَ جلد الهِرَّة سِقاء صغيراً، إذا دبغناه لأنه طَهُرَ.(135/14)
وقيل: إن جلد الميتة لا يطهر بالدِّباغ؛ إلا أن تكون الميتةُ مما تُحِلُّه الذَّكاة(1)، كالإبل والبقر والغنم ونحوها، وأما ما لا تحلُّه الذَّكاة فإنه لا يطهر، وهذا القول هو الرَّاجح؛ وهو اختيار شيخنا عبدالرحمن السَّعدي رحمه الله(2)، وعلى هذا فجلد الهِرَّة وما دونها في الخلقة لا يطهر بالدَّبغ.
فمناط الحُكم على المذهب هو طهارة الحيوان في حال الحياة، فما كان طاهراً فإنه يُباحُ استعمال ُجلد ميتته بعد الدَّبغ في يابس، ولا يطْهُر. وعلى القول الثاني يطْهُر مطلقاً. وعلى القول الثالث يطْهُر إذا كانت الميتة مما تُحِلُّه الذَّكاة.
والرَّاجح: القول الثالث؛ بدليل أنه جاء في بعض ألفاظ الحديث:"دباغُها ذكاتها"(3) فعبَّر بالذَّكاة، ومعلوم أن الذَّكاة لا تُطَهِّر إلا ما يُباح أكله، فلو أنك ذبحت حماراً، وذكرت اسم الله عليه، وأنهرالدَّم، فإنه لا يُسمَّى ذكاة. وعلى هذا نقول: جلد ما يحرم أكله، ولو كان طاهراً في الحياة، لا يطهر بالدِّباغ. ووجهه: أنَّ الحيوان الطَّاهر في الحياة إنما جُعِلَ طاهراً لمشقَّة التحرز منه لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنها من الطَّوافين عليكم" وهذه العِلَّة تنتفي بالموت، وعلى هذا يعود إلى أصله وهو النَّجَاسة، فلا يَطْهُر بالدِّباغ.
فيكون القول الرَّاجح: أن كلَّ حيوان مات وهو مما يُؤكل؛ فإن جلده يَطْهُر بالدِّباغ، وهذا أحد قولي شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وله قول آخر يوافق قول من قال: إن ما كان طاهراً في الحياة فإنّ جلده يطهر بالدَّبغ(1).
قوله: "ولبنُها" لبن الميتة نجس، وإن لم يتغيَّر بها؛ لأنه مائع لاقى نجساً فتنجَّس به ؛كما لو سقطت فيه نجاسة ـ وإلا فهو في الحقيقة منفصل عن الميتة قبل أن تموت ـ لكنهم قالوا: إنها لمَّا ماتت صارت نجسةً، فيكون قد لاقى نجاسةً فتنجَّس بذلك.(135/15)
واختار شيخ الإسلام أنَّه طاهر(2) بناءً على ما اختاره من أن الشيء لا ينجس إلا بالتغيُّر(3)، فقال: إن لم يكن متغيِّراً بدم الميتة، وما أشبه ذلك فهو طاهر.
والذي يظهر لي رجحانه في هذه المسألة هو المذهب؛ لأنَّه وإن انفصل واجتمع في الضَّرع قبل أن تموتَ فإنه يسير بالنسبة إلى ما لاقاه من النَّجاسة، لأنها محيطة به من كل جانب، وهو يسير، ثم إن الذي يظهر سريان عُفونة الموت إلى هذا اللَّبن؛ لأنه ليس كالماء في قُوَّة دفع النَّجَاسة عنه.
والمذهب، وإن كان فيه نَظَر من حيث قاعدة: أن ما لا يتغيَّر بالنَّجَاسة فليس بنجس، وهذه قاعدة عظيمة محكمة، لكن الأخذ به هنا من باب الاحتياط، وأيضاً بعموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة {المائدة: 3} واللَّبن في الضَّرع قد يكون داخلاً في هذا العموم.
قوله: "وكل أجزائها نجسةٌ" كاليد، والرِّجْل، والرَّأس ونحوها لعموم قوله تعالى: إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس {الأنعام: 145} والميتةُ تُطلَقُ على كلِّ الحيوان ظاهره، وباطنه.
قوله: "غيرُ شَعْر ونحوه" كالصُّوف للغنم، والوبر للإبل، والرِّيش للطيور، والشَّعر للمَعْز والبقر، وما أشبهها.
ويُستثنى من ذلك ما يلي:
1ـ عظم الميتة، على ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (1) وهو أحد القولين في المذهب(1)، ويُستَدَلُّ لذلك: بأنَّ العظم وإن كان يتألَّم ويحسُّ لكنه ليس فيه الحياة الكاملة، ولا يحُلُّه الدَّم، وليس له حياة إلا بغيره، فهو يشبه الظُّفر والشَّعر وما أشبه ذلك، وليس كبقية الجسم. ويُقالُ أيضاً: إنَّ مدار الطَّهارة والنَّجاسة على الدَّم؛ ولهذا كان ما ليس له نَفْسٌ سائلة طاهراً.(135/16)
ولكن الذي يظهر أن المذهب في هذه المسألة هو الصَّواب؛ لأن الفرق بين العظم وبين ما ليس له نَفْسٌ سائلة أن الثاني حيوان مستقل، وأما العظم فكان نجساً تبعاً لغيره؛ ولأنَّه يتألّم فليس كالظُّفر أو الشَّعر، ثم إن كونه ليس فيه دم محلُّ نظر؛ فإن الظّاهر أن فيه دماً كما قد يُرى في بعض العظام.
2ـ السَّمك وغيره من حيوان البحر بدون استثناء، فإنه ميتته طاهرة حلال لقوله تعالى: أحل لكم صيد البحر وطعامه {المائدة: 96} ، وتقدَّم تفسير ابن عباس للصَّيد، والطَّعام(2).
ويلزم من الحِلِّ الطَّهارة، ولا عكس، فيتلخَّص عندنا ثلاث قواعد:
أ ـ كُلُّ حلال طاهر.
ب ـ كُلُّ نجس حرام.
جـ ـ ليس كُلُّ حرام نجساً.
3ـ ميتة الآدمي لعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّ المؤمن لا ينجس"(1)، ولأن الرَّجُل إذا مات يُغسَّل، ولو كان نجساً ما أفاد به التغسيل.
4ـ ميتة ما ليس له دم، والمراد الدَّم الذي يسيل إذا قُتل، أو جُرح، كالذُّباب، والجراد، والعقرب. والدَّليل على ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إذا وقع الذُّبابُ في شراب أحدِكم فلْيغمسه ثم لينزعْه"(2).
فقوله: "فلْيغمسْه" يشمل غمسُه في الماء الحار، وإذا غُمس في الماء الحار فإنه يموت، فلو كان ينجس لأمر الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بإراقته.
ونضيف للقواعد السابقة قاعدة رابعة وهي: أنه لا يلزم من الطَّهارة الحِلُّ.
وقوله: "غيرُ شَعْرٍ ونحوه"اشترطوا ـ رحمهم الله ـ في الشَّعر ونحوه أن يُجَزَّ جزًّا لا أن يُقَلَعَ قلعاً(3)، لأنه إذا قُلِعَ فإن أصوله محتقن فيها شيء من الميتة، وهذا يظهر جدًّا في الرِّيش، أما الشَّعر، فليس بظاهر؛ لكنه في الحقيقة منغرس في الجلد، وفيه شيء مباشر للنَّجَاسة.
وبهذا علمنا أن الميتة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1ـ الشَّعر ونحوه طاهر.(135/17)
2ـ اللحم، وما كان داخل الجلد نجس، ولا ينفع فيه الدَّبغ.
3ـ الجلد وهو طبقة بينهما، وحكمه بين القسمين السَّابقين.
(تتمة) ذكر الفقهاء رحمهم الله: أنَّ جعلَ المُصْرَان والكِرْش وتَراً ـ أي حبالاًـ دِبَاغٌ، أي بمنزلة الدِّباغ(1)، وبناءً عليه لا يكون طاهراً، ويجوز استعماله في اليابسات على المذهب.
لكن صاحب "الفروع" ـ رحمه الله ـ وهو من أشهر تلاميذ شيخ الإسلام رحمه الله ـ ولا سيَّما في الفقه - يقول: "يتوجَّه لا"(2): والمعنى: أنه يرى أن الأوجه بناءً على المذهب، أو على القول الرَّاجح عنده أنَّه ليس دباغاً. وما قاله متوجِّه؛ لأن المُصْرَان والكِرْش من صُلب الميتة. والصَّواب ما ذهب إليه صاحب "الفروع".
وبهذه المناسبة: إذا قيل: "يتوجَّه كذا" فهو من عبارات صاحب "الفروع"، وإذا قيل: "يتَّجه كذا" فهو من عبارات مرعي صاحب "الغاية"، وهو من المتأخرين جمع في "الغاية" بين "المنتهى" و"الإقناع".
لكن بين توجيهات صاحب "الفروع" واتجاهات صاحب "الغاية" من حيث القوَّةُ والتَّعليل والدَّليل فرق عظيم.
فتوجيهات صاحب "الفروع" غالباً تكون مبنيَّة على القواعد والأصول، أما اتجاهات صاحب "الغاية" فهي دون مستوى تلك.
قوله: "وما أُبين من حيٍّ فهو كميتته" هذه قاعدة فقهية.
وأُبين: أي فُصل من حيوان حيٍّ.
وقوله: "كميتته" يعني: طهارة، ونجاسة، حِلاً، وحُرمة، فما أُبينَ من الاّدمي فهو طاهر، حرام لحرمته لا لنجاسته، وما أُبين من السَّمك فهو طاهر حلال، وما أبين من البقر فهو نجس حرام، لأنَّ ميتتها نجسة حرام، ولكن استثنى فقهاؤنا ـ رحمهم الله تعالى ـ مسألتين(1):(135/18)
الأولى: الطَّريدة: فعيلة بمعنى مفعولة، وهي الصيد يطرده الجماعة فلا يدركونه فيذبحوه، لكنهم يضربونه بأسيافهم أو خناجرهم، فهذا يقطع رِجْلَه، وهذا يقطع يده، وهذا يقطع رأسه حتى يموت، وليس فيها دليل عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلا أن ذلك أُثِرَ عن الصَّحابة رضي الله عنهم(2).
قال الإمام أحمد ـ رحمه الله: ـ كانوا يفعلون ذلك في مغازيهم، ولا يرون به بأساً، والحكمة في هذا ـ والله أعلم ـ: أن هذه الطَّريدة لا يُقدَرُ على ذبحها، وإذا لم يُقدَرْ على ذبحها، فإنها تحِلُّ بعقرها في أي موضع من بدنها، فكما أنَّ الصَّيد إذا أصيب في أي مكان من بدنه ومات فهو حلال؛ فكذلك الطَّريدة؛ لأنها صيد إلا أنها قطعت قبل أن تموت.
قال أحمد: "فإن بقيت" ، أي: قطعنا رجلها، ولكن هربت ولم ندركها؛ فإن رجلها حينئذ تكون نجسة حراماً؛ لأنها بانت من حَيٍّ ميتتة نجسة.
الثانية: المِسْك وفأرته، ويكون من نوع من الغزلان يُسمَّى غزال المسك.
يُقال: إنهم إذا أرادوا استخراج المِسْكِ، فإنهم يُركِضُونه فينزل منه دم من عند سُرَّته، ثم يأتون بخيط شديد قويٍّ فيربطون هذا الدم النازل ربطاً قويًّا من أجل أن لا يتَّصل بالبدن فيتغذَّى بالدَّم، فإذا أخذ مدَّة فإنه يسقط، ثم يجدونه من أطيب المسك رائحة.
وهذا الوعاء يُسمَّى فأرة المِسْك، والمِسْكُ هو الذي في جوفه، فهذا انفصل من حَيٍّ وهو طاهر على قول أكثر العلماء(1).ولهذا يقول المتنبي:
فإنْ تَفُقِ الأنامَ وأنت منهمفإنَّ المِسْكَ بعضُ دم الغزال(1)(135/19)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
بابُ الاستِنْجَاء
محمد بن صالح العثيمين
(تمهيد)
اعلمْ أن الله عزَّ وجلَّ قد أسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، من الأكل والشَّراب واللباس والمسكن، وغير ذلك من نِعَمِه التي لا تُحصى ولا تُعدُّ.
الأكلُ والشَّرابُ علينا فيهما نِعَمٌ سابقةٌ ولاحقةٌ.
أما السَّابقة: فإن هذا الماء الذي نشربه ما جاء بحولنا ولا بقوتنا قال الله تعالى أفرأيتم الماء الذي تشربون ( 68 ) أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون {الواقعة: 68، 69}. وقال تعالى قل أرأيتم إن أصبح ماؤكم غورا فمن يأتيكم بماء معين {الملك: 30}. وقال تعالى فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين {الحجر: 22}
فبيَّن الله تعالى نعمته علينا بالماء النازل من السماء، والنابع من الأرض.
والطعام الذي نأكله قال الله تعالى عنه أفرأيتم ما تحرثون 63 أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون 64 لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون {الواقعة: 63 - 65} فهذه نِعْمَةٌ عظيمة من الله، فهو الذي زَرَعهُ، ونمَّاهُ حتى تكامل، ويسَّرَ لنا الأسباب التي تُيسِّرُ جنيه، وحصاده، ثم طَحْنه وطَبْخه، إلى غير ذلك من النِّعَم الكثيرة.
قال بعض العلماء: إنه لا يُقدَّم الطعام بين يديك إلا وفيه ثلاثمائة وستون نِعْمَة(1)، هذا الذي يُدْرَكُ فكيف بالذي لا يُدْرَك؟
ثم بعد ذلك نِعَمٌ عند تناوله، وعندما تأكله على جوع ماذا تكون لذته؟
وعندما تطعمه في فمك تجد لذَّة، وعندما يمشي في الأمعاء لا تجد تعباً في ذلك.
فالآن لو يقف على يدك بعوضة أحسست برجليها وتقشعر منها، لكن هذا الطعام الغليظ ينزل في هذه الأمعاء الرَّقيقة ولا تحسُّ به.
نِعْمَة من الله عزَّ وجلَّ؛ لأن داخل الجوف ليس فيه إحساس فيمرُّ فيه بدونَ إحساس.
ثم إن الله تعالى خلق غُدَداً تُفرِز أشياء تُلَيِّن هذا الطعام وتخفِّفه حتى ينزل.(136/1)
ثم إن الله عزَّ وجلَّ جعل له قنوات يذهب معها الماء، وهناك عروق شارعة في هذه الأمعاء تُفرِّق الدَّمَ على الجسم؛ فأين توصله؟ توصله إلى القلب.
ثم إن هذا القلب الصَّغير في لحظة من اللحظات يُطهِّرُ هذا الدَّمَ، ثم يخرجه إلى الجانب الآخر من القلب نقيًّا، ثم يدور في البدن، ثم يرجع مرَّة ثانية إلى القلب فيطهِّره ويصفيه، ثم يعيده نقيّاً، وهكذا دواليك .
كلُّ هذا ونحن لا نحسُّ بهذا الشيء؛ وإلا فالقلب يُصدِرُ نبضات، كلُّ نبضة تأخذ شيئاً، والنبضة الأخرى تخرج شيئاً من هذا الدم.
ومع ذلك يذهب هذا الدَّم إلى جميع أجزاء الجسم بشُعَيْرَات دقيقة منظَّمة مرتَّبة على حسب حكمة الله وقدرته، ومع هذا أيضاً: فإنَّ من قدرة الله العظيمة البالغة أنَّ مجاريَ العُروق لا تتَّفق في الأعضاء، فكلُّ عضو له مجارٍ خاصَّة؛ بمعنى أنَّ يدك اليُمنى ليست المجاري فيها كيدك اليسرى؛ بل تختلف.
وكذلك بالنسبة إلى الرِّجل تختلف، كلُّ هذا من أجل بيان قُدرة الله عزَّ وجلَّ.
ولاشكَّ أن هذا لمقتضي الحكمة، فلولا أن هناك حكمة تقتضي أن لهذه اليد مجاري معيَّنة؛ ولهذه اليد مجاري خاصَّة لم يخلقها الله هكذا.
المهم من كلِّ هذا: أن نبيَّن به أن و علينا نعماً ماديَّة بدنيَّة في هذا الطَّعام، سابقة على وصوله إلينا ولاحقة.
ثم إن هناك نعماً دينيَّة تتقدَّم هذا الطعام وتلحقه، فتُسمِّي عند الأكل؛ وتحمد إذا فرغت. فإن الله تعالى يرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشَّربة فيحمده عليها، ورضى الله غايةُ كلِّ إنسان، فمن يُحصِّل رضى الله عزَّ وجلَّ؟ فنحن نتمتَّع بنعمه، فإذا حمدناه عليها رضي عنَّا، وهو الذي تفضَّل بها أولاً.
وهذه النِّعمة ـ وهي رضى الله ـ أكبر من نعمة البدن.(136/2)
ما ظنُّكم لو لم يشرع الله لنا أن نحمده عند الأكل والشُّرب؛ فإننا لو حمدناه لصرنا مبتدعين وصرنا آثمين. لكنه شرع لنا ذلك من أجل أن يوصلنا إلى رضاه، أسأل الله أن يحقِّق ذلك لنا جميعاً.
فهذه نعمة عظيمة لا يدركها الإنسان إلا عند التأمل.
وأيضاً: عند تفريغ وإخراج هذا الذي أكلناه وشربناه يحصُل لنا نعم جِسْميَّة وحسيَّة، شرعيَّة ودينية.
فالنِّعم الحسيَّة فيما لو احتقن هذا الطَّعام أو الشَّراب في جسمك ولم يخرج؛ فإن المآل الموت المحقق، ولكنه بنعمة الله يخرج.
ولو احتقنت الرِّيح التي جعلها الله تعالى كالجندي بين يدي الأمير لتفتح المجاري أمام ما يعبر منها من الطَّعام والشَّراب، فلو أنها أنسدت ماذا يكون؟ ينتفخ البطن ثم يتمزَّق فيموت الإنسان، وكذلك البول.
إذاً؛ فَللَّهِ علينا نعمة في خروجه، وفي تيسيره نعمة كبرى، والحمد و، نسأل الله لنا ولكم دوام النعمة، فإذا أردت حبسته، وإذا أردت فتحته، ومن يستطيع أن يفتح المكان حتى ينزل البول لولا أن الله يسَّر ذلك، وكذلك متى شئت، فقد تذهب وتبول وليس في المثانة إلا ربعها، أي أن المسألة ليست إجبارية وقد تحبسه وهي مملؤة؛ ولكنك تستطيع أن تتحمَّل.
فهذه من نِعَمِ الله، ولا يعرف قَدْرَ هذه النعمة إلا من ابتُليَ بالسَّلس، أو الحصر نسأل الله السلامة.
وكذلك بالنسبة إلى الخارج الآخر فيه نِعَمٌ عظيمة، ومع ذلك هناك نِعَمٌ دينيَّة مقرونة بهذه النِّعم البدنية، فعند الدخول هناك ذكر مشروع يقربك إلى الله، وعند الخروج ذكر مشروع يقربك إلى الله عزَّ وجلَّ.
فتأمل نعم الله عليك، فهي سابغة وشاملة واسعة دينية ودنيوية، وبهذا تعرف صدق هذه الآية قال تعالى: وإن تعدوا نعمت الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار {إبراهيم: 34} ، وقال : وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الله لغفور رحيم {النحل: 18} فبيَّن الله حالَ الإنسان وشأن الربِّ عند النِّعمة العظيمة.(136/3)
فحال العبد: الظلم والكفر، ظلم نفسه وكفر نعمة ربِّه.
وشأن الربِّ عزَّ وجلَّ: أن يقابل هذا الظُّلم وهذا الكفر بالمغفرة والرحمة وو الحمد.
هذا الباب ذكر فيه المؤلِّفُ ـ رحمه الله تعالى ـ الاستنجاء، وآداب قضاء الحاجة.
قوله: "الاستنجاء" استفعال من النَّجْو، وهو في اللُّغة القطع، يقال: نَجوت الشَّجرة، أي: قطعتها.
وهو اصطلاحاً: إزالةُ الخارج من السَّبيلين بماء أو حَجَر ونحوه، وفي ذلك قطع لهذا النَّجس. وهذا وجه تعلُّق الاشتقاق بالمعنى الاصطلاحي.
قوله: "يُسْتَحبُّ عِنْدَ دُخولِ الخلاءِ " اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ هل المستحب مرادف للمسنون، أو المستحب ما ثبت بتعليل، والمسنون ما ثبت بدليل؟
فقال بعضهم: الشَّيء الذي لم يثبت بدليل، لا يُقال فيه: يُسَنُّ، لأنك إذا قَلت: "يُسَنُّ" فقد أثبتَّ سُنَّة بدون دليل، أما إذا ثبت بتعليل ونظر واجتهاد فيُقال فيه: "يُسْتَحب"؛ لأن الاستحباب ليس كالسُّنَّة بالنسبة لإضافته إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (1).
وقال أكثرهم: لا فرق بين "يُستحبُّ"، و"يُسَنُّ"(2)؛ ولهذا يُعبِّر بعضهم بـ "يُسَنُّ" وبعضهم بـ "يُستحبُّ".
ولا شَكَّ أن القول الأول أقرب إلى الصِّحة، فلا يُعبَّر عن الشَّيءِ الذي لم يثبت بالسُّنَّة بـ "يُسنُّ"، ولكن يُقال: نستحبُّ ذلك، ونرى هذا مطلوباً، وما أشبه ذلك.
قوله: "قول بسم الله" هذا سُنَّةٌ ؛ لما رواه عليُّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه قال: "سَتْرُ ما بين أعيُنِ الجِنِّ، وعَوْرَاتِ بني آدم، إذا دخل أحدُهم الكَنيفَ أن يقول: بسم الله"(1).
قوله "أعوذُ بالله من الخُبث والخبائث" وهذا سُنَّةٌ؛ لحديث أنس رضي الله عنه في "الصَّحيحين" أن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان إذا دخل الخلاء قال: "اللهم إني أعوذ بك من الخُبُثِ والخَبَائث"(2).(136/4)
الخُبْث بسكون الباء وضمِّها: ـ فعلى رواية التَّسكين ـ الشَّرُّ، والخبائث: النفوس الشِّرِّيرة ـ وعلى رواية الضمِّ ـ جمع خبيث، والمراد به ذُكران الشَّياطين، والخبائث جمع خبيثة، والمراد إناث الشَّياطين.
والتسكين أعمُّ، ولهذا كان هو أكثر روايات الشُّيوخ كما قاله الخطابي رحمه الله(1).
فائدةُ البسملة: أنها سَتْرٌ.
وفائدة هذه الاستعاذة: الالتجاء إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ من الخُبث والخبائث؛ لأن هذا المكان خبيث، والخبيث مأوى الخبثاء فهو مأوى الشَّياطين، فصار من المناسب إذا أراد دخول الخلاء أن يقول: أعوذ بالله من الخُبث والخبائث. حتى لا يصيبه الخُبث وهو الشَّرَّ، ولا الخبائث وهي النُّفوس الشِّرِّيرة.
والعندية في كلام المؤلِّف هنا تعني قبل الدُّخول، فإن كان في البَرِّ ـ مثلاً ـ استعاذ عند الجلوس لقضاء الحاجة.
والخلاء: أصله المكان الخالي، ومناسبته هنا ظاهرة؛ لأنَّ هذا المكان لا يجلس فيه إلا واحد.
وقوله: "قولُ" أي: يقول بلسانه إلا من أخْرَس فيقول بقلبه.
وقوله: "أعوذُ بالله" أي: أعتصم وألتجئُ بالله عزَّ وجلَّ.
قوله: "وعند الخَروج ِمنه: غُفْرانك" أي: يُسَنُّ أن يقول بعد الخروج منه: غفرانك، للحديث الصَّحيح عن عائشة رضي الله عنها أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان إذا خرج من الغائط قال: "غُفْرَانك"(1)، والعندية هنا بعديَّة، أي: يقول ذلك بعد خروجه، فإن كان في البَرِّ فعند مفارقته مكان جُلوسه.
وقوله: "غُفْرَانك": غُفْرَان: مصدر غَفَر يغْفِرُ غَفْراً، وغُفْرَاناً، كشَكَر يَشْكُر شُكْراً وشُكْرَاناً، فقوله غُفْرَانك: مصدر منصوب بفعل محذوف تقديره: أسألك غفرانك.
والمغفرة هي سَتْر الذَّنب والتَّجاوز عنه، لأنَّها مأخوذة من المِغْفَرِ وفي المِغفر سَتْر ووقاية، وليس سَتْراً فقط، فمعنى: اغفر لي؛ أي: استُرْ ذنوبي، وتجاوز عَنِّي حتى أسَلَم من عقوبتها، ومن الفضيحة بها.(136/5)
ومناسبة قوله: "غُفْرَانك" هنا:
قيل: إن المناسبة أن الإنسان لما تخفَّف من أذيَّة الجسم تذكَّر أذيَّةَ الإثم؛ فدعا الله أن يخفِّف عنه أذيَّة الإثم كما مَنَّ عليه يتخفيف أذيَّة الجسم، وهذا معنى مناسب من باب تذكُّر الشيء بالشيء(1).
وقال بعض العلماء: إنه يسأل الله غُفْرَانه، لأنه انحبس عن ذكره في مكان الخلاء، فيسأل الله المغفرة له ذلك الوقت الذي لم يذكر الله فيه(2).
وفي هذا نظر: لأنه انحبس عن ذكر الله بأمر الله، وإذا كان كذلك فلم يعرِّض نفسه للعقوبة، بل عرَّضها للمثوبة؛ ولهذا الحائض لا تُصلِّي، ولا تصوم، ولا يُسَنُّ لها إذا طَهُرت أن تستغفر الله بتركها الصَّلاة والصَّوم أيام الحيض. ولم يقله أحد، ولم يأتِ فيه سُنَّة.
والصَّحيح هو الأول.
قوله: "الحمد و الذي أذْهب عَنِّي الأذى وعَافَاني". قوله: "الأذى" أي: ما يؤذيني من البول والغائط. و"عافاني" أي: من انحباسهما المؤدِّي إلى المرض أوالهلاك. والحديث الوارد في هذا فيه ضعف(3).
قوله: "وتَقْديمُ رجْله اليُسْرى دُخُولاً، واليُمنى خروجاً، عَكس مَسْجدٍ، ونعْلٍ". أي: يستحبُّ أن يُقدِّمَ رجله اليُسرى عنده دخول الخلاء، ويُقدِّمَ اليُمنى إذا خرج، وهذه مسألة قياسيَّة، فاليمنى تُقَدَّم عند دخول المسجد كما جاءت السُّنَّة بذلك(1)، واليسرى عند الخروج منه، وهذا عكس المسجد. وكذلك النَّعل ثبت عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه أمر لابس النَّعل أن يبدأ باليُمنى عند اللُّبس، وباليُسرى عند الخلع، وهذا في "الصَّحيحين"(2) قالوا: فدَّل هذا على تكريم اليُمنى؛ لأنه يبدأ بها باللُّبس الذي فيه الوقاية، ويبدأ باليُسرى بالخلع الذي فيه إزالة الوقاية، ولا شكَّ أن الوقاية تكريم.
فإذا كانت اليُمنى تُقدَّم في باب التَّكريم، واليُسرى تُقدَّم في عكسه، فإنه ينبغي أن تُقدَّم عند دخول الخَلاء اليُسرى، وعند الخروج اليُمنى؛ لأنَّه خروج إلى أكملَ وأفضُلَ(1).(136/6)
قوله: "واعتمادُه على رجْلِه اليُسرى" يعني: يُستحبُّ أن يعتمدَ على رجله اليُسرى عند قَضَاء الحاجة، واستدلَّ الأصحاب لذلك بأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "أمر أصحابه أن يعتمدوا على الرِّجْلِ اليُسرى، وأن ينصِبُوا اليُمنى"(2) وهذا الحديث ضعيف.
وعَلَّلُو ذلك بعلَّتين(3):
الأولى: أنَّه أسهل لخروج الخارج، وهذا يُرْجَعُ فيه إلى الأطبَّاء، فإن ثبت هذا طبًّا يكون من باب مراعاة الصِّحة.
الثانية: أنَّ اعتماده على اليُسرى دون اليُمنى من باب إكرام اليمين، وهذه عِلَّة ظاهرة، لكن فيه نوع من المشقَّة إذا نُصبت اليُمنى، واعتُمِد على اليُسرى، ولاسيَّما إذا كان قاضي الحاجة كثير اللحم، أو كبير السِّنِّ، أو ضعيف الجسم فيتعب في اعتماده على اليُسرى، ويتعب في نصب اليُمنى.
ولهذا لو قال قائل: ما دامت المسألة ليست فيها سُنَّة ثابتة عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فإن كون الإنسان يبقى على طبيعته معتمداً على الرِّجلين كلتيهما هو الأولى والأيسر.
قوله: "وبُعْدُه في فَضَاء" الضَّمير يعود إلى "قاضي الحاجة"، والمراد بُعْدُهُ حتى لا يُرى جسمُه، وذلك إذا كان في مكان ليس فيه جُدران، أو أشجار ساترة، أو جبال، يبعد في الفضاء حتى يستترَ؛ لحديث المغيرة بن شُعبة في "الصَّحيحين" قال: "فانطلق حتى تَوَارى عَنِّي فقضى حاجته"(1) وأيضاً: فيه من المروءة والأدب ما هو ظاهر.
قوله: "واستتارُه" يعني: يُستحب استتارُه، والمراد استتارُ بدنِه كُلِّه، وهذا أفضل؛ لما تقدَّم من حديث المغيرة بن شُعبة. وأما استتارُه بالنسبة للعورة فهو أمر واجب.
قوله: "وارتيادُه لبوله مكاناً رَخْواً" ارتياد: أي: طلب، و"لبوله" يعني: دون غائطه، و "رخواً": مثلث الرَّاء ومعناه المكان اللَّيِّن الذي لا يُخشى منه رَشاشُ البول.
فإن قيل: لماذا يُستََحبُّ؟(136/7)
فالجواب: أنه أسلم من رَشَاش البول، وإن كان الأصلُ عدمُ إصابتَهِ، لكن رُبَّما يَفتح باب الوِسواس إذا كان المكان صُلباً.
وكثير من النَّاس يُبتلى بالوِسواس في هذه الحال، فيقول: أخشى أن يكون قد رُشَّ عليَّ، ثم تبدأ النَّفسُ تعملُ عَمَلَها حتى يَبقى شاكًّا في أمره.
فإن كان في أرض ليس حولَه شيءٌ رخْوٌ، قالوا: يُدني ذَكَرَه من الأرض حتى لا يحصُل الرَّشاش(1)، وهذا صحيح، وكُلُّ هذا إبعاد عن الوِسواس والشُّكوك التي يُلقيها الشَّيطانُ في نفس الإنسان.
قوله: "ومَسْحُه بيده اليُسرى..." أي: يُستحبُّ أن يمسح إذا فرغَ من البول من أصل الذَّكر ـ وهو عند حلقة الدُّبُر ـ إلى رأسه ثلاث مرات؛ لأجل أن يخرج ماتَبَقَّى في القناة من البول؛ لأنه رُبَّما يَبْقى بولٌ، فإذا قام أو تحرَّك نزل، فمن أجل ذلك يَحْلُبُه بمسحه من عند حَلَقَة الدُّبُر إلى رأسه.
وهذا قول ضعيف جدًّا؛ لأنه لم يصحَّ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. ولضرره بمجاري البول، فربما تتمزَّقُ بهذا المسح، ولاسيَّما إذا أُضيف إليه النَّتْرُ فإنه يُحدث الإدرار، ولهذا قال شيخ الإسلام: "الذَّكَرُ كالضَّرع، إن حلبته دَرَّ، وإن تركته قَرَّ(1)"، وعلى هذا فلا يُستَحبُّ المسحُ، بل إذا انتهى البول يغسل رأسَ الذَّكر فقط.
قوله: "ونَتْرُه ثلاثاً" النَّتْرُ معناه: أن يحرِّك الإنسان ذَكَره من الدَّاخل لا بيده لحديث: "إذا بَالَ أحدُكم فَلْيَنْتُرْ ذَكَره ثلاثاً"(2) قالوا: ولأجل أن يخرج بقيَّة البول إن كان فيه شيء من البول، لكنّ الحديث ضعيف لا يُعتمد عليه، والنَّتْرُ من باب التنطعِ المنهيِّ عنه، ولهذا قال شيخ الإسلام: "النَّتْرُ بدعة وليس سُنَّة، ولا ينبغي للإنسان أن يَنْتُرَ ذَكَرَه"(3).
وهذان الأمران اللَّذان ذكرهما الأصحاب يُشبهان ما ذكره بعض العلماء من أنَّه ينبغي للإنسان أن يَتَنَحْنَحَ ليخرج باقي البول إن كان فيه(4).(136/8)
وبعضهم قال: ينبغي أن يقومَ ويمشيَ خطوات(1).
وبعضهم قال: ينبغي أن يصعدَ درجة ويأتيَ من أعلاها بسرعة(1)، والتَّعليل ما سبق.
وكُلُّ هذا من الوساوس التي لا أصل لها، والدِّينُ ـ وو الحمد ـ يُسْرٌ.
صحيحٌ أن بعض النَّاس قد يُبتلى إذا لم يمشِ خطوات ويتحرَّك بخروج شيء بعد الاستنجاء، فهذا له حكم خاصٌّ، فيمكن أن نقول له: إذا انتهى البول وكان من عادته أن ما بقي من البول لا يخرج إلا بحركة، ومشي، فلا حرج أن تمشيَ بشرط أن يكون عنده علم ويقين بأنه يخرج منه شيء، أما مجرد الوهم فلا عِبْرَة به، وهذا كعلاجٍ لهذا الشَّخص ولا يُجعل هذا أمراً عاماً لكلِّ أحد.
قوله: "وتَحوُّلُه من موضعه؛ ليستَنْجيَ في غيره إن خافَ تلوُّثاً".يعني: انتقاله من موضع قضاء الحاجة ليستنجيَ بالماء إن خاف تلوُّثاً؛ كأن يخشى من أن يضربَ الماء على الخارج النَّجس ثم يُرشُّ على ثوبه، أو فخذه، أو ما أشبه ذلك، فيُقال: الأفضل أن تنتقلَ درءاً لهذه المفسدة. وأيضاً: مثل هذه الأمور قد تُحدث وسوسة.
أما إذا لم يخَفْ، كما يوجد في المراحيض الآن، فإنَّه لا ينتقل.
قوله: "ويُكْرَه دُخولُهُ بشيء فيه ذِكْرُ الله تعالى". الضَّمير في قوله: "دُخولُه" يعود إلى "قاضي الحاجة"، ويُحتمل أن يعود إلى "الخلاء".
والمُراد بذكر الله هنا "اسم الله" لا الذِّكر المعروف؛ لأنهم استدلُّوا بحديث أنس رضي الله عنه أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان إذا دخل الخلاء وضع خَاتَمة(1)؛ لأنه كان منقوشاً فيه: "محمَّدٌ رسولُ الله" وهذه ليست من الذِّكر المعروف، فيقتضي أن كُلَّ ما فيه اسمُ الله يُكرَه دُخولُ الخلاء به.
والحديث معلول، وفيه مقال كثير(1). ومن صحَّحَ الحديث أو حسَّنه قال بالكراهة. ومن قال: إنه لا يصحُّ؛ قال بعدم الكراهة، لكن الأفضل أن لا يدخُلَ.
وفرق بين قولنا: الأفضل، والقول: إنه مكروه، لأنَّه لا يلزم من ترك الأفضل الوقوع في المكروه.(136/9)
واستثنى بعض العلماء "المُصْحَفَ" فقال: يحرم أن يدخَلَ به الخَلاء سواءٌ كان ظاهراً أم خفيًّا(2)؛ لأن "المُصْحَفَ" فيه أشرف الكلام، ودخول الخلاء فيه نوع من الإهانة.
قوله: "إلا لحاجة" هذا مستثنى من المكروه، يعني إذا احتاج إلى ذلك كالأوراق النقديَّة التي فيها اسم الله فلا بأس بالدُّخول بها، لأنَّنَا لو قلنا: لا تدخل بها ثم أخرَجَها ووضعها عند باب الخلاء صارت عُرضة للنسيان، وإذا كان في محلٍّ بارح صارت عُرضة لأن يطير بها الهَواءُ، وإذا كان في مجمع من النَّاس صارت عُرضةً لأن تُسرق.
أما "المُصْحَفُ" فقالوا: إن خاف أن يُسرقَ، فلا بأس أن يدخلَ به(2)، وظاهر كلامهم: ولو كان غنيًّا يجدُ بَدَلَه.
وعلى كُلِّ حالٍ ينبغي للإنسان في "المُصْحَفِ" خاصَّة أن يحاول عدم الدُّخول به، حتى وإن كان في مجتمع عامٍّ من النَّاس، فيعطيه أحداً يمسكه حتى يخرج.
قوله: "ورَفْعُ ثَوْبهِ قَبلَ دُنُوِّه مِن الأرض". أي: يُكره لقاضي الحاجة أن يرفَعَ ثوبَه قبل أن يدنوَ من الأرض، وهذا له حالان:
الأولى: أن يكون حوله من ينظره، فرفْعُ ثوبهِ هنا قبل دنوِّه من الأرض محرَّم؛ لأنَّه كَشْفٌ للعورة لمن ينظر إليها، وقد نهى النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن ذلك، فقال: "لا ينظر الرَّجُل إلى عورة الرَّجُل"(1).
الثانية: كشفه وهو خالٍ ليس عنده أحد، فهل يُكرَهُ أم لا؟ هذا ينبني على جواز كشف العورة والإنسان خالٍ.
وفيه ثلاثة أقوال للعلماء(2):
الأول: الجواز. الثاني: الكراهة.
الثَّالث: التَّحريم، وهو المذهب. لكن اقتصروا على الكراهة هنا؛ لأنَّ كشفها هنا لسببٍ وهو قضاءُ الحاجة، لكن كرهوا أن يرفع ثوبَه قبل دُنوِّه من الأرض؛ لعدم الحاجة إلى الرَّفْعِ حينئذ، ولم يقولوا بالتَّحريم؛ لأن أصل الكشف هنا مباح.
أما إذا أراد أن يبولَ وهو قائم، فإنه سيرفع ثوبه وهو واقف، ولكن نقول: إن القائم دانٍ من قضاء الحاجة؛ لأنه سيقضيها وهو قائم.(136/10)
والبول قائماً جائزٌ، ولاسيَّما إذا كان لحاجة، ولكن بشرطين:
الأول: أن يأمنَ التَّلويث.
الثاني: أن يأمنَ النَّاظر.
وقد ثبت في "الصَّحيحين" من حديث حُذيفة ـ رضي الله عنه ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أتى سُبَاطَةَ قومٍ فبالَ قائماً(1).
قال بعض العلماء: فعل ذلك لبيان الجواز، وقال آخرون: فعله للحاجة(2)؛ لأن السُّبَاطة كانت عند قوم مجتمعين ينظرون إليه، فهو إن قعد في أعلاها مستدبراً لهم ارتد بولُه إليه، وإن قعد في أعلاها مستقبلاً لهم انكشفت عورته أمامهم، فما بقي إلا أن يقوم قائماً مستدبراً للقوم، فيكون في ذلك محتاجاً إلى البول قائماً.
وأما حديث: "أنه فعل ذلك لجُرحٍ كان في مأبَضِه"(1) فضعيف، وكذلك القول بأنه فعل ذلك لأن العرب يَتَطبَّبُون بالبول قياماً من وجَعِ الرُّكَبِ فضعيف(2).
ولكن يمكن أن يُقالَ: إن العرب إذا أَوجعتهم ركبُهم عند الجلوس بَاَلوا قياماً للحاجة.
قوله: "وكَلامُهُ فيه" يعني: يُكره كلامُ قاضي الحاجة في الخلاء، والدَّليل: أن رجلاً مرَّ بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهو يبول؛ فسلَّم عليه فلم يردَّ عليه السَّلام(3).
قالوا: ولو كان الكلام جائزاً لردَّ عليه السَّلام؛ لأن ردَّ السَّلام واجب(4).
لكن مقتضى هذا الاستدلال أنه يحرم أن يتكلَّم وهو على قضاء حاجته، ولهذا ذكر صاحب "النُّكت" ابن مفلح ـ رحمه الله ـ هذه المسألة وقال: وظاهر استدلالهم يقتضي التَّحريم، وهو أحد القولين في المسألة(1).
لكن اعتذرواعن القول بالتَّحريم بعذرين(2):
الأول: أن هذا المُسَلِّم لا يستحقُّ رَدًّا، لأنه لا ينبغي السَّلام على قاضي الحاجة، ومن سلَّم في حالٍ لا ينبغي أن يُسَلِّم فيها لم يستحقَّ رَدًّا. وهذا ضعيف؛ لأن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يعلِّلْ عدم رَدِّ السَّلام بأنَّه سَلَّم في حالٍ لا يستحقُّ الردَّ فيها.(136/11)
الثاني: أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يترك الواجب؛ لأنَّه بعد أن انتهى من بوله رَدَّ عليه واعتذر منه (3).
وهذا صحيح؛ لأن تأجيلَ الردِّ لا يستلزم القول بالتَّحريم. أما إذا كان قاضِيَا الحاجة اثنين، ينظر أحدهما إلى عورة الآخر ويتحدَّثان فهو حرام بلا شَكٍّ، بل إن ظاهر الحديث الوارد فيه ـ لولا ما فيه من المقال ـ أنه من كبائر الذُّنوب؛ لأن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أخبر أن الرَّجُلين إذا فَعَلا ذلك فإن الله يمقت عليه(1) . والمَقْتَ أشدُّ البُغض، وأما إذا لم ينظر أحدهما إلى عورة الآخر؛ فأقلُّ أحواله أن يكون مكروهاً.
والإمام أحمد نصَّ على أنه يُكره الكلام حال قضاء الحاجة، وفي رواية عنه قال: "لا ينبغي"(2).
والمعروف عند أصحابه أنه إذا قال: "أكره"، أو "لا ينبغي" أنه للتَّحريم.
فالحاصل: أنه لا ينبغي أن يتكلَّم حال قضاء الحاجة، إلا لحاجة كما قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ كأن يُرشِدَ أحداً، أو كلَّمه أحد لا بدَّ أن يردَّ عليه، أو كان له حاجة في شخص وخاف أن ينصرف، أو طلب ماء ليستنجيَ، فلا بأس(1).
قوله: "وبولُه في شَقٍّ" يعني: يُكرَهُ بولُه في شَقٍّ والشَّقُّ: هو الفتحةُ في الأرض، وهو الجُحر للهوامِّ والدَّواب، وظاهر كلامهم أنَّه ولو كان الشَّقُ معلوم السَّبب كما لو كانت الأرض قيعاناً، ويبس هذا القَاع ففي العادة أنه يتشقَّقُ.
قوله: "ونحْوِه" مَثَّلَ بعضهم بفم البَالوعة(2)، وهي مجتمع الماء غير النَّظيف، وسُمِّيت بهذا الاسم لأنها تبتلعُ الماءَ.
والكراهة تزول بالحاجة، كأن لم يجدْ إلا هذا المكان المتشققَ.
والدَّليل على الكراهة:(136/12)
1ـ حديث قتادة عن عبد الله بن سَرْجِس أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "نهى أن يُبال في الجُحر"، قيل لقتادة: فما بال الجُحر؟ قال: يُقال: إنَّها مساكن الجنَّ (1). وهذا الحديث من العلماء من صَحَّحه،ومنهم من ضَعَّفه، وأقلُّ أحواله أن يكون حسناً؛ لأنَّ العلماء قَبِلوه، واحتجُّوا به.
2ـ ومن التَّعليل: أنه يُخشَى أن يكونَ في هذا الجُحر شيء ساكن فتُفْسِد عليه مسكنه، أو يخرج وأنت على بولك فيؤذيك، وربما تقوم بسرعة فلا تسلم من رَشَاش البول.
وقد ذكر المؤرِّخون أن َّسيِّدَ الخزرج سعدَ بنَ عبادة ـ رضي الله عنه ـ بَالَ في جُحر بالشَّام، وما إن فرغ من بوله حتى استلقى ميِّتاً، فسمعوا هاتفاً يهتف في المدينة يقول:
نحنُ قَتَلْنا سَيِّدَ الخَزْ........ رَجِ سَعْدَ بنَ عُبَادهْ
ورَمَيْناهُ بسَهْمَيـ ........ ـنِ فلم نُخْطِئ فُؤادَهْ(1)
هكذا ذكر المؤرخون، والله أعلم بصحَّة هذه القِصَّة، ولكن يكفي ما ذكرنا من الدَّليل والتَّعليل، ومع هذا لو لم يجد إلا هذا المكان المتشقِّقَ كان بوله فيه جائزاً.
قوله: "ومسُّ فرجِه بيَمِيِنه" يعني: يُكرَهُ لقاضي الحاجة مسُّ فرجه بيمينه، وهذا يشمل كلا الفَرْجَين، لأن "فرج" مفردٌ مضافٌ والمفردُ المضاف يَعمُّ، والفَرْجُ يُطلق على القُبُل والدُّبُر، فيُكره أن يمسَّ فرجه بيمينه لحديث أبي قتادة: "لا يُمْسِكَنَّ أحدُكُم ذَكَرَه بيمينه وهو يبول، ولا يَتَمَسَّحْ من الخلاء بيمينه، ولا يَتَنَفَّسْ في الإناء"(1).
ومن تأمَّل الحديثَ وَجَدَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قيَّده بحال البول، فالجملة: "وهو يبول" حال من فاعل "يمسُّ".(136/13)
وقد اختلف العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في القَيد،هل هو مرادٌ بمعنى أن النهيَّ وارد على ما إذا كان يبول فقط، لأنه رُبَّما تتلوَّث يده بالبول، وإذا كان لا يبول فإن هذا العضو كما قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنما هو بَضْعَة منك"(2) حينما سُئل عن الرَّجل يمسُّ ذكرَه في الصَّلاة هل عليه وضوءٌ؟ وإذا كان بَضْعَةً منه فلا فرق بين أن يمسَّه بيده اليُمنى أو اليُسرى(3).
وقال بعض العلماء: إنه إذا نُهي عن مسِّه باليمين حال البول، فالنهيُّ عن مسِّه في غير حال البول من باب أَوْلَى؛ لأنه في حال البول رُبَّما يحتاج إلى مسِّه، فإذا نُهى في الحال التي يحتاجَ فيها إلى مسّه فالنهيُ في غيرها أَوْلَى(3).
وكلا الاستدلالين له وَجْهٌ، والاحتمالان واردان، والأحوط أن يتجنَّب مسَّهُ مطلقاً، ولكن الجزم بالكراهة إنَّما هو في حال البول للحديث، وفي غير حال البول محلُّ احتمال ، فإذا لم يكن هناك داعٍ ففي اليد اليُسرى غنيةٌ عن اليد اليمنى.
وتعليل الكراهة: أنه من باب إكرام اليمين.
قوله: "واستنجاؤه واستجماره بها" يعني: يُكرَهَ استنجاؤه واستجماره بيمينه.
والفرق بينهما: أن الاستنجاء بالماء، والاستجمار بالحجر ونحوه، لقول النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :"لا يتمسَّح من الخلاء بيمينه"(1).
وأما التّعليل فهو إكرام اليمين.
أما إذا احتاج إلى الاستنجاء، أوالاستجمار بيمينه؛ كما لو كانت اليُسرى مشلولة فإن الكراهة تزول، وكذا إن احتاج إلى الاستجمار باليمين؛ مثل أن لا يجد إلا حجراً صغيراً، فقال العلماء: إن أمكن أن يجعله بين رجليه، ويتمسَّح فعل، وإن لم يمكنه أخذه باليمين، ومسح بالشِّمال(2).(136/14)
قوله: "واستقبال النَّيْرَين" يعني: يُكْرَهُ استقبالُ الشَّمس والقمر حال قضاء الحاجة، وليس هناك دليل صحيح، بل تعليل وهو: لما فيهما من نور الله، وهذا النُّور الذي فيهما ليس نورُ الله الذي هو صفته، بل هو نورٌ مخلوق. وفي هذا نَظر! لأن مقتضاه كراهة استقبال النُّجوم مثلاً، فإذا قلنا بهذا قلنا: كلُّ شيء فيه نورٌ وإضاءةٌ يُكرهُ استقبالهُ! ثم إن هذا التَّعليلَ منقوضٌ بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "لا تستقبلوا القِبلةَ ولا تستدبروها ببول ولا غائط، ولكن شرِّقوا، أو غرِّبُوا"(1).
ومعلومٌ أنَّ من شرَّق أو غرَّب والشَّمس طالعة فإنه يستقبلها، وكذا لو غرَّب والشمسُ عند الغروب. والرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يقل: إلا أن تكون الشمس أوالقمر بين أيديكم فلا تفعلوا.
فالصَّحيح: عدمُ الكراهة لعدم الدَّليل الصَّحيح، بل ولثبوت الدَّليل الدَّالِّ على الجواز.
قوله: "ويحرُمُ استقبالُ القبلة واستدبارُها" لحديث أبي أيُّوب ـ رضي الله عنه ـ أن النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "لا تستقبلوا القبلة ببولٍ ولا غائط، ولا تستدبروها، ولكن شَرِّقوا، أو غَرِّبوا" قال أبو أيُّوب: فقدمنا الشَّام فوجدنا مراحيض قد بُنيت نحو الكعبة، فننحرف عنها، ونستغفر الله(2).
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "لا تستقبلوا ولا تستدبروا" نَهيٌ والأصلُ في النهي التَّحريم.
والحديث يفيد أن الانحرافَ اليسير لا يكفي؛ لأنه قال: "ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا" وهذا يقتضي الانحراف التَّام. ولكن :"شرِّقوا أوغرِّبوا" لقوم إذا شرَّقوا، أو غربوا لايستقبلون القِبْلة، ولا يستدبرونها كأهل المدينة، فإن قبلتهم جهة الجنوب، فإذا شرَّقوا، أوغرَّبوا صارت القبلة إما عن أيمانهم، أو عن شمائلهم، وإذا شرَّق قوم أو غرَّبوا، واستقبلوا القبلة، فإن عليهم أن يُشَمِّلُوا، أو يُجَنِّبُوا.(136/15)
وأما التَّعليل: فهو احترام القِبْلة في الاستقبال والاستدبار.
قوله: "في غير بُنْيَان" هذا استثناءٌ، يعني: إذا كان في بنيان فيجوز الاستقبال والاستدبار؛ لحديث ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال: "رقيْتُ يوماً على بيت أختي حفصة، فرأيت النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قاعداً لحاجته مستقبلَ الشَّام مستدبر الكعبة"(1) وهذا المشهور من المذهب، بل قالوا ـ رحمهم الله ـ يكفي الحائل وإن لم يكن بُنياناً كما لو اتَّجه إلى كَوْمَةٍ من رمل أقامها وكان وراءها، أو إلى شجرة وما أشبه ذلك(2).
وقال بعض العلماء: لا يجوز استقبال القبلة، ولا استدبارها بكلِّ حال في البُنيان وغيره، وهو رواية عن أحمد(1)، قالوا: وهذا مقتضى حديث أبي أيُّوب استدلالاً وعملاً.
أما الاستدلال: فبقولِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ .
وأما العمل: فبفعل أبي أيُّوب حين قدم الشَّام فوجد مراحيض بُنيت نحو الكعبة قال: "فَنَنْحَرِفُ عنها ونستغفر الله" وهذا يدلُّ على أنه لم يرَ هذا كافياً، وهذا اختيار شيخ الإسلام(2).
وأجابوا عن حديث ابن عمر بما يلي:
1ـ أنه محمولٌ على ما قبل النَّهي، والنَّهيُ يُرَجَّحُ عليه؛ لأن النَّهيَ ناقل عن الأصل، وهو الجواز، والنَّاقل عن الأصل أَوْلَى.
2ـ أن حديث أبي أيُّوب قول، وحديث ابن عمر فعل، والفعل لا يُعارض القولَ؛ لأن فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يحتمل الخصوصية، أو النِّسيان، أو عُذْراً آخر. لكن هذا الاحتمال مردودٌ؛ لأن الأصل الاقتداء والتأسِّي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. ثم إنَّه لا توجد هنا معارضة تامَّة بين القول والفعل، ولو كان كذلك لكان القول بالخُصوصية مُتَّجهاً، بل يمكن حمل حديث أبي أيُّوب على ما إذا لم يكن في البُنيان، وحديث ابن عمر في الاستدبار على ما إذا كانَ في البنيان.(136/16)
والرَّاجح: أنه يجوز في البُنيان استدبارُ القِبْلة دون استقبالِها؛ لأن النهيَ عن الاستقبال محفوظٌ ليس فيه تفصيل ولا تخصيص، والنهيَ عن الاستدبار خُصِّصَ بما إذا كان في البُنيان؛ لفعلِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وأيضاً: الاستدبار أهونُ من الاستقبال؛ ولهذا جاء ـ والله أعلم ـ التخفيفُ فيه فيما إذا كان الإنسان في البُنيان.
والأفضل: أن لا يستدبرها إن أمكن.
واستقبال القبلة قد يكون حراماً كما هنا، وقد يكون واجباً كما في الصَّلاة، وقد يكون مكروهاً كما في خطبة الجمعة، فإنه يكره للخطيب أن يستقبل القبلة ويجعل النَّاس وراءه، وقد يكون مستحبًّا كالدُّعاء والوُضُوء حتى قال بعض العلماء: إن كُلَّ طاعةٍ الأفضلُ فيها استقبالُ القبلة إلا بدليل(1). ولكن في هذا نظر! لأنَّنا إذا جعلنا هذه قاعدةً، فإنَّ هذا خلاف المعروف من أنَّ الأصل في العبادات الحظر.
قوله: "ولُبْثُه فوق حاجته" أي: يحرم، ويجب عليه أن يخرج من حين انتهائه، وعلَّلوا ذلك بعِلَّتين(2):
الأولى: أن في ذلك كشفاً للعورة بلا حاجة.
الثَّانية: أن الحُشُوشَ والمراحيض مأوى الشَّياطين والنُّفوس الخبيثة فلا ينبغي أن يبقى في هذا المكان الخبيث.
وتحريمُ اللُّبث مبنيٌّ على التَّعليل، ولا دليلَ فيه عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولهذا قال أحمد في رواية عنه: "إنه يُكره، ولا يحرم"(1).
قوله: "وبولُه في طريق" أي: يحرم، والغائط من باب أَوْلَى؛ لما رواه مسلمٌ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "اتقوا اللَّعَّانَيْن" قالوا: وما اللَّعَّانانِ يارسول الله؟ قال: "الذي يتخلَّى في طريق النَّاس، أو في ظلِّهم"(2) وفي سنن أبي داود رحمه الله تعالى: "اتقوا الملاعن الثلاث: البِرَاز في الموارد، وقارعة الطَّريق، والظِّلّ"(3).(136/17)
والعِلَّة: أن البول في الطَّريق أذيَّة للمارَّة، وإيذاء المؤمنين محرَّمٌ، قال الله تعالى: والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا {الأحزاب: 58} .
قوله: "وظِلٍّ نافعٍ" أي: يَحرُمُ أن يبولَ أو يتغوَّط في ظلٍّ نافع، وليس كُلُّ ظل يحرم فيه ذلك، بل الظلُّ الذي يستظِلُّ به النَّاسُ، فلو بال أو تغوط في مكان لا يُجلسُ فيه؛ فلا يُقال بالتَّحريم، والدَّليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "أو في ظِلِّهم" يعني: الظِّلَّ الذي هو محلُّ جلوسهم، وانتفاعهم بذلك.
وقال بعض أهل العلم: مثلُه مشمس النَّاس في أيام الشِّتاء(1)، يعني: الذي يجلسون فيه للتَّدفئة، وهذا قياس صحيح جَليٌّ.
وقال بعض أهل العلم: إلا إذا كانوا يجلسون لغيبة، أو فعل محرَّم جاز أن يفرِّقَهم، ولو بالبول، أو الغائط(1). وفي هذا نظر؛ لعموم الحديث؛ ولأنه لا فائدة من ذلك، لأنهم إذا علموا أنه تغوَّط أو بال في أماكن جلوسهم فإنهم يزيدون شرًّا، وربَّما يتقاتلون معه.
والطَّريق السَّليم أن يأتي إليهم وينصحهم.
قوله: "وتحت شجرةٍ عليها ثَمرةٌ" يعني: يحرم البولُ والتغوُّط تحت شجرة عليها ثمرة، وأفادنا ـ رحمه الله ـ بقوله: "تحت" أنه لا بُدَّ أن يكون قريباً منها، وليس بعيداً.
وقوله: "ثمرة" أطلق المؤِّلفُ ـ رحمه الله ـ الثمرة، ولكن يجب أن تُقيَّد فيُقال: ثمرة مقصودة، أو ثمرة محترمة.(136/18)
والمقصودةُ هي التي يقصدها النَّاس، ولو كانت غير مطعومة، فلا يجوز التبُّول تحتها أو التغوُّط، لأنَّه ربما تسقط فتتلوَّث بالنَّجاسة، ولأن من قصد الشَّجرة ليصعد عليها، فلابُدَّ أن يمرَّ بهذه النَّجاسة فيتلوّثَ بها، والمحترمة كثمرة النَّخل، ولو كانت في مكان لا يقصده أحدٌ فلا يبول ولا يتغوَّط تحتها ما دامت مثمرة، لأن التَّمر طعام محترم، وكذلك غيرها من الأشجار التي تكون ثمرتها محترمة لكونها طعاماً؛ فإنه لا يجوز التبوُّل والتغوُّط تحتها.
وهناك أشياء لا يجوز البول فيها ولا التغوُّط غير ما ذكره المؤلِّف كالمساجد؛ ولهذا قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للأعرابي: "إنَّ هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول ولا القَذَر؛ إنّما هي لذكر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ والصَّلاة، وقراءة القرآن"(1)، وكذلك المدارس، فكلُّ مجتمعات النَّاس لأمر دينيٍّ أو دنيويِّ لا يجوز للإنسان أن يتبوَّلَ فيها أو يتغوَّط.
والعِلَّةُ: القياسُ على نهي النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن البول في الطُّرقات، وظِلِّ النَّاس.
وكذلك: الأذيَّة التي تحصُل للمسلمين في أي عمل كان قوليًّا أو فعليًّا لعموم قوله تعالى والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا {الأحزاب: 58}.
وأما المُسْتَحمُّ الذي يستحِمُّ النَّاسُ فيه فلا يجوز التغوُّط فيه، لأنَّه لا يذهب. أما البول فجائز، لأنه يذهب؛ مع أنَّ الأَوْلَى عدمه، لكن قد يحتاج الإنسان إلى البول كما لو كانت باقي الحمَّامات مشغولة.
قوله: "ويستجمر ثُمَّ يََسْتَنْجِي بالماء...". الاستجمارُ: يكون بحجر وما ينوب منابه، والاستنجاء يكون بالماء.
وقوله: "يستجمرُ ثم يستنجي" هذا هو الأفضل؛ وليس على سبيل الوجوب، ولهذا قال: "ويجزئه الاستجمارُ".
والإنسان إذا قضى حاجته لا يخلو من ثلاث حالات:(136/19)
الأولى: أنْ يستنجيَ بالماء وحده.وهو جائز على الرَّاجح، وإن وُجِدَ فيه خلافٌ قديم من بعض السَّلف(1) حيث أنكر الاستنجاء وقال: "كيف ألوِّثُ يدي بهذه الأنتان والقاذورات"(2) والصَّحيح الجواز، وقد انعقد الإجماع بعد ذلك على الجواز.
ودليل ذلك: حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يدخل الخلاء، فأحمل أنا وغلامٌ نحوي إداوةً من ماء وعَنَزَةً؛ فيستنجي بالماء(1).
وأما التَّعليل: فلأن الأصل في إزالة النَّجاسات إنما يكون بالماء، فكما أنك تزيلُ النَّجاسة به عن رجلك، فكذلك تزيلُها بالماء إذا كانت من الخارج منك.
الثانية: أن يستنجيَ بالأحجار وحدها.
والاستنجاءُ بالأحجار مجزئ دَلَّ على ذلك قول الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وفعله:
أما قوله: فحديث سلمان ـ رضي الله عنه ـ قال: "نهانا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثةِ أحْجَار"(2).
وأما فعله فكما في حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أتى الغائط، وأمره أن يأتيه بثلاثة أحجار، فأتاه بحجرين ورَوْثة، فأخذ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الحجرين، وألقى الرَّوثة وقال: "هذا رِكْسٌ"(1) وفي رواية "ائتني بغيرها"(2).
وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه جمع للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أحجاراً، وأتى بها بثوبه؛ فوضعها عنده؛ ثم انصرف(3). فدلَّ على جواز الاستجمار.
وهذا مما يدلِّلُ لقول شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أن النَّجاسة إذا زالت بأي مزيل كان طَهُرَ المحلُّ(4) . وهذا أقرب إلى المنقول والمعقول من قول من قال: لا يزيل النَّجس إلا الماء الطَّهُور.
الثالثة: أن يستنجيَ بالحجر ثم بالماء.
وهذا لا أعلمه ثابتاً عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لكن من حيث المعنى لا شكَّ أنه أكمل تطهيراً.(136/20)
قوله: "إن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادةِ" اشترط المؤلِّفُ للاستجمار شروطاً: الشَّرط الأول أشار إليه بقوله: "إن لم يَعْدُ الخارجُ موضعَ العادةِ" أي: الذي جرت العادة بأن البول ينتشر إليه من رأس الذَّكَر، وبأن الغائط ينتشر إليه من داخل الفَخذين، فإن تعدَّى موضع العادة فلا يجزئ إلا الماء، وليس هناك دليلٌ على هذا الشَّرط؛ بل تعليل، وهو أن الاقتصار على الأحجار ونحوِها في إزالة البول أو الغائط خرج عن نظائره؛ فيجب أن يُقتصر فيه على ما جرت العادة به، فما زاد عن العادة فالأصل أن يُزال بالماء.
وظاهر كلام المؤلِّفِ: أن الذي لم يتعدَّ موضع العادة يجزئ فيه الاستجمار، والمتعدِّي لابُدَّ فيه من الماء.
وقال بعض أصحاب أحمد ـ رحمه الله ـ: إذ تعدَّى موضعَ الحاجة لم يَجُزْ في الجميع إلا الماء(1) ، لأنه لمَّا لم يتمَّ الشَّرطُ فسد الكُلُّ.
ولو قال قائلُ: إن ما يتعدَّى موضعَ العادة بكثير، مثل أن ينتشر على فخذه من البول فإنه لا يجزئ فيه إلا الماء؛ لأنَّه ليس محلَّ الخارج ولا قريباً منه، وأما ما كان قريباً منه فإنه يُتَسامحُ فيه فلعلَّه لا يُعارض كلام الفقهاء رحمهم الله.
قوله: "ويُشترَطُ للاستجمار بأحجارٍ ونحوها" الأحجار جمع حجر.
"ونحوها" مثل: المَدَرَ؛ وهو: الطِّين اليابس المتجمِّد، والتُّراب، والخِرَق، والورق، وما أشبه ذلك كالخشب.
قوله: "أن يكون طاهراً" يعني: لا نجساً، ولا متنجِّساً، والفرق: أن النَّجِسَ: نجس بعينه، والمتنجِّس: نجس بغيره، يعني طرأت عليه النَّجاسة، وهذا هو الشَّرط الثَّاني، والدَّليل: حديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : ألقى الرَّوثة وقال: "هذا رِكْسٌ" والرِّكْسُ: النَّجِسُ.(136/21)
وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ: نهى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يُستنجى بعظمٍ أو رَوث وقال: "إنهما لا يُطهِّران"(1) فدلَّ على أن المُسْتَنجَى به لا بُدَّ أن يكون طاهراً.
ومن التَّعليل: أن النَّجس خبيث، فكيف يكون مطهِّراً.
قوله: "مُنْقِياً" يعني: يحصُل به الإنقاء، فإن كان غير مُنْقٍ لم يجزيء، وهذا هوالشَّرط الثَّالث .
لأن المقصود بالاستجمار الإنقاء، بدليل أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَهَى أن يُستنجي بأقلَّ من ثلاثة أحجار. ولأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال في الذي يُعذَّبُ في قبره: "إنَّه لا يَسْتَنْزِهُ من بوله"(1)، أو "لا يَسْتَتِرُ"(2)، أو "لا يَسْتَبْرِئُ من البول"(3) ثلاث روايات.
والذي لا يُنقي: إما لا يُنقي لملاسته، كأن يكونَ أملساً جدًّا، أو لرطوبته، كحجر رَطْب، أو مَدَر رطب، أو كان المحلُّ قد نَشِفَ؛ لأنَّ الحجر قد يكون صالحاً للإنقاء لكنَّ المحلَّ غير صالح للإنقاء.
قوله: "غيرَ عظمٍ وروثٍ" هذا شرط عدمي وهو الشَّرط الرَّابع، لأنَّ كلمة "غير" تدلُّ على النَّفي.
والدَّليل على ذلك أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نهى أن يُستنجَى بالعظم أو الروث، كما في حديث ابن مسعود(4)، وأبي هريرة(4)، وسلمان(4) ورويفع(5) وغيرهم رضي الله عنهم.
والتَّعليل: أنه إن كان العَظْمُ عظمَ مُذَكَّاة، فقد بَيَّنَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّ هذا العظم يكون طعاماً للجِنِّ؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال لهم: "لكم كلُّ عظم ذُكِرَ اسمُ الله عليه، يقع في أيديكم أوفَرَ ما يكونُ لحماً"(1) ولا يجوز تنجيسه على الجِنِّ، وإن كان عظم ميتة فهو نجس فلا يكون مطهِّراً.
والرَّوث: نستدلُّ له بما استدللنا به للعظم.
وأما العِلَّة فإن كان طاهراً فهو عَلَفُ بهائم الجِنِّ؛ وإن كان نجساً لم يصلح أن يكون مطهِّراً.(136/22)
قوله: "وطعامٍ" يعني: طعام بني آدم، وطعام بهائمهم، فلا يصحُّ الاستنجاء بهما. والدَّليل: أن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نهى أن يُستنجيَ بالعظم، والرَّوث، لأنَّهما طعام الجِنِّ، ودوابهم. والإنس أفضل، فيكون النهي عن الاستجمار بطعامهم وطعام بهائمهم من باب أَوْلى.
كما أن فيه محذوراً آخر، وهو الكفر بالنِّعمة؛ لأن الله تعالى خلقها للأكل؛ ولم يخلقها لأجل أن تُمتهن هذا الامتهان.
فكُلُّ طعام لبني آدم، أو بهائمهم، فإنَّه حرام أن يُستَجْمَرَ به.
وظاهر كلام المؤلِّف: ولو كان فَضْلَةَ طعام ككِسْرَةِ الخُبز.
قوله: "ومحترم" المحترم: ما له حُرمة، أي تعظيم في الشَّرع، مثل: كُتب العلم الشَّرعي، والدَّليل قوله تعالى: ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب {الحج: 32}.
وقوله: ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه {الحج: 30}.
والتَّقوى واجبة، فمن أجل ذلك لا يجوز أن يَستجمرَ الإنسان بشيء ٍمحترم.
وظاهر كلام المؤلِّفِ: ولو كان مكتوباً بغير العربية ما دام أنَّ موضوعه موضوعٌ محترمٌ.
قوله: "ومتَّصلٍ بحيوان" يعني: المتَّصل بالحيوان لا يجوز الاستجمار به، لأن للحيوان حُرمة؛ مثل: أن يستجمرَ بذيل بقرة، أو أُذُنِ سَخْلة، وإذا كان علفُها يُنهى عن الاستجمار به، فكيف بالاستجمارِ بها نفسها؟!
فإن قِيل: يلزمُ على هذا التَّعليل أنْ لا يجوز الاستنجاءُ بالماء؛ لأنَّ اليد سوف تُباشر النَّجاسة؟
فالجواب: أن هذا قد قال به بعض السَّلف، وقال: إن الاستنجاء بالماء من غير أن يتقدَّمه أحجارٌ لا يجوز ولا يجزئ؛ لأنك تلوِّث يدك بالنَّجاسة(1) .
وهذا قولٌ ضعيفٌ جداً، وتردُّه السُّنَّةُ الصَّحيحةُ الصَّريحةُ أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يقتصرُ على الاستنجاء.(136/23)
أما مباشرة اليد النَّجاسة فإن هذه المباشرة ليست للتَّلوُّث بالخَبَثِ بل لإزالته والتَّخلص منه، ومباشرةُ الممنوع للتَّخلص منه ليست محظورةً بل مطلوبةً، ألا ترى أنه إذا كان الإنسان مُحْرِماً، ووضع عليه شخص طيباً، فإنَّ استدامة هذا الطِّيب حرام، ويجب عليه أن يُزيلَه، ولا شيء عليه بمباشرته إيَّاه لإزالته.
ومثله أيضاً: لو أن رجلاً غصب أرضاً وأخذ يذهب ويجيء عليها، ثم تذكَّر العذاب وتاب إلى الله توبة نصوحاً، ومن شروط التَّوبة الإقلاعُ عن المعصية فوراً، فإن مروره على هذه الأرض إلى أن يخرجَ لا إثم فيه؛ لأنَّه للتَّخلُّص من الحرام، فمباشرة الشيء الممنوع للتَّخلُّص منه لا يمكن أن يأثم الإنسان به، لأنَّ هذا من تكليف مالا يُطاق.
قوله: "ويُشتَرَطُ ثلاثُ مسحات..." هذا هو الشَّرط الخامس من شروط الاستجمار وهو أن يمسح محل الخارج ثلاث مرَّات.
والدَّليل على ذلك: حديث سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ وهو في "صحيح مسلم" قال: "نهى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار" (1).
والعِلَّة في أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بثلاثة أحجار: لأجل أن لا يُكرِّر الإنسانُ المسحَ على وجه واحد؛ لأنَّه إذا فعل ذلك لا يستفيدُ، بل ربما يتلوَّث زيادة.
قوله "مُنْقِيَة" هذا هو الشَّرط السَّادس، والإنقاء هو أن يرجعَ الحجرُ يابساً غير مبلول، أو يبقى أثرٌ لا يزيله إلا الماء.
قوله "فأكثر" يعني: أن يمسحَ ثلاثَ مسحات، فإن لم تُنْقِ الثَّلاث زادَ عليها.(136/24)
وقال بعض العلماء: إذا أنقى بدون ثلاث كفى(1)؛ لأنَّ الحكم يدور مع عِلَّته. وهذا القول يُرَدُّ بأنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نهى أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار، وإذا نهى عن ذلك فإنَّه يجب أن لا نقع فيما نهى عنه. وأيضاً: الغالب أنَّه لا إنقاء بأقلَّ من ثلاثة أحجار؛ ولأنَّ الثَّلاثة كمِّيَّةٌ رتَّبَ عليها الشَّارع كثيراً من الأحكام.
قوله "ولو بحَجَر ذي شُعبٍ". "لو": إشارة خلاف؛ لأن بعض العلماء قال: لا بُدَّ من ثلاثة أحجار (2)؛ مقتصراً في ذلك على الظَّاهر من الحديث، ولا شَّكَّ أن هذا الحمل في الطَّهارة، إذ إنَّ الحجَر ذا الشُّعب قد يكون في أحد جوانبه شيء من المسحة الأولى وهو لم يعلم به، لكن من نظر إلى المعنى قال: إن الحجَر ذا الشُّعَبِ كالأحجار الثَّلاثة إذا لم تكن شُعَبُه متداخلة بحيث إذا مسحنا بشُعْبَةٍ اتَّصل التَّلويث بالشُّعْبَة الأخرى.
وهذا هو الرَّاجح في ذلك؛ لأن العِلَّةَ معلومةٌ، فإذا كان الحَجَر ذا شُعَبٍ واستجمر بكُلِّ جهة منه صَحَّ.
وقال بعض العلماء: إن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ اشترط ثلاثة أحجار؛ لأجل أن يكون حجرٌ للصَّفحة اليُمنى، وآخر لليُسرى، وآخر لحلَقَة الدُّبُر (1).
قوله: "ويُسَنُّ قَطْعُه على وِتْرٍ" يعني: قطع الاستجمار، والمُراد عددُه، فإذا أَنْقَى بأربعٍ زاد خامسة، وإذا أنقى بستٍّ زاد سابعة، وهكذا.
والدَّليل: ما ثبت في "الصَّحيحين" أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "من استجمرَ فليوتِرْ"(2) واللام للأمر.
فإن قال قائل: الأصل في الأمر الوجوب، وهذا يقتضي وجوب الإيتار؟
فالجواب: نعم؛ الأصل في الأمر الوجوب، فإن أُرِيدَ بالإيتار الثَّلاثُ فالأمر للوجوب؛ لحديث سلمان وقد سبق، وإن أريدَ ما زاد على الثَّلاث فالأمر للاستحباب بدليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "من استجمرَ فليوتِرْ، مَنْ فعل فقد أحسنَ؛ ومَنْ لا فلا حَرَج"(1).(136/25)
فبيَّن النبي ُّصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن هذا على سبيل الاستحباب.
قوله: "ويجبُ الاستنجاءُ لكُلِّ خارج ٍإلا الريحَ". هذا بيانُ حكم الاستنجاء، وما يجب له الاستنجاء، فقال: "ويجب ..." وهل المرادُ هنا تطهير المحلِّ بالماء أو بما هو أعمُّ من ذلك؟
الجواب: إنه عامٌّ يعني أن تطهيرُه بالماء، أو بالأحجار واجب.
والدَّليل: أمرُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عليَّ بنَ أبي طالب أن يغسلَ ذكرَه لخروجِ المِذِي،(1) والمذيُ نجس. وأيضاً: حديث سلمان: "أمرنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن لا نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار"(2).
وقوله: "لكُلِّ خَارجٍ" أي من السَّبيلين، ويُستثنى من ذلك الرِّيحُ؛ لأنها لا تُحدِثُ أثراً فهي هواءٌ فقط، وإذا لم تُحدث أثراً في المحلِّ فلا يجب أن يُغسَلَ؛ لأن غسله حينئذ نوع من العبث، وسواء كان لها صوت أم لا فهي طاهرة ، وإن كانت رائحتها خبيثة.
وقال بعض العلماء: إن الرِّيحَ نجسةٌ فيجب غَسْلُ المحلِّ منها(3). والصَّحيحُ: أنَّها طاهرةٌ؛ لأنها ليس لها جِرْمٌ.
ويترتَّب على هذا أنَّه لو خرجت منك وثيابك مبلولة فإنها ستلاقي رطوبة.
فإن قلنا: هي نجسةٌ وجب غسل ما لاقته، وإن قلنا: طاهرةٌ لم يجب.
ولا نقول: يترتَّبُ على ذلك ما ذكره بعضُ الفقهاء: من أنَّ المصلِّيَ لو حمل قرْبَة فُساٍء فهل تصحُّ صلاته؟ لأن هذا أمر لا يمكن، ولكن بعض أهل العلم مشغوفٌ بالإغراب في تصوير المسائل، ومثل هذا الأولى تركه؛ لأنه قد يُعاب على الفقهاء أن يصوِّروا مثل هذه الصُّور النَّادرة، التي قد تكون مستحيلة.
ويُستثنى من ذلك أيضاً المنيُّ؛ وهو خارج ٌمن السَّبيل فهو داخل في عموم قوله: "لكُلِّ خَارجٍ" لكنَّه طاهرٌ، والطَّاهر لا يجب الاستنجاء له.(136/26)
ويُستثنى أيضاً غيرُ المُلَوِّثِ ليُبُوسَتِه، فإذا خرج شيءٌ لا يُلوِّثُ ليُبُوسَتِه فلا يُستَنْجى له؛ لأن المقصودَ من الاستنجاء الطَّهارةُ، وهنا لا حاجة إلى ذلك.
فإنْ خرجَ شيءٌ نادرٌ كالحصاة فهل يجب له الاستنجاء؟
الجواب: إنْ لوَّثت وجب الاستنجاءُ؛ لدخولها في عموم كلام المؤلِّف، وإذا لم تلوِّثْ لم يجبْ لعدم الحاجة إليه.
قولُه: "ولا يصح ُّقبلَه وُضُوءٌ ولا تيمُّمٌ" يعني: يُشترطُ لصحَّة الوضُوء والتيمُّم تقدمُ الاستنجاء، أو الاستجمار.
والدَّليل فعلُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فإنَّه كان يُقدِّمُ الاستجمار على الوُضُوء(1)، ولكن هل مجرد الفعل يدلُّ على الوجوب؟ الرَّاجحُ عند أهل العلم أن مجرَّد الفعل لا يقتضي الوجوب؛ إلا إذا كان بياناً لمجملٍ من القول يدلٌ على الوجوب؛ بناءً على النَّصِّ المبيَّن(2).
أما مجرَّدُ الفعل: فالصَّحيح أنَّه دالٌّ على الاستحباب، ولكنَّ فقهاء الحنابلة استدلُّوا على الوجوب بقول النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لعليٍّ ـ رضي الله عنه ـ: "يغسُل ذَكَرَه ويتوضَّأُ"(3) قالوا: قَدَّمَ ذِكْرَ غَسْلِ الذَّكَر، والأصل أن ما قُدِّمَ فهو أسبق(4)، ويدلُّ لذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حين أقبل على الصَّفا:" إن الصفا والمروة من شعائر الله؛ أبْدَأُ بما بَدَأ اللهُ به"(5) ولكن هذه الرِّواية في "مسلم" يعارضها رواية "البخاري" و"مسلم" حيث قال: "توضَّأ وانضحْ فرجك"(1) فظاهرهما التَّعارض؛ لأنَّ إحدى الرِّوايتين قَدَّمَتْ ما أخَّرَته الأخرى.
والجمع بينهما أن يُقالَ: إن الواو لا تستلزم التَّرتيب.
فأما رواية النَّسائي: "يغسلُ ذَكَره ثم ليتوضَّأ"(2) وهذه صريحة في التَّرتيب فقد ذكر الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ أنها منقطعة، والانقطاع يضعِّفُ الحديث، فلا يُحتَجُّ بها.
ولهذا كان عن الإمام أحمد في هذه المسألة روايتان(3):(136/27)
الأولى: أنَّه يصحُّ الوُضُوءُ والتيمُّمُ قبل الاستنجاء.
الثانية: أنَّه لا يصحُّ وهي المذهب.
والرِّواية الأولى اختارها الموفَّق، وابن أخيه شارح "المقنع" والمجد(1).
وهذه المسألة إذا كان الإنسانُ في حال السَّعَة فإننا نأمره أولاً بالاستنجاء ثم بالوُضُوء، وذلك لفعل النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، وأما إذا نسيَ، أو كان جاهلاً فإنه لا يجسر الإنسان على إبطال صلاته، أو أمره بإعادة الوُضُوء والصَّلاة.(136/28)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
بابُ السِّواكِ وسُنَنِ الوُضُوءِ
محمد بن صالح العثيمين
السِّواك: فِعَال من ساك يسُوك، أو مِنْ تسوَّك يتسوَّكُ، فهو على الثَّاني اسم مصدر يُطلق على الآلة التي هي العُود فيُقال: هذا سِواكٌ من أراك، كما يقال: مِسْواك، ويُطلق على الفعل ويُقال: السِّواك سُنَّةٌ، أي: التَّسوُّك الذي هو الفعل.
وقوله: "باب السِّواكِ وسُنَنِ الوُضُوء": بعضُ العلماء قال: باب السِّواكِ وسُنَنِ الفِطْرة، والمناسبة أنَّ السِّواك من الفِطْرة.
وبعضهم قال: باب السِّواكِ وسُنَنِ الوُضُوء؛ لأنَّه لما كان السِّواك من سُنَنِ الوُضوء قَرَنَ بقيةَ السُّنن بالسِّواك، وإلا فالأصل أن السُّنَنَ تُذْكَرُ بعد ذِكْرِ الواجبات والأركان، كما فعلوا ذلك في كتاب الصَّلاة، وإنما قُدِّمَ السواكَ على الوُضُوء وهو من سُنَنِه لوجهين:
الأول: أنَّ السِّواك مَسْنُون كلَّ وقت، ويتأكَّد في مواضع أخرى غير الوُضُوء .
والثَّاني: أنَّ السِّواك من باب التطهير فله صِلَةٌ بباب الاستنجاء.
قوله: "التَّسوُّك بعُود" التسوُّك مبتدأ، وخبره "مسنونٌ". والجار والمجرور الذي هو "بعود" متعلِّق بالتَّسوُّك.
وقوله: "بعودٍ" دخل فيه كلُّ أجناس العيدان؛ سواء كانت من جريد النَّخل، أو من عراجينها، أو من أغصان العنب أو من غير ذلك، فهو جنس شامل لجميع الأعواد، وما بعد ذلك من القُيود فإنها فصولٌ تُخرِجُ بقيةَ الأعواد.
فخرج بقوله: "عُود" التَّسوُّكُ بخِرْقَةٍ، أو الأصابعُ فليس بسُنَّة على ما ذهب إليه المؤلِّف وهو المذهب.
قوله: "ليِّنٍ" خرج به بقيَّةُ الأعواد القاسية، فإنه لا يُتسوَّكُ بها؛ لأنها لا تفيد فائدةَ العود اللِّين، وقد تضرُّ اللِّثَة إن أصابتها، والطَّبقة التي على العظم في الأسنان.(137/1)
قوله: "مُنْقٍ" خرج به العُودُ الذي لا شعر له، ويكون رطباً رطوبة قويَّة، فإنه لا يُنقي لكثرة مائه وقِلَّة شعره التي تؤثِّرُ في إزالة الوَسَخ.
قوله: "غَيْرِ مُضرٍّ" احترازاً مما يُضِرُّ كالرَّيحان، وكُلُّ ما له رائحة طيِّبة؛ لأنَّه يؤثِّر على رائحة الفم؛ لأن هذه الريح الطيِّبةَ تنقلب إلى ريح خبيثة.
قوله: "لا يَتَفَتَّتُ" معناه لا يتساقط، لأنه إذا تساقط في فمك ملأه أذى.
قوله: "لا بأصْبع" أي: لا يُسَنُّ التَّسوُّكُ بالأصبع، ولا تحصُل به السُّنَّةُ، سواء كان ذلك عند الوُضُوء أو لم يكن، هذا مقتضى إطلاق المؤلِّف.
وقال بعض العلماء؛ ومنهم الموفَّق صاحب "المقنع"، وابن أخيه شارح "المقنع": إنه يحصُل من السُّنِّيَّة بقدر ما حصل من الإنقاء(1).
وقد رُوي عن عليِّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ في صفة الوُضُوء أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "أدخل بعضَ أصابعه في فيه..."(2) وهذا يدلُّ على أن التَّسوُّك بالأصبع كافٍ، ولكنَّه ليس كالعُود؛ لأن العود أشدُّ إنقاءً.
لكن قد لا يكون عند الإنسان في حال الوُضُوء شيء من العيدان يَستاكُ به، فنقول له: يجزئ بالأصبع.
قوله: "أو خِرْقَةٍ" أي: لا يُسَنُّ التُّسوُّك بالخِرْقَة ولا تحصُل به السُّنَّة، ومعناه: أن يجعل الخِرْقَة على الأصبع ملفوفة ويتسوُّك بها، والإنقاء بالخِرْقَة أبلغُ من الإنقاء بمجرَّد الأصبع.
ولهذا قال بعضُ العلماء: إن كان الإصبع خشناً أجزأ التَّسوُّك به، وإن كان غير خشنٍ لم يجزئ(1).
وتقدَّم أن الخرقة أبلغ في التَّنظيف. فَمَنْ قال: إن الأصبع تحصُل به السُّنَّة قال: إن الخِرْقَة من باب أولى.
(فائدة)
في الأصبع عَشْرُ لُغَاتٍ؛ ولذلك يُقال: لا يُغلَّطُ فيها أحدٌ في الصَّرف؛ لأن الصَّاد ساكنة، والهمزة والباء مثلثتان، يعني يجوز فيها فتح الهمزة، وكسرها، وضمُّها، مع فتح الباء، وكسرها، وضمِّها.(137/2)
قال بعضُهم ناظماً تلك اللُّغات، ومضيفاً إليها "أنملة":
وهمزَ أنملةٍ ثلِّث وثالثه التسعُ في أصبع، واختم بأصبوع
قوله: "مَسْنُون" هذا خبر قوله "التَّسوُّك" والمسنون عند العلماء: كلُّ عبادة أُمِرَ بها لا على سبيل الإلزام.
فقولنا: لا على سبيل الإلزام، لأنَّه إن كان على سبيل الإلزام فهو الواجب.
والدَّليل على سُنيَّة السِّواك: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "لولا أن أشقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك عند كلِّ صلاة"(2)
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم..." يدلُّ على أنه ليس بواجب، لأنه لو كان واجباً لشَقَّ عليهم.
ولا يدلُّ على أنه ليس بمسنون، أو ليس مأموراً به، بل لولا المشقَّة لكان واجباً لأهميَّته.
قوله: "كُلَّ وقْتٍ" أي : بالليل والنَّهار، والدَّليل قول النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في حديث عائشة: "السِّواك مطهرة للفم؛ مرضاة للرَّبِّ"(1) فأطلق النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولم يقيِّد في وقت دون آخر.
وفي هذا فائدتان عظيمتان:
1ـ دُنيويَّة، كونُه مطهرةً للفم.
2ـ أُخرويَّة، كونُه مرضاةً للرَّبِّ.
وكلُّ هذا يحصُل بفعل يسير فيحصُل على أجر عظيم، وكثير من النَّاس يمرُّ عليه الشَّهران والثَّلاثة ولم يتسوَّك إما جهلاً، أو تهاوناً.
قوله: "لغير صائمٍ بعد الزَّوال" أي: فلا يُسَنُّ، وهذا يعمُّ صيام الفرض والنَّفْل.
وقوله: "بعد الزَّوال" أي: زوال الشَّمس، ويكونُ زوالُها إذا مالت إلى جهة المغرب؛ لأنها أولُ ما تطلع من ناحية الشَّرق، فإذا توسطت السَّماء ثم زالت عنه فقد زالت.
قال أهل العلم ـ رحمهم الله ـ: علامة الزَّوال أن تنصب شاخصاً؛ أي: شيئاً مرتفعاً، وتَنْظُرَ إليه فما دام ظِلُّه ينقص فالشَّمس لم تَزُلْ، فإذا بدأ يزيد ولو شعرة فقد زالت(1).
والمشهور من المذهب كراهة التَّسوُّك بعد الزَّوال للصَّائم؛ والدَّليل:(137/3)
1ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "إذا صُمْتُم فاستاكوا بالغَداة، ولا تستاكوا بالعَشيِّ"(2) والعَشِيُّ بعد الزَّوال.
2ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائم أطيبُ عند الله يوم القيامة من ريح المسك"(3) والخُلوف ـ بضم الخاء ـ هو الرَّائحة الكريهة التي تكون بالفم عند خلوِّ المعدة من الطَّعام، ولا يظهر في الغالب إلاّ في آخر النَّهار، لكن لما كان ناشئاً عن طاعة الله صار أطيبَ عند الله من ريح المسك، وإذا كان أطيبَ عند الله من ريح المسك فإنَّه لا ينبغي أن يُزالَ، بدليل أنَّ دمَ الشَّهيد الذي عليه لا يُزالُ، بل يجب أن يبقى عليه وأن يُدفن في ثيابه وبدمائه، كما أمر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بذلك في شُهداء أحد(1)، قالوا: فكلُّ ما كان ناشئاً عن طاعة الله فإنه لا ينبغي إزالتُُه، ولذلك كُرِه للصَّائم التَّسوُّك بعد الزَّوال، وأما قبل الزَّوال فقالوا: يُستحب بيابس ويُباح برطب. فجعلوا السِّواك للصَّائم على ثلاثة أوجه: مباح برطب قبل الزَّوال، ومسنون بيابس قبل الزَّوال، ومكروه بعد الزَّوال مطلقاً(2).
واستدلُّوا على أنَّه مسنون للصَّائم قبل الزَّوال: بعموم الأدلة.
وعلى أنَّه مباح برطْبٍ: أنَّه لرطُوبته يُخشى أن يتسرَّب منه طعمٌ يصل إلى الحلق فيُخِلَّ بصيامه؛ ولهذا قال النبيُّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للقيط بن صَبِرة: "وبالغْ في الاستنشاقِ إلا أن تكونَ صائماً"(3).
وأما كونه مكروهاً بعد الزَّوال فاستدلُّوا: بالأثر والنَّظر السابقين؛ الدَّالين على الكراهة.
وقال بعض العلماء: إنه لا يُكرَهُ للصَّائم مطلقاً، بل هو سُنَّةٌ في حَقِّه كغيره(1).
قال في "الإقناع" ـ وهو من كتب الحنابلة المتأخِّرين؛ وهو غالباً على المذهب ـ : "وهو أظهر دليلاً"(2). وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله(3).(137/4)
واستدلُّوا: بعموم الأدلة الدَّالَّة على سُنِّيَّةِ السِّواك؛ كحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ السابق(4)، فإن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يستثنِ شيئاً، والعام يجب إبقاؤه على عمومه، إلا أن يَرِدَ مخصِّص له، وليس لهذا العموم مخصِّصٌ قائم.
وأما حديث عليٍّ فضعيف(5) لا يَقْوَى على تخصيص العموم؛ لأنَّ الضَّعيف ليس بحُجَّة، فلا يَقْوَى على إثبات الحكم، وتخصيص العموم حكم؛ لأنه إخراج لهذا المخصَّصِ عن الحكم العام؛ وإثبات حكم خاصٍّ به، فيحتاج إلى ثبوت الدَّليل المخصِّصِ، وإلا فلا يُقْبلُ.
وأما التَّعليل فعليل من وجوه:
الوجه الأول: أن الذين قتلوا في سبيل الله، أُمِرْنا بأن نُبقِيَ دماءهم؛ لأنهم يُبْعثونَ يوم القيامة، الجرح يَثْعُبُ دماً، اللونُ لونُ الدَّمِ، والرِّيحُ ريح ُالمسكِ، فلا ينبغي أن يُزالَ هذا الشَّيءُ الذي سيوجدُ يوم القيامة.
ونظير هذا قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الذي مات في عرفة "كَفِّنُوه في ثَوبيه"(1) ولهذا ينبغي فيمن مات محرماً أن لا نطلب له خِرْقَة جديدة، بل نكفِّنُه في ثياب إحرامه التي عليه؛ لأنه كما قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "يُبعث يوم القيامة ملبِّياً"(1).
الوجه الثاني: أنَّّ ربط الحُكم بالزَّوال مُنتقضٌ؛ لأنه قد تحصُل هذه الرَّائحة قبل الزَّوال؛ لأن سبَبَها خلوُّ المعدة من الطَّعام، وإذا لم يتسحَّر الإنسان آخر الليل فإنَّ معدته ستخلو مبكِّرة؛ وهم لا يقولون: متى وُجِدت الرَّائحة الكريهة كُرِه السِّواك؟!
الوجه الثالث: أنَّ من النَّاس من لا توجد عنده هذه الرَّائحة الكريهة، إما لصفاء معدته، أو لأنَّ معدته لا تهضم بسرعة، فتكون هذه العِلةَّ منتقضة، وإذا انتقضت العِلَّة انتقض المعلول؛ لأن العِلَّة أصلٌ والمعلولَ فرعٌ.(137/5)
والرَّاجح أن السِّواك سُنَّةٌ حتى للصَّائم قبل الزَّوال وبعده، ويؤيِّده حديث عامر بن ربيعة ـ الذي ذَكَره البخاريُّ تعليقاً ـ: "رأيت النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَسْتَاك وهو وصَائمٌ، مالا أُحصي أو أَعُدُّ"(1).
قوله: "مُتَأكّدٌ" خبرٌ ثانٍ، لقوله: "التَّسوُّك" وتعدُّد الأخبار جائز، قال تعالى: وهو الغفور الودود {البروج: 14} فالودودُ خبرٌ ثانٍ، ولا يجوزُ أن يكونَ صفةً للغفور؛ لأن "الغفور" نفسه صفة بالمعنى العام، لا بالمعنى النَّحْوي.
قوله: "عِنْدَ صَلاة" والدَّليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لولا أن أشُقَّ على أمتي لأمرتهم بالسِّواك عند كلِّ صلاة"(2) وكلمة "عند" في الحديث وفي كلام المؤلِّف تقتضي القُرْبَ، لأن العندية تقتضي قرب الشيء من الشيء، كما قال تعالى: إن الذين عند ربك {الأعراف: 206} وكما قال في الكتاب الذي كتبه فهو عنده فوقَ العرش(1).
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "عند كُلِّ صلاة" أي قُربها، وكُلَّما قَرُبَ منها فهو أفضل، وأما قول بعضهم: "عند الصَّلاة": إن المراد به الوُضُوء، فغير صحيح؛ لأن الوُضُوء قد يتقدَّمُ على الصَّلاة كثيراً، ثم إنَّ للوُضوء استياكاً خاصًّا. وليس من شروط التَّسوُّك عند الصَّلاة أن يكون الفمُ وسخاً.
وقوله: "عند صلاةٍ" يشمل الفرضَ والنفلَ، وصلاةَ الجنازة لعموم الحديث(2)، أما سجود التِّلاوة فيُبنى على الخلاف:
فإن قلنا: إنَّه صلاة ـ كما هو المشهور من المذهب ـ سُنَّ السِّواك له، وإلا فلا، وكذلك سجود الشُّكر.
ولكن نقول: إذا لم يكن مُتَأكّداً عند سجود التِّلاوة، فإنه داخل في أنه مسنون كُلَّ وقت، لكن لا نعتقد أنَّه مسنونٌ من أجل هذا الشيء إذا قلنا: إن سجود التلاوة ليس بصلاة.(137/6)
قوله: "وانتباهٍ" أي: يُتَأكَّدُ السِّواكُ عند الانتباه من النَّوم، والدَّليلُ قولُ حُذيفةَ بنِ اليمانِ رضي الله عنه: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذا قامَ من الليل يَشُوصُ فاهُ بالسِّواك(1).
قال العلماء: معنى يشوص: يغسله ويدلكه بالسِّواك(2).
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه يَتَأكَّدُ عند الانتباه من نوم الليل، ومن نوم النهار؛ لأنه قال: "وانتباهٍ" ولم يخصَّ بالليل.
ولا يصحُّ أن يُستدلَّ بحديث حذيفة على تأكُّد السِّواك عند الانتباه من نوم النَّهار؛ لأن الدَّليل أخصُّ، ولا يمكن أن يُستَدَلَّ بالأخصِّ على الأعمِّ. لكن يُقالُ: إن حذيفة رأى النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عند الانتباه من نوم الليل، ولا يمنع أن يكون ذلك أيضاً عند الانتباه من نوم النهار؛ لأنّ العِلَّة واحدة ، وهي تغيُّر الفَم بالنَّوم. فعلى هذا يتأكَّد كما قال المؤلِّف عند الانتباه من النَّوم مطلقاً، بالدَّليل في نوم الليل، وبالقياس في نوم النَّهار.
واعلم أن القياس الواضح الجليَّ يُعبِّر عنه بعضُ أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ بالعموم المعنوي(3)، لأنَّ العموم يكون بالألفاظ، وقد يكون بالمعاني، بمعنى أنا إذا تيقَّنَّا أو غلب على ظنِّنا أن هذا المعنى الذي جاء به النَّصُّ يشمل هذا المعنى الذي لم يدخل في النَّصِّ لفظاً؛ فإننا نقول: دخل فيه بالعموم المعنوي. وإذا قلنا: إنَّه ثبت بالقياس الجليِّ فالأمر واضح؛ لأن الشَّريعة لا تفرِّق بين متماثلين.
قوله: "وتغيُّر فَم" أي: يَتَأكَّد عندَ تغيُّر الفَمِ، والدَّليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "السِّواك مطهرة للفَمِ"(1) فمقتضى ذلك أنَّه متى احتاج الفَمُ إلى تطهير كان مُتَأكّداً.
قوله: "ويستاكُ عَرضاً" أي: عرضاً بالنِّسبة للأسنان، وطولاً بالنِّسبة للفَمِ، وقال بعض العلماء: يستاك طولاً بالنِّسبة للأسنان، لأنه أبلغ في التنظيف.(137/7)
ويحتمل أن يُقال: يرجع إلى ما تقتضيه الحال، فإذا اقتضت الحالُ أن يستاكَ طولاً، استاك طولاً، وإذا اقتضت أن يستاكَ عرضاً استاك عرضاً؛ لعدم ثبوت سُنَّة بيِّنَةٍ في ذلك.
قوله: "مبتدِئاً بجانب فَمِه الأيمن" والدَّليل أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "كان يُعجبُه التيمّن في تنعُّله، وترجُّله، وطُهوره، وفي شأنه كلِّه"(2).
واختلف العلماء هل يستاك باليد اليُمنى أو اليُسرى(1) ؟
فقال بعضهم: باليمنى؛ لأن السِّواك سُنَّةٌ، والسُّنَّةُ طاعةٌ وقُربةٌ و تعالى، فلا يكونُ باليُسرى؛ لأنَّ اليسرى تُقدَّم للأذى، بناءً على قاعدةٍ وهي: أن اليسرى تقدَّم للأذى، واليُمنى لما عداه.
وإذا كان عبادة فالأفضل أن يكون باليمين.
وقال آخرون: باليسار أفضل، وهو المشهور من المذهب؛ لأنَّه لإزالة الأذى، وإزالة الأذى تكون باليُسرى كالاستنجاء، والاستجمار.
وقال بعض المالكية: بالتَّفصيل، وهو إنْ تسوَّك لتطهير الفَمِ كما لو استيقظ من نومه، أو لإزالة أثر الأكل والشُّرب فيكون باليسار؛ لأنه لإزالة الأذى(2).
وإنْ تَسوَّك لتحصيل السُّنَّة فباليمين؛ لأنه مجرد قُربة، كما لو توضَّأ واستاك عند الوُضُوء، ثم حضر إلى الصَّلاة قريباً فإنَّه يستاك لتحصيل السُّنَّة.
والأمر في هذا واسع لعدم ثبوت نصٍّ واضحٍ.
قوله: "ويَدَّهِنُ غِبًّا" الادهان: أن يستعملَ الدُّهن في شعره.(137/8)
وقوله: "غِبًّا" يعني: يفعل يوماً، ولا يفعل يوماً، وليس لازماً أن يكون بهذا التَّرتيب؛ فيُمكن أن يستعمله يوماً، ويتركه يومين، أو العكس، ولكن لا يستعمله دائماً؛ لأنه يكون من المُترَفين الذين لا يهتمون إلا بشؤون أبدانهم، وهذا ليس من الأمور المحمودة ففي سنن أبي داود والنَّسائي أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: كان ينهى عن كثيرٍ من الإرفاه (1) أي لا ينبغي أن يُكثِرَ من إرفاه نفسه، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إن خيركم قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يكون بعدهم قومٌ يَشْهَدون ولا يُستَشْهَدُون، ويخونون ولا يُؤْتمنون، ويَنْذِرُون ولا يُوفُون، ويظهر فيهم السِّمَن"(2) فالسِّمَن يظهر من كثرة الإرفاه؛ لأن الذي لا يُترِفُ نفسه لا يسمن غالباً، وهذا يدلُّ على أنَّ كثرة التَّرف، ليست من الأمور المحمودة.
وترك ُالادِّهان بالكلية سيِّئٌ؛ لأنَّ الشَّعر يكون شَعِثاً ليس بجميل ولا حسن، فينبغي أن يكون الإنسان وسطاً بين هذا وهذا.
قوله: "ويَكْتَحِلُ وِتْراً" الكُحْلُ يكون بالعين.
وقوله: "وِتْراً" يعني ثلاثةً في كُلِّ عَين.
قالوا: وينبغي أن يكتحلَ بالإثْمِدِ كُلَّ ليلة، وهو نوع من الكُحْل مفيدٌ جداً للعين.
ومن أراد أن يعرفَ عنه فليقرأ: "زادُ المعادِ"(1) لابن القَيِّم رحمه الله، وهو من أحسن الكُحْلِ تقويَّةً للنَّظر.
ويُقالُ: إن زرقاء اليمامة كانت تنظرُ مسيرةَ ثلاثة أيام بعينها المجرَّدة، فلما قُتلَتْ نظروا إلى عينها فوجدوا أن عروق عينها تكاد تكون محشوَّةً بالإثْمِدِ(2).
أمَّا الاكتحالُ الذي لتجميل العين فهل هو مشروع للرَّجُلِ أم للأنثى فقط؟
الظَّاهر أنَّه مشروع للأنثى فقط، أما الرَّجُل فليس بحاجة إلى تجميل عينيه.(137/9)
وقد يُقال: إنه مشروع للرَّجُل أيضاً؛ لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لما سُئِلَ: إن أحدنا يحب أن يكون نعلُه حسناً، وثوبُه حسناً فقال: "إن الله جميلٌ يحبُّ الجمال"(3).
وقد يُقال: إذا كان في عين الرَّجُل عيبٌ يَحتاجُ إلى الاكتحال فهو مشروعٌ له، وإلا فلا يُشرع(1).
قوله: "وتجبُ التَّسميةُ في الوُضُوء ِمع الذِّكر". أي: يقول: بسم الله، ويكون عند ابتدائه؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لا وُضُوء لِمَنْ لم يَذكرِ اسم َاللهِ عليه"(2) فدلَّ هذا على أنَّها واجبةٌ، وأنها في البداية، وهذا المشهور؛ لأن التَّسمية على الشيء تكون عند فعله كما في قوله تعالى: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه {الأنعام: 118}. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "ما أَنْهَرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فكلوه"(1) والتَّسمية على الذَّبيحة تكون عند الذَّبح قبل الشُّروع فيه، وهذا المشهور من المذهب؛ بناء على القاعدة المعروفة: "أن النَّفي يكون أولاً لنفي الوجود، ثم لنفي الصِّحة، ثم لنفي الكمال". فإذا جاء نصٌّ في الكتاب أو السُّنَّة فيه نفيٌ لشيء؛ فالأصل أن هذا النفيَ لنفي وجود ذلك الشيء، فإن كان موجوداً فهو لنفي الصِّحَّة، ونفيُ الصِّحَّة نفيٌ للوجود الشَّرعي، فانْ لم يمكن ذلك بأن َصحَّت العبادة مع وجود ذلك الشيء، صار النَّفيُ لنفي الكمال لا لنفي الصِّحَّة.
مثالُ نفي الوجود: "لا خالق للكون إلا الله".
مثال نفي الصِّحة: "لا صلاة لمن لم يقرأ بأمِّ الكتاب".
ومثالُ نفي الكمال: "لا يُؤمن أحدكُم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبُّ لنفسه".(137/10)
فإذا نزَّلنا حديث التَّسمية في الوُضُوء على هذه القاعدة فإنَّها تقتضي أن التسمية شرطٌ في صِحَّة الوُضُوء، لا أنَّها مجرَّد واجب؛ لأن نفيَ الوُضُوء لانتفاء التَّسمية معناه نفي الصِّحَّة، وإذا انتفت صحَّة العبادة بانتفاء شيء كان ذلك الشيء شرطاً فيها. ولكنَّ المذهب أنها واجبة فقط وليست شرطاً. وكأنَّهم عَدَلُوا عن كونها شرطاً لصحَّة الوُضُوء، لأنَّ الحديث فيه نظر؛ ولهذا ذهب الموفق ـ رحمه الله ـ إلى أنَّها ليست واجبة بل سُنَّة (1)؛ لأن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ قال: "لا يثبت في هذا الباب شيء"(1)، وإذا لم يثبت فيه شيء فلا يكون حُجَّة.
ولأن كثيراً من الذين وصفوا وُضُوء النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يذكروا فيه التَّسمية، ومثل هذا لو كان من الأمور الواجبة التي لا يصحُّ الوُضُوء بدونها لذُكِرَت.
وإذا كان في الحمَّام، فقد قال أحمد: "إذا عطسَ الرَّجلُ حَمِدَ الله بقلبه" (2)، فيُخَرَّج من هذه الرِّواية أنَّه يُسمِّي بقلبه.
وقوله: "مع الذِّكر" أفادنا المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ أنها تسقط بالنِّسيان وهو المذهب، فإن نسيها في أوَّله، وذكرها في أثنائه فهل يُسمِّي ويستمر، أم يَبْتَدِئُ؟ اختلف في هذه المسألة "الإقناعُ" و"المُنتهى" ـ وهما من كتب فقه الحنابلة ـ فقال صاحب "المنتهى": يبتدئ (3)، لأنه ذكر التسمية قبل فراغه، فوجب عليه أن يأتي بالوُضُوء على وجهٍ صحيح.
وقاب صاحب "الإقناع": يستمر(1)؛ لأنَّها تسقط بالنِّسيان إذا انتهى من جملة الوُضُوء، فإذا انتهى من بعضه من باب أولى.
والمذهب ما في "المنتهى"، لأن المتأخِّرين يرون أنه إذا اختلف "الإقناع" و"المنتهى" فالمذهب "المنتهى".
وقال الفقهاء: تجب التَّسميةُ في الغُسل(2)؛ لأنه إحدى الطَّهارتين فكانت التَّسمية فيه واجبة كالوُضُوء، ولأنها إذا وجبت في الوُضُوء وهو أصغر، وأكثر مروراً على المكلَّف فوجوبُها في الحَدَث الأكبر من باب أولى.(137/11)
وقالوا أيضاً: تجب في التيمُّم(2)؛ لأنه بدل عن طهارة الماء، والبدل له حكم المبدل. وقد يعُارَضُ في هذا فيُقال: إن التيمُّمَ ليس له حكم المبدل في وجوب تطهير الأعضاء؛ لأنَّ التيمُّم إنما يُطَهَّرُ فيه عضوان فقط: الوجه والكفَّان في الحدث الأصغر والأكبر، فلا يُقال: ما وجب في طهارة الماء وجب في طهارة التيمُّم، لكن الاحتياط أولى فيسمِّي عند التيمُّم أيضاً.
والمتأمِّل لحديث عمَّار بن ياسر وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا"(1) يستفيد منه أن التسمية ليست واجبة في التيمُّم.
والتَّسميةُ في الشَّرع قد تكون شرطاً لصحَّة الفعل، وقد تكون واجباً، وقد تكون سُنَّةً، وقد تكون بدعةً، فتكون شرطاً لصحَّة الفعل كما في الذَّكاة والصَّيد، فلا تسقط على الصَّحيح لا عمداً، ولا جهلاً، ولا سهواً، فإذا ذَبَحَ، أو صاد ونسي التَّسميةَ؛ صار المذبوح والصَّيد حراما.
والمذهب: إذا رمى صيداً ونسيَ أن يُسمِّيَ صار حراماً، وإن ذَبَحَ ونسيَ أن يُسمِّيَ صار حلالاً (2)! وهذا من غرائب العلم، فإنَّ الصَّيد أولى بالعُذر؛ فكيف يُعذر النَّاس في الذَّبيحة، ولا يُعذرون في الصَّيد؟! مع أنَّ الغالب أنَّ الإنسان إذا رأى صيداً يستعجل وينسى التَّسمية. ودليل المذهب ـ على أن التَّسمية لا تسقط في الصَّيد سهواً ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إذا أرسلت كَلْبَك وسمَّيتَ فَكُلْ"(3) ومقتضى ذلك أنَّك إذا لم تذكر اسم الله فلا تأكلْ.
فنقول: هو أيضاً قال: "ما أَنْهرَ الدَّمَ وذُكِرَ اسمُ الله فَكُلْ، ليس السِّنَّ والظُّفُرَ"(1) وأيُّ فرق بين هذا وهذا؟(137/12)
لا فرق، فجعل حِلِّ المذكَّاة مشروطاً بالتَّسمية وإنهار الدَّم، كما جعل الصَّيد مشروطاً بالإرسال والتَّسمية، وحينئذٍ لا يتَّجه التَّفريق بينهما، وأيضاً: فكما أنَّه لو نسيَ وذَبَحَ الذَّبيحة بصعق كهربائي، فإنها ميتة لا تحِلُّ، فكذلك إذا نسيَ ولم يسمِّ فهي ميتة لا تحِلُّ.
فإن قيل: أليس الله تعالى يقول: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا {البقرة: 286} ؟
قلنا: بلى؛ فالذي نسيَ أن يسمِّيَ على الذَّبيحة ليس عليه إثم، لكن من أكل منها متعمِّداً فإنَّه آثم لأن الله يقول: ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه {الأنعام: 121} فنهى عن الأكل، لكن إذا أكل جاهلاً، أو ناسياً فلا إثم عليه لقوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا {البقرة: 286} وهذا اختيار شيخ الإسلام(2) رحمه الله.
فإن قيل: إن ذلك يترتَّب عليه إتلافٌ لأموال المسلمين، وقد تكون نُوْقاً ثمينة؛ فهل يُؤمر صاحبُها بجرِّها للكلاب إذا نسي التَّسمية؟ قلنا: لو نسيَ مرّة فحرَّمناها عليه؛ فإنَّه لا يمكن أن ينسى بعد ذلك.
وتكون التَّسميةُ واجبة كما في الوُضوء.
وتكون مستحبَّة كالتَّسمية عند الأكل على رأي الجمهور (1)، وقال بعض العلماء: إنها واجبة (1) وهو الصَّحيح.
وتكون بدعةً كما لوسَمَّى عند بَدْء الأذان مثلاً، إذا أراد أن يؤذِّن قال: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، وكذا عند الصَّلاة.
أمَّا عند قراءة القرآن فتُقرأ في أول السُّورة، وأما في أثناء السُّورة فقال بعضُ العلماء: يُستحب أن يقول: بسم الله (2).
ورَدَّ بعضُ العلماء هذا ـ وهو الصَّحيح ـ وقال: إن الله لم يأمرْنا عند قراءة القرآن إلا أن نقول: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، فإذا أردت أن تقرأ في أثناء السُّورة فلا تُسَمِّ (2).
قوله: "ويجبُ الختانُ ما لم يخفْ على نَفْسِه". أوَّلُ مَنْ سَنَّ الخِتانَ إبراهيمُ عليه السَّلام(3).
وهو بالنسبة للذَّكر: قطعُ الجلدة التي فوق الحَشَفَة.(137/13)
وبالنسبة للأنثى: قطعُ لحمةٍ زائدة فوق محلِّ الإيلاج، قال الفقهاء رحمهم الله: إنها تشبه عُرف الدِّيك.
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه واجب على الذَّكر والأنثى، وهو المذهب. وقيل: هو واجب على الذَّكر دون الأنثى، واختاره الموفق(1) رحمه الله.
وقيل: سُنَّة في حَقِّ الذُّكور والإناث(1).
وقد أطال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في "تحُفه المودود"(1) في حُجج الاختلاف، ولم يرجِّح شيئاً!، وكأنَّه ـ والله أعلم ـ لم يترجَّح عنده شيء في هذه المسألة.
وأقرب الأقوال: أنه واجب في حَقِّ الرِّجال، سُنَّةٌ في حَقِّ النِّساء. ووجه التَّفريق بينهما: أنه في حَقِّ الرِّجال فيه مصلحة تعود إلى شرط من شُروط الصَّلاة وهي الطَّهارة، لأنَّه إذا بقيت هذه الجلدة، فإن البول إذا خرج من ثُقب الحَشَفَة بقي وتجمَّع، وصار سبباً في الاحتراق والالتهاب، وكذلك كُلَّما تحرَّك، أو عصر هذه الجلدة خرج البول وتنجَّس بذلك.
وأما في حَقِّ المرأة فغاية فائدته: أنه يُقلِّل من غُلمتِها، أي: شهوتها، وهذا طلب كمال، وليس من باب إزالة الأذى.
ولا بُدَّ من وجود طبيب ٍحاذقٍ يعرف كيف يختن، فإن لم يوجد فإنه يختن نفسه إذا كان يُحسن، وإبراهيم ـ عليه السَّلام ـ خَتَنَ نفسَه(2).
واشترط المؤلِّف أنْ لا يخاف على نفسه، فإن خاف على نفسه من الهلاك، أو الضَّرر، فإنه لا يجب، وهذا شرطٌ في جميع الواجبات؛ فلا تجب مع العجز، أو مع خوف التَّلف، أو الضَّرر.
ويجوز للخاتن أن ينظر إلى عورة المختون، ولو بلغ عشر سنين، وذلك للحاجة، والدَّليل على وجوبه في حقِّ الرجال:
1ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "خمسٌ من الفِطْرة" وذكر منها الخِتَان(1).
2ـ أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَنْ أسلمَ أن يختتن (2)، وهذا يدلُّ على الوجوب.(137/14)
3ـ أن الخِتَان ميزةٌ بين المسلمين والنَّصارى؛ حتى كان المسلمون يَعرفون قتلاهم في المعارك بالختان، فالمسلمون والعرب قبل الإسلام واليهود يختتنون، والنَّصارى لا يختتنون، وإذا كان ميزة فهو واجب.
4ـ أنَّه قَطْعُ شيء من البَدَن، وقطعُ شيء من البَدَن حرام، والحرام لا يُستباح إلا بالواجب.
5ـ أنه يقوم به وليُّ اليتيم، وهو اعتداءٌ عليه، واعتداءٌ على ماله، لأنه سيُعطي الخاتن أجرةً من ماله غالباً، فلولا أنه واجبٌ لم يجز الاعتداء على مال اليتيم وبدنه.
وأمَّا بالنسبة للمرأة فأقوى الأقوال أنه سُنَّةٌ(1).
ويدلُّ له قوله صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "الختان سُنَّةٌ في حَقِّ الرِّجال، مَكْرَمة في حَقِّ النِّساء" (1)لكنه ضعيفٌ، ولو صَحَّ لكان فاصلاً.
قوله: "ويُكره القَزَعُ" القَزَعُ: حلقُ بعض الرَّأس، وتركُ بعضه، وهو أنواع:
1ـ أن يحلِقَ غير مرتّب، فيحلقُ من الجانب الأيمن، ومن الجانب الأيسر، ومن النَّاصية، ومن القَفَا.
2ـ أن يحلقَ وسطَه ويترك جانبيه.
3ـ أن يحلقَ جوانبه ويتركَ وسطه، قال ابن القيم رحمه الله: "كما يفعله السُّفَل"(2).
4ـ أن يحلقَ النَّاصيةَ فقط ويتركَ الباقي.
والقَزَع مكروه(3)؛ لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رأى غلاماً حلق بعض شعره وترك بعضه، فنهاهم عن ذلك وقال: "احلقوا كلَّه،
أو اتركوه كلَّه"(1). إلا إذا كان فيه تشبُّهٌ بالكُفَّار فهو محرَّمٌ، لأن التشبَّه بالكُفَّار محرَّمٌ، قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "من تَشَبَّه بقومٍ فهو منهم"(2) وعلى هذا فإذا رأينا شخصاً قَزَّع رأسه فإننا نأمره بحلق رأسه كلِّه، ثم يُؤمر بعد ذلك إمَّا بحلقهِ كلِّه أو تركه كلِّه.(137/15)
قوله: "ومن سُنن الوُضُوء" السُّنَنَ: جمع سُنَّّة، وتُطلق على الطَّريقة، وهي أقوال الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأفعاله وتقريراته، ولا فرق في هذا بين الواجب والمستحبِّ، فالواجب يُقال له: سُنَّة، والمستحبُّ يُقال له: سُنَّة.
مثال الواجب: قول أنس: "من السُّنَّة إذا تزوَّجَ البكرَ على الثيِّب أقام عندها سبعاً"(3).
ومثال المستحبِّ: حديثُ ابن الزبير رضي الله عنه: "صَفُّ القدمين، ووضْعُ اليد على اليد من السُّنَّة"(1).
وأمَّا عند الفقهاء والأصوليين ـ رحمهم الله تعالى ـ: فهي ما سوى الواجب؛ أي: الذي أُمِرَ به لا على سبيل الإلزام.
حكمها: أنه يُثاب فاعلها امتثالاً، ولا يُعاقب تاركُها.
قوله: "السِّوَاك" تقدَّم أنَّه يتَأَكَّدُ عند الوُضُوء، ودليله: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لولا أن أَشُقَّ على أُمتي لأَمرتُهم بالسِّوَاك مع كُلِّ وُضُوء"(2).
قوله: "وغَسْلُ الكفَّين ثلاثاً" لأنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان إذا توضَّأ بدأ بغسل الكفَّين ثلاثاً (1)، ولأنهما آلة الغسل فإنَّ بهما يُنقل الماء، وتُدلَكُ الأعضاءُ، فكان الأليقُ أن يتقدَّم تطهيرُهما.
فإن قيل: لماذا لا يُقال: إن غسلهما واجب لمداومة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؟
فالجواب: أن الله يقول: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم {المائدة: 6} ولم يذكر الكَفَّين.
قوله: "ويجبُ من نومِ ليلٍ". الضَّمير في قوله: "يجب" يعودُ على غسل الكفَّين ثلاثاً، وهذا إذا أراد أن يغمسهُما في الإناء.
والدَّليل: حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "إذا استيقظ أحدُكم من نومه، فلا يغمس يدَه في الإناء؛ حتى يغسلها ثلاثاً؛ فإن أحدَكم لا يدري أين باتت يدُه"(2).
وقوله: "مِنْ نومِ ليلٍ" خرج به نوم النهار، فلا يجب غسل الكفَّين منه.(137/16)
فإن قال قائل: قولُه في الحديث: "إذا استيقظ أحدُكم من نومه" فإن "نومه" مفردٌ مضاف فيشمل كُلَّ نومٍ.
وأيضاً قوله: "إذا استيقظ" ظرف يشمل آناء الليل وآناء النَّهار، فلماذا يُخَصُّ بالليل؟
فأجابوا: أنَّه يُخَصُّ بالليل لتعليله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في قوله: "فإن أحدكم لا يدري أين باتت يدُه" والبيتوتة لا تكون إلا بالليل(1). وهذا من باب تخصيص العام بالعِلَّة، لأنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لمَّا علَّلَ بعِلَّة لا تصلح إلا لنوم الليل صار المراد بالعموم في قوله: "من نومه" نوم َالليل، فهو عام أُريد به الخاصُّ.
قوله: "ناقضٍ لوُضُوء" احترازاً مما لو لم يكن ناقضاً.
والنَّوم النَّاقض على المذهب: كُلُّ نوم إلا يسير نوم من قائم، أو قاعد(2). والصَّحيح أن المدار في نقض الوُضُوء على الإحساس، فما دام الإنسان يُحسُّ بنفسه لو أحدث فإن نومه لا يَنْقُضُ وضوءَه، وإذا كان لا يحسُّ بنفسه لو أحدث فإن نومَه يَنْقُضُ وضوءَه(2).
وهذا الذي ذكره الفقهاء هنا حيث قالوا: "ناقضٍ لوُضُوءٍ" يؤيِّدُ أنَّ الرَّاجح أنَّ النَّوم النَّاقض للوُضُوء ما فَقَدَ به الإنسانُ إحساسَه.
ووجهه: أن قوله: "فإن أحدَكم لا يدري" معناه أن إحساسه مفقود، وعلى هذا إذا كان يدري بحيث لم يفقدْ إحساسه فإنه لا ينتقض وضوءُه، مع أنَّ الفقهاء في باب نواقض الوضوء يخالفون ذلك.
قوله: "والبَدَاءَة بمَضْمَضَةٍ ثم استنشاق" أي: ومن سُنَنِ الوُضُوء البَدَاءَةُ بمضمضة ثم استنشاق، وهذا بعد غسل الكَفَّين، والأفضل أن يكون ثلاث مَرَّات بثلاث غَرَفات.
والمضْمَضَةُ هي : إدارة الماء في الفَمِ.
والاستنشاق هو: جَذْبُ الماء بالنَّفَسِ من الأنف.
والبَدْءُ بهما قبلَ غسل الوجه أفضل، وإن أخَّرهما بعد غسل الوجه جاز.(137/17)
ولم يذكر المؤلِّفُ الاستنثار؛ لأن الغالب أن الإنسان إذا استنشق الماء أنه يستنثره، وإلا فلابُدَّ من الاستنثار، إذ لا تكتمل السُّنَّةُ إلا به، كما أنها لا تكتمل السُّنَّة بالمضمضة إلا بمجِّ الماء، وإن كان لو ابتلعه لعُدَّّ متمضمضاً، لكن الأفضل أن يمجَّه؛ لأن تحريك الماء بالفَمِ يجعل الماء وسخاً لما يلتصق به من فضلات كريهة بالفم.
قوله: "والمبالغة فيهما لغيرصائم". "فيهما" أي: ومن سُنَنِ الوُضُوء المبالغة في المضمضة والاستنشاق، والمبالغة في المضمضة: أن تحرِّكَ الماء بقوة وتجعله يصلُ كلَّ الفم، والمبالغة في الاستنشاق: أن يجذبه بنفس قويٍّ.
ويكفي في الواجب أن يديرَ الماء في فمه أدنى إدارة، وأن يستنشقَ الماءَ حتى يدخل في مناخره.
والمبالغةُ مكروهةٌ للصَّائم، لأنها قد تؤدِّي إلى ابتلاع الماء ونزوله من الأنف إلى المعدة؛ ولهذا قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للقيط بن صَبِرَة "أسْبِغْ الوُضُوء، وخلِّلْ بين الأصابع، وبالغْ في الاستنشاقِ، إلا أن تكون صائماً"(1).
وإذا كان في الإنسان جيوبٌ أنفيةٌ، ولو بالغ في الاستنشاق احتقن الماءُ بهذه الجيوب وآلمه، أو فسد الماء وأدَّى إلى صديد أو نحو ذلك، ففي هذه الحال نقول له: لا تبالغ درءاً للضَّرر عن نفسك.
قوله: "وتخليلُ اللِّحْيَة الكثيفة". أي: ومن سنن الوضوء تخليل اللحية الكثيفة، واللحية إما خفيفةٌ، وإما كثيفةٌ.
فالخفيفة هي التي لا تَسْتُرُ البشرة، وهذه يجب غسلُها وما تحتها؛ لأنَّ ما تحتها لمَّا كان بادياً كان داخلاً في الوجه الذي تكون به المواجهة، والكثيفةُ: ما تَسْتُرُ البشرة، وهذه لا يجب إلا غسل ظاهرها فقط، وعلى المشهور من المذهب يجب غسل المسترسل منها.(137/18)
وقيل: لا يجب كما لا يجب مسحُ ما استرسلَ من الرَّأسِ(2)، والأقرب في ذلك الوجوب(3)، والفرق بينها وبين الرأس: أن اللحية وإن طالت تحصُل بها المواجهة؛ فهي داخلة في حَدِّ الوجه، أما المسترسلُ من الرَّأس فلا يدخل في الرَّأس لأنَّه مأخوذ من التَّرؤُّس وهو العُلو، وما نزل عن حدِّ الشَّعر، فليس بمُتَرئِّسٍ.(137/19)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
بابُ فُرُوضِ الوُضُوءِ وصفته
محمد بن صالح العثيمين
الفُروض: جمع فرض، وجَمَعَهَا مع أن القاعدة عند النَّحْويين أنَّ المصدر لا يُجْمَعُ، ولا يُثَنَّى، ولكن جَمَعَهَا باعتبار تعدُّدها، أو على تقدير أن المصدر بمعنى اسم المفعول أي: مفروضات الوُضُوء.
والفَرض في اللُّغة يدلُّ على معانٍ أصلها: الحَزُّ والقطع، فالحزُّ قطعٌ بدون إبانة، والقطعُ حزٌّ مع إبانة .
والفرض في الشرع عند أكثر العلماء مرادفٌ للواجب، أي بمعناه، وهو ما أُمِرَ به على سبيل الإلزام. يعني : أَمَرَ اللهُ به ملزماً إيَّاناً بفعله.
وحكمه: أن فاعله امتثالاً مُثابٌ، وتاركَهُ مستحِقٌّ للعقاب.
وعند أبي حنيفة رحمه الله: الفرض ما كان ثابتاً بدليل قطعيِّ الثُّبوت والدَّلالة.
والواجبُ: ما ثبت بدليل ظَنِّيِّ الثُّبوت أو الدِّلالة(1).
ومثَّلوا لذلك: بقراءة شيء من القُرآن؛ فإنه فُرضَ في الصَّلاة، لقوله تعالى: فاقرءوا ما تيسر من القرآن {المزمل: 20} .
وقراءة الفاتحة واجبٌ ولا يُسمَّى فرضاً؛ لأن قراءتها من أخبار الآحاد، وعند كثير من الأصوليين وغيرهم، أن أخبار الآحاد لا تفيد إلا الظَّنَّ.
والمراد بفروض الوُضُوء هنا أركانُ الوُضُوء.
وبهذا نعرف أن العُلماءَ ـ رحمهم الله ـ قد ينوِّعون العبارات، ويجعلون الفروضَ أركاناً، والأركانَ فروضاً.
والدَّليلُ على أن الفروض هنا الأركان: أن هذه الفروض هي التي تتكوَّن منها ماهيَّة الوُضُوء، وكلُّ أقوال أو أفعال تتكوَّن منها ماهيَّةُ العبادة فإنَّها أركانٌ.
والوُضُوء في اللُّغة: مشتَقٌّ من الوَضَاءةِ، وهي النَّظَافةُ والحُسْنُ.
وشرعاً: التعبُّدُ و ـ عَزَّ وجلَّ ـ بغسل الأعضاء الأربعة على صفة مخصوصة.
فإن قيل: هذا حدٌّ غيرُ صحيح، لقولك: بغسل الأعضاء، والرَّأس لا يُغسل؟
فالجواب: أنَّ هذا من باب التغليب.(138/1)
وقوله: "وصفَتِهِ" معطوفةٌ على فُروض، وليست معطوفةً على وُضُوء، يعني: وباب صفة الوُضوء.
والصِّفة: هي الكيفيَّة التي يكونُ عليها.
وللوُضُوء صفتان: صفةٌ واجبةٌ، وصفةٌ مستحبَّةٌ.
قوله: "فُروضُهُ سِتَّةٌ" دليلُ انحصارها في ذلك هو التَّتبُّع.
قوله: "غسل ُالوجه" هذا هو الفرض الأول، وخرج به المسحُ، فلابُدَّ من الغسل، فلو بلَّلت يدك بالماء ثم مسحت بها وجهك لم يكن ذلك غسلاً.
والغَسلُ: أن يجري الماء على العضو.
وقوله: "الوجه" هو ما تحصُل به المواجهةُ، وحَدُّه طولاً: من منحنى الجبهة إلى أسفل اللحية، وعرضاً من الأُذن إلى الأذن.
وقولنا: من منحنى الجبهة؛ هو بمعنى قول بعضهم: من منابت شعر الرَّأس المعتاد(1)؛ لأنه يصِل إلى حَدِّ الجبهة وهو المنحنى، وهذا هو الذي تحصُل به المواجهة؛ لأن المنحنى قد انحنى فلا تحصُل به المواجهة والدَّليل قوله تعالى:
يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم {المائدة: 6}. وقد سبق حكم مسترسل اللِّحية(2).
قوله: "والفمُ والأنفُ منه" أي: من الوجه؛ لوجودهما فيه فيدخلان في حَدِّه، وعلى هذا فالمضمضة والاستنشاق من فروض الوُضُوء؛ لكنهما غير مستقلَّين؛ فهما يشبهان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "أُمِرتُ أن أسْجُدَ على سبعة أَعظُم، على الجبهة، وأشار بيده على أنفه"(1) وإن كانت المشابهة ليست من كُلِّ وجه.
قوله: "وغسل اليدين" هذا هو الفرضُ الثَّاني، وأطلق المؤلِّف ـ رحمه الله ـ لفظ اليدين، ولكن يجب أن يقيِّد ذلك بكونه إلى المرفقين؛ لأنَّ اليد إذا أُطلقت لا يُرادُ بها إلا الكفّ.
والدَّليل قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما{المائدة: 38} وقوله في التيمم: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه {المائدة: 6} ولم يمسح النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في التيمُّم إلا الكفَّين(2).
والمِرْفَقُ: هو المِفْصلُ الذي بين العضد والذِّراع.(138/2)
وسُمِّي بذلك من الارتفاق؛ لأنَّ الإنسان يرتفق عليه أي: يتَّكئ.
والدَّليل على دخول المرفقين قوله تعالى: وأيديكم إلى المرافق {المائدة: 6} وتفسير النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لها بفعله، حيث كان يغسل يده اليُمنى' حتى يشرع في العَضُد، ثم يغسل يده اليُسرى كذلك(1).
قوله: "ومسحُ الرَّأس" هذا هو الفرضُ الثَّالثُ من فُرُوض الوُضُوء، والفرقُ بين المسح والغسل: أنَّ المسحَ لا يحتاج إلى جريان الماء، بل يكفي أن يغمسَ يده في الماء؛ ثم يمسح بها رأسَهُ، وإنَّما أوجب اللهُ في الرَّأس المسحَ دون الغسل؛ لأن الغسلَ يشقُّ على الإنسان، ولاسيَّما إذا كَثُرَ الشَّعرُ، وكان في أيام الشِّتاء، إذ لو غُسل لنزلَ الماءُ على الجسم، ولأن الشَّعر يبقى مبتلاًّ مدةً طويلة، وهذا يَلْحَق الناسَ به العسرُ والمشقَّةُ، والله إنما يريد بعباده اليسر.
وحَدُّ الرَّأس من منحنى الجبهة إلى منابت الشَّعر من الخلف طولاً، ومن الأُذن إلى الأُذن عرضاً، وعلى هذا فالبياض الذي بين الرَّأس والأُذنين من الرَّأس.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ فيما إذا غسل رأسه دون مسحه؛ هل يجزئه أم لا؟ على ثلاثة أقوال(2):
القول الأول: أنه يُجزئه؛ لأن الله إنما أسقط الغسل عن الرَّأس تخفيفاً؛ لأنه يكون فيه شعر فيمسك الماء ويسيل إلى أسفل ، ولو كُلِّف النَّاس غسله لكان فيه مشقَّة، ولا سيَّما في أيَّام الشتاء والبَرْد، فإذا غسله فقد اختار لنفسه ما هو أغلظ فيجزئه.
القول الثَّاني: أنَّه يجزئه مع الكراهة بشرط أن يُمِرَّ يده على رأسه، وإلا فلا، وهذا هو المذهب، لأنَّه إذا أَمرَّ يده فقد حصل المسح مع زيادة الماء بالغسل.
القول الثالث: أنه لا يجزئه؛ لأنَّه خلاف أمر الله ورسوله، قال تعالى: وامسحوا برءوسكم {المائدة: 6} وإذا كان كذلك فقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ من حديث عائشة: "من عَمِلَ عَمَلاً ليس عليه أمرُنا فهو رَدٌّ"(1).(138/3)
ولا ريب أنَّ المسح أفضلُ من الغسل، وإجزاء الغسل مطلقاً عن المسح فيه نظرٌ، أما مع إمرار اليد فالأمر في هذا قريب.
ولو مسح بناصيته فقط دون بقيَّة الرَّأس فإنَّه لا يجزئه؛ لقوله تعالى: وامسحوا برءوسكم {المائدة: 6} ولم يقل: "ببعض رؤوسكم" والباء في اللغة العربية لا تأتي للتبعيض أبداً.
قال ابن برهان: من زعم أن الباء تأتي في اللّغة العربية للتبعيض فقد أخطأ(1). وما ورد في حديث المغيرة بن شعبة أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مسح بناصيته؛ وعلى العمامة، وعلى خُفَّيْه(2). فإجزاء المسح على الناصية هنا لأنه مسح على العمامة معه، فلا يدلُّ على جواز المسح على الناصية فقط.
قوله: "ومنه الأُذنان" أي: من الرَّأس، والدَّليل مواظبته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ على مسح الأُذُنين.
وأما حديث: "الأُذنان من الرَّأس"(3) فضعّفه كثير من العلماء كابن الصَّلاح وغيره، وقالوا: إن طرقه واهية، ولكثرة الضَّعف فيها لا يرتقي إلى درجة الحسن.
وبعض العلماء صحَّحه، وبعضهم حسَّنه. لكن مواظبة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ على مسحهما دليلٌ لا إشكال فيه. وعلى القول بصحة الحديث فهل يجب حلق الشَّعر الذي ينبت على الأذنين مع شعر الرَّأس في حلق النسك؟
فالجواب: أنَّ من صحَّح الحديث فإنَّه يلزمه القول بذلك. ولكن الذي يتأمَّل حلْقَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ شعره في النُّسك لا يظَنُّ أنه كان يحلق ذلك، أو أنَّ النَّاس مكلَّفون بحلقه أو تقصيره، وأمَّا على القول بضعف الحديث فلا إشكال.(138/4)
قوله: "وغَسْل الرِّجْلين" وهذا هو الفرض الرَّابع من فروض الوُضُوء. وأطلق ـ رحمه الله ـ هنا الرِّجْلين، لكن لابُدَّ أن يُقالَ: إلى الكعبين، كما قال الله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين {المائدة: 6}؛ ولأن الرِّجل عند الإطلاق لا يدخل فيها العَقِبُ؛ بدليل أن قُطَّاع الطريق يُقطعون من المفصل الذي بين العَقِبِ وظهر القدم، ويبقى العَقِب فلا يُقطع، وعلى هذا يجب أن نقيِّد كلام المؤلِّف بما قَيَّدتْ به الآيةُ.
والكَعْبَان: هما العظمان النَّاتئان اللذان بأسفل السَّاق من جانبي القدم، وهذا هو الحقُّ الذي عليه أهل السُّنَّة.
ولكن الرَّافضة قالوا: المراد بالكعبين ما تكعَّب وارتفع، وهما العظمان اللذان في ظهر القدم(1)، لأن الله قال: إلى الكعبين ولم يقل: "إلى الكِعَاب" وأنتم إذا قلتم: إن الكعبين هما: العظمان النَّاتئان فالرِّجلان فيهما أربعة، فلما قال الله: إلى الكعبين عُلم أنَّهما كعبان في الرِّجْلين، فلكُلِّ رِجْلٍ كعب واحد.
والرَّدُّ عليهم بسُنَّة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فإنه كان يغسل رجليه إلى الكعبين اللذين في منتهى السَّاقين، وهو أعلم بمراد الله تعالى، وتبعه على ذلك كلُّ من وصف وُضُوء النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ من الصَّحابة رضي الله عنهم .
والرَّافضة يخالفون الحقَّ فيما يتعلَّق بطهارة الرِّجل من وجوه ثلاثة:
الأول: أنهم لا يغسلون الرِّجل، بل يمسحونها مسحاً.
الثاني: أنهم ينتهون بالتطهيرعند العظم الناتئ في ظهر القدم فقط.
الثالث: أم لا يمسحون على الخُفين، ويرون أنه محرَّم، مع العلم أنَّ ممن روى المسحَ على الخُفين عليَّ بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وهو عندهم إمام الأئمة.(138/5)
قوله: "والتَّرتيبُ" وهو أن يُطهَّر كلُّ عضو في محلِّه، وهذا هو الفرض الخامس من فروض الوُضُوء، والدليل قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين {المائدة: 6}
وجه الدِّلالة من الآية: إدخال الممسوح بين المغسولات، ولا نعلم لهذا فائدة إلا التَّرتيب، وإلا لسيقت المغسولات على نسقٍ واحد، ولأنَّ هذه الجملة وقعت جواباً للشَّرط، وما كان جواباً للشَّرط فإنَّه يكون مرتَّباً حسب وقوع الجواب.
ولأن الله ذكرها مرتَّبة، وقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "أبْدَأُ بما بَدَأَ اللهُ به"(1).
والدَّليل من السُّنَّة: أن جميع الواصفين لوُضُوئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ما ذكروا إلا أنَّه كان يرتِّبها على حسب ما ذكر اللهُ.
مسألة: هل يسقط التَّرتيبُ بالجهل أو النسيان على القول بأنَّه فرض؟
قال بعض العلماء: يسقط بالجهل والنسيان(2) لأنهما عُذْر، وإذا كان التَّرتيب بين الصَّلوات المقضيات يسقط بالنِّسيان فهذا مثله.
وقال آخرون: لا يسقط بالنِّسيان(2)؛ لأنَّه فرض والفرض لا يسقط بالنسيان.
والقياس على قضاء الصَّلوات فيه نظر؛ لأنَّ كلَّ صلاة عبادةٌ مستقلة، ولكن الوُضُوء عبادةٌ واحدة.
ونظير اختلاف الترتيب في الوُضُوء اختلاف التَّرتيب في رُكوع الصَّلاة وسُجودها، فلو سجد قبل الرُّكوع ناسياً فإن السُّجود لا يصحُّ؛ لوقوعه قبل محلِّه؛ ولهذا فالقول بأنَّ التَّرتيب يسقطُ بالنِّسيان؛ في النَّفس منه شيء، نعم لو فُرِضَ أن رجلاً جاهلاً في بادية ومنذ نشأته وهو يتوضَّأ؛ فيغسل الوجه واليدين والرِّجلين ثم يمسح الرَّأس، فهنا قد يتوجَّه القول بأنه يُعذر بجهله؛ كما عَذَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُنَاساً كثيرين بجهلهم في مثل هذه الأحوال.(138/6)
قوله: "والموالاة" هذا هو الفرض السَّادس من فروض الوُضُوء؛ وهي أن يكون الشَّيء موالياً للشيء، أي عَقبَه بدون تأخير، واشتُرطت الموالاة لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكمالآية {المائدة: 6} .
ووجه الدِّلالة: أنَّ جواب الشَّرط يكون متتابعاً لا يتأخَّرُ، ضرورة أن المشروط يلي الشرط.
ودليله من السُّنَّة: أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ توضَّأ متوالياً، ولم يكن يفصل بين أعضاء وُضُوئه، ولأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رأى رجلاً توضَّأ، وترك على قدمه مثل موضع ظُفُر لم يصبْه الماء، فأمره أن يُحسنَ الوُضُوءَ.(1) وفي "صحيح مسلم" من حديث عمر رضي الله عنه: "ارجعْ فأحسِنْ وُضُوءَك"(1) .
وفي "مسند الإمام أحمد": أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رأى رجلاً يُصلِّي، وفي ظهر قدمه لُمْعَةٌ قَدْرَ الدِّرهم لم يصبْها الماءُ، فأمره النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يعيد الوُضُوء والصَّلاة(1). والفرق بين اللفظين ـ إذا لم نحمل أحدُهما على الآخر ـ أنَّ الأمر بإحسان الوُضُوء أي: إتمام ما نقص منه. وهذا يقتضي غَسْلَ ما تَرَك دون ما سَبَق، ويمكن حملُ رواية مسلم على رواية أحمد، فلا بُدَّ من إعادة الوُضُوء، ورواية أحمد سندُها جيدٌ قاله أحمد، وقال ابن كثير: "إسناده صحيح".
ومن النَّظر: أنَّ الوُضُوء عبادةٌ واحدةٌ، فإذا فرَّق بين أجزائها لم تكن عبادة واحدة.
وقال بعضُ العلماء: إن الموالاة سُنَّةٌ وليست بشرط(2)؛ لأن الله أمر بغسل هذه الأعضاء، وهذا حاصل بالتَّوالي، والتفريق.
والأَوْلَى: القول بأنها شرط؛ لأنها عبادة واحدة لا يمكن تجزئتها.
قوله: "وهي: أن لا يؤخِّر غَسْل عُضْوٍ حتى يَنْشِفَ الذي قَبْلَه" هذا تفسير المؤلِّف رحمه الله للموالاة.
وهذا بشرط أن يكون ذلك بزمنٍ معتدل خالٍ من الرِّيح أو شِدَّة الحرِّ والبرد.(138/7)
وقوله: "الذي قبله" أي: الذي قبل العضو المغسول مباشرة، فلو فُرِضَ أنَّه تأخَّر في مسح الرَّأس فمسحه قبل أن تَنْشِف اليدان، وبعد أن نَشِفَ الوجه فهذا وُضُوء مجزئ؛ لأنَّ المراد بقوله: "الذي قبله" أي: قبله على الولاء، وليس كُلُّ الأعضاء السَّابقة.
وقولنا: في زمن معتدل، احترازاً من الزَّمن غير المعتدل، كزمن الشِّتاء والرُّطوبة الذي يتأخَّر فيه النَّشَاف، وزمن الحرِّ والرِّيح الذي يُسرع فيه النَّشاف.
وقال بعض العُلماء ـ وهي رواية عن أحمد ـ: إن العبرة بطول الفصل عُرفاً، لا بنَشَاف الأعضاء(1). فلا بُدَّ أن يكون الوُضُوء متقارباً، فإذا قال النَّاس: إن هذا الرَّجُل لم يفرِّق وضوءَه؛ بل وضوؤه متَّصلٌ، فإنَّه يُعتبرُ موالياً، وقد اعتبر العُلماء العُرف في مسائل كثيرة.
ولكنَّ العُرْفَ قد لا ينضبطُ، فتعليقُ الحكمِ بنشَافِ الأعضاء ِأقربُ إلى الضَّبط.
وقوله: "الموالاة" يُستثنى من ذلك ما إذا فاتت الموالاة لأمرٍ يتعلَّق بالطَّهارة.
مثل: أن يكون بأحد أعضائه حائلٌ يمنع وصول الماء "كالبوية" مثلا، فاشتغل بإزالته فإنه لا يضَرُّ، وكذا لو نفد الماء وجعل يستخرجه من البئر، أو انتقل من صنبور إلى آخر ونَشِفت الأعضاء فإنَّه لا يضرُّ.
أما إذا فاتت الموالاة لأمر لا يتعلَّق بالطَّهارة؛ كأن يجد على ثوبه دماً فيشتغل بإزالته حتى نَشِفت أعضاؤه؛ فيجب عليه إعادةُ الوُضُوء؛ لأن هذا لا يتعلَّق بطهارته.
قوله: "والنيَّة شرطٌ" وهي القصد، ومحلُّها القلبُ ولا يعلم بالنيَّات إلا الله عزَّ وجلَّ.
والنيَّةُ شرطٌ في جميع العبادات.
والكلامُ على النيَّة من وجهين:
الأوَّل: من جهة تعيين العمل ليتميَّز عن غيره، فينوي بالصَّلاة أنَّها صلاة وأنَّها الظُّهر مثلاً، وبالحجِّ أنه حجٌّ، وبالصِّيام أنَّه صيام، وهذا يتكلَّم عنه أهل الفقه.(138/8)
الثَّاني: قصدُ المعمول له، لا قصد تعيين العبادة، وهو الإخلاص وضدُّه الشِّرك، والذي يتكلَّم على هذا أرباب السُّلوك في باب التَّوحيد وما يتعلَّق به، وهذا أهمُّ من الأوَّل، لأنَّه لُبُّ الإسلام وخُلاصة الدِّين، وهو الذي يجب على الإنسان أن يهتمَّ به.
وينبغي للإنسان أن يتذكَّر عند فعل العبادة شيئين:
الأول: أمرُ الله تعالى بهذه العبادة حتى يؤدِّيها مستحضراً أمرَ الله، فيتوضَّأ للصَّلاة امتثالاً لأمر الله؛ لأنَّه تعالى قال: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافقالآية {المائدة: 6}. لا لمجرد كون الوُضُوء شرطاً لصحَّة الصَّلاة.
الثاني: التأسِّي بالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لتتحقَّق المتابعة.
وقوله: "والنيَّةُ شرطٌ" أي لصحَّة العمل وقَبوله وإجزائه؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيَّات" (1).
ولأنَّ الله عزَّ وجلَّ قيَّد كثيراً من الأعمال بقوله: ابتغاء وجه الله.
كقوله تعالى: والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم {الرعد: 22} وقوله: ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما {النساء: 114}
وهل ينطِقُ بالنيَّة؟ على قولين للعلماء(1)، والصَّحيحُ أنَّه لا ينطق بها، وأن التعبُّد و بالنُّطق بها بدعة يُنهى' عنها، ويدلُّ لذلك أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأصحابه لم يكونوا ينطقون بالنيَّة إطلاقاً، ولم يُحفَظ عنهم ذلك، ولو كان مشروعاً لبيَّنه اللهُ على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الحالي أو المقالي.
فالنُّطق بها بدعةٌ سواءٌ في الصَّلاة، أو الزَّكاة، أو الصَّوم.
أما الحجُّ فلم يرد عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه قال: نويت أن أحُجَّ، أو نويت النُّسك الفلاني، وإنما يلبِّي بالحجِّ فيُظهر النِّيَّة، ويكون العقد بالنيَّةِ سابقاً على التلبية.(138/9)
لكن إذا احتاج الإنسانُ إلى اشتراط في نُسُكه، فإنه لا يشترط أن ينطِقَ بالنية، فيقول: إني أريد كذا، بل له أن يقول: اللهم إن حَبَسَنِي حابس فَمَحِلِّي حيث حبستني دون النُّطقِ بالنيَّة.
والمشهور من المذهب: أنه يُسَنُّ النُّطق بها سرًّا في الحجِّ وغيره، وهذا ضعيف لما سبق.
وأمَّا القول: بأنه يُسَنُّ النُّطُق بها جهراً؛ فهذا أضعف وأضعف، وفيه من التَّشويش على النَّاس ولا سيما في الصَّلاة مع الجماعة ما هو ظاهرٌ، وليس هناك حاجة إلى التلفُّظ بالنيَّة لأنَّ الله يعلم بها.
والنيَّة ليست صعبة، وإن كانت عند بعض أهل الوُسواس صعبة؛ لأن َّكُلَّ عاقل مختار يعمل عملاً فلا بُدَّ أن يكون مسبوقاً بالنيَّة، فلو قُرِّبَ لرَجُلٍ ماءٌ، ثم سَمَّى وغسلَ كفَّيه، ثم تمضمض واستنشق... إلخ؛ فإن هذا لا يُعقل أن يكون بدون نيَّة.
ولهذا قال بعض العلماء رحمهم الله: لو أنَّ الله كلَّفنا عملاً بدون نيَّة؛ لكان من تكليف مالا يُطاق(1). فلو قال الله: صلُّوا ولا تنووا، فإنَّه غير ممكن، حتى قال شيخ الإسلام: إذا تعشَّى الإنسان لياليَ رمضان فإن عشاءه يدلُّ على نيَّته ولو لم ينوِ الصِّيام من الغد؛ وذلك لأنَّه لن يُكثر من الطَّعام كما يكثره في سائر أيامه؛ لأنه سوف يتسحَّر آخر الليل.
قوله: "لطهارة الأحداث كلِّها" الحَدَثُ: معنى يقوم بالبَدَن يمنع من فعل الصَّلاة ونحوها، هذا في الأصل.
وأحياناً يُطلقُ على سَبَبِهِ، فيُقال: للغائط حَدَثٌ، وللبول حدثٌ، ومنه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "لا يقبل الله صلاةَ أحدكم إذا أحدث حتى يتوضَّأ"(2).
وخرج بقوله: "طهارة الأحداث" طهارة الأنجاس، فلا يُشترطُ لها نيَّة ٌ، فلو عَلَّق إنسانٌ ثوبه في السَّطح، وجاء المطرُ حتى غسله، وزالت النَّجَاسةُ طَهُرَ؛ مع أن هذا ليس بفعله، ولا بنيَّته.
وكذلك الأرض تصيبها النَّجَاسة، فينزل عليها المطر فتطهُر.(138/10)
وما ذكره المؤلِّف: مذهب مالك(1)، والشَّافعي(2)، وأحمد(3).
وذهب أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ إلى أن طهارة الحدث لا يُشترطُ لها النيَّةُ(4)، لأنها ليست عبادة مقصودة لذاتها، وإنما هي مقصودة لتصحيح الصَّلاة، كما لو لَبِسَ ثوباً يستُر به عورته، فإنه لا يُشترطُ أن ينوي بذلك ستر العورة ، بل لو لَبِسَه للتجمُّل أو لدفع البرد، وما أشبه ذلك أجزأه. وهذا ضعيف. والصَّوابُ أن الوُضُوءَ عبادةٌ مستقلِّة، بدليل أن الله تعالى رتَّب عليه الفضلَ والثَّوابَ والأجرَ، ومثلُ هذا يكون عبادةً مستقلَّةً، وهو قول جمهور العلماء.
وإذا كان عبادة مستقلَّة، صارت النيَّةُ فيه شرطاً، بخلاف إزالة النَّجاسة فإنها ليست فعلاً، ولكنها تَخَلٍّ عن شيء يُطلب إزالته، فلهذا لم تكن عبادة مستقلَّة، فلا تُشتَرطُ فيها النيَّة.
وقوله "كلِّها" أراد به شُمول الحدث الأصغر والأكبر، والطَّهارة بالماء والتيمُّم.
قوله: "فينوي رَفْعَ الحدث" هذه الصُّورة الأولى للنيَّة، فإذا توضَّأ بنيَّة رفع الحدث الذي حَصَل له بسبب البول مثلاً صحَّ وُضُوءُه، وهذا هو المقصود بالوُضُوء .
قوله: "أو الطَّهارة لما لا يُبَاح إلا بها" وهذه هي الصُّورة الثَّانية، أي: ينوي الطَّهارة لشيء لا يُباح إلا بالطَّهارة كالصَّلاة والطَّواف ومسِّ المصحف، فإذا نوى الطَّهارَة للصَّلاة ارتفعَ حدثُه، وإن لم ينوِ رفع الحدث، لأن الصَّلاة لا تصحُّ إلا بعد رفع الحدث.(138/11)
قوله: "فإن نوى ما تُسنُّ له الطَّهارة كقراءة" هذه هي الصَّورة الثالثة، أي: نوى الطَّهارة لما تُسَنُّ له، وليس لما تجب، كقراءة القرآن فإن قراءة القرآن دون مسِّ المصحف تُسَنُّ لها الطَّهارة، بل كلُّ ذِكْرٍ فإن السُّنَّة أن يتطهَّرَ له؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "كَرِهْتُ أن أذكر الله إلا على طهارة"(1) فإذا نوى ما تُسَنُّ له الطَّهارةُ ارتفعَ حدثُه، لأنَّه إذا نوى الطَّهارةَ لما تُسَنُّ له فمعنى ذلك أنه نوى رفع الحدث؛ لأجل أن يقرأ، وكذلك إذا نوى الطَّهارةَ لرفع الغضبِ، أو النَّومِ، فإنه يرتفعُ حدثه.
فصار للنيَّة ثلاثُ صُور:
الأولى: أن ينويَ رفع الحدث.
الثانية: أن ينويَ الطَّهارةَ لما تجبُ له.
الثالثة: أن ينويَ الطهارةَ لما تُسَنُّ له.
قوله: "أو تجديداً مسنوناً ناسياً حدَثَه ارتفَعَ" هذه الصُّورة الرَّابعة. أي: تجديداً لوُضُوءٍ سابق عن غير حدث، بل هو على وُضُوء، فينوي تجديدَ الوُضُوء الذي كان متَّصفاً به.
لكن اشترط المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ شرطين:
الشرط الأول: أن يكونَ ذلك التجديدُ مسنوناً؛ لأنه إذا لم يكن مسنوناً لم يكن مشروعاً، فإذا نوى التَّجديدَ وهو غير مسنونٍ، فقد نوى طهارةً غير شرعية، فلا يرتفع حدثُه بذلك.
وتجديد الوُضُوء يكون مسنوناً إذا صَلَّى بالوُضُوء الذي قبله، فإذا صلّى بالوُضُوء الذي قبله فإنه يُستَحبُّ أن يتوضَّأ للصَّلاة الجديدة.
مثاله: توضَّأ لصلاة الظُّهر وصلَّى الظُّهر، ثم حَضَر وقتُ العصر وهو على طهارته، فحينئذ يُسَنُّ له أن يتوضَّأَ تجديداً للوُضُوء؛ لأنَّه صلَّى بالوُضُوء السَّابق، فكان تجديدُ الوُضُوء للعصر مشروعاً، فإن لم يُصلِّ به؛ بأنَّ توضَّأ للعصر قبل دخول وقتها؛ ولم يُصلِّ بهذا الوُضُوء، ثم لما أذَّن العصرُ جدَّد هذا الوُضُوء، فهذا ليس بمشروع؛ لأنَّه لم يُصلِّ بالوُضُوء الأوَّل، فلا يرتفع حدثُه لو كان أحدث بين الوُضُوء الأول والثَّاني.(138/12)
الشرط الثَّاني: أن ينسى حدثَه، فإن كان ذاكراً لحدثه فإنه لا يرتفع، وهذا من غرائب العلم! إذا نوى الشَّيءَ ناسياً صَحَّ، وإذا نواه ذاكراً لم يصحَّ!.
مثاله: رجل صلَّى الظُّهر بوُضُوء، ثم نقضه بعد الصَّلاة، ثم جدَّد الوُضُوء للعصر ناسياً أنه أحدث، فهذا يرتفع حدثُه؛ لأنه نوى تجديداً مسنوناً ناسياً حدثَه.
فإذا كان ذاكراً لحدثه، فلا يرتفع؛ لأنَّه حينئذ يكون متلاعباً، فكيف ينوي التجديدَ وهو ليس على وُضُوء؛ لأن التَّجديد لا يكون إلا والإنسان على طهارة.
قوله: "وإن نوى غُسْلاً مسنوناً أجْزَأَ عن واجبٍ".مثاله: أن يغتسلَ من تغسيل الميِّت، أو يغتسل للإحرام، أو للوقوف بعرفة فهذه أغسال مسنونةٌ، وكذلك غُسْلَ الجمعة عند جمهور العلماء، والصَّحيحُ: أنه واجبٌ.
وظاهر كلام المؤلِّف ـ وهو المذهب ـ : ولو ذكر أن عليه غسْلاً واجباً
وقيَّده بعض الأصحاب بما إذا كان ناسياً حدثه(1)، أي: ناسياً الجنابة، فإن لم يكن ناسياً فإنَّه لا يرتفع؛ لأن الغُسْل المسنون ليس عن حدث، وإذا لم يكن عن حدث، فقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنما الأعمال بالنيَّات"(2) وهذا الرَّجلُ لم ينوِ إلا الغُسْل المسنون، وهو يعلمُ أن عليه جنابة، ويذكر ذلك، فكيف يرتفع الحدث؟
وهذا القول ـ وهو تقييده بأن يكون ناسياً ـ له وجهةٌ من النَّظر.
وتعليلُ المذهب: أنه لما كان الغُسْل المسنونُ طهارةً شرعيَّة كان رافعاً للحدث، وهذا التَّعليل فيه شيء من العِلَّة، لأنَّه لا شَكَّ بأنَّه غُسْلٌ مشروع، ولكنه أدنى من الغُسْل الواجب من الجنابة، فكيف يقوى المسنونُ حتى يجزئ عن الواجب الأعلى؟
لكن إن كان ناسياً فهو معذور.
مثاله: لو اغتسل للجمعة ـ على القول بأنه سُنَّة ـ وهو عليه جنابة لكنه لم يذكرها، أو لم يعلم بالجنابة إلا بعد الصلاة كما لو احتلم ولم يعلم إلا بعد الصلاة، فإن صلاة الجمعة تكون صحيحة لارتفاع الجنابة.(138/13)
أما إذا علم ونوى هذا الغسل المسنون فقط، فإن القول بالإجزاء في النفس منه شيء.
قوله: "وكذا عكسه" كذا: خبر مقدَّم، وعكسه: مبتدأٌ مؤخَّر، أي: إذا نوى غُسْلاً واجباً أجزأ عن المسنون لدُخُوله فيه، كما لو كان عليه جنابة فاغتسل منها عند السَّعي إلى الجُمعة فإنه يجزئه عن غُسْل الجمعة؛ لأن الواجبَ أعلى من المسنون فيسقطُ به، كما لو دخل المسجد ووجد الناس يصلُّون فدخلَ معهم، فإن تحيَّة المسجد تَسقطُ عنه؛ لأن الواجب أقوى من المستحبِّ.
وإذا نوى الغُسْلين الواجب والمستحبَّ أجزأ من باب أولى؛ لعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّما الأعمال بالنيَّات"(1).
وإنْ جعل لكلٍّ غُسْلاً فهو أفضل؛ كما اختاره الأصحاب(2) رحمهم الله .
وعلى هذا فالغُسْل الواجب مع المسنون له أربع حالات:
الأولى: أن ينويَ المسنونَ دونَ الواجبِ.
الثانية: أن ينويَ الواجبَ دونَ المسنونِ.
الثالثة: أن ينويهما جميعاً.
الرابعة: أن يغتسلَ لكلِّ واحد غسلاً منفرداً.
قوله: "وإن اجتمعت أحداثٌ تُوجِبُ وُضُوءاً...". أي: بأن فعل من نواقض الوُضُوء أشياء متعدِّدة، كما لو بَالَ، وتغوَّط، ونامَ، وأكل لحم إبل، ونوى الطَّهارة عن البول، فإنه يجزئ عن الجميع.
ولكن لو نوى عن البول فقط على أن لا يرتفع غيرُه، فإنَّه لا يجزئ إلا عن البول؛ لعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "إنَّما الأعمال بالنيَّات، وإنما لكُلِّ امرئٍ ما نوى"(1).
وقيل يجزئ عنه وعن غيره(2)، لأن الحدثَ وصفٌ واحد؛ وإن تعدَّدت أسبابه فإنه لا يتعدَّد، فإذا نوى رفعه ارتفع وإن لم يعيِّن إلا سبباً واحداً من أسبابه.(138/14)
وقيل: إن عَيَّنَ الأوَّلَ ارتفع الباقي، وإن عيَّن الثاني لم يرتفعْ شيء منها(2)؛ لأنَّ الثَّاني ورد على حدث، لا على طهارة كما لو بال أولاً، ثم تغوَّط، ثم توضَّأ عن الغائط فقط فإنَّه لا يرتفعُ حدثُه؛ لأن الثَّاني وَرَدَ على حَدَثٍ فلم يؤثِّر شيئاً، وحينئذٍ إذا نوى رفع الحدث من الثَّاني لم يرتفع، لأن الحدث من الأول.
والصَّحيحُ: أنه إذا نوى رفع الحدث عن واحد منها ارتفع عن الجميع؛ حتى وإنْ نوى أن لا يرتفع غيرُه، لأن الحدَثَ وصف واحد وإن تعدَّدت أسبابه، فإذا نوى رفعه من البول ارتفع.
ولا يعارض قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "وإنّما لكُلِّ امرئٍ ما نوى" وهذا لم ينوِ إلا عن حدث البول؛ لأن الحدث شيء واحد، فإذا نوى رفعه ارتفع، وليس الإنسان إذا بال في الساعة الواحدة مثلاً صار له حدث، وإذا تغوَّط في الساعة الواحدة والنصف صار له حدث آخر وهكذا.بل الحَدَثُ واحدٌ، والأسباب متعدِّدةٌ.
قوله: "أو غُسْلاً فَنَوى بطَهَارَتِه أَحَدَها ارتفعَ سَائُرها" أي: اجتمعت أحداث توجب غُسْلاً كالجماع، والإنزال، والحيض، والنِّفاس بالنسبة للمرأة، فإذا اجتمعت ونوى بغُسُلِه واحداً منها، فإنَّ جميعَ الأحداث ترتفعُ.
وما يُقالُ في الحدثِ الأصغر، ُيقالُ هنا.
قوله: "ويجب الإتيان بها عند أوَّل واجبات الطَّهارة، وهو التَّسميةُ". أي: يجبُ الإتيان بالنيَّة عند أوَّل واجبات الطَّهارة، وهي التَّسمية.
والنيَّة: عزمُ القلب على فعل الطَّاعة تقرُّباً إلى الله تعالى.
والمؤلِّفُ أراد الكلام على محل النيَّة، أي: متى ينوي الإنسان؟
وقوله: "عند" هذه الكلمة تدلُّ على القُرْب كما في قوله تعالى: إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون {الأعراف: 206} فالعنديَّة تدلُّ على القُرب، وعلى هذا يجب أن تكون النيَّةُ مقترنةً بالفعل، أو متقدِّمةً عليه بزمنٍ يسير، فإن تقدمت بزمن كثير فإنها لا تجزئ.(138/15)
وقوله: "عند أوَّل واجبات الطهارة" لم يقل عند أوَّل فروض الطَّهارة؛ لأن الواجب مقدّمٌ على الفروض في الطَّهارة، والواجب هو التَّسمية.
وهذا على المذهب من أنَّ التسمية واجبةٌ مع الذِّكر.
وقد سبق بيانُ حكم التسمية والخلاف في ذلك، وبيان أنَّ الصَّحيح أنَّها سُنَّةٌ(1).
فإذا أراد أن يتوضَّأ فلا بُدَّ أن ينويَ قبل أن يُسمِّيَ، لأن التَّسمية واجبةٌ.
قوله: "وتُسَنُّ عند أوَّل مسنوناتها إن وُجِدَ قبل واجبٍ" أوَّلُ مسنونات الطَّهارة غسل الكفَّين ثلاثاً، فإذا غسلهما ثلاثاً قبل أن يُسمِّي صار الإتيان بالنيَّة حينئذ سُنَّةٌ.
وقوله: "إن وُجِدَ" الضَّمير يعود على أوَّل المسنونات.
وقوله: "قبل واجب" أي: قبل التَّسمية، فلو غسل كَفِّيه ثلاثاً قبل أن يُسمِّيَ، فإنَّ تَقَدُّمَ النيَّةِ قبلَ غسلِ اليدين سُنَّةٌ.
والنيَّةُ لها محلاَّن:
الأول: تكونُ فيه سُنَّةٌ، وهو قبل المسنون إنْ وُجِدَ قبل واجبٍ.
الثاني: تكون فيه واجبةٌ عند أوَّل الواجبات، وقد سبق بيان ما في ذلك(1)، وأنَّه لا يمكن أن يُقرِّب الانسانُ الماء؛ ثم يشرع في الوُضُوء من غير نيَّة؛ ولهذا لابُدَّ أن تكون النيَّةُ سابقةٌ حتى على أوَّل المسنونات؛ اللهم إلا إن كان إنما يغسل يديه لتنظيفهما من طعام ونحوه؛ ثم نوى الوُضُوء بعد غسل اليدين، فهذا ربما يُقالُ: إنه ابتدأ الطَّهارةَ بلا نيَّة، وحينئذ فعليه أن يأتيَ بالنيَّة عند التَّسمية.
وقولُه: "إن وُجِدَ قبل واجب" يشير ـ رحمه الله ـ إلى أن هذا المسنون لا يوجد قبل الواجب في الغالب، فالغالب أن يُسمِّيَ قبل غسل كفَّيه، وحينئذ يكون الواجب متقدِّماً.
قوله: "واستصحاب ذكرها في جميعها" أي: يُسَنُّ استصحاب ذكرها، والمرادُ ذكرَها بالقلب، أي يُسَنُّ للإنسان تذكُّرُ النيَّةِ بقلبه في جميع الطَّهارة، فإن غابت عن خاطره فإنه لا يضرُّ، لأن استصحاب ذكرها سُنَّةٌ.
ولو سبقَ لسانُه بغير قصده فالمدارُ على ما في القلب.(138/16)
ولو نوى بقلبه الوُضُوء، لكن عند الفعل نطق بنيَّة العمل؛ فيكون اعتمادُه على عزم قلبه لا على الوهم الذي طرأ عليه، كما لو أراد الحجَّ ودخل في الإحرام بهذه النيَّة؛ لكن سبقَ لسانُه فلبَّى بالعُمْرة فإنَّه على ما نوى.
قوله: "ويجب استصحابُ حكمها" معناه: أن لا ينوي قطعها.
فالنيَّةُ إذاً لها أربع حالات باعتبار الاستصحاب:
الأولى: أن يستصحب ذكرها من أوَّل الوُضُوء إلى آخره، وهذا أكمل الأحوال.
الثانية: أن تغيبَ عن خاطره؛ لكنَّه لم ينوِ القَطْعَ، وهذا يُسمَّى' استصحاب ُحكمِها، أي بَنَيَ على الحكم الأوَّل، واستمرَّ عليه.
الثالثة: أن ينويَ قطعها أثناء الوُضُوء، لكن استمرَّ مثلاً في غسل قدميه لتنظيفهما من الطَّين فلا يصحُّ وُضُوءُه؛ لعدم استصحاب الحكم لقطعه النيَّة في أثناء العبادة.
الرابعة: أن ينويَ قطع الوُضُوء بعد انتهائه من جميع أعضائه، فهذا لا يَنْتقضُ وُضُوءُه، لأنَّه نوى القطع بعد تمام الفعل.
ولهذا لو نوى قطعَ الصَّلاةِ بعد انتهائها، فإنَّ صلاته لا تنقطع(1).
(قاعدة:)
قَطْعُ نيَّةِ العبادة بعد فعلها لا يؤثِّر، وكذلك الشكُّ بعد الفراغ من العبادة، سواء شككتَ في النيَّة، أو في أجزاء العبادة، فلا يؤثِّر إلا مع اليقين.
فلو أن رجلاً بعد أن صَلَّى الظُّهر قال: لا أدري هل نويتُها ظُهراً أو عصراً شكّاًً منه؟ فلا عبرة بهذا الشكِّ ما دام أنَّه داخل على أنها الظُّهر فهي الظُّهر، ولا يؤثِّر الشَّكُّ بعد ذلك، ومما أُنِشَد في هذا:
والشَّكُّ بعد الفعل لا يؤثِّرُوهكذا إذا الشُّكوكُ تكثُر(1)
ومثله لو شَكَّ ـ بعد الفراغ من الصَّلاة ـ هل سجد سجدة أو سجدتين؟ فإن هذا لا يؤثِّرُ.(138/17)
وهنا مسألةٌ مهمَّةٌ وهي: لو نوى فرض الوقت دون تعيين الصَّلاة، وهذه تقع كثيراً ، فلو جاء إنسان مثلاً لصلاة الظُّهر؛ ووجد الناس يُصلُّون ودخل معهم في تلك الساعة؛ ولم يستحضر أنَّها الظُّهر، أو الفجر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء. إنما استحضر أنَّها فرض الوقت.
فالمذهب: لا يجزئه؛ لأنه لابُدَّ أن يُعيِّنَ إما الظُّهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أو الصُّبح.
وعن أحمد رواية: أنه إذا نوى فرض الوقت أجزأه. ذكرها ابن رجب في "جامع العلوم والحكم" واختارها بعض الأصحاب(1).
وهذا لا يسعُ النَّاس العمل إلا به، لأنَّه كثيراً ما يغيب عن الإنسان تعيينُ الصَّلاة، لكن نيَّته هو أنَّها فرض الوقت.
مسألة: رجل سلَّم من ركعتين من الظُّهر بناءً على أنَّها الفجر ثم ذكر، هل يكمل ركعتين أم يستأنف الصَّلاة؟
يقولون في هذه الصُّورة: يجب أن يستأنف الصَّلاة(2)؛ لأنه سلَّم على أنها صلاة ركعتين؛ بخلاف من سَلَّم من ركعتين عن الظُّهر ونحوها ثم ذكر؛ فانه يتمُّ أربعاً ويسجد للسَّهو، ولأنَّه سلَّم على أنَّها صلاة رباعية.
قوله: "وصفة الوُضُوء..." المؤلِّف ـ رحمه الله ـ ساق صفة الوُضُوء المشتملةَ على الواجب، وغير الواجب.
قوله: "أن ينويَ" النيَّةُ شرطٌ؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "إنَّما الأعمال بالنيَّات"(3).
قوله: "ثم يُسمِّي" التسميةُ واجبةٌ على المذهب وقد سبق بيانُ الخلاف في هذا(1).
قوله: "ويغسل كفَّيه ثلاثاً" والدَّليل فعلُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فإنَّه كان إذا أراد أن يتوضَّأ غسل كفَّيه ثلاثاً(2) وهذا سُنَّةٌ.
وتعليل ذلك أنَّ الكفَّين آلةُ الوُضُوء، فينبغي أن يبدأ بغسلهما قبل كُلِّ شيء حتى تكونا نظيفتين.
قوله: "ثم يَتَمَضْمَضَ" المضمضةُ: أن يُدخل الماء في فمه ثم يمجَّه.
وهل يجبُ أن يُدير الماء في جميع فمه أم لا؟(138/18)
قال العلماء رحمهم الله: الواجُب إدارته في الفم أدنى إدارة(3)، وهذا إذا كان الماء قليلاً لا يملأ الفم، فإن كان كثيراً يملأ الفم فقد حصل المقصودُ.
وهل يجب أن يزيلَ ما في فمه من بقايا الطعام فيخلِّلَ أسنانه ليدخلَ الماءُ بينها؟
الظَّاهر: أنه لا يجب.
وهل يجبُ عليه أن يزيلَ الأسنانَ المركَّبةَ إذا كانت تمنعُ وصول الماء إلى ما تحتها أم لا يجب؟
الظَّاهر أنه لا يجب ، وهذا يُشبه الخاتمَ، والخاتم لا يجب نزعُه عند الوُضُوء، بل الأَوْلى أن يحرِّكَه لكن ليس على سبيل الوجوب، لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يلبسه(1) ولم يُنْقَلْ أنه كان يحرِّكه عند الُوضُوء، وهو أظهر من كونه مانعاً من وصول الماء من هذه الأسنان، ولا سيَّما أنه يَشُقُّ نزع هذه التركيبة عند بعض النَّاس.
قوله: "ويستنشقُ" الاستنشاق: أن يجذِبَ الماء بنَفَسٍ من أنفه.
وهل يجب الاستنثار؟
قالوا: الاستنثار سُنَّةٌ(2)، ولا شَكَّ أن طهارة الأنف لا تتمُّ إلا بالاستنثار بعد الاستنشاق؛ حتى يزول ما في الأنف من أذيً.
وهل يبالغ في المضمضة والاستنشاق؟
قال العلماء: يبالغُ إلا أن يكونَ صائماً لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للقيط بن صَبِرََة:"... وبالغْ في الاستنشاق إلا أن تكونَ صائماً"(3).
وكذلك لا يبالغُ في الاستنشاق إذا كانت له جيوب أنفيَّة زوائد؛ لأنَّه مع المبالغة ربما يستقرُّ الماء في هذه الزوائد ثم يتعفَّن، ويصبح له رائحة كريهة ويصابُ بمرض، أو ضرر في ذلك، فهذا يقال له: يكفي أن تستنشق حتى يكونَ الماء داخل المنخرين.
قوله: "ويغسلَ وجهه" الوجه: ما تحصُلُ به المواجهةُ، وهو أشرف أجزاء البدن.
قوله: "من منابتِ شعر الرأس" المرادُ: مكان نبات الشَّعر المعتاد بخلاف الأفرع، والأنزع.
فالأفرع: الذي له شعرٌ نازل على الجبهة.
والأنزع: الذي انحسر شعرُ رأسه. قال الشاعر يوصي زوجته:(138/19)
ولا تَنْكِحي إنْ فرَّقَ الدَّهرُ بيننا أغَمَّ القفا والوَجْهِ، ليس بأنْزَعا(1).
وقوله: "من منابت شعر الرَّأس" هكذا حدَّه المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ وقال بعضُ العلماء: من منحنى الجبهة من الرَّأس؛ لأن المنحنى هو الذي تحصُل به المواجهة، وهذا أجود.
قوله: "إلى ما انحدر من اللَّحْيَين والذَّقن طولاً" الذَّقن: هو مَجْمعُ اللَّحْيَين. واللَّحْيَان: هما العظمان النَّابت عليهما الأسنان.
فما انحدر من اللَّحيين، وكذلك إذا كان في الذَّقن شعرٌ طويلٌ فإنه يُغسل، لأن الوجه ما تحصُل به المواجهةُ، والمواجهةُ تحصُل بهذا الشَّعر فيكون غسله واجباً.
وقال بعض العلماء : إن ما جاوز الفرض من الشَّعر لا يجب غسله، لأنَّ الله قال: وجوهكم {المائدة: 6} " والشَّعر في حكم المنفصل.
وقد ذكر ابنُ رجب هذا في "القواعد"، وصحَّحَ أنَّه لا يجب غسل ما استرسل من اللَّحيين والذَّقن(1).
والأحوَطُ والأَوْلى غسلُ ما استرسل من اللَّحيين والذَّقن.
قوله: "ومن الأُذُنِ إلى الأُذنِ عرضاً" والبياضُ الذي بين العارض والأُذُن من الوجه.
والشَّعر الذي فوق العظم الناتئ يكون تابعاً للرَّأس. هذا حَدُّ الوجه.
والدَّليل على غسله قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم {المائدة: 6}.
قوله:"وما فيه من شعرٍ خفيف، والظَّاهرَ الكثيف". الخفيفُ: ما تُرى من ورائه البشرةُ، والكثيف: ما لا تُرى من ورائه.
فالخفيفُ: يجب غسله وما تحته؛ لأن ما تحته إذا كان يُرى فإنَّه تَحصُلُ به المواجهة، والكثيف يجب غسلُ ظاهرهِ دونَ باطنهِ؛ لأنَّ المواجهةَ لا تكون إلا في ظاهر الكثيف.
وكذلك يجب غسلُ ما في الوجه من شعر كالشَّارب والعَنْفَقَةِ(1) والأهداب والحاجبين والعارضين. ويُستَحبُّ تخليل الشَّعر الكثيف؛ لأنَّ الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يخلِّل لحيته في الوُضُوء(2).
قوله: "مع ما استرسل منه" ."استرسل"أي: نَزَلَ.(138/20)
وظاهرُ كلام المؤلِّفِ، ولو نزلَ بعيداً، فلو فُرِضَ أنَّ لرَجُلٍ لحيةً طويلة أكثر مما هو غالب في النَّاس، فإنَّه يجب عليه غسل الخفيف منها، والظَّاهر من الكثيف.
قوله: "ثمَّ يديه مع المرفقين" أي : اليُمنى ثم اليُسرى، ولم يَذْكُرْ هنا التَّيامنُ؛ لأنه سبق في سُنَن الوُضُوء.
وقوله: "مع المرفقين" تعبير المؤلِّف مخالفٌ لظاهر قوله تعالى وأيديكم إلى المرافق {المائدة: 6} لأن المعروف عند العلماء أن ابتداء الغاية داخل لا انتهاؤها، بمعنى: أنك إذا قُلت لشخص: لك من هذا إلى هذا، فما دخلت عليه "من" فهو له، وما دخلت عليه "إلى" فليس له، فظاهر الآية أن المرفقين لا يدخلان. لكنهم قالوا: "إلى" في الآية بمعنى "مع"، وجعلوا نظير هذا قوله تعالى: ولا تأكلوا أموالهم إلى" أموالكم {النساء: 2} أي: مع أموالكم، ولكن هذا التنظير فيه نظرٌ؛ فإن الآية في المال، ليست كالآية في الغسل، لأنه قال: وآتوا اليتامى" أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى" أموالكم {النساء: 2} أي: مضمومة إلى أموالكم، فالإنسان لا يأكل مال غيره إلا إذا ضمَّه إلى ماله، فضمَّن قوله: "ولا تأكلوا" معنى الضَّمِّ.
أما آية الوُضُوء فليست كذلك.
ولكن الجواب الصَّحيح أن الغاية داخلة فيها بدليل السُّنَّة، فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّه توضَّأ حتى أشرع في العَضُد، وقال: هكذا رأيت النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يفعل(1)، ومقتضى هذا أنَّ المرفق داخل.
وكذلك رُويَ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه توضَّأ فأدار الماء على مرفقيه(2).
وقد يُقال: إن الغاية لا تدخلُ إذا ذُكِرَ ابتداءُ الغاية "من"، أما إذا لم تُذكْر فإنها تكونَ داخلة، ولهذا لو قال قائل: هل الأفضلُ في غسل اليدين البَدْءُ من المرفق، أو من وسط الذراع، أو من أطراف الأصابع؟.(138/21)
فالجواب: أن الأفضلَ أن يبدأ من أطراف الأصابع لقوله: "إلى". وإن لم يكن ظُهور ذلك عندي قويًّا؛ لأنَّ الابتداء لم يُذكر، ولا بُدَّ من الإتيان بـ "إلى" هنا؛ إذ لو لم تأتِ وقال:(اغسلوا أيديكم) لكان الواجبُ غسلُ الكفِّ فقط؛ لأن اليد إذا أُطلقت فالمراد بها "الكفُّ" بدليل قوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {المائدة: 38} وقطعُ يد السَّارق من الكفِّ وكذلك قوله تعالى في التيمم فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه {المائدة: 6} ومسحُ اليد في التيمُّمِ إنما يكون إلى الكفِّ؛ بدليل فعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ .
وإن تمسَّك متمسِّكٌ بالظاهر ـ الذي ليس بظاهرـ وقال: إن الأفضل أن يكون من الأصابع. فأرجو أن لا يكون به بأسٌ.
وقوله: "مع المرفقين" تعبير المؤلِّف بـ "مع" من باب التَّفسير والتوضيح.
قوله: "ثم يمسحُ كُلَّ رأسه مع الأُذنين مَرَّةً واحدةً" أي: لا يغسلُه، وإنَّما يمسحُه، وهذا من تخفيف الله تعالى على عباده؛ لأن الغالب أنَّ الرَّأسَ فيه شعرٌ فيبقى الماءُ في الشَّعر؛ لأن الشعر يمسكُ الماءَ فينزل على جسمه، فيتأذّى به؛ و لا سيمَّا في أيَّام الشِّتاء.
وقوله: "مع الأُذنين" دليلُ ذلك:
1ـ ثبوته عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه كان يمسحُ الأُذنين مع الرَّأس(1).
2ـ أنَّهما من الرَّأس(2).
3ـ أنَّهما آلة السَّمع، فكان من الحكمة أن تُطَهَّرا حتى يَطْهُرَ الإنسانُ ممّا تلقَّاه بهما من المعاصي.(138/22)
قوله: "ثم يغسل رجليه مع الكعبين". الكلامُ على قوله: "مع الكعبين" كالكلام على قوله: "مع المرفقين"، وكلمة "مع" ليس فيها مخالفةٌ للقرآن؛ لأن "إلى" في قوله تعالى: إلى الكعبين{المائدة: 6} بمعنى "مع" لدلالة السُّنَّة على ذلك؛ كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أنه توضَّأ فغسل ذراعيه حتى أشرع في العَضُد، ورجليه حتى أشرع في السَّاق، وقال: هكذا رأيتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يفعلُ (3) وعلى هذا فالكعبان داخلتان في الغسل وهما: العظمان النائتان في أسفل السَّاق.
فيجبُ غسلُهما، وهذا الذي أجمع عليه أهل السُّنَّة لقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين {المائدة: 6} . بنصب "وأرجلَكم" عطفاً على "وجوهَكم" وهذه قراءة سَبْعيَّة.
وأما قراءة "وأرْجُلِكُمْ" بالجرِّ، وهي سَبْعيَّةٌ أيضاً(1)، فتُخرَّج على ثلاثة أوجه:
الأول: أنَّ الجرَّ هنا على سبيل المجاورة، بمعنى أنَّ الشيء يتبع ما جاوره لفظاً لا حكماً، والمجاور لها "رؤوسِكم" بالجرِّ فتجرُّ بالمجاورة. ومنه قول العرب: "هذا جُحرُ ضَبٍّ خَرِبٍ" بجرِّ خَربٍ، مع أنَّه صِفةٌ لجُحر المرفوع، ومقتضى القواعد رفع خَرب، لأن صفة المرفوع مرفوع، ولكن العرب جرَّته على سبيل المجاورة(2).
الثاني: أن قراءة النَّصب دلَّت على وجوب غسل الرِّجلين.
وأما قراءة الجر؛ فمعناها: اجعلوا غسلكم إيَّاها كالمسح، لا يكون غسلاً تتعبون به أنفسكم؛ لأن الإنسان فيما جرت به العادة قد يكثر من غسل الرِّجلين ودلكها؛ لأنَّها هي التي تباشر الأذى فمقتضى العادة أن يزيد في غسلها، فقُصِدَ بالجرِّ فيما يظهر كَسْرُ ما يعتادهُ النَّاسُ من المبالغة في غسل الرِّجلين؛ لأنهما اللتان تلاقيان الأذى.
الثالث: أن القراءتين تُنزَّلُ كلُّ واحدة منهما على حال من أحوال الرِّجل، وللرِّجل حالان:(138/23)
الأولى: أن تكونَ مكشوفةً، وهنا يجب غسلها.
الثانية: أن تكونَ مستورةً بالخُفِّ ونحوه فيجب مسحُها.
فتُنَزَّل القراءتان على حالَيْ الرِّجْل، والسُّنَّةُ بيَّنت ذلك، وهذا أصحُّ الأوجه وأقلُّها تكلُّفاً، وهو متمشٍّ على القواعد، وعلى ما يُعَرفُ من كتاب الله تعالى حيث تُنزَّلُ كلُّ قراءة على معنى يناسبها.
ويكون في الآية إشارة إلى المسح على الخفَّين.
قوله: "ويغسلُ الأقطعُ بقيَّةَ المفروضِ" أراد ـ رحمهُ الله ـ أقطعَ اليدين؛ بدليل قوله: "غَسَلَ رأسَ العَضُد منه".
فيغسلُ الأقطعُ بقيةَ المفروض، ولا يأخذ ما زاد على الفرض في المقطوع.
فمثلاً: لو أنه قُطعَ من نصف الذِّراع، فلا يرتفعُ إلى العَضُدِ بمقدار نصفِ الذِّراع؛ لأن العَضُدَ ليس محلاًّ للغسل، وإنما يغسلُ بقيَّة المفروضِ لقوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم {التغابن: 16} وهذا اتقى الله ما استطاع.
ولقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :"إذا أمَرْتُكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم"(1) وما قُطِعَ سقط فرضُه.
قوله: "فإن قُطِعَ من المِفْصَل غَسَلَ رأْسَ العَضُد منه" يعني: إذا قُطِعَ من مفصل المِرْفق غَسَلَ رأسَ العَضُد، لأن رأس العَضُد مع المرفق في موازنة واحدة.
وقد سبقَ(1) أنه يجبُ غسلُ اليدين مع المرفقين، ورأسُ العَضُدِ داخلٌ في المرفق فيجب غسلُه ، وإن قُطِع من فوق المفصل لا يجبُ غسلُه.
وهكذا بالنسبة للرِّجل إن قُطِعَ بعضُ القدمِ غَسلَ ما بقيَ، وإن قُطِع من مفصل العَقِبِ غسلَ طرفَ السَّاقِ؛ لأنَّه منه.
وهكذا بالنسبةِ للأُذُن إذا قُطعَ بعضُها مسح الباقي، وإن قُطِعت كلُّها سقطَ المسحُ على ظاهرِها، ويُدخِلُ أصبعيهِ في صِمَاخ الأُذنين.(138/24)
قولهُ: "ثم يرفعُ بصره إلى السَّماء" هذا سُنَّةٌ؛ إن صحَّ الحديث، وهو ما رُويَ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "من توضَّأ فأحسن الوُضُوء، ثم رفع نظره إلى السَّماء، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فُتحت له أبواب الجنَّة الثمانية، يدخل من أيِّها شاء"(2) وفي سنده مجهولٌ، والمجهولُ لا يُعلم حاله: هل هو حافظ، أو عدل، أو ليس كذلك، وإذا كان في السند مجهولٌ حُكِمَ بضعف الحديث.
والفقهاء ـ رحمهم الله ـ بَنَوا هذا الحكمَ على هذا الحديث. وعلى تعليل وهو: أنه يرفعُ نظرَه إلى السَّماء إشارةً إلى عُلوِّ اللهِ تعالى حيثُ شَهِدَ له بالتَّوحيد.
قوله: "ويقول ما وَرَدَ" وهو حديث عمر رضي اللهُ عنه: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، اللهم اجعلني من التَّوابين، واجعلني من المتطهِّرين. فإنَّ من أسبغ الوُضُوء ثم قال هذا الذِّكر؛ فُتِحَتْ له أبوابُ الجنَّة الثَّمانية، يدخل من أيّها شاء"(1).
وناسب أن يقول هذا الذِّكر بعد الوُضُوء، لأن الوُضُوء تطهيرٌ للبَدَن، وهذا الذِّكر تطهيرٌ للقلب؛ لأن فيه الإخلاص و.
ولأن فيه الجمع بين سؤال الله أن يجعله من التَّوابين الذين طهَّروا قلوبهم، ومن المتطهِّرين الذين طهَّروا أبدانهم.
وقال بعضَ العلماء: إن هذا الذِّكرَ يُشرَعُ بعد الغسل والتيمُّم(1) أيضاً، لأن الغسلَ يشتمل على الوُضُوء وزيادة، فإن من صفات الغسل المسنونة أن يتوضَّأ قبله.
ولأنَّ المعنى يقتضيه.
وأمَّا التيمُّم فلأنه بدل على الوُضُوء، وقد قال الله تعالى بعد التيمم: ولكن يريد ليطهركم {المائدة: 6} فكان مناسباً.
ويرى بعضُ العلماء: أنه يقتصر على ما وَرَدَ في الوُضُوء فقط. وهو ظاهر كلام الأكثر، قال في "الفروع":"ويتوجَّهُ ذلك بعد الغُسل؛ ولم يذكروه" (1)وقال في "الفائق": "قلت: وكذا يقوله بعد الغُسل"(2).(138/25)
وهذا ـ أعني الاقتصار على قوله بعد الوُضُوء ـ أرجح؛ لأنَّه لم يُنقل بعد الغُسل والتَّيمم، وكلُّ شيء وُجِدَ سَبَبُهُ في عهد النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولم يمنعْ منه مانع، ولم يفعله، فإنه ليس بمشروع. نعم؛ لو قال قائل باستحبابه بعد الغُسل إن تَقَدَّمهُ وُضُوء لم يكن بعيداً إذا نواه للوُضُوء.
وقول هذا الذِّكر بعد الغسل أقربُ من قولِه بعد التيمُّم؛ لأنَّ المغتسل يصدق عليه أنه متوضِّئ.
قوله: "وتُباحُ معونتُه" أي: معونة المتوضِّئ ، كتقريب الماء إليه وصَبِّه عليه، وهو يتوضَّأ، وهذه الإباحة لا تحتاج إلى دليل؛ لأنَّها هي الأصل.
وقد دَلَّ أيضاً على ذلك: أن المغيرةَ بن شعبة صَبَّ الماءَ على رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهو يتوضَّأ(3).
فإن قلت: ألا يكون هذا مشروعاً؛ لأنَّه من باب التَّعاون على البِرِّ والتقوى، فلا يقتصر على الإباحة فقط، بل يُقال: إنه مشروع؟
فالجوابُ: لا شَكَّ أنَّه من باب التَّعاون على البِرِّ والتَّقوى، ولكن هذه عبادة ينبغي للإنسان أن يبُاشِرَها بنفسه، ولم يردْ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه كُلَّما أراد أن يتوضَّأ طلب من يُعينه فيه.
وقال بعضُ العلماء: تُكرَهُ إعانةُ المتوضِّئ إلا عند الحاجة(1)؛ لأنَّها عبادة ولا ينبغي للإنسان أن يستعينَ بغيره عليها. والمذهب أصَحُّ.
قوله: "وتنشيفَ أعضائه" التنشيف بمعنى: التجفيف.
والدَّليل: عدم الدَّليل على المنع، والأصل الإباحة.
فإن قلتَ: كيف تجيبَ عن حديث ميمونة ـ رضي الله عنهاـ بعد أن ذكرت غُسْلَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالت: "فَنَاولتُهُ ثَوباً فلم يأخُذْهُ، فانطلق وهو يَنْفُضُ يديه"(2).
فالجواب: أن هذا قضيَّة عين تحتمل عِدَّة أمور:
إما لسببٍ في المنديل، كعدم نظافته ، أو يُخشى أنْ يُبِلَّهُ بالماء وبلَلُه بالماء غيرُ مناسب أو غير ذلك.(138/26)
وقد يكونُ إتيانُها بالمنديل دليلاً على أنَّ من عادتِه أن ينشِّفَ أعضاءه وإلا لم تأتِ به.
والصَّوابُ: ما قاله المؤلِّف أنه مباحٌ.(138/27)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
بابُ مَسْحِ الخُفَّيْنِ
محمد بن صالح العثيمين
أتى به المؤلِّف بعد صِفَةِ الوُضُوء لأنه حُكمٌ يتعلَّق بأحد أعضاء الوُضُوء، وذكر المؤلِّفُ في هذا الباب المسحَ على العِمَامة، والجبيرةِ، والخِمَارِ، والخُفَّيْنِ، فكان مشتملاً على أربعة مواضيع.
والخُفَّان: ما يُلبَسُ على الرِّجل من الجلود، ويُلْحَقُ بهما ما يُلْبَسُ عليهما من الكِتَّان، والصُّوف، وشبه ذلك من كُلِّ ما يُلبَسُ على الرِّجْل مما تستفيدُ منه بالتسخين، ولهذا بعث النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سريةً وأمرَهم أن يمسحوا على العصائب والتَّسَاخين(1).
أي: الخِفَاف، وسُمِّيتْ: "تساخين"، لأنَّها تُسَخِّنُ الرِّجْلَ.
والمسح على الخفين جائُزٌ باتفاق أهل السُّنَّةِ.
وخالَف في ذلك الرَّافضةُ؛ ولهذا ذكره بعضُ العلماءِ في كتب العقيدةِ لمخالفةِ الرافضة فيه(1) حتى صار شعاراً لهم.
وهو جائز بالكتابِ والسُّنَّةِ والإجماعِ.
أما من الكتاب فقوله تعالى : وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين {المائدة: 6} على قراءة الجرِّ.
وأما من السُّنَّة فقد تواترت الأحاديثُ بذلك عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
قال النَّاظم:
ممَّا تواتر حديثُ مَنْ كَذَبومَنْ بَنَى و بيتاً واحتسب
ورؤيةٌ شفاعةٌ والحوضومسحُ خُفَّين وهذي بعض
قال الإمام أحمد رحمه الله: ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثاً عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ( 2). أي: ليس في قلبي أدنى شَكٍّ في الجواز.
وأما الإجماع فقد أجمع أهلُ السُّنَّة على جواز المسح على الخُفَّين في الجملة.
قوله: "يجوزُ لمقيمٍ يوماً وليلةً" عبَّر بالجواز، فهل الجوازُ مُنْصَبٌّ على بيان المدَّة، أو على بيان الحكم؟
إن كان على بيان المدَّة فلا إشكال فيه، يعني: أن الجواز متعلِّق بهذه المدَّة.(139/1)
وإن كان مُنْصَبًّا على بيان الحكم فقد يكون فيه إشكال، وهو أنَّ المسحَ على الخُفَّين للابسهما سُنَّةٌ، وخلْعُهما لغسلِ الرِّجلِ بدعة خلاف السُّنَّة.
لكن قد يُجابُ عن هذا الإشكال بأن نقول: إن المؤلِّفَ عبَّر بالجواز دفعاً لقول من يقول بالمنع، وهذا لا يُنَافي أن يكون مشروعاً، والعلماءُ يعبِّرون بما يقتضي الإباحة في مقابلة من يقول بالمنع، وإن كان الحكم عندهم ليس مقصوراً على الجواز، بل هو إما واجب، أو مستحبٌّ.
ونظيرُ ذلك: قول بعضهم: ولمن أحرم بالحجِّ مفرداً ولم يسقِ الهدي أن يفسخه لعمرة ليكونَ متمتِّعاً(1).
فالتعبير باللام الدالَّة على الجواز في مقابل من منع ذلك؛ لأنَّ بعض العلماء يقول بعدم الجواز؛ لأن هذا من إبطال العمل.
وقوله: "لمقيم" يشمل المستوطن والمقيمُ؛ لأن الفقهاء رحمهم الله يرون أن النَّاس لهم ثلاث حالات.
إحداها: الإقامة.
الثانية: الاستيطان.
الثالثة: السَّفر.
ويُفرِّقون في أحكام هذه الأحوال.
والصَّحيح: أنَّه ليس هناك إلا استيطان أو سفر، وهذا اختيار شيخ الإسلام، وأن الإقامة باعتبارها قسماً ثالثاً ينفرد بأحكام خاصَّة لا توجد في الكتاب، ولا في السُّنَّةِ.
والإقامة عند الفقهاء: هي أن يقيمَ المسافرُ إقامةً تمنع القصْرَ ورُخَصَ السَّفرِ؛ ولا يكون مستوطناً، وعلى هذا فإنه مقيم، فلا تنعقد به الجمعةُ، ولا تجب عليه؛ أي: بنفسه، ولا يكون خطيباً، ولا إماماً فيها، حتى لو أراد أن يقيم سنتين، أو ثلاثاً.
والمستوطنُ: الذي اتَّخَذَ البلدَ وطناً له.
وحكم المقيم في المسح على الخُفَّين كحكم المستوطن، كما أنَّ حكمه كحكم المستوطن في وجوب إتمام الصَّلاة، وفي تحريم الفِطْرِ في رمضان، لكن ليس هو كالمستوطن في مسألة الجمعة، فلا تجب عليه بنفسه، ولا يكونُ إماماً فيها، ولا خطيباً، وحينئذٍ يكون في مرتبة بين مرتبتين، ولا دليل على هذه المرتبة.(139/2)
وقوله: "يوماً وليلة" لحديث عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ قال: "جعل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للمقيم يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثة أيام بلياليهن" أخرجه مسلم(1).
وهذا نَصٌّ صريحٌ بَيِّنٌ مُفَصَّلٌ.
قوله: "ولمسافر ثلاثةً بلياليها" إطلاقُ المؤلِّف ـ رحمه الله ـ يشمل السَّفَرَ الطَّويل والقصير.
ويشمل سفرَ القَصر وغيره؛ لأن هناك سفراً طويلاً لكن لا يُقْصَر فيه كالسَّفر المحرَّم، أو المكروهِ على المذهبِ، كمن سافر لشُرب الخمر أو الاستمتاع بالبغايا.
والمذهب: أنَّ السَّفر هنا مُقيَّدٌ بالسَّفر الذي يُباحُ فيه القَصرُ، ولعلَّه مراد المؤلِّف رحمه الله.
قوله: "من حَدَثٍ بعد لُبْسٍ" من: للابتداء، يعني: أنَّ ابتداءَ المدَّةِ سواءٌ كانت يوماً وليلة؛ أم ثلاثة أَيَّام، من الحَدَث بعد اللبس، وهذا هو المذهب؛ لأنّ الحَدَثَ سببُ وجوب الوُضُوء فعلَّق الحكم به، وإلا فإنَّ المسحَ لا يتحقَّقُ إلا في أوَّل مرَّة يمسحُ.
ونظيرُ هذا قولُهم في بيع الثِّمار: إذا باع نخلاً قد تشقَّقَ طَلْعُهُ فالثَّمر للبائع؛ مع أن الحديث: "من باع نخلاً قد أُبِّرتْ..."(1). لكن قالوا: إن التشقُّقَ سببٌ للتَّأبير فأُنيط الحكم به(2).
والذي يمكن أن يُعلَّق به ابتداء المُدَّة ثلاثة أمور:
الأول: حال اللِّبس.
الثاني: حال الحَدَث.
الثالث: حال المسح.
أما حال اللِّبس، فلا تبتدئ المدَّةُ من اللِّبس قولاً واحداً في المذهب وأما حال الحَدَث فالمذهبُ: أن المدَّة تبتدِئُ منه.
والقول الثاني: تبتدئُ من المسح(3)؛ لأنَّ الأحاديث: "يمسح المسافرُ على الخفين ثلاث ليال، والمقيم يوماً وليلة"(4)...إلخ. ولا يمكن أن يَصْدُقَ عليه أنَّه ماسح إلا بفعل المسح، وهذا هو الصَّحيح.(139/3)
ويدلُّ له أنَّ الفقهاء أنفسَهم ـ رحمهم الله ـ قالوا: لو أن رجلاً لبس الخُفَّين وهو مقيمٌ؛ ثم أحدثَ؛ ثم سافر؛ ومسحَ في السَّفَر أوَّل مرَّة، فإنه يُتِمُّ مسح مسافر(1). وهذا يدلُّ على أنَّه يعتَبر ابتداء المدَّة من المسح وهو ظاهرٌ.
فالصَّوابُ: أن العِبْرَةَ بالمسح وليس بالحَدَثِ.
مثال ذلك: رجلٌ توضَّأ لصلاة الفجر ولبس الخُفَّين، وبقي على طهارته إلى السَّاعة التَّاسعة ضُحى، ثم أحدث ولم يتوضَّأ، وتوضَّأ في السَّاعة الثانية عشرة، فالمذهب: تبتدئ المُدَّةُ من السَّاعة التَّاسعة.
وعلى القول الرَّاجح: تبتدئ من السَّاعة الثَّانية عشرة إلى أن يأتي دورها من اليوم الثَّاني إن كان مقيماً، ومن اليوم الرَّابع إن كان مسافراً.
فالمقيمُ أربعٌ وعشرون ساعةً، والمسافر اثنتان وسبعون ساعةً.
وأما قول العامَّة: إنَّ المدَّة خمسُ صلوات فهذا غير صحيح؛ لأنَّ الإنسانَ قد يُصلِّي أكثر من ذلك ومُدَّة المسح باقية وهو مقيم، كما لو لبس الخُفَّين لصلاة الفَجَر، وبقي على طهارته إلى أن صَلَّى العشاء، فهذا يوم كامل لا يُحسب عليه؛ لأنَّ المدَّة قبل المسح أوَّل مرَّة لا تُحسَبُ، فإذا مسح من الغَدِ لصلاة الفجر، فإذا بقي َعلى طهارته إلى صلاة العشاء من اليوم الثالث، فيكون قد َصلَّى خمس عشرة صلاة وهو مقيمٌ.
قوله: "على طاهر" هذا هو الشّرط الثَّاني من شُروطِ صِحَّةِ المسحِ على الخُفَّين، وهو أن يكونَ الملبوس طاهراً.
والطَّاهر: يُطلَقُ على طاهر العين، فيخرج به نجس العين.
وقد يُطْلَقَ الطَّاهرُ على ما لم تُصبْه نجاسةٌ كما لو قلت: يجب عليك أن تُصلِّيَ بثوبٍ طاهر: أي: لم تُصبْه نجاسةٌ.(139/4)
والمراد هنا طاهر العين؛ لأنَّ من الخِفَاف ما هو نجس العين كما لو كان خُفًّا من جلد حمار، ومنه ما هو طاهر العين لكنَّه متنجِّس؛ أي: أصابته نجاسة، كما لو كان الخُفُّ من جلد بعيرٍ مُذكَّى لكن أصابته نجاسة، فالأوَّل نجاسته نجاسة عينيَّة؛ والثَّاني نجاسته نجاسة حُكميَّة، وعلى هذا يجوز المسح على الخُفِّ المتنجِّس، لكن لا يُصلِّي به، لأنه يُشترط للصَّلاة اجتناب النَّجَاسة.
وفائدة هذا أن يستبيح بهذا الوُضُوء مسَّ المصحف؛ لأنه لا يُشترط للَمْسِ المصحف أن يكون متطهِّراً من النَّجاسة، ولكن يُشترط أن يكون متطهِّراً من الحدث.
أما لو اتَّخذ خُفًّا من جلد ميتة مدبوغ تحلُّ بالذَّكَاة، فإن هذا ينبني على الخلاف(1):
إن قلنا: لا يطهرُ ـ وهو المذهبُ ـ لم يَجُز المسح عليه.
وإن قلنا: يطهرُ بالدَّبغ جازَ المسحُ عليه.
ووجه اشتراط الطَّهارة: أن المسحَ على نجس العين لا يزيدُه إلا تلويثاً، بل إن اليد إذا باشرت هذا النَّجسَ وهي مبلولةٌ تنجَّست.
وربما يُؤخَذُ من قول النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "فإنِّي أدخلتُهما طاهرتين"(2).
لكن معنى الحديث أدْخلتُهما أي: القدمين طاهرتين، كما يفسِّره بعض الألفاظ(1).
قوله: "مباحٍ" احترازاً من المحرَّم، هذا هو الشَّرط الثَّالث، والمحرَّم نوعان:
الأول: محرَّم لكسبه كالمغصوب، والمسروق.
الثاني: محرَّم لعينه كالحرير للرَّجُلِ، وكذا لو اتَّخَذ "شُرَاباً" (وهو الجورب) فيها صُور فهذا محرَّمٌ، ولا يُقال: إن هذا من باب ما يُمتهن؛ لأنَّ هذا من باب اللباس ، واللباس الذي فيه صُورٌ حرام بكلِّ حال، فلو كان على "الشُّراب" صورةُ أسدٍ مثلاً فلا يجوز المسح عليه.
وكلا هذين النوعين لايجوز المسحُ عليهما.
ولا نعلم دليلاً بَيِّناً على ذلك.(139/5)
وأما التَّعليل: فلأنَّ المسح على الخُفَّين رُخْصَة، فلا تُستباحُ بالمعصية؛ ولأن القول بجواز المسح على ما كان محرَّماً مقتضاه إقرار هذا الإنسان على لبس هذا المحرَّم، والمحرَّم يجب إنكاره.
وربما نقول: بالقياس على بطلان صلاة المُسْبِلِ(1) ـ إن صحَّ الحديثُ ـ فإن المُسْبِلَ تبطل صلاتُه، لأنَّه لبس ثوباً محرَّماً، فإذا فسدت الصَّلاةُ بلبس الثَّوب المحرَّم؛ فإنَّ المسح أيضاً يكون فاسداً بلبس الخُفِّ المحرَّم.
قوله: "ساترٍ للمفْروضِ" أي: للمفْروض غسلُه من الرِّجْلِ وهذا هو الشَّرط الرابع، فيُشترَط لجواز المسح على الخُفَّين أن يكون ساتراً للمفروض.
ومعنى "ساتر" ألا يتبيَّنَ شيٌ من المفروض من ورائه؛ سواءٌ كان ذلك من أجل صفائه، أو خفَّته، أو من أجل خروق فيه.
لأنَّه إذا كان به خُروقٌ بانَ من ورائه المفروضُ، فلا يصحُّ المسحُ عليه حتى قال بعض أهل العلم ـ وهوالمشهور من المذهب ـ: لو كان هذا الخِرْقُ بمقدار رأس المخراز.
والتَّعليل: أن ما كان خفيفاً أو به خُروق، فإن ما ظَهَرَ؛ فَرْضُهُ الغُسْل، والغُسْل لا يجامعُ المسحَ، إذ لا يجتمعان في عضوٍ واحد.
وأمَّا ما يصف البشرة لصفائه؛ فلأنه يُشترَطُ السَّتر وهذا غير ساترٍ، بدليل أن الإنسان لو صلَّى في ثوب يصف البشرةَ لصفائه فصلاتُه باطلةٌ.
وذهب الشافعيةُ إلى: أنَّ ما لا يَسْتُرُ لصفائه يجوز المسحُ عليه(1)، لأنَّ محلَّ الفرض مستورٌ لا يمكن أن يصل إليه الماء، وكونُه تُرى من ورائه البشرةُ لا يضرُّ، فليست هذه عورة يجب سترها حتى نقول: إن ما يصف البشرة لا يصحُّ المسح عليه.
وليس في السُّنَّة ما يدلُّ على اشتراط ستر الرِّجْل في الخُفِّ.
وهذا تعليل جَيّدٌ من الشَّافعية.
وقال بعض العلماء: إنه لا يُشترطُ أن يكونَ ساتراً للمفروض(1).(139/6)
واستدلُّوا: بأن النُّصوص الواردةَ في المسح على الخُفَّين مُطْلَقةٌ، وما وَرَدَ مُطْلَقاً فإنه يجب أن يبقى على إطلاقه، وأيُّ أحد من النَّاس يُضيف إليه قيداً فعليه الدَّليل، وإلا فالواجب أن نُطلق ما أطلقه اللهُ ورسولُه، ونقيِّد ما قيَّده اللهُ ورسولُه.
ولأن كثيراً من الصَّحابة كانوا فُقَراء، وغالب الفُقراء لا تخلو خفافهم من خُروق، فإذا كان هذا غالباً أو كثيراً من قوم في عهد الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ؛ ولم ينبِّه عليه الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، دَلَّ على أنَّه ليس بشرط. وهذا اختيار شيخ الإسلام(2).
وأما قولهم: إنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه الغُسْلُ، فلا يجامع المسحَ، فهذا مبنيٌّ على قولهم: إنه لا بُدَّ من ستر المفروض، فهم جاؤوا بدليل مبنيٍّ على اختيارهم، واستدلُّوا بالدعوى على نفس المُدَّعَى، فيُقال لهم: مَنْ قال: إنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه الغُسْل؟
بل نقول: إن الخُفَّ إذا جاء على وفق ما أطلقتْهُ السُّنَّةُ؛ فما ظَهَرَ من القدم لا يجب غسْلُه، بل يكون تابعاً للخُفِّ، ويُمسحُ عليه.(139/7)
وأما قولهم: لا يجتمع مسحٌ وغُسْلٌ في عضو واحد، فهذا مُنتقضٌ بالجَبيرة إذا كانت في نصف الذِّراع، فالمسحُ على الجبيرة، والغُسْلُ على ما ليس عليه جبيرة. وعلى تسليم أنَّه لا بُدَّ من ستر كُلِّ القدم نقول: ما ظهر يُغسَلُ، وما استتر بالخُفِّ يُمسحُ كالجبيرة، ولكن هذا غيرُ مُسلَّم، وما اختاره شيخ الإسلام هو الرَّاجح؛ لأن هذه الخفاف لا تسلم غالباً من الخروق، فكيف نشقُّ على النَّاس ونلزمُهم بذلك. ثم إن كثيراً من النَّاس الآن يستعملون جواربَ خفيفة، ويرونَها مفيدةً للرِّجْل، ويحصُل بها التَّسخينُ، وقد بعث النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سريةً، فأصابهم البردُ، فأمرَهم أن يمسحوا على العصائب (يعني العمائم) والتَّساخين (يعني الخِفَاف)(1) والتَّساخين هي الخفاف؛ لأنها يُقصد بها تسخينُ الرِّجل، وتسخينُ الرِّجْل يحصُلُ من مثل هذه الجوارب.
إذاً ؛ هذا الشَّرط محل خلاف بين أهل العلم، والصَّحيحُ عدمُ اعتباره.
قوله: "يَثْبُتُ بنفسه" أي: لا بُدَّ أن يثبت بنفسه، أو بنعلين فيُمسحُ عليه إلى خلعهما، وهذا هوالشَّرط الخامس لجواز المسح على الخُفَّين، فإن كان لا يثبت إلا بشدِّه فلا يجوزُ المسح عليه. هذا المذهب.
فلو فُرِضَ أنَّ رَجُلاً رِجْلُه صغيرةٌ، ولبس خُفَّاً واسعاً لكنَّه ربطه على رجْله بحيث لا يسقط مع المشي، فلا يصحُ المسحُ عليه.
والصَّحيح: أنه يصحُّ، والدَّليلُ على ذلك أن النُّصوصَ الواردةَ في المسحِ على الخُفَّين مُطلقةٌ،. فما دام أنه يَنْتَفِعُ به ويمشي فيه فما المانع؟ ولا دليل على المنع.
وقد لا يجدُالإنسانُ إلا هذا الخُفَّ الواسع فيكونُ في منعه من المسح عليه مشقَّة، لكن اليوم ـ الحمد و ـ كلُّ إنسانٍ يجد ما يريد.
لكن لو فُرِضَ أنَّ هذا الرَّجُلَ قدمُه صغيرة، وليس عنده إلا هذا الخُفَّ الكبير الواسع وقال: أنا إذا لَبِسْتُه وشددتُه مشيت، وإن لم أشدُدْهُ سقط عن قدمي، ماذا نقول له؟(139/8)
نقول: على المذهبِ لا يجوزُ، وعلى القول الرَّاجحِ يجوزُ. ووجه رجحانه أنَّه لا دليل على هذا الشَّرط.
فإذا قال قائل: ما هو الدَّليلُ على جواز المسح عليه؟
نقولُ: الدَّليلُ عدم الدَّليلِ، أي عدمُ الدَّليلِ على اشتراط أن يَثْبُتَ بنفسه.
قوله: "من خُفٍّ" من: بيانيَّة لقوله: "طاهر" فالجارُ والمجرورُ بيان لطاهر، و"من": إذا كانت بيانيّة فإن الجار والمجرور في موضع نصب على الحال، يعني حال كونه من خُفٍّ.
والخُفُّ: ما يكون من الجلد. والجوارب: ما يكون من غير الجلد كالخرق وشبهها. فيجوز المسح على هذا وعلى هذا.
ودليل المسح على الجوارب القياس على الخُفِّ، إذ لا فرق بينهما في حاجة الرِّجْل إليهما، والعِلَّة فيهما واحدة، فيكون هذا من باب الشُّمول المعنوي، أو بالعموم اللفظي كما في حديث: "أن يمسحوا على العصائب والتَّساخين"(1).
والتَّساخينُ يعمُّ كلَّ ما يُسخِّنُ الرِّجْلَ.
وأمَّا "المُوق" فإنه خُفٌّ قصير يُمْسَحُ عليه، وقد ثبت أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مسح على الموقين(2).
قوله: "وجَوْرَبٍ صفيق" اشترط المؤلِّفُ أن يكون صفيقاً؛ لأنَّه لا بُدَّ أن يكون ساتراً للمفروض على المذهب، وغير الصَّفيق لا يستر.
قوله: "ونحوهما" أي:مثلهما من كلِّ ما يُلبَسُ على الرِّجْل سواء سُمِّي خُفَّاً، أم جورباً، أم مُوقاً، أم جُرموقاً، أم غير ذلك، فإنَّه يجوز المسح عليه؛ لأن العِلَّة واحدة.
قوله: "وعلى عِمَامة ٍلرَجُل" أي: ويجوز المسح على عِمَامة الرَّجل، والعِمامةُ: ما يُعمَّمُ به الرَّأسُ، ويكوَّرُ عليه، وهي معروفةٌ.
والدَّليل على جواز المسح عليها حديث المغيرة بن شعبة ـ رضي الله عنه ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :"مسح بناصيته، وعلى العِمَامة، وعلى خُفّيه" (1).
وقد يُعبَّر عنها بالخِمَار كما في "صحيح مسلم": "مسح على الخُفَّين والخِمَار" قال: يعني العِمَامة(2).(139/9)
ففسَّر الخِمَار بالعِمَامة، ولولا هذا التفسير لقلنا بجواز المسح على "الغُترة"، إذا كانت مخمِّرة للرَّأس، كما يجوز في خُمُر النِّساء.
وقوله: "لرَجُل" أي: لا للمرأة، وهذا أحد شروط جواز المسح على العِمَامة، فلا يجوز للمرأة المسحُ على العِمَامة، لأنَّ لبسها لها حرام لما فيه من التشبُّه بالرِّجَال، وقد لعن رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المشتبهين من الرِّجال بالنِّساء، والمتشبهات من النِّساء بالرِّجال(1).
ويُشترَطُ لها ما يُشترَطُ للخُفِّ من طهارة العين، وأن تكونَ مباحةً، فلا يجوز المسح على عمامةٍ نجسة فيها صورٌ، أو عمامةِ حريرٍ.
وقوله "لرَجُل" كلمة رَجُل في الغالب تُطلَقُ على البالغ، وهذا ليس بمراد هنا، بل يجوزُ للصبيِّ أن يلبس عِمامةً ويمسحَ عليها.
وكلمة "ذَكَر" تُطْلَقُ على ما يُقابل الأنثى.
قوله: "محنَّكة أو ذات ذؤابة" هذا هو الشَّرط الثَّاني لجواز المسح على العِمَامة، فالمحنَّكة هي التي يُدار منها تحت الحنك. وذات الذُّؤابة هي التي يكون أحد أطرافها متدلِّياً من الخلف، وذات: بمعنى صاحبة.
فاشترط المؤلِّفُ للعِمامة شرطين:
الأول: أن تكون لرَجُل.
الثاني: أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.
مع اشتراط أن تكون مباحة، وطاهرة العين.
والدَّليل على اشتراط التَّحنيك، أو ذات الذؤابة: أنَّ هذا هو الذي جرت العادة ُبلبسه عند العرب.
ولأن المحنَّكة هي التي يَشقُّ نزعها، بخلاف المُكوَّرة بدون تحنيك.
وعارض شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في هذا الشرط(1)، وقال: إنَّه لا دليل على اشتراط أن تكون محنَّكة، أو ذات ذؤابة.
بل النصُّ جاء: "العِمامة"(2) ولم يذكر قيداً آخر، فمتى ثبتت العمِاَمة جاز المسحُ عليها.
ولأنَّ الحكمة من المسح على العِمَامة لا تتعيَّنُ في مشقَّة النَّزع، بل قد تكون الحكمةُ أنَّه لو حرَّكها ربما تَنْفَلُّ أكوارُها.(139/10)
ولأنَّه لو نَزَع العِمَامة، فإن الغالب أنَّ الرَّأس قد أصابه العرقُ والسُّخونَة فإذا نزعها، فقد يُصاب بضررٍ بسبب الهواء؛ ولهذا رُخِّصَ له المسح عليها.
ولا يجب أن يَمسحَ ما ظهر من الرَّأس، لكن قالوا: يُسَنَّ أن يمسحَ معها ما ظهر من الرَّأس؛ لأنَّه سيظهر قليلٌ من النَّاصية ومن الخلف غالباً؛ فيجب المسح عليها، ويستحب المسح على ما ظَهَرَ.
قوله: "وعلى خُمُر نساءٍ" أي: ويجوزُ المسحُ على خُمُرِ نساءٍ.
خُمُرِ: جمع خِمَار، وهو مأخوذٌ من الخُمْرة، وهو ما يُغطَّى به الشيءُ. فخِمَار المرأة: ما تُغطِّي به رأسها.
واختلف العلماء في جواز مسح المرأة على خمارها.
فقال بعضهم: إنه لا يجزئ(1) لأن الله تعالى أمر بمسح الرَّأس في قوله: وامسحوا برءوسكم{المائدة 6} وإذا مَسَحَتْ على الخمار فإنها لم تمسح على الرَّأس؛ بل مسحت على حائل وهو الخمار فلا يجوز .
وقال آخرون بالجواز، وقاسوا الخِمَار على عِمَامة الرَّجُل، فالخِمَار للمرأة بمنزلة العِمَامة للرَّجُل، والمشقَّة موجودة في كليهما.
وعلى كُلِّ حالٍ إذا كان هناك مشقَّة إما لبرودة الجوِّ، أو لمشقَّة النَّزع واللَّفِّ مرَّة أخرى، فالتَّسامح في مثل هذا لا بأس به، وإلا فالأَوْلى ألاَّ تمسح ولم ترد نصوصٌ صحيحة في هذا الباب(2).
ولو كان الرَّأس ملبَّداً بحنَّاء، أو صمغ، أو عسل، أو نحو ذلك فيجوز المسح؛ لأنه ثبت أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان في إحرامه ملبِّداً رأسَه(1) فما وُضع على الرَّأس مِنَ التَّلبيد فهو تابع له.
وهذا يدلُّ على أن طهارةَ الرَّأس فيها شيء من التَّسهيل.
وعلى هذ؛ فلو لبَّدت المرأة رأسها بالحِنَّاء جاز لها المسحُ عليه، ولا حاجة إلى أن تنقض رأسَها، وتَحُتُّ هذا الحنَّاء.
وكذا لو شدَّت على رأسها حُليًّا وهو ما يُسمّى بالهامة، جاز لها المسحُ عليه؛ لأننا إذا جوَّزنا المسح على الخمار فهذا من باب أَوْلَى.(139/11)
وقد يُقال: إن له أصلاً وهو الخاتم، فالرَّسول صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يلبس الخاتم(1) ومع ذلك فإنَّه قد لا يدخل الماءُ بين الخاتم والجلد، فمثل هذه الأشياء قد يُسامِحُ فيها الشَّرع، ولاسيما أن الرَّأس من أصله لا يجب تطهيرُه بالغسل وإنما يطهرُ بالمسح، فلذلك خُفِّفَتْ طهارتُه بالمسح.
وقوله "على خُمر نساء" يفيد أنَّ ذلك شرطٌ، وهو أن يكون الخِمارُ على نساء.
قوله: "مُدَارةٍ تحت حُلُوقِهن" هذا هو الشَّرط الثَّاني، فلا بُدَّ أن تكون مدارةً تحت الحلق، لا مطلقةً مرسلةً؛ لأن هذه لا يشقُّ نزعُها بخلافِ المُدارةِ.
وهل يُشترطُ لها توقيت كتوقيت الخُفِّ؟ فيه خلاف. والمذهب أنَّه يُشترط، وقال بعض العلماء: لا يُشترط، لأنه لم يثبت عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه وقَّتها، ولأنَّ طهارة العُضوِ التي هي عليه أخفُّ من طهارة الرِّجْلِ، فلا يمكن إلحاقُها بالخُفِّ، فإذا كانت عليكَ فامسح عليها، ولا توقيتَ فيها. وممن ذهب إلى هذا القول: الشَّوكاني في "نيل الأوطار"(1)، وجماعة من أهل العلم(2).
قوله: "في حَدَثٍ أصغر" الحَدَث: وصفٌ قائمٌ بالبَدَن يمنع من الصَّلاة ونحوها مما تُشترط له الطَّهارة.
وهو قسمان:
الأول: أكبر وهو ما أوجب الغسل.
الثاني: أصغر وهو ما أوجب الوُضُوء.
فالعِمامةُ، والخُفُّ، والخِمارُ، إنما تُمسحُ في الحَدَث الأصغر دون الأكبر، والدَّليل على ذلك حديث صفوان بن عَسَّال قال :"أمَرنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذا كُنَّا سَفْراً ألاَّ ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة، ولكن من غائط، وبول، ونوم"(1).
فقوله "إلا من جنابة" يعني به الحَدَث الأكبر.
وقوله: "ولكن من غائط وبول ونوم" هذا الحدث الأصغر. فلو حصل على الإنسان جنابة مدَّةَ المسح فإنه لا يمسح، بل يجب عليه الغُسلُ؛ لأنَّ الحدث الأكبر ليس فيه شيء ممسوح، لا أصلي ولا فرعي، إلا الجبيرة كما يأتي.(139/12)
(تنبيه): تَبيَّنَ مما سبق أن لهذه الممسوحات الثلاثة: الخُفّ والعِمَامة والخِمار شروطاً تتفق فيها؛ وشروطاً تختصُّ بكلِّ واحد. فالشُّروط المتفقة هي:
1ـ أن تكون في الحدث الأصغر.
2ـ أن يكون الملبوس طاهراً.
3ـ أن يكون مباحاً.
4ـ أن يكون لبسها على طهارة.
5ـ أن يكون المسح في المدَّة المحددة.
هذا ما ذكره المؤلِّفُ وقد عرفت الخلاف في بعضها.
وأما الشُّروط المختلفة فالخفُّ يُشتَرطُ أن يكون ساتراً للمفروض، ولا يُشتَرَطُ ذلك في العِمَامة والخِمَار، والعِمَامة يُشترَطُ أن تكونَ على رَجُلٍ، والخِمَار يُشترَطَ أن يكون على أنثى، والخُفُّ يجوزُ المسح عليه للذُّكور والإناث.
قوله: "وجبيرة" أي: ويجوز المسحُ على جبيرةٍ، والجبيرة: فعيلة بمعنى فاعلة، وهي أعوادٌ توضعُ على الكسرِ ثم يُرْبَطُ عليها ليلتئمَ. والآن بدلها الجبسُ.
وأما "جبير" بالنسبة للمكسور فهو بمعنى مفعول أي مجبورٌ.
ويُسمَّى الكسيرُ جبيراً من باب التفاؤل،كما يُسمَّى اللَّديغُ سليماً مع أنه لا يُدرى هل يسلم أم لا؟
وتُسمَّى الأرضُ التي لا ماء فيها ولا شجر مَفَازة من باب التَّفاؤل.
قوله:"لم تتجاوز قَدْرَ الحاجة" هذا أحدُ الشُّروطِ. وتتجاوز: أي تتعدَّى.
والحاجة: هي الكسر، وكلُّ ما قَرُبَ منه مما يُحتاجُ إليه في شدِّها.
فإذا أمكن أن نجعل طول العيدان شبراً، فإنَّنا لا نجعلُها شبراً وزيادة، لعدم الحاجة إلى هذا الزَّائد.
وكذا إذا احتجنا إلى أربطةٍ غليظة استعملناها، وإلا استعملنا أربطةً دقيقة.
وإذا كان الكسر في الأصبع واحتجنا أن نربط كلَّ الرَّاحة لتستريحَ اليدُ جاز ذلك لوجود الحاجة.(139/13)
فإن تجاوزت قَدْرَ الحاجة، لم يُمسح عليها، لكن إن أمكن نزعُها بلا ضرر نُزِعَ ما تجاوز قدرَ الحاجةِ، فإنْ لم يُمكنْ فقيل: يمسح على ما كان على قدر الحاجةِ ويتَيمَّم عن الزَّائد(1). والرَّاجحُ أنه يمسحُ على الجميعِ بلا تيمُّم؛ لأنَّه لما كان يتضرَّرُ بنزع الزَّائدِ صار الجميع بمنزلةِ الجَبيرة.
قوله: "ولو في أكبر". "لو": لرفع التَّوهُّمِ، لأنه في العِمَامة والخِمَار والخُفَّين قال: "في حدث أصغر" ولو لم يقل هنا "ولو في أكبر" لتوهَّمَ متوهِّمٌ أن المسحَ عليها في الحدث الأصغر فقط مع أنَّه يجوز المسح عليها في الحدث الأصغر والأكبر.
وذلك لوجوه:
1ـ حديث صاحب الشُّجَّة ـ بناءً على أنه حديث حسن، ويُحتَجُّ به ـ فإن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "إنما كان يكفيه أن يتيمَّمَ؛ ويعصِبَ على جُرحه خِرقةً، ثم يمسح عليها"(1).
وهذا في الحدث الأكبر، لأن الرَّجل أجنب.
2ـ أن المسح على الجبيرة من باب الضَّرورة، والضَّرورة لا فرق فيها بين الحدث الأكبر والأصغر، بخلاف المسح على الخفين فهو رخصة.
3ـ أنَّ هذا العضو الواجبَ غسلُه سُتِرَ بما يسوغُ ستره به شرعاً فجاز المسحُ عليه كالخُفَّين.
4ـ أنَّ المسحَ وردَ التعبُّد به من حيثُ الجُملةُ، فإذا عجزنا عن الغسل انتقلنا إلى المسح كمرحلة أخرى.
5ـ أنَّ تطهير محلِّ الجبيرة بالمسح بالماء، أقرب إلى الغسل من العدول إلى التيمُّم، والأحاديث في المسح على الجبيرة وإن كانت ضعيفة إلا أن بعضها يجبر بعضاً.(139/14)
ثم إننا يمكن أن نقيسها ولو من وَجْهٍ بعيد على المسح على الخُفَّين، فنقول: إنّ هذا عضو مستور بما يجوز لُبْسُه شرعاً فيكون فرضه المسحُ. وهذا القياسُ وإن كان فيه شيءٌ من الضَّعف من جهة أن المسح على الخُفَّين رخصةٌ ومؤقَّتٌ والمسحُ على الجبيرةِ عزيمةٌ وغير ُمؤقَّت، والمسحُ على الخُفَّين يكون في الحدث الأصغر، وهذا في الأصغر والأكبر، والمسحُ على الخُفَّين يكون على ظاهر القدم، وهذا يكون على جميعها، ولكن مع ما في هذا القياس من النَّظر إلا أنه قويٌّ من حيث الأصلُ، وهو أنَّه مستورٌ بما يسوغُ ستره به شرعاً فجاز المسح عليه كالخُفَّين، وهذا ما عليه جمهور العلماء.
وقال بعضُ العلماء ـ كابن حزم ـ لا يمسحُ على الجبيرة(1)؛ لأنَّ أحاديثها ضعيفةٌ، ولا يَرَى أنه ينجبر بعضها ببعض، ولا يَرَى القياس.
واختلف القائلون بعدم جواز المسح.
فقال بعضهم: إنه يسقطُ الغُسْل إلى بدل، وهو التيمُّم(1) بأن يَغْسِلَ أعضاءَ الطَّهارة ِويتيمَّمَ عن الموضع الذي فيه الجبيرة، لأنَّه عاجزٌ عن استعمال الماء، والعجز عن البعض كالعجز عن الكُلِّ فيتيمَّم.
وقال آخرون: إنه لا يتيمَّمُ، ولا يمسحُ(2)؛ لأنه عجز عن غسل هذا العضو فسقط كسائرالواجبات، وهذا أضعفُ الأقوال أنه يسقط الغسلُ إلى غير تيمُّمٍ، ولا مسح، لأنَّ العضو موجود ليس بمفقود حتى يسقط فرضه، فإذا عجز عن تطهيره بالماء تطهر ببدله.
ورُبَّما يعمُّه قوله تعالى: وإن كنتم مرضى" أو على" سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا {المائدة: 6} وهذا مريضٌ؛ لأن الكسر أوالجُرحَ نوعٌ من المرض فجاز فيه التيمُّمُ.
وإذا قلنا: لا بُدَّ من التيمُّم أو المسح، فإن المسح أقرب إلى الطَّهارة بالماء، لأنه طهارة بالماء، وذاك طهارة بالتُّراب.(139/15)
وأيضاً: التيمُّم قد يكون في غير محلِّ الجبيرة؛ لأن التيمُّم في الوجه والكفَّين فقط، والجبيرة قد تكون ـ مثلاً ـ في الذِّراع أو السَّاق.
فأقرب هذه الأقوال: جواز المسح عليها.
وهل يُجمعُ بين المسحِ والتيمُّم؟
قال بعض العلماء: يجبُ الجمعُ بينهما احتياطاً(1).
والصَّحيح: أنَّه لا يجب الجمعُ بينهما؛ لأن القائلين بوجوب التيمُّم لا يقولون بوجوب المسح، والقائلين بوجوب المسح لا يقولون بوجوب التيمُّم؛ فالقول بوجوب الجمع بينهما خارج عن القولين.
ولأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالفٌ للقواعد الشرعيَّة؛ لأننا نقول: يجب تطهير هذا العضو إما بكذا أو بكذا.
أما إيجاب تطهيره بطهارتين فهذا لا نظير له في الشَّرع، ولا يُكلِّف الله عبداً بعبادتين سببُهما واحد.
قال العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ: إن الجُرحَ ونحوَه إما أن يكون مكشوفاً، أو مستوراً.
فإن كان مكشوفاً فالواجبُ غسْلُه بالماء، فإن تعذَّر فالمسحُ ، فإن تعذَّر المسحُ فالتيمُّمُ، وهذا على الترتيب.
وإن كان مستوراً بما يسوغُ ستره به؛ فليس فيه إلا المسحُ فقط، فإن أضره المسحُ مع كونه مستوراً، فيعدل إلى التيمُّم، كما لو كان مكشوفاً، هذا ما ذكره الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في هذه المسألة.
قوله: "إلى حَلِّها" بفتح الحاء؛ أي: إزالتها، وكسر الحاء لحنٌ فاحشٌ يُغيِّر المعنى؛ لأنه بالكسر يكون المعنى إلى أن تكون حلالاً، وهذا يفسدُ المعنى، فيمسحُ على الجبيرة إلى حَلِّها إمَّا ببرء ما تحتها، وإمَّا لسبب آخر.
فإذا برئ الجرحُ وجب إزالتها؛ لأن السببَ الذي جاز من أجله وضعُ الجبيرة والمسحُ عليها زال، وإذا زال السبب انتفى المُسبَّب.
قوله: "إذا لَبِسَ ذلك" المشارُ إليه الأنواع الأربعة: الخُفُّ، والعِمامةُ، والخِمارُ، والجبيرةُ.
قوله: "بعد كمال الطَّهارة" لم يقلْ: بعد الطَّهارةِ حتى لا يتجوَّز متجوِّزٌ، فيقول: بعد الطَّهارة أي: بعد أكثرها.(139/16)
فلو أنَّ رَجلاً عليه جنابةٌ وغسل رجليه، ولبس الخُفَّين، ثم أكمل الغسل لم يجزْ؛ لعدم اكتمال الطَّهارة.
صحيحٌ أن الرِّجْلين طهُرتا؛ لأن الغسل من الجنابة لا ترتيب فيه، لكن لم تكتمل الطَّهارة.
ولو توضَّأَ رَجلٌ ثم غسل رِجلَه اليُمنى، فأدخلها الخُفَّ، ثم غسل اليُسرى؛ فالمشهورُ من المذهب: عدمُ الجواز، لقوله: "إذا لَبِسَ ذلك بعد كمال الطَّهارة" فهو لمَّا لبس الخُفَّ في الرِّجْلِ اليُمنى لبسها قبل اكتمال الطَّهارة لبقاء غسل اليُسرى، فلا بُدَّ من غسل اليُسرى قبل إدخال اليُمنى الخُفَّ.
ودليل هذا القول: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :"فإنِّي أدخلتُهما طاهرتين"(1).
فقوله:"طاهرتين" وصفٌ للقدمين، فهل المعنى أدخلتُ كلَّ واحدة وهما طاهرتان، فيكون أدخلهما بعد كمال الطهارة.
أو أن المعنى: أدخلتُ كُلَّ واحدة طاهرة، فتجوز الصُّورة التي ذكرنا؟هذا محتمل.
واختار شيخ الإسلام: أنه يجوز إذا طَهَّر اليُمنى أن يلبسَ الخفَّ، ثم يطهِّر اليسرى، ثم يلبس الخُفَّ(2).
وقال: إنه أدخلهما طاهرتين، فلم يُدخل اليُمنى إلا بعد أن طهَّرها، واليُسرى كذلك، فيصدقُ عليه أنه أدخلهما طاهرتين.
وعلى المذهب: لو أن رجلاً فعل هذا، نقول له: اخلع اليمنى ثم البسها؛ لأنَّك إذا لبستها بعد خلعها لبستها بعد كمال الطَّهارة.
ورُبَّما يُقال: هذا نوعٌ من العبث؛ إذ لا معنى لخلعها ثم لبسها مرَّةً أخرى؛ لأن هذا لم يؤثِّر شيئاً، ما دام أنه لا يجب إعادة تطهير الرِّجْل فقد حصل المقصودُ.
ولكن روى أهلُّ السُّنن أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَخَّصَ للمقيم إذا توضَّأ فلبس خُفّيه أن يمسح يوماً وليلة(1).
فقوله: "إذا توضَّأ" قد يُرَجِّح المشهورَ من المذهب؛ لأن مَنْ لم يغسل الرِّجل اليسرى لم يصدق عليه أنه توضَّأ.(139/17)
وهذا ما دام هو الأحوط فسلوكه أَوْلى، ولكن لا نجسُر على رَجُلٍ غسلَ رِجْلَه اليمنى ثم أدخلها الخفَّ، ثم غسل اليسرى ثم أدخلها الخُفَّ أن نقولَ له: أعدْ صلاتك ووضوءك. لكن نأمر من لم يفعل ألا يفعل احتياطاً.
وأما اشتراط كمال الطَّهارة في الجبيرة، فضعيفٌ لما يأتي:
الأول: أنه لا دليل على ذلك، ولا يصحُّ قياسُها على الخُفَّين لوجود الفروق بينهما.
الثَّاني: أنها تأتي مفاجأةً، وليست كالخُفِّ متى شئت لبسته.
وعدم الاشتراط هو اختيار شيخ الإسلام(1)، ورواية قويَّةٌ عن أحمد اختارها كثيرٌ من الأصحاب(2).
ويكون هذا من الفروق بين الجبيرة والخُفِّ.
ومن الفروق أيضاً بين الجبيرة وبقيَّة الممسوحات.
1ـ أن الجبيرة لا تختصُّ بعضوٍ معيَّن، والخُفُّ يختصُّ بالرِّجْلِ، والعِمَامة والخِمَار يختصَّانِ بالرَّأسِ.
وبهذا نعرف خطأَ من أفتى أن المرأةَ يجوز لها وضع "المناكير" لمدَّة يوم وليلة؛ لأن المسح إنَّما ورد فيما يُلبس على الرَّأس والرِّجْلِ فقط، ولهذا لما كان النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في تبوك عليه جُبَّةٌ شاميَّةٌ وأراد أن يُخرِجَ ذراعيْه من أكمامه ليتوضَّأ، فلم يستطعْ لضيق أكمامِه، فأخرجَ يده من تحت الجُبَّةِ، وأَلقَى' الجُبَّةَ على منكبيه، حتى صبَّ عليه المغيرةُ رضي الله عنه(3)، ولو كان المسح جائزاً على غير القدم والرَّأس، لمسح النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في مثل هذه الحال على كُمَّيْهِ.
2ـ أن المسحَ على الجبيرة جائزٌ في الحَدَثين، وباقي الممسوحات لا يجوز إلا في الحدث الأصغر.
3ـ أن المسح على الجبيرة غيرُ مؤقَّت، وباقي الممسوحات مؤقّتةٌ، وسبقَ الخلافُ في العِمَامة(1).
4ـ أنَّ الجبيرةَ لا تُشترَطُ لها الطَّهارةُ ـ على القول الرَّاجح ـ وبقيَّةُ الممسوحات لا تُلبسُ إلا على طهارة، على خلاف بين أهلِ العلمِ في اشتراطِ الطهارة بالنسبة للعِمَامة والخِمارِ(2).(139/18)
قوله: "ومن مسحَ في سَفَر، ثم أقام" من مَسَحَ في سَفَرٍ ثم أقام، فإنَّه يُتمُّ مسحَ مقيم إن بقيَ من المدَّة شيءٌ، وإن انتهت المدَّةُ خَلَعَ.
مثاله: مسافرٌ أقبلَ على بلده وحان وقتُ الصَّلاةِ، فمسحَ ثم وصل إلى البلد، فإنَّه يُتمُّ مسحَ مقيمٍ؛ لأن المسحَ ثلاثة أيَّام لمن كان مسافراً والآن انقطع السَّفرُ، فكما أنَّه لا يجوزُ له قَصْرُ الصَّلاة لمَّا وصلَ إلى بلده، فكذا لا يجوز له أن يتمَّ مَسْحَ مسافرٍ.
فإن كان مضى على مسحه يومٌ وليلة، ثم وصلَ بلدَه فإنه يخلعُ، وإن مضى يومان خَلَعَ، وإن مضى يومٌ بقي له ليلة.
قوله: "أو عَكَسَ" أي: مسح في إقامة ثم سافر، فإنه يتمَّ مسح مقيم تغليباً لجانب الحظر احتياطاً.
مثاله: مسح يوماً وهو مقيم، ثم سافر، فإنه يبقى عليه ليلة، وما بعد الليلة اجتمع فيه مبيحٌ وحاظرٌ، فالسَّفَر يبيحه والحَضَر يمنعه، فيُغَلَّبُ جانبُ الحَظْر احتياطاً؛ لأنك إذا خلعت وغسلت قدميك فلا شُبهة في عبادتك، وإن مسحت ففي عبادتك شُبهة، وقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "دَعْ ما يَريْبُك إلى' ما لا يَرِيْبُك"(1).
والرِّواية الثانية عن أحمد: أنه يُتِمُّ مسح مسافر؛ لأنَّه وُجِدَ السَّببُ الذي يستبيح به هذه المدَّة، قبل أن تنتهي مُدَّة الإقامة، أما لو انتهت مُدَّةُ الإقامة كأن يتمَّ له يومٌ وليلة؛ ثم يسافر بعد ذلك قبل أن يمسح؛ ففي هذه الحال يجب عليه أن يخلعَ(2).
وهذه الرِّواية قيل: إن أحمد ـ رحمه الله ـ رجع إليها(2)، وهذه رواية قويَّة.
(مسألة) إذا دخل عليه الوقت ثم سافر، هل يُصلِّي صلاة مسافر أو مقيم؟
المذهب: يُصلِّي صلاة مقيم.
والصَّحيح: أنه يُصلِّي صلاة مسافر.
فهذه المسألة قريبة من هذه؛ لأنَّه الآن صَلَّى وهو مسافر، وقد قال الله تعالى: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة {النساء: 101} .
كما أنه إذا دخل عليه الوقتُ وهو مسافر، ثم وصل بلده فإنه يُتمُّ.(139/19)
قوله: "أو شَكَّ في ابتدائه..." يعني: هل مَسَحَ وهو مسافرٌ أو مسحَ وهو مقيمٌ؟ فإنه يُتمُّ مسح مقيم احتياطاً، وهو المذهب.
وبناءً على الرِّواية الثَّانية ـ في المسألة السَّابقة ـ يتمُّ مسح مسافر؛ لأنَّ هذه الرِّواية الثَّانية يُباح عليها أن يُتمَّ مسح مسافر، ولو تيقن أنه ابتدأ المسح مقيماً. والصَّحيح في هذه المسائل الثلاث: أنَّه إذا مسح مسافراً ثم أقام فإنه يتمُّ مسح مقيم، وإذا مسح مقيماً ثم سافر أوشَكَّ في ابتداء مسحه فإنه يُتمُّ مسح مسافر، ما لم تنته مُدَّة الحضر قبل سفره، فإن انتهت فلا يمكن أن يمسح.
قوله: "وإن أحْدَثَ ثم سافر قبل مَسْحِهِ فَمَسْحَ مسافرٍ" أي: أحدث وهو مقيمٌ، ثم سافر قبل أن يمسحَ، فإنَّه يمسحُ مسحَ مسافرٍ؛ لأنَّه لم يبتدئ المسحَ في الحضر، وإنَّما كان ابتداء مسحه في السَّفر. وعلى هذا يتبيَّن لنا رُجحان القول الذي اخترناه من قبل: بأنَّ ابتداءَ مُدَّة المسحِ من المسح لا من الحَدَث، وَهُمْ هُنَا قد وافقوا على أنَّ الحُكم معلَّقٌ بالمسح لا بالحَدَث، ويُلزمُ الأصحاب ـ رحمهم الله ـ أن يقولوا بالقول الرَّاجح؛ أو يطردوا القاعدة، ويجعلوا الحكم منوطاً بالحَدَث،
ويقولوا: إذا أحدثَ ثم سافر، ومسحَ في السَّفر، فيلزمُه أن يمسحَ مسحَ مقيمٍ؛ وإلا حصلَ التَّناقض.
قوله: "ولا يَمْسَحُ قَلانس" القلانس: جمع قَلَنْسُوَة، نوع من اللباس الذي يُوضع على الرَّأس، وهي عبارة عن طاقيَّة كبيرة، فمثل هذا النوع لا يجوزُ المسح عليه؛ لأن الأصلَ وجوبُ مسح الرَّأس لقوله تعالى: وامسحوا برءوسكم {المائدة: 6}.
وعَدَل عن الأصل في العِمَامة، لورود النَّصِّ بها.
وقال بعض الأصحاب: يمسحُ على القَلانس، إذا كانت مثل العِمَامة يشقُّ نزعُها(1)، أمَّا ما لا يشق ُّنزعُه كالطاقيَّة المعروفة فلا يمسح عليها. ففرَّقَ بين ما يشقُّ نزعه وما لا يشقُّ.(139/20)
وهذا القول قويٌّ؛ لأنَّ الشَّارع لا يفرِّق بين متماثلين كما أنه لا يجمع بين متفرقين(2)؛ لأن الشَّرع من حكيمٍ عليم، والعِبْرة في الأمور بمعانيها، لا بصورها.
وما دام أن الشَّرع قد أجاز المسحَ على العِمَامة، فكلُّ ما كان مثلها في مشقَّة النَّزع فإنه يُعطى حكمُها.
قوله:"ولا لِفَافة" أي: في القَدَم، فلا يمسح الإنسان لِفَافة لفَّها على قدمه؛ لأنَّها ليست بخُفٍّ فلا يشملُها حكمُه.
وكان النَّاس في زمنٍ مضى في فاقةٍ وإعواز، لا يجدون خُفًّا، فيأخذ الإنسانُ خِرقة ويلفُها على رجله ثم يربطُها.
وعلَّة عدم الجواز أنَّ الأصلَ وجوبُ غسل القدم، وخُولِفَ هذا الأصل في الخُفِّ لورود النَّصِّ به، فيبقى ما عداه على الأصل.
واختار شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ جوازُ المسح على اللِّفافةِ(1)، وهو الصَّحيحُ؛ لأن اللِّفَافة يُعذَرُ فيها صاحبُها أكثر من الخُفِّ؛ لأنَّ خلعَ الخُفِّ ثم غسل الرِّجْل، ثم لبْسَ الخُفِّ أسهل من الذي يَحُلُّ هذه اللِّفافة ثم يعيدها مرَّة أخرى، فإذا كان الشَّرع أباح المسح على الخُفِّ، فاللِّفَافة من باب أولى.
وأيضاً: فإن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمر السَّريَّة التي بعثها بأن يمسحوا على العصائب والتَّساخين(2).
فنأخذ من كلمة "التَّسَاخين" جواز المسح على اللِّفَافة؛ لأنَّه يحصُل بها التَّسخين.
والغرض الذي من أجله تُلبس الخِفَاف موجودٌ في لبس اللِّفافة.
قوله: "ولا ما يسقط من القَدَم" يعني: ولا يمسح ما يسقط من القَدَم، وهذا بناء ًعلى أنه يُشترط لجواز المسح على الخُفِّ ثبوتُه بنفسه، أو بنعلين إلى خلعهما؛ لأن ما لا يثبت خُفٌّ غيرُ معتاد؛ فلا يشمله النصُّ، والنَّاس لا يلبسون خِفافاً تسقط عند المشي، ولا فائدة في مثل هذا. وهذا ظاهرٌ فيمن يمشي فإنَّه لا يلبسه.
لكن لو فُرض أن مريضاً مُقْعَداً لَبِسَ مثل هذا الخُفِّ للتدفئة، فلا يجوز له المسح على كلام المؤلِّفِ.(139/21)
ولأنَّ الذي يسقط من القَدَم سيكون واسعاً، وإخراج الرِّجْلِ من هذا الخُفِّ سهلٌ، فيخرجها ثم يغسلها، ثم ينشِّفها ثم يردُّها.
قوله: "أو يُرى منه بعضُه" أي: إذا كان الخُفُّ يُرى منه بعضُ القَدَم فإنه لا يُمسح ولو كان قليلاً، وهذا مبنيٌّ على ما سبق من اشتراط أن يكون الخُفُّ ساتراً للمفروض.
وسواء كان يُرى من وراء حائل؛ مثل أن يكون خفيفاً؛ أو من البلاستيك، أم من غير حائل. فلو فُرِضَ أن في الخُفِّ خَرقاً قَدْرَ سَمِّ الخِيَاطِ، أو كان جزء منه عليه بلاستيك يُرى من ورائه القَدَم؛ فالمذهب أنَّه لا يجوز المسح عليه.
وسبق بيان أن الصَّحيح جواز ذلك(1).
قوله: "فإن لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ قبل الحَدَث فالحُكم للفوقاني". وهذا يقع كثيراً كالشُّراب والكنادر، فهذا خُفٌّ على جَورب.
ولا يجوز المسح عليهما إن كانا مَخْرُوقين على المذهب، ولو سَتَرَا؛ لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد منهما لم يجز المسح عليه، فلا يمسح عليهما.
مثاله: لو لَبِسَ خُفَّين أحدُهما مخروق من فوق، والآخر مخروق من أسفل، فالسَّتر الآن حاصل، لكن لو انفرد كلُّ واحد لم يجز المسحُ عليه فلا يجوز المسح عليهما.
ولو كانا سليمين جاز المسحُ عليهما، لأنَّه لو انفرد كلُّ واحد منهما جاز المسح عليه.
والصَّحيح : جواز المسح عليهما مطلقاً، بناءً على أنه لا يُشترط سترُ محلِّ الفرض ما دام اسم الخُفِّ باقياً.
وإذا لَبِسَ خُفًّا على خُفٍّ على وجه يصحُّ معه المسحُ، فإن كان قبل الحدث فالحكم للفوقاني، وإن كان بعد الحدث فالحكم للتحتاني، فلو لَبِسَ خفًّا ثم أحدث، ثم لبس خُفًّا آخر فالحكم للتحتاني، فلا يجوزُ أن يمسح على الأعلى.
فإن لَبِسَ الأعلى بعد أن أحدث، ومسح الأسفل فالحكم للأسفل، كما لو لبس َخُفًّا ثم أحدث، ثم مسح عليه، ثم لبس خفًّا آخر فوق الأوَّل وهو على طهارةِ مَسْحٍ عند لبسه للثاني، فالمذهب أنَّ الحكم للتَّحتاني؛ لأنَّه لبس الثاني بعد الحَدَث.(139/22)
وقال بعض العلماء: إذا لبس الثَّاني على طهارة؛ جاز له أن يمسح عليه(1)؛ لأنه يصدق عليه أنه أدخل رجليه طاهرتين، وقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "فإني أدخلتهما طاهرتين"(2) وهو شامل لطهارتهما بالغسل والمسح، وهذا قول قويٌّ كما ترى. ويؤيِّدُه : أنَّ الأصحاب ـ رحمهم الله ـ نَصُّوا على أن المسح على الخُفَّين رافع للحدث، فيكون قد لَبِسَ الثَّاني على طهارة تامَّة فلماذا لا يمسح؟(3).
أما لو لَبِسَ الثَّاني وهو محدثٌ فإنه لا يمسحُ؛ لأنه لبسه على غير طهارة.
وقوله: "فالحكم للفوقاني" هذا لبيان الجواز فإنه يجوز أن يمسحَ على التَّحتاني حتى ولو كان الحكم للفوقاني.
وإذا كان في الحال التي يمسح فيها الأعلى؛ فَخَلَعه بعد مسحه؛ فإنه لا يمسح التَّحتاني. هذا هو المذهب.
والقول الثَّاني: يجوز جعلاً للخُفَّين كالظِّهارة والبِطَانة(1)، وذلك فيما لو كان هناك خُفٌّ مكوَّنٌ من طبقتين العُليا تُسمَّى' الظِّهارة والسُّفلى تُسمَّى' البِطَانة، فلو فرضنا في مثل هذا الخُفِّ أنه تمزَّق من الظِّهارة بعد المسح عليه، وهو الوجه الأعلى فإنه يمسح على البِطَانة، وهي الوجه الأسفل حتى على المذهب(2).
فالذين يقولون بجواز المسح على الخُفِّ الأسفل بعد خلع الخُفِّ الأعلى بعد الحدث قالوا: إنما هو بمنزلة الظِّهارة والبطانة، فهو بمنزلة الخُفِّ الواحد. وهذا القول أيسر للنَّاس؛ لأن كثيراً من الناس يلبس الخُفَّين على الجورب ويمسح عليهما، فإذا أراد النوم خلعهما فعلى المذهب لا يمسح على الجورب بعد خلع الخُفَّين؛ لأنَّ زمن المسح ينتهي بخلع الممسوح. وعلى القول الثَّاني: يجوز له أن يمسحَ على الجورب. فإذا مسح ولبس خُفَّيه جاز له أن يمسح عليه مرَّة ثانية؛ لأنه لبسهما على طهارة، ولا شَكَّ أنَّ هذا أيسر للنَّاس؛ والفتوى به حسنة، ولا سيَّما إذا كان قد صدر من المستفتي ما قبل ذلك فيُفتى بما هو أحوط.(139/23)
قوله: "ويمسحُ أكثرَ العِمَامة" هذا بيان لوضع المسح وكيفيته في الممسوحات، ففي العِمَامة لا بُدَّ أن يكون المسح شاملاً لأكثر العِمَامة، فلو مسح جُزءاً منها لم يصحَّ. وإن مسحَ الكُلَّ فلا حرج، ويستحبُّ إذا كانت النَّاصيةُ بادية أن يمسحها مع العِمَامة.
قوله: "وظاهر قَدَم الخُفِّ..." هذا بيان لمسح الخُفَّين.
وقوله "ظاهر" بالجرِّ يعني: ويمسحُ أكثر ظاهر القدم؛ لأن المسح مختصٌّ بالظَّاهر لحديث المغيرة بن شعبة(1): "مسح خفيه" فإنَّ ظاهره أن المسحَ لأعلى الخُفِّ.
ولحديث عليٍّ رضي الله عنه قال: "لو كان الدِّين بالرَّأي، لكان أسفلُ الخُفِّ أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يمسح أعلى' الخُفِّ"(2). وهذا الحديث وإنْ كان فيه نَظَرٌ؛ لكن حسَّنه بعضهم.
وفي قوله: "لوكان الدِّين بالرَّأي" إشكال، فإن الرَّأي هو العقل.
وهل الدِّين مخالفٌ للعقل؟ الجواب: لا، ولكن مرادُ عليٍّ رضي الله عنه ـ إن صحَّ نسبته إليه ـ هو باديَ الرَّأي كما قال تعالى: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي {هود: 27} أي: في ظاهر الأمر.
لأنه عند التَّأمُّل نجد أن مسح أعلى الخُفِّ هو الأَوْلَى، وهو الذي يدلُّ عليه العقل، لأنَّ هذا المسح لا يُراد به التَّنظيفُ والتنقيةُ، وإنما يُرادُ به التعبُّد، ولو أنَّنا مسحنا أسفلَ الخُفِّ لكان في ذلك تلويثٌ له.
قوله: "من أصابعه إلى ساقه" بيَّن المؤلِّفُ كيفيَّة المسحِ: بأن يبتدئ من أصابعه أي أصابع رجله إلى ساقه، وقد وردت آثارٌ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأصحابه أنه يمسح بأصابعه مفرَّقة حتى يُرى فوق ظهر الخُفِّ خطوطٌ كالأصابع(1) .
قوله: "دون أسفله وعقبه" لأنهما ليسا من أعلى القدم، والمسح إنَّما ورد في الأعلى كما سبق في حديث المغيرة، فإنَّ له روايات(2) تدلُّ على ما دلَّ عليه حديثُ علي رضي الله عنه.(139/24)
وإذا كان الخُفُّ أكبر من القدم، فهل يمسحُ من طرف الخُفِّ أو طرف الأصابع؟
إن نظرنا إلى الظَّاهر؛ فإنَّه إن مسح على خُفَّيه مسح من طرف الخُفِّ إلى ساقه؛ بقطع النَّظر عن كون الرِّجْل فيه صغيرة أو كبيرة، وإنْ نظرنا إلى المعنى قلنا: الخُفُّ هنا زائدٌ عن الحاجة والزَّائدُ لا حُكم له، ويكون َالحكم مما يُحاذي الأصابع، والعمل بالظَّاهر هو الأحوط.
(تنبيه) لم يبينِّ المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ هل يمسح على الخُفَّين معاً أو يبدأ باليُمنى؛ فقيل: يمسح عليهما معاً لظاهر حديث المغيرة. وقيل: يبدأ باليُمنى؛ لأن المسح بدلٌ عن الغسل، والبَدلُ له حكم المبدلُ. وهذا فيما إذا كان يمكنه أن يمسحَ بيديه جميعاً، أما إذا كان لا يمكنه، مثلَ أن تكون إحدى يديه مقطوعة أو مشلولة فإنه يبدأ باليمنى.
قوله: "وعلى جميع الجبيرة" أي: يمسح على جميع الجبيرة؛ لأن ظاهرَ حديث صاحب الشُّجَّة وهو قوله: "ويمسح عليها"(1) شامل لكلِّ الجبيرة من كلِّ جانب.
ولو غسل الممسوح بدل المسح: فقال بعض أهل العلم: لا يجزئ(2) لأنَّه خلاف ما جاء به الشَّرع، وقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ"(1) ثم إننا بالغسل نقلب الرُّخصة إلى مشقَّة. وقال بعض العلماء: يجزئ الغسلُ(2)؛ لأنَّه أكمل في الإنقاء، وإنما عدل إلى المسح تخفيفاً.
وتوسَّط بعضُهم فقال: يجزئ الغسلُ إن أَمَرَّ يده عليها(3)؛ لأنَّ إمرار اليد جعل الغسل مسحاً، وهذا أحوطُ؛ لكن الاقتصار على المسح أفضل وأَوْلى.
قوله: "ومتى ظهر بعضُ محلِّ الفرض بعد الحدث " فَرْضُ الرِّجْلِ أن تُغسَلَ إلى الكعبين، فإذا ظهر من القدم بعضُ محلِّ الفرض كالكعب مثلاً، وكذا لو أن الجورب تمزَّق وظهر طرفُ الإبهام، أو بعض العَقِبِ، أو أن العِمَامة ارتفعت عمّا جرت به العادة فإنه يلزمه أن يستأنفَ الطَّهارة، ويغسل رِجليْه، ويمسحَ على رأسه.(139/25)
وهذا بالنسبة للعِمَامة مبنيٌّ على اشتراط الطَّهارة للبسها. وعلى القول بعدم اشتراط الطَّهارة بالنسبة للعمامة(3) فإنه يعيد لفَّها ولا يستأنف الطَّهارة.
وبالنسبة للخُفَّين ونحوهما مبنيٌّ على أنَّ ما ظَهَرَ؛ فرضُه الغسلُ، وإذا كان فرضه الغسلُ، فإن الغسلَ لا يُجامِعُ المسحَ، فلا بُدَّ من استئنافِ الطَّهارة؛ وغسل القدمين، ثم يلبسُ بعد ذلك.
وقول المؤلِّف ـ رحمه الله ـ: "بعد الحدث"، يُفهم منه أنه لو ظهر بعضُ محلِّ الفرض، أو كلُّه قبل الحدث الأوَّل فإنه لا يضرُّ.
كما لو لبس خُفَّيه لصلاة الصُّبح، وبقي على طهارته إلى قُرب الظُّهر، وفي الضُّحى خلع خُفَّيه، ثم لبسهما وهو على طهارته الأولى فإنه لا يستأنف الطَّهارة.
مسألة: إذا خلع الخُفَّين ونحوهما هل يلزمُه استئناف الطَّهارة؟ اختُلِفَ في هذه المسألة على أربعة أقوال(1):
القول الأول: ما ذهب إليه المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ أنه يلزمه استئناف الطَّهارة، حتى ولو كان ظهورها بعد الوُضُوء بقليل وقبل جفاف الأعضاء، فإنه يجبُ عليه الوُضُوء، والعِلَّة: أنَّه لمَّا زال الممسوحُ بطلت الطَّهارةُ في موضعه، والطَّهارُة لا تتبعّضُ، فإذا بطلت في عضوٍ من الأعضاء بطلت في الجميع. وهذا هو المذهب.
القول الثَّاني: أنه إذا خلع قبل أن تَجِفَّ الأعضاء أجزأه أن يغسل قدميه فقط، لأنَّه لمَّا بطلت الطَّهارةُ في الرِّجْلَين؛ والأعضاء لم تنشَفْ، فإنَّ المولاة لم تَفُتْ، وحينئذٍ يبني على الوُضُوء الأوَّل فيغسل قدميه.
القول الثَّالث: أن يلزمه أن يغسلَ قدميه فقط، ولو جفَّت الأعضاءُ قبل ذلك، وهذا مبنيٌّ على عدم اشتراط المولاة في الوُضُوء.(139/26)
القولُ الرَّابعُ: ـ وهو اختيار شيخ الإسلام(1)ـ أن الطَّهارة لا تبطل سواء فاتت الموالاة أم لم تَفُتْ، حتى يوجد ناقضٌ من نواقض الوُضُوء المعروفة، لكن لا يعيده في هذه الحال ليستأنف المسح عليه؛ لأنَّه لو قيل بذلك لم يكن لتوقيت المسح فائدة؛ إذ كلُّ مَنْ أراد استمرار المسح خلع الخُفَّ، ثم لَبسه،ثم استأنف المدَّة.
وحجته: أن هذه الطهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعيٍّ، وما ثبت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فإنه لا ينتقض إلا بدليل شرعيٍّ، وإلا فالأصل بقاء الطَّهارة. وهذا القول هو الصَّحيحُ، ويؤيِّده من القياس: أنَّه لو كان على رَجُلٍ شَعْرٌ كثيرٌ، ثم مسح على شعره؛ بحيث لا يصل إلى باطن رأسه شيء من البلل، ثم حلق شعره بعد الوُضُوء فطهارتُه لا تنتقض.
فإن قيل: إن المسح على الرَّأس أصلٌ، والمسحُ على الخُفِّ فرعٌ، فكيف يُساوى بين الأصل والفرع.
فالجواب: أن المسحَ ما دام تعلَّق بشيء قد زال، وقد اتفقنا على ذلك، فكونه أصليًّا، أو فرعيًّا غير مؤثِّر في الحكم.
قوله: "أو تمَّت مدَّتُه استأنف الطَّهارة" يعني: إذا تمَّت المدَّة، ولو كان على طهارة، فإنه يجب عليه إذا أراد أن يُصلِّيَ ـ مثلاً ـ أن يستأنفَ الطَّهارة.
مثاله: إذا مَسَحَ يوم الثلاثاء الساعة الثانية عشرة، فإذا صارت الساعة الثانية عشرة من يوم الأربعاء انتهت المدَّة فبطل الوُضُوء، فعليه أن يستأنفَ الطَّهارة، فيتوضَّأ وُضُوءاً كاملاً. هكذا قرَّر المؤلِّفُ رحمه الله.
ولا دليل على ذلك من كتاب الله تعالى، ولا من سُنَّة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولا من إجماع أهل العلم.(139/27)
والنبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وقّتَ مدَّة المسح، ليُعرَفَ بذلكُ انتهاء مدَّة المسح، لا انتهاء الطَّهارة. فالصَّحيحُ أنَّه إذا تَمَّت المدَّةُ، والإنسان على طهارة، فلا تبطل، لأنها ثبتت بمقتضى دليل شرعيٍّ، وما ثبت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فلا ينتقض إلا بدليل شرعيٍّ آخر، ولا دليل على ذلك في هذه المسألة، والأصلُ بقاء الطَّهارة. وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى(1).
فإن قيل: ألا توجبون عليه الوُضُوء احتياطاً؟
قلنا: الاحتياط بابٌ واسعٌ، ولكن ما هو الاحتياط؟ هل هو بلزوم الأيسر؟ أو بلزوم الأشدِّ؟ أو بلزوم ما اقتضته الشَّريعة؟ الأخير هو الاحتياط.
فإذا شككنا هل اقتضته الشَّريعةُ أم لا؟ اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ: فقال بعضهم: نسلك الأيسرَ(1)؛ لأن الأصلَ براءة الذِّمَّة؛ ولأنَّ الدينَ مبنيٌّ على اليُسر والسُّهولة.
وقال آخرون: نسلك الأشدَّ(1)؛ لأنه أحوط، وأبعد عن الشُّبهة.
ولكن في مسألة نقض الوُضُوء عندنا أصل أصَّله النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهو قوله في الرَّجُل يُخيَّل إليه أنَّه يجدُ الشَّيء في بطنه في الصَّلاة، فقال: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً"(2).
فلم يوجب النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الوُضُوء إلا على من تيقَّن سبب وجوبه، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكاً فيه من حيث الواقعُ كما في الحديث، أو من حيث الحكمُ الشَّرعي، فإن كُلاًّ فيه شَكٌّ، هذا شكٌّ في الواقع هل حصل النَّاقض أم لم يحصُل، وهذا شكٌّ في الحكم؛ هل يوجبه الشَّرع أم لا؟.
فالحديث: دَلَّ على أن الوُضُوء لا ينتقض إلا باليقين، وهنا لا يقين.
وعلى هذا؛ فالرَّاجح ما اختاره شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ أنه لا تنتقض الطَّهارة بانتهاء المدَّة، لعدم الدَّليل.(139/28)
وأيُّ إنسان أتى بدليل فيجب علينا أن نتَّبع الدَّليل، وإذا لم يكن هناك دليلٌ فلا يسوغ أن نُلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، لأنَّ أهل العلم مسؤولون أمام الله، ومؤتمنون على الشَّريعة؛ ولهذا جاء في الحديث: "أنهم ورثة الأنبياء"(1).
وكذلك ـ على المذهب ـ لو بريء ما تحت الجبيرة، لزمه أن يستأنف الطَّهارة إذا كانت في أعضاء الوُضُوء.
وإذا كانت في أعضاء الغسل، كما لو اغتسل من جنابة ومسح عليها لزمه أن يغسل ما تحتها، ولا يلزمه الغسل كاملاً، لأن الموالاة على المذهب لا تُشترط في الغسل.
وكذلك لو انحلَّت الجبيرةُ استأنفَ الطَّهارةَ في الوُضُوءِ إذا كانت في أحد أعضاء الوُضُوء.
والصَّحيح كما سبق: أنه لا تبطل الطَّهارةُ لبرء ما تحتها، أو انتقاضها، ويعيد شدَّها في الحال، أو متى شاء؛ لأن الجبيرة ـ على القول الرَّاجح ـ لا يُشترط لوضعها الطَّهارةُ كما سبق(1).(139/29)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
بابُ نَواقِضِ الوُضُوءِ
محمد بن صالح العثيمين
النَّواقض: جمعُ ناقض؛ لأن "ناقض" اسم فاعل لغير العاقل، وجمعُ اسمِ الفَاعل لغير العاقل على "فواعل".
والوُضُوء بالضَمِّ: الطَّهارة التي يرتفع بها الحَدَث، وبالفتح: الماءُ الذي يُتَوَضَّأُ به كما يُقال: طَهور بالفتح: لما يُتَطَهَّرُ به، وبالضَّمِّ لنفس الفعل، وسَحور بالفتح: لما يُتَسَحَّرُ به، وبالضَّمِّ لنفس الفعل الذي هو الأكل.
ونواقض الوُضُوء: مفسداتُه، أي: التي إذا طرأت عليه أفسدته.
والنَّواقض نوعان:
الأول: مجمع عليه، وهوالمستند إلى كتاب الله وسُنَّةِ رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
الثاني: فيه خلافٌ، وهو المبنيُّ على اجتهادات أهل العلم رحمهم الله .
وعند النِّزاع يجب الردُّ إلى كتاب الله وسُنَّةِ رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
قوله: "ينقضُ ما خَرَجَ من سَبيلٍ" هذا هو النَّاقض الأوَّل من نواقض الوُضُوء.
وقوله: "ما خرج من سبيل" ما: اسم موصول بمعنى الذي، وهو للعموم، وكلُّ أسماء الموصولات للعموم؛ سواء كانت خاصَّة، أم مشتركة، فالخاصة: هي التي تدلُّ على المفرد، والمثنى، والجمع مثل: الذي، اللَّذَيْنِ، الذين.
والمشتركة: هي الصَّالحة للمفرد وغيره مثل: "مَنْ"، "ما"، فقوله: "ما خرج من سبيل" يشمل كلَّ خارج.
و "من سبيل" مطلق يتناول القُبُل، والدُّبُر، وسُمِّيَ "سبيلاً"، لأنَّه طريق يخرج منه الخارج.
وقوله: "ما خرج" عام يشمل المعتاد وغيرالمعتاد؛ ويشمل الطَّاهر والنَّجس(1)، فالمعتاد كالبول، والغائط، والرِّيح من الدُّبر، قال الله تعالى: أو جاء أحد منكم من الغائط {المائدة: 6}.
وفي حديث صفوان بن عَسَّال: "ولكن من بول، وغائط، ونوم"(2).
وفي حديث أبي هريرة ، وعبد الله بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ: "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً"(1).
وغير المعتاد: كالرِّيح من القُبُل.(140/1)
واختلف الفقهاء ـ رحمهم الله ـ فيما إذا خرجت الرِّيحُ من القُبُل؟
فقال بعضهم: تنقض وهو المذهب(2).
وقال آخرون: لا تنقض(3).
وهذه الرِّيح تخرج أحياناً من فُروج النساء، ولا أظنُّها تخرج من الرِّجَال، اللهم إلا نادراً جداً.
وتنقضُ الحصاةُ إذا خرجت من القُبُل، أو الدُّبُر؛ لأنه قد يُصابُ بحصوة في الكِلى، ثم تنزلُ حتى تخرجَ من ذكره بدون بول.
ولو ابتلع خرزة، فخرجت من دبره، فإنه ينتقض وضوءُه لدخوله في قوله: "ينقض ما خرج من سبيل".
ويشمل الطَّاهر: كالمنيِّ.
والنَّجس ما عداه من بولٍ، ومذيٍ، ووَدْيٍ، ودَمٍ.
وهذا هو النَّاقض الأوَّل، وهو ثابت بالنَّصِّ، والإجماع، إلا ما لم يكن معتاداً، ففيه الخلاف(1).
قوله: "وخارج من بقية البدن إن كان بولاً، أو غائطاً" هذا هو النَّاقض الثَّاني من نواقض الوُضُوء.
وهو معطوف على "ما" أي: وينقضُ خارجٌ من بقيَّة البَدن، إن كان بولاً، أو غائطاً، وهذا ممكن ولا سيَّما في العصور المتأخِّرة، كأن يُجرى للإنسان عمليَّةٌ جراحيَّةٌ حتى يخرج الخارج من جهة أخرى.
فإذا خرج بول، أو غائط من أيِّ مكان فهو ناقض، قلَّ أو كَثُرَ.
وقال بعض أهل العلم: إن كان المخرج من فوق المعدة فهو كالقيء، وإن كان من تحتها فهو كالغائط. وهذا اختيار ابن عقيل رحمه الله(2). وهذا قولٌ جيد، بدليل: أنه إذا تقيَّأ من المعدة، فإنه لا ينتقض وضوءُه على القول الرَّاجح، أو ينتقض إن كان كثيراً على المشهور من المذهب.
ويُستثنى مما سبق مَنْ حَدَثُه دائمٌ، فإنَّه لا ينتقضُ وضوءُه بخروجه؛ كَمَنْ به سلسُ بول، أو ريح، أو غائط، وله حال خاصَّةٌ في التطهُّر تأتي إن شاء الله(3).
وظاهر قوله: "إن كان بولاً، أو غائطاً" أن الرِّيح لا تنقض إذا خرجت من هذا المكان الذي فُتِحَ عوضاً عن المخرج، ولو كانت ذات رائحة كريهة، هذا ما مشى عليه المؤلِّف، وهو المذهب.(140/2)
وقال بعضُ العلماء: إنهاتنقضُ الوُضُوءَ(1)، لأن المخرج إذا انسدَّ وانفتح غيره كان له حكمُ الفَرج في الخارج، لا في المسِّ، لأنَّ مسَّه لا ينقض الوُضُوء كما سيأتي إن شاء الله(2).
قوله: "أو كثيراً نجساً غيرَهُما" أي: أو كان كثيراً نجساً غير البول والغائط، فقيَّد المؤلِّفُ غير البول، والغائط بقيدين.
الأول: كونُه كثيراً.
الثاني: أن يكون نجساً.
ولم يقيِّد البولَ والغائط بالكثير النَّجس؛ لأن كليهما نجس، ولأنَّ قليلَهُما وكثيرَهُما ينقض الوُضُوء.
وقوله: "أو كثيراً" أطلق المؤلِّف الكثير، والقاعدة المعروفة: أنَّ ما أتى، ولم يُحدَّدْ بالشَّرع فمرجعُه إلى العُرف، كما قيل:
فالكثير: بحسب عُرف النَّاس، فإن قالوا: هذا كثيرٌ، صار كثيراً، وإن قالوا: هذا قليلٌ، صار قليلاً.
وقال بعض العلماء: إن المعتبر عند كلِّ أحد بحسبه(1)، فكلُّ من رأى أنَّه كثيرٌ صار كثيراً، وكلُّ من رأى أنه قليلٌ صار قليلاً.
وهذا القول فيه نظر؛ لأنَّ من النَّاس من عنده وِسواس، فالنُّقطَةُ الواحدة عنده كثيرة، ومنهم من عنده تهاون فإذا خرج منه دم كثير قال: هذا قليل.
والصَّحيح الأول: أن المعتبر ما اعتبره أوساط النَّاس، فما اعتبروه كثيراً فهو كثير، وما اعتبروه قليلاً فهو قليل.
وقوله: "نجساً غيرَهُما" نجساً: احترازاً من الطَّاهر، فإذا خرج من بقية البدن شيء طاهر، ولو كَثُرَ فإنه غيرُ ناقض كالعَرَق، واللُّعاب ودمع العين.
وقوله: "غيرَهُما" أي : غير البول والغائط، فدخل في هذا الدَّمُ، والقيءُ، ودَمُ الجروح، وماءُ الجروحِ وكلُّ ما يمكن أن يخرج مما ليس بطاهر.
فالمشهور من المذهب أنَّه إذا كان كثيراً إما عُرفاً، أو كل إنسان بحسب نفسه ـ على حسب الخلاف السابق ـ أنَّه ينقض الوُضُوء، وإن كان قليلاً لم ينقض.
واستدلُّوا على ذلك بما يلي:(140/3)
1ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قاءَ، فأفطرَ، فتوضَّأ(1). وقد قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة {الأحزاب: 21} فلما توضَّأ بعد أن قاء فالأُسوة الحسنة أن نفعل كفعله.
2ـ أنها فضلات خرجت من البدن فأشبهت البول والغائط، لكن لم تأخذْ حكمهما من كلِّ وجهٍ؛ لاختلاف المخرج، فتُعطى حكمهما من وجه دون وجه، فالبول والغائطُ ينقض قليلهُ وكثيرُه؛ لخروجه من المخرج، وغيرهما لا ينقض إلا الكثير.
وذهب الشافعيُّ، والفقهاء ُالسَّبعةُ(2) وهم المجموعون في قول بعضهم:
إذا قيل مَنْ في العلم سبعة أبْحُرٍ روايتهم ليست عن العلم خَارِجَه
فقل: هم عُبَيدُ الله، عروة ، قاسمٌ سعيدٌ، أبو بكرٍ، سليمانُ، خارجه(1)
إلى أنَّ الخارج من غير السَّبيلين لا ينقض الوُضُوء قلَّ أو كثُر إلا البول والغائط. وهذا هو القول الثاني في المذهب(2)، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية(3)، واستدلُّوا بما يلي:
1ـ أن الأصل عدم النَّقض، فمن ادَّعى خلاف الأصل فعليه الدَّليل.
2ـ أن طهارته ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي، فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي.
ونحن لا نخرج ُعمّا دلَّ عليه كتاب الله، وسُنَّة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لأننا متعبَّدون بشرع الله، فلا يسوغ لنا أن نلزم عباد الله بطهارةٍ لم تجبْ، ولا أن نرفَعَ عنهم طهارة ًواجبة.
وأما الحديث الذي استدلُّوا به على نقض الوُضُوء فقد ضعَّفه كثيرٌ من أهل العلم. وأيضاً: هو مجرد فعل، ومجرد الفعل لا يدلُّ على الوجوب؛ لأنه خالٍ من الأمر. وأيضاً: هو مقابل بحديث ـ وإن كان ضعيفاً ـ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ احتجم، وصلَّى، ولم يتوضَّأ(1). وهذا يدلُّ على أن الوُضُوء ليس على سبيل الوجوب، وهذا هو القول الرَّاجح.
قوله: "وزوالُ العقلِ" هذا هو النَّاقض الثَّالث من نواقض الوُضُوء وزوال العقل على نوعين:(140/4)
الأول: زواله بالكُلِّيَّة، وهو رفع العقل، وذلك بالجنون.
الثاني: تغطيته بسبب يوجب ذلك لمدَّة معيَّنة كالنَّوم، والإغماء، والسُّكر، وما أشبه ذلك.
وزوال العقل بالجنون والإغماء والسُّكْرِ هو في الحقيقة فَقْدٌ له، وعلى هذا فيسيرُها وكثيرُها ناقضٌ، فلو صُرِعَ ثم استيقظَ، أو سَكِرَ، أو أُغمي عليه انتقضَ وضوءُه سواءٌ طال الزَّمنُ أم قَصُرَ.
قوله: "إلا يسيرَ نوم من قاعدٍ وقائمٍ" اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في النَّوم هل هو ناقضٌ، أو مظنَّة النَّقض، على أقوالٍ منها:
القول الأول: أن النَّوم ناقضٌ مطلقاً يسيرُه وكثيره(2)، وعلى أيِّ صفة كان؛ لعموم حديث صفوان وقد سبق(1). ولأنَّه حَدَث، والحدثُ لا يُفرَّقُ بين كثيره ويسيره كالبول.
القول الثَّاني: أنَّ النَّوم ليس بناقضٍ مطلقاً(2)؛ لحديث أنس رضي الله عنه أن الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا ينتظرون العِشاء على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حتى تخفِقَ رؤوسهم ثم يُصلُّون ولا يتوضؤون"(3) وفي رواية البزَّار: "يضعون جنوبهم"(4).
القول الثَّالث ـ وهو المذهب ـ: أن النَّوم ليس بِحَدَثٍ ، ولكنه مظنَّة الحدث، ولا يُعفى عن شيء منه إلا ما كان بعيداً فيه الحدث(1)، ولهذا قال المؤلِّف: "إلا يسير نومٍ من قاعدٍ وقائم".
القول الرَّابع ـ وهو اختيار شيخ الإسلام، وهو الصَّحيح ـ: أنَّ النَّوم مظنَّة الحَدَث، فإذا نام بحيث لو انتقض وضوءُه أحسَّ بنفسه، فإن وضوءَه باقٍ، وإذا نام بحيث لو أحدث لم يحسَّ بنفسه فقد انتقض وضوءُه(2).
وبهذا القول تجتمع الأدلَّة، فإن حديث صفوان بن عسَّال دلَّ على أنَّ النَّوم ناقض، وحديث أنس ـ رضي الله عنه ـ دلَّ على أنه غيرُ ناقض.
فيُحمل ما ورد عن الصَّحابة على ما إذا كان الإنسانُ لو أحدث لأحسَّ بنفسه، ويُحمل حديثُ صفوان على ما إذا كان لو أحدث لم يحسَّ بنفسه.(140/5)
ويؤيِّد هذا الجمع الحديثُ المروي "العين وِكَاء السَّهِ، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء"(3) فإذا كان الإنسانُ لم يُحكِمْ وكاءَه بحيث لو أحدث لم يحسَّ بنفسه فإن نومه ناقضٌ، وإلا فلا.
وقوله: "إلاّ يسير نومٍ من قاعد وقائم" هذا استثناء من قول المؤلِّف: "وزوال العقل"، فخرج باليسير: الكثير، وخرج بقوله: "من قائم و قاعد" ما عداهما، فما عدا هاتين الحالين ينقض النَّوم فيها مطلقاً.
فعلى هذا يكون النَّومُ الكثيرُ ناقضاً مطلقاً، والنَّومُ اليسيرُ ناقض أيضاً إلا من قائم وقاعد .
واليسيرُ يُرجَعُ فيه إلى العُرف، فتارة يكونُ يسيراً في زمنه بحيث يغفل غفلة كاملة، وربما يرى في منام شيئاً، لكنه شيء يسير؛ لأنَّه استيقظ سريعاً، ولو خرج منه شيء لشمَّه.
وتارة يكون يسيراً في ذاته بحيث لا يَغْفُل كثيراً في نومه، فمثلاً يسمع المتكلِّمين، أو إذا كلَّمه أحدٌ انتبه بسرعة، أو لو حصل له حَدَث لأحسَّ به.
وظاهر قوله: "من قاعد وقائم" الإطلاق، ولكنهم استثنوا ما إذا كان محتبياً أو متَّكِئاً أو مستنداً فإنه ينتقض وضوءُه؛ لأنه في الغالب يستغرق في نومه، وإذا استغرقَ في نومه، فإنه قد يُحدِثُ ولا يحسُّ بنفسه.
ولو أن رجلاً نام وهو ساجدٌ نوماً خفيفاً، فالمذهب: ينتقضُ وضوءُه؛ لأنه ليس قاعداً ولا قائماً.
وعلى القول الرَّاجح: لا ينتقض إلا في حالِ لو أحدث لم يحسَّ بنفسه.
قوله: "ومسُّ ذكر متَّصل" هذا هو النَّاقض الرَّابع من نواقض الوُضُوء، والمسُّ لا بُدَّ أن يكون بدون حائلٍ؛ لأنَّه مع الحائل لا يُعَدُّ مسًّا.
وقوله: "ذكرٍ" أي: أن الذي ينقض الوُضُوءَ مسُّ الذَّكرِ نفسِه، لا ما حوله.
وقوله: "متَّصلٍ" اشترط المؤلِّف أن يكون متَّصلاً احترازاً من المنفصل، فلو قُطِع ذكرُ إنسان في جناية، أو علاج، أو ما أشبه ذلك، وأخذه إنسان ليدفنه، فإن مسَّه لا ينقض الوُضُوء.(140/6)
وأيضاً: لابُدَّ أن يكون أصليًّا؛ احترازاً من الخُنثى؛ لأن الخُنثى ذكره غيرُ أصليٍّ؛ لأنَّه إن تبيَّن أنَّه أنثى فهو زائد، وإن أشكل فلا ينتقضُ الوُضُوءُ مع الإشكال.
قوله: "أو قُبُلٍ" القُبُل للمرأة، ويُشترَطُ أن يكونَ أصليًّا ليخرج بذلك قُبُل الخُنثى
قوله: "بظهر كفِّه أو بطنه" متعلِّق بـ "مسَّ" أي: لا بُدَّ أن يكون المسُّ بالكفِّ، سواء كان بحرفه، أو بطنه، أو ظهره.
ونصَّ المؤلِّف على ظهر الكفِّ؛ لأن بعض أهل العلم يقول: إنَّ المسَّ بظهر الكفِّ لا ينقض الوُضُوء(1)؛ لأن المسَّ والإمساك عادة إنَّما يكون بباطن الكَفِّ.
والمسُّ بغير الكَفِّ لا ينقض الوُضُوء؛ لأن الأحاديث الواردة في المسِّ باليد كقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "مَنْ أفضى بيده إلى ذَكره ليس بينهما سِترٌ، فقد وجب عليه الوضوءُ".(2) واليد عند الإطلاق لا يُراد بها إلا الكَفُّ لقوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {المائدة: 38} أي: أكُفَّهُما.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في مسِّ الذَّكر والقُبُل هل ينقضُ الوُضُوءَ أم لا؟ على أقوال،
القول الأول: وهو المذهب أنَّه ينقض الوُضُوءَ، واستدلُّوا بما يلي:
1ـ حديث بُسْرَة بنت صفوان أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "مَنْ مَسَّ ذكرَه فليتوضأ"(1).
2ـ حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "إذا أفضى أحدُكُم بيده إلى ذكره؛ ليس دونها سِتْر فقد وجب عليه الوُضُوء".
وفي رواية: "إلى فرجه"(1).
3ـ أن الإنسان قد يحصُل منه تحرُّكُ شهوةٍ عند مسِّ الذَّكر، أو القُبُل فيخرج منه شيء وهو لا يشعر، فما كان مظَّنة الحدث عُلِّق الحكم به كالنَّوم.
القول الثَّاني: أن مسَّ الذَّكَرِ لا ينقضُ الوضوءَ(1)، واستدلُّوا بما يلي:(140/7)
1ـ حديث طَلْقِ بن عليٍّ أنه سأل النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن الرَّجُل يمسُّ ذَكَرَه في الصَّلاة: أعليه وُضُوءٌ؟ فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لا، إنَّما هو بَضْعة منك"(2).
2ـ أنَّ الأصل بقاءُ الطَّهارة، وعدمُ النقض، فلا نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل متيقَّن. وحديث بُسرة وأبي هريرة ضعيفان، وإذا كان فيه احتمالٌ؛ فالأصل بقاءُ الوُضُوء. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "لا ينصرف حتى يسمع صوتاً، أو يجد ريحاً"(1) فإذا كان هذا في السَّببِ الموجبِ حسًّا، فكذلك السَّببُ الموجبُ شرعاً، فلا يمكن أن نلتفت إليه حتى يكون معلوماً بيقين .
القول الثَّالث:أنَّه إنْ مسَّهُ بشهوة انتقض الوُضُوء وإلا فلا(2)، وبهذا يحصُل الجمع بين حديث بُسرة، وحديث طَلْق بن عليٍّ، وإذا أمكن الجمع وجب المصير إليه قبل التَّرجيح والنَّسخ؛ لأنَّ الجَمْعَ فيه إعمال الدَّليلين، وترجيح أحدهما إلغاء للآخر.
ويؤيد ذلك قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّما هو بَضْعَة منك"(3) لأنك إذا مَسَسْتَ ذَكَرَكَ بدون تحرُّكِ شهوة صار كأنما تمسُّ سائر أعضائك، وحينئذٍ لا ينتقض الوُضُوء، وإذا مَسَسْتَه لشهوةٍ فإنَّه ينتقض؛ لأن العِلَّة موجودة، وهي احتمال خروج شيء ناقض من غير شعور منك، فإذا مسَّه لشهوةٍ وجب الوُضُوء، ولغير شهوة لا يجب الُوُضوءِ؛ ولأن مسَّه على هذا الوجه يخالف مسَّ بقية الأعضاء.
قالوا ـ وهم يحاجُّون الحنابلة ـ : لنا عليكم أصل، وهو أنكم قلتم: إنَّ مسَّ المرأة لغير شهوة لا ينقض، ومسَّها لشهوة ينقض؛ لأنه مظنَّة الحدث.
وجمع بعض العلماء بينها بأنَّ الأمر بالوُضُوء في حديث بُسْرة للاستحباب، والنَّفيَ في حديث طَلْق لنفي الوجوب(1)؛ بدليل أنه سأل عن الوجوب فقال: "أعليه" وكلمة: "على" ظاهرة في الوجوب.(140/8)
القول الرَّابع: وهو اختيار شيخ الإسلام أن الوُضُوء من مسِّ الذَّكَر مستحبٌ مطلقاً، ولو بشهوةٍ(2) .
وإذا قلنا: إنه مستحبٌّ، فمعناه أنه مشروع وفيه أجر، واحتياط، وأما دعوى أنَّ حديث طَلْق بن عليٍّ منسوخ، لأنَّه قَدِمَ على النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهو يبني مسجده أول الهجرة(3)، ولم يَعُدْ إليه بعدُ. فهذا غير صحيح لما يلي:
1ـ أنه لا يُصار إلى النَّسخ إلا إذا تعذَّر الجمع، والجمع هنا ممكن.
2ـ أن في حديث طَلْق عِلَّة لا يمكن أن تزول، وإذا رُبط الحُكم بعلَّة لا يمكن أن تزولَ فإن الحكم لا يمكن أن يزولَ؛ لأن الحكم يدور مع عِلَّته، والعلَّة هي قوله: "إنما هو بَضْعَة منك" ولا يمكن في يوم من الأيام أن يكون ذكرُ الإنسان ليس بَضْعَةً منه، فلا يمكن النَّسخ.
3ـ أن أهل العلم قالوا: إن التاريخ لا يُعلم بتقدُّم إسلام الرَّاوي، أوتقدُّم أخذه؛ لجواز أن يكون الرَّاوي حَدَّث به عن غيره.
بمعنى: أنه إذا روى صحابيَّان حديثين ظاهرهما التَّعارض، وكان أحدُهما متأخِّراً عن الآخر في الإسلام، فلا نقول: إنَّ الذي تأخَّر إسلامُه حديثُه يكون ناسخاً لمن تقدَّم إسلامُه، لجواز أن يكون رواه عن غيره من الصَّحابة، أو أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حدَّث به بعد ذلك.
والخلاصة: أن الإنسان إذا مسَّ ذكره استُحِبَّ له الوُضُوءَ مطلقاً، سواء بشهوة أم بغير شهوة، وإذا مسَّه لشهوة فالقول بالوجوب قويٌ جدًّا، لكنِّي لا أجزم به، والاحتياط أن يتوضَّأ.
قوله: "ولمسُهُما من خُنْثَى مُشْكِل" لمسُهُما: أي القُبُل والذَّكر. وقوله "من خُنْثَى مُشْكِلٍ" هو الذي لا يُعلم أذكرٌ هو أم أنثى.
أي: إذا مسَّ قُبُلَ الخُنثى وذَكَرَه انتقض وضوءُه؛ لأنه قد مسَّ فَرجاً أصليّاً إذ إنَّ أحدَهما أصليٌّ قطعاً.
قوله: "ولَمسُ ذَكَرٍ ذَكَرَه" أي: لَمسُ الذَّكرِ ذَكَرَ الخُنْثَى لشهوة.(140/9)
قوله: "أو أنثى قُبُلَه" أي: لَمْسُ الأُنثى قُبُلَ الخُنثَى لشهوة.
قوله: "لشهوة فيهما" أي: فيما إذا مسَّ الذَّكرُ ذكرَ الخُنثى، أو الأنثى قُبُلَهُ.
مثاله: رجلٌ خُنثى، ورجلٌ صحيحٌ، هذا الصَّحيحُ مَسَّ ذَكَرَ الخُنثى لشهوةٍ فينتقضُ وضوءُه.
والعلَّة: أنه لمَّا مسَّ هذا الجزء من بدنه لشهوة، فإن كان أنثى فقد مسَّها لشهوة، ومسُّ المرأ ة لشهوة يَنْقُضُ الوُضُوء على المذهب كما سيأتي(1). وإن كان ذكراً فقد مسَّ ذَكَرَه، ومسُّ الذَّكر ينقض الوُضُوءَ، وعلى هذا يكون وُضُوءُه منتقضاً على كلِّ تقدير. وإنْ مسَّ الرَّجلُّ فرجَ الخُنثى لم ينتقض ِالوُضُوءُ، وإن كان بشهوة؛ لأنَّ الخُنثى إنْ كان ذكراً فقد مسَّه لشهوة، ومسُّ الرَّجُل الرَّجُلَ لشهوة لا ينقضُ الوُضُوء، وإن كان أنثى فقد مسَّ فرجها، لكن ليس لدينا علم الآن بأنَّه أنثى، بل فيه شَكٌّ، فيبقى الوُضُوء على أصله، ولا ينتقض.
وإن كانت الأنثى مَسَّتْ قُبُل الخُنثى لشهوة، فإنه ينتقض الوُضُوء.
مثاله: امرأةٌ صحيحةٌ عندها خُنثى، فمسَّتْ قُبُلَه لشهوةٍ، فإنَّه ينتقضُ الوُضُوء.
والعِلَّة: أنَّه إن كان الخُنثى ذكراً، فقد مسَّتْه لشهوةٍ، ومسُّ المرأة الرَّجُلَ لشهوة ينقض الوُضُوء، وإن كان أنثى فقد مسَّت فرجها، ومسُّ فرج المرأة ينقض الوُضُوء، وعلى هذا يكون وُضوءُها منتقضاً على كلِّ تقدير. والصُّور كما يلي:
1ـ مسُّ أحد فرجي الخنثى المشكل بدون شهوة، فإنه لا ينقض مطلقاً، سواء كان اللامس ذكراً أم أنثى.
2ـ مسُّهُماً جميعاً ، فإنه ينتقض الوُضُوء مطلقاً.
3ـ مسُّ أحد فرجي الخُنثى المشكل بشهوة؛ فله أربع حالات.
حالتان ينتقض الوُضُوء فيهما وهما:
1ـ أن يمسَّ الذَّكرُ ذَكَره.2ـ أن تمسَّ الأنثى فرجه.
وحالتان لا ينتقضُ الوُضُوء فيهما وهما:
1ـ أن يمسَّ الذَّكرُ فرجه.2ـ أن تمسَّ الأنثى ذَكَرَه.
قوله: "ومسُّه امرأة بشهوة". هذا هو النَّاقض الخامس من نواقض الوُضُوء.(140/10)
والضَّمير في قوله: "ومسُّه" يعود على الرَّجُل، أي: مسُّ الرَّجل امرأة بشهوة؛ وظاهره العموم وأنه لا فرق بين الصغير والكبير، والعاقل والمجنون، والحرِّ والعبد.
ولم يقيِّد المؤلِّف المسَّ بكونه بالكَفِّ فيكون عامًّا، فإذا مسَّها بأيِّ موضع من جسمه بشهوة انتقض وضُوءُه.
والباء في قوله "بشهوةٍ" للمصاحبة، أي: مصحوباً بالشَّهوة.
وبعضُهم يعبِّر بقوله: "لشهوة" باللام، فتكون للتعليل(1) ، أي مسًّا تحملُ عليه الشَّهوةُ.
وقوله: "امرأة" المرأة هي البالغة، ولكن البلوغ هنا ليس بشرط، لكن قيَّده بعضُ العلماء ببلوغ سبع سنين، سواءٌ من اللامس أم الملموس(2) . وفيه نظر؛ لأن الغالب فيمن كان له سبع سنوات أنَّه لا يدري عن هذه الأمور شيئاً؛ ولهذا قيَّده بعضُ العلماء بمن يطأ مثله، ومن تُوطأ مثلها، أي: تشتهي(3) . والذي يطأ مثله من الرجال هو من له عشر سنوات، والتي تُوطأ مثلُها من النِّساء هي من تم لها تسعُ سنوات، فعلى هذا يكون الحُكم معلَّقاً بمن هو محلُّ الشَّهوة ، وهذا أصحُّ؛ لأنَّ الحُكم إذا عُلِّق على وصف فلا بُدَّ أن يوجد محلٌّ قابلٌ لهذا الوصف.
واختلف أهل العلم في هذا النَّاقض على أقوال:
القول الأول ـ وهو المذهبُ ـ: أن مسَّ المرأة بشهوة ينقض الوُضُوء(1).
واستدلُّوا:
بقوله تعالى: أو لامستم النساء {المائدة: 6} وفي قراءة سَبعيَّة: "أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَاءَ"(2). والمسُّ واللمس معناهما واحد، وهو الجسُّ باليد أو بغيرها، فيكون مسُّ المرأة ناقضاً للوُضُوء.(140/11)
الآية ليس فيها قيدُ الشَّهوة، إذ لم يقل الله "أو لامستم النساء بشهوة" فالجواب: أن مظنَّةَ الحدث هو لمس بشهوة، فوجب حمل الآية عليها، ويؤيد ذلك أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يُصلِّي من الليل، وكانت عائشةُ ـ رضي الله عنها ـ تمدُّ رجليها بين يديه، فإذا أراد السُّجود غمزها فكفّتْ رجليها(3) ولو كان مجردُ اللَّمس ناقضاً لانتقض وضوءُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ واستأنفَ الصَّلاةَ.
ولأن إيجابَ الوُضُوء بمجرد المسِّ فيه مشقَّةٌ عظيمة، إذ قلّ من يسلمُ منه، ولا سيمَّا إذا كان الإنسان عنده أمٌّ كبيرةٌ، أو ابنة ٌعمياء وأمسك بأيديهما للإعانة أو الدِّلالة. وما كان فيه حرج ومشقَّةٌ فإنه منفيٌّ شرعاً.
القول الثَّاني: أنه ينقضُ مطلقاً، ولو بغير شهوة، أو قصد(1).
واستدلُّوا: بعموم الآية.
وأجابو عن حديث عائشة: بأنه يحتمل أن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يمسُّها بظُفره، والظُّفر في حكم المنفصل، أو بحائل، والدَّليل إذا دخله الاحتمال بطل الاستدلال به. وفي هذا الجواب نَظَر، وهذا ليس بصريح.
القول الثَّالث: أنه لا ينقض مسُّ المرأة مطلقاً، ولو الفرج بالفرج، ولو بشهوة(1).
واستدلُّوا:
1ـ حديث عائشةَ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَبَّلَ بعضَ نسائه، ثم خرج إلى الصَّلاة، ولم يتوضَّأ (2) حَدَّثت به ابنَ اختها عروةَ بن الزبير فقال: ما أظنُّ المرأةَ إلا أنت، فضحكت.
وهذا حديثٌ صحيح، وله شواهدُ متعدِّدةٌ، وهذا دليلٌ إيجابي، وكون التَّقبيل بغير شهوة بعيٌد جداً.
2ـ أنَّ الأصل عدم النَّقض حتى يقومَ دليلٌ صحيح صريحٌ على النَّقض.
3ـ أن الطَّهارة ثبتت بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعيٍّ، فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي، ولا دليل على ذلك وهذا دليل سلبيٌّ.
وأجابوا عن الآية:
بأن المُراد بالملامسة الجِماع لما يلي:(140/12)
1ـ أن ذلك صحَّ عن ابن عباس(1) رضي الله عنهما، الذي دعا له النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يعلِّمه الله التأويل(2) وهو أولى من يُؤخذ قوله في التفسير إلا أن يعارضه من هو أرجح منه.
2ـ أنَّ في الآية دليلاً على ذلك حيث قُسِّمت الطَّهارةُ إلى أصليَّة وبدل، وصُغرى وكُبرى، وبُيِّنَت أسباب كلٍّ من الصُّغرى والكُبرى في حالتي الأصل والبدل، وبيان ذلك أن الله تعالى قال: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين {المائدة: 6} فهذه طهارة بالماء أصليَّة صُغرى.
ثم قال: وإن كنتم جنبا فاطهروا. وهذه طهارة بالماء أصليَّة كُبرى.
ثم قال: وإن كنتم مرضى" أو على" سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا فقوله "فتيمَّمُوا" هذا البدل، وقوله: أو جاء أحد منكم من الغائط هذا بيانُ سبب الصُّغرى، وقوله: أو لامستم النساء هذا بيان سبب الكُبرى.
ولو حملناه على المسِّ الذي هو الجسُّ باليد، لكانت الآية الكريمة ذكر الله فيها سببين للطَّهارة الصُّغرى، وسكت الله عن سبب الطَّهارة الكُبرى مع أنَّه قال: وإن كنتم جنبا فاطهروا وهذا خلاف البلاغة القرآنية.
وعليه؛ فتكون الآية دالة على أن المُراد بقوله: أولامستم النساء أي: "جامعتم"، ليكون اللهُ تعالى ذكر السَّببين الموجبين للطَّهارة، السَّببَ الأكبر، والسَّببَ الأصغَر، والطَّهارتين الصُّغرى في الأعضاء الأربعة، والكُبرى في جميع البدن، والبدُل الذي هو طهارةُ التيمُّمِ في عضوين فقط؛ لأنَّه يتساوى فيها الطَّهارة الكُبرى والصغرى.
فالرَّاجح: أن مسَّ المرأة، لا ينقضُ الوُضُوءَ مطلقاً إلا إذا خرج منه شيءٌ فيكون النَّقضُ بذلك الخارج.
قوله: "أو تمسُّه بها" ضمير المفعول في "تمسُّه" يعود على الرَّجل، أي: أو تمسُّ المرأة الرَّجلَ بشهوة، فينتقض وضوءُها.(140/13)
والدَّليل على ذلك: القياس، فإذا كان مسُّ الرَّجل للمرأة بشهوة ينقض الوُضُوء، فكذا مسُّ المرأة للرَّجُل بشهوة ينقضُ الوُضُوءَ، وهذا مقتضى الطَّبيعة البشرية، وهذا قياسٌ واضحٌ جليٌّ.
وعُلِمَ من قوله: "أو تمسُّه بها" أن المرأة لو مسَّت امرأة لشهوة فلا ينتقض وضوءها، لأن المرأة ليست محلاً لشهوة المرأة الأخرى كما أنَّ الرَّجُل ليس محلاً لشهوة الرَّجُل.
ويمكن أن نقول: إنَّ المرأة إذا مسَّت امرأة لشهوة انتقض وضوءُها بالقياس على ما إذا مسَّت الرَّجُل بشهوة؛ لأن العِلَّة واحدة، ويوجد من النِّساء من تتعلَّق رغبتُها بالشَّابات، كما أنه يوجد من الرِّجال ـ والعياذ بالله ـ من تتعلَّق رغبتهم بالشَّباب، وما دامت العلَّة معقولة، فإن ما شارك الأصلَ في العِلَّة، وجب أن يُعطى حكمُه، لكن سبق أنَّ القولَ الرَّاجح أن مسَّ المرأة لا ينقضُ الوُضُوءَ مطلقاً ما لم يخرج منه شيءٌ، فما تفرَّع عنه فهو مثله.
قوله: "ومسُّ حلْقةِ دُبُرٍ". هذا من النواقض، ولا يحتاج إلى أن يُخَصَّ؛ لأنَّه داخل في عموم مسِّ الفَرْج، ولكن لما ذكر المؤلِّفُ "مسَّ الذَّكر احتاج إلى أن يقول:"ومسُّ حلْقة دُبُرٍ" ولو قال هناك: "مسُّ الفَرْج" ِلكان أعمَّ ولم يحتج إلى ذكر الدُّبر.
وقد روى الإمامُ أحمد من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "من مسَّ فرجه فليتوضَّأ"(1) والدُّبُرُ فَرْجٌ ـ لأنه منفرجٌ عن الجوف، ويخرج منه ما يخرج.
وعلى هذا فإنه ينتقضُ الوضوءُ بمسِّ حلْقة الدُّبُر، وهذا فرعٌ من حكم مسِّ الذَّكر فليُرجعْ إليه لمعرفة الراجح في ذلك(2).
وقوله: "حلْقة دُبُر" يخرج به ما لو مسَّ ما قَرُب منها كالصفحتين، وهما جانبا الدُّبُر، أو مسَّ العجيزة، أو الفخذ، أو الأنثيين، فلا ينتقض الوُضُوء.
قوله: "لا مسَّ شَعْرٍ" أي: لا ينقض مسٌّ شعرٍ ممن ينقضُ مسُّه كمس المرأة بشهوة على المذهب.(140/14)
مثاله: رجلٌ مسَّ شَعْر امرأته بشهوة، ولم يخرجْ منه شيءٌ، فإنَّه لا ينتقض وضوءه، لأن الشَّعْر في حكم المنفصل، فكما لو مسَّ خمارها لم ينتقض وضوءُه ولو بشهوة، فكذا الشَّعر؛ لأنه في حكم المنفصل، ولا حياة فيه.
قوله: "وظُفُر" يعني: لو مسَّ ظُفْر من ينقضُ الوُضُوءَ مسُّه لم ينقضْ وضوءه(3).
مثاله:رجل مسَّ ظُفْر امرأته لشهوة فإنه لا ينتقض وضوءُه، سواء طال هذا الظُّفْر، أم قَصُر.
وكذا السِّنُّ، فلو مسَّه بشهوة لا ينتقضُ وضوءُه، لأنَّه في حكم المنفصل ولا حياة فيه ولا شعور.
وقال ابن عقيل: إذا قلتم: إن هذه الثَّلاثة لا حياة فيها، فقولوا: إنَّ المسَّ بالعضو الأشلِّ لا ينقض الوُضُوء أيضاً، وأنتم تقولون بأنَّه ينقض(1).
قوله: "وأمْرَدٍ" أي: لا ينقضُ الوُضُوء مَسُّ الأمرد، وهو من طرّ شاربُه، أي: اخضَرَّ ولم تنبت لحيتُه؛ لأنه ليس محلاً للشهوة، ولذا قال لوط لقومه: أتأتون الذكران من العالمين 165 وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم {الشعراء: 165، 166}.
فالذَّكَر لم يُخلق للذَّكر فهو كما لو مسَّ بنت ثلاثة أشهر؛ لأن كُلاًّ منهما ليس محلاًّ للشَّهوة.
وهذا القول ضعيف جدًّا، إذا قلنا بنقض الوُضُوء بمسِّ المرأة لشهوة؛ لأن من النَّاس ـ والعياذ بالله ـ من قَلَبَ اللهُ حِسَّه وفطرته فأصبح يشتهي الذُّكور دون النِّساء، بل أشدُّ.
وقوم لوط لما جاؤوا إلى لوط قال: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فقالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق وإنك لتعلم ما نريد {هود: 79} يقصدون الملائكة الذين أتوا في صورة شباب.
والصَّواب: أن مسَّ الأمرد كمسِّ الأُنثى سواء، حتى قال بعض العُلماء: إنَّ النَّظر إلى الأمرد حرامٌ مطلقاً كالنظر إلى المرأة فيجب عليه غَضُّ البصر(1).(140/15)
وقال شيخ الإسلام: لا تجوز الخلوةُ بالأمرد، ولو بقصد التَّعليم(2)؛ لأن الشَّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدَّم،وكم من أُناس كانوا قتلى لهذا الأمرد، فأصبحوا فريسة للشَّيطان والأهواء، وهذه المسألة يجب الحذر منها.
ولهذا كان القول الرَّاجحُ أن عقوبةَ اللوطيِّ ـ فاعلاً كان أو مفعولاً به إذا كان راضياً ـ القتلُ بكلِّ حالٍ إذا كانا بالغين عاقلين، حتى وإن لم يكونا محصنين.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن الصَّحابةَ رضي الله عنهم أجمعوا على قتلِ الفاعلِ والمفعولِ به، لكن اختلفوا كيف يُقتلُ.(3)
فأبو بكر، وعبدالله بن الزُّبير، وخالد بن الوليد حرَّقوهم بالنَّار؛ لأن فعلتهم هذه من أقبح المنكرات، ولهذا قال الله في الزِّنا: ولا تقربوا الزنى" إنه كان فاحشة {الإسراء: 32} يعني: من الفواحش؛ لأن "فاحشةً" نكرة.
وقال الله في اللِّواط: أتأتون الفاحشة {الأعراف: 80} فكأنها بلغت في الفُحْشِ غايتَه، وأعلاه.
والإمام يقتله بما يردع عن هذه الفِعلة الخبيثة؛ لأنه لا يمكن التحرُّز منها إطلاقاً، فالزِّنا يُتَحرَّز منه، فإذا رأينا رجلاً معه امرأة غريبة، قلنا له: من هذه؟ أما الرَّجُلُ مع الرَّجُل فلا يمكن ذلك.
وهذا كما قالوا: إن قتل الغيلة موجبٌ للقتل بكلِّ حال، ولوعفا أولياء المقتول، لأنه لا يمكن التحرُّز منه(1).
قوله: "ولا مع حائل" أي: ولا ينقض مسٌّ مع حائل؛ لأنَّ حقيقة المسِّ الملامسةُ بدون حائل.
قوله: "ولا ملموسٍ بدنُه" يعني : ولا ينتقضُ وضوءُ ملموسٍ بدنُه، فلو أن امرأة مسَّها رَجُلٌ بشهوةٍ، فلا ينتقض وضوءُها، وينتقض وضوءُ الرَّجُل.
قوله: "ولو وُجِدَ منه شهوة" أي: ولو وُجِدَ من الملموس بدنُه شهوة؛ٌ فإن وضوءَه لا ينتقضُ؛ وهذا غريبٌ: أنه لا ينتقضُ وضوءُ الملموس.
مثاله: شابٌّ قَبَّلَ زوجته وهي شابَّةٌ بشهوة، وهي كذلك بشهوة فيجب عليه الوضوء، ولا يجب عليها مع أن العِلَّة واحدة.(140/16)
ولهذا كان القول الصَّحيح في هذه المسألة: أن الملموس إذا وُجِدَ منه شهوةٌ انتقض وضوءُه؛ على القول بأنَّ اللامس ينتقض وضوءُه، وهو القياس.
قال الموفق ـ رحمه الله ـ : كل بشرتين حصل الحدثُ بمسِّ إحداهما؛ فإن الطَّهارة تجبُ على اللامس والملموس، كالختانين فيه مُجَامَع ومُجَامِع، إذا التقى الختانان بدون إنزال منهما وجب الغسل عليهما جميعاً(1).
وهذا الذي قاله الموفق ـ رحمه الله ـ هو الصَّوابُ؛ لكنَّه مبنيٌّ على القول بأن مسَّ المرأة بشهوة ينقض الوُضُوءَ، وقد سبق أن الرَّاجحَ أنه لا ينقض إلا أن يخرج منه شيء .
قوله: "وينقضُ غَسْلُ ميِّتٍ" هذا هو النَّاقضُ السَّادسُ من نواقض الوضوء.
والغَسل بالفتح: بمعنى التغسيل، وبالضم، المعنى الحاصل بالتغسيل، ومعنى: ينقض غَسلُ ميِّت: أي: تغسيل ميِّت، سواء غَسَل الميَّتَ كلَّه أو بعضَه.
الثَّاني: ما رواه أنس في قصة العُرنيين أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمرهم أن يلحقوا بإبل الصَّدقة، ويشربوا من أبوالها وألبانها(1).. ولم يأمرْهم أن يتوضؤوا من ألبانها، مع أن الحاجة داعية إلى ذلك، فدلَّ ذلك على أن الوُضُوء منها مستحبٌّ.
(مسألة) الوُضُوء من مرقِ لحم الإبل.
المذهب: أنه غير واجب، ولو ظهر طعمُ اللَّحم؛ لأنه لم يأكل لحماً.
وفيه وجه للأصحاب: أنه يجب الوُضُوء(2)؛ لوجود الطعم في المرق، كما لو طبخنا لحم خنزير، فإن مرقه حرام. وهذا تعليل قويٌّ جداً. فالأحوط أن يتوضَّأ، أما إذا كان المرق في الطَّعام، ولم يظهر فيه أثره فإنه لا يضرُّ.
فإن قيل: ما الحكمة من وجوب الوُضُوء من أكل لحم الإبل؟
فالجواب من وجهين:
الأول: أن الحكمة أمرُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكل ما أتى به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ من الأحكام فهو حكمة.
قال تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم {الأحزاب: 36}(140/17)
وقالت عائشة لما سُئلت: ما بال الحائضُ تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة؟ قالت: "كان يُصيبُنا ذلك على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فنؤمر بقضاء الصَّوم، ولا نؤمر بقضاء الصَّلاة"(1).
ولأننا نؤمن ـ وو الحمد ـ أن الله لا يأمر بشيء إلا والحكمة تقتضي فعلَه، ولا ينهى عن شيء إلا والحكمة تقتضي تركَه.
الثاني: أن بعض العلماء التمس حكمةً فقال: إن لحم الإبل شديدُ التَّأثير على الأعصاب، فيُهَيِّجها(2)؛ ولهذا كان الطبُّ الحديث ينهى الإنسان العصبي من الإكثار من لحم الإبل، والوُضُوء يسكِّن الأعصاب ويبرِّدها. كما أمر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بالوُضُوء عند الغضب(3)؛ لأجل تسكينه.
وسواء كانت هذه هي الحكمة أم لا؛ فإن الحكمة هي أمر النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، لكن إن علمنا الحكمة فهذا فَضْلٌ من الله وزيادة علم، وإن لم نعلم فعلينا التَّسليم والانقياد.
قوله: "وكلُّ ما أوجب غُسْلاً أوجب وُضُوءاً" هذا هو النَّاقض الثَّامن من نواقض الوُضُوء وبه تمَّت النَّواقضُ.
أي: وكلُّ الذي أوجب غسلاً أوجب وُضُوءاً. وهذا ضابط.
ولابُدَّ من معرفة موجبات الغسل حتى نعرف أن هذا الذي أوجب غسلاً أوجب وُضُوءًا، فيكون هذا إحالة على باب وسيأتي إن شاء الله(1).
فالحدث الأكبر يدخل فيه الحَدَث الأصغر.
مثال ذلك: خروجُ المنيِّ موجبٌ للغسل، وهو خارجٌ من السَّبيلين فيكون ناقضاً للوُضُوء بقاعدة: أن ما خرج من السَّبيلين فهو ناقض.
وهذا الضَّابط في النَّفس منه شيء لقوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا {المائدة: 6} فأوجب الله في الجنابة الغسل فقط، ولم يوجب علينا غسلَ الأعضاء الأربعة، فما أوجب غُسْلاً لم يوجب إلا الغُسْل، إلا إن دَلَّ إجماع على خلاف ذلك، أو دليل.
ولهذا فالراجح: أن الجنب إذا نوى رفع الحدث كفى، ولا حاجة إلى أنَّ ينويَ رفع الحدث الأصغر.(140/18)
قوله: "إلا الموتَ". فالموت موجبٌ للغسل، ولا يوجب الوُضُوءَ بمعنى أنه لا يجب على الغاسل أن يوضِّئ الميَّت أولاً.
فلو جاءٌ رجل وغمس الميِّتَ في نهرٍ ناوياً تغسيله ثم رفعه فإنه يجزئ.
وهذا من غرائب العلم كيف ينفون وجوب الوُضُوء في تغسيل الميِّت مع أن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "ابدأن بميامنها، ومواضع الوُضُوء منها"(1).
والتعليلُ على المذهب لاستثناء الموت: أن الشَّارع إنما أمر بتغسيل الميت فقط.
فيُقال: وكذا الشارع أمر بتغسيل الميت والبداءة بمواضع الوضوء منه.
فإن قالوا: إن الموت حَدَث لا يرتفع.
قلنا: ولكن الأثر الحاصل بتغسيله عندكم بمعنى ارتفاع الحَدَث، لأننا غسَّلناه وحكمنا بطهارته مع أن الحَدَث الموجب للطَّهارة ما زال باقياً، فيكون بمعنى ارتفاع الحدث.
ونحن نوافق أن الموت موجبٌ للغسل، ولا يوجب الوُضُوء، لعدم الدَّليل الصريح على وجوب الوُضُوء. وإن كان يحتمل أن الوُضُوء واجب؛ لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "ومواضع الوُضُوء منها"(1).
فالظاهَّر أن موجبات الغُسْل لا توجب إلا الغُسْل لعدم الدَّليل على إيجاب الوُضُوء.
قوله: "ومن تيقَّن الطَّهارة وشَكَّ في الحدث أَوْ بالعَكْسِ بَنَى على اليقينِ" يعني: إذا تيقَّن أنه طاهر، وشك في الحدث فإنه يبني على اليقين، وهذا عام في موجبات الغُسل، أو الوُضُوء.
مثاله: رجل توضَّأ لصَلاة ِ المغرب، فلما أذَّن العِشَاء وقام ليُصلِّي شَكَّ هل انتقض وضوءُه أم لا؟
فالأصل عدم النَّقضِ فيبني على اليقين وهو أنه متوضِّيء.
مثال آخر: استيقظ رجلٌ فوجد عليه بللاً، ولم يرَ احتلاماً، فشكَّ هل هو منيٌّ أم لا؟ فلا يجب عليه الغسل للشَّكِّ.
ولو رأى عليه أثر المنيِّ وشكَّ هل هو من الليلة البعيدة أم القريبة؟ يجعله من القريبة لأنها مُتيقَّنة، وما قبلها مشكوك فيه.(140/19)
ودليل ذلك حديث أبي هريرة، وعبدالله بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ في الرَّجُل يجد الشيءَ في بطنه، ويُشْكِلُ عليه: هل خرج منه شيء أم لا؟ فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لا ينصرف حتى يسمعَ صوتاً ، أو يجد ريحاً"(1) وفي حديث أبي هريرة: "لا يخرجْ"(1) أي: من المسجد"حتى يسمعَ صوتاً أو يجدَ ريحاً"(1) مع أن قرينةَ الحَدَثِ موجودةٌ، وهي ما في بَطْنِهِ من القرقرة والانتفاخ.
وقوله: "أو بالعكس" يعني أن من تَيَقَّنَ الحدثَ وشكَّ في الطَّهارة، فالأصْل الحدث.
ويُستدلُّ لهذه المسألة بحديث أبي هريرة، وعبد الله بن زيد من باب قياس العكس.
وقياس العكس ثابت في الشَّريعة، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "وفي بِضْعِ أحدكم صدقة"، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدُنا شهوَتَه، ويكون له فيها أجْرٌ؟ قال: "نعم، أرأيتم لو وَضَعَها في حرام؛ أكان عليه وِزْر؟" قالوا: نعم، فقال: "فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجرٌ"(1).
وكذا لو كان عليه جنابة، وشكَّ هل اغتسل أم لا؟ فإنه يغتسل، ولا يتردَّد.
وهذه ـ أعني البناءَ على اليقين وطرح َالشَّكِّ ـ قاعدةٌ مهمَّة، دَلَّ عليها قولُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"إذا شَكَّ أحدكم في صلاته فليطرح الشَّكَّ وليَبْنِ على ما استيقن"(2) ولها فروع كثيرة جدًّا في الطلاق والعقود وغيرهما من أبواب الفقه، فمتى أخذ بها الإنسان انحلَّت عنه إشكالات كثيرة، وزال عنه كثير من الوَساوس والشُّكوك، وهذا من بَرَكَةِ كلام النبي ِّصَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وحكمه.(140/20)
وهو أيضاً من يُسْرِ الإسلام وأنه لا يريد من المسلمين الوُقوعَ في القلق والحيرة؛ بل يريد أن تكون أمورهم واضحة جليَّة، ولو استسلم الإنسان لمثل هذه الشُّكوك لتنغَّصت عليه حياته؛ لأنَّ الشَّيطان لن يقف بهذه الوساوس والشكوك عند أمور الطَّهارة فقط ، بل يأتيه في أمور الصَّلاة والصِّيام وغيرهما، بل في كلِّ أمور حياته؛ حتى مع أهله، فَقَطَعَ الشَّارع هذه الوساوس من أصلها، وأمر بتركها، بل ودفعها حتى لا يكون لها أَثَرٌ على النَّفس.
قوله: "فإن تَيَقَّنَهُمَا وجهل السَّابق". أي: تيقَّن أنه مرَّ عليه طهارةٌ وحَدَثٌ تَيَقَّنَهُمَا جميعاً، ولكن لا يدري أيُّهما الأول، فيُقال له: ما حالُكَ قَبْلَ هذا الوقت الذي تبيَّن لك أنَّكَ أحدثت وتَطَهَّرْتَ فيه؟
فإن قال: محدث، قلنا: أنت الآن متطهِّر. وإن قال: متطهِّر، قلنا: أنت الآن محدث.
مثاله: رجل متيقِّنٌ أنَّه على وُضُوء من صلاة الفجر إلى طلوع الشَّمس، وبعد طلوع الشمس بساعة أراد أن يُصلِّي الضُّحَى، فقال: أنا متيقِّن أنَّه من بعد طلوع الشَّمس إلى الآن حصل مِنِّي حَدَث ووُضُوء، ولا أدري أيُّهُمَا السَّابق. نقول: أنت الآن محدث.
وإن قال: أنا متيقِّن أني بعد صلاة الفجر نَقَضْتُ الوُضُوءَ، وبعد طلوع الشمس حَصَلَ مِنِّي حَدَثٌ ووُضُوء، نقول: أنت الآن طاهر.
والتَّعليل: أنه تيقَّن زوال تلك الحال إلى ضِدِّها، وشَكَّ في بقائه، والأصل بقاؤه.
ففي الصُّورة الأولى تيقَّن أنَّه كان على وُضُوء إلى طلوع الشَّمس، ثم تيقَّن أنه أحْدَثَ بعد ذلك، ثم شَكَّ هل زال الحدث أم لا؟ فيُقال: إنك محدث لأنَّ الأصل بقاء الحدَثِ الذي تَيَقَّنْتَه، وهكذا.
فإن تيقَّن الطَّهارة والحَدَث؛ وجهل السَّابق منهما؛ وجهل حاله قَبْلَهُمَا؛ وَجَبَ عليه الوُضُوء؛ لأنه ليس هناك حال متيقَّنة ويُحَالُ الحكم عليها. وهذا هو المذهب.
وقال بعض العُلماء: إنه يجب الوُضُوء مطلقاً(1).(140/21)
والتَّعليل: أنَّه تيقَّن أنه حصل له حالان، وهذان الحالان مُتَضَادّان ولا يدري أيُّهما الأسبق، فلا يدري أيُّهما الوارد على الآخر فيتساقطان، وقد تيقَّن زوال تلك الحال الأولى، فيجب عليه الوُضُوء احتياطاً كما لو جهل حاله قبلهما.
والقول بوجوب الوُضُوء أَحْوَط، لأنه مثلاً بعد طلوع الشمس متيقِّن أنه أَحْدَثَ وتَوَضَّأ، ولا يدري الأسبق منهما، وفيه احتمال أنه توضَّأ تجديداً ثم أحدث، فصار يجب عليه الوُضُوء الآن، وإذا كان هذا الاحتمال وارداً فلا يخرج من الشَّكِّ إلا بالوُضُوءِ.
وهذا الوُضُوء إنْ كان هو الواجب فقد قام به، وإلا فهو سُنَّةٌ. والفقهاء رحمهم الله قالوا: إذا قَوِيَ الشَّكُّ فإنه يُسَنُّ الوُضُوء؛ لأجل أن يُؤَدِّي الطَّهَارة بيقين(1).
والحاصل أن الصُّوَرَ أربع وهي:
الأولى: أن يتيقَّن الطَّهارة ويَشُكَّ في الحَدَثِ.
الثانية: أن يتيقَّن الحَدَثَ ويشكَّ في الطَّهارة.
الثَّالثة: أن يَتَيَقَّنَهُمَا ويجهلَ السَّابق منهما، وهو يعلم حاله قَبْلَهُمَا.
الرَّابعة: أن يَتَيَقَّنَهُمَا ويجهلَ السَّابق منهما، وهو لا يعلم حاله قَبْلَهُمَا. وقد تبيَّن حكم كلِّ حالٍ من هذه الأحوال.
وبهذا التَّقسيم وأمثاله يتبيَّن دقَّة ملاحظة أهل العِلْمِ؛ وأنه لا تكاد مسألة تَطْرأُ على البال إلاّ وذكروا لها حُكْماً، وهذا من حِفْظِ الله تعالى للشَّريعة، لأنَّه لولا هؤلاء العلماء الأَجِلاّء الذين فَرَّعوا على كتاب الله تعالى وعلى سُنَّةِ رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ما فَرَّعوا؛ لفاتنا كثير من هذه الفروع.
قوله: "ويحرم على المحدِث مسُّ المصحف". المصْحَفُ: ما كُتِبَ فيه القرآن سواء كان كاملاً، أم غير كامل، حتى ولو آية واحدة كُتِبَتْ في ورقة ولم يكن معها غيرها؛ فحكمها حكم المصحف.
وكذا اللَّوح له حكم المصحف؛ إلا أن الفقهاء استثنوا بعض الحالات.(140/22)
وقوله :"المحدِث" أي: حدثاً أصغر أو أكبر؛ لأن "أل" في المحدث اسم موصول فتشمل الأصغر والأكبر.
والحَدَثُ:وصف قائم بالبَدَنِ يمنع مِنْ فِعْلِ الصلاة ونحوها مما تُشترط له الطَّهارة.
والدَّليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: إنه لقرآن كريم ( 77 ) في كتاب مكنون ( 78 ) لا يمسه إلا المطهرون ( 79 ) تنزيل من رب العالمين ( 80 ) {الواقعة: 77 - 80}
وجه الدِّلالة: أنَّ الضَّمير في قوله: "لا يمسُّه" يعود على القرآن، لأنَّ الآيات سِيقت للتَّحدُّث عنه بدليل قوله: تنزيل من رب العالمين {الواقعة: 80} والمنزَّل هو هذا القرآن، والمُطَهَّر: هو الذي أتى بالوُضُوء والغُسُل من الجنابة، بدليل قوله: ولكن يريد ليطهركم {المائدة: 6}(1).
فإن قيل: يَرِدُ على هذا الاستدلال: أنَّ "لا" في قوله: "لا يمسُّه" نافية، وليست ناهية، لأنه قال:"لا يمسُّه" ولم يقل:"لا يمسَّه"؟.
قيل: إنه قد يأتي الخبر بمعنى الطَّلب، بل إن الخبر المراد به الطَّلب أقوى من الطَّلب المجرَّد، لأنه يُصوِّر الشيءَ كأنه مفروغ منه، ومنه قوله تعالى: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا {البقرة: 234} فقوله "يَتَرَبَّصْنَ" خبر بمعنى الأمر. وفي السُّنَّة: "لا يبيع الرَّجُل على بيع أخيه"(2) بلفظـ الخبر، والمراد النَّهي.
2ـ ما جاء في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلى أهل اليمن وفيه: "... ألا يمسَّ القرآن إلا طاهر..."(1).
والطَّاهر: هو المُتطهِّرُ طهارة حسِّيَّة من الحَدَث بالوُضُوء أو الغُسُل، لأن المؤمن طهارته معنوية كاملة، والمصحف لا يمسُّه غالباً إلا المؤمنون، فلما قال: "إلا طاهر" عُلم أنها طهارة غير الطَّهارة المعنوية، بل المراد الطَّهارة من الحَدَثِ ويَدُلُّ لهذا قوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم {المائدة: 6} أي طهارة حسِّيَّة؛ لأنه قال ذلك في آية الوضوء والغُسل.(140/23)
3ـ من النَّظر الصَّحيح: أنَّه ليس في الوجود كلام أشرف من كلام الله، فإذا أَوْجَبَ الله الطَّهارة للطَّوَاف في بيته، فالطَّهارة لِتِلاوَةِ كتابه الذي تَكَلَّم به من باب أولى، لأننا نَنْطُق بكلام الله خارجاً من أفواهنا، فَمُمَاسَّتنا لهذا الكلام الذي هو أشرف من البناء يقتضي أن نكون طاهِرِين؛ كما أن طوافنا حول الكعبة يقتضي أن نكون طاهرين، فتعظيماً واحتراماً لكتاب الله يجب أن نكون على طهارة.
وهذا قول جمهور العلماء ومنهم الأئمة الأربعة(1) .
وقال داود الظَّاهري وبعض أهل العلم: لا يحرم على المُحْدِثِ أن يَمَسَّ المصحف(2).
واستدلُّوا: بأن الأصل براءة الذِّمة، فلا نُؤَثِّم عباد الله بفعل شيء لم يَثْبُتْ به النَّص.
وأجابوا عن أدلَّة الجمهور:
أما الآية فلا دلالة فيها، لأن الضَّمير في قوله: "لا يمسُّه" يعود إلى "الكتاب المكنون"، والكتاب المكنون يُحْتَمَلُ أن المرادَ به اللوحُ المحفوظ، ويُحْتَمَلُ أن المرادَ به الكتب التي بأيدي الملائكة. فإن الله تعالى قال: كلا إنها تذكرة ( 11 ) فمن شاء ذكره ( 12 ) في صحف مكرمة ( 13 ) مرفوعة مطهرة ( 14 ) بأيدي سفرة ( 15 ) كرام بررة {عبس: 11 - 16} وهذه الآية تفسير لآية الواقعة فقوله: في صحف مكرمة كقوله: في كتاب مكنون {الواقعة: 78}
وقوله: بأيدي سفرة كقوله: لا يمسه إلا المطهرون{الواقعة: 79}.
والقرآنُ يُفسِّر بعضه بعضاً،ولو كان المراد ما ذَكَرَ الجمهور لقال: "لا يمسُّه إلا المطَّهِّرون" بتشديد الطاء المفتوحة وكسر الهاء المشددة يعني: المتطهرين، وفرق بين "المطهِّر" اسم مفعول، وبين "المتطهِّر" اسم فاعل، كما قال الله تعالى : إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين 222 {البقرة: 222} .(140/24)
وقولهم: إن الخبر يأتي بمعنى الطَّلب، هذا صحيح لكن لا يُحْمَلُ الخبر على الطلب إلا بقرينة، ولا قرينة هنا، فيجب أن يبقى الكلام على ظاهره، وتكون الجملة خَبَرِيَّة، ويكون هذا مؤيِّداً لما ذكرناه من أن المراد بـ "المطهَّرون"، الملائكة كما دلَّت على ذلك الآيات في سورة "عبس" .
وأما قوله: تنزيل من رب العالمين {الواقعة: 80} فهو عائدٌ على القرآن، لأن الكلام فيه، ولا مانع من تداخل الضَّمائر، وعود بعضها إلى غير المتَحدَّث عنه، ما دامت القرينة موجودة.
ثم على احتمال تساوي الأمرين فالقاعدة عند العلماء أنه إذا وُجِدَ الاحتمال بَطلَ الاستدلال. فيسقط الاستدلال بهذه الآية، فنرجع إلى براءة الذِّمة.
وأما بالنسبة لحديث عمرو بن حزم: فهو ضعيف، لأنه مُرسَل، والمرسل من أقسام الضَّعيف، والضَّعيف لا يُحْتَجُّ به في إثبات الأحكام؛ فضلاً عن إثبات حُكْمٍ يُلْحِقُ بالمسلمين المشَقَّة العظيمة في تكليف عِبَّاد الله ألا يقرؤوا كتابه إلا وهم طاهرون، وخاصَّة في أيام البرد.
وإذا فرضنا صِحَّتَهُ بناءٍ على شُهْرَتِهِ فإن كلمةَ "طاهر" تَحْتَمِلُ أن يكونَ طاهرَ القلب من الشِّرك، أو طاهر البَدَنِ من النَّجَاسَة، أو طاهراً من الحدث الأصغر؛ أو الأكبر، فهذه أربعة احتمالات، والدَّليل إذا احتمل احتمالين بَطلَ الاستدلال به، فكيف إذا احتمل أربعة؟
وكذا فإن الطاَّهر يُطْلَقُ على المؤمن لقوله تعالى: إنما المشركون نجس {التوبة: 28} وهذا فيه إثبات النَّجَاسَةِ للمُشْرِكِ.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّ المؤمنَ لا يَنْجُس"(1) وهذا فيه نَفْيُ النَّجاسة عن المؤمن، ونفي النَّقيضِ يستلزم ثبوت نقيضه، لأنَّه ليس هناك إلا طَهَارة أو نَجَاسة، فلا دلالة فيه على أن مَسَّ المصْحَفِ لا يكون إلا من مُتَوضِّيء.
وأما بالنِّسبة للنَّظَر: فنحن لا نُقِرُّ بالقياس أصلاً، لأن الظَّاهِريَّة لا يقولون به.(140/25)
وعندي: أن ردَّهم للاستدلال بالآية واضح، وأنا أوافقهم على ذلك.
وأما حديث عمرو بن حزم فالسند ضعيف كما قالوا(1) ، لكنْ مِنْ حيثُ قَبُولُ النَّاسِ له، واسْتنادُهم عليه فيما جاء فيه من أحكام الزَّكاة والدِّيات وغيرها، وتلقِّيهم له بالقَبُول يَدلُّ على أنَّ له أصلاً، وكثيراً ما يكون قَبُول النَّاس للحديث سواء كان في الأمور العلميَّة أو العَمَليَّة قائماً مقام السَّند، أو أكثر، والحديث يُسْتَدلُّ به من زمن التابعين إلى وقتنا هذا، فكيف نقول: لا أَصْلَ له؟ هذا بَعيد جدًّا.
وكنت في هذه المسألة أميل إلى قول الظَّاهِريَّة، لكنْ لمَّا تأمَّلتُ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "لا يمسُّ القرآن إلا طاهر" والطَّاهرُ يُطْلَق على الطَّاهر من الحدث الأصغر والأكبر لقوله تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم {المائدة: 6} ولم يكن من عادة النبي ِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يُعَبِّرَ عن المؤمن بالطَّاهر؛ لأنَّ وَصْفَهُ بالإيمان أَبْلَغُ، تبيَّن لي أنَّه لا يجوز أن يمسَّ القرآنَ مَنْ كان محدثاً حدثاً أصغر، أو أكبر، والذي أَرْكُنُ إليه حديث عمرو بن حزم، والقياس الذي استُدلَّ به على رأي الجمهور فيه ضعف، ولا يقوى للاستدلال به، وإنَّما العُمْدَة على حديث عمرو بن حزم.
وقد يقول قائل: إنَّ كتابَ عمرو بن حزم كُتِبَ إلى أهل اليَمَنِ، ولم يكونوا مسلمين في ذلك الوقت، فَكَوْنُهُ لِغَيْرِ المسلمين يكون قرينة أنَّ المراد بالطَّاهر هو المؤمِن.
وجَوَابُه: أن التَّعبير الكثير مِنْ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يُعَلِّقَ الشَّيء بالإيمان، وما الذي يَمْنَعُهُ مِنْ أن يقول: لا يَمَسُّ القرآنَ إلا ُمُؤْمِنٌ، مع أنَّ هذا واضح بَيِّن.
فالذي تَقَرَّرَ عندي أخيراً: أنَّه لا يجوز مَسُّ المصْحَفِ إلا بِوُضُوء.(140/26)
(مسألة) هل المحرَّمُ مَسُّ القرآنِ، أو مَسُّ المصحفِ الذي فيه القرآن؟ فيه وَجْهٌ للشَّافعية: أن المحرَّم مسُّ نَفْس الحروفِ دونَ الهوامِش(1)، لأنَّ الهوامِش وَرَقٌ، قال تعالى: بل هو قرآن مجيد 21 في لوح محفوظ {البروج: 21، 22} والظَّرف غير المظروف.
وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لا يَمَسَّ القرآنَ إلا طَاهِرٌ"(2).
وقال الحنابلة: يَحْرُمُ مَسُّ القرآن وما كُتِبَ فيه؛ إلا أنَّه يجوز للصَّغير أن يَمَسَّ لوحاً فيه قُرآن بِشَرْطِ ألاّ تقع يَدُهُ على الحروف(1).
وهذا هو الأحوط؛ لأنه يَثْبُتُ تبعاً ما لا يَثْبُتُ استقلالاً.
(مسألة) هل يَشْمُل هذا الحُكْم مَنْ دونَ البُلُوغ.
قال بعض العلماء: لا يَشْمُل الصِّغارَ لأنَّهم غير مكلَّفين(2)، وإذا كانوا غير مكلَّفين فكيف نُلزمهم بشَيءٍ لا يتعلَّق به كُفْر، ولا ما دون الكُفْرِ؛ إلا أنه مَعْصِيَة للكبير، وهؤلاء ليسوا من أهل المعاصي لِرَفْعِ القلمِ عنهم.
وهل يلزم وَلِيُّهُ أنْ يأمره بذلك، أو لا يلزمه؟
الصَّحيح عند الشَّافعية: أنه لايلزمه الوُضُوء، ولا يَلزم وليَّه أن يُلزِمه به(3)؛ لأنه غير مكلَّف.
ولأن إلزام وليِّه به فيه مَشَقَّة وهو غير واجب عليه، وإذا كان فيه مشقَّة في أمر لا يجب على الصَّغير، فإنه لا يُلزِمه به وَلِيُّه.
والمشهور عند الحنابلة: أنه لا يجوز للصَّغير أن يَمَسَّ القرآن بلا وُضُوء، وعلى وليِّه أن يُلزِمه به كما يلزمه بالوُضُوءِ للصَّلاة(1)، لأنه فعل تُشترط لحِلِّه الطَّهارة، فلا بُدَّ من إلزام وليِّه به.
واستثنوا "اللَّوح"، فيجوز للصَّغير أن يَمَسَّه ما لَمْ تقع يدُه على الحروف(1). وعَلَّلَ بعضُهم ذلك بالمشقَّة(2)، وعَلَّلَ آخرون بأنَّ هذه الكتابة ليست كالتي في المصحف(2)، لأن التي في المصحف تُكْتَبُ للثُّبوت والاستمرار، أمَّا هذه فلا.(140/27)
ولو كَتَبْتَ قرآناً معكوساً ووضعتَه أمام المرآة، فإنه يكون قرآناً غير معكوس، ولا يَحْرُم مس المرآة، لأن القرآن لم يُكتبْ فيها.
وظاهِرُ كلام الفُقَهاء رحمهم الله: أنه لا يجوز مَسُّ "السُّبورة"(3) الثَّابتة بلا وُضُوء إذا كُتِبَتْ فيها آية، لكن يجوز أن تَكتبَ القرآن بلا وُضُوء ما لم تمسَّها. وقد يُقال: إن هذا الظَّاهر غير مراد؛ لأنه يُفرَّق بين المصحف أو اللوح وبين السُّبُّورة الثَّابتة، بأنَّ المصحف أو اللوح يُنْقَل ويُحْمَل فيكون تابعاً للقرآن بِخِلاف السُّبورة الثابتة.
وأما كُتُب التَّفسير فيجوز مَسُّها؛ لأنها تُعْتَبر تفسيراً، والآيات التي فيها أقلُّ من التَّفسير الذي فيها.
ويُسْتَدَلُ لهذا بكتابة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الكُتُبَ للكُفَّارِ، وفيها آيات من القرآن(1)، فدلَّ هذا على أن الحُكْمَ للأغلب والأكثر.
أما إذا تساوى التَّفسير والقُرآن، فإنَّه إذا اجتمع مبيحُ وحاظٌر ولم يتميَّز أحدُهما بِرُجْحَانٍ، فإنه يُغلَّب جانب الحظر فيُعْطى الحُكْمُ للقرآن.
وإن كان التَّفسير أكثر ولو بقليل أُعْطِيَ حُكْمَ التَّفسير.
قوله: "والصَّلاة". أي: تَحْرُمُ الصَّلاة على المحدِثِ، وذلك بالنَّصِّ من الكتاب والسُّنَّة والإجماع.
أولاً: الكتاب:
قال الله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم {المائدة: 6} ثم عَلَّلَ ذلك بأن المقصود التطهُّر لهذه الصَّلاة.
وعلى هذا فالطهَّارة شَرْطٌ لصِحَّةِ الصَّلاة وجَوازِها، فلا يَحِلُّ لأَحَدٍ أن يُصَلِّيَ وهو مُحدِثٌ، سواء كان حَدثاً أصغر أو أكبر.
فإن ْصلَّى وهو مُحْدِثٌ، فإنْ كان هذا استهزاءً منه؛ فهو كافر لاستهزائه. وإنْ كان متهاوناً فقد اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في تكفيره.(140/28)
فمذهب أبي حنيفة ـ رحمه الله ـ : أنه يَكْفُر(1)، لأن من صلَّى وهو مُحْدِثٌ مع عِلْمِهِ بإيجاب الله الوُضُوء فهذا كالمستهزيء، والاستهزاء كُفْرٌ كما قال الله تعالى: قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون 65 لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم {التوبة: 65، 66}.
ومَذْهَبُ الأئمة الثَّلاثة: أنَّه لا يَكْفُر(2)، لأنَّ هذه معصيَة، ولا يَلْزَمُ مِنْ تَرْكِهِ أنْ يكونَ مُسْتَهزئاً.
ولهذا قلنا: إنْ صَلَّى بلا وُضُوء استهزاءً فإنَّه كافر، وإلا فلا. وهذا أقرب، لأنَّ الأَصْلَ بقاءُ الإسلام، ولا يمكن أنْ نُخرِجه منه إلا بدليل.
ثانياً: السُّنَّة:
قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : " لا يَقْبَلُ الله صلاةً بغير طُهُور"(1) وقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: "لا صلاة بغير طُهُور"(2) وقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: "لا يقبل الله صلاة أَحَدِكُمْ إذا أَحْدَثَ حتى يتوضَّأ"(3).
ثالثاً :الإجماع :
فقد أجمع المسلمون أنه يَحْرُمُ على المحْدِثِ أن يُصَلِّيَ بلا طَهَارة.
والصَّلاة هي التي بَيَّنَهَا الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تحريمها التَّكبير، وتحليلها التَّسليم، سواء كانت ذاتَ رُكوع وسُجود أم لا.
فالفرائض الخَمْسُ صلاة، والجمعة، والعيدان، والاستسقاء، والكسوف، والجنازة صلاة، لأن الجنازة مُفتتحة بالتكبير، مُختتمة بالتَّسليم، فينطبق عليها التَّعريف الشَّرعي، فتكون داخلة في مُسَمَّى الصَّلاة.
وقال بعض العلماء: إنَّ الصَّلاةَ هي التي فيها رُكُوع وسجود(1).
وقال آخرون: إن الصَّلاة هي التي تكون رَكْعَتَيْن فأكثر، إلا الوِتْر فهو صلاة، ولو رَكْعَة(1).
والأوَّل هو الأصحُّ.
وبناءً على هذا التَّعريف ننظر في سجدتَي التِّلاوة والشُّكر هل يكونان صلاة؟(140/29)
فالمشهور من المَذْهَبِ أنهما صلاة تُفْتَتَحُ بالتكبير، وتُخْتَتَمُ بالتَّسليم، ولهذا يُشرع ُعندهم أن يُكبِّر إذا سجد وإذا رفع، ويُسلِّم. وبِنَاءً على هذا يَحْرُمُ على المحْدِثِ أن يَسْجُدَ للتِّلاوة أو الشُّكْر وهو غير طاهر. فالخِلاف في اشتراط الطَّهارة لهما مبنيٌّ على أنَّ سَجْدَتَي التِّلاوة والشُّكر هل هما صلاة أم لا؟ فإن قُلْنا: إنهما صلاة وَجَبَ لهما الطَّهارة ، وإن قلنا: إنهما غير صلاة لم تَجِبْ لهما الطهارة .
والمتأمِّلُ للسُّنَّةِ يُدْرِك أنهما ليسا بصلاة لما يلي:
1ـ أن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يسجد للتِّلاوة، ولم يُنْقَل عنه أنه كان يُكبّر إذا سجد أو رفع، ولا يسلِّم، إلا في حديث رواه أبو داود في التَّكبير للسجود دُونَ الرَّفع منه، ودُونَ التَّسليم(1).
2ـ أن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سَجَدَ في سورة النَّجْمِ، وسجد معه المسلمون والمشركون، والمشركُ لا تصحُّ منه صلاة، ولم يُنكر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ذلك(2).
وهذا قَدْ يُعارَضُ فيه، فيُقال: إنَّ سُجُودَ المشرِكِين في ذلك الوقت كان قَبلَ فَرْضِ الوُضُوءِ، لأنَّ فَرْضَ الوُضُوءِ لمْ يَكُنْ إلا مع فَرْض الصَّلاةِ، والصَّلاةُ لم تُفرضُ إلا مُتأخِّرة قبل الهجرة بسَنةٍ، أو بثلاثِ سَنَوات، وما دام الاحتمالُ قائماً فالاستِدْلال فيه نَظَر.
والمتأمِّل لِسُجُودِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للشُّكر، أو التِّلاوة يَظْهَرُ له أنه لا يُكَبِّر، وعليه لا تكون سجدة التِّلاوة والشُّكر من الصَّلاة، وحينئذ لا يَحْرُم على مَنْ كان مُحْدِثاً أن يَسْجُدَ للتِّلاوة أو الشُّكْرِ وهو على غَير طَهَارة، وهذا اختيار شيخ الإسلام رحمه الله(1).
وصَحَّ عن عبدالله بنِ عُمر ـ رضي الله عنه ـ أنه كان يَسْجُدُ للتِّلاوة بلا وُضُوء(2).(140/30)
ولا رَيْبَ أنَّ الأفضل أن يتوضّأ، ولاسيَّما أن القاريء سوف يَتْلُو القرآن، وتِلاوَةُ القرآن يُشرَعُ لها الوُضُوء، لأنها مِنْ ذِكْرِ الله، وكلُّ ذكر و يُشرع له الوُضُوء.
أمَّا اشتراط الطَّهَارة لِسُجُودِ الشُّكر فَضَعيف، لأنَّ سَبَبَه تَجدُّد النِّعَمِ، أو تجدُّد اندفاع النِّقَمِ، وهذا قد يَقَعُ للإنسان وهو مُحْدِث.
فإن قلنا: لا تَسْجُدْ حتّى تَتَوَضَّأ؛ فرُبَّما يطول الفصل، والحُكْمُ المعلَّق بِسَبَبٍ إذا تأخَّرَ عن سببه سقط، وحينئذ إمّا أن يُقال: اسْجُدْ على غير وُضُوء، أو لا تسجد، لأنه قد لا يَجِدُ الإنسانُ ماءً يتوضَّأ منه سريعاً ثمَّ يَسْجُد.
أما سُجُود التِّلاوة فَيَنْبَغِي ألا يَسْجُدَ الإنسانُ إلا وهو على طَهَارةٍ كما أنَّهُ ينبغي أَنْ يقرأ على طهارة.
قوله: "والطَّواف" أي: يَحْرُمَ على المُحْدِثِ الطَّوافُ بالبيتِ، سواء كان هذا الطَّواف نُسُكاً في حَجٍّ، أو عُمْرَةٍ أو تَطَوُّعاً، كما لو طَافَ في سَائِرِ الأيَّام.
والدَّليل على ذلك:
1ـ أنه ثَبَتَ عنِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّه حين أراد الطَّواف تَوَضَّأ ثمَّ طاف(1).
2ـ حديث صفيَّة لمَّا قيل له: إن َّصَفِيَّة قد حاضَتْ، وظنَّ أنها لم تَطُفْ للإفاضة فقال: "أحابستنا هي؟"(2).
والحائِضُ مَعلوم أنَّها غيرُ طاهِرٍ.
3ـ حديث عائشة أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال لها حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاجُّ غيرَ أنْ لا تطوفي بالبيت"(1).
4ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "الطَّواف بالبيت صلاة؛ إلا أنَّ الله أباح فيه الكلام؛ فلا تَكلَّموا فيه إلا بخير"(2).
5ـ استدلَّ بعضهم بقوله تعالى وعهدنا إلى" إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود {البقرة: 125}
وجه الدَّلالة: أنه إذا وَجَبَ تطهير مكان الطَّائف، فَتطهيرُ بَدَنِهِ أَوْلَى، وهذا قَول جمهورِ العلماء(3).(140/31)
وقال بعض العلماء: إنَّ الطَّوافَ لا تُشترطُ له الطَّهارة، ولا يَحْرُمُ على المحْدِثِ أنْ يَطوفَ، وإنَّما الطَّهارة فيه أَكْمَل(1).
واسْتَدلُّوا: بأنَّ الأَصْلَ بَراءة الذِّمَّة حتى يقوم دليلٌ على تحريمِ هذا الفِعْل إلاّ بهذا الشَّرط، ولا دليلَ على ذلك، ولمْ يَقُل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يوماً من الدَّهْر: لا يقبل الله طَوَافاً بغيرِ طهور، أو: لا تطوفوا حتى تطَّهَّروا. وإذا كان كذلك فلا نُلْزِم الناس بأمرٍ لم يكن لنا فيه دليلٌ بَيِّنٌ على إلزامهم، ولاسيَّما في الأحوالِ الحرِجَة كما لو انتقض َالوُضُوءُ في الزَّحْمَةِ الشَّديدةِ في أيَّامِ الموسِمِ، فَيَلْزمه على هذا القَولِ إعادَةُ الوُضُوء، والطَّوافِ مِنْ جديد.
وأجابوا عن أدلَّة الجمهور:
أنَّ فِعْلَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المجرَّد لا يدلُّ على الوُجُوبِ، بل يَدلُّ على أنَّه الأفضل، ولا نِزاع في أنَّ الطَّوافَ على طَهَارة أفضل؛ وإنَّما النِّزاع في كَوْنِ الطَّهارة شَرْطاً لصِحَّة الطَّواف.
وأمَّا حديث عائشة: "افْعَلي ما يفعل الحاجُّ... " إلى آخره، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في صفيَّة: "أحَابِسَتنا هي؟". فالحائض إنما مُنِعَتْ مِنَ الطَّواف بالبيت، لأنَّ الحيض سَبَبٌ لمنْعِها من المُكْثِ في المسجد، والطَّواف مُكْثٌ.
وأيضاً: فالحيض حَدَثٌ أكبر، فلا يُسْتَدلُّ بهذا على أنَّ المحدِثَ حَدَثاً أصغرَ لا يجوزُ لَهُ الطَّواف بالبيت، وأنتم توافقون على أنَّ المحدِثَ حدثاً أصغر يجوز له المُكْثُ في المسجد، ولا يجوز للحائض أن تَمْكُثَ، فَمَنَاطُ حُكْمِ المنْعِ عندنا هو المُكْثُ في المسجد.
وأَمَّا حديث "الطَّواف بالبيت صلاة"(1) فَيُجَاب عنه:
1ـ أنَّه موقوفٌ على ابن عباس، ولا يَصِحُّ رفعه للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.(140/32)
2ـ أنَّه مُنْتَقَضٌ، لأنَّنا إذا أخذنا بِلَفْظِهِ، فإنَّه على القواعِد الأصوليَّة يقتضي أنَّ جميعَ أحكام الصَّلاة تَثْبُتُ للطَّواف إلاَّ الكلام، لأن مِنَ القواعد الأصولية: أنَّ الاستثناء مِعيار العُمُوم. أي: إذا جاء شيء عام ثم استثنى منه، فكلُّ الأفراد يتضمَّنه العموم، إلا ما اسْتُثْنِيَ، وإذا نظرنا إلى الطَّواف وجدناه يُخَالِفُ الصَّلاة في غَالبِ الأحكام غير الكلام، فهو يجوز فيه الأكلُ، والشُّربُ، ولا يجب فيه تكبير ولا تسليم، ولا قراءة، ولا يبطل بالفعل ونحوه، وكلامه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يكون مُحْكَماً لا يمكن أن يَنْتَقِضَ، فلمّا انْتَقَضَ بهذه الأمور ووجدنا هذه الاستثناءات علمنا أن َّهذا لا يصحُّ من قول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وهذا أحد الأوجه ِالتي يُسْتَدَلُّ بها على ضَعْفِ الحديث مرفوعاً، وهو أن يكون متخلخلاً، لا يمكن أن يَصدُرَ من النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ .
وأما بالنسبة للآية ؛ فلا يَصِحُّ الاستدلال بها، إذ يلزم منه أنَّ المعْتَكِفَ لا يصحُّ اعتكافُه إلا بطهارة، ولم يَشْتَرِطْ أحدٌ ذلك، إلا إنْ كان جُنُباً فيجب عليه أنْ يَتَطَهَّرَ ثم يَعْتَكِف؛ لأنَّ الجنابة تُنَافي المُكثَ في المسجد.
ولا شَكَّ أنَّ الأفضل أن يَطُوفَ بطهارة بالإجماع، ولا أظنُّ أنَّ أحداً قال: إنَّ الطَّواف بطهارة وبغير طهارة سواء، لأنه من الذِّكْرِ، ،ولِفِعْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ .
(مسألة): إذا اضطُرَّت الحائض إلى الطَّواف.
على القول بأنَّ الطَّهارة من الحيض شَرْط فإنها لا تطوف؛ لأنها لو طافت لم يصحَّ طوافها؛ لأنه شرط للصِّحَّة.
وإن قلنا: لا تطوف لِتَحْريمِ المقَام عليها في المسجد الحرام، فإنها إذا اضْطُرَّت جَازَ لها المُكثُ، وإذا جاز المُكث جاز الطَّواف.(140/33)
ولهذا اخْتَلَفَ العلماء ُفي امرأةٍ حاضت ولم تَطُفْ للإفاضَةِ، وكانت في قافِلَةٍ ولن ينتظروها(1)، فهذه القوافل التي لا يمكن أن تنتظر ولا يمكنُ للمرأة أنْ تَرْجِعَ إذا سافرت؛ كما لو كانت في أقصى الهند أو أمريكا، فحينئذ إما أن يُقَال: تكون مُحْصَرة فَتَتَحَلَّل بِدَمٍ، ولا يَتِمُّ حَجُّهَا؛ لأنها لمْ تَطُفْ. وهذا فيه صُعُوبَةٌ لأنها حينئذ لمْ تُؤَدِّ الفريضةَ.
أو يقال: تذهب إلى بلدها وهي لمْ تَتَحَلَّل التَّحَلُّلَ الثَّاني، فلا يَحِلُّ لها أن تتزوَّج ولا يحلُّ لمزوَّجةٍ أن يَقْرَبَهَا زوجُها، وإنْ مات عنها أو طَلَّقَهَا لا يحلُّ لها أن تتزوَّج، لأنها ما زالت في إحرام، وهذا فيه مَشَقَّةٌ عظيمة.
أو يقال: تَبْقَى في مكَّة وهذا غير ممكن.
أو يُقال: تطوف للضَّرورة، وهذا اختيار ُشيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ (1)، وهو الصَّواب، لكنْ يجبُ عليها أن تَتَحَفَّظَ حتى لا ينْزل الدَّمُ إلى المسجد فيلوِّثه.(140/34)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
باب الغسلِ
محمد بن صالح العثيمين
أي: باب ما يوجبه، وصِفَتُهُ، فالباب جَاِمعٌ للأمرين.
قوله: "ومُوجِبُهُ" بالكَسْرِ، أي: الشيء الذي يوجب الغُسْل، يقال: موجب بِكَسْرِ الجيم وفَتْحِهَا.
فبالكسر: هو الذي يُوجِبُ غيره.
وبالفتح: هو الذي وَجَبَ بغيره، كما يقال: مُقْتضِي بكسر الضَّادِ: الذي يقتضي غيره، ومقتضَى بفتحها: الذي اقتضاه غيرُه.
قوله: "خروج المنيِّ دفقاً بلذَّةٍ". هذا هو الموجِبُ الأوَّل(1).
والدَّليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا {المائدة: 6} والجُنُبُ: هو الذي خرج منه المنيُّ دَفقاً بلذَّةٍ.
2ـ قَولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "الماءُ من الماءِ"(1) المراد بالماء الأوَّل ماء الغُسْلِ؛ عبَّر به عنه، وبالماء الثَّاني المنيّ، أي: إذا خرجَ المنيُّ وجبَ الغُسْلُ.
وظاهر الحديثِ أنَّه يجب الغُسل سَوَاء خرجَ دَفقاً بلذَّةٍ، أم لا، وهذا مذهب الشَّافعي رحمه الله: أنَّ خروج المنيِّ مُطلقاً مُوجِبٌ للغُسْلِ حتى ولو بدونِ شهْوَةٍ وبأيِّ سَبَبٍ خرج(2)، لعُمُومِ الحديث، وجمهور أهل العلم: يشترطون لوُجُوبِ الغُسل بخروجه أن يكون دفقاً بلذَّة(3).
وقال بعضُ العلماءِ: بلذَّةٍ. وحَذَفَ "دفقاً" وقال: إنَّه متى كان بلذَّة فلا بُدَّ أنْ يكونَ دفقاً(4).
وذِكْرُ الدَّفقِ أَوْلى لموافقةِ قوله تعالى: فلينظر الإنسان مم خلق 5 خلق من ماء دافق {الطارق: 5، 6}.
فإذا خرجَ مِنْ غيرِ لذَّةٍ مِنْ يقظانَ فإنَّه لا يُوْجِبُ الغُسْلَ على ما قاله المؤلِّفُ، وهو الصَّحيح.
فإنْ قيل: ما الجواب عن حديثِ "الماء ُمن الماءِ".
قلنا: إنه يُحملُ على المعهودِ المعروف الذي يَخْرُجُ بلذَّة، ويوجِبُ تحلُّلَ البَدَنِ وفُتُورَه، أما الذي بدونِ ذلك، فإنه لا يوجبُ تحلُّلَهُ ولا فتُورَه، ولهذا ذكروا لهذا الماء ثلاث علامات(1):
الأولى: أنْ يَخْرُجَ دفقاً.(141/1)
الثانية: الرَّائحة، فإذا كان يابساً فإنَّ رائحتَه تكون كرائِحَة البَيْضِ، وإذا كان غيرَ يابِسٍ فرائحته تكونُ كرائحة العَجِينِ واللقاح(2).
الثالثة: فُتُورُ البَدَنِ بَعْدَ خُروجِه.
قوله: "لا بدونهما" الضَّميرُ يعودُ على الدَّفْقِ، واللَّذَّةِ.
قوله: "من غير نائم" أي: من اليَقْظَان، فإذا خَرَجَ مِنَ اليقظان بلا لِذَّةٍ، ولا دَفْقٍ، فإنه لا غُسْلَ عليه.
وعُلم منه: أنَّه إنْ خرجَ مِنْ نائم وَجَبَ الغُسْلُ مطلقاً، سواء كان على هذا الوصِف أم لمْ يكن، لأنَّ النَّائِم قد لا يُحِسُّ به، وهذا يَقَعُ كثيراً أنَّ الإنسان إذا استيقظ وجدَ الأثرَ، ولم يشعرْ باحتلامٍ، والدَّليل على ذلك أنَّ أمَّ سُليم ـ رضي الله عنها ـ سألت النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن المرْأَةِ ترى في منامِها ما يرى الرَّجُلُ في منامه، هل عليها غُسْل؟ قال: "نعم، إذا هي رَأَت الماء" (1) فأوجبَ الغُسْل إذا هي رأت الماء، ولم يشترطْ أكثر من ذلك، فدَّل على وُجُوبِ الغُسْل على مَن استيقظ وَوَجَدَ الماءَ سواء أحسَّ بخُروجِهِ أم لَمْ يُحِسَّ، وسواء رأى أنهَّ احتلمَ أم لم يَرَ، لأنَّ النَّائمَ قد ينسى، والمرادُ بالماء هنا المنيُّ.
فإذا استيقظَ ووجد بَللاً فلا يخلو من ثلاث حالات:
الأولى: أن يتيقَّنَ أنَّه مُوجِبٌ للغُسْل، يعني: أنَّه مَنِيٌّ، وفي هذه الحال يجبُ عليه أنْ يغتسلَ سواء ذَكَرَ احتلاماً أم لم يذكر.
الثَّانية: أنْ يتيقَّنَ أنَّه ليسَ بِمنِيٍّ، وفي هذه الحال لا يجب الغُسْل، لكنْ يجب عليه أنْ يَغْسِلَ ما أصابه، لأن حُكمَهُ حُكمُ البولِ.(141/2)
الثالثة: أنْ يجهلَ هل هو مَنيٌّ أم لا؟ فإن وُجِدَ ما يُحَالُ عليه الحُكْم بِكَوْنِهِ منيًّا، أو مذياً أُحِيلَ الحكم عليه، وإنْ لم يوجد فالأصل الطَّهارة، وعدم وجوب الغُسْل، وكيفيَّة إحالةِ الحُكْمِ أَنْ يُقال: إنْ ذَكَرَ أنَّه احتلم فإننا نجعله منيًّا، لأنَّ الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لما سُئِل عن المرأة تَرى في مَنَامِها ما يَرى الرَّجُلُ في مَنَامِهِ؛ هل عليها غسل؟ قال: "نعم، إذا هي رأت الماءَ"(1) وإنْ لم يَرَ شيئاً في منامه، وقد سبقَ نومَهُ تفكيرٌ في الجِمَاعِ جعلناه مَذياً، لأنَّه يخرج بعد التَّفكيرِ في الجِمَاعِ دونَ إحساس، وإنْ لَمْ يَسْبقْه تفكير ففيه قَوْلان للعلماء:
قيل: يجبُ أنْ يغتسلَ احتياطاً(2).
وقيل: لا يجب(2) وقد تعارضَ هُنا أَصْلان.
قوله: "وإن انتقل ولَمْ يخرج، اغْتَسل لَه" أي: المنيُّ، يعني: أَحَسَّ بانتقاله لكنه لَمْ يَخْرُجْ، فإنَّه يغتسل، لأن الماء بَاعَدَ محلَّهُ، فَصَدَقَ عليه أنه جُنُبٌ، لأن أصل الجَنَابَةِ من البُعْدِ.
وهل يُمكن أنْ يَنتقلَ بلا خُرُوج؟
نعم يمكن؛ وذلك بأن تَفْتُرَ شهوتُه بَعْدَ انتقاله بسببٍ من الأسباب فلا يخرج المنيُّ.
ومثَّلوا بمثالٍ آخر: بأنْ يمسكَ بذَكَرهِ حتى لا يَخْرج المنيُّ، وهذا وإن مَثَّلَ به الفقهاء فإنه مُضِرٌّ جدًّا، والفقهاء ـ رحمهم الله ـ يمثِّلون بالشَّيء للتَّصوير بِقَطْعِ النَّظَرِ عنْ ضَررِهِ أو عَدَمِ ضرره، على أنَّ الغالبَ في مِثْلِ هذا أنْ يخرج المنيُّ بَعْدَ إطلاق ذَكَرِهِ.
وقال بعض العلماء: لا غُسْلَ بالانتقالِ(1)، وهذا اختيار شيخِ الإسلام(2) وهو الصَّواب، والدَّليل على ذلك ما يلي:
1ـ حديثُ أمِّ سَلَمَةَ وفيه: "نعم، إذا هي رأت الماءَ"(3) ولم يقلْ: أو أَحسَّتْ بانتقالِه، وَلَوْ وَجَبَ الغُسْلُ بالانتقالِ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لدُعَاءِ الحاجَةِ لِبَيَانِهِ.(141/3)
2ـ حديثُ أبي سعيدٍ الخُدريِّ:" إنما الماءُ من الماءِ"(4) ، وهُنا لا يوجَدُ ماءٌ، والحديث يَدُلُّ على أنَّه إذا لم يَكُنْ ماءٌ فلا ماءَ.
3ـ أن الأصل بقاءُ الطَّهارة، وعَدَم مُوجب الغَسْل، ولا يُعْدَل عنْ هذا الأَصْل إلا بدليل.
قوله: "فإن خَرَجَ بَعْده لم يُعِدْه" أي: إذا اغْتَسَلَ لهذا الذي انتقلَ ثُمَّ خرجَ مع الحركةِ، فإنَّه لا يُعِيدُ الغُسْلَ. والدَّليل:
1ـ أنَّ السَّببَ واحدٌ، فلا يوجِبُ غُسْلَين.
2ـ أنّه إذا خَرجَ بعد ذلك خَرَجَ بلا لذَّةٍ، ولا يَجِبُ الغُسْل إلا إذا خرج بلذَّةٍ.
لكنْ لَوْ خَرَجَ منيٌّ جديدٌ لشهوةٍ طارِئة فإنَّه يَجِبُ عليه الغُسْل بهذا السَّبب الثَّاني.
قوله: "وتَغْييبُ حَشَفَةٍ أصليَّة" هذا الموجِبُ الثَّاني من مُوجِبَات الغُسْل.
وتَغْيبُ الشَّيءِ في الشَّيءِ معناه: أنْ يَختفيَ فيه.
وقوله: "أصليَّة" يُحْتَرز بذلك عن حَشَفَةِ الخُنْثَى المُشْكِل، فإنها لا تُعتبر حَشَفَةً أصليَّة. فلو غَيَّبَها في فَرْجٍ أصليٍّ أو غير أصليٍّ فلا غُسْلَ عليهما.
والخُنثى المُشْكِل: مَنْ لا يُعلَمُ أذَكَرٌ هو أم أنثى، مثل: أنْ يكونَ له آلة ذَكَرٍ وآلة أنثى، ويبول منهما جميعاً، فإنه مُشْكِل، وقد يتَّضِح بعدَ البلوغِ، وما دام على إشكاله فإنَّ فَرْجَه ليس أصليًّا.
قوله: "في فَرْجٍ أصليٍّ" احترازاً منْ فرجِ الخُنثى المُشْكِل، فإنه لا يُعْتبرُ تَغْييبُ الحَشَفَةِ فيه موجباً للغُسْل، لأنَّ ذلك ليس بفَرْجٍ.
فإذا غَيَّبَ الإنسانُ حَشفَتَهُ في فَرْجٍ أصليٍّ، وجبَ عليه الغُسْلُ أنزلَ أم لم يُنْزِلْ.
والدَّليل على ذلك: حديث أبي هريرة أنَّ النبي َّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "إذا جلَس بَيْنَ شُعَبِها الأربَع، ثم جَهَدَهَا، فقدْ وَجَبَ الغُسْلُ" أخرجه الشَّيخان(1).(141/4)
وفي لفظٍ لمسلم: "وإنْ لمْ يُنْزِلْ"(2) وهذا صريحٌ في وُجوبِ الغُسْلِ وإن ْلم يُنْزِل، وهذا يَخفَى على كثير منَ النَّاس، فتجد الزَّوجين يحصُلُ منْهما هذا الشَّيء، ولا يغتسلان، ولا سيَّما إذا كانا صغيرَين ولم يتعلَّما، وهذا بناءً على ظنِّهم عدم وجوب الغُسْل إلا بالإنزال، وهذا خطأ.
قوله:"قُبُلاً كان أو دُبُراً". وَطْءُ الدُّبُرِ حرام للزَّوج، وغيره من باب أَوْلَى ، وهذا من باب التَّمثيل فقط، وقد سبَق أنَّ الفقهاء ـ رحمهم الله ـ يمثِّلون بالشَّيء بِقَطْع النَّظر عن حِلِّهِ، أو حُرمَتِهِ(1) ويُعرف حُكْمه من محلٍّ آخر.
قوله: "ولو من بَهيمَةٍ أو مَيْتٍ". "لو": إشارة خِلاف، فَمِنْ أهل العلم من قال: يُشترط لِوُجُوبِ الغُسْلِ بالجِمَاعَ أنْ يكون في فَرْجٍ من آدميٍّ حيٍّ.(2) وعلى هذا الرَّأي لو أولجَ بفَرجِ امرأة ميْتة ـ مع أنَّه يَحْرُم ـ فعليه الغُسْل، ولو أَوْلَجَ في بهيمة فعليه الغُسْل.
وقال بعض العلماء: إنَّه لا يجب الغُسل بِوَطْءِ الميْتَةِ إلا إذا أَنْزَل(2). والدَّليل: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "إذا جلس بين شُعَبِها الأربع ثم جَهَدَهَا" وهذا لا يحصُل إذا كانت ميتة، لأنه لا يُجْهدها.
وأيضاً: تلذُّذه بها غير تلذُّذه بالحيَّة.
أما البَهِيمَة فالأمر فيها أبعدُ وأبعدُ، لأنَّها ليست محلا ًّلجِمَاع الآدميِّ بمقتضيَ الفطرة، ولا يَحلُّ جِمَاعها بحال.
وهل يُشْتَرط عدم وجود الحائل؟
قال بعض العلماء: يُشْتَرط أن يكون ذلك بلا حائل(1)، لأنَّه مع الحائل لا يَصْدُق عليه أنه مَسَّ الختانُ الختانَ، فلا يجب الغُسْلُ.
وقال آخرون: يجب الغُسْلُ(1) لعُموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "ثم جَهَدَهَا" والجَهْدُ يحصُل ولو مع الحائل.(141/5)
وفَصَّل آخرون فقالوا: إنْ كان الحائلُ رقيقاً بحيث تَكْمُل به اللَّذَّةُ وجب الغُسْلُ، وإن لم يكن رقيقاً فإنه لا يجب الغُسْل(1)، وهذا أقرب، والأَوْلَى' والأحوط أن يغتسل.
قوله: "وإسلامُ كافرٍ" . هذا هو الموجِبُ الثَّالث من موجِبَات الغُسْل، وهو إسلام الكافر، وإذا أسلم الكافر وجب عليه الغُسْل سواء كان أصليًّا، أو مرتدًّا.
فالأصليُّ: من كان من أول حياته على غَيْر دِينِ الإسلام كاليهوديِّ والنَّصرانيِّ، والبوذيِّ، وما أشبه ذلك.
والمرتَدُّ: من كان على دين الإسلام ثم ارتدَّ عنه ـ نسأل الله السَّلامة ـ كَمَنْ ترك الصَّلاة، أو اعتقد أنَّ و شريكاً، أو دعا النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يُغِيثَه من الشِّدَّةِ، أو دعا غيره أن يُغِيثهَ في أمرٍ لا يمكن فيه الغَوْثُ.
والدَّليل على وجوب الغُسْل بذلك:
1ـ حديث قَيس بن عاصم أنَّه لمَّا أسلم أَمَره النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّ يغتسل بماء ٍوسِدْر(1) والأَصْلُ في الأمر الوُجوب.
2ـ أنه طَهَّر باطنه من نَجَسِ الشِّرْك، فَمِنَ الحِكْمة أن يُطَهِّرَ ظاهره بالغُسْل.
وقال بعض العلماء : لا يَجِب الغُسْل بذلك(2)، واستدلَّ على ذلك بأنه لم يَرِدْ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمر عامٌّ مثل: مَنْ أسلم فَلْيَغْتَسِل، كما قال: "من جاء مِنْكُم الجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِل"(3) وما أكثر الصَّحابة الذين أسلموا، ولمْ يُنْقَل أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمرهم بالغُسْلِ أو قال من أسلم فليغتسل، ولو كان واجباً لكان مشهوراً لحاجة النَّاس إليه.
وقد نقول: إنَّ القول الأوَّل أقوى وهو وُجوب الغُسْل، لأنَّ أمْرَالنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ واحداً مِنَ الأمَّة بحُكمٍ ليس هناك معنى معقول لتخصيصه به أمْرٌ للأمة جميعاً، إذ لا معنى لتخصيصه به. وأمْرُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لواحد لا يعني عدم أمْرِ غيره به.(141/6)
وأما عدم النَّقل عن كلِّ واحد من الصَّحابة أنه اغتسل بعد إسلامه، فنقول: عدم النَّقل، ليس نقلاً للعدم؛ لأنَّ الأصلَ العملُ بما أمر به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولا يلزم أن يُنقلَ العمل به من كلِّ واحد.
وقال بعض العلماء : إنْ أتَى في كفره بما يوجب الغُسْل كالجَنَابَةِ مثلا وجب عليه الغُسْلُ سواء اغتسل منها أم لا، وإنْ لم يأت بموجب لم يجب عليه الغُسْلُ(1).
وقال آخرون: إنه لا يجب عليه الغُسْلُ مطلقاً، وإن وجد عليه جنابة حال كُفْرِه ولم يغتسل منها(1)، لأنه غير مأمور بشرائع الإسلام.
والأَحْوَط أن يغتسل؛ لأنه إن اغتسل وصلَّى فَصَلاُته صحيحة على جميع الأقوال، ولو صلَّى ولم يغتسل ففي صِحَّة صَلاته خلاف بين أهل العلم.
قوله: "وموت" هذا هو الموجِب الرابع من موجبَات الغُسْل.
أي: إذا مات المسلم وجب على المسلمين غَسْلُه، والدَّليل على ذلك: 1ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فِيمَنْ وَقَصَتْهُ ناقتُه بعرفة: "اغسلوه بماءٍ وسِدْرٍ..."(1) والأصل في الأَمْرِ الوُجُوب.
2ـ حديث أم عطيَّة حين ماتت ابنته وفيه: "اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك"(1).
وهذا الحديث قد يُنازَع فيه بأن يُقال: إنَّ المقصود مِنْ تغسيلِ الميْتِ فيه التنظيف، لأنَّ التَّعبُّد بالطَّهارة حدّه ثلاث، ولا يوكَل إلى رأي الإنسان، وفي هذا الحديث وَكَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الأمْرَ إلى رأيهنَّ.
وقد يقال: إنَّه وَكَلَ الأمر إلى رأيهن في زيادة عدد الغسلات لا في أصل الغُسْل، لكنَّ الدَّليل الأول كافٍ في ذلك، بل إنَّ تغسيلَ الأمواتِ أَمْرٌ معلوم بالضَّرورة، ومشهور شُهْرَة يكاد يكونمتواتراً.
وسواء مات فجأة، أم بحادث ، أم بمرضٍ، أم كان صغيراً، أم كبيراً.
وهل يشمل السَّقط؟
فيه تفصيل: إن نُفِخت فيه الرُّوح غُسِّل، وكُفِّنَ، وصُلِّيَ عليه، . وإن لم تُنْفَخ فيه الرُّوح فلا.(141/7)
وتُنْفَخُ الرُّوح فيه إذا تَمَّ له أربعة أشْهُرٍ؛ لحديث عبد الله بن مسعود قال: حدَّثنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهو الصَّادق المصدوق: "إنَّ أحدَكُم يُجْمَعُ خَلْقُهُ في بَطْن أمِّه، أربعين يوماً نطْفَةً، ثم يكون عَلَقَةً مثل ذلك، ثم يكون مُضْغَة مثل ذلك، ثم يُرْسَل إليه الملك، فيُؤمَرُ بأربع كلمات، بِكَتْبِ: رِزْقِه، وأَجَله، وعَمَلِه، وشقيٌّ أم سعيد، ثم يَنْفُخُ فيه الرُّوح"(1) وهذا لا يعلمه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بدون وَحْي إذ لا مَدْخل للاجتهاد فيه.
قوله: "وحيض". هو الموجِبُ الخامس من موجبات الغُسْل، فإذا حاضت المرأة وَجَبَ عليها الغُسْلُ، وانقطاع الحيض شَرْطٌ، فلو اغتسلتْ قَبل أن تَطْهُرَ لم يصحَّ، إذ مِنْ شرط صِحَّة الاغتسال الطَّهارة.
والدَّليل على وجوب الغُسْل من الحيض ما يلي:
1ـ حديث فاطمة بنت أبي حُبيش أنها كانت تُستحاض فأمَرها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن تجلس عادتها، ثم تغتسل وتُصلِّي(1). والأصل في الأمر الوجوب.
ويشير إلى مُطْلَقِ الفعل قوله تعالى: ولا تقربوهن حتى" يطهرن فإذا تطهرن ... الآية {البقرة: 222}، أي: اغْتَسَلْنَ، فهذا دليل على أن التَّطَهُّرَ من الحَيض أمرٌ مشهور بين الناس، والآية وَحْدَها لا تدلُّ على الوجوب؛ ولكن حديث فاطمة ـ رضي الله عنها ـ دليل واضِحٌ على أنه يجب على المرأة إذا حاضت أن تغتسل، لكنَّ شَرْطَ الوجوب انقطاعُ الدَّمِ.
قوله: "ونِفَاسٌ" هذا هو الموجِبُ السَّادس من موجبات الغُسْلِ.
والنِّفَاسُ: الدَّمُ الخارج مع الولادة أو بعدها، أو قَبْلها بيومين، أوثلاثة، ومعه طَلْقٌ.
أما الدَّمُ الذي في وسط الحَمْلِ، أو في آخر الحَمْلِ ولكن بدون طَلْقٍ فليس بشيء، فتصلِّي وتصوم، ولا يَحْرُمُ عليها شيء مما يحرم على النُّفساء.(141/8)
والدَّليل على وجوب الغُسْل منه: أنه نوع من الحيض، ولهذا أَطْلقَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ اسمَ النِّفاس على الحيض؛ بقوله لعائشة لمَّا حاضت: "لعلَّكِ نُفِسْتِ"(1).
وقد أَجمعَ العلماء على وجوب الغُسْلِ بالنِّفَاِس كالحيض.
قوله:"لا وِلادةٌ عاريةٌ عن دَمٍ". "لا": عاطفة، تدلُّ على النفي، أي: ليست الولادة ُالعاريةُ عن الدَّمِ موجِبَةٌ للغُسْل، فلو أن امرأة ولَدت، ولم يخرج منها دم فلا غُسْل عليها، لأَّن النِّفَاس هو الدَّمُ، ولا دَمَ هنا، وهذا نادر جدًّا.
وقال بعض العلماء: إنه يجب الغُسْل، والولادة هي الموجِبَةُ(2).
ولأن عدم الدَّمِ مع الوِلادة نادر، والنَّادر لا حُكْمَ له.
ولأن المرأة سوف يَلْحَقُها من الجُهْدِ والمشقَّة والتَّعَب كما يَلْحَقُها في الوِلادة مع الدَّمِ .
قوله: "ومَنْ لَزِمَهُ الغُسْل حَرُمَ عليه قِراءةُ القُرْآنِ". "مَنْ": اسم شَرْط جازِم، وفعل الشَّرط: لَزِمه، وجوابه: حَرُمَ، وأسماء الشَّرط تُفيد العموم؛ فيكون المعنى: أيُّ إنسان لَزِمَهُ الغُسْل سواء كان ذكراً أم أنثى، ويلزَمُ الغُسْل بواحد من الموجِبات السِّتة السَّابقة.
فمن لَزِمَهُ الغُسْل حرم عليه: الصَّلاة، والطَّواف، ومَسُّ المصْحَفِ. لأن المؤلِّف سبق أن قال: "ويَحْرُمُ على المحْدِثِ..."(1) إلخ.
ويَحْرُمُ عليه أيضاً: قراءة القرآن، واللبْثُ في المسجد، وهذان يختصَّان بمن لَزِمَهُ الغُسْل(2).
وقوله: "حَرُمَ عليه قِراءةُ القُرْآنِ". أي: حتى يغتسل، وإن توضَّأ ولم يغتسل، فالتَّحريم لا يزال باقياً.
وقوله: "قراءة القرآن" المراد أن يقرأ آية فصاعداً، سواء كان ذلك من المصْحَفِ، أم عن ظَهْرِ قَلْبٍ، لكن إن كانت الآية طويلة فإنَّ بعضها كالآية الكاملة.(141/9)
وأطول آية في القرآن آية الدَّينِ: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى" أجل مسمى فاكتبوه... الآية {البقرة: 282} ومع ذلك لم تستَوعِب حروف اللُّغة العربيَّة، واستوعب حروف اللُّغة العربيَّة آيتان أقصَرُ منها هما:
1ـ آخر آية في سُورة الفَتْح وهي قوله تعالى: محمد رسول الله والذين معه ....الآية {الفتح: 29} .
2ـ الآية التي في آل عمران وهي قوله تعالى: ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة الآية {آل عمران: 154} .
وقوله: "قراءة القرآن" أي: لا قراءة ذِكْرٍ يوافق القرآن، ولم يَقْصِد التِّلاوة؛ فإنَّه لا بأس به كما لو قال: بسم الله الرحمن الرحيم، أو الحمد و ربِّ العالمين؛ ولم يقصد التِّلاوة.
والدَّليل على أنَّ الجُنُبَ ممنوع من القرآن ممايلي:
1ـ حديث عليٍّ ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يُعَلِّمهم القرآن، وكان لا يَحْجُزه عن القرآن إلا الجَنَابَة"(1).
2ـ ولأنَّ في مَنْعِهِ من قراءة القرآن حثًّا على المبادرة إلى الاغتسال؛ لأنَّه إذا عَلِمَ أنَّه ممنوع من قراءة القرآن حتى يَغتسل فسوف يُبادِرُ إلى الاغتسال، فيكون في ذلك مصلحة.
3ـ أنَّه رُوِيَ أنَّ الملَكَ يتلقَّف القرآن من فَمِ القاريء(2)، وأنَّ الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جُنُب(1). وعلى هذا إذا قرأ القرآن فإمَّا أن يَحرُمَ الملك من تلقُّفِ القُرآن،أو يؤذيه بِجَنَابَتِه، وهذا وإنْ كان فيه شيء من الضَّعف لكن يُعلَّل به.
وأما بالنِّسبة للحائض: فإنَّها مِمَّنْ يلزمه الغُسْل، وعلى هذا فجُمهور أهل العِلْمِ أنَّه لا يجوز لها أنْ تقرأَ القرآن؛ لكنْ لها أن تذكُرَ الله بما يوافق القرآن(2).
وقال شيخُ الإسلام ـ رحمه الله ـ: إنه ليس في مَنْعِ الحائض من قراءة القرآن نُصوص صريحة صحيحة(1)، وإذا كان كذلك فلها أن تقرأ القرآن لما يلي:
1ـ أنَّ الأصْلَ الحِلُّ حتى يقوم دليلٌ على المنْعِ.(141/10)
2ـ أنَّ الله أمر بتلاوة القرآن مُطْلَقاً، وقد أثنى الله على من يتلو كتابه، فَمَنْ أخرجَ شخصاً عن عِبَادة الله بقراءة القرآن فإنَّنا نُطالبه بالدَّليل، وإذا لم يكن هناك دليل صحيح صريح على المنْعِ، فإنَّها مأمورة بالقراءة.
فإن قيل: ألا يُمكِن أن تُقَاسَ على الجُنُبِ بجامع لُزوم الغُسْلِ لكلٍّ منهما بسبب الخارج؟
أُجيب: أنَّه قياس مع الفارق؛ لأنَّ الجُُنُبَ باختياره أن يُزيل هذا المانع بالاغتسال، وأمّا الحائضُ فليس باختيارها أن تزيل هذا المانع. وأيضا: فإن الحائض مُدَّتها تطول غالباً، والجُنُب مدَّته لا تطول؛ لأنه سوف تأتيه الصَّلاة، ويُلْزم بالاغتسال.
والنُّفساء من باب أَوْلى أنْ يُرخَّص لها، لأنَّ مُدَّتها أطول من مُدَّة الحائض. وما ذهب إليه شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ مَذْهبٌ قويٌّ.
ولو قال قائل: ما دام العلماء مختلفين، وفي المسألة أحاديث ضعيفة(1)، فلماذا لا نجعل المسألة معلَّقة بالحاجة، فإذا احتاجتْ إلى القِراءة كالأَوْراد، أو تَعاهُد ما حَفِظَتْهُ حتى لا تنسى، أوتحتاج إلى تعليم أولادها؛ أو البنات في المدارس فيُباح لها ذلك، وأما مع عدم الحاجة فتأخذ بالأَحْوَطِ، وهي لن تُحْرَم بقيَّة الذِّكْرِ. فلو ذهب ذاهب إلى هذا لكان مذهباً قويًّا.
أمَّا إسلام الكافر: فالكافر ممن يَلْزَمُه الغُسْل، فلو أَسْلَم وأراد القراءة مُنِعَ حتى يَغتسل.
والدَّليل على ذلك: القياس على الجُنُبِ.
وهذا فيه نَظَرٌ قويٌّ جدًّا؛ لأن العلماء أجمعوا على وجوب الغُسْل على الجُنُبِ بخلاف الكافر فهو مختلَف في وجوبه عليه كما سبق(2)، ولا يُقاس المُختلَفُ فيه على المتَّفَقِ عليه.
فإن قيل: نحن نَقِيسُ بناءً على من يقول بوجوب الغُسْلِ على الكافر ، أمَّا من يقول بعدم الوجوب فالأمر ظاهر في عدم مَنْعِهِ من قراءة القرآن؟.(141/11)
فالجواب: أنه حتى على قول من يقول بوجوب الغُسْل عليه، فإنه لا يرى أنَّ وجوبه مُتَحَتِّم كتَحَتُّمِ الغُسْل من الجَنَابة، بل يرى أنه أضعف. وعليه فَمَنْع الكافر من قراءة القرآن حتى يغتسل ضعيف؛ لأنَّه ليس فيه أحاديث، لا صحيحة ولا ضعيفة، وليس فيه إلا هذا القياس.
قوله: "ويَعْبُرُ المسجد لحاجة" أي: يَمرُّ به عند الحاجة، وهذا يفيد مَنْعَه من المُكْثِ في المسجد، ولذلك لو قال: ويَحْرُم عليه المُكْثُ في المسجد، ثم استثنى العُبور كان أوضح.
أي: يَحْرُم على من لَزِمَهُ الغُسْلُ اللُّبْثُ في المسجد: أي: الإقامة فيه ولو مدَّة قصيرة. والدَّليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" حتى" تعلموا ما تقولون ولا جنبا إلا عابري سبيل {النساء: 43} يعني: ولا تقربوها جُنُبَاً إلا عابري سبيل.
وليس المعنى لا تُصَلُّوا إلا عابري سبيل، لأن عابر السَّبيل لا يُصلِّي، فيكون النَّهْيُ عن قُربان الصَّلاة أي: النَّهْيُ عن المرور بأماكنها، وهي المساجد، فإن عَبَر المسجد فلا بأس به، وأمَّا أن يَمْكُثَ فيه فلا.
2ـ أن المساجد بيوت الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ومحل ذِكْرِه، وعبادته، ومأوَى ملائكته، وإذا كان آكل البصل والأشياء المكروهة ممنوعاً من البقاء في المسجد، فالجُنُبُ الذي تَحْرُمُ عليه الصَّلاة من باب أَوْلَى، ولا سيَّما إذا كانت الملائكة لا تدخل بيتاً فيه جُنُب، فإنَّها تتأذَّيِ بمَنْعِهَا من دخول هذا المسجد.
وقوله: "لحاجة". والحاجة متنوِّعة، فقد يريد الدُّخول من باب، والخروج من آخر حتى لا يُشاهَد، وقد يفعل ذلك لكونه أخْصَرُ لطريقه، وقد يَعْبُره لينظر هل فيه محتاج فيؤويه أو يتصدَّق عليه، أو هل فيه حَلَقَةُ عِلْمٍ فيغتسل ثم يرجع إليها.
وأفادنا ـ رحمه الله ـ بقوله: "لحاجة" أنه لا يجوز له أن يَعْبُرَ لغير حاجة.(141/12)
وظاهر الآية الكريمة: إلا عابري سبيل العموم؛ فَيَعْبُره لحاجة، أو غيرها، وهو المذهب (1)إلا أن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ كَرِه أن يُتَّخَذ المسجد طريقاً إلا لحاجة، وهذا له وجه لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ذَكَرَ أنَّ هذه المساجد بُنِيَتْ للذِّكر، والصَّلاة، والقراءة(1) فاتخاذها طريقاً خِلافُ ما بُنِيَتْ له إلا إذا كانت حاجة.
قوله: "ولا يَلْبَثُ فيهِ بغَيْر وُضُوءٍ". فإن توضَّأ جاز المُكْثُ، والدَّليل على ذلك:
1ـ أن الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا إذا توضَّؤوا من الجنابة مكثوا في المسجد، فكان الواحد منهم ينام في المسجد؛ فإذا احْتَلَمَ ذهب فتوضَّأ ثم عاد(1)، وهذا دليل على أنه جائز، لأن ما فُعِلَ في عَهْدِه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولم يُنكره، فهو جائز إن كان من الأفعال غير التَّعَبُّديَّة، وإن كان من الأفعال التَّعَبُّديَّة فهو دليل على أن الإنسان يُؤْجَر عليه.
2ـ أن الوُضُوء يُخَفِّفُ الجَنَابَة؛ بدليل أنَّ الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئل عن الرَّجل يكون عليه الغُسْل؛ أينامُ وهو جُنُب؟ فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إذا توضَّأ أحدُكُم فَلْيَرْقُدْ وهو جُنُبٌ"(1).
3ـ ولأنَّ الوُضُوء أحد الطَّهورَين، ولولا الجنابة لكان رافعاً للحَدَثِ رَفْعاً كُلِّيًّا فحينئذ يكون مخفِّفاً للجنابة.
قوله: "ومَنْ غَسَّلَ ميتاً...". هذا شروع في بيان الأَغْسال المسْتَحَبَّة فمنها: الاغتسال من تغسيل الميتِ، فإذا غَسَّل الإنسان ميتاً، سُنَّ له الغُسْل، والدَّليل على ذلك ما يلي:
1ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "مَنْ غَسَّل ميتاً فلْيَغْتَسِل، ومَنْ حَمَلَهُ فليتوضَّأ"(2).(141/13)
قالوا: وهذا الحديث فيه الأَمْرُ، والأَمْرُ الأصل فيه الوُجوب، لكن لمَّا كان فيه شيء من الضَّعف لم يَنتهضْ للإلزام به. وهذا مبنيٌّ على قاعدة وهي: أنَّ النَّهْيَ إذا كان في حديث ضعيف لا يكون للتَّحريم، والأمرُ إذا كان في حديث ضعيف لا يكون للوُجوب، لأنَّ الإلزام بالمنْعِ أو الفعل يحتاج إلى دليل تبْرأُ به الذِّمة لإلزام العباد به.
وهذه القاعدة أشار إليها ابنُ مفلح في "النُّكَت على المحرَّر" في باب موقف الإمام والمأموم؛(1) ومراده ما لم يكن الضَّعف شديداً بل محتَمِلاً للصِّحَّة، فيكون فِعْلُ المأمور وتَرْكُ المنهيّ من باب الاحتياط، والاحتياط لا يوجب الفعل أو الترك.
2ـ أنه ورد عن أبي هريرة أَنه أَمَرَ غاسل الميْت بالغُسْلِ(2).
وهذا القول الذي مشى عليه المؤلِّف هو القول الوسط والأقرب.
وقال بعض أهل العِلْم: إنه يجب أن يَغْتَسِلَ(1). واستدلُّوا بحديث أبي هريرة السابق، والأصل في الأَمْرِ الوُجوب.
وقال آخرون: لا يجب عليه أن يَغْتَسِل، ولا يُسَنُّ له(1).
واستدلُّوا على ذلك بما يلي:
1ـ ضَعْف حديث أبي هريرة، فقد قال الإمام أحمد: "لا يَثْبُتُ في هذا الباب شيء"، وإذا لم يَثْبُتْ فدعَوى المشروعيَّة تحتاج إلى دليل؛ ولا دليل.
2ـ أنَّ المؤمِنَ طاهر حيًّا وميْتًا، فإذا كان لا يُسَنُّ الغُسْلُ من تَغْسيل الحيِّ، فتغسيل الميتِ من باب أولى.
فإن قيل: أكثَرُ الذين كانوا يغسِلون الموتى في زمن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كما في حديث الذي وَقَصَتْهُ ناقتة، وحديث أم عطيَّة ومَنْ معها من النِّساء اللاتي غسَّلن ابنته، لم يأمرهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بالاغتسال(2).
فالجواب على ذلك:
1ـ أن عدم الأمر في القضيَّة المعيَّنة لا يلزمُ منه نفيُ الأَمْرِ الوارد من طريق آخر إذا صَحَّ.(141/14)
2ـ أنَّنا لا نقول بوجوب هذا الغُسْلِ، فَعَدَمُ الأمر في موضعه يدلُّ على عَدَمِ الوُجوب، لكن لا يدلُّ على نفي المشروعيَّة مطلقاً إذا جاء مِنْ طريق آخر صحيح.
قوله: "أو أفاقَ مِنْ جُنُونٍ، أو إغماءٍ ". هذا هو الثَّاني والثَّالث من الأَغْسال المستحبَّة.
والجنون: زوال العقل، ومنه الصَّرَعُ فإنَّه نوع من الجُنُون.
والإغماء: التَّغطية، ومنه الغَيْم الذي يُغطِّي السَّماء.
فالإغماء: تغطية العقل، وليس زواله، وله أسباب متعدِّدة منها: شِدَّة المرَضِ كما حَصَل للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فإنه في مَرَضِه أُغْمِيَ عليه ثم أفاق، فقال: أَصَلَّى الناسُ؟ قالوا: لا، وهم ينتظرونك، فأَمَرَ بماء في مِخْضَبٍ ـ وهو شبيه بالصَّحن ـ فاغتَسلَ؛ فقام لِيَنُوءَ فأُغْمِيَ عليه مرَّة ثانية، فلما أفاق قال: أصلَّى الناسُ؟ قالوا: لا؛ وهم ينتظرونك"(1). الحديث.
فهذا دليل على أنه يُغتسل للإغماء، وليس على سبيل الوجوب، لأن فِعْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ المجرَّد لا يدُلُّ على الوُجوب.
وهل هذا مشروع تعبُّداً، أو مشروع لتقوية البَدَنِ؟
يحتمل كلا الأمرين، والفقهاء رحمهم الله قالوا: إنه على سبيل التعبُّد، ولهذا قالوا: يُسَنُّ أن يَغْتَسِلَ. وأمَّا بالنِّسبة للجنون، فإنهم قاسوه على الإغماء، قالوا: فإذا شُرِع للإغماء، فالجنون من باب أَوْلَى، لأنه أَشَدُّ(1).
قوله: "بلا حُلْمٍ سُنَّ له الغُسْلُ" أي: بلا إنزال، فإن أنزَل حال الإغماء وَجَبَ عليه الغُسْل كالنَّائم إذا احتلم.
قوله: "والغُسْلُ الكاملُ...". الغُسْل: له صفتان:
الأولى: صفة إجزاء .الثانية: صفة كمال.
كما أنَّ للوُضُوء صفتين، صفة إجزاء، وصفة كمال، وكذلك الصَّلاةُ والحجُّ.
والضَّابط: أن ما اشتَمَل على الواجب فقط فهو صفة إجزاء، وما اشتمل على الواجب والمسْنُون، فهو صفة كمال.
قوله: "أن ينويَ". "أن" وما دخلتْ عليه في تأويل مصدر خبر المبتدأ.(141/15)
والنِّيَّة لغةً: القصد.
وفي الاصطلاح: عَزْمُ القلب على فعل الشَّيء عَزْماً جازماً، سواء كان عبادة، أم معاملة، أم عادة.
ومحلُّها القلب، ولا تعلُّق لها باللِّسان، ولا يُشْرَع له أن يتكلَّم بما نَوَى عند فِعْلِ العبادة.
فإن قيل: لماذا لا يُقال: يُشْرَع أن يتكلَّم بما نَوَى لِيُوافق القلبُ اللسانَ، وذلك عند فِعْلِ العبادة؟
فالجواب: أنه خِلاف السُّنَّةِ.
فإن قيل: إنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يَنْهَ عنه؟
فالجواب:
1ـ أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "مَنْ أَحْدَثَ في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رَدٌّ"(1).
2ـ أنَّ كلَّ شيء وُجِدَ سببُه في عهد النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولم يفعله، كان ذلك دليلاً على أنه ليس بِسُنَّةٍ، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان ينوي العبادات عند إرادة فِعْل العبادة، ولم يكن يتكلَّم بما نَوى، فيكون تَرْكُ الشَّيء عند وجود سببه هو السُّنَّة، وفِعْلُه خِلاف السُّنَّةِ.
ولهذا لا يُسَنُّ النُّطْق بها لا سرًّا ولا جهرًا؛ خلافاً لقول بعض العلماء: إنه يُسَنُّ النُّطْق بها سِرًّا(1).
ولقول بعضهم: إنه يُسَنُّ النُّطْق بها جهراً(1)، وكِلا القولين لا أصْلَ له، والدَّليل على خِلافه.
والنِّيَّة شَرْط في صِحَّة جميع العبادات لقوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: "إنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى"(2).
والنِّيَّة نيَّتان:
الأولى: نِيَّة العمل، ويتكلَّم عليها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ، لأنها هي المصحِّحة للعمل.
الثانية: نِيَّة المعمول له، وهذه يتكلَّم عليها أهل التَّوحيد، وأرباب السُّلوك لأنها تتعلَّق بالإخلاص.
مثاله: عند إرادة الإنسان الغسل ينوي الغُسْل فهذه نِيَّة العمل.(141/16)
لكن إذا نَوى الغُسْل تقرُّباً إلى الله تعالى، وطاعة له، فهذه نيَّة المعمول له، أي: قصَد وجهه سبحانه وتعالى، وهذه الأخيرة هي التي نَغْفُلُ عنها كثيراً، فلا نستحضر نيَّة التقرُّب، فالغالب أنَّنا نفعل العبادة على أننا ملزَمون بها، فننويها لتصحيح العمل، وهذا نَقْصٌ، ولهذا يقول الله تعالى عند ذِكْرِ العمل: ابتغاء وجه ربهم {الرعد: 22} و إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى" {الليل: 20} و والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم {الرعد: 22} و يبتغون فضلا من الله ورضوانا {الحشر: 8} .
قوله: "ثُمَّ يُسَمِّيَ". أي: بعد النِّيَّة، والتسميَة على المذهب واجبة كالوُضُوء وليس فيها نَصٌّ، ولكنَّهم قالوا: وَجَبَتْ في الوُضُوء فالغُسْلُ من باب أولى، لأنَّه طهارة أكبر.
والصَّحيح كما سبق(1) أنها ليست بواجبة لا في الوُضُوء، ولا في الغُسْل.
قوله: "ويغسل يديه ثلاثاً" هذا سُنَّة، واليدان: الكفَّان لأنَّ اليَدَ إذا أُطْلقتْ فهي الكَفُّ، والدَّليل قوله تعالى: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {المائدة: 38} والذي يُقْطَع هو الكَفُّ فقط.
ولما أراد ما فوق الكفِّ قال تعالى: وأيديكم إلى المرافق {المائدة: 6}.
قوله: "وما لَوَّثَه" أي: يغسل ما لَوَّثَه من أَثَرِ الجنابة، وفي حديث ميمونة ـ رضي الله عنها ـ أنَّ الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عند غَسْلِهِ ما لوَّثه ضَرَبَ بيَده الأرض، أو الحائط مرَّتين، أو ثلاثاً(1).
والذي يَظْهَر لي من حديث ميمونة أن الماء كان قليلاً. ولذلك احتاج صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أن يضربَ الحائط بيده مرَّتين، أو ثلاثاً، ليكون أسرع في إزالة ما لوَّثه، وغَسَلَ رجليه في مكان آخر.
قوله: "ويتوضَّأ". أي: يتوضَّأ وُضُوءه للصَّلاة.
وكلام المؤلِّف يدلُّ على أنَّه يتوضَّأ وُضُوءاً كاملاً، وهو كذلك في حديث عائشة(2) رضي الله عنها.
قوله: "ويحثي على رأسه ثلاثاً" ظاهره أنه يحثي الماء على جميع الرَّأس ثلاثاً.(141/17)
قوله: "تُروِّيه" أي: تصل إلى أُصُوله بحيث لا يكون الماء قليلاً.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها: "ثم يخلِّل بيده شَعْره حتى إذا ظَنَّ أنه قد أروى بَشَرَتَهُ أفاض عليه الماء ثلاث مرات، ثم غسَل سائر جسَده"(1). وظاهره أن يصب عليه الماء أولاً ويخلِّله، ثم يفيض عليه بَعْد ذلك ثلاث مرات.
وقال بعض العلماء: إن قولها: "ثلاث مرَّات" لا يَعُمُّ جميع الرَّأس، بل مَرَّة للجَّانب الأيمن، ومرَّة للأيسر، ومرَّة للوَسَطِ(2)، كما يدلُّ على ذلك صنيعه حينما أتى بشيء نحو الحِلاَب(3) فأخذ منه فغسل به جانب الرَّأس الأيمن، ثم الأيسر، ثم وسط الرَّأس(4).
قوله: "ويَعُمَّ بدنَه غسلاً". بدليل حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما: "ثم أفاض الماء على سائر جسده"(1).
قوله "ثلاثاً". وهذا بالقياس على الوُضُوء لأنه يُشْرَع فيه التَّثليث، وهذا هو المشهور من المذْهَب.
واختار شيخ الإسلام وجماعة من العلماء، أنه لا تثليث في غَسْلِ البَدَنِ(2) لعدم صحَّته عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فلا يُشْرَع.
قوله: "ويَدْلُكَه" أي: يمرُّ يده عليه، وشُرع الدَّلك ليتيقَّن وصول الماء إلى جميع البَدَنِ، لأنَّه لو صَبَّ بلا دَلْكٍ ربَّما يتفرَّق في البدن من أجل ما فيه من الدُّهون، فَسُنَّ الدَّلك.
قوله: "ويَتَيَامن" أي: يبدأ بالجانب الأيمن. لحديث عائشة رضي الله عنها: "كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يُعْجِبُه التَّيمُّن في ترجُّله وتنعُّله، وطُهُوره، وفي شأنه كلِّه"(3).
قوله: "ويغسل قَدَمْيه مكاناً آخر". أي: عندما ينتهي من الغُسْل يغسل قَدَميْه في مكان آخر غير المكان الأول.
وظاهر كلام المؤلِّف أنه سُنَّة مطْلَقاً، ولو كان المحلُّ نظيفاً كما في حمَّاماتنا الآن.
والظَّاهر لي أنه يَغْسل قَدَميْه في مكان آخر عند الحاجة كما لو كانت الأرض طِيناً، لأنَّه لو لم يغسلهما لتلوثَّت رِجْلاه بالطِّين.(141/18)
ويدلُّ لهذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يَغْسِلْ رِجْلَيْه في حديث عائشة بعد الغُسْلِ(1). ورواية: "أنه غسل رجليه"(2) ضعيفة. والصَّواب: أنه غَسَلَ رِجْلَيْه في حديث ميمونة فقط.
قوله: "والمجزئ". أي: الذي تبرأُ به الذِّمَّة.
والإجزاء: سُقوط الطَّلب بالفِعل، فإذا قيل: أَجْزأتْ صلاته أي: سقطتْ مطالبته بها لِفِعْله إيّاها، وكذلك يقال في بقيَّة العبادات.
فلو أنَّ أحداً صلَّى وهو مُحدِث ناسياً، ثم ذَكَرَ بعد الصَّلاة، فإنَّ صلاته لا تجزِئه لأنه مطالب بها، وفِعْله لم يسقط به الطَّلب.
قوله: "أن ينويَ ويُسمِّيَ". سبق الكلام على النِّيَّة(1) والتَّسمية(2).
قوله: "ويعمَّ بدنه بالغُسْل مرَّةً". لم يذكر المضمضة والاستنشاق، لأن في وُجوبهما في الغُسْل خِلافاً، فَمِنْ أهل العِلْم مَن قال: لا يَصحُّ الغُسْل إلا بهما كالوُضُوء(3).
وقيل: يصحُّ بدونهما(3).
والصَّواب: القول الأول؛ لقوله تعالى: فاطهروا {المائدة: 6} وهذا يَشْمُل البَدَنَ كلَّه، وداخل الأنْفِ والفَمِ من البَدَنِ الذي يجب تطهيره، ولهذا أَمَرَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بهما في الوُضُوء لِدُخولهما تحت قوله تعالى: فاغسلوا وجوهكم {المائدة: 6} فإذا كانا داخلَين في غَسْل الوَجْه، وهو ممَّا يجب تطهيره في الوُضُوء، كانا داخلَين فيه في الغُسْل لأن الطَّهارة فيه أَوْكَدُ.
وقوله: " ويَعُمَّ بَدَنَهُ". يشمل حتى ما تحت الشَّعر الكثيف، فيجب غَسْل ما تحته بِخِلافِ الوُضُوء، فلا يجب غَسْل ما تحته.
والشَّعر الكثيف: هو الذي لا تُرى مِنْ ورائه البَشَرة.
قال أهلُ العِلْمِ: والشَّعر بالنسبة لتطهيره وما تحته ينقسم إلى ثلاثة أقسام(1):
الأول: مايجب تطهير ظاهره وباطنه بكلِّ حال، وهذا في الغُسْل الواجب.
الثاني: ما يجب تطهير ظاهره وباطنه إنْ كان خفيفاً، وتطهير ظاهره إن كان كثيفاً، وهذا في الوُضُوء.(141/19)
الثالث: مالا يجب تطهير باطنه سواء كان كثيفاً، أم خفيفاً، وهذا في التَّيَمُّم.
والدَّليل على أنَّ هذا الغُسْل مجزيء: قوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا {المائدة: 6} ولم يَذْكُر الله شيئاً سوى ذلك، ومن عَمَّ بَدَنَه بالغُسْل مَرَّة واحدة صَدَقَ عليه أنَّه قد اطَّهَّرَ.
فإن قيل: هذه الآية مُجْملة، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَصَّلَ هذا الإجمال بفِعْله فيكون واجباً على الكيفيَّة التي كان يفعلها، كما أنَّ الله لمَّا قال: وأقيموا الصلاة {المزمل: 20} فَسَّر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ هذه الإقامة بِفِعْله، فصار واجباً علينا إقامة الصَّلاة كما فعلها الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ .
فالجواب من وجهين:
الأول: أنَّه لو كان الله يريد منَّا أن نغتسل على وَجْه التَّفصيل لَبيَّنه كما بَيَّن الوُضُوء على وَجْهِ التَّفصيل، فلما أَجْمَل الغُسْل وفصَّل في الوُضُوء عُلِمَ أنَّه ليس بواجب علينا أن نغتسل على صفة معيَّنة.
الثَّاني: حديث عِمران بن حصين رضي الله عنه الطَّويل، وفيه أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال للرَّجُل الذي كان جُنباً ولم يُصلِّ: "خُذْ هذا وأَفرِغْه عليك"(1) ولم يُبيِّن له النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كيف يُفرغه على نفْسِه، ولو كان الغُسْل واجباً كما اغتسل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لبَيَّنه له؛ لأنَّ تأخير البَيَان عن وقت الحاجة في مقام البلاغ لا يجوز.
فإن قيل: لعلَّ هذا الرَّجُل يعرف كيفيَّة الغُسل.
أُجيب بجوابَين:
الأول: أنَّ الأصْلَ عدم معرفته.
الثَّاني: أنَّ ظاهر حاله أنه جاهلٌ، بدليلِ أنَّه لم يَعْلَمْ أنَّ التَّيمُّم يُجزيء عن الغُسل عند عدم الماء.
والحاصل: أن الغُسْلَ المجزئ أن ينويَ، ثم يسمِّيَ، ثم يعمَّ بدَنَه بالغُسْل مرَّة واحدة مع المضمضة والاستنشاق(1).(141/20)
ولو أن رَجُلاً عليه جنابة، فنوى الغُسْل، ثم انغمس في بِرْكة ـ مثلاً ـ ثم خرج، فهذا الغُسْل مجزيء بِشَرط أنْ يتمضمض ويستنشق.
ولو أنَّه أراد الوُضُوء بعد أن انغمس فلا يجزيء إلا إن خَرَج مرتِّباً لأن التَّرتيب فرْضٌ على المذهب(2).
وظاهرُ كلام المؤلِّف ـ رحمه الله ـ أنَّ الموالاة ليست شرطاً في الغُسل، فلو غسل بعض بدنه ثم أتمَّهُ بعد زمن طويل عُرفاً صَحَّ غُسله، وهذا هو المذهب.
وقيل: إن الموالاة شرطٌ، وهو رواية عن الإمام أحمد. وقيل: وجه للأصحاب(1).
وهذا ـ أعني كون الموالاة شرطاً ـ أصَحُّ، لأن الغُسل عبادة واحدة، فلزم أن ينبني بعضُه على بعض بالموالاة، لكن لو فرَّقه لعُذرٍ؛ لانقضاء الماء في أثناء الغسل مثلاً؛ ثم حصَّله بعد ذلك لم تلزمه إعادة ما غسَّله أولاً؛ بل يُكمل الباقي.
قوله: "ويتوضَّأُ بمدٍّ ويَغْتَسِلُ بِصَاعٍ"."يتوَضَّأُ": بالرَّفع؛ لأنَّها جملة استئنافية، وليست معطوفة على قوله: "أن ينوي" لأنها لو كانت معطوفة على قوله :"أن ينوي" لصار المعنى: والمجزيء أن ينوي، وأن يتوضَّأ بمُدٍّ، وليس كذلك، بل المعنى يُسَنُّ أنْ يكون الوُضُوء بِمُدٍّ، والغُسْلُ بصَاعٍ.
والمدُّ: رُبْعُ الصَّاع(2).
والصَّاع النبويُّ: أقلُّ من الصَّاع العُرْفِي عندنا بالخُمْس وخُمْس الخُمْس، فالصَّاع النبويُّ ـ مثلاً ـ زِنته ثمانون ريالاً فرنسياً، وصاعنا العُرْفي مائة ريال، وأربع ريالات.
فيأخذ إناء يَسَعُ أربعة أخماس الصَّاع العُرْفِي، ويغتسل به، هذه هي السُّنَّة، لِئَلا يُسرِف في الماء، فإن أسبغ بأقلَّ جاز.
فإن قيل: نحن الآن نتوضَّأ مِن الصَّنابير فمقياس الماء لا ينضبط؟.
فيقال: لا تَزِدْ على المشروع في غَسْل الأعضاء في الوُضوء، فلا تَزِدْ على ثلاث، ولا تزد في الغُسْل على مرَّة، على القول بِعَدَم الثلاث، وبهذاَ يحصُل الاعتدال.(141/21)
قوله: "فإن أَسْبَغ بأَقلَّ". أي: إن أَسْبَغ بأقلَّ مِنَ المدِّ في الوُضُوء، ومِن الصَّاع في الغُسْل أَجْزأَ؛ لأنَّ التَّقدير بالمدِّ والصَّاع على سبيل الأفضليَّة.
لكنْ يُشترط ألا يكون مَسْحاً، فإن كان مَسْحاً فلا يُجزيء.
والفرق بين الغُسْل والمسح: أن الغُسْل يتقاطر منه الماء ويجري، والمسح لا يتقاطر منه الماء، والدَّليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: فاغسلوا وجوهكم {المائدة: 6} ثم قال: وامسحوا برءوسكم {المائدة: 6} ففرَّق سبحانه وتعالى بين المسْح، والغُسْل.
2ـ قوله تعالى : فاطهروا {المائدة: 6} بيَّنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بالغسْل، لا بالمسْح.
قوله: "أو نوى بغُسْلِه الحَدَثَيْن أَجْزأ". النيَّة لها أربع حالات:
الأولى: أن ينوي رفع الحَدَثَيْن جميعاً فيرتفعان لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّما الأعمال بالنِّيَّات"(1).
الثانية: أن ينويَ رفع الحَدَثِ الأكبر فقط. ويَسْكت عن الأصغر، فظاهر كلام المؤلِّف أنَّه يرتفع الأكبر، ولا يرتفع الأصغر لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّما الأعمال بالنِّيَّات" وهذا لم ينوِ إلاّ الأكبر.
واختار شيخ الإسلام: أنه يرتفع الحَدَثَان جميعاً(2)، واستدلَّ: بقوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا {المائدة: 6} فإذا تطهَّر بنيِّة الحَدَثِ الأكبر فإنَّه يُجزئه، لأنَّ الله لم يذكُر شيئاً سوى ذلك، وهذا هو الصَّحيح.
الثالثة: أن ينويَ استباحة ما لا يُباح إلاّ بالوُضُوء، أو ارتفاع الحَدَثَيْن جميعاً كالصَّلاة، فإذا نوى الغُسْلَ للصلاة، ولم ينوِ رَفْع الحَدَثِ، ارتفع عنه الحَدَثَان، لأنّ مِنْ لازم نيَّة الصَّلاة أن يرتفع الحَدَثَان، لأنَّ الصَّلاة لا تَصِحُّ إلا بارتفاع الحَدَثَيْن.
الرابعة: أن ينوي استباحة ما يُبَاح بالغُسْل فقط، دون الوُضُوء كقراءة القرآن، أو المُكْثِ في المسجد.(141/22)
فلو اغتسل لقراءة القرآن فقط، ولم يَنوِ رَفْعَ الحَدَثِ أو الحَدَثَيْن فيرتفع حَدَثُه الأكبر فقط، فإن أراد الصَّلاة، أو مَسَّ المصحفِ، فلا بُدَّ من الوُضُوء.
ولكن واقع النَّاس اليوم، نجدُ أنَّ أكثرهم يغتسلون من الجَنَابة من أَجْلِ رَفْعِ الحَدَثَ الأكبر، أو الصَّلاة، وعلى هذا فيرتفع الحَدَثَان.
قوله: "ويُسنُّ لجُنُبٍ غَسْلُ فَرجِهِ، والوُضُوءُ لأكلٍ". وُضوء الجُنُبِ للأكل ليس بواجب بالإجماع؛ لكنَّه مستَحَبٌّ والدَّليل على ذلك:
1ـ حديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان إذا أراد أن يأكل أو ينام وهو جُنُبٌ توضَّأَ وضوءه للصَّلاة(1).
وأمَّا مَنْ حمل هذا على الوُضُوء اللغوي، وهو النَّظَافة، فلا عِبْرة به؛ لأن رواية مسلم صريحة في أنَّ المراد به الوُضُوء الشَّرعي.
ولأن القاعدة في أصول الفِقْه: أنَّ الحقائق تُحمَل على عُرْفِ النَّاطِق بها. فإذا كان النَّاطِق الشَّرع حُمِلَت على الحقيقة الشَّرعيَّة، وإذا كان من أهل اللُّغة حُمِلَت على الحقيقة اللغويَّة، وإذا كان من أهل العُرْف حُمِلَت على الحقيقة العُرفيَّة.
فمثلاً: "زَيْدٌ قائم" زَيْدٌ في اللغة فاعل؛ لأن الفاعل في اللغة من قام به الفعل، وعند النحْويِّين مبتدأ؛ لأن الفاعل عندهم: الاسمُ المرفوع المذكور قَبْلَه عامِلُه.
2ـ حديث عمار بن ياسر رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رخَّص للجُنُب إذا أراد أن يأكل، أو يشرب أو ينام أن يتوضَّأ(1).
قوله: "ونومٍ". أي: يُسْتَحَبُّ للجُنُب إذا أراد النَّوم أن يتوضَّأ، واستُدلَّ لذلك بحديث عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله، أَيَرقُد أحدُنا وهو جُنُب؟ قال: "نعم، إذا توضَّأ أحدُكم فلْيَرْقُد وهو جُنُب"(1) وفي لفظ: "توضَّأ واغسلْ ذَكَرَكَ ثُمَّ نَمْ"(2).(141/23)
وهذا الدَّليل يقتضي الوُجوب لأنَّه قال: "نعم إذا توضَّأ". وتعليق المباح على شَرْط يدلُّ على أنَّه لا يُباح إلا به، وعليه يكون وُضُوء الجُنُب عند النوم واجباً، وإلى هذا ذهب الظَّاهريَّة وجماعة كثيرة من أهل العِلْمِ(3)، ولكن المشهور عند الفقهاء والأئمَّة المتبوعين أنَّ هذا على سبيل الاستحباب(4) واستدلُّوا لذلك بحديث عائشة رضي الله عنها أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "كان ينامُ وهو جُنُبٌ من غير أن يمسَّ ماءً"(5).
قالوا: فَتَرْكُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للوُضُوء في هذه الحال بيان للجَواز، وأن الأمر ليس للوُجوب. وهذه قاعدة صحيحة معتَبَرة، خلافاً لمن قال: إن فِعْلَه لا يُعارض قولَه، بل يؤخذ بالقول فلا يدُّل فِعلُه على الجواز.
(فائدة) هذه الطَّريقة يلجأ إليها الشَّوكاني ـ رحمه الله ـ في "نَيْل الأوطار"(1)، وأنا أتعجَّب من سلوكه هذه الطَّريقة؛ لأنَّه مِنَ المعلوم أنَّنا لا نحمل فعْل الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ على الخُصوصيَّة إلا حَيث تعذَّر الجَمْع، أما إذا أمكن الجَمْع فإنَّه لا يجوز حَمْلُ النَّصِّ على الخُصوصيَّة؛ لأن الأصل التَّأسِّي به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، قال الله تعالى: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة {الأحزاب: 21} فإذا كان الأصل التَّأسِّي به فلا وجه لحمل النَّصِّ على الخصوصيَّة مع إمكان الجمع إلا بدليل.
ويدلُّ على أن فِعْله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أوقوله لا يُحْمَل على الخُصوصيَّة إلا بدليل قول الله تعالى: وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين {الأحزاب: 50} ووجْه الدَّلالة من الآية: أنَّ الله تعالى بيَّن أنها خالصة للنبَّيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولولا ذلك لكان مقتضَى النَّص أنه يجوز للإنسان التزوُّج بالهِبَة.(141/24)
ودليل آخر: أنَّ الله تعالى قال في قصَّة زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ: فلما قضى" زيد منها وطرا زوجناكها {الأحزاب: 37} وكانت زينب تحت زيدَ بن حارثة، وكان النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قد تَبَنَّاهُ، فلما أحلَّ الله له زينب قال: لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا {الأحزاب: 37} . فهذا الحُكْمُ خاصٌّ، وعِلَّته عامَّة، وعلى هذا فالحكم الذي يَثْبُت للرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ َيْثُبت للأمَّة؛ وإلا لم يكُنْ لقوله : لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم فَائدةٌ .
وعُورض حديث عائشة "كان ينام وهو جُنُب من غير أن يمسَّ ماءً" بأمرين:
الأول: أنَّه منقطع. ورُدَّ بأنه متَّصل، وأن أبا إسحاق سَمِع من الأسود الذي رواه عن عائشة، وإذا تعارض الوَصْل والقَطْع، فالمعتَبَر الوصل.
الثَّاني: أنَّ قولها: "من غير يمسَّ ماءً" أي: ماء للغُسْل. ورُدَّ بأن هذا بعيد؛ لأن "ماء" نكرة في سِيَاق النَّفْي فتعُمُّ أيَّ ماءٍ، وعليه فالتَّعليل بالانقطاع غيرُ صَحيح، وكذلك التَّأويل.
والذي يظهر لي: أن الجُنُبَ لا ينام إلا بِوُضُوء على سبيل الاستحباب؛ لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ وكذا بالنِّسبة للأكْلِ والشُّرْب.
وفرَّق الفقهاء ـ رحمهم الله ـ بين الأكل والشُّرب والنَّوم، فقالوا: يُكْرُه أن ينام على جنابة بلا وُضُوء، ولا يُكْرَه له الأكل، والشُّرب بلا وُضُوء(1).
قوله: "ومُعَاوَدَةِ وَطْءٍ". أي: يُسَنُّ للجُنُبِ أن يتوضَّأ إذا أراد أن يُجَامع مرَّة أُخرى، والدَّليل على ذلك. ما ثبََتَ في "صحيح مسلم" أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمر مَنْ جَامَع أهلَه، ثم أراد أن يعود أن يتوضَّأ بينهما وُضُوءًا(2).
والأصل في الأَمْر الوُجوب، لكن أخرج هذا الأَمْر عن الوُجُوب ما رواه الحاكم :"...إنه أَنْشَطُ للعَوْدِ"(1).(141/25)
فَدلَّ هذا أنَّ الوُضُوء ليس عبادة حتى نُلْزِم النَّاسَ به، ولكنْ من باب التَّنْشيط، فيكون الأَمْرُ هنا للإرشاد، وليس للوجوب.
وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يطوف على نسائِه بِغُسْلٍ واحد(2)، وإن كان طوافه عليهن بغسل واحد، لا يَمْنَعُ أن يكون قد توضَّأ بين الفِعْلَين.(141/26)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
باب التيممِ
محمد بن صالح العثيمين
التَّيمُّم لغةً: القصد.
وشرعاً:التَّعبُّد و تعالى بقصد الصَّعيد الطَّيب؛ لمسْحِ الوجه واليدين به.
وهو من خصائص هذه الأمَّة لِمَا رواه جابر عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه قال :"أُعطيتُ خمساً لم يُعْطَهُنَّ نبيٌّ من الأنبياء قَبْلي، نُصِرت بالرُّعب مسيرة شَهْر، وجُعِلتْ لي الأرضُ مسجداً وطَهوراً، فأيّما رَجُلٍ مِنْ أُمَّتي أَدْركَتْه الصَّلاةُ فَلْيُصلِّ..." الحديث(1).
وكانت الأمم في السَّابق إذا لم يجدوا ماءً بَقَوا حتى يَجِدوا الماء فيتطهَّروا به، وفي هذا مشقَّة عليهم، وحرمان للإنسان من الصِّلة بربِّه، وإذا انقَطَعَتْ الصِّلة بالله حَدَثَ للقَلب قَسْوةٌ وغَفْلةٌ.
وسببُ نزول آية التيمُّم ضياعُ عِقْد عائشة ـ رضي الله عنها ـ التي كانت تتجَمَّل به للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وكان هذا العِقد عارية، فلما ضاع بقيَ الناس يطلبونه، فأصبحوا ولا ماء معهم، فأنْزَلَ الله آية التَّيمُّم، فلما نَزَلَتْ بَعَثوا البعير، فوجدوا العِقد تحته؛ فقال أُسيد بن حُضير ـ رضي الله عنه ـ : "ما هي بأوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يا آل أبي بكر"(1).
قوله: "وهو بَدَلُ طهارة الماء" أي: ليس أصْلاً؛ لأن الله تعالى يقول: فلم تجدوا ماء فتيمموا {المائدة: 6} فهو بدلٌ عن أصلٍ، وهو الماء.
وفائدة قولنا: إنه بدل أنه لا يُمكن العمل به مع وجود الأصل؛ وإلا فهو قائم مقامه، ولكن هذه الطَّهارة إذا وُجِدَ الماء بطلت، وعليه أن يغتسل إن كان التَّيمُّم عن غُسْل، وأن يتوضَّأ إن كان عن وُضُوء، والدَّليل على ذلك:(142/1)
1ـ حديث عمران بن حُصين ـ رضي الله عنه ـ الطَّويل، وفيه قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للذي أصابته جنابة ولا ماء :"عليك بالصَّعيد فإنه يكفيك" ولمَّا جاء الماءُ قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "خُذْ هذا وأفرغْه عليك"(2). فدلَّ على أنَّ التَّيمُّم يَبْطُلُ بوجود الماء.
2ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"الصَّعيد الطيّب وُضُوء المسْلم، وإن لم يَجِد الماء عَشر سنين، فإذا وجَدَ الماء فَلْيَتَّقِ الله ولْيُمِسَّهُ بَشَرتَهُ، فإن ذلك خيرٌ"(1).
وهل هو رافِع للحَدَثِ، أو مُبيح لما تَجِبُ له الطَّهارة؟ اختُلِف في ذلك:
فقال بعض العلماء: إنه رافع للحَدَثِ(2).
وقال آخرون: إنه مُبيح لما تجب له الطَّهارة(1).
والصواب هو القول الأول:
1ـ لقوله تعالى لمَّا ذكر التيمم ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم {المائدة: 6}.
2ـ وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "وجُعِلَت لي الأرضُ مسجداً وطَهوراً(2). والطَّهور بالفتح: ما يُتَطَهَّر به.
3ـ ولأنَّه بَدَل عن طهارة الماء، والقاعدة الشَّرعيَّة أنَّ البَدَل له حُكْم المُبْدل، فكما أنَّ طهارة الماء تَرفعُ الحَدَثَ فكذلك طهارة التَّيمُّم.
ويترتَّب على هذا الخلاف مسائل منها:
(أ) إذا قلنا: إنه مُبيح فَنَوى التَّيمُّم عن عِبادة لم يَستبِحْ به ما فوقها.
فإذا تيمَّم لنافلة لم يُصلِّ به فريضة؛ لأن الفريضة أعلى، وإذا تيمَّم لِمَسِّ المصحف لم يُصلِّ به نافلة، إذ الوُضُوء للنَّافلة أعلى فهو مُجْمع على اشتراطه بخلاف الوُضُوء لِمَسِّ المصحف، وهكذا.
وإذا قلنا: إنه رافع فإذا تيمَّمَ لنافلة جازَ أن يُصلِّيَ به فريضة، وإذا تيمَّم لمسِّ مصحف جاز أن يُصلِّيَ به نافلة.(142/2)
(ب) إذا قلنا: إنه مُبيح، فإذا خرج الوقت بَطلَ؛ لأن المبيح يُقتصر فيه على قَدْرِ الضَّرورة، فإذا تيمَّم للظُّهر ـ مثلاً ـ ولم يُحْدِث حتى دخل وقت العصر فعليه أن يُعيدَ التَّيمُّم.
وعلى القول بأنه رافع، لا يجب عليه إعادة التيمُّم، ولا يَبْطُل بخروج الوقت.
(جـ) إذا قلنا: إنه مبِيح، اشترط أن ينوِيَ ما يتيمَّم له، فلو نَوَى رفْع الحَدَث فقط لم يرتفع.
وعلى القول بأنه رافع لا يُشترَط ذلك، فإذا تيمَّم لرَفْع الحَدَث فقط جاز ذلك(1).
وظاهر كلام المؤلِّف: أنه بَدَل عن طهارة الماء في كلِّ ما يطهِّره الماء؛ سواء في الحَدَث؛ أم في نجاسة البَدَن؛ أم في نجاسة الثَّوب؛ أم في نجاسة البُقعة، ولكن ليس هذا مراده، بل هو بَدَل عن طهارة الماء في الحَدَث قولاً واحداً؛ وفي نجاسة البَدَن على المذهب(1)، أي أنه يتيمَّم إذا عدم الماء للحَدَث الأصغر والأكبر، ويتيمَّم إذا كان على بَدَنِه نجاسة ولم يَقْدِرْ على إزالتها، ولايتيمَّم إذا كان على ثَوبه أو بُقعَته نجاسة.
والصَّحيح: أنه لا يتيمَّم إلا عن الحَدَث فقط لما يلي:
1ـ أن هذا هو الذي وَرَد النَّصُ به.
2ـ أن طهارة الحَدَث عبادة، فإذا تعذَّر الماء تعبَّد و بتعفير أفضل أعضائه بالتُّراب، وأما النَّجاسة، فشيء يُطلب التَّخلِّي منه، لا إيجادُه، فمتى خَلا من النَّجاسة ولو بلا نيَّة طَهُرَ منها، وإلا صلَّى على حَسَب حاله، لأنَّ طهارة التَّيمُّم لا تؤثِّر في إزالة النَّجاسة، والمطلوب من إزالة النَّجاسة تخْلِيَة البَدَنِ منها، وإذا تيمَّم فإنَّ النَّجاسة لا تزول عن البَدَن، وعلى هذا: إن وَجَد الماء أزالها به، وإلا صلَّى على حَسَب حاله؛ لأن َّطهارة التيمُّم لا تؤثِّر في إزالة النَّجاسة.
قوله: "إذا دخلَ وقتُ فريضةٍ أو أُبيحَت نافلةٌ". "إذا" أداة شرط، وفعل الشَّرط "دخل" وما عُطف عليه، وجوابه قوله بعد ذلك "شُرع التَّيمُّم".(142/3)
أي : يُشترط للتَّيمُّم دخول الوقت، أو إباحة النَّافلة، وهذا هو الشَّرط الأول لِصِحَّة التَّيمُّم، وهذا مبنيٌّ على القول بأنه مبيح لا رافع وهو المذهب، فيقتصر فيه على الضَّرورة ، وذلك بأن يكون في وقت الصَّلاة.
وقوله: "أو أبيحَت نافلةٌ". أي: صار فِعْلها مباحاً، وذلك بأن تكون في غير وقت النَّهي، فإذا كان في وقت نَهْيٍ، فلا يتيمَّم لصلاة نَفْل لا تجوز في هذا الوقت.
وقولنا: "لا تجوز في هذا الوقت" احترازاًَ مما يجوز في هذا الوقت من النَّوافل كَذَوات الأسباب ـ على القول الرَّاجح ـ وهذا مبنيٌّ على القول بأنَّه مبيح لا رافع.
والصَّواب أنه رافع، فمتى تيمَّم في أيِّ وقتٍ صحَّ، وقد سبق بيانه(1).
قوله: "وعدم الماء..." هذا الشَّرط الثَّاني لِصِحَّة التَّيمُّم: أن يكون غيرَ واجِدٍ للماء لا في بيته، ولا في رَحْلِه، إن كان مسافراً، ولا ما قَرُبَ منه.
قوله: "أو زادَ على ثَمَنِه كثيراً". أي: إذا وجد الماء بثمن زائد على ثمنه كثيراً عَدَل إلى التَّيمُّم، ولو كان معه آلاف الدَّراهم. وعلَّلوا: أن هذه الزِّيادة تجعله في حُكْم المعدوم.
والصَّواب: أنه إذا كان واجداً لثمنه قادراً عليه وَجَبَ عليه أن يشتريه بأيِّ ثمن، والدَّليل على ذلك: قوله تعالى: فلم تجدوا ماء {المائدة: 6} فاشترط الله تعالى للتَّيمُّم عَدَم الماء، والماء هنا موجود، ولا ضرر عليه في شِرائه لِقُدْرَته عليه، وأمَّا كون ثمنه زائداً فهذا يرجع إلى العَرْض والطَّلب، أو أن بعض النَّاس ينتَهِز حاجَةَ الآخرين فيرفع الثَّمن.
قوله: "أو ثَمن يعجزه" أي: لا يَقْدر على بَذْلِه بحيث لا يكون معه ثَمنه، أو معه ثَمن ليس كاملاً، فَيُعتبر كالعَادِم للماء فيتيمَّم.
قوله: "أو خاف باسْتِعْمالِه، أو طَلبِهِ ضَرَرَ بَدَنِهِ". فإذا تضرَّر بَدَنُه باستعماله الماءَ صار مريضاً، فيدخل في عموم قوله تعالى : وإن كنتم مرضى" أو على" سفر الآية {المائدة: 6}.(142/4)
كما لو كان في أعضاء وُضُوئه قُروح، أو في بَدَنِه كُلِّه عند الغُسْل قُروح وخاف ضَرَر بَدَنِه فله أن يتيمَّم.
وكذا لو خاف البرْد، فإنه يُسخِّن الماء، فإن لم يَجِد ما يسخِّن به تيمَّم؛ لأنَّه خَشِيَ على بَدَنِه من الضَّرر، وقد قال تعالى: ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما {النساء: 29} واستدلَّ عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ بهذه الآية على جواز التَّيمُّم عند البَرْد إذا كان عليه غُسْل(1).
وقوله: "أو طلبِهِ ضرَرَ بدنِهِ". أي: خاف ضَرَرَ بَدَنِه بطلَبِ الماء، لبُعْدِه بعض الشيء، أو لِشدَّة برودة الجَوِّ، فيتيمَّم.
والدَّليل على هذا: قوله سبحانه وتعالى: ولا تقتلوا أنفسكم {النساء: 29} وقوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة {البقرة: 195} وقوله: وما جعل عليكم في الدين من حرج {الحج: 78} وخَوْفُ الضَّرر حَرَجٌ. وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"لا ضَرَرَ، ولا ضِرَار"(2).
قوله : "أو رفيقه" أي: خاف باستعمال الماء أو طَلَبِه ضَرَرَ رفيقه.
مثال ذلك: أن يكون معه ماء قليل ورُفْقَة، فإن استعمل الماء عطِشَ الرُّفْقَة وتضرَّروا، فنقول له: تيمَّم، ودَع الماء للرُّفْقَة.
وظاهر قوله: "أو رفيقه" أنه يشْمل الكافر والمسلم، لكن بِشَرط أن يكون الكافر معصوماً، وهو الذِّمِّي، والمُعَاهد، والمُستَأْمَن.
قوله: "أو حرمته". أي: خاف باستعمال الماء أو طلبهِ ضرر امرأته، أو من له ولاية عليها من النِّساء.
قوله: "أو مالِه" أي: خاف باستعمال الماء أو طلبه تضرُّرَ ماله، كما لو كان معه حيوان، وإذا استعمل الماء تضرَّر، أو هَلَكَ.
قوله: "بِعَطَشٍ" متعلِّق بـ "ضَرر"، أي: ضرر هؤلاء بعطش.
قوله: "أو مَرَضٍ" مثاله: أن يكون في جِلْدِه جروح تتضرَّر باستعمال الماء.
قوله: "أو هَلاكٍ". كما لو خاف أن يموت من العَطَشِ.
قوله: "ونَحْوه". أي: من أنواع الضَّرر.(142/5)
فالضَّابط أن يُقال: الشَّرط الثاني: تعذُّر استعمال الماء، إما لِفَقْده، أو للتَّضرُّر باستعماله أو طَلَبِه. وهذا أعمُّ وأوضَحُ من عبارة المؤلِّفِ.
قوله: "شُرع التَّيمُّمُ". "شُرع": جواب "إذا" في قوله "إذا دخل"، وإذا تأخَّر الجواب، وطال الشَّرْط بالمعطوفات عليه، فعِنْد البَلاغيين ينبغي إعادة العامِل ليتَّضِح المعنى، لكنَّه لو أعاد الشَّرطَ هنا لعَادَ الأمْرُ كما هو؛ لأنَّ هذه الأمور كلها تابعة للشَّرط.
وقوله: "شُرع" أي: وجب لما تجب له الطَّهارة بالماء كالصَّلاة، واستُحبَّ لما تُستحبُّ له الطَّهارة بالماء؛ كقراءة القرآن دون مَسِّ المصحَف.
قوله: "ومَنْ وجدَ ماءً يكْفي بعضَ طُهرِه تيمَّم بعد استعمالِهِ". أفادنا المؤلِّف أن الإنسان إذا وَجَد ماءً يكْفي بعضَ طُهرِه، فإنَّه يَجمع بين الطَّهارة بالماء والتَّيمُّم.
مثاله: عنده ماء يكفي لغَسْل الوَجْه واليدين فقط؛ فيجب أن يستعمل الماء أولاً؛ فيغسِل وجهه ويديه، ثم يتيمَّم لما بَقِيَ من أعضائه.
وسبب تقديم استعمال الماء، ليَصْدُقَ عليه أنه عَادِمٌ للماء، إذا استعمله قبل التَّيمُّم.
والدَّليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم {التغابن: 16} .
2ـ وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "إذا أَمَرْتُكُمْ بأَمْرٍ فأْتوا منه ما اسْتَطَعْتُم"(1).
فنحن مأمورون بغَسْل الأعضاء، فَغَسَلْنا الوجه واليدين، وانتهى الماء فاتَّقَيْنا الله بهذا الفعل، وتيمَّمنا لمسْحِ الرَّأس، وغَسْل الرِّجلين لتعذُّر الماء، فاتَّقَيْنا الله بهذا الفعل أيضاً، فلا تَضَادّ بين الغَسْل، والتَّيمُّم إذ الكلُّ مِنْ تقوى الله .
وقال بعض العلماء: لا يجمع بين طهارة الماء وطهارة التَّيمُّم، بل إذا كان الماء يكفي لنِصْفِ الأعضاء فأكثر فإنه يستعمل بلا تيمُّم، وإذا كان يكفي لأقَلَّ من النِّصف، فلا يستعمل الماء بل يتيمَّم فقط(2).(142/6)
وعلَّلوا ذلك بأنَّ الجَمْع بين الطَّهارتين جَمْعٌ بين البدل والمبدل، وهذا لا يَصِحُّ لأنَّه من باب التَّضَادِّ.
وعلَّلوا أيضاً: بأن القاعدة العامة في الشَّريعة تغليب جانب الأكثر، فإذا كانت الأعضاء المغسولة هي الأكثر فلا تَتَيمَّم، وإذا كان العكس فتيمَّم ولا تغسلها.
ورُدَّ هذا: بأن التيمم هنا عن الأعضاء التي لم تُغْسَل، وليس عن الأعضاء المغسولة، فليس فيه جمع بين البَدَل والمبدل، بل هو شبيه بالمسْحِ على الخُفَّين من بعض الوجوه، لأنك غَسَلت الأعضاء التي تُغْسَل، ومَسَحْتَ على الخُفِّ بدلاً عن غَسْل الرِّجْل التي تحته.
وقال آخرون: إنه يستعمل الماء مطلقاً، فيما يقدر عليه ولا يتيمَّم(1).
وعلَّلوا ذلك: بأن التَّيمُّم بَدَلٌ عن طهارة كاملة، لا عن طهارة جُزئيَّة.
والصَّواب: ما ذهب إليه المؤلِّف، وربما يُسْتَدلُّ له بما رُويَ عن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في حديث صاحب الشُّجَّةِ الذي قال فيه الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنما كان يكفيه أن يتيمَّم، ويَعْصِبُ على جُرْحِه خِرْقَة، ثم يمسَحُ عليها، ويغْسِل سائر جسده" (1). فجمَع النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بين طهارة المسْحِ، وطهارة الغسْل.
قوله: " ومَنْ جُرِحَ تيمَّم له وغَسَل الباقي" يعني: من كان في أعضائه جُرْح، والمراد جُرْح يَضرُّه الماء، تيمَّم لهذا الجُرح وغَسَل باقي الأعضاء، والتَّيمُّم للجُرح لا يُشترَط له فُقدان الماء، فلا حَرَجَ أن يتيمَّم مع وجود الماء.
وظاهر قوله المؤلِّف "تيمَّم له" أنه لا بُدَّ أن يكون التَّيمُّم في مَوضِع غَسْل العضوِ المجروح، لأنه يُشْترَط الترتيب، وأما إذا كان الجُرح في غُسْل الجنابة، فإنه يجوز أن يتيمَّم قبل الغُسْل، أو بعده مباشرة، أو بعد زَمَنٍ كثيرٍ.(142/7)
هذا هو المذهب، لأنهم يَرَون أن الغُسْل لا يُشْترَط له ترتيب ولا مُوالاة(2)، فلو بَدَأَ بِغَسْل أعلى بَدَنِه، أو أَسْفَلِه، أو وَسَطِه صَحَّ.
واستدلُّوا بقوله تعالى: وإن كنتم جنبا فاطهروا {المائدة: 6} وهذا يشْمَل البَداءة بأعلى الجِسْم، أو وَسَطِه أو أسْفَلِه. وهو واضح. أما الموالاة في الغُسْل فقد سَبَق الكلام فيها(1). وإذا كان التَّيمُّم في الحَدَثِ الأصغر فَعَلَى المذهب يُشْترَط فيه التَّرتيب والموالاة.
فإذا كان الجُرْح في اليَدِ وَجَبَ أن تَغْسِل وجهك أولاً، ثم تتيمَّم، ثم تَمْسَح رأسك، ثم تغسِل رجليك.
وهنا يجب أن يكون معك منديل، حتى تُنشِّف به وجهك، ويَدَكَ، لأنَّه يُشترط في التُّراب أن يكون له غبار(2)، وإذا كان على وجهك ماء فالتَّيمُّم لا يَصِحُّ.
وقال بعض العلماء: إنه لا يُشترط التَّرتيب ولا الموالاة، كالحَدَثِ الأكبر(3) وعلى هذا يجوز التَّيمُّم قَبْل الوُضُوء، أو بعده بِزَمن قليل أوكثير، وهذا الذي عليه عمل النَّاس اليوم، وهو الصَّحيح. اختاره الموفَّق والمجدُّ(3) وشيخ الإسلام ابن تيمية(4)، وَصوَّبه في "تصحيح الفروع(5)".
(فائدة): قال بعض العلماء: لا يُشرع التَّيمُّم إلا في الطَّهارة الواجبة . وأما المستحبَّة فلا يُشْرَع لها(1). واستدلُّوا لذلك بأثرٍ ونَظَرٍ.
أما الأثر فقالوا: إن الله تعالى إنما ذَكَرَ التَّيمُّم في الطَّهارة الواجبة، وذلك في قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا الآية {المائدة: 6}.
وأما النَّظَر فقالوا: إن التَّيمُّم طهارة ضرورة، والطَّهارة غير الواجبة لا ضرورة لها؛ فلا يُشْرَع لها التَّيمُّم. وهذا أحد القولين في المذهب(2).(142/8)
وهذا الاستدلال والتعليل مع أنه قويٌّ جداً إلا أنه يُعكِّر عليه أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ تيمَّم لردِّ السَّلام وقال: "إني كَرهْتُ أن أَذْكُر الله إلا على طُهْر"(3)، ومعلوم أن التَّيمُّم لردِّ السَّلام ليس واجباً بالإجماع، وإذا كان كذلك وقد تيمَّم له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فإنه يدلُّ على مشروعيَّة التَّيمُّم في الطَّهارة المستحبَّة .وهذا استدلال واضح جداً.
ثم إن التَّيمُّم بَدَلٌ عن الطَّهارة بالماء، والبَدَلُ له حُكْمُ المبدل منه، فمتى استُحبَّت الطَّهارة بالماء استُحبَّت الطَّهارة بالتَّيمُّم، فيُعارض الاستدلال بالآية بالاستدلال بالحديث، ويُعارض النَّظَرُ بالنَّظَرِ، ويكفيه من ذلك أن يشعرَ بأنه متعبِّد و تعالى بأحد نوعي الطهارة لهذا العمل الذي تُشْرَع له الطَّهارة.
قوله: "ويَجبُ طَلَبُ الماءِ". الواجب: ما أَمَرَ به الشَّارع على سبيل الإلزام بالفعل.
وحكمه: أن فاعله مُثَاب، وتارِكَه مستحِقٌّ للعِقاب، ولا نقول يعاقَب تارِكُه؛ لأنه يجوز أن يعفوَ الله عنه قال تعالى: إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {النساء: 116} .
والدَّليل على وجوب طلب الماء قوله تعالى: فلم تجدوا ماء فتيمموا {المائدة: 6}. ولا يُقال: لم يَجِد إلا بعد الطَّلب.
قوله: "في رَحْلِه". أي: عند الجماعة الذين معه.
والرَّحْل: المَتَاع، والمراد الجماعة، فإذا كان يعْلَم أنه لا ماء فيه فلا حاجَة إلى الطَّلب، لأنه حينئذ تحصيل حاصل، وإضاعَةُ وقت، لكن لو فُرض أنه أَوْصَى مَن يأتي بماء، ويُحتمَل أنه أتى بماء، ووضَعه في الرَّحْل فحينئذ يجب الطَّلب.(142/9)
قوله: "وقُرْبِه" أي: يجب عليه أن يطلب الماء فيما قَرُبَ منه، فيبحث هل قُرْبه، أو حَوْله بئر، أو غدير؟ والقُرب ليس له حَدٌّ محدَّد، فيُرْجَع فيه إلى العُرْف، والعُرْف يختلف باختلاف الأزمنة. ففي زمَننا وُجِدَت السيَّارات فالبعيد يكون قريباً. وفي الماضي كان الموجود الإبل فالقريب يكون بعيداً.
فيبحث فيما قَرُبَ بحيث لا يشقُّ عليه طلبه، ولا يفوته وقت الصَّلاة.
قوله: "وبِدلالةٍ" يعني: يجب عليه أن يطلب الماء بدليل يَدُلُّهُ عليه.
فإذا كان ليس عنده ماء في رَحْلِه، ولا يستطيع البحث لِقِلَّةِ معرفته، أو لكونه إذا ذهب عن مكانه ضاع، فهذا فرضُه الدِّلالة؛ فيَطلُب من غيره أن يَدُلَّه على الماء سواء بمال، أم مجاناً.
وإذا لم يَجِد الماء في رحَلْهِ، ولا في قُرْبِه، ولا بدلالة، شُرِعَ له التَّيمُّم.
والدَّليل على ذلك قوله تعالى: فلم تجدوا ماء فتيممو{المائدة: 6}.
قوله: "فإن نسيَ قدرتَه عليه وتيمَّمَ أعادَ".أي: لو كان يعرف أن حوله بئراً لكنَّه نَسِيَ، فلما صلَّى، وَجَدَ البئر فإنَّه يُعيد الصَّلاة.
فإن قيل: كيف يعيد الصلاة وقد قال الله تعالى: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا {البقرة: 286} .
فالجواب: أن هذا تحصيل شَرْط، والشَّرط لا يسقط بالنِّسيان، ولأنه حَصَلَ منه نوع تفريط، فَلَوْ أنه فكَّر جيداً؛ وتروَّى في الأمْرِ لَتَذكَّر.
وقيل: لا يُعيد(1)، لأنَّه لم يقصد مخالفة أمْرِ الله تعالى، فهو حينما صلَّى كان منتهى قدرته أنَّه لا ماء حَوْلَه.
والأَحْوَط: أن يُعيد. والعلماء إذا قالوا الأَحْوَط لا يَعْنُون أنه واجب، بل يَعْنُون أنَّ الوَرَعَ فعلُه أو تَرْكه؛ لئلا َّيُعرِّض الإنسان نفْسَه للعقوبة، وهنا يُفرِّقون بين الحُكْمِ الاحتياطيِّ، والحُكْمِ المجزوم به. ذكر هذا شيخ الإسلام(2) رحمه الله.(142/10)
قوله: "وإن نَوى بتيمُّمِه أحداثاً" أي: أجزأ هذا التَّيمُّم الواحد عن جميع هذه الأحداث، ولو كانت متنوِّعة؛ لأنَّ الأحداث إمَّا أن تكون من نوع واحد؛ كما لو بال عِدَّة مرَّات فهذه أحداث نَوْعُها واحد وهو البوَل.
أو تكون من أنواع من جِنْس واحد كما لو بال، وتغوَّط، وأكل لحم جَزور فهذه أنواع من جِنْس واحد وهو الحَدَث الأصغر.
أو تكون من أجناس كما لو بال، واحْتَلم، فهذه أجناس؛ لأن الأوَّل حَدَث أصغر والثَّاني أكبر.
فإذا تيمَّم، ونَوَى كُلَّ هذه الأحداث، فإنه يجزيءُ، والدَّليل قوله: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنَّما الأعمال بالنِّيَّات، وإنما لكلِّ امريء ما نَوَى" (1) والتَّيمُّم عَمَل؛ وقد نَوَى به عِدَّة أحداث فله ما نَوى.
قوله: "أو نَجَاسة على بَدَنِه تضُرُّه إزالتُها". مثاله: لو سقطتْ نقطةُ بَولٍ على جُرْحٍ طريّ لا يستطيع أن يغْسلَه، ولا يمسَحَه؛ لأنَّه يضرُّه إزالتها، فيتيمَّم على القول بالتَّيمُّم عن نجاسة البَدَن.
قوله: "أوْ عَدِمَ ما يُزيلها". مثاله: أصابه بول على بَدَنِه ولا ماء عنده يُزيلها به، فيتيمَّم.
وأفاد ـ رحمه الله ـ بقوله: "أو نجاسة على بَدَنِه" أن النَّجاسة على البَدَنِ يتيمَّمُ لها إذا لم يَقْدِر على إزالتها، وأما النَّجاسة في الثَّوب، أو البقعة فلا يتيمَّم لها.
والصَّحيح: أنه لا يتيمَّم عن النَّجاسة مطلقاً، وقد سبق بيان ذلك(1).
ومثال نجاسة البُقْعة: كما لو حُبِسَ في مكان نَجِسٍ كالمرحاض، فيتوضَّأ ويصلِّي على حسب حاله، ولا يتيمَّم للنَّجاسة.
قوله: "أو خافَ برْداً" يعني: خاف من ضَرَرِ البرد لو تطهَّر بالماء، إما لكون الماء بارداً ولم يَجِد ما يُسخِّن به الماءَ، وإما لِوُجود هواء يتضرَّر به، ولم يَجِد ما يتَّقي به فَلَهُ أن يتيمَّم. لقوله تعالى: فاتقوا الله ما استطعتم {التغابن: 16}.(142/11)
فإن وَجد ما يُسخِّن به الماءَ، أو يتَّقي به الهواء، وَجَبَ عليه استعمال الماء، وإنْ خافَ الأذى' باستعمال الماء دون الضَّررِ، وجب عليه استعمالُهُ.
قوله: "أو حُبِس في مِصْرٍ فَتَيَمَّم". "حُبس" أي: لم يتمكَّن من استعمال الماء. والمِصْر: المدينة، وإنما نَصَّ المؤلِّفُ ـ رحمه الله ـ على ذلك؛ لأن بعض العلماء قال: لا يتيمَّم(2)؛ لأنه ليس مسافراً، ولا عادماً للماء؛ لأنَّه في مِصْر. ولكن يقال: إن الماء الموجود في المِصْر بالنِّسبة له معدوم؛ لأنه حُبِس ولم يتمكَّن من استعمال الماء، وحينئذ تعذَّر عليه الماء فيتيمَّم.
وإن حُبِس في مِصْر، ولم يَجِد ماء، ولا تُراباً صلَّى على حَسَب حاله، ولا إعادة عليه، ولا يؤخِّر صَلاته حتى يقْدِر على إحدى الطَّهارتين: الماء، أو التُّراب.
قوله: "أو عَدِمَ الماء، والتُّراب صلَّى، ولم يُعِد".كما لو حُبِس في مكان لا تُراب فيه ولا ماء، ولا يستطيع الخروج منه، ولا يُجلب له ماء ولا تُراب؛ فإنه يُصلِّي على حَسَب حاله، محافظة على الوقت الذي هو أعظم شروط الصلاة.
والدَّليل على ذلك قوله تعالى : فاتقوا الله ما استطعتم {التغابن: 16} وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إذا أمَرْتُكم بأمرٍ فأْتوا منه ما استطعتم"(1). وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "أيُّما رَجُل من أمَّتي أدْرَكَته الصَّلاةُ فلْيُصَلِّ"(2) لأنَّ هذا عام، ومن هنا نأخذ أهمِّية المحافظة على الوقت، وأنَّ الوقت أَوْلى ما يكون ـ من شروط الصَّلاة ـ بالمحافظة.
قوله: "ويَجبُ التيمُّمُ بتُرابٍ" هذا بيان لما يُتيمَّم به. وقد ذكر المؤلِّفُ له شروطاً:
الأول: كونه تراباً، والتُّراب معروف، وخرج به ما عداه من الرَّمل، والحجارة وما أشبه ذلك.(142/12)
فإنْ عَدِم التُّرابَ كما لو كان في بَرِّ ليس فيه إلا رَمْل، أو ليس فيه إلا طِين لكثرة الأمطار فيصلِّي بلا تيمُّم، لأنَّه عادِم للماء والتُّراب. والدَّليل على ذلك: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "وجُعِلت تربتُها لنا طَهُوراً"(1) وفي رواية: "وجُعِل التُّراب لي طَهُوراً"(2).
قالوا: هذا يُخصِّص عُموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "وجُعِلتْ لي الأرض مسجداً وطَهُوراً"(3). لأن الأرض كلمة عامَّة، والتُّراب خاصٌّ، فيُقيَّد العام بالخاص.
وُردُّ هذا: بأنه إذا قُيِّد اللفظ العام بما يوافق حُكْم العام، فليس بِقَيد.
وتقرير هذه القاعدة: أنَّ ذكر بعض أفراد العام بحُكم يوافق حُكم العام، لا يقتضي تخصيصه.
مثال ذلك: إذا قلت: أكرِم الطَّلَبَة فهذا عام، فإذا قلت: أكرم زيداً وهو من الطلَّبة؛ فهذا لا يُخصِّص العام، لأنك ذكرت زيداً بحُكْمٍ يوافق العام.
لكن لو قلت: لا تُكْرم زيداً، وهو من الطَّلبة صار هذا تخصيصاً للعام؛ لأنِّي ذَكرته بِحُكْم يُخالف العام.
ومن ذلك قول بعض العلماء في قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "وفي الرِّقَةِ رُبع العُشرِ"(1) أنه يخصِّص عموم الأدلَّة الدَّالة على وجوب الزكاة في الفضَّة مطلقاً(2)، لأنه قال: "وفي الرِّقَة" والرِّقَة: هي السِّكَّة المضروبة.
فيقال: إن سلَّمْنا أن الرِّقَة هي الفِضَّة المضروبة، فذِكْرُ بعض أفراد العام بِحُكْم يوافق العام لا يقتضي تخصيصه.
وهذه القاعدة ـ أعني أن ذكر أفرادٍ بِحُكْم يوافق العام لا يقتضي التخصيص ـ إنَّما هو في غير التقييد بالوصف، أما إذا كان التَّقييد بالوصف فإنه يفيد التَّخصيص، كما لو قُلت: أكرِم الطَّلبة، ثم قلت: أكرِم المجتهد من الطَّلبة، فذِكْر المجتهد هنا يقتضي التَّخصيص؛ لأنَّ التَّقييد بِوَصْف. ومثل ذلك لو قيل:" في الإبل صدقة"، ثم قيل:"في الإبل السَّائمة صدقة". فالتَّقييد هنا يقتضي التَّخصيص فتأمَّل.(142/13)
والصَّحيح: أنَّه لا يختصُّ التَّيمُّم بالتُّراب، بل بِكلِّ ما تصاعد على وجه الأرض. والدَّليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: فتيمموا صعيدا طيبا {المائدة: 6} والصَّعيد: كلُّ ما تصاعد على وجه الأرض، والله سبحانه يَعْلَم أنَّ النَّاس يطْرُقون في أسفارهم أراضي رمليَّة، وحجريَّة، وتُرابيَّة، فلم يخصِّص شيئاً دون شيء.
2ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، في غزوة تبوك مَرَّ برِمالٍ كثيرة، ولم يُنقل أنَّه كان يحمِل التُّراب معه، أو يصلِّي بلا تيمُّم.
قوله: "طَهُور". هذا هو الشَّرط الثَّاني لما يُتيمَّم به. وهو إشارة إلى أن التُّراب ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1ـ طَهُور. 2ـ طاهر. 3ـ نجِس.
كما أن الماء عندهم ينقسم إلى ثلاثة أقسام(1).
فخرج بقوله: "طَهُور" التُّراب النَّجس كالذي أصابه بَوْل، ولم يَطْهُر من ذلك البول، والدَّليل قوله تعالى: فتيمموا صعيدا طيبا {المائدة: 6} والطَّيب ضدُّ الخبيث، ولا نعلَم خبيثاً يُوصَف به الصَّعيد إلا أن يكون نجساً.
وخرج أيضاً: التُّراب الطَّاهر كالذي يتساقط من الوجه أو الكفَّين بعد التَّيمُّم، وكذا لو ضَرَبْتَ الأرضَ وغبّرت ومسَحْت وجهك، ثم أتى شخص وضَرب على يديك ومَسَح فلا يجزيء؛ لأن التُّراب الذي على اليدين مستعمل في طهارة واجبة، فيكون طاهراً غير مطهر.
أما لو تيمَّمت على أرض، ثم جاء آخر فضرب على موضع ضَرْب يديك فهذا طَهُور، وليس بطاهر، وقد نَصَّ الفقهاء على ذلك(2)، وهذا شبيه بما لو توضَّأ جماعة من بِرْكَة واحدة، فإن ماء البِرْكة يبقى طَهُوراً.
والصَّحيح: أنه ليس في التُّراب قِسْم يُسمَّى طاهراً غير مطهِّر كما سبق في الماء(1).
قوله: "غير محتَرِق" هكذا في بعض النُّسَخ، وهذا هو الشَّرط الثَّالث من شروط المتيمَّم به. فلو كان محترِقاً كالخَزَفِ والإسمنت، فلا يجوز التَّيمُّم به.(142/14)
وهذا ضعيف، والصَّواب: أنَّ كلَّ ما على الأرض من تُراب، ورَمْل، وحجر محتَرِق أو غير محتَرِق، وطين رطب، أو يابس فإنه يُتيمَّم به.
قوله: "له غبار". هذا هو الشَّرط الرَّابع من شروط المتيمَّم به. فإن لم يكن له غبار لم يَصحَّ التَّيمُّم به كالتُّراب الرَّطب، وعلى هذا لو كنّا في أرض أصابها رَشُّ مطر حتى ذهب الغُبَار فلا نتيمَّم عليها، بل نصلِّي بلا تيمُّم.
والدَّليل على ذلك: قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه {المائدة: 6} قالوا: "من" للتَّبعيض، ولا تتحقَّق البعضيَّة إلا بغبار يَعْلق باليد، ويُمْسَح به الوجه واليدان.
والصَّحيح: أنه ليس بشرط، والدَّليل على ذلك:
1ـ عموم قوله تعالى: فتيمموا صعيدا طيبا {المائدة: 6} .
2ـ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يسافر في الأرض الرمليَّة، والتي أصابها مطر، ولم ينقل عنه ترك التيمُّم.
وأما قولهم إن "من" تبعيضيَّة فالجواب عنه أن "من" ليست تبعيضيَّة بل لابتداء الغاية فهي كقولك: سرت من مكَّة إلى المدينة، وهذا وإن كان خلاف الظَّاهر إلا أنَّه الموافق لِسُنَّة النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حيث لم يكن يَدَعْ التيمُّم في مثل هذه الحال.
ومما يُبيَّن هذا أن آية "النِّساء"، ليس فيها "من" قال تعالى: فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم {النساء: 43} وآية "النساء" سبَقت آية "المائدة" بسنوات.
وأيضاً: في حديث عمَّار ـ رضي الله عنه ـ الذي رواه البخاري: أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لما ضَرَبَ بكفَّيهِ الأرض نَفَخَ فيهما (1)، والنَّفْخُ يُزيل الغبار، وأثر التُّراب.
واشترط الأصحاب أن يكون التُّراب مُبَاحاً، فإن كان غير مباح فلا يصحُّ تيمُّمُه منه كما لو كان مسروقاً.
وهذه المسألة خِلافيَّة (1)، والخِلاف فيها كالخِلاف في اشتراط إباحة الماء للوُضُوء والغُسْل.(142/15)
أما لو كان التُّراب ترابَ أرضٍ مغصوبة، فإنَّه يصحُّ التَّيمُّم منه، كما لو غَصب بئراً فإنه يصحُّ الوُضُوء من مائها، ولكن قال الفقهاء ـ رحمهم الله ـ : يُكرَه الوُضُوء من ماء بئر في أرض مغصوبة.
قوله: "وفُرُوضُه: مَسْحُ وَجْهِه ويَديْه إلى كُوْعَيْه" والدَّليل على ذلك: قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه {المائدة: 6} وهو كقوله تعالى في الوُضُوء: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافقالآية {المائدة: 6} .
والكُوع: هو العَظم الذي يلي الإبهام. وأنشدوا:
وعظمٌ يلي الإبهامَ كوعٌ وما يلي لخنصره الكرسوع، والرَّسغُ ما وَسَطْ
وعظمٌ يلي إبهامَ رِجٍْل مُلَقَّبٌ ببوع ٍ؛ فَخُذْ بالعِلْم، واحذر من الغَلَطْ (2)
والدَّليل على أنَّ المسح إلى الكُوعين:
1ـ قوله تعالى: وأيديكم منه {المائدة: 6} واليَدُ إذا أُطلقت فالمراد بها الكَفُّ بدليل قوله تعالى : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما {المائدة: 38} والقَطْع إنما يكون من مِفْصَل الكَفِّ.
2ـ حديث عمار بن ياسر وفيه أن النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "إنما يكفيك أن تقول بيَدَيْك هكذا، ثم ضَرََب بِيَدَيْه الأرض ضربة واحدة، ثم مَسَح الشِّمال على اليمين، وظاهرَ كفَّيه ووجهه"(1) ولم يَمسَحْ الذِّراع.
وقال بعض العلماء: إن التَّيمُّم إلى المرفقين (2)؛ واستدلُّوا بما يلي:
1ـ ما رُويَ عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، أنه قال: "التَّيمُّم ضربتان، ضربةٌ للوَجْه، وضربةٌ لليدين إلى المرفقين"(3) ورُدَّ هذا بأن الحديث ضعيف شاذٌّ مخالف للأحاديث الصَّحيحة في صفة التَّيمُّم؛ وأنه ضربة واحدة، والمسْحُ إلى الكُوع فقط.
2ـ قياس التَّيمُّم على الوُضُوء. ورُدَّ هذا القياس بأمرين:
الأول: أنه مقابل للنَّصِّ، والقِياس المقابل للنَّصِّ يُسمَّى عند الأصوليِّين فاسد الاعتبار.
الثاني: أنه قياس مع الفارق، والفرق من وجوه:(142/16)
الوجه الأول: أن طهارة التَّيمُّم مختصَّة بعضوَين، وطهارة الماء مختصَّة بأربعة في الوُضُوء، وبالبَدَنِ كُلِّه في الغُسْل.
الوجه الثَّاني: أنَّ طهارة الماء تختلف فيها الطَّهارتان، وطهارة التَّيمُّم لا تختلف.
الوجه الثَّالث: أنَّ طهارة الماء تنظيف حِسِّي، كما أن فيها تطهيراً معنويًّا، وطهارة التَّيمُّم لا تنظيف فيها.
3ـ أن اليدَين في التَّيمُّم جاءت بلفظ مطلَق، فتُحمل على المُقيَّد في آية الوُضُوء. ورُدَّ هذا بأنَّه لا يُحْمَل المطلَق على المقيَّد إلا إذا اتَّفقا في الحُكْم، أمَّا مع الاختلاف فلا يُحْمَل المطلَق على المقيَّد.
قوله: "وكذا التَّرتيبُ والموالاةُ في حَدَث أصغر" يعني: أنَّ من فروض التَّيمُّم في الحَدَثِ الأصْغَرِ التَّرتيب والموالاة.
فالتَّرتيب: أن يبدأ بالوَجْه قَبْل اليَدَين.
ودليله قوله تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم {المائدة: 6} فبدأ بالوجه قبل اليدين. وقد قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "ابدؤوا بما بَدَأ الله به"(1).
والموالاة: ألاّ يُؤخِّر مسْحَ اليدين زمناً لو كانت الطَّهارة بالماء لَجَفَّ الوَجْه، قبل أن يطهِّر اليدين.
وعلَّلوا: أن التَّيمُّم بَدل عن طهارة الماء، والبَدَل له حُكْمُ المبدَل، فلما كانا واجبَين في الوُضوء، وَجَبَا في التَّيمُّم عن الحَدَثِ الأصغر. وأما بالنسبة للأكبر كالجنابة فلا يُشْترط التَّرتيب، ولا الموالاة، لِعَدم وجوبهما في طَهارة الجَنابة، وهذا هو المذهَب.
وقال بعض العلماء: إن التَّرتيب والموالاة فُرْضٌ فيهما جميعاً (1).
واستدلُّوا بِقَوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، في حديث عَمَّار وهو جُنُب: "إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا" ففعل التَّيمُّم مرتَّباً، متوالياً.(142/17)
قالوا: وقياس التَّيمُّم على طهارة الحَدَثِ الأكبر في عَدَم وُجوب التَّرتيب والموالاة قياس مع الفارق؛ لأن البَدَنَ كلَّه عُضْوٌ واحد في طهارة الحدث الأكبر بالماء وفي التَّيمُّم عُضْوان.
وقال بعض العلماء: إنهما لَيْسا فرضاً في الطَّهارتين جميعاً (1).
والذي يظهر أن يقال: إن التَّرتيب واجب في الطَّهارتين جميعاً، أو غير واجب فيهما جميعاً؛ لأن الله تعالى جعل التَّيمُّم بدلاً عن الطَّهارتين جميعاً، والعضوان للطهارتين جميعاً.
وبالنِّسبة للموالاة الأوْلَى أن يُقال: إنها واجبة في الطَّهارتين جميعاً، إذ يبعد أن نقول لمن مَسَح وَجْهَه أوَّل الصُّبْح، ويدَيْه عند الظُّهر: إن هذه صورة التَّيمُّم المشروعة!.
قوله: "وتُشْتَرطُ النيَّةُ". الشَّرط في اللُّغة: العلامة، ومنه قوله تعالى: فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها {محمد: 18} أي: علاماتها.
وفي اصطلاح الأصوليين: ما يَلزَمُ من عَدَمِه العَدَم، ولا يَلْزَم من وجوده الوُجود.
مثاله: الوُضُوء شرط لصحَّة الصَّلاة، يلزم مِن عَدَمِه عَدَمُ الصِّحة، ولا يلزم من وجوده وجود الصَّلاة؛ لأنه قد يتوضَّأ ولا يُصلِّي.
والسَّبب : ما يَلزَم من وجوده الوُجود، ويَلزَم من عَدَمِه العَدَم. فالفرق بينه وبين الشَّرط: أن السبب يَلزَم من وجوده الوُجود بخِلاف الشَّرط.
والمانع: ما يَلزَم من وُجوده العَدَم، ولا يَلزَم من عَدَمِه الوُجود، عكس الشَّرط.
وقوله: "النِّيَّة". سبق الكلام عليها(1).
قوله: "لما يَتَيَمَّم له من حَدَثٍ، أو غيره". "من حَدَثِ": متعلِّق بـ "يَتَيَمَّم"، وليست بياناً للضَّمير في "له" وذلك أن عندنا شيئين مُتَيَمَّماً له، ومُتَيَمَّماً عنه، والمؤلِّف جمَع بينهما.
فلا بُدَّ أن ينويَ نِيَّتَيْن:(142/18)
الأولى: نِيَّة ما يتيمَّم له، لنعرف ما يستبيحه بهذا التَّيمُّم، وتعليل ذلك: أن التَّيمُّم مبيح لا رافع على المذهب، (1) ولا يُستباح الأعلى بنيَّة الأدنى، فلو نَوَى بِتَيَمُّمِهِ صلاة نافلة الفَجْر لم يُصَلِّ به الفريضة، ولو نوى الفريضة صلَّى به النافلة؛ لأنَّ النَّافلة أدنى والأدنى يُستباح بنيَّة الأعلى.
الثَّانية: نيَّة ما يتيمَّم عنه من الحَدَثِ الأصغر أو الأكبر.
وقول المؤلِّف ـ رحمه الله ـ: "أو غيره" يعني به: النَّجاسة التي على البَدَنِ خاصَّة.
مثال ذلك: إذا أحْدَث حَدَثاً أصغر، وأراد صلاة الظُّهر يُقال له:انْوِ التَّيمُّم عن الحَدَثِ الأصغر، وانْوِهِ لصلاة الظُّهر.
وأما بالنسبة لطهارة الماء، فلو نَوى الصَّلاة، ولم يطْرأ على باله الحدث ارتفع حَدَثُه، وكذا لو نوى َرفْع الحَدَث، ولم يطرأ على باله الصَّلاة ارتفع حَدَثُه وصلَّى به الفريضة.
ونظير هذا فيما يتعذَّر فيه الاحتياط: أنَّ المشهور عن أبي حنيفة: أن وقت العصر لا يدخل إلا إذا صار ظِلُّ كل شيء مِثلَيه (1)، وجمهور العلماء على أنه يَخرُج الوقت الاختياري إذا صار ظِلُّ كلِّ شيء مِثلَيه (2).
فإن قيل: الأَحْوَط أن تُؤخَّر حتى يصيرَ ظلُّ كلِّ شيءِ مثليه، فأنت آثمٌ عند الجمهور.
وإن قيل: الأحْوَط أن تقدِّم، فأنت عند أبي حنيفة آثم.
وحينئذٍ لابُدَّ أن نُمعن النَّظر لنعرف أيَّ القولَين أسعدُ بالدَّليل.
والذي يَظهر ـ والله أعلم ـ أن المذهب أقربُ للصَّواب؛ لأنَّه وُجِدَ الماء، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :"إذا وَجَدَ الماء فليتَّقِ الله ولْيُمِسَّه بَشَرَتَه"(3) ولأن خروجه من الصَّلاة حينئذ لإكمالها؛ لا لإبطالها، كما قال بعض العلماء فيمن شَرع في الصَّلاة وَحْدَه، ثم حضَرَتْ جماعة فله قَطْعها ليصلِّيها مع الجماعة (1).(142/19)
قوله: "لا بَعْدَها" أي: إذا وَجَدَ الماء بعد الصَّلاة، لا يَلْزَمه الإعادة، وليس مُراده أنَّ التيمُّم لا يَبْطُل كما هو ظاهر عبارته.
والدَّليل على هذا: ما رواه أبو داود في قصَّة الرَّجُلين اللذين تَيمَّمَا ثم صَلَّيَا، ثم وَجَدَا الماءَ في الوقت، فأمَّا أحدُهما فلم يُعِدِ الصَّلاة، وأمَّا الآخر فتوضَّأ وأعاد، فَقَدِما على النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فأخبراه الخبرَ؛ فقال للذي لم يُعِدْ: "أَصَبْتَ السُّنَّةَ" وقال للذي أعاد: "لك الأجْرُ مَرَّتين"(2).
فإن قال قائل: أُعيد لأنالَ الأَجْرَ مرَّتين.
قلنا: إذا علمت بالسُّنَّة، فليس لك الأَجْرُ مرَّتين، بل تكون مبتدعاً، والذي أعاد وقال له النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"لك الأَجْرُ مرَّتين" لم يعْلَم بالسُّنَّة، فهو مجتهد فصار له أجر العملين: الأول، والثاني.
ومن هذا الحديث يتبيَّن لنا فائدة مهمّة جدًّا وهي أن موافقة السُّنَّة أفضل من كَثْرة العَمل.
فمثلاً تكثير النَّوافل من الصَّلاة بعد أذان الفجر، وقبل الإقامة غير مشروع؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يكن يفعل ذلك.
وكذلك لو أراد أحد أن يُطيل رَكعتي سُنَّة الفجر بالقراءة والرُّكوع والسُّجود، لكونه وقتاً فاضلاً ـ بين الأذان والإقامة ـ لا يُرَدُّ الدُّعاء فيه، قلنا: خالفتَ الصَّواب؛ لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يُخفِّف هاتين الرَّكعتين(1).
وكذا لو أراد أحد أن يتطوَّع بأربع رَكَعَات خلْفَ المقام بعد الطَّواف، أو أراد أن يُطيل الرَّكعتين خلْفَ المقام بعد الطَّواف. قلنا: هذا خطأ؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يخفِّفهُما، ولا يزيد على الرَّكعتين(1).(142/20)
قوله: "والتَّيمُّمُ آخِرَ الوقتِ لراجِي الماءِ أَوْلَى". أي: إذا لم يَجِدْ الماءَ عند دخول الوقت، ولكن يرجو وجُودَه في آخر الوقت؛ فتأخير التَّيمُّم إلى آخر الوقت أَوْلَى؛ ليصلِّي بطهارة الماء، وإن تيمَّم وصلَّى في أوَّل الوقت فلا بأس.
واعْلَم أن لهذه المسألة أحوالاً:
فيترجَّح تأخير الصَّلاة في حالين:
الأولى: إذا عَلِمَ وجود الماء.
الثَّانية: إذا ترجَّح عنده وجود الماء؛ لأن في ذلك محافظة على شَرْطٍ من شروط الصَّلاة وهو الوُضُوء، فيترجَّح على فِعْل الصَّلاة في أوَّل الوقت الذي هو فضيلة.
ويترجَّح تقديم الصَّلاة أول الوقت في ثلاث حالات:
الأولى: إذا عَلِمَ عدم وجود الماء.
الثَّانية: إذا ترجَّحَ عنده عَدَمُ وجود الماء.
الثالثة: إذا لم يترجَّحْ عنده شيء.
وذهب بعضُ العلماء إلى أنه إذا كان يَعْلَم وجود الماء فيجب أن يؤخِّر الصَّلاة(1)؛ لأن في ذلك الطَّهارة بالماء، وهو الأصل فيتعيَّن أنْ يؤخِّرَها.
والرَّاجح عندي: أنه لا يتعيَّن التَّأخير، بل هو أفضل لما يلي:
1ـ عموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "أيُّما رجل من أمتي أدْركَتْه الصَّلاة فليُصَلِّ"(2).
2ـ أنَّ عِلْمَه بذلك ليس أمراً مؤكَّداً، فقد يتخلَّف لأمْرٍ من الأمور، وكلَّما كان الظَّن أقوى كان التَّأخير أَوْلَى.
والمراد بقوله: "آخِرَ الوقت" الوقت المختار.
والصَّلاة التي لها وقتُ اختيار ووقت اضْطرار هي صلاة العَصْر فقط، فوقت الاختيار إلى اصْفِرار الشَّمس، والضَّرورة إلى غروب الشَّمس.
وأما العِشَاء؛ فالصَّحيح أنه ليس لها إلا وقت فضيلة ووقت جَواز، فوقت الجواز من حين غَيبوبة الشَّفق، ووقت الفضيلة إلى نِصف الليل.
وأمَّا ما بعد نِصف الليل؛ فليس وقتاً لها؛ لأنَّ الأحاديث الواردة عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قد حدَّدتْ وقت العِشاء إلى نِصف الليل(1).(142/21)
ويَنْبَني على هذا: لو أنَّ امرأة طَهُرَتْ من حَيضها بعد نِصف الليل، فعلى هذا القول لا يَلزَمها صلاة العِشاء ولا المغْرِب.
وعلى قول من قال: إنه يمتدُّ وقت ضرورة إلى طلوع الفجر، فإنه يَلْزَمها عندهم أن تُصلِّيَ العِشاء.
وعند آخرين يَلزَمُها أن تصلِّيَ العِشاء والمغرِب(2).
وإذا دار الأَمْر بين أن يُدرِك الجماعة في أوَّل الوقت بالتَّيمُّم، أو يتطهَّر بالماء آخِر الوقت وتفوته الجماعة؛ فيجب عليه تقديم الصَّلاة أول الوقت بالتَّيمُّم، لأنَّ الجماعة واجبة.
قوله: "وصِفَتُه..." أي: وصِفَةُ التَّيمُّم. وإنَّما يَذْكُر العلماء صِفَة العبادات، لأن العبادات لا تَتِمُّ إلا بالإخلاص و تعالى، وبالمتابعة للنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، والمتابعة لا تتحقَّق إلا إذا كانت العبادة موافِقَة للشَّرع في سِتَّة أمور:
1ـ السَّبب. 2ـ الجِنْس.
3ـ القَدْر.4ـ الكيفيَّة.
5ـ الزَّمان.6ـ المكان.
فلا تُقْبَل العبادة إلا إذا كانت صِفَتُها موافِقة لما جاء عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولهذا احتاج العلماء إلى ذِكْر صِفَة العبادات كالوُضُوء، والصَّلاة، والصِّيام وغيرها.
قوله: "أَنْ يَنْوِي". النِّيَّة ليست صِفَة إلا على سبيل التَّجوُّز، لأن مَحلَّها القلب، وقد سبق الكلام على النِّيَّة(1).
قوله: "ثم يُسَمِّي" أي: يقول: بسم الله.
والتَّسمِيَة هنا كالتَّسْمِية في الوُضُوء خِلافاً ومذهباً(1)، لأنَّ التَّيمُّم بَدَلٌ، والبَدَلُ له حُكْم المبدَل.
قوله: "ويَضْرِبُ التُّرابَ بِيَدَيْه" لم يَقُلْ: الأرض، لأنَّهم يشتَرِطون التُّراب، والصَّواب أن يُقال: ويَضْرِب الأرضَ سواء كانت تراباً، أم رَمْلاً، أم حجَراً.
قوله: "مُفَرَّجَتَي الأصَابِعِ" أي: مُتَباعِدة؛ لأجْل أن يَدْخُل التُّراب بينها، لأنَّ الفقهاء يَرَوْن وُجوب استيعاب الوَجْه والكفَّين هنا، ولذلك قالوا: مُفَرَّجَتَي الأصابع.(142/22)
والأحاديثُ الواردة عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه ضَرَبِ بِيَديه ليس فيها أنه فرَّج أصابعه. وطهارة التَّيمُّم مبنيَّة على التَّسهيل والتَّسامُحُ، ليست كطهارة الماء.
قوله: "يمسح وجهه بباطنها وكفَّيْه بِراحَتَيْهِ". أي: بِباطن الأصابع، ويَتْرُك الرَّاحتَين، فلا يَمْسَح بهما، لأنه لو مَسَحَ بكلِّ باطن الكفِّ، ثم أراد أن يَمْسَح كفَّيه؛ صار التُّراب مستعمَلاً في طهارة واجبة؛ فيكون طاهراً غيرمطهِّر على المذهب؛ بناءً على أنَّ التُّراب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: طَهُور، وطاهر، ونَجِس كالماء. وهذا غير مُسلَّم، والصَّحيح كما سبق أنَّه لا يوجد تراب يُسمَّى' طاهرٌ غيرُ مطهِّر (1) وأن التُّراب المستعمَل في طهارة واجبة طَهُور، وحينئذ لا حاجة إلى هذه الصِّفة؛ لأنها مبنيَّة على تعليل ضعيف، ولا دليل عليها؛ بل الدَّليل على خلافها، فإن حديث عمَّار: "مَسَحَ وجْهَه بيَدَيْه"(2) بدون تفصيل، وعلى هذا فنقول: تَمْسَح وجهَك بيدَيك كِلتَيْهما، وتمسح بعضهما ببعض.
قوله: "ويخلِّل أصابِعَه". أي: وُجوباً، بخلاف طهارة الماء فإنه مُسْتَحَبٌّ، لأن الماء له نفوذ فيدخل بين الأصابع بدون تخليل، وأما التُّراب فلا يجري فيحتاج إلى تخليل(2).
ونحن نقول: إثبات التَّخليل ـ ولو سُنَّة ـ فيه نَظَر؛ لأن الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في حديث عمَّار لم يخلِّل أصابعَه(3).
فإن قيل: ألا ّيدخل في عُموم حديث لَقيط بن صَبِرة ـ رضي الله عنه ـ:
"أَسبغ الوُضُوء، وخلِّلْ بين الأصابِع، وبالِغْ في الاسْتِنْشاق"(1).
أجيب: بالمنْع؛ لأنَّ حديث لَقيط بن صَبِرَة في طَهارة الماء.
ولهذا ففي النَّفس شيء من استحِباب التخليل في التَّيمُّم لأمرين:
أولاً: أنه لم يَرِدْ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.(142/23)
وثانياً: أنَّ طهارة التَّيمُّم مبنيَّة على التَّيسير والسُّهولة، بخلاف الماء؛ ففي طهارة الماء في الجنابة يجب استيعاب كل البَدَنِ؛ وفي التَّيمُّم عُضوان فقط، وفي التَّيمُّم لا يجب استيعاب الوَجْه والكفَّين على الرَّاجِح، بل يُتَسامَح عن الشَّيء الذي لا يَصِل إليه المسْح إلا بمشقَّة كباطن الشَّعْر، فلا يجب إيصال التُّراب إليه ولو كان خفيفاً، فيُمْسَح الظَّاهرُ فقط، وفي الوُضُوء يجب إيصال الماء إلى ما تحت الشَّعر إذا كان خفيفاً، ولأن التَّيمُّم لا مضمضة فيه ولا استنشاق، ولأنَّ ما كان من مسافط الجبهة لا يجب إيصال التراب إليه بخلاف الماء.
فالصَّواب: أن نَقْتَصِر على ظاهر ما جاء عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في هذا، واتِّباع الظَّاهر في الأحكام كاتِّباع الظَّاهر في العقائد، إلا ما دلَّ الدَّليل على خلافه.
لكنَّ اتَّباع الظَّاهر في العقائد أَوْكَد، لأنها أمُور غيبيَّة، لا مجال للعَقْل فيها؛ بخلاف الأحكام؛ فإنَّ العَقْل يدخل فيها أحياناً، لكن الأَصْل أنَّنا مكلَّفون بالظَّاهر.
والكيفيَّة عندي التي توافق ظاهر السُّنَّة: أن تَضْرب الأرض بيدَيك ضَرْبة واحدة بلا تفريج للأصابع، وتَمْسَح وجهك بكفَّيك، ثم تَمْسَح الكفَّين بعضهما ببعض، وبذلك يَتِمُّ التَّيمُّم.
ويُسَنُّ النَّفْخ في اليدين ؛ لأنه وَرَدَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ،(1) إلا أن بعض العلماء قيَّده بما إذا عَلِق في يدَيه تراب كثير(2).
قوله: "يُجزِئ في غَسْلِ النَّجاسات...".
هذا تخفيف باعتبار الموضع، فإذا طرأت النَّجاسة على أرض؛ فإنه يُشترَط لطِهَارتها أن تزول عَينُ النَّجاسة ـ أيًّا كانت ـ بغَسْلَة واحدة، فإن لم تَزُلْ إلا بغَسْلَتين، فَغَسْلَتان، وبثلاث فثلاث، والدَّليل على ذلك:(142/24)
قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، لما بال الأعرابيُّ في المسجد: "أريقوا على بوله ذَنُوباً من ماء"(1) ولم يأمُرْ بعدد.
وإن كانت النَّجاسة ذات جِرْمٍ فلا بُدَّ أولاً من إزالة الجِرْمِ كما لو كانت عَذِرَة، أو دَمَاً جَفَّ، ثم يُتبع بالماء.
فإن أزيلت بكلَّ ما حولها من رطوبة كما لو اجتثت اجْتِثاثاً، فإنه لا يحتاج إلى غَسْل، لأن الذي تلوَّث بالنَّجاسة قد أُزيل.
قوله: "وعلى غَيْرِها سَبْعٌ إحْدَاها بتراب" أي: يُجزئ في غَسْل النَّجاسات على غير الأرض سَبْعُ غَسْلات، فلا بُدَّ من سَبْع، كلُّ غَسْلَة منفصلة عن الأخرى، فيُغسَل أولاً، ثم يُعصَر، وثانياً ثم يُعصَر وهكذا إلى سَبْع.
قوله: "إحْدَاها بتراٍب في نجاسةِ كَلْبٍ وخِنْزيرٍ" أي: إحدى الغَسْلات السَبْعِ بتراب.
والدَّليل على ذلك: أنه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، في حديث أبي هريرة، وعبدالله بن مُغَفَّل، أمَر إذا وَلَغَ الكَلْب في الإناء أن :"يُغْسَل سَبْع مرَّات"(1)، "إحداهنَّ بالتُّراب"(2)، وفي رواية "أولاهنَّ بالتُّراب"(3). وهذه الرِّواية أخصُّ من الأُولى، لأن "إحداهنَّ" يَشْمل الأُولى إلى السابعة، بخلاف "أولاهنَّ" فإنه يخصِّصه بالأولى، فيكون أَوْلى بالاعتبار، ولهذا قال العلماء ـ رحمهم الله ـ الأوْلى أن يكون التُّراب في الأُولى (4) لما يلي:
1ـ ورود النَّصِّ بذلك.
2ـ أنه إذا جُعل التُّراب في أوَّل غَسْلة خفَّت النَّجاسة، فتكون بعد أوَّل غَسْلة من النَّجاسات المتوسِّطة.
3ـ أنه لو أصاب الماء في الغَسْلة الثَّانية بعد التُّراب مَحلاًّ آخرَ غُسِل سِتّاً بلا تراب، ولو جعل التُّراب في الأخيرة، وأصابت الغَسْلة الثانية محلاًّ آخرَغُسِل سِتّاً إحداها بالتُّراب.
وقوله: "كَلْب" يشمل الأسودَ، والمُعلَّم وغيرهما، وما يُباح اقتناؤه وغيره، والصَّغير، والكبير.(142/25)
ويشمل أيضاً لما تنجَّس بالوُلوغ، أو البَول، أو الرَّوث، أو الرِّيق، أو العَرَق.
والدَّليل على ذلك: قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: "إذا وَلَغَ الكَلْب" و"أل" هنا لحقيقة الجِنْس، أو لِعُموم الجِنْس، وعلى كلٍّ هي دالَّة على العموم.
فإن قيل: ألا يكون في هذا مَشقَّة بالنِّسبة لما يُباح اقتناؤه؟
أجيب: بلى، ولكن تزول هذه المشقَّة بإبعاد الكلب عن الأواني المستعمَلة، بأن يُخصَّص له أوان لطعامه، وشرابه، ولا نخرجه عن العموم، إذ لو أخرجناه، لأخرجنا أكثر ما دلَّ عليه اللفظ وهذا غير سديد في الاستدلال.
وقال بعض الظَّاهريَّة: إنَّ هذا الحُكم فيما إذا وَلَغَ الكلب، أما بَوْله، ورَوْثه فكسائر النَّجاسات، لأنهم لا يَرَوْن القياس.
وجمهور الفقهاء قالوا: إن روثه، وبوله كوُلُوغه، بل هو أخبث، والنبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، نَصَّ على الوُلُوغ، لأن هذا هو الغالب، إذ أن الكلب لا يبول ويروث في الأواني غالباً، بل يلغ فيها فقط، وما كان من باب الغالب لا مفهوم له، ولا يُخَصُّ به الحكم.
ورجَّحَ بعض المتأخِّرين مذهب الظَّاهريَّة، لا من أجل الأخذ بالظَّاهر؛ ولكن من أجل امتناع القياس، لأن من شَرْط القياس مساواة الفرع للأصل في العِلَّة حتى يساويه في الحُكم، لأن الحكم مرتَّبٌ على العِلَّة، فإذا اشتركا في العِلَّة اشتركا في الحكم، وإلا فلا.
والفرق على قولهم: إن لُعاب الكلب فيه دودة شريطيَّة ضارَّة بالإنسان، وإذا وَلَغَ انفصلت من لُعابه في الإناء، فإذا استعمله أحد بعد ذلك فإنها تتعلَّق بمعدة الإنسان وتخرقها ولا يُتلفها إلا التُّراب.(142/26)
ولكن هذه العِلَّة إذا ثبتت طبيًّا، فهل هي منتفية عن بوله، وروثه؟ يجب النَّظر في هذا، فإذا ثبت أنها منتفية، فيكون لهذا القول وجه من النَّظر، وإلا فالأحْوَط ما ذهب إليه عامة الفقهاء، لأنك لو طهَّرته سبعاً إحداها بالتُّراب لم يَقُل أحد أخطأت، ولكن لو لم تطهِّره سَبْع غسلات إحداها بالتُّراب، فهناك من يقول: أخطأت والإناء لم يطهُر. قوله: "وخِنْزير" الخنزير: حيوان معروف بفَقْدِ الغِيرة، والخُبث، وأكل العَذِرة، وفي لحمه مكروبات ضارَّة قيل إن النَّار لا تؤثِّر في قتلها، ولذا حَرَّمه الشَّارع.
والفقهاء ـ رحمهم الله ـ ألحقوا نجاسته بنجاسة الكلب لأنه أخبث من الكلب، فيكون أوْلى بالحكْم منه.
وهذا قياس ضعيف، لأن الخنزير مذكور في القرآن، وموجود في عهد النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، ولم يَرِدْ إلحاقه بالكلب.
فالصَّحيح أن نجاسته كنجاسة غيره فتُغسل كما تُغسل بقية النَّجاسات.
قوله: "أشنانٌ". هو شجر يُدَقُّ ويكون حبيبات كحبيبات السُّكَّر أو أصغر، تغسل به الثِّياب سابقاً، وهو خشن كخشونة التُّراب، ومنظِّف، ومزيل، ولهذا قال المؤلِّف: يجزئ عن التُّراب في نجاسة الكلب.
وهذا فيه نظر لما يلي:
1ـ أن الشارع نَصَّ على التُّراب، فالواجب اتِّباع النَّصِّ.
2ـ أن السِدْر والأشنان كانت موجودة في عهد النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ ، ولم يُشرْ إليهما.
3ـ لعل في التُّراب مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لعاب الكلب.(142/27)
4ـ أن التراب أحد الطهورين، لأنه يقوم مقام الماء في باب التيمُّم إذا عُدِم. قال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ: "وجُعِلت لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً"(1) فرُبَّما كان للشَّارع ملاحظات في التُّراب فاختاره على غيره لكونه أحد الطَّهورين، وليس كذلك الأشنان وغيره، فالصَّحيح: أنه لا يجزئ عن التُّراب، لكن لو فُرض عدم وجود التُّراب ـ وهذا احتمال بعيد ـ فإن استعمال الأشنان، أو الصَّابون خير من عَدَمه.
وظاهر كلام المؤلِّف: أنَّ الكلب إذا صادَ، أو أمسك الصَّيد بفمه، فلا بُدَّ من غسْل اللحم الذي أصابه فمه سبع مرات إحداها بالتُّراب، أو الأشنان، أو الصَّابون، وهذا هو المذهب.
وقال شيخ الإسلام: إن هذا مما عَفَا عنه الشَّارع لأنه لم يَرِدْ عن النبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ أنه أمر بغَسْل ما أصابه فم الكلب من الصَّيد الذي صاده.
وأيضاً الرَّسولُ، ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، قال: "إذا وَلَغَ" (1) ولم يقل: "إذا عَضَّ" فقد يخرج من معدته عند الشرب أشياء لا تخرج عند العضِّ. ولا شَكَّ أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يكونوا يغسلون اللحم سبع مرات إحداها بالتُّراب ومقتضى ذلك أنه معفوٌّ عنه، فالله سبحانه هو القادر وهو الخالق وهو المشرِّع، وإذا كان معفوًّا عنه شرعاً زال ضرره قدراً، فمثلاً الميتة نجسة، ومحرَّمة،وإذا اضطُرَّ الإنسان إلى أكلها صارت حلالاً لا ضرر فيها على المضطرِّ.
والحمار قبل أن يُحرَّم طيِّب حلالُ الأكل، ولما حُرِّمَ صار خبيثاً نجساً، فالصَّحيح: أنه لا يجب غسل ما أصابه فَمُ الكلب عند صيده لما تقدَّم، لأن صيد الكلب مبنيٌّ على التَّيسير في أصله؛ وإلا لجاز أن يُكلِّفَ الله عزَّ وجلَّ العباد أن يصيدوها بأنفسهم بالكلاب المعلَّمة، فالتيسير يشمل حتى هذه الصُّورة وهو أنه لا يجب غَسْل ما أصابه فَمُ الكلب وأن يكون مما عَفَا الله تعالى عنه.(142/28)
قوله: "وفي نجاسةِ غَيْرهما سَبْعٌ بلا تُرابٍ". أي: يجزئ في نجاسة غير الكلب والخنزير سبع غسلات بلا تراب، فلا بُدَّ من سبع، بأن تُغسل أولاً، ثم تُعصر، ثم تغسل ثانياً ثم تُعصر، وهكذا إلى سبع غسلات، وإن احتاج إلى الدلك فلا بُدَّ من الدَّلك، وإذا زالت النَّجَاسة بأوَّل غسلة، وبقي المحلُّ نظيفاً، لا رائحة فيه، ولا لون فلا يطهر إلا بإكمال السَّبع وهذا هو المذهب.
واستدلُّوا: بما رُوي عن ابن عمر أنه قال: "أُمِرْنا بغَسْل الأنجاس سَبْعاً"(1) وإذا قال الصَّحابي أُمِرنا فالآمر هو النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، فيكون من المرفوع حُكماً.
وقال بعض العلماء: إنه لابدَّ من ثلاث غسلات.
واستدلُّوا: بأن النَّبيَّ، ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ كان يكررالأشياء ثلاثاً، حتى في الوُضُوء أعلاه ثلاث مرات(2). ولأن النَّجاسة لا تزول بدونها غالباً.
وقال آخرون: تكفي غَسْلة واحدة تزول بها عَيْن النَّجاسة، ويطهر بها المحلُّ.
واستدلُّوا على ذلك بما يلي:
1ـ قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، في دَمِ الحيض يُصيب الثَّوب: "تحتُّهُ ثم تَقْرُصُه بالماء، ثم تَنْضِحُهُ، ثم تُصَلِّي فيه"(1) ولم يذكر عدداً، والمقام مقامُ بيانٍ، لأنه جواب عن سؤال، فلو كان هناك عدد معتَبَر لَبيَّنَه النبَّيُّ، ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، ولهذا لمَّا كان الدَّمُ جافّاً، قال: تحتُّه أولاً، ولم يقُلْ تغسِلُه، مع أنه مع تكرار الغَسْل يمكن أن يزول، ولو كان جافّاً، لكن بدأ بالأسهل.
2ـ أن النَّجاسة عين خبيثة متى زالت زال حُكمها، وهذا دليل عقليٌّ واضح جد،اً وعلى هذا فلا يُعتبر في إزالة النَّجاسة عددٌ؛ ما عدا نجاسة الكلب فلا بُدَّ لإزالتها من سبع غسلات إحداها بالتُّراب للنَّصِّ عليه.
وأجيب عن حديث ابن عمر(2) بجوابين:
1ـ أنَّه ضعيف، لا أصل له.(142/29)
2ـ على تقدير صحَّته فقد روى الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ حديثاً ـ وإن كان فيه نظر ـ أن النبيَّ، ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، أُمِر بغسل الأنجاس سبعاً، ثم سأل الله التَّخفيف، فأُمِرَ بغسلها مرَّة واحدة(1)، فيُحمل حديث ابن عمر إن صحَّ على أنه قَبِل النَسْخ فيَسقط الاستدلال به.
والصَّحيح: أنه يكفي غسلة واحدة تذهب بعين النَّجاسة، ويطهُر المحل، ما عدا الكلب فعلى ما تَقدَّم.
فإن لم تَزُلْ النَّجاسة بغسلةٍ زاد ثانية، وثالثة وهكذا، ولو عشر مرات حتى يطهُر المحلُّ، والدَّليل على ذلك:
قوله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ للاَّتي غسَّلن ابنته: "اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر؛ إن رأيتنَّ ذلك" (2) مع أن تطهير الميْت ليس عن نجاسة في الغالب، فإذا كان كذلك أي: التطهير الذي ليس عن نجاسة يُزاد فيه على السَّبع إذا رأى الغاسل ذلك؛ فما كان عن نجاسة من باب أَولى، بل يجب أن يُغسل حتى تطهُرَ النَّجاسة.
قوله: "ولا يَطْهُرُ مُتَنَجِّسٌ بشمسٍ" المتنجِّس ما أصابته النَّجاسة.
أو هو هنا نكِرة في سِيَاق النَّفي، فتعمُّ كلَّ متنجِّس سواء كان أرضاً، أو ثوباً، أو فراشاً، أو جداراً، أو غير ذلك، فلا يطهُر بالشَّمس يعني بذهاب نجاسته بالشمس والدليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به {الأنفال: 11} فجعل الله الماء آلة التَّطهير.
2ـ قوله، ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ ، في البحر: " هو الطَّهور ماؤه"(1).
3ـ قوله، ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ ، في الماء يفطُر عليه الصَّائم: "فإنَّه طَهور" (2) أي تحصُل به الطَّهارة، فلم يذكر منه عزَّ وجلَّ ولا النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ شيئاً تحصُل به الطَّهارة سوى الماء.(142/30)
4ـ حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ : "أنَّ أعرابيًّا دخل المسجد، فبالَ في طائفة منه، فزجره النَّاس، فنهاهم النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، فلما قضى بوله، أمر بذَنوب من ماء فأُريق عليه"(1) فلم يتركه النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، للشَّمس حتى تطهِّره.
وهذا هوالمشهور من المذهب أنَّ الماء يُشْتَرَط لإزالة النَّجاسة، فلو كان هناك شيء متنجس بادٍ للشمس كالبول على الأرض ومع طول الأيام؛ ومرور الشمس عليه زال بالكليِّة، وزال تغيُّرُه فلا يطهُر، بل لابُدَّ من الماء.
وذهب أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ إلى أن الشمس تطهر المتنجس، إذا زال أثر النَّجاسة، بها وأنَّ عين النَّجاسة إذا زالت بأيِّ مزيل طَهُر المحلُّ، وهذا هو الصَّواب لما يلي:
1ـ أن النَّجاسةَ عينٌ خبيثة نجاستُها بذاتها، فإذا زالت عاد الشيء إلى طهارته.
2ـ أن إزالة النَّجاسة ليست من باب المأمور، بل من باب اجتناب المحظور، فإذا حصل بأيِّ سبب كان ثَبَتَ الحُكم، ولهذا لا يُشترط لإزالة النِّجاسة نيَّة، فلو نزل المطر على الأرض المتنجِّسة وزالت النَّجاسة طَهُرت، ولو توضَّأ إنسان وقد أصابت ذراعَه نجاسةٌ ثم بعد أن فرغ من الوُضُوء ذكرها فوجدها قد زالت بماءِ الوُضُوء فإن يده تطهر إلا على المذهب؛ لأنهم يشترطون سبع غسلات والوُضُوء لا يكون بسبع.
والجواب عما استدلَّ به الحنابلة: أنه لا ينكر أن الماء مطهِّر، وأنه أيسر شيء تطُهَّر به الأشياء، لكن إثبات كونه مطهِّراً، لا يمنع أن يكون غيره مطهراً، لأن لدينا قاعدة وهي: أن عدم السبب المعيَّن لا يقتضي انتفاء المسبب المعين، لأن المؤثِّر قد يكون شيئاً آخر. وهذا الواقع بالنسبة للنجاسة. وعبَّر بعضهم عن مضمون هذه القاعدة بقوله: انتفاء الدَّليل المعيِّن لا يَستلزِم انتفاء المدلول؛ لأنَّه قد يَثْبُتُ بدليل آخر.(142/31)
وأما بالنسبة لحديث أنس: وأَمْرُ النبيِّ، ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ، بأن يُصَبَّ عليه الماء (1) فإنَّ ذلك لأجل المبادرة بتطهيره، لأن الشَّمس لا تأتي عليه مباشرة حتى تُطهِّره بل يحتاج ذلك إلى أيام، والماء يُطهِّره في الحال والمسجد يحتاج إلى المبادرة بتطهيره، لأنه مُصلَّى النَّاس.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يُبادر بإزالة النَّجاسة عن مسجده، وثوبه، وبَدَنِه، ومصلاَّه لما يلي:
1ـ أن هذا هو هدي النبي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ.
2ـ أنَّه تخلُّص من هذا القَذَر.
3ـ لئلا يَرِدَ على الإنسان نسيان، أو جهالة بمكان النَّجاسة فيُصلِّي مع النَّجاسة.
قوله: "ولا ريح" أي لا يطهُر المتنجِّس بالرِّيح يعني الهواء. هذا هوالمشهور من المذهب.
والدَّليل: ما سبق أنَّه لا يُطهِّر إلا الماء .
والقول الثَّاني: أنه يطهُر المتنجِّس بالريح، لكن مجرد اليُبْس ليس تطهيراً، بل لابدَّ أن يمضي عليه زمن بحيث تزول عين النَّجاسة وأثرها، لكن يُستثنى من ذلك: لو كان المتنجِّس أرضاً رمليَّة؛ فحملت الرِّيح النَّجاسة وما تلوَّث بها؛ فإنها تطهر.
قوله: "ولا دَلْكٍ". أي: لا يطهُر المتنجِّس بالدَّلكِ مطلقاً؛ سواء كان صقيلاً تذهب عين النَّجاسة بدلكه كالمرآة، أم غير صقيل هذا هو المذهب.
والقول الثَّاني: أن المتنجِّس ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما يمكن إزالة النَّجاسة بِدَلْكِه وذلك إذا كان صقيلاً كالمرآة، والسَّيف، ومثل هذا لا يتشرَّب النَّجاسة، فالصَّحيح أنه يطهُر بالدَّلْكِ، فلو تنجَّست مرآة، ثم دَلَكْتَها حتى أصبحت واضحة لا دَنَسَ فيها فإنها تطهُر(1).
الثاني: ما لا يمكن إزالة النَّجاسة بِدَلْكِه، لكونه خشناً، فهذا لا يطهُر بالدَّلك، لأن أجزاءً من النَّجاسة تبقى في خلاله.
قوله: "ولا استحالة غير الخمرة"(1) استحال أي: تحوَّل من حالٍ إلى حال.
أي: أن النَّجاسة لا تطهر بالاستحالة؛ لأنَّ عينها باقية.(142/32)
مثاله: رَوْثُ حمار أُوقِدَ به فصار رماداً؛ فلا يطهُر؛ لأن هذه هي عين النَّجاسة، وقد سبق أن النَّجاسة العينيَّة لا تطهُر أبداً(1)، والدُّخَان المتصاعد من هذه النَّجاسة نَجِسٌ على مقتضى كلام المؤلِّف؛ لأنه متولِّد من هذه النَّجاسة، فلو تلوَّث ثوب إنسان، أو جسمه بالدُّخان وهو رطب، فلا بُدَّ من غَسْله.
مثال آخر: لو سقط كلبٌ في مَمْلَحَة "أرض ملح" واستحال، وصار مِلْحاً، فإنه لا يطهُر، ونجاسته مغلظة.
ويَستَثنون من ذلك ما يلي:
1ـ الخَمْرَة تتخلَّل بنفسها.
2ـ العَلَقَة تتحول إلى حيوان طاهر.
والصَّحيح أنه لا حاجة لهذا الاستثناء، لأن الخَمْرة على القول الرَّاجح ليست نَجِسة كما سيأتي. وأما بالنسبة للعَلَقة فلا حاجة لاستثنائها؛ لأنها وهي في معدنها الذي هو الرَّحم لا يُحكم بنجاستها، وإن كانت نجسة لو خرجت.
ولذلك كان بول الإنسان، وعذرته في بطنه طاهرين، وإذا خرجا صارا نجسَين، ولأن المصلِّي لوحمل شخصاً في صلاته لَصحَّت صلاته؛ بدليل أنّ النبيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ حَمَلَ أُمامة بنت زينب وهو يُصلِّي(1)، ولو حمل المُصلِّي قارورة فيها بول أو غائط لَبَطلت صلاتُه.
قوله: "غَيْرَ الخَمْرَة" الخَمْرُ: اسم لكل مُسكِر. هكذا فسَّره النبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ـ(2).
والعجبُ ممن قال: إنَّ الخمر لا يكون إلا من نبيذ العِنب، وقد قال أفصح العرب أوأعلمهم: "كلُّ مسكرٍ خَمْر" مع أنَّه لو وُجِدَ ذلك في "القاموس المحيط" مثلاً ومؤلِّفه فارسيٌّ لسُلِّمَ به.
والخمر: حرام بالكتاب، والسُّنَّة، وإجماع المسلمين، ولهذا قال العلماء: مَن أنكر تحريمه وهو ممن لا يجهل ذلك كَفَرَ، ويُستتاب؛ فإن تاب وإلاَّ قُتِل؛ سواءٌ كانت من العنب، أم الشَّعير، أم البُرِّ، أم التَّمر، أم غير ذلك.(142/33)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
بابُ إزَالة النَّجَاسَة
محمد بن صالح العثيمين
لما أنهى المؤلِّفُ ـ رحمه الله تعالى ـ الكلامَ على طهارة الحدث، بدأ بطهارة النَّجَسِ، لأن الطهارة الحسِّيَّة، إما عن حَدَث، وإما عن نجس.
وقد سبق تعريف الحدث(1).
والخبث: عينٌ مستقذرةٌ شرعاً.
قولنا: "عين" أي: ليست وصفاً، ولا معنى.
قولنا: "شرعاً" أي: الشَّرعُ الذي استقذرها، وحَكَمَ بنجاستها وخُبْثِهَا.
والنَّجاسة: إما حُكميَّة، وإما عينيَّة.
والمراد بهذا الباب النجاسة الحُكميَّة، وهي التي تقع على شيء طاهر فينجس بها.
وأما العينيَّة: فإنه لا يمكن تطهيرها أبداً، فلو أتيت بماء البحر لتُطَهِّرَ روثة حمار ما طَهُرَت أبداً؛ لأن عينها نجسة، إلا إذا استحالت على رأي بعض العلماء، وعلى المذهب في بعض المسائل.
والنَّجاسة تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: مغلَّظة.
الثاني: متوسِّطة.
الثالث: مُخفَّفة.
قوله: "يُجزِئ في غَسْلِ النَّجاسات كلِّها إذا كانت على الأرض غَسْلةٌ واحدةٌ تَذْهَبُ بعَيْنِ النجاسةِ ". هذا تخفيف باعتبار الموضع، فإذا طرأت النَّجاسة على أرض؛ فإنه يُشترَط لطِهَارتها أن تزول عَينُ النَّجاسة ـ أيًّا كانت ـ بغَسْلَة واحدة، فإن لم تَزُلْ إلا بغَسْلَتين، فَغَسْلَتان، وبثلاث فثلاث.
والدَّليل على ذلك: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، لما بال الأعرابيُّ في المسجد: "أريقوا على بوله ذَنُوباً من ماء"(1) ولم يأمُرْ بعدد.
وإن كانت النَّجاسة ذات جِرْمٍ، فلا بُدَّ أولاً من إزالة الجِرْمِ، كما لو كانت عَذِرَة، أو دَمَاً جَفَّ، ثم يُتبع بالماء.
فإن أزيلت بكلَّ ما حولها من رطوبة، كما لو اجتُثَّتِ اجْتِثاثاً، فإنه لا يحتاج إلى غَسْل؛ لأن الذي تلوَّث بالنَّجاسة قد أُزيل.(143/1)
قوله: "وعلى غَيْرِها سَبْعٌ" أي: يُجزئ في غَسْل النَّجاسات على غير الأرض سَبْعُ غَسْلات، فلا بُدَّ من سَبْع، كلُّ غَسْلَة منفصلة عن الأخرى، فيُغسَلُ أولاً، ثم يُعصَر، وثانياً ثم يُعصَر، وهكذا إلى سَبْع.
قوله: "إحْدَاها بتراٍب في نجاسةِ كَلْبٍ وخِنْزيرٍ" أي: إحدى الغَسْلات السَّبْعِ بتراب.
والدَّليل على ذلك: أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في حديث أبي هريرة، وعبدالله بن مُغَفَّل "أمَر إذا وَلَغَ الكَلْب في الإناء أن يُغْسَل سَبْع مرَّات"(1)، "إحداهنَّ بالتُّراب"(2). وفي رواية: "أولاهنَّ بالتُّراب"(3). وهذه الرِّواية أخصُّ من الأُولى، لأن "إحداهنَّ" يَشْمل الأُولى إلى السابعة، بخلاف "أولاهنَّ" فإنه يخصِّصه بالأولى، فيكون أَوْلى بالاعتبار، ولهذا قال العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ الأَوْلَى أن يكون التُّراب في الأُولى (1) لما يلي:
1ـ ورود النَّصِّ بذلك.
2ـ أنه إذا جُعل التُّراب في أوَّل غَسْلة خفَّت النَّجاسة، فتكون بعد أوَّل غَسْلة من النَّجاسات المتوسِّطة.
3ـ أنه لو أصاب الماء في الغَسْلة الثَّانية بعد التُّراب مَحلاًّ آخرَ غُسِل سِتّاً بلا تراب، ولو جعل التُّراب في الأخيرة، وأصابت الغَسْلة الثانية محلاًّ آخرَغُسِل سِتّاً إحداها بالتُّراب.
وقوله: "كَلْب" يشمل الأسودَ، والمُعلَّم وغيرهما، وما يُباح اقتناؤه وغيره، والصَّغير، والكبير.
ويشمل أيضاً لما تنجَّس بالوُلوغ، أو البَول، أو الرَّوث، أو الرِّيق، أو العَرَق.
والدَّليل على ذلك: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إذا وَلَغَ الكَلْبُ" و"أل" هنا لحقيقة الجِنْس، أو لِعُموم الجِنْس، وعلى كلٍّ هي دالَّة على العموم.
فإن قيل: ألا يكون في هذا مَشقَّة بالنِّسبة لما يُباح اقتناؤه؟(143/2)
أجيب: بلى، ولكن تزول هذه المشقَّة بإبعاد الكلب عن الأواني المستعمَلة، بأن يُخصَّص له أواني لطعامه وشرابه، ولا نخرجه عن العموم، إذ لو أخرجناه لأخرجنا أكثر ما دلَّ عليه اللفظ، وهذا غير سديد في الاستدلال.
وقال بعض الظَّاهريَّة: إنَّ هذا الحُكم فيما إذا وَلَغَ الكلب، أما بَوْله، ورَوْثه فكسائر النَّجاسات(1)، لأنهم لا يَرَوْن القياس.
وجمهور الفقهاء قالوا: إن روثه، وبوله كوُلُوغه، بل هو أخبث(2)، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَصَّ على الوُلُوغ، لأن هذا هو الغالب، إذ إن الكلب لا يبول ويروث في الأواني غالباً، بل يَلِغُ فيها فقط، وما كان من باب الغالب فلا مفهوم له، ولا يُخَصُّ به الحكم.
ورجَّحَ بعض المتأخِّرين مذهب الظَّاهريَّة(1)، لا من أجل الأخذ بالظَّاهر؛ ولكن من أجل امتناع القياس، لأن من شَرْط القياس مساواة الفرع للأصل في العِلَّة حتى يساويه في الحُكم، لأن الحكم مرتَّبٌ على العِلَّة، فإذا اشتركا في العِلَّة اشتركا في الحكم، وإلا فلا.
والفرق على قولهم: إن لُعاب الكلب فيه دودة شريطيَّة ضارَّة بالإنسان، وإذا وَلَغَ انفصلت من لُعابه في الإناء، فإذا استعمله أحد بعد ذلك فإنها تتعلَّق بمعدة الإنسان وتخرقها، ولا يُتلفها إلا التُّراب.
ولكن هذه العِلَّة إذا ثبتت طبيًّا، فهل هي منتفية عن بوله، وروثه؟ يجب النَّظر في هذا، فإذا ثبت أنها منتفية، فيكون لهذا القول وجه من النَّظر، وإلا فالأحْوَط ما ذهب إليه عامَّة الفقهاء، لأنك لو طهَّرته سبعاً إحداها بالتُّراب لم يَقُل أحد أخطأت، ولكن لو لم تطهِّره سَبْع غسلات إحداها بالتُّراب، فهناك من يقول: أخطأت، والإناء لم يطهُر.
وقوله: "وخِنْزير" الخنزير: حيوان معروف بفَقْدِ الغيرة، والخُبث، وأكلِ العَذِرة، وفي لحمه جراثيم ضارَّة، قيل: إن النَّار لا تؤثِّر في قتلها، ولذا حَرَّمه الشَّارع.(143/3)
والفقهاء ـ رحمهم الله ـ ألحقوا نجاسته بنجاسة الكلب؛ لأنه أخبث من الكلب، فيكون أوْلى بالحكْم منه.
وهذا قياس ضعيف؛ لأن الخنزير مذكور في القرآن، وموجود في عهد النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولم يَرِدْ إلحاقه بالكلب.
فالصَّحيح: أن نجاسته كنجاسة غيره ، فتُغسل كما تُغسل بقية النَّجاسات.
قوله "ويُجْزِئ عن التُّراب أشنانٌ ونحوه" الأشنان :شجر يُدَقُّ ويكون حبيبات كحبيبات السُّكَّر أو أصغر، تغسل به الثِّياب سابقاً، وهو خشن كخشونة التُّراب، ومنظِّف، ومزيل، ولهذا قال المؤلِّف: "يجزئ عن التُّراب" في نجاسة الكلب.
وهذا فيه نظر لما يلي:
1ـ أن الشارع نَصَّ على التُّراب، فالواجب اتِّباع النَّصِّ.
2ـ أن السِّدْر والأشنان كانت موجودة في عهد النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولم يُشرْ إليهما.
3ـ لعل في التُّراب مادة تقتل الجراثيم التي تخرج من لُعاب الكلب.
4ـ أن التُّراب أحد الطهورين، لأنه يقوم مقام الماء في باب التيمُّم إذا عُدِم. قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "وجُعِلت لي الأرضُ مسجداً وطَهُوراً"(1) فرُبَّما كان للشَّارع ملاحظات في التُّراب فاختاره على غيره؛ لكونه أحد الطَّهورين، وليس كذلك الأشنان وغيره. فالصَّحيح: أنه لا يجزئ عن التُّراب، لكن لو فُرض عدم وجود التُّراب ـ وهذا احتمال بعيد ـ فإن استعمال الأشنان، أو الصَّابون خير من عَدَمه.
وظاهركلام المؤلِّف: أنَّ الكلب إذا صادَ، أو أمسك الصَّيدَ بفمه، فلا بُدَّ من غسْل اللحم الذي أصابه فَمُهُ سبع مرَّات إحداها بالتُّراب، أو الأشنان، أو الصَّابون، وهذا هو المذهب.
وقال شيخ الإسلام: إن هذا مما عَفَا عنه الشَّارع؛ لأنه لم يَرِدْ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنه أمر بغَسْل ما أصابه فَمُ الكلب من الصَّيد الذي صاده(2).(143/4)
وأيضاً: الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "إذا وَلَغَ" (3) ولم يقل: "إذا عَضَّ" فقد يخرج من معدته عند الشرب أشياء لا تخرج عند العضِّ. ولا شَكَّ أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ لم يكونوا يغسلون اللحم سبع مرات إحداها بالتُّراب، ومقتضى ذلك أنه معفوٌّ عنه، فالله سبحانه هو القادر وهو الخالق وهو المشرِّع، وإذا كان معفوًّا عنه شرعاً زال ضرره قدراً، فمثلاً الميتة نجسة، ومحرَّمة،وإذا اضطُرَّ الإنسان إلى أكلها صارت حلالاً لا ضرر فيها على المضطرِّ.
والحمار قبل أن يُحرَّم طيِّب حلالُ الأكل، ولما حُرِّمَ صار خبيثاً نجساً.
فالصَّحيح: أنه لا يجب غسل ما أصابه فَمُ الكلب عند صيده لما تقدَّم، لأن صيد الكلب مبنيٌّ على التَّيسير في أصله؛ وإلا لجاز أن يُكلِّفَ الله عزَّ وجلَّ العباد أن يصيدوها بأنفسهم؛ لا بالكلاب المعلَّمة، فالتيسير يشمل حتى هذه الصُّورة، وهو أنه لا يجب غَسْل ما أصابه فَمُ الكلب، وأن يكون مما عَفَا الله تعالى عنه.
قوله: "وفي نجاسةِ غَيْرهما سَبْعٌ بلا تُرابٍ". أي: يجزئ في نجاسة غير الكلب والخنزير سبع غسلات بلا تُراب، فلا بُدَّ من سبع، بأن تُغسل أولاً، ثم تُعصر، ثم تغسل ثانياً، ثم تُعصر، وهكذا إلى سبع غسلات، وإن احتاج إلى الدَّلك فلا بُدَّ من الدَّلك، وإذا زالت النَّجَاسة بأوَّل غسلة، وبقي المحلُّ نظيفاً، لا رائحة فيه، ولا لون فلا يطهر إلا بإكمال السَّبع، وهذا هو المذهب.
واستدلُّوا: بما رُوي عن ابن عمر أنه قال: "أُمِرْنا بغَسْل الأنجاس سَبْعاً"(1) وإذا قال الصَّحابي أُمِرنا فالآمر هو النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فيكون من المرفوع حُكماً.
وقال بعض العلماء: إنه لابدَّ من ثلاث غسلات(2).
واستدلُّوا: بأن النَّبيَّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يكرِّرُ الأشياء ثلاثاً، حتى في الوُضُوء أعلاه ثلاث مرات(3). ولأن النَّجاسة لا تزول بدونها غالباً.(143/5)
وقال آخرون: تكفي غَسْلة واحدة تزول بها عَيْن النَّجاسة، ويطهر بها المحلُّ(4).
واستدلُّوا على ذلك بما يلي:
1ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في دَمِ الحيض يُصيب الثَّوب: "تحتُّهُ ثم تَقْرُصُه بالماء، ثم تَنْضِحُهُ، ثم تُصَلِّي فيه"(5) ولم يذكر عدداً، والمقام مقامُ بيانٍ؛ لأنه جواب عن سؤال، فلو كان هناك عدد معتَبَر لَبيَّنَه النبَّيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولهذا لمَّا كان الدَّمُ جافّاً، قال: تحتُّه أولاً، ولم يقُلْ تغسِلُه، مع أنه مع تكرار الغَسْل يمكن أن يزول، ولو كان جافّاً، لكن بدأ بالأسهل.
2ـ أن النَّجاسة عين خبيثة متى زالت زال حُكمها، وهذا دليل عقليٌّ واضح جداً، وعلى هذا فلا يُعتبر في إزالة النَّجاسة عددٌ؛ ما عدا نجاسة الكلب فلا بُدَّ لإزالتها من سبع غسلات إحداها بالتُّراب للنَّصِّ عليه.
وأجيب عن حديث ابن عمر بجوابين:
1ـ أنَّه ضعيف، لا أصل له.
2ـ على تقدير صحَّته؛ فقد روى الإمام أحمد رحمه الله حديثاً ـ وإن كان فيه نظر ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُمِر بغسل الأنجاس سبعاً، ثم سأل الله التَّخفيف، فأُمِرَ بغسلها مرَّة واحدة(1)، فيُحمل حديث ابن عمر ـ إن صحَّ ـ على أنه قَبْل النَّسْخ، فيَسقط الاستدلال به.
والصَّحيح: أنه يكفي غسلة واحدة تذهب بعين النَّجاسة، ويطهُر المحلُّ، ما عدا الكلب فعلى ما تَقدَّم.
فإن لم تَزُلِ النَّجاسة بغسلةٍ زاد ثانية، وثالثة وهكذا، ولو عشر مرَّات حتى يطهُر المحلُّ، والدَّليل على ذلك: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للاَّتي غسَّلن ابنته: "اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر؛ إن رأيتنَّ ذلك" (1) مع أن تطهير الميْت ليس عن نجاسة في الغالب، فإذا كان كذلك ـ أي: التطهير الذي ليس عن نجاسة يُزاد فيه على السَّبع إذا رأى الغاسل ذلك ـ فما كان عن نجاسة من باب أَوْلَى، بل يجب أن يُغسل حتى تطهُرَ النَّجاسة.(143/6)
قوله: "ولا يَطْهُرُ مُتَنَجِّسٌ بشمسٍ" المتنجِّس ما أصابته النَّجاسة.
وهو هنا نكِرة في سِيَاق النَّفي، فتعمُّ كلَّ متنجِّس، سواء كان أرضاً، أو ثوباً، أو فراشاً، أو جداراً، أو غير ذلك، فلا يطهُر بالشَّمس، يعني بذهاب نجاسته بالشمس، والدليل على ذلك:
1ـ قوله تعالى: وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به {الأنفال: 11} فجعل الله الماء آلة التَّطهير.
2ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في البحر: " هو الطَّهور ماؤه"(1).
3ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الماء يُفطر عليه الصَّائم: "فإنَّه طَهور" (2) أي: تحصُل به الطَّهارة، فلم يذكر منه الله عزَّ وجلَّ ولا النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ شيئاً تحصُل به الطَّهارة سوى الماء.
4ـ حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ : "أنَّ أعرابيًّا دخل المسجد، فبالَ في طائفة منه، فزجره النَّاس، فنهاهم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فلما قضى بوله، أمر بذَنوب من ماء فأُريق عليه"(1) فلم يتركه النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للشَّمس حتى تطهِّره.
وهذا هوالمشهور من المذهب، أنَّ الماء يُشْتَرَط لإزالة النَّجاسة، فلو كان هناك شيء مُتنجِّس بادٍ للشمس كالبول على الأرض، ومع طول الأيام، ومرور الشمس عليه زال بالكلِّية، وزال تغيُّرُه فلا يطهُر، بل لابُدَّ من الماء.
وذهب أبو حنيفة ـ رحمه الله ـ إلى أن الشمس تُطَهِّرُ المتنجِّس، إذا زال أثر النَّجاسة بها، وأنَّ عين النَّجاسة إذا زالت بأيِّ مزيل طَهُر المحلُّ(2)، وهذا هو الصَّواب لما يلي:
1ـ أن النَّجاسةَ عينٌ خبيثة نجاستُها بذاتها، فإذا زالت عاد الشيء إلى طهارته.(143/7)
2ـ أن إزالة النَّجاسة ليست من باب المأمور، بل من باب اجتناب المحظور، فإذا حصل بأيِّ سبب كان ثَبَتَ الحُكم، ولهذا لا يُشترط لإزالة النِّجاسة نيَّة، فلو نزل المطر على الأرض المتنجِّسة وزالت النَّجاسة طَهُرت، ولو توضَّأ إنسان وقد أصابت ذراعَه نجاسةٌ ثم بعد أن فرغ من الوُضُوء ذكرها فوجدها قد زالت بماءِ الوُضُوء فإن يده تطهر، إلا على المذهب؛ لأنهم يشترطون سبع غسلات، والوُضُوء لا يكون بسبع.
والجواب عما استدلَّ به الحنابلة: أنه لا ينكر أن الماء مطهِّر، وأنه أيسر شيء تطُهَّر به الأشياء، لكن إثبات كونه مطهِّراً، لا يمنع أن يكون غيره مطهراً، لأن لدينا قاعدة وهي: أن عدم السبب المعيَّن لا يقتضي انتفاء المسَبَّب المعين، لأن المؤثِّر قد يكون شيئاً آخر. وهذا الواقع بالنسبة للنجاسة. وعبَّر بعضهم عن مضمون هذه القاعدة بقوله: انتفاء الدَّليل المعيَّن لا يَستلزِم انتفاء المدلول؛ لأنَّه قد يَثْبُتُ بدليل آخر.
وأما بالنسبة لحديث أنس، وأَمْرُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بأن يُصَبَّ عليه الماء (1) فإنَّ ذلك لأجل المبادرة بتطهيره، لأن الشَّمس لا تأتي عليه مباشرة حتى تُطهِّره بل يحتاج ذلك إلى أيام، والماء يُطهِّره في الحال، والمسجد يحتاج إلى المبادرة بتطهيره؛ لأنه مُصلَّى النَّاس.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يُبادر بإزالة النَّجاسة عن مسجده، وثوبه، وبَدَنِه، ومصلاَّه لما يلي:
1ـ أن هذا هو هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
2ـ أنَّه تخلُّص من هذا القَذَر.
3ـ لئلا يَرِدَ على الإنسان نسيان، أو جهالة بمكان النَّجاسة فيُصلِّي مع النَّجاسة.
قوله: "ولا ريح" أي: لا يطهُر المتنجِّس بالرِّيح، يعني الهواء. هذا هوالمشهور من المذهب.
والدَّليل: ما سبق أنَّه لا يُطَهِّر إلا الماء .(143/8)
والقول الثَّاني: أنه يطهُر المتنجِّس بالريح(1)، لكن مجرد اليُبْس ليس تطهيراً، بل لابدَّ أن يمضي عليه زمن بحيث تزول عين النَّجاسة وأثرها، لكن يُستثنى من ذلك: لو كان المتنجِّس أرضاً رمليَّة؛ فحملت الرِّيح النَّجاسة وما تلوَّث بها، فزالت وزال أثرها؛ فإنها تطهر.
قوله: "ولا دَلْكٍ" أي: لا يطهُر المتنجِّس بالدَّلكِ مطلقاً؛ سواء كان صقيلاً تذهبُ عينُ النَّجاسة بدلكه كالمرآة، أم غير صقيل، هذا هو المذهب.
والقول الثَّاني: أن المتنجِّس ينقسم إلى قسمين:
الأول: ما يمكن إزالة النَّجاسة بِدَلْكِه، وذلك إذا كان صقيلاً كالمرآة والسَّيف، ومثل هذا لا يتشرَّب النَّجاسة، فالصَّحيح أنه يطهُر بالدَّلْكِ، فلو تنجَّست مرآة، ثم دَلَكْتَها حتى أصبحت واضحة لا دَنَسَ فيها فإنها تطهُر.
الثاني: ما لا يمكن إزالة النَّجاسة بِدَلْكِه؛ لكونه خشناً، فهذا لا يطهُر بالدَّلك، لأن أجزاءً من النَّجاسة تبقى في خلاله(1).
قوله: "ولا استحالةٍ" استحال أي: تحوَّل من حالٍ إلى حال.
أي: أن النَّجاسة لا تطهر بالاستحالة؛ لأنَّ عينها باقية.
مثاله: رَوْثُ حمار أُوقِدَ به فصار رماداً؛ فلا يطهُر؛ لأن هذه هي عين النَّجاسة، وقد سبق أن النَّجاسة العينيَّة لا تطهُر أبداً(2)، والدُّخَان المتصاعد من هذه النَّجاسة نَجِسٌ على مقتضى كلام المؤلِّف؛ لأنه متولِّد من هذه النَّجاسة، فلو تلوَّث ثوب إنسان، أو جسمه بالدُّخان وهو رطب، فلا بُدَّ من غَسْله.
مثال آخر: لو سقط كلبٌ في مَمْلَحَة "أرض ملح" واستحال، وصار مِلْحاً، فإنه لا يطهُر، ونجاسته مغلَّظة.
ويَستَثنون من ذلك ما يلي:
1ـ الخَمْرَة تتخلَّل بنفسها(1).
2ـ العَلَقَة تتحول إلى حيوان طاهر.
والصَّحيح: أنه لا حاجة لهذا الاستثناء، لأن الخَمْرة على القول الرَّاجح ليست نَجِسة كما سيأتي(2).(143/9)
وأما بالنسبة للعَلَقة فلا حاجة لاستثنائها؛ لأنها وهي في معدنها الذي هو الرَّحم لا يُحكم بنجاستها، وإن كانت نجسة لو خرجت.
ولذلك كان بول الإنسان وعَذِرَتُه في بطنه طاهرين، وإذا خرجا صارا نجسَين، ولأن المصلِّي لوحمل شخصاً في صلاته لَصحَّت صلاته؛ بدليل أنّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَمَلَ أُمامة بنت ابنته زينب، وهو يُصلِّي(1)، ولو حمل المُصلِّي قارورة فيها بول أو غائط لَبَطلت صلاتُه.
قوله: "غَيْرَ الخَمْرَة" الخَمْرُ: اسم لكل مُسكِر. هكذا فسَّره النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (2).
والعجبُ ممن قال: إنَّ الخمر لا يكون إلا من نبيذ العِنب، وقد قال أفصح العرب وأعلمهم: "كلُّ مسكرٍ خَمْر، وكلُّ مُسْكرٍ حرام" (2) مع أنَّه لو وُجِدَ ذلك في "القاموس المحيط" مثلاً ومؤلِّفه فارسيٌّ لسُلِّمَ به.
والخمر حرام بالكتاب، والسُّنَّة، وإجماع المسلمين. ولهذا قال العلماء: مَن أنكر تحريمه وهو ممن لا يجهل ذلك كَفَرَ، ويُستتاب؛ فإن تاب وإلاَّ قُتِل؛ سواءٌ كانت من العنب، أم الشَّعير، أم البُرِّ، أم التَّمر، أم غير ذلك.
مكاناً لإراقة النَّجاسة، ولهذا يَحرُم على الإنسان أن يبولَ في الطَّريق؛ أو يصبَّ فيه النَّجاسة، ولا فرق في ذلك بين أن تكون واسعة أو ضيِّقة كما جاء في الحديث: "اتقوا اللعَّانَين" قالوا: وما اللعَّانَان يا رسول الله؟ قال: "الذي يَتَخَلَّى في طريق النَّاس أو في ظلِّهم(1)". فقوله :" في طريق النَّاس" يعمُّ ما كان واسعاً وضَيِّقاً، على أنَّه يُقال: إنَّ طُرقات المدينة لم تكن كلُّها واسعة، بل قد قال العلماء ـ رحمهم الله ـ: إن أوسع ما تكون الطُّرقات سبعة أذرع، يعني عند التَّنازع(2).
فإن قيل: هل عَلِم النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بإراقتها؟(143/10)
أجيب: إنْ عَلِمَ فهو إقرار منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ويكون مرفوعاً صريحاً، وإن لم يَعْلَم فالله تعالى عَلِمَ، ولا يقرُّ عبادَه على مُنكَر، وهذا مرفوع حُكماً.
2ـ أنَّه لما حُرِّمت الخمر لم يؤمروا بِغَسْل الأواني بعد إراقتها، ولو كانت نجسة لأُمروا بِغَسْلها، كما أُمروا بِغَسْل الأواني من لحوم الحُمُر الأهليَّة حين حُرِّمت في غزوة خيبر(1).
فإن قيل: إنَّ الخمر كانت في الأواني قبل التَّحريم، ولم تكن نجاستها قد ثبتت.
أُجيب: أنَّها لما حُرِّمت صارت نجسة قبل أن تُراق.
3ـ ما رواه مسلم أن رجلاً جاء براوية خمر فأهداها للنبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فقال: "أما علمتَ أنَّها حُرِّمت؟" فسارَّهُ رجلٌ أنْ بِعْها، فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "بِمَ سارَرْتَهُ؟" قال: أمَرْتُهُ ببيعِهَا، فقال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"إن الذي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَها" ففتح الرجلُ المزادة حَتى ذهبَ ما فيها(2) وهذا بحضرة النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، ولم يَقُلْ له: اغْسِلها، وهذا بعد التَّحريم بلا رَيب.
4ـ أنَّ الأصل الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا دليل هنا. ولا يلزم من التحريم النجاسة؛ بدليل أن السُمَّ حرام وليس بنجس.
والجواب عن الآية: أنَّه يُراد بالنَّجاسةِ النَّجاسةُ المعنويَّة، لا الحسِّيَّة لوجهين:
الأول: أنها قُرِنَت بالأنصاب والأزلام والميسر، ونجاسة هذه معنويَّة.
الثاني: أن الرِّجس هنا قُيِّد بقوله: من عمل الشيطان فهو رجسٌ عمليٌّ، وليس رجساً عينيّاً تكون به هذه الأشياء نجسة.
وأما قوله تعالى: وسقاهم ربهم شرابا طهورا {الإنسان: 21} فإننا لا نقول بمفهوم شيء من نعيم الآخرة؛ لأننا نتكلَّم عن أحكام الدُّنيا.
وأيضاً: فكلُّ ما في الجنَّة طَهُور فليس هناك شيء نجس.(143/11)
ثم إن المراد بالطَّهور هنا الطَّهورُ المعنويُّ الذي قال الله فيه لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون {الصافات: 47} وهذا متعيِّن؛ لأن لدينا سُنَّة عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِعَدَمِ النَّجاسة.
ثم إن شراب أهل الجنَّة ليس مقصوراً على الخمر، بل فيها أنهار من ماء ولَبَن وعسَل، وكلُّها يُشْرب منها، فهل يمكن أن يُقال: إنَّ ماء الدنيا ولَبَنَها وعسَلَها نَجِس بمفهوم هذه الآية؟.
فإن قيل: كيف تخالف الجمهور؟
فالجواب: أن الله تعالى أمر عند التَّنازع بالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة، دون اعتبار الكثرة من أحد الجانبين، وبالرُّجوع إلى الكتاب والسُّنَّة يتبيَّن للمتأمِّل أنه لا دليل فيهما على نجاسة الخمر نجاسة حسيَّة، وإذا لم يَقُم دليل على ذلك فالأصل الطَّهارة، على أننا بيَّنَّا من الأدلَّة ما يَدُلُّ على طهارته الطَّهارة الحسيَّة.
قوله: "فإن خُلِّلَتْ" الضَّمير يعود إلى الخمرة، وتخليلها أن يُضاف إليها ما يُذهِب شدَّتها المسْكِرة من نبيذ أو غيره، أو يصنع بها ما يذهب شدَّتها المسْكِرة.
والمشهور من المذهب: أنها إذا خُلِّلَتْ لا تطهُر، ولو زالت شدَّتُها المسكرة، ولا فرق بين أن تكون خمرة خَلاَّل، أو غيره؛ لأن بعض العلماء استثنى خمرة الخلاَّل وقال: إنه يجوز تخليلُها(1)؛ لأن هذه هي كلُّ ماله، فإذا منعناه من التَّخليل أفسدنا عليه ماله. ولكن الصَّحيح أنَّه لا فرق، وأن الخمر متى تخمَّرت أريقت؛ ولا يجوز أن تُتَّخذ للتَّخليل بخلاف ما إذا تخلَّلت بنفسها فإنها تطهُر وتحِلُّ.(143/12)
واستدلُّوا: بأن زوال الإسكار كان بفعل شيء محرَّم، فلم يترتَّب عليه أثره، إذ التَّخليل لا يجوز؛ بدليل ما رواه أنس أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئِل عن الخمر تُتَّخذ خَلاًّ؟ ـ أي: تُحَوَّلُ خلاًّ ـ قال: "لا" (1) ولأن التَّخليل عمل ليس عليه أمْر الله، ولا رسوله، فيكون باطلاً مردوداً، فلا يترتَّبُ عليه أثرٌ كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدٌّ"(2).
وقال بعض العلماء: إنها تطهُر، وتحلُّ بذلك، مع كون الفعل حراماً(3).
وعلَّلوا: أنَّ عِلَّة النَّجاسة الإسكار، والإسكار قد زال، فتكون حلالاً.
وقال آخرون: إنْ خلَّلها مَنْ يعتقدُ حِلَّ الخمرِ كأهل الكتاب؛ اليهود والنَّصارى، حَلَّت، وصارت طاهرة. وإن خلَّلها مَنْ لا تَحِلُّ له فهي حرام نجسة(3)، وهو أقرب الأقوال. وعلى هذا يكون الخلُّ الآتي من اليهود والنَّصارى حلالاً طاهراً، لأنهم فعلوا ذلك على وجه يعتقدون حِلَّه، ولذا لا يُمنعون من شرب الخمر.
قوله: "أَوْ تَنَجَّسَ دُهْنٌ مائعٌ لم يَطْهُر" الدُّهن تارة يكون مائعاً، وتارة يكون جامداً، والمائع قيل: هو الذي يتسرَّب أو يجري إذا فُكَّ وعاؤه، فإن لم يتسرَّب فهو جامد. وقيل: هو الذي لا يمنع سريان النَّجاسة(1).
فإذا كان جامداً، وتنجَّس، فإنها تزال النَّجاسة، وما حولها.
مثاله: سقطت فأرة في وَدَكٍ جامد فماتت، فالطَّريق إلى طهارته أن تأخذ الفأرة، ثم تقوِّر مكانها الذي سقطت فيه، ويكون الباقي طاهراً حلالاً.
وإن كان مائعاً، فالمشهور من المذهب أنَّه لا يطهُر، سواء كانت النَّجاسة قليلة أم كثيرة، وسواء كان الدُّهن قليلاً أم كثيراً، وسواء تغيَّر أم لم يتغيَّر، فمثلاً: إذا سقطت شعرة فأرة في "دَبَّةٍ(2)" كبيرة مملوءة من الدُّهن المائع، فينجُس هذا الدُّهن ويفسد.
والصَّواب: أن الدُّهن المائع كالجامد؛ فتلقي النجاسة وما حولها، والباقي طاهر.(143/13)
والدَّليل على ذلك ما يلي:
1ـ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئِل عن فأرة، وقعت في سَمْنٍ فقال: "ألقوها، وما حولها فاطْرَحُوهُ، وكُلُوا سمنَكم"(1) ولم يفصِّلْ.
أما رواية: "إذا كان جامداً، فألقوها وما حولها، وإذا كان مائعاً، فلا تقربوه"(2) فضعيفة كما ذكر ذلك شيخ الإسلام(3).
2ـ أن الدُّهن لا تسري فيه النَّجاسة، سواء كان جامداً أم مائعاً، بخلاف الماء، فتنفذ فيه الأشياء.
لكن إنْ كانت النَّجاسة قويَّة وكثيرة، والسَّمن قليل، وأثَّرت فيه فهل يمكن تطهيره؟
قال بعض العلماء: لا يمكن؛ لأنَّ الأشياء لا تنفذ في الدُّهن(1)، فلو جئنا بماء، وصببناه فإنه لا يدخل في الدُّهن، بل يبقى معزولاً.
وقال آخرون: يمكن تطهيره بأن يُغلى بماء حتى تزول رائحةُ النَّجاسة وطعمُها بعد إزالة عين النَّجاسة(1).
وهذا القول يَنْبَنِي على ما سبق وهو أن النَّجاسة عين خبيثة متى زالت زال حُكْمُها.
قوله: "وإن خَفِيَ مَوْضِعُ نجاسةٍ غَسَل حَتَّى يَجْزِمَ بزَوالِهِ" يعني: إذا أصابت النَّجاسة شيئاً، وخفي مكانها، وجب غسل ما أصابته حتى يتيقَّن زوالها.
واعْلَمْ أنَّ ما أصابته النَّجاسة لا يخلو من أمرين:
إما أن يكون ضيِّقاً، وإمَّا أن يكون واسعاً.
فإن كان واسعاً فإنه يتحرَّى، ويغسل ما غلب على ظنِّه أنَّ النَّجاسة أصابته، لأن غسْل جميع المكان الواسع فيه صُعوبة.
وإن كان ضيِّقاً، فإنَّه يجب أن يَغسِل حتى يَجزِم بزوالها.
مثال ذلك: أصابت النَّجاسة أَحَدَ كُمَّي الثَّوب، ولم تعرف أيَّ الكُمَّين أصابته، فيجب غسل الكَمَّين جميعاً، لأنه لا يجزم بزوالها إلا بذلك.
وكذا لو علمتَ أحدهما، ثم نسيتَ فيجب غسلهما جميعاً.
وكلامه ـ رحمه الله ـ يدلُّ على أنه لا يجوز التَّحرِّي ولو أمكن؛ لأنه لا بُدَّ من الجزم واليقين.(143/14)
والصَّحيح: أنه يجوز التَّحرِّي، لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الشَّكِّ في الصَّلاة: "فليتحرَّ الصَّواب، ثم ليتمَّ عليه"(1).
وعليه؛ إذا كان للتَّحرِّي مجال، فتتحرَّى أيَّ الكُمَّين أصابته النَّجاسة، ثم تغسله.
مثال ذلك: لو مرَرْتَ بالنَّجاسة عن يمينك، وأصابك منها، ولا تدري في أيِّ الكُمَّين، فهنا الذي يغلب على الظَّن أنَّه الأيمن، فيجب عليك غسله دون الأيسر.
أما إذا لم يكن هناك مجال للتَّحرِّي، فتغسل الكُمَّين جميعاً؛ لأنك لا تجزم بزوال النَّجاسة إلا بذلك، فالأحوال أربع:
الأولى: أن تجزم بإصابة النَّجاسة للموضعَين؛ فتغسِلهما جميعاً.
الثَّانية: أن تجزم أنَّها أصابت أحدهما بعينه؛ فتغسِله وحده.
الثَّالثة: أن يغلب على ظنِّك أنها أصابت أحدهما؛ فتغسله وحده على القول الرَّاجح.
الرَّابعة: أن يكون الاحتمالان عندك سواء؛ فتغسلهما جميعاً.
والمذهب: أن الثَّالثة كالرابعة؛ فتغسلهما جميعاً.
قوله: "ويَطْهُرُ بَولُ غلامٍ". "بول": خرج به الغائط. "غلام": خرج به الجارية.
قوله: "لم يأكُل الطَّعامَ بنضْحِه". خرج من يأكل الطَّعامَ ،أي: يتغذَّى به.
والنَّضح: أن تُتْبِعَهُ الماءَ دون فَرْكٍ، أو عَصْرٍ حتى يشمله كلَّه، والدَّليل على ذلك: حديث عائشة(1) وأُمِّ قيس بنت محصن الأسديَّة أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُتِيَ بغلامٍ، فبال على ثوبه، فدعا بماءٍ فأتْبَعَهُ بَولَه؛ ولم يغسِلْه(2).
فإن قيل: ما الحكمة أنَّ بَول الغلام الذي لم يَطْعَمْ يُنضح، ولا يُغسل كَبَول الجارية؟
أُجيب: أنَّ الحكمة أن السُّنَّة جاءت بذلك، وكفى بها حكمة، ولهذا لما سُئِلَت عائشة ـ رضي الله عنها ـ : ما بَالُ الحائض تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة ؟ فقالت: "كان يُصيبنا ذلك على عهد الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فنُؤْمَر بقضاء الصَّوم، ولا نُؤْمَر بقضاء الصَّلاة" (1).(143/15)
ومع ذلك التمس بعض العلماء الحكمة في ذلك(2):
فقال بعضهم: الحكمة في ذلك التيسير على المكلَّف، لأن العادة أن الذَّكر يُحْمَل كثيراً، ويُفرح به، ويُحَبُّ أكثر من الأُنثى، وبوله يخرج من ثقب ضيِّق، فإذا بال انتشر، فمع كثرة حمله، ورشاش بوله يكون فيه مشقَّة؛ فخُفِّفَ فيه.
وقالوا أيضاً: غذاؤه الذي هو اللبَن لطيف، ولهذا إذا كان يأكل الطَّعام فلا بُدَّ من غسل بوله، وقوَّته على تلطيف الغذاء أكبر من قوَّة الجارية.
وظاهر كلام أصحابنا أن التفريق بين بول الغلام والجارية أَمْرٌ تعبُّدي(1).
وغائط هذا الصبي كغيره لا بُدَّ فيه من الغَسْل.
وبَول الجارية والغلام الذي يأكل الطَّعام كغيرهما، لا بُدَّ فيهما من الغَسْل.
قوله: "ويُعْفَى في غير مائعٍ، ومَطْعُومٍ عن يسيرِ دمٍ نجسٍ.." العفو: التَّسامح والتَّيسير. والمائع: هو السَّائل، كالماء، واللَّبَن، والمرَق. والمطعوم: ما يُطعَم كالخبز، وما أشبه.
فيُعفى في غير هذين النَّوعين كالثياب، والبدن، والفُرش، والأرض وما أشبه ذلك عن يسيرِ دمٍ نجس... الخ.
أما المائع والمطعوم؛ فلا يُعفى عن يسيره فيهما، هذا هو المذهب، والرَّاجح: العفو عن يسيره فيهما كغيرهما ما لم يتغيَّر أحدُ أوصافهما بالدَّمِ.
واختلف العلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في ميزان اليسير والكثير على قولين سبق بيانهما، والرَّاجح منهما(2).
قوله: "دم نجس" عُلِمَ منه أن الدَّمَ الطَّاهر غير داخل في هذا؛ ويتبيَّن ذلك ببيان أقسام الدِّماء. فالدماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: نجس لا يُعْفَى عن شيء منه، وهوالدَّمُ الخارج من السَّبيلَين، ودم محرَّم الأكل إذا كان مما له نَفْسٌ سائلة كدم الفأرة والحمار، ودم الميْتة من حيوان لا يحلُّ إلا بالذَّكاة .(143/16)
الثاني: نجس يُعْفَى عن يسيره، وهو دم الآدمي وكلُّ ما ميتته نجسة، ويُستثنى منه دَمُ الشَّهيد عليه، والمسك ووعاؤه، وما يبقى في الحيوان بعد خروج روحه بالذَّكاة الشَّرعيَّة؛ لأنَّه طاهر.
الثالث: طاهر، وهو أنواع:
1ـ دم السمك، لأن ميْتته طاهرة، وأصل تحريم الميتة من أجل احتقان الدَّمِ فيها، ولهذا إذا أُنهِرَ الدَّمُ بالذَّبْح صارت حلالاً.
2ـ دم ما لا يسيل دمه؛ كدم البعوضة، والبقِّ، والذُّباب، ونحوها، فلو تلوَّث الثَّوب بشيء من ذلك فهو طاهر، لا يجب غَسْلُه(1).
وربما يُستدَلُّ على ذلك ـ بأنَّ ميْتة هذا النوع من الحشَرات طاهرة ـ بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"إذا وَقَع الذُّبابُ في شرابِ أحدكم، فلْيَغْمِسْهُ، ثم لينزِعْهُ، فإن في أحد جناحَيه داء، وفي الآخر شفاء"(1).
ويلزم من غَمْسِه الموت إذا كان الشَّراب حارًّا، أو دُهنًا، ولو كانت ميْتته نجسة لتنجَّس بذلك الشَّراب، ولاسيَّما إذا كان الإناء صغيراً.
3ـ الدَّمُ الذي يبقى في المذكَّاة بعد تذكِيَتِها، كالدَّمِ الذي يكون في العُروق، والقلب، والطِّحال، والكَبِد، فهذا طاهر سواء كان قليلاً، أم كثيراً.
4ـ دَمُ الشَّهيد عليه طاهر، ولهذا لم يأمُر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ، بغَسْل الشُّهداء من دمائهم(2)، إذ لو كان نجساً لأمر النبيُّ بغسله.
وهل هو طاهر لأنَّه دم شهيد، وهذا ما ذهب إليه الجمهور(3)، أم أنَّه طاهر لأنه دم آدمي؟
فعلى رأي الجمهور: لو انفصل عن الشَّهيد لكان نجساً. وعلى الرأي الثَّاني: هو طاهر؛ لأنَّه دم آدمي.
والقول بأن دم الآدمي طاهر ما لم يخرج من السَّبيلَين قول قويٌّ، والدَّليل على ذلك ما يلي:(143/17)
1ـ أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة حتى يقوم دليل النَّجاسة، ولا نعلم أنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمَر بغسل الدَّمِ إلا دم الحيض، مع كثرة ما يصيب الإنسان من جروح، ورعاف، وحجامة، وغير ذلك، فلو كان نجساً لبيَّنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ؛ لأنَّ الحاجة تدعو إلى ذلك.
2ـ أنَّ المسلمين مازالوا يُصلُّون في جراحاتهم في القتال، وقد يسيل منهم الدَّمُ الكثير، الذي ليس محلاًّ للعفو، ولم يرد عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الأمرُ بغسله، ولم يَرِدْ أنهم كانوا يتحرَّزون عنه تحرُّزاً شديداً؛ بحيث يحاولون التخلِّي عن ثيابهم التي أصابها الدَّم متى وجدوا غيرها.
ولا يُقال: إن الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ كان أكثرهم فقيراً، وقد لا يكون له من الثياب إلا ما كان عليه، ولاسيَّما أنهم في الحروب يخرجون عن بلادهم فيكون بقاء الثِّياب عليهم للضَّرورة.
فيُقال: لو كان كذلك لعلمنا منهم المبادرة إلى غسله متى وجدوا إلى ذلك سبيلاً بالوصول إلى الماء، أو البلد، وما أشبه ذلك.
3ـ أنَّ أجزاء الآدميِّ طاهرة، فلو قُطِعَت يده لكانت طاهرة مع أنَّها تحمل دماً؛ ورُبَّما يكون كثيراً، فإذا كان الجزء من الآدمي الذي يُعتبر رُكناً في بُنْيَة البَدَن طاهراً، فالدَّم الذي ينفصل منه ويخلفه غيره من باب أولى.
4ـ أنَّ الآدمي ميْتته طاهرة، والسَّمك ميْتته طاهرة، وعُلّل ذلك بأن دم السَّمك طاهر؛ لأن ميتته طاهرة، فكذا يُقال: إن دم الآدمي طاهر، لأن ميتته طاهرة.
فإن قيل: هذا القياس يُقابل بقياس آخر، وهو أنَّ الخارجَ من الإنسان من بولٍ وغائطٍ نجسٌ، فليكن الدَّم نجساً.
فيُجاب: بأن هناك فرقاً بين البول والغائط وبين الدَّمِ؛ لأنَّ البول والغائط نجس خبيث ذو رائحة منتنة تنفر منه الطِّباع، وأنتم لا تقولون بقياس الدَّم عليه، إذ الدَّم يُعْفَى عن يسيره بخلاف البول والغائط فلا يُعْفَى عن يسيرهما، فلا يُلحق أحدُهما بالآخر.(143/18)
فإن قيل: ألا يُقاس على دَمِ الحيض، ودم الحيض نجس، بدليل أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَمَرَ المرأة أن تَحُتَّه، ثم تَقرُصَه بالماء، ثم تَنْضِحَه، ثم تُصلِّي فيه(1)؟
فالجواب: أن بينهما فرقاً:
أ ـ أن دم الحيض دم طبيعة وجِبِلَّة للنساء، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "إنَّ هذا شيءٌ كتبه اللهُ على بنات آدم"(1) فَبَيَّنَ أنه مكتوب كتابة قَدريَّة كونيَّة، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الاستحاضة: "إنَّه دَمُ عِرْقٍ" (2) ففرَّق بينهما.
ب ـ أنَّ الحيضَ دم غليظ منتنٌ له رائحة مستكرهة، فيُشبه البول والغائط، فلا يصحُّ قياس الدَّم الخارج من غير السَبيلَين على الدَّم الخارج من السَّبيلَين، وهو دم الحيض والنِّفاس والاستحاضة.
فالذي يقول بطهارة دم الآدمي قوله قويٌّ جدا؛ً لأنَّ النَّصَّ والقياس يدُلاّن عليه.
والذين قالوا بالنَّجاسة مع العفو عن يسيره حكموا بحكمين:
أ ـ النَّجاسة.
ب ـ العفو عن اليسير.
وكُلٌّ من هذين الحُكْمَين يحتاج إلى دليل، فنقول أثبتوا أولاً نجاسة الدَّمِ، ثم أثبتوا أنَّ اليسير معفوٌّ عنه، لأنَّ الأصل أنَّ النَّجس لا يُعْفَى عن شيء منه، لكن من قال بالطَّهارة، لا يحتاج إلا إلى دليل واحد فقط، وهو طهارة الدَّم وقد سبق(1).
فإن قيل: إنَّ فاطمة ـ رضي الله عنها ـ كانت تغسل الدَّمَ عن النبيِّ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في غزوة أُحُد (2) وهذا يدلُّ على النَّجاسة.
أُجيب من وجهين:
أحدهما: أنَّه مجرَّد فِعْل، والفعل المجرَّد لا يدلُّ على الوجوب.
الثاني: أنه يُحتَمَل أنَّه من أجل النَّظافة؛ لإزالة الدَّم عن الوجه، لأنَّ الإنسان لا يرضى أن يكون في وجهه دم، ولو كان يسيراً، فهذا الاحتمال يبطل الاستدلال.
قوله: "من حيوانٍ طاهرٍ". الحيوانات قسمان: طاهر، ونجس
فالطَّاهر: 1ـ كلُّ حيوان حلال كبهيمة الأنعام، والخَيل، والظِّباء، والأرانب ونحوها .(143/19)
2ـ كلُّ ما ليس له دم سائل فهو طاهر في الحياة، وبعد الموت، وسبق أن الدَّمَ من هذا الجنس طاهر(1).
والنَّجس: كل حيوان محرَّم الأكل؛ إلا الهِرَّة وما دونها في الخِلْقة فطاهر على المذهب؛ لحديث أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ أنَّه قُدِّمَ إليه ماء ليتوضَّأ به، فإذا بِهرَّة فأصغى لها الإناء حتى شربت، ثم قال: إن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال في الهِرَّة: "إنها ليست بِنَجَسٍ، إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات"(2).
وسواء كان ما دون الهرة من الطوَّافين، أم لم يكن من الطَّوَّافين، حتى ولو كان لا يوجد في البيوت أبداً.
ولكن ظاهر الحديث: أن طهارتها لمشَقَّة التَّحرُّز منها؛ لكونها من الطوَّافين علينا؛ فيكثر تردُّدها علينا، فلو كانت نجسة؛ لَشقَّ ذلك على النَّاس.
وعلى هذا يكون مناطُ الحُكْمِ التَّطْوَافَ الذي تحصُل به المشقَّة بالتَّحرُّز منها، فكل ما شقَّ التَّحرُّز منه فهو طاهر.
فعلى هذا؛ البغل والحمار طاهران، وهذا هو القول الرَّاجح الذي اختاره كثير من العلماء(1).
قوله: "وعَنْ أَثَرِ استجمارٍ بِمَحَلِّه". أي:يُعفى عن أثر استجمار بمحلِّه.
والمراد: الاستجمار الشَّرعي، الذي تَمَّتْ شروطُه، وقد سبق ذلك في باب الاستنجاء(2).
فإذا تَمَّتْ شروطُه، فإنَّ الأثر الباقي بعد هذا الاستجمار يُعْفَى عنه في محلِّه، ولا يطهُر المحلُّ بالكُليَّة إلا بالماء.
والدَّليل على هذا: أنه ثبت عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الاقتصار على الاستجمار(3) في التَّنَزُّه من البول والغائط.
وعليه؛ فإذا صلَّى الإنسان وهو مستجمِر؛ لكنه قد توضَّأ؛ فصَلاته صحيحة، ولا يُقال: إن فيه أثر النَّجاسة، لأن هذا الأثر معفوٌّ عنه في محلِّه.
ولو صلَّى حاملاً من استجمَر استجماراً شرعيًّا لعُفِيَ عنه أيضاً.(143/20)
وعُلِم من قوله : "بمحلِّه" أنه لو تجاوز محلَّه لم يُعْفَ عنه، كما لو عَرِقَ وسال العَرَقُ، وتجاوز المحلَّ، وصار على سراويله أو ثوبه، أو صفحتي الدُّبر، فإنه لا يُعْفَى عنه حينئذ، لأنه تعدَّى محلَّه.
وعُلِمَ من كلامه ـ رحمه الله ـ أنَّ الاستجمار لا يُطَهِّر، وأن أثره نجس، لكن يُعْفَى عنه في محلِّه.
والصَّحيح: أنه إذا تَمَّتْ شروط الاستجمار، فإنه مطَهِّر.
والدَّليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في العظم والرَّوث: "إنَّهما لا يُطَهِّران"(1) وإسناده جيد.
فقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "لا يُطَهِّران" يدلُّ على أن الاستجمار بما عداهما ـ مما يباح به الاستجمار ـ يُطهِّر.
وبناءً على هذا القول ـ الذي هو الرَّاجح ـ لو تعدَّى محلَّه، وعَرِقَ في سراويله فإنه لا يكون نجساً، لأنَّ الاستجمار مطهِّر، لكنَّه عُفي عن استعمال الماء تيسيراً على الأمة.
فهذان اثنان مما يُعْفَى عنهما:
1ـ يسير الدَّم النَّجس من حيوان طاهر.
2ـ أثر الاستجمار بمحلِّه.
وظاهر كلامه: أنه لا يُعفَى عن يسير شيء مما سواهما، فالقَيء مثلاً لا يُعفَى عن يسيره، وكذلك البول، والرَّوث.
وللعلماء ـ رحمهم الله تعالى ـ في هذه المسألة أقوال(1):
القول الأول: أنَّه لا يُعفَى عن اليسير مطلقاً.
القول الثَّاني: المذهب على التَّفصيل السَّابق.
القول الثَّالث: أنه يُعفَى عن يسير سائر النَّجاسات.
وهذا مذهب أبي حنيفة(2)، واختيار شيخ الإسلام ابن تيميَّة(3) ولاسيَّما ما يُبتلَى به النَّاس كثيراً كبعر الفأر، وروثه، وما أشبه ذلك، فإنَّ المشقَّة في مراعاته، والتطهُّر منه حاصلة، والله تعالى يقول: وما جعل عليكم في الدين من حرج {الحج: 78}
وكذلك أصحاب الحيوانات التي يمارسونها كثيراً، كأهل الحمير مثلاً فهؤلاء يشقُّ عليهم التحرُّز من كُلِّ شيء.(143/21)
والصَّحيح: ما ذهب إليه أبو حنيفة، وشيخ الإسلام، لأنَّنا إذا حكمنا بأن هذه نجِسة، فإمَّا أن نقول: إنَّه لا يُعفَى عن يسيرها كالبول والغائط؛ كما قال بعض العلماء، وإما أن نقول بالعَفْوِ عن يسير جميع النَّجاسات، ومن فرَّق فعليه الدَّليل.
فإن قيل: إنَّ الدَّليلِ فِعْلُ الصَّحابة حيث كانوا يُصلُّون بثيابهم، وهي ملوَّثة بالدَّم من جراحاتهم.
فنقول: إنَّه دليل على ما هو أعظم من ذلك وهو طهارة الدَّمِ.
ومن يسير النَّجاسات التي يُعْفَى عنها لمشَقَّةِ التَّحرُّز منه: يسير سَلَسِ البول لمن ابتُلي به، وتحفَّظ تحفُّظاً كثيراً قدر استطاعته.
قوله: "ولا يَنجُسُ الآدمِيُّ بالمَوْتِ" الآدمي: مَنْ كان من بني آدم من مؤمن، وكافر، وذكر، وأنثى، وصغير، وكبير، فإنه لا يَنجُسُ بالموت.
1ـ لعموم قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إن المؤمن لا يَنجُسَ"(1).
2ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فيمن وَقَصَتْه ناقته: "اغسلوه بماءٍ وسِدْر"(1).
3ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لمن غَسَّلن ابنته: "اغسلنها ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أو أكثر من ذلك إن رأيتنَّ ذلك"(2).
وهذا يدلُّ على أن بَدَنَ الميْت ليس بِنَجِس، لأنَّه لو كان نجساً لم يَفِد الغسل فيه شيئاً، فالكلب مثلاً لو غسَلْتَه ألف مرَّة لم يطهر؛ ولولا أن غسل بَدَنِ الميْت يؤثِّر فيه بالطَّهارة لكان الأمْرُ بغسله عبثاً.
فإن قيل: إن هذا ظاهر في المؤمن أنَّه لا يَنجُس، أما بالنسبة للمشرك فكيف يُقال: لا يَنجُس، والله يقول: إنما المشركون نجس {التوبة: 28}.
فالجواب: أنَّ المراد بالنَّجاسة هنا النَّجاسة المعنويَّة؛ بدليل أنَّ الله تعالى أباح لنا أن نتزوَّج نساء أهل الكتاب، وأن نأكل طعامهم، مع أنَّ أيديهم تلامسه؛ والإنسان يلامس زوجته إذا كانت من أهل الكتاب، ولم يَرِدْ أَمْرٌ بالتَّطَهُّر مِنْهنَّ؛ وهذا هو القول الصَّحيح.(143/22)
وقال بعض العلماء: إن الكافر يَنجُس بالموت(1)، واستدلُّوا بما يلي:
1ـ منطوق الآية السَّابقة.
2ـ مفهوم الحديث السَّابق.
3ـ أنه لا يُغَسَّل، وإذا كان لا يُغَسَّل، فالعِلَّة فيه أنه نَجِسُ العين، وما كان نَجِس العين فإن التَّغسيل لا يفيد فيه.
ورُدَّ هذا: بأن المراد بالنَّجس في الآية النَّجاسة المعنويَّة؛ للأدلَّة التي استدلَّ بها من قال بطهارة بَدَنِ الكافر، وكذلك يُجاب عن مفهوم حديث "إن المؤمن لا يَنجُس". وأما عَدَم تغسيله: فلأن تغسيل الميت إكرام؛ والكافر ليس محلاًّ للإكرام.
قوله: "وما لا نَفْسَ له سائِلَةٌ متَولِّد مِنْ طاهر". الصَّواب في قوله "متولِّد" من حيث الإعراب أن يكون "متولداً" بالنَّصب لأنّه حال، ولهذا قدَّر في "الروض" مبتدأ ليستقيمَ الرَّفع فقال: "وهو متولِّد"(2).
وقوله: "نَفْس": أي: دم. وقوله:"سائلة" أي: يسيل إذا جُرِح، أو قُتِل.
وقوله "متولِّد من طاهر": أي مخلوق من طاهر.
فاشترط المؤلِّف ـ رحمه الله ـ شرطين:
الأول: ألا يكون له نَفْس سائلة.
الثَّاني: أن يكون متولِّداً من طاهر، فهذا لا يَنْجُس بالموت، وكذلك لا يَنْجُس في الحياة من باب أَوْلَى.
مثال ذلك: الصَّراصير، والخنفساء، والعقرب، والبَقُّ (صغار البعوض)، والبعوض، والجراد.
فإذا سَقَطَتْ خنفساء في ماء وماتت فيه، فلا يَنْجُس؛ لأنها طاهرة.
وأما الوزغُ؛ فقد قال الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ : "إنَّ له نَفْساً سائلة"(1) وعلى هذا تكون ميتته نَجِسَة، والفأرة لها نَفْس سائلة، فإذا ماتت فهي نَجِسَة.
ومفهوم قوله: "متولِّد من طَاهرٍ" أنَّه إذا تولَّد من نَجِسٍ فهو نَجِسٌ، وهذا مبنيٌّ على أنَّ النَّجس لا يطهُر بالاستحالة.
وأمَّا على قول من يقول: بأنَّ النَّجس يطهر بالاستحالة(1) فإن ميتته طاهرة؛ وعليه فلا يشترط أن يكون متولِّداً من طاهر.(143/23)
فصراصير الكُنُفِ (المراحيض) ـ على المذهب ـ نجسة؛ لأنها متولِّدة من نجس، وعلى القول الثَّاني طاهرة(1).
قوله: "وبَوْلُ ما يُؤكَلُ لَحْمُهُ، وَرَوْثُه" يعني: أنه طاهر. كالإبل، والبقر، والغنم، والأرانب، وما شابه ذلك.
والدَّليل على ذلك ما يلي:
1ـ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمر العُرنيين أن يلحقوا إبل الصَّدقة، ويشربوا من أبوالها وألبانها(2)، ولم يأمرهم بغسل الأواني، ولو كانت نجِسة لم يأذن لهم بالشُّرْبِ، ولأَمَرَهُمْ بغسل الأواني منها.
2ـ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أذِنَ بالصَّلاة في مرابِضِ الغنم(3)، وهي لا تخلو من البول، والرَّوث.
3ـ البراءة الأصلية، فمن ادَّعى النَّجاسة في أيِّ شيء فعليه الدَّليل، فالأصل الطَّهارة.
فإن قيل: ما الجواب عن حديث ابن عباس في قصَّة صاحب القَبْرَين، وفيه: "أما أحدهما فكان لا يستتر من البول" (1) والبول عام سواء جعلنا "أل" للجنس، أو للاستغراق، فإن ذلك يدُّل على نجاسة البول؟
وكذلك ما الجواب عن نهي النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن الصَّلاة في مَعاطِنِ الإبل، فإن هذا يدلُّ على نجاستها أيضاً؟
فالجواب عن حديث ابن عباس أن قوله: "من البول" أي بول نفسه "فأل" للعهد الذِّهني، والدَّليل على ذلك أنَّه في بعض ألفاظ الحديث عند البخاري "أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله"(2) وهذا نَصٌّ صريح فَيُحْمَل الأوَّل عليه.
وأما النَّهي عن الصَّلاة في مَعاطِن الإبل، فالعِلَّة في النَّهي ليست هي النَّجاسة، ولو كانت العِلَّة النَّجاسة لم يكن هناك فرق بين الإبل والغنم، ولكن العِلَّة شيء آخر.
فقيل:إن هذا الحكم تعبُّدي، يعني: أنه غير معلوم العِلَّة(3).(143/24)
وقيل: يُخشَى أنه إذا صلَّى في مباركها أن تَأْوي إلى هذا المبرك وهو يصلِّي، فَتُشوِّش عليه صلاته لِكِبَر جسمها، بخلاف الغنم(1). وقيل: إنها خُلِقت من الشَّياطين(1) كما ورد بذلك الحديث (2). وليس المعنى أنَّ أصل مادَّتها ذلك، ولكن المعنى أنها خُلِقت من الشَّيطنة، وهذا كقوله تعالى: خلق الإنسان من عجل {الأنبياء: 37} وليس المعنى أن مادة الخَلْق من عجل، لكن هذه طبيعته، كما قال تعالى: وكان الإنسان عجولا {الإسراء: 11}.
وكذا ورد وإن كان ضعيفاً: "أن على ذروة كُلِّ بعير شيطاناً" (3) فيكون مأوى الإبل مأوى للشياطين، فهذا يشبه النهي عن الصلاة في الحمَّام؛ لأن الحمَّام مأوى الشياطين.
فإن قيل: إن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أباح شُرب أبوال الإبل للضَّرورة، والضَّرورات تُبيح المحظورات؟
فالجواب من وجوه:
الأول: أن الله لم يجعل شفاء هذه الأُمَّة فيما حَرَّم عليها(1).
الثَّاني: أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يأمرهم بِغَسْل الأواني؛ بعد الانتهاء من استعمالها، إذ لا ضرورة لبقاء النَّجاسة فيها.
الثَّالث: القاعدة العامة "لا ضرورة في دواء". ووجه ذلك: أن الإنسان قد يُشفَى بدونه، وقد لا يُشفَى به .
قوله: "ومَنِيّه" أي: منيُّ ما يُؤكل لحمه. أي: طاهر. وعُلِم من كلامه أن له مَنِيّاً، والدَّليل على ذلك قوله تعالى: والله خلق كل دابة من ماء {النور: 45}.
وقوله تعالى: وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون {الأنبياء: 30}
وإذا كان بَوْلُه، ورَوْثه طاهرَين، فمَنِيُّه من باب أَوْلى، ولأنَّ المنِيَّ أصلُ هذا الحيوان الطَّاهر فكان طاهراً.(143/25)
قوله: "ومنيُّ الآدمَيّ" أي: طاهر. والمنِيُّ: هو الذي يَخْرج من الإنسان بالشَّهْوة، وهو ماء غليظ، وَصَفَهُ الله تعالى بقوله: ألم نخلقكم من ماء مهين {المرسلات: 20} أي: غليظ لا يسيل من غلظه، بخلاف الماء الذي يَسيل، فهو ماء ليس بِمَهين، بل مُتَحرِّك وهذا الماء خُلِقَ مِنْه بنو آدم عليه السَّلام، قال تعالى: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين 12 ثم جعلناه نطفة في قرار مكين {المؤمنون: 12، 13}.
فَمِن هذا الماء خُلِق الأنبياء، والأولياء، والصِّدِّيقون، والشُّهداء، والصَّالحون، ولنا في تقرير طهارته ثلاث طُرُق:
1ـ أنَّ الأصل في الأشياء الطَّهارة، فَمَن ادَّعى نجاسة شيء فَعَلَيْه الدَّليل.
2ـ أن عائشة ـ رضيَ الله عنها ـ كانت تَفرُك اليابس من مَنِيِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ (1)، وتَغْسِل الرَّطب منه(2). ولو كان نَجِساً ما اكتفت فيه بالفَرْكِ، فقد قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في دَمِ الحيض يُصيب الثَّوب، قال: "تَحُتُّه، ثمَّ تَقْرُصُه بالماء، ثمَّ تَنْضِحُه، ثمَّ تصلِّي فيه(3)" فلا بُدَّ من الغَسْل بعد الحتِّ، ولو كان المنيُّ نجساً كان لابُدَّ من غَسْله، ولم يُجْزِئ فَرْكُ يابِسِه كدَمِ الحيض.
3ـ أن هذا الماء أصل عِبَاد الله المخلصين من النَّبيين، والصِّدِّيقين، والشُّهداء، والصَّالحين، وتأبى حكمة الله تعالى، أن يكون أصل هؤلاء البَررة نَجِسًا.
ومرَّ رجل بعالمين يتناظران، فقال: ما شأنكما؟ قال: أحاول أن أجعل أَصْلَه طاهراً، وهو يحاول أن يجعل أصْلَه نجِساً؛ لأن أحدهما يرى طهارة المنيِّ، والآخر يرى نجاسته.
وقد عَقَد ابنُ القيم ـ رحمه الله ـ في كتابه "بَدائعُ الفَوائدِ "(1) مناظرة بين رَجُلَين أحدهما يرى طهارة المنيِّ، والآخر يرى نجاسته، وهي مناظرة مفيدة لطالب العلم.
فإن قيل: لماذا لا يُقال: بأنه نجس كفَضَلات بني آدم من بول، وغائط؟
فالجواب:(143/26)
1ـ أنه ليس جميع فضلات بني آدم نجسة، فَرِيقُهُ، ومخاطه، وعَرَقُه كلُّه طاهر.
2ـ أنَّ هناك فَرْقاً بين البول، والغائط، والمنيِّ. فالبول والغائط فَضْلَةُ الطَّعام والشَّراب، وله رائحة كريهة مستخْبَثَة في مشامِّ الناس ومناظِرِهم، فكان نجساً، أما المنيُّ فبالعكس فهو خلاصة الطَّعام والشَّراب، فالطَّعام والشَّراب يتحوَّل أولاً إلى َدٍم، وهذا الدَّم يسقي اللهُ تعالى به الجسم، ولهذا يمرُّ على الجسم كلِّه، ثم عند حدوث الشَّهوة يتحوَّل إلى هذا الماء الذي يُخلَق منه الآدميُّ، فالفرق بين الفضْلَتَين من حيثُ الحقيقةُ واضح جدًّا، فلا يمكن أن نُلحِق إحداهما بالأخرى في الحكْم، هذه فضلة طيِّبَة طاهرة خلاصة، وهذه خبيثة مُنْتِنَة مكْروهة.
وقوله: "ومنيّ الآدمِيِّ" مفهومه أنَّ منيَّ غير الآدميِّ نجس، ولكن هذا المفهوم لا عموم له، أي: أنه لا يخالف المنطوق في جميع الصُّور، لأنه يصدق بالمخالفة في صورة واحدة من الصُّور، وإن كان في الباقي موافقاً، وعلى هذا فمنيُّ غير الآدميّ إن كان من حيوان طاهر البول والرَّوث فهو طاهر، وإن كان من حيوان نجس البول والرَّوث فهو نجس.
والدَّليل على ذلك: أنَّ بوله وروثه نجس، فكذا مَنِيُّه؛ لأنَّ الكُلَّ فضلة.
فإن قيل: الآدميُّ بوله وروثه نجس، فليكن منيُّه نجساً؟
فالجواب: أنَّه قام الدَّليل على طهارة مَنِيِّ الآدميِّ بخلاف غيره، وقال بعض العُلماء: ما كان طاهراً في الحياة فمنيُّه طاهر(1)، ولا يصحّ قياس المنيِّ على البول والرَّوث، بل هو من جنس العَرَقِ، والرِّيق، وما أشبه ذلك.
قوله: "ورُطُوبَةُ فرجِ المرْأَةِ" أي: طاهر. واخْتُلِفَ في هذه المسألة.
فقال بعض العلماء: إنها نجسة(1)، وتُنَجِّسُ الثِّياب إذا أصابتها، وعلَّلُوا: بأن جميع ما خرج من السَّبيل، فالأصل فيه النَّجاسة إلا ما قام الدَّليل على طهارته.(143/27)
وفي هذا القول من الحرج والمشقَّة ما لا يعلمه إلا الله تعالى، خصوصاً مَنِ ابتُلِيَتْ به من النِّساء؛ لأنَّ هذه الرُّطوبة ليست عامَّة لكُلِّ امرأة، فبعض النِّساء عندها رطوبة بالغة تخرج وتسيل، وبعض النِّساء تكون عندها في أيام الحمل، ولاسيَّما في الشُّهور الأخيرة منه، وبعض النساء لا تكون عندها أبداً.
وقال بعض العلماء: إنها طاهرة، وهوالمذهب(1).
وعلَّلوا: بأن الرَّجل يُجامع أهله، ولا شَكَّ أنَّ هذه الرُّطوبة سوف تَعْلَق به، ومع ذلك لا يجب عليه أن يغسلَ ذكره، وهذا كالمُجمَع عليه في عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلى يومنا هذا عند النَّاس، ولا يُقالُ بأنها نجسة ويُعفى عنها؛ لأنَّنا إذا قلنا ذلك احتجنا إلى دليل على ذلك.
فإن قيل: إن الدَّليل المشقَّة، وربما يكون ذلك، وتكون هي نجسة، ولكن للمشقَّة من التحرُّز عنها يُعفى عن يسيرها كالدَّم، وشبهه مما يَشُقُّ التحرُّز منه.
ولكنَّ الصَّوابَ الأوَّلُ، وهو أنها طاهرة، ولبيان ذلك نقول: إن الفرجَ له مجريان:
الأولُ: مجرى مسلك الذَّكر، وهذا يتَّصل بالرَّحم، ولا علاقة له بمجاري البول ولا بالمثانة، ويخرج من أسفل مجرى البول.
الثَّاني: مجرى البول، وهذا يتَّصل بالمثانة ويخرج من أعلى الفرج.
فإذا كانت هذه الرُّطوبةُ ناتجةً عن استرخاء المثانة وخرجت من مجرى البول، فهي نجسةٌ. وحكمها حكم سلس البول.
وإذا كانت من مسلك الذَّكر فهي طاهرة، لأنها ليست من فضلات الطعام والشراب، فليست بولاً، والأصل عدم النَّجاسة حتى يقومَ الدَّليل على ذلك، ولأنَّه لا يلزمه إذا جامع أهله أن يغسل ذكره ولا ثيابه إذا تلوَّثت به، ولو كانت نجسةٌ للزم من ذلك أن ينْجُسَ المنيُّ، لأنَّه يتلوَّث بها.
وهل تنقض هذه الرُّطوبةُ الوُضُوءَ؟
أما ما خرج من مسلك البول، فهو ينقضُ الوُضُوء، لأنَّ الظَّاهر أنَّه من المثانة.
وأما ما خرج من مسلك الذَّكر: فالجمهور: أنه ينقض الوُضُوء(1).(143/28)
وقال ابن حزم: لا ينقض الوُضُوء(1)، وقال: بأنه ليس بولاً ولا مذياً، ومن قال بالنَّقض فعليه الدَّليل، بل هوكالخارج من بقية البدن من الفضلات الأخرى. ولم يذكر بذلك قائلاً ممن سبقه.
والقول بنقض الوُضُوء بها أحوط.
فيُقال: إن كانت مستمرَّة، فحكمها حكم سلس البول، أي: أن المرأة تتطهَّر للصلاة المفروضة بعد دخول وقتها، وتتحفَّظُ ما استطاعت، وتُصلِّي ولا يضرُّها ما خرج.
وإن كانت تنقطع في وقت معيَّن قبل خروج الصَّلاة فيجب عليها أن تنتظرَ حتى يأتيَ الوقتُ الذي تنقطع فيه؛ لأنَّ هذا حكم سلس البول.
فإن قال قائل: كيف تنقض الوُضُوء وهي طاهرة؟
فالجواب: أن لذلك نظيراً، وهو الرِّيح التي تخرج من الدُّبُر، تنقض الوُضُوء مع كونها طاهرة .
قوله: "وسؤرُ الهِرَّة وما دونها في الخِلْقَة طاهر" السُّؤر: بقيَّة الطَّعام والشَّراب، ومنه كلمة سائر: بمعنى الباقي.
والدَّليل قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الهِرَّة: "إنَّها ليست بنجس، إنَّها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات"(1).
فحكم بأنها ليست بنجس، والطَّهارة والنَّجاسة نقيضان فيلزم منه أنها طاهرة؛ إذ ليس بعد النجاسة إلا الطَّهارة.
وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إنها ليست بنجس، إنها من الطَّوَّافين عليكم والطَّوَّافات"(1).
الطَّوَّافُ من يُكثر التِّرداد، ومنه الطَّوَاف بالبيت، لأنَّ الإنسان يكثر الدَّوران عليه.
وقوله: "وما دونها في الخِلْقَة طاهر". والدَّليل: القياس على الهِرَّة.(143/29)
والقياس: إلحاق فرع بأصل في حكمٍ لِعِلَّة جامعة. وإذا كانت العِلَّة في الهِرَّة هي التِّطواف وجب تعليق الحكم به؛ لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لم يعلِّل بكونها صغيرة الجسم، ولو علَّل بذلك لقلنا به وجعلناه مَنَاط الحكم. فكون العِلَّة صغر الجسم غير صحيح؛ لأنه إثبات علَّة لم يعلِّل بها الشَّارع، وإلغاءٌ لِعِلَّة علَّل بها الشَّارع، فالعلَّة هي التِّطواف، وهي علَّةٌ معلومة المناسبة، وهي مشقَّة التَّحرُّز، فيجب أن يُعلَّق الحكم بها.
وأيضاً: لو أردنا أن نقيس قياساً تامًّا؛ على تقدير كون العلَّة صغر الجسم، لوجب أن نقول: سؤر الهرَّة، ومثلها في الخلقة طاهر، لا أن نقول: وما دونها، لأن الفرع لا بُدَّ أن يكون مساوياً للأصل، ولا يظهر قياس ما دونها عليها قياساً أولويًا
وظاهركلامه: أن ما كان قَدْرها من السِّباع التي لا تؤكل نجس.
والرَّاجح: أن العِلَّة التي يجب أن تُتَّبع مَا علَّل به النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وهي: أنَّها من الطَّوافين علينا.
وعلى هذا: كلُّ ما يكثر التطواف على الناس؛ مما يشقُّ التَّحرُّز منه فحكمه كالهَّرة.
لكن يُستثنى من ذلك ما استثناه الشَّارع، وهوالكلب، فهو كثير الطَّواف على النَّاس، ومع ذلك قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم، فليغسله سبعاً إحداهن بالتُّراب"(1).
قوله: "وسباع البهائم" يعني: نجسة.
وسباع البهائم: هي التي تأكل وتفترس كالذِّئبِ، والضَّبُعِ، والنَّمِر، والفَهْدِ، وابن آوى، وابن عُرس، وما أشبه ذلك مما هو أكبر من الهِرَّة.
قوله: "والطير". أي: وسباع الطَّير كالنسر، التي هي أكبر من الهرة.
قوله: "والحمارُ الأهليُّ" احترازاً من الحمار الوحشيِّ، لأن الوحشيَّ حلالُ الأكل فهو طاهر.(143/30)
وأما الأهليُّ فهو محرَّمٌ نجِسٌ كما في حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمر أبا طلحة أن يُناديَ يومَ خيبر: "إنَّ الله وَرسولَه ينهيانكم عن لحوم الحُمُر الأهليَّة، فإنها رجس أو نجس"(2)
قوله: "والبغل منه: نَجِسةٌ" أي: من الحمار الأهليِّ، والبغل: دابَّة تتولَّد من الحمار إذا نَزَا على الفرس.
وتعليل ذلك: تغليب جانب الحظر؛ لأن هذا البغل خُلِقَ من الفرس والحمار الأهليِّ، على وجه لا يتميَّز به أحدهما عن الآخر؛ فلا يمكن اجتناب الحرام إلا باجتناب الحلال.
فإن كان من حمار وحشيٍّ، كما لو نزا حمارٌ وحشيٌّ على فرس، فإن هذا البغل طاهرٌ، لأن الوحشيَّ طاهرٌ، والفرسَ طاهرٌ، وما يتولَّدُ من الطاهر فهو طاهر.
وإذا كانت هذه الأشياء نجسة، فإن آسارَها ـ أي: بقيةُ طعامها وشرابِها ـ نجسةٌ.
فلو أن حماراً أهليًّا شرب من إناء، وبقي بعد شربه شيء من الماء، فإنه نجس على كلام المؤلِّف.
وذهب كثيرٌ من أهل العلم إلى أن آسار هذه البهائم طاهرةٌ إذا كانت كثيرةَ الطَّواف علينا(1) .
وعلَّلوا: بأن هذا يشقُّ التَّحرُّز منه غالباً، فإنَّ النَّاس في البادية
تكون أوانيهم ظاهرةً مكشوفةً، فتأتي هذه السِّباعُ فتردُ عليها، وتشرب. فلو ألزمنا النَّاس بوجوب إراقة الماء، ووجوب غسل الإناء بعدها لكان في ذلك مشقَّة.
والأحاديثُ في ذلك فيها شيء من التَّعارض. فبعضها يدلُّ على النَّجاسة، وبعضها يدلُّ على الطَّهارة.
فممَّا وَرَدَ يدلُّ على الطَّهارة، حديث القُلَّتين الذي رواه ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ سُئِلَ عن الماء، وما ينوبُه من السِّباع؟ فقال: "إذا بلغ الماء قُلَّتين لم يحمل الخَبَث"(1) ولم يقل بأن هذه طاهرة، بل جعل الحكم منوطاً بالماء، وأنه إذا بلغ قُلَّتين لم يحمل الخبث، فدلَّ ذلك على أن ورود هذه السِّباع على الماء يجعله خبيثاً لولا أن الماء بلغ قلتين.(143/31)
وفيه أحاديث أخرى، وإن كان فيها ضعف، لكن لها عِدَّة طرق تدلُّ على أن آسار البهائم طاهرة، حيث سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن ذلك فقال: "لها ما حملت في بطونها، ولنا ما غَبَرَ طَهور"(2) وهذا يدلُّ على الطهارة.
ويمكن الجمع بين الحديثين، فيُقالُ: إن كان الماء كثيراً لا يتغيَّر بالشُّرب فلا بأس به، ويكون طَهوراً. وإن كان يسيراً ، وتغيَّر بسبب شربها منه؛ فإنه نجس.
وقال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ : إنَّ الحمار والبغل طاهران(1)؛ لأنَّ الأمة تركبهما، ولا يخلو ركوبهما من عَرَقٍ، ومن مطر ينزل، وقد تكون الثياب رطبة، أو البدن رطباً، ولم يأمر النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمَّته بالتحرُّز من ذلك. وهذا هو الصَّحيح.
وعلى هذا فسؤرهما، وعرقهما، وريقهما، وما يخرج من أنفهما طاهر، وهذا يؤيِّد ما سبق أنْ ذكرناه في حديث أبي قتادة في الهِرَّة (2)، فإن الحمار بلا شكٍّ من الطَّوَّافين علينا، ولا سيَّما أهل الحُمُر الذين اعتادوا ركوبها، فالتحرُّز منها شاقٌّ جدّاً.
فإن قيل: الكلاب أيضاً لمن له اقتناؤها كصاحب الزَّرع، والماشية والصَّيد، يكثر تطوافها عليهم؟
فالجواب: أن َّالكلاب فيها نصٌّ أخرجها وهو قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "إذا ولغ الكلب..." الحديث(1).
وهذا يدلُّ على نجاسة سؤر الكلب، حتى وإن كان من الطَّوَّافين.(143/32)
الشرح الممتع على زاد المستقنع المجلد 1
بابُ الحَيْضِ
محمد بن صالح العثيمين
هذا الباب من أصعب أبواب الفقه عند الفقهاء، وقد أطالوا فيه كثيراً.
وفيما يبدو لنا أنَّه لا يحتاج إلى هذا التَّطويل والتفريعات والقواعد التي أطال بها الفقهاء ـ رحمهم الله ـ والتي لم يكن كثيرٌ منها مأثوراً عن الصَّحابة رضي الله عنهم.
فالمرأة إذا جاءها الحيض تركت الصَّلاة ونحوها، وإذا طَهُرَتْ منه صلَّت، وإذا تنكَّر عليها لم تجعله حيضاً.
فقواعده في السُّنَّة يسيرة جدًّا، ولهذا كانت الأحاديث الواردة فيه غير كثيرة.
ولكن بما أننا نقرأ كلام الفقهاء، فيجب علينا أن نعرف ما قاله الفقهاء ـ رحمهم الله ـ في هذا الباب، ثم نعرضه على كتاب الله وسُنَّة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فما وافق الكتاب والسُّنَّة أخذناه، وما خالفهما تركناه، وقلنا: غفر الله لقائله.
الحيض في اللُّغة: السَّيلان، يُقال: حَاضَ الوادي إذا سال.
وفي الشَّرع: دم طبيعة يصيب المرأة في أيام معلومة إذا بلغت.
خلقه الله تعالى لحكمة غذاء الولد، ولهذا لا تحيض الحامل في الغالب، لأن هذا الدَّم ـ بإذن الله ـ ينصرف إلى الجنين عن طريق السُّرَّة، ويتفرَّق في العروق ليتغذَّى به، إذ إنه لا يمكن أن يتغذَّى بالأكل والشُّرب في بطن أمه، لأنه لو تغذَّى بالأكل والشُّرب لاحتاج غذاؤه إلى الخروج. هكذا قال الفقهاء(1) رحمهم الله.
والحيض دم طبيعة، ليس دماً طارئاً أو عارضاً، بل هو من طبيعة النساء لقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لعائشة رضي الله عنها: "إنَّ هذا أَمْرٌ كتبه اللهُ على بنات آدم"(2) أي كتبه قَدَراً، بخلاف الاستحاضة فهي دم طارئ عارض كما قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في الاستحاضة :"إنها دَمُ عِرْق"(3). فإذا عرف الإنسان أنه مكتوب عليه وعلى غيره، فإنَّه يهون عليه.(144/1)
والدِّماء التي تصيب المرأة أربعةٌ: الحيضُ، والنِّفاس، والاستحاضةُ ودَمُ الفساد، ولكلٍّ منها تعريفٌ وأحكامٌ كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
فالحيض دمُ طبيعةٍ كما سبق، وهل له حدٌّ في السِّنِّ، ابتداءً وانتهاءً، وكذا في الأيام؟
المعروف عند الفقهاء أنَّ له حدًّا. والصَّحيح: أنَّه ليس له حدٌّ.
قوله: "لا حَيضَ قبل تسع سنين". أي: لا حيض شرعاً قبل تسع سنين، فإن حاضت قبل تمام التِّسع فليس بحيض، حتى وإن حاضت حيضاً بالعادة المعروفة، وبصفة الدَّم المعروف، فإنه ليس بحيض، بل هو دم عِرْق، ولا تثبت له أحكامُ الحيض.
وقوله: "قبل تسع سنين" أي انتهاؤها، فإذا حاضت من لها تسعٌ، فليس بحيض، وبعد التِّسع حيض.
ومن المأثور عن الشَّافعي ـ رحمه الله ـ : أنه رأى جَدَّة لها إحدى وعشرون سنة(1).
ويُتصوَّر هذا بأن تحيض لتسع سنين، وتلد لعشر، وبنتها تحيض لتسع، وتلد لعشر، فهذه عشرون سَنَة، وسَنَة للحمل، فتضع مولوداً، فهذه إحدى وعشرون سَنَة.
قوله: "ولا بعد خمسين" أي: ولا حيض بعد تمام خمسين سنة، فلو أنَّ امرأة استمرَّ بها الحيض على وتيرة وطبيعة واحدة بعد تمام الخمسين فليس بحيض.
مثاله: امرأة تُتِمُّ خمسين سنة في شهر ربيع الأول، وفي شهر ربيع الثاني جاءها الحيض على عادتها، فعلى كلام المؤلِّف ليس بحيض، لأنَّه لا حيض بعد الخمسين.
ولا فرق عندهم بين المرأة الأعجميَّة، ولا العربيَّة، ولا الصَّحيحة، ولا المريضة، ولا المرأة التي تأخَّر ابتداءُ حيضها، ولا التي تقدَّم.
واستدلُّوا على ذلك: بأن هذا ليس معروفاً عادة، فالعادة الغالبةُ ألا تحيض قبل تمام تسعِ سنين، ولا بعد خمسين سنة.
والعادة والغالب لها أثرٌ في الشَّرع، فالرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال للمستحاضة: "امكُثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك"(1) فَرَدَّها إلى العادة.(144/2)
وقال شيخُ الإسلام(2)، وابنُ المنذر، وجماعةٌ من أهل العلم(3): إنه لا صحَّة لهذا التَّحديد، وأن المرأة متى رأت الدَّم المعروف عند النِّساء أنه حيض؛ فهو حيض؛ صغيرةً كانت أم كبيرةً، والدَّليل على ذلك ما يلي:
1ـ عموم قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى {البقرة: 222} فقوله : قل هو أذى حكمٌ معلَّقٌ بعِلَّة، وهو الأذى، فإذا وَجِدَ هذا الدَّمُ الذي هو الأذى ـ وليس دم العِرْق ـ فإنَّه يُحكمُ بأنه حيضٌ.
وصحيحٌ أن المرأة قد لا تحيضَ غالباً إلا بعد تمام تسع سنين، لكن النِّساء يختلفن، فالعادة ُخاضعة ٌلجنس النِّساء، وأيضاً للوراثة، فمن النساء من يبقى عليها الطُّهر أربعة أشهر، ويأتيها الحيض لمدَّة شهر كامل، كأنه ـ والله أعلم ـ ينحبس، ثم يأتي جميعاً.
ومن النِّساء من تحيض في الشهر ثلاثة أيام، أو أربعة، أو خمسة، أو عشرة.
2ـ قوله تعالى: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن {الطلاق: 4} أي: عِدَّتهن ثلاثةُ أشهر، ولم يقل: واللاء قبل التسع أو بعد الخمسين بل قال: واللائي يئسن من المحيض واللائي لم يحضن، فالله سبحانه رَدَّ هذا الأمر إلى معقول معلَّل، فوجب أن يثبت هذا الحكم بوجود هذه الأمور المعقولة المعلَّلة، وينتفي بانتفائها، والمرأة التي حاضت في آخر شهر من الخمسين، وأوَّل شهر من الحادية والخمسين غير آيسة، فهو حيضٌ مطَّردٌ بعدده وعدد الطُّهر بين الحيضات ولا اختلاف فيه، فمن يقول بأنَّ هذه آيسة؟!
والله علَّق نهاية الحيض باليأس، وتمام الخمسين لا يحصُل به اليأس إذا كانت عادتُها مستمرَّةٌ، فتبيَّن أنَّ تحديد أوَّله بتسع سنين، وآخره بخمسين سَنَة لا دليل عليه.
فالصَّواب: أنَّ الاعتماد إنَّما هو على الأوصاف، فالحيض وُصِفَ بأنَّه أذى، فمتى وُجِدَ الدَّمُ الذي هو أذيً فهو حيض.
فإن قيل: هل جرت العادة أن يذكر القرآن السَّنوات بأعدادها؟(144/3)
فالجواب: نعم، قال تعالى: حتى" إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة {الأحقاف: 15} ولو كانت مدَّة الحيض معلومة بالسَّنوات لبيَّنه الله تعالى، لأنَّ التَّحديدَ بالخمسين أوضحُ من التحديد بالإياس.
قوله: "ولا مع حَمْلٍ". أي: لا حيض مع الحمل، أي حال كونها حاملاً. والدَّليل من القرآن، والحسِّ.
أما القرآن: فقوله تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء {البقرة: 228} وقال تعالى: واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن {الطلاق: 4} أي: عدتهن ثلاثة أشهر.
وقال تعالى: وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن {الطلاق: 4} فدلَّ هذا على أنَّ الحامل لا تحيض، إذ لو حاضت، لكانت عِدَّتها ثلاث حِيَضٍ، وهذه عِدَّة المطلقة.
وأما الحِسُّ: فلأَنَّ العادة جرت أنَّ الحامل لا تحيض، قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ : "إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدَّم"(1).
وقال بعض العلماء: إن الحامل قد تحيض إذا كان ما يأتيها من الدَّم هو الحيض المعروف المعتاد(1).
واستدلُّوا: بما أشرنا إليه من أنَّ الحيض أذيً، فمتى وُجِدَ هذا الأذى ثبت حكمه.
وأما إلغاء الاعتداد بالحيض بالنسبة للحامل، فليس من أجل أنَّ ما يصيب المرأة من الدَّم ليس حيضاً، ولكن لأنَّ الحيض لا يصحُّ أن يكون عِدةً مع الحمل، لأن الحمل يقضي على ما عداه من العدد، إذ يُسمَّى عند الفقهاء ـ رحمهم الله ـ "أمُّ العدد"(2)، ولهذا لو مات عن امرأته، ووضعت بعد ثلاث ساعات أو أقلَّ من موته، فإن العِدَّة تنقضي، بينما المتُوفَّى عنها زوجُها بلا حمل عِدَّتها أربعة أشهر وعشر، فلو حاضت الحامل المطلَّقة ثلاث حِيَضٍ مطَّردة كعادتها تماماً، فإنَّ عدَّتها لا تنقضي بالحيض.
ولذا كان طلاق الحامل جائزاً، ولو وطئها في الحال، لأنها تَشْرَعُ في العِدَّة من فور طلاقها، فليس لها عِدَّةُ حيضٍ، ويقع عليها الطَّلاق.(144/4)
فالرَّاجح: أن الحامل إذا رأت الدَّم المطَّرد الذي يأتيها على وقته، وشهره؛ وحاله؛ فإنه حيضٌ تترك من أجله الصَّلاة، والصَّوم، وغير ذلك. إلا أنه يختلف عن الحيض في غير الحمل بأنه لا عِبْرَة به في العِدَّة، لأن الحمل أقوى منه.
والحيض مع الحمل يجب التحفُّظ فيه، وهو أنَّ المرأة إذا استمرت تحيضُ حيضَها المعتاد على سيرته التي كانت قبل الحمل فإنَّنا نحكم بأنه حيض.
أما لو انقطع عنها الدَّم، ثم عاد وهي حاملٌ، فإنَّه ليس بحيضٍ.
قوله: "وأقلُّه يوم ٌوليلة" يعني: أقلَّ الحيض يومٌ وليلةٌ، والمراد أربعٌ وعشرون ساعة. هذا أنهى شيء في القِلَّة، فلو أنها رأت الحيض لمدَّة عشرين ساعة وهو المعهود لها برائحته، ولَونه، وثخونته، فليس حيضاً، فما نَقَصَ عن اليوم والليلة، فليس بحيض. هذا المذهب.
واستدلُّوا: بأن العادة لم تجرِ أن يوجد حيضٌ أقلُّ من يوم وليلة، فإذا لم يوجد عادة، فليكن أقلُّه يوماً وليلة.
وهذا ليس بدليل، لأن من النِّساء من لا تحيض أصلاً، ومنهن من تحيض ساعات ثم تطهر، فالصحيح: أنه لا حَدَّ لأقلِّه.
قوله: "وأكثَرُه خَمْسَةَ عَشَرَ يوماً" أي: أكثر الحيض، وهذا المذهب.
واستدلُّوا: بالعادة، وهو أن العادة أن المرأة لا يزيد حيضها على خمسة عشر يوماً، ولأنَّ ما زاد على هذه المدَّة فقد استغرق أكثر الشهر، ولا يمكن أن يكون زمن الطُّهر أقلَّ من زمن الحيض.
فإذا كان سِتَّة عشر يوماً، كان الطُّهر أربعة عشر يوماً، ولا يمكن أن يكون الدَّم أكثر من الطُّهر، وعند العلماء أن الدَّم إذا أطبق على المرأة وصار لا ينقطع عنها، فإنها تكون مستحاضة، فأكثر الشَّهر يجعل له حُكْم الكُلِّ، ويكون الزَّائد على خمسة عشر يوماً استحاضة، فكلُّ امرأة زاد دمها على خمسة عشر يوماًيكون استحاضة.
وإذا سَأَلت المرأة عن دم أصابها لمدَّة عشرين ساعة، هل تقضي ما عليها من الصَّلاة التي تركتها في هذه المدَّة؟(144/5)
فالجواب: عليها القضاء؛ لأنَّ هذا ليس بحيض، فهي قد جلست في زمن طُهْر.
وإذا سَأَلت عن دم زاد على خمسة عشر يوماً؟
فالجواب أن نقول: إنك مستحاضة، فلا تجلسي هذه المدَّة، وما ليس بحيض مما هو دون اليوم والليلة، أو مع الحمل، فليس استحاضة، ولكن له حُكم الاستحاضة، ومن الفقهاء من يُطْلِق عليه بأنَّه دَمُ فساد(1).
والصَّحيح في ذلك أيضاً: أنه لا حَدَّ لأكثره؛ فمن النِّساء من تكون لها عادة مستقرَّة سبعة عشر يوماً؛ أو ستة عشر يوماً، فما الذي يجعل الدَّم الذي قبل الغروب من اليوم الخامس عشر حيضاً، والدَّم الذي بعد الغروب بدقيقة واحدة استحاضة مع أن طبيعته ولونه وغزارته واحدة، فكيف يقال: إنه بمضيِّ دقيقة أو دقيقتين تحوَّل الدَّم من حيض إلى استحاضة بدون دليل. ولو وُجِدَ دليل على ما قالوا لسَلَّمنا.
فإذا كان لها عادة مستمرَّة مستقرَّة سبعة عشر يوماًـ مثلاًـ قلنا: هذا كله حيض.
أما لو استمرَّ الدَّم معها كُلَّ الشَّهر؛ أو انقطع مدَّة يسيرة كاليوم واليومين، أو كان متقطِّعاً يأتي ساعات، وتطهُر ساعات في الشَّهر كلِّه، فهي مستحاضة؛ وحينئذ نعاملها معاملة المستحاضة كما سيأتي إن شاء الله تعالى(1).
قوله: "وغَالِبُهُ ستٌّ، أو سَبْعٌ" أي: غالب الحيض ستُّ ليال أو سبع.
وهذا صحيح؛ لثبوت السُّنَّة به؛ حيثُ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للمستحاضة: "فَتَحيَّضِي ستَّة أيَّامٍ، أو سبعة أيَّام في علم الله، ثم اغتسلي"(2).
وهذا أيضاً هو الواقع، فإنه عند غالب النساء يكون ستًّا، أو سبعًا.
قوله: "وأَقَلُّ الطُّهرِ بين الحَيْضَتَين ثَلاثَة عشَرَ يوماً". وكذا لو أتاها بعد عشرة أيام بعد طُهْرِها، فليس بحيض، فما تراه قبل ثلاثة عشر يوماً ليس بحيض، لكن له حُكْم الاستحاضة.(144/6)
والدَّليل على ذلك: ما رُويَ عن عليِّ ـ رضي الله عنه ـ أن امرأة جاءت، وقالت: إنها انْقَضَت عدَّتُها في شهر، فقال علي لشُرَيحٍ: "اقْضِ فيها"، فقال: "إن جاءت ببيِّنة من بطانة أهلها ممن يُعرف دينه وخلقه فهي مقبولة، وإلا فلا. قال علي: "قالون" أي جيِّد بالرُّومية(1).
لأنَّه إذا كان لها شهر، وادَّعَتْ انتهاء العِدَّة، فهذا بعيد، فاحتاجت إلى بيِّنة.
ويُتصوَّر أن تحيض ثلاث مرَّات خلال شهر كما يلي: تحيض يوماً وليلة، وتطهر ثلاثة عشر يوماً، فمضى من الشهر أربعة عشر يوماً، ثم تحيض يوماً وليلة، فبقي الآن أربعة عشر يوماً بالتأكيد، أو خمسة عشر يوماً، ثم طَهُرَتْ ثلاثة عشر يوماً، بقي الآن يوم أو يومان، ثم حاضت يوماً وليلة الحيضة الثالثة، فانتهت العِدَّة، وهذا نادر جدًّا.
والمرأة إذا ادَّعت انتهاء العِدَّة بالحيض، فإن كان بزمن معتاد، قُبِلَ قولُها كما لو ادَّعت انتهاء عِدَّة الطَّلاق بالحيض بشهرين ونصف، فيُقبَلُ قولُها بلا بينة، لأن الله جعل النِّساء مؤتمنات على عِدَدِهِنَّ فقال: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر {البقرة: 228}.
ولو ادَّعت مطلَّقةٌ انتهاء العِدَّة بعد ثمانية وعشرين يوماً؛ فهذه تُرَدُّ ولا تُسمَعُ دعواها؛ ولو كانت من أصدق النِّساء؛ لأنَّ هذا مستحيل، مادمنا قعَّدنا قواعد أنَّ أقلَّ الحيض يومٌ وليلةٌ، وأقلَّ الطُّهر بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً، فلا يمكن أن تنقضي بثمانية وعشرين يوماً.
ولو ادَّعت بعد مضيِّ شهر؛ أي: تسعة وعشرين يوماً إلى ثلاثين انتهاء العِدَّة، فهذه تُسمَعُ دعواها، أي: يَلتفتُ القاضي لها وينظر في القضية، ولا يقبل قولَها إلا ببيِّنَةٍ.
والصَّحيح: أنه لا حدَّ لأقلِّ الطُّهر كما اختاره شيخ الإسلام(1)، ومالَ إليه صاحب "الإنصاف"، وقال: "إنه الصَّواب"(2).(144/7)
قوله: "ولا حدَّ لأكثره" أي: لا حدَّ لأكثر الطُّهر بين الحيضتين، لأنه وُجِدَ من النساء من لا تحيض أصلاً، وهذا صحيحٌ.
قوله: "وتقضي الحائض الصَّوم، لا الصَّلاة" استفدنا من هذه العبارة أربعة ُأحكام:
الأول: أنَّها لا تصوم.
الثاَّني: أنَّها لا تُصلِّي.
الثَّالث: أنَّها تقضي الصوم.
الرَّابع: أنَّها لا تقضي الصَّلاة.
أما الأول والثَّاني، فاستفدناهما بدلالة الالتزام والإشارة؛ لأنَّ من لازم قوله: "تقضي" أنها لم تفعل.
وأما الثَّالث والرَّابع، فاستفدناهما من منطوق كلام المؤلِّف، والدِّلالة عليه من باب دَلالة المطابقة.
والدَّليل عليه ما يلي:
1ـ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لما سألته النِّساء: وما نُقصانُ ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: " ... أليس إذا حاضت لم تُصَلِّ ولم تَصُمْ؟" قُلن: بلى، قال: "فذلك من نقصان دينها"(1).
2ـ أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ سُئِلتْ ما بَالُ الحائض تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة؟ قالت: "كان يصيبنا ذلك على عهد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصَّلاة" (2).
3ـ أن الإجماع قائم على ذلك.
فإن قيل: ما الحكمة أنَّها تقضي الصَّوم، ولا تقضي الصَّلاة؟
قلنا: الحكمة قول الرَّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كما سبق. واستنبط العلماء ـ رحمهم الله ـ لذلك حكمة: فقالوا: إن الصَّوم لا يأتي في السَّنة إلا مرَّة واحدة،والصَّلاة تتكرَّر كثيراً ، فإيجاب الصَّوم عليها أسهل، ولأنها لو لم تقض ِما حصل لها صومٌ.
وأمَّا الصَّلاة فتتكرَّر عليها كثيراً، فلو ألزمناها بقضائها لكان ذلك عليها شاقًّا.
ولأنَّها لن تعدم الصَّلاة لتكرُّرِها، فإذا لم تحصُل لها أوَّل الشَّهر حصلت لها آخره.(1)(144/8)
قوله: "ولا يَصحَّان منها". أي: لا يصحُّ منها صومٌ، ولا صلاةٌ. فلو أنها تذكَّرت فائتةً قبل حيضها، ثم قضتها حال الحيض لم تبرأ ذمَّتُها بذلك، وإنما مَثَّلْتُ بالفائتة لأنهَّا واجبةٌ عليها، أما الحاضرة فليست واجبة ًعليها.
وكذا لو قالت: أحبُّ الصَّوم مع النَّاس وأتحفَّظ حتى لا ينزل الدَّم، فصامت؛ فصومُها غيرُ صحيح للحديث السَّابق.
قوله: "بل يحرمان" أي: الصَّوم والصَّلاة.
وتعليل ذلك: أنَّ كلَّ ما لا يصحُّ فهو حرام.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ : "كلُّ شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط"(2).
قوله: "ويحرم وطؤها في الفرج" أي: يحرم وطء الحائض في فرجها.
والحرام: ما نُهِيَ عنه على سبيل الإلزام بالترك.
وحكمه: يُثاب تاركُه امتثالاً، ويستحقُّ العقابَ فاعلُه.
والدَّليل على تحريم وطء الحائض في الفَرْج:
1ـ قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى" يطهرن {البقرة: 222} .
والمحيض: مكان وزمان الحيض، أي: في زمنه ومكانه وهو الفَرْج فما دامت حائضاً فوطؤها في الفَرْج حرام.
2ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لما نزلت هذه الآية: "اصنعوا كلَّ شيءٍ إلا النِّكاح"(1)، أي: إلا الوَطء.
قوله: "فإن فعل" أي: وَطئها في الفَرْج
قوله "فعليه دينار، أو نصفه كفَّارة" أي: يجب عليه دينار أو نصفه كفَّارة.
والدِّينار: العُملة من الذَّهب، وزِنَةُ الديِّنار الإسلاميِّ مثقالٌ من الذهب، والمثقالُ غرامان وربع، والجنيه السعودي: مثقالان إلا قليلاً، فنصف جنيه سعودي يكفي، فيُسأل عن قيمته في السُّوق.
فمثلاً: إذا كان الجنيه السعودي يساوي مائة ريال، فالواجب خمسون أو خمسة وعشرون ريالاً تقريباً، ويُدفع إلى الفقراء.
وقوله: "أو نِصْفُه" أو : للتخيير، فيجب عليه أن يتصدَّق بدينار، أو نصفه، لأنَّ الأصل في "أو" أنها للتخيير.(144/9)
والدَّليل على ذلك: ما رواه أهلُ السُّنن عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال في الذي يأتي امرأته وهي حائض: "يتصدَّق بدينار أو بنصف دينار"(1).
واختلف العلماء في تصحيحه، فصحَّحه جماعةٌ من العلماء حتى قال الإمام أحمد: ما أحسنه من حديث(1). وقال أبو داود لمَّا رواه: هذه هي الرِّواية الصَّحيحة(2).
وضعَّفه بعض العلماء حتى قال الشَّافعيُّ ـ رحمه الله ـ : "لو ثبت هذا الحديث لَقُلْتُ به"(3) ولهذا كان وجوبُ الكفَّارة من مفردات المذهب، والأئمة الثَّلاثة يرون أنَّه آثم بلا كفارة(4).
والحديثُ صحيحٌ، لأنَّ رجالَه كلَّهم ثقاتٌ، وإذا صحَّ فلا يضرُّ انفرادُ أحمد بالقول به.
فالصحيح: أنها واجبةٌ، وعلى الأقل نقولُ بالوجوب احتياطاً.
وهل على المرأة كفَّارة؟ سكت المؤلِّفُ عن ذلك.
فقيل: لا كفارة عليها(5)؛ لأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال: "يتصدَّقُ بدينار؛ أو نصفه". وسكت عن المرأة.
وقيل: عليها كفَّارة كالرَّجل إن طاوعته(5).
وعلَّلوا: بأن الجنايةَ واحدةٌ، فكما أنَّ عليه ألاَّ يقربها، فعليها ألا تمكِّنه، فإذا مكَّنته فهي راضيةٌ بهذا الفعل المحرَّم فلزمتها الكفَّارة.
وأيضا: تجب عليها قياساً على بقية الوَطء المحرَّم، فهي إذا زنت باختيارها فإنه يُقامُ عليها الحدُّ، وإذا جامعها زوجُها في الحجِّ قبل التَّحلُّل الأول فسد حجُّها، وكذا إذا طاوعته في الصِّيام فسد صومُها ولزمتها الكفَّارة.
وسكوتُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عن المرأة لا يقتضي الاختصاص بالرَّجل، لأن الخطاب الموجَّه للرِّجال يشمَل النِّساء، وبالعكس، إلا بدليل يقتضي التَّخصيص.
ولا تجب الكفَّارة إلا بثلاثة شروط:
1ـ أن يكون عالماً.
2ـ أن يكون ذاكراً.
3ـ أن يكون مختاراً.
فإن كان جاهلاً للتّحريم، أو الحيضِ، أو ناسياً، أو أُكرهت المرأةُ، أو حَصَلَ الحيضُ في أثناء الجماع، فلا كفَّارة، ولا إثم.(144/10)
قوله: "ويستمتعُ منها بما دُونه" أي: يستمتعُ الرَّجل من الحائض بما دون الفَرْج.
فيجوز أن يستمتعَ بما فوق الإزار وبما دون الإزار، إلا أنَّه ينبغي أن تكون متَّزرة؛ لأنَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يأمر عائشة رضي الله عنها أن تَتَّزِرَ فيباشرها وهي حائض(1)، وأَمْرُه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لها بأن تتَّزِرَ لئلا َّيَرى منها ما يكره من أثر الدَّم، وإذا شاء أن يستمتع بها بين الفخذين مثلاً، فلا بأس.
فإن قيل: كيف تجيب عن قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لما سُئِلَ ماذا يَحِلُّ للرَّجُل من امرأته وهي حائض؟ قال: "لك ما فوق الإزار"(2)، وهذا يدلُّ على أن الاستمتاع يكون بما فوق الإزار.
فالجواب عن هذا بما يلي:
1ـ أنَّه على سبيل التنزُّه، والبعد عن المحذور.
2ـ أنه يُحمَلُ على اختلاف الحال، فقولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "اصنعوا كلَّ شيء إلا النكاح"(1)، هذا فيمن يملك نفسه، وقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"لك ما فوق الإزار" هذا فيمن لا يملك نفسه إما لقلِّة دينه أو قوَّة شهوته.
وإذا استمتع منها بما دون الفَرْج فلا يجب عليه الغُسْل إلا أن يُنزِلَ. والمرأة إذا أنزلت وهي حائض استُحِبَّ لها أن تغتسل للجنابة، لئلا يبقى عليها أثر الجنابة، سواء حَدَثت لها الجنابة بعد الحيض كما لو احتلمت، أو كانت على جنابة حين الحيض، هكذا قال العلماء(2). وتستفيد من هذا الغسل استباحة قراءة ما تحتاجه من القرآن كالأوراد والتَّعلُّمِ والتَّعليم.
قوله: "وإذا انقطع الدَّم ولم تغتسل لم يُبَحْ غير الصِّيام والطَّلاق".
يعني: إذا انقطع الدَّمُ ولم تغتسل؛ بقي كلُّ شيء على تحريمه إلا الصِّيامَ، والطَّلاقَ.
أما الصِّيام فقالوا: لأنها إذا طَهُرَتْ صارت كالجُنُبِ تماماً، والجُنُبُ يصحُّ منه الصُّيامُ بدلالة الكتاب والسُّنَّة:(144/11)
فالكتاب قوله تعالى : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى" يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل {البقرة: 187} وإذا جاز الجِمَاع إلى طُلوع الفجر لزمَ من ذلك أن يصبحَ جُنُباً.
والسُّنَّة ما روته عائشةُ أن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ كان يصبحُ جُنُباً من جماعٍ غير احتلامٍ، في رمضان ثم يصوم(1).
ولم يذكر المؤلِّف فيما سبق تحريم الطَّلاق، لكن يُفْهَمُ من قوله هنا: "لم يُبَحْ غير الصِّيام والطِّلاق" أنه محرَّمٌ.
والدَّليل على جواز الطَّلاق بعد انقطاع الدم: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ :"مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا، ثم لِيُطَلِّقْهَا طاهراً أو حاملاً"(2) والمرأة تَطْهُرُ بانقطاع الدَّم.
فإن قيل: هل يجوز الجِمَاع؟
فالجواب: لا، والدَّليلُ على هذا قوله تعالى: ولا تقربوهن حتى" يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله {البقرة: 222} .
فإن قيل: المرأة إذا كان عليها جنابةٌ جاز أن تُجَامَعَ قبل الغُسل فكذلك هذه أيضاً ؟.
فالجواب: أن هذا قياسٌ في مقابلة النَّصِّ، فلا يُعتَبَرُ.
فإن قيل: المراد بقوله: "تَطَهَّرْنَ" أي: غَسَّلْنَ أثرَ الدَّم؟
فالجواب: أنَّ هذا قال به بعضُ العلماء كابن حزم ـ رحمه الله (1)ـ ، ولكن نقول: إن المراد بالتطهُّر هو التطهُّر من الحَدَث، وهذا لا يكون إلا بالاغتسال، والدَّليل على ذلك قوله تعالى : وإن كنتم جنبا فاطهروا {المائدة: 6} وقال تعالى: ولكن يريد ليطهركم .
قوله: "والمُبْتَدَأةُ تجلس أقلَّه، ثم تغتسلُ وتصلِّي". بدأ ـ رحمه الله ـ ببيان الدِّماء التي تكون حيضاً، والتي لا تكون حيضاً.
والمُبْتَدأةُ: هي التي ترى الحيضَ لأوَّل مرَّة، سواءٌ كانت صغيرةً، أم كبيرة لم تحضْ من قبلُ ثم أتاها الحيضُ.
ومعنى قوله: "تجلسُ" أي: تدعُ الصَّلاةَ والصِّيام، وكلَّ شيء لا يُفْعَلُ حال الحيض.(144/12)
وقوله : "أقلُّه" أي: أقلُّ الحيض وهو يومٌ وليلةٌ.
وقوله: "ثم تغتسل وتُصلِّي".
أي: بعد أن يمضيَ عليها أربعٌ وعشرون ساعة، تغتسلُ وتُصلِّي ولو لم يتوقَّف الدَّمُ.
وعلَّلوا: بأنَّ أقل الحيض هو المتيقَّنُ، وما زاد مشكوكٌ فيه، فيجب عليها أن تجلس أقلَّ الحيض.
وقوله: "وتصلِّي" أي: المفروضة. وظاهر كلامه حتى النَّوافل، وهل هذا الظَّاهر مرادٌ؟
الذي يظهر لي: أنَّه إنْ كان مراداً فهو ضعيف، لأنَّ صلاتها الآن من باب الاحتياط، فيجب عليها أن تقتصر على الفرائض، إذ الأصل أنَّ هذا الدَّمَ دمُ حيض، أمَّا النَّافلة فليس فيها احتياط، لأنَّ الإنسان لا يأثم بتركها، فلا حاجة للاحتياط فيها.
وعلى هذا ينبغي أن يُحمَلَ قولُه: "وتصلِّي" أي: المفروضة، لأنها هي التي يُخشى أن تأثم بتركها بخلاف النَّافلة.
وتصوم الصَّوم الواجب؛ كما لو ابتدأ بها في رمضان؛ فتجلس يوماً وليلة، ثم تصوم من باب الاحتياط.
قوله: "فإن انقطعَ لأكْثَره فما دُون اغتسلت عند انقطاعه" أي: انقطع الدَّم لأكثر الحيض كخمسة عشر يوماً، فما دونه كعشرة أيام، إن لم ينقصْ عن يوم وليلة.
وسنقرِّر المذهب حتى نعرفه، ثم نرجع إلى القول الرَّاجح.
مثال ذلك: امرأة جلست يوماً وليلةً، ثم اغتسلت، وصارت تُصلِّي وتصوم الواجب، فانقطع لأكثره فأقل، فمثلاً: انقطع لعشرة أيام، فتغتسل مرَّةً أخرى، ولهذا قال: "اغتسلت عند انقطاعه" وهذا على سبيل الوجوب؛ لاحتمال أن يكون الزَّائدُ عن اليوم واللَّيلة حيضاً، فتغتسل احتياطاً، فهنا اغتسلت مرَّتين؛ الأولى عند تمام اليوم واللَّيلة، والثَّانية عند الانقطاع.(144/13)
ولنفرض أنَّه في شهر "محرَّم" فعلت هذا الشيء؛ فإذا جاء "صفر" تعمل كما عملت في "محرَّم"، فإذا جاء الشهر الثَّالث وهو "ربيعٌ الأولُ" تعمل كما عملت في شهر "محرَّم" تجلس يوماً وليلة، ثم تغتسل وتُصلِّي وتصوم، فإذا انقطع لعشرة أيام كما ذُكِرَ في المثال اغتسلت أيضاً ثانية وصلَّت، فالآن تكرَّر عليها ثلاثَ مرَّاتٍ.
قوله: "فإن تكرَّر ثلاثاً فحيضٌ" كما في المثال السَّابق، فتكون عادتُها عشرةَ أيام، لكن ماذا تصنع بالنِّسبة لما بين اليوم والليلة إلى اليوم العاشر؛ لأنها كانت تُصلِّي فيها وتصوم، وتبيَّن أنَّها أيَّامُ حيض؟
فيُقال: أمَّا بالنَّسبة للصَّلاة فإنَّها وإن لم تصحَّ منها؛ فإنها لا تُقضى، لأن َّالحائض لا تجب عليها الصَّلاةُ ولا تأثم بفعلها؛ لأنَّها فعلتها تعبُّداً و واحتياطاً.
وتقضي الصَّوم، لأنه تبينَّ أنَّها صامت في أيام الحيض، والصَّوم لا يصحُّ مع الحيض، لو فُرِضَ أنَّ هذا وَقَعَ في رمضان.
قوله: "وتقضي ما وَجَبَ فيه" أي: تُقضَى كلُّ عبادة واجبة على الحائض؛ لا تصحُّ منها حال الحيض، كما في المثال السَّابق. وهذه قاعدةٌ.
فإن قُدِّرَ أن هذا الحيض لم يتكرَّر بعدده ثلاثاً، أي: جاءها أول شهر عشرةٌ، والشهرُ الثاني ثمانيةٌ، والثالُث ستةٌ، فالسِّتةُ هنا هي الحيض فقط، ففي الشَّهر الرَّابع إن تكررت الثمانية ثلاث مرَّات صارت عادتُها ثمانية، وفي الشهر الخامس إن تكرَّرت العشرة ثلاثاً صارت عادتها عشرة، فما تكرَّر ثلاثاً فهو حَيضٌ.
قوله: "وإن عَبَر أكثره فمستحاضةٌ" "عبر" أي: جاوز، "أكثرُه" أي: أكثر الحيض وهو خمسة عشر يوماً، "فمستحاضةٌ" ويكون من مُبْتَدَأَة ومُعْتَادة.
مثال المُبْتَدَأة: امرأة جاءها الحيض لأوَّل مرَّة واستمرَّ معها حتى جاوز الخمسة عشر؛ فهذه المبتدأةُ ليس لها عادةٌ سابقة ٌترجع إليها، فلا يكون أمامها بالنسبة للاستحاضة إلا شيئان:
الأول: التَّمييز، وهذه علامةٌ خاصَّة.(144/14)
الثَّاني: عادة غالب نسائها، وهذه عامَّةٌ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام، والاستحاضة: سيلان دم عِرْقٍ في أدنى الرَّحم يُسمَّى العاذل.
مثل: لو حصل لها جُرح في عِرَقٍ، وخرج الدَّم باستمرار، فهذا ليس طبيعيًّا، ولكنه مرضٌ بسبب انفصام أحد العُروق في أدنى الرَّحم.
والحيض: سيلان دَم عِرْقٍ في قعر الرَّحم يُسمَّى العاذر.
ثم بَيَّنَ المؤلِّفُ ـ رحمه الله تعالى ـ التَّمييز فقال:
"فإن كان بعضُ دمها أحمرَ وبعضه أسودَ..." هذه علامة من علامات التَّمييز، فيُقال لها: ارجعي إلى التَّمييز.
والتَّمييزُ: التَّبيُّن حتى يُعرفَ هل هو دُم حيض، أو استحاضة.
والمؤلِّف ـ رحمه الله ـ ذكر علامةً واحدة ًوهي اللَّون. والتَّمييز له أربع علامات:
الأولى: اللَّون: فدم الحيض أسودُ، والاستحاضةُ أحمرُ.
الثانية: الرِّقة: فدم الحيض ثخينٌ غليظٌ، والاستحاضةُ رقيقٌ.
الثالثة: الرَّائحة: فدم الحيض منتنٌ كريهٌ، والاستحاضةُ غيرُ منتنٍ، لأنه دَمُ عِرْقٍ عادي.
الرَّابعةُ: التَّجمُّد: فدم الحيض لا يتجمَّد إذا ظهر، لأنه تجمَّد في الرَّحم، ثم انفجر وسال، فلا يعود ثانية للتجمُّد، والاستحاضة يتجمَّد، لأنه دم عِرْقٍ. هكذا قال بعضُ المعاصرين من أهل الطبِّ، وقد أشار صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إلى ذلك بقوله "إنه دَمُ عِرْقٍ" والمعروف أنَّ دماء العروق تتجمَّد.
قوله: "ولم يَعبُرْ أكثره" أي: لم يتجاوز الأسود أكثر الحيض، لأنه إذا عَبَرَ أكثرُه لم يصلُح أن يكونَ حيضاً.
فلو أنَّ امرأةً جاءها الدَّم لمدَّة خمسة وعشرين يوماً، منها عشرون يوماً أسود وخمسةٌ أحمر، فالأسودُ لا يصلح أن يكون حيضاً، لأنَّه تجاوز أكثر الحيض.(144/15)
قوله: "ولم يَنْقُصْ عن أَقَلِّه فهو حَيْضُها تَجْلِسُهُ في الشَّهْرِ الثَّاني، والأحْمَرُ استحاضةٌ" أي: لم ينقص الأسود عن أقلِّ الحيض. وأقلُّه يوم وليلةٌ، فلو قالت المُبْتَدَأة: إنَّه أول يوم أصابها الدَّم كان أسود، ثم صار أحمر لمدة عشرين يوماً، فلا ترجع إلى التَّمييز، لأنَّه لا يصلح أن يكون حيضاً؛ لنقصانه عن يوم وليلة.
وإن قالت: أصابها الدَّم الأسود ستَّةَ أيام، فإنّه حيضٌ، لأنَّه لم ينقص عن أقلِّه، ولم يزد على أكثره، والباقي الأحمر استحاضة.
قوله: "وإنْ لم يكن دَمُهَا متميِّزاً قعدتْ غالبَ الحيضِ". قعدت؛ أي: المُبْتَدأةُ.
وغالب الحيض: ستَّة أيام أو سبعةٌ، والدَّليل على ذلك: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: "تحيَّضي في علم الله ستًّا أو سبعاً"(1).
ولأنَّه إذا تعذَّر علم الشَّيء بعينه رجعنا إلى جنسه، فهذه المرأة لمَّا تعذَّر علم حيضها بعينها ترجع إلى بني جنسها.
والأرجح: أن ترجع إلى عادة نسائها كأختها وأمِّها، وما أشبه ذلك، لا إلى عادة غالب الحيض، لأنَّ مشابهة المرأة لأقاربها أقرب من مشابهتها لغالب النساء.
قوله: "من كلِّ شهر" لأن غالب النساء تحيض في الشَّهر مرَّة.
والدَّليل على ذلك قولُه ـ تعالى ـ : والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء {البقرة: 228}. وقال ـ تعالى ـ : واللائي يئسن من المحيض من نسائكم إن ارتبتم فعدتهن ثلاثة أشهر واللائي لم يحضن {الطلاق: 4}.
فجعل اللهُ لكلِّ حيضة شهراً، وهذا هو الغالب.
وتبدأ الشَّهر من أوَّل دم أصابها، فإذا كان أول يوم أصابها الدَّم فيه هو الخامس عشر، فإنها تبدأ من الخامس عشر، فإذا قلنا: سبعة أيام، فإلى اثنين وعشرين، وإن قلنا: ستة فإلى واحد وعشرين، وهكذا.
وإن نسيت ولم تَدْرِ هل جاءها الحيض من أول يوم من الشَّهر، أم في العاشر، أم العشرين، فلتجعلْهُ من أوَّل الشَّهر على سبيل الاحتياط.(144/16)
واعلم: أن هذه الأحكام ليست من أجل الصَّلاة فقط، بل كلُّ الأحكام المترتِّبَة على الحيض تترتَّب على هذه الأيام إذا حكمنا بأنها أيَّام حيض، وإذا قلنا بأنها أيام طُهْر يترتَّب على ذلك كلُّ ما يترتَّب على الطُّهر.
والخلاصة: أن المستحاضة المُبْتَدأة تعمل بالتَّمييز، فإن لم يكن لها تمييزٌ عملت بغالب عادة النساء، فتجلس ستَّة أيَّام أو سبعة من أوَّل وقت رأت فيه الدَّم، فإن نسيت متى رأته فمن أول كلِّ شهر هلالي، وسبق أنَّ الأرجح أن تعمل بعادة نسائها.
قوله: "والمستحاضةُ المعتادة ُولو مميِّزة تجلسُ عادتَها" المعتادة: هي التي كانت لها عادةٌ سليمةٌ قبل الاستحاضة، ثم أُصيبتْ بمرض الاستحاضة.
مثال ذلك: امرأةٌ كانت تحيض حيضاً مطَّرداً سليماً ستَّة أيَّام من أوَّل كلِّ شهر، ثم أُصيبت بمرض الاستحاضة؛ فجاءها نزيفٌ يبقى معها أكثر الشَّهر، فهذه مستحاضةٌ معتادة، نقول لها: كلَّما جاء الشَّهر فاجلسي من أول يوم إلى اليوم السَّادس.
وقوله: "ولو مميِّزة" لو: إشارة خلاف.
أي: هذه المعتادة تجلس العادة، ولو كان دمُها متميِّزاً فيه الحيضُ من غيره.
مثاله: امرأةٌ معتادةٌ عادتها من أول يوم من الشهر إلى اليوم العاشر؛ لكنها ترى في اليوم الحادي عشر دماً أسود لمدَّة ستَّة أيَّام، والباقي أحمر، فهذه معتادة مميِّزة. فالمشهور من المذهب: أنها تأخذ بالعادة.(144/17)
واستدلُّوا: بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لأمِّ حبيبة بنت جحش : "امْكُثي قَدْرَ ما كانت تحبسُكِ حَيْضَتُكِ"(1) فردَّها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ للعادة، واحتمال وجود التَّمييز معها ممكنٌ، ولم يستفصل النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فلمَّا لم يستفصل مع احتمال وجود التَّمييز عُلِمُ أنها ترجع إلى العادة مطلقاً، وأنَّ المسألة على سبيل العموم، إذ من القواعد الأصولية المقرَّرة: "أنَّ ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنَزَّلُ منزلةَ العموم في المقال".
وذهب الشَّافعيُّ(2)، وهو روايةٌ عن أحمد(3): أنها ترجع للتَّمييز. واستدلُّوا بما يلي:
1ـ قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "إنَّ دمَ الحيض ِأسودُ يُعرَفُ"(1)، قال هذا في المستحاضة، والنساء اللاتي استحضن على عهد رسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حوالي سبع عشرة امرأة(2)، ولا يُستبعد أن تنتقلَ العادة ُمن أوَّل الشَّهر إلى وسطه بسبب مرض الاستحاضة الذي طرأ عليها.
2ـ أنَّ التَّمييز علامةٌ ظاهرةٌ واضحةٌ، فيُرجع إليها.
والرَّاجح: أنها ترجع للعادة، ولأنَّ الحديث الذي فيه ذكر التَّمييز قد اختُلِفَ في صحَّته.
ولأنه أيسر وأضبط ُللمرأة، لأنَّ هذا الدَّمَ الأسود، أو المنتنَ، أو الغليظَ، ربما يضطرب، ويتغيَّر أو ينتقل إلى آخر الشَّهر، أو أوَّله، أو يتقطَّع بحيث يكون يوماً أسود، ويوماً أحمر.
قوله: "وإن نسيتها عملت بالتَّمييز الصَّالح" أي: نسيت عادتها.
والتَّمييزُ الصالحُ: هو الّذي يصلُحُ أن يكونَ حيضاً، بأن لا ينقص عن أقلِّه، ولا يزيد على أكثره.
مثاله: امرأةٌ نسيت عادتها؛ لا تدري هل هي في أوَّل الشَّهر، أو وسطه أو آخره، فنقول:ترجع إلى المرحلة الثَّانية، وهي التَّمييز، لأنها لما نسيت العادة تعذَّر العمل بها، فترجع إلى التَّمييز.(144/18)
فنقول: هل دمك يتغيَّر؟ فإن قالت: نعم، بعضُه أسودُ، أو منتنٌ، أو غليظٌ، نقول لها أيضاً: كم يوماً يأتي هذا الأسود، أو المنتن، أو الغليظ؟ فإذا قالت: يأتي خمسة أيَّام أو سِتَّة أيَّام مثلاً، نقول لها: اجلسي هذا الدَّم، والباقي تطهَّري وصلِّي. وإن قالت إنه يأتيها يوماً واحداً أو أكثر من خمسة عشر يوماً فلا عِبْرَة به؛ لأنَّه لا يصلح أن يكونَ حيضاً.
قوله: "فإن لم يكن لها تمييزٌ فغالب الحيض" أي: أنه ليس لها تمييزٌ، بأن كان دمُها لا يتغيَّر فتجلسُ غالب الحيض مثاله: امرأة يأتيها الدَّم أسود دائماً؛ أو أحمر دائماً ونحو ذلك.
فنقول هنا: تجلس غالب الحيض سِتَّة أيَّام أو سبعة.
والرَّاجح كما قلنا في المُبْتَدَأة أنَّها ترجعُ إلى أقاربها، وتأخذ بعادتهن في الغالب من أول الشهر الهلاليِّ، ولا نقول من أوَّل يوم أتاها الحيضُ، لأنَّها قد نسيت العادة.
قوله: "كالعالمة بموضعه النَّاسية لعدَدِه" يعني: كما تجلسُ العالمة بموضعه الناسية لعدده.
أي: أن العالمة بموضعه الناسية لعدده تجلس غالب الحيض، ولا ترجع للتَّمييز.
مثاله: امرأة تقول: إَّن عادتها تأتيها في أوّل يوم من الشهر الهلاليِّ لكنها لا تدري هل هي ستُة أيام، أو سبعةٌ، أو عشرةٌ؟ فهي نسيت العدد، وعلمت الموضع.
فنقول: ترجع إلى غالب الحيض، فتجلس ستَّة أيَّام أو سبعة من أوَّل الشهر؛ لأنها علمت أن عادتها من أول الشَّهر. وسبق أنها ترجع إلى غالب عادة نسائها على القول الرَّاجح.
قوله: "وإن علمت عَدَدَهُ ونسيت موضعه من الشَّهرِ" هذه المسألة عكس المسألة السَّابقة، علمت العَدَدَ؛ ونسيت الموضعَ من الشَّهر.
فنقول لها: كم عادتُك؟ فإذا قالت: ستَّةٌ لكنني نسيت هل هي في أوَّل الشَّهر، أو وسطه، أو آخره؟ فنأمرها أن تجلسَ من أوَّل الشَّهر على حسب عادتها.
قوله: "ولو في نصفه جَلستها من أوَّلِهِ". "لو": إشارة خلاف.(144/19)
أي: علمت أنَّها في نصفه، لكن لا تدري في أيِّ يوم من النِّصف هل هو في الخامس عشر، أو العشرين؟ فترجع إلى أوَّل الشَّهر لسقوط الموضع، وهذا هو المذهب.
والقول الثَّاني: تجلس من أوَّل النِّصف(1)، لأنَّه أقرب من أوَّل الشَّهر. وهذا هو الصَّحيح.
قوله: "كمن لا عادة لها، ولا تمييز". "مَنْ": نكرة موصوفة، والتقدير: كمُبْتَدَأَة. وعرفنا هذا التقدير من قوله: "لا عادة لها".
إذن؛ فالمُبْتَدَأَة التي لا عادة لها ولا تمييز؛ تجلس غالبه من أوَّل الشَّهر، وهذه فائدة قوله: "كمن لا عادة لها، ولا تمييز".
والصحيح في المُبْتَدَأَة: أنَّ دمَها دُم حيض ما لم يستغرق أكثر الشهر، فالمبتدأةُ من حين مجيء الحيض إليها فإنها تجلس حتى تطهر أو تتجاوز خمسة عشر يوماً.
والدَّليل على ذلك: قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى {البقرة: 222}. فمتى وُجِدَ هذا الدَّمُ الذي هو أذيً فهو حيضٌ قلَّ أو كَثُرَ. إذ كيف يُقالُ: اجلسي يوماً وليلة، ثم اغتسلي وصلِّي، ثم اغتسلي عند انقطاعه ثانية، واقضي الصوم؟!!
إذ معنى هذا أننا أوجبنا عليها العبادة مرَّتين، والغسل مرَّتين، وهذا حكم لا تأتي بمثله الشَّريعةُ، والعبادات تجبُ مرَّةً واحدة لا أكثر من ذلك.
وإن استغرق دمُ المُبْتَدَأَة أكثرَ الوقت، فإنَّها حينئذ مستحاضةٌ، ترجع إلى التَّمييز، فإن لم يكن تمييزٌ فغالب الحيض أو حيض نسائها، هذا هو الصحيح.
قوله: "ومن زادت عادتها". "مَنْ": اسم شرط جازم، يفيدُ العموم، فيشمل كلَّ امرأة.
مثاله: امرأةٌ عادتُها خمسةُ أيَّام، ثم زادت فصارت سبعة أيام.
قوله: "أو تقدَّمت". مثالُه: امرأةٌ عادتُها في آخر الشهر، فجاءتها في أوَّل الشَّهر .
قوله: "أو تأخَّرت".مثاله: عادتُها في أوَّل الشَّهر فجاءتها في آخره.
فالصُّور في تغيُّر الحيض ثلاث: الزِّيادةُ، التَّقدُّم، التَّأخُّر، وبقيت صورةٌ رابعةٌ وهي النقصُ، وسيذكرها المؤلِّف(1).(144/20)
قوله: "فما تكرر ثلاثاً فحيض" كالمبتدأة تماماً.
مثال الزِّيادة: عادتُها خمسةُ أيام، فجاءها الحيضُ سبعةٌ، فتجلس خمسةٌ فقط، ثم تغتسل وتُصلِّي وتصوم، فإذا انقطع اغتسلت ثانية كالمُبْتَدَأة إذا زاد دمُها على أقلِّ الحيض، وإذا كان الشَّهرُ الثَّاني وحاضت سبعة تفعل كما فعلت في الشهر الأول، وإذا كان الشهر الثَّالث وحاضت سبعة صار حيضاً، وحينئذ يجب عليها أن تقضيَ ما يجب على الحائض قضاؤه فيما فعلته بعد العادة الأولى؛ فتقضي الصَّوم الواجب إن كانت صامت في اليومين، والطَّواف الواجب، إن كانت طافت فيهما، لأنه تبيَّن أنهما حيضٌ؛ والحيض لا يصحُّ معه الصِّيام ولا الطَّواف.
وهذا مبنيٌّ على ما سبق في المُبْتَدَأة، وتقدَّم أنَّ الصَّحيح: أنَّ المُبْتَدَأَة تجلسُ حتى تطهر(1)، وعلى هذا إذا زادت العادةُ وجبَ على المرأة أن تبقى لا تُصلِّي ولا تصومُ، ولا يأتيها زوجُها حتى تطهَر ثم تغتسلَ وتُصلِّي؛ لأنَّ هذا دمُ الحيض ولم يتغيَّر، والله قد بيَّن لنا الحيضَ بوصف منضبط فقال: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى {البقرة: 222} فما دام هذا الأذى موجوداً فهو حيض.
ومثال التَّقدُّم: عادتُها في آخر الشَّهر فجاءها في أوَّله فنقول: انتظري، فإذا تكرَّر ثلاثاً فحيض، وإلا فليس بشيء.
والصَّحيح: أنه حيضٌ، وأنه لو كانت عادتُها في آخر الشَّهر، ثم جاءتها في أوَّله في الشَّهر الثَّاني، وجب عليها أن تجلسَ ولا تُصلِّي ولا تصوم ولا يأتيها زوجُها.
ومثال التَّأخر: عادتُها في أوَّل الشَّهر، ثم تأخرت إلى آخره، فعلى ما مشى عليه المؤلِّف إذا جاءها في آخره لا تجلس ـ وإن كان هو دم الحيض الذي تعرفه برائحته وغلظه وسواده ـ حتى يتكرَّرَ ثلاثاً، وتُصلِّي وتصوم، فإذا تكررَ ثلاث مرَّات أعادتْ ما يجب على الحائض قضاؤه. والرَّاجح ُ: أنه إذا تأخَّرت عادتُها، وجب عليها أن تجلسَ لكونه حيضاً، لأنه معلوم بوصف الله إيَّاه بأنَّه أذى.(144/21)
قوله: "وما نَقَصَ عن العادة طُهْرٌ". هذا تَغَيُّر العادة بنقص.
مثاله: عادتُها سبعٌ، فحاضت خمسةً، ثم طَهُرت، فإنّ ما نقص طُهْرٌ، يجب عليها أن تغتسل، وتُصلِّي، وتصوم الواجب، ولزوجها أن يجامعها كباقي الطَّاهرات.
والدَّليل على ذلك ما يلي:
1ـ قولُه تعالى: ولا تقربوهن حتى" يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله {البقرة: 222} .
2ـ قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:"أليس إذا حاضت لم تصلِّ، ولم تصم"(1). وهذه المرأة انتهى حيضها.
(فائدة)
علامةُ الطُّهر معروفةٌ عند النِّساء، وهو سائلٌ أبيضُ يخرج إذا توقَّفَ الحيضُ، وبعض النِّساء لا يكون عندها هذا السَّائل؛ فتبقى إلى الحيضة الثَّانية دون أن ترى هذا السَّائل، فعلامةُ طُهْرِها أنَّها إذا احتشت بقطنة بيضاء أي: أدخلتْهَا محلَّ الحيض ثم أخرجَتْهَا ولم تتغيَّرْ، فهو علامةُ طهرها.
قوله: "وما عاد فيها جَلَسَتْهُ" أي: ما عاد في العادة بعد انقطاعه، فإنها تجلسه بدون تكرار، لأنَّ العادة قد ثَبَتَتْ، وعاد الدَّم الآن في نفس العادة.
مثاله: عادتُها ستَّة أيَّام وفي اليوم الرَّابع انقطع الدَّم، وطَهُرَتْ طُهْراً كاملاً، وفي اليوم السادس جاءها الدَّمُ، فإنها تجلس اليوم السَّادس؛ لأنه في زمن العادة، فإن لم يعدْ إلا في اليوم السَّابع، فإنَّها لا تجلسه،؛لأنه خارجٌ عن العادة، وقد سبق أنه إذا زادت العادة، فليس بحيض حتى يتكرَّر ثلاث مرَّات، وسبق القولُ الرَّاجح في ذلك(1).
قوله: "والصُّفرة، والكُدرة". الصُّفرة والكُدرة: سائلان يخرجان من المرأة، أحياناً قبل الحيض، وأحياناً بعد الحيض.
والصُّفرة: ماءٌ أصفر كماء الجُروح.
والكُدرة: ماءٌ ممزوجٌ بحُمرة، وأحياناً يُمزَجُ بعروق حمراء كالعَلَقة، فهو كالصَّديد يكون ممتزجاً بمادة بيضاء وبدم.(144/22)
قوله: "في زمن العادة حيضٌ" أي: في وقتها، وظاهر كلامه أنهما إن تقدَّما على زمن العادة أو تأخَّرا عنه فليسا بحيض. وهذا أحد الأقوال في المسألة(2).
والقول الثاني: أنَّهما ليسا بحيض مطلقاً؛ لقول أمِّ عطيَّة: "كُنَّا لا نعدُّ الكُدْرة والصُّفرة شيئاً" رواه البخاري(1). ومعنى قولها "شيئاً" من الحيض، وليس المعنى أنَّه لا يؤثِّر، لأنه ينقض الوُضُوء بلا شكٍّ، وظاهر كلامها العموم.
والقول الثَّالث: أنَّهما حيض مطلقاً؛ لأنَّه خارجٌ من الرَّحم ومنتنُ الرِّيح، فحكمه حكم الحيض.
واستُدلَّ لما قاله المؤلِّف:
1ـ بما رواه أبو داود في حديث أمِّ عطيَّة: "كُنَّا لا نَعُدُّ الصُّفرة والكُدْرَةَ بعد الطُّهرِ شيئاً"(2). فهذا القيد يدلُّ على أنه قبل الطُّهر حيضٌ.
2ـ أنَّه إذا كان قبل الطُّهر يثبت له أحكام الحيض تبعاً للحيض، إذ من القواعد الفقهيَّة: "أنه يثبت تَبَعَاً ما لا يثبتُ استقلالاً"، أما بعد الطُّهر فقد انفصل ، وليس هو الدَّم الذي قال الله فيه: هو أذى فهو كسائر السَّائلات التي تخرج من فرج المرأة، فلا يكون له حكم الحيض.
قوله: "ومن رأت يوماً دماً، ويوماً نقاءً، فالدَّم حيضٌ، والنَّقاء طُهرٌ".
مثاله: امرأة ترى يوماً دماً، ويوماً نقاءً، فإذا أذَّن المغرب رأت الدَّم، وإذا أذَّن المغرب في اليوم الثاني رأت الطُّهر.
فالحكم يدور مع عِلَّته، فيوم الحيض له أحكام الحيض، ويوم النَّقاء له أحكام الطُّهر؛ لأن هذا هو مقتضى قوله تعالى: قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض {البقرة: 222} فما دام الأذى ـ وهو الدَّمُ ـ موجوداً فهو حيض، وإذا حصل لها النَّقاء منه فهو طُهْرٌ، وعلى هذا فإننا نُلزِمُ المرأة أن تغتسل ثلاث مرَّات في ستَّة أيام.(144/23)
القول الثاني: أنَّ اليومَ ونصفَ اليوم لا يُعدُّ طُهراً(1)؛ لأنَّ عادة النِّساء أن تجفَّ يوماً أو ليلة؛ حتى في أثناء الحيض ولا ترى الطُّهر، ولا ترى نفسها طاهرة في هذه المدَّة، بل تترقَّب نزول الدم، فإذا كان هذا من العادة، فإنه يُحكم لهذا اليوم الذي رأت النَّقاء فيه بأنه يومُ حيض؛ لا يجب عليها فيه غُسْلٌ، ولا صلاٌة، ولا تطوف ولا تعتكف؛ لأنَّها حائض، حتى ترى الطُّهر.
ويؤيِّد هذا: قول عائشة ـ رضي الله عنها ـ للنِّساء إذا أحضرن لها الكرسُف ـ القطن ـ لتراها هل طَهُرتْ المرأة أم لا؟ فتقول: "لا تعجلن حتى تَرَيْنَ القَصَّةَ البيضاء"(1) أي لا تغتسلن، ولا تصلِّين حتى تَرَيْنَ القصَّةَ البيضاء.
ولأن في إلزامها بالقول الأول مشقَّةٌ شديدةٌ، ولا سيَّما في أيَّام الشَّتاء وأيام الأسفار ونحوها.
وهذا أقرب للصَّواب، فجفافُ المرأة لمدَّة عشرين ساعة، أو أربع وعشرين ساعة أو قريباً من هذا لا يُعَدُّ طُهراً؛ لأنه معتاد للنِّساء.
قوله: "ما لم يَعْبُرْ أكثَره". أي ما لم يتجاوز مجموعُهما أكثرَ الحيض، فإن تجاوز أكثره فالزَّائد عن خمسة عشر يوماً، يكون استحاضةً؛ لأنَّ الأكثر صار دماً.
قوله: "والمستحاضةُ ونحوُها". المستحاضة على المذهب: هي التي يتجاوز دمُها أكثر الحيض.
وقيل: إنّ المستحاضة هي التي ترى دماً لا يصلُح أن يكونَ حيضاً، ولا نفاساً(2).
فعلى التَّعريف الأخير يشمل من زاد دمُها على يوم وليلة وهي مُبْتَدَأة، لأنَّه ليس حيضاً ولانِفَاساً، فيكون استحاضة حتى يتكرَّر كما سبق.
وعلى الأوَّل يكون دَمَ فساد، يُنْظَرُ فيه هل يلحق بالحيض، أو بالاستحاضة؟
قوله: "ونحوها" أي: مثلها. والمُراد به من كان حدثُه دائماً، كمن به سَلَسُ بولٍ أو غائط فحكمه حكم المستحاضة.
قوله: "تغسل فرجَها" أي: بالماء فلا يكفي تنظيفُه بالمناديل وشبهها، بل لا بُدَّ من غسله حتى يزولَ الدَّم.(144/24)
فإن كانت تتضرَّرُ بالغُسل أو قرَّر الأطباءُ ذلك، فإنها تنشِّفه بيابس كالمناديل وشبهها، لقوله تعالى: ولاتقتلوا أنفسكم {النساء: 29}. وقوله: ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة {البقرة: 195} .
ومن به سَلَسُ بول يغسل فرجه، ومن به سلس ريح لا يغسل فرجه، لأن الرِّيحَ ليست بنجسة.
والدَّليل على أنها تغسل فَرْجَها: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لفاطمة بنت أبي حُبَيْش: "اغسلي عنك الدَّمَ وصَلِّي"(1)، فهذا يدلُّ على أنه لا بُدَّ من غسله.
قوله: "وتَعْصِبُه" أي: تشدُّه بخِرْقَة، ويُسمَّى تَلجُّماً، واستثفاراً.
والذي ينزف منه دمٌ دائماً من غير السَّبيلين لا يلزمُه الوُضُوء، إلا على قول من يرى أن الدَّم الكثيرَ ينقض الوُضُوء إذا خرج من غير السَّبيلين(1).
والرَّاجح: أنه لا يلزمه الوُضُوءُ؛ لأن الخارج من غير السَّبيلين لا دليل على أنه ناقض للوُضُوء، والأصل بقاء الطَّهارة.
قوله: "وتتوضَّأ لوقت كُلِّ صلاةٍ".أي: يجب على المستحاضة أن تتوضَّأ لوقتِ كُلِّ صلاة إن خرج شيء، فإن لم يخرج منها شيء بقيت على وضوئِها الأوَّل.
قوله: "وتُصلِّي فروضاً ونوافل" أي: إذا توضَّأت للنَّفل فلها أن تُصلِّيَ الفريضة، لأنَّ طهارتها ترفع الحدث.
قوله: "ولا تُوطَأُ إلا مع خوف العَنَتِ" يعني: أن المستحاضة لا يحلُّ وَطْؤها إلا مع خَوفِ العَنَتِ، أي: المشقَّة بترك الوَطءِ ـ هذا هو المذهب ـ إلا أنَّ هذا التَّحريم ليس كتحريم وطءِ الحائض كما سيأتي.
واستدلُّوا بما يلي:
1ـ قوله تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض {البقرة: 222}. فجعل الله عِلَّة الأمر باعتزالهنَّ أنَّ الدَّم أذى، ومعلوم أن دم الاستحاضة أذيً فهو دمٌ مستقذَرٌ نجس.
2ـ أنه عند الوَطء يتلوَّث الذَّكر بالدَّم، والدَّمُ نجسٌ، والأصل أنَّ الإنسانَ لا يباشر النَّجاسة إلاَّ إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك.(144/25)
لكنَّ تحريمَ وَطءِ المستحاضة أهونُ من تحريم وطء الحائض لأمور هي:
1ـ أن تحريم وطء الحائض نصَّ عليه القرآنُ، أما وطء المستحاضة فإنَّه إما بقياس، أو دعوى أن النَّصَّ شَمِلَهُ.
2ـ أنه إذا خاف الرَّجلُ أو المرأة المشقَّة بترك الجِمَاع جاز وطءُ المستحاضة، بخلاف الحائض فلا يجوز إلا عند الضَّرورة.
3 ـ أنه إذا جاز وَطءُ المستحاضة للمشقَّة، فلا كفَّارة فيه بخلاف وطء الحائض.
القول الثَّاني: أنه ليس بحرام(1)، وهو الصَّحيح، ودليل ذلك :
1ـ قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى" شئتم {البقرة: 223} .
2ـ أنَّ الصَّحابة ـ رضي الله عنهم ـ الذين استُحِيضتْ نساؤهم وهنَّ حوالي سبع عشرة امرأة، لم يُنقَلْ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أمر أحداً منهم أن يعتزل زوجته، ولو كان من شرع الله لبيَّنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لمن استُحِيضَت زوجتُه، ولَنُقِلَ حفاظاً على الشريعة، فلما لم يكن شيءٌ من ذلك عُلِمَ أنه ليس بحرام.
3ـ البراءة الأصلية، وهي الحلُّ.
4ـ أنَّ دم الحيض ليس كدم الاستحاضة لا في طبيعته، ولا في أحكامه؛ ولهذا يجب على المستحاضة أن تُصلِّيَ، فإذا استباحت الصَّلاةَ مع هذا الدَّم فكيف لا يُباح وطؤُها؟ وتحريمُ الصَّلاة أعظمُ من تحريم الوَطء.
ولا يُسلَّمُ أنه داخلٌ في الآية؛ لأنَّ الله قال: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى {البقرة: 222} . فقوله: "هو" ضميرٌ يدلُّ على التَّخصيص، أي: هو لا غيره أذيً. ولا يُسَلَّم القياس في أكثر الأحكام؛ فكيف يُقاس عليه والحالةُ هذه!.
5ـ أنَّ الحيض مدَّته قليلةٌ، فمنع الوطء فيه يسيرٌ؛ بخلاف الاستحاضة فمدَّتُها طويلةٌ؛ فمنع وطئها إلا مع خوف العَنَتِ فيه حرجٌ، والحرجُ منفيٌّ شرعاً.(144/26)
وأما كونُ الذَّكر يتلوَّث عند الوطء بالدَّم النَّجس؛ فإن قلنا: إنه يُعفى عن يسير دم الاستحاضة فلا إشكال؛ لأنَّ ما يعلق منه بالذَّكر يسيرٌ، وإنْ قلنا: لا يُعفى عنه فهو مباشرةٌ للدم غير مقصودة ولا مستمرَّة؛ إذ يجبُ عليه غسله بعد ذلك.
لكِن إذا استقذره، وكَرِه أن يجامعَ مع رؤية الدَّم؛ فهذا شيءٌ نفسيٌّ لا يتعلَّق به حكمٌ شرعيٌّ، فقد يَكره الإنسان الشيءَ كراهةً نفسيَّةً، ولا يُلام إذا تجنَّبَه كما كَرِهَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أكل الضَّبِّ مع أنَّه حلالٌ، وقال: "إنه ليس في أرض قومي فأجِدُني أعَافُهُ"(1).
قولهُ: "ويُستَحبُّ غُسلها لكلِّ صلاة" أي: غُسل المستحاضة لوقتِ كلِّ صلاة؛ لا لفعل كلِّ صلاة. والدَّليل على ذلك: أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بذلك(2).
وهذا إذا قويت أن تغتسلَ لكلِّ صلاة، وإلا فإنَّها تجمعُ بين الظُّهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، فبدلاً من أن تغتسلَ خمس مرَّات تغتسلُ ثلاث مرات، مرَّةً للظُّهر والعصر، ومرَّة للمغرب والعشاء، ومرَّة للفجر.
وهذا الاغتسال ليس بواجب، بل الواجب ما كان عند إدبار الحيض، وما عدا ذلك فهو سُنَّه.
وفيه فائدةٌ من النَّاحية الطِّبيَّة، لأنه يوجب تقلُّص أوعيةُ الدَّم، وإذا تقلَّصت انسدَّت، فيقلُّ النَّزيف، وربما ينقطع بهذا الاغتسال؛ لأنَّ دم الاستحاضة دمُ عِرْقٍ، ودمُ العِرْق يتجمَّد مع البرودة.
قوله: "وأكثر مدَّة النِّفاس أربعون يوماً" النِّفاس آخرُ الدِّماء، لأن الدماء ثلاثةٌ: حيضٌ، واستحاضةٌ، ونِفاس، وبعضهم يزيد دماً رابعاً: دمُ فساد، وبعضهم يُدخِلُ دمَ الفساد في دم الاستحاضة.
والنِّفاس: بكسر النون من نَفَّسَ اللهُ كُربَتَه، فهو نِفاس، لأنه نُفِّسَ للمرأة به، يعني لما فيه من تنفيس كُربة المرأة.(144/27)
ولا شكَّ أن المرأة تتكلَّفُ عند الحمل، وعند الولادة، قال الله تعالى: حملته أمه وهنا على" وهن {لقمان: 14} ، وقال تعالى: حملته أمه كرها ووضعته كرها {الأحقاف: 15} .
والنِّفاس: دمٌ يخرج من المرأة بعد الولادة، أو معها، أو قبلها بيومين، أو ثلاثةٍ مع الطَّلق، أما بدون الطَّلق، فالذي يخرج قبل الولادة دم ُفساد وليس بشيء.
فإن قيل: كيف نعرف أنه قبل الولادة بيومين أو ثلاثة؟ فهنا امرأة أحسَّت بالطَّلق، وصار الدَّم يخرج منها؛ لكن هل نعلم أنها سَتَلِدُ خلال يومين أوثلاثة؟
الجواب: لا نعلم، والأصل أنها لا تجلس، لكن عندنا ظاهرٌ يَقْوَى' على هذا الأصل وهوالطَّلق، فإنه قرينةٌ على أنَّ الدَّم دمُ نِفاسٍ، وأن الولادةَ قريبةٌ، وعلى هذا تجلسُ ولا تُصلِّي، فإن زاد على اليومين قضت ما زاد؛ لأنَّه تبيَّن أنَّ ما زاد ليس بنفاس، بل هو دمُ فساد.
وقال بعض العلماء: لا نِفاس إلا مع الوِلادة أو بعدها، وما تراه المرأةُ قبل الولادة ـ ولو مع الطَّلق ـ فليس بنِفاس(1).
وعلى هذا القول تكونُ المرأة مستريحةٌ، وتُصلِّي وتصومُ حتى مع وجود الدَّم والطَّلق ولا حرج عليها، وهذا قول الشَّافعية(2)، وأشرت إليه لقوَّته؛ لأنَّها إلى الآن لم تتنفَّس، والنِّفاس يكون بالتنفُّس.
مسألة: هل كلُّ دم يخرج عند الوضع يكون نفاساً؟
الجواب: لا يخلو هذا من أحوال:
الأولى: أن تُسقِطَ نطفةً، فهذا الدَّم دمُ فساد وليس بنِفَاس.
الثَّانية: أن تضع ما تمَّ له أربعةُ أشهر، فهذا نِفاسٌ قولاً واحداً؛ لأنه نُفِختْ فيه الرُّوحُ، وتيقَّنَّا أنَّه بَشَرٌ، وهذان الطَّرفان محلُّ اتفاق، وما بينهما محل اختلاف.
الثَّالثة: أن تُسقِطَ علقةً. واختُلفَ في ذلك:
فالمشهور من المذهب: أنه ليس بحَيضٍ ولا نِفَاس.
وقال بعض أهل العلم: إنه نفِاس(1). وعلَّلوا: أن الماء الذي هو النُّطفة انقلب من حاله إلى أصل الإنسان، وهو الدَّمُ، فتيقَّنَّا أن هذا السَّقط إنسانُ.(144/28)
الرابعة: أن تُسقِط مُضغَةً غير مخلَّقة.
فالمشهور من المذهب: أنَّه ليس بنِفَاسٍ.
وقال بعض أهل العلم: إنَّه نفاس(1).
وعلَّلوا: أن الدَّم يجوز أن يفسد، ولا ينشأ منه إنسان، فإذا صار إلى مضغة لحم، فقد تيقَّنا أنه إنسان، فدمُها دمُ نِفاس.
الخامسة: أن تُسقِطَ مُضغةً مخلَّقة بحيث يتبينُ رأسه ويداه ورجله.
فأكثر أهل العلم ـ وهوالمشهور من المذهب ـ أنَّه نِفاَس.
والتَّعليل: أنه إذا سقط ولم يُخَلَّقْ يُحتمل أن يكون دماً متجمِّداً، أو قطعة لحم ليس أصلها الإنسان، ومع الاحتمال لا يكون نِفَاساً؛ لأنَّ النِّفاس له أحكام منها إسقاط الصَّلاة والصَّوم، ومنع زوجها منها، فلا نرفع هذه الأشياء إلا بشيء مُتيقَّنٍ، ولا نتيقَّن حتى نتبيَّن فيه خَلْقَ الإنسان.
وأقلُّ مدَّة يتبيَّن فيها خَلْقُ الإنسان واحدٌ وثمانون يوماً؛ لحديث ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وفيه: "أربعون يوماً نطفة، ثم علقة مثل ذلك"(1).
فهذه ثمانون يوماً، قال: "ثم مضغة"، وهي أربعون يوماً، وتبتدئ من واحد وثمانين.
فإذا سقط لأقلِّ من ثمانين يوماً، فلا نِفاس، والدَّمُ حكمُه حكمُ دمِ الاستحاضة.
وإذا ولدت لواحد وثمانين يوماً فيجب التثبُّتُ، هل هو مخلَّق أم غير مخلق؛ لأن الله قسَّمَ المُضْغَة إلى مخلَّقة، وغير مخلَّقة بقوله: مضغة مخلقة وغير مخلقة {الحج: 5} فجائز ألاَّ تُخلَّق.
والغالب: أنه إذا تمَّ للحمل تسعون يوماً تبيَّن فيه خلق الإنسان، وعلى هذا إذا وضعت لتسعين يوماً فهو نِفَاس على الغالب، وما بعد التِّسعين يتأكَّد أنه ولدٌ وأنَّ الدَّم نفاسِ، وما قبل التسعين يحتاج إلى تثبُّتٍ.
وإذا نَفِستْ المرأةُ فقد لا ترى الدَّم، وهذا نادرٌ جدًّا، وعلى هذا لا تجلس مدَّة النِّفاس، فإذا ولدت عند طُلوع الشَّمس ودخل وقت الظُّهر ولم تَرَ دَماً فإنها لا تغتسلُ، بل تتوضَّأُ وتُصلِّي.(144/29)
وإذا رأت النُّفساء الدَّم يوماً أو يومين أو عشرة أو عشرين أو ثلاثين أو أربعين يوماً فهو نِفَاس، وما زاد على ذلك فالمذهبُ أنَّه ليس بنِفَاسٍ؛ لأنَّ أكثرَ مدَّة النِّفاس أربعون يوماً.
واستدلُّوا: بما رُويَ عن أمِّ سلمة ـ رضي الله عنها ـ قالت: "كانت النُّفساء تجلس على عهد النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُدَّة أربعين يوماً"(1)، وهذا الحديث من العلماء من ضعَّفه، ومنهم من حسَّنه وجوَّده، وله شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن.
فيحتمل أن يكون معناه أنَّ هذا أكثرُ مدَّة النِّفاس، ويُحتمل أن يكونَ هذا هو الغالب.
فعلى الأوَّل إذا تمَّ لها أربعون يوماً؛ والدَّم مستمرٌ؛ فإنَّه يجب عليها أن تغتسلَ وتصلِّي وتصومَ؛ إلا أن يوافق عادة َحيضِها فيكونُ حيضاً؛ لأنَّ أكثر مدَّة النِّفاس أربعون يوماً.
وعلى الثَّاني تستمرُّ في نِفَاسها حتى تبلغَ ستين يوماً، وهذا قول مالك(1) والشَّافعي(2) وحكاه ابنُ عقيل رواية عن أحمد(3).
وعلَّلوا: بأن المرجع فيه إلى الوجود وقد وُجد من بَلَغَ نِفاسُها ستين يوماً.
وحملوا حديث أمِّ سلمة على الغالب.
ويدُّل لهذا الحمل أنه يوجد من النِّساء من يستمرُّ معها الدَّمُ بعد الأربعين على طبيعته، ورائحته، وعلى وتيرة واحدة.
فكيف يُقال مثلاً: إذا ولدت في السَّاعة الثانية عشرة بعد الظُّهر، وتمَّ لها أربعون يوما في الثَّانية عشرة من اليوم الأربعين. كيف يُقال: إنها في السَّاعة الثانية عشرة إلا خمس دقائق من اليوم الأربعين دمُها دم ُنِفاس، وفي السَّاعة الثانية عشرة وخمس دقائق من اليوم نفسه دمُها دمُ طُهْرٍ؟ فالسُّنَّة لا تأتي بمثل هذا التَّفريقِ مع عدم الفارق.
فإن قيل: هذا الإيرادُ يَرِدُ على الستِّين أيضاً.
فالجواب: أنَّ هذا أكثر ما قيل في هذه المسألة عن العلماء المعتبرين، وإن كان بعضُ العلماءِ قال: أكثرُه سبعون(1)، لكنه قولٌ ضعيفٌ شاذٌّ.(144/30)
والذي يترجَّح عندي: أنَّ الدَّم إذا كان مستمرًّا على وتيرة واحدة، فإنَّها تبقى إلى تمام ستِّين، ولا تتجاوزه.
وعلى التَّقديرين، السِّتِّين أو الأربعين على القول الثَّاني إذا زاد على ذلك نقول: إن وافق العادة فهو حيضٌ.
مثاله: امرأةٌ تمَّ لها أربعون يوماً في أوَّل يوم من الشَّهر، وعادتُها قبل الحمل أن يأتيها الحيضُ أولَ يوم من الشَّهر إلى السِّتَّة الأيام فإذا استمرَّ الدَّمُ من اليوم الأوَّل إلى السَّادس، فهذه الأيَّام نجعلُها حيضاً؛ لأنهَّ وافق العادة، وهو لمَّا تجاوز أكثَر النِّفاس صار حكمُه حكم الاستحاضة، وقد تقدَّم أن المستحاضةُ المعتادةَ ترجعُ إلى عادتِها(2)، فَنَرُدُّ هذه إلى عادتها.
فإن لم يصادف العادةَ فَدَمُ فساد، لا تترك من أجله الصَّومَ ولا الصَّلاةَ، وأما أقلُّ النِّفاس فلا حدَّ له، وبهذا يُفارق الحيضَ، فالحيضُ على كلام الفقهاء أقلُّه يومٌ وليلة، وأما النِّفاس فلا حَدَّ لأقلّه.
قوله: "ومتى طَهُرَتْ قَبلَه" أي: طَهُرَت النُّفساء قبل مدَّة أكثر النِّفاس. وذلك بانقطاع الدَّم، والمرأةُ تعرف الطَّهارةَ.
قوله: "تطهَّرت" أي: اغتسلت.
قوله: "وصلَّت". أي: فروضاً ونوافل، فالفرائض وجوباً، والنَّوافل استحباباً.
قوله: "ويُكره وَطؤها قبل الأربعين بعد التَّطهُّر". أي: يُكره وَطُء النُّفساء إذا تطهَّرت قبل الأربعين.
واستدلُّواعلى ذلك بما يلي:
1ـ أن عثمان بن أبي العاص ـ رضي الله عنه ـ لما طَهُرتْ زوجتُه قبل الأربعين وأتت إليه قال: "لا تقربيني"(1). وهو من الصَّحابة، وقوله: "لا تقربيني" نهيٌ، وأقلُّه الكراهةُ.
2ـ وخوفاً من أن يرجع الدَّم، لأنَّ الزَّمنَ زمنُ نِفاس.(144/31)
فأخرجوا حكم الوَطء عن الحكم الأصليِّ، وهو التَّحريم في حالة نزول الدَّم إلى الكراهة بانقطاعه؛ لزوال علَّة التحريم وهو الدَّم، فلماذا لا يخرجُ عن التَّحريم إلى الإباحة؟ لأن وَطء النُّفساء إما حلالٌ، وإما حرامٌ، والكراهةُ تحتاجُ إلى دليل، ولا دليل.
فالرَّاجح: أنه يجوز وطؤُها قبل الأربعين إذا تطهَّرت.
وقول عثمان بن أبي العاص ـ رضي الله عنه ـ يُجاب عنه بما يلي:
1ــ أنَّه ضعيف.
2ـ أنه قد يَتَنَزَّه عن ذلك دون أن يكونَ مكروهاً عنده، فلا يدلُّ على الكراهة.
3ـ أنه ربما كان فعله من باب الاحتياط، فقد يخشى أنها رأت الطُّهَر وليس بطُهْرٍ، أو يُخشى أن ينزل الدَّم بسبب الجماع، أو غير ذلك من الأسباب.
قولُه:"فإن عاودها الدَّم" أي: عاد الدَّم إلى النُّفساء بعد انقطاعه.
قوله: "فمشكوكٌ فيه" أي: لا ندري أنِفاسٌ هو؟ أم دمُ فساد؟
فإن كان نفاساً ثبت له حُكْمُ النِّفاس، وإن كان دم فساد لم يثبتْ له حكمُ النِّفاس.
قوله: "تصومُ وتُصلِّي". أي: يجب عليها أن تتطهَّر، وتصلِّي وتصومَ إذا صادف ذلك رمضان، ولكنها تتجنَّب ما يحرم على النُّفساء كالجماع مثلاً فلا تفعله، لأننا نأمرها بفعل المأمور كالصَّلاة والصَّوم من باب الاحتياط، ونمنعُها من المحرَّم من باب الاحتياط.
قوله: "وتقضي الواجب" يعني: من الصَّوم والصَّلاة إن كان يُقْضَى.
مثال ذلك: امرأةٌ كان يوم طُهرِها في اليوم العاشر من رمضان، ولها عشرون يوماً في النِّفاس، بمعنى أنَّها ولدت قبل رمضان بعشرة أيَّام، وطَهُرت في العاشر من رمضان، واستمرَّ الطُّهر إلى عشرين من رمضان، ثم عاودها الدَّم في العشر الأواخر من رمضان، فيجب عليها أن تصلِّي وتصوم احتياطاً، لأنه يحتمل أنه ليس دمَ نفاس.
ثم إذا طَهُرَتْ عند تمام الأربعين وذلك في يوم العيد، وجب عليها أن تغتسلَ وأن تقضيَ الصَّوم الذي صامته في أثناء هذا الدَّم، لأنه يُحتمل أنه دمُ نفاس، والصَّوم لا يصحُّ مع دم النِّفاس.(144/32)
وأمَّا الأيَّام التي صامتْها أثناء الطُّهر ـ وهي ما بين العاشر إلى العشرين من رمضان ـ فلا تقضيها، لأنهَّا صامتها وهي طاهرٌ ليس عليها دمٌ.
وأما بالنسبة للصَّلاة؛ فلا يجب عليها أن تقضيَ الصَّلوات التي فعلتها بعد معاودة الدَّم، لأنَّه إن كان دم فساد فقد صلَّت وبرئت ذمَّتُها، وإن كان دمَ نفاس فالصَّلاة لا تجب على النُّفساء.
فصار حكم الدَّم المشكوك فيه أن المرأة يجب عليها فعلُ ما يجب على الطَّاهرات لاحتمال أنه دمُ فساد، ويجب عليها قضاءُ ما يجب على النُّفساء قضاؤه لاحتمال أنه دمُ نِفاس، هذا ما قاله المؤلِّفُ وهو المذهب.
والرَّاجح: أنهَّ إن كان العائدُ دمَ النِّفاس بلونه ورائحته، وكلِّ أحواله، فليس مشكوكاً فيه، بل هو دمٌ معلومٌ، وهو دمُ النِّفاس فلا تصوُم، ولا تصلِّي، وتقضي الصَّوم دون الصَّلاة. وإن عَلِمَت بالقرائن أنه ليس دمَ نفاس فهي في حكم الطَّاهرات تصومُ وتصلِّي، ولا قضاءَ عليها؛ لأن الله لم يوجبْ على العباد العبادةَ مرَّتين. فإمّا أن تكونَ أهلاً للصوم فتصوم وإلا فلا. لكن إن صادف العائدُ عادة حيضها فهو حيض.
قوله: "وهو كالحيض فيما يحلُّ" يعني: أن حكمَ النِّفاس حكمُ الحيض. فيما يحلُّ كاستمتاعِ الرَّجل بالمرأة بغير الوَطء، والمرورِ في المسجد مع أمن التَّلويث.
قوله: "ويحرم" يعني: أنه كالحيض فيما يحرُمُ. كالصَّوم، والصَّلاة، والوطءِ، والطَّواف، والطَّلاق على حسب كلام المؤلِّف.
قولُه: "ويجب" يعني: أنه كالحيض فيما يجب. كالغسل إذا طَهُرتْ.
قوله: "ويسقُطُ" يعني: أنه كالحيض فيما يَسقُطُ به، كالصَّوم، والصَّلاةِ فإنهما يسقطانِ عنها، لكن الصومَ يجبُ قضاؤه، والصلاةَ لا تُقضى.
قوله: "غيرَ العِدَّة" يعني: أن النِّفاس يفارق الحيض في العدَّة.
فالحيضُ يُحْسَبُ من العِدَّة، والنِّفاس لا يُحْسَبُ من العدَّة.
مثاله: إذا طلَّق امرأته، فإنها تعتدُّ بثلاث حِيَضٍ، وكلُّ حيضةٍ تحسبُ من العدَّةِ.(144/33)
والنِّفاس لا يُحسب؛ لأنه إذا طلَّقِها قبلَ الوضعِ انتهتِ العِدَّةُ بالوضع، وإن طلَّقها بعده انتظرتْ ثلاث حيض، فالنِّفاسُ لا دخلَ له في العِدَّة إطلاقاً.
قوله: "والبلوُغ" يعني: أنه يفارقَ الحيضَ في البلوغِ، أي: أن الحيضَ من علامات البلوغ.
أما الحْملُ فليس من علامات البلوغ؛ لأنَّها إذا حملت، فقد علمنا أنَّها أنزلت، وحصل البلوغُ بالإنزال السَّابق على الحمل.
ويُستثنى أيضاً مدَّة الإيلاء، وهو أن يحلف عن ترك وطء زوجته إما مُطْلَقاً، أو مدَّة تزيد على أربعة أشهر. مثل أن يقول: والله لا أَطَأُ زوجتي.
أو يقول: والله لا أطأ زوجتي حتى يخرج الدجَّال.
فهذا يُحسب عليه أربعةُ أشهر، فإن رجعَ وجامع كَفَّر عن يمينه، وإنْ أَبَى'، فإن تمَّت المدَّةُ يُقال له: ارجعْ عن يمينك، أو طلِّقْ.
فإن قال: إن امرأته تحيضُ في كلِّ شهر عشرةَ أيام، فيبقى من مدَّة الإيلاء أربعون يوماً، وطلب إسقاطها من مدَّة الإيلاء يُقال له: لا تُسقِطْ عنك أيَّامُ الحيض، بل تُحسَبُ عليك.
أما بالنِّسبة للنِّفاس فلا تُحسب مدَّتُه على المولي.
مثاله: حلف ألا يجامع زوجتَه وهي في الشَّهر التَّاسع من الحمل، فيُضربُ له أربعُة أشهر، فإذا وضعتْ زوجتَه ومضى أربعةُ أشهرٍ من الأجل الذي ضربناه له، قلنا: طلِّقْ، أو جامعْ، فإن قال: إنَّ زوجته جلستْ أربعين يوماً في النِّفاس، وأريد إسقاطها عنِّي، فهذه نسقطها عنه ونزيدُه أربعين يوماً، وإن جلستْ ستِّين يوماً زدناه ستِّين يوماً.
فهذا فرق بين الحيض والنِّفاس، ووجهُ الفرق كما قال أهلُ العلم(1): أن الحيضَ أمر ٌمعتاٌد، وقد جعل اللهُ تعالى لهذا الزوج أربعةَ أشهرٍ وعشراً؛ وهو سبحانه وتعالى يعلم أن غالب النساء يحضن في كلِّ شهر مرَّة. وأما النِّفاس فهو أمرٌ نادرٌ وهو حالٌ تقتضي أن لا يميلَ المولي إلى زوجه حال النِّفاس والدم، والمسألة مع ذلك لا تخلو من خلاف(2).(144/34)
ومن الفروق أيضاً: أنَّ المرأةَ المعتادة التي عادتُها في الحيض ستَّةُ أيَّام؛ إذا طَهُرَتْ لأربعة أيام طهراً كاملاً يوماً وليلة، ثم عاد إليها الدَّم؛ فيما بقي من مدَّة العادة وهو يومٌ وليلةٌ، فهو حيضٌ، وفي النِّفاس إذا عاد في المدَّة يكون مشكوكاً فيه، وهذا على المذهب.
ومن الفروق أيضاً: وهو خلاف المذهب، أن الطَّلاق في الحيض حرامٌ، وهل يقعُ؟ فيه خلافٌ(1).
وفي النِّفاس ـ على المذهب ـ حرام أيضاً كما قال المؤلِّفُ "وهو كالحيض فيما يحلُّ ويحرمُ". لأن النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قال لعمر: "مُرْهُ فليطلِّقها طاهراً، أو حاملاً"(2) والنُّفساء غير طاهر.
والصحيح: أنُّه ليس بحرام.
والدليل على ذلك: أن الطَّلاق في الحيض حُرِّمَ لكونه طلاقاً لغير العدَّة قال الله تعالى: يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن {الطلاق: 1} فإذا طلَّق وهي حائضٌ فإن بقيَّة هذه الحيضة لا تحسب، فلا بدَّ أن تأتيَ ثلاثُ حِيَضٍ جديدةِ، فلا تدخل في العدَّة من حينِ الطَّلاقِ.
أما النِّفاس فلا دخل فيه في العِدَّة، لأنه لا يُحسب منها، فإذا طلقَّها فيه شرعت في العدَّة من حين الطَّلاق فيكون مطلِّقاً للعدة، وإذا كان كذلك فإذا طلَّقها في النِّفاس أو بعده، فهو على حدٍّ سواء.
أما قولُه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ "مُرْهُ فليطلِّقها طاهراً، أو حاملاً"(1) أي: طاهراً من الحيض بدليل ما جاء في الحديث: "أنه طلَّق امرأته وهي حائضٌ"(1) ولأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قرأ: فطلقوهن لعدتهن {الطلاق: 1} وهذا الحكمُ يختصُّ بالطَّلاق في الحيض دون النِّفاس.
ومن الفروق بين الحيض والنِّفاس: أنَّه يُكره وطءُ النُّفساء إذا طَهُرَتْ قبل الأربعين على المشهورِ من المذهبِ، ولا يُكرهُ وطء الحائضِ، إذا طَهُرَتْ قبلَ زمن العادةِ.
ومن الفروق أنه لا حدَّ لأقل النِّفاس بخلاف الحيض.
فهذه سبعة ُفروقٍ بين الحيضِ والنِّفاس.(144/35)
قوله: "وإن ولدت توأمين". أي: ولدين.
قوله: "فأوَّلُ النِّفاس، وآخرُه من أوَّلهما" أي: أوَّل الولدين خروجاً.
حتى ولو كان بينهما مدَّة كيومين، أو ثلاثة، فلو قُدِّر أنها ولدت الأول في أول يوم من الشهر، والثَّاني في العاشرِ من الشَّهر، فإنه يبقى لها ثلاثون يوماً؛ لأن أوَّل النِّفاس من الأوَّل.
ولو قُدِّر أنها ولدت الأوَّل في أوَّلِ الشَّهر، وولدت الثَّاني في الثَّاني عشر من الشَّهر الثَّاني، فلا نِفاس للثَّاني؛ لأن النِّفاس من الأوَّل، وانتهت الأربعون يوماً، ولا يمكن أن يزيدَ النِّفاس على أربعين يوماً على المذهب؛ لأن الحملَ واحدٌ والنِّفاس واحدٌ، وان تعدَّد المحمولُ.
والرَّاجح:ُ أنه إذا تجدَّدَ دمٌ للثاني، فإنَّها تبقى في نفاسِها، ولو كان ابتداؤه من الثاني، إذ كيفَ يُقال: ليس بشيءٍ، وهي ولدتْ وجاءها دم؟!.
انتهى' المجلد الأوَّل، ويليه المجلد الثَّاني
وأوَّله :"كتاب الصَّلاة"(144/36)
الفتاوى / المجلد الحادي عشر(/)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب المياه
محمد بن صالح العثيمين
كتاب الطهارة
باب المياه
1) سُئل فضيلة الشيخ : عن أقسام المياه ؟
فأجاب حفظه الله تعالى قائلاً : الراجح أن الماء قسمان : طهور ونجس ، فما تغير بالنجاسة ، فهو نجس ، وما لم يتغير بنجاسة ، فهو طَهُورٌ .
أما إثبات قسم ثالث ، وهو الطاهر ، فلا أصل لذلك في الشريعة ، والدليل على هذا هو عدم الدليل ، إذ لو كان القسم الطاهر ثابتاً بالشرع ، لكان أمراً معلوماً مفهوماً،تأتي به الأحاديث البينة الواضحة ، لأن الحاجة تدعو إلى بيانه ، وليس بالأمر الهين ، إذ يترتب عليه : إما أن يتطهر بماء أو يتيمم .
2) وسُئل فضيلته : ما الأصل في الطهارة من الحدث والخبث ؟
فأجاب بقوله : الأصل في الطهارة من الحدث الماء ، ولا طهارة إلا بالماء، سواء كان الماء نقيّاً ، أم متغيِّراً بشيء طاهر ، لأن القول الراجح : أن الماء إذا تغيّر بشيء طاهر ، وهو باقٍ على اسم الماء ، أنه لا تزول طهور يته ، بل طهور طاهر في نفسه ، مطهر لغيره ، فإن لم يوجد الماء أو خيف الضرر باستعماله ، فإنه يُعدَل عنه إلى التيمم ، بضرب الأرض بالكفين ، ثم مسح الوجه بهما ، ومسح بعضهما ببعض . هذا بالنسبة للطهارة من الحدث .
أما الطهارة من الخبث ، فإن أي مزيل يُزيل ذلك الخبث ، من ماء أو غيره تحصل به الطهارة ، وذلك لأن الطهارة من الخبث يُقصَد بها إزالة تلك العين الخبيثة بأي مزيل ، فإذا زالت هذه العين الخبيثة بماء أو بنزين أو غيره من السائلات أو الجامدات على وجه تام ، فإن هذا يكون تطهيراً لها ، لكن لابد من سبع غسلات إحداهن بالتراب في نجاسة الكلب ، وبهذا نعرف الفرق بين ما يحصل به التطهير في باب الخبث ، وبين ما يحصل به التطهير في باب الحدث .
3) وسئل رعاه الله بمنه وكرمه : هل تطهر النجاسة بغير الماء ؟ وهل البخار الذي تغسل به الأكوات مطهر لها ؟(145/1)
فأجاب قائلاً : إزالة النجاسة ليست مما يُتعبد به قصداً ، أي أنها ليست عبادة مقصودة ، وإنما إزالة النجاسة هو التخلي من عين خبيثة نجسة ، فبأي شيء أزال النجاسة ، وزالت وزال أثرها ، فإنه يكون ذلك الشيء مطهِّراً لها ، سواء كان بالماء أو بالبنزين، أو أي مزيل يكون ، فمتى زالت عين النجاسة بأي شيء يكون، فإنه يُعتبر ذلك تطهيراً لها ، حتى إنه على القول الراجح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية ، لو زالت بالشمس والريح فإنه يطهر المحل ، لأنها كما قلت : هي عين نجسة خبيثة ، متى وجدت صار المحل متنجِّساً بها ، ومتى زالت عاد المكان إلى أصلة ، أي إلى طهارته ، فكل ما تزول به عين النجاسة وأثرها ، إلا إنه يُعفى عن اللون المعجوز عنه ، فإنه يكون مطهِّراً لها ، وبناءً على ذلك نقول : إن البخار الذي تُغسل به الأكوات إذا زالت به النجاسة فإنه يكون مطهِّراً .
4) وسئل : هل يصح الوضوء بالماء المالح بطبيعته أو المستخرج من الأرض بواسطة المكائن ؟
فأجاب فضيلته : نعم يصح الوضوء بالماء المالح بطبيعته أو بوضع ملح فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن الوضوء بماء البحر فقال : " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " .
ومن المعلوم أن مياه البحر مالحة فيجوز للإنسان أن يتوضأ بالماء المالح سواء كان الملح طارئاً أو كان مالحاً من أصله .
وكذلك يجوز الوضوء بالماء الذي أخرج بالمكائن وغيرها من الآلات الحديثة لأن هذا داخل في قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ? . إلى قوله : ? وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ? (1) .(145/2)
5 ) وسُئل الشيخ - أعلى الله مكانه ومكانته - عن حكم الماء المتغير ّ بطول مُكثه ؟
فأجاب بقوله : هذا الماء طهور وإن تغير ، لأنه لم يتغير بمازج خارج وإنما تغير بطول مُكثه في هذا المكان ، وهذا لا بأس به يُتوضأ منه والوضوء صحيح .
6 وسئل : عن حكم الوضوء من بركة يبقى الماء فيها مدة طويلة فيتغير لونه وطعمه ؟
فأجاب بقوله : لا بأس بالوضوء من تلك البركة ما داموا يتوضأون خارجها ، ولا يغتسلون في داخلها ، لأنه لا يضرّ تغير الماء بمكثه ، إنما يضرّ لو تغير بنجاسة ، وكذلك لو كانوا يغتسلون من الجنابة بداخلها ، لِنَهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الاغتسال في الماء الدائم الذي لا يجري ، أما ما داموا يغتسلون ويتوضأون خارجها فلا حرج في ذلك والباقي طهور يتوضأون منه إلى أن ينفذ .
7) وسئل : إذا مشى الإنسان في ماء متخلف من ماء الوضوء فهل يعتبر نجساً ؟
فأجاب فضيلته بقوله : إذا كان الماء لم يَتغيَّر بالنَّجاسة فهو طاهر ، فإن تغيَّر بالنجاسة فهو نجس ٌ وعلى من تلوَّثت رجله به أن يغسلها ، وكذلك من تلوثت نعاله به أن يغسل ما تلوث إلا ما يباشر الأرض فإن الأرض تُطَهّره .
8) سئل فضيلة الشيخ : عن تكرير الماء المتلوث بالنجاسات حتى يعود الماء نقيّاً سليماً من الروائح الخبيثة ومن تأثيرها في طعمه ولونه ؟ وعن حكم استعمال هذا الماء في سقي المزارع والحدائق وطهارة الإنسان وشربه ؟(145/3)
فأجاب بقوله : في حال تكرير الماء التكرير المتقدم ، الذي يُزيل تلوثه بالنجاسة حتى يعود نقيّاً سليماً من الروائح الخبيثة ومن تأثيرها في طعمه ولونه ، مأمون العاقبة من الناحية الصحية ، في هذه الحال لا شّك في طهارة الماء ، وأنه يجوز استعماله في طهارة الإنسان وشربه وأكله وغير ذلك ، لأنه صار طهوراً لزوال أثر النجاسة طعماً ورائحة ً ولوناً ، وفي الحديث عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه وطعمه ولونه " .
وفي رواية : " أن الماء طهور إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بنجاسة تحدث فيه " . وهذا الحديث وإن كان ضعيفاً من حيث السند وأكثر أهل العلم لا يثبتونه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل قال النووي : اتفق المحدِّثون على تضعيفه ، لكنه في الحقيقة صحيح من حيث المعنى ، لتأيده بالأحاديث الدالة على إزالة النجاسة بالغسل ، فإنها تدل على أنه إذا زال أثر النجاسة بالغسل ، فإنها تدل على أنه إذا زال أثر النجاسة طهر ما أصابته ، ولأن أهل العلم مجمعون على أن الماء إذا أصابته النجاسة فغّيرت ريحه أو طعمه أو لونه صار نجساً ، وإن لم تغيره فهو باق على طهوريته ، إلا إذا كان دون القلتين ، فإن بعضهم يرى أن ينجس وإن لم يتغير والصحيح أنه لا ينجس إلا بالتغير ، لأن النظر والقياس يقتضي ذلك ، فإنه إذا تغير بالنجاسة فقد أثرت فيه خبثاً ، فإذا لم يتغير بها فكيف يجعل له حكمها ؟
إذا تبين ذلك وأن مدار نجاسة الماء على تغيره ، فإنه إذا زال تغيره بأي وسيلة عاد حكم الطهورية إليه ، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً ، وقد نصّ الفقهاء - رحمهم الله - على أن الماء الكثير وهو الذي يبلغ القُلّتين عندهم إذا زال تغيره ولو بنفسه بدون محاولة فإنه يطهر .(145/4)
وفي حال تكرير الماء التكرير الأولي والثانوي ، الذي لا يزيل أثر النجاسة لا يجوز استعماله في طهارة الإنسان وشربه ، لأن أثر النجاسة فيه باقٍ ، إلا إذا قدر أن هذا الأثر الباقي لا يتغير به ريح الماء ولا طعمه ولا لونه ، لا تغيراً قليلاً ولا كثيراً ، فحينئذٍ يعود إلى طهوريته ، ويستعمل في طهارة الإنسان وشربه ، كالمكرر تكريراً متقدماً .
وأما استعماله أعني الذي بقي فيه أثر النجاسة في ريحه أو طعمه أو لونه ، إذا استعمل في سقي الحدائق والمزارع والمنتزهات الشعبية ، فالمشهور عند الحنابلة أنه يحرم ثمر وزرع سقي بنجس أو سمّد به لنجاسته بذلك ، حتى يسقى بطاهر ، وتزول عين النجاسة ، وعلى هذا يحرم السقي والسماد وقت الثمار ، لأنه يفضي إلى تنجيسه وتحريمه .
وذهب أكثر أهل العلم إلا أنه لا يحرم ولا ينجس بذلك إلا أن يظهر أثر النجاسة في الحب والثمر ، وهذا هو الصحيح ، والغالب أن النجاسة تستحيل فلا يظهر لها أثر في الحبّ والثمر لكن ينبغي أن يلاحظ أن المنتزهات والجالسين فيها، أو تحرمهم الجلوس والتنزه وهذا لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البراز في الموارد وقارعة الطريق ، وظل الناس ، لأن ذلك يقذرهم ، فعليه يجب أن لا تسقى المنتزهات والحدائق العامة بالمياه النجسة ، أو تسمّد بالأسمدة النجسة ، والله الموفق.
---
(1) سورة المائدة ، الآية 6 .(145/5)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب الآنية
محمد بن صالح العثيمين
باب الآنية
9) سُئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى : - عن حكم استعمال آنية الذهب والفضة ؟
فأجاب بقوله : الصحيح أن الاتخاذ والاستعمال في غير الأكل والشرب ليس بحرام وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما نهى عن شيء مخصوص ، وهو الأكل والشرب ، والنبي صلى الله عليه وسلم أبلغُ الناس وأفصحهم وأبينهم في الكلام لا يخصّ شيئاً دون شيء إلا لسبب ، ولو أراد النهي العام لقال : " لا تستعملوها " ، فتخصيصه الأكل والشرب بالنهي دليل على أن ما عداهما جائز ، لأن الناس ينتفعون بهما في غير ذلك ولو كانت الآنية من الذهب والفضة محرّمة مطلقاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتكسيرها ، كما كان صلى الله عليه وسلم لا يدع شيئاً فيه تصاوير إلا كسّره ، فلو كانت محرّمة مطلقاً لكسرها ، لأنه إذا كانت محرمة في كل الحالات ما كان لبقائها فائدة ، ويدلّ لذلك أن أم سلمة وهي راوية حديث : " والذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " كان عندها جلجل من فضة جعلت فيه شعرات من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فكان الناس يستشفُون بها،فيُشفَوْنَ - بإذن الله - وهذا الحديث ثابت في صحيح البخاري ، وفيه استعمال لآنية الفضة لكن في غير الأكل والشرب ، فالصحيح أنه لا يحرم إلا ما حرّمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الأوني وهو الأكل والشرب.
فإن قال قائل : حرمها الرسول صلى الله عليه وسلم في الأكل والشرب لأنه هو الأغلب استعمالاً ، وما علق به الحكم لكونه أغلب ، فإنه لا يقتضي تخصيصه به كما في قوله تعالى:? وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ ? (1). فقيد تحريم الربيبة بكونها الحجر ، وهي تَّحرُم ولو لم تكن في حجره على قول اكثر أهل العلم .(146/1)
قلنا : هذا صحيح لكن كون الرسول صلى الله عليه وسلم يُعلِّق الحكم بالأكل والشرب ، لأن مظهر الأمة بالترّف في الأكل والشرب أبلغ منه في مظهرها في غير ذلك ، وهذه علّة تقتضي تخصيص الحكم بالأكل والشرب ، لأنه لا شك أن الإنسان الذي أوانيه في الأكل والشرب ذهب وفضة ليس كمثل إنسان يستعملها في حاجات أخرى تخفي على كثير من الناس ، ولا يكون مظهر الأمة التفاخر في الأكل والشرب .
10) وسئل فضيلة الشيخ : قلتم في الفتوى السابقة : " إن النهي خاص بالأكل والشرب ولو أراد النبي صلى الله عليه وسلم النهي العام لقال : " لا تستعملوها " وهذا غير مسلم لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر العلة وهي قوله : فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة " .
ويلزم من قولكم ألا يكون لتعليل النبي صلى الله عليه وسلم فائدة ، وإذا كانت العلة منصوصة وهي عدم الاستمتاع بذلك في الدنيا كفعل الكفار صار ذكر الأكل والشرب لا يمنع قياس غيرهما عليهما ، وأيضا قولكم : " هلا قال لا تستعملوها " يستلزم إبطال القياس وهو مجمع عليه إذا ظهرت العلة ولم يصادم نصَّا ، وحديث أم سلمة الوارد في الفتوى لا يعارض الحديث لأنه موقوف عليها . وقال الشنقيطي رحمة الله تعالى في أضواء البيان ج3 ص 224: " فإن قيل الحديث وارد في الشرب في إناء الفضة .. فالجواب : أن العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب " ا.هـ. وكلام الشوكاني في هذا غير مقنع ، فنرجو من فضيلتكم التكرم بتوضيح ذلك والله يحفظكم ويرعاكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فأجاب فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى بقوله : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ، وبعد فقد فهمت ما كتبت بارك الله فيك ، والعلة التي علل بها النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن الأكل في آنية الذهب والفضة لا يقصد بها إحلال ذلك للكفار ولكن يقصد بها والله أعلم أنكم أيها المؤمنون إن منعتم عنها في الدنيا لم تمنعوا عنها في الآخرة فيكون كالتسلية للمؤمنين .(146/2)
وأما قولكم عن قولنا " لقال لا تستعملوها " غير مسلم ، فلا يلزم من كونه غير مسلم لديكم أن يكون غير مقبول عند غيركم لأن الحق غير محجور على عقل أحد من الناس أو تسليمه إلا من وجب اتباعه وهو الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأما قولكم " إنه يلزم من قولنا إلا يكون لتعليل النبي صلى الله عليه وسلم فائدة " فإن الفائدة منه ما أشرنا إليه من قبل وهي حاصلة حتى على قولنا بما دل عليه الحديث من تخصيص النهي بالأكل والشرب .(146/3)
وأما قولكم " إذا كانت العلة منصوصة " إلخ . فإن من المعلوم أننا لو أخذنا بما فهمتم من عموم العلة لكنا نحرم كل ما يستمتع به الكفار وهذا لا يقوله أحد ، وإنما المقياس في ذلك ما دلت عليه النصوص فإذا كان الشيء الذي يستمعون به لا يحرم علينا كان حلالاً قال الله تعالى : ? وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ ? (1) فإذا كانوا يطبخون اللحم المباح لنا على الصفة التي يتمتعون بها كان اللحم حلالاً لنا ، أما إذا كان ما يتمتعون به حراماً علينا الخنزير عنها - فإنا لا نقصد به معارضة الحديث ، لأن الحديث وارد في شيء غير ما فعلته أم سلمة ، فالحديث في الأكل والشرب وفعل أم سلمة في غيرهما لكن فعلها كالتفسير للحديث ، لأنها قد روت الوعيد على من شرب في إناء الفضة واتخذت الجلجل منها كما في صحيح البخاري ، والصحابي أقرب منا إلى فهم مراد النبي صلى الله عليه وسلم ، وفعلها يدل على أنها فهمت أن التحريم بل الوعيد خاص في الشرب وما فهمته - رضي الله عنها - هو الصواب عندنا ويدل لذلك أنه لو كان استعمال إناء الذهب والفضة محرماً على كل حال لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بكسره لأنه لا يجوز إقراره المنكر ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينقض ما فيه الصليب أو يقضبه . وأما إحالتكم على ص 224جـ 3 من أضواء البيان فإننا لم نجده في هذه الصفحة وإنما وجدناه في ص 238 منه ، وأطال الكلام فيه إلى ص 250 وليس فيما قال حرف واحد يدل على تحريم استعمال آنية الذهب والفضة في غير الأكل والشرب ، والذي ذكره تحريم الشراب في آنية الذهب والفضة مطلقاً ، وجواز لبس الذهب والحرير للنساء ومنعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر الأدلة في ذلك وقال في ص 241 : فتحصل أنه لا شك في تحريم لبس الذهب والحرير على الرجال وإباحته للنساء ، ثم ذكر إباحة لبس الرجال لخواتم الفضة ، وقال : أما لبس الرجال لغير الخاتم من الفضة ففيه خلاف بين العلماء ،(146/4)
ثم ذكر نقولاً عن كتب المذاهب من جملتها ما نقله عن مذهب مالك في مختصر خليل : وحرم استعمال ذكر محلى ولو منطقة وآله حرب إلا لسيف والأنف وربط سن مطلقاً وخاتم فضة لا ما بعضه ذهب ولو قل وإناء نقد واقتناؤه وإن لا مرأة .إلخ . فذكر صاحب المختصر إناء النقد واقتناؤه ولكن الشيخ الشنقيطي لم يسقه لبيان هذا بل لبيان ليس الرجل لغير الخاتم من الفضة ولهذا قال في ص 242 : " فقد ظهر من هذه النقول أن الأئمة الأربعة في الجملة متفقون على منع استعمال المحلى بالذهب أو الفضة من ثوب أو آلة أو غير ذلك في أشياء استثنوها على اختلاف بينهم في بعضها " . لا يقال إن قوله أو غير ذلك يشمل الأواني لأن سياق كلامه في غيرها ولأنه عقد لحم الأواني كلاماً في أول هذه المسألة فكلامه الأخير في اللباس وما يتصل به ، وأما قوله رحمه الله ص 245 : قال مقيده عفا الله عنه إلى ص 250 ففيه ما يحتاج إلى تحرير كما يظهر للمتأمل .
وغرضنا من سياق ما ذكرناه من كلام الشيخ الشنقيطي تحقيق ما
طلبتم من مراجعته وقد تبين لنا أنه ليس فيه تصريح بمنع استمعال الأواني في غير الأكل والشرب ، على أنه لو صرح به فليس قوله حجة على غيره ، كما أن قول الشوكاني الذي ذكرتم أنه لم يخف عليكم وانكم لم تقتنعوا به ليس حجة عليكم كما أنه ليس حجة لنا والله المستعان .
ولقد أعجبني قولكم إنكم لم تقتنعوا به لأن هذا هو الواجب عليكم إذا اطلعتم على قول مخالف للأدلة في نظركم لأن لا تقتنعوا به ,أن تلتمسوا العذر لقائله إذا كانت حالة تُحتمل العذر ، والمرء مكلف بما يستطيع علماً وعملاً ولا يجوز له العدول عما أداه إليه اجتهاده إذا كان قد بذل جهده ، وعليه أن يعذر غيره فيما اجتهد فيه إذا لم يعلم منه سوء القصد كما أن على غيره أن يعذره إذا علم منه حسن القصد ولم يعلم منه سوء المراد .
وأسأل الله تعالى أن يتولى الجميع بعنايته ويلهمنا الرشد والسداد .(146/5)
11 وسُئل الشيخ : عن حكم لبس الرجل السلاسل ؟
فأجاب فضيلته بقوله : اتخاذ السلاسل للتجمل بها محرم ، لأن ذلك من شيم النساء ، وهو تشبه بالمرأة وقد لعن الرسول صلى الله عليه وسلم المتشبهين من الرجال بالنساء ، ويزداد تحريماً وإثماً إذا كان من الذهب فإنه حرام على الرجل من الوجهين جميعاً ، من جهة أنه ذهب ، ومن جهة أنه تشبه بالمرأة ، ويزداد قبحاً إذا كان فيه صورة حيوان أو ملك ، وأعظم من ذلك وأخبث إذا كان فيه صليب ، فإن هذا حرام حتى على المرأة أن تلبس حُليّاً فيه صورة سواءً كانت الصورة صورة إنسان أو حيوان طائر أو غير طائر أو كان فيه صورة صليب وهذا - أعني لبس ما فيه صور - حرام على الرجال والنساء فلا يجوز لأي منهما أن يلبس ما فيه صورة حيوان أو صورة صليب .
والله أعلم .
12) وسُئل فضيلة الشيخ : عن الحكمة في تحريم لبس الذهب على الرجال ؟(146/6)
فأجاب بقوله : أعلم أيها السائل ، وليعلم كل من يطلع على هذا الجواب أن العلة في الأحكام الشرعية لكل مؤمن ، هي قول الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . لقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ? (1) . فأي واحد يسألنا عن أيجاب شيء أو تحريم شيء دل على حُكمه الكتابُ والسنة ُ فإننا نقول : العلة في ذلك قول الله تعالى أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذه العلة كافية لكل مؤمن ، ولهذا لما سُئلت عائشة - رضي الله عنها - ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ قالت : " كان يصيبنا ذلك فنُؤمر بقضاء الصوم ولا نُؤمر بقضاء الصلاة " لأن النص من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم موجبة لكل مؤمن ، ولكن لا بأس أن يتطلب الإنسان العلة وأن يلتمس الحكمة في أحكام الله تعالى ، لأن ذلك يزيده طمأنينة ، ولأنه يتبين به سمو الشريعة الإسلامية حيث تقرن الأحكام بعللها ، ولأنه يتمكن به من القياس إذا كانت علة هذا الحكم المنصوص عليه ثابتة في أمر آخر لم ينص عليه ، فالعلم بالحكمة الشرعية له هذه الفوائد الثلاث .(146/7)
ونقول - بعد ذلك - في الجواب على السؤال : إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تحريم لباس الذهب على الذكور دون الإناث ، ووجهُ ذلك أن الذهب من أغلى ما يتجمل به الإنسان ويتزين به فهو زينة وحلية ، والرجل ليس مقصوداً لهذا الأمر ، أي ليس إنساناً يتكمّل بغيره أو يكمل بغيره ، بل الرجل كامل بنفسه لما فيه من الرجولة ،ولأنه ليس بحاجة إلى أن يتزين لشخص آخر تتعلق به رغبته ، بخلاف المرأة ، فإن المرأة الناقصة تحتاج إلى تكميل بجمالها ، ولأنها محتاجة إلى التجمل بأغلى أنواع الحلي ، حتى يكون ذلك مدعاة للعشرة ببينها وبين زوجها ، فلهذا أبيح للمرأة أن تتحلى بالذهب دون الرجل ، قال الله تعالى في وصف المرأة : ? أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين ? (1) . وبهذا يتبين حكمة الشرع في تحريم لباس الذهب على الرجال .
وبهذه المناسبة أوجه نصيحة إلى هؤلاء الذين أبُتلوا من الرجال بالتحلي بالذهب ، فإنهم بذلك عصوا الله ورسوله وألحقوا أنفسهم بمصاف الإناث ، وصاروا يضعون في أيديهم جمرة من النار يتحلون بها ، كما ثبت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فعليهم أن يتوبوا إلى الله سبحانه وتعالى ، وإذا شاءوا أن يتحلوا بالفضة في الحدود الشرعية فلا حرج في ذلك ، وكذلك بغير الذهب من المعادن لا حرج عليهم أن يلبسوا خواتم منه إذا لم يصل ذلك إلى حد السرَّف.
13) وسُئل الشيخ : عن حكم لبس الرجل الذهب ؟(146/8)
فأجاب بقوله : لبس الذهب حرام على الرجال سواء كان خاتماً أو أزراراً أو سلسلة يضعها في عنقة أو غير ذلك ، لأن مقتضى الرجولة أن يكون الرجل كاملاً برجولته لا بما يُنَشَّأ به من الحلي ولباس الحرير ونحو ذلك مما لا يليق إلا بالنساء ، قال الله تعالى : ? وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِين ? (2) . فالمرأة هي التي تحتاج إلى لبس الذهب والحرير نحوهما لأنها في حاجة إلى التجمل لزوجها ، أما الرجل فهو في غنى عن ذلك برجولته وبما ينبغي أن يكون عليه من البذاذة والاشتغال بشئون دينه ودنياه . والدليل على تحريم الذهب على الرجال :
أولاً : ما ثبت عن في صحيح مسلم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم رأي خاتماً من ذهب في يد رجل فنزعه وطرحه وقال : " يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيجعلها في يده " . فقيل للرجل بعدما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم خذ خاتمك انتفع به فقال :لا والله لا آخذه وقد طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ثانياً: عن أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس حريراً ولا ذهباً " رواه الإمام أحمد ورواته ثقات .
ثالثاً : عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من مات من أمتي وهو يتحلى بالذهب حرم الله عليه لباسه في الجنة " . رواه الطبراني ورواه الإمام أحمد ورواته ثقات .
رابعاً : عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أن رجلاً قدم من نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه خاتم من ذهب فاعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " إنك جئتني وفي يدك جمرة من نار " . رواه النسائي .(146/9)
خامساً : وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبع " نهى عن خاتم الذهب " . الحديث رواه البخاري .
سادساً وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم ، نهى عن خاتم الذهب .رواه البخاري أيضاً .
سابعاً : عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس خاتماً من ذهب فنبذه ، فقال : " لا ألبسه أبداً " فنبذ الناس خواتيمهم .رواه البخاري .
ثامناً : ما نقله في فتح الباري شرح صحيح البخاري ، قال : وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم ، عن علي بن بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً وذهباً فقال : " هذان حرامان على ذكور أمتي ، حِلٌّ لإناثهم " .
فهذه الأحاديث صريحة وظاهرة في تحريم خاتم الذهب على الذكور لمجرد اللبس ، فإن اقترن بذلك اعتقاد فاسد كان أشد وأقبح مثل الذين يلبسون ما يُسمى بـ (الدبلة ) ويكتبون عليه اسم الزوجة ، وتلبس الزوجة مثله مكتوباً عليه اسم الزوج ، يزعمون أنه سبب للارتباط بين الزوجين ، وهذه بلا شك عقيدة فاسدة وخيال لا حقيقة له ، فأي ارتباط وأي صلة بين هذه الدبلة وبين بقاء الزوجية وحصول المودة بين الزوجين ؟ وكم من شخص تبادل الدبلة بينه وبين زوجته ، فانفصمت عرى الصلات بينهما وكم من شخص لا يعرف الدبلة وكان بينه وبين زوجته أقوى الصلات والروابط .
فعلى المرء أن يُحكِّم عقله وألا يكون منجرفاً تحت وطأة التقليد الأعمى الضار في دينه وعقله وتصرفه ، فإن أظن أن أصل هذه الدبلة مأخوذ من الكفار فيكون فيه قبح ثالث ، وهو قبح التشبه بالكافرين ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :" من تشبه بقوم فهو منهم " اسأل الله أن يعصمنا وإياكم من الفتن ، ما ظهر
منها وما بطن ، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة ، إنه جواد كريم .
14) وسُئل : عن حكم لبس الساعة المطلية بالذهب الأبيض ؟(146/10)
فأجاب جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً بقوله :الساعة المطلية بالذهب للنساء لا بأس بها ، وأما للرجال فحرام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الذهب على ذكور أمته .
وأما قول السائل الذهب الأبيض فلا نعلم أن هناك ذهباً أبيض ، الذهب كله أحمر ، لكن إن كان قصده بالذهب الأبيض الفضة فإن الفضة ليست من الذهب ويجوز منها ما لا يجوز من الذهب كالخاتم ونحوه .
15) سُئل الشيخ : عن حكم تركيب الأسنان الذهبية ؟
فأجاب بقوله : الأسنان الذهبية لا يجوز تركيبها للرجال إلا لضرورة لأن الرجل يحرم عليه لبس الذهب والتحلي به ، وأما للمرأة فإذا جرت عادة النساء أن تتحلى بأسنان الذهب فلا حرج عليها في ذلك فلها أن تكسوا أسنانها ذهباً إذا كان هذا مما جرت العادة بالتجمل به ، ولم يكن إسرافاً ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " أحل الذهب والحرير لإناث أمتي " .
وإذا ماتت المرأة في هذه الحال أو مات الرجل وعليه سن ذهب قد لبسه للضرورة فإنه يخلع إلا إذا خُشي المثلة ، يعني خشي أن تتمزق اللثة فإنه يبقى ، وذلك أن الذهب يعتبر من المال ، والمال يرثه الورثة من بعد الميت فإبقاؤه على الميت ودفنه إضاعة للمال .
16) وسُئل رعاه الله بمنه وكرمه عن حكم طلاء الأسنان بالذهب لإزالة التسوس ؟ وعن حكم ملء الفراغ بأسنان الذهب ؟
فأجاب بقوله :إذا لم يمكن إزالة الوس إلا بكسائها بالذهب فلا بأس بذلك وإن كان يمكن بدون الذهب فلا يجوز .
وأما ملء الفراغ بأسنان الذهب فلا يجوز إلا بشرطين :
الأول : أن لا يمكن ملؤها بشيء غير الذهب .
الثاني : أن يكون في الفراغ تشويه للفم .
17) وسُئل الشيخ : هل التختم للرجال سنة ؟(146/11)
فأجاب فضيلته بقوله : التختم ليس بسنة مطلوبة بحيث يطلب من كل أن إنسان أن يتختم ، لوكان إذا احتاج إليه ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قيل له إن الملوك الذين يريد أن يكتب إليهم لا يقبلون كتاباً إلى مختوماً اتخذ الخاتم من أجل أن تختم به الكتب التي يرسلها إليهم ، فمن كان محتاجاً إلى ذلك كالأمير والقاضي ونحوهما كان اتخاذه اتباعاً لرسوله الله صلى الله عليه وسلم ، ومن لم يكن محتاجاً إلى ذلك لم يكن لبسه في حقه سنة بل هو من الشيء المباح ، فإن لم يكن في لبسه محذور فلا بأس به ، وإن كان في لبسه محذور كان له حكم ذلك المحذور ، وليعلم أنه لا يحل للذكور التختم بالذهب لأنه ثبت النهي عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
18) وسُئل فضيلة الشيخ : هل يطهر جلد الميتة بالدباغ ؟
فأجاب قائلاً : هذا فيه خلاف بين أهل العلم .
فقال بعض العلماء : إن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ ، وعللوا ذلك بأن الميتة نجسة العين ، ونجس العين لا يمكن تطهيره كروث الحمار ،
ولحديث عبد الله بن عكيم قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلينا قبل أن يموت بشهر أو شهرين " أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " . وقالوا : هذا الحديث ناسخ لحديث ميمونة - رضي الله عنها - الذي جاء فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ بشاة يجرونها ، فقال : " هلا أخذتم إهابها ؟ " قالوا : إنها ميتة ، قال : " يطهرها الماء والقرض " . رواه مسلم .
وذهب بعض أهل العلم إلى أن جلد الميتة يطهر بالدباغ ، واستدلوا بحديث ميمونة المتقدم ، وهو حديث صحيح صريح في أن الجلد يطهر بالدبغ ، وأجابوا عن دعوى النسخ بأجوبة منها :
أولاً : أن حديث عبد الله بن عكيم ضعيف ، فلا يمكن أن يقابل الحديث الصحيح الذي رواه مسلم .(146/12)
ثانياً : أن من شروط القول بالنسخ ، العلم بالتاريخ ، ونحن لا ندري هل قضية الشاة في حديث ميمونة - رضي الله عنها - قبل أن يموت بشهر أو بأقل ، أو أكثر ، فلا يتحقق النسخ .
ثالثاً : أنه لو ثبت أن حديث عبد الله متأخر ، فهو لا يعارض حديث ميمونة ، لأن قوله : " لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب " . يحمل على الإهاب قبل الدبغ ، وبهذا يجمع بينه وبين حديث ميمونة ويتبين أن ادعاء النسخ لا يصح ، فيبقى حديث ميمونة محكماً لا نسخ فيه .
فإن قال قائل : كيف يقال إن كبد الميتة لو دبغت ما طهرت ، والجلد لو دبغ لطهر ، ولكنها أجزاء ميتة ، ونحن نعرف أن الشريعة الحكيمة لا يمكن أن تفرق بين متماثلين ؟
قلنا : الجواب على هذا من وجهين :
الأول : أنه متى ثبت الفرق في الكتاب والسنة بين شيئين مشابهين ، فاعلم أن هناك فرقاً في المعنى ، ولكنك لم تتوصل إليه ، لأن إحاطتك بحكمة الله عزّ وجلّ غير ممكنة ، فموقفك التسليم .
الثاني : أن نقول : هناك فرق بين اللحم والجلد ، فإن حلول الحياة فيما كان داخل الجلد ، أشد من حلولها في الجلد نفسه ، لأن الجلد فيه نوع صلابة بخلاف اللحم ، وما كان داخله فإنه ليس مثله ، فلا يكون فيه الخبث الذي من أجله صارت الميتة نجسة حراماً .
ولهذا نقول : إنه يعطي حكماً بين حكمين :
الحكم الأول : أن ما كان داخل الجلد لا يطهر بالدباغ .
الحكم الثاني : أن ما كان خارج الجلد من الشعر والوبر فهو طاهر، والجلد بينهما ، ولهذا أعطى حكماً بينهما ، وبهذا نعرف سمو الشريعة ، وأنها لا يمكن أن تفرق بين متماثلين ، ولا أن تجمع بين مختلفين .
وعليه فكل حيوان مات وهو مما يؤكل ، فإن جلده يطهر بالدباغ .
19) وسُئل الشيخ - حفظه الله تعالى : - عن حكم الانتفاع بجلد الميتة ؟(146/13)
فأجاب فضيلته بقوله : إذا كانت الميتة من حيوان يُباح بالذكاة ، كبهيمة الأنعام ، فإنه يجوز الانتفاع بجلدها ، لكن بعد الدبغ ، لأنه بالدبغ الذي يزول به النَّتن والرائحة الكريهة يكون طاهراً يُباح استعماله في كل شيء حتى في غير اليابسات على القول الراجح ، لأنه يطهر بذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : " يطهرها الماء والقرض " رواه مسلم .
وأما إذا كان الجلد من حيوان لا يحل بالذَّكاة ، فهذا موضع خلاف بين أهل العلم والله أعلم بالصواب .
20) وسُئل الشيخ : هل جلد الميتة نجس ؟
فأجاب قائلاً :هذا فيه تفصيل :إن كانت الميتة طاهرة ، فإن جلدها طاهر ، وإن كانت نجسة ، فجلدها نجس ، ومن أمثلة الميتة الطاهرة : السمك ، لقوله تعالى : ? أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ ? (1) . قال ابن عباس - رضي الله عنهما -صيده : ما أُخذ حيّاً . وطعامه ما أُخذَ ميتاً .
أما الذي ينجس بالموت ، فإن جلده ينجس به - يعني ينجس بالموت - لأنه داخل في عموم الميتة فيكون داخلاً في قوله تعالى : ? إلا أن يكونَ ميتة ً أو دماً مسفوحاً أو لحمَ خنزيرٍ فإنه رجس ? (2) . يعني نجساً .
فإن قال قائل : إن الميتة حرام ، ولا يلزم من التحريم النجاسة ، فهذا السم حرام وليس بنجس .
قلنا هذه قاعدة صحيحة، إلا إننا نجيب عن ذلك بأن الله علَّل لما قال: ? قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ ? (3) . فهذا واضح أنه نجس ، إذن الميتة نجسة وجلدها نجس .
---
(1) سورة النساء ، الآية 23 .
(1) .سورة المائدة ، الآية : 5 .
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 36 .
(1) سورة الزخرف ، الآية : 17.
(2) سورة الزخرف ، الآية : 18 .
(1) سورة المائدة ، الآية : 96 .
(2) سورة الأنعام ، الآية : 145 .
(3) سورة الأنعام ، الآية : 145.(146/14)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب الاستنجاء
محمد بن صالح العثيمين
باب الاستنجاء
21) سُئل الشيخ : عن قول بعض العلماء إن مناسبة قول الإنسان " غفرانك " إذا خرج من الخلاء أنه لما انحبس عن ذكر الله ذلك الوقت ناسب أن يستغفر الله هل هذا صحيح ؟
فأجاب حفظه الله تعالى بقوله : هذا فيه نظر ، لأن الإنسان إنما انحبس عن ذكر الله بأمر الله ، وإذا كان بأمر الله فلم يعرض نفسه للعقوبة ، بل عرض نفسه للمثوبة ، ولهذا كانت المرأة الحائض لا تصلي ولا تصوم ، فهل يُسنُّ لها إذا طهرت أن تستغفر لله ، لأنها تركت الصلاة والصيام في أيام الحيض ؟ ! أبداً لم يقله أحد البتة . وبهذا يتبين أن المناسبة ، أن الإنسان لما تخفف من أذية الجسم تذكر أذية الإثم فدعا الله أن يخفف أذية الإثم كما منَّ عليه بتخفيف أذية الجسم ، وهذا معنى مناسب من باب تذكر الشيء بالشيء .
22 وسُئل الشيخ - حفظه الله تعالى : - عمن يقضي حاجته في أماكن الوضوء مما يؤدي إلى كشف عورته ؟
فأجاب قائلاً : لا يجوز للإنسان أن يكشف عورته في الحمامات المعدة للوضوء ، والتي يشاهدها الناس ، فإنه يكون بذلك آثماً ، وقد ذكر الفقهاء رحمهم الله - أنه في هذه الحال يجب على المرء أن يستجمر بدل الاستنجاء . بمعنى أن يقضي حاجته بعيداً عن الناس ، وأن يستجمر بالأحجار ، أو بالمناديل ، ونحوها مما يباح الاستجمار به ، حتى ينقى محل الخارج بثلاث مسحات فأكثر .
قالوا : إنما يجب ذلك لأنه لو كشف عورته للاستنجاء ، لظهرت للناس ، وهذا أمر محرم . ما لايمكن تلافي المحرم إلا به ، فإنه يكون واجباً .
وعلى هذا فنقول في الجواب : لا يجوز للمرء أن يتكشف أمام الناظرين للاستنجاء ، بل يحاول أن يكون في مكان لا يراه أحد .
23) سُئل الشيخ - حفظه الله تعالى : - عمن يتوضأ في مكان قضاء الحاجة ويحتمل تنجس ثيابة هل يجب عليه غسل ثيابة ؟
فأجاب بقوله : قبل أن أُجيب على هذا السؤال ، أقول :(147/1)
إن هذه الشريعة - ولله الحمد - كاملة من جميع الوجوه وملائمة لفطرة الإنسان التي فطر الله الخلق عليها ، حيث إنها جاءت باليسر والسهولة بل جاءت بإبعاد الإنسان عن المتاهات في الوساوس والتخييلات التي لا أصل لها ، وبناء على هذا فإن الإنسان بملابسه ، الأصل أن يكون طاهراً فلا يتيقن ورود النجاسة على بدنه أو ثيابة ، وهذا الأصل يشهد له قول النبي صلى الله عليه وسلم حين شكى إليه رجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في صلاته - يعني الحدث - فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " . فالأصل بقاء ما كان على ماكان .
فثيابهم التي دخلوا بها الحمامات التي يقضون بها الحاجة كما ذكره السائل إذا تلوثت بماء فمن الذي يقول إن هذه الرطوبة هي رطوبة النجاسة من بول أو ماء متغير بغائط أو نحو ذلك ؟ وإذا كنا لا نجزم بهذا الأمر فإن الأصل الطهارة ، صحيح أنه قد يغلب على الظن أنها تلوثت بشيء نجس ، ولكن ما دمنا لم نتيقن فإن الأصل بقاء الطهارة .
فنقول في الجواب على هذا السؤال : إنهم إذا لم يتيقنوا أن ثيابهم أصيبت بشيء نجس فإن الأصل بقاء الطهارة ولا يجب عليهم غسل ثيابهم ولهم أن يصلوا بها ولا حرج والله اعلم .
24 وسُئل فضيلة الشيخ : ما حكم البول قائماً ؟
فأجاب جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً بقوله : البول قائماً بجوز بشرطين :
أحدهما : أن يأمن من التلوث بالبول .
والثاني : أن يأمن من أن ينظر أحد إلى عورته .
25) وسُئل : عن حكم الدخول بالمصحف إلى الحمام ؟
فأجاب قائلاً : المصحف ، أهل العلم يقولون : لا يجوز للإنسان أن يدخل به إلى الحمام ، لأن المصحف كما هو معلوم له من الكرامة والتعظيم ما لايليق أن يدخل به إلى هذا المكان والله الموفق .
26) وسُئل الشيخ : ما حكم الدخول إلى الحمام بأوراق فيها اسم الله ؟(147/2)
فأجاب بقوله : يجوز دخول الحمام بأوراق فيها اسم الله ما دامت في الجيب ليست ظاهرة ، بل هي خفية ومستورة . ولا تخلو الأسماء غالباً من ذكر اسم الله - عزّ وجلّ - كعبد الله وعبد العزيز وما أشبهها .
27) وسُئل فضيلة الشيخ : هل يجوز ذكر الله تعالى فى الحمام ؟
فأجاب بقوله : لا ينبغي للإنسان أن يذكر ربَّه - عزّ وجلّ - في داخل الحمام ، لأن المكان غير لائق لذلك ، وإن ذَكَره بقلبه فلا حرج
عليه بدون أن يلفظ بلسانه ، وإلا فالأولى أن لا ينطق به بلسانه في هذا الموضع وينتظر حتى يخرج منه .
أما إذا كان مكان الوضوء خارج محل قضاء الحاجة فلا حرج أن يذكر الله فيه .
28 28 وسئل الشيخ : إذا كان الإنسان في الحمام فكيف يسمي ؟
فأجاب بقوله : إذا كان الإنسان في الحمام فيسمي بقلبه لا بلسانه لأن وجوب التسمية في الوضوء والغسل ليس بالقول؛ حيث قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ (لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في التسمية في الوضوء شيء). ولذلك ذهب الموفق صاحب المغني وغيره إلى أن التسمية في الوضوء سنة لا واجبة.
29 سُئل فضيلة الشيخ: عن حكم دخول الحمام مكشوف الرأس؟
فأجاب بقوله : دخول الحمام مكشوف الرأس لا بأس به، لكن استحب الفقهاء تغطية الرأس عند دخول الخلاء.
30 وسُئل : عن حكم الأكل أو الشرب في الحمام ؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلاً : الحمام موضع لقضاء الحاجة فقط ، ولا ينبغي أن يبقى فيه إلا بقدر الحاجة ، والتشاغل بالأكل وغيره فيه يستلزم طول المكث فيه فلا ينبغي ذلك.
31 وسُئل فضيلة الشيخ : ما حكم استقبال القبلة ، أو استدبارها حال قضاء الحاجة ؟
فأجاب بقوله : اختلف أهل العلم في هذه المسألة على أقوال :(147/3)
فذهب بعض أهل العلم إلى أنه يحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير البنيان ، واستدلوا لذلك بحديث أبي أيوب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تستقبلوا القبلة بغائط ولا بول ولا تستدبروها ، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا " . قال أبو أيوب : فقدمنا الشام فوجدنا مراحيض قد بنيب قبل الكعبة ، فننحرف عنها ونستغفر الله ، وحملوا ذلك على غير البنيان ، أم في البنيان : فيجوز الاستقبال والاستدبار ، لحديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : " رقيتُ يوماً علىبيت حفصة ، فرأيت النبي صلىالله عليه وسلم يقضي حاجته مُستقبل الشام مُستدبر الكعبة " .
وقال بعض العلماء : إنه لا يجوز استقبال الكعبة ولا استدبارها بكل حال ، سواء في البنيان أو غيره ، واستدلوا بحديث أبي أيوب المتقدم ، وأجابوا عن حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - بأجوبة منها :
أولاً : أن حديث ابن عمر يُحمل على ما قبل النهي .
ثانياً : أن النهي يرجح ، لأن النهي ناقل عن الأصل ، وهو الجواز ، والناقل عن الاصل ولي .
ثالثاً : أن حديث أبي أيوب قول ، وحديث ابن عمر فعل ، والفعل لا يمكن أن يعارض القول ، لأن الفعل يحتمل الخصوصية ويحتمل النسيان ، ويحتمل عذراً آخر .
والقول الراجح عندي في هذه المسألة :
أنه يحرم الاستقبال والاستدبار في الفضاء ، ويجوز الاستدبار في البنيان دون الاستقبال ، لأن النهي عن الاستقبال محفوظ ليس فيه تخصيص ، والنهي عن الاستدبار مخصوص بالفعل ، وأيضاً الاستدبار أهون من الاستقبال ولهذا - والله أعلم - جاء التخفيف فيه فيما إذا كان الإنسان في البنيان ، والأفضل أن لا يستدبرها إن أمكن .
32) وسُئل الشيخ - جزاءه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً : - هل يجزيء في الاستجمار استعمال المناديل ؟(147/4)
فأجاب بقوله : نعم يجزيء في الاستجمار استعمال المناديل ولا بأس به ، لأن المقصود من الاستجمار هو إزالة النجاسة سواء كان ذلك بالمناديل ، أو بالخرق ، أو بالتراب ، أو بالأحجار ، إلا إنه لا يجوز أن يستجمر الإنسان بما نهى الشارع عنه ، مثل العظام والرَّوث ، لأن العظام طعام الجن إذا كانت من مذكاة ، وإن كانت غير مذكاة فإنها نجسة ، والنجس لا يطهّر ، وأما الأرواث فإن كانت نجسة ، فهي نجسة لا تُطهّر ، وإن كانت طاهرة ، فهي طعام بهائم الجن ، لأن الجن الذين قدموا على النبي صلىالله عليه وسلم وأمنوا به ، أعطاهم ضيافة لا تنقطع إلى يوم القيامة ، قال : " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه ، تجدونه أوفر ما يكون لحماً " . وهذا من أمور الغيب التي لا تُشاهد ، ولكن يجب علينا أن نؤمن بذلك . كذلك هذه الأرواث تكون علفاً لبهائمهم .
ويُوخذ من الحديث فضل الإنسان على الجن ، ولأن الإنس من أدم الذي أُمر أبو الجن أن يسجد له ، كما قال الله تعالى : ? َسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّه? (1) .
33) وسُئل الشيخ : إذا خرج من الإنسان ريح ، فهل يجب عليه الاستنجاء ؟
فأجاب فضيلته بقوله : خروج الريح من الدبر ناقض للوضوء لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " . لكنه لا يوجب الاستنجاء ، أي لا يوجب غسل الفرج لأنه لم يخرج شيء يستلزم الغسل ، وعلى هذا فإذا خرجت الريح انتقض الوضوء ، وكفى الإنسان أن يتوضأ ، أي أن يغسل وجهه مع المضمضة والاستنشاق ، ويديه إلى المرفقين ، ويمسح رأسه ، ويمسح أذنية ، ويغسل قدميه إلى الكعبين .(147/5)
وهنا أنبه على مسألة تخفى على كثير من الناس وهي : أن بعض الناس يبول أو يتغوَّط قبل حضور وقت الصلاة ، ثم يستنجي ، فإذا جاء وقت الصلاة ، وأراد الوضوء ، فإن بعض الناس يظن أنه لا بد من إعادة الاستنجاء وغسل الفرج مرة ثانية ، وهذا ليس بصواب ، فإن الإنسان إذا غسل فرجه بعد خروج ما يخرج منه ، فقط طهر المحل ، وإذا طهر فلا جاحة إلى إعادة غسلة ، لأن المقصود من الاستنجاء أو الاستجمار الشرعي بشروطه المعروفة ، المقصود به تطهير المحل ، فإذا طهر فلن يعود إلى النجاسة إلا إذا تجدد الخارج مرة ثانية .
34 وسُئل الشيخ - حفظه الله : - عمن غسل عورته وانتصف الوضوء ثم أحدث ، فهل يعيد غسل عورته ؟
فأجاب فائلاً : إن الإنسان إذا غسل عورته وأنقى المحل ، لا يجب عليه إعادة غسل العورة مرة ثانية إلا إذا خرج منه شيء ، وعلى هذا إذا كان السائل أحدث في أثناء وضوئه ، فإنه لا يعيد غسل فرجه إذا لم يخرج منه شيء ، أي خارج محسوس إلا الريح، فالريح لا يجب غسل الفرج منها إذا لم يخرج معها بلل. فعليه إذا أحدث بريح في أثناء وضوئه فإنه لا يعيد غسل فرجه ، وإنما يعيد الوضوء من جديد ، بمعنى أنه يعود فيغسل كفيه ويتمضمض ويستنشق ويغسل وجهه إلخ الوضوء ، وبعض الناس يظن أن غسل الفرج من البول والغائط يكون مقارناً للوضوء ، بحيث يُعاد عند الوضوء وإن لم يخرج شيء وليس كذلك لأن الله قال: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ? (1) . الآية . ولم يذكر غسل الفرج ، فظهر بذلك أن غسل الفرج ليس من الوضوء ، وإنما هو تطهير لما أصابه من البول والغائط، فمتى حصل، حصلت به الكفاية، ولا يعاد الغسل، أعني غسل الفرج إلا بعد خروج ما يجب التطهر منه .
---(147/6)
(1) سورة الكهف ، الآية 50.
(1) سورة المائدة ، الآية 6 .(147/7)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب السواك وسنن الفطرة
محمد بن صالح العثيمين
باب السواك وسنن الفطرة
35) سُئل فضيلة الشيخ أعلى الله درجته : متى يتأكد استعمال السواك ؟ وما حكم السواك لمنتظر السواك حال الخطبة ؟
فأجاب قائلاً : يتأكد السواك عند القيام من النوم ، وأول ما يدخل البيت ، وعند الوضوء في المضمضة ، وإذا قام للصلاة .
ولا بأس به لمنتظر الصلاة ، لكن في حالة الخطبة لا يتسوك ، لأنه يشغله إلا أن يكون معه نعاس فيتسوك لطرد النعاس .
36) وسئل الشيخ : هل يستاك الإنسان باليد اليمنى أو باليد اليسرى ؟
فأجاب بقوله : هذا محل خلاف ، فذهب بعض العلماء إلى أن الإنسان يستاك باليد اليمنى ، لأن السواك سنة والسنة طاعة لله وقربة فلا تتناسب أن تكون باليد اليسرى لأن اليسرى تقدم للأذى .
وقال آخرون : بل باليد اليسرى أفضل ، وذلك لأن السواك لإزالة الأذى ، وإزالة الأذى تكون باليسرى كالاستنجاء والاستجمار فإنه يكون باليسرى لا باليمنى.
وفضَّل آخرون فقالوا : إن تسوَّك لتطهير الفم كما لو استيقظ من نوم أو لإزالة أذى ، فيكون باليد اليسرى لأنه لإزالة الأذى ، وأن تسوَّك لتحصيل السنة ، فيكون باليمنى لأنه مجرد قربة كما لو كان قد توضأ قريباً واستاك ، فإنه يستاك باليمنى ، والأمر ولله الحمد في هذا واسع ، فيستاك كما يريد لأنه ليس في المسالة نص واضح .
37) وسُئل فضيلة الشيخ - رفع الله درجته وأعلى مكانته : - عن حكم استعمال الكحل ؟
فأجاب بقوله : : الاكتحال نوعان :
أحدهما : اكتحال لتقوية البصر وجلاء الغشاوة من العين وتنظيفها وتطهيرها بدون أن يكون له جمال ، فهذا لا بأس به ، بل إنه مما ينبغي فعله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكتحل في عينيه ، ولا سيما إذا كان بالأثمد الأصلي .
النوع الثاني : ما يُقصد به الجمال والزينة ، فهذا للنساء مطلوب ، لأن المرأة مطلوب منها أن تتجمل لزوجها .(148/1)
وأما الرجال فمحل نظر، وأنا أتوقف فيه، وقد يفرق فيه بين الشباب الذي يخشى من اكتحاله فتنة فيُمنع، وبين الكبير الذي لا يخشى ذلك من اكتحاله فلا يُمنع.
38) وسُئل - أعلى الله درجته في المهديين : - هل التسمية في الوضوء واجبة ؟
فأجاب قائلاً : التسمية في الوضوء ليست بواجبة ولكنها سنة ، وذلك لأن في ثبوت حديثها نظراً . فقد قال الإمام أحمد رحمه الله : " إنه لا يثبت في هذا الباب شيء " والإمام أحمد - كما هو معلوم لدى الجميع - من أئمة هذا الشأن ومن حفّاظ هذا الشأن ، فإذا قال إنه لم يثبت في هذا الباب شيء ، فإن حديثها يبقى في النفس منه شيء ، وإذا كان في ثبوته نظر ، فإن الإنسان لا يسوغ لنفسه أن يلزم عباد الله بما لم يثبت عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، ولذلك أرى أن التسمية في الوضوء سنة ، لكن من ثبت عنده الحديث وجب عليه القول بموجبه ، وهو أن التسمية واجبة ، لأن قوله " لا وضوء " الصحيح أنه نفيٌ للصحة وليس نفياً للكمال.
39) وسُئل الشيخ : عن حكم الختان في حق الرجال والنساء ؟
فأجاب بقوله :حكم الختان محل خلاف ، وأقرب الأقوال أن الختان واجب في حق الرجال ، سنة في حق النساء ، ووجه التفريق بينهما أن الختان في حق الرجال فيه مصلحة تعود إلى شرط من شروط الصلاة وهي الطهارة ، لأنه إذا بقيت القلفة ، فإن البول إذا خرج ثقب الحشفة بقي وتجمع في القلفة وصار سبباً إما لاحتراق أو التهاب ، أو لكونه كلما تحرك خرج منه شيء فينتجس بذلك .
وأما المرأة فإن غاية ما فيه من الفائدة أنه يقلل من غُلمتها - أي شهوتها - وهذا طلبُ كمال ، وليس من باب إزالة الأذى .
واشترط العلماء لوجوب الختان ، ألا يخاف على نفسه فإن خاف على نفسه من الهلاك أو المرض ، فإنه لا يجب ، لأن الواجبات لا تجب مع العجز ، أو مع خوف التلف ، أو الضرر .
ودليل وجوب الختان في حق الرجال :(148/2)
أولاً : أنه وردت أحاديث متعددة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أسلم أن يختتن ، والأصل في الأمر الوجوب .
ثانياً : أن الختان ميزة بين المسلمين والنصارى ، حتى كان المسلمون يعرفون قتلاهم في المعارك بالختان ، فقالوا : الختان ميزة ، وإذا كان ميزة فهو واجب لوجوب التمييز بين الكافر والمسلم ، ولهذا حرم التشبه بالكفار لقول النبي صلى الله عليه وسلم : " من تشبه بقوم فهو منهم " .
ثالثاً : أن الختان قطع شيء من البدن وقطع شيء من البدن حرام ، والحرام لا يُستباح إلا لشيء واجب ، فعلى هذا يكون الختان واجباً .
رابعاً : أن الختان يقوم به ولي اليتيم وهو اعتداء عليه واعتداء على ماله ، لأنه سيعطي الخاتن أجره ، فلولا أنه واجب لم يجز الاعتداء على ماله وبدنه . وهذه الأدلة الأثرية والنظرية تدلّ على وجوب الختان في حق الرجال ، أما المرأة ففي وجوبه عليها نظر ، فأظهر الأقوال أنه واجب على الرجال دون النساء ، وهناك حديث ضعيف هو : " الختان سنة في حق الرجال مكرمة في حق النساء " . فلو صح هذا الحديث لكان فاصلاً .
40) سُئل الشيخ حفظه الله تعالى - عن حكم القزع ؟
فأجاب قائلاً : القزع هو حلق بعض الرأس وترك بعضه ، وهو أنواع :
النوع الأول : أن يحلق بعضه غير مرتب ، فيحلق مثلاً من الجانب الأيمن ومن الناصية ومن الجانب الأيسر .
النوع الثاني : أن يحلق وسطه ويدع جانبيه .
النوع الثالث : أن يحلق جوانبه ويدع وسطه ، قال ابن القيم - رحمه الله - كما يفعله السفل .
النوع الرابع : أن يحلق الناصية فقط ويدع الباقي .
والقزع كله مكروه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأي صبيّاً حلق بعض رأسه فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، أن يحلق كله أو يترك كله ، لكن إذا كان قزعاً مشبهاً للكفار فإنه يكون محرماً ، لأن التشبه بالكفار محرم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من تشبه بقوم فهو منهم ".
41) وسُئل الشيخ : عن قوم يطيلون شعورهم ؟(148/3)
فأجاب قائلاً : التقليد في الأمور النافعة التي لم يرد الشرع بالنهي عنها أمر جائز ، وأما التقليد في الأمور الضارة أو التي منع الشرع منها من العادات فهذا أمر لا يجوز ، فهؤلاء الذين يطولون شعورهم نقول لهم هذا خلاف العادة المتبعة في زمننا هذا ، واتخاذ شعر الرأس مختلف فيه هل هو من السنن المطلوب فعلها ؟ أو هو من العادات التي يتمشى فيها الإنسان على ما اعتاده الناس في وقته ؟
والراجح عندي : أن هذا من العادات التي يتمشى فيها الإنسان على ما جرى عليه الناس في وقته ، فإذا كان من عادة الناس اتخاذ الشعر وتطويله - فإنه يفعل ، وإذا كان من عادة الناس حلق الشعر أو تقصيره فإنه يفعل .
ولكن البلية كل البلية أن هؤلاء الذين يعفون شعور رؤوسهم لا يعفون شعور لحاهم ثم هم يزعمون أنهم يقتدون بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وهم في ذلك غير صادقين فهم يتبعون أهواءهم ويدل على عدم صدقهم في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنك تجدهم قد أضاعوا شيئاً من دينهم هو من الواجبات كإعفاء اللحية مثلاً ، فهم لا يعفون لحاهم وقد أمروا بإعفائها وكتهاونهم في الصلاة وغيرها من الواجبات الأخرى ممايدلك على أن صنيعهم في إعفاء شعورهم ليس المقصود به التقرب إلى الله ولا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما هي عادة استحسنوها فأرادوها ففعلوها .
42) وسُئل الشيخ : هل يجوز صبغ الشعر باللون الأسود وخلطه مع حناء ؟
فأجاب بقوله : صبغ الشعر باللون الأسود الخالص حرام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد " .
أما إذا خلط معه لون آخر حتى صار أدهم فإنه لا بأس به .
43 ) وسُئل : عن حكم صبغ المرأة لشعر رأسها بغير الأسود مثل البني والأشعر ؟
فأجاب بقوله : الأصل في هذا الجواز إلا أن يصل إلى درجة تشبه رؤوس الكافرات والعاهرات والفاجرات فإن ذلك حرام .(148/4)
44 ) وسُئل فضيلته : هل يجوز صبغ أجزاء من الشعر كأطرافه مثلاُ أو أعلاه فقط ؟
فأجاب قائلاً : صبغ الشعر إذا كان بالسواد فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، نهى عنه حيث أمر بتغيير الشيب وتجنيبه السواد قال : غيروا هذا الشيب وجنبوه السواد " . وورد في ذلك أيضا ً وعيد على من فعل هذا ، وهو يدل على تحريم تغيير الشعر بالسواد ، أما بغيره من الألوان فالأصل الجواز إلا أن يكون على شكل نساء الكافرات أو الفاجرات فيحرم من هذه الناحية لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من تشبه بقوم فهو منهم " .
45) وسُئل الشيخ : ما حكم تغيير الشيب ؟ وبم يُغيَّر ؟
فاجاب فضيلته قائلاً : تغيير شعر الشيب سنة أمر به النبي صلى الله عليه وسلم ، ويُغيَّره بكل لون ما عدا السواد ، فإن النبي صلىالله عليه وسلم نهى أن يغير بالسواد فقال : " جنبوه السواد " . وورد في الحديث الوعيد على من صبغه بالسواد ، فالواجب على المؤمن أن يتجنب صبغة بالسواد ، لما فيه من النهي عنه والوعيد على فعله ، ولأن الذي يصبغه بالسواد كأنما يعارض سنة الله عزّ وجل ّ في خلقه ، فإن الشعر في حال الشباب يكون أسود ، فإذا أبيضَّ للكبر أو لسبب آخر فإنه يحاول أن يرد هذه السنة إلى ماكنت عليه من قبل ، وهذا فيه شيء من تغيير خلق الله عز وجل ، ومع ذلك فإن الذي يصبغ بالسواد لا بد أن يتبين أنه صابغ به لأن أصول الشعر ستكون بيضاء .
وقد قال الشاعر :
نسودُ أعلاها وتأبي أصولها ولا خير في فرع إذا خانه الأصل
46) وسُئل الشيخ : ورد في بعض الأحاديث النهي عن تغيير الشعر بالسواد ، فهل الحديث في ذلك صحيح ؟ وما الحكمة من النهي ؟ وما حكم إزالة العيوب من الجسم ؟(148/5)
فأجاب قائلاً : الحديث صحيح ، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتغيير الشيب، وأمر بتجنيبه السواد، وتوعد من يخضبون لحاهم بالسواد بأنهم لا يريحون رائحة الجنة، وهذا يدل على أن الصبغ بالسواد من كبائر الذنوب، فعلى المرء أن يتقي الله عز وجل، وأن يتجنب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ليكون ممن أطاع الله ورسوله، وقد قال تعالى:? ومن يُطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً ?(1) . وقال: ? ومن بعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً ? (2) . ولا فرق بين الرجال والنساء في هذا الحكم فهو عام.
ثم إن الحكمة في ذلك هو أن في صبغ الشعر بالسواد مضادة لحكمة الله تعالى التي خلق الخلق عليها ، فإنه إذا حوَّل شعره الأبيض إلى السواد ، فكأنه يريد أن يرجع بشخوخته إلى الشباب فيكون بذلك مضاداً للحكمة التي جعل الخلق عليها بكونهم إذا كبروا أبيضَّ شعرهم بعد السواد ، ومن المعلوم أنَّ مضادة المخلوق للخالق أمر لا ينبغي ، ولا يجوز للمرء أن يضاد الله تعالى في خلقة ، كما لا يجوز له أن يضاد الله في شرعه ، ونقول أيضاً : إنه بدلاً من كونه يصبغ بالأسود يصبغ بصبغ يجعل الشعر بين السواد والحُمرة ، وبهذا يزول المحظور ويحصل المطلوب .
أما إزالة العيوب فهذه لا بأس بها ، مثل أن يكون في الإنسان إصبع زائدة، فيجري لها عملية لقطعها إذا لم يكن هناك ضرر ، وما أشبه ذلك فإنه لا بأس به ، لأن هذا من باب إزالة العيوب الطارئه . والله الموفق .
47) وسُئل الشيخ: نرى كثيراً من المسلمين يصبغون لحاهم بالسواد ويقولون: إن النهي عنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنما هو مدرج من كلام بعض الرواة وإن صح فإنما المراد به ما قصد به التدليس أما ما قصد به الجمال فلا ، فما مدى صحة ذلك ؟(148/6)
فاجاب قائلاً : النهي عن صبغ الشيب بالسواد ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - رواه مسلم وأبو داود ودعوى الإدراج غير مقبولة إلا بدليل ، لأن الأصل عدمه ، وقد روى أبو داود والنسائي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يكون قوم يخضبون في آخر الزمان بالسواد كحواصل الحمام لا يريحون رائحة الجنة " . قال ابن مفلح أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمه : إسناده جيد . وهذا الحديث يقتضي تحريم صبغ الشيب بالسواد ، وأنه من كبائر الذنوب والحكمة في ذلك - والله أعلم - مافيه من مضادة الحكمة في خلق الله تعالى بتجميله على خلاف الطبيعة ، فيكون كالوشم والوشر والنمص والوصل ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة ولعن المتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات لخلق الله تعالى .
وأما دعوى أن النهي عن الصبغ بالسواد من أجل التدليس ، فغير مقبولة أيضاً ، لأن النهي عام ، والظاهر أن الحكمة ما أشرنا إليه .
وإذا كان هذا حكم الصبغ الأسود من أجل التدليس ، فغير مقبولة أيضاً ، لأن النهي عام ، والظاهر أن الحكمة ما أشرنا إليه .
وإذا كان هذا حكم الصبغ الأسود ، فإن في الحلال غني عنه ، وذلك بأن يصبغ بالحناء والكتم أو بصبغ يكون بين الأسود والأحمر فيحصل المقصود بتغيير الشيب إلى صبغ حلال ، وما أغلق باب يضر الناس إلا فتح لهم من الخير أبواب ولله الحمد .
وما روي عن بعض الصحابة من أنهم كانوا يخضّبون بالسواد ، فإنه لا يدفع به ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الحجة فيما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن خالفه من الصحابة ، فمن بعدهم فإنه يلتمس له العذر حيث يستحق ذلك ، والله تعالى إنما يسأل الناس يوم القيامة عن إجابتهم الرسل ، قال الله تعالى : ? ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين ? (1) .(148/7)
48) سُئل الشيخ : ماحكم نتف الشيب من الرأس واللحية ؟
فأجاب بقوله: أما من اللحية أو شعر الوجه فإنه حرام لأن هذا من النمص، فإن النمص نتف شعر الوجه واللحية منه ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن النامصة والمتنمصة . ونقول لهذا الرجل إذا كنت ستتسلط على كل شعرة أبيضت فتنتفها فلن تبقى لك لحية، فدع ما خلقه الله على ما خلقه الله ولا تنتف شيئاً.
أما إذا كان النتف من شعر الرأس فلا يصل إلى درجة التحريم لأنه ليس من النمص .
49) سُئل الشيخ : عن المراد باللحية ؟
فأجاب بقوله : حد اللحية من العظمين الناتئين بحذاء صماخي الأذنين إلى آخر الوجه ، ومنها الشعر النابت على الخدين .
قال في القاموس المحيط ص 387 جـ 4 : " اللحية بالكسر : شعر الخدين والذقن " . وعلى هذا فمن قال : إن الشعر الذي على الخدين ليس من اللحية فعليه أن يثبت ذلك .
50) وسئل فضيلته : هل العارضان من اللحية ؟
فأجاب بقوله : نعم العارضان من اللحية لأن هذا هو مقتضى اللغة التي جاء بها الشرع ، قال الله تعالى : ? إنا أنزلناه قرآناً عربيّاً لعلكم تعقلون ? (1) . وقال تعالى : ? هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ? (2) . وبهذا عُلم أن ما جاء في القرآن والسنة فالمراد به ما يدل عليه بمقتضى اللغة العربية، إلا أن يكون له مدلول شرعي فيحمل عليه ، مثل : الصلاة هي في اللغة العربية الدعاء ، لكنها في الشرع تلك العبادة المعلومة ، فإذا ذكرت في الكتاب والسنة حُملتْ على مدلولها الشرعي إلا أن يمنع من ذلك مانع . وعلى هذا فإن اللحية لم يجعل لها الشرع مدلولاً شرعيّاً خاصّاً فتحمل على مدلولها اللغوي ، وهي في اللغة اسم للشعر النابت على اللحيين والخدين من العظم الناتىء حذاء صماخ الأذن إلى العظم المحاذي له من الجانب الآخر .(148/8)
قال في القاموس : " االِّلحية بالكسر : شعر الخدين والذقن " . وهكذا قال في فتح الباريء ص 35 جـ 10 طـ السلفية : " هي اسم لما نبت على الخدين والذقن " .
وبهذا تبين أن العارضين من اللحية ، فعلى المؤمن أن يصبر ويصابر على طاعة الله ورسولة ، وإن كان غريباً في بني جنسه فطوبى للغرباء .
وليعلم أن الحق إنما يوزن بكتاب الله تعالى وسنه رسولة صلى الله عليه وسلم ، لا يوزن بما كان عليه الناس مما خالف الكتاب والسنة ، فنسأل الله تعالى أن يثبتنا وإخواننا المسلمين على الحق.
51) سُئل الشيخ - رعاه الله بمنه وكرمه : - عن حكم حلق اللحي ؟
فأجاب بقوله : حلق اللحية محرم ، لأنه معصية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعفوا اللحى وحُفوا الشوارب " . ولأنه خروج عن هدي المرسلين إلى هدي المجوس والمشركين .
وحدّ اللحية - كما ذكره أهل اللغة - هي شعر الوجه واللحيين والخدين ، بمعنى أن كل ما على الخدين وعلى اللحيين والذقن فهو من اللحية ، وأخذ شيء منها داخل في المعصية أيضاً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " أعفوا اللحى .. " وأرخوا اللحى .." " ووفروا اللحى ..." . وأوفوا اللحى .. " وهذا يدل على أنه لا يجوز أخذ شيء منها ، لكن المعاصي تتفاوت فالحلق أعظم من أخذ شيء منها، لأنه أعظم وأبين مخالفة من أخذ شيء منها ، وهذا هو الحق ، والحق أحق أن يُتَّبع، وتساءل مع نفسك ما المانع من قبول الحق والعمل به إرضاءً لله وطلباً لثوابه ؟ فلا تقدم رضا نفسك وهواك والرفاق على رضا الله ، قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) (1) .
52) وسُئل فضيلة الشيخ: عن حكم تقصير اللحية ؟(148/9)
فأجاب حفظه الله تعالى بقوله : القص من اللحية خلاف ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وفروا اللحى)، (أعفوا اللحى) ، (أرخوا اللحى) فمن أراد اتباع أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، واتباع هديه صلى الله عليه وسلم ، فلا يأخذن منها شيئاً ، فإن هدي الرسول ، عليه الصلاة والسلام، أن لا يأخذ من لحيته شيئاً، وكذلك كان هدي الأنبياء قبله، ولقد قرأنا جميعاً قول الله تعالى عن هارون لموسى : (يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي) (2) . وهذا دليل على أن لهارون لحية يمكن الإمساك بها ، وهو كذلك هدي خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم ، فإن لحيته كانت عظيمة وكانت كثَّة ، فمن أراد أن يتبعه تمام الاتباع ويمتثل أمره تمام الامتثال ، فلا يأخذن من شعر لحيته شيئاً ، لا من طولها ولا من عرضها .
وبعض الناس عند ابتداء نبات لحيته تكون شعراتها متفرقة فيقول : أنا أحلقها لتنبت جميعاً ، وهذا ليس بصواب ، لأنه قد يحلقها فيعصي بذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يموت قبل أن تنبت ، ولكن عليه أن يبقيها كما كانت ، وهي إذا تم نموها وخروجها كانت مجتمعة في شكل حسن . والله الموفق .
53) سُئل الشيخ : هل يجوز تقصير اللحية خصوصاً ما زاد على القبضة فقد سمعنا أنه يجوز؟
فأجاب فضيلته بقوله : جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خالفوا المشركين ووفروا اللحى وأحفوا الشوارب " . هذا لفظ البخاري ، ولفظ مسلم : " خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى " وفي لفظ : " أعفوا " وله من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " جزوا الشوارب وأرخو ا اللحى خالفوا المجوس " . وله من حديث عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " عشرٌ من الفطرة : قص الشارب وإعفاء اللحية " وذكر بقية الحديث .(148/10)
وهذه الأحاديث تدل على وجوب ترك اللحية على ما هي عليه وافية موفرة عافية مستوفية ، وأن في ذلك فائدتين عظيمتين .:
إحداهما : مخالفة المشركين حيث كانوا يقصونها أو يحلقونها ، ومخالفة المشركين فيما هو من خصائصهم أمر واجب ، ليظهر التباين بين المؤمنين والكافرين في الظاهر كما هو حاصل في الباطن ، فإن الموافقة في الظاهر ربما تجر إلى محبتهم وتعظيمهم والشعور بأنه لا فرق بينهم وبين المؤمنين ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من تشبه بقوم فهو منهم " قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " أقل أحوال هذا الحديث التحريم وإن كان ظاهره يقتضي كفر المتشبه بهم " .
ثم إن في موافقة الكفار تعزيزاً لما هم عليه ، ووسيلة لافتخارهم وعلوهم على المسلمين حيث يرون المسلمين أتباعاً لهم ، مقلدين لهم ، ولهذا كان من المتقرر عند أهل الخبرة في التاريخ أن الأضعف دائماً يقلد الأقوى .
الفائدة الثانية : أن في إعفاء اللحية موافقة للفطرة التي فطر الله الخلق على حسنها وقبح مخالفتها ، إلا من اجتالته الشياطين عن فطرته . وبهذا علم أنه ليست العلة من إعفاء اللحية مخالفة المشركين فقط بل هناك علة أخرى وهي موافقة الفطرة .
ومن فوائد إعفاء اللحية : موافقة عباد الله الصالحين من المرسلين وأتباعهم كما ذكر الله تعالى عن هارون أنه قال لموسى صلى الله عليهما وسلم : ? يا ابن أمّ لا تأخذ بلحيتي وولا برأسي ? (1) . وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه في وصف النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : وكان كثير شعر اللحية .(148/11)
أما ما سمعتم من بعض الناس أنه يجوز تقصير اللحية خصوصاً ما زاد على القبضة ، فقد ذهب إليه بعض أهل العلم فيما زاد على القبضة ، وقالوا : إنه يجوز أخذ ما زاد على القبضة استناداً إلى ما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، أنه كان إذا حج أو اعتمر قبض على لحيته فما زاد أخذه . ولكن الأولى الأخذ بما دل عليه العموم في الأحاديث السابقة فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن حالاً من حال .
54) وسُئل فضيلته : هل الأفضل حلق الشارب أو قصة ؟
فأجاب قائلاً : الأفضل قص الشارب كما جاءت به السنة ، إما حفّاً بأن يُقص أطرافه مما يلي الشفة حتى تبدو ، وإما إخفاءً بحيث يقص جميعه حتى يفيه.
وأما حلقه فليس من السنة ، وقياس بعضهم مشروعية حلقه على حلق الرأس في النسك قياس في مقابلة النص، فلا عبرة به ، ولهذا قال مالك عن الحلق : (إنه بدعه ظهرت في الناس فلا ينبغي العدول عما جاءت به السنة ، فإن اتباعها الهدي والصلاح والسعادة والفلاح ).
55) وسُئل الشيخ : عن حكم نتف الشارب وما ينبت على الوجنة والخد من الشعر ؟
فأجاب بقوله : أما الشارب فإن الأفضل أن لا ينتفه الإنسان نتفاً بل الأفضل أن يقصه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .
وأما نتف ما على الوجنة أو على الخد من الشعر فإنه لا يجوز لأن هذا من اللحية كما نص على هذا أهل العلم باللغة ، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحى ونتف هذا أو قصه مخالف لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .
56) وسُئل الشيخ : عما يقوله بعض الناس من أن علة إعفاء اللحى مخالفة المجوس والنصارى كما في الحديث وهي علة ليست بقائمة الآن لأنهم يعفون لحاهم ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : جوابنا على هذا من وجوه :(148/12)
الوجه الأول : أن إعفاء اللحية ليس من أجل المخالفة فحسب ، بل هو من الفطرة كما ثبت ذلك في صحيح مسلم ، فإن إعفاء اللحي من الفطرة التي فطر الله الناس عليها وعلى استحسانها ، واستقباح ما سواها .
الوجه الثاني : أن اليهود والنصارى والمجوس الآن ليسوا يعفون لحاهم كلهم ولا ربعهم بل أكثرهم يحلقون لحاهم كما هو مشاهد وواقع .
الوجه الثالث : أن الحكم إذا ثبت شرعاً من أجل معنى زال وكان هذا الحكم موافقاً للفطرة او لشعيرة من شعائر الإسلام فإنه يبقى ولو زال السبب ، ألا ترى إلى الرَّمل في الطواف كان سببه أن يُظهر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الجلد والقوة أمام المشركين الذين قالوا إنه يقدم عليكم قوم وهنتهم حمى يثرب ومع ذلك فقد زالت هذه العلة وبقى الحكم حيث رمل النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع .
فالحاصل : أن الواجب أن المؤمن إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يقول سمعنا وأطعنا كما قال الله تعالى : ? إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون ، ومن يطع الله ورسوله ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون ?(1) . ولا يكونوا كالذين قالوا سمعنا وعصينا أو يلتمسوا العلل الواهية والأعذار التي لا اصل لها فإن هذا شأن من لم يكن مستسلماً العلل الواهية والأعذار التي لا أصل لها فإن هذا شأن من لم يكن مستسلما ًغاية الاستسلام لأمر الله ورسوله يقول الله عز وجلّ : ? وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً ? (2) . ويقول تعالى : ? فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً ?(3) . ولا أدري عن الذي يقول مثل هذا الكلام هل يستطيع أن يواجه به ربه يوم القيامة ، فعلينا أن نسمع ونطيع وأن نمتثل أمر الله ورسوله على كل حال .(148/13)
57) وسُئل - أعلى الله حجته : - عن حكم إزالة شعر الإبط وقص الأظافر ، وقص الشارب ، وحلق العانة ؟
فأجاب بقوله : إزالة شعر الإبط من الفطرة التي فطر الله الخلق عليها ، وجاءت بها الشرائع المنزلة من عند الله عز وجل، وكذلك قص الأظافر والشارب ، وحلق العانة، فهذه الأشياء كلها من الفطرة التي يرتضيها كلُّ عاقل لم تتغير فطرته، وأقرَّتها الشرائع المنزلة من عند الله عز وجل .
وقد وقَّت النبي صلى الله عليه وسلم في الشارب والعانة والإبط والأظافر ، وقَّت لها أربعين يوماً ، فلا تترك فوق أربعين يوماً ، وعلى هذا فنقول :
إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام ، قد وقت لأمته هذه المدة ، فهي المدة القصوى ، وإن حصل سبب يقتضي أن تزال قبل ذلك ، فإنها تزال ، كما لو طالت الأظافر أو كثرت الشعور في الإبط ، أو الشارب طال قبل الأربعين فإنه يُزال ، لكن الأربعين هي أقصى المدة وغايتها ، ومن العجب أن بعض الجهال يُبقي أظافره مدة طويلة حتى تطول وتتراكم فيها الأوساخ ، وهؤلاء قد تنكَّروا لفطرتهم وخالفوا السنة التي دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ووقتها لأمته ، ولا أدري كيف يرضون لأنفسهم أن يفعلوا ذلك ، مع ما فيه من الضرر الصحي مع المخالفة الشرعية . وبعض الناس يُبقي ظفراً واحداً من أظافره ، إما الخنصر وإما السبابة وهذا أيضاً جهل وخطأ .
فالذي ينبغي للمسلمين أن يترسموا وأن يتمشوا على ما خطه النبي صلى الله عليه وسلم لهم ورسمه ، من فعل هذه السنن التي تقتضيها الفطرة ، قص الأظافر والشارب وحلق العانة ونتف الأباط .
58) وسئل فضيلة الشيخ : عن حكم تطويل الأظافر ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : تطويل الأظافر مكروه إن لم يكن محرماً ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقت في تقليم الأظافر ألا تترك فوق أربعين يوماً .(148/14)
ومن الغرائب أن هؤلاء الذين يدعون المدنية والحضارة يبقون هذه الأظافر مع أنها تحمل الأوساخ والأقذار وتوجب أن يكون الإنسان متشبهاً بالحيوان ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل إلا السن والظفر ، أما السن فعظم ، وأما الظفر فمُدَى الحبشة " . يعني أنهم يتخذون الأظافر سكاكين يذبحون بها ويقطعون بها اللحم أو غير ذلك فهذا من هدي هؤلاء الذين أشبه ما يكونون بالبهائم .
59) وسُئل : عن حكم إبقاء الأظافر أكثر من أربعين يوماً ؟
فأجاب بقوله جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً : هذا فيه تفصيل :
إذا كان الحامل له على ذلك الاقتداء بالكفار الذين انحرفت فطرهم عن السلامة ، فإن ذلك حرام ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من تشبه بقوم فهو منهم " . قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمة الله : " أقل أحوال هذا الحديث التحريم ، وإن كان ظاهرة يقتضي كُفر المتشبه بهم " . اهـ .
60) وسُئل فضيلته : عن حكم دفن الشعر والأظافر بعد قصها ؟
فأجاب قائلاً : ذكر أهل العلم أن دفن الشعر والأظافر أحسن وأولى ، وقد أثر ذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ، وأما كون بقائه في العراء أو إلقائه في مكان يوجب إثماً فليس كذلك .
61) وسُئل : عن قص الأظافر في الحمام وإرسالها مع القاذورات ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : الأولى ألا يفعل ذلك تكريماً لها ، ولكن لو فعل فلا إثم عليه .
62) سُئل الشيخ - حفظه الله تبارك وتعالى - عن حكم تخفيف شعر الحاجب ؟
فأجاب فائلاً : تخفيف شعر الحاجب إذا كان بطريق النتف فهو حرام بل كبيرة من الكبائر ، لأنه من النمص الذي لعن رسوله الله صلى الله عليه ووسلم مَنْ فَعله .
وإذا كان بطريق القص أو الحلق ، فهذا كرهه بعض أهل العلم ، ومنعه بعضهم ، وجعله من النمص ، وقال : إن النمص ليس خاصّاً بالنتف ، بل هو عام لكل تغيير لشعر لم يأذن الله به إذا كان في الوجه .(148/15)
ولكن الذي نرى أنه ينبغي للمرأة - حتى وإن قلنا بجواز أو كراهة تخفيفه بطريق القص أو الحلق - أن لا تفعل ذلك إلا إذا كان الشعر كثيراً على الحواجب ، بحيث ينزل إلى العين ، فيؤثر على النظر فلا بأس بإزالة ما يؤذي منه .
63 وسُئل الشيخ : عن حكم جعل الشعر ضفيرة واحدة ؟
فأجاب قائلاً : جعل الشعر ضفيرة واحدة لا أعلم فيه بأساً. والأصل الحِلّ ، ومن رأي شيئاً من السنة يمنع ذلك وجب اتباعه فيه والله ولي التوفيق .
64) وسُئل : عن حكم إزالة شعر اليدين والرجلين ؟
فأجاب فضيلته بقوله : إن كان كثيراً فلا بأس من إزالته ، لأنه مشوه ، وإن كان عاديّاً فإن من أهل العلم من قال إنه لا يُزال لأن إزالته من تغيير خلق الله عز وجل . ومنهم من قال : إنه تجوز إزالته لأنه مما سكت الله عنه ، وقال قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ما سكت الله عنه فهو عفو " . أي ليس بلازم لكم ولا حرام عليكم ، وقال هؤلاء : إن الشعور تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
القسم الأول : ما نصَّ الشرع على تحريم أخذه .
القسم الثاني : ما نص الشرع على طلب أخذه .
القسم الثالث : ما سكت عنه .
فما نص الشرع على تحريم أخذه فلا يُؤخذ كلحية الرجل ، ونمص الحاجب للمرأة والرجل .
وما نص الشرع على طلب أخذه فليؤخذ ، مثل : الإبط والعانة والشارب للرجل .
وما سكت عنه فإنه عفو لأنه لو كان مما لا يريد الله تعالى وجوده ، لأمر بإزالته ، ولو كان مما يريد الله بقاءه ، لأمر بإبقائه ، فلما سكت عنه كان هذا راجعاً إلى اختيار الإنسان ، إن شاء أزاله وإن شاء أبقاه . والله الموفق .
65) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم قص المرأة شعر رأسها ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : المشروع أن تُبقي المرأة رأسها على ما كان عليه ، ولا تخرج عن عادة أهل بلدها ، وقد ذكر فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - أنه يُكره قص رأسها إلا في حج أو عمرة ، وحرم بعض فقهاء الحنابلة قص المرأة شعر رأسها .(148/16)
ولكن ليس في النصوص ما يدل على الكراهة أو على التحريم ، والأصل عدم ذلك ، فيجوز للمرأة أن تأخذ من شعررأسها من قدام أو من الخلف ، على وجه لا تصل به إلى حد التشبه براس الرجل ، لأن الأصل الإباحة ، لكن مع ذلك أنا أكره للمرأة أن تفعل هذا الشيء ، لأن نظر المرأة وتطلُّبها لما يجدُّ من العادات المتلقاة عن غير بلادها مما يفتح لها باب النظر إلى العادات المستوردة ، وربما تقع في عادات محرمة وهي لا تشعر ، فكل العادات الواردة إلى بلادنا في المظهر والملبس والمسكن - إذا لم تكن من الأمور المحمودة التي دلَّ الشرع علىطلبها - فإن الأولى البعد عنها وتنجبها، نظراً إلى أن النفوس تتطلب المزيد من تقليد الغير ، لا سيما إذا شعر الإنسان بالنقص في نفسه وبكمال غيره ، فإنه حينئذ يقلد غيره وربما يقع في شَرَك التقليد الآثم الذي لا تبيحه شريعته .
وهناك أشياء نتمسك بها يسميها بعضنا عادات وتقاليد ، ونحن ننكر هذه التسمية ونقول :
لقد ضللتم وما أنتم بالمهتدين ، فإن من عاداتنا ما هو من الأمور المشروعة التي لا تتحكم فيها العادات والتقاليد ، كمثل الحجاب مثلاً ، فلا يصح أن نسمي احتجاب المرأة عادة أو تقليداً وإذا سمينا ذلك عادة أو تقليداً ، فهو جناية على الشريعة ، وفتح باب لتركه والتحول عنه إلى عادات جديدة تخضع لتغير الزمن ، وهو كذلك تحويل للشريعة إلى عادات وتقاليد تتحكم فيها الأعراف ، ومن المعلوم أن الشريعة ثابتة لا تتحكم فيها الأعراف ولا العادات ولا التقاليد ، بل يلزم المسلم أيَّا كان وفي أي مكان ، يلزمه أن يلتزم بها وجوباً فيما يجب ، واستحباباً فيما يُستحب . والله الموفق .
66) سُئل فضيلة الشيخ : عن حكم فرق المرأة شعرها على الجنب ؟(148/17)
فأجاب بقوله : السنة في فرق الشعر أن يكون في الوسط ، من الناصية وهي مقدم الرأس إلى أعلى الرأس ، لأن الشعر له اتجاهات إلى الأمام وإلى الخلف وإلى اليمين وإلى الشمال ، فالفرق المشروع يكون في وسط الرأس ، أما الفرق على الجنب فليس بمشروع ، وربما يكون فيه تشبه بغير المسلمين ، وربما يكون أيضاً داخلاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم"صنفان من أهل النار لم أرهما بعد ، قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس ، ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها " . فإن من العلماء من فسر المائلات المميلات بأنهن اللاتي يمشطن المشطة المائلة ويمشطن غيرهن تلك المشطة ، ولكن الصواب إن المراد بالمائلات من كنّ مائلات عما يجب عليهن من الحياء والدين ، مميلات لغيرهن عن ذلك . والله أعلم .
67) سُئل الشيخ : عن حكم تصفيف المرأة شعرها بالطريقة العصرية دون التشبه بالكافرات ؟
فأجاب حفظه الله بقوله : الذي بلغني عن تصفيف الشعر أنه يكون بأجرة باهظة قد نصفها بأنها إضاعة مال، والذي أنصح به نساءنا أن يتجنبن هذا الترف ، والمرأة تتجمل لزوجها لا على وجه يضيع به المال هذا الضياع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن إضاعة المال ، أما لو ذهبت إلى ماشطة تمشطها بأجرة سهلة يسيرة للتجمل لزوجها فإن هذا لا بأس به .
68) سُئل الشيخ : هل يجوز للمرأة أن تستعمل الباروكة " الشعر المستعار " ؟(148/18)
فأجاب فضيلته بقوله : الباروكة محرمة وهي داخله في الوصل ، وإن لم تكن وصلاً فهي تظهر رأس المرأة على وجه أطول من حقيقته فتشبه الوصل وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة ، لكن إن لم يكن على رأس المرأة شعر اصلاً أو كانت قرعاء فلا حرج من استعمال الباروكة ليستر هذا العيب لإن إزالة العيوب جائزة ، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن قطعت أنفه في إحدى الغزوات أن يتخذ أنفاً من ذهب فالمسألة أوسع من ذلك ، فتدخل فيها مسائل التجميل وعملياته ، فما كان لإزالة عيب فلا بأس به مثل أن يكون في أنفه اعوجاج فيعدله أو إزالة بقعة سوداء مثلاً فهذا لا بأس به ، أما إن كان لغير إزالة عيب كالوشم والنمص مثلاً فهذا هو الممنوع .
69) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم ثقب اذن البنت أو أنفها من أجل الزينة ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : الصحيح أن ثقب الأذن لا بأس به ، لأن هذا من المقاصد التي يتوصل بها إلى التحلي المباح ، وقد ثبت أن نساء الصحابة كان لهن أخراص يلبسنها في آذانهن ، وهذا التعذيب تعذيب بسيط ، وإذا ثقب في حال الصغر صار برؤه سريعاً .
وأما ثقب الأنف : فإنني لا أذكر فيه لأهل العلم كلاماً ، ولكنه فيه مُثلة وتشويه للخلقة فيما نرى ، ولعل غيرنا لا يرى ذلك ، فإذا كانت المرأة في بلد يعد تحلية الأنف فيها زينة وتجملاً فلا بأس بثقب الأنف لتعليق الحلية عليه .
---
(1) سورة الأحزاب ، الآية : 71.
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 36 .
(1) سورة القصص ، الآية : 65 .
(1) سورة يوسف ، الآية : 2
(2) سورة الجمعة ، الآية 2 .
(1) سورة النازعات ، الآيتان : 39 ، 40 .
(2) سورة طه ، الآية : 94 .
(1) سورة طه ، الآية : 94 .
(1) سورة النور ، الآيتان : 51 ، 52.
(2) سورة الأحزاب ، الآية : 36 .
(3) سورة النساء ، الآية : 65 .(148/19)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب فروض الوضوء وصفته
محمد بن صالح العثيمين
باب فروض الوضوء وصفته
70) سُئل فضيلة الشيخ : عن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء " ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقولة : معنى هذا الحديث أن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة، فإنهم يحلَّون فيها كما قال الله عزّ وجلّ في سورة الكهف : ( يحلَّوْن فيها من أساورَ من ذهب ) (1) . وكما قال في سورة الحج وفاطر : ( يُحلَّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ) (2) . وكما قال ( وحُلُّوا أساورَ من فضَّةٍ ) (3) . فالمؤمن يُحلى في الجنة - رجلاً كان أو أمرأة - بهذة الحلية ، وتكون إلى حيث يبلغ الوضوء ، فعلى هذا تبلغ الحلية في اليدين إلى المرفقين لأن الوضوء يبلغ إلى المرفقين ، هذا معنى الحديث الذي أشار إليه السائل .
71) وسُئل : عن الفضل الذي يناله المسلم إذا استمر على الوضوء بعد كل حدث ؟
فأجاب قائلاً : الفضل الذي يناله المسلم إذا استمر على الوضوء بعد كل حدث ، أنه يبقى طاهراً ، والبقاء على الطهر من الأعمال الصالحة ، ولأنه ربما يذكر الله سبحانه وتعالى في أحواله كلها ، فيكون ذكر الله على طهر ، ولانه قد تعرض له صلاة في مكان ليس فيه ماء ، فيكون مستعداً لهذه الصلاة ، والمهم أن بقاء الإنسان على وضوء فيه فوائد كثيرة .
72) وسُئل الشيخ : إذا كان للإنسان أسنان صناعية فهل يجب عليه نزعها عند المضمضة ؟
فأجاب فضيلته بقولة : إذا كان على الإنسان أسنان مركبة ، فالظاهر أنه لا يجب عليه أن يزيلها، وتشبه هذه الخاتم، والخاتم لا يجب نزعه عند الوضوء ، بل الأفضل أن يحركه ، لكن ليس على سبيل المثال الوجوب ، لأن النبي صلىالله عليه وسلم كان يلبسه ، ولم ينقل أنه كان ينزعه عند الوضوء ، وهو أظهر من كونه مانعاً من وصول الماء من هذه الأسنان ، لا سيما أن بعض الناس تكون هذه التركيبة شاقّاً عليه نزعها ثم ردُّها .(149/1)
73) وسُئل فضيلة الشيخ : هل يجب على الإنسان أن يزيل بقايا الطعام من بين أسنانة قبل الوضوء أم لا ؟
فأجاب - جزاه الله خيراً - بقوله : الذي يظهر لي أنه لا يجب إزالته قبل الوضوء ، لكن تنقية الأسنان منها لا شك أنه أكمل وأطهر وأبعد عن مرض الأسنان ، لأن هذه الفضلات إذا بقيت ، فقد يتولد منها عُفونة ويحصل منها مرض للأسنان واللثة ، فالذي ينبغي للإنسان إذا فرغ من طعامه ، أن يخلل أسنانة حتى يزول ما علق من أثر الطعام ، وأن يتسوَّك أيضاً لأن الطعام يغير الفم ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في السواك : " إنه مطهرة للفم مرضاة للرب " . وهذا يدل على أنه كلما احتاج الفم إلى تطهير فإنه يطهر بالسواك ، ولهذا قال العلماء يتأكد السواك عند تغير رائحة الفم بأكل أو غيره .
74) وسُئل حفظه الله تعالى : هل يلزم المتوضيء أن يأخذ ماءً جديداً لأذنيه ؟
فأجاب الشيخ بقوله : لا يلزم أخذ ماء جديد للأذنين ، بل ولا يستحب على القول الصحيح ، لأن جميع الواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم ، لم يذكروا أنه كان يأخذ ماءً جديداً لأذنيه ، فالأفضل أن يمسح أذنيه ببقية البلل الذي بقي بعد مسح رأسه .
75) وسُئل الشيخ : عن معنى الترتيب في الوضوء ؟ وما المراد بالموالاة في الوضوء ؟ وما حكمها ؟ وهل يعذر الإنسان فيهما بالجهل والنسيان ؟(149/2)
فأجاب قائلاً : الترتيب في الوضوء معناه أن تبدأ بما بدأ الله به ، وقد بدأ الله بذكر غسل الوجه ، ثم غسل اليدين ، ثم مسح الرأس ، ثم غسل الرجلين ، ولم يذكر الله تعالى غسل الكفين قبل غسل الوجه ، لأن غسل الكفين قبل غسل الوجه ليس واجباً بل هو سنة ، هذا هو الترتيب أن تبدأ بأعضاء الوضوء مرتبة كما رتبها الله عزّ وجلّ ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حج وخرج إلى المسعى بدأ بالصفا ، فلما أقبل عليه قرأ: ( إن الصفا والمروة من شعائر الله )(1). أبدأ بما بدأ الله به ، فبين أنه إنما اتى إلى الصفا قبل المروة ابتداء بما بدأ الله به .
وأما الموالاة ، فمعناها : أن لا يفرق بين أعضاء الوضوء بزمن يفصل بعضها عن بعض ، مثال ذلك لو غسل وجهه ، ثم أراد أن يغسل يديه ولكن تأخر، فإن الموالاة قد فاتت وحينئذ يجب عليه أن يعيد الوضوء من أوله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأي رجلاً قد توضأ ، وفي قدمه مثل الظفر لم يصبه الماء ،
فقال ، " أرجع فأحسن وضوءك " . وفي رواية أبي داود " أمره أن يعيد الوضوء". وهذا يدل على اشتراط الموالاة ، ولأن الوضوء عبادة واحدة والعبادة الواحدة لا ينبني بعضها على بعض مع تفرق أجزائها .
فالصحيح : أن الترتيب والمولاة فرضان من فروض الوضوء .
وأما عذر الإنسان فيهما بالنسيان أو بالجهل فمحل نظر ، فالمشهور عند فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - أن الإنسان لا يُعذر فيهما بالجهل ولا بالنسيان ، وأن الإنسان لو بدأ بغسل يديه قبل غسل وجهه ناسياً ، لم يصح غسل يديه ولزمه إعادة الوضوء مع طول الزمن ، أو إعادة غسل اليدين وما بعدهما إن قصر الزمن، ولا شك أن هذا القول أحوط وأبرأ للذمة ، وأن الإنسان إذا فاته الترتيب ولو نسياناً ، فإنه يعيد الوضوء ، وكذلك إذا فاتته الموالاة ولو نسياناً ، فإنه يعيد الوضوء .
76) سُئل الشيخ : عن حكم الترتيب بين أعضاء الوضوء ؟(149/3)
فأجاب بقوله : الترتيب من فروض الوضوء . قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قُمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) (1) . ووجه الدلالة من الآية :
أولاً: إدخال الممسوح بين المغسولات ، وهذا خروج عن مقتضى البلاغة ، والقرآن أبلغ ما يكون من الكلام ، ولا نعلم لهذا الخروج عن قاعدة البلاغة فائدة إلا الترتيب .
ثانياً : أن هذه الجملة وقعت جواباً للشرط ، وما كان جواباً للشرط فإنه يكون مرتباً حسب وقوع الجواب .
ثالثاً : أن الله ذكرها مرتبة وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أبدأ بما بدأ الله به " أما من السنة فإن جميع الواصفين لوضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا إلا أنه كان يرتبها على حسب ما ذكر .
77) وسُئل : هي يسقط الترتيب بالنسيان ؟
فأجاب قائلاً : هذا محل خلاف بين العلماء - رحمهم الله تعالى - على أقوال :
القول الأول : أنه يسقط بالنسيان والجهل ، لأن ذلك عذر وإذا كان الترتيب بين الصلوات يقسط بالنسيان ، فهذا مثله .
القول الثاني : أنه لا يسقط بالنسيان لأنه فرض ، والفرض لا يسقط بالنسيان ، وقياسه على قضاء الصلوات فيه نظر ، لأن الصلوات كل صلاة عبادة مستقلة ، ولكن الوضوء عبادة واحدة ، ونظير اختلاف الترتيب في الوضوء اختلاف الترتيب في ركوع الصلاة وسجودها ، فلو سجد الإنسان قبل الركوع ناسياً ، فإننا نقول إن الصلاة لا تُجزئه ، ولهذا فالقول بأن الترتيب يقسط بالنسيان ، في النفس منه شيء ، نعم لو فرض أن رجلاً جاهلاً في بادية وكان منذ نشأ وهو يتوضأ فيغسل الوجه واليدين والرجلين ثم يمسح الرأس ، لو فُرض أن أحداً وقع له مثل هذه الحال ، فقد يتوجه القول بأنه يُعذر بجهله ، كما عذر النبي صلىالله عليه وسلم أناساً كثيراً بجهلهم في مثل هذه الأحوال ، إذن فالترتيب فرض لا يسقط سهواً ولا جهلاً إلا في مثل هذه الصورة .(149/4)
78) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا توضأ الإنسان ونسي عضواً من الأعضاء فما الحكم ؟
فأجاب قائلاً : إذا توضأ الإنسان ونسي عضواً من الأعضاء ، فإن ذكر ذلك قريباً ، فإنه يغسله وما بعده ، مثال ذلك : شخص توضأ ونسي أن يغسل يده اليسرى فغسل يده اليمنى ، ثم مسح راسه وأذنيه ، ثم غسل رجليه، ولما انتهى من غسل الرجلين ، ذكر أنه لم يغسل اليد اليسرى ، فنقول له : اغسل اليد اليسرى وامسح الرأس والأذنين وأغسل الرجلين ، وإنما أوجبنا عليه إعادة مسح الرأس والأذنين وغسل الرجلين ، لأجل الترتيب ، فإن الوضوء يجب أن يكون مرتباً كما رتبه الله عزّ وجلّ فقال : ( فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) (1) . وأما إن كان لم يذكر إلا بعدة مدة طويلة ، فإنه يعيد الوضوء من أصلة ، مثل أن يتوضأ شخص وينسى غسل يده اليسرى ثم ينتهي من وضوئه ويذهب حتي يمضي مدة طويلة ، ثم ذكر أنه لم يغسل اليد اليسرى ، فإنه يجب عليه أن يعيد الوضوء من أوله لفوات المولاة بين أعضاء الوضوء ، شرط لصحته ، ولكن ليعلم أنه لو كان ذلك شكّاً ، يعني بعد أن انتهى من الوضوء شك هل غسل يده اليسرى أو اليمنى أو هل تمضمض أو استنشق فإنه لا يلتفت إلى هذا الشك بل يستمر ويصلي ولا حرج عليه ، وذلك لأن الشك في العبادات بعد الفراغ منها لا يعتبر ، لأننا لو قلنا باعتباره لانفتح على الناس باب الوساوس وصار كل انسان يشك في عبادته ، فمن رحمة الله عز وجل أن ما كان من الشك بعد الفراغ من البعادة فإنه لا يلتفت إليه ولا يهتم به الإنسان إلا إذا تيقن الخلل فإنه يجب عليه تداركه . الله أعلم .
79) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا انقطع الماء أثناء الوضوء ، ثم عاد وقد جفت الأعضاء فهل يبني الإنسان على ما تقدم أم يعيد الوضوء ؟
فأجاب بقوله : هذا ينبني على معنى الموالاة وعلى كونها شرطاً لصحة الوضوء ، وللعلماء في أصل المسألة قولان :(149/5)
أحدهما : أن الموالاة شرط وأنه لا يصح الوضوء إلا متوالياً فلو فصل بعضه عن بعض لم يصح ، وهذا هو القول الراجح ، لأن الوضوء عبادة واحدة يجب أن يكون بعضها متصلاً ببعض ، وإذا قلنا بوجوب المولاة وأنها شرط لصحة الوضوء فبماذا تكون الموالاة ؟ قال بعض العلماء : الموالاة أن لا يؤخر غسل عضو حتى يجف الذي قبله بزمن معتدل إلا إذا أخرها لأمر يتعلق بالطهارة كما لو كان في أحد أعضائه بوية وحاول أن يزيلها وتأخر في إزالة هذه البوية حتى جفت أعضاؤه فإنه يبني على ما مضى ويستمر ولو تأخر طويلاً لأنه تأخر بعمل يتعلق بطهارته ، أما إذا تأخر لتحصيل ماء كما في هذا السؤال فإن بعض أهل العلم يقول : إن الموالاة تفوت وعلى هذا فيجب عليه إعادة الوضوء من جديد ، وبعضهم يقول : لا تفوت الموالاة لأنه أمر بغير اختياره وهو لا زال منتظرا لتكميل الوضوء ، وعلى هذا إذا عاد الماء فإنه يبني على ما مضى ولو جفت أعضاؤه ، على أن بعض العلماء الذين يقولون بوجوب الموالاة واشتراطها يقولون : إن الموالاة لا تتقيد بجفاف العضو وإنما تتقيد بالعرف ، فما جرى العرف بأنه فصل بينه فهو فاصل يقطع الموالاة ، وما جرى العرف بأنه ليس بفاصل فليس بفاصل مثل الذين ينتظرون وجود الماء إذا انقطع ، هم الآن يشتغلون بجلب الماء ، عند الناس لا يعد هذا تقاطعاً بين أول الوضوء وآخره ، فيبني على ما مضى ، وهذا هو الأفضل ، فإنه إذا جاء الماء يبنون على ما مضى اللهم إلا إذا طال الوقت مدة طويلة يخرجها عن العرف يبدأون من جديد والأمر في هذا سهل .
80) وسُئل الشيخ : إذا اشتغل الإنسان بإزالة بوية من يدية عند الوضوء فهل تنقطع الموالاة ويلزمه إعادة الوضوء أو لا ؟(149/6)
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : لا تنقطع الموالاة بذلك ولا يضره ، لأن هذا الأمر يتعلق بطهارته ، ومثل ذلك ما لو نفد الماء وجعل يستخرجه من البئر ونشفت أعضاؤه ، أو انتقل من صنبور إلى صنبور لتحصيل الماء ، فإن هذا لا يضر لأنه أمر يتعلق بطهارته .
أما إذا فاتت الموالاة بأمر لا يتعلق بطهارته ، مثل أن يجد على ثوبه دماً في أثناء وضوئه فاشتغل بإزالة ذلك الدم حتى نشفت الأعضاء وفاتت الموالاة ، فحينئذ يجب عليه أن يعيد الوضوء لأن هذا لا يتعلق بطهارته .
81) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا كان في اليد بوية أو صمغ فكيف يصنع الإنسان عند الوضوء ؟
فأجاب بقولة : إذا كان في أعضاء الطهارة شيء يمنع وصول الماء إلى الأعضاء التي يجب تطهيرها ، فإن الواجب عليك أن تحسب الحساب ، وأن تتقدم في إزالة هذا المانع حتى يأتي الوقت ، وقد زال وتوضأت وضوءاً صحيحاً.
82) وسُئل - حفظه الله : إذا كان على يد الإنسان دهن فهل يصح وضوءه ؟
فأجاب فضيلته قائلاً : نعم يصح وضوءه بشرط أن لا يكون هذا الدهن متجمداً يمنع وصول الماء ، فإذا كان متجمداً يمنع وصول الماء فلا بد من إزالته قبل الوضوء .
83) وسُئل فضيلة الشيخ : عن المرأة إذا دهنت رأسها ومسحت عليه هل يصح وضوءها أم لا ؟(149/7)
فأجاب قائلاً : قبل الإجابة على هذا السؤال ، أود أن أبين بأن الله عزّ وجلّ قال في كتابة المبين : ? أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ? (1) . والأمر بغسل هذه الأعضاء ومسح ما يمسح منها يستلزم إزالة ما يمنع وصول الماء إليها ، لأنه إذا وُجد ما يمنع وصول الماء إليها لم يكن غسلها ولا مسحها ، وبناء على ذلك نقول : إن الإنسان إذا استعمل الدهن في أعضاء طهارته ، فإما أن يبقى الدهن جامداً له جرم ، فحينئذ لا بد أن يزيل ذلك قبل أن يُطِّهر أعضاؤه ، فإن بقي الدهن هكذا جرماً ، فإنه يمنع وصول الماء إلى البشرة وحينئذٍ لا تصح الطهارة. أما إذا كان الدهن ليس له جرم ، وإنما أثره باقٍ على أعضاء الطهارة ، فإنه لا يضر ، ولكن في هذه الحالة يتأكد أن يمر الإنسان يده على الوضوء لأن العادة أن الدهن يتمايز معه الماء ، فربما لا يصيب جميع العضو الذي يطهره .
84) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم وضوء من كان على أظافرها ما يسمى بـ ( المناكير ) ؟
فأجاب بقوله : ما يسمى (المناكير) وهو شيء يوضع على الأظفار تستعمله المرأة وله قشرة ، لا يجوز استعماله للمرأة إذا كانت تصلي لأنه يمنع وصول الماء في الطهارة ، وكل شيء يمنع وصول الماء فإنه لا يجوز استعماله للمتوضئ ، أو المغتسل ، لأن الله يقول : ? فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ? (1) . وهذه المرأة إذا كان على أظافرها مناكير فإنها تمنع وصول الماء فلا يصدق عليها أنها غسلت يدها فتكون قد تركت فريضة من فرائض الوضوء أو الغسل .
وأما من كانت لا تصلي كالحائض فلا حرج عليها إذا استعملته إلا أن يكون هذا الفعل من خصائص نساء الكفار فإنه لا يجوز لما فيه من التشبه بهم .(149/8)
ولقد سمعت أن بعض الناس أفتى بأن هذا من جنس لبس الخفين وأنه يجوز أن تستعمله المرأة لمدة يوم وليلة إن كانت مقيمة ومدة ثلاثة أيام إن كانت مسافرة ، ولكن هذه فتوى غلط ، وليس كل ما ستر الناس به أبدانهم يلحق بالخفين ، فإن الخفين جاءت الشريعة بالمسح عليهما للحاجة إلى ذلك غالباً ، فإن القدم محتاجة إلى التدفئة ومحتاجة إلى الستر ، لأنها تباشر الأرض ، والحصى ، والبرودة ، وغير ذلك ، فخصص الشارع المسح بهما ، وقد يقيسون أيضاً على العمامة ، وليس بصحيح لأن العمامة محلها الرأس ، والرأس فرضه مخفف من أصله ، فإن فريضة الرأس هي المسح بخلاف اليد ، فإن فرضيتها الغسل ، ولهذا لم يبيح النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة أن تمسح القفازين مع أنهما يستران اليد ، فدل هذا على أنه لا يجوز للإنسان أن يقيس أي حائل يمنع وصول الماء على العمامة وعلى الخفين ، والواجب على المسلم أن يبذل غاية جهده في معرفة الحق ، وأن لا يقدم على فتوى إلا هو يشعر أن الله تعالى سائله عنها ، لأنه يعبر عن شريعة الله عز وجل . الله الموفق الهادي إلى الصراط المستقيم .
85) سُئل الشيخ :هل يصح الوضوء إذا كان على يد الإنسان دهان يغطي البهاق " البرص " علماً بأنه يمنع وصول الماء إلى البشرة ؟
فأجاب بقوله : لا يجوز استعمال هذا الدواء الذي يمنع وصول الماء إلى البشرة ، لأن هذا الدواء ليس علاجاً يزيل البرص ، أما إذا كان علاجاً يزيله فلا حرج في استعماله ، لأنه مدته مؤقتة ، أما إذا كان شيئاً يخفيه ويمنع وصول الماء ، فإنه لا يجوز أن يتوضأ وهو عليه ، والحمد لله هذا أمر يكون في كثير من الناس ، والإنسان إذا اعتاد هذا الأمر هان عليه ، فهو يكون شاقاً عليه أول ما يخرج به ، ولكنه إذا اعتاده وصار الناس ينظرون إليه ، فإنه لا شك أنه يزول عنه هذا الإحساس الذي يحسُّه .
86) وسُئل : إذا توضأ الإنسان لرفع الحدث ولم ينو صلاة فهل يجوز أن يصلي بذلك الوضوء ؟(149/9)
فأجاب - حفظه الله تعالى - قائلاً : إذا توضأ الإنسان بغير نية الصلاة ، وإنما توضأ لرفع الحدث فقط ، فله أن يصلي ما شاء من فروض ونوافل حتى تنتفض طهارته .
87) وسُئل : هل يجوز للإنسان أن يصلي فريضتين بوضوء واحد ؟
فأجاب بقوله : نعم يجوز ذلك ، فإذا توضأ لصلاة الظهر مثلاً ثم حضرت صلاة العصر وهو على طهارة فله أن يصلي صلاة العصر بطهارة الظهر ، وإن لم يكن قد نوى حين تطهره أن يصلي بها الفريضتين ، لأن طهارته التي تطهرها لصلاة الظهر رفعت الحدث عنه ، وإذا ارتفع حدثه فإنه لا يعود إلا بوجود سببه ، وهو أحد نواقض الوضوء المعروفة .
88) وسُئل فضيلة الشيخ : عن صفة الوضوء ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله:صفة الوضوء الشرعي على وجهين :
صفة واجبة لا يصح الوضوء إلا بها ، وهي المذكورة في قوله تعالى :
? أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ? (1)
وهي غسل الوجه مرة واحدة ومنه المضمضة والاستنشاق ، وغسل اليدين إلى المرافق من أطراف الأصابع إلى المرافق مرة واحدة ، ويجب أن يلاحظ المتوضىء كفيه عند غسل ذراعيه فيغسلهما مع الذراعين فإن بعض الناس يغفل عن ذلك ولا يغسل إلا ذراعيه وهو خطأ ، ثم يمسح الرأس مرة واحدة ومنه أي من الرأس الأذنان ، وغسل الرجلين إلى الكعبين مرة واحدة هذه هي الصفة الواجبة التي لا بد منها .
أما الوجة الثاني من صفة الوضوء ، فهي الصفة المستحبة ونسوقها الآن بمعونة الله تعالى وهي : أن يُسمي الإنسان عند وضوئه ، ويغسل كفيه ثلاث .(149/10)
مرات ، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاث مرات بثلاث غرفات ، ثم يغسل وجهه ثلاثاً، ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثاً ثلاثاً ، يبدأ باليمنى ثم اليسرى ، ثم يمسح رأسه مرة واحدة ، يبل يدية ثم يمرهما من مقدم رأسه إلى مؤخرة ثم يعود إلى مقدمه ثم يمسح أذنيه فيدخل سباحتيه في صماخيهما ويمسح بإبهاميه ظاهرهما ، ثم يغسل رجليه إلى الكعبين ثلاثاً ثلاثاً يبدأ باليمنى ثم باليسرى ، ثم يقول بعد ذلك : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، فإنه إذا فعل ذلك ، فُتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ، هكذا صح الحديث عن الني صلى الله عليه وسلم قاله عمر رضي الله عنه .
89) وسُئل فضيلة الشيخ:عن حكم غسل الأيدي والوجه بالصابون عند الوضوء ؟
فأجاب بقوله : غسل الأيدي والوجه بالصابون عند الوضوء ليس بمشروع ، بل هو من التعنت والتنطع ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " هلك المتنطعون هلك المتنطعون " . قالها ثلاثاً . نعم لو فرض أن في اليدين وسخاً لا يزول إلا بهذا أي باستعمال الصابون أو غيره من المطهرات المنظفات فإنه لا حرج في استعماله حينئذ ، وأما إذا كان الأمر عاديّاً فإن استعمال الصابون يعتبر من التنطع والبدعة فلا يفعل .
90) وسُئل فضيلة الشيخ : هل يسن للمرأة عند مسح رأسها في الوضوء أن تبدأ من مقدم الرأس إلى مؤخره ثم ترجع إلى مقدم الرأس كالرجل في ذلك ؟
فأجاب بقوله : نعم . لأن الأصل في الأحكام الشرعية أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء والعكس بالعكس ، ما ثبت في حق النساء ثبت في حق الرجال إلى بدليل ، ولا أعلم دليلاً يخصص المرأة في هذا ، وعلى هذا فتمسح من مقدم الرأس إلى مؤخره ، وإن كان الشعر طويلاً فلن يتأثر بذلك ، لأنه ليس المعنى أن تضغط بقوة على الشعر حتى يتبلل أو يصعد إلى قمة الرأس ، إنما هو مسح بهدوء .(149/11)
91) سُئل الشيخ : عن حكم مسح المرأة على لفة الرأس ؟
فأجاب بقوله : يجوز أن تمسح المرأة على رأسها سواءً كان ملفوفاً أو نازلاً، ولكن لا تلف شعر رأسها فوق وتبقيه على الهامة لأني أخشى أن يكون داخلاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ونساء كاسيات عاريات رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا " .
92) وسئل فضيلة الشيخ : عن فاقد العضو كيف يتوضأ ؟ وإذا ركب له عضو صناعي فهل يغسله ؟
فأجاب بقوله - حفظه الله تعالى - : إذا فقد الإنسان عضواً من أعضاء الوضوء ، فإنه يسقط عنه فرضه إلى غير تيمم ، لأنه فقد محل الفرض فلم يجب عليه ، حتى لو ركب له عضو صناعي ، فإنه لا يلزمه غسله ،ولا يقال إن هذا مثل الخفين يجب عليه مسحهما ، لأن الخفين قد لبسهما على عضو موجود يجب غسله، أما هذا فإنه صنع له على غير عضو موجود ، لكن أهل العلم يقولون : إنه إذا قُطع من المفصل ، فإنه يجب عليه غسل رأس العضو ، مثلاً لو قطع من المرفق ، وجب عليه غسل رأس العَضُد ، ولو قُطعت رجلُه من الكعب ، وجب عليه غسل طرف الساق . والله أعلم .
93) سُئل فضيلة الشيخ : عن الملاحظات التي تلاحظ على الناس في أيام الشتاء في الوضوء ؟
فأجاب بقوله : الملاحظات التي تلاحظ على الناس في أيام الشتاء في الوضوء ، أنهم لا يفسرون أكمامهم عند غسل اليدين فسراً كاملاً ، وهذا يؤدي إلى أن يتركوا شيئاً من الذراع بلا غسل ، وهو محرم ، والوضوء معه غير صحيح ، فالواجب أن يفسر كمه إلى ما وراء المرفق ويغسل المرفق مع اليد لأنه من فروض الوضوء .
94) وسُئل : عن حكم تنشيف أعضاء الوضوء ؟
فأجاب فضيلته قائلاً:تنشيف الأعضاء لا باس به ، لأن الأصل عدم المنع ، والأصل في ما عدا العبادات من العقود والأفعال والأعيان الحل والإباحة حتى يقود دليل على المنع .(149/12)
فإن قال قائل : كيف تجيب عن حديث ميمونة ، رضي الله عنها ، حينما ذكرت أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل ، قالت : فأتيته بالمنديل فرده وجعل ينفض الماء بيده ؟
فالجواب : أن هذا الفعل من النبي صلى الله عليه وسلم قضية عَيْن تحتمل عدة أمور : إما لأنه لسبب في المنديل ، أو لعدم نظافته ، أو يخشى أن يبله بالماء ، وبلله بالماء غير مناسب ، فهناك احتمالات ولكن إتيانها بالمنديل قد يكون دليلاً على أن من عادته أن ينشف أعضاءه ، وإلا أتت به .
رسالة في كيفية طهارة المريض
قال فضيلة الشيخ حفظه الله تعالى :
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن شيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضله له، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بأحسان وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فهذه رسالة مختصرة فيما يجب على المرضى في طهارتهم وصلاتهم(1) . فإن للمريض أحكاماً تخصه في ذلك لما هو عليه من الحال التي التقضت الشريعة الإسلامية مراعاتها فإن الله تعالى بعث نبيه محمداً ، صلى الله عليه وسلم ، بالحنيفية السمحة المبنية على اليسر والسهولة ، قال الله تعالى : { وما جعل عليكم في الدين من حرج }(2) . وقال تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) (3) وقال تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا ) (4) . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " أن الدين يسر " . وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم " . وبناء على هذه القاعدة الأساسية خفف الله تعالى عن أهل الأعذار عباداتهم بحسب أعذارهم ليتمكنوا من عبادة الله تعالى بدون حرج ولا مشقة والحمد لله رب العالمين .
" كيف يتطهر المريض" ؟
1- يجب على المريض أن يتطهر بالماء فيتوضأ من الحدث الأصغر ، ويغتسل من الحدث الأكبر .(149/13)
2- فإن كان لا يستطيع الطهارة بالماء لعجزه أو خوف زيادة المرض أو تأخر برئه فإنه يتيمم.
3- كيفية التيمم : أن يضرب الأرض الطاهرة بيدية ضربة واحده يمسح بهما جميع وجهه ، ثم يمسح كفيه بعضهما ببعض .
4- فإن لم يستطع أن يتطهر بنفسه فإنه يوضئه أو ييممه شخص آخر فيضرب الشخص الأرض الطاهرة بيدية ويمسح بها وجه المريض وكفيه كما لو كان لا يستطيع أن يتوضأ بنفسه فيوضئه شخص آخر .
5- إذا كان في بعض أعضاء الطهارة جرح فإنه يغسله بالماء ، فإن كان الغسل بالماء يؤثر عليه مسحه مسحاً فيبل يده بالماء ويمرها عليه ، فإن كان المسح يؤثر عليه أيضاً فإنه يتيمم عنه .
6- إذا كان في بعض أعضائه كسر مشدود عليه خرقة أو جبس فإنه يمسح عليه بالماء بدلاً من غسله ولا يحتاج للتيمم لأن المسح بدل عن الغسل .
7- يجوز أن يتيمم على الجدار ، أو على شيء آخر طاهر له غبار ، فإن كان الجدار ممسوحاً بشيء من غير جنس الأرض كالبوية فلا يتيمم عليه إلا أن يكون له غبار .
8- إذا لم يمكن التيمم على الأرض أو الجدار أو شيء آخر له غبار فلا بأس أن يوضع تراب في إناء أو منديل يتيمم منه .
9- إذا تيمم لصلاة وبقي على طهارته إلى وقت الصلاة الأخرى فإنه يصليها بالتيمم الأول ، ولا يعيد التيمم للصلاة الثانية ، لأنه لم يزل على طهارته ، ولم يجد ما يبطلها .
10 يجب على المريض أن يُطهِّر بدنه من النجاسات فإن كان لا يستطيع صلى على حاله وصلاته صحيحة ولا إعادة عليه .
يجب على المريض أن يصلي بثياب طاهرة فإن تنجست ثيابه وجب غسلها أو إبدالها بثياب طاهرة ، فإن لم يمكن صلى على حاله وصلاته صحيحة ، ولا إعادة عليه .
12- يجب على المريض أن يصلي على شيء طاهر ، فإن تنجس مكانه وجب غسله أو إبداله بشيء طاهر ، أو يفرش عليه شيئاً طاهراً ، فإن لم يمكن صلى على حاله وصلاته صحيحة ولا إعادة عليه .(149/14)
13- لا يجوز للمريض أن يؤخر الصلاة عن وقتها من أجل العجز عن الطهارة ، بل يتطهر بقدر ما يمكنه من ثم يُصلي الصلاة في وقتها ، ولو كان على بدنه وثوبه أو مكانه نجاسة يعجز عنها .
---
(1) سورة الكهف ، الآية 31 .
(2) سورة الحج ، الآية : 23 .
(3) سورة فاطر ، الآية : 33 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 158.
(1) سورة المائدة ، الآية : 6 .
(1) سورة المائدة ، الآية : 6
(1) سورة المائدة ، الآية : 6.
(1) سورة المائدة ، الآية : 6 .
(1) سورة المائدة ، الآية : 6 .
(1) جرى نقل ما يتعلق بصلاة المريض إلى كتاب الصلاة .
(2) سورة الحج ، الآية : 78 .
(3) سورة التغابن ، الآية : 16 .
(4) سورة البقرة ، الآية : 185 .(149/15)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب المسح على الخفين
محمد بن صالح العثيمين
باب المسح على الخفين
95) سُئل فضيلة الشيخ : ما المقصود بالخفاف والجوارب ؟ ما حكم المسح عليهما ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : المقصود بالخفاف : " ما يلبس على الرجل من جلد ونحوه " . والمقصود بالجوارب : " ما يلبس على الرجل من قطن ونحوه ، وهو ما يعرف بالشراب " .
والمسح عليهما هو السنة التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمن كان لابساً لهما فالمسح عليهما أفضل من خلعهما لغسل الرجل . ودليل ذلك : حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم ، توضأ ، قال المغيرة : فأهويت لأنزع خفيه فقال : " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " . فمسح عليهما .
ومشروعية المسح على الخفين ثابتة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أما كتاب الله ، ففي قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) (1) . فإن قوله تعالى ( وأرجلكم ) ، فيها قراءتان سبعيتان صحيحتان عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم .
إحداهما ( وأرجلَكم ) بالنصب عطفاً على قوله ( وجوهكم ) فتكون الرجلان مغسولتين . .
الثانية : ( وأرجلِكم بالجر عطفاً على ( رؤوسكم ) فتكون الرجلان ممسوحتين . والذي بين أن الرجل تكون ممسوحة أو مغسولة هي السنة فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ، إذا كانت رجلاه مكشوفتين يغسلهما ، وإذا كانتا مستورتين بالخفاف يمسح عليهما .
وأما دلالة السنة على ذلك : فالسنة متواترة في هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الإمام رحمه الله : ليس في قلبي من المسح بشيء فيه أربعون حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه . ومما يذكر من النظم قول الناظم :
مما تواتر حديثُ من كذب ومن بنى الله بيتاً واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ومسح خفين وهذي بعض(150/1)
فهذا دليل على مسحهما من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
96) وسُئل فضيلته : عن قول ابن عباس رضي الله عنهما " ما مسح رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، بعد المائدة " وقول علي ابن أبي طالب رضي الله عنه " سبق الكتاب الخفين " ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : لا أدري هل يصح ذلك عنهما أو لا ، وعلي رضي الله عنه ممن روى أحاديث المسح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا يدل على أن الحكم ثابت عنده إلى ما بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن النسخ .
97) وسُئل : عن حكم خلع الجوربين عند كل وضوء احتياطاً للطهارة ؟
فأجاب فضيلته بقوله : هذا خلاف السنة وفيه تشبه بالروافض الذين لا يجيزون المسح على الخفين ، والنبي صلى الله عليه وسلم ، قال للمغيرة حينما أراد نزع خفيه قال : " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " . ومسح عليهما .
98) وسُئل فضيلة الشيخ : عن تقدير الوقت في المسح على الخفين ؟
فأجاب - جزاه الله خيراً - قائلاً : هذه المسألة من أهم المسائل التي يحتاج الناس إلى بيانها ، ولهذا سوف نجعل الجواب أوسع من السؤال ، إن شاء الله تعالى.
فنقول : إن المسح على الخفين ثابت بدلالة الكتاب والسنة ، أما الكتاب فهو من قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) (1) . بكسر اللام - أرجلِكم - فتكون أرجلكم معطوفة على قوله ( برؤوسكم ) فتدخل في ضمن الممسوح والقراءة التي يقرؤها الناس في المصاحف ( وأرجلَكم ) بفتح اللام ، فهي معطوفة على قوله : ( وجوهكم ) . فتكون من ضمن المغسول ، وحينئذ فالأرجل بناء على القرائتين إما أن تغسل وإما أن تمسح ، وقد بيَّنت السنة متى يكون الغسل ومتى يكون المسح ، فيكون الغسل حين تكون القدم مكشوفة ، ويكون المسح حين تكون مستورة بالخفِّ ونحوه .(150/2)
أما السنة ، فقد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، المسح على الخفين وعدَّه أهل العلم من المتواتر ، كما قال من نظم ذلك .
مما تواتر حديثُ من كذب ومن بنى لله بيتاً واحتسب
ورؤية شفاعة والحوض ومسح خفين وهذي بعض
فمسح الخفين مما تواترت به الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، والمسح على الخفين إذا كان الإنسان قد لبسهما على طهارة أفضل من خلعهما وغسل الرجل ، ولهذا لما أراد المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن ينزع خُفَيْ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عند وضوئه قال له : " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " ثم مسح عليهما . متفق عليه .
وللمسح على الخفين شروط :
الشرط الأول : أن يلبسهما على طهارة كاملة من الحدث الأصغر والحدث الأكبر ، فإن لبسهما على غير طهارة ، فإنه لا يصح المسح عليهما .
الشرط الثاني : أن يكون المسح في مدة المسح ، كما سيأتي بيان المدة إن شاء الله تعالى .
الشرط الثالث : أن يكون المسح في الطهارة الصغرى ، أي في الوضوء ، اما إذا صار على الإنسان غسل ، فإنه يجب عليه أن يخلع الخفين ليغسل جميع بدنه ، ولهذا لا مسح على الخفين في الجنابة ، كما في حديث صفوان بن عسال - رضي الله عنه - قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأمرنا إذا كنّا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة " . أخرجه النسائي والترمذي وابن خزيمة . هذه الشروط الثلاثة من شروط جواز المسح على الخفين .
أما المدة : فإنها يوم وليلة وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ، ولا عبرة بعدد الصلوات بل العبرة بالزمن ، فالرسول عليه الصلاة والسلام وقَّتها يوماً وليلة للمقيم، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ، واليوم والليلة أربع وعشرون ساعة وثلاثة الأيام بلياليها أثنتان وسبعون ساعة .(150/3)
لكن متى تبتدئ هذه المدة ؟ تبتدئ هذه المدة من أول مرة مسح ، وليس من لُبس الخف ولا من الحدث بعد اللبس ، لأن الشرع جاء بلفظ المسح ، والمسح لا يتحقق إلا بوجوده فعلاً،"يمسح المقيم يوماً وليلة ويمسح المسافر ثلاثة أيام " فلا بد من تحقق المسح ، وهذا لا يكون إلا بابتداء المسح في أول مرة ، فإذا تمت أربع وعشرون ساعة من ابتداء المسح في أول مرة ، فإذا تمت أربع وعشرون ساعة من ابتداء المسح ، انتهى وقت المسح بالنسبة للمقيم ، وإذا تمت اثنتان وسبعون ساعة انتهى المسح بالنسبة للمسافر ، ونضرب لذلك مثلاً يتبين به الأمر :(150/4)
رجل تطهر لصلاة الفجر ، ثم لبي الخفين ثم بقي على طهارته حتى صلى الظهر وهو على طهارته ، وصلى العصر وهو على طهارته ، وبعد صلاة العصر في الساعة الخامسة تطهر لصلاة المغرب ثم مسح ، فهذا الرجل له أن يمسح إلى الساعة الخامسة من اليوم الثاني ، فإذا قدّر أنه مسح في اليوم الثاني في الساعة الخامسة إلا ربعاً ، وبقي على طهارته حتى صلّى المغرب وصلى العشاء ، فإنه حينئذٍ يكون صلى في هذه المدة صلاة الظهر أول يوم العصر والمغرب والعشاء ، والفجر في اليوم الثاني والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فهذه تسع صلوات صلاّها ، وبهذا علمنا أنه لا عبرة بعدد الصلوات كما مفهوم عند كثير من العامة ، حيث يقولون : إن المسح خمسة فروض هذا لا أصل له ، وإنما الشرع وقَّته بيوم وليلة تبتديء هذه من أول مرة مسح . وفي هذا المثال الذي ذكرنا عرفت كم صلى من صلاة ، وبهذا المثال الذي ذكرناه تبين أنه إذا تمت مدة المسح ، فإنه لا يمسح بعد هذه المدة ولو مسح بعد تمام المدة ، فمسحه باطل ، لا يرتفع به الحدث . لكن لو مسح قبل أن تتم المدة ثم استمر على طهارته بعد تمام المدة ، فإن وضوءه لا ينتقض ، بل يبقى على طهارته حتى يوجد ناقض من نواقض الوضوء ، وذلك لأن القول بأن الوضوء ينتقض بتمام المدة ، قول لا دليل له ، فإن َّ تمام المدة معناه أنه لا مسح بعد تمامها وليس معناه أن لا طهارة بعد تمامها، فإذا كان المؤقت هو المسح دون الطهارة ، فإنه لا دليل على انتقاضها بتمام المدة ، وحينئذ نقول في تقرير دليل ما ذهبنا إليه : هذا الرجل توضأ وضوءاً صحيحاً بمقتضى دليل شرعي صحيح ، وإذا كان كذلك فإنه لا يمكن أن نقول بانتقاض هذا الوضوء إلا بدليل شرعي صحيح ، ولا دليل على أنه ينتقض بتمام المدة ، وحينئذ تبقى طهارتُه حتى يوجد ناقض من نواقض الوضوء التي ثبتت بالكتاب أو السنة أو الإجماع .(150/5)
أما المسافر فله ثلاثة أيام بلياليها ، أي اثنتان وسبعون ساعة ، تبتدئ من أول مرة مسح ، ولهذا ذكر فقهاء الحنابلة - رحمهم الله - أن الرجل لو لبي خُفيه وهو مقيم في بلده ، ثم احدث في نفس البلد ثم سافر ولم يمسح إلا بعد أن سافر ، قالوا فإنه يُتم مسح مسافر في هذه الحالة ، وهذا مما يدل على ضعف القول بأن ابتداء المدة من أول حدث بعد اللبس .
والذي يبطل المسح على الخف : انتهاء المدة ، وكذلك أيضاً خلع الخف ، إذا خلع الخف بطل المسح لكن الطهارة باقية . ودليل كون خلع الخف يبطل المسح، حديث ُ صفوان بن عسال قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ننزع خفافنا " . فدلَّ هذا على أن النزع يبطل المسح فإذا نزع الإنسان خفه بعد مسحه بطل المسح عليه ، بمعنى أنه لا يعيد لبسه فيمسح عليه إلا بعد أن يتوضأ وضوءاً كاملاً يغسل فيه الرجلين .
وأما طهارته إذا خلعه ، فإنها باقية، فالطهارة لا تنتقض بخلع الممسوح ، وذلك لأن الماسح إذا مسح تمت طهارته بمقتضى الدليل الشرعي ، فلا تنتقض هذه الطهارة إلا بمقتضى دليل شرعي ، وليس هناك دليل شرعي على أنه إذا خلع الممسوح بطل الوضوء ، وإنما الدليل على أنه إذا خلع الممسوح بطل المسح ، أي لا يُعاد المسح مرة أخرى إلا بعد غسل الرجل في وضوء كامل، وعليه فنقول: إن الأصل بقاء هذه الطهارة الثابتة بمقتضى الدليل الشرعي حتى يوجد الدليل ، وإذا لم يكن دليل فإن الوضوء يبقي غير منتقض ، وهذا هو القول الراجح عندنا . والله الموفق .
99) وسُئل فضيلته :يشتهر عند العامة أنهم يمسحون على الخفين خمس صلوات فقط فهل عملهم هذا صحيح ؟(150/6)
فأجاب بقوله : نعم هذا مشهور عند العامة يظنون أن معنى كون المسح يوماً وليلة يعني أنه لا يمسح إلا خمس صلوات وهذا ليس بصحيح بل التوقيت بيوم وليلة يعني أن له أن يمسح يوماً وليلة سواء صلى خمس صلوات أو أكثر ، وابتداء المدة كما سبق من المسح ، فقد يصلي عشر صلوات أو أكثر ونضرب لذلك مثلاً : رجل لبس الخف لصلاة الفجر يوم الاثنين وبقي على طهارته حتى نام ليلة الثلاثاء ، فلما استيقظ الساعة الخامسة ( مثلاً ) مسح عليهما لصلاة الفجر ، فهنا له أن يمسح إلى ما قبل الساعة الخامسة بقليل من فجر الأربعاء ، فيكون هنا صلى بالخف يوم الاثنين الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء وكل هذه المدة لا تحسب له لأنها قبل المسح ، وصلى يوم الثلاثاء الفجر ومسح ، والظهر ومسح ، والعصر ومسح ، والمغرب ومسح ، والعشاء ومسح ، وكذلك يمكن أن يمسح لصلاة يوم الأربعاء ، إذا مسح قبل أن تنتهي المدة مثل أن يكون قد مسح يوم الثلاثاء لصلاة الفجر في الساعة الخامسة وفي يوم الأربعاء مسح في الساعة الخامسة إلا ربعاً وبقي على طهارته إلى أن صلى العشاء ليلة الخميس ، فحينئذٍ يكون صلى بهذا الوضوء صلاة الفجر يوم الأربعاء والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فيكون صلى خمس عشرة صلاة من حين لبس ، لأنه لبسها لصلاة الفجر يوم الأثنين وبقي على طهارته ولم يمسح إلا لصلاة الفجر يوم الثلاثاء الساعة الخامسة ومسح لصلاة الفجر يوم الأربعاء الساعة الخامسة إلا ربعاً وبقي على طهارته حتى صلى العشاء فيكون صلى خمس عشرة صلاة من حين لبس .
100) وسُئل - حفظه الله تعالى - عن شروط المسح على الخفين ؟
فأجاب قائلاً : يُشترط للمسح على الخفين أربعة شروط :
الشرط الأول : أن يكون لابساً لهما على طهارة. ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة : " دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين " .(150/7)
الشرط الثاني : أن تكون الخفان أو الجوارب طاهرة ،فإن كانت نجسة فإنه لا يجوز المسح عليها ، ودليل ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، صلى ذات يوم بأصحابه وعليه نعلان فخلعهما في أثناء صلاته ، وأخبر أن جبريل أخبره بأن فيهما أذى أو قذرا ً ، وهذا يدل على أنه لا تجوز الصلاة فيما فيه نجاسة ، ولأن النجس إذا مُسح عليه بالماء تلوث الماسح بالنجاسة .
الشرط الثالث : أن يكون مسحهما في الحدث الأصغر لا في الجنابة أو ما يوجب الغسل ، ودليل ذلك حديث صفوان بن عسال - رضي الله عنه _ قال : " أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كنا سفراً أن لا ننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن ، إلا من جنابة ولكن من غائط وبول ونوم " . فيشترط أن يكون المسح في الحدث الأصغر، ولا يجوز المسح في الحدث الأكبر لهذا الحديث الذي ذكرناه .
الشرط الرابع : أن يكون المسح في الوقت المحدد شرعاً، وهو يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيام بلياليها للمسافر، لحديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال : "جعل النبي صلى الله عليه وسلم للمقيم يوماً وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليهن". يعني في المسح على الخفين ، أخرجه مسلم . فهذه هي الشروط التي تُشترط للمسح على الخفين ، وهناك شروط أخرى ذكرها بعض أهل العلم ، وفي بعضها نظر .
101) وسُئل : هل يُشترط لجواز المسح على الخفين أن ينوي المسح عليهما وكذلك نية المدة ؟
فأجاب قائلاً : النية هنا غير واجبة لأن هذا عمل عُلّق الحكم على مجرد وجوده ، فلا يحتاج إلى نية ، كما لو لبس الثوب فإنه لا يشترط أن ينوي به ستر عورته في صلاته مثلاً، فلا يُشترط في لبس الخفين أن ينوي أنه سيمسح عليهما، ولا كذلك نية المدة ، بل إن كان مسافراً فله ثلاثة أيام نواها أم لم ينوها ، وإن كان مقيماً فله يوم وليلة نواها أم لم ينوها .
102) وسُئل فضيلة الشيخ : ما حكم المسح على الشراب الذي فيه صورة حيوان ؟(150/8)
فأجاب بقوله : لا يجوز المسح عليه ، لأن المسح على الخفين رخصة فلا تُباح بالمعصية ، لأن القول بجواز المسح على ما كان محرماً مقتضاه إقرار هذا الإنسان على لبس المحرم ، والمحرم يجب إنكاره ، ولا يقال هذا من باب ما يُمتهن فيجوز ، لأن هذا من باب اللباس ولبس ما فيه صورة حرام بكل حال ، فلو كان على الشراب مثلاً صورة أسد فإنه لا يجوز المسح عليهما .
103) وسُئل : عما اشترطه بعض العلماء من كون الجورب والخف ساترين لمحل الفرض ؟
فأجاب بقوله : هذا الشرط ليس بصحيح ، لأنه لا دليل عليه فإن اسم الخف أو الجورب ما دام باقياً فإنه يجوز المسح عليه ، لأن السنة جاءت بالمسح على الخف على وجه مطلق ، وما أطلقه الشارع فإنه ليس لأحد أن يقيده إلا إذا كان لديه نص من الشارع أو إجماع أو قياس صحيح ، وبناء على ذلك فإنه يجوز المسح على الخف المخرق ويجوز المسح على الخف الخفيف ، لأن كثيراً من الصحابة كانوا فقراء ، وغالب الفقراء لا تخلوا خِفافهم من خروق ، فإذا كان هذا غالباً أو كثيراً في قوم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولم يُنبّه عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ، دلّ ذلك على أنه ليس بشرط ، ولأنه ليس المقصود من الخف ستر البشرة ، وإنما المقصود من الخف أن يكون مدفئاً للرجل، ونافعاً لها ، وإنما أجيز المسح على الخف ، لأن نزعه يشق ، وهذا لا فرق فيه بين الجورب الخفيف والجورب الثقيل ، ولا بين الجورب المخرق والجورب السليم ، والمهم أنه ما دام اسم الخف باقياً ، فإن المسح عليه جائز لما سبق من الدليل .
104) سُئل الشيخ - حفظه الله تعالى - عما ذهب إليه بعض العلماء من جواز المسح على كل ما لبس على الرجل ؟(150/9)
فأجاب بقوله : هذا القول الذي أشار إليه السائل ، وهو جواز المسح على كل ما لُبس على الرِّجل هو القول الصحيح ، وذلك أن النصوص الواردة في المسح على الخفين كانت مطلقة غير مقيدة بشروط ، وما ورد عن الشارع مطلقاً فإنه لا يجوز إلحاق شروط به ، لأن إلحاق الشروط به تضييق لما وسعه عز وجلّ ورسوله . والأصل بقاء المطلق على إطلاقه ، والعام على عمومه ، حتى يرد دليل على التقييد أو التخصيص . وقد حكى بعضُ أصحاب الشافعي عن عمر وعلي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - جواز المسح على الجورب الرقيق ، وهذا يعضُد القول بجواز المسح على الجوارب الخفيفة الرقيقة وعلى الجوارب المخرقة ، وكذلك على القول الراجح المسح على اللفافة ، بل إن جواز المسح على اللفافة أولى لمشقة حلها ولفها ، وهذا هو الي يتمشى مع قوله عز وجل حين ذكر آية الطهارة في الوضوء والغسل والتيمم ، قال : ? مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? (1) .
105) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم المسح على الجورب المخرق والخفيف ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : القول الراجح أنه يجوز المسح على الجورب المخرق والجورب الخفيف الذي تُرى من ورائه البشرة ، لأنه ليس المقصود من جواز المسح على الجورب ونحوه ان يكون ساتراً ، فإن الرِّجل ليست عورة يجب سترها، وإنما المقصود الرخصة على المُكلَّف والتسهيل عليه ، بحيث لا نُلزمه بخلع هذا الجورب أو الخف عند الوضوء ، بل نقول : يكفيك أن تمسح عليه ، هذه هي العلة التي من أجلها شُرع المسح على الخفين ، وهذه العلة - كما ترى - يستوي فيها الخف أو الجورب المخرق والسليم والخفيف والثقيل .
106) وسُئل فضيلة الشيخ : هل يشترط لجواز المسح على الخف أن يثبت بنفسه أو لا ؟(150/10)
فأجاب بقوله : الصحيح أنه لا يُشترط ذلك ، وذلك أن النصوص الواردة في المسح على الخفين مطلقة ، فما دام يمكن أن ينتفع بهذا ، ويمشي به ، فما المانع ؟ فقد يكون الإنسان ليس عنده إلا هذا الخف ، أو كان مريضاً مقعداً يلبس مثل هذا الخف للتدفئة ، فلا دليل على اشتراط هذا الشرط .
107) وسُئل الشيخ : ما حكم المسح على النعل والخف ؟
فأجاب فضيلته بقوله : المسح على النعل لا يجوز بل لا بد من خلع النعل وغسل الرِّجل ، اما الخف هو ما يستر الرجل ، فإنه يجوز المسح عليه سواء كان من جلد أو من قطن أومن صوف أو من غيرها ، بشرط أن يكون مما يحل لبسه ، أما إذا كان مما يحرم لبسه كالحرير بالنسبة للرجل ، يعني لو لبس الرجل شراباً من حرير ، فإنه لا يجوز له أن يمسح عليه لأنه محرم عليه لبسهُ ، فإذا كان مباحاً جاز المسح عليه إذا لبسه على طهارة ، وكان في المدة المقدرة شرعاً ، وهي يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ، تبتديء هذه المدة من أول مرة مسح بعد الحدث، وتنتهي بتمام أربعٍ وعشرين ساعة للمقيم ، واثنتين وسبعين ساعة بالنسبة للمسافر .
108) سُئل فضيلة الشيخ : هل يدخل في معنى الخف اللفائف ؟
فأجاب - حفظه الله - بقوله : نعم يدخل في معنى الخف اللفائف ، لأن اللفائف يُعذر فيها صاحبُها أكثر من الخف ، لأن الذي يخلع الخف ثم يغسل الرِّجل ثم يلبس الخف ، أسهل من الذي يحل هذه اللفائف ثم يعيدها مرة أُخرى ، فإذا كان الخف قد أباح الشرعُ المسح عليه ، فاللفافة من باب أولى ، ثم إن السِّرية التي بعثها النبي صلى الله عليه وسلم ، وأمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين ، فيمكن أن نأخذ من كلمه التساخين جواز المسح على اللفافة ، لأنه يحصل بها التسخين والغرض الذي من أجله لبس الخفاف .
109) وسُئل - جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً - عن المسح على العمامة؟(150/11)
فأجاب فضيلته بقولة : العمامة قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم جوز المسح عليها ، وهي من حيث النظر أولى من المسح على الخفين ، لأنها ملبوسة على ممسوح ، وطهارة هذا العضو ، وهو الرأس أخف من طهارة الرجلين ، لأن طهارة الرأس تكون بالمسح ، فالفرع عنه وهي العمامة يكون أولى بالمسح من الملبوس على المغسول . ولكن هل يُشترط فيها ما يُشترط في الخف بأن يلبسها على طهارة ، وتتقيد مدتها بيوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ، أو ان المسح عليها مطلق متى كانت على الرأس مسحها سواء لبسها على طهارة أم لا وبدون توقيت ، إلا إنه في الحدث الأكبر لا يمسح عليها لأنه لا بد من الغسل لجميع البدن ؟ هذا فيه خلاف بين أهل العلم ، والذي قالوا لا يشترط لبسها على طهارة ولا مدة لها ، قالوا لأنه ليس في ذلك دليل عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقياسها على الخفين على ما يقولون قياسٌ مع الفارق ، لأن الخفين لُبسا على عضو مغسول، وأما هذه فقد لُبستْ على عضو ممسوح طهارته أخف ، فلهذا لا يشترط للبسها طهارة ولا توقيت لها . ولكن لا شكّ أن الاحتياط أوْلى ، والأمر في هذا سهل فإنه ينبغي أن لا يلبسها إلا على طهارة ، وأن يخلعها إذا تمت مدة المسح ، ويمسح رأسه ثم يعيدها .
110) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم المسح على العمامة ، وهل لها توقيت ؟
فأجاب بقولة : المسح على العمامة مما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث المغيره بن شعبة رضي الله عنه ، فيجوز المسح عليها ، فُيمسح على العمامة كلها أو أكثرها ، ويُسنّ أيضاً أن يمسح ما ظهر من الرأس كالناصية وجانب الرأس والأذنين . ولا يُشترط لها توقيت ، لأنه لم يثبت عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه وقتها ، ولأن طهارة العضو التي هي عليه أخف من طهارة عضو الخف ، فلا يمكن الحاق هذا بهذا ، فمتى كانت عليك فامسح وإذا لم تكن عليك فامسح الرأس ولا توقيت فيها .(150/12)
لكن لو سلكت سبيل الاحتياط فلم تمسحها إلا إذا لبستها على طهارة وفي المدة المحددة للخفين لكان حسناً .
111) وسُئل : هل يدخل في حكم العمامة الشماغ والطاقية والقبع الشامل للراس والأذنين ؟
فأجاب قائلاً : أما شماغ الرَّجل والطاقية ، فلا تدخل في العمامة قطعاً .
وأما ما يلبس في أيام الشتاء من القبع الشامل للرأس والأذنين ، والذي قد تكون في أسفله لفّة على الرقبة ، فإن هذا مثل العمامة لمشقة نزعه فيُمسح عليه .
112) وسُئل فضيلته : هل يجوز المسح على الطربوش ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : الظاهر أن الطربوش إذا كان لا يَشُقُّ نزعه ، فلا يجوز المسح عليه لأنه يشبه الطاقية من بعض الوجوه ، والأصل وجوب مسح الراس حتى يتبين للإنسان أن هذا مما يجوز المسح عليه .
113) وسُئل - حفظه الله تعالى : - هل يجوز للمرأة أن تمسح على خمارها ؟
فأجاب بقوله : المشهور من مذهب الإمام أحمد ، أنها تمسح على الخمار إذا كان مداراً تحت حلقها ، لأن ذلك قد ورد عن بعض نساء الصحابة - رضي الله عنهن .
وعلى كل حال فإذا كانت هناك مشقة ، إمّا لبرودة الجو أو لمشقة النَّزع واللّف مرة أخرى ، فالتسامح في مثل هذا لا بأس به وإلا فالأْولى ألا تمسح .
114) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا لبَّت المرأة رأسها بالحناء ونحوه ، فهل تمسح عليه ؟
فأجاب بقوله : إذا لّبت المرأة رأسها بالحناء فإنها تمسح عليه ، ولا حاجة إلى أنها تنقض الرأس وتحت هذا الحناء ، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان في إحرامه ملبّداً رأسه . فما وُضِعَ على الرأس من التلبيد فهو تابع له ، وهذا يدلّ على أن تطهير الرأس فيه شيء من التسهيل .
115) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم المسح على الجبيرة ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - بقوله : لابد أولا ًأن نعرِّف ما هي الجبيرة ؟(150/13)
الجبيرة في الأصل ما يُجَبر به الكسر ، والمراد بها في عرف الفقهاء " ما يوضع على موضع الطهارة لحاجة " ، مثل الجبس الذي يكون على الكسر ، أو اللزقة التي تكون على الجرح ، أو على ألم في الظَّهر أو مأ أشبه ذلك ، فالمسح عليها بجزيء عن الغسل . فإذا قدرنا أن ذراع المتوضئ لزقة على جرح يحتاج إليها ، فإنه يمسح عليها بدلاً عن الغسل وتكون هذه الطهارة كاملة ، بمعنى أنه لو فُرض أن هذا الرَّجل نزع هذه الجبيرة أو اللزقة ، فإن طهارته تبقى ولا تنتقض لأنها تمت على وجه شرعي . ونزع اللزقة ليس هناك دليل على أنه ينقض الوضوء أو ينقض الطهارة وليس في المسح على الجبيرة دليل خالٍ من معارضة ، فيها أحاديث ضعيفة ذهب إليها بعض أهل العلم ، وقال : إن مجموعها يرفعها إلى أن تكون حجة .
ومن أهل العلم من قال : إنه لضعفها لا يعتمد عليها ، وهؤلاء اختلفوا ، فمنهم من قال : يسقط تطهير محل الجبيرة ، لأنه عاجز عنه . ومنهم من قال : بل يتيمم له ولا يمسح عليها .
لكن أقرب الأقوال إلى القواعد بقطع النظر عن الأحاديث الواردة فيها ، أقرب الأقوال أنه يمسح ، وهذا المسح يغنيه عن التيمم فلا حاجة إليه ، وحينئذٍ نقول : إنه إذا وجد جرح في أعضاء الطهارة فله مراتب :
المرتبة الأولى : أن يكون مكشوفاً ولا يضره الغسل ، ففي هذه المرتبة يجب عليه غسله إذا كان في محلٍ يُغسل .
المرتبة الثانية : أن يكون مكشوفاً ويضره الغسل دون المسح ، ففي هذه المرتبة يجب عليه المسح دون الغسل .
المرتبة الثالثة : : أن يكون مكشوفاً ويضره الغسل والمسح ، فهنا يتيمم له .
المرتبة الرابعة : أن يكون مستوراً بلزقة أو شبهها محتاج إليها ، وفي هذه المرتبة يمسح على هذا الساتر ، ويغنيه عن غسل العضو ولا يتيمم .
116) وسُئل : هل يشترط للجبيرة أن لا تكون زائدة عن الحاجة ؟(150/14)
فأجاب قائلاً : الجبيرة لا يُمسح عليها إلا عند الحاجة فيجب أن تقدر بقدرها ، وليست الحاجة هي موضع الألم أو الجرح فقط ، بل كل ما يحتاج إليه في تثبت هذه الجبيرة أو هذه اللزقة مثلاً فهو حاجة ، فلو كان الكسر في الإصبع ولكن احتجنا أن نربط كل الرَّاحة لتستريح اليد ، فهذه حاجة .
117) وسُئل فضيلة الشيخ : هل يجب الجمع بين التيمم والمسح على الجبيرة أو لا؟
فأجاب بقوله : لا يجب الجمع بين المسح والتيمم ، لأن إيجاب طهارتين لعضو واحد مخالف لقواعد الشريعة ، لأننا نقول : يجب تطهير هذا العضو إما بكذا وإما بكذا ، أما أن نوجب تطهيره بطهارتين ، فهذا لا نظير له في الشريعة ، ولا يكلِّف الله عبداً بعبادتين سببهما واحد .
118) وسُئل : هل يجب أن يعم الإنسان الجبيرة عند المسح عليها ؟
فأجاب بقوله : نعم يعمها كلها ، لأن الأصل أن البدن له حكم المبدل ما لم ترد السنة بخلافه ، فهنا المسح بدل عن الغسل فكما أن الغسل يجب أن يعم العضو كله ، فكذلك المسح يجب أن يعم جميع الجبيرة ، واما المسح على الخفين فهو رخصة وقد وردت السنة بجواز الاكتفاء بمسح بعضه .
119) سُئل فضيلة الشيخ : هل هناك فرق بين المسح على الخفين والمسح على الجبيرة ؟
فأجاب قائلاً : نعم هناك فروق منها :
أولاً : أن المسح على الخفين مقدر بمدة معنية ، أما المسح على الجبيرة فله أن يمسح عليها ما دامت الحاجة داعيه إلى بقائها .
ثانياً : أن الجبيرة لا تختص بعضو معين والخف يختص بالرِّجل .
ثالثاً : المسح على الخفين يُشترط فيه أن يلبسهما على طهارة بخلاف الجبيرة فلا تشترط لها الطهارة .
رابعاً : أن الجبيرة يمسح عليها في الحدث الأصغر والحدث الأكبر بخلاف الخف كما سبق ، فإذا وجب عليه الغسل يمسح عليها كما يمسح في الوضوء .
120) وسُئل : إذا تطهَّر الإنسان بالتيمم ولبس الخفين ، فهل يجوز له أن يمسح عليهما إذا وجد الماء ؟(150/15)
فأجاب بقوله : لا يجوز له أن يمسح على الخفين إذا كانت الطهارة طهارة تيمم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " فإني أدخلتهما طاهرتين " . وطهارة التيمم لا تتعلق بالرِّجل ، إنما هي في الوجه والكفين فقط ، وعلى هذا أيضاً لو أن إنساناً ليس عنده ماء ، أو كان مريضاً لا يستطيع استعمال الماء في الوضوء ، فإنه يلبس الخفين ولو كان على غير طهارة وتبقيان عليه بلا مدة محدودة حتى يجد الماء إن كان عادِماً له ، أو يشفى من مرضه إن كان مريضاً ، لأن الرِّجل لا علاقة لها بطهارة التيمم .
121) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم من توضأ فغسل رجله اليمنى ، ثم لبس الخف أو الجورب ، ثم غسل اليسرى ولبس الجورب عليها أو الخف ؟
فأجاب قائلاً : هذه المسألة محل خلاف بين أهل العلم فمنهم من قال : لا بد أن يُكمل الطهارة قبل أن يلبس الخف أو الجورب ، ومنهم قال : إنه يجوز إذا غسل اليمنى أن يلبس الخف أو الجورب ثم يغسل اليسرى ويلبس الخف أو الجورب ، فهو لم يدخل اليمنى إلا بعد أن طهرَّها واليسرى كذلك ، فيصدق عليه أنه أدخلهما طاهرتين . لكن هناك حديث أخرجه الدار قطني والحاكم وصححه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا توضأ أحدكم ولبس خفيه " . الحديث . فقوله : " إذا توضأ " قد يرجح القول الأول ، لأن من لم يغسل اليسرى لا يصدق عليه أن توضأ فعليه فالقول به أولى .
122) وسُئل حفظه الله:إذا مسح الإنسان وهو مقيم ثم سافر فهل يتم مسح مسافر ؟
فأجاب قائلاً : إذا مسح وهو مقيم ثم سافر فإنه يتم مسح مسافر على القول الراجح ، وقد ذكر بعض أهل العلم أنه إذا مسح في الحضر ثم سافر ، أتمّ مسح مقيم ، ولكن الراجح ما قلناه ، لأن هذا الرجل قد بقي في مدة مسحه شيء قبل أن يسافر وسافر، فيصدق عليه أنه من المسافرين الذين يمسحون ثلاثة أيام ، وقد ذكر عن الإمام أحمد - رحمه الله أنه رجع إلى هذا القول بعد أن كان يقول بأنه يتم مسح مقيم .(150/16)
123) وسُئل : إذا مسح الإنسان وهو مسافر ثم أقام فهل يتم مسح مقيم ؟
فأجاب - حفظه الله ورعاه - بقوله : إذا مسح مسافراً ثم أقام فإنه يتم مسح مقيم على القول الراجح إن كان بقي من مدته شيء وإلا خلع عند الوضوء وغسل رجليه .
124) وسُئل فضيلة الشيخ:إذا شكَّ الإنسان في ابتداء المسح ووقته فماذا يفعل ؟
فأجاب قائلاً : في هذه الحال يبني على اليقين ، فإذا شكَّ هل مسح لصلاة الظهر أو لصلاة العصر فإنه يجعل ابتداء المدة من صلاة العصر ، لأن الأصل عدم المسح . ودليل هذه القاعدة هو أن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، وأن الأصل العدم ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام ، شكى إليه الرَّجل يخيَّل إليه أن يجد الشيء في صلاته فقال : " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " .
125) وسُئل : إذا مسح الإنسان على الكنادر ثم خلعها ومسح على الشراب فهل يصح مسحه ؟
فأجاب قائلاً : المعروف عند أهل العلم أنه إذا مسح أحد الخفين الأعلى أو الأسفل تعلق الحكم به ولا ينتقل إلى ثانٍ ، ومنهم من يرى أنه يجوز الانتقال إلى الثاني إذا كان الممسوح هو الأسفل ما دمادامت المدة باقية .
وهذا هو القول الراجح. وعلى هذا فلو توضأ ومسح على الجوارب ثم لبس عليها جوارب أخرى ، أو كنادر ومسح العليا ، فلا بأس به على القول الراجح ما دامت المدة باقية ، لكن تُحسب المدة من المسح على الأول لا من المسح على الثاني .
126) وسُئل فضلية الشيخ : عن كيفية المسح على الخفين ؟(150/17)
فأجاب بقوله : كيفية المسح أن يمرَّ يده من أطراف أصابع الرِّجل إلى ساقه فقط ، يعني أن الذي يُمسح هو أعلى الخف فيمر يده من عند أصابع الرِّجل إلى الساق فقط ، ويكون المسح باليدين جميعاً على الرجلين جميعاً ، يعني اليد اليمنى تَمسح الرِّجل اليمنى ، واليد اليسرى تمسح الرِّجل اليسرى في نفس اللحظة ، كما تُمسح الأذنان ، لأن هذا هو ظاهر السنة لقول المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - " فمسح عليهما " ولم يقل بدأ باليمنى بل قال: " مسح عليهما " فظاهر السنة هو هذا . نعم لو فرض أن إحدى يديه لا يعمل بها فيبدأ باليمنى قبل اليسرى، وكثير من الناس يمسح بكلتا يديه على اليمنى وكلتا يديه على اليسرى ، وهذا لا أصل له فيما أعلم ، وإنما العلماء يقولون : يمسح باليد اليمنى على اليمنى ، واليد اليسرى على اليسرى . وعلى أي صفة مسح أعلى الخف فإنه يُجزيء لكن كلامنا هذا في الأفضل .
127) وسُئل فضيلة : عن حكم مسح أسفل الخف ؟
فأجاب فضيلته قائلاً : مسح أسفل الخف ليس من السنة ، ففي السنن من حديث علي بن ابي طالب - رضي الله عنه - قال : " لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه ، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح ظاهر خفيه " . وهذا يدل على أن المشروع مسح الأعلى فقط .
128) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا أدخل الإنسان يده من تحت الشراب فهل يبطل مسحه ؟ وكذلك إذا خلعها ؟
فأجاب - حفظه الله تعالى - قائلاً : إذا أدخل يديه من تحت الشراب " الجوارب " فلا بأس في ذلك ولا حرج ، ولا يبطل المسح بذلك لأنه لم يخلعهما . أما إن خلعهما فُينظر إن خلع جزءاً يسيراً فلا يضر ، وإن خلع شيئاً كثيراً بحيث يظهر أكثر القدم، فإنه يبطل المسح عليهما في المستقبل.
129) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا نزع الإنسان الشراب وهو على وضوء ثم أعاداها قبل أن ينتقض وضوءه فهل يجوز له المسح عليها ؟(150/18)
فأجاب بقوله: إذا نزع الشراب ثم أعادها وهو على وضوئه فلا يخلو من حالين :
الأولى : أن يكون هذا الوضوء هو الأول ، أي إنه لم ينتقض وضوءه بعد لبسه فلا حرج عليه أن يعيدها ويمسح عليها إذا توضأ .
الثانية : إذا كان هذا الوضوء وضوءاً مسح فيه على شرابه ، فإنه لا يجوز له إذا خلعها أن يلبسها ويمسح عليها ، لأنه لا بد أن يكون لبسهما على طهارة بالماء ، وهذه طهارة بالمسح ، هذا ما يعلم من كلام أهل العلم ولكن إن كان أحد قال بأنه إذا أعادها على طهارة ولو طهارة المسح ، له أن يمسح ما دامت المدة باقية ، فإن هذا قول قوي ، ولكنني لم أعلم أن أحداً قال به ، فالذي يمنعني من القول به هو أنني لم أطَّلع على أحد قال به ، فإن كان قال به أحد من أهل العلم فهو الصواب عندي ، لأن طهارة المسح طهارة كاملة ، فينبغي أن يُقال إنه إذا كان يمسح على ما لبسه على طهارة غسل ، فليمسح على ما لبسه على طهارة مسح، لكنني ما رأيت أحداً قال بهذا . والعلم عند الله .
130) سُئل فضيلة الشيخ : إذا خلع الإنسان خفيه بعد أن مسح عليهما فهل تبطل طهارته ؟
فأجاب بقوله : إذا خلع الخف أو الجورب بعد أن مسح عليه فلا تبطل طهارته على القول الصحيح ، لكن يبطل مسحه دون طهارته ، فإذا أرجعها مرة أخرى وانتقض وضوءه ، فلا بد أن يخلع الخف ويغسل رجليه ، والمهم أن نعلم أنه لا بد أن يلبس الخف على طهارة غسل فيها الرِّجل على ما علمنا من كلام أهل العلم . ولأن هذا الرّجل لمّا مسح على الخف تمت طهارته بمقتضى دليل شرعي ، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا ينتقض إلا بدليل شرعي ، وعلى هذا فلا ينتقض وضوءه إذا خلع خفيه بل يبقى على طهارته إلى وجود ناقض من نواقض الوضوء المعروفة . ولكن لو أعاد الخف بعد ذلك وأراد أن يمسح عليه في المستقبل فلا ، على ما أعلمه من كلام أهل العلم .
131) وسُئل حفظه الله : هل إذا تمت المدة فهل ينتقض الوضوء ؟(150/19)
فأجاب فضيلته بقوله : لا ينتقض الوضوء بانتهاء المدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، إنما وقَّت مدة المسح لا انتهاء الطهارة ، فليس الموَّقت الطهارة حتى نقول إذا تمت مدة المسح انتقضت ، بل الموقت المسح ، فنحن نقول : إذا تمت المدة لا تمسح ، لكن قبل تمام المدة إذا مسحت وأنت على طهارة فإن طهارتك هذه قد تمت بمتقضى دليل شرعي ، وما تم بمقتضى دليل شرعي فلا ينتقض إلى بمقتضى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك والأصل بقاء الطهارة وعدم النقض ، وفي مسألة النقض أصل أصَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الرَّجُل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " فلم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء إلا على من تيقَّن سبب وجوبه ، ولا فرق بين كون سبب الوجوب مشكوكاً فيه من حيث الواقع كما في الحديث ، أو من حيث الحكم الشرعي ، فإن في كل جهالة ، هذا جاهل بالواقع هل حصل أو لم يحصل ؟ وهذا جاهل بالشرع هل يوجب أو لا ؟ فإذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً " عُلم أنه لا ينتقض الوضوء إلا باليقين وهنا لا يقين فتبقى الطهارة .
132) وسُئل الشيخ - حفظه الله تعالى : مَن مسح على خفيه بعد انتهاء المدة وصلى بهما فما الحكم ؟(150/20)
فأجاب فضيلته بقوله : إذا انتهت مدة مسح الخفين ثم صلى الإنسان بعد انتهاء المدة ، فإن كان أحدث بعد انتهاء المدة ومسح ، وجب عليه إعادة الوضوء كاملاً بغسل رجليه ، ووجب عليه إعادة الصلاة ، وذلك لأنه لم يغسل رجليه فقد صلّى بوضوء غير تام . وأما إذا انتهت مدة المسح وبقي الإنسان على طهارته ، وصلى بعد انتهاء المدة فصلاتُه صحيحة لأن انتهاء مدة المسح لا ينقض الوضوء ، وإن كان بعض العلماء يقولون : إن انتهاء مدة المسح ينقض الوضوء ، لكنه قولٌ لا دليل عليه ، وعلى هذا فإذا تمت مدة المسح وبقي الإنسان على طهارته بعد انتهاء المدة ، ولو يوماً كاملاً ، فله أن يصلي ولو بعد انتهاء المدة ، لأن وضوءَه قد ثبت بدليل شرعي فلا يرتفع إلا بدليل شرعي ، ولا دليل على النبي صلى الله عليه وسلم يدلُّ على أن انتهاء مدة المسح موجب للوضوء . الله أعلم .
133) وسُئل فضيلته : هل هناك فرق بين الرجال والنساء في أحكام المسح على الخفين ؟
فأجاب بقوله : ليس هناك فرق بين الرجال والنساء في هذا وينبغي أن نعلم قاعدة وهي " أن الأصل أن ما ثبت في حق الرجال ثبت في حق النساء ، وأن ما ثبت في حق النساء ثبت في حق الرجال إلا بدليل يدل على افتراقهما " .
رسالة
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً :
بسم الله الرحمن الرحيم
هذه بحوث في المسح على الخفين :
البحث الأول : في المسح على المخرَّق ، وما تُرى منه البشرة لصفائه أو رقَّته وفي هذا خلاف بين العلماء :
فالمشهور من مذهب الإمام أحمد أن المسح عليه لا يصح . قال في المنتهى في معرض ذكر شروط المسح : وأن لا يصف البشرة لصفائه أو خفته . وذكر قبله أنه يُشترط ستر محل الفرض .(150/21)
وفي المجموع فقه الشافعية للنووي 1//480 ذكر قولين في الخُف المخرَّق، أصحهما لا يمسح ، وفي ص 481 منه أن ابن المنذر حكى عن الثوري وإسحاق ويزيد بن هارون ، وأبى ثور ، جواز المسح على جميع الخفاف . قال ابن المنذر : وبه أقول لظاهر إباحة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المسح على الخفين قولاً عامّاً يدخل فيه جميع الخفاف .أهـ .
وفي الاختبار لشيخ الإسلام ابن تيميه ص 13 أن الخف الممزَّق يجوز المسح عليه ما دام اسم الخف باقياً ، والمشي فيه ممكناً ، وهو قديم قولي الشافعي واختيار أبي البركات وغيره من العلماء .
وفي المحلىَّ 2/100 جواز المسح على المخرَّق ولو ظهر أكثر القدمين ما دام يتعلق بالرِّجلين منهما شيء ونقل عن سفيان الثوري أنه قال : امسح مادام يُسمى خفًّا.
وفي المجموع 2/482 إذا تخرَّقت الظهارة فإن كانت البطانة صفيقة ، جاز المسح وإلا فلا ، لأنه كالمكشوف ، قال : وحكى الروياني والرافعي وجهاً غريباً ضعيفاً أنه يجوز وإن كانت البطانة رقيقة . وفي ص 484 حكى ابن المنذر إباحة المسح على الجورب عن تسعة من الصحابة - رضي الله عنهم - إلى أن قال : وحكى أصحابنا عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً . وحكوْه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود اهـ . وفي ص 486 إذا لبس خفَّ زجاج يمكن متابعة المشي عليه جاز المسح عليه ، وإن كان ترى تحته البشرة .
وفي ص 24 جـ 1 من جواهر الإكليل شرح مختصر خليل ، أن الجورب ملبوس رجل على هيئة الخف منسوج من قطن أو كتَّان أو صوف يسمى في عُرف أهل مصر شراباً .
البحث الثاني : إذا لبس خفّاً على خف فلا يخلو من حالين :
الأولى : أن يكون بعد الحدث فالحكم للأسفل ولا يمسح الأعلى.(150/22)
الثانية : أن يكون قبل الحدث فهو بالخيار ، فإن مسح الاسفل تعلق الحكم به ولا يضره نزع الأعلى ، وإن مسح الأعلى تعلق الحكم به فإن نزعه لزم نزع الأسفل ، ومتى مسح أحدهما لم ينتقل إلى الثاني. ولا يصحّ المسح عليهما إنا كانا مُخرَّقين، ولا على الاسفل إن كان هو المخرَّق . وفي الفروع 1/160 : ولا يمسح خفين لُبسا على ممسوحين .. ويتوجه الجواز (و) لمالك وفي 172: وإن نزع خفّاً فوْقانيّاً مسحه فإنه يلزم نزع التحتاني .. فيتوضأ أو يغسل قدميه على الخلاف ، وعنه لايلزمه ( و هـ م ) فيتوضأ أو يمسح التحتاني مفرداً على الخلاف اهـ .
قلت : وعلى القول بأن النزع لا ينقض الطهارة لاشيء عليه .
وفي المجموع للنووي 1/490 ، إذا جوَّزنا المسح على الجرموق (ملبوس رِجل يُلبس فوق الخف لا سيما في البلاد الباردة ) فقد ذكر أبو العباس بن سريج فيه ثلاثه معانٍ أصحّها : أن بدل عن الخف ، والخف بدل عن الرجل . الثاني : أن الأسفل كُلفافة والأعلى هو الخف . والثالث : أنهما كخف واحد ، فالأعلى طهارة والأسفل بطانة . وفرَّع الأصحاب على هذه المعاني مسائل كثيرة ، وذَكر منها لو نزعه بعد مسحه وبقي الأسفل بحالة ، فإن قلنا بالأول لم يجب نزع الأسفل فيمسحه ، لكن هل يكفيه مسحه أوْ لابد من إعادة الوضوء ؟ فيه القولان في نازع الخفين ، وإن قلنا بالثالث فلا شيء عليه ، وإن قلنا بالثاني ، وجب نزع الأسفل وغسل القدمين ، وفي وجوب استئناف الوضوء القولان ، فحصل من الخلاف في المسالة خمسة أقوال :(150/23)
أحدها : لا يجب شيء وأصحها مسح الأسفل فقط . الثالث : يجب مسحه مع استئناف الوضوء . الرابع : يجب نزع الخفين وغسل الرجلين . الخامس : يجب النزع واستئناف الوضوء . وفي ص 490 أيضاً : إذا لبس الخف على طهارة ثم أحدث ومسح عليه ثم لبس الجرموق على طهارة المسح ، ففي جواز المسح عليه وجهان مشهوران . ثم قال عن الجواز إنه الأظهر المختار لأنه لبس على طهارة وقولهم : إنها طهارة ناقصة غير مقبول . قال الرافعي : قال الشيخ أبو علي : إذا جوَّزنا المسح عنا فابتداء المدة من حين أحدث بعد لبس الخف لا من لبس الجرموق . اهـ وقوله من حيث أحدث بناء على أن ابتداء المدة من الحدث ، وسيأتي الخلاف في ذلك .
البحث الثالث : في توقيت مدة المسح :
وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم . فجمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم على أن المسح مؤقت بيوم وليلة للمقيم . وثلاثة أيام بلياليها للمسافر . وقال بعض العلماء لا توقيت فيه . وفي المجموع 1/ 467 : حكاه أصحابنا عن أبي سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وربيعة والليث وأكثر أصحاب مالك ، وهو المشهور عنه ، وعنه أنه مؤقت وعنه مؤقت للحاضر دون المسافر . قال ابن المنذر : وقال سعيد بن جبير : يمسح غدوة إلى الليل اهـ . وقال شيخ الإسلام في الاختيارات ص 15: ولا تتوقت مدة المسح في المسافر الذي يشق اشتغاله بالخلع واللبس ، كالبريد المجهز في مصلحة المسلمين .
وإذا قلنا بالتوقيت فمن أين يبتدئ ؟
الجمهور من أهل العلم على أن َّ ابتداء المدة : من أول حدث بعد اللبس .
وفي المجموع 1/ 470 : وقال الأوزاعي وأبو ثور : ابتداء المدة من حين يمسح بعد الحدث . وهو رواية عن أحمد وداود - وهو المختار الراجح دليلاً - واختاره ابن المنذر وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وحكى الماوردي والشاشي عن الحسن البصري ان أبتداءها من اللبس . أهـ .
البحث الرابع :(150/24)
إذا تغيرت حال اللابس من إقامة إلى سفر أو بالعكس فبأيهما يعتبر ؟
وهذا له ثلاث حالات :
الحال الأولى :أن يكون التغير قبل الحدث ، مثل أن يلبس الخفين مقيماً ثم يسافر قبل أن يُحدث . أو يلبسهما مسافراً ثم يقدم بلده قبل أن يُحدث ، ففي المسألة الأولى يمسح مسح مسافر ، قال في المجموع 2/ 472. في المسألة الثانية يمسح مسح مقيم ولا إشكال في ذلك .
الحال الثانية : أن يكون التغير بعد الحدث وقبل المسح ، مثل أن يلبس الخفين مقيماً ثم يُحدث ثم يسافر قبل أن يمسح . أو يلبسهما مسافراً ثم يُحدث ثم يقدم بلده قبل أن يمسح.ففي المسالة الأولى يمسح مسح مسافر. قال في الإنصاف 1/179 هذا المذهب - وعليه الأصحاب - ورمز لذلك في الفروع 1/168 بالواو إشارة لموافقة الأئمة الثلاثة. قال وعنه مسح مقيم إلخ اهـ. وفي المغني 1/290 لا نعلم بين أهل العلم خلافاً في أن من لم يمسح حتى سافر أنه يتم مسح المسافر اهـ . وفي المسالة الثانية يمسح مسح مقيم ، ولم أرّ في ذلك خلافاً .
الحالة الثالثة : أن يكون التغير بعد الحدث والمسح ، مثل أن يلبس الخفين ويمسح عليهما مقيماً ثم يسافر ، أو يلبس الخفين ويمسح عليهما مسافراً ثم يقدم بلده بعد ذلك . ففي هذه الحال خلاف بين أهل العلم :
أما المسألة الأولى : فلا يخلوا إما أن تكون مدة مسح المقيم قد انتهت أوْلاً . فإن كانت قد انتهت فلا مسح ، ولم أرَ في ذلك خلافاً إلا ما ذكره في المحلىَّ 2/109 أنه يتم مسح مسافر .
وإن كانت مدة مسح المقيم باقية ، ففي ذلك خلاف : فمذهب مالك والشافعي وأحمد في رواية عنه وإسحاق وداود في رواية عنه يتم مسح مقيم . ومذهب أبي حنيفة والثوري يتم مسح مسافر وهو رواية عن أحمد وداود ( انظر المجموع 1/472 ) قال في المغني : 1/292 قال الخلال : رجع أحمد عن قوله الأول إلى هذا . وفي الإنصاف 1/178 عن صاحب الفائق : هو النص المتأخر وهو المختار اهـ(150/25)
وأما المسالة الثانية : فلا يخلو إما أن تكون مدة مسح المسافر قد انتهت أوْ لا : فإن كانت قد انتهت ، فلا مسح ، وإن كانت باقية ، أتم مسح مقيم إن بقي من مدته شيء ، قال في المغني 1/293 : وهذا قول الشافعي وأصحاب الرأي ، ولا أعلم فيه مخالفاً اهـ . ورمز لذلك في الفروع 1/168 بالواو إشارة لموافقة الآئمة الثلاثة : قال : وفي المبهج : مسح مسافر إن كان مسح مسافراً فوق يوم وليلة اهـ . وفي المحلي 2/109 يبتديء مسح مقيم إن كان قد مسح في السفر يومين وليلتين فأقل ، وإلا أتم مسح مسافر إن بقي من مدته شيء .
البحث الخامس : إذا انتهت مدة المسح أو نزع الممسوح ، فهل تبقي الطهارة أو تنتقض ؟
في هذا خلاف بين العلماء ، ذكره في المجموع 1/511.
القول الأول : تبقى طهارته ولا يلزمه شيء ، فيُصلي بطهارته ما لم يُحدث ، وقد حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وقتاده وسليمان بن حرب ، واختاره . قال النووي : وهو المختار الأقوى . قلت : واختاره ابن حزم 2/94 ونقله في المسألة الأولى ( انتهاء المدة ) عن إبراهيم النخعي والحسن البصري وابن أبي ليلى وداود ، وقال : هذا هو القول الذي لا يجوز غيره . قال ص 95 : ولو مسح قبل إنقضاء أحد الأمدين بدقيقة كان له أن يصلي به ما لم يحدث . وقال عن المسالة الثانية 2/105 إنه قول طائفه من السلف . وهو أيضاً اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في المسألتين .
القول الثاني : يلزمه غسل القدمين فقط ، وبه قال عطاء وعلقمة والأسود وحكى عن النخغي وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأبي ثور والمزني ورواية عن أحمد .
القول الثالث : يلزمه الوضوء ، وبه قال مكحول والنخغي والزهري وابن أبي ليلى والأوزاعي والحسن بن صالح وإسحاق ، وهو أصح الروايتين عن أحمد .
القول الرابع : يلزمه الوضوء إن طال الفصل بين النزع وغسل الرجلين ، وإلا كفاه غسل الرجلين وبه قال مالك والليث .(150/26)
وإلى هنا تم ما أردنا كتابته. فنسأل الله تعالى أن ينفع بها إنه جواد كريم. تم ذلك في يوم الأربعاء الموافق 16 / ربيع الثاني عام 1407هـ .
رسالة
قال فضيلة الشيخ جزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء :
بسم الله الرحمن الرحيم ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين ، أما بعد .
فهذه مسائل في المسح على الخفين اقتصرت فيها على ما رأيته صواباً بمقتضى الأدلة الشرعية، أسأل الله تعالى أن تكون خالصة لله صواباً على شريعة الله :
1- اختلف العلماء رحمهم الله تعالى في جواز المسح على الخف المخرَّق . والصحيح جوازه ما دام اسم الخف باقياً ، وهو قول ابن المنذر وحكاه عن الثوري وإسحاق ويزيد بن هارون وأبي ثور ، وبه قال شيخ الإسلام ابن تيميه ما دام اسم الخف باقياً والمشي به ممكناً .
2- يجوز المسح على الخف الرقيق على القول الصحيح ، قال النووي : حكى أصحابنا عن عمر وعلي - رضي الله عنهما - جواز المسح على الجورب وإن كان رقيقاً وحكوه عن أبي يوسف ومحمد وإسحاق وداود . وقال في الصحيح بل الصواب ما ذكره القاضي أبو الطيب والقفال وجماعات من المحققين ، أنه إن أمكن متابعة المشي عليه جاز كيف كان وإلا فلا .
3- مدة المسح يوم وليلة للمقيم وثلاثة أيام بلياليها للمسافر ، وابتداء المدة من أول مرة مسح بعد الحدث على القول الصحيح ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وبه قال الأوزاعي وأبو ثور واختاره ابن المنذر ، وحكى نحوه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال النووي : وهو المختار الراجح دليلاً .
4- إذا لبس في الحضر ثم سافر قبل أن يُحدث فمسحه مسح مسافر .
5- إذا لبس في السفر ثم أقام قبل أن يحدث فمسحه مسح مقيم .
6-إذا لبس في الحضر فأحدث ثم سافر قبل أن يمسح فمسحه مسح مسافر .
7- إذا لبس في السفر فأحدث ثم أقام قبل أن يمسح فمسحه مسح مقيم .(150/27)
8- إذا لبس في الحضر فأحدث ومسح ثم سافر قبل أن تنتهي مدة المسح أتم مسح مسافر على القول الصحيح ، وهو مذهب أبي حنيفة . والرواية التي رجع إليها أحمد عن قوله يتم مسح مقيم قال في الفائق : وهو النص المتأخر - يعني عن أحمد - وهو المختار اهـ .
وإن انتهت مدة المسح قبل أن يسافر وجب عليه عند الوضوء خلعهما وغسل الرجلين .
9-إذا لبس في السفر فأحدث ومسح ثم أقام أتمَّ مسح مقيم إن بقي من المدة شيء ، وإلا خلع . قال في المغني : لا أعلم فيه مخالفاً .
10- إذا لبس جورباً أو خفّاً ثم لبس عليه آخر قبل أن يحدث فله مسح أيهما شاء
11- إذا لبس جورباً أو خفًّاً ثم أحدث ثم لبس عليه آخر قبل أن يتوضأ فالحكم للأول .
12- إذا لبس جورباً أو خفّاً ثم أحدث ومسحه ثم لبس عليه آخر فله مسح الثاني على القول الصحيح . قال في الفروع : ويتوجه الجواز وفاقاً لمالك . اهـ وقال النووي : إن هذا هو الأظهر لأنه لبس على طهارة ، وقولهم إنها طهارة ناقصة غير مقبول . أهـ . وإذا قلنا بذلك كان ابتداء المدة من مسح الأول .
13- إذا لبس خفّاً على خف أو جورب ومسح الأعلى ثم خلعه ، فهل يمسح بقية المدة على الأسفل ؟ لم أرَ من صرح به ، لكن ذكر النووي عن أبي العباس بن سريج فيهما إذا لبس الجرموق على الخف ثلاثة معان . منها : أنهما يكونان كخف واحد الأعلى ظهاره والأسفل بطانه . قلت : وبناء عليه يجوز أن يمسح على الأسفل حتى تنتهي المدة من مسحه على الأعلى ، كما لو كشطت ظهارة الخف فإنه يمسح على بطانته .
14- إذا خلع الخف أو الجورب بعد مسحه لم تنتقض طهارته بذلك فيصلي ما شاء حتى يُحدث على القول الصحيح . حكاه ابن المنذر عن جماعة من التابعين واختاره وحكاه ابن حزم عن طائقة من السلف . قال النووي : وهو المختار الأقوى . واختاره أيضاً شيخ الإسلام ابن تيمية .(150/28)
15- إذا تَّمت مدة المسح لم تنتقض طهارته بذلك ، فيصلي ما شاء حتى يُحدث على القول الصحيح ، واختاره من اختار عدم النقص في المسألة التي قبلها . قال ابن حزم : وهو القول الذي لا يجوز غيره ، وقال أيضاً : لو مسح قبل انقضاء احد الأمدين - يعني أمدي المسافر والمقيم - بدقيقة ، فإن له أن يصلي به ما لم يُحدث اهـ .
والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعة إلى يوم الدين .
حرر في السابع من ربيع الثاني عام أحد عشر وأربعمائة وألف والحمد لله رب العالمين .
---
(1) سورة المائدة ، الآية 6.
(1) سورة المائدة ، الآية 6.
(1) سورة المائدة ، الآية : 6 .(150/29)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب نواقض الوضوء
محمد بن صالح العثيمين
باب نواقض الوضوء
134) سُئل فضيلة الشيخ _ أعلى الله درجته في المهديين : - عن نواقض الوضوء ؟
فأجاب بقوله : نواقض الوضوء ممّا حصل فيه خلاف بين أهل العلم ، لكن نذكر ما يكون ناقضاً بمقتضى الدليل :
الأول : الخارج من السبيلين ، أي الخارج من القُبُل أو من الدُّبُر ، فكل ما خرج من القُبل أو الدبر فإنه ناقض الوضوء، سواءً كان بولاً أم غائطاً ، أم مذياً ، أم منياً ، أم ريحاً ، فكل شيء يخرج من القبل أو الدبر فإنه ناقض للوضوء ولا تسأل عنه ، لكن إذا كان منيّاً وخرج بشهوة ، فمن المعلوم أن يوجب الغسل ، وإذا كان مذياً فإنه يوجب غسل الذكر والأنثيين مع الوضوء أيضاً .
الثاني : النوم إذا كان كثيراً بحيث لا يشعر النائم لو أحدث ، فأما إذا كان النوم يسيراً يشعر النائم بنفسه لو أحدث فإنه لا ينقض الوضوء ، ولا فرق في ذلك أن يكون نائماً مضطجعاً أو قاعداً معتمداً أو قاعداً غير معتمد ، فالمهم حالة حضور القلب ، فإذا كان بحيث لو أحْدث لأحسَّ بنفسه فإن وضوءه لا ينتقض ، وإن كان في حال لو أحْدث لم يحسّ بنفسه ، فإنه يجب عليه الوضوء ، وذلك لأن النوم نفسه ليس بناقض وإنما مظنة الحدث ، فإذا كان الحدثُ مُنتقياً لكون الإنسان يشعر به لو حصل منه ، فإن لا ينتقض الوضوء . والدليل على أن ألنوم نفسه ليس بناقض أن يسيره لا ينقض الوضوء ، ولو كان ناقضاً لنقض يسيرهُ وكثيرهُ كما ينقض البولُ يسيرهُ وكثيره .(151/1)
الثالث : أكل لحكم الجزور ، فإذا أكل الإنسان من لحم الجزور ، الناقة أو الجمل ، فإنه ينتقض وضوؤه سواءً كان نيِّا أو مطبوخاً ، لأنه ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن سمرة ، أنه سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: " إنْ شئت " . فقال : أنتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : " نعم " . فكونه صلى الله عليه وسلم يجعل الوضوء من لحم الغنم راجعاً إلى مشيئة الإنسان ، وأنه لابدَّ منه ، وعلى هذا فيجب الوضوء من لحم الإبل إذا أكله الإنسان نيئاً أو مطبوخاً ، ولا فرق بين اللحم الأحمر واللحم غير الأحمر ، فينقض الوضوء أكلُ الكرش والأمعاء والكبد والقلب والشحم وغير ذلك ، وجميع أجزاء البعير ناقضٌ للوضوء ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُفصِّل وهو يعلم أن الناس يأكلون من هذا ومن هذا ، ولو كان الحكم يختلف لكان النبي صلى الله عليه وسلم يبيِّنه للناس حتى يكونوا على بصيرة من أمرهم ، ثم إننا لا نعلم في الشريعة الإسلامية حيواناً يختلف حُكمه بالنسبة لأجزائه ، فالحيوان إمّا حلال أو حرام ، وإما موجب للوضوء أو غير موجب ، وأما أن يكون بعضه له حكم وبعضه له حكم فهذا لا يُعرف في الشريعة الإسلامية ، وإن كان معروفاً في شريعة اليهود كما قال الله تعالى : { وعلى الذين هادوا حرَّمنا كلَّ ذي ظفر من البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ) (1) . ولهذا أجمع العلماء على أن شحم الخنزير مُحَّرم مع أن الله تعالى لم يذكر في القرآن إلا اللحم ، فقال تعالى : ( حُرِّمت عليكم الميتة واتلدم ولحم الخنزير وما أهلَّ لغير الله به ) (2) . ولا أعلم خلافاً بين أهل العلم في أن شحم الخنزير محرَّم . وعلى هذا فنقول : اللحم المذكور في الحديث بالنسبة للإبل يدخل فيه الشحم والأمعاء والكرش وغيرها .
135) وسُئل - حفظه الله تعالى : - عن الواجب على من به سلس بول في الضوء ؟(151/2)
فأجاب بقوله : الواجب على من به سلس بول أن لا يتوضأ للصلاة إلا بعد دخول وقتها . فإذا غسل فرجَه تلجَّم بشيء حتى لا تتعدى النجاسة إلى ملابسه وبدنه ، ثم يتوضأ ويصلي ، وله أن يصلي الفروض والنوافل . وإذا أراد نافلة في غير وقت صلاة فإنه يفعل ما ذكرنا من التحفّظ والوضوء ويصلي .
136 ) وسُئل : عن رجل به غازات كيف يتصرف ؟
فأجاب قائلاً : إن كان لا يتمكن من حبس تلك الغازات ، بمعنى أنها تخرج بغير اختياره ، فإذا كانت مستمرة معه فإن حُكمها حكم من به سلس البول ، يتوضأ للصلاة عند دخول وقتها ويصلي ، وإذا خرج منه شيء أثناء الصلاة فإن صلاته لا تبطل بذلك ، لقوله تعالى : ( فاتقوا الله ما استطعتم ) (1) . وقوله : ( لا يكلف الله نفساً إلا وسعها ) (2) .
137) وسُئل : هل خروج الهواء من فرج المرأة ينقض الوضوء ؟
فأجاب بقوله : هذا لا ينقض الوضوء لأنه لا يخرج من محل نجس كالريح التي تخرج من الدبر .
138) وسُئل فضيلة الشيخ : هل ما يخرج من غير السبيلين ينقض الوضوء ؟
فأجاب بقوله : الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء قلَّ أو كَثُر إلا البول والغائط ، وذلك أن الأصل عدم النقض ، فمن ادَّعى خلاف الأصل فعليه الدليل ، وقد ثبتت طهارة الإنسان بمقتضى دليل شرعي ، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي ، ونحن لا نخرج عما دلَّ عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، لأننا متعبدون بشرع الله لا بأهوائنا ، فلا يسوغ لنا أن نلزم عباد الله بطهارة لم تجب لا أن نرفع عنهم طهارة واجبة .
فإنْ قال قائل : قد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ .(151/3)
قلنا : هذا الحديث قد ضعَّفه أكثر أهل العلم ، ثم نقول : إن هذا مجرد فعل ، ومجرد الفعل لا يدل على الوجوب ، لأنه خالٍ من الأمر ، ثم أنه معارضٌ بحديث - وإن كان ضعيفاً : - أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ . وهذا يدل على أن وضوءه من القيء ليس للوجوب .
وهذا هو القول الراجح ، أن الخارج من بقية البدن لا ينقض الوضوء وأن كَثُر ، سواءًَ كان قيئاً أو لعاباً أو دماً أو ماء جروح أو أي شيء آخر ، إلا أن يكون بولاً أو غائطا مثل أن يفتح لخروجهما مكان من البدن فإن الوضوء ينقتض بخروجهما منه .
139) وسُئل فضيلة الشيخ - حفظه الله : هل الدم نجس أم طاهر ؟
فأجاب بقوله : هذه المسألة فيها تفصيل :
أولاً : الدم الخارج من حيوان نجسٍ ، نجسٌ قليله وكثيره ُ ، ومثالُه : الدم الخارج من الخنزير أو الكلب فهذا نجس قليله وكثيره بدون تفصيل سواء خرج منه حياً أم ميتاً .
ثانياً: الدم الخارج من حيوان طاهر في الحياة ، نجس بعد الموت فهذا إذا كان في حال الحياه فهو نجس ، لكن يُعفى عن يسيره . مثال ذلك : الغنم والإبل فهي طاهرة في الحياة نجسة بعد الموت ، والدليل على نجاستها بعد الموت ، قوله تعالى : ( قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما ً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتةً أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس ) (1) .
ثالثاً : الدم الخارج من حيوان طاهر في الحياة وبعد الموت وهذا طاهر ، إلا أنه يستثنى منه عند عامة العلماء دم الآدمي ، فإن دم الآدمي دمُ خارج من طاهر في الحياة وبعد الموت ، ومع ذلك فإنه عند جمهور العلماء نجس لكنه يُعفى عن يسيره .
رابعاً : الدم الخارج من السبيلين: القُبُل أو الدبر، فهذا نجس ولا يُفي عن يسيره ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، لمّا سألته النساء عن دم الحيض يصيب الثوب أمر بغسله بدون تفصيل .(151/4)
وليعلم أنَّ الدم الخارج من الإنسان من غير السبيلين لا ينقض الوضوء ، لاقليله ُ ولا كثيرهُ كدم الرُّعاف ، ودم الجرح ، بل نقول : كل خارج من غير السبيلين من بدن الإنسان ، فإنه لا ينقض الوضوء مثل الدم وماء الجروح وغيرها .
140) وسئل الشيخ : عن الدم الخارج من الإنسان هل هو نجس ؟ وهل هو ناقض للوضوء ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الدم الخارج من الإنسان إن كان من السبيلين القبل أوالدبر، فهو نجس وناقض للوضوء قلَّ أم كَثُر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر النساء بغسل دم الحيض مطلقاً ، وهذا دليل على نجاسته ، وأنه لا يُعفي عن يسيره ، وهو كذلك فهو نجس لا يُعفي عن يسيره وناقض للوضوء قليله وكثيره .
واما الدم الخارج من بقية البدن : من الأنف أو من السِّن أو من جرح أو مأ أشبه ذلك ، فإنه لا ينقض الوضوء قل أو كثر ، هذا هو القول الراجح أنه لا ينقض الوضوء شيء خارج من غير السبيلين من البدن سواء من الأنف أو من السن أو من غيره وسواء كان قليلاً أو كثيراً ، لأنه لا دليل على انتقاض الوضوء به ، والأصل بقاء الطهارة حتى يقوم دليل على انتقاضها .
وأما نجاسته فالمشهور عند أهل العلم أنه نجس وأنه يجب غسله إلا أنه يُعفي عن يسيره لمشقة التحرُّز منه والله أعلم .
141) وسُئل فضيلة الشيخ : هل ينتقض الوضوء بالإغماء ؟
فأجاب بقوله : نعم ينتقض الوضوء بالإغماء ، لأن الإغماء أشدُّ من النوم ، والنوم يَنقض الوضوء إذا كان مستغرقاً، بحيث لا يدري النائم لو خرج منه شيء، أمّا النوم اليسير الذي لو أحدث النائم لأحسُّ بنفسه ، فإن هذا النوم لا ينقض الوضوء ، سواء من مُضطجع أو قاعد متكئ أو قاعد غير متكئ ، أو أي حال من الأحوال ، ما دام لو أحدث أحسَّ بنفسه ، فإنه نومه لا ينقض الوضوء ، فالإغماء أشد من النوم فإذا أُغمي على الإنسان ، فإنه يجب عليه الوضوء.
142) وسُئل : هل استعمال المرأة كريم الشعر وأحمر الشفاه ينقض الوضوء؟(151/5)
فأجاب بقوله : تدهن المرأة بالكريم أو بغيره من الدهون لا يبطل الوضوء بل ولا يبطل الصيام أيضا، وكذلك دهنه بالشفه لا يبطل الوضوء ولا يبطل الصيام، ولكن في الصيام إذا كان لهذه التحريمات طعم فإنها لا تستعمل على الوجه ينزل طعمها إلى جوفها .
143) وسُئل ـ حفظه الله ـ : هل مس المرأة ينقض الوضوء؟
فأجاب فضيلته بقوله : الصحيح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا ، إلا إذا خرج منه شيء، ودليل هذا ما صح عن النبي، صلى الله عليه وسلم ، أنه قبل بعض نسائه وخرج إلى الصلاة ولم يتوضأ . ولأن الأصل عدم النقض حتى يقوم دليل صريح صحيح على النقض، ولأن الرجل أتم طهارته بمقتضى دليل شرعي، وما ثبت بمقتضى دليل شرعي فإنه لا يمكن رفعه إلا بدليل شرعي .
فإن قيل : قد قال الله عز وجل في كتابه : ( أو لامستم النساء ).
فالجواب : أن المراد بالملاسة في الآية الجماع، كما صح ذلك عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ثم إن هناك دليلا من تقسيم الآية الكريمة إلى أصلية، وبدلية ، وتقسيم للطهارة إلى كبرى ، وصغرى. وتقسيم لأسباب الطهارة الكبرى ، والصغرى. قال الله تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُم(151/6)
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )(1) . فهذه طهارة بالماء أصلية صغرى. ثم قال : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا). فقوله: (فتيمموا) هذا البدل . وقوله ( أو جاء أحد منكم من الغائط ) . هذا بيان سبب الصغرى . وقوله : ( أو لامستم النساء ) . هذا بيان سبب الكبرى . ولو حملناه على المس الذي هو الجس باليد ، لكانت الآية الكريمة ذكر الله فيها سببين للطهارة الصغرى، وسكت عن سبب الطهارة الكبرى، مع أنه قال : ( وإن كنتم جنبا فاطهروا) . وهذا خلاف البلاغة القرآنية، وعليه فتكون الآية دالة على أن المراد بقوله : ( أو لامستم النساء) أي جامعتم النساء ، لتكون الآية مشتملة على السببين الموجبين للطهارة، السبب الأكبر والسبب الأصغر، والطهارتين الصغرى في الأعضاء الأربعة ، والكبرى في جميع البدن، والبدل الذي هو طهارة التيمم في عضوين فقط لأنه يتساوى فيها الصغرى والكبرى .
وعلى هذا فالقول الراجح أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقا ، سواء بشهوة أو بغير شهوة إلا أن يخرج منه شيء ، فإن خرج منه شيء وجب عليه الغسل إن كان الخارج منيا ، ووجب عليه غسل الذكر والأنثيين مع الوضوء إن كان مذيا .
144 ) وسُئل فضيلة الشيخ : عما إذا مس الإنسان ذكره أثناء الغسل هل ينتقض وضوئه ؟
فأجاب قائلا : المشهور من المذهب أن مس الذكر ناقض للوضوء، وعلى هذا فإذا مس ذكره أثناء غسله لزمه الوضوء بعد ذلك، سواء تعمد مس ذكره أم لا .
والقول الثاني : أن مس الذكر ليس بناقض للوضوء، وإنما يستحب الوضوء منه استحبابا وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو أقرب إلى الصواب ، لاسيما إذا كان عن غير عمد لكن الوضوء أحوط .
145 145 ) وسُئل : هل لمس ذكر المريض وخصيتيه ناقض للوضوء؟(151/7)
فأجاب بقوله : لمس ذكر المريض وخصيتيه لا ينقض الوضوء سواء من وراء حائل أو مباشرة على القول الراجح.
146 ) وسُئل : عن المرأة إذا وضأت طفلها وهي طاهرة هل يجب عليها أن تتوضأ ؟
فأجاب فضيلته قائلا : إذا وضأت المرأة طفلها أو طفلتها ومست الفرج فإنه لا يجب عليها الوضوء وإنما تغسل يديها فقط، لأن مس الفرج لغير شهوة لا يجب الوضوء، ومعلوم أن المرأة التي تغسل أولادها لا يخطر ببالها الشهوة فهي إذا وضأت الطفل أو الطفلة فإنما تغسل يديها فقط من النجاسة التي أصابتها ولا يجب عليها أن تتوضأ.
147 ) وسُئل فضيلة الشيخ : هل تغسيل الميت ينقض الوضوء ؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله : تغسل الميت لا ينقض
الوضوء ، وذلك أن النقض يحتاج إلى دليل شرعي يرتفع به الوضوء الثابت بدليل شرعي، ولا دليل على أن تغسيل الميت ينقض الوضوء. ولهذا يجب علينا أن نتحرى في مسألة نقض الوضوء، فلا نتجرأ على القول بأن هذا ناقض إلا إذا وجدنا دليلا بينا يكون لنا حجة عند الله سبحانه وتعالى .
148 ) وسُئل : عن شخص أكل لحم إبل عند شخص آخر ، وذهب للصلاة ، ولم يتوضأ، فهل يلزمه إعلامه أم لا ؟
فأجاب فضيلته قائلا : نعم يلزم إعلامه، لأن هذا من باب التعاون على البر والتقوى وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين ذكروه بما نسي من صلاته قال لهم : ( إذا نسيت فذكروني). وهذا يدل على أن الإنسان إذا رأى شخصا تاركا لواجب أو واقعا في محرم عليه أن ينبهه فلا يقل : هذا الرجل معذور سأدعه وعذره ، بل نقول هو معذور لكن أنت بعلمك لست بمعذور، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا .
ويتفرع عن هذه القاعدة وهي وجوب إعلام الغافل بما نسي من واجب أو فعل من محرم يتفرع منها ما لو رأيت صائما في رمضان يشرب ناسيا فالواجب تذكيره .
ومن ثم فإنه يلزمك إعلامه وعلى الرجل أن يعيد صلاته .
149 ) وسُئل فضيلة الشيخ : هل موجبات الغسل ناقضة للوضوء ؟(151/8)
فأجاب ـ أجزل الله له المثوبة ـ بقوله : المشهور عند فقهائنا ـ رحمهم الله ـ أن كل ما أوجب غسلا أوجب وضوء إلا الموت ؛ وبناء على ذلك فإنه لابد لمن اغتسل من موجبات الغسل أن ينوي الوضوء ، فأما أن يتوضأ مع الغسل ، وإما أن ينوي بغسله الطهارة من الحدثين .
وذهب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ إلى أن نية الاغتسال عن الحدث الأكبر تغني عن نية الوضوء، لأن الله عز وجل قال: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(1) إلخ . فلم يذكر الله في حال الجنابة إلا الاطهار ، يعني التطهير، ولم يذكر الوضوء، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل حين أعطاه الماء ليغتسل، قال : ( خذ هذا فأفرغه على نفسك ). ولم يذكر له الوضوء ، أخرجه البخاري من حديث عمران بن حصين في حديث طويل. وما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية أقرب إلى الصواب ، وهو أن من عليه حدث أكبر إذا نوى الحدث الأكبر فإنه يجزئ عن الأصغر. وبناء على هذا فإن موجبات الغسل منفردة عن نواقص الوضوء .
150) وسُئل فضيلته:هل أخذ شيء من الشعر أو الجلد أو الأظافر ينقض الوضوء؟
فأجاب قائلا : أخذ الإنسان من شعره أو ظفره أو جلده لا ينقض الوضوء.
وبهذا المناسبة أحب أن أبين أن الشعور ينقسم أخذها إلى أقسام :
القسم الأول : الشعور التي أمر الشارع بإزالتها مثل : شعر العانة والإبطين والشارب أمر بقصه.
القسم الثاني : الشعور التي نهى الشارع عن إزالتها : شعر اللحية قال النبي صلى الله عليه وسلم : (وفروا اللحى .. ) . وكذلك النمص وهو نتف الحواجب .(151/9)
القسم الثالث : الشعور التي سكت عنها الشارع، كالرأس والساق والذراع وبقية شعور الجسم . فيما سكت عنه الشارع، فقد قال بعض العلماء : إنه منهي عن أخذه تغيرا لخلق الله من أوامر الشيطان، لقوله تعالى : (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ)(1).وقال بعض العلماء : إن أخذه مباح؛ لأنه مسكوت عنه، لأن الشرع أمر، ونهى، وسكت علم أن هذا ليس مما أمر به ولا مما نهى عنه؛ لأنه لو كان منهيا عنه لنهى عنه، ولو كان مأمورا به لأمر به وهذا الأقرب من حيث الاستدلال : أن إزالة الشعور غير التي نهى عنها جائزة.
والشعور التي أمر الشارع بإزالتها، مدتها أربعون يوما، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : (وقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في الشارب والظفر والعانة والإبط ألا تترك فوق أربعين يوما ) .
لكن بعض الناس يأبى إلا أن تكون أظفاره طويلة، وبعض الناس يأبى إلا أن يكون ظفر الخنصر طويلا مع أن فيه مخالفة للشريعة، ويلحقه كذلك بالسباع، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه فكل إلا السن والظفر، فإن السن عظم، والظفر مدي الحبشة) . ومعنى الظفر مدي الحبشة : أي أن الحبشة يبقون أظفارهم حتى تكون كالحراب، فإذا مسك الأرنب مثلا بطها بهذا الظفر، وصارت مدية له . ولذلك فأنا أعجب من قوم يدعون الحضارة، ويدعون أنهم أهل النظافة، ثم يذهبون يبقون أظفارهم حتى تبقى طويلة، أو يبقون شعورهم في الإبط،أو في العانة حتى تبقى طويلة ، مع أنهم يدعون أنهم أهل الحضارة والتقدم والنظافة وما أشبه ذلك .
151 ) وسُئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ عمن تيقن الطهارة وشك في الحدث، وشك في الطهارة، فماذا يعمل ؟(151/10)
فأجاب قائلا : من تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو باق على طهارته، ومن تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو باق على حدثه، لأن القاعدة أن اليقين لا يزول بالشك، وأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذه قاعدة مهمة ، ولها فروع كثيرة جدا ، وهي مبنية على حديث أبي هريرة، وعبد الله بن زيد ـ رضي الله عنهما ـ في الرجل يجد الشيء في بطنه، ويشكل عليه هل خرج منه شيء أم لا ؟ قال النبي ، صلى الله عليه وسلم: ( لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ) . وفي حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ( لا يخرج ( يعنى من المسجد) حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا) . وهذا الحديث تنحل به إشكالات كثيرة، وهذا من يسر الإسلام ، ومن كونه يريد من أمة الإسلام أن تكون في قلق وحيرة، وأن تكون أمورهم واضحة جلية، لأن الإنسان لو استسلم لمثل هذه الشكوك، لتنغصت عليه حياته، فالشارع ـ ولله الحمد ـ قطع هذه الوساوس ، فما دمت لم تتيقن فهذه الوساوس لا محل لها . ويجب أن تدفنها، ولا تجعل لها أثرا في نفسك، فحينئذ تستريح وتنحل عنك إشكالات كثيرة .
152 ) وسُئل فضيلة الشيخ : متى يكون الشك مؤثرا في الطهارة ؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله : الشك في الطهارة نوعان :
أحدهما: شك في وجودها بعد تحقق الحدث .
والثاني : شك في زوالها بعد تحقق الطهارة .
أما الأول وهو الشك في وجودها بعد تحقق الحدث كأن يشك الإنسان هل توضأ بعد حدثه أم لم يتوضأ ؟ ففي هذه الحال يبني على الأصل ، وهو أنه لم يتوضأ ، ويجب عليه الوضوء، مثال ذلك : رجل شك عند أذان الظهر هل توضأ ، بعد نقضه وضوئه في الضحى أم لم يتوضأ ؟
فنقول له : ابن على الأصل ، وهو أنك لم تتوضأ، ويجب عليك أن تتوضأ.(151/11)
أما النوع الثاني ، وهو الشك في زوال الطهارة بعد وجودها، فإننا نقول : أيضا ابن على الأصل ولا تعتبر نفسك محدثا. مثاله : رجل توضأ في الساعة العاشرة، فلما حان وقت الظهر شك هل انتفض وضوؤه أم لا ؟ فنقول له : إنك على وضوئك، ولا يلزمك الوضوء حينئذ؛ وذلك لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان عليه . ويشهد لهذا الأصل قول النبي صلى الله عليه وسلم : فيمن وجد في بطنه شيئا فأشكل عليه ، أخرج منه شيء أم لا ؟ قال : ( لا يخرجن من المسجد حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا ) .
وأما الشك في فعل أجزاء الطهارة، مثل أن يشك الإنسان هل غسل وجهه في وضوئه أم لا؟ وهل غسل يديه أم لا ؟ وما أشبه ذلك فهذا لا يخلو من أحوال :
الحال الأولى : أن يكون مجرد وهم طارئ على قلبه، هل غسل يديه أم لم يغسلهما وهما ليس له مرجح، ولا تساوى عنده الأمران بل هو مجرد شيء خطر في قلبه ، فهذا لا يهتم به ولا يلتفت إليه .
الحال الثانية : أن يكون كثير الشكوك كلما توضأ مثلا فإذا غسل قدميه شك هل مسح رأسه أم لا ؟هل مسح أذنيه أم لا ؟ هل غسل يديه أم لا ؟ فهو كثير الشكوك، فهذا لا يلتفت إلى الشك ولا يهتم به .
الحال الثالثة : أن يقع الشك بعد فراغه من الوضوء، فإذا فرغ من الوضوء شك هل غسل يديه أم لا ؟ أو هل مسح رأسه، أو هل مسح أذنيه؟ فهذا أيضا لا يلتفت إليه، إلا إذا تيقن أنه لم يغسل ذلك العضو المشكوك فيه فيبني على يقينه .(151/12)
الحال الرابعة : أن يكون شكا حقيقيا وليس كثير الشكوك ، وحصل قبل أن يفرغ من العبادة، ففي هذه الحال إن ترجح عنده أنه غسله اكتفى بذلك. وإن لم يترجح عنده أنه غسله وجب عليه أن يبني على اليقين، وهو العدم، أي أنه لم يغسل ذلك العضو الذي شك فيه فيرجع إليه ويغسله ، وما بعده ، وإنما أوجبنا عليه أن يغسل ما بعده مع أنه قد غسل، من أجل الترتيب ، لأن الترتيب بين أعضاء الوضوء واجب كما ذكر الله تعالى، وقال النبي صلى الله عليه وسلم حين أقبل على الصفا: ( أبدأ بما بدأ الله به ) . هذه هو حال الشك في الطهارة .
153) سُئل فضيلة الشيخ : عن شخص كثير الشكوك في الطهارة والصلاة والمطعومات ؟
فأجاب قائلا : الشكوك التي ترد على العقول في العبادات والمعتقدات وغيرها وحتى في ذات الله تعالى كلها من الشيطان، ولذا لما شكا الصحابة رضي الله عنهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما يجدون في نفوسهم مما يتعاظمون به أخبرهم صلى الله عليه وسلم : ( أن ذلك من صريح الإيمان) . أي خالصة، وذلك لأن الشيطان إنما يورد مثل هذه الشبهات على قلب ليس عنده شبهه حتى يطيعه في الشبهة وأما من كان قلبه مملوءا بالشبهات أو منسلخا من الديانات فإن الشيطان لا يعرض عليه مثل هذه الأمور لأنه قد فرغ منه .
ونقول لهذا المسئول عنه: إن الواجب عليه أن يستعيذ بالله من الشيطان، ولا يلتفت إلى الوساوس التي ترد على ذهنه لا في الوضوء ولا في الصلاة ولا في غيرها ، وهذا الشك دليل على خلوص الإيمان ولكنه في نفس الوقت إذا استرسل معه كان دليلا على ضعف العزيمة .
ونقول له: لا وجه لهذا الشك فأنت مثلا حين تذهب إلى السوق لبيع أو شراء هل تشك فيما أتيت به من السوق، والجواب : لا ، ذلك لأن الشيطان لا يوسوس للإنسان في مثل هذه الأمور، لكنه يوسوس له في العبادات ليفسدها عليه ، فإذا كثرت الشكوك فلا يلتفت إليها .(151/13)
وكذلك إذا كان الشك بعد الفراغ من العبادة فلا تلتفت إليه إلا أن تتيقن الخلل، والشك بعد الفعل لا يؤثر .
أما شكك في المطعومات التي أصلها الحل فلا عبرة به، فقد أهدت امرأة يهودية في خيبر شاة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأكل منها ، ودعاه يهودي وقدم له خبز شعير فأكل من ذلك .
وفي صحيح البخاري: أن قوما كانوا حديثي عهد بالإسلام أهدوا لجماعة من المسلمين لحما . فقالوا يا رسول الله، إن قوما يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال لهم ، صلى الله عليه وسلم : ( سموا أنتم وكلوا ). فالأصل في ذبيحة من تحل ذبيحته الحل حتى يقوم دليل على التحريم. ومنع الله تضييق لا وجه له .
154) وسُئل فضيلة الشيخ : عن إمام يصلي بالناس صلاة الجمعة وفي التشهد شك هل توضأ أم لا ، فما الحكم ؟(151/14)
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله : قبل الإجابة على هذا السؤال، أحب أن أبين قاعدة نافعة في باب الحدث وغيره ، وهي أن الأصل بقاء ما كان على ما كان ، وهذا الأصل مبني على ما ثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، في الرجل يخيل إليه أنه أحدث، فقال : ( لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا). ومن أمثلة هذا الأصل إذا كان الإنسان قد توضأ ، فشك هل أحدث أم لا ؟ فإنه يبقى على وضوئه وطهارته ، لأن الأصل بقاء الطهارة وعدم الحدث ومنه ـ أي من هذا الأصل ـ إذا أحدث الإنسان ثم شك هل رفع حدثه أم لم يرفعه؟ فإن الأصل بقاء الحدث وعدم رفعه، فعليه أن يتوضأ إن كان الحدث أصغر ، وأن يغتسل إن كان الحدث أكبر، وبناء على ذلك فإننا نقول في مثل هذه الحال التي ذكرها السائل : لو شك الإمام في أثناء الصلاة في التشهد الأخير، أو فيما قبله، هل تطهر من حدثه أم لا ؟ فإن الأصل عدم الطهارة ، وحينئذ يجب عليه أن ينصرف من صلاته ، وأن يعهد إلى أحد المأمومين بإتمام صلاة الجماعة، فيقول مثلا : تقدم يا فلان أكمل الصلاة بهم، ويبنون على ما مضى من صلاتهم، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وبه يتبين أن صلاة المأمومين ليس فيها خلل، سواء ذكر الإمام في أثناء الصلاة أو بعد تمام صلاته أنه ليس على طهارة، فإن ذكر بعد تمام صلاته فقد انتهت صلاة المأمومين على أنها صحيحة وليس فيها إشكال ، وإن ذكر في أثناء صلاته فإن المأمومين لم يفعلوا شيئا يوجب بطلان صلاتهم لأنهم فعلوا ما أمروا به من متابعة هذا الإمام، والأمر الخفي الذي لا يعلمون به ليسوا مؤاخذين به ، لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(1) . وكوننا نلومهم بأمر خفي يتعلق بالإمام ، هذا من الأمور التي لا تدخل تحت الوسع ، وعلى هذا فنقول : إذا تبين للإمام في أثناء صلاته أنه ليس على وضوء أو أحدث في أثناء الصلاة فإنه يعهد إلى واحد من المأمومين أن يتقدم فيكمل بهم الصلاة ولا حرج(151/15)
في ذلك ، وعلى هذا فنقول لهذا السائل : إذا حصل منك مثل هذا في صلاة الجمعة فإنك تعهد إلى أحد المأمومين يتقدم يكمل بهم صلاة الجمعة، وأما أنت فتذهب تتطهر ثم ترجع فإن أدركت ركعة من الصلاة مع الجماعة في الجمعة، فأت بعدها بركعة واحدة تكون جمعة، وإن أدركت أقل من ركعة بأن جئت بعد أن رفع الإمام رأسه من الركوع في الركعة الثانية، فقد فاتتك الجمعة فتصليها ظهرا .
155) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم قراءة القرآن لمن كان حدث أصغر ؟
فأجاب ـ حفظه الله ـ بقوله : قراءة القرآن لمن عليه حدث أصغر لا بأس بها إذا لم يمس المصحف، لأنه ليس من شرط جواز القراءة أن يكون الإنسان على طهارة، وأما إذا كان عليه جنابة ، فإنه لا يقرأ القرآن مطلقا حتى يغتسل ، ولكن لا بأس أن يقرأ من القرآن ، مثل أن يقول : بسم الله الرحمن الرحيم ، أو يصاب بمصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون ، او نحو ذلك من الأذكار المأخوذة من القرآن.
156 ) وسُئل فضيلته : عن مدرس يدرس للتلاميذ القرآن الكريم ، ولا يوجد ماء في المدرسة أو بالقرب منها والقرآن لا يلمسه إلا المطهرون ، فماذا يفعل؟(151/16)
فأجاب بقوله : إذا لم يكن في المدرسة ماء ولا بقربها فإنه ينبه على الطلبة ألا يأتوا إلا وهم متطهرون وذلك لأن المصحف لا يلمسه إلا طاهر ففي حديث عمرو بن حزم الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم له: ( ألا يمس القرآن إلا طاهر ) . فالطاهر هنا من ارتفع حدثه بدليل قوله تعالى في آية الوضوء والغسل والتيمم : (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1) ففي قوله ( ليطهركم) دليل على أن الإنسان قبل أن يتطهر لم تحصل له الطهارة وعلى هذا فلا يجوز لأحد أن يلمس القرآن إلا وهو طاهر متوضئ ، إلا أن بعض أهل العلم رخص للصغار أن يمسوا القرآن لحاجتهم لذلك وعدم إدراكهم للوضوء ولكن الأولى أن يؤمر الطلاب بذلك أي بالوضوء حتى يمسوا المصحف وهم على طهارة.
وأما قول السائل لأن القرآن لا يلمسه إلا المطهرون، فكأني به يريد أن يستدل بهذه الآية على وجب التطهر لمس المصحف ، والآية ليس فيها دليل لهذا لأن المراد بقوله : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(2) الكتاب المكنون ، وهو اللوح المحفوظ والمراد بالمطهرون الملائكة، ولو كان يراد بها المتطهرون لقال لا يمسه إلا المتطهرون ولم يقل إنه لا يجوز مس المصحف إلا بطهارة لكن الحديث الذي أشرنا إليه آنفا هو الذي يدل على ذلك .
157 ) وسُئل الشيخ : هل يحرم على من دون البلوغ مس المصحف بدون طهارة؟
فأجاب بقوله : هذا محل خلاف ، فقال بعض أهل العلم : لا يحرم على من دون البلوغ مس المصحف، لأنه غير مكلف والقلم مرفوع عنه.
ومن العلماء من قال : لا يجوز حتى للصغير أن يمس المصحف بدون وضوء، وعلى وليه أن يلزمه بالوضوء كما يلزمه بالوضوء للصلاة، لأن هذا فعل يشترط لحله الطهارة.
158 ) وسُئل : عن حكم تمكين الصغار من مس المصحف والقراءة منه.(151/17)
فأجاب قائلا : لا بأس من تمكين الصغار من مس المصحف والقراءة منه إذا كانوا على طهارة ولم يحصل منهم إهانة للمصحف .
159 ) وسُئل فضيلته : هل تجوز كتابة بعض الآيات على السبورة بدون وضوء ؟ وما حكم مس السبورة التي كتبت فيها تلك الآيات ؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلا : تجوز كتابة القرآن بغير وضوء ما لم يمسها .
أما مس السبورة التي كتبت فيها تلك الآيات فإن فقهاء الحنابلة قالوا : يجوز للصبي مس اللوح الذي كتبت فيه آيات في الموضع الخالي من الكتاب ، أي بشرط أن لا تقع يده على الحروف فهل تحق السبورة بهذا أو لا تلحق ؟ هي عندي محل توقف. والله أعلم .
160 ) وسُئل : هل يجوز مس كتب التفسير بغير وضوء ؟
فأجاب بقوله كتب التفسير يجوز مسها بغير وضوء لأنها تعتبر تفسيرا ، والآيات التي فيها أقل من التفسير ، ويستدل لذلك بكتابة النبي صلى الله عليه وسلم ، الكتب للكفار وفيها آيات من القرآن الكريم ، فدل هذا على أن الحكم للأغلب والأكثر . أما إذا تساوى التفسير والآيات ، فعلى القاعدة المعروفة عند أهل العلم ، أنه إذا اجتمع مبيح وحاظر ولم يتميز أحدهما برجحان ، فإنه يغلب جانب الحظر وعلى هذا فإذا كان القرآن والتفسير متساويين أعطي حكم القرآن ، وإذا كان التفسير أكثر ولو بقليل أعطي حكم التفسير.
161 ) وسُئل فضيلة الشيخ : هل يجوز للمحدث أن يسجد للتلاوة أو الشكر ؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلا حكم هذه المسألة ينبني على الخلاف في سجدتي التلاوة والشكر، هل هما صلاة أم لا ؟(151/18)
فإن قلنا هما صلاة وجبت لهما الطهارة، وإن قلنا إنهما غير صلاة لم تجب لهما الطهارة، والمتأمل للسنة يدرك أنهما ليستا صلاة ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسجد للتلاوة ، ولم ينقل عنه أنه كان يكبر إذا سجد ولا إذا رفع ولا يسلم ، إلا في حديث رواه أبو داود في التكبير للسجود دون الرفع منه ودون التسليم، فمن تأمل سجود الرسول صلى الله عليه وسلم للتلاوة أو الشكر تبين له أنه لا ينطبق عليه تعريف الصلاة ، وعليه فلا تكون سجدة التلاوة وسجدة الشكر من الصلاة ، وحينئذ لا يحرم على من كان محدثا أن يسجد للتلاوة أو الشكر ، وقد صح عن عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه كان يسجد للتلاوة بدون وضوء .
ولكن لا ريب أنه الأفضل أن يتوضأ الإنسان ، لاسيما وأن القارئ سوف يتلو القرآن ، وتلاوة القرآن يشرع لها الوضوء لأنها من ذكر الله، وكل ذكر لله يشرع له الوضوء .
أما سجود الشكر ، فاشتراط الطهارة له ضعيف ، لأن سجود الشكر سببه تجدد النعم أو تجدد اندفاع النقم ، وهذا قد يأتي الإنسان وهو محدث ، فإن قلنا : لا تسجد حتى تتوضأ فربما يطول الفصل ، والحكم المعلق بسبب إذا تأخر عن سببه سقط، وحينئذ إما أن نقول : اسجد على غير وضوء ، أو لا تسجد، وسجوده على غير وضوء أولى من تركه .
---
(1) سورة الأنعام ، الآية : 146.
(2) سورة المائدة ، الآية : 3 .
(1) سورة التعابن ، الآية : 16
(2) سورة البقرة ، الآية : 286 .
(1) سورة الأنعام ، الآية : 145,.
(1) سورة المائدة ، الآية : 6.
(1) سورة المائدة ، الآية :6 .
(1) سورة النساء ، الآية : 119.
(1) سورة البقرة ، الآية :286.
(1) سورة المائدة ، الآية : 6.
(2) سورة الواقعة ، الآية : 79.(151/19)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب الغسل
محمد بن صالح العثيمين
باب الغسل
162 ) وسُئل فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيرا : عن موجبات الغسل ؟
فأجاب بقوله : موجبات الغسل منها :
الأول : إنزال المني بشهوة يقظة أو مناما ، لكنه في المنام يجب عليه الغسل ، وإن لم يحس بالشهوة، لأن النائم قد يحتلم ولا يحس بنفسه، فإذا خرج منه المني بشهوة وجب عليه الغسل بكل حال .
الثاني : الجماع ، فإذا جامع الرجل زوجته ، وجب عليه الغسل بأن يولج الحشفة في فرجها ، فإذا أولج في فرجها الحشفة أو ما زاد ، فعليه الغسل، لقول النبي صلى الله عليه وسلم عن الأول : ( الماء من الماء ) يعني أن الغسل يجب من الإنزال ، وقوله عن الثاني : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ) وإن لم ينزل، وهذه المسألة ـ اعني الجماع بدون إنزال ـ يخفى حكمها على كثير من الناس ، حتى إن بعض الناس تمضي عليه الأسابيع والشهور وهو يجامع زوجته بدون إنزال ولا يغتسل جهلا منه، وهذا أمر له خطورته، فالواجب أن يعلم الإنسان حدود ما أنزل الله على رسوله ، فإن الإنسان إذا جامع زوجته وإن لم ينزل وجب عليه الغسل وعليها، للحديث الذي ذكرناه آنفا .
الثالث : من موجبات الغسل خروج دم الحيض والنفاس، فإن المرأة إذا حاضت ثم طهرت ، وجب عليها الغسل لقوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(1) . ولأمر النبي صلى الله عليه وسلم المستحاضة إذا جلست قدر حيضها أن تغتسل ، والنفساء مثلها، فيجب عليها أن تغتسل.
وصفة الغسل من الحيض والنفاس كصفة الغسل من الجنابة ، إلا أن بعض أهل العلم استحب في غسل الحائض أن تغتسل بالسدر، لأن ذلك أبلغ في النظافة لها وتطهيرها .(152/1)
وذكر بعض العلماء أيضا من موجبات الغسل الموت ، مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته : اغسلنها ثلاثا أو خمسا أو سبعا أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ) . وبقوله ، صلى الله عليه وسلم في الرجل الذي وقصته راحلته بعرفة وهو محرم : ( اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ) . فقالوا : إن الموت موجب للغسل ، لكن الوجوب هنا يتعلق بالحي لأن الميت انقطع تكليفه بموته ، ولكن على الأحياء أن يغسلوا موتاهم لأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، بذلك .
163 ) وسُئل فضيلته : هل يجب الغسل بالمداعبة أو التقبيل ؟
فأجاب قائلا : لا يجب على الرجل ولا على المرأة غسل بمجرد الاستمتاع بالمداعبة أو التقبيل إلا إذا حصل إنزال المني فإنه يجب الغسل على الجميع إذا كان المني قد خرج من الجميع ، فإن خرج من أحدهما فقط وجب عليه الغسل وحده، وهذا إذا كان الأمر مجرد مداعبة أو تقبيل أو ضم ، أما إذا كان جماعا فإن الجماع فيه الغسل على كل حال، على الرجل وعلى المرأة حتى وإن لم يحصل إنزال ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة:(إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل ). وفي لفظ لمسلم : ( وإن لم ينزل ) . وهذه المسألة قد تخفى على كثير من النساء، تظن المرأة بل وربما يظن الرجل أن الجماع إذا لم يكن إنزال فلا غسل فيه ، وهذا جهل عظيم، فالجماع يجب فيه الغسل على كل حال ، وما عدا الجماع من الاستمتاع لا يجب فيه الغسل إلا إذا حصل الإنزال .
164) وسُئل : عن الرجل إذا داعب زوجته وأحس بنزول شيء منه ، فوجد في ملابسه سائلا لزجا بدون لون فهل يجب عليه الغسل ؟(152/2)
فأجاب بقوله : إذا كان هذا منيا فيجب عليه الغسل، والمني المعروف يخرج دفقا بلذة، وإن كان غير مني بأن كان مذيا وهو الذي يخرج من غير إحساس ويخرج عند فتور الشهوة غالبا ، إذا اشتهى الإنسان ثم فترت شهوته وجد هذا السائل فإن المذي لا يوجب الغسل وإنما يوجب غسل الذكر والأنثيين فقط مع الوضوء ، وأما المني فإنه يوجب الغسل، وإذا شككت هل هو مني أو مذي فإن الأصل عدم وجوب الغسل، فأصل هذا على أنه مذي تغسل الذكر والأنثيين وما أصاب من ثوب وتتوضأ للصلاة .
165) سُئل الشيخ حفظه الله تعالى : عمن وجد منيا في ثيابه بعد أن صلى الفجر ولم يعلم به فما الحكم في ذلك ؟
فأجاب قائلا : إذا لم ينم الإنسان بعد صلاة الفجر فإن صلاة الفجر غير صحيحة لوقوعها وهو جنب حيث تيقن أنه قبل الصلاة.
أما إذا كان الإنسان قد نام بعد صلاة الفجر ولا يدري هل هذه البقعة من النوم الذي بعد الصلاة أو من النوم الذي قبل الصلاة فالأصل أنها مما بعد الصلاة، وأن الصلاة صحيحة، وهكذا الحكم أيضا فيما لو وجد الإنسان أثر مني وشك هل هو من الليلة الماضية أو من الليلة التي قبلها، فليجعله من الليلة القريبة وأن يجعله من آخر نومه نامها ، لأن ذلك هو المتيقن وما قبلها مشكوك فيه، والشك في الإحداث لا يوجب الطهارة منها لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا وجد أحدكم في بطنه شيئا فأشكل عليه أخرج منه شيء أم لا فلا يخرجن من المسجد ). رواه مسلم من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ . والله الموفق .
166) وسُئل فضيلة الشيخ : شخص صلى المغرب والعشاء ، ثم عاد إلى بيته، وعند خلعه لثوبه وجد في ملابسه الداخلية أثر مني ، فماذا يلزمه ؟(152/3)
فأجاب ـ أعلى الله درجته في المهتدين ـ بقوله : إذا كان هذا الرجل الذي وجد المني على لباسه لم يغتسل ، فإنه يجب عليه أن يغتسل ويعيد الصلوات التي صلاها وهو على جنابة ، لكن أحيانا يرى الإنسان أثر الجنابة على لباسه ولا يدري أكان في الليلة التي قبلها ، فهل يعتبره من الليلة الماضية القريبة أم من الليلة السابقة؟
الجواب : يعتبره من الليلة الماضية القريبة لأن ما قبل الليلة الماضية مشكوك فيه، والأصل الطهارة، وكذلك لو نام بعد صلاة الصبح واستيقظ ووجد في لباسه أثر الجنابة ولا يدري أهو من النوم الذي بعد صلاة الفجر أو من النوم في الليل ، فهل يلزمه إعادة صلاة الفجر؟
الجواب : لا يلزمه إعادة صلاة الفجر ، لأن نوم الليل مشكوك في حصول الاحتلام فيه، وهكذا اجعلها قاعدة عندك: كلما شككت هل هذه الجنابة من نومة سابقة أو لاحقة فاجعله من اللاحقة .
167) وسُئل الشيخ : إذا استيقظ الإنسان فوجد في ملابسه بللا فهل يجب عليه الغسل ؟
فأجاب بقوله : إذا استيقظ الإنسان فوجد بللا ، فلا يخلو من ثلاث حالات :
الحال الأولى : أن يتيقن أنه مني، فيجب عليه حينئذ الاغتسال سواء ذكر احتلاما أم لم يذكر .
الحال الثانية : أن يتيقن أنه ليس بمني ، فلا يجب عليه الغسل في هذه الحال، ولكن يجب عليه أن يغسل ما أصابه ، لأن حكمه حكم البول.
الحال الثالثة : أن يجهل هل هو مني أم لا ؟ ففيه تفصيل :
أولا : إن ذكر أنه احتلم في منامه، فإنه يجعله منيا ويغتسل، لحديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ حين سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل، هل عليها غسل ؟ قال: ( نعم إذا هي رأت الماء ). فدل هذا على وجوب الغسل على من احتلم ووجد الماء.
ثانيا : إذا لم ير شيئا في منامه، فإن كان قد سبق نومه تفكير في الجماع جعله مذيا .
وإن لم يسبق نومه تفكير فهذا محل خلاف :
قيل : يجب عليه الغسل احتياطا .(152/4)
وقيل : لا يجب وهو الصحيح لأن الأصل براءة الذمة .
168) وسُئل : عن حكم السائل الذي يخرج بعد الغسل من الجنابة ؟
فأجاب بقوله : هذا السائل الذي يخرج بعد الغسل إذا لم يكن هناك شهوة جديدة أوجبت خروجه فإنه بقية ما كان من الجنابة الأولى ، فلا يجب الغسل منه، وإنما عليه أن يغسله ويغسل ما أصابه ويعيد الوضوء فقط.
169 ) وسُئل الشيخ : عن الفرق بين المني والمذي والودي ؟
فأجاب بقوله : الفرق بين المني والمذي ، أن المني غليظ له رائحة، ويخرج دفقا عند اشتداد الشهوة وأما المذي فهو ماء رقيق وليس له رائحة المني، ويخرج بدون دفق ولا يخرج أيضا عند اشتداد الشهوة بل عند فتورها إذا فترت تبين للإنسان .
أما الودي فإنه عصارة تخرج بعد البول نقط بيضاء في آخر البول.
هذا بالنسبة لماهية هذه الأشياء الثلاثة .
أما بالنسبة لأحكامها : فإن الودي له أحكام البول من كل وجه.
والمذي يختلف عن البول بعض الشيء في التطهر منه ، لأن نجاسته أخف فيكفي فيه النضح ، وهو أن يعم المحل الذي أصابه بالماء بدون عصر وبدون فرك، وكذلك يجب فيه غسل الذكر كله والأنثيين وإن لم يصبهما .
أما المني فإنه طاهر لا يلزم غسل ما أصابه إلا على سبيل إزالة الأثر فقط، وهو موجب للغسل وأما المذي والودي والبول فكلها توجب الوضوء
170 ) وسُئل فضيلته : هل المذي يوجب الغسل ؟
فأجاب بقوله : المذي لا يوجب الغسل، وإنما يوجب غسل الذكر والأنثيين والوضوء ، لكن لو خرج منه مني ولو بالنظر أو بالتفكر وجب عليه الغسل، والفرق بينهما : أن المني يخرج دفقا مع اللذة، والمذي يخرج بغير دفق ، ويكون بعد برود الشهوة .
171 ) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا خرج من الإنسان ماء أبيض رقيق ، قبل البول أو بعده بدون لذة، وليس بسبب نظر أو تذكر ، فما الحكم ؟(152/5)
فأجاب قائلا : الذي يبدو أن هذا ليس ناتجا عن الشهوة أو تذكر ، كما جاء في آخر السؤال ، وعلى هذا فلا يعتبر مذيا ولا منيا ، وإنما هي رواسب ـ فيما يبدو ـ في قنوات البول ، وتتعقد على هذا الوجه، وتخرج قبل البول وربما بعده أحيانا ، فعليه يكون حكمها حكم البول تماما ، بمعنى أنه يجب تطهيرها وتطهير ما أصابت ويتوضأ ولا يجب أكثر من ذلك . والله الموفق .
172 ) سُئل الشيخ : عن الرجل يجلس بين شعبها الأربع ويمس الختان الختان من غير مجاوزة، ثم ينزل خارج الفرج فهل عليها غسل ؟
فأجاب بقوله : الرجل عليه الغسل ، لأنه أنزل ، وأما المرأة فليس عليها غسل لأنه من شرط وجوب الغسل الإيلاج ، ومن المعلوم أن موضع الختان فوق الحشفة مما يلي قصبة الذكر ، فإذا كان كذلك فلا يمس موضع ختان المرأة إلا بعد أن تلج الحشفة ، ولذلك اشترطنا في وجوب الغسل من الجماع أن يغيب الحشفة، وقد ورد في بعض ألفاظ حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( إذا التقى الختانان وتوارت الحشفة فقد وجب الغسل ) .
173 ) سُئل : هل يجب على الزوجين الغسل بعد الجماع وإن لم يحصل إنزال؟
فأجاب قائلا : نعم يجب عليهما الغسل ، سواء أنزل أم لم ينزل ، لحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل). متفق عليه. وفي لفظ لمسلم: (وإن لم ينزل ) . وهذا صريح في وجوب الغسل، حتى مع عدم الإنزال وهذا يخفى على كثير من الناس، فالواجب التنبيه لذلك .
174 ) وسُئل فضيلة الشيخ : عن الأحكام المتعلقة بالجنابة؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله : الأحكام المتعلقة بالجنابة هي :
أولا : أن الجنب تحرم عليه الصلاة ، فرضها ونفلها، حتى صلاة الجنازة . لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ـ إلى قوله ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(1).(152/6)
ثانيا : أن الجنب يحرم عليه الطواف بالبيت ، لأن الطواف بالبيت مكث في المسجد ، وقد قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)(2) .
ثالثا : أنه يحرم عليه مس المصحف، لقول النبي، صلى الله عليه وسلم : ( لا يمس القرآن إلا طاهر ) .
رابعا : أنه يحرم عليه المكث في المسجد إلا بوضوء لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)(2)
خامسا: يحرم عليه قراءة القرآن حتى يغتسل ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئ الصحابة القرآن ما لم يكونوا جنبا .
هذه الأحكام الخمسة التي تتعلق بمن عليه جنابة .
175 ) وسُئل فضيلة الشيخ : هل يحرم على الجنب والحائض لمس الكتب والمجلات التي تشتمل على آيات قرآنية ؟
فأجاب بقوله : لا يحرم على الجنب ولا الحائض ولا على غير المتوضئ لمس شيء من الكتب أو المجلات التي فيها شيء من الآيات ، لأن ذلك ليس بمصحف .
176) وسُئل فضيلة الشيخ : عن صفة الغسل ؟
فأجاب ـ أجزل الله له المثوبة ـ بقوله : صفة الغسل على وجهين :
الوجه الأول : صفة واجبة، وهي أن يعم بدنه كله بالماء، ومن ذلك المضمضة والاستنشاق، فإذا عمم بدنه على أي وجه كان فقد ارتفع عنه الحدث الأكبر وتمت طهارته ، لقول الله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(1).
الوجه الثاني : صفة كاملة وهي أن يغتسل كما اغتسل النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا أراد أن يغتسل من الجنابة فإنه يغسل كفيه ، ثم يغسل فرجه وما تلوث من الجنابة، ثم يتوضأ وضوءا كاملا ـ على صفة ما ذكرناه في الوضوء ـ ثم يغسل بالماء ثلاثا تروية ثم يغسل بقية بدنه . هذه صفة الغسل الكامل .(152/7)
177 177 ) سُئل الشيخ : عن المرأة إذا كانت عليها جنابة واغتسلت ، هل تغسل شعرها حتى يدخل الماء إلى البشرة ؟
فأجاب قائلا : الغسل من الجنابة أو غيرها من موجبات الغسل فيه إيصال الماء إلى منبت الشعر ، سواء كان ذلك من الرجال أو من النساء، لقوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(1) ولا يجوز لها أن تغسل ظاهر الشعر فقط، بل لابد أن يصل الماء إلى أصول الشعر إلى جلدة الرأس، ولكن إذا كان مجديا فإنه لا يجب عليها نقضه بل يجب عليها أن يصل الماء إلى كل الشعرات بأن تضع الجديلة تحت مصب الماء ثم تعصره حتى يدخل الماء إلى جميع الشعر .
178 ) وسُئل الشيخ ـ أعلى الله تعالى منزلته ـ : هل يلزم الإنسان إذا دخل مغتسله أن يستقبل القبلة ويتلفظ بالنية ؟
فأجاب بقوله : ما ذكره السائل من أن الرجل إذا دخل مغتسله فإنه يستقبل القبلة عند الغسل ليس بصحيح ؛ فإن جميع الذين نقلوا صفة غسل النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروا أنه كان يستقبل القبلة حين اغتساله، ولو كان هذا من الأمور المشروعة لبينه رسول الله، صلى الله عليه وسلم ، لأمته ، إما بقوله ، وإما بفعله، فلما لم يرد ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود سببه لو كان مشروعا ، علم أنه ليس بمشروع، وهذه قاعدة تنفع الإنسان في هذا المقام وغيره، وهي : ( أن كل شيء وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يشرع له قول أو فعل ، فإنه لا يشرع له قول أو فعل ، فإنه لا يشرع له قول ولا فعل ). ومن ذلك النية ـ نية العبادة أي التلفظ بها ـ فإن العبادات كان الرسول عليه الصلاة والسلام ، يفعلها ولا يتلفظ بالنية لها ، ولو كان هذا مشروعا
لفعله ولو فعله لنقل إلينا ، وكذلك استقبال القبلة حين الغسل؛ نقول هذا وجد سببه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الغسل ، ولم ينقل عنه أنه كان يتجه إلى القبلة حين اغتساله، ولو كان مشروعا لفعله ولو فعله لنقل إلينا .(152/8)
179 ) وسُئل الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : إذا توضأ الإنسان بعد الغسل من الجنابة وهو عار فهل وضوؤه صحيح ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الأفضل أن الإنسان إذا انتهى من الاغتسال أن يلبس ثيابه، لئلا يبقى مكشوف العورة بلا حاجة، ولكن لو توضأ بعد الاغتسال من الجنابة، فلا حاجة عليه في ذلك ووضوؤه صحيح، ولكن هذا الوضوء ينبغي أن يكون قبل أن يغتسل؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم ، كان يتوضأ عند الاغتسال قبل الاغتسال ، أما بعد الغسل فلا وضوء عليه ، ولو أن الإنسان نوى الاغتسال واغتسل بدون وضوء سابق ولا لاحق أجزأه ذلك ، لأن الله تعالى لم يوجب على الجنب إلا الطهارة بجميع البدن،حيث قال عز وجل: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(1) . ولم يوجب الله تعالى وضوءا،وعلى هذا فلو أن أحدا نوى رفع الحدث من الجنابة ، وانغمس في بركة أو بئر أو في البحر وهو قد نوى رفع الحدث الأكبر، أجزأه ذلك إذا تمضمض واستنشق ولم يحتج إلى وضوء . والله اعلم .
180 ) وسُئل الشيخ : هل يجزئ الغسل من الجنابة عن الوضوء ؟
فأجاب بقوله : إذا كان على الإنسان جنابة واغتسل فإن ذلك يجزئه عن الوضوء، لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا )(1) .ولا يجب عليه إعادة الوضوء بعد الغسل، إلا إذا حصل ناقض من نواقض الوضوء، فأحدث بعد الغسل ، فيجب عليه أن يتوضأ ، وأما إذا لم يحدث فإن غسله من الجنابة يجزئ عن الوضوء سواء توضأ قبل الغسل أم لم يتوضأ ، لكن لابد من ملاحظة المضمضة والاستنشاق، فإنه لابد منهما في الوضوء والغسل .
181) وسُئل : هل يجزئ الغسل غير المشروع عن الوضوء ؟
فأجاب قائلا : الغسل غير المشروع لا يجزئ عن الوضوء، لأنه ليس بعبادة.
182) وسُئل : هل الاستحمام يكفي عن الوضوء ؟(152/9)
فأجاب قائلا : الاستحمام ـ إن كان عن جنابة ـ فإنه يكفي عن الوضوء لقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) . فإذا كان على الإنسان جنابة وانغمس في بركة أو في نهر أو ما أشبه ذلك، ونوى بذلك رفع الجنابة وتمضمض واستنشق ، فإنه يرتفع الحدث عنه الأصغر والأكبر، لأن الله تعالى لم يوجب عند الجنابة سوى أن نطهر، أي أن نعم جميع البدن بالماء غسلا ، وإن كان الأفضل أن المغتسل من الجنابة يتوضأ ، أولا، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يغسل فرجه بعد أن يغسل كفيه ثم يتوضأ وضوءه للصلاة ، ثم يفيض الماء على رأسه،
فإذا ظن أنه أروى بشرته، أفاض عليه ثلاث مرات ، ثم يغسل باقي جسده .
أما إذا كان الاستحمام لتنظيف أو لتبرد ، فإنه لا يكفى عن الوضوء، لأن ذلك ليس من العبادة، وإنما هو من الأمور العادية، وإن كان الشرع يأمر بالنظافة لكن لا على هذا الوجه ، بل النظافة مطلقا في أي شيء يحصل فيه التنظيف. وعلى كل حال إذا كان الاستحمام للتبرد أو النظافة فإنه لا يجزئ عن الوضوء . والله أعلم.
183 ) وسُئل ـ حفظه الله تعالى ـ إذا اغتسل الإنسان ولم يتمضمض ولم يستنشق فهل يصح غسله ؟
فأجاب بقوله : لا يصح الغسل بدون المضمضة والاستنشاق ، لأن قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا). يشمل البدن كله، وداخل الفم وداخل الأنف من البدن الذي يجب تطهيره، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمضمضة والاستنشاق في الوضوء، لدخولهما في قوله تعالى: (اغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(1) فإذا كانا داخلين في غسل الوجه ـ والوجه مما يجب تطهيره وغسله في الطهارة الكبرى ـ كان واجبا على من اغتسل من الجنابة أن يتمضمض ويستنشق .
184 ) وسُئل ـ رعاه الله ـ : إذا جامع الرجل زوجته وأراد العود مرة ثانية فماذا يلزمه ؟
فأجاب بقوله : هاهنا ثلاث مراتب :
الأولى : أن يغتسل قبل أن يعود، وهذه أكمل المراتب .(152/10)
الثانية : أن يقتصر على الوضوء فقط قبل أن يعود، وهذه دون الأولى.
الثالثة : أن يعود بدون غسل ولا وضوء ، وهذه أدنى المراتب وهي جائزة.
لكن الأمر الذي ينبغي التفطن له أن لا يناما إلا على أحد الطهارتين إما الوضوء أو الغسل .
185 ) وسُئل : هل تحتلم المرأة ؟ وإذا احتلمت فماذا يجب عليها ؟ ومن احتلمت ولم تغتسل فماذا يلزمها؟
فأجاب بقوله : المرأة قد تحتلم، لأن النساء شقائق الرجال، فكما أن الرجال يحتلمون فالنساء كذلك .
وإذا احتلمت المرأة أو الرجل كذلك ولم يجد شيئا بعد الاستيقاظ ، أي ما وجد أثرا من الماء فإنه ليس عليها غسل، وإن وجدت الماء فإنه يجب إن تغتسل لأن أم سلمة قالت : يا رسول الله هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت؟ قال : ( نعم إذا هي رأت الماء) فإذا رأت الماء وجب عليها الغسل.
وأما من احتلمت فيما مضى فإن كانت لم تر الماء فليس عليها شيء ، وأما إن كانت رأته فإنها تتحرى كم صلاة تركتها وتصليها .
---
(1) سورة البقرة ، الآية : 222.
(1) سورة المائدة ، الآية : 6.
(2)سورة النساء ، الآية :43.
(1) سورة المائدة ،الآية : 6.
(1) سورة المائدة ، الآية : 6.
(1) سورة المائدة ، الآية :6.
(1) سورة المائدة، الآية : 6.
(1) سورة المائد، الآية : 6(152/11)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب التيمم
محمد بن صالح العثيمين
باب التيمم
186) وسُئل فضيلة الشيخ : هل التيمم رافع للحدث أو مبيح؟
فأجاب بقوله : الصواب أن التيمم مطهر ورافع للحدث، لقول الله تعالى حين ذكر التيمم : (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ )(1) . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) . والطهور ـ بالفتح ـ ما يتطهر به .
وكذلك من النظر فالتيمم بدل ، والقاعدة الشرعية أن للبدل حكم المبدل وفائدته قولن بدل ، أنه لا يمكن العمل به مع وجود الأصل وهو الماء، فإذا وجد الماء بطل التيمم، ووجب عليه أن يغتسل إن كان تيمم عما يوجب الغسل، وأن يتوضأ إذا كان التيمم عن حدث أصغر لحديث الرجل الذي أصابته جنابة ولا ماء فاعتزل ولم يصل، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : ( لم لم تصل مع الناس؟ ) . فقال : أصابتني جنابة ولا ماء . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) . فهذا الرجل تيمم عن الجنابة، ولما جاء الماء قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( خذ هذا وأفرغه على نفسك ) . ولو كان التيمم رافعا للحدث رفعا مستمرا، ما بطل بوجود الماء . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم يجد الماء عشر سنين، فإذا وجده فليتق الله وليمسه بشرته ) .
187 ) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا تعذر استعمال الماء، فبماذا تحصل الطهارة؟
فأجاب بقوله : إذا تعذر استعمال الماء ، لعدمه أو التضرر باستعماله، فإنه يعدل عن ذلك إلى التيمم ،بأن يضرب الإنسان بيديه على الأرض ثم يمسح بهما وجهه ويمسح بعضها ببعض، لكن هذا خاص بالطهارة من الحدث .(153/1)
أما طهارة الخبث فليس فيها تيمم، سواء كانت على البدن أو على الثوب أو على البقعة، لأن المقصود من التطهر من الخبث إزالة هذه العين الخبيثة، وليس التعبد فيها شرطا، ولهذا لو زالت هذه العين الخبيثة بغير قصد من الإنسان طهر المحل ، فلو نزل المطر على مكان نجس أو على ثوب نجس وزالت النجاسة بما نزل من المطر، فإن المحل يطهر بذلك، وإن كان الإنسان ليس عنده علم بهذا، بخلاف طهارة الحدث فإنها عبادة يتقرب بها الإنسان إلى الله عز وجل، فلابد فيها من النية والقصد .
188 ) وسُئل الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : من أصبح جنبا في وقت بارد فهل يتيمم ؟
فأجاب قائلا : إذا كان الإنسان جنبا فإن عليه أن يغتسل، لقول الله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(1).فإن كانت الليلة باردة ولا يستطيع أن يغتسل بالماء البارد، فإنه يجب عليه أن يسخنه إذا كان يمكنه ذلك ، فإن كان لا يمكنه أن يسخنه لعدم وجود ما يسخن به الماء، فإنه في هذه الحال يتيمم عن الجنابة ويصلي، لقول الله تعالى:(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْجَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(1) .(153/2)
وإذا تيمم عن الجنابة ، فإنه يكون طاهرا بذلك ويبقى على طهارته حتى يجد الماء، فإذا وجد الماء وجب عليه أن يغتسل، لما ثبت في صحيح البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم، قال : ( ما منعك؟) قال : أصابتني جنابة ولا ماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك ) . ثم حضر الماء بعد ذلك فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم ماء وقال : ( أفرغه على نفسك ) . فدل هذا على أن المتيمم إذا وجد الماء، وجب عليه أن يتطهر به ، سواء كان ذلك عن الجنابة أو عن حدث أصغر، والمتيمم إذا تيمم عن جنابة ، فإنه يكون طاهرا منها حتى يحصل له جنابة أخرى ، أو يجد الماء ، وعلى هذا فلا يعيد تيممه عن الجنابة لكل وقت، وإنما يتيمم بعد تيممه من الجنابة يتيمم عن الحدث الأصغر إلا إن يجنب.
189) وسُئل : إذا خشي الإنسان من استعماله الماء البارد فهل يجوز له أن يتيمم أو لا ؟(153/3)
فأجاب بقوله : لا يجوز أن يتيمم ، بل يجب عليه أن يصبر ويستعمل هذا الماء البارد في الوضوء، إلا إذا كان يخشى من ضرر يلحقه، فإنه لا بأس أن يتيمم حينئذ إذا لم يجد ما يسخن به الماء، وإذا تيمم وصلى فليس عليه إعادة الصلاة، لأنه صلى كما أمر، وكل من أتى بالعبادة على وجه أمر به فإنه ليس عليه إعادة تلك العبادة. أما مجرد أنه يتأذى ببرودته ليس بعذر، فإنه غالبا ـ ولا سيما ممن لا يكون في البلد، الغالب أنه في أيام الشتاء ـ لابد أن يكون الماء باردا ويتأذى الإنسان من برودته ولكنه لا يخشى منه الضرر، أما من يخشى من الضرر فإنه لا بأس أن يتيمم، ويصلى ولا إعادة عليه إذا لم يجد ما يسخن به الماء، ولا يجوز أن ينتظر حتى تخرج الشمس ويسخن الماء، بل الواجب عليه أداء الصلاة في وقتها على الوجه الذي أمر به، إن قدر على استعمال الماء بدون ضرر استعمله، وإذا كان يخشى من الضرر تميم، أما تأخير الصلاة حتى خروج الوقت فلا .
190 ) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا لم يجد الراعي ماء فهل يتيمم ؟
فأجاب بقوله : نعم إذا حضرت الصلاة ولم يكن عنده ماء فيباح له التيمم، قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما ذكره من خصائصه التي خصه الله بها وأمته قال صلى الله عليه وسلم : ( وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل أدركته الصلاة فليصل ) . فإذا أدركتك الصلاة فصل إن كان عندك ماء تطهرت به، وإن لم يكن عندك ماء فتطهر بالتراب ويجزئك ذلك .(153/4)
صفة التيمم المشروعة أن ينوي الإنسان أنه يتيمم لقول النبي ، صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) . ثم يضرب الأرض بيديه ضربه واحدة يمسح بها وجهه وكفيه وبهذا يتم تيممه ويكون طاهرا يحل له بهذا التيمم ما يحل له بالتطهر بالماء لأن الله عز وجل قال : ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون)(1) فبين الله تعالى أن الإنسان بالتيمم يكون طاهرا، قال الرسول، عليه الصلاة والسلام:( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) . والطهور ـ بالفتح ـ ما يتطهر به، ولهذا كان الراجح من قول العلماء أن التيمم رافع للحدث ما دام الإنسان لم يجد الماء فيجوز له إذا تيمم ان يصلى .
191 ) وسُئل الشيخ : إذا كان عند الإنسان ماء لا يكفي إلا لبعض الأعضاء فما العمل؟
فأجاب بقوله : عليه أن يستعمل الماء أولا ثم يتيمم للباقي، لأنه لو تيمم مع وجود الماء لم يصدق عليه أنه عادم للماء ، ودليل ذلك قول الله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) . وقوله : ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(1).وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ) . فإذا غسل ما استطاع وانتهى الماء، فإنه بهذا الفعل اتقى الله، وما بقي فالماء متعذر، فيرجع إلى بدله وهو التيمم، ولا تضاد بين الحكمين، لأن استعمال الماء من تقوى الله تعالى، واستعمال التيمم عند عدم الماء من تقوى الله أيضا، فربما يستدل لما قلنا بجمع النبي صلى الله عليه وسلم بين طهارة المسح وطهارة الغسل، بما يروى في حديث صاحب الشجة: ( إنما كان يكفيك أن تتيمم وتعصب على جرحك خرقة ثم تمسح عليها ) .
فإن قيل : إنه هذا جمع بين البدل والمبدل منه فكيف يصح؟(153/5)
فنقول : إن التيمم هنا ليس عن الأعضاء المغسولة، ولكنه عن الأعضاء التي لم تغسل فهو شبيه بالمسح على الخفين من بعض الوجوه، لأن فيه غسل لبعض الأعضاء التي تغسل ومسح على الخف بدلا عن غسل الرجل التي تحته ، فهنا جمع بين بدل ومبدل منه .
192 ) وسُئل : عن شخص استيقظ من النوم وعليه جنابة فإذا اشتغل بالغسل خرج وقت الفجر فهل يتيمم ؟
فأجاب قائلا : عليه أن يغتسل ويصلي الصلاة، ولو بعد الوقت، وذلك لأن النائم يكون وقت الصلاة في حقه وقت استيقاظه،لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) . فأنت حين استيقاظك كأن الوقت دخل الآن ، فاغتسل وافعل الواجبات التي تسبق الصلاة ثم صل .
193 ) وسُئل ـ حفظه الله ـ : إذا كان على بدن المريض نجاسة فهل يتيمم لها؟
فأجاب قائلا : لا يتيمم لها، إن أمكن هذا المريض أن يغسل هذه النجاسة غسلها، وإلا صلى بحسب حاله بلا تيمم، لأن التيمم لا يؤثر في إزالة النجاسة، وذلك أن المطلوب تخلي البدن عن النجاسة، وإذا تيمم لها فإن النجاسة لا تزول عن البدن، ولأنه لم يرد التيمم عن النجاسة، والعبادات مبناها على الاتباع .
194 ) سُئل الشيخ : إذا كان على الإنسان نجاسة لا يستطيع إزالتها فهل يتيمم لها؟
فأجاب بقوله : إذا كان على الإنسان نجاسة وهو لا يستطع إزالتها فإنه يصلي بحسب حاله ولا يتيمم لها ، ولكن يخفف النجاسة ما أمكن بالحك أو ما أشبه ذلك ، وإذا كانت مثلا في ثوب يمكنه خلعه ، ويستتر بغيره، وجب عليه أن يخلعه ويستتر بغيره.
195 ) وسُئل فضيلة الشيخ : عن رجل عليه ملابس بها نجاسة وليس عنده ماء، ويخشى خروج الوقت فكيف يعمل؟(153/6)
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلا : نقول له خفف عنك ما أمكن من هذه النجاسة ، فإذا كانت في ثوب وعليك ثوبان ، فاخلع هذا الثوب النجس وصل بالطاهر، وإذا كان عليك ثوبان كلاهما نجس أو ثلاثة وكل منها نجس ، فخفف ما أمكن من النجاسة، وما لم يمكن إزالته أو تخفيفه من النجاسة ، فإنه لا حرج عليك لقول الله تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ )(1) . فتصلي بالثوب ولو كان نجسا، ولا إعادة عليك على القول الراجح ، فإن هذا من تقوى الله تعالى ما استطعت ، والإنسان إذا اتقى الله ما استطاع، فقد أتى ما أوجبه الله عليه، ومن أتى بما أوجبه الله عليه فقد ابرأ ذمته . والله الموفق .
196 ) وسُئل الشيخ : هل يشترط في التراب المتيمم به أن يكون له غبار ؟ وهل قوله تعالى : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) . قوله : ( منه ) دليل على اشتراط الغبار ؟
فأجاب بقوله : القول الراجح أنه لا يشترط للتيمم أن يكون بتراب فيه غبار، بل إذا تيمم على الأرض أجزأه سواء كان فيها غبار أم لا ، وعلى هذا فإذا نزل المطر على الأرض، فيضرب الإنسان بيديه على الأرض ويمسح وجهه وكفيه، وإن لم يكن للأرض غبار في هذه الحال، لقول الله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ)(1) . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسافرون إلى جهات ليس فيها إلا رمال، وكانت الأمطار تصيبهم وكانوا يتيممون كما أمر الله عز وجل؛ فالقول الراجح أن الإنسان إذا تيمم على الأرض فإن تيممه صحيح، سواء كان على الأرض غبار أم لم يكن .
وأما قوله تعالى : ( فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) . فإن ( من) لابتداء الغاية وليست للتبعيض، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه نفخ في يديه حين ضرب بهما الأرض .
197 ) وسُئل فضيلته : عن شخص تيمم على صخرة لعدم استطاعته استعمال الماء، فهل يجب عليه إعادة الصلاة؟(153/7)
فأجاب بقوله : لا يجب عليه إعادة الصلاة إذا كان حين التيمم لا يستطيع استعمال الماء، لأن الله عز وجل قال: ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(2) وقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ).فإذا كنت غير مستطيع لاستعمال الماء تيممت ولو بقيت مدة طويلة تصلي بالتيمم فإنه لاشيء عليك ما دام الشرط موجودا وهو تعذر استعمال الماء .
198 ) وسُئل فضيلته : إذا أصابت المريض جنابة ولم يتمكن من استعمال الماء فهل يتيمم ؟
فأجاب بقوله : إذا أصابت الرجل جنابة أو المرأة وكان مريضا لا يتمكن من استعمال الماء، فإنه في هذه الحال يتيمم لقول الله تبارك وتعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ )(1).وإذا تيمم من هذه الجنابة فإنه لا يعيد التيمم عنها مرة أخرى إلا بجنابة تحدث له أخرى ولكنه يتيمم عن الوضوء كلما انتقض وضوؤه .
والتيمم رافع للحدث مطهر للمتيمم لقول الله تعالى حين ذكر التيمم، وقبله الوضوء والغسل قال سبحانه وتعالى : (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)(2).(153/8)
وثبت عن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ). والطهور ما يتطهر به الإنسان ، لكن التيمم مطهر طهارة مقيدة بزوال المانع من استعمال الماء فإذا زال المانع من استعمال الماء، فبرأ المريض ووجد الماء من عدمه، فإنه يجب عليه أن يغتسل إذا كان تيمم عن جنابة وأن يتوضأ إذا كان تيمم عن حدث أصغر ويدل على ذلك ما رواه البخاري من حديث عمران بن حصين الطويل وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ، رأى رجلا معتزلا لم يصل في القوم فسأله ما الذي منعه فقال يا رسول الله أصابتني جنابة ، ولا ماء . فقال : ( عليك بالصعيد فإنه يكفيك ). ثم حضر الماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستقى الناس منه وبقي منه بقية، فقال للرجل : ( خذ هذا فأفرغه على نفسك ). وهذا دليل على أن التيمم مطهر وكاف عن الماء لكن إذا وجد الماء فإنه يجب استعماله، ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفرغه على نفسه بدون أن يحدث له جنابة جديدة، وهذا القول هو الراجح من أقوال أهل العلم .
199 ) وسُئل فضيلة الشيخ : عن المريض لا يجد التراب فهل يتيمم على الجدار، وكذلك الفرش أم لا؟
فأجاب ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ بقوله : الجدار من الصعيد الطيب ، فإذا كان الجدار مبنيا من الصعيد سواء كان حجرا أو كان مدرا ـ لبنا من الطين ـ ، فإنه يجوز التيمم عليه، أما إذا كان الجدار مكسوا بالأخشاب أو (بالبوية) فهذا إن كان عليه تراب ـ غبار ـ فإنه يتيمم به ولا حرج ، ويكون كالذي يتيمم على الأرض، لأن التراب من مادة الأرض، أما إذا لم يكن عليه تراب، فإنه ليس من الصعيد في شيء ، فلا يتيمم عليه.
وبالنسبة للفرش نقول : إن كان فيها غبار فليتيمم عليها ، وإلا فلا يتيمم عليها لأنها ليست من الصعيد .
200 ) وسُئل : إذا تيمم الإنسان لنافلة، فهل يصلي بذلك التيمم الفريضة؟(153/9)
فأجاب بقوله : جواب هذا السؤال يتضح مما سبق وهو أن التيمم رافع للحدث، فحينئذ له أن يصلي الفريضة ـ وإن كان يتيمم لنافلة ـ كما لو توضأ لنافلة جاز له أن يصلي بذلك الوضوء الفريضة ، ولا يجب إعادة التيمم إذا خرج الوقت، ما لم يوجد ناقض.
201 ) وسُئل فضيلة الشيخ : ما الحكم إذا وجد المتيمم الماء في أثناء الصلاة أو بعدها ؟
فأجاب بقوله : إذا وجد المتيمم الماء في الصلاة، فهذه المسالة محل خلاف بين أهل العلم .
فمنهم من قال : إن التيمم لا يبطل بوجود الماء حينئذ لأنه شرع في الصلاة على وجه مأذون فيه شرعا، فلا يخرج منها إلا بدليل شرعي .
ومنهم من قال : إنه يبطل التيمم بوجود الماء في الصلاة، واستدلوا بعموم قوله تعالى : ( فإن لم تجدوا ماء ) . وهذا قد وجد الماء فيبطل تيممه، وإذا بطل التيمم بطلت الصلاة، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم : ( فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ) . ولأن التيمم بدل عن طهارة الماء عند فقده، فإذا وجد الماء زالت البدلية فيزول حكمها، فحينئذ يخرج من الصلاة ويتوضأ ويستأنف الصلاة من جديد. والذي يظهر لي ـ والعلم عند الله تعالى ـ أن القول الثاني أقرب للصواب.
أما إذا وجد الماء بعد الصلاة ، فإنه لا يلزمه أن يعيد الصلاة، لما رواه أبو داود وغيره في قصة الرجلين اللذين تيمما ثم صليا وبعد صلاتهما وجدا الماء في الوقت ، فأما أحدهما فلم يعد الصلاة وأما الآخر فتوضأ وأعاد الصلاة ، فلما قدما أخبرا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال عليه الصلاة والسلام للذي لم يعد : (أصبت السنة) . وقال للذي أعاد : ( لك الأجر مرتين ) .
فإن قال قائل : أنا أريد الأجر مرتين .
قلنا : إنك إذا علمت بالسنة فخالفتها فليس لك الأجر مرتين ، بل تكون متبتدعا ، والذي في الحديث لم يعلم بالسنة، فهو مجتهد فصار له أجر العملين العمل الأول والثاني .(153/10)
فإن قيل : المجتهد إذا أخطأ فليس له إلا أجر واحد كما جاء في الحديث : ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر ) . فكيف كان لهذا المخطئ في إعادة الصلاة الأجر مرتين؟
فالجواب : أن هذا عمل عملين بخلاف الحاكم المخطئ ، فإنه لم يعمل إلا عملا واحدا فلم يحكم مرتين .
بهذا يتبين لنا أن موافقة السنة أفضل من كثرة العمل، فإذا قال قائلا مثلا : أنا أريد أن أطيل ركعتي الفجر لفضل الوقت، وكثرة العمل،
قلنا له : لم تصب ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخفف ركعتي الفجر كما جاء ذلك في حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ ومثال ذلك أيضا لو قال: أريد أن أطيل ركعتي الطواف، قلنا : لم تصب السنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخففهما وهذه فائدة مهمة على طالب العلم أن يعيها. والله الموفق .
202 ) وسُئل فضيلة الشيخ : هل الأفضل للإنسان إذا لم يجد الماء أن يؤخر الصلاة إلى آخر الوقت ، رجاء وجود الماء؟ أو يتيمم ويصلي في الوقت ؟
فأجاب بقوله :
أولا : يترجح تأخير الصلاة إلى آخر الوقت في حالين :
الأول: إذا علم وجود الماء ، فالأفضل أن يؤخر الصلاة ولا يقال بالوجوب، لأن علمه بذلك ليس أمرا مؤكدا، لأنه قد يتخلف المعلوم .
الثاني : إذا ترجح عنده وجود الماء، فيؤخر الصلاة ، لأن في ذلك محافظة على شرط من شروط الصلاة، وهو الطهارة بالماء، لأن في ذلك محافظة على شروط الصلاة، وهو الطهارة بالماء ، وفي الصلاة أول الوقت محافظة على فضيلة فقط ، وعلى هذا يكون التأخير والطهارة والطهارة بالماء أفضل .
ثانيا : يترجح تقديم الصلاة في أول وقتها في ثلاث حالات :
الأولى : إذا علم أنه لن يجد الماء .
الثانية : إذا ترجح أنه لن يجد الماء .
الثالثة : إذا تردد فلم يترجح عنده شيء .
---
(1) سورة المائدة ، الآية : 6.
(1) سورة المائدة، الآية : 6.
(1) سورة المائدة ، الآية : 6.
(1) سورة المائدة ، الآية :6 .
(1) سورة التغابن ، الآية :16.(153/11)
(1) سورة التغابن ، الآية :16.
(1) سورة المائدة ، الآية:6.
(2) سورة المائدة، الآية :6.
(1) سورة المائدة، الآية :6.
(2) سورة المائدة ، الآية :6.(153/12)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب إزالة النجاسة
محمد بن صالح العثيمين
باب إزالة النجاسة
203 ) سُئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته ومنزلته ـ : عن النجاسات الحكمية وكيفية تطهير ما أصابت ؟
فاجاب بقوله : النجاسات الحكمية هي النجاسة الواردة على مكان طاهر، فهذه يجب علينا أن نغسلها ، وأن ننظف المحل الطاهر منها، فيما إذا كان يقتضي الطهارة.
وكيفية تطهير ما أصابت النجاسة تختلف بحسب المواضع وبحسب جنس النجاسة .
أولا : إذا كانت النجاسة على الأرض، فإنه يكتفى بصب الماء عليها بعد إزالة عينها إن كانت ذات جرم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة حين بال الرجل في طائفة المسجد : ( أريقوا على بوله سجلا من ماء ) . فإذا كانت النجاسة على الأرض ، فإن كانت ذات جرم أزلنا جرمها أولا ، ثم صببنا الماء عليها مرة واحدة ويكفي .
ثانيا : إذا كانت النجاسة على غير الأرض وهي نجاسة كلب ، فإنه لابد من تطهيرها من سبع غسلات إحدها بالتراب ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداهن بالتراب ) .
ثالثا : إذا كانت النجاسة على غير الأرض وليست نجاسة كلب، فإن القول الراجح أنها تطهر بزوالها على أي حال كان، سواء زالت بأول غسلة أو بالغسلة الثانية أو الثالثة أو الرابعة أو الخامسة ، المهم متى زالت عين النجاسة فإنها تطهر ، لكن إذا كانت النجاسة بول غلام صغير لم يأكل الطعام ، فإنه يكفي أن تغمر بالماء المحل النجس وهو ما يعرف عند العلماء بالنضح ، ولا يحتاج إلى غسل ودلك ، لأن نجاسة بول الغلام الصغير الذي لم يأكل الطعام نجاسة مخففة .
204 ) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم اقتناء الكلاب ؟ وهل مسه ينجس اليد؟ وعن كيفية تطهير الأواني التي بعده ؟(154/1)
فأجاب قائلا : اقتناء الكلاب لا يجوز إلا في ما رخص فيه الشارع، والنبي عليه الصلاة والسلام ، رخص من ذلك في ثلاث كلاب : كلب الماشية يحرسها من السباع والذئاب ، وكلب الزرع من المواشي والأغنام وغيرها ، وكلب الصيد ينتفع به الصائد، هذه الثلاثة التي رخص النبي صلى الله عليه وسلم فيها باقتناء الكلب فما عداها فإنه لا يجوز، وعلى هذا فالمنزل الذي يكون في وسط البلد لا حاجة أن يتخذ الكلب لحراسته، فيكون اقتناء الكلب لهذا الغرض في مثل هذه الحال محرما لا يجوز وينتقص من أجور أصحابه كل يوم قيراط أو قيراطان، فعليهم أن يطردوا هذا الكلب وألا يقتنوه، أما لو كان هذا البيت في البر خاليا ليس حوله أحد فإنه يجوز أن يقتنى الكلب لحراسه البيت ومن فيه ، وحراسة أهل البيت أبلغ في الحفاظ من حراسة المواشي والحرث .
وأما مس هذا الكلب فإن كان مسه بدون رطوبة فإنه لا ينجس اليد، وإن كان مسه برطوبة فإن هذا يوجب تنجيس اليد على رأي كثير من أهل العلم، ويجب غسل اليد بعده سبع مرات ، إحداها بالتراب .
وأما الأواني التي بعده إذا ولغ في الأناء أي شرب منه يجب غسل الإناء سبع مرات إحداها بالتراب كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحداها بالتراب ) . والأحسن أن يكون التراب في الغسلة الأولى . والله أعلم .
205 ) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حديث ابن عمر، ـ رضي الله عنهما ـ قال: ( كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ؟
فأجاب بقوله : الحديث المشار إليه وجدته في صحيح البخاري عن ابن عمر قال ( كانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد في زمان رسول الله ، فلم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ) . وقد أشكل هذا الحديث على العلماء ـ رحمهم الله ـ واختلفوا في تخريجه :(154/2)
فقال أبو داود : إن الأرض إذا يبست طهرت، واستدل بهذا الحديث، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام فإنه ذكر أن الأرض تطهر بالشمس والريح، واستدل بهذا الحديث .
وذهب بعض العلماء إلى أن قوله : (وتبول ) يعني في غير المسجد وأن الذي في المسجد إنما هو الإقبال والإدبار لكن هذا التخريج ضعيف ، لأنها لو كانت لا تبول في المسجد لم يكن فائدة في قوله : ( ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك ) . وقال ابن حجر في فتح الباري: والأقرب أن يقال أن ذلك في أول الأمر قبل ان يؤمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها .
والذي يظهر لي أن كلام شيخ الإسلام هو الصحيح وأن الأرض إذا أصابتها النجاسة فيبست حتى زال أثرها فإنها تطهر لأن الحكم يدور مع علته، فإذا لم يبق للنجاسة أثر صارت معدومة فتطهر الأرض بذلك.
206 ) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا زالت عين النجاسة بالشمس فهل يطهر المكان؟
فأجاب قائلا : إذا زالت عين النجاسة بأي مزيل كان، فإن المكان يطهر، لأن النجاسة عين خبيثة فإذا زالت زال ذلك الوصف وعاد الشيء إلى طهارته ، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما، وإزالة النجاسة ليست من باب المأمور به حتى يقال : لابد من فعله، بل هو من باب اجتناب المحظور، ولا يرد على هذا حديث بول الأعرابي في المسجد ، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بدنوب من ماء فأريق على بوله ، لأن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بصب الماء عليه لأجل المبادرة بتطهيره، لأن الشمس لا يحصل بها التطهير الفوري، بل يحتاج إلى أيام ، لكن الماء يطهره في الحال، والمسجد يحتاج إلى المبادرة بتطهيره، ولذلك ينبغي للإنسان أن يبادر بإزالة النجاسة، لأن هذا هو هدي النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ولأن فيه تخلصا من النجاسة ، وحتى لا ينسى الإنسان هذه النجاسة أو ينسى مكانها.
207 ) وسُئل حفظه الله تعالى : هل الدخان نجس ؟(154/3)
فأجاب قائلا : الدخان ليس بنجس نجاسة حسية بلا ريب ، لأنه نبات وإنما كان حراما لما يترتب عليه من الأضرار البدنية والمالية والاجتماعية، ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون نجسا، فهذا الخمر حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين وليس بنجس نجاسة حسية على القول الراجح ، ففي صحيح مسلم عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هل علمت أن الله قد حرمها ؟ ) قال لا ، فسار إنسانا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( بم ساررته ؟ ) . قال أمرته ببيعها ، فقال النبي ، صلى الله عليه وسلم : ( إن الذي حرم شربها حرم بيعها ) . قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها . ا هـ ص 1206ط الحلبي تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، وفي صحيح البخاري ص 112 جـ 5 من الفتح ط السلفية عن أنس أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم ، مناديا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت . قال : فقال لي أبو طلحة : اخرج فأهرقها ، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. ولو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية لأمر النبي ، صلى الله عليه وسلم ، صاحب الراوية أن يغسلها كما فعل النبي ، صلى الله عليه وسلم ، حين حرمت الحمير عام خبير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( أهريقوها واكسروها )، فقال او نهريقها ونغسلها؛ قال:(أو ذاك).ثم لو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية فإن الدخان ( التتن) ليس بنجس نجاسة حسية من باب أولى، أما تحريم التدخين فإن من قرأ ما كتبه العلماء وقرره الأطباء عنه لم يشك في أنه حرام، وهو الذي نراه ونفتي به .
208) وسُئل فضيلته : عن حكم بول الطفل الصغير إذا وقع على الثوب؟(154/4)
فأجاب قائلا : الصحيح في هذه المسألة أن بول الذكر الذي يتغذى باللبن خفيف النجاسة، وأنه يكفي في تطهيره النضح ، وهو أن يغمره بالماء يصب عليه الماء حتى يشمله بدون فرك . وبدون عصر، وذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جيء بابن صغير فوضعه في حجره فبال عليه، فدعا بماء فأتبعه إياه ولم يغسله، أما بالنسبة للأنثى فلابد من غسل بولها، لأن الأصل أن البول نجس ويجب غسله لكن يستثنى الغلام الصغير لدلالة السنة عليه .
209 ) وسُئل فضيلة الشيخ : هل الخمر نجسة وكذلك الكولونيا؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله : هذه المسألة وهي نجاسة الخمر، إن أريد بالنجاسة النجاسة المعنوية ، فإن العلماء مجمعون على ذلك ، فإن الخمر نجس وخبيث، ومن أعمال الشيطان؛ وإن أريد بها النجاسة الحسية فإن المذاهب الأربعة وعامة الأمة على إنها نجسة ، يحب التنزة منها وغسل ما أصابته من ثوب أو بدن ، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها ليست نجسة نجاسة حسية بل أن نجاستها معنوية عملية .(154/5)
فالذين قالوا : إنها نجسة نجاسة حسية ومعنوية استدلوا بقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(1). والرجس هو النجس ، لقوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ)(2). ولحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم ، أمر أبا طلحة أن ينادي إن الله ورسوله ينهيانكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس ، فالرجس في الآية والحديث بمعنى النجس نجاسة حسية، فكذلك هي في آية الخمر رجس نجس نجاسة حسية .
وأما الذين قالوا بطهارة الخمر طهارة حسية، أي أن الخمر نجس نجاسة معنوية لا حسية، فقالوا : إن الله سبحانه وتعالى قيد في سورة المائدة ذلك الرجس بقوله : (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)(1).فهو رجس عملي وليس رجسا عينيا ذاتيا، بدليل أنه قال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ)(2). ومن المعلوم أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجسة نجاسة حسية، فقرن هذه الأربعة: الخمر والميسر والأنصاب والأزلام في وصف واحد الأصل أن تتفق فيه ، فإذا كانت الثلاثة نجاستها نجاسة معنوية، فكذلك الخمر نجاسته معنوية لأنه من عمل الشيطان.
وقالوا أيضا : إنه ثبت أنه لما نزل تحريم الخمر أراقها المسلمون في الأسواق، ولو كانت نجسة ما جازت إراقتها في الأسواق لأن تلويث الأسواق بالنجاسات محرم ولا يجوز .(154/6)
وقالوا أيضا : إن الرسول صلى الله عليه وسلم ، لما حرمت الخمر ، لم يأمر بغسل الأواني منها ولو كانت نجسة لأمر بغسل الأواني منها كما أمر بغسلها من لحوم الحمر الأهلية حين حرمت .
وقالوا أيضا : قد ثبت في صحيح مسلم أن رجلا أتى براوية من خمرإلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهداها إليه، فقال الرسول عليه الصلاة و السلام:(أما علمت أنها قد حرمت) ثم سارة رجل أي كلم صاحب الراوية رجل بكلام سر فقال : ( ماذا قلت ؟ ) قال : قلت: يبيعها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه ) . فأخذ الرجل بفم الراوية فأراق الخمر ، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسلها منه ، ولا منعه من إراقتها هناك،
قالوا : فهذا دليل على أن الخمر ليس نجسا نجاسة حسية ، ولو كانت حسية لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الراوية ونهاه عن إراقتها هناك .
وقالوا أيضا ، الأصل في الأشياء الطهارة حتى يوجد دليل بين يدل على النجاسة، وحيث لم يوجد دليل بين يدل على النجاسة ، فإن الأصل أنه طاهر ، لكنه خبيث من الناحية العملية المعنوية ولا يلزم من تحريم الشيء أن يكون نجسا، ألا ترى أن السم حراما وليس بنجس، فكل نجس حرام وليس كل حرام نجسا .
وبناء على ذلك نقول في الكولونيا وشبهها : إنها ليست بنجسة لأن الخمر ذاته ليس بنجس على هذا القول الذي ذكرناه أدلته، فتكون الكولونيا وشبهها ليست بنجسة أيضا ، وإذا لم تكن نجسة فإنه لا يجب تطهير الثياب منها .
ولكن يبقى النظر : هل يحرم استعمال الكولونيا كطيب يتطيب به الإنسان أو لا يحرم؟(154/7)
لننظر ، يقول الله تعالى في الخمر : ( فاجتنبوه) وهذا الاجتناب مطلق لم يقل اجتنبوه شربا أو استعمالا أو ما أشبه ذلك ، فالله أمر أمرا مطلقا بالاجتناب ، فهل يشمل ذلك مالو استعمله الإنسان كطيب أو نقول : إن الاجتناب المأمور به هو ما علل به الحكم وهو اجتناب شربه، لقوله تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(1).وهذه العلة لا تثبت فيما إذا استعمله الإنسان في غير الشرب.
ولكننا نقول إن الأحوط للإنسان أن يتجنبه حتى للتطيب، وأن يبتعد عنه لأن هذا أحوط وأبرأ للذمة، إلا أننا نرجع مرة ثانية إلى هذه الأطياب ، هل النسبة التي تؤدي إلى الإسكار أو أنها نسبة قليلة لا تؤدي إلى الإسكار؟ لأنه إذا اختلط الخمر بشيء ثم لم يظهر له أثر ولو أكثر الإنسان منه، فإنه لا يوجب تحريم ذلك المخلوط به، لأنه لما لم يظهر له أثر لم يكن له حكم ، إذ أن علة الحكم هي الموجبة له، فإذا فقدت العلة فقد الحكم ، فإذا كان هذا الخلط لا يؤثر في المخلوط فإنه لا أثر لهذا الخلط ، ويكون الشيء مباحا، فالنسبة القليلة في الكولونيا وغيرها إذا كانت لا تؤدي إلى الإسكار ولو أكثر الإنسان مثلا من شربه ، فإنه ليس بخمر ولا يثبت له حكم الخمر، كما أنه لو سقطت قطرة من بول في ماء، ولم يتغير بها، فإنه يكون طاهرا ، فكذلك إذا سقطت قطرة من خمر في شيء لم يتأثر بها ، فإنه لا يكون خمرا، وقد نص على ذلك أهل العلم في باب حد المسكر .(154/8)
ثم إنني أنبه هنا على مسألة تشتبه على بعض الطلبة، وهي أنهم يظنون أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) . يظنون أن معنى الحديث أنه إذا اختلط القليل من الخمر بالكثير من غير الخمر فإنه يكون حراما ، وليس هذا معنى الحديث ، بل معنى الحديث أن الشيء إذا كان لا يسكر إلا الكثر منه فإن القليل الذي لا يسكر منه يكون حراما، مثل لو فرضنا أن هذا الشراب إن شرب منه الإنسان عشر زجاجات سكر، وإن شرب زجاجة لم يسكر، فإن هذه الزجاجة وإن لم تسكره تكون حراما، هذا معنى : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ). وليس المعنى ما أختلط به شيء من المسكر فهو حرام، لأنه إذا اختلط المسكر بالشيء ولم يظهر له أثر فإنه يكون حلالا ، لعدم وجود العلة التي هي مناط الحكم، فينبغي أن يتنبه لذلك .
ولكني مع هذا لا أستعمل هذه الأ طياب (الكولونيا) ولا أنهى عنها، إلا إذا أنه أصابني شيء من الجروح أو شبهها واحتجت إلى ذلك فإني أستعمله لأن الاشتباه يزول حكمه مع الحاجة إلى هذا الشيء المشتبه، فإن الحاجة أمر يدعو إلى الفعل ، والاشتباه إنما يدعو إلى الترك على سبيل التورع والاحتياط، ولا ينبغي للإنسان أن يحرم نفسه شيئا احتاج إليه وهو لم يجزم بمنعه وتحريمه، وقد ذكر أهل العلم هذه القاعدة بأن المشتبه إذا احتاج إليه فإنه يزول حكم الاشتباه. والله أعلم .
210 ) وسُئل فضيلته : عن حكم استعمال السوائل الكحولية لأغراض الطباعة والرسوم والخرائط والمختبرات العلمية إلخ ؟(154/9)
فأجاب بقوله : من المعلوم أن مادة الكحول تستخرج غالبا من الخشب وجذور القصب وأليافه، ويكثر جدا في قشور الحمضيات كالبرتقال والليمون ، كما هو مشاهد، وهي عبارة عن سائل قابل للاحتراق سريع التبخر، وهو لو استعمل مفردا لكان قاتلا أو ضار أو مسببا للعاهات ، لكنه إذا خلط بغيره بنسبة معينة جعل ذلك المخلوط مسكرا، فالكحول نفسها ليست تستعمل للشرب والسكر بها، ولكنها تمزج بغيرها فيحصل السكر بذلك المخلوط. وما كان مسكرا فهو خمر محرم بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين، لكن هل هو نجس العين كالبول والعذرة؟ أو ليس بنجس العين ونجاسته معنوية ؟ هذا موضع خلاف بين العلماء، واتفق جمهورهم على أنه نجس العين، والصواب عندي أنه ليس بنجس العين بل نجاسته معنوية وذلك للآتي:
أولا : لأنه لا دليل على نجاسته، وإذا لم يكن دليل على نجاسته فهو طاهر، لأن الأصل في الأشياء الطهارة، وليس كل محرم يكون نجسا ، والسم محرم ليس بنجس، وأما قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)(1)
قلنا : إن استعمالها في غير الشرب جائز لعدم انطباق هذه ( رجس من عمل الشيطان) فكما أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست نجسة العين والذات فكذلك الخمر .
ثانيا: أن الخمر لما نزل تحريمها أريقت في أسواق المدينة، ولو كانت نجسة العين لحرمت إراقتها في طرق الناس كما يحرم إراقة البول في تلك الأسواق.(154/10)
ثالثا : أن الخمر لما حرمت، لم يأمرهم النبي ، صلى الله عليه وسلم ، بغسل الأواني منها،كما أمرهم بغسل الأواني من لحوم الحمر الأهلية حين حرمت، ولو كانت نجسة العين لأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بغسل أوانيهم منها.
وإذا تبين أن الخمر ليست نجسة العين، فإنه لا يجب غسل ما أصابته من الثياب والأواني وغيرها، ولا يحرم استعمالها في غير ما حرم استعمالها فيه، وهو الشرب ونحوه مما يؤدي إلى المفاسد التي جعلها الله مناط الحكم في التحريم .
فإن قيل أليس الله تعالى يقول : (فاجتنبوه) وهذا يقتضي اجتنابه على أي حال؟
فالجواب: أن الله تعالى علل الأمر بالاجتناب بقوله : ( إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة) إلى آخر الآية، وهذه العلة لا تحصل فيما إذا استعمل في غير الشرب ونحوه، فإذا كان لهذه الكحول منافع خالية من هذه المفاسد التي ذكرها الله تعالى علة للأمر باجتنابه ، فإنه ليس من حقنا أن نمنع الناس منها. وغاية ما نقول: إنها من الأمور المشتبهة، وجانب التحريم فيها ضعيف، فإذا دعت الحاجة إليها زال ذلك التحريم.وعلى هذا فاستعمال الكحول فيما ذكرتم من الأغراض لا بأس به إن شاء الله تعالى، لأن الله تعالى خلق لنا ما في الأرض جميعا، وسخر لنا ما في السموات وما في الأرض جميعا، منه. وليس لنا أن نتحجز شيئا ونمنع عباد الله منه إلا بدليل من كتاب الله تعالى أو سنة نبيه صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : أليست الخمر حرمت أريقت؟
قلنا : بلى، وذلك مبالغة في سرعة الامتثال وقطع تعلق النفوس بها، ثم إنه لا يظهر لنا أن لها منفعة في ذلك الوقت تستبقي لها. والله أعلم .
211 ) وسُئل : عن حكم استعمال الكحول في تعقيم الجروح وخلط بعض الأدوية بشيء من الكحول؟(154/11)
فأجاب فضيلته بقوله : استعمال الكحول في تعقيم الجروح لا بأس به للحاجة لذلك، وقد قيل إن الكحول تذهب العقل بدون إسكار، فإن صح ذلك فليست خمرا ، وإن لم يصح وكانت تسكر فهي خمر، وشربها حرام بالنص والإجماع.
وأما استعمالها في غير الشرب ، فمحل نظر، فإن نظرنا إلى قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(1). قلنا إن استعمالها في غير الشرب حرام، لعموم قوله : ( فاجتنبوه) . وإن نظرنا إلى قوله تعالى في الآية التي تليها : (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ). قلنا : إن استعمالها في غير الشرب جائز لعدم انطباق هذه العلة عليه، وعلى هذا فإننا نرى أن الاحتياط عدم استعمالها في الروائح، وأما في التعقيم فلا باس به لدعاء الحاجة إليه، وعدم الدليل البين على منعه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ص 270 جـ 24 من مجموع الفتاوى : التداوي بأكل شحم الخنزير لا يجوز ، وأما التداوي بالتلطخ به ثم يغسله بعد ذلك فهذا مبني على جواز مباشرة النجاسة في غير الصلاة وفيه نزاع مشهور، والصحيح أنه يجوز للحاجة، وما أبيح للحاجة جاز التداوي به ا هـ . فقد فرق شيخ الإسلام ـ رحمه الله تعالى ـ بين الأكل وغيره في ممارسة الشيء النجس، فكيف بالكحول التي ليست بنجسة؟ لأنها إن لم تكن خمرا فطهارتها ظاهرة، وإن كانت خمرا فالصواب عدم نجاسة الخمر وذلك من وجهين :(154/12)
الأول : أنه لا دليل على نجاستها ، وإذا لم يكن دليل على ذلك فالأصل الطهارة ولا يلزم من تحريم الشيء أن تكون عينه نجسة ، فهذا السم حرام وليس بنجس، وأما قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ )(2). فالمراد الرجس المعنوي لا الحسي، لأنه جعل وصفا لما لا يمكن أن يكون رجسه حسيا كالميسر والأنصاب والأزلام ، ولأنه وصف هذا الرجس بكونه من عمل الشيطان ، وأن الشيطان يريد به إيقاع العداوة والبغضاء فهو رجس عملي معنوي.
الثاني : أن السنة تدل على طهارة الخمر طهارة حسية، ففي صحيح مسلم ص 1206ط الحلبي تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي: عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال له رسول الله : ( هل علمت أن الله قد حرمها؟ ) . قال : لا، فسار إنسانا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( بم ساررته ؟ ) قال : أمرته ببيعها . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الذي حرم شربها حرم بيعها ). قال ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها ، وفي صحيح البخاري ص 112 جـ 5 من الفتح ط السلفية : عن انس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ أنه كان ساقي القوم في منزل أبي طلحة ( وهو زوج أمه) فأمر النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينادي ألا إن الخمر قد حرمت ، قال: فقال لي أبو طلحة: أخرج فأهرقها، فخرجت فهرقتها، فجرت في سكك المدينة. ولو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية لأمر النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الراوية أن يغسل راويته، كما كانت الحال حين حرمت الحمر عام خبير، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( اهريقوها واكسروها) . ( يعني القدور) فقالوا: أونهريقها ونغسلها؟ فقال : ( أو ذاك). ثم لو كانت الخمر نجسة نجاسة حسية ما أراقها المسلمون في أسواق المدينة، لأنه لا يجوز إلقاء النجاسة في طرق المسلمين .(154/13)
قال الشيخ محمد رشيد رضا في فتاواه ص1631 من مجموعة فتاوى المنار: وخلاصة القول، أن الكحول مادة طاهرة مطهرة وركن من أركان الصيدلة، والعلاج الطبي، والصناعات الكثيرة، وتدخل فيما لا يحصى من الأدوية، وأن تحريم استعمالها على المسلمين يحول دون إتقانهم لعلوم وفنون وأعمال كثيرة، هي من أعظم أسباب تفوق الإفرنج عليهم، كالكيمياء والصيدلة والطب والعلاج والصناعة، وإن تحريم استعمالها في ذلك ، قد يكون سببا لموت كثير من المرضى والمجروحين أو لطول مرضهم وزيادة آلامهم ا هـ . وهذا كلام جيد متين . رحمه الله تعالى .(154/14)
وأما خلط بعض الأدوية بشيء من الكحول، فإنه لا يقتضي تحريمها، إذا كان الخلط يسيرا لا يظهر له أثر مع المخلوط ، كما أن على ذلك أهل العلم . قال في المغني ص 306 جـ 8ط النار : وإن عجن به ( أي بالخمر) دقيقا ثم خبزه وأكله لم يحد، لأن النار أكلت أجزاء الخمر فلم يبق إلا أثره ا هـ . وفي الإقناع وشرحه ص 71 جـ 4ط مقبل : ولو خلطه ـ أي المسكر ـ بماء فاستهلك المسكر فيه أي الماء، ثم شربه لم يحد، لأنه باستهلاكه في الماء لم يسلب اسم الماء عنه، أو داوى به ـ أي المسكر ـ جرحه لم يحد، لأنه لم يتناوله شربا ولا في معناه ا هـ . وهذا هو مقتضى الأثر والنظر . أما الأثر فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( الماء طهور لا ينجسه شيء إلا إن تغير ريحه أو طعمه أو لونه بناجسة تحدث فيه) . وهذا وإن كان الاستثناء فيه ضعيفا إلا أن العلماء أجمعوا على القول بمقتضاه، ووجه الدلالة منه أنه إذا سقط فيه نجاسة لم تغيره فهو باق طهوريته، فكذلك الخمر إذا خلط بغيره من الحلال ولم يؤثر فيه فهو باق على حله، وفي صحيح البخاري تعليقا ص 64جـ 9ط السلفية من الفتح قال: أبو الدرداء في المري ذبح الخمر النينان والشمس جمع نون وهو الحوت، المري أكله تتخذ من السك المملوح يوضع في الخمر ثم يلقى في الشمس فيتغير عن طعم الخمر، فمعنى الأثر أن الحوت بما فيه من الملح، ووضعه في الشمس أذهب الخمر فكان حلالا .(154/15)
وأما كون هذا مقتضى النظر : فلأن الخمر إنما حرمت من أجل الوصف الذي اشتملت عليه وهو الإسكار ، فإذا انتفى هذا الوصف انتفى التحريم، لأن الحكم يدور مع علته وجودا وعدما إذا كانت العلة مقطوعا بها بنص أو إجماع كما هنا . وقد توهم بعض الناس أن المخلوط بالخمر حرام مطلقا ولو قلت نسبة الخمر فيه ، بحيث لا يظهر له أثر في المخلوط ، وظنوا أن هذا هو معنى حديث : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام ) . فقالوا : هذا فيه قليل من الخمر الذي يسكر كثيره فيكون حراما، فيقال هذا القليل من الخمر استهلك في غيره فلم يكن له أثر وصفي ولا حكمي، فبقي الحكم لما غلبه في الوصف، وأما حديث : ( ما أسكر كثيره فقليله حرام) فمعناه أنه إذا كان الشراب إن أكثر منه الشارب سكر، وإن قلل لم يسكر فإن القليل منه يكون حراما؛ لأن تناول القليل وإن لم يسكر ذريعة إلى تناول الكثير ، ويوضح ذلك حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كل مسكر حرام وما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام ) .
الفرق : مكيال يسع ستة عشر رطلا ، ومعنى الحيث أنه إذا وجد شراب لا يسكر منه إلا الفرق، فإن ملء الكف منه حرام فهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : (ما أسكر كثيره فقليله حرام) .
212 ) وسُئل فضيلته: ما رأيكم في هذه الأقوال :
1- أن الدم المسفوح ، هو الذي وقع فيه الخلاف، أما غير المسفوح كدم الجروح وسواها فلم يقل أحد بنجاسته.
2- أن المحدثين لم يشيروا أبدا إلى التحريم إلا للدم المسفوح وكذلك أشار المفسرون .
3- أنه لا يوجد دليل واحد صحيح يفيد بنجاسة الدم، إلا ما كان من إشارة بعض الفقهاء، وهؤلاء لا دليل عندهم ، وما دام الدليل لم يوجد، فالأصل طهارة الدم فلا تبطل صلاة من صلى وعلى ثوبه بقع دم ؟(154/16)
فأجاب بقوله : ما ذكرتم في رقم 1 فلو رجع القائل إلى كلام أهل العلم لوجد أن الأمر على خلاف ما ذكر ، فإن الدم المسفوح لم نعلم قائلا بطهارته كيف وقد دل القرآن على نجاسته كما سيأتي تقريره إن شاء الله تعالى، وقد نقل الاتفاق على نجاسته ابن رشد في بداية المجتهد، فقال ص 76ط الحلبي: وأما أنواع النجاسات فإن العلماء اتفقوا من أعيانها على أربعة، وذكر منها : الدم من الحيوان الذي ليس بمائي انفصل من الحي أو الميت إذا كان مسفوحا أي كثيرا ، وقال في ص79 منه : اتفق العلماء على أن دم الحيوان البري نجس. ا هـ لكن تفسيره للمسفوح بالكثير مخالف لظاهر اللفظ ولما ذكره البغوي في تفسيره ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أنه ما خرج من الحيوان وهو حي وما يخرج من الأوداج عند الذبح، وذلك لأن المسفوح هو المراق السائل لا يقيد كونه كثيرا. اللهم إلا أن يريد ابن رشد بهذا القيد محل الاتفاق حيث عفا كثير من أهل العلم عن يسير الدم المسفوح، لكن العافون عنه لم يجعلوه طاهرا وإنما أرادوا دفع المشقة بوجوب تطهير اليسير منه.
وقد نقل القرطبي في تفسيره ص 221جـ 2ط دار الكاتب اتفاق العلماء على أن الدم حرام نجس، وقال النووي في شرح المهذب ص 511جـ 2ط المطيعي: والدلائل على نجاسة الدم متظاهرة ولا أعلم فيه خلافا عن أحد من المسلمين إلا ما حكاه صاحب الحاوي عن بعض المتكلمين أنه قال طاهر ا هـ . والظاهر أن الإطلاق في كلامي القرطبي والنووي مقيد بالمسفوح والله اعلم .
وأما غير المسفوح الذي مثل له بدماء الجروح وسواها وذكر أنه لم يقل أحد بنجاسته مع أن قوله ( وسواها) يشمل دم الحيض الذي دلت السنة على نجاسته كما سيأتي إن شاء الله . فلو رجع القائل إلى كلام أهل العلم لوجد أن كلام أهل العلم صريح في القول بنجاسته أو ظاهر.(154/17)
قال الشافعي ـ رحمه الله ـ في الأم ص67 جـ 1ط دار المعرفة بعد ذكر حديث أسماء في دم الحيض : وفي هذا دليل على أن دم الحيض نجس وكذا كل دم غيره. وفي ص56 منه مثل للنجس بأمثلة منها : العذرة والدم.
وفي المدونة ص38 جـ 1ط دار الفكر عن مالك ـ رحمه الله ـ ما يدل على نجاسة الدم من غير تفصيل .
ومذهب الإمام احمد في ذلك معروف نقله عنه أصحابه .
وقال ابن حزم في المحلى ص102 جـ 1ط المنيرية ك وتطهير دم الحيض أو أي دم كان سواء دم سمك كان أو غيره أو كان في الثوب أو الجسد فلا يكون إلا بالماء حاشا دم البراغيث ودم الجسد فلا يلزم تطهيرهما إلا ما حرج في غسله على الإنسان فيطهر المرء ذلك حسب ما لا مشقة عليه فيه . ا هـ .
وقال الفروع ( من كتب الحنابلة ) ص253 جـ 1ط دار مصر للطباعة: ويعفى على الأصح عن يسير دم وما تولد منه(و) وقيل من بدن ا هـ . والرمز بالواو في اصطلاحه إشارة إلى وفاق الأئمة الثلاثة ومقتضىهذا ان الدم نجس عند الأئمة الأربعة لأن التعبير بالعفو عن يسيره يدل على نجاسته .
وقال في الكافي (من كتب الحنابلة أيضا) ص 110/ جـ 1 ط المكتب الإسلامي : والدم نجس لقول النبي صلى الله عليه وسلم لأسماء في الدم (اغسليه بالماء). متفق عليه، ولأنه نجس لعينه بنص القرآن أشبه الميتة ثم ذكر ما يستثنى منه ونجاسة القيح والصديد، وقال إلا أن أحمد قال: هما أخف حكما من الدم لوقوع الخلاف في نجاستهما وعدم التصريح فيهما . اهـ وقوله لوقوع الخلاف في نجاستهما ما يفيد بأن الدم لا خلاف في نجاسته .
وقال في المهذب ( من كتب الشافعية) ص511 جـ 2ط المطيعي : وأما الدم فنجس ثم ذكر في دم السمك وجهين أحدهما نجس كغيره والثاني طاهر .(154/18)
وقال في جواهر الإكليل ( من كتب المالكية) ص9 جـ 1 ط الحلبي في عد النجاسات : ودم مسفوح أي جار بذكاة أو فصد وفي ص11 منه فيما يعفى عنه من النجاسات : ودون درهم من دم مطلقا عن تقييده بكونه من بدن المصلي أو غير حيض وخنزير أو في بدن أو ثوب أو مكان ا هـ .
وقال في شرح مجمع الأنهر ( من كتب الحنفية) ص51-52 جـ 1 ط عثمانية: وعفى قدر الدرهم من نجس مغلظ كالدم والبول ثم ذكر ص 53 منه أن دم السمك والبق والقمل والبرغوث والذباب طاهر .
فهذه أقوال أهل العلم من أهل المذاهب المتبوعة وغيرهم صريحة في القول بنجاسة الدم واستثناؤهم ما استثنوه دليل على العموم فيما سواه، ولا يمكن إنكار أن يكون أحد قال بنجاسة بعد هذه القول عن أهل العلم .
وأما ما ذكر في رقم 2فالكلام في نجاسة الدم لا في تحريمه، والتحريم لا يلزم منه التنجيس فهذا السم حرام وليس بنجس فكل نجس محرم وليس كل محرم نجسا، فنقل الكلام من البحث في نجاسته إلى تحريمه غير جيد . ثم إن التعبير بأن ثبوت تحريمه كان بإشارة المحدثين والمفسرين مع أنه كان بنص القرآن القطعي غير سديد، فتحريم الدم المسفوح كان بنص القرآن القطعي المجمع عليه لا بإشارة المحدثين والمفسرين كما يعلم.
وأما ما ذكر في رقم 3 فإن سياق كلامكم يدل على أنكم تقصدون بالدم المسفوح فقط أو هو وغيره لأنكم ذكرتم أن غير المسفوح لم يقل أحد بنجاسته، وأن موضع الخلاف هو الدم المسفوح، ولو رجعتم إلى الكتاب والسنة لوجدتم فيهما ما يدل على نجاسة الدم المسفوح ودم الحيض ودم الجرح .(154/19)
فأما نجاسة الدم المسفوح ففي القرآن قال الله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ )(1) . فإن قوله ( محرما) صفة لموصوف محذوف والتقدير : شيئا محرما، والضمير المستتر في ( يكون ) يعود على ذلك الشيء المحرم أي إلا أن يكون ذلك الشيء المحرم ميتة إلخ ، والضمير البارز في قوله ( فإنه) يعود أيضا على ذلك الشيء المحرم أي فإن ذلك الشيء المحرم رجس، وعلى هذا فيكون في الآية الكريمة بيان الحكم وعلته في هذه الأشياء الثلاثة : الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، ومن قصر الضمير في قوله (فإنه) على لحم الخنزير معللا ذلك بأنه أقرب مذكور فقصره قاصر وذلك لأنه يؤدي إلى تشتيت الضمائر وإلى القصور في البيان القرآني حيث يكون ذاكرا للجميع( الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير) حكما واحدا م يعلل لواحد منها فقط .
وكذلك من قصره على لحم الخنزير معللا بأنه لو كان الضمير للثلاثة لقال: فإنها أو فإنهن ، فجوابه :
أنا لا نقول إن الضمير للثلاثة بل هو عائد إلى الضمير المستتر في ـ يكون ـ المخبر عنه بأحد الأمور الثلاثة .
ويدل على أن وصف الرجس للثلاثة ما دلت عليه السنة من نجاسة الميتة، ففي السنن عن ميمونة ـرضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة يجرونها ، فقال: ( لو أخذتم إهابها). فقالوا: إنها ميتة، فقال: ( يطهرها الماء والقرض) أخرجه النسائي وأبو داود ، وأخرجا من حديث سلمة بن المحبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في جلود الميتة: ( دباغها طهورها). وعند النسائي : ( دباغها ذكاتها ) . وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : وقد سُئل عن اسقية المجوس، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( دباغه طهوره) .
وبهذا تقرر دلالة القرآن على نجاسة الدم المسفوح .(154/20)
وأما نجاسة دم الحيض، ففي الصحيحين من حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ، صلى الله عليه وسلم ، قال لفاطمة بنت أبي حبيش : ( إذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي) . هذا لفظ البخاري، وقد ترجم عليه باب غسل الدم، وفيهما أيضا من حديث أسماء بنت أبي بكر ـرضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا أصاب ثوب إحداكن الدم من الحيضة فلتقرضه ثم لتنضحه بماء ثم تصلي فيه). هذا لفظ البخاري في رواية ، وفي أخرى:(تحته ثم تقرضه بالماء وتنضحه وتصلي فيه) . وهو لمسلم بهذا اللفظ، لكن بثم في الجمل الثلاث كلها، وكون النبي صلى الله عليه وسلم يرتب الصلاة على غسله بثم ، دليل على أن غسله لنجاسته، لا لأجل النظافة فقط .
وأما نجاسة دم الجرح : ففي الصحيحين من حديث سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ في قصة جرح وجه النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال : فكانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تغسل الدم، وكان علي بن أبي طالب يسكب عليها بالمجن، هذا لفظ مسلم. وهذا وإن كان قد يدعى مدع أن غسله للتنظيف لا للتطهير الشرعي، أو أنه مجرد فعل والفعل المجرد لا يدل على الوجوب ، فإن جوابه أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش بغسل الدم قرينة على ان غسل الدم من وجه النبي صلى الله عليه وسلم كان تطهيرا شرعيا متقررا عندهم .
وأما ما ورد عن بعض الصحابة مما يدل ظاهره على أنه لا يجب غسل الدم والتطهير منه، فإنه على وجهين :
أحدهما : أن يكون يسيرا يعفى عنه مثل ما يروى عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أنه لا يرى بالقطرتين من الدم في الصلاة بأسا، وأنه يدخل أصابعه في أنفه فيخرج عليها الدم فيحته ثم يقوم فيصلي، ذكر ذلك عنه ابن أبي شيبة في مصنفه.(154/21)
الثاني : أن يكون كثيرا لا يمكن التحرر منه، مثل ما رواه مالك في الموطأ عن المسور بن مخرمة، أن عمر بن الخطاب حين طعن، صلى وجرحه يثغب دما، فإن هذا لا يمكن التحرز منه إذا لو غسل لا ستمر يخرج، فلم يستفد شيئا ، وكذلك ثوبه لو غيره بثوب آخر ـ إن كان له ثوب أخر ـ لتلوث الثوب الآخر فلم يستفد من تغييره شيئا، فإذا كان الوارد عن الصحابة لا يخرج عن هذين الوجهين، فإنه لا يمكن إثبات طهارة الدم بمثل ذلك ، والذي يتبين من النصوص فيما نراه في طهارة الدم ونجاسته ما يلي :
أ-الدم السائل من حيوان مييته نجسة، فهذا نجس كما تدل عليه الآية الكريمة.
ب ـ دم الحيض، وهو نجس كما يدل عليه حديثا عائشة وأسماء ـ رضي الله عنهما ـ
جـ ـ الدم السائل من بني آدم، وظاهر النصوص وجوب تطهيره إلا ما يشق التحرز منه كدم الجرح المستمر ، وإن كان يمكن أن يعارض هذا الظاهر بما أشرنا إليه عند الكلام على غسل جرح النبي ، صلى الله عليه وسلم ، وبأن أجزاء الآدمي إذا قطعت كانت طاهرة عند أكثر أهل العلم ، فالدم من باب أولى، لكن الاحتياط التطهر منه لظاهر النصوص ، واتقاء الشبهات التي من اتقاها استبرأ لدينه وعرضه.
دـ دم السمك وهو طاهر لأنه إذا كانت ميتته طاهرة كان ذلك دليلا على طهارته فإن تحريم الميتة من أجل بقاء الدم فيها بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكل ). فجعل النبي صلى الله عليه وسلم سبب الحل أمرين :
أحدهما : إنهار الدم
الثاني : ذكر اسم الله تعالى .
الأول حسي، والثاني معنوي .
هـ ـدم الذباب والبعوض وشبهه لأن ميتته طاهرة كمل دل عليه حديث أبي هريرة في الأمر بغمسه إذا وقع في الشراب ، ومن الشراب ما هو حار يموت به، وهذا دليل على طهارة دمه لما سبق من علة تحريم الميتة .(154/22)
وـ الدم الباقي بعد خروج النفس من حيوان مذكى لأنه كسائر أجزاء البهيمة وأجزاؤها حلال طاهرة بالتذكية الشرعية، فكذلك الدم كدم القلب والكبد والطحال .
هذا ما ظهر لنا، ونسأل الله تعالى أن يهدينا جميعا صراطه المستقيم .
---
(1) سورة المائدة ، الآية :91.
(2) سورة الأنعام ، الآية : 145.
(1) سورة المائدة ،الآية :90.
(2) سورة المائدة ، الآية : 91.
(1) سورة المائدة ، الآية : 91.
(1) سورة المائدة ، الآية :91.
(1) سورة المائدة ، الآية : 91.
(2) سورة المائدة ، الآية :91.
(1) سورة الأنعام ، الآية : 145.(154/23)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
باب الحيض
محمد بن صالح العثيمين
باب الحيض
213 ) سُئل فضيلة الشيخ ـ رفع الله درجته في المهديين ـ عن تحديد بعض الفقهاء أول الحيض بتسع سنين وتحديد آخره بخمسين سنة، هل عليه دليل ؟
فأجاب فصيلته بقوله : تحديد أول الحيض بتسع سنين وآخره بخمسين سنة ليس عليه دليل ؟
فأجاب فضيلته بقوله : تحديد أول الحيض بتسع سنين وآخره بخمسين سنة ليس عليه دليل، والصحيح أن المرأة متى رأت الدم المعروف عند النساء بأنه حيض فهو حيض،لعموم قوله الله تعالى:(وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً )(1). فقد علق الله الحكم على وجود الحيض، ولم يحدد لذلك سناَ معيناً، فيجب الرجوع إلى ما علق عليه الحكم وهو الوجود، فمتى وجد الحيض ثبت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت له حكم، فمتى رأت المرأة الحيض فهي حائض، وإن كانت دون التسع أو فوق الخمسين؛ لأن التحديد يحتاج إلى دليل ولا دليل على ذلك.
214) وسُئل فضيلة الشيخ: عن امرأة تجاوزت الخمسين يأتيها الدم على الصفة المعروفة، وأخرى تجاوزت الخمسين يأتيها الدم غير الصفة المعروفة، وإنما صفرة أو كدرة ؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: التي يأتيها دم على صفته المعروفة يكون دمها دم حيض صحيح على القول الراجح ، إذ لا حد لأكثر سن الحيض وعلى هذا فيثبت لدمها أحكام دم الحيض المعروفة من اجتناب الصلاة والصيام ولزوم الغسل وقضاء الصوم ونحو ذلك.
وأما التي يأتيها صفرة وكدرة فالصفرة والكدرة إن كانت في زمن العادة فحيض، وإن كانت في غير زمن العادة فليست بحيض، وأما إن كان دمها دم الحيض المعروف لكن تقدم أو تأخر فهذا لا تأثير له، بل تجلس إذا أتاها الحيض وتغتسل إذا انقطع عنها. وهذا كله على القول الصحيح من أن سن الحيض لا حد له، أما على المذهب فلا حيض بعد خمسين سنة وإن كان دماً أسود عادياً، وعليه فتصوم وتصلي ولا تغتسل عند انقطاعه لكن هذا القول غير صحيح.(155/1)
215) وسُئل الشيخ: عن الدم الذي يخرج من الحامل ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحامل لا تحيض، كما قال الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض. والحيض ـ كما قال أهل العلم ـ خلقه الله تبارك وتعالى لحكمة غذاء الجنين في بطن أمه، فإذا نشأ الحمل انقطع الحيض، لكن بعض النساء قد يستمر بها الحيض على عادته كما كان قبل الحمل، فيكون هذا الحيض مانعاً لكل ما يمنعه حيض غير الحامل، فيكون هذا الحيض مانعاً لكل ما يمنعه حيض غير الحامل، فيكون هذا الحيض مانعاً لكل ما يمنعه حيض غير الحامل، وموجباً لما يوجبه، ومسقطاً لما يسقطه، والحاصل أن الدم الذي يخرج من الحامل على نوعين:
النوع الأول: نوع يحكم بأنه حيض، وهو الذي استمر بها كما كان قبل الحمل، لأن ذلك دليل على أن الحمل لم يؤثر عليه فيكون حيضاً.
والنوع الثاني: دم طرأ على الحامل طروءاً ، إما بسبب حادث، أو حمل شيء، أو سقوط من شيء ونحوه، فهذا ليس بحيض وإنما هو دم عرق، وعلى هذا فلا يمنعها من الصلاة ولا من الصيام فهي في حكم الطاهرات.
216 ) وسُئل : هل لأقل الحيض وأكثره حد معلوم بالأيام ؟(155/2)
فأجاب قائلاً: ليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام على الصحيح، لقول الله عز وجل : (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) (1) . فلم يجعل الله غاية المنع أياماً معلومة، بل جعل غاية المنع هي الطهر، فدل هذا على أن علة الحكم هي الحيض وجوداً وعدماً، فمتى وجد الحيض ثبت الحكم، ومتى طهرت منه، زالت أحكامه، ثم إن التحديد لا دليل عليه، مع أن الضرورة داعية إلى بيانه، فلو كان التحديد بسن أو زمن ثابتاً شرعاً لكان مبيناً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فبناء عليه، فكل ما رأته المرأة من الدم المعروف عند النساء بأنه حيض فهو دم حيض من غير تقدير ذلك بزمن معين، إلا أن يكون الدم مستمراً مع المرأة لا ينقطع أبداً، أو ينقطع مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر، فإنه حينئذ يكون دم استحاضة.
217 ) وسُئل الشيخ : هل تجوز صلاة الحائض وإن صلت حياء ؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلاً : صلاة الحائض لا تجوز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد ـ رضي الله عنه ـ (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم ؟) . والحديث ثابت في الصحيحين فهي لا تصلي، وتحرم عليها الصلاة ولا تصح منها، ولا يجب عليها قضاؤها، لقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة. وصلاتها ـ حياء ـ حرام عليها، ولا يجوز لها أن تصلي وهي حائض، ولا أن تصلي وهي قد طهرت ولم تغتسل، فإن لم يكن لديها ماء فإنها تتيمم وتصلي حتى تجد الماء ثم تغتسل . والله الموفق.
218 ) وسُئل : عن امرأة صلت حياء وهي حائض فما حكم عملها هذا ؟(155/3)
فأجاب بقوله: لا يحل للمرأة إذا كانت حائضاً أو نفساءً أن تصلي، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة: (أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟). وقد أجمع المسلمون على أنه لا يحل للحائض أن تصوم ولا يحل لها أن تصلي، وعلى هذه المرأة التي فعلت ذلك أن تتوب إلى الله وأن تستغفر مما وقع منها.
219) وسُئل الشيخ : عن امرأة تسببت في نزول دم الحيض منها بالعلاج، وتركت الصلاة فهل تقضيها أم لا ؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا تقضي المرأة الصلاة إذا تسببت لنزول الحيض فنزل، لأن الحيض دم متى وجد وجد حكمه، كما أنها لو تناولت ما يمنع الحيض ولم ينزل الحيض، فإنها تصلي وتصوم ولا تقضي الصوم، لأنها ليست بحائض، فالحكم يدور مع علته، قال الله تعالى: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً)(1) . فمتى وجد هذا الأذى ثبت حكمه، ومتى لم يوجد لم يثبت حكمه.
220) وسُئل فضيلة الشيخ : هل يجوز للحائض أن تقرأ القرآن ؟
فأجاب قائلاً: يجوز للحائض أن تقرأ القرآن للحاجة، مثل أن تكون معلمة، فتقرأ القرآن للتعليم، أو تكون طالبة فتقرأ القرآن للتعلم، أو تكون تعلم أولادها الصغار أو الكبار، فترد عليهم وتقرأ الآية قبلهم. المهم إذا دعت الحاجة إلى قراءة القرآن للمرأة الحائض، فإنه يجوز ولا حرج عليها، وكذلك لو كانت تخشى أن تنساه فصارت تقرؤه تذكراً، فإنه لا حرج عليها ولو كانت حائضاً، على أن بعض أهل العلم قال: إنه يجوز للمرأة الحائض أن تقرأ القرآن مطلقاً بلا حاجة.
وقال آخرون: إنه يحرم عليها أن تقرأ القرآن ولو كان لحاجة.
فالأقوال ثلاثة والذي ينبغي أن يقال هو: أنه إذا احتاجت إلى قراءة القرآن لتعليمه أو تعلمه أو خوف نسيانه، فإنه لا حرج عليها.
221) سُئل ـ حفظه الله تعالى ـ : هل يجوز للحائض حضور حلق الذكر في المساجد ؟
فأجاب فضيلته قائلاً: المرأة الحائض لا يجوز لها أن تمكث في المسجد.(155/4)
وأما مرورها بالمسجد فلا بأس به، بشرط أن تأمن تلويث المسجد مما يخرج منها من الدم، وإذا كان لا يجوز لها أن تبقى في المسجد، فإنه لا يحل لها أن تذهب لتستمع إلى حلق الذكر وقراءة القرآن، اللهم إلا أن يكون هناك موضع خارج المسجد يصل إليه الصوت بواسطة مكبر الصوت، فلا بأس أن تجلس فيه لاستماع الذكر، لأنه لا بأس أن تستمع المرأة إلى الذكر وقراءة القرآن كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتكئ في حجر عائشة، فيقرأ القرآن وهي حائض، وأما أن تذهب إلى المسجد لتمكث فيه للاستماع للذكر، أو القراءة، فإن ذلك لا يجوز، ولهذا لما أبلغ النبي عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع، أن صفية كانت حائضاً قال: (أحابستنا هي ؟) ظن ، صلى الله عليه وسلم ، ـ أنها لم تطف طواف الإفاضة ـ فقالوا إنها قد أفاضت، وهذا يدل على أنه لا يجوز المكث في المسجد ولو للعبادة. عنه أنه أمر النساء أن يخرجن إلى مصلى العيد للصلاة والذكر، وأمر الحيض أن يعتزلن المصلى.
222 ) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا طلب الزوج زوجته في آخر العادة الشهرية فهل توافق على ذلك ؟
فأجاب بقوله : هذا السؤال يدل على أن المرأة عارفة أن المرأة إذا كانت عليها العادة الشهرية أنه لا يجوز لزوجها أن يجامعها وهذا أمر معلوم لقوله تعالى : (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (1) . وقد أجمع العلماء على أنه يحرم على الزوج أن يجامع زوجته في حال الحيض ويجب على الزوجة أن تمنع زوجها من ذلك وأن تخالفه ولا توافقه في طلبه لأن ذلك محرم ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.(155/5)
وأما الاستمتاع بالزوجة إذا كان عليها العذر في غير جماع فإنه لا بأس به، كما لو استمتع بها خارج الفرج، ولكن إن حصل إنزال وجب الغسل، وإن لم يحصل إنزال فلا غسل، وإذا أنزل الرجل دون المرأة وجب على الرجل ولم يجب على المرأة، وإذا أنزلت دون الرجل وجب عليها الغسل دون الرجل، وإذا أنزل كل من المرأة والرجل وجب عليهما جميعاً لأن الغسل يجب إما بالإنزال بأي سبب يكون وإما بالجماع أي بالإيلاج في الفرج وإن لم يحصل إنزال،و هذه المسألة ـ أعني وجوب الغسل بالجماع إذا لم ينزل ـ هذه مسألة كثير من الناس يجهلها.
وبهذه المناسبة أقول: إن المرأة إذا كان عليها غسل من جنابة فإنه يجب عليها أن تغسل جميع بدنها وشعرها وما تحت الشعر ولا تترك شيئاً من ذلك لأن الله تعالى يقول : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) (1) . ولم يخص شيئاً من البدن دون شيء، فيجب على المرأة أن تغسل جميع بدنها، وإذا كان على الإنسان لزقة على جرح أو على فتق في الأضلاع أو غيرها فإنه يمسحه بالماء ويكفي ذلك عن غسله ولا يحتاج إلى التيمم لأن مسحه يقوم مقام غسله في هذه الحال.
223 ) وسُئل فضيلته عن امرأة أصابها الدم لمدة تسعة أيام فتركت الصلاة معتقدة أنها العادة، وبعد أيام قليلة جاءتها العادة الحقيقية فماذا تصنع هل تصلي الأيام التي تركتها أم ماذا؟
فأجاب بقوله : الأفضل أن تصلي ما تركته في الأيام الأولى ، وإن لم تفعل فلا حرج وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر المرأة المستحاضة التي قالت إنها تستحاض حيضة شديدة وتدع فيها الصلاة فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم ، أن تتحيض ستة أيام أو سبعة وأن تصلي بقية الشهر ولم يأمرها بإعادة ما تركته من الصلاة ، وإن أعادت ما تركته من الصلاة فهو حسن لأنه قد يكون منها تفريط في عدم السؤال وإن لم تعد فليس عليها شيء.(155/6)
225 ) وسُئل فضيلة الشيخ: إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة فما الحكم؟ وهل تقضي الصلاة عن وقت الحيض ؟
فأجاب بقوله: إذا حدث الحيض بعد دخول وقت الصلاة كأن حاضت بعد الزوال بنصف ساعة مثلاً فإنها بعد أن تتطهر من الحيض تقضي هذه الصلاة التي دخل وقتها وهي طاهرة لقوله تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (1) .
ولا تقضي الصلاة عن وقت الحيض لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل: (أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟). وأجمع أهل العلم على أنها لا تقضي الصلاة التي فاتتها أثناء مدة الحيض.
أما إذا طهرت وكان باقياً من الوقت مقدار ركعة فأكثر فإنها تصلي ذلك الوقت الذي طهرت فيه لقوله صلى الله عليه وسلم : (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر). فإذا طهرت وقت العصر أو قبل طلوع الشمس وكان باقياً على غروب الشمس أو طلوعها مقدار ركعة فإنها تصلي العصر في المسألة الأولى والفجر في المسألة الثانية.
226) وسُئل فضيلته : عن امرأة أجرت عملية وبعد العملية وقبل العادة بأربعة أو خمسة أيام رأت دماً أسوداً غير دم العادة وبعدها مباشرة جاءتها العادة مدة سبعة أيام فهل هذه الأيام التي قبل العادة تحسب منها؟
فأجاب بقوله : المرجع في هذا إلى الأطباء لأن الظاهر أن الدم الذي حصل لهذه المرأة كان نتيجة العملية، والدم الذي يكون نتيجة العملية ليس حكمه حكم الحيض لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المرأة المستحاضة : (إن ذلك دم عرق). وفي هذا إشارة إلى أن الدم الذي يخرج إذا كان دم عرق ومنه دم العملية فإن ذلك لا يعتبر حيضاً فلا يحرم به ما يحرم بالحيض وتجب فيه الصلاة والصيام إذا كان في نهار رمضان.
227) وسُئل: عن امرأة كانت عادة حيضها ستة أيام، ثم زادت أيام عادتها؟(155/7)
فأجاب قائلاً: إذا كانت عادة هذه المرأة ستة أيام ثم طالت هذه المدة وصارت تسعة أو عشرة أو أحد عشر يوماً، فإنها تبقى لا تصلي حتى تطهر، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحد حداً معيناً في الحيض، وقد قال الله تعالى : (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً ) (1) . فمتى كان هذا الدم باقياً ، فإن المرأة على حالها حتى تطهر وتغتسل ثم تصلي ، فإذا كان جاءها في الشهر الثاني ناقصاً عن ذلك فإنها تغتسل إذا طهرت وإن لم يكن على المدة السابقة، والمهم أن المرأة متى كان الحيض معها موجوداً فإنها لا تصلي، سواء كان الحيض موافقاً للعادة السابقة أو زائداً عنها أو ناقصاً ، وإذا طهرت تصلي.
228) وسُئل : عن امرأة كانت تحيض في أول الشهر ثم رأت الحيض في آخر الشهر، فما الحكم؟
فأجاب بقوله: إذا تأخرت عادة المرأة عن وقتها، مثل أن تكون عادتها في أول الشهر فترى الحيض في آخره، فالصواب أنها متى رأت الدم فهي حائض، ومتى طهرت منه فهي طاهر، لما تقدم آنفاً ؟
229) وسُئل : عن امرأة كانت تحيض في آخر الشهر ثم رأت الحيض في أول الشهر، فما الحكم ؟
فأجاب قائلاً: إذا تقدمت عادة المرأة عن وقتها، مثل أن تكون عادتها في آخر الشهر فترى الحيض في أوله، فهي حائض كما تقدم.
230) وسُئل الشيخ : عن المرأة إذا أتتها العادة الشهرية ثم طهرت واغتسلت وبعد أن صلت تسعة أيام أتاها دم وجلست ثلاثة أيام لم تصل ثم طهرت وصلت أحد عشر يوماً وعادت إليها العادة الشهرية المعتادة فهل تعيد ما صلته في تلك الأيام الثلاثة أم تعتبرها من الحيض؟(155/8)
فأجاب بقوله: الحيض متى جاء فهو حيض سواء طالت المدة بينه وبين الحيضة السابقة أم قصرت فإذا حاضت وطهرت وبعد خمسة أيام أو ستة أو عشرة جاءتها العادة مرة ثانية فإنها تجلس لا تصلي لأنه حيض وهكذا أبداً، كلما طهرت ثم جاء الحيض وجب عليها أن تجلس، أما إذا استمر عليها الدم دائماً أو كان لا ينقطع إلا يسيراً فإنها تكون مستحاضة وحينئذ لا تجلس إلا مدة عادتها فقط.
231) وسُئل الشيخ : عن امرأة كانت تحيض ستة أيام في أول كل شهر ثم استمر الدم معها، فما الحكم ؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: هذه المرأة التي كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر ، ثم طرأ عليها الدم فصار يأتيها باستمرار، عليها أن تجلس مدة حيضها المعلوم السابق، فتجلس ستة أيام من أول كل شهر ويثبت لها أحكام الحيض، وما عداها استحاضة، فتغتسل وتصلي ولا تبالي بالدم حينئذ، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت : يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: (لا إن ذلك عرق، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ، ثم اغتسلي وصلي) . رواه البخاري، وعند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال لأم حبيبة بنت جحش: (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي).
232) سُئل الشيخ : عن امرأة عادتها عشرة أيام، وفي شهر رمضان جلست العادة أربعة عشر يوماً وهي لم تطهر وبدأ يخرج منها دم لونه أسود أو أصفر ومكثت على هذه الحالة ثمانية أيام وهي تصوم وتصلي في هذه الأيام الثمانية فهل صلاتها وصيامها في هذه الأيام الثمانية صحيح ؟ وماذا يجب عليها ؟(155/9)
فأجاب بقوله : الحيض أمره معلوم عند النساء وهن أعلم به من الرجال ، فإذا كانت هذه المرأة التي زاد حيضها عن عادتها إذا كانت تعرف أن هذا هو دم الحيض المعروف المعهود فإنه يجب عليها أن تجلس وتبقى فلا تصلي ولا تصوم، إلا إذا زاد على أكثر الشهر فيكون استحاضة ولا تجلس بعد ذلك إلا مقدار عادتها.
وبناءً على هذه القاعدة نقول لهذه المرأة إن الأيام التي صامتها بعد أن طهرت ثم رأت هذا الدم المتنكر الذي تعرف أنه ليس دم حيض وإنما هو صفرة أو كدرة أو سواد أحياناً فإن هذا لا يعتبر من الحيض وصيامها فيه صحيح مجزئ وكذلك صلاتها غير محرمة عليها.
233 ) سُئل: عن حكم السائل الأصفر الذي ينزل من المرأة قل الحيض بيومين ؟
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان هذا السائل أصفر قبل أن يأتي الحيض فإنه ليس بشيء لقول أم عطية: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) . فإذا كانت هذه الصفرة قبل الحيض ثم تنفصل بالحيض فإنها ليست بشيء ، أما إذا علمت المرأة أن هذه الصفرة هي مقدمة الحيض فإنها تجلس حتى تطهر.
234) وسُئل الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : عن امرأة رأت الكدرة قبل حيضها المعتاد، فتركت الصلاة، ثم نزل الدم على عادته، فما الحكم ؟
فأجاب بقوله : تقول أم عطية ـ رضي الله عنها ـ : (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) . وعلى هذا فهذه الكدرة التي سبقت الحيض لا يظهر لي أنها حيض، لا سيما إذا كانت أتت قبل العادة، ولم يكن علامات للحيض من المغص ووجع الظهر ونحو ذلك، فالأولى لها أن تعيد الصلاة التي تركتها في هذه المدة.
235 ) سُئل الشيخ : عن حكم الصفرة والكدرة التي تكون بعد الطهر ؟(155/10)
فأجاب بقوله : مشاكل النساء في الحيض بحر لا ساحل له ، ومن أسبابه استعمال هذه الحبوب المانعة للحمل والمانعة للحيض، وما كان الناس يعرفون مثل هذه الإشكالات الكثيرة من قبل، صحيح أن الإشكال ما زال موجوداً منذ وجد النساء، لكن كثرته على هذا الوجه الذي يقف الإنسان حيران في حل مشاكله أمر يؤسف له ، ولكن القاعدة العامة : أن المرأة إذا طهرت ورأت الطهر المتيقن في الحيض، وأعني الطهر في الحيض خروج القصة البيضاء، وهو ماء أبيض تعرفه النساء، فما بعد الطهر من كدرة أو صفرة أو نقطة أو رطوبة فهذا كله ليس بحيض، فلا يمنع من الصلاة، ولا يمنع من الصيام، ولا يمنع من جماع الرجل لزوجته، لأنه ليس بحيض. قالت أم عطية : (كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً) . أخرجه البخاري وزاد أو داود (بعد الطهر)، وسنده صحيح.
وعلى هذا نقول: كل ما حدث بعد الطهر المتيقن من هذه الأشياء فإنها لا تضر المرأة، ولا تمنعها من صلاتها وصيامها وجماع زوجها إياها ، ولكن يجب أن لا تتعجل حتى ترى الطهر ، لأن بعض النساء إذا خف الدم عنها بادرت واغتسلت قبل أن ترى الطهر ، ولهذا كان نساء الصحابة يبعثن إلى أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بالكرسف ـ يعني القطن ـ فيه الدم فتقول لهن لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
236)وسُئل فضيلة الشيخ: ما حكم الصفرة التي تأتي المرأة بعد الطهر ؟
فأجاب قائلاً : القاعدة العامة في هذا وأمثاله ، أن الصفرة والكدرة بعد الطهر ليست بشيء ، لقول أم عطية ـ رضي الله عنها ـ (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) ، كما أن القاعدة العامة أيضاً أن لا تتعجل المرأة إذا رأت توقف الدم حتى ترى القصة البيضاء، كما قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ للنساء وهن يأتين إليها بالكرسف ـ يعني القطن ـ (لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء).(155/11)
وبهذه المناسبة: أحذر النساء تحذيراً بالغاً من استعمال الحبوب المانعة من الحيض ، لأن هذه الحبوب ـ كما تقرر عندي من أطباء سألتهم ـ في المنطقة الشرقية والغربية وهم من السعوديين والحمد لله، وكذلك أطباء من الإخوة المنتدبين إلى هذه المملكة في المنطقة الوسطى ـ وكلهم مجمعون على أن هذه الحبوب ضارة ، ومن أعظم ما يكون فيها من المضرة أنها سبب لتقرح الرحم ، وأنها سبب لتغير الدم واضطرابه، وهذا مشاهد وما أكثر الإشكالات التي ترد على النساء من أجلها، وأنها سبب لتشوه الأجنة في المستقبل ، وإذا كانت الأنثى لم تتزوج فإنه يكون سبباً في وجود العقم أي أنها لا تلد، وهذه مضرات عظيمة، ثم إن الإنسان بعقله ـ وإن لم يكن طبيباً ـ وإن لم يعرف الطب ، يعرف أن منع هذا الأمر الطبيعي الذي جعل الله له أوقاتاً معينة، يعرف أن منعه ضرر كما لو حاول الإنسان أن يمنع البول أو الغائط، فإنه هذا ضرر بلا شك، كذلك هذا الدم الطبيعي الذي كتبه الله على بنات آدم، لا شك أن محاولة منعه من الخروج في وقته ضرر على الأنثى، وأنا أحذر نساءنا من تداول هذه الحبوب، وكذلك أحب من الرجال أن ينتبهوا لهذا ويمنعوهن. والله الموفق.
237) وسُئل فضيلته : عن حكم استعمال حبوب منع الحيض ؟
فأجاب بقوله: استعمال المرأة حبوب منع الحيض إذا لم يكن عليها ضرر من الناحية الصحية، فإنه لا بأس به، بشرط أن يأذن الزوج بذلك، ولكن حسب ما علمته أن هذه الحبوب تضر المرأة، ومن المعلوم أن خروج دم الحيض خروج طبيعي ، والشيء الطبيعي إذا مُنع في وقته، فإنه لا بد أن يحصل من منعه ضرر على الجسم، وكذلك أيضاً من المحذور في هذه الحبوب أنها تخلط على المرأة عادتها، فتختلف عليها، وحينئذ تبقى في قلق وشك من صلاتها ومن مباشرة زوجها وغير ذلك، لهذا أن لا أقول إنها حرام ولكني لا أحب للمرأة أن تستعملها خوفاً من الضرر عليها.(155/12)
وأقول : ينبغي للمرأة أن ترضى بما قدر الله لها، فالنبي صلى الله عليه وسلم ، دخل عام حجة الوداع على أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ وهي تبكي وكانت قد أحرمت بالعمرة فقال : (مالك لعلك نفست ؟) . قالت : نعم . قال: (هذا شيء كتبه الله على بنات آدم) . فالذي ينبقي للمرأة أن تصبر وتحتسب، وإذا تعذر عليها الصوم والصلاة من أجل الحيض، فإن باب الذكر مفتوح ولله الحمد، تذكر الله وتسبح الله سبحانه وتعالى، وتتصدق وتحسن إلى الناس بالقول والفعل، وهذا أفضل الأعمال.
238) وسُئل فضيلة الشيخ : ما حكم السوائل التي تنزل من بعض النساء ، وهل هي نجسة ؟ وهل تنقض الوضوء ؟
فأجاب ـ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ـ بقوله : هذه الأشياء التي تخرج من فرج المرأة لغير شهوة لا توجب الغسل ، ولكن ما خرج من مخرج الولد فإن العلماء اختلفوا في نجاسته:
فقال بعض العلماء: إن رطوبة فرج المرأة نجسة ويجب أن تتطهر منها طهارتها من النجاسة.
وقال بعض العلماء : إن رطوبة فرج المرأة طاهرة، ولكنها تنقض الوضوء إذا خرجت، وهذا القول هو الراجح ، ولهذا لا يغسل الذكر بعد الجماع غسل نجاسة.
أما ما يخرج من مخرج البول فإنه يكون نجساً لأن له حكم البول والله عز وجل قد جعل في المرأة مسلكين: مسلكاً يخرج منه البول، ومسكاً يخرج منه الولد، فالإفرازات التي تخرج من المسلك الذي يخرج منه الولد ، إنما هي إفرازات طبيعية وسوائل يخلقها الله عز وجل في هذا المكان لحكمه، وأما الذي يخرج من ما يخرج منه البول، فهذا يخرج من المثانة في الغالب، ويكون نجساً والكل منها ينقض الوضوء، لأنه لا يلزم من الناقض أن يكون نجساً؛ فها هي الريح تخرج من الإنسان وهي طاهرة لأن الشارع لم يوجب منها استنجاء، ومع ذلك تنقض الوضوء.
239) وسُئل الشيخ: هل السائل الذي ينزل من المرأة طاهر أو نجس ؟ وهل ينقض الوضوء؟ فبعض النساء يعتقدن أنه لا ينقض الوضوء.(155/13)
فأجاب قائلاً: الظاهر لي بعد البحث أن السائل الخارج من المرأة إذا كان لا يخرج من المثانة وإنما يخرج من الرحم فهو طاهر، ولكنه ينقض الوضوء وغن كان طاهراً، لأنه لا يشترط للناقض للوضوء أن يكون نجساً، فها هي الريح تخرج من الدبر وليس لها جرم، ومع ذلك تنقض الوضوء، وعلى هذا إذا خرج من المرأة وهي على وضوء، فإنه ينقض الوضوء وعليها تجديده، فإن كان مستمراً، فإنه لا ينقض الوضوء، ولكن لا تتوضأ للصلاة إلا إذا دخل وقتها وتصلي في هذا الوقت الذي تتوضأ فيه فروضاً ونوافل وتقرأ القرآن وتفعل ما شاءت مما يباح لها، كما قال أهل العلم نحو هذا فيمن به سلس البول.
هذا هو حكم السائل من جهة الطهارة فهو طاهر، لا ينجس الثياب ولا البدن.
وأما حكمه من جهة الوضوء، فهو ناقض للوضوء، إلا أن يكون مستمراً عليها، فإن كان مستمراً فإنه ينقض الوضوء، لكن على المرأة أن لا تتوضأ للصلاة إلا بعد دخول الوقت وأن تتحفظ.
أما إن كان متقطعاً وكان من عادته أن ينقطع في أوقات الصلاة، فإنها تؤخر الصلاة إلى الوقت الذي ينقطع فيه ما لم تخش الوقت، فإن خشيت خروج الوقت، فإنها تتوضأ وتتلجم (تتحفظ) وتصلي. ولا فرق بين القليل والكثير، لأنه كله خارج من السبيل فيكون ناقضاً قليله وكثيره.
وأما اعتقاد بعض النساء أنه لا ينقض الوضوء، فهذا لا أعلم له أصلاً إلا قولاً لابن حزم ـ رحمه الله ـ فإنه يقول: إن هذا لا ينقض الوضوء، ولكنه لم يذكر لهذا دليلاً ، ولو كان له دليل من الكتاب والسنة أو أقوال الصحابة لكان حجة، وعلى المرأة أن تتقي الله وتحرص على طهارتها، فإن الصلاة لا تقبل بغير طهارة ولو صلت مئة مرة، بل إن بعض العلماء يقول: إن الذي يصلي بلا طهارة يكفر لأن هذا من باب الاستهزاء بآيات الله سبحانه وتعالى.
240) وسُئل : إذا توضأت المرأة التي ينزل منها السائل مستمراً لصلاة فرض ، هل يجوز لها أن تصلي النوافل وقراءة القرآن بذلك الوضوء ؟(155/14)
فأجاب بقوله : إذا توضأت لصلاة الفريضة من أول الوقت، فلها أن تصلي ما شاءت من فروض ونوافل وقراءة قرآن إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى.
241) سُئل فضيلة الشيخ : هل يجوز لتلك المرأة أن تصلي صلاة الضحى بوضوء الفجر ؟
فأجاب بقوله : لا يصح ذلك، لأن صلاة الضحى مؤقتة، فلابد من الوضوء لها بعد دخول وقتها، لأن هذه المرأة كالمستحاضة، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة ، ووقت الظهر من زوال الشمس إلى وقت العصر، ووقت العصر من خروج وقت الظهر إلى اصفرار الشمس ، والضرورة إلى غروب الشمس، ووقت المغرب من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر، ووقت العشاء من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل، ووقت الفجر من طلوع الفجر الثاني إلى طلوع الشمس.
242) وسُئل : هلي يجوز لتلك المرأة أن تصلي قيام الليل إذا انقضى نصف الليل بوضوء العشاء ؟
فأجاب قائلاً : هذه المسألة محل خلاف ، فذهب بعض أهل العلم إلى أنه إذا انقضى نصف الليل، وجب عليها أن تجدد الوضوء.
وقيل : لا يلزمها أن تجدد الوضوء وهو الراجح.
243) وسُئل : إذا توضأت من ينزل منها ذلك السائل متقطعاً، وبعد الوضوء وقبل الصلاة نزل مرة أخرى فما العمل ؟
فأجاب بقوله : إذا كان متقطعاً فلتنتظر حتى يأت الوقت الذي ينقطع فيه، أما إذا كان ليس له حال بينه، حيناً ينزل وحيناً لا ، فهي تتوضأ بعد دخول الوقت وتصلي ولا شيء عليها ولو خرج حين الصلاة.
244) وسُئل : إذا أصاب بدنها أو لباسها شيء من ذلك السائل، فما الحكم ؟
فأجاب بقوله : إذا كان طاهراً فإنه لا يلزمها شيء، وإذا كان نجساً ، وهو الذي يخرج من المثانة، فإنه يجب عليها أن تغسله.
245) وسُئل حفظه الله : إذا كانت المرأة لا تتوضأ من ذلك السائل لجهلها بالحكم فماذا عليها ؟(155/15)
فأجب بقوله : عليها أن تتوب إلى الله عز جل ثم إن كانت في مكان ليس عندها من تسأله كامرأة ناشئة في البادية ولم يطرأ على بالها أن ذلك ناقض للوضوء فلا شيء عليها، وإن كانت في مكان فيه علماء فتهاونت وفرطت في السؤال فعليها قضاء الصلوات التي تركتها.
246) سُئل الشيخ : عمن ينسب إليه القول بعدم نقض الوضوء من ذلك السائل ؟
فأجاب ـ جزاه الله خيراً ـ الذي ينسب عني هذا القول غير صادق، والظاهر أنه فهم من قوله أنه طاهر أنه لا ينقض الوضوء.
247) وسُئل : ما حكم غسل الحائض رأسها أثناء الحيض ؟ فبعض الناس يقولون إنه لا يجوز ؟
فأجاب قائلاً : غسل الحائض رأسها أثناء الحيض لا بأس به.
وأما قولهم لا يجوز فلا صحة له، بل لها أن تغسل رأسها وجسدها.
248) سُئل فضيلة الشيخ: عن حكم التزين بالحناء ؟ وفعل ذلك والمرأة حائض؟
فأجاب فضيلته بقوله: التزين بالحناء لا بأس به لا سيما للمرأة المتزوجة التي تتزين به لزوجها، وأما غير المتزوجة فالصحيح أنه مباح إلا أنها لا تبديه للناس لأنه من الزينة.
وفعل ذلك في وقت الحيض لا بأس به، وقد كثر السؤال عنه من النساء هل يجوز للمرأة أن تحني رأسها أو يديها أو رجليها وهي حائض ؟
والجواب على ذلك: أن هذا لا بأس به والحناء كما نعلم يعقبه أثر تلوين بالنسبة لموضعه واللون هنا لا يمنع من وصول الماء إلى البشرة كما يتوهم، فإذا غسلته المرأة أول مرة زال جرمه وبقيت آثاره الملونة وهذا لا بأس به.
249) سُئل الشيخ : هل يجوز وضع الحناء في يديها ورأسها وهي حائض ؟ وهل صحيح أنها إذا ماتت لا تدفن ويدها بيضاء؟
فأجاب بقوله: أما المرأة الحائض فيجوز لها أن تتحنى في يديها ورأسها ورجليها ولا حرج عليها في ذلك.(155/16)
وأما ما ذكر أن المرأة إذا ماتت ولي سفي يديها حناء ويداها بيضاوان لا تدفن فهذا ليس بصواب ولا أصل له، فالمرأة إذا ماتت فهي كغيرها إذا كانت من المسلمين تدفن مع المسمنين وإذا كانت من غير المسلمين تدفن مع غير المسلمين، سواء كانت متحنية أم لا .
250) سُئل فضيلة الشيخ : عن النفساء إذا اتصل الدم معها بعد الأربعين فهل تصلي وتصوم؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلاً : المرأة النفساء إذا بقي الدم معها فوق الأربعين، وهو لم يتغير، فإن صادف ما زاد على الأربعين عادة حيضها السابقة جلسته، وإن لم يصادف عادة حيضها السابقة فقد اختلف العلماء في ذلك :
فمنهم من قال: تغتسل وتصلي وتصوم ولو كان الدم يجري عليها ، لأنها تكون حينئذ كالمستحاضة.
ومنهم من قال: إنها تبقى حتى تتم ستين يوماً ، لأنه وجد من النساء من تبقى في النفاس ستين يوماً ، وهذا أمر واقع ، فإن بعض النساء كانت عادتها في النفاس ستين يوماً ، وبناء على ذلك فإنها تنتظر حتى تتم ستين يوماً، ثم بعد ذلك ترجع إلى الحيض المعتاد فتجلس وقت عادتها ثم تغتسل وتصلي، لأنها حينئذ مستحاضة.
251) وسُئل فضيلة الشيخ : عن امرأة انقطع عنها دم النفاس قبل تمام الأربعين بخمسة أيام، فصلت وصامت، ثم بعد الأربعين عاد الدم فما الحكم ؟
فأجاب فضيلته قائلاً : إذا طهرت النفساء قبل تمام الأربعين ، فإنه يجب عليها أن تصلي، ويجب عليها أن تصوم إذا كان ذلك في رمضان، ويجوز لزوجها أن يجامعها وإن لم تتم الأربعين ، وهذه المرأة التي طهرت لخمسة وثلاثين يوماً يجب عليها أن تصوم وأن تصلي ، وما صامته أو صلته فإنه واقع موقعه، فإذا عاد عليها الدم بعد الأربعين، فهو حيض ، إلا أن يستمر عليها أكثر الوقت فإنها تجلس عادتها فقط ، ثم تغتسل وتصلي .
252 252 ) وسُئل فضيلة الشيخ : إذا طهرت النفساء قبل تمام الأربعين فهل يجامعها زوجها ؟ وإذا عاودها الدم بعد الأربعين . فما الحكم ؟(155/17)
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: النفساء لا يجوز لزوجها أن يجامعها، فإذا طهرت في أثناء الأربعين، فإنه يجب عليها أن تصلي، وصلاتها صحيحة، ويجوز لزوجها أن يجامعها في هذه الحال، لأن الله تعالى يقول في المحيض : (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ) (1) . فما دام الأذى موجوداً وهو الدم، فإنه لا يجوز الجماع، فإذا طهرت منه جاز الجماع، وكما أنه يجب عليها أن تصلي، ولها أن تفعل كل ما يمتنع عليها في النفاس إذا طهرت في أثناء الأربعين، فكذلك الجماع يجوز لزوجها، إلا أنه ينبغي أن يصبر لئلا يعود عليها الدم بسبب الجماع، حتى تتم الأربعين ، ولكن لو جامعها قبل ذلك فلا حرج عليها.وإذا رأت الدم بعد الأربعين وبعد أن طهرت، فإنه يعتبر دم حيض، وليس دم نفاس، ودم الحيض معلوم للنساء فمتى أحست به فهو دم حيض، فإن استمر معها وصار لا ينقطع عنها إلا يسيراً من الدهر، فإنها تكون مستحاضة، وحينئذ ترجع إلى عادتها في الحيض، فتجلس وما زاد عن العادة فإنها تغتسل وتصلي. والله أعلم .
253) وسُئل ـ حفظه الله تعالى ـ : عن المرأة ترى دم النفاس لمدة أسبوعين ثم يتحول تدريجياً إلى مادة مخاطية مائلة إلى الصفرة ويستمر كذلك حتى نهاية الأربعين، فهل ينطبق على هذه المادة التي تلت الدم حكم النفاس أم لا؟(155/18)
فأجاب بقوله: هذه الصفرة أو السائل المخاطي ما دام لم تظهر فيه الطهارة الواضحة البينة فإنه تابع لحكم الدم فلا تكون طاهراً حتى تتخلص من هذا، وإذا طهرت وأرت النقاء البين وجب عليها أن تغتسل وتصلي حتى ولو كان ذلك قبل الأربعين، وأما ما يظنه بعض النساء من أن المرأة تبقى إلى الأربعين ولو طهرت قبل ذلك فهذا ظن خطأ وليس بصواب، بل متى طهرت ولو لعشرة أيام وجب عليها الصلاة وجاز لها ما يجوز للنساء الطاهرات حتى الجماع.
254 ) وسُئل : عن المرأة إذا أسقطت في الشهر الثالث فهل تصلي أو تترك الصلاة؟
فأجاب فضيلته بقوله: المعروف عند أهل العلم أن المرأة إذا أسقطت لثلاثة أشهر فإنها لا تصلي لأن المرأة إذا أسقطت جنيناً قد تبين فيه خلق إنسان فإن الدم الذي يخرج منها يكن دم نفاس لا تصلي فيه.
قال العلماء: ويمكن أن يتبين خلق الجنين إذا تم له واحد وثمانون يوماً وهذه أقل من ثلاثة أشهر، فإذا تيقنت أنه سقط الدنين لثلاثة أشهر فإن الذي أصابها يكون دم حيض، أما إذا كان قبل الثمانين يوماً فإن هذا الدم الذي أصابها يكون دم فساد لا تترك الصلاة من أجله وهذه السائلة عليها أن تتذكر في نفسها فإذا كان الجنين سقط قبل الثمانين يوماً فإنها تقضي الصلاة وإذا كانت لا تدري كم تركت فإنها تقدر وتتحرى وتقضي على ما يغلب عليها ظنها أنها لم تصله.
255 ) وسُئل : عن حكم الدم الذي يخرج بعد سقوط الجنين ؟
فأجاب قائلاً: إذا نزل الجنين فنزل الدم بعده، فإن كان هذا الجنين قد تبين فيه خلق الإنسان، فتبين يداه ورجلاه وبقية أعضائه، فالدم دم نفاس لا تصلي المرأة ولا تصوم حتى تطهر منه، وإن لم يتبين فيه خلق إنسان فليس الدم دم نفاس فتصلي وتصوم إلا في الأيام التي توافق عادتها الشهرية، فإنها تجلس لا تصلي ولا تصوم حتى تنتهي أيام العادة.
256 ) وسُئل فضيلة الشيخ : عن حكم الدم الذي يخرج من المرأة بعد سقوط جنينها؟(155/19)
فأجاب قائلاً : قال أهل العلم : إن خرج وقد تبين فيه خلق إنسان، فإن دمها بعد خروجه يعد نفاساً، تترك فيه الصلاة والصوم ويتجنبها زوجها تطهر.
وإن خرج الجنين وهو غير مخلق ، فإنه لا يعتبر دم نفاس بل هو دم فساد لا يمنعها من الصلاة ولا من الصيام ولا من غيرهما.
قال أهل العلم : وأقل زمن يتبين فيه التخطيط واحد وثمانون يوماً ، لأن الجنين في بطن أمه ـ كما قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه ـ حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ـ وهو الصادق المصدوق ـ فقال : (إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك ويؤمر بأربع كلمات ، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد) وعلى هذا فإذا وضعت الجنين لأقل من ثمانين يوماً ، فإن الدم الذي أصابها لا يكون نفاساً ، لأن هذه المدة لا يخلق فيها الجنين، فتصوم وتصلي وتفعل ما تفعله الطاهرات . والله الموفق.
257 ) سُئل فضيلة الشيخ : عمن أصابها نزيف دم كيف تصلي ومتى تصوم ؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ قائلاً : مثل هذه المرأة التي أصابها نزيف الدم، حكمها أن تجلس عن الصلاة والصوم مدة عادتها السابقة قبل الحدث الذي أصابها ، فإذا كان من عادتها أن الحيض يأتيها من أول كل شهر لمدة ستة أيام مثلاً، فإنها تجلس من أول كل شهر مدة ستة أيام لا تصلي ولا تصوم ، فإذا انقضت اغتسلت وصلت وصامت.(155/20)
وكيفية الصلاة لهذه المرأة وأمثالها أنها تغسل فرجها غسلاً تاماً وتعصبه وتتوضأ وتفعل ذلك عند دخول وقت صلاة الفريضة لا تفعله قبل دخول الوقت، تفعله بعد دخول الوقت، ثم تصلي، وكذلك تفعله إذا أرادت أن تتنفل في غير أوقات الفرائض ، وفي هذه الحال ومن أجل المشقة عليها، يجوز لها أن تجمع صلاة الظهر مع العصر (أو العكس) وصلاة المغرب مع العشاء (أو العكس) حتى يكون عملها هذا واحداً للصلاتين صلاة الظهر والعصر، وواحداً للصلاتين المغرب والعشاء، وواحداً لصلاة الفجر بدلاً من أن تعمل ذلك خمس مرات تعمله ثلاث مرات . والله الموفق.
---
(1) سورة البقرة ، الآية : 222.
(1) سورة البقرة ، الآية: 222 .
(1) (البقرة: من الآية222)
(1) سورة البقرة، الآية: 222
(1) سورة المائدة، الآية : 6 .
(1) صورة النساء ، الآية : 103 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 222 0
(1) سورة البقرة ، الآية : 222 0(155/21)
الرسائل(/)
60 سؤالاً عن أحكام الحيض
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تقديم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله محمد بن عبدالله وآله وصحبه ومن سار على دربه إلى يوم الدين.. وبعد
أختي المسلمة:
نظراً لكثرة التساؤلات التي ترد على العلماء بشأن أحكام الحيض في العبادات رأينا أن نجمع الأسئلة التي تتكرر دائماً وكثيراً ما تقع دون التوسع وذلك رغبة في الاختصار.
أختي المسلمة:
حرصنا على جمعها لتكون في متناول يدك دائماً وذلك لأهمية الفقه في شرع الله ولكي تعبدين الله على علم وبصيرة.
تنبيه: قد يبدو لمن يتصفح الكتاب لأول مرة أن بعض الأسئلة متكررة ولكن بعد التأمل سوف يجد أن هناك زيادة علم في إجابة دون الأخرى. رأينا عدم إغفالها.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
60 سؤالاً عن أحكام الحيض
من أحكام الحيض في الصلاة والصيام
محمد بن صالح العثيمين
س 1: إذا طهرت المرأة بعد الفجر مباشرة هل تمسك وتصوم هذا اليوم؟ ويكون يومها لها، أم عليها قضاء ذلك اليوم؟
جـ: إذا طهرت المرأة بعد طلوع الفجر فللعلماء في إمساكها ذلك اليوم قولان:
القول الأول: إنه يلزمها الإمساك بقية ذلك اليوم ولكنه لا يحسب لها بل يجب عليها القضاء، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ.
والقول الثاني: إنه لا يلزمها أن تمسك بقية ذلك اليوم؛ ْلأنه يوم لا يصح صومها فيه لكونها في أوله حائضة ليست من أهل الصيام، وإذا لم يصح لم يبق للإمساك فائدة، وهذا الزمن زمن غير محترم بالنسبة لها؛ لأنها مأمورة بفطره في أول النهار، بل محرم عليها صومه في أول النهار، والصوم الشرعي هو: «الإمساك عن المفطرات تعبداً لله عز وجل من طلوع الفجر إلى غروب الشمس» وهذا القول كما تراه أرجح من القول بلزوم الإمساك، وعلى كلا القولين يلزمها قضاء هذا اليوم.(156/1)
س 2: هذا السائل يقول: إذا طهرت الحائض واغتسلت بعد صلاة الفجر وصلت وكملت صوم يومها، فهل يجب عليها قضاؤه؟
جـ: إذا طهرت الحائض قبل طلوع الفجر ولو بدقيقة واحدة ولكن تيقنت الطهر فإنه إذا كان في رمضان فإنه يلزمها الصوم ويكون صومها ذلك اليوم صحيحاً ولا يلزمها قضاؤه؛ لأنها صامت وهي طاهر وإن لم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر فلا حرج، كما أن الرجل لو كان جنباً من جماع أو احتلام وتسحر ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر كان صومه صحيحاً.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه إلى أمر آخر عند النساء إذا أتاها الحيض وهي قد صامت ذلك اليوم فإن بعض النساء تظن أن الحيض إذا أتاها بعد فطرها قبل أن تصلي العشاء فسد صوم ذلك اليوم، وهذا لا أصل له بل إن الحيض إذا أتاها بعد الغروب ولو بلحظة فإن صومها تام وصحيح.
س 3: هل يجب على النفساء أن تصوم وتصلي إذا طهرت قبل الأربعين؟
جـ: نعم، متى طهرت النفساء قبل الأربعين فإنه يجب عليها أن تصوم إذا كان ذلك في رمضان، ويجب عليها أن تصلي، ويجوز لزوجها أن يجامعها، لأنها طاهر ليس فيها ما يمنع الصوم ولا ما يمنع وجوب الصلاة وإباحة الجماع.
س 4: إذا كانت المرأة عادتها الشهرية ثمانية أيام أو سبعة أيام ثم استمرت معها مرة أو مرتين أكثر من ذلك فما الحكم؟(156/2)
جـ: إذا كانت عادة هذه المرأة ستة أيام أو سبعة ثم طالت هذه المدة وصارت ثمانية أو تسعة أو عشرة أو أحد عشر يوماً فإنها تبقى لا تصلي حتى تطهر وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لم يحد حدًّا معيناً في الحيض وقد قال الله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى} فمتى كان هذا الدم باقياً فإن المرأة على حالها حتى تطهر وتغتسل ثم تصلي، فإذا جاءها في الشهر الثاني ناقصاً عن ذلك فإنها تغتسل إذا طهرت وإن لم يكن على المدة السابقة، والمهم أن المرأة متى كان الحيض معها موجوداً فإنها لا تصلي سواء كان الحيض موافقاً للعادة السابقة، أو زائداً عنها، أو ناقصاً، وإذا طهرت تصلي.
س 5: المرأة النفساء هل تجلس أربعين يوماً لا تصلي ولا تصوم أم أن العبرة بانقطاع الدم عنها، فمتى انقطع تطهرت وصلت؟ وما هي أقل مدة للطهر؟
جـ: النفساء ليس لها وقت محدود بل متى كان الدم موجوداً جلست لم تصل ولم تصم ولم يجامعها زوجها، وإذا رأت الطهر ولو قبل الأربعين ولو لم تجلس إلا عشرة أيام أو خمسة أيام فإنها تصلي وتصوم ويجامعها زوجها ولا حرج في ذلك. والمهم أن النفاس أمر محسوس تتعلق الأحكام بوجوده أو عدمه، فمتى كان موجوداً ثبتت أحكامه، ومتى تطهرت منه تخلت من أحكامه، لكن لو زاد على الستين يوماً فإنها تكون مستحاضة تجلس ما وافق عادة حيضها فقط ثم تغتسل وتصلي.
س 6: إذا نزل من المرأة في نهار رمضان نقط دم يسيرة، واستمر معها هذا الدم طوال شهر رمضان وهي تصوم، فهل صومها صحيح؟
جـ: نعم، صومها صحيح، وأما هذه النقط فليست بشيء لأنها من العروق، وقد أثِر عن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: إن هذه النقط التي تكون كرعاف الأنف ليست بحيض، هكذا يذكر عنه ـ رضي الله عنه ـ.
س 7: إذا طهرت الحائض أو النفساء قبل الفجر ولم تغتسل إلا بعد الفجر هل يصح صومها أم لا؟(156/3)
جـ: نعم، يصح صوم المرأة الحائض إذا طهرت قبل الفجر ولم تغتسل إلا بعد طلوع الفجر، وكذلك النفساء لأنها حينئذ من أهل الصوم، وهي شبيهة بمن عليه جنابة إذا طلع الفجر وهو جُنب فإن صومه يصح لقوله تعالى: {فالان باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر}، وإذا أذن الله تعالى بالجماع إلى أن يتبين الفجر لزم من ذلك أن لا يكون الاغتسال إلا بعد طلوع الفجر، ولحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ «أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يصبح جنباً من جماع أهله وهو صائم»، أي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ لا يغتسل عن الجنابة إلا بعد طلوع الصبح.
س 8: إذا أحست المرأة بالدم ولم يخرج قبل الغروب، أو أحست بألم العادة هل يصح صيامها ذلك اليوم أم يجب عليها قضاؤه؟
جـ: إذا أحست المرأة الطاهرة بانتقال الحيض وهي صائمة ولكنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس، أو أحست بألم الحيض ولكنه لم يخرج إلا بعد غروب الشمس فإن صومها ذلك اليوم صحيح وليس عليها إعادته إذا كان فرضاً، ولا يبطل الثواب به إذا كان نفلاً.
س 9: إذا رأت المرأة دماً ولم تجزم أنه دم حيض فما حكم صيامها ذلك اليوم؟
جـ: صيامها ذلك اليوم صحيح؛ لأن الأصل عدم الحيض حتى يتبين لها أنه حيض.
س 10: أحياناً ترى المرأة أثراً يسيراً للدم أو نقطاً قليلة جداً متفرقة على ساعات اليوم، مرة تراه وقت العادة وهي لم تنزل، ومرة تراه في غير وقت العادة، فما حكم صيامها في كلتا الحالتين؟
جـ: سبق الجواب على مثل هذا السؤال قريباً، لكن بقي أنه إذا كانت هذه النقط في أيام العادة وهي تعتبره من الحيض الذي تعرفه فإنه يكون حيضاً.
س 11: الحائض والنفساء هل تأكلان وتشربان في نهار رمضان؟
جـ: نعم تأكلان وتشربان في نهار رمضان لكن الأولى أن يكون ذلك سرًّا إذا كان عندها أحد من الصبيان في البيت لأن ذلك يوجب إشكالاً عندهم.(156/4)
س 12: إذا طهرت الحائض أو النفساء وقت العصر هل تلزمها صلاة الظهر مع العصر أم لا يلزمها سوى العصر فقط؟
جـ: القول الراجح في هذه المسألة أنه لا يلزمها إلا العصر فقط، لأنه لا دليل على وجوب صلاة الظهر، والأصل براءة الذمة، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»، ولم يذكر أنه أدرك الظهر، ولو كان الظهر واجباً لبيّنه النبي صلى الله عليه وسلّم، ولأن المرأة لو حاضت بعد دخول وقت الظهر لم يلزمها إلا قضاء صلاة الظهر دون صلاة العصر مع أن الظهر تجمع إلى العصر، ولا فرق بينها وبين الصورة التي وقع السؤال عنها، وعلى هذا يكون القول الراجح أنه لا يلزمها إلا صلاة العصر فقط لدلالة النص والقياس عليها. وكذلك الشأن فيما لو طهرت قبل خروج وقت العشاء فإنه لا يلزمها إلا صلاة العشاء، ولا تلزمها صلاة المغرب.
س 13: بعض النساء اللاتي يجهضن لا يخلو الحال: إمَّا أن تجهض المرأة قبل تخلُّق الجنين، وإما أن تجهض بعد تخلقه وظهور التخطيط فيه، فما حكم صيامها ذلك اليوم الذي أجهضت فيه وصيام الأيام التي ترى فيها الدم؟
جـ: إذا كان الجنين لم يُخلَّق فإن دمها هذا ليس دم نفاس، وعلى هذا فإنها تصوم وتصلي وصيامها صحيح، وإذا كان الجنين قد خُلّق فإن الدم دم نفاس لا يحل لها أن تصلي فيه، ولا أن تصوم، والقاعدة في هذه المسألة أو الضابط فيها أنه إذا كان الجنين قد خلق فالدم دم نفاس، وإذا لم يخلّق فليس الدم دم نفاس، وإذا كان الدم دم نفاس فإنه يحرم عليها ما يحرم على النفساء، وإذا كان غير دم النفاس فإنه لا يحرم عليها ذلك.
س 14: نزول الدم من الحامل في نهار رمضان هل يؤثر على صومها؟(156/5)
جـ: إذا خرج دم الحيض والأنثى صائمة فإن صومها يفسد، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم» ولهذا نعده من المفطرات والنفاس مثله، وخروج دم الحيض والنفاس مفسد للصوم، ونزول الدم من الحامل في نهار رمضان إذا كان حيضاً فإنه كحيض غير الحامل أي يؤثر على صومها، وإن لم يكن حيضاً فإنه لا يؤثر، والحيض الذي يمكن أن يقع من الحامل هو أن يكون حيضاً مطرداً لم ينقطع عنها منذ حملت بل كان يأتيها في أوقاتها المعتادة فهذا حيض على القول الراجح يثبت له أحكام الحيض، أما إذا انقطع الدم عنها ثم صارت بعد ذلك ترى دماً ليس هو الدم المعتاد فإن هذا لا يؤثر على صيامها لأنه ليس بحيض.
س 15: إذا رأت المرأة في زمن عادتها يوماً دماً والذي يليه لا ترى الدم طيلة النهار، فماذا عليها أن تفعل؟
جـ: الظاهر أن هذا الطهر أو اليبوسة التي حصلت لها في أيام حيضها تابع للحيض فلا يعتبر طهراً، وعلى هذا فتبقى ممتنعة مما تمتنع منه الحائض، وقال بعض أهل العلم: من كانت ترى يوماً دماً ويوماً نقاءً، فالدم حيض، والنقاء طهر حتى يصل إلى خمسة عشر يوماً فإذا وصل إلى خمسة عشر يوماً صار ما بعده دم استحاضة، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ.
س 16: في الأيام الأخيرة من الحيض وقبل الطهر لا ترى المرأة أثراً للدم، هل تصوم ذلك اليوم وهي لم تر القصة البيضاء أم ماذا تصنع؟
جـ: إذا كان من عادتها ألا ترى القصة البيضاء كما يوجد في بعض النساء فإنها تصوم، وإن كان من عادتها أن ترى القصة البيضاء فإنه لا تصوم حتى ترى القصة البيضاء.
س 17: ما حكم قراءة الحائض والنفساء للقرآن نظراً وحفظاً في حالة الضرورة كأن تكون طالبة أو معلمة؟(156/6)
جـ: لا حرج على المرأة الحائض أو النفساء في قراءة القرآن إذا كان لحاجة، كالمرأة المعلمة، أو الدارسة التي تقرأ وردها في ليل أو نهار، وأما القراءة أعني قراءة القرآن لطلب الأجر وثواب التلاوة فالأفضل ألا تفعل لأن كثيراً من أهل العلم أو أكثرهم يرون أن الحائض لا يحل لها قراءة القرآن.
س 18: هل يلزم الحائض تغيير ملابسها بعد طهرها مع العلم أنه لم يصبها دم ولا نجاسة؟
جـ: لا يلزمها ذلك؛ لأن الحيض لا ينجس البدن وإنما دم الحيض ينجس ما لاقاه فقط، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلّم النساء إذا أصاب ثيابهن دم حيض أن يغسلنه ويصلين في ثيابهن.
س 19: سائل يسأل، امرأة أفطرت في رمضان سبعة أيام وهي نفساء، ولم تقضِ حتى أتاها رمضان الثاني وطافها من رمضان الثاني سبعة أيام وهي مرضع ولم تقض بحجة مرض عندها، فماذا عليها وقد أوشك دخول رمضان الثالث، أفيدونا أثابكم الله؟
جـ: إذا كانت هذه المرأة كما ذكرت عن نفسها أنها في مرض ولا تستيطع القضاء فإنها متى استطاعت صامته لأنها معذورة حتى ولو جاء رمضان الثاني، أما إذا كان لا عذر لها وإنما تتعلل وتتهاون فإنه لا يجوز لها أن تؤخر قضاء رمضان إلى رمضان الثاني، قالت عائشة ـ رضي الله عنها ـ «كان يكون عليّ الصوم فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان» وعلى هذا فعلى هذه المرأة أن تنظر في نفسها إذا كان لا عذر لها فهي آثمة، وعليها أن تتوب إلى الله، وأن تبادر بقضاء ما في ذمتها من الصيام، وإن كانت معذورة فلا حرج عليها ولو تأخرت سنة أو سنتين.
س 20: بعض النساء يدخل عليهن رمضان الثاني وهن لم يصمن أياماً من رمضان السابق فما الواجب عليهن؟(156/7)
جـ: الواجب عليهن التوبة إلى الله من هذا العمل، لأنه لا يجوز لمن عليه قضاء رمضان أن يؤخره إلى رمضان الثاني بلا عذر لقول عائشة ـ رضي الله عنه ـ: «كان يكون عليّ الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان»، وهذا يدل على أنه لا يمكن تأخيره إلى ما بعد رمضان الثاني، فعليها أن تتوب إلى الله ـ عز وجل ـ مما صنعت وأن تقضي الأيام التي تركتها بعد رمضان الثاني.
س 21: إذا حاضت المرأة الساعة الواحدة ظهراً مثلاً وهي لم تصل بعد صلاة الظهر هل يلزمها قضاء تلك الصلاة بعد الطهر؟
جـ: في هذا خلاف بين العلماء، فمنهم من قال: إنه لا يلزمها أن تقضي هذه الصلاة؛ لأنها لم تفرّط ولم تأثم حيث إنه يجوز لها أن تؤخر الصلاة إلى آخر وقتها، ومنهم من قال: إنه يلزمها القضاء أي قضاء تلك الصلاة لعموم قوله صلى الله عليه وسلّم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» والاحتياط لها أن تقضيها لأنها صلاة واحدة لا مشقة في قضائها.
س 22: إذا رأت الحامل دماً قبل الولادة بيوم أو يومين فهل تترك الصوم والصلاة من أجله أم ماذا؟
جـ: إذا رأت الحامل الدم قبل الولادة بيوم أو يومين ومعها طلق فإنه نفاس تترك من أجله الصلاة والصيام، وإذا لم يكن معه طلق فإنه دم فساد لا عبرة فيه ولا يمنعها من صيام ولا صلاة.
س 23: ما رأيك في تناول حبوب منع الدورة الشهرية من أجل الصيام مع الناس؟
جـ: أنا أحذِّر من هذا، وذلك لأن هذه الحبوب فيها مضرة عظيمة، ثبت عندي ذلك عن طريق الأطباء، ويقال للمرأة: هذا شيء كتبه الله على بنات آدم فاقنعي بما كتب الله ـ عز وجل ـ وصومي حيث لا مانع، وإذا وجد المانع فافطري رضاءً بما قدَّر الله ـ عز وجل ـ.
س 24: يقول السائل: امرأة بعد شهرين من النفاس وبعد أن طهرت بدأت تجد بعض النقاط الصغيرة من الدم. فهل تفطر ولا تصلي؟ أم ماذا تفعل؟(156/8)
جـ: مشاكل النساء في الحيض والنفاس بحر لا ساحل له، ومن أسبابه استعمال هذه الحبوب المانعة للحمل والمانعة للحيض، وما كان الناس يعرفون مثل هذه الإشكالات الكثيرة، صحيح أن الإشكال مازال موجوداً من بعثة الرسول صلى الله عليه وسلّم بل منذ وجد النساء، ولكن كثرته على هذا الوجه الذي يقف الإنسان حيران في حل مشاكله أمر يؤسف له، ولكن القاعدة العامة أن المرأة إذا طهرت ورأت الطهر المتيقن في الحيض وفي النفاس وأعني الطهر في الحيض خروج القصة البيضاء، وهو ماء أبيض تعرفه النساء فما بعد الطهر من كدرة، أو صفرة، أو نقطة، أو رطوبة، فهذا كله ليس بحيض، فلا يمنع من الصلاة، ولا يمنع من الصيام، ولا يمنع من جماع الرجل لزوجته، لأنه ليس بحيض. قالت أم عطية: «كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئاً». أخرجه البخاري، وزاد أبو داود «بعد الطهر» وسنده صحيح. وعلى هذا نقول: كل ما حدث بعد الطهر المتيقن من هذه الأشياء فإنها لا تضر المرأة ولا تمنعها من صلاتها وصيامها ومباشرة زوجها إياها. ولكن يجب أن لا تتعجل حتى ترى الطهر، لأن بعض النساء إذا جف الدم عنها بادرت واغتسلت قبل أن ترى الطهر، ولهذا كان نساء الصحابة يبعثن إلى أم المؤمنين عائشة ـ رضي الله عنها ـ بالكرسف يعني القطن فيه الدم فتقول لهن: لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء.
س 25: بعض النساء يستمر معهن الدم وأحياناً ينقطع يوماً أو يومين ثم يعود، فما الحكم في هذه الحالة بالنسبة للصوم والصلاة وسائر العبادات؟
جـ: المعروف عند كثير من أهل العلم أن المرأة إذا كان لها عادة وانقضت عادتها فإنها تغتسل وتصلي وتصوم وما تراه بعد يومين أو ثلاثة ليس بحيض؛ لأن أقل الطهر عند هؤلاء العلماء ثلاثة عشر يوماً، وقال بعض أهل العلم: إنها متى رأت الدم فهو حيض ومتى طهرت منه فهي طاهر، وإن لم يكن بين الحيضتين ثلاثة عشر يوماً.(156/9)
س 26: أيهما أفضل للمرأة أن تصلي في ليالي رمضان في بيتها أم في المسجد وخصوصاً إذا كان فيه مواعظ وتذكير، وما توجيهك للنساء اللاتي يصلين في المساجد؟
جـ: الأفضل أن تصلي في بيتها لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «وبيوتهن خير لهن» ولأن خروج النساء لا يسلم من فتنة في كثير من الأحيان، فكون المرأة تبقى في بيتها خير لها من أن تخرج للصلاة في المسجد، والمواعظ والحديث يمكن أن تحصل عليها بواسطة الشريط، وتوجيهي للاتي يصلين في المسجد أن يخرجن من بيوتهن غير متبرجات بزينة ولا متطيبات.
س 27: ما حكم ذوق الطعام في نهار رمضان والمرأة صائمة؟
جـ: حكمه لا بأس به لدعاء الحاجة إليه، ولكنها تلفظ ما ذاقته.
س 28: امرأة أصيبت في حادثة وكانت في بداية الحمل فأسقطت الجنين إثر نزيف حاد فهل يجوز لها أن تفطر أم تواصل الصيام وإذا أفطرت فهل عليها إثم؟(156/10)
جـ: نقول إن الحامل لا تحيض كما قال الإمام أحمد «إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الحيض» والحيض كما قال أهل العلم خلقه الله تبارك وتعالى لحكمة: غذاء الجنين في بطن أمه، فإذا نشأ الحمل انقطع الحيض، لكن بعض النساء قد يستمر بها الحيض على عادته كما كان قبل الحمل، فهذه يحكم بأن حيضها حيض صحيح؛ لأنه استمر بها الحيض ولم يتأثر بالحمل، فيكون هذا الحيض مانعاً لكل ما يمنعه حيض غير الحامل، وموجباً لما يوجبه، ومسقطاً لما يسقطه، والحاصل أن الدم الذي يخرج من الحامل على نوعين: نوع يحكم بأنه حيض وهو الذي استمر بها كما كان قبل الحمل، فمعنى ذلك أن الحمل لم يؤثر عليه فيكون حيضاً، والنوع الثاني: دم طرأ على الحمل طروءاً إما بسبب حادث، أو حمل شيء، أو سقوط من شيء ونحوه فهذه دمها ليس بحيض وإنما هو دم عرق، وعلى هذا فلا يمنعها من الصلاة، ولا من الصوم، بل هي في حكم الطاهرات، ولكن إذا لزم من الحادث أن ينزل الولد أو الحمل الذي في بطنها فإنها على ما قال أهل العلم إن خرج وقد تبين فيه خلق إنسان فإن دمها بعد خروجه يعد نفاساً تترك فيه الصلاة والصوم ويتجنبها زوجها حتى تطهر، وإن خرج الجنين وهو غير مخلَّق فإنه لا يعتبر دم نفاس بل هو دم فساد لا يمنعها من الصلاة، ولا من الصيام، ولا من غيرهما.
قال أهل العلم: وأقل زمن يتبين فيه التخليق واحد وثمانون يوماً؛ لأن الجنين في بطن أمه كما قال عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو الصادق المصدوق فقال: «إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك ويؤمر بأربع كلمات، فيكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد» ولا يمكن أن يخلق قبل ذلك والغالب أن التخليق لا يتبين قبل تسعين يوماً كما قال بعض أهل العلم.(156/11)
س 29: أنا امرأة أسقطت في الشهر الثالث منذ عام، ولم أصلِّ حتى طهرت وقد قيل لي كان عليك أن تصلي فماذا أفعل وأنا لا أعرف عدد الأيام بالتحديد؟
جـ: المعروف عند أهل العلم أن المرأة إذا أسقطت لثلاثة أشهر فإنها لا تصلي؛ لأن المرأة إذا أسقطت جنيناً قد تبين فيه خلق إنسان فإن الدم الذي يخرج منها يكون دم نفاس لا تصلي فيه، قال العلماء: ويمكن أن يتبين خلق الجنين إذا تم له واحد وثمانون يوماً، وهذه أقل من ثلاثة أشهر، فإذا تيقنت أنه سقط الجنين لثلاثة أشهر فإن الذي أصابها يكون دم فساد لا تترك الصلاة من أجله، وهذه السائلة عليها أن تتذكر في نفسها فإذا كان الجنين سقط قبل الثمانين يوماً فإنها تقضي الصلاة، وإذا كانت لا تدري كم تركت فإنها تقدر وتتحرى، وتقضي على ما يغلب عليه ظنها أنها لم تُصَلِّه.
س 30: سائلة تقول: إنها منذ وجب عليها الصيام وهي تصوم رمضان ولكنها لا تقضي صيام الأيام التي تفطرها بسبب الدورة الشهرية ولجهلها بعدد الأيام التي أفطرتها فهي تطلب إرشادها إلى ما يجب عليها فعله الان؟
جـ: يؤسفنا أن يقع مثل هذا بين نساء المؤمنين فإن هذا الترك أعني ترك قضاء ما يجب عليها من الصيام إما أن يكون جهلاً، وإما أن يكون تهاوناً وكلاهما مصيبة، لأن الجهل دواؤه العلم والسؤال، وأما التهاون فإن دواءه تقوى الله ـ عز وجل ـ ومراقبته والخوف من عقابه والمبادرة إلى ما فيه رضاه. فعلى هذه المرأة أن تتوب إلى الله مما صنعت وأن تستغفر، وأن تتحرى الأيام التي تركتها بقدر استطاعتها فتقضيها، وبهذا تبرأ ذمتها، ونرجو أن يقبل الله توبتها.
س 31: تقول السائلة: ما الحكم إذا حاضت المرأة بعد دخول وقت الصلاة؟ وهل يجب عليها أن تقضيها إذا طهرت؟ وكذلك إذا طهرت قبل خروج وقت الصلاة؟(156/12)
جـ: أولاً: المرأة إذا حاضت بعد دخول الوقت أي بعد دخول وقت الصلاة فإنه يجب عليها إذا طهرت أن تقضي تلك الصلاة التي حاضت في وقتها إذا لم تصلها قبل أن يأتيها الحيض وذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلّم: «من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة» فإذا أدركت المرأة من وقت الصلاة مقدار ركعة ثم حاضت قبل أن تصلي فإنها إذا طهرت يلزمها القضاء.
ثانياً: إذا طهرت من الحيض قبل خروج وقت الصلاة فإنه يجب عليها قضاء تلك الصلاة، فلو طهرت قبل أن تطلع الشمس بمقدار ركعة وجب عليها قضاء صلاة الفجر، ولو طهرت قبل غروب الشمس بمقدار ركعة وجبت عليها صلاة العصر، ولو طهرت قبل منتصف الليل بمقدار ركعة وجب عليها قضاء صلاة العشاء، فإن طهرت بعد منتصف الليل لم يجب عليها صلاة العشاء، وعليها أن تصلي الفجر إذا جاء وقتها، قال الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} أي فرضاً مؤقتاً بوقت محدود لا يجوز للإنسان أن يخرج الصلاة عن وقتها، ولا أن يبدأ بها قبل وقتها.
س 32: دخلت عليَّ العادة الشهرية أثناء الصلاة ماذا أفعل؟ وهل أقضي الصلاة عن مدة الحيض؟
جـ: إذا حدث الحيض بعد دخول وقت الصلاة كأن حاضت بعد الزوال بنصف ساعة مثلاً، فإنها بعد أن تطهر من الحيض تقضي هذه الصلاة التي دخل وقتها وهي طاهرة لقوله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}.(156/13)
ولا تقضي الصلاة عن وقت الحيض لقوله صلى الله عليه وسلّم في الحديث الطويل: «أليست إذا حاضت لم تصل ولم تصم». وأجمع أهل العلم أنها لا تقضي الصلاة التي فاتتها أثناء مدة الحيض، أما إذا طهرت وكان باقياً من الوقت مقدار ركعة فأكثر فإنها تصلي ذلك الوقت الذي طهرت فيه لقوله صلى الله عليه وسلّم: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر». فإذا طهرت وقت العصر، أو قبل طلوع الشمس وكان باقياً على غروب الشمس، أو طلوعها مقدار ركعة، فإنها تصلي العصر في المسألة الأولى والفجر في المسألة الثانية.
س 33: شخص يقول: أفيدكم أن لي والدة تبلغ من العمر خمسة وستين عاماً ولها مدة تسع عشرة سنة وهي لم تأتِ بأطفال، والان معها نزيف دم لها مدة ثلاث سنوات وهو مرض يبدو أتاها في تلكم الفترة ولأنها ستستقبل الصيام كيف تنصحونها لو تكرمتم؟ وكيف تتصرف مثلها لو سمحتم؟(156/14)
جـ: مثل هذه المرأة التي أصابها نزيف الدم حكمها أن تترك الصلاة والصوم مدة عادتها السابقة قبل هذا الحدث الذي أصابها، فإذا كان من عادتها أن الحيض يأتيها من أول كل شهر لمدة ستة ايام مثلاً فإنها تجلس من أول كل شهر مدة ستة أيام لا تصلي ولا تصوم، فإذا انقضت اغتسلت وصلت وصامت، وكيفية الصلاة لهذه وأمثالها أنها تغسل فرجها غسلاً تامًّا وتعصبه وتتوضأ وتفعل ذلك بعد دخول وقت صلاة الفريضة، وكذلك تفعله إذا أرادت أن تتنفل في غير أوقات فرائض ،وفي هذه الحالة ومن أجل المشقة عليها يجوز لها أن تجمع صلاة الظهر مع العصر وصلاة المغرب مع العشاء حتى يكون عملها هذا واحداً للصلاتين: صلاة الظهر والعصر، وواحداً للصلاتين: صلاة المغرب والعشاء، وواحداً لصلاة الفجر، بدلاً من أن تعمل ذلك خمس مرات تعمله ثلاث مرات. وأعيده مرة ثانية أقول: عندما تريد الطهارة تغسل فرجها وتعصبه بخرقة أو شبهها حتى يخف الخارج، ثم تتوضأ وتصلي، تصلي الظهر أربعاً، والعصر أربعاً، والمغرب ثلاثاً، والعشاء أربعاً، والفجر ركعتين أي أنها لا تقصر كما يتوهمه بعض العامة ولكن يجوز لها أن تجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء، الظهر مع العصر إمَّا تأخيراً أو تقديماً، وكذلك المغرب مع العشاء إما تقديماً أو تأخيراً ،وإذا أرادت أن تتنفل بهذا الوضوء فلا حرج عليها.
س 34: ما حكم وجود المرأة في المسجد الحرام وهي حائض لاستماع الأحاديث والخطب؟(156/15)
جـ: لا يجوز للمرأة الحائض أن تمكث في المسجد الحرام ولا غيره من المساجد، ولكن يجوز لها أن تمر بالمسجد وتأخذ الحاجة منه وما أشبه ذلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم لعائشة حين أمرها أن تأتي بالخُمْرَة فقالت: إنها في المسجد وإني حائض. فقال: «إن حيضتك ليس في يدك». فإذا مرت الحائض في المسجد وهي آمنة من أن ينزل دم على المسجد فلا حرج عليها، أما إن كانت تريد أن تدخل وتجلس فهذا لا يجوز، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر النساء في صلاة العيد أن يخرجن إلى مصلى العيد العواتق وذوات الخدور والحيض إلا أنه أمر أن يعتزل الحيض المصلى، فدل ذلك على أن الحائض لا يجوز لها أن تمكث في المسجد لاستماع الخطبة أو استماع الدرس والأحاديث.
60 سؤالاً عن أحكام الحيض
من أحكام الطهارة في الصلاة
محمد بن صالح العثيمين
س 35: هل السائل الذي ينزل من المرأة، أبيض كان أم أصفر طاهر أم نجس؟ وهل يجب فيه الوضوء مع العلم بأنه ينزل مستمراً؟ وما الحكم إذا كان متقطعاً خاصة أن غالبية النساء لاسيما المتعلمات يعتبرن ذلك رطوبة طبيعية لا يلزم منه الوضوء؟
جـ: الظاهر لي بعد البحث أن السائل الخارج من المرأة إذا كان لا يخرج من المثانة وإنما يخرج من الرحم فهو طاهر، ولكنه ينقض الوضوء وإن كان طاهراً، لأنه لا يشترط للناقض للوضوء أن يكون نجساً فها هي الريح تخرج من الدبر وليس لها جرم ومع ذلك تنقض الوضوء. وعلى هذا إذا خرج من المرأة وهي على وضوء فإنه ينقض الوضوء وعليها تجديده.(156/16)
فإن كان مستمرًّا فإنه لا ينقض الوضوء، ولكن تتوضأ للصلاة إذا دخل وقتها وتصلي في هذا الوقت الذي تتوضأ فيه فروضاً ونوافل، وتقرأ القرآن، وتفعل ما شاءت مما يباح لها، كما قال أهل العلم نحو هذا في من به سلس البول. هذا هو حكم السائل من جهة الطهارة فهو طاهر، ومن جهة نقضه للوضوء فهو ناقض للوضوء إلا أن يكون مستمرًّا عليها، فإن كان مستمرًّا فإنه لا ينقض الوضوء، لكن على المرأة ألا تتوضأ للصلاة إلا بعد دخول الوقت وأن تتحفظ.
أما إن كان منقطعاً وكان من عادته أن ينقطع في أوقات الصلاة فإنها تؤخر الصلاة إلى الوقت الذي ينقطع فيه ما لم تخش خروج الوقت. فإن خشيت خروج الوقت فإنها تتوضأ وتتلجم (تتحفظ) وتصلي.
ولا فرق بين القليل والكثير لأنه كله خارج من السبيل فيكون ناقضاً قليله وكثيره، بخلاف الذي يخرج من بقية البدن كالدم والقيء فإنه لا ينقض الوضوء لا قليله ولا كثيره.
وأما اعتقاد بعض النساء أنه لا ينقض الوضوء فهذا لا أعلم له أصلاً إلا قولاً لابن حزم ـ رحمه الله ـ فإنه يقول: «أن هذا لا ينقض الوضوء» ولكنه لم يذكر لهذا دليلاً، ولو كان له دليل من الكتاب والسنة أو أقوال الصحابة لكان حجة. وعلى المرأة أن تتقي الله وتحرص على طهارتها، فإن الصلاة لا تقبل بغير طهارة ولو صلت مائة مرة، بل إن بعض العلماء يقول أن الذي يصلي بلا طهارة يكفر؛ لأن هذا من باب الاستهزاء بآيات الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
س 36: إذا توضأت المرأة التي ينزل منها السائل مستمرًّا لصلاة فرض هل يصح لها أن تصلي ما شاءت من النوافل أو قراءة القرآن بوضوء ذلك الفرض إلى حين الفرض الثاني؟
جـ: إذا توضأت لصلاة الفريضة من أول الوقت فلها أن تصلي ما شاءت من فروض ونوافل وقراءة قرآن إلى أن يدخل وقت الصلاة الأخرى.
س 37: هل يصح أن تصلي تلك المرأة صلاة الضحى بوضوء الفجر؟(156/17)
جـ: لا يصح ذلك لأن صلاة الضحى مؤقتة فلابد من الوضوء لها بعد دخول وقتها لأن هذه كالمستحاضة وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلّم المستحاضة أن تتوضأ لكل صلاة.
* ووقت الظهر: من زوال الشمس إلى وقت العصر.
* ووقت العصر: من خروج وقت الظهر إلى اصفرار الشمس، والضرورة إلى غروب الشمس.
* ووقت المغرب: من غروب الشمس إلى مغيب الشفق الأحمر.
* ووقت العشاء: من مغيب الشفق الأحمر إلى نصف الليل.
س 38: هل يصح أن تصلي هذه المرأة قيام الليل إذا انقضى نصف الليل بوضوء العشاء؟
جـ: لا، إذا انقضى نصف الليل وجب عليها أن تجدد الوضوء، وقيل: لا يلزمها أن تجدد الوضوء وهو الراجح.
س 39: ما هو آخر وقت العشاء (أي صلاتها)؟ وكيف يمكن معرفتها؟
جـ: آخر وقت العشاء منتصف الليل، ويعرف ذلك بأن يقسم مابين غروب الشمس وطلوع الفجر نصفين، فالنصف الأول ينتهي به وقت العشاء، ويبقى نصف الليل الاخر ليس وقتاً بل برزخ بين العشاء والفجر.
س 40: إذا توضأت من ينزل منها ذلك السائل متقطعاً وبعد انتهائها من الوضوء وقبل صلاتها نزل مرة أخرى، ماذا عليها؟
جـ: إذا كان متقطعاً فلتنتظر حتى يأتي الوقت الذي ينقطع فيه. أما إذا كان ليس له حال بينة، حيناً ينزل وحيناً لا، فهي تتوضأ بعد دخول الوقت وتصلي ولا شيء عليها.
س 41: ماذا يلزم لما يصيب البدن أو اللباس من ذلك السائل؟
جـ: إذا كان طاهراً فإنه لا يلزمها شيء، وإذا كان نجساً وهو الذي يخرج من المثانة فإنه يجب عليها أن تغسله.
س 42: بالنسبة للوضوء من ذلك السائل هل يكتفى بغسل أعضاء الوضوء فقط؟
جـ: نعم يكتفى بذلك فيما إذا كان طاهراً وهو الذي يخرج من الرحم لا من المثانة.
س 43: ما العلة في أنه لم ينقل عن الرسول صلى الله عليه وسلّم حديث يدل على نقض الوضوء بذلك السائل، مع أن الصحابيات كن يحرصن على الاستفتاء في أمور دينهن؟
جـ: لأن السائل لا يأتي كل امرأة.
س 44: من كانت من النساء لا تتوضأ لجهلها بالحكم ماذا عليها؟(156/18)
جـ: عليها أن تتوب إلى الله ـ عز وجل ـ وتسأل أهل العلم بذلك.
س 45: هناك من ينسب إليك القول بعدم الوضوء من ذلك السائل؟
جـ: الذي ينسب عني هذا القول غير صادق، والظاهر أنه فهم من قولي أنه طاهر أنه لا ينقض الوضوء.
س 46: ما حكم الكدرة التي تنزل من المرأة قبل الحيض بيوم أو أكثر أو أقل، وقد يكون النازل على شكل خيط رقيق أسود أو بني أو نحو ذلك وما الحكم لو كانت بعد الحيض؟
جـ: هذا إذا كانت من مقدمات الحيض فهي حيض، ويعرف ذلك بالأوجاع والمغص الذي يأتي الحائض عادة. أما الكدرة بعد الحيض فهي تنتظر حتى تزول؛ لأن الكدرة المتصلة بالحيض حيض، لقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ «لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء». والله أعلم.
60 سؤالاً عن أحكام الحيض
من أحكام الحيض في الحج والاعتمار
محمد بن صالح العثيمين
س 47: كيف تصلي الحائض ركعتي الإحرام؟ وهل يجوز للمرأة الحائض ترديد آي الذكر الحكيم في سرها أم لا؟
جـ: أولاً: ينبغي أن نعلم أن الإحرام ليس له صلاة فإنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه شرع لأمته صلاة للإحرام لا بقوله ولا بفعله ولا بإقراره.
ثانياً: إن هذه المرأة الحائض التي حاضت قبل أن تحرم يمكنها أن تحرم وهي حائض لأن النبي صلى الله عليه وسلّم أمر أسماء بنت عميس امراة أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ حين نفست في ذي الحليفة أمرها أن تغتسل وتسثفر بثوب وتحرم وهكذا الحائض أيضاً وتبقى على إحرامها حتى تطهر، ثم تطوف بالبيت وتسعى.
وأما قوله في السؤال: هل لها أن تقرأ القرآن؟ فنعم الحائض لها الحق أن تقرأ القرآن عند الحاجة، أو المصلحة، أمَّا بدون حاجة ولا مصلحة إنما تريد أن تقرأه تعبداً وتقرباً إلى الله فالأحسن ألا تقرأه.(156/19)
س 48: سافرت امرأة إلى الحج وجاءتها العادة الشهرية منذ خمسة أيام من تاريخ سفرها وبعد وصولها إلى الميقات اغتسلت وعقدت الإحرام وهي لم تطهر من العادة وحين وصولها إلى مكة المكرمة ظلت خارج الحرم ولم تفعل شيئاً من شعائر الحج أو العمرة ومكثت يومين في منى ثم طهرت واغتسلت وأدت جميع مناسك العمرة وهي طاهر ثم عاد الدم إليها وهي في طواف الإفاضة للحج إلا أنها استحت وأكملت مناسك الحج ولم تخبر وليها إلا بعد وصولها إلى بلدها فما حكم ذلك؟
جـ: الحكم في هذا أن الدم الذي أصابها في طواف الإفاضة إذا كان هو دم الحيض الذي تعرفه بطبيعته وأوجاعه فإن طواف الإفاضة لم يصح ويلزمها أن تعود إلى مكة لتطوف طواف الإفاضة فتحرم بعمرة من الميقات وتؤدي العمرة بطواف وسعي وتقصر ثم طواف الإفاضة، أما إذا كان هذا الدم ليس دم الحيض الدم الطبيعي المعروف وإنما نشأ من شدة الزحام أو الروعة أو ما شابه ذلك فإن طوافها يصح عند من لا يشترط الطهارة للطواف فإن لم يمكنها الرجوع في المسألة الأولى بحيث تكون في بلاد بعيدة فحجها صحيح لأنها لا تستطيع أكثر مما صنعت.
س 49: قدمت امرأة محرمة بعمرة وبعد وصولها إلى مكة حاضت ومحرمها مضطر إلى السفر فوراً، وليس لها أحد بمكة فما الحكم؟
جـ: تسافر معه وتبقى على إحرامها، ثم ترجع إذا طهرت وهذا إذا كانت في المملكة لأن الرجوع سهل ولا يحتاج إلى تعب ولا إلى جواز سفر ونحوه، أما إذا كانت أجنبية ويشق عليها الرجوع فإنها تتحفظ وتطوف وتسعى وتقصر وتنهي عمرتها في نفس السفر لأن طوافها حينئذٍ صار ضرورة والضرورة تبيح المحظور.
س 50: ما حكم المرأة المسلمة التي حاضت في أيام حجها أيجزئها ذلك الحج؟
جـ: هذا لا يمكن الإجابة عنه حتى يُعرف متى حاضت وذلك لأن بعض أفعال الحج لا يمنع الحيض منه، وبعضها يمنع منه، فالطواف لا يمكن أن تطوف إلا وهي طاهرة وما سواه من المناسك يمكن فعله مع الحيض.(156/20)
س 51: تقول السائلة: لقد قمت بأداء فريضة الحج العام الماضي وأديت جميع شعائر الحج ما عدا طواف الإفاضة وطواف الوداع حيث منعني منهما عذر شرعي فرجعت إلى بيتي في المدينة المنورة على أن أعود في يوم من الأيام لأطوف طواف الإفاضة وطواف الوداع وبجهل مني بأمور الدين فقد تحللت من كل شيء وفعلت كل شيء يحرم أثناء الإحرام وسألت عن رجوعي لأطوف فقيل لي لا يصح لك أن تطوفي فقد أفسدت وعليك الإعادة أي إعادة الحج مرة أخرى في العام المقبل مع ذبح بقرة أو ناقة فهل هذا صحيح؟ وهل هناك حل آخر فما هو؟ وهل فسد حجي؟ وهل عليَّ إعادته؟ أفيدوني عمَّا يجب فعله بارك الله فيكم.
جـ: هذا أيضاً من البلاء الذي يحصل من الفتوى بغير علم. وأنت في هذه الحالة يجب عليك أن ترجعي إلى مكة وتطوفي طواف الإفاضة فقط، أما طواف الوداع فليس عليك طواف وداع مادمت كنت حائضاً عند الخروج من مكة وذلك لأن الحائض لا يلزمها طواف الوداع لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ: «أمر الناس أن يكون عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن الحائض»، وفي رواية لأبي داود: «أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف». ولأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما أخبر أن صفية طافت طواف الإفاضة قال: «فلتنفر إذاً» ودلَّ هذا أن طواف الوداع يسقط عن الحائض أما طواف الإفاضة فلابد لك منه. ولما كانت تحللت من كل شيء جاهلة فإن هذا لا يضرك لأن الجاهل الذي يفعل شيئاً من محظورات الإحرام لا شيء عليه لقوله تعالى: {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (البقرة: 286). قال الله تعالى: «قد فعلت». وقوله: {ليس عليكم فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم}. (الأحزاب: 5). فجميع المحظورات التي منعها الله تعالى على المحرم إذا فعلها جاهلاً أو ناسياً أو مكرهاً فلا شيء عليه، لكن متى زال عذره وجب عليه أن يقلع عما تلبس به.(156/21)
س 52: المرأة النفساء إذا بدأ نفاسها يوم التروية وأكملت أركان الحج عدا الطواف والسعي إلا أنها لاحظت أنها طهرت مبدئياً بعد عشرة أيام فهل تتطهر وتغتسل وتؤدي الركن الباقي الذي هو طواف الحج؟
جـ: لا يجوز لها أن تغتسل وتطوف حتى تتيقن الطهر والذي يُفهم من السؤال حين قالت (مبدئيًّا) أنها لم تر الطهر كاملاً فلابد أن ترى الطهر كاملاً فمتى طهرت اغتسلت وأدت الطواف والسعي، وإن سعت قبل الطواف لا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل في الحج عمن سعى قبل أن يطوف فقال: «لا حرج».
س 53: امرأة أحرمت بالحج من السيل وهي حائض ولما وصلت إلى مكة ذهبت إلى جدة لحاجة لها وطهرت في جدة واغتسلت ومشطت شعرها ثم أتمت حجها فهل حجها صحيح وهل يلزمها شيء؟
جـ: حجها صحيح ولا شيء عليها.
س 54: سائلة: أنا ذاهبة للعمرة ومررت بالميقات وأنا حائض فلم أحرم وبقيت في مكة حتى طهرت فأحرمت من مكة فهل هذا جائز أم ماذا أفعل وما يجب عليَّ؟(156/22)
جـ: هذا العمل ليس بجائز، والمرأة التي تريد العمرة لا يجوز لها مجاوزة الميقات إلا بإحرام حتى لو كانت حائضاً، فإنها تحرم وهي حائض وينعقد إحرامها ويصح. والدليل لذلك أن أسماء بنت عميس زوجة أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ ولدت، والنبي صلى الله عليه وسلّم نازل في ذي الحليفة يريد حجة الوداع فأرسلت إلى النبي صلى الله عليه وسلّم كيف أصنع؟ قال: «اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي» ودم الحيض كدم النفاس فنقول للمرأة الحائض إذا مرت بالميقات وهي تريد العمرة أو الحج نقول لها: اغتسلي واستثفري بثوب وأحرمي، والاستثفار معناه أنها تشد على فرجها خرقة وتربطها ثم تحرم سواء بالحج أو بالعمرة ولكنها إذا أحرمت ووصلت إلى مكة لا تأتي إلى البيت ولا تطوف به حتى تطهر ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم لعائشة حين حاضت في أثناء العمرة قال لها: «افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي في البيت حتى تطهري» هذه رواية البخاري ومسلم، وفي صحيح البخاري أيضاً ذكرت عائشة أنها لما طهرت طافت بالبيت وبالصفا والمروة فدل هذا على أن المرأة إذا أحرمت بالحج أو العمرة وهي حائض، أو أتاها الحيض قبل الطواف فإنها لا تطوف ولا تسعى حتى تطهر وتغتسل، أما لو طافت وهي طاهرة وبعد أن انتهت من الطواف جاءها الحيض فإنها تستمر وتسعى ولو كان عليها الحيض وتقص من رأسها وتنهي عمرتها لأن السعي بين الصفا والمروة لا يشترط له الطهارة.
س 55: يقول السائل: لقد قدمت من ينبع للعمرة أنا وأهلي ولكن حين وصولي إلى جدة أصبحت زوجتي حائضاً ولكني أكملت العمرة بمفردي دون زوجتي فما الحكم بالنسبة لزوجتي؟(156/23)
جـ: الحكم بالنسبة لزوجتك أن تبقى حتى تطهر ثم تقضي عمرتها، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لما حاضت صفية رضي الله عنها قال: «أحابستنا هي؟» قالوا: إنها قد أفاضت. قال: «فلتنفر إذن» فقوله صلى الله عليه وسلّم «أحابستنا هي» دليل على أنه يجب على المرأة أن تبقى إذا حاضت قبل طواف الإفاضة حتى تطهر ثم تطوف وكذلك طواف العمرة مثل طواف الإفاضة لأنه ركن من العمرة فإذا حاضت المعتمرة قبل الطواف انتظرت حتى تطهر ثم تطوف.
س 56: هل المسعى من الحرم؟ وهل تقربه الحائض؟ وهل يجب على من دخل الحرم من المسعى أن يصلي تحية المسجد؟
جـ: الذي يظهر أن المسعى ليس من المسجد ولذلك جعلوا جداراً فاصلاً بينهما لكنه جدار قصير ولا شك أن هذا خير للناس، لأنه لو أدخل في المسجد وجعل منه لكانت المرأة إذا حاضت بين الطواف والسعي امتنع عليها أن تسعى، والذي أفتي به أنها إذا حاضت بعد الطواف وقبل السعي فإنها تسعى لأن المسعى لا يعتبر من المسجد، وأما تحية المسجد فقد يقال: إن الإنسان إذا سعى بعد الطواف ثم عاد إلى المسجد فإنه يصليها ولو ترك تحية المسجد فلا شيء عليه، والأفضل أن ينتهز الفرصة ويصلي ركعتين لما في الصلاة في هذا المكان من الفضل.
س 57: تقول السائلة: قد حججت وجاءتني الدورة الشهرية فاستحييت أن أخبر أحداً ودخلت الحرم فصليت وطفت وسعيت فماذا عليّ علماً بأنها جاءت بعد النفاس؟(156/24)
جـ: لا يحل للمرأة إذا كانت حائضاً أو نفساء أن تصلي سواء في مكة أو في بلدها أو في أي مكان، لقول النبي صلى الله عليه وسلّم في المرأة: «أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم». وقد أجمع المسلمون على أنه لا يحل لحائض أن تصوم، ولا يحل لها أن تصلي، وعلى هذه المرأة التي فعلت ذلك عليها أن تتوب إلى الله وأن تستغفر مما وقع منها، وأما طوافها حال الحيض فهو غير صحيح، وأما سعيها فصحيح؛ لأن القول الراجح جواز تقديم السعي على الطواف في الحج، وعلى هذا فيجب عليها أن تعيد الطواف؛ لأن طواف الإفاضة ركن من أركان الحج، ولا يتم التحلل الثاني إلا به وبناء عليه فإن هذه المرأة لا يباشرها زوجها إن كانت متزوجة حتى تطوف ولا يعقد عليها النكاح إن كانت غير متزوجة حتى تطوف والله تعالى أعلم.
س 58: إذا حاضت المرأة يوم عرفة فماذا تصنع؟
جـ: إذا حاضت المرأة يوم عرفة فإنها تستمر في الحج وتفعل ما يفعل الناس، ولا تطوف بالبيت حتى تطهر.
س 59: إذا حاضت المرأة بعد رمي جمرة العقبة وقبل طواف الإفاضة وهي مرتبطة وزوجها مع رفقة فماذا عليها أن تفعل مع العلم أنه لا يمكنها العودة بعد سفرها؟
جـ: إذا لم يمكنها العودة فإنها تتحفظ ثم تطوف للضرورة ولا شيء عليها وتكمل بقية أعمال الحج.
س 60: إذا طهرت النفساء قبل الأربعين فهل يصح حجها؟ وإذا لم تر الطهر فماذا تصنع مع العلم أنها ناوية الحج؟
جـ: إذا طهرت النفساء قبل الأربعين فإنها تغتسل وتصلي وتفعل كل ما تفعله الطاهرات حتى الطواف لأن النفاس لا حد لأقله.
أما إذا لم تر الطهر فإن حجها صحيح أيضاً لكن لا تطوف بالبيت حتى تطهر، لأن النبي صلى الله عليه وسلّم منع الحائض من الطواف بالبيت والنفاس مثل الحيض في هذا.(156/25)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد الحادي عشر
رسالة في الدماء الطبيعية للنساء
محمد بن صالح العثيمين
رسالة في الدماء الطبيعية للنساء
قال فضيلة الشيخ جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خيراً :
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً.
أما بعد : فإن الدماء التي تصيب المرأة وهي الحيض ، والاستحاضة، والنفاس، من الأمور المهمة التي تدعو الحاجة إلى بيانها ومعرفة أحكامها، وتمييز الخطأ من الصواب من أقوال أهل العلم فيها، وأن يكون الاعتماد فيها يرجح من ذلك أو يضعف على ضوء ما جاء في الكتاب والسنة :
1ـ لأنهما المصدران الأساسيان اللذان تبنى عليهما أحكام الله تعالى التي تعبد بها عبادة وكلفهم بها.
2ـ في الاعتماد على الكتاب والسنة طمأنينة القلب وانشراح الصدر وطيب النفس وبراءة الذمة.
3ـ ما عداهما فإنما يحتج له ولا يحتج به.
إذ لا حجة في كلام الله تعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكذلك كلام أهل العلم من الصحابة على القول الراجح ، بشرط ألا يكون في الكتاب والسنة ما يخالفه، وأن لا يعارضه قول صحابي آخر ، فإن كان في الكتاب والسنة ما يخالفه وجب الأخذ بما في الكتاب والسنة ، وإن عارضه قول صحابي آخر طلب الترجيح بين القولين ، وأخذ بالراجح منهما، لقوله تعالى : (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (1) .
وهذه رسالة موجزة فيما تدعو الحاجة إليه من بيان هذه الدماء وأحكامها، وتشتمل على الفصول الآتية :(157/1)
الفصل الأول : في معنى الحيض وحكمته.
الفصل الثاني : في زمن الحيض ومدته.
الفصل الثالث : في الطوارئ على الحيض.
الفصل الرابع : في أحكام الحيض.
الفصل الخامس: في الاستحاضة وأحكامها.
الفصل السادس: في النفاس وأحكامه.
الفصل السابع : في استعمال ما يمنع الحيض أو يجلبه، وما يمنع الحمل أو يسقطه.
الفصل الأول
في معنى الحيض وحكمته
الحيض لغة : سيلان الشيء وجريانه.
وفي الشرع دم يحدث للأنثى بمقتضى الطبيعة ، بدون سبب ، في أوقات معلومة.
فهو دم طبيعي ليس له سبب من مرض أو جرح أو سقوط أو ولادة . وبما أنه دم طبيعي فإنه يختلف بحسب حال الأنثى وبيئتها وجوها ، ولذلك تختلف فيها النساء اختلافاً متبايناً ظاهراً .
والحكمة فيه أنه لما كان الجنين في بطن أمه لا يمكن أن يتغذى بما يتغذى به من كان خارج البطن، ولا يمكن لأرحم الخلق به أن يوصل إليه شيئاً من الغذاء، حينئذ جعل الله تعالى في الأنثى إفرازات دموية يتغذى بها الجنين في بطن أمه بدون حاجة إلى أكل وهضم تنفذ إلى جسمه عن طريق السرة حيث يتخلل الدم عروقه فيتغذى به، فتبارك الله أحسن الخالقين . فهذه هي الحكمة في هذا الحيض، ولذلك إذا حملت المرأة انقطع الحيض عنها ، فلا تحيض إلا نادراً ، وكذلك المراضع يقل من تحيض منهن لا سيما في أول زمن الإرضاع.
الفصل الثاني
في زمن الحيض ومدته
الكلام في هذا الفصل في مقامين :
المقام الأول : في السن الذي يأتي فيه الحيض.
المقام الثاني : في مدة الحيض.
المقام الأول : فالسن الذي يغلب فيه الحيض هو ما بين اثني عشرة سنة إلى خمسين سنة، وربما حاضت الأنثى قبل ذلك أو بعده بحسب حالها وبيئتها وجوها.(157/2)
وقد اختلف العلماء رحمهم الله : هل للسن الذي يأتي فيه الحيض حد معين بحيث لا تحيض الأنثى قبله ولا بعده، وأن ما يأتيها قبله أو بعده فهو دم فساد لا حيض ؟ اختلف العلماء في ذلك. قال الدرامي بعد أن ذكر الاختلافات: كل هذا عندي خطأ لأن المرجع في جميع ذلك إلى الوجود، فأي قدر وجد في أي حال وسن وجب جعله حيضاً. والله أعلم (1) .
وهذا الذي قاله الدرامي هو الصواب، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، فمتى رأت الأنثى الحيض فهي حائض وإن كانت دون تسع سنين أو فوق خمسين، وذلك لأن أحكام الحيض علقها الله ورسوله على وجوده، ولم يحدد الله ورسوله لذلك سناً معيناً، فوجب الرجوع فيه إلى الوجود الذي علقت الأحكام عليه، وتحديده بسن معين يحتاج إلى دليل من الكتاب أو السنة ولا دليل في ذلك.
المقام الثاني : وهو مدة الحيض أي مقدار زمنه.
فقد اختلف فيه العلماء اختلافاً كثيراً على نحو ستة أقوال أو سبعة. قال ابن المنذر : وقالت طائفة : (وليس لأقل الحيض ولا لأكثره حد بالأيام) . قلت : وهذا القول كقول الدارمي السابق وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو الصواب لأنه يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار.
فالدليل الأول : قوله تعالى : (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (1) . فجعل الله غاية المنع هي الطهر ، ولم يجعل الغاية مضي يوم وليلة ولا ثلاثة أيام ولا خمسة عشر يوماً ، فدل هذا على أن على الحكم هي الحيض وجوداً وعدماً، فمتى وجد الحيض ثبت الحكم ومتى طهرت منه زالت أحكامه.(157/3)
الدليل الثاني : ما ثبت في صحيح مسلم (2) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة وقد حاضة وهي محرمة بالعمرة : (افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت حتى تطهري) قالت : فلما كان يوم النحر طهرت. (الحديث) . وفي صحيح البخاري (3) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : (انتظري فإذا طهرت فاخرجي إلى التنعيم). فجعل النبي صلى الله عليه وسلم غاية المنع الطهر ولم يجعل الغاية زمناً معيناً ، فدل هذا على أن الحكم يتعلق بالحيض وجوداً وعدماً.
الدليل الثالث : أن هذه التقديرات والتفصيلات التي ذكرها من ذكرها من الفقهاء في هذه المسألة ليست موجودة في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أن الحاجة بل الضرورة داعية إلى بيانها، فلو كانت مما يجب على العباد فهمه والتعبد لله به لبينها الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم، بياناً ظاهراً لكل أحد، لأهمية الأحكام المترتبة على ذلك من الصلاة والصيام والنكاح والطلاق والإرث وغيرها من الأحكام، كما بين الله ورسوله عدد الصلوات وأوقاتها وركوعها وسجودها، والزكاة : أموالها وأنصباؤها ومقدارها ومصرفها، والصيام : مدته وزمنه، والحج وما دون ذلك، حتى آداب الأكل والشرب والنوع والجماع والجلوس ودخول البيت والخروج منه وآداب قضاء الحاجة، حتى عدد مسحات الاستجمار إلى غير ذلك من دقيق الأمور وجليلها، مما أكمل الله به الدين، وأتم به النعمة على المؤمنين، كما قال تعالى : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً ِكُلِّ شَيْءٍ) (1) . وقال تعالى : (مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ) (2) .(157/4)
فلما لم توجد هذه التقديرات والتفصيلات في كتاب الله تعالى ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم تبين أن لا تعويل عليها ، وإنما التعويل على مسمى الحيض الذي علقت عليها الأحكام الشرعية وجوداً وعدماً، وهذا الدليل ـ أعنى أن عدم ذكر الحكم في الكتاب والسنة، دليل على عدم اعتباره ـ ينفعك في هذه المسألة وغيرها من مسائل العلم لأن الأحكام الشرعية لا تثبت إلا بدليل من الشرع من كتاب الله ، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، أو إجماع معلوم ، أو قياس صحيح . قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة له : (ومن ذلك اسم الحيض علق الله به أحكاماً متعددة في الكتاب والسنة ، ولم يقدر لا أقله ولا أكثره، ولا الطهر بين الحيضتين مع عموم بلوى الأمة بذلك واحتياجهم إليه، واللغة لا تفرق بين قدر وقدر ، فمن قدر في ذلك حداً فقد خالف الكتاب والسنة) . انتهى كلامه (1) .
الدليل الرابع : الاعتبار أي القياس الصحيح المطرد ، وذلك أن الله تعالى علل الحيض بكونه أذى ، فمتى وجد الحيض فالأذى موجود ، لا فرق بين اليوم الثاني واليوم الأول ، ولا بين الرابع والثالث ، ولا فرق بين اليوم السادس عشر والخامس عشر ، ولا بين الثامن عشر والسابع عشر ، فالحيض هو الحيض ، والأذى هو الأذى .
فالعلة موجودة في اليومين على حد سواء ، فكيف يصح التفريق في الحكم بين اليومين مع تساويهما في العلة ؟ ! أليس هذا خلاف القياس الصحيح ؟ ! أوليس القياس الصحيح تساوي اليومين في الحكم لتساويهما في العلة ؟ !
الدليل الخامس : اختلاف أقوال المحددين واضطرابها ، فإن ذلك يدل على أن ليس في المسألة دليل يجب المصير إليه ، وإنما هي أحكام اجتهادية معرضة للخطأ والصواب ، ليس أحدهما أولى بالاتباع من الآخر ، والمرجع عند النزاع إلى الكتاب والسنة .(157/5)
فإذا تبين قوة القول إنه لا حد لأقل الحيض ولا لأكثره وإنه القول الراجح، فاعلم أن كل ما رأته المرأة من دم طبيعي ليس له سبب من جرح ونحوه فهو دم الحيض من غير تقدير بزمن أو سن إلا أن يكون مستمراً على المرأة لا ينقطع أبداً أو ينقطع مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر، فيكون استحاضة ، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الاستحاضة وأحكامها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : (والأصل في كل ما يخرج من الرحم أنه حيض، حتى يقوم دليل على أنه استحاضة) (1) . وقال أيضاً: (فما وقع من دم فهو حيض، إذا لم يعلم أنه دم عرق أو جرح) . ا هـ (2) .
وهذا القول كما أنه هو الراجح من حيث الدليل ، فهو أيضاً أقرب فهماً وإدراكاً وأيسر عملاً وتطبيقاً، مما ذكره المحددون ، وما كان كذلك فهو أولى بالقبول لموافقته لروح الدين الإسلامي وقاعدته، وهي اليسر والسهولة . قال الله تعالى : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (3) . وقال صلى الله عليه وسلم : (إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا) . رواه البخاري. وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم ، أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً .
حيض الحامل
الغالب الكثير أن الانثى إذا حملت انقطع الدم عنها ، قال الإمام أحمد رحمه الله : (إنما تعرف النساء الحمل بانقطاع الدم) . إذا رأت الحامل الدم فإن كان قبل الوضع بزمن يسير كاليومين أو الثلاثة ومعه طلق فهو نفاس، وإن كان قبل الوضع بزمن كثير أو قبل الوضع بزمن يسير لكن ليس معه طلق فليس بنفاس، لكن هل يكون حيضاً تثبت له أحكام الحيض أو يكون دم فساد لا يحكم له بأحكام الحيض ؟
في هذا خلاف بين أهل العلم.
والصواب أنه حيض إذا كان على الوجه المعتاد في حيضها لأن الأصل فيما يصيب المرأة من الدم أنه حيض، إذا لم يكن له سبب يمنه من كونه حيضاً ، وليس في الكتاب والسنة ما يمنع حيض الحامل .(157/6)
وهذا هو مذهب مالك والشافعي واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية ، قال في الاختيارات ص 30 وحكاه البيهقي رواية عن أحمد،بل حكى أنه رجع إليه أ هـ . وعلى هذا فيثبت لحيض الحامل ما يثبت لحيض غير الحامل إلا في مسألتين :
المسألة الأولى : الطلاق ، فيحرم طلاق من تلزمها عدة حال الحيض في غير الحامل، ولا يحرم في الحامل ، لأن الطلاق في الحيض في غير الحامل مخالف لقوله تعالى : (فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (1) . أما طلاق الحامل حال الحيض فلا يخالفه ، لأن من طلق الحامل فقد طلقها لعدتها ، سواء كانت حائضاً أم طاهراً ، لأن عدتها بالحمل ، ولذلك لا يحرم عليه طلاقها بعد الجماع بخلاف غيرها.
المسألة الثانية : عدة الحامل لا تنقضي إلا بوضع الحمل ، سواء كانت تحيض أم لا لقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (2) 0
الفصل الثالث
في الطوارئ على الحيض
الطوارئ على الحيض أنواع :
النوع الأول : زيادة أو نقص ، مثل أن تكون عادة المرأة ستة أيام ، فيستمر بها الدم إلى سبعة، أو تكون عادتها في أول الشهر فتراه في آخره. وقد اختلف أهل العلم في حكم هذين النوعين، والصواب أنها متى رأت الدم فهي حائض ومتى طهرت منه فهي طاهر سواء زادت عن عادتها أم نقصت، وسواء تقدمت أم تأخرت، وسبق ذكر الدليل على ذلك في الفصل قبله ، حيث علق الشارع أحكام الحيض بوجوده.
وهذا مذهب الشافعي ، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقواه صاحب المغني فيه ونصره، وقال : (1) (ولو كانت العادة معتبرة على الوجه المذكور في المذهب لبينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، ولما وسعه تأخير بيانه، إذ لا يجوز تأخير البيان عن وقته ، وأزواجه وغيرهن من النساء يحتجن إلى بيان ذلك في كل وقت، لم يكن ليغفل بيانه، وما جاء عنه صلى الله عليه وسلم ذكر العادة ولا بيانها إلا في حق المستحاضة لا غير) . أ هـ .(157/7)
النوع الثالث: صفرة أو كدرة، بحيث ترى الدم أصفر ، كماء الجروح، أو متكدراً بين الصفرة والسواد، فهذا إن كان في أثناء الحيض أو متصلاً به قبل الطهر فهو حيض تثبت له أحكام الحيض، وإن كان بعد الطهر فليس بحيض، لقول أم عطية رضي الله عنها: (كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الطهر شيئاً) . رواه أبو داود بسند صحيح، ورواه أيضاً البخاري بدون قولها بعد الطهر، لكنه ترجم له بقوله باب الصفرة والكدرة في غير أيام الحيض. قال في شرحه فتح الباري: (يشير بذلك إلى الجمع بين حديث عائشة المتقدم في قولها حتى ترين القصة البيضاء وبين حديث أم عطية المذكور في الباب ، بأن ذلك أي حديث عائشة محمول على ما إذا رأت الصفرة والكدرة في أيام الحيض، وأما في غيرها فعلى ما قالت أم عطية). أ هـ . وحديث عائشة الذي أشار إليه هو ما علقه البخاري جازماً به قبل هذا الباب ، أن النساء كن يبعثن إليها بالدرجة(شيء تحتشي به المرأة لتعرف هل بقي من أثر الحيض شيء) فيها الكرسف (القطن) فيه الصفرة فتقول : (لا تعجلن حتى ترين القصة البيضاء) . والقصة البيضاء ماء أبيض يدفعه الرحم عند انقطاع الحيض.
النوع الرابع : تقطع في الحيض، بحيث ترى يوماً دماً ، ويوماً نقاءً ونحو ذلك فهذان حالان:
الحال الأول: أن يكون هذا مع الأنثى دائماً كل وقتها، فهذا دم استحاضة يثبت لمن تراه حكم المستحاضة.
الحال الثاني: ألا يكون مستمراً مع الأنثى بل يأتيها بعض الوقت، ويكون لها وقت طهر صحيح . فقد اختلف العلماء رحمهم الله في هذا النقاء. هل يكون طهراً أو ينسحب عليه أحكام الحيض؟(157/8)
فمذهب الشافعي في أصح قوليه أنه ينسحب عليه أحكام الحيض فيكون حيضاً، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وصاحب الفائق (1) ومذهب أبي حنيفة، وذلك لأن القصة البيضاء لا ترى فيه، ولأنه لو جعل طهراً لكان ما قبله حيضة، وما بعده حيضة، ولا قائل به، وإلا لانقضت العدة بالقرء بخمسة أيام، ولأنه لو جعل طهراً لحصل به حرج ومشقة بالاغتسال وغيره كل يومين، والحرج منتف في هذه الشريعة ولله الحمد. والمشهور من مذهب الحنابلة أن الدم حيض والنقاء طهر إلا أن يتجاوز مجموعهما أكثر الحيض فيكون الدم المتجاوز استحاضة. وقال في المغني (2) يتوجه أن انقطاع الدم متى نقص عن اليوم فليس بطهر، بناء على الرواية التي حكيناها في النفاس، أنها لا تلتفت إلى ما دون اليوم وهو الصحيح ـ إن شاء الله ـ لأن الدم يجري مرة وينقطع أخرى، وفي إيجاب الغسل على من تطهر ساعة بعد ساعة حرج ينتفي، لقوله تعالى : (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (3) . قال : (فعلى هذا لا يكون انقطاع الدم أقل من يوم طهراً، إلا أن ترى ما يدل عليه، مثل أن يكون انقطاعه في آخر عادتها، أو ترى القصة البيضاء) . أ هـ .
فيكون قول صاحب المغني هذا وسطاً بين القولين. والله أعلم بالصواب.
النوع الخامس : جفاف في الدم بحيث ترى المرأة مجرد رطوبة، فهذا إن كان في أثناء الحيض أو متصلاً به قبل الطهر فهذا حيض، وإن كان بعد الطهر فليس بحيض، لأن غاية حاله أن يلحق بالصفرة والكدرة وهذا حكمها.
الفصل الرابع
في أحكام الحيض
للحيض أحكام كثيرة تزيد على العشرين، نذكر منها ما نراه كثير الحاجة، فمن ذلك :
الأول : الصلاة :
فيحرم على الحائض الصلاة فرضها ونفلها ولا تصح منها، وكذلك لا تجب عليها الصلاة إلا أن تدرك من وقتها مقدار ركعة كاملة،فتجب عليها الصلاة حينئذ، سواء أدركت ذلك من أول الوقت أم من آخره.(157/9)
مثال ذلك من أوله : امرأة حاضت بعد غروب الشمس بمقدار ركعة فيجب عليها إذا طهرت قضاء صلاة المغرب لأنها أدركت من وقتها قدر ركعة قبل أن تحيض.
ومثال ذلك من آخره: امرأة طهرت من الحيض قبل طلوع الشمس بمقدار ركعة فيجب عليها إذا تطهرت قضاء صلاة الفجر، لأنها أدركت من وقتها جزءاً يتسع لركعة.
أما إذا أدركت الحائض من الوقت جزءاً لا يتسع لركعة كاملة، مثل أن تحيض في المثال الأول بعد الغروب بلحظة أو تطهر في المثال الثاني قبل طلوع الشمس بلحظة، فإن الصلاة لا تجب عليها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة) . متفق عليه ، فإن مفهومه أن من أدرك ركعة لم يكن مدركاً للصلاة.
* وإذا أدركت ركعة من وقت صلاة العصر فهل تجب عليها صلاة الظهر مع العصر، أو أدركت ركعة من وقت صلاة العشاء الآخرة، فهل تجب عليها صلاة المغرب مع العشاء ؟
في هذا خلاف بين العلماء ، والصواب أنه لا يجب عليها إلا ما أدركت وقته، وهي صلاة العصر والعشاء الآخرة فقط . لقوله صلى الله عليه وسلم : (من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر). متفق عليه، لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم : فقد أدرك الظهر والعصر ولم يذكر وجوب الظهر عليه، والأصل براءة الذمة وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك حكاه عنهما في شرح المهذب (1) .
* وأما الذكر والتكبير والتسبيح والتحميد، والتسمية على الأكل وغيره ، وقراءة الحديث والفقه والدعاء والتأمين عليه واستماع القرآن فلا يحرم عليها شيء من ذلك، فقد ثبت في الصحيحين وغيرهما ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتكيء في حجر عائشة (رضي الله عنها) وهي حائض فيقرأ القرآن.
وفي الصحيحين أيضاً عن أم عطية (رضي الله عنها) أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض ـ يعني إلى صلاة العيدين ـ وليشهدن الخير ودعوة المؤمنين ويعتزل الحيض المصلى).(157/10)
· · فأما قراءة الحائض القرآن الكريم بنفسها، فإن كان نظراً بالعين أو تأملاً بالقلب بدون نطق باللسان فلا بأس بذلك، مثل أن يوضع المصحف أو اللوح فتنظر إلى الآيات وتقرأها بقلبها، قال النووي في شرح المهذب : (2) جايز بلا خلاف. وأما إن كانت قراءتها نطقاً باللسان فجمهور العلماء على أنه ممنوع وغير جائز.
وقال البخاري وابن جرير الطبري، وابن المنذر: هو جائز، وحكي عن مالك وعن الشافعي في القول القديم حكاه عنهما في فتح الباري (1) وذكر البخاري تعليقاً عن إبراهيم النخعي لا بأس أن تقرأ الآية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى مجموعة ابن قاسم : (2) (ليس في منعها من القرآن سنة أصلاً، فإن قوله (لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن) حديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث. وقد كان النساء يحضن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، فلو كانت القراءة محرمة عليهن كالصلاة ، لكان هذا مما بينه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وتعلمه أمهات المؤمنين وكان ذلك مما ينقلونه في الناس، فلما لم ينقل أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك نهياً لم يجز أن تجعل حراماً، مع العلم أنه لم ينه عن ذلك ، وإذا لم ينه عنه مع كثرة الحيض في زمنه علم أنه ليس بمحرم) . ا هـ .
* والذي ينبغي بعد أن عرفنا نزاع أهل العلم أن يقال : الأولى للحائض ألا تقرأ القرآن الكريم نطقاً باللسان إلا عند الحاجة لذلك، مثل أن تكون معلمة فتحتاج إلى تلقين المتعلمات، أو في حال الاختبار فتحتاج المتعلمة إلى القراءة لاختبارها أو نحو ذلك.
الحكم الثاني : الصيام :
فيحرم على الحائض الصيام فرضه ونفله ، ولا يصح منها لكن يجب عليها قضاء الفرض منه لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ (كان يصيبنا ذلك ـ تعني الحيض ـ فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة) . متفق عليه،
وإذا حاضت وهي صائمة بطل صيامها ولو كان ذلك قبيل الغروب بلحظة ، ووجب عليها قضاء ذلك اليوم إن كان فرضاً .(157/11)
أما إذا أحست بانتقال الحيض قبل الغروب لكن لم يخرج إلا بعد الغروب فإن صومها تام ولا يبطل على القول الصحيح ، لأن الدم في باطن الجوف لا حكم له ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سُئل عن المرأة ترى في منامها ما يرى الرجل هل عليها من غسل ؟ قال: (نعم إذا هي رأت الماء) . فعلق الحكم برؤية المني لا بانتقاله، فكذلك الحيض لا تثبت أحكامه إلا برؤيته خارجاً لا بانتقاله.
وإذا طلع الفجر وهي حائض لم يصح منها صيام ذلك اليوم ولو طهرت بعد الفجر بلحظة.
وإذا طهرت قبيل الفجر فصامت صح صومها،وإن لم تغتسل إلا بعد الفجر ، كالجنب إذا نوى الصيام وهو جنب ولم يغتسل إلا بعد طلوع الفجر فإن صومه صحيح، لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : (كان النبي ، صلى الله عليه وسلم ، يصبح جنباً من جماع غير احتلام ثم يصوم في رمضان) . متفق عليه.
الحكم الثالث : الطواف بالبيت :
فيحرم عليها الطواف بالبيت ، فرضه ونفله ، ولا يصح منها لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة لما حاضت: (افعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري).
وأما بقية الأفعال كالسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة ، والمبيت بمزدلفة ومنى، ورمي الجمار وغيرها من مناسك الحج والعمرة فليست حراماً عليها، وعلى هذا فلو طافت الأنثى وهي طاهر ثم خرج الحيض بعد الطواف مباشرة، أو في أثناء السعي فلا حرج في ذلك.
الحكم الرابع : سقوط طواف الوداع عنها :
فإذا أكملت الأنثى مناسك الحج والعمرة ، ثم حاضت قبل الخروج إلى بلدها واستمر بها الحيض إلى خروجها، فإنها تخرج بلا وداع، لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : (أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، إلا أنه خفف عن المرأة الحائض) . متفق عليه.(157/12)
* ولا يستحب للحائض عند الوداع أن تأتي إلى باب المسجد الحرام وتدعو ، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم والعبادات مبنية على الوارد بل الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم يقتضي خلاف ذلك، ففي قصة صفية ـ رضي الله عنها ـ حين حاضت بعد طواف الإفاضة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها : (فلتنفر إذن) متفق عليه. ولم يأمرها بالحضور إلى باب المسجد ولو كان ذلك مشروعاً لبينه.
وأما طواف الحج والعمرة فلا يسقط عنها بل تطوف إذا طهرت.
الحكم الخامس : المكث في المسجد :
فيحرم على الحائض أن تمكث في المسجد حتى مصلى العيد يحرم عليها أن تمكث فيه ، لحديث أم عطية ـ رضي الله عنها ـ : أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : (يخرج العواتق وذوات الخدور والحيض) . وفيه : (يعتزل الحيض المصلى) . متفق عليه.
الحكم السادس : الجماع :
فيحرم على زوجها أن يجامعها ، ويحرم عليها تمكينه من ذلك.
لقوله تعالى : (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (1) .
والمراد بالمحيض زمان الحيض ومكانه وهو الفرج.
ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : (اصنعوا كل شيء إلا النكاح) ، يعني الجماع . رواه مسلم.
ولأن المسلمين أجمعوا على تحريم وطء الحائض في فرجها .
فلا يحل لامريء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقدم على هذا الأمر المنكر الذي دل على المنع منه كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع المسلمين. فيكون ممن شاق الله ورسوله واتبع غير سبيل المؤمنين، قال في المجموع شرح المهذب ص 374 ج 2 قال الشافعي : (من فعل ذلك فقد أتى كبيرة). قال أصحابنا وغيرهم: (من استحل وطأ الحائض حكم بكفره). ا هـ كلام النووي.(157/13)
وقد أبيح له ولله الحمد ما يكسر به شهوته دون الجماع، كالتقبيل والضم والمباشرة فيما دون الفرج، لكن الأولى ألا يباشر فيما بين السرة والركبة إلا من وراء حائل، لقول عائشة ـ رضي الله عنها ـ:كان النبي صلى الله عليه وسلم ، يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض . متفق عليه .
الحكم السابع : الطلاق :
فيحرم على الزوج طلاق الحائض حال حيضها، لقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) (1) ، أي في حال يستقبلن به عدة معلومة حين الطلاق، ولا يكون ذلك إلا إذا طلقها حاملاً أو طاهراً من غير جماع ، لأنها إذا طلقت حال الحيض لم تستقبل العدة حيث إن الحيضة التي طلقت فيها لا تحسب من العدة ، وإذا طلقت طاهراً بعد الجماع لم تكن العدة التي تستقبلها معلومة حيث إنه لا يعلم هل حملت من هذا الجماع،فتعتد بالحمل،أو لم تحمل فتعتد بالحيض، فلما لم يحصل اليقين من نوع العدة حرم عليه الطلاق حتى يتبين الأمر.
فطلاق الحائض حال حيضها حرام للآية السابقة، ولما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض فأخبر عمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : وقال : (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، ثم إن شاء أمسك بعد، وإن شاء طلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء).
فلو طلق الرجل امرأته وهي حائض فهو آثم، وعليه أن يتوب إلى الله تعالى، وأن يرد المرأة إلى عصمته ليطلقها طلاقاً شرعياً موافقاً لأمر الله ورسوله، فيتركها بعد ردها حتى تطهر من الحيضة التي طلقها فيها ، ثم تحيض مرة أخرى ، ثم إذا طهرت فإن شاء أبقاها وإن شاء طلقها قبل أن يجامعها.
ويستثنى من تحريم الطلاق في الحيض ثلاث مسائل .(157/14)
الأولى : إذا كان الطلاق قبل أن يخلو بها ، أو يمسها فلا بأس أن يطلقها وهي حائض ، لأنه لا عدة عليها حينئذ ، فلا يكون طلاقها مخالفاً لقوله تعالى : ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (1) .
الثانية : إذا كان الحيض في حال الحمل ، وسبق بيان سبب ذلك.
الثانية : إذا كان الطلاق على عوض، فإنه لا بأس أن يطلقها وهي حائض.
مثل أن يكون بين الزوجين نزاع وسوء عشرة فيأخذ الزوج عوضاً ليطلقها ، فيجوز ولو كانت حائضاً. لحديث ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : (يا رسول الله إني ما اعتب عليه في خلق ولا دين، ولكن أكره الكفر في الإسلام) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (أتردين عليه حديقته ؟ ) قالت: نعم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) . رواه البخاري . ولم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم هل كانت حائضاً أو طاهراً ، ولأن هذا الطلاق افتداء من المرأة عن نفسها فجاز عند الحاجة إليه على أي حال كان.
قال في المغني معللاً جواز الخلع حال الحيض ص 52 ج 7 ط م (لأن المنع من الطلاق في الحيض من أجل الشرر الذي يلحقها بطول العدة، والخلع لإزالة الضرر الذي يلحقها بسوء العشرة والمقام مع من تكرهه وتبغضه، وذلك أعظم من ضرر طول العدة، فجاز دفع أعلاهما بأدناهما، ولذلك لم يسأل النبي صلى الله عليه وسلم المختلعة عن حالها) . أ هـ كلامه.
وأما عقد النكاح على المرأة وهي حائض فلا بأس به لأن الأصل الحل، ولا دليل على المنع منه، لكن إدخال الزوج عليها وهي حائض ينظر فيه فإن كان يؤمن من أن يطأها فلا بأس، وإلا فلا يدخل عليها حتى تطهر خوفاً من الوقوع في الممنوع.
الحكم الثامن: اعتبار عدة الطلاق به ـ أي الحيض ـ(157/15)
فإذا طلق الرجل زوجته بعد أن مسها أو خلا بها وجب عليها أن تعتد بثلاث حيض كاملة ، إن كانت من ذوات الحيض، ولم تكن حاملاً لقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) . (1) . أي ثلاث حيض. فإن كانت حاملاً فعدتها إلى وضع الحمل كله، سواء طالت المدة أو قصرت لقوله تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) . (1) . وإن كانت من غير ذوات الحيض لكبر أو عملية استأصلت رحمها أو غير ذلك مما لا ترجو معه رجوع الحيض، فعدتها ثلاثة أشهر لقوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) (2) . وإن كانت من ذوات الحيض لكن ارتفع حيضها لسبب معلوم كالمرض والرضاع فإنها تبقى في العدة وإن طالت المدة حتى يعود الحيض فتعتد به ، فإن زال السبب ولم يعد الحيض بأن برئت من المرض أو انتهت من الرضاع وبقي الحيض مرتفعاً فإنها تعتد بسنة كاملة من زوال السبب ، هذا هو القول الصحيح ، الذي ينطبق على القواعد الشرعية، فإنه إذا زال السبب ولم يعد الحيض صارت كمن ارتفع حيضها لغير سبب معلوم وإذا ارتفع حيضها لغير سبب معلوم ، فإنها تعتد بسنة كاملة تسعة أشهر للحمل احتياطاً غالب الحمل ، وثلاثة أشهر للعدة.
* أما إذا كان الطلاق بعد العقد وقبل المسيس والخلوة ، فليس فيه عدة إطلاقاً ، لا بحيض ولا غيره لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا) (3)
الحكم التاسع : الحكم ببراءة الرحم :
أي بخلوه من الحمل ، وهذا يحتاج إليه كلما احتيج إلى الحكم ببراءة الرحم وله مسائل :(157/16)
منها : إذا مات شخص عن امرأة يرثه حملها ، وهي ذات زوج، فإن زوجها لا يطأها حتى تحيض، أو يتبين حملها، فإن تبين حملها، حكمنا بإرثه، لحكمنا بوجوده حين موت مورثه، وإن حاضت حكمنا بعدم إرثه لحكمنا ببراءة الرحم بالحيض.
الحكم العاشر : وجوب الغسل :
فيجب على الحائض إذا طهرت أن تغتسل بتطهير جميع البدن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : (فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي) . رواه البخاري.
* وأقل واجب في الغسل أن تعم به جميع بدنها حتى ما تحت الشعر ، والأفضل أن يكون على صفة ما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث سألته أسماء بنت شكل عن غسل المحيض فقال صلى الله عليه وسلم: (تأخذ إحداكن ماءها وسدرتها فتطهر فتحسن الطهور ، ثم تصب على رأسها فتدلكه دلكاً شديداً ، حتى تبلغ شئون رأسها ، ثم تصب عليها الماء، ثم تأخذ فرصة ممسكة ـ أي قطعة قماش فيها مسك فتطهر بها ـ فقالت أسماء كيف تطهر بها ؟ فقال سبحان الله فقالت عائشة لها تتبعين أثر الدم) . رواه مسلم (1) .
* ولا يجب نقض شعر الرأس ، إلا أن يكون مشدوداً بقوة بحيث يخشى ألا يصل الماء إلى أصوله، لما في صحيح مسلم (2) من حديث أم سلمة ـ رضي الله عنها ـ أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إني امرأة أشد شعر رأسي أفأنقضه لغسل الجنابة ؟ وفي رواية للحيضة والجنابة ؟ فقال : ( لا إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات ثم تفيضين عليك الماء فتطهرين).
وإذا طهرت الحائض في أثناء وقت الصلاة وجب عليها أن تبادر بالاغتسال لتدرك أداء الصلاة في وقتها ، فإن كانت في سفر وليس عندها ماء أو كان عندها ماء ولكن تخاف الضرر باستعماله، أو كانت مريضة يضرها الماء فإنها تتيمم بدلاً عن الاغتسال حتى يزول المانع ثم تغتسل .(157/17)
وإن بعض النساء تطهر في أثناء وقت الصلاة، وتؤخر الاغتسال إلى وقت آخر تقول : إنه لا يمكنها كمال التطهر في هذا الوقت، ولكن هذا ليس بحجة ولا عذر لأنها يمكنها أن تقتصر على أقل الواجب في الغسل ، وتؤدي الصلاة في وقتها ، ثم إذا حصل لها وقت سعة تطهرت التطهر الكامل.
الفصل الخامس
في الاستحاضة وأحكامها
الاستحاضة : استمرار الدم على المرأة بحيث لا ينقطع عنها أبداً أو ينقطع عنها مدة يسيرة كاليوم واليومين في الشهر.
فدليل الحالة الأولى التي لا ينقطع الدم فيها أبداً ما ثبت في صحيح البخاري عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ قالت : (قالت فاطمة بنت حبيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يا رسول الله إني لا أطهر . وفي رواية أستحاض فلا أطهر).
ودليل الحالة الثانية التي لا ينقطع الدم فيها إلا يسيراً حديث حمنة بنت جحش حيث جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : (يا رسول الله إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة) . الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه ونقل عن الإمام أحمد تصحيحه وعن البخاري تحسينه.
أحوال المستحاضة
للمستحاضة ثلاثة حالات :
الحالة الأولى : أن يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة فهذه ترجع إلى مدة حيضها المعلوم السابق فتجلس فيها ويثبت لها أحكام الحيض، وما عداها استحاضة، يثبت لها أحكام المستحاضة.(157/18)
مثال ذلك امرأة كان يأتيها الحيض ستة أيام من أول كل شهر، ثم طرأت عليها الاستحاضة فصار الدم يأتيها باستمرار ، فيكون حيضها ستة أيام من أول كل شهر، وما عداها استحاضة لحديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ (أن فاطمة بنت أبي حبيش قالت : (يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر أفأدع الصلاة ؟ قال : (لا . إن ذلك عرق ، ولكن دعي الصلاة قدر الأيام التي كنت تحيضين فيها ثم اغتسلي وصلي ) . رواه البخاري ، وفي صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حبيبة بنت جحش : (امكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك ثم اغتسلي وصلي) . فعلى هذا تجلس المستحاضة التي لها حيض معلوم قدر حيضها ثم تغتسل وتصلي ولا تبالي بالدم حينئذ .
الحالة الثانية : أن لا يكون لها حيض معلوم قبل الاستحاضة بأن تكون الاستحاضة مستمرة بها من أول ما رأت الدم من أول أمرها ، فهذه تعمل بالتمييز فيكون حيضها ما تميز بسواد أو غلظة أو رائحة يثبت له أحكام الحيض، وما عداه استحاضة يثبت له أحكام الاستحاضة.
مثال ذلك : امرأة رأت الدم في أول ما رأته ، واستمر عليها لكن تراه عشرة أيام أسود وباقي الشهر أحمر . أو تراه عشرة أيام غليظاً وباقي الشهر رقيقاً. أو تراه عشرة أيام له رائحة الحيض وباقي الشهر لا رائحة له فحيضها هو الأسود في المثال الأول ، والغليظ في المثال الثاني ، وذو الرائحة في المثال الثالث ، وما عدا ذلك فهو استحاضة لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : (إذا كان دم الحيضة فإنه أسود يعرف ، فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما هو عرق) . رواه أبو داود والنسائي ، وصححه ابن حبان والحاكم . وهذا الحديث وإن كان في سنده ومتنه نظر فقد عمل به أهل العلم رحمهم الله ، وهو أولى من ردها إلى عادة غالب النساء.(157/19)
الحالة الثالثة : ألا يكون لها حيض معلوم ولا تمييز صالح بأن تكون الاستحاضة مستمرة من أول ما رأت الدم ودمها على صفة واحدة أو على صفات مضطربة لا يمكن أن تكون حيضاً ، فهذه تعمل بعادة غالب
النساء فيكو حيضها ستة أيام أو سبعة من كل شهر يبتديء من أو المدة التي رأت فيها الدم ، وما عداه استحاضة.
مثال ذلك : أن ترى الدم أو ما تراه في الخامس من الشهر ويستمر عليها من غير أن يكون فيه تمييز صالح للحيض لا بلون ولا غيره فيكون حيضها من كل شهر ستة أيام أو سبعة تبتديء من اليوم الخامس من كل شهر . لحديث حمنة بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت : (يا رسول الله : إني أستحاض حيضة كبيرة شديدة فما ترى فيها قد منعتني الصلاة والصيام ، فقال : أنعت لك (أصف لك استعمال) الكرسف (وهو القطن) تضعينه على الفرج، فإنه يذهب الدم ، قالت: هو أكثر من ذلك. وفيه قال : (إنما هذا ركضة من ركضات الشيطان فتحيضي ستة أيام أو سبعة في علم الله تعالى ، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقيت فصلي أربعاً وعشرين أو ثلاثاً وعشرين ليلة وأيامها وصومي) . الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه، ونقل عن أحمد أنه صححه ، وعن البخاري أنه حسنه.
وقوله صلى الله عليه وسلم : (ستة أيام أو سبعة) ليس للتخيير وإنما هو للاجتهاد فتنظر فيما هو أقرب إلى حالها ممن يشابهها خلقة ويقاربها سناً ورحماً وفيما هو أقرب إلى الحيض من دمها ، ونحو ذلك من الاعتبارات فإن كان الأقرب أن يكون ستة جعلته ستة وإن كان الأقرب أن يكون سبعة جعلته سبعة.
حال من تشبه المستحاضة
قد يحدث للمرأة سبب يوجب نزيف الدم من فرجها كعملية في الرحم أو فيما دونه وهذه على نوعين :(157/20)
النوع الأول : أن يعلم أنها لا يمكن أن تحيض بعد العملية مثل أن تكون العملية استئصال الرحم بالكلية أو سده بحيث لا ينزل منه دم ، فهذه المرأة لا يثبت لها أحكام المستحاضة ، وإنما حكمها حكم من ترى صفرة أو كدرة أو رطوبة بعد الطهر، فلا تترك الصلاة ولا الصيام ولا يمتنع جماعها ولا يجب غسل من هذا الدم، ولكن يلزمها عند الصلاة غسل الدم وأن تعصب على الفرج خرقة، ونحوها، لتمنع خروج الدم، ثم تتوضأ للصلاة ولا تتوضأ لها إلا بعد دخول وقتها، إن كان لها وقت كالصلوات الخمس، وإلا فعند إرادة فعل الصلاة كالنوافل المطلقة.
النوع الثاني : ألا يعلم امتناع حيضها بعد العملية بل يمكن أن تحيض، فهذه حكمها حكم المستحاضة . ويدل لما ذكر قوله صلى الله عليه وسلم ، لفاطمة بنت أبي حبيش:(إنما ذلك عرق وليس بالحيضة فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة) . فإن قوله (فإذا أقبلت الحيضة) يفيد أن حكم المستحاضة فيمن لها حيض ممكن ذو إقبال وإدبار، أما من ليس لها حيض ممكن فدمها دم عرق بكل حال.
أحكام الاستحاضة
عرفنا مما سبق متى يكون الدم حيضاً ومتى يكون استحاضة فمتى كان حيضاً ثبتت له أحكام الحيض، ومتى كان استحاضة ثبتت له أحكام الاستحاضة .
وقد سبق ذكر المهم من أحكام الحيض.
وأما أحكام الاستحاضة ، فكأحكام الطهر، فلا فرق بين المستحاضة وبين الطاهرات إلا فيما يأتي :
الأول : وجوب الوضوء عليها لكل صلاة ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم
لفاطمة بنت أبي حبيش (ثم توضئي لكل صلاة) . رواه البخاري في باب غسل الدم . معنى ذلك أنها لا تتوضأ للصلاة المؤقتة إلا بعد دخول وقتها. أما إذا كانت الصلاة غير مؤقتة فإنها تتوضأ لها عند إرادة فعلها.(157/21)
الثاني : إنها إذا أرادت الوضوء فإنها تغسل أثر الدم، وتعصب على الفرج خرقة على قطن ليستمسك الدم لقول النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة : (أنعت لك الكرسف فإنه يذهب الدم ، قالت : فإنه أكثر من ذلك، قال : فاتخذي ثوباً قالت هو أكثر من ذلك قال : فتلجمي) . الحديث ، ولا يضرها ما خرج بعد ذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش : (اجتنبي الصلاة أيام حيضك ثم اغتسلي وتوضئي لكل صلاة ، ثم صلي ، وإن قطر الدم على الحصير ) . رواه أحمد وابن ماجة.
الثالث : الجماع فقد اختلف العلماء في جوازه إذا لم يخف العنت بتركه، والصواب جوازه مطلقاً لأن نساء كثيرات يبلغن العشر أو أكثر استحضن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يمنع الله ولا رسوله من جماعهن . بل في قوله تعالى : (فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيض) (1) . دليل على أنه لا يجب اعتزالهن فيما سواه ، ولأن الصلاة تجوز منها ، فالجماع أهون . وقياس جماعها على جماع الحائض غير صحيح ، لأنهما لا يستويان حتى عند القائلين بالتحريم والقياس لا يصح مع الفارق.
الفصل السادس
في النفاس وحكمه
النفاس : دم يرخيه الرحم بسبب الولادة ، إما معها أو بعدها أو قبلها بيومين أو ثلاثة مع الطلق.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : (ما تراه حين تشرع في الطلق فهو نفاس ولم يقيده بيومين أو ثلاثة ، ومراده طلق يعقبه ولادة وإلا فليس بنفاس) . واختلف العلماء هل له حد في أقله وأكثره ؟ قال الشيخ تقي الدين في رسالته في الأسماء التي علق الشارع الأحكام بها ص 37: (والنفاس لا حد لأقله ولا لأكثره فلو قدر أن امرأة رأت الدم أكثر من أربعين أو ستين أو سبعين وانقطع فهو نفاس لكن إن اتصل فهو دم فساد وحينئذ فالحد أربعون فإنه منتهى الغالب جاءت به الآثار) . ا هـ .(157/22)
قلت : وعلى هذا فإذا زاد دمها على الأربعين ، وكان لها عادة بانقطاعه بعد أو ظهرت فيه امارات قرب الانقطاع انتظرت حتى ينقطع وإلا اغتسلت عند تمام الأربعين، لأنه الغالب إلا أن يصادق زمن حيضها فتجلس حتى ينتهي زمن الحيض، فإذا انقطع بعد ذلك فينبغي أن يكون كالعادة لها فتعمل بحسبة في المستقبل، وإن استمر فهي مستحاضة ، ترجع إلى أحكام المستحاضة السابقة، ولو طهرت بانقطاع الدم عنها فهي طاهر ولو قبل الأربعين، فتغتسل وتصلي وتصوم ويجامعها زوجها، إلا أن يكون الانقطاع أقل من يوم فلا حكم له، قاله في المغني .
ولا يثبت النفاس إلا إذا وضعت ما تبين فيه خلق إنسان، فلو وضعت سقطاً صغيراً لم يتبين فيه خلق إنسان فليس دمها دم نفاس، بل هو دم عرق فيكون حكمها حكم المستحاضة ، وأقل مدة تبين فيها خلق إنسان ثمانون يوماً من ابتداء الحمل وغالباً تسعون يوماً. قال المجد ابن تيمية: فمتى رأت دماً على طلق قبلها لم تلتفت إليه وبعدها تمسك عن الصلاة والصيام، ثم إن انكشف الأمر بعد الوضع على خلاف الظاهر رجعت فاستدركت، وإن لم ينكشف الأمر استمر حكم الظاهر فلا إعادة. نقله عنه في شرح الإقناع.
أحكام النفاس
أحكام النفاس كأحكام الحيض سواء بسواء ، إلا فيما يأتي :
الأول : العدة فتعتبر بالطلاق دون النفاس لأنه إن كان الطلاق قبل وضع الحمل انقضت العدة بوضعه لا بالنفاس، وإن كان الطلاق بعد الوضع انتظرت رجوع الحيض كما سبق.
الثاني : مدة الإيلاء يحسب منها مدة الحيض ولا يحسب منها مدة النفاس.
والإيلاء: أن يحلف الرجل على ترك جماع امرأته أبداً أو مدة تزيد على أربعة أشهر، فإذا حلف وطالبته بالجماع جعل له مدة أربعة أشهر من حلفه، فإذا تمت أجبر على الجماع أو الفراق بطلب الزوجة، فهذه المدة إذا مر بالمرأة نفاس لم يحسب على الزوج ، وزيد على الشهور الأربعة بقدر مدته ، بخلاف الحيض فإن مدته تحسب على الزوج.(157/23)
الثالث : البلوغ يحصل بالحيض ولا يحصل بالنفاس ، لأن المرأة لا يمكن أن تحمل حتى تنزل فيكون حصول البلوغ بالإنزال السابق للحمل .
الرابع : أن دم الحيض إذا انقطع ثم عاد في العادة فهو حيض يقيناً ، مثل أن تكون عادتها ثمانية أيام، فترى الحيض أربعة أيام ثم ينقطع يومين ثم يعود في السابع والثامن، فهذا العائد حيض يقيناً يثبت له أحكام الحيض ، وأما دم النفاس، إذا انقطع قبل الأربعين ثم عاد في الأربعين فهو مشكوك فيه فيجب عليها أن تصلي وتصوم الفرض المؤقت في وقته ويحرم عليها ما يحرم على الحائض غير الواجبات وتقضي بعد طهرها ما فعلته في هذا الدم مما يجب على الحائض قضاؤه . هذا هو المشهور عند الفقهاء من الحنابلة والصواب أن الدم إذا عاودها في زمن يمكن أن يكون نفاساً فهو نفاس، وإلا فهو حيض إلا أن يستمر عليها فيكون إستحاضة وهذا قريب مما نقله في المغني (1) عن الإمام مالك حيث قال: وقال مالك : (إن رأت الدم بعد يومين أو ثلاثة يعني من انقطاعه فهو نفاس وإلا فهو حيض) . ا هـ وهو مقتضى اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وليس في الدماء شيء مشكوك فيه بحسب الواقع، ولكن الشك أمر نسبي يختلف فيه النساء بحسب علومهم وأفهامهم. والكتاب والسنة فيهما تبيان كل شيء ، ولم يوجب الله سبحانه على أحد أن يصوم مرتين، أو يطوف مرتين، إلا أن يكون في الأول خلل لا يمكن تداركه إلا بالقضاء، أما حيث فعل العبد ما يقدر عليه من التكليف بحسب استطاعته فقد برئت ذمته، كما قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (2) . وقال : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ) (3) .(157/24)
الخامس : أنه في الحيض إذا طهرت قبل العادة جاز لزوجها جماعها بدون كراهة . وأما في النفاس إذا طهرت قبل الأربعين فيكره لزوجها جماعها على المشهور في المذهب ، والصواب أنه لا يكره له جماعها . وهو قول جمهور العلماء، لان الكراهة حكم الإمام أحمد عن عثمان بن أبي العاص أنها أتته قبل الأربعين، فقال لا تقربيني. وهذا لا يستلزم الكراهة لأنه قد يكون منه على سبيل الاحتياط خوفاً من أنها لم تتيقن الطهر ، أو من أن يتحرك الدم بسبب الجماع، أو لغير ذلك من الأسباب . والله أعلم .
الفصل السابع
في استعمال ما يمنع الحيض أو يجلبه
وما يمنع الحمل أو يسقطه
* استعمال المرأة ما يمنع حيضها جائز بشرطين :
الأول : ألا يخشى الضرر عليها ، فإن خشي الضرر عليها من ذلك فلا يجوز لقوله تعالى : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (1) . (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) (2) .
الثاني : أن يكون ذلك بإذن الزوج إن كان له تعلق به مثل أن تكون معتدة منه على وجه تجب عليه نفقتها، فتستعمل ما يمنع الحيض لتطول المدة وتزداد عليه نفقتها، فلا يجوز لها أن تستعمل ما يمنع الحيض حينئذ إلا بإذنه ، وكذلك إن ثبت أن منع الحيض يمنع الحمل فلا بد من إذن الزوج ، وحيث ثبت الجواز فالأولى عدم استعماله، إلا لحاجة لأن ترك الطبيعة على ما هي عليه أقرب إلى اعتدال الصحة فالسلامة .
* وأما استعمال ما يجلب الحيض فجائز بشرطين أيضاً:
الأول : ألا تتحيل به على إسقاط واجب ، مثل أن تستعمله قرب رمضان، من أجل أن تفطر أو لتسقط به الصلاة، ونحو ذلك.
الثاني : أن يكون ذلك بإذن الزوج ، لأن حصول الحيض يمنعه من كمال الاستمتاع، فلا يجوز استعمال ما يمنع حقه إلا برضاه، وإن كانت مطلقة ، فإن فيه تعجيل إسقاط حق الزوج من الرجعة إن كان له رجعة.
* وأما استعمال ما يمنع الحمل فعلى نوعين :(157/25)
الأول: أن يمنعه منعاً مستمراً فهذا لا يجوز، لأنه يقطع الحمل فيقل النسل ، وهو خلاف مقصود الشارع، من تكثير الأمة الإسلامية، ولأنه لا يؤمن أن يموت أولادها الموجودون فتبقى أرملة لا أولاد لها.
الثاني : أن يمنعه منعاً مؤقتاً، مثل أن تكون المرأة كثيرة الحمل ، والحمل يرهقها ، فتحب أن تنظم حملها كل سنتين مرة أو نحو ذلك فهذا جائز ، بشرط أن يأذن به زوجها وألا يكون به ضرر عليها ، ودليله أن الصحابة كانوا يعزلون عن نسائهم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم من أجل ألا تحمل نساؤهم، فلم ينهوا عن ذلك . والعزل أن يجامع زوجته وينزع عند الإنزال فينزل خارج الفرج.
* وأما استعمال ما يسقط الحمل فهو على نوعين :
الأول : أن يقصد من إسقاطه إتلافه، فهذا إن كان بعد نفخ الروح فيه فهو حرام ، بلا ريب ، لأنه قتل نفس محرمة بغير حق وقتل النفس المحرمة حرام بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين. وإن كان قبل نفخ الروح فيه فقد اختلف العلماء في جوازه، فمنهم من أجازه ، ومنهم من منعه، ومنهم من قال يجوز ما لم يكن علقه ، أي ما لم يمض عليه أربعون يوماً ، ومنهم من قال يجوز ما لم يتبين فيه خلق إنسان.
والأحوط المنع من إسقاطه إلا لحاجة كأن تكون الأم مريضة لا تتحمل الحمل أو نحو ذلك ، فيجوز إسقاطه حينئذ إلا إن مضى عليه زمن يمكن أن يتبين فيه خلق إنسان فيمنع . والله أعلم.
الثاني:ألا يقصد من إسقاطه إتلافه بأن تكون محاولة إسقاطه عند انتهاء مدة الحمل وقرب الوضع فهذا جائز ، بشرط ألا يكون في ذلك ضرر على الأم ، ولا على الولد.وألا يحتاج الأمر إلى عملية ، فإن احتاج إلى عملية فله حالات أربع :
الأولى : أن تكون الأم حية والحمل حياَ ، فلا تجوز العملة إلا للضرورة ، بأن تتعسر ولادتها فتحتاج إلى عملية ، وذلك لأن الجسم أمانة عند العبد، فلا يتصرف فيه بما يخشى منه إلا لمصلحة كبرى ؛ ولأنه ربما يظن ألا ضرر في العملية فيحصل الضرر.(157/26)
الثاني : أن تكون الأم ميتة والحمل ميتاً ، فلا يجوز إجراء العملية لإخراجه لعدم الفائدة.
الثالثة : أن تكون الأم حية والحمل ميتاً، فيجوز إجراء العملية لإخراجه، إلا أن يخشى الضرر على الأم لأن الظاهر ـ والله أعلم ـ أن الحمل إذا مات لا يكاد يخرج بدون العملية، فاستمراره في بطنها يمنعها من الحمل المستقبل، ويشق عليها، وربما تبقى أيماً إذا كانت معتدة من زوج سابق.
الرابع : أن تكون الأم ميتة والحمل حياً، فإن كان لا ترجى حياته لم يجز إجراء العملية.وإن كان ترجى حياته، فإن كان قد خرج بعضه شق بطن الأم لإخراج باقيه، وإن لم يخرج منه شيء، فقد قال أصحابنا رحمهم الله لا يشق بطن الأم لإخراج الحمل ، لأن ذلك مثله، والصواب أنه يشق البطن إن لم يكن إخراجه بدونه، وهذا اختيار ابن خبيرة قال في الإنصاف (1) وهو أولى .
قلت : ولا سيما في وقتنا هذا فإن إجراء العملية ليس بمثله، لأنه يشق البطن ثم يخاط، ولأن حرمة الحي أعظم من حرمة الميت، ولأن إنقاذ المعصوم من الهلكة واجب. والحمل إنسان معصوم فوجب إنقاذه . والله أعلم .
تنبيه : في الحالات التي يجوز فيها إسقاط الحمل فيما لابد من إذن من له الحمل في ذلك كالزوج.
وإلى هنا انتهى ما أردنا كتابته في هذا الموضوع المهم ، وقد اقتصرنا فيه على أصول المسائل وضوابطها وإلا ففروعها وجزئياتها وما يحدث للنساء من ذلك بحر لا ساحل له، ولكن البصير يستطيع أن يرد الفروع إلى أصولها والجزئيات إلى كلياتها وضوابطها، ويقيس الأشياء بنظائرها.
وليعلم المفتي بأنه واسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ ما جاءت به رسله ، وبيانه للخلق، وأنه مسئول عما في الكتاب والسنة، فإنهما المصدران اللذان كلف العبد فهمهما ، والعمل بهما، وكل ما خالف الكتاب والسنة فهو خطأ ، يجب رده على قائله ، ولا يجوز العمل به، وإن كان قائله قد يكون معذوراً مجتهداً فيؤجر على اجتهاده لكن غيره العالم بخطئه لا يجوز له قبوله.(157/27)
ويجب على المفتي أن يخلص النية لله تعالى ، ويستعين به في كل حادثة تقع به، ويسأله تعالى الثبات والتوفيق للصواب.
ويجب عليه أن يكون موضع اعتباره ما جاء في الكتاب والسنة ، فينظر ويبحث في ذلك أو فيما يستعان به من كلام أهل العلم على فهمهما.
وإنه كثيراً ما تحدث مسألة من المسائل ، فيبحث عنها الإنسان فيما يقدر عليه من كلام أهل العلم ، ثم لا يجد ما يطمئن إليه في حكمها ، وربما لا يجد لها ذكراً بالكلية ، فإذا رجع إلى الكتاب والسنة، تبين له حكمهما قريباً ظاهراً وذلك بحسب الإخلاص والعلم والفهم.
* ويجب على المفتي أن يتريث في الحكم عند الإشكال ، وألا يتعجل ، فكم من حكم تعجل فيه، ثم تبين له بعد النظر القريب ، أنه مخطئ فيه ، فيندم على ذلك، وربما لا يستطيع أن يستدرك ما أفتى به.
والمفتي إذا عرف الناس منه التأني والتثبت وثقوا بقوله واعتبروه ، وإذا رأوه متسرعاً ، والمتسرع كثير الخطأ ، لم يكن عندهم ثقة فيما يفتي به فيكون بتسرعه وخطئه قد حرم نفسه وحرم غيره ما عنده من علم وصواب .
نسأل الله تعالى أن يهدينا وإخواننا المسلمين صراطه المستقيم . وأن يتولانا بعنايته. ويحفظنا من الزلل برعايته، إنه جواد كريم ، وصلى الله وسلم ، على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين . والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
تم بحمد الله تعالى المجلد الحادي عشر
ويليه بمشيئة الله عز وجل
المجلد الثاني عشر
* * *
---
(1) سورة النساء ، الآية 59 0
(1) المجموع شرح المهذب 1 : 386 .
(1) سورة البقرة ، الآية : 222 0
(2) صحيح مسلم ج 4 ص 30 .
(3) صحيح البخاري 3 : 610 باب أجرة العمرة على قدر النصب.
(1) سورة النحل ، الآية : 89 .
(2) سورة يوسف ، الآية : 111 0
(1) ص 35 من رسالة في الأسماء التي علق الشارع الأحكام بها.
(1) المصدر السابق ص 36 .
(2) المصدر السابق ص 38 .
(3) سورة الحج ، الآية : 78 .
(1) سورة الطلاق ، الآية : 1 .(157/28)
(2) سورة الطلاق ، الآية : 4 .
(1) المغني 1 : 353 0
(1) نقل عنهما في الإنصاف.
(2) المغني ص 355 .
(3) سورة الحج ، الآية : 78 .
(1) شرح المهذب 3 : 70 .
(2) شرح المهذب 2 : 372 .
(1) فتح الباري 1 : 408 .
(2) ج 26 : 191 .
(1) سورة البقرة الآية 222 .
(1) سورة الطلاق ، الآية 1 .
(1) سورة الطلاق ، الآية : 1 0
(1) سورة البقرة ، الآية 228 .
(1) سورة الطلاق ، الآية 4 .
(2) سورة الطلاق ، الآية 4 .
(3) سورة الأحزاب ، الآية : 49 .
(1) صحيح مسلم 1 : 179 .
(2) المصدر نفسه 1 : 178 .
(1) سورة البقرة ، الآية 222 0
(1) المغني 1 : 349 .
(2) سورة البقرة، الآية 286.
(3) سورة التغابن، الآية 16 .
(1) سورة البقرة ، الآية 195 .
(2) سورة النساء ، الآية 29 .
(1) الإنصاف 2 : 556 .(157/29)
((((( الصلاة )))))(/)
الشرح الممتع(/)
المجلد الثاني(/)
محمد بن صالح العثيمين
كتاب الصلاة
الشرح الممتع على زاد المستقنع - المجلد الثاني
كتاب الصلاة
كتاب الصلاة ......................................................................
الصَّلاةُ في اللُّغة: الدُّعاءُ، وشاهد ذلك قوله تعالى: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ )(التوبة: من الآية103)} [التوبة: 103] ، أي: ادعُ لهم.
أمَّا في الشَّرع: فهي التعبُّدُ للَّهِ تعالى بأقوال وأفعال معلومة، مفتتَحة بالتَّكبير، مختتَمة بالتَّسليم.
وإن شئت فقل: هي عبادةٌ ذاتُ أقوال وأفعال، مفتتحة بالتَّكبير، مختتمة بالتَّسليم.
أمَّا قول بعض العلماء: «إنَّ الصَّلاة هي: أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتَّكبير، مختتمة بالتَّسليم»(1). فهذا فيه قصور، بل لا بُدَّ أن نقول: عبادةٌ ذات أقوال، أو نقول: التَّعبُّدّ لله تعالى بأقوال وأفعال معلومة، حتى يتبيَّن أنَّها من العبادات.
والصَّلاة مشروعة في جميع المِلَل، قال الله تعالى: )يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران:43)
[آل عمران]، وذلك لأهمِّيتها، ولأنَّها صِلَةٌ بين الإنسان وربِّه .
وقد فرضها الله على هذه الأمَّة على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ليلة عُرِجَ به بدون واسطة.
وتأمَّلْ كيف أخَّرَ اللَّهُ تعالى فريضتها إلى تلك الليلة إشادةً بها، وبياناً لأهمِّيتها لأنَّها:
أولاً: فرضت من الله إلى رسوله بدون واسطة.
ثانياً: فُرضت في ليلة هي أفضلُ الليالي لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيما نعلم.
ثالثاً: فُرضت في أعلى مكان يصلُ إليه البشر.(158/1)
رابعاً: فُرضت خمسين صلاة، وهذا يدلُّ على محبَّة الله لها، وعنايته بها ، لكن خُفِّفَت فجُعِلت خمساً بالفعل وخمسين في الميزان، فكأنَّما صلَّى خمسين صلاة. وليس المراد تضعيف الحسنة بعشر أمثالها؛ لأنَّه لو كان المراد الحسنة بعشر أمثالها؛ لم يكن لها مزيَّة على غيرها من العبادات؛ إذ في كلِّ عبادة الحسنةُ بعشر أمثالها، لكن الظَّاهر أنَّه يُكتَبُ للإنسان أجرُ خمسين صلاة بالفعل، ويؤيِّده: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم - وهو إمامُ أمَّتِه - قَبِلَ فريضة الخمسين وَرَضِيَها، ثم خفَّفها اللَّهُ تعالى فكتب للأمَّة أجرَ ما قَبِلَه رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) ورضيَه، وهو خمسون صلاة.
ويدلُّ لذلك: ما رواه البخاريُّ من حديث أنس أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فراجَعته - يعني: الله - فقال: هي خمس وهي خمسون»(2)، وفي رواية مسلم أنَّ الله قال: «يا محمد، إِنَّهنَّ خمس صلوات كلَّ يوم وليلة، لِكُلِّ صلاة عشر، فذلك خمسون صلاة»(3)، وفي رواية النَّسائي: «فخمس بخمسين، فَقُمْ بها أنت وأمَّتُك»(4)، وهذا فضلٌ عظيم من الله بالنِّسبة لهذه الأمَّة، ولا نجدُ عبادةً فُرضت يوميًّا في جميع العُمر إلاَّ الصَّلاة، فالزَّكاة حَوليَّةٌ، والصِّيام حَوْليٌّ، والحَجُّ عُمْريٌّ.
قوله: «تجب»، أي: الصَّلاة، والمراد بالوجوب هنا أعلى أنواع الوجوب وهو الفريضة. وهي في الدِّين في المرتبة الثانية بعد الشَّهادة بالتَّوحيد والرِّسالة، فالإسلام: شهادة أنْ لا إله إلَّا الله؛ وأنَّ محمَّداً رسول الله، وهذه واحدة، وإِنَّما صارت هاتان الجملتان واحدة؛ لأنَّ كلَّ عبادة لا بُدَّ فيها من إِخلاص تتضمَّنه شهادةُ أنْ لا إله إلَّا الله، ومتابعةٍ تتضمَّنه شهادةُ أنَّ محمَّداً رسول الله، فلهذا جعلهما النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً واحداً. والمرتبة الثَّانية هي الصَّلاة، فهي من أعلى أنواع الفرض.(158/2)
فقول المؤلِّف: «تجب»، قد يقول قائل: إنَّ فيه شيئاً من القُصُور؛ لأنَّك لو قلت عن كبيرة من الكبائر: تَحرمُ، لهوَّنْتَ من أمرها، فإذا قلت في مثل الصَّلاة: تجب، قد يقول قائل: إنَّ في هذا شيئاً من التَّهوين بأمرها؟ ولكنَّنا نقول: إنَّ المؤلِّف أراد أن يُبيِّن جنسَ حُكم هذه الصَّلوات، وأنَّها ليست من النَّوافل أو التَّطوعات، بل هي من جنس الواجب.
والدَّليل على وجوبها: كتاب الله، وسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإجماع المسلمين على ذلك إجماعاً قطعيًّا معلوماً بالضَّرورة من الدِّين.
أمَّا الكتاب: فقوله تعالى: ) إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً)(النساء: من الآية103) والشَّاهد: قوله: {كِتَابا }، لأنَّ كتاباً بمعنى مكتوب، والمكتوب بمعنى المفروض، قال تعالى: )َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)(البقرة: من الآية183)، أي: فُرِضَ.
ومن السُّنَّة: قول النبي صلى الله عليه وسلم وقد بعثَ معاذاً إلى اليمن: «أعْلِمْهُمْ أنَّ الله افترضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في كُلِّ يومٍ وليلةٍ»(1).
وأما الإجماع: فهو معلومٌ بالضَّرورة من الدِّين، ولهذا لم يُنكرْ أحدٌ من أهل القِبلة - ممَّن ينتسبون إلى الإسلام فَرْضَهَا؛ حتى أهل البدع يقرُّون بفرضِهَا.
وقوله: «على كُلِّ مسلم»، المسلم هو: الذي يشهد أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمَّداً رسول الله، ويقيمُ الصَّلاة، ويؤتي الزَّكاة، ويصومُ رمضانَ، ويحجُّ البيتَ.
هذا هو المسلم الكامل الإسلام، ولكن المراد بالمسلم هنا: من يشهد أن لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسول الله؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: «إنك تأتي قوماً من أهلِ الكتاب، فادْعُهُمْ إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله، وأنِّي رسولُ الله، فإن هم أطاعُوا لذلك؛ فأعْلِمْهُم أنَّ الله افترض عليهم خمسَ صلوات...». الحديث.(158/3)
فتَجِبُ على هذا الذي شَهِدَ أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسولُ الله، فالكافر لا تجب عليه، والمراد بنفي الوجوب على الكافر أنَّها لا تَلْزَمُهُ حال كفره، ولا يَلزَمُه قضاؤها بعد إسلامه.
والدَّليل على أنَّها لا تَلزَمُه حال كفره، قوله تعالى: )وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة:54)
فهذا دليلٌ على أنَّ الصَّلاة لا تُقبل منه، وإذا لم تُقبل منه فإِنَّها لا تصحُّ، وإذا لم تصحَّ لم تجب؛ لأنَّها لو وجبت وأتى بما يلزم فيها لصحَّت.
وأيضاً: رُبَّما نستدلُّ بحديث معاذ؛ لأنَّه لم يَذْكُرِ افتراضَ الصَّلاة عليهم إِلَّا بعد الشَّهادتين.
إِذاً؛ الكافر لا تلزمه الصَّلاة؛ ولا يلزمه قضاؤها إذا أسلم؛ لقوله تعالى: )قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَف) (لأنفال: من الآية38)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلامُ يَهْدِمُ ما كان قبلَه»(2)، أو «يَجُبُّ ما قبله»(3). ولم يُلزِمِ النبي صلى الله عليه وسلم الذين أسلموا بقضاء صلواتهم الماضية وقال: «أسلمتَ على ما أسلفتَ من خير»(4).
وثَمَّ دليل من النظر، وهو: أننا لو ألزمناه بقضَائِها بعد إسلامه؛ لكان في ذلك مشقَّة وتنفير عن الإسلام.
ولكن يُحَاسَب عليها في الآخرة، واستدلَّ العلماء لذلك بقوله تعالى: )فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ) (المدثر:40)
)عَنِ الْمُجْرِمِينَ) (المدثر:41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) (المدثر:42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) (المدثر:43).
فإن قال قائل: مجرَّد تكذيبهم بيوم الدين يوجب أن يدخلوا النَّار؟.
فالجواب أن يُقال: لولا أنَّ لتركهم الصَّلاة وإِطعامِ المسكين وخوضِهم مع الخائضين تأثيراً في تعذيبهم؛ لكان ذكره من باب العبث.(158/4)
وأمَّا من حيث النَّظرُ: فيقال: إذا كان المسلم يُعاقَب على ترك هذا الواجب، وهو أكرم عند الله - بلا شكٍّ - من هذا الكافر، فكيف لا يُعذَّب الكافر؟!.
فإن قلت: لا يُعذَّب الكافرُ؛ لأنَّه غير ملتزم بذلك؛ إذ هو كافر؟
فنقول: وإن لم يلتزم؛ لكنَّه مُلزم شرعاً؛ لكونه عبداً لله، فكونه لا يلتزم عناداً منه واستكباراً. بل أقول: إن الكافر يُحاسَب على كلِّ نعمة أنعمها الله عليه يوم القيامة.
ودليل ذلك من الأثر قوله تعالى: )لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات)(المائدة: من الآية93)، والذين لم يؤمنوا ولم يتَّقوا ولم يعملوا الصَّالحات عليهم جُناحٌ بالمفهوم، أي: مفهوم وصف ومعنى، وهو الإيمان والعمل، وقال الله تعالى: )قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ (لأعراف: من الآية32)] ، أما هؤلاء الكفَّار فهي حرام عليهم ويُحاسَبون عليها، بخلاف المؤمنين، فهي حلال لهم في الدُّنيا، ولا يُحاسَبون عليها يوم القيامة.
فإن قلت: إذا كانت حراماً عليهم، فلماذا لا نمنعهم من الأكل والشُّرب؟
فالجواب على ذلك: أنَّ الله يرزق العبادَ الحلالَ والحرامَ؛ لأنَّه تكفَّل بالرِّزق، قال اللَّهُ تعالى: )وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)(هود: من الآية6).
إذاً؛ صار الكافر في الدُّنيا أشدَّ محاسبة من المؤمن؛ لأنَّ الكافر يُحاسَب على الأكل، والشّرب، واللباس، وكلِّ نعمة.(158/5)
أما النَّظر الذي يدلُّ على أنَّ الكافر يُعذَّب في الآخرة على ما استمتع به من نِعَمِ الله: فلأنَّ العقل يقتضي أنَّ من أحسن إليك فإنَّك تُقابله بالامتثال والطَّاعة إذا أمرك، ويرى العقلُ أنَّ من أقبح القبائح أن تُنابذَ من أحسن إليك بالاستكبار عن طاعته وتكذيب خبره، ولهذا قال الله في الحديث القُدسي: «كَذَّبَني ابنُ آدم ولم يكن له ذلك، وشتَمني ولم يكن له ذلك»(1). فإذا لم يكن ذلك حقاً له دلَّ على أنَّ عمله من أقبح القبائح أن يستمتع بنِعَمِ الله، ثمَّ يُنكر هذا الفضل بالاستكبار عن الطاعة، وتكذيب الخبر.
قوله: «مُكلَّف»، التَّكليف في اللُّغة: إلزامُ ما فيه مشقَّة، ولكن في الشَّرع ليس كذلك؛ لأنَّ الشَّرع ليس فيه مشقَّة، قال تعالى: )لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة: من الآية286)
وهو في الشَّرع: إلزامُ مقتضى خطاب الشَّرع.
والتَّكليف يتضمَّن وصفين هما: البلوغ والعقل. فمعنى مكلَّف أي: بالغ عاقل، فغير البالغ وغير العاقل لا تلزمه الصَّلاة بالدَّليل الأثري والنَّظري.
أما الأثري: فقوله (صلى الله عليه وسلم): «رُفع القلمُ عن ثلاثة: عن المجنون حتى يُفيق، وعن الصَّبيِّ حتى يبلُغ، وعن النَّائم حتى يستيقظ»(2).
وأما النَّظر: فلأنَّهما ليسا أهلاً للتَّكليف؛ إذ إنَّ قصدهم قَاصِرٌ مهما كان، ولهذا يختلف غير المكلَّف عن المكلَّف في بعض الأمور؛ فأُبيح للصَبيِّ من اللَّعب واللَّهو ما لم يُبَحْ لغيره، وَوُسِّعَ للصَّبيِّ في الواجبات ما لم يُوسَّع لغيره، حتَّى إنَّ الشَّيء الذي يكون جريمة في البالغ لا يكون جريمة في الصَّغير؛ لأن نظره قاصر، وكذا قصده، والمجنون من باب أولى، فالمجنون البالغ غير مكلَّف. والصَّغير العاقل غير مكلَّف.(158/6)
فإن قلت: إذا لم يجب على الصَّبيِّ صلاة؛ أَفَلَيْسَ النبي صلى الله عليه وسلم قد أوجبَ على الإنسان أن يأمرَ ابنه أو ابنته بالصَّلاة لسبعٍ، ويضربه عليها لعشر(1)؟ وهل يُضرَبُ الإنسان على شيء لا يجب عليه؟
فالجواب على ذلك أن نقول: إِنَّما أُلزم الوالدُ بأمر أولاده وضربهم؛ لأنَّ هذا من تمام الرِّعاية والقيام بالمسؤولية التي حملها، والأب أهلٌ للمسؤولية. لا لأنَّ الصَّبيَّ تجب عليه الصَّلاة، ولذلك لا يلزمه قضاؤها لو تركها. ولو كان الصَّبيُّ له ستُّ سنوات؛ لكنَّه فَطِنٌ وذكيٌّ، فظاهر الحديث أنَّه لا يأمره؛ لأنَّ الشَّارع حدَّها بالسَّبع؛ لأنَّ الغالب أنه يكون بها التَّمييز، والنَّادر لا حكم له.
فإن قلنا: إنَّ التَّمييز ليس محدوداً بسنٍّ وإنَّما هو بالمعنى، وأنَّ التَّمييز هو: أن يفهم الخطاب، ويَرُدَّ الجواب، كما يدلُّ عليه الاشتقاق، فهل يجعل الحكم في أمره بالصَّلاة منوطاً به؛ ولو كان دون السَّبع أم لا؟ هذا محلُّ نظر، قد يُقال: إنَّنا نجعل الحكم منوطاً بالتَّمييز، وقد نقول: إنَّه منوط بالسَّبع كما جاء في السُّنَّة. والشَّارع أحكم منَّا، فيتقيَّد أمْرُه بالصَّلاة وضَرْبُه عليها بما جاءت به السُّنة.
قوله: «لا حائضاً ونُفساء»، هكذا في النُّسخ بالنَّصب، ووجهه: أنها مفعول لفعل محذوف؛ والتقدير: لا تلزم حائضاً ونُفَسَاء، أي: لا تجب عليهما الصَّلاة بدليل أثريٍّ وإجماعيٍّ. قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحائض: «أليس إذا حاضت لم تُصلِّ ولم تَصُمْ»(2). والنُّفساءُ كالحائضِ في ذلك بالإجماع، والعلماءُ مجمعون على أنَّ الحائضَ والنُّفساءَ لا تلزمهما الصَّلاة، ولا يلزمهما قضاء الصَّلاة.
قوله: «ويقضي مَنْ زالَ عقلُهُ بنومٍ» ، وعندي أنَّ في العبارة شيئاً من التَّساهل؛ لأنَّ النَّائمَ ليس زائلَ العقلِ بل مُغطًّى عقلُهُ، وفاقدٌ لإحساسه الظَّاهريِّ.(158/7)
والمعنى: أنَّ النَّائمَ يقضي الصَّلاة، وهذا ثابتٌ بالنَّصِّ والإجماع(3).
أمَّا النَّصُّ: فهو قوليٌّ وفعليٌّ، فالقوليُّ: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من نسيَ صلاةً أو نَامَ عَنها، فكفَّارتُها أن يصلِّيَهَا إذا ذكرها»(4).
وأمَّا الفعليُّ: فلأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قضى صلاة الفجر حين نام عنها في السَّفر(5). ولأنَّنا لو قلنا بعدم قضائها مع كثرة النَّوم لسقط منها كثير، ولكان ذلك مَدْعاة للتَّساهل بها في النَّوم عنها.
وأمَّا الإجماع: فقد نقله غيرُ واحد من أهل العلم.
وأفاد قوله: «ويقضي» أنَّ صلاة النَّائم ونحوه بعد خروج الوقت تُعتبر قضاءً، وذهب شيخُ الإسلام ابنُ تيمية إلى أنَّ كلَّ من صَلَّى بعد الوقت معذوراً فصلاتُه أداءً(6)، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وقَّت للنَّائم الصَّلاة عند استيقاظه، والنَّاسي عند ذِكْرِه.
قوله: «أو إغماء» ، أي: يقضي من زال عقلُهُ بإغماءٍ، والإغماء: هو التَّطبيق على العقل، فلا يكون عنده إحساس إطلاقاً، فلو أَيْقَظْتَه لم يستيقظ.
فإذا أُغمي عليه وقتاً أو وقتين وجبَ عليه القضاء؛ لورود ذلك عن بعض الصَّحابة كعمار بن ياسر(7)، وقياساً على النَّوم، وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد بن حنبل.
والأئمةُ الثَّلاثةُ يَرَون عدم وجوب القضاء على المُغمى عليه(1)، لكنَّ أبا حنيفة يقول: إذا كانت خمس صلوات فأقلَّ فإنَّه يقضي(2)؛ لأنَّها سهلة ويسيرة، أمَّا إذا زادت على الخمس فلا يقضي، وكلامُ أبي حنيفة مبنيٌّ على شيء من العقل والرَّأي؛ فأخذ بعِلَّةِ مَنْ عَلَّل بالقضاء، وأخذ بسقوط الأمر للمشقَّة. ولكن لا شَكَّ أنَّ مثل هذا التَّقديرِ الدَّقيق يحتاج إلى دليل، وإلَّا فهو تحكُّمٌ؛ فالإنسان الذي لا يَشُقُّ عليه خمسُ صلوات لا يَشُقُّ عليه ستُّ صلوات.(158/8)
فإذا نظرنا إلى التَّعليل وجدنا أنَّ الرَّاجح قول من يقول: لا يقضي مطلقاً؛ لأنَّ قياسه على النَّائم ليس بصحيح، فالنَّائم يستيقظ إذا أُوقِظَ، وأمَّا المُغمى عليه فإنَّه لا يشعر.
وأيضاً: النَّوم كثير ومعتاد، فلو قلنا: إنَّه لا يقضي سقط عنه كثير من الفروض. لكن الإغماء قد يمضي على الإنسان طولُ عمره ولا يُغمى عليه، وقد يسقط من شيء عالٍ فيُغمى عليه، وقد يُصاب بمرضٍ فيُغمى عليه.
وأما قضاء عمَّار - إن صحَّ عنه - فإنَّه يُحمل على الاستحباب، أو التَّورُّعِ، وما أشبه ذلك(3).
قوله: «أو سُكْرٍ» ، أي: يقضي من زال عقله بسُكْر، فإذا كان آثماً بسُكْره فلا شكَّ في وجوب القضاء عليه؛ لأنَّه حصل باختياره، ولأنَّه غير مأذون له بذلك، ولأنَّنا لو أسقطنا عنه قضاء الصَّلاة، وهو من أهل شُرب الخمر، فإنَّه كلَّما أراد ألَّا يُصلِّي شرب مسكراً، فحصل على جنايتين: على شرب المُسكر، وعلى ترك الصَّلاة.
وإن كان غير آثم بسُكْره كما لو شرب شراباً جاهلاً أنَّه مسكر، فإنَّه يقضي أيضاً؛ لأنَّ هذا حصل باختياره، لكن لا إثم عليه؛ لأنَّه جاهلٌ بكونه مُسْكراً.
وأما قياسه على المُغمى عليه ففيه نظر.
فإن قلت: «أليس الله يقول: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُون)(النساء: من الآية43)، فكيف يُلزم بقضاء ما نُهي عن قِرْبَانه؟ فالجواب: أنَّه ليس في الآية نهي عن قِرْبان الصَّلاة مطلقاً؛ وإنَّما نُهي عن قِرْبَانها حال السُّكْرِ حتى يعلم السَّكران ما يقول، فإذا علم ما يقول لزمته الصَّلاة أداءً إن كان في وقتها، أو قضاءً إن كان بعد الوقت، ولهذا كان الأئمة الأربعة متَّفقين على أنَّ مَنْ زال عقلُهُ بسُكْرٍ فإنَّه يَقضي(4).(158/9)
قوله: «أو نحوه» ، أي: نحو ما ذُكِرَ مثل البَنْج والدَّواء، وهذا محلُّ خِلاف(5)، فمن أهل العلم من قال: إن زالَ عقلُهُ بشيء مباح فلا قضاء عليه؛ لأنَّه معذور. والذي يترجَّحُ عندي: أنه إن زال عقلُهُ باختياره فعليه القضاء مطلقاً، وإن كان بغير اختياره فلا قضاء عليه.
قوله: «ولا تصحُّ من مجنون ولا كافر»، أي: لا تصحّ الصَّلاة من مجنون؛ لعدم القصد؛ لأنَّ المجنون لا قصد له، ومَنْ لا قصد له لا نيَّة له، ومَنْ لا نيَّة له، لا عمل له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّما الأعمالُ بالنيَّات»(6)، ومثله من زال عقلُهُ ببِرْسَامٍ(7)، ومثله الهَرِم الذي لا يعقل.
وقوله: «ولا كافر»، أي: ولا تصحُّ الصَّلاة من كافر، سواءٌ أكان أصليًّا أم مرتدًّا، فلا تصحُّ الصَّلاة منهما.
والدَّليل قوله تعالى: )وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ) (التوبة: من الآية54)، مع أنَّ النَّفقات نفعُها مُتَعَدٍّ، فإذا كانت لا تُقبل منه؛ فالتي نفعُها غيرُ مُتَعَدٍّ لا تُقبلُ من باب أولى، ولأنَّه ليس من أهل العبادة حتَّى يُسْلِم؛ لحديث معاذ: «فليكنْ أوَّلَ ما تدعوهم إليه: شهادةُ أنْ لا إله إلا الله؛ وأنَّ محمداً رسول الله، فإن هُمْ أجابوك لذلك، فأَعْلِمْهُم أنَّ الله افترض عليهم خمسَ صلوات»(1).
قوله: «فإن صلَّى فمسلمٌ حُكْماً» ، أي: إذا صلَّى الكافر فإننا نحكم بإسلامه، ولكنَّه مسلم حُكْماً لا حقيقة؛ حتى وإن لم يَنْوِ الإسلامَ بما فعله.
وفائدتُه: أنَّنا إذا حكمنا بإسلامه طالبناه بلوازم الإسلام؛ فيَرثُ أقاربَه المسلمين ويرثونَه. وإن قال: «فعلتُه استهزاءً» فنعتبره مرتدًّا. والفرق بين كونه مرتدًّا وبين كفره الأصليِّ: أنَّ كُفْرَ الرِّدَّة لا يُقَرُّ عليه، بخلاف الكفر الأصليِّ فيُقَرُّ عليه، فالكافر بالرِّدَّة يُطَالَبُ بالإسلام؛ فإن أسلم وإلَّا قتلناه.(158/10)
قوله: «وَيُؤْمَرُ بها صغيرٌ» ، يُؤمر: مبنيٌّ للمجهول؛ لأنَّ الأمرَ لا يتعيَّن، فكلُّ من له الإمْرَةُ على هذا الصَّبيِّ فإنَّه يأمره بالصَّلاة كالأب، والأخ، والعمِّ، والأمِّ.
قوله: «لِسَبْعٍ» ، أي: لتمامها لا لبلوغها، فلا يُؤْمَرُ إلا إذا دخل الثامنةَ؛ وإذا كنَّا نأمره بالصَّلاة فإنَّنا نأمره بلوازم الصَّلاة من الطَّهارة؛ وغيرها من الواجبات، ويستلزم تعليمَه ذلك.
قوله: «ويُضْرَبُ عليها لعَشرٍ» ، أي: على الصَّلاة، «لعشرٍ» أي: لتمام عشرٍ ليفعلها، ولا يكون ذلك إلَّا بالتَّرك، فنضربه حتى يصلِّي، في كلِّ وقت، والضَّرب باليد أو الثوب أو العصا، أو غير ذلك، ويُشْتَرطُ فيه ألَّا يكون ضرباً مُبرِّحاً؛ لأنَّ المقصود تأديبُه لا تعذيبُه.
قوله: «فإن بَلَغَ في أثنائها، أو بَعْدَها في وَقْتِها أعادَ» ، أي: إذا بلغ الصَّغيرُ في أثناء الصَّلاة، أو بعد انتهائها، لكن في وقتها أعاد الصَّلاة، ويحصُلُ هذا إذا حرَّرنا ولادته بالسَّاعة، والسَّاعاتُ موجودةٌ في عَصْرِ مَنْ مضى، ولكنها غير ساعاتنا هذه، ودليل وجودها أنَّ ابنَ حزمٍ الظَّاهريَّ في توقيته المسحَ على الخفَّين ذكر الدَّقائق، وهذا يدلُّ على أنَّها موجودةٌ من قبلُ.
وتعليلُ وجوبِ إعادة الصَّبيِّ إذا بلغ في أثناء الصَّلاة أنَّه شَرَعَ فيها؛ وهي في حَقِّه نَفْلٌ، والفرض لا يَنْبَنِي على النَّفل. وكذلك إذا بلغ بعدها في وقتها لزمه إعادتها؛ لأنَّه صار من أهل الوجوب قبلَ خروج وقتها فلزمَه فعلُها، وصلاتُه قبل بلوغه نافلة فلا تسقط بها الفريضة. والأصحاب قالوا: إذا بلغ الصَّبيُّ وهو صائمٌ مضى في صومه ولم تلزمه الإعادة(2). ففرَّقوا بين الصَّلاة والصِّيام، ولم يذكروا سبباً مقنعاً للتَّفريق، ولهذا جعل بعضُ الأصحاب حكمهما واحداً، وأوجبَ القضاءَ على مَنْ بلغ أثناء صومه(3).(158/11)
ولكن الصَّواب: أنَّه يمضي في صلاته وصومه ولا إعادة عليه، وكذلك لو بلغ بعد صلاته لم تلزمه إعادتها، كما لا يلزمه إعادةُ صيام الأيام الماضية من رمضان قولاً واحداً(4)؛ لأنَّه قام بفعل الصَّلاة والصِّيام على الوجه الذي أُمِرَ به، فسقط عنه الطَّلبُ، وهذا واضحٌ ولله الحمد.
ويؤيِّد هذا: أنَّه يقع كثيراً، ولم يُحْفَظْ عن الصَّحابة أنَّهم يأمرون من بلغ في أثناء الوقت بالإعادة.
قوله: «وَيَحْرُمُ تأخيرُها عن وَقْتِها»، وذلك لقوله تعالى:)إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً) (النساء: من الآية103)، وإذا كانت مفروضةً في وقت معيَّن فتأخيرُها عن وقتها حرامٌ. وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم وقَّتَ أوقاتَ الصَّلاة، وهذا يقتضي وجوبَ فعلها في وقتها.
وقوله: «تأخيرها» يشمَلُ تأخيرها بالكلِّيَّة؛ أو تأخيرَ بعضها، بحيث يؤخِّر الصَّلاة حتَّى إذا لم يبقَ إلَّا مقدارُ ركعةٍ صلَّى، فإنَّه حرامٌ عليه؛ لأنَّ الواجبَ أن تقع جميعُها في الوقت.
وقوله: «عن وقتها» يشمَلُ وقت الضَّرورة ووقت الجواز؛ لأنَّ صلاة العصر مثلاً لها وقتان: وقتُ ضرورة؛ ووقتُ جواز، فوقتُ الضَّرورة من اصفرار الشَّمس إلى غروبها، ووقتُ الجواز من دخول وقتها إلى اصفرار الشَّمس، فيحرم أن يؤخِّرها عن وقت الجواز إلَّا لعذر. ويُستثنى من ذلك مسألتان:
المسألة الأولى: أشار إليها بقوله: «إِلا لِنَاوِ الجَمْعِ» ، ونزيد قيداً: وكان ممَّن يَحِلُّ له أن يجمع. وهذا الاستثناء يشبه أن يكون صُوريًّا، وذلك لأنَّه إذا جاز الجمعُ بين الصَّلاتين صار وقتاهما وقتاً واحداً، ولا يقال: «أخَّرها عن وقتها».
المسألة الثانية: ذكرها بقوله: «ولمُشْتَغِلٍ بشَرْطها الذي يُحَصِّلُهُ قريباً» .(158/12)