قوله : ( كالمقام ) : المقام يشير إلى قوله تعالى : { عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا } ( الإسراء 79 ) .
وقد مر علينا أن من المقام المحمود أن الشفاعة العظمى تنتهي إلى رسول صلى الله عليه وآله وسلم وأن الناس يلحقهم من الكرب والغم ما لا يطيقون فيستشفعون بآدم ثم بنوح ثم بإبراهيم ثم بموسى ثم بعيسى حتى تنتهي إليه فهذا من المقام المحمود وليس كله ،
قوله : ( وبعثه لسائر الأنام ) : يعني وخًص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه بُعث إلى سائر الأنام وغيره من الأنبياء إلى من ؟ إلى قومه فقط ،
فإن قال قائل : أليس نوحٌ عليه الصلاة والسلام مرسَلاً إلى جميع الخلق في وقته ؟
قلنا : بلى هو مرسَل إلى جميع الخلق في وقته ،
لكن هناك قومياتٌ سوى هذه القومية فيكون نوحٌ مرسلاً إلى قومه ، { إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم } ( نوح 1 ) .
والخليقة في ذلك الوقت لم تكثر حتى يتولد منها قوميات يكون نوح مرسلاً إلى قومه فقط بل كانت الأمة قليلة وأُرسلَ إليهم نوح فكان مرسلاً إلى قومه خاصة ،
قوله : ( لسائر ) : يقولون : أنها تطلق معنى ( الباقي ) وتطلق بمعنى ( جميع ) ،
فإن أخذت من ( السؤر ) صارت بمعنى ( الباقي ) ،
وإن أخذت من ( السور ) – و ( السور ) محيطٌ بكل ما كان داخله – صارت بمعنى ( الجميع ) ،
إذا كانت بمعنى الجميع ، فهل فيها إعلال ؟
الجواب : نعم ،
لأنها إذا كانت بمعنى الجميع وهي مشتقة من السور ،
لكن قلبت الواو همزة لعلة تصريفية ،
أما إذا قلنا : أنه من السؤر فالهمزة فيه أصلية ،
ونظير ذلك لفظ زائر ،
هل الهمزة أصلية أو منقلبة ؟
فيه تفصيل :
إن كانت من زأر الأسد فهي أصلية ،
تقول : زأر الأسد فهو زائر ،
وإن كانت من الزيارة : فهي منقلبة ،
تقول : زار يزور فهو ( زائر ) ،
وأصلها ( زاير ) ،
لكن قلبت همزة والله أعلم ,
قوله : ( الأنام ) : أي الخلق ،(125/131)
قال الله تعالى : { والأرض وضعها للأنام } ( الرحمن 10 ) ، أي للخلق ،
فهو مبعوثٌٌ لجميع الخلق المكلفين صلى الله عليه وآله وسلم ،
ودليل اختصاصه بذلك من وجهين :
الوجه الأول : من كونه خاتم الأنبياء ،
وهذا ثابتٌ بالقرآن فإذا كان خاتم الأنبياء والناس كلهم محتاجون للرسالة لزم من ذلك أن يكون رسولاً لجميع الخلق ،
الثاني : أنه في حديث جابر رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ( أُعطيتُ خمساً لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي نُصرت بالرعب مسيرة شهر وجعلت لي الأرض مسجداً وطهورا وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي وأعطيت الشفاعة وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة وبُعثت إلى الناس عامة ) [215] ،
فهذه من خصائصه أما غيره من الأنبياء فيبعث إلى قومه خاصة فمثلاً إذا كان في الأرض أقوام متعددة فإن الرسول يُبعث إلى قومه الذي هو في أرضهم أو هو في غير أرضهم لكنه يبعث إليهم خاصة ،
ولا يرد على هذا نوح عليه الصلاة والسلام ،
لأن القوم في عهد نوح هم قومه إذ كان الناس في ذلك الوقت قليلين لم يتفرقوا شعوباً وأقواماً فكان مبعوثاً إلى الخلق عموماً ،
لأن الخلق في ذلك الوقت ليس فيهم أقوام ،
ولهذا أُهلك المكذبون له وصار الذين بقوا ممن على السفينة هم آباء الخلق كلهم ،
كما قال تعالى : { وجعلنا ذريته } ( الصافات 77 ) : أي ذرية نوح { هم الباقين } .
وبهذا ينكف الإيراد الذي أورده بعض العلماء الذين قالوا : إن نوحاً أرسِل إلى جميع أهل الأرض ،
نقول : لأن جميع أهل الأرض هم قومه في ذلك الوقت ليس هناك أقوامٌ آخرون ،
لكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هناك أقوامٌ آخرون هناك الفرس والروم والبربر وغيرهم وهو مبعوث إليهم جميعاً وهذه من نعمة الله عليه أي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله تعالى أرسله إلى جميع الخلق لأنه يلزم من ذلك أن كل من عمل بشريعته نال من أجره ،(125/132)
ولهذا رُفع له سوادٌ عظيم فظن أنهم أمته فقيل : هذا موسى وقومه ، ثم رُفع له سوادٌ عظيم أعظم من الأول ، فقيل له : هذه أمتك ، فأمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكثر الأمم وأجره أكثر أجر الأنبياء ، لأن كل واحدٍ من أمته يعمل بشريعته فيعمل بمثل أجره ،
وبهذا نعرف ضلال من إذا فعلوا طاعةً أهدوها للرسول صلى الله عليه وسلم ،
فإن إهداء القُرَبِ للرسول بدعة ضلالةٌ في الدين وسَفَهٌ في العقل ،
لماذا ؟
لأنك إذا أهديتَ إليه عبادةً فعلتها فمضمون ذلك أنك حرمت نفسك من أجرها فقط ، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فله أجرها من الأصل سواءٌ أهديتها إليه أم لم تهدها له أجرها واصلٌ إليه وأنت لم تؤمر بأن تهدي إليه العبادات لا أضحية ولا قراءة القرآن ولا غيرها أُمرت بأن تصلي وأن تسلم عليه تدعو له هكذا أُمرنا ، { يا ايها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما } ( الأحزاب 56 ) .
لماذا كان هذا سفهاً في العقل وضلالاً في الدين ؟
لأن مضمونه أنك حرمت نفسك من أجر هذه العبادات ،
قال شيخ الإسلام : ولم يعهدُ أن أحداً من القرون المفضلة فعل ذلك كل القرون المفضلة ، الصحابة والتابعون وتابعوهم لم يهدوا للنبي عليه الصلاة والسلام ثواب قربة أبداً ، لأنهم أفقه وأعلم وأحكم من أن يهدوا النبي عليه الصلاة والسلام ثواباً ،
إذ أن أجرهم حاصلٌُ للرسول ( الدال على الخير كفاعله ) [216] ،
الأسئلة
السؤال : إذا قلنا معنى : ( لم نتلف ) ، أي لم تفنى ، ممكن يا شيخ ؟
الجواب : نعم ،
السؤال : قوله : ( والمكذب ) هل نستطيع أن نقول هو الذي ينكر الرؤية ؟
الجواب : ربما ، الله أعلم لا نستطيع أن نقول هذا ما جزم به المؤلف إلا على رأي من يرى تكفيرهم،
السؤال : الذين يخرجون من النار من أهل الجنة يقال لهم : الجهنميون هل هذا تعيير ونبز بالألقاب وهذا يتعب ضمائرهم فكيف ينبزهم أهل الجنة بالألقاب ؟(125/133)
الجواب : نقول أولاً أنهم يقال لهم ذلك تذكيراً لهم بنعمة الله وهم يفرحون بهذا ولو قُدِّر أنهم ساءهم ذلك يوماً من الدَّهر فسوف يُمحى لأنه ليس في الجنة ما يكدِّر أبداً ،
- أي إنسان يدعي شيئاً خلاف ظاهر القرآن والسنة فعليه الدليل ،
هناك من يقول : النار ناران :
1 - نارٌ تفنى ،
2 - ونارٌ تبقى ،
وهناك من يقول : النار ناران :
1 - نارٌ حارة ،
2 - ونارٌ باردة ،
أين هذا التقسيم ؟
لا نقبل إلا ما قام به الدليل ،
الفرق الضالة يقولون : النار والجنة تفنيان ،
الجهمية ومن لا يرى تسلسل الحوادث في المستقبل :
يقولون : الجنة والنار تفنيان ،
وفيه الرجل الذي تلطف وأشار إليه ابن القيم وهو العلاف تلطف في الموضوع ،
وقال : لا يمكن أن الله يذكر الخلود الأبدي ،
ونقول : أنها تفنى ولكن تفنى اللذات والحركات ،
قال له ابن القيم : ما ظنكم إذا جاء وقت فناء الحركات والإنسان على زوجته من الحور العين ، كيف يكون يجمد معها إلى أبد الآبدين ؟ وما ظنكم فيمن رفع اللقمة أو الفاكهة إلي فمه فجاء وقت فناء الحركة وهو قد أخذها ولم تصل للفم الآن لا يستطيع أن ينزلها ولا يستطيع أن يرفعها تبقى الفاكهة في يده دائماً وأبداً ؟ هكذا ،
شيء يضحك الناس وكل هذا سببه عدم العلم بالنقل ، اعتمدوا على عقول فاسدة فظنوا أنها صحيحة ،
السؤال : قول المؤلف : ( لقوة ) في النبوة هل يَرِدْ عليها نبي الله أيوب ؟
الجواب : لا ، لأن أيوب أُصيبَ بما أُصيبَ ثم برئ في النهاية فهذا من العوارض ،
السؤال : لكن المعروف أنه ظل مريضاً بقدر السنين التي كان فيها ؟ ،
الجواب : لا ، هذا لم يثبت لكن لا شك أنه الشيطان ( جملة غير واضحة ) ولكنه برئ في النهاية فهذا من العوارض ،
السؤال : بالنسبة لشرط الحرية في النبوة يوسف عليه السلام بِيعَ مملوكاً عند عزيز مصر فهل هذا يُشْكِلْ ؟
الجواب : لا يُشْكِلْ ، يوسف عليه السلام نُبِّئَ بعد السجن ،(125/134)
السؤال : حديث ( يأتي النبي وليس معه أحد ) [217] ، وحديث ( ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا جعل الله حواريون ……… ) [218] ، ما المراد بذلك ؟
الجواب : المراد بذلك إما أنهم ذوو العزم أو يُستثنى من ذلك ما دل عليه الحديث الأول ،
السؤال : قول المؤلف ( حريةٌ ذكورةٌ كقوة ) ما معنى الكاف هنا ؟
الجواب : لو قال ( حريةٌ ذكورةٌ وقوة ) لكان أحسن ،
لكن قال : ( كقوة ) : إشارة إلى أن الحرية ،
والذكورة سبب اشتراطها : أنها ضعفٌ يعني كأنه جعل القوة تعليلاً لاشتراط الذكورة واشتراط الحرية ، والكاف هنا للتشبيه يعني ( كما تُشترط القوة ) ،
السؤال : في قوله تعالى عن يوسف عليه السلام : { وأوحينا إليه لتنبأنهم بأمرهم هذا } ( يوسف 15 ) ، يعني جاءه الوحي قبل السجن ؟
الجواب : الضمير يعود على أبيه يعقوب ،
السؤال : ذكرتم أن الخُّلة أبلغ من المحبة ( سؤال غير واضح ) ؟
الجواب : لا ، لا يمنع ، الإكرام إذا كان مطلقاً ، الإكرام المطلق يدخل فيه الاجتباء لا شك والرسل وصفهم الله بالاصطفاء ، { وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار } ( ص 47 ) .
السؤال : اشتراط الذكورة ألا يُشكل عليه قوله تعالى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } ( القصص 7 ) ؟
الجواب : يَرِدْ على هذا قوله تعالى : { أوحى ربك إلى النحل } ( النحل 68 ) ، يقول العلماء : الوحي أقسام : منه وحي الإلهام [219] ، فإذا ذكر الله وحياً إلى من ليس برسول فهو وحي إلهام فمعنى : { وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه } ، يعني ألهمناها أن ترضعه وإذا خافت عليه أن تلقيه في اليم ليس هذا وحي الرسالة ،
السؤال : ( لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة ) [220] ، هل هذا أثر أم حديث ؟
الجواب : لا ، هذا حديث في البخاري لما أُخبِر أن الفرس ولَّوْا بنت ملكهم قال : ( لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة ) وهو حديث ثابت في البخاري ،(125/135)
وكنت أتوقع أن تورد علي أن قوماً ولَّوْا أمرهم نساءً وأفلحوا ، الإنجليز دائماً يُوَلُّون أمرهم امرأة ؟
ومع الأسف في تركيا الآن رئيسة الوزراء امرأة ،
فيقال الجواب على هذا : من أحد وجوهٍ ثلاثة :
1 - إما أن يُراد بقوله : ( لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة ) يعني أولئك القوم فقط يعني الفرس يعني هؤلاء لما ولَّوْا أمرهم فإنهم لن يفلحوا وعلى هذا فيكون خاصاً ، وإذا جعلناه خاصاً لم يكن إشكال ،
2 - الوجه الثاني : أن نقول : إن هؤلاء النساء لم يتولوا الأمر على وجه الإطلاق بل الذي يدبر المملكة غيرهن لكن لهن الرئاسة اسماً لا حقيقة ،
3 - الوجه الثالث : أن يُقال : هؤلاء القوم لو أنهم ولَّوْا رجلاً لكان أفلح لهم ، ويكون المراد بالنفي : ( لن يفلح قومٌ ) نفي الفلاح التام فيُقال : هؤلاء القوم لو أنهم ولَّوْا رجلاً لكان أفلح لهم ،
4 - فيه وجه رابع أن يقال هذا أعني قول النبي عليه الصلاة والسلام : ( لن يفلح قومٌ ) هذا بناءاً على الأغلب والأكثر وإلا فقد يفلحوا ،
فهذه أربعة أوجه في الجواب عن هذا الحديث هذه الأربعة محتملة والله أعلم ،
السؤال : هل يجوز تولية المرأة علي شيءٍ من أمور المسلمين ؟
الجواب : لا نرى هذا ، نرى أنه لا يجوز ، لا سيما إذا قلنا لو أنهم ولَّوْا أمرهم رجلاً لكان أفلح ،
السؤال : هناك وجه خامس يا شيخ ،
الجواب : ما هو ؟
السؤال : أن هناك فلاحاً في الظاهر ولكن في السياسة الداخلية يكون فيه فساد كبير ،
الجواب : لا ، لا يصلح ،
السؤال : كلام عيسى في المهد هل هو مطلق أو مقيد فقط لتبرئة أمه ؟
الجواب : الظاهر حسب العادة أنه لم يتكلم إلا بما تكلم به في ذلك الوقت هذا الأصل ،
السؤال : ما الفرق بين النبي والرسول ؟
الجواب : الفرق بين النبي والرسول :(125/136)
هو ما ذهب إليه الجمهور من أن النبي من أوحي إليه بشرعٍ ولم يؤمر بتبليغه ولهذا يُسمى نبياً ولا يسمى رسولاً لأنه لم يؤمر ولكن لم يُنهى عن إبلاغه وبينهما فرق ، أن نقول : لم يؤمر بتبليغه وبين أن نقول : نهي عن تبليغه ،
وهذا نظير ما قال شيخ الإسلام رحمه الله فيمن لم ينكر على الولاة ولامه بعض الناس وقال لماذا لم تنكر المنكر ؟
قال شيخ الإسلام : هناك فرق بين السكوت على الإنكار وبين الأمر بالمنكر فالسكوت عن الإنكار مع عدم القدرة على الإنكار أو مع خوف منكرٍ أكبر[221] ،
يقول : لا يُلام عليه الإنسان بل قد يُحمد إذا ترك الإنكار خوفاً من مفسدةٍ أكبر ،
لكن لو أمر بالمنكر فإنه في هذه الحال يُذم على الأمر بالمنكر والرضا بالمنكر ،
السؤال : قوله تعالى : { إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا } ( مريم 26 ) ، ما المقصود بهذا الصوم ؟
الجواب : الصوم يعني الإمساك عن الكلام ،
السؤال : هل يجوز للإنسان أن يمسك عن الكلام ؟
الجواب : هي قالت هكذا أما أنت فلا تمسك عن الكلام الواجب وأمسك عن الكلام الحرام والأوْلى أن تمسك عن الكلام اللغو ،
فالكلام بالنسبة لنا ثلاثة أقسام :
1 - واجب ،
2 - حرام ،
3 - ولغو ،
الواجب يجب أن نتكلم به ،
السؤال : هل يجوز أن يقول لي أنا صائم عن الكلام ؟
الجواب : نعم يجوز لكن لا يجوز أن يصوم صوماً مطلقاً ،
السؤال : ذكرتم حفظكم الله ورجحتم في قول عيسى وهو رضيع : { آتاني الكتاب } ( مريم 30 ) ، على تقدير بعلمه فلماذا لجأتم إلى هذا التقدير مع أن التقدير الأول لا مانع منه وهو أن يكون خاصاً به ؟
الجواب : إذا رجحنا التقدير الأول فمعنى هذا أننا نمنع من هذا ،
ونقول الأصل : عدم الخصوصية هذه من جهة ،
والأصل أن الله لن يرسل رسولاً إلا إذا كان أهلاً للرسالة يتحمل الدعوة ويتحمل الرد من الآخرين ،
هذا الذي يظهر لي ،
السؤال : بالنسبة لأبناء آدم عليه السلام ( جملة غير واضحة ) ؟(125/137)
الجواب : أبناء آدم ليس هناك شيءٌ يوجب الاختلاف فصاروا يقتدون بأبيهم بدون أي منازعة لكن لما اختلف الناس أرسل الله إليهم الرسل كما قال تعالى : { كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } ( البقرة 213 ) ، لأنه ليس هناك مغريات ، الناس لا زالوا بدائيين ،
السؤال : هل المقام المحمود ما ذكره بعض العلماء من أن الله سبحانه وتعالى يُجلس الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش [222] ؟
الجواب : هذا إنْ صح فهو من المقام المحمود لا شك ، إذا صح فهو من المقام المحمود ،
السؤال : ألا يكون إدريس نبياً فلذلك نجعله قبل نوح ؟
الجواب : لا ، قال الله تعالى : { وجعلنا في ذريته الكتاب والنبوة } ( العنكبوت 27 ) ، وإدريس رسول ، كل من ذُكر في القرآن فهو رسول لكن الظاهر لنا والله أعلم أنه من بني إسرائيل لأن الله ذكر إدريس من بعد إسماعيل في سورة مريم [223] ،
السؤال : هل كان أكثر الأنبياء والمرسلين من بني إسرائيل ؟
الجواب : نعم اكثر الذين نعلم من بني إسرائيل لكن منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك فالعالم الذين في أمريكا والذي في أقصى شرق آسيا لا بد أن لهم رسلاً ولكننا لا نعرفهم ،
السؤال : قوله تعالى : { ولما بلغ أشده آتيناه ........... } ( يوسف 22 ) ، وقال في أنبياء آخرين : { ولما بلغ أشده واستوى } ( القصص 14 ) ، فقالوا أنه سبب ذكره تبارك وتعالى ليوسف : { واستوى } ، أنه لم يكن رسولاً وعمره أربعين سنة ما هو التوجيه ؟
السؤال : الظاهر أن هذا لا يعطي اختلافاً في الحكم لأن الغالب أن من بلغ أشده الغالب أنه يستوي ويكمل لا سيما أن يوسف عليه الصلاة السلام حصل منه تمرُّن في العمل في دين الملك وعرف الناس وسبر الناس فيكون مستوياً من قبل ،
- لو قدِّر أن المرأة أصبحت نبية فالنبي هو الذي يصلي في قومه فإذا جاءت الحيض فإنها لا تصلي إذن لا تصح إطلاقاً أن تكون نبياً ،
وهل تصح أن تكون عالماً ؟(125/138)
نعم من النساء من هم علماء ،
فصل
في بعض الخصائص النبوية
138 – ومعجز القرآن كالمعراج ،
حقاً بلا مينٍ ولا اعوجاج ،
قوله : ( ومعجز القرآن ) : يعني وخصه بمعجز القرآن ،
فالقرآن معجز ، { قل لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا } ( الإسراء 88 ) .
الإنس والجن متفرقين أو متعاونين لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن ،
والدليل على ذلك من الواقع :
أن القرآن نزل في قومٍ هم أفصح العرب وبلغة هؤلاء القوم ومع ذلك عجزوا عن معارضته وهم بلا شك يودون بكل طاقاتهم أن يجدوا معارضة للقرآن الكريم حتى يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم ما جئت به فإننا نستطيع مثله فأنت لست بنبي لكن عجزوا [224] ،
بل كان هذا القرآن يأخذ بألبابهم حتى يصغوا إليه قهراً ،
ذكروا في التاريخ أن رؤساءهم يأتون خفية إلى قرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليستمعوا القرآن يأتون خفية إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من أجل يستمعوا القرآن لأنه يعجبهم ويبهرهم وقد قال الله تعالى : { لأنذركم به ومن بلغ } ( الأنعام 19 ) .
فدل ذلك على أن بلاغه تقوم به الحجة تحداهم الله عز وجل أن يأتيهم بمثله ، { وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله } ( البقرة 23 ) ، تحداهم بعشر سور عجزوا تحداهم بسورة عجزوا تحداهم بآية عجزوا ، { فليأتوا بحديث مثله } ( الطور 34 ) : أي حديث مثله ، { إن كانوا صادقين } ، عجزوا ،
ولهذا قال : { أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون } ( الطور 33 ) ، ليس عندهم علم إلا أنهم كفار لا يؤمنون ، { فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين } ، أتوا ؟ ما أتوا { أم لهم سلم يستمعون فيه } تحدي { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } ( الطور 38 ) إن كانوا صادقين ، { فليأت مستمعهم بسلطان مبين } هذا لم يكن ،(125/139)
إذن فالقرآن أعجز الورى لأنه إذا أعجز الذين نزل بلغتهم وبوقتهم فمن بعدهم من باب أولى ومن سواهم من باب أولى ،
لكن هنا ملاحظة على قول المؤلف : ( ومعجز القرآن ) : لأنه معروف من إضافة الصفة إلى موصوفها ،
لأن المعنى : ( والقرآن معجز ) : وهو انه لا ينبغي أن نعبر عن آيات الأنبياء بالإعجاز ،
لأن الإعجاز ليس من خصائص الأنبياء فإن الساحر يعجز والبهلواني يعجز ،
فلما كان هذا اللفظ مشتركاً بين الحق والباطل كان الأولى نأتي بلفظٍ يتعين فيه الحق وهو ما نطق الله به وهو الآيات [225] ،
قال الله تعالى في القرآن : { بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم } ( العنكبوت 49 ) .
فنقول : آيات القرآن بدل معجزات القرآن ونسمي جميع ما يُسمى بمعجزات الأنبياء نسميه آيات الأنبياء ،
لأن الآيات بمعنى العلامات الدالة على صدقه ،
أما المعجزات فقد يعجز الساحر غيره ،
هل يستطيع أحد أن يجعل الحبال كأنها حيةٌ تسعى إلا السحرة ،
ويذكر من قصص السحرة أشياء عجيبة حدثنا قومٌ أن رجلاً كان يجني ثمر النخل من فوق وكان في القدر تمر رطب جني فقال رجلٌ من القوم الذي في الأسفل : أتُرَوْنَ أن أخوض على الرطب ولا يتأثر والإنسان إذا خضع للرطب يتأثر ، فقالوا له : لا تقدر ، فقال : اقدر ، فقالوا : لا تقدر ، قال : إن قدرت ؟ قالوا : إن قدرت نعطيك كذا وكذا ، فنزل على زعمه في وسط القدر وجعل يدور في القدر ثم خرج في مرأى العين فقال : أنتم رأيتموني أخوض في القدر ؟ قالوا : نعم ، قال : هل تأثر ؟ قالوا : لا ، لكن نريد أن نفعل ثانية ، قال : أفعل ، فنزل ثانيةً في القدر وجعل يدور هو ما نزل في القدر هو خرج لكن في مرأى العين جعل يدور فيه ، فقال الذي في النخلة : يا جماعة يا جماعة إنه كذاب إنه يدور على القدر وليس يدور في وسطه ، فنثر عليه ، فقال : لا ، صحيح يدور في وسط القدر ،
فالمهم أن السحرة يفعلون ما يعجز البشر عنه لكن بالسحر ،(125/140)
فلهذا نقول الأوْلى أن يعبر عن معجزات الأنبياء التي تُسمى معجزات بالآيات ،
في الكلام عن إعجاز القرآن مسائل :
المسألة الأولى : هل الأولى أن نعبر بمعجز القرآن أو بآيات القرآن ؟
بمعجز القرآن ،
وقلنا : إن المعجز يدخل فيه فعل الساحر والبهلواني وما أشبه ذلك ،
وأما آيات الأنبياء فهي آيات علامة على صدقه ،
قال بعض الناس : إن معجزات السحرة لا تشتبه بآيات الأنبياء لأن آيات الأنبياء مقرونة بالتحدي [226] ،
فنقول : هذا غير صحيح ،
لأن آيات الأنبياء تارةً تكون تحدياً وتارة تكون ابتداءاً بدون تحدي ،
فمجيء الصحابة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة الحديبية وقولهم : يا رسول الله ليس عندنا ماء فدعا بإناءٍ فوضع أصابعه عليه فجعل الماء يفور من بين أصابعه ،
هل في هذا تحدي ؟
أبداً ليس في هذا تحدي ما قالوا : ائتنا بآية ، شكوا إليه قلة الماء فجاءت هذه المعجزة ،
وآيات الرسول كثيراً ما تأتي بغير تحدي ،
لما جاءه رجل ادعوا الله أن يغيثنا فدعا فأُغيثوا من قبل أن ينزل من منبره وجاء في الجمعة الثانية وقال ادعوا الله أن يمسكها عنا فدعا فانفرجت السماء ،
هل في هذا تحدي ؟
لا ،
قال بعض الناس : إنها أي معجزات الأنبياء تشبه كرامات الأولياء ، فلذلك يجب أن ننكر إما آيات الأنبياء أو كرامات الأولياء وآيات الأنبياء لا يمكن إنكارها فلننكر كرامات الأولياء ،
فقالوا : لا يمكن أن يوجد للأولياء كرامات لا يمكن ،
والصواب : أن كرامات الأولياء ثابتة ، ثابتة فيمن قبلنا وفي هذه الأمة ،
فقصة مريم فيها كرامة من عدة أوجه :(125/141)
أجاءها المخاض إلى جذع النخلة فجاءت إلى جذع النخلة لأن المخاض اضطرها أن تأتي إلى جذع النخلة وهي حامل تُطْلَقْ فوضعت الولد وقيل لها : { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا } ( مريم 25 ) ، وهي امرأة نفساء والمرأة النفساء عادتها أن تكون ضعيفة ثم قيل لها : { وهزي إليك بجذع النخلة } : يعني ذدون أن تصعدي إلى أعلاها والهز بجذع النخلة لا يتأتى صعب أي إذا كان الرجل قوياً وصعد إلى أعلاها تهتز لكن من الأسفل ما تهتز لكن هذه قيل : { وهزي إليك بجذع النخلة } ، فهزت فاهتزت النخلة هذه كرامة أو غير كرامة ؟ كرامة ، { تساقط عليك رطبا جنيا } : يعني مخروفاً بيسر والعادة أن الرطب إذا تساقط من فوق يفسد يتفضخ لكن بقي رطباً جنيا هذه كرامة لما جاءت تحمل ولد فيقيل لها معرضين لها بالزنا ، { يا اخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا } ( مريم 28 ) ، من أين جاءكِ البغي ؟ { فأشارت إليه } ( مريم 30 ) ، فكلمهم هذه كرامة أم لا ؟
إذن هي كرامة وهي في الحقيقة تشبه آيات الأنبياء ،
لكن الفرق بينهما : أن آيات الأنبياء تأتي من نبي ،
وكرامات الأولياء تأتي من ولي متبع للرسول ،
هذا الولي لا يقول إنه نبي أبداً ويمكن انه لا يزكي نفسه ولا يقول أنه ولي فتأتيه الكرامة ،
فبينهما فرق عظيم ،
فعلى كل حال الأولى أن يقال : وآيات القرآن بدل معجز القرآن ،
ولكن كيف كان القرآن آية ؟ أبلفظه أو معناه أو بصدق مخبره أم ماذا ؟
نقول بكل معنى الآية في اللفظ والأسلوب والمعنى وأنه مهما كررته لا يمكن أن تمل منه الفاتحة نكررها باليوم أدنى شيء سبعة عشر مرة وهل نملها ؟
أبداً تقراها سبعة عشرة مرة أو سبعين مرة ما كأنك قرأتها ولا مرة واحدة ،(125/142)
لكن هات لي قطعة أحسن قصيدة من قصائد العرب وكررها في اليوم مرتين فإنك تمل منها لكن القرآن ما تمل هذه من آيات الله أنك تكرر هذا القرآن مهما كررته لا تمل وربما إذا وفقك الله للتدبر أن يفتح الله عليك في المرة الثانية من المعاني واللطائف ما لم تجده في المرة الأولى ،
كذلك أيضاً في تأثيره على القلب وأذكر تماماً إذا قرأ الإنسان بتدبر والله يلين القلب ويوجه الإنسان إلى ربه ويجد طعماً عجيباً للإيمان ،
قال ابن عبد القوي رحمه الله في داليته المشهورة [227] :
وحافظ على درس القرآن فإنه ،
يلين قلباً قاسياً مثل جلمدِ [228] ،
هذه من آيات القرآن تليين القلب : { ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق } ( الحديد 16 ) ، { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } ( الزمر 23 ) ، هذه من آيات القرآن ،
من آيات القرآن : الإصلاح التام إذا تمسكت به الأمة لا سبيل إلى إصلاح الأمة إلا إذا تمسكت بالقرآن ،
قال الله تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } ( القلم 4 ) .
وقالت عائشة : ( كان خلقه القرآن ) [229] ،
صلاح الأمة بهذا القرآن تجد الأمة صالحة كلمة واحدة يدٌ واحدة جسدٌ واحد روح واحدٌ ،
{ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا } ( آل عمران 103 ) .
هذا من آيات القرآن هذا من الأثر العظيم ومن ذلك أيضاً أن القرآن بمجرد ما يسمعه الإنسان يشعر بأنه قامت عليه الحجة ،
{ وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله } ( التوبة 6 ) .
فجعل الله لسماعه أثراً في قلب هذا المؤتمن كذلك الآثار العظيمة التي لم تكن لأي أمةٍ قامت بكتاب فتح المسلمون بالقرآن مشارق الأرض ومغاربها وهذا لم يوجد لأي كتابٍ آخر ،(125/143)
فإذن آيات القرآن كله آيات من كل وجه في لفظه ومعناه وأسلوبه وتأثيره وآثاره لا يوجد له نظير ، ولهذا قال المؤلف : ( ومعجز القرآن ) ،
قوله : ( كالمعراج ) : المعراج مفعال من العروج وهي آلة العروج ،
المعراج : ( آلة العروج ) ،
يعني الآلة التي يعرج بها الإنسان من أسفل إلى أعلى ، أسفل السلم معراج ومصعد ،
المعراج من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام لم يحصل لأحدٍ من الأنبياء قبله [230] ،
وأقول أيضا ً : ولن يحصل لأحدٍ من الأنبياء بعده هذا خطأ ،
ولن يحصل لأحدٍ بعده ، صحيح ؟
صحيح ، إلا روح المؤمن إذا قُبضت يُصعد بها إلى الله عز وجل سماءاً فسماء والملائكة شأنهم شأنٌ آخر ،
من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم المعراج ،
لأنه لم يحصل لأحدٍ من الأنبياء سواه ،
المعراج هو أنه عُرج به صلى الله عليه وآله وسلم من الأرض إلى السماء إلى السماء السابعة إلى أن بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام ، أقلام القضاء والقدر ، القلم إذا كُتب به سُمع له صوت فهو وصل إلى هذا الحد إلى سدرة المنتهى التي ينتهي إليها كل شيءٍ صعد إلى الأرض مكان ما بلغه فيما نعلم أحدٌ من البشر ،
وكان العروج وهو في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات أُسري به من مكة إلى المسجد الأقصى واجتمع بالأنبياء هناك ،(125/144)
لأن أنبياء بني إسرائيل كلهم أو غالبهم كانوا في جهة الشام أو مصر فجُمِعوا له هناك وصلى بهم إماماً إشارةً إلى أنه صلى الله عليه وآله وسلم هو إمامهم ورضوا كلهم رضوا بذلك لأن الله قد أخذ عليهم الميثاق ، { لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا } ( آل عمران 81 ) ، صلى بهم ثم صعد به جبريل سماءاً فسماء حتى وصل إلى السماء السابعة وهو يمر بمن يمر به من الملائكة وبمن يمر به من الأنبياء ومر على علية الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وكلهم إذا سلَّم عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم يرد عليه السلام ويرحب به ، آدم قال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح ، وقال مثل ذلك إبراهيم : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح ، وبقية الأنبياء يقولون : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح [231] ،
فشهد له الأنبياء بالبنوة وبالأخُوَّة والصلاح مرتين ،
وكل هذا من إعلاء ذكره صلى الله عليه وآله وسلم وهو داخلٌ في قوله : { ورفعنا لك ذكرك } ( الشرح 4 ) ، في هذا المعراج فرض الله عليه أفضل الأعمال البدنية وهي الصلاة ولم يفرض عليه الزكاة ولا الصيام ولا الحج ، الصلاة فقط ،
ولهذا لا نعلم عبادةً فُرضت من الله إلى الرسول بدون واسطة إلا الصلاة وفرضها عليه خمسين صلاةً في اليوم والليلة وهذا يدل على أهميتها وفضلها وعناية الله بها وأنها جديرةٌ بأن يصرف الإنسان جميع وقته أو جُلَّه فيها لأن خمسين صلاةً كم تستوعب ؟(125/145)
وقتاً طويلاً لا سيما أننا لا ندري كم عدد الركعات فيها لكن هي خمسون صلاة ونزل نبينا وإمامنا وقائدنا وقدوتنا نزل مقتنعاً بذلك راضياً به مسلِّماً خمسين صلاة يصليها في اليوم والليلة هو وأمته حتى قيَّض الله له موسى وسأله ألهم الله موسى أن يسأله : ماذا فرض عليك ربك فأخبره فقال : إن أمتك لا تطيق ذلك إني جربت بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة [232] ،
وموسى عليه الصلاة والسلام لا شك أنه قاس هذه الأمة على بني إسرائيل لأنه لا يعلم الغيب وإلا فلا يصح قياس هذه الأمة على بني إسرائيل لأن هذه الأمة أطوع لله من بني إسرائيل هذه الأمة لما ابتلاها الله تعالى بالصيد وهم محرمون تنالهم أيديهم ورماحهم ، الصيد تناله أيديهم فيما يمشي ورماحهم فيما يطير والعادة أن الذي يطير لا يُنال إلا بالسهام والذي يمشي لا يُنال إلا بالرماح لكن ابتلاهم الله حرم عليهم الصيد ثم قيَّض أن الصيد الذي يطير يُؤخذ بالرمح ما يطير يضربه بالرمح ويأخذه والذي يمشي كالأرنب وما أشبهها باليد ، { ليعلم الله من يخافه بالغيب } ( المائدة 94 ) ، فماذا فعل الصحابة هل كفوا عن الصيد مع تيسُّرِه أو أخذوا به كفوا ما أخذوه وبنوا إسرائيل قيل لهم لا تصيدوا في يوم السبت سمكاً قالوا : لا بأس ما نصيد فطال عليهم الأمد وابتلاهم الله ، في يوم السبت تأتي الحيتان شُرَّعاًَ على وجه الماء شُرَّع شارع وفي غير يوم السبت ما تأتي فقرقت البطون على السمك وقالوا : كيف نبقى هكذا ما نأكل سمك ما يمكن ، قالوا : نحن أصحاب حِيَل نحتال على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ماذا نصنع قالوا نضع شبكةً يوم الجمعة وخذوا ما فيها يوم الأحد فوضعوا شبكةً يوم الجمعة فجاءت الحيتان على العادة دخلت الشبك وعالخروج فلما كان يوم الأحد أخذوها فتحيلوا على محارم الله لكن هل نفعهم هذا التحيل ؟ لا ، قلبهم الله تعالى قردة فأصبحوا قردة يتعاوون الذي كان بالأمس رجل يمشي على رجليه أصبح(125/146)
الآن قرداً يمشي على يديه ورجليه يعني هذه الحيلة أقرب ما يكون لبني آدم من هم ؟ القرود ، وأقرب ما يكون للحل هذه الحيلة التي فعلوها فصار الجزاء وفاقاً من جنس العمل فإذن لا يمكن أن تُقاس هذه الأمة السامعة المطيعة التي قال قائلهم لما استشارهم رسول الله عليه الصلاة والسلام في الغزو قال : والله يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى : { فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون } ( مريم 25 ) ، ولكن قال الصحابة للرسول : والله لا نقول لك كما قالت بنوا إسرائيل لموسى ولكن اذهب فقاتل فنحن بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ، الله أكبر رضي الله عنهم لكن موسى لا يعلم الغيب ومن نعمة الله عز وجل أنه كان كذلك لا يعلم هذه الأمة حقيقةً فقال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فرجع فوضع عنه خمساً خمساً أو عشراً عشراً حتى وصلت إلى خمس فنادى منادٍ إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي هن خمسٌ بالفعل وخمسون بالميزان وهذا يدل على فضل الصلاة وعظمها ففرض الله عليه الصلاة ونزل إلى الأرض حتى وصل مكة بغَلَس وصلى بها الفجر نزل جبريل وصلى به في ذلك اليوم صلى به الفجر والظهر والعصر والمغرب والعشاء ، هذا المعراج من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم لم يحصل لأحدٍ من الأنبياء سواه أبداً فهو من آيات الله العظيمة الدالة على كمال قدرة الله عز وجل وعلى الآيات الكبرى التي شاهدها الرسول عليه الصلاة والسلام ولو أننا استعرضنا المعراج وجدنا الرسول صلى الله عليه وسلم في غاية ما يكون من الأدب ،
{ ما زاغ البصر وما طغى } ( النجم 17 ) ، نحن أنا دخلنا قصراً غريباً علينا كان واحد ينظر للسقف ينظر للجدار الأيمن ينظر للجدار الأيسر أمامه ربما ينظر للأرض كل شيء غريب ،(125/147)
لكن الرسول يقول : { ما زاغ البصر وما طغى } ، لم يتجاوز النظر الذي حًدد له في غاية ما يكون من الأدب و { ما زاغ } ، ما نظر شيئاً على خلاف الواقع ،
{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } ( النجم 18 ) :
إعراب { الكبرى } فيها وجهان :
الوجه الأول : مفعول به فيكون التقدير : لقد رأى الكبرى من آيات ربه ،
والوجه الثاني : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } ، فتكون صفة أيهما ؟
الظاهر : أن كونها صفة أبلغ لأنها إذا كانت مفعولاً به صار المعنى أنه رأى الكبرى التي لا أكبر منها ،
وإذا قلنا : أنها صفة صار المعنى رأى من آياته الكبرى الموجودة في ذلك الوقت وهي كثيرة ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى في سورة الإسراء : { لنريه من آياتنا } ( الإسراء 1 ) : أي بعض آياتنا ،
سبق لنا أن الله عز وجل خص نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم بخصائص :
منها المقام المحمود ،
ومنها أنه أرسله إلى الناس كافة ،
ومنها أنه أرسل عليه كتاباً معجزاً ،
ومنها أنه عرج به إلى مكانٍ لم يبلغه أحد ،
أورد علينا بعض الطلبة أن الأنبياء وجدهم النبي عليه الصلاة والسلام في السماوات ،
فكيف يصح أن نقول : إنه اختصه بالمعراج مع أن الأنبياء في السماوات ؟
والجواب على ذلك : من وجهين :
الأول : أن الأنبياء لم يُعرج بهم وهم أحياء ، من الدنيا إلى السماوات ، وإنما وجد أرواحهم في السماوات ،
والثاني : أنه حتى الذين في السماوات لم يصلوا إلى سدرة المنتهى لأن أعلاهم إبراهيم في السماء السابعة ولم يصلوا إلى سدرة المنتهى ،
وهذان الفرقان واضحان ،
وقد سبق الكلام على المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة الكبيرة ،
ولو شئنا أن نتلو آيات المعراج ، { والنجم إذا هوى ، ما ضل صاحبكم وما غوى } ( النجم 1 – 2 ) ، أقسم بالنجم حين هويه ،
فقيل : المعنى حين غروبه لأنه يهوي في الأفق ،
وقيل : المعنى حين انطلاقه ليضرب مسترق السمع ،(125/148)
ويكون في هذا إشارة إلى حماية الوحي الذي نزل على محمد وهذا المعنى أصح ،
{ والنجم إذا هوى ، ما ضل صاحبكم وما غوى } ، { ضل } : خالف الحق عن جهل ، { غوى } : خالف الحق عن عمد ،
و { صاحبكم } من ؟
النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،
وإنما عدل عن قوله : ( ما ضل محمد ) أو ( ما ضل النبي ) إلى قوله : { ما ضل صاحبكم } ، لإقامة الحجة عليهم وعلى بلاهتهم كأنما يقول : ما ضل هذا الرجل الذي تعرفونه وهو صاحبكم نشأ بينكم وعرفتم صدقه وأمانته والصاحب أعلم الناس بصاحبه قد يعلم الصاحب من صاحبه ما لا يعلمه القريب من قريبه فهذا صاحبكم كيف تقولون أنه ضل ؟ ،
{ وما ينطق عن الهوى } ( النجم 3 ) ، انتبه ولم يقل ما ينطق بالهوى ،
قال : { وما ينطق عن الهوى } : يعني لا ينطق نطقاً صادراً عن هوى وإنما ينطق نطقاً صادراً عن وحي أو عن اجتهاد أراد به المصلحة ،
الفرق بين ( ما ينطق بالهوى ) و { وما ينطق عن الهوى } :
{ وما ينطق عن الهوى } يعني ما ينطق بالهوى الذي يريد ،
لكن ( ما ينطق عن الهوى ) أي ما صدر نطقه عن هوى وإنما كان عن وحيٍ أو عن اجتهادٍ أراد به المصلحة لا لمجرد الهوى ،
ولهذا قال : { إن هو } ( النجم 4 ) : أي نطقه ، { إلا وحي يوحى } .
والمراد بالضمير في قوله : { إن هو } ، القرآن خاصة ،
لقوله : { علمه شديد القوى } ( النجم 5 ) ، وهو جبريل والذي علمه هو القرآن ،
{ ذو مرة } ( النجم 6 ) ، مرة يعني هيئةٍ حسنة فوصفه بالقوة والحُسْن والجمال والبهاء وإذا اجتمعت القوة الحسن والبهاء والجمال فذلك هو الكمال ،
ثم وصفه بوصفٍ ثالث وهو علو المنزلة فقال : { ذو مرة فاستوى ، وهو بالأفق الأعلى } ( النجم 6 – 7 ) ، استوى كمل يعني كان على خلقته ،(125/149)
{ وهو بالأفق الأعلى } ، فقد رآه النبي عليه الصلاة والسلام على خلقته التي خلقه الله عليها مرتين مرةً عند سدرة المنتهى فوق ومرةً في الأرض رآه بالأفق الأعلى وله ست مائة جناح قد سد الأفق من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه يعني غيمة واحدة سدت الأفق [233] ،
{ ثم دنا } ( النجم 8 ) ، من ؟
ذو المرة أي جبريل ،
{ فتدلى } : أي قَرُب والتدلي النزول من فوق ،
{ فكان قاب قوسين أو أدنى } ( النجم 9 ) : أي كان جبريل قاب قوسين أو أدنى من الرسول صلى الله عليه وسلم ،
{ فأوحى } ( النجم 10 ) جبريل ،
{ إلى عبده } أي إلى عبدالله ،
{ ما أوحى } ما الذي أوحاه ؟
القرآن وأبهمه تعظيماً له ،
{ فأوحى إلى عبده ما أوحى } ، لا يُقال : إن هذا تحصيل حاصل ( أوحى ما أوحى ) ،
فيُقال : هذا الإبهام للتعظيم ،
كقوله تعالى : { فغشيهم من اليم ما غشيهم } ( طه 78 ) .
معلوم أن ما غشيهم هو ما غشيهم لكن جاء بصورة للتعظيم يعني أوحى إلى عبده شيئاً عظيماً من الوحي ،
{ ما كذب الفؤاد ما رأى } ( النجم 11 ) ، الفؤاد ما كذب الذي رأى بل رآه على ما هو عليه صدقاً حقاً ،
{ أفتمارونه على ما يرى } ( النجم 12 ) ، أفتجادلونه على شيءٍ رآه بعينه وقلبه ،
{ ولقد رآه نزلة أخرى } ( النجم 13 ) : أي رأى جبريل مرةً أخرى في الأفق نازلاً ،
{ عند سدرة المنتهى } ( النجم 14 ) ، وهذه المرة الثانية التي رآه على خلقته التي خلقه الله عليها ،
{ عندها جنة المأوى } ( النجم 15 ) ، عند سدرة المنتهى جنة المأوى وهذا يدل على أن الجنة فوق السماوات عليا جعلنا الله وإياكم من أهلها ،
{ إذ يغشى السدرة ما يغشى } ( النجم 16 ) : يعني رآه حين يغشى السدرة ما يغشى وهنا أيضاً إبهام للتعظيم ما الذي غشيها ؟
غشيها من البهاء والحسن والجمال ما يبهر العقول هي في الأول شجرة كأنها سدرة لكن غشيها جمال عظيم يبهر العقول كما قال النبي عليه الصلاة والسلام ،(125/150)
{ ما زاغ البصر وما طغى } ( النجم 17 ) : يعني مال البصر ،
{ وما طغى } أي تجاوز الحد فهو لم يدر يميناً ولا شمالاً ولم يتقدم أماماً ولا فوقاً وذلك لكمال أدبه صلى الله عليه وآله وسلم ،
{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } ( النجم 18 ) ، هذه آية المعراج وهذا خلاصة المعراج ،
والبحث فيه في مسائل :
أولاً : متى كان ؟
ومن أين كان ؟
وهل هو بالبدن أو بالروح ؟
وهل هو يقظة أو منام ؟
وهل تكرر أم لم يتكرر ؟
الأول : متى كان ؟
كان قبل الهجرة بثلاث سنوات هذا أرجح ما قيل ،
وقيل فيه أقوال أخرى ولكنه لم يُحرر ،
لأن الناس في الجاهلية ما كانوا يعتنون بهذه الأمور ،
ولهذا لم يكون لهم تاريخ كان الجيد منهم والمثقف الذي يؤرخ بعام الفيل وإلا فهم لا يعرفون التاريخ ،
ما أُرِّخَ التاريخ إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
إذن هو على الأرجح قبل الهجرة بثلاث سنوات ،
الثاني : من أين كان ؟
كان من المسجد الحرام من الحِجْر حِجْر الكعبة [234] ،
وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث : أنه كان من بيت أم هانئ ،
والجمع بينهما أن يقال : كان نائماً عند أم هانئ فأتاه آتٍ فأيقظه فقام إلى المسجد الحرام واضطجع عند الحجر فعُرج به من هناك من المسجد الحرام ،
الثالث : هل كان يقظة أو مناماً ؟
والصواب المقطوع به : أنه يقظة [235]،
لأن الله قال : { سبحان الذي أسرى بعبده } ( الإسراء 1 ) ، ولم يقل : بروح عبده ،
والعبد هو الجسم الذي فيه الروح فقد أُسرِيَ به بجسمه صلوات الله عليه يقظةً ،
ويدل لذلك أيضاً : أنه فلو كان مناماً لم تنكره قريش لأن المنام لا يُنكر الإنسان ،
مثلاً : لو قال : أنه رأى في المنام أنه ذهب إلى أقصى الشرق أو أقصى الغرب ورأى ما رأى هل يُكذَّب ؟
أبداً لا يُكَذَّب فلولا كان بجسمه ويقظةً لم تكذب به قريش لأن قريشاً لا تكذب المنامات ،
هل هو بجسمه أو بروحه [236] ؟
ذكرنا أنه بجسمه وأنه كان يقظان عليه الصلاة والسلام ،(125/151)
هل تكرر أو لا ؟
نقول : الصحيح إن لم نقل المقطوع به : أنه لم يتكرر وأنه ليس إلا مرةً واحدة ،
البحث السادس : هل الإسراء والمعراج في ليلةٍ واحدة أو الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة ؟
الصواب : أنهما في ليلةٍِ واحدة [237] ،
لقوله تعالى : { لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير } ( الإسراء 1 ) ، والآيات التي ذكر الله أنه يريه إياها هي قوله : { لقد رأى من آيات ربه الكبرى } ( النجم 18 ) .
فالصواب : أن الإسراء والمعراج كانا في ليلةٍ واحدة ،
وهنا ننبه على كتيب في المعراج تُنسب روايته إلى عبدالله بن عباس رضي الله عنهما مطول ،
ولكن أكثره ليس بصحيح ولا تجوز قراءته ،
وقد كان الناس فيما سبق يقرؤونه ويجتمعون إلى قارئه ،
وفيه أشياء منكرة قطعاً فيجب الحذر من هذا الكتاب لأنه موضوع على ابن عباس رضي الله عنهما ولا يصح عنه ،
البحث السابع : بهل كان هذا المعراج ليلة سبعٍ وعشرين من رجب ؟
اشتهر عند الناس أنه ليلة سبعٍ وعشرين من رجب ،
وصار بعض الناس يحتفل به وبعض الدول تجعله عطلةً رسمية وهم يحكمون بغير ما أنزل الله ،
هذا التناقض عجيب تعظيماً للمعراج يجعلونه عطلة رسمية وإنكاراً للشريعة يحكمون بغير ما أنزل الله ،
ولكن أن الصواب : أن المعراج ليس في رجب ،
وأقرب ما قيل : أنه في ربيعٍِ الأول ،
لأن النبي عليه الصلاة والسلام وُلد في ربيعٍ الأول وأنزل عليه الوحي أول ما نزل في ربيع الأول ،
نزل عليه الوحي في رمضان ،
لكن أول ما بدئ به الوحي الرؤيا الصادقة من ربيع ،
كما قالت عائشة : كان أول ما بدئ به الوحي أنه كان الرؤيا الصالحة حتى تأتي مثل فلق الصبح [238] ،
وبقي على هذا ستة أشهر ، ربيع الأول والثاني وجمادى وجمادى الثاني ورجب وشعبان وفي رمضان أُنزل عليه القرآن ،(125/152)
وإذا قارنت بين هذا وبين قول الرسول عليه الصلاة والسلام : ( الرؤيا الصالحة جزءٌ من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ) [239] ، ونسبت ستة أشهر إلى ثلاث وعشرين سنة مدة الوحي صارت الستة بالنسبة إلى الثلاثة وعشرين جزءاًَ من ستةٍ وأربعين جزءاً من النبوة وُلد في ربيع ،
أول ما جاءه الوحي في ربيع ،
لكن ما أنزل عليه القرآن في رمضان ،
هاجر في ربيع ،
تُوفي في ربيع ،
فكل الحوادث الكبيرة في حياة النبي عليه الصلاة والسلام كانت في ربيع ،
فأصح ما قيل : أن المعراج كان في ربيع وليس في رجب ،
لكن اشتهر أنه في رجب وصار عند الناس كأنه مجزومٌ به ،
كما اشتهر أن ولادته كانت في الثاني عشر وهذا لا أصل له ،
انتهى الكلام على المعراج ،
وأما ما فيه من الآيات فالإنسان إذا تدبر أحاديث المعراج وجد فيها العجب العجاب ،
قوله : ( بلا مينٍ والاعوجاج ) : ( المين ) : هو الكذب ،
( الاعوجاج ) : ( الانحراف عن الاستقامة ) ،
فهو حق لا كذب فيه وهو استقامة لا اعوجاج فيها ،
******************
139 – فكم حباه ربه وفَضَّلَه ،
وخَصَّهَ سبحانه وخَوَّلَه ،
قوله : ( فكم ) : ( كم ) هذه تكثيرية على ما يظهر يعني ما أكثر ما حباه الله وفضله ويجوز أن تكون استفهاماً يراد به التكثير والمعنى واحد ،
قوله : ( حباه ربه وفضله ) : الحباء بمعنى الإعطاء والتفضيل بمعنى الزيادة ،
قوله : ( وخصه سبحانه ) : يعني بأشياء لم تكن لغيره ،
قوله : ( وخوله ) : أي أعطاه ،
فعليه الحباء والتخويل بمعنى واحد ،
فالله خص نبيه عليه الصلاة والسلام بخصائص لم تكن لغيره وفضله بفضائله لم تكن لغيره وأعطاه من الهبات ما لم تكن لغيره فصلوات الله وسلامه عليه ،
فصل
في التنبيه على بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة جداً(125/153)
140 – ومعجزات خاتم الأنباء ،
كثيرة تجل عن إحصاء ،
قوله : ( ومعجزات خاتَم الأنباء ) : أي خاتم أنباء الأنبياء ،
قوله : ( الأنباء ) : يعني أنباء الأنبياء فهو خاتم النبيين لا خاتم الأنباء ،
لأن الأنباء جمع نبأ لكن مراد المؤلف خاتم أنباء الأنبياء ،
قوله : ( خاتَم ) : بالفتح كما في القرآن ،
وهو أبلغ من ( خاتِم ) لأن ( خاتَم ) بمعنى الطابع الذي لا ينفذ من وراءه شيء و ( الخاتَم ) بمعنى الآخِر فكان ( خاتَم ) بالفتح أبلغ من ( الخاتِم ) ،
قوله : ( ومعجزات ) : جمع معجزة ،
وهي في التعريف :
( أمرٌ خارقٌ للعادة ، يظهره الله سبحانه وتعالى على يد الرسول ، شهادةً بصدقه ) ،
يعني يشهد بصدقه بالفعل وهو إظهار هذه المعجزة ،
فقولنا : ( أمرٌ خارقٌ للعادة ) : خرج ما كان جارياً على سنن العادة فلا يُعتبر هذا معجزاً ولا كرامة لولي ،
فلو قال رجل : أنا من أولياء الله وإذا شئتم أن أثبت لكم أني ولي من أولياء الله فإن الشمس تطلع اليوم على ست ونصف وكان ذلك اليوم موعدها على ست ونصف فارقبوها فذهبوا يرقبونها على السطوح وعلى رؤوس الجبال فخرجت الشمس الساعة السادسة والنصف تماماً فقال شهدت الشمس لي بالولاية ،
هل هذا صحيح ؟
لا ، لأنه ليس خارقاً للعادة فلا يكون كرامة ،(125/154)
ولما ناظر شيخ البطائحية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة قال له شيخ البطائحية أنا وأنت أمام الواقع ندخل النار فأينا لم تحرقه النار فهو الذي على الحق ومن أحرقته النار فهو على الباطل فقال له شيخ الإسلام ابن تيمية : نعم ليس عندي مانع إذا كان الله عز وجل جعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم تكون برداً وسلاماً على أمة محمد ليس عندي مانع ندخل النار ولكن بشرط أن نغتسل أنا وأنت قبل أن ندخل النار نغتسل ننظف أجسامنا قبل أن ندخل النار فنكس الرجل على عقبيه فقال شيخ الإسلام : أنا أعلم أن هذا الرجل قد طلى جسمه بمادة تمنع الاحتراق فأراد أن يعجزني بهذا فبُهت الذي ابتدع [240] ،
فهل يُعد هذا كرامة لو أن رجلاً من الناس دخل النار حقيقةً لتأييد الشرع هل يُعد هذا كرامة ؟
لا ،
إذن يظهره الله على يد الرسول تأييداً له أمر خارق للعادة يظهره الله على يد الرسول تأييداً له فإن أظهره الله على مدعي الرسالة تكذيباً له لا تصديقاً فليس بمعجزة ،
وقد ذكر ابن كثير في البداية النهاية وغيره من المؤرخين أن مسيلمة الكذاب نبي اليمامة كان يدعي أنه رسول وجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال أريد أن أكون وأنت شركاء في الرسالة جاءه قومه يوماً من الأيام وقالوا : يا نبي الله – وهو كاذب – إن بئرنا غار ماءها ولم فيها إلا القليل من الماء الذي يروينا فقال أنا آتٍ إليكم فجاء إليهم وطلب ماءاً فتمضمض به ومَجَّهُ في البئر فصاروا ينتظرون أن تجيش بالماء كما صار ذلك في بئر غزوة الحديبية فلما مج الماء في هذا الماء الباقي غار بإذن الله [241] .
هذا خارق للعادة أو موافق للعادة ؟
خارق للعادة .
لكن تصديقاً أو تكذيباً ؟
تكذيباً ،
إذن هي خارق للعادة أجراها الله على يد على هذا الكاذب تكذيباً له ،(125/155)
وذكروا قصةً أخرى أيضا ً أتوه بصبيٍِ شعر رأسه متمزق فجاؤوا به إليه ليمسحه حتى يخرج بقية الشعر فلما مسحه زال بقية الشعر الموجود وصار أصلع مرة هذا أيضاً خارق للعادة لأن الإنسان لو مسح على رأس الصبي ما نبت الشعر ولا زال لكنه تكذيب أو تأييد ؟ تكذيب ،
ولهذا قلنا : أن المعجزة أمرٌ خارق للعادة يظهره الله على يد الرسول تِأييداً له وتصديقاً له ،
قال : ( ومعجزات خاتم الأنباء كثيرة ) : وأنا أرشدكم إلى فصلٍ نافع جداً في هذا الموضوع ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر كتاب ( الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ) [242] ذكر كلاماً حسناً جيداً جداً ،
وأظن ابن كثير نقله في البداية النهاية وابن كثير ذكر أيضاً آيات الرسول عليه الصلاة والسلام لما تكلم على آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام في البداية والنهاية [243] ذكر آياتٍ كثيرة أرضية وسماوية وحيوانية أشياء كثيرة فمن أراد الزيادة من ذلك فليراجع ،
ولهذا قال المؤلف : ( تجل عن إحصاء ) : منها أي هذه المعجزات ،
*****************
141 – منها كلام الله معجز الورى ،
كذا انشقاق البدر من غير افترا ،
قوله : ( كلام الله معجز الورى ) : كلام الله عز وجل القرآن الذي أعجز الورى ،
وقد ذكرنا فيما سبق شيئاً من وجوه الإعجاز في القرآن :
منها : عجز الناس أن يأتوا بمثله ولا بسورة ولا بحديث مع أنهم أمراء الفصاحة والبلاغة ،
وهذا لا شك أنه من آيات الله عز وجل ،
لكن الغريب أن بعض العلماء قال : إنهم عجزوا بالصِّرفة لا بمقتضى الطبيعة ،
يعني أنهم قادرون من حيث طبيعتهم على أن معارضة القرآن لكن صُرفوا أي صرفهم الله عن معارضته ،
فيكون إعجاز القرآن على هذا القول لا لذات القرآن ولكن لأمرٍ خارج ، وهو صرفهم عن المعارضة ،
وهذا القول باطل لا شك ،(125/156)
ثم على تقدير التسليم يُعتبر هذا آية ،
لأن كون الله صرفهم عن معارضته يدل على أنه لا تُنكر معارضته شرعاً ،
لكن الذي نرى وهو الصواب أنهم عاجزون عن الإتيان بمثله طبعاً لا صرفاً ،
يعني لا يستطيعون أن يأتوا بمثله هذه واحدة ،
المهم أن القرآن من أعظم المعجزات للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ،
وأنا قلت لكم : من أعظم المعجزات تبعاً للمؤلف ،
وإلا فالصواب : أن نقول : الآيات ،
قوله : ( كذا انشقاق البدر ) : أيضاً من آيات الرسول عليه الصلاة والسلام انشقاق البدر أي القمر ،
انشق القمر فرقتين حقيقة لا برأي العين ،
فكان أحدهما : على جبل الصفا ،
والثاني : على جبل المروة يُشاهد من هنا ومن هنا شاهده الناس ،
قال الله تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر ، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } ( القمر 1 – 2 ) ، لما أراهم النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآية وشاهدوها بأعينهم قالوا : سحرنا محمد ليس بصحيح أن القمر ينشق ،
والعجيب أن آخر هذه الأمة وافق المشركين في إنكار انشقاق القمر ،
قالوا : انشقاق القمر ليس بصحيح ولا يمكن أن ينشق القمر ،
لكن قوله تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } : أي ظهر نور الرسالة ،
سبحان الله تحريف أين قوله : { إن يروا آية يعرضوا } ؟
ثم ما المانع من أن ينشق القمر ؟
قالوا : لأن الأفلاك لا يمكن أن تتغير ،
قلنا : تباًّ لعقولكم أليس الله يقول : { إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت } ( الانفطار 1 – 2 ) ؟
هل هذا تغير للأفلاك أم لا ؟
نعم ، { إذا الشمس كورت ، وإذا النجوم انكدرت } ( التكوير 1 – 2 ) ، هذا تغير الأفلاك ،
كيف تقولون ما تتغير ؟
الذي جمع القمر حتى صار كتلةً واحدة قادرٌ على أنه يفرقه ويجعله كُتَلاً ،
ولهذا نأسف أن يقع مثل هذا من علماء أجلاء معاصرين ،
يقولون : لا يمكن انشقاق القمر لأن هذا تغير أفلاك وهذا لا يمكن ،(125/157)
الله المستعان الذي خلق الأفلاك لا يقدر على أن يمزقها ؟ ،
بلى يقدر على ذلك سبحانه وتعالى ،
فانشقاق القمر من آيات الرسول عليه الصلاة والسلام ،
قال بعضهم منكراً انشقاق القمر بحجةٍ باردة تصلح لهذا الوقت لأن الناس محترين شوي قال : لو انشقاق القمر حقاً لعلم به الناس لعلم به أهل الهند أهل الغرب أهل الشمال أهل الجنوب ولكان نقله مما تتوافر الدواعي عليه ونُقِلَ في التواريخ ما نقل هذا في التواريخ ؟
نقول : تباً لكم أيًُّ تاريخٍ أصدق من كلام الله عز وجل القرآن ؟
وأي تاريخٍ أصدق مما جاء في الصحيحين ؟
في البخاري ومسلم وتلقته الأمة الإسلامية بالقبول ؟
قالوا : لماذا لم يذكره مؤرخو الهند ؟
فنقول : ألا يمكن أن يكون في تلك الليلة غيوم وأمطار حجبت رؤية القمر ؟ يمكن أو لا يمكن ؟
يمكن ،
الثاني : أن نقول : انشقاق القمر هل بقي مدةً طويلة حتى يتمكن الناس من رؤيته ؟
ربما تكون المدة يسيرة حتى شاهده الناس ثم تلاءم والناس في ذلك الوقت في الهند مثلاً نيام لأن الهند يسبق مكة في الزمن أليس كذلك ؟ فيقع هذا وهم نائمون ثم يلتئم قبل أن يستيقظوا ،
والمهم ليس علينا كون أهل الهند قالوه أو علماء الهند قالوه أو ما أشبه ذلك فلا يهم ،
ما دام موجوداً في كتاب الله عز وجل وفيما صح عن رسول الله فلا يهمنا أن يُنقل أو لا يُنقل ،
فالمهم أن انشقاق البدر من آيات النبي صلى الله عليه وسلم ،
إذ لا نعلم أنه انشق لأحدٍ غيره عليه الصلاة والسلام وهو أعظم من بعض الآيات التي حصلت للأنبياء ،
حتى أن ابن كثير رحمه الله قال : ما من آيةٍ حصلت لنبي إلا وُجد مثلها للرسول عليه الصلاة والسلام أو أتباعه والآية لأتباع الرسول تُعتبر آيةً للرسول لأنها شهادةٌ بصدق ما هو عليه هذا المتبع ،(125/158)
كان موسى يضرب الحجر إما حجراً معيناً أو أي حجر فيتفجر أنهاراً عيوناً والحجر يمكن أن يتفجر كما قال تعالى : { وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء } ( البقرة 74 ) .
لكن الماء نبع من الإناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية جاءوا يشكون إلى الرسول قلة الماء فدعا بإناءٍ فيه ماءٌ يسير فوضع يده فيه فجعل الماء يفور من بين أصابعه كالعيون حتى ارتوى الناس كلهم وكانوا ألفاً وأربعمائة واحد هذا أعظم من أن يتفجر الحجر لأن الحجر جرت العادة بأنه يتفجر والإناء من أين يتفجر أين صلته بالأرض ؟
فلهذا نقول : آيات الرسول عظيمة كثيرة ،
وكما قال ابن كثير رحمه الله : ما من آيةٍ لنبي إلا حصل مثلها أو أعظم للرسول عليه الصلاة والسلام أو لأتباع الرسول ، إحياء الموتى حصل إما للرسول إن صحت الرواية وإما لأتباعه ،
صلة بن أشيم من التابعين العباد كان في سفر فماتت الفرس فرسه ماتت فبقي ليس له مركوب فدعا الله تعالى أن يحييها حتى توصله إلى بلده فأحياها الله وركب عليها ولما وصل إلى البلد وإلى البيت قال لابنه يا بني ألقِ السَّرج عن الفرس فإنه عارية فتعجب الولد كيف عارية ؟
فلما وضع السرج عنه سقط الفرس ميتاً لأنه دعا الله أن يحييه ليوصله إلى أهله سالماً فحصل هذا ، هذا إحياء للموتى وإحياءٌ موقت أيضاً كأنه عارية مؤقتة [244] ،
والأشياء هذه كثيرة في ( البداية والنهاية ) فتُراجع ،
******************
142 – وأفضل العالم من غير امترا ،
نبينا المبعوث في أم القرى ،
قوله : ( من غير امترا ) : أي من غير شك ،
فإن انشقاق القمر عندنا يقينٌ كرؤيتنا للقمر الآن ، لا نمتري في هذا نقول : إن الله على كل شئٍ قدير ، فالذي جمع القمر قادرٌ على تفريقه والله أعلم ،(125/159)
قوله : ( أفضل العالم ) : ظاهر كلام المؤلف أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المخلوقات لن كل ما سوى الله فهو عالم ،
ولهذا قال الله تعالى : { الحمد لله رب العالمين } ( الفاتحة 2 ) ، فليس هناك إلا ربٌّ ومربوب ، والعالمون كلهم مربوبون وإذا لم يكن إلا ربٌّ ومربوب ،
صار المراد بالعالمين من سوى الله فيشمل عالم الملائكة وعالم الجن وعالم الإنس وعالم الجمادات كل شيء ،
فما هو الدليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من هؤلاء كلهم ؟
نقول : إن مراد المؤلف : ( أفضل العالم ) : من البشر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام كما قال عليه الصلاة والسلام : ( أنا سيد ولد آدم ) [245] ،
أما من سواهم فإننا نتوقف وإن كنا يغلب على ظننا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق على الإطلاق [246] ،
وفي ذلك يقول الناظم [247] :
وأفضل الخلق على الإطلاق ،
نبينا فَمِلْ عن الشقاق ،
قوله : ( فمل ) : فعل أمر من مال يميل ،
قوله : (نبينا المبعوث في أم القرى ) : هذه صفة كاشفة وليست صفةً مقيدة ،
لأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُبعث إلا في أم القرى ،
ومعنى : ( المبعوث ) : المرسل إلى الناس ،
والمراد بـ ( أم القرى ) مكة ،
وسميت أم القرى لأن القرى كلها تؤمها في الحج إليها والاعتمار إليها وتؤمها في الاتجاه إليها في الصلاة وغير الصلاة [248] ،
وقال بعض الناس : هي أم القرى لأنها مركز العالم ووسط العالم ،
وهذا أمرٌ جغرافي لا ندري عنه ،
لكن إن ثبت فلا مانع أن نقول به ،
وإن لم يثبت فهي أم القرى في الفضائل تؤمها أم القرى في الحج والعمرة والاتجاه ،
الأسئلة
السؤال : ذكرتم أن الولي لا بد أن يظهر له كرامة ؟(125/160)
الجواب : لا ليس بلازم الأولياء في الصحابة أكثر من الأولياء في التابعين والكرامات في التابعين أكثر منها في الصحابة ،
لما كانت حرب الأفغان في عنفوانها رأيت كتيباً عنوانه ( آيات الرحمن في جهاد الأفغان ) ذكر قصص كثيرة جداً منها ما يكون صحيحاً ومنها ما قد يكون غير صحيح لكن المبالغة في هذا فيها نظر ،
كرامات الأولياء : هي ( أمرٌ خارقٌ للعادة يظهره الله تعالى على يد الولي تكريماً له أو تأييداً لما معه من الحق ) ،
ومن هو الولي ؟
الولي ذكره الله بقوله : { ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، الذين آمنوا وكانوا يتقون } ( يونس 62 ) .
فإذا جاء الإنسان وقال : أنا ولي وهذه كراماتي ، ننظر : هل هو صادق أو لا ؟ فإذا كان غير صادق قلنا : كذاب حتى لو وُجد منه ما يخرق العادة فهو من الشياطين ،
بمجرد ما يقول للناس : أنا ولي فإنه ليس بولي ، لماذا ؟
لأنه زكى نفسه فوقع في الحرام ،
وأنت تعرف الأولياء وأفريقيا وغيرها الذين يدعَّون أنهم أولياء إذا رأيته رأيت عِمَّةً خمسين متر وكماًّ يسع أضخم الرجال ومسواكاً يكون سوط حمارً بليد وربما يكون خاتم أيضاً ومسبحة تحمل ألف حبة وحركات في الشفتين همهمة ثم يقول للناس : أنا ولي ثم يقول : أنا من أولياء الله الذين سقط عنهم التكليف فيجوز لي أن أتزوج خمسين بنتاً بكراً ويحل لي من الأكل ما لا يحل لكم ثم يدعي دعاوىً كل يعرف أنها باطلة ثم يأتي بخوارق يقول لإنسان مثلاً ضاع منه شئ : آتيك بالذي ضاع منك ثم يأتي به ،
وهؤلاء كثيرون وإذا رأوا إنساناً سلفياً اجتمع إليه الشباب حاربوه أشد المحاربة حاربوه بكل وسيلة واتصلوا بالحكام حتى يمنعوه وهذا شئٌ أخبرني الثقات به ،
لماذا تحرص الحكومات على أن تمكن لهؤلاء الضلال دون متبعي السلف ؟
لأن متبعي السلف يعلمون أنهم إذا صدقوا الله سوف يملكون ما تحت أقدامهم ،(125/161)
وهؤلاء المشعوذون هم منهم في مأمن لأنهم لن يُنصروا هؤلاء المشعوذون فهم يقولون دعوهم ،
الأصل أن الخارق للعادة لا يأتي إلا لنصرة حق ٍأو لتأييد محق ،
لكن ربما أن الله سبحانه وتعالى يمن على شخصٍ ويكرمه لكن تجده بإحسان ،
نحن ذكر لنا بعض الناس فيما سبق لما كانوا يذهبون إلى البلاد الشاسعة عن طريق الإبل يقول : إننا في مرة من المرات ضعنا في مكانٍ يقال له : الدهناء كلها رمال في الصيف وأننا هلكنا إلا أن يشاء الله يقول : فنمت فأتاني آتٍ بإناءٍ فيه لبن فشربت حتى رويت وقلت : أنا نشيط ويقول : هذا الإناء كان مثل الإناء الذي كنت أسقي به جارةً لنا في البلد وكنت أعطيه هذه الجارة كل يوم إناء لبن والإناء الذي كنت أعطيه هذه الجارة هو الذي جاءني في المنام وشربت حتى رويت هذه كرامة لكن جزاء للإنسان وهو عادي رجل جماَّل ،
فصل
في ذكر فضيلة نبينا وأولي العزم وغيرهم من النبيين والمرسلين
143 – وبعده الأفضل أهل العزم ،
فالرسل ثم الأنبياء بالجزم ،
وليعلم أن الفضل أو التفاضل مراتب لا تُتلقى إلا من الوحي ،
لأن المراتب تختلف اختلافاً عظيماً وتتباين تبايناً كبيراً ،
ولا يمكن أن نرتب فضيلةً على أخرى إلا بدليل من الشرع ،
فإن لم يكن لنا دليلٌ من الشرع فليس لنا الحق في أن نتكلم هذه واحدة ،
ثانياً : الترتيب في الفضيلة بناءاً على ما يظهر لنا لا على ما هو الواقع عند الله عز وجل كيف ؟(125/162)
لأننا قد نرى شخصين يصليان أحدهما قد أجاد صلاته ظاهراً تماماً بحيث لا نراه يتحرك ولا يعبث ونراه قد خضع برأسه وصلى صلاةً كاملة باعتبار ما يظهر لنا وآخر نرى أنه يحصل منه بعض الحركة وما أشبه ذلك ،فنحن إذا فضلنا الأول نفضله بحسب ما يظهر لنا أما عند الله فقد يكون الثاني أفضل قد يكون هذا الثاني قام بقلبه من الإخلاص لله وتعظيم الله عز وجل ما لم يكن في قلب الأول ،
ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في شارب الخمر الذي يكثر أن يُجاء به إلى رسول الله صلى عليه وآله وسلم قال : ٍ( إنه يحب الله ) [249] ، وهو يكثر شرب الخمر ،
فلو أننا حكمنا بالظاهر لقلنا : هذا الذي يكثر شرب الخمر ليس في قلبه محبة لله ،
ومع ذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( إنه يحب الله ) ،
ولهذا نحن حينما نفضل إنما نفضل بحسب ما يظهر لنا ،
أما ما ورد به النص فلا شك أننا نتبعه ،
لأن النص ورد من عند الله والله تعالى عليمٌ بما القلوب وبما في الظواهر ،
أولاً : هل هذه المسألة وهي التفاضل بين الأنبياء هل هي ثابتة شرعاً ؟
الجواب : نعم ثابتة ،
قال الله تبارك وتعالى : { تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض } ( البقرة 253 ) ، هذا في الرسل ،
وقال : { ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض } ( الإسراء 55 ) ، فالله تعالى فضَّل الرسل بعضهم على بعض وفضّل النبيين بعضهم على بعض ،
وفضّل الناس بعضهم على بعض ، { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } ( النساء 32 ) ، فالله عز وجل فضل بعض الناس على بعض ، الرسل والأنبياء وغيرهم ،
والعقل يدل عليه أن البعض أفضل من البعض كيف ذلك ؟
لأن من قام بمهماتٍ عظيمة جليلة يقضي العقل أنه أفضل من دونها ،
فالتفاضل إذن ثابت [250] ،
فإن قال قائل : كيف نثبت ذلك وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء ؟(125/163)
فيقال : حاشا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن ينهى عما أثبته الله ولا يمكن أن ينهى عما أثبته الله أبداًٍ ،
كيف يخبر الله أنه فضل بعض النبيين على بعض ثم يقول الرسول : لا تفضلوا بين الأنبياء ؟
لا يمكن هذا ولكنه نهى عن التفضيل بين الأنبياء حيث يكون الحقد والعدوان ،
لو أن أحداً فضل محمداً على موسى بحضرة اليهود وصار ذلك سبباً للعداوة أو المحن أو البغضاء وهي حاصلة لكن سبباً للشر فإنه لا يُفضل درءاً لماذا ؟
درءاً للمفسدة ،
فالذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام من التفضيل ما كان موجباً للمفسدة ،
أما ما كان حكايةً للواقع فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن ينهى عنه وقد أثبته الله ،
إذن نحن حينما نتكلم على تفضيل الرسول عليه الصلاة والسلام على جميع الناس نتكلم به خبراً عما قال الله ،
ولكننا لا نتكلم حينما يكون في ذلك شرٌّ وفساد ،
قوله : ( وبعده الأفضل أهل العزم ) : بعد محمد عليه الصلاة والسلام ،
قوله : ( الأفضل أهل العزم ) : وهم أربعة لأن محمد عليه الصلاة والسلام جُعل لوحده ،
فقوله : ( وبعده الأفضل أهل العزم ) : يعني الأربعة الباقين ،
وهم إبراهيم وموسى وعيسى ونوح وهم مرتبون على هذا إبراهيم ثم موسى [251] ،
أما نوح وعيسى فاختلف العلماء أيهما أفضل ؟
1 - فقيل : إن عيسى أفضل لما أعطاه الله عزة وجل من الآيات ولكثرة أتباعه ،
2 - وقيل : إن نوحاً أفضل [252] ، لأنه أول الرسل وعانى من المشقة والتعب من قومه ما لم يُذكر لنا أنه حصل لعيسى ، لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن معه إلا قليل ،
فمن العلماء من قال : نوحٌ أفضل ،
ومنهم من قال : عيسى أفضل ،
ولكننا نقول : الفضل الذي عند الله لا نعلمه ،
أما ما تبين لنا من شأنهم في الدنيا فلكل واحدٍ مزية لم تحصل للآخر ،
وحينئذِ نتوقف ،
فإذا توقفنا فمن نقدم ذِكراً ؟
نوح لأنه الأول وعيسى ،
ومع ذلك فإن هذا التقديم لا يقتضي الترتيب ،(125/164)
لأن الواو لا تقتضي أو لا تستلزم الترتيب فالرسل ثم الأنبياء ،
الرسل : جمع رسول ،
والرسول : هو من أُرسل ، قيل : يا فلان اذهب إلى فلان أليس كذلك ؟ نعم تقول أرسلت فلاناً إلى فلان أي أمرته أن يبلِّغ فلاناً عني شيئاً ،
أما النبي : فإنه من النبأ ( وهو الذي أتاه الخبر لكن لم يُكلف بالتبليغ ) ،
وهذا الذي قررنا هو مذهب جمهور العلماء :
أن الرسول هو ( من أوحي إليه بشرع وأُمر أن يبلِّغ ) ،
وأما النبي فهو : ( من أوحي إليه بشرع دون أن يُكلف بالتبليغ ولكنه لم يُمنع من التبليغ ) ،
يعني نُبِّئَ إليه بشرع ولم يُقل له لا تبلغه فإذا بلَّغه كان متطوعاً ،
فالفرق بين النبي والرسول :
أن الرسول مُلزم بالتبليغ ، والنبي غير مُلزم لكن غير ممنوع من التبليغ يعمل هو بنفسه ويجدد الشرع ،
ولكنه لا يُلزم بالتبليغ ،
وهذا هو وجه كون الرسول أفضل من النبي [253] ،
لأن الرسول أُلزم بالتبليغ لأن الرسول أُلزم بزيادة تكليف أليس كذلك ؟
والتبليغ هذا ليس بالأمر الهين ،
لأن فيه معاناة الناس والتعب معهم ولا يخفى علينا جميعاً ما حصل للرسل من الأذية بل من الضرر أحياناً لكن النبي يتعبد بما أوحي إليه ولا يُكلف أن يبلغ به فمن اقتدى به وأخذ بما هو عليه فله ذلك ومن لا فلا ،
ولهذا كان الأنبياء في إسرائيل كثيرين كثيرين جداً لأن بني إسرائيل قومٌ عتاة يحتاجون إلى تجديد الوحي دائماً ،
إذن الرسل : جمع الرسول وهو : ( من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه ) ،
والنبي : ( من أوحي إليه بالشرع ولم يُمنع من بتبليغه ) فلا أمر ولا مُنع له أن يبلغ ،
إذن مرتبة الرسل فوق مرتبة الأنبياء وهذا صحيح ،
قوله : ( بالجزم ) : أي قل ذلك بالجزم أو قلتُ ذلك بالجزم ،
فعلى الثاني يكون الكلام خبراً عن عقيدة المؤلف ،
وعلى الأول يكون أمراً باعتقاد هذا أن نعتقد هذا جزماً ،
فإذا قال قائل : كم عدد الرسل وهل جميع الرسل بُلغِّوا لنا ؟(125/165)
فالجواب : أن عدد الرسل ورد فيه أحاديث ليست بتلك القوة مما يُجزم به ،
ورد أن عددهم أربعة وعشرون ألفاً ،
ولكننا لا ندري هل يصح هذا الخبر أو لا ،
إنما الذي ذُكر في القرآن خمسةٌ وعشرون رسولاً ،
وكل من ذُكر في القرآن فهو رسول وإنْ ذُكر بوصف النبوة ،
وذلك لأن كل رسولٍ نبي ولا عكس [254] ،
والدليل على أن كل من ذُكر في القرآن رسول :
قول الله تبارك وتعالى : { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك } ( غافر 78 ) .
فعُلم بهذا أن كل من قصَّ الله علينا نبأه فهو رسول وهو كذلك أما الذين لم يُقصوا علينا فهم كثيرون ولكننا نؤمن بهم إجمالاً ،
ومعنى : ( إجمالاً ) : أنه لا يلزمنا التعيين لأننا لا نعلم عنه ،
لكن نقول : آمنا بكل رسولٍ أرسله الله تعالى
فصل
فيما يجب للأنبياء عليهم السلام وما يجوز عليهم وما يستحيل في حقهم
144 – وأن كل واحدٍ منهم سلم ،
من كل ما نقص ومن كفر عُصم ،
قوله : ( وأن ) : الظاهر أن الصواب كسرها ،
وإن كان المعنى ( ونؤمن بأن ) لكن الأصل عدم التقدير ،
قوله : ( وإن كل واحدٍ منهم سلم ) : الضمير يعود على الرسل عليهم الصلاة والسلام كل واحدٍ منهم سلم ،
قوله : ( ما ) : زائدة ، والتقدير : ( من كل نقص ) ،
قوله : ( من كل ما نقص ) : ليس المراد نقص الخِلقة أو نقص البشرية ، لا ،
المراد من كل ما نقصٍ في الدين ،
لأنهم عليهم الصلاة والسلام هم أسبق الناس إلى الخيرات وأعظم الناس امتثالاً لأمر الله فهم سالمون من كل نقصٍ في الدين ،
وكذلك من فوات الدين بالكلية لقوله : ( ومن كفر عُصم ) ،
فليس من الرسل كافر ولم يكفر أحدٌ من الرسل ولم يتعمد أحدٌ من الرسل أن يفعل ما فيه نقص في الدين أبداً ،(125/166)
وإن فعلوا شيئاً فإما عن اجتهاد أو تأويل أو ما أشبه ذلك ثم يُبرء من إثمه بتوبة الله عليه ،
******************
145 – كذاك من إفكٍ ومن خيانة ،
لوصفهم بالصدق والأمانة ،
قوله : ( الإفك ) : يعني مبرؤون من الإفك وهو الكذب ،
ولهذا ما كذب نبيٌ قط ،
وأما ما جاء عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه كذب ثلاث كذبات في الله [255] ، فهي كذبات تورية والتورية ليست كذباً في الواقع [256] ،
لأن المعنى الباطن منها حقيقي مطابق للواقع ،
فقوله للملك الظالم : هذه أختي وهي زوجته هذا وإن كانت المرأة ليست أخته لكن هو أراد أنه أخته على وجهٍ صحيح أنها أخته في دين الله ،
وكذلك قوله : { بل فعله كبيركم } ( الأنبياء 63 ) ، أيضاً فيه تورية وإن كان الكبير لم يفعل لكن الذي كسَّر الأصنام هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا أنه ورَّى أي فعله كبيرهم الذي تزعمون أنه إله ،
قوله : ( من خيانة ) : كذلك أيضاً لا يمكن أن يخون لا بالقول ولا بالفعل ،
حتى إن النبي عليه الصلاة والسلام مُنع من الإشارة بالعين والغمز بالعين ، لأن هذا نوعٌ من الخيانة ،
إذن سلموا من كل كذب وسلموا من كل خيانة ،
لأن الكذب والخيانة ينافيان الرسالة منافاةً كاملة ،
إذ لا ثقة بقول الخائن ولا ثقة بقول الكاذب ،
لاحتمال أن يكون ما قاله من الكذب الذي كان يكذبه والاحتمال أن يكون خان فأخبر الأمر على غير وجهه ولذلك هم مبرؤون من الكذب والخيانة ،
قوله : ( لوصفهم بالصدق ) : هذا ضد قوله : ( إفك ) ،
قوله : ( والأمانة ) : ضد قوله : ( خيانة ) ،
فهم موصوفون بالصدق عليهم الصلاة والسلام ،
لأن الله شهد لهم كذلك موصوفون بالأمانة أنهم أمناء على وحي الله عز وجل ،
وإذا كان جبريل عليه الصلاة والسلام موصوفاً بالأمانة وهو رسولٌ إليهم فهم كذلك من باب أولى ،(125/167)
أفادنا المؤلف رحمه الله أن الأنبياء أو الرسل معصومون مما ذكر ،
فهل هم معصومون من صغائر الإثم ؟
نقول : نعم ليسوا معصومين من صغائر الإثم ،
لكنهم معصومون من إرادة المخالفة ومن الإصرار على المعصية ،
معصومون من إرادة المخالفة [257] ،
لأن الذي يقع منهم يكون عن قصدٍ أخطئوا فيه الصواب ،
مثلاً : { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } ( التوبة 43 ) ، هو أذن لهم اجتهاداً منه يظن أن المصلحة في ذلك ولكن المصلحة في غير هذا المصلحة أن يتأنى حتى يعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين .
{ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم } ( التحريم 1 ) ، حرم ما أحل الله له طلباً لمرضاة زوجاته وتأليفاً لقلوبهم ولكنه لم يحرمه شرعاً يعني لم يحرمه حكماً شرعياً إنما حرمه امتناعاً يعني حرَّمه على نفسه ،
كما تقول : حرامٌ علي أن ألبس هذا الثوب حرامٌ علي أن أدخل هذا البيت حرامٌ علي أن أشتري هذه السيارة مثلاً ،
هذا ليس تحريماً شرعياً لكنه تحريم امتناع يعني أنني ألزم نفسي بأن امتنع من هذا الشيء كذلك وتخفي في نفسك ما الله مبديه ،
هل أخفى في نفسه عناداً ومخالفة ؟
لا ، لكنه أخفاه تحرياً للمصلحة ومع ذلك نُهي عن هذا ،
فالحاصل : أنهم عليهم الصلاة والسلام لا يُمنعون من وقوع صغائر الذنوب لكن لا يفعلونها كما يفعلها غيرهم تعمداً للمخالفة ولا يُقرون عليها أيضاً ، لا بد أن يُنبهوا عليها حتى يرجعوا إلى الصواب ،
******************
146 – وجائزٌ في حق كل الرسل ،
النوم والنكاح مثل الأكل ،
فهمنا الممتنع في حقهم انتقل المؤلف من الممتنع في حقهم إلى الجائز ،(125/168)
والجائز في حقهم هي الطبائع البشرية ، الطبائع البشرية يستوون فيها مع الناس ،
ولهذا قالوا للمكذبين : { إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده } ( إبراهيم 11 ) ، وقال خاتمهم محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم : ( إنما أنا بشرٌ مثلكم أنسى كما تنسون ) [258] ، هذه طبيعة بشرية يأكل كما نأكل يشرب كما نشرب يتقي البرد كما نتقيه يتقي الحر كما نتقيه يلبس الدروع في الحرب كما نلبسها ،
وهكذا فالطبائع البشرية جائزة في حق الرسل ،
ولهذا قال : ( وجائزٌ في حق كل الرسل النوم ) لكن قد يختصون بخصائص في النوم :
منها : اختصاص النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه ،
فالإحساس الظاهري منه ينام كغيره والباطن لا ينام لا ينام فقلبه دائماً مشغول بذكر الله عز وجل وبغير ذلك مما أراد الله سبحانه وتعالى ولكنه لا ينام ،
قوله : ( والنكاح ) : جائز في حقه أن يتزوج ،
والزواج هنا شرعي أم زواج خِلقي ؟
الثاني ،
أما شرعاً : فإنهم مأمورون بذلك مشرِّعون للأمة ، { ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية } ( الرعد 38 ) .
قوله : ( مثل الأكل ) : الأكل أيضاً من الأمور الجائزة ،
فلا يُعاب على الرسول إذا أكل أو شرب أو التحف أو ما أشبه ذلك هذه من الأمور الجائزة ،
فكل الأمور البشرية جائزة عليهم ،
بقي الشيء الواجب ،
الشيء الواجب الدعوة إلى الله عز وجل إبلاغ الرسالة الذللأمة ،
يجب عليهم من ذلك ما لا يجب على غيرهم ،
فهم مُلزمون بالبلاغ بكل حال مُلزمون بالدعوة بكل حال مُلزمون بالجهاد من أُمر منهم بالجهاد ،
ووجوب هذه الأشياء عليهم أوكد من وجوبها على غيرهم ،
ولهذا نقول : الأمور المسنونة يجب على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغها ،
يجب أن يبلغها ويجب أن يفعلها ليقتدي به الناس وإن كانت أموراً مسنونة فإذا كان البلاغ لا يحصل إلا بفعلها وجب على الرسول أن يفعلها لوجوب البلاغ عليه ،(125/169)
ممتنع في حقهم دعوى الألوهية أو دعوى الربوبية ،
ولهذا لما قال الله تعالى لعيسى : { أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم } ( 116 – 117 ) .
هل يجب عليهم الموت ؟ هل يجوز على النبي أن يموت ؟
يجوز شرعاً وواقعاً :
قال الله تعالى : { إنك ميت وإنهم ميتون } ( الزمر 30 ) .
وقال تعالى : { ما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } ( الأنبياء 34 ) .
وقال تعالى : { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } ( آل عمران 144 ) ، { أفإن مات } : يعني ميتة طبيعية ، { أو قتل } ، فمات بسبب القتل ،
إذن هو ميت ،
فإذا قال إنسان : كيف تكون الرسل أمواتاً والشهداء وهم دونهم أحياء ، كما قال تعالى : { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } ( آل عمران 169 ) ؟
نقول : هذه الحياة التي للشهداء يكون للأنبياء والرسل أعظم منها ،
لكنها حياةٌ برزخية لا حياة دنيا ولا حياة جسم ،
إنما هي حياةٌ برزخية الله أعلم بكيفيتها ،
ولكن الخرافيين يأبون إلا أن يقولوا : إنها حياةٌ حقيقية ،
فنقول لهم : إن قلتم ذلك فأنتم أشد الناس تقصيراً في حق النبي ،
لأن الواجب عليكم إذا كنتم تعتقدون هذا أن تذهبوا إليه بأكلٍ وشرب لأنه محتاج أليس كذلك ؟
لو أن شخصاً في القبو في خندق ونتركه مئات السنين هل نحن مقصرون في حقه أو قائمون بحقه ؟
مقصرون ،
فنقول : إذن يلزمكم كل يوم أن تذهبوا بفطور في الصباح وغداء بعد الظهر وعشاء في الليل وتجعلون عنده دورة من زمزم من أجل أن يشرب ،
وهذا هو ما فعله الرافضة فيما يعتقدونه المهدي الذي سيخرج في آخر الوقت إذا تسنى له الخروج ،(125/170)
يقول السفاريني في شرح العقيدة رحمه الله إنهم كانوا في صباح كل يوم يذهب واحدٌ منهم على فرس مسرج وبيده رمح ومعه ماء وعسل وخبز كل صباح حتى ترتفع الشمس وييأس من خروجه إلى الفطور ثم بعد ذلك يرجع وفي الصباح مثله كل يوم ، لماذا يأتي بهذا ؟ قال : لأجل إذا خرج من السرداب وجد الفطور جاهزاً والرمح جاهزاً فأفطر ثم ركب الفرس ودعا إلى الجهاد ،
عقول سخيفة نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العافية ويعافينا مما ابتلاهم به ويعافيهم مما ابتلاهم به ،
فالحاصل : أن حياة الأنبياء في قبورهم وحياة الرسل في قبورهم أكمل من الشهداء بلا شك لأنهم أفضل عند الله ،
ولكن هل هذه الحياة حياةٌ دنيوية أو برزخية لا نعلمها ؟
الثاني هو المتعين ،
وإلا لوجب علينا أن نأتي بالطعام والشراب إلى النبي عليه الصلاة والسلام كل يوم ،
- التورية للظالم حرام بالإجماع وللمظلوم جائزة [259] أظنها بالإجماع أظنها ولا أدري ،
ولمن ليس بظالم ولا مظلوم فيها خلاف :
1 - بعض العلماء يقول : حرام ،
لأن الإنسان يُتهم ويجر على نفسه التهمة ،
2 - وبعضهم يقول : ليست بحرام [260] ،
والراجح أنها حرام إلا لحاجة [261] ،
لأن الإنسان لو أجزنا له التورية كل ما شاء صار كل كلامه تورية وصار الناس لا يثقون به أبداً ،
الرسل عليهم الصلاة والسلام يمتازون عن غيرهم في الأمور المستحيلة والجائزة والواجبة ،
الأسئلة
السؤال : قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } ( الحج 52 ) ، فما الدليل على أنه ( كلمة غير واضحة ) رسول ؟
الجواب : هذه الآية : { وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي } ،
العلماء يقولون : إن هذا على تقدير : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبَّأنا من نبي ) ،
لأن الوصف يدل على العامل ،
فالرسول يدل على أن هناك إرسال ،
والنبي يدل على أن هناك إنباءٌ ،
فالوصف دالٌّ على العامل المحذوف الذي عَمِلَ فيه ،
وعلى هذا قول الشاعر [262] :(125/171)
علفَّتها تبناً وماءاً باردا [263]
ليس المعنى : وعلفَّتها ماءاً بارداً ،
الماء البارد لا يُعلف ،
لكن المعنى : وسقيتها ماءاً بارداً ،
السؤال : ثبت في السنة أن آدم عليه السلام كان نبياًّ وقد ذُكر في القرآن وأنتم قلتم حفظكم الله أن كل من ذُكر في القرآن رسول ؟
الجواب : هل ذُكر في القرآن بوصف نبي ؟
لا ، مريم مذكورة في القرآن وفرعون في القرآن قارون في القرآن ، ما من نبيِّ ذُكر في القرآن إلا وهو رسول ،
السؤال : يعني آدم نبي رسول ؟
الجواب : لا ، آدم يُرسل إلى من ؟
أولاده جاءوا من بعده ،
وأول الرسل في القرآن نوح ، { إنا أوحينا إليك كما أوحينا نوح والنبيين من بعده } ( 163 ) ، { ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما الكتاب والنبوة } ( الحديد 26 ) .
فالنبوة ما خرجت عن ذرية نوح عليه الصلاة والسلام ،
السؤال : هل إذا فضلنا بعض الرسل على بعض يكون بعضهم أكمل إيماناً من الآخر وهل منازلهم في السماء على حسب منازلهم في الفضيلة ؟
الجواب : نقول : التفضيل يقتضي أن بعضهم أفضل من بعض في الإيمان وفي الأعمال الصالحة أيضاً ،
ودليل ذلك : قوله تعالى : { إن أكرمكم عند الله } ( الحجرات 13 ) .
فدل هذا على أن الكرم عند الله بالتقوى ولا شك أنه قد جرى لبعض الأنبياء من المحن ما لم نجد لغيره أي محنةٍ قيلت أو حصلت لإنسان ،
مثل ما حصل لإبراهيم عليه السلام في إلقائه في النار ،
بناءاً على التوحيد وما يدعو إليه من التوحيد وفي ذبح ولده ،
هذه محنة عظيمة يعني يُلقى في النار يراها أمامه تضطرم ويصبر على ذلك على إخلاصه هذا شيء عظيم يُقال اذبح ولدك وقد بلغ معه السعي وليس عنده غيره فيمتثل ويستسلم والولد قد بلغ معه السعي ليس صغيراً لا يُلتفت له وليس كبيراً قد بان من أبيه يعني صار يافع صار يافعاً أكبر ما تتعلق به النفس بمثل هذه السن ثم يقال اذبح ولدك هذه محنة عظيمة من يصبر عليها ؟(125/172)
ثم إنه قد يفضل النبي غيره بكثرة أتباعه ،
لأن أتباعه كلما عملوا عملاً صالحاً فإنه له مثل أجورهم ،
أما المقام في السماوات فإن نوحاً لم يُذكر ، لم يُذكر في المعراج إطلاقاً ،
هارون في السماء الخامسة وموسى في السادسة ،
ومعلوم أن موسى أفضل من هارون ، يحيى وعيسى ابنا الخالة في سماءٍ واحدة ،
- أفضل البشر من حيث الجنس : الرسل ثم الأنبياء ثم الصديقون ثم الشهداء ثم الصالحون ،
هذا من حيث الجنس ،
أما بالتعيين فأفضل البشر محمدٌ صلى الله عليه وآله وسلم ،
الدليل قوله : ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) [264] ، هذا دليل قولي ،
والدليل الفعلي : أنه صلى بالأنبياء إماماً لهم في ليلة الإسراء [265] ،
- هل الأفضل الرسول أم النبي ؟
الرسول يقولون : إنه خادم ، والنبي يقولون : إنه عالم ، والولي يقولون : إنه ولي موالي [266] ،
ويقول قائلهم [267] :
مقام النبوة في برزخٍ ،
فُوَيْقَ الرسول ودون الولي [268] ،
هذا القول كفر ،
ونقول لهم : إن الرسول جمع بين النبوة والولاية فهو أفضل الأولياء ،
والنبي جمع بين الولاية والنبوة ،
فهو في الدرجة الثانية بعد الرسالة ،
والولي فاتته النبوة والرسالة فليس له فضل إلا والولاية ،
لكن أولئك والعياذ بالله يرون أن من يزعمونهم الأولياء أشرف البشر [269] ،
ولهذا قد تصل بهم الحال إلى عبادتهم وهي اعتقاد أنهم يدبرون الكون تدبيراً كاملاً ،
مثل بعض مشائخ الصوفية الغالين وغيرهم أيضاً ،
السؤال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ما يسلم علي امرئ إلا رد علي روحي لأرد عليه السلام ) [270] ؟
الجواب : هذه ليست كردِّها في الدنيا هذه حياة برزخية هذا ظاهر الحديث أنه تُرد روحه جسمه ،
السؤال : قوله تعالى : { بل رفعه الله إليه } ( النساء 158 ) ، هل هذا الرفع مستمر ؟
الجواب : نعم مستمر إلى آخر الزمان ،(125/173)
- قوله تعالى : { إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي } ( آل عمران 55 ) .
فهل الوفاة هنا وفاة نوم أو وفاة موت ؟
هذا فيه خلاف ،
والأظهر : أنها وفاة نوم ، ءوأن الله تعالى حين رفعه أنامه حتى رفعه إلى السماء ثم صار حياً ،
هذا هو الظاهر ،
وفي آخر الزمان ينزل إلى الدنيا ،
السؤال : يونس عليه الصلاة والسلام قال الله تعالى فيه : { وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر } ( الأنبياء 87 ) ، فهل يجوز مثل هذا الظن من الرسل ؟
نقول : ما معنى { نقدر } ؟ ما معناها ؟
{ ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله } ( الطلاق 7 ) : أي تضييق ، فظن أنه بخروجه هذا أنه يجد سعة عما كان عليه في الأول فظن ذلك ولكن الله تعالى أراه أنه في قبضته عز وجل وضيَّق عليه أكثر من ذي قبل ، في بطن الحوت ، { فلولا أنه كان من المسبحين ، للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } ( الصافات 143 – 144 ) .
السؤال : بعض الصوفية يقولون أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اجتهد لا يخطئ ؟
الجواب : أنا أقدر أرد عليهم ولكن يرد عليهم الله : { عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين } ( التوبة 43 ) .
هل فعل هذا اجتهاداً أو إرادةً لم لا خير فيه ؟ هل الرسول لما أذن لهؤلاء هل فعل ذلك اجتهاداً منه ؟ أو إرادة لما المصلحة في خلافه ؟
{ حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا } ( يوسف 110 ) ، فيها إشكال : { أنهم قد كذبوا } : يعني أُرسلوا بالكذب كُذب عليهم في الرسالة كُذبوا في الوعد بالنصر ما المعنى ؟
نقول : فيها قراءتان :
1 - { وظنوا أنهم قد كُذِّبوا } ،
وعلى هذا يكون الظن هنا بمعنى اليقين ،
مثل : { الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم } ( البقرة 46 ) .
2 - وعلى قراءة : { قد كذبوا } .
يكون المعنى : أن قومهم الذين اتبعوهم وصدَّقوهم قد كذبوهم فيما قالوا إننا مصدِّقون يعني أنهم نافقوا أمامهم ،(125/174)
هذا هو معنى الآية الكريمة وليس المعنى أن الله قد كذبهم في الوحي أو كذبهم في النصر ،
---
[1] - كتاب الإيمان لشيخ لإسلام ابن تيمية ص 396 ،
[2] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 94 ) ( 7 / 5 – 13 ، 154 – 157 ، 162 ، 238 ، 270 – 271 ، 329 – 330 ، 357 – 380 ، 409 – 415 ، 424 – 428 ، 472 ، 474 – 476 ، 551 – 553 ، 555 ، 575 – 576 ، 635 – 636 ) ( 8 / 315 – 316 ) ( 18 / 275 ) ،
[3] - أخرجه مسلم ( 8 ) ،
[4] - كتاب الإيمان ص 1 - 3 ، 195 ،
[5] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 7 / 238 ، 474 – 475 ) ( 35 / 128 ) وكتاب الإيمان ص 225 وما بعدها ،
[6] - كتاب الإيمان ص 274 وما بعدها وتهذيب اللغة للأزهري ( 15 / 510 ) ،
[7] - طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية للنسفي ص 16 ،
[8] - الفروع لابن مفلح ( 2 / 316 ) والإنصاف للمرداوي ( 3 / 3 ) ،
[9] - بدائع الصنائع للكاساني ( 1 / 3 ) والمجموع شرح المهذب للنووي ( 1 / 123 ) وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد ( 1 / 155 ) والإنصاف للمرداوي ( 1 / 19 ) وشرح البهجة لزكريا الأنصاري ( 1 / 12 ) والبحر الرائق لابن نجيم ( 1 / 8 ) ومواهب الجليل للحطاب ( 1 / 43 ) والموسوعة الفقهية ( 29 / 91 ) ،
[10] - طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية للنسفي ص 4 ،
[11] - طلبة الطلبة في الاصطلاحات الفقهية للنسفي ص 27 ،
[12] - البحر الرائق لابن نجيم ( 1 / 330 وما بعدها ) ،
[13] - أخرجه مسلم ( 35 ) ،
[14] - أخرجه مسلم ( 8 ) ،
[15] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 10 / 439 ) ( 11 / 404 ) ( 35 / 37 ) يراجع برنامج جامع الفقه الإسلامي ،
[16] - فتح الباري لابن حجر ( 1 / 48 – 53 ) ،
[17] - النونية ( 1/ 71 ) شرح ابن عيسى ،
[18] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 16 / 498 – 499 ) والرد على المنطقيين ص 145 ،(125/175)
[19] - كتاب الإيمان ص 122 – 163 ، 178 وشرح العقيدة الطحاوية ص 331 وما بعدها وكتاب الإيمان ص 122 – 163 ولوامع الأنوار البهية للسفاريني ( 1 / 426 ) ،
[20] - أخرجه مسلم ( 82 ) ،
[21] - أخرجه الترمذي ( 2951 ) وقال : هذا حديث حسن صحيح ،
[22] - اقتضاء الصراط المستقيم ( 1 / 376 ) وفتح الباري لابن رجب ( 1 / 5 ) ،
[23] - كتاب الإيمان ص 114 وما بعدها ،
[24] - الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ ابن عثيمين ( 2 / 26 - 34 ) ،
[25] - الشرح الممتع على زاد المستقنع للشيخ ابن عثيمين ( 6 / 7 – 9 ) ،
[26] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 3 / 177 ، 222 – 223 ) ( 7 / 505 ، 647 ، 672 ) ( 11 / 138 ) ( 12 / 474 – 475 ) ( 13 / 50 – 51 ، 55 ) وكتاب الإيمان ص 210 ،
[27] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 7 / 546 ) وكتاب الإيمان ص 210 ،
[28] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 7 / 223 ، 510 ) ،
[29] - كتاب الإيمان ص 163 ، 222 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 7 / 563 ) ،
[30] - أخرجه مسلم ( 2750 ) ،
[31] - كتاب الإيمان ص 257 ،
[32] - أخرجه البخاري ( 298 ) .
[33] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 6 / 479 ) ،
[34] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 10 / 658 – 659 ) ،(125/176)
[35] - هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان التنوخي المعري اللغوي الشاعر ، صاحب التصانيف المشهورة ، والزندقة المأثورة ، أصيب بالعمى في أول عمره بسبب الجدري ، فكان أعمى البصر والبصيرة ، وألف كتاباً يعارض فيه القرآن ، والمعري نسبة إلى معرة النعمان ، وهي مدينة قديمة مشهورة بين حماة وحلب ، مات سنة 449 هـ ، دمية القصر للباخرزي ( 1 / 157 ) ، العبر للذهبي ( 3 / 218 ) ، البداية والنهاية لابن كثير ( 8 / 197 ) ، المنتظم لابن الجوزي ( 9 / 4619 ) ، انباه الرواة للقفطي ( 1 / 108 ) ، المشترك وضعاً للحموي ( ص 401 ) تاريخ معرة النعمان للجندي ( 1 / 309 ) .
[36] - البيت موجود في : اللزوميات له ( 1 / 369 ) .
[37] - في الواقع أن الأبيات لشخصين قد جمع بينها ، فأما البيتين الأولين فهما لمحمد بن عبد الستار بن محمد العمادي الكَرْدَرِيّ ، شمس الدين الحنفي ، ويعرف بشمس الأئمة ، قد برع في المذهب وأصوله ، وأقرأ في فنون عدة ، وانتهت إليه رياسة الحنفية في زمانه ، فذاع صيته ، وانتشرت تصانيفه ، مات سنة 642 هـ . الجواهر المضية لابن أبي الوفاء ( 3 / 228 ) ، الوافي بالوفيات للصفدي ( 3 / 254 ) ، تاج التراجم لابن قطلوبغا ( ص 276 ) ، شذرات الذهب لابن العماد ( 7 / 376 ) وفيه ( العلماوي ) بدل ( العمادي ) وهو تصحيف .
وأما البيت الأخير فهو لعلم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي المقرئ ـ وهو غير السخاوي المحدث ـ شيخ القراء والأدباء ، شرح الشاطبية فكان سبب شهرتها في الآفاق ، مات سنة 643 هـ ، طبقات القراء لابن الجزري ( 1 / 568 ) ، السير للذهبي ( 23 / 122 ) ، خزانة الأدب للبغدادي ( 2 / 529 ) ، معجم الأدباء للحموي ( 15 / 65 ) .(125/177)
[38] - البيتين للكردري ، في أعلام الموقعين لابن القيم ( 2 / 73 ) ، والتبيان للطيبي ( ص 429 ) ، وتتمته :
هناك مظلومة غالت بقيمتها .
وههنا ظَلَمَتْ هانت على الباري .
ولقد أصاب ابن القيم رحمه الله لما ذكر نسبة التتمة للشافعي بصيغة التمريض ( رُوِيَ ) ، كيف وقد سبقت وفاة الشافعي وفاة المعري بنحو قرنين ونصف !
[39] - البيت للسخاوي ، موجود في الوافي بالوفيات ( 7 / 110 ) ، والغيث المسجم ( 1 / 82 ) كلاهما للصفدي ، مع اختلاف يسير بين لفظ البيت في المرجعين .
وممن رد على هذا البيت أيضاً : محي الدين يوسف بن يوسف ابن الزبلاق أو الزيلاق الشاعر ، ( ت 660 هـ ) ، ببيت مقارب لبيت السخاوي ، كما في التبيان للطيبي ( ص 429 ) ، وأعلام الموقعين لابن القيم ( 2/ 73 ) ، ونسبه القزويني في كتابه آثار البلاد ( ص 273 ) لمحمد بن الحسين الموسوي ، المعروف بالشريف الرضي ، الشاعر الشيعي ( ت 406 هـ ) ، وليس هو في ديوانه .
انظر في ترجمة ابن الزبلاق : العبر للذهبي ( 5 / 262 ) ، وفوات الوفيات للكتبي ( 4 / 384 ) ، وكتاب الحوادث المنسوب لابن الفوطي ( ص 379 ) ، وشذرات الذهب لابن العماد ( 7 / 527 ) ، وفيه : " محمد بن يوسف" ! ، وانظر في ترجمة الموسوي : يتيمة الدهر للثعالبي ( 3 / 155 ) ، والمحمدون من الشعراء للقفطي ( ص 336 ) ، وسير أعلام النبلاء للذهبي ( 17 / 285 ) ، وروضات الجنات للخونساري الشيعي ( 6 / 177 ) .
[40] - أخرجه البخاري ( 6137 ) ،
[41] - أخرجه البخاري ( 298 ) ومسلم ( 80 ) ،
[42] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 7 / 429 ، 666 ، 681 ) ( 18 / 287 – 279 ) وكتاب الإيمان ص 239 وما بعدها ، 397 وما بعدها والاستقامة ( 1 / 150 ) ،
[43] - أخرجه البخاري ( 2509 ) ومسلم ( 2533 ) ،(125/178)
[44] - هذه المسألة في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 78 ، 85 ) ( 7 / 510 ، 655 – 665 ) ( 8 / 422 ) ( 12 / 77 – 78 ) ،
[45] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 6 / 160 ) والتسعينية ( 2 / 427 ) ،
[46] - قال مقيده غفر الله له : ( هذا الكلام ذكره الشيخ رحمه الله في شرحه الأول على العقيدة الواسطية ( 2 / 198 ) الذي شرحه في سنة 1408 هـ ، وقد شَرَحَ ( العقيدة السفارينية ) في سنة 1408 هـ ، ورجع عنه رحمه الله في شرحه الثاني على الأربعين النووية في الشريط الحادي عشر في الوجه الثاني من الشريط عند شرحه للحديث الثالث والعشرون عند قوله صلى الله عليه وسلم : ( والقرآن حجةٌ لك أو عليك ) فقال : ( وكونه في الكتاب المكنون هل معناه أن القرآن كله كتب في اللوح المحفوظ أو أن المكتوب ذكر القرآن وأنه سينزل وسيكون كذا وكذا ؟ الأول ، لكن يبقى النظر : كيف يُكتب قبل أن تخلق السماوات بخمسين ألف سنة وفيه العبارات الدالة على المضي مثل : قوله { وإذ غدوت من أهلك تبوئ للمؤمنين مقاعد للقتال } ، ومثل قوله : { قد سمع الله التي تجادلك } وهو حين كتابته قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة لم يسمع لأن المجادلة ما خلقت أصلاً حتى تسمع مجادلتها ؟ فالجواب أن الله قد علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ كما أنه قد علم المقادير وكتبها في اللوح المحفوظ وعند تقديرها يتكلم الله عز وجل بقوله : { كن فيكون } ، هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مما تطمئن إليه النفس ، وكنت قبلاً أقول : إن الذي في اللوح المحفوظ ذكر القرآن ، لا القرآن ، بناءً على أنه يعرج بلفظ المضي قبل الوقوع ، وأن هذا كقوله تعالى – عن القرآن – : { وإنه لفي زبر الأولين } والذي في زبر الأولين ليس القرآن ، الذي في زبر الأولين ذكر القرآن والتنويه عنه ، ولكن بعد أن اطلعت على قول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى انشرح صدري إلى أنه مكتوبٌ في اللوح(125/179)
المحفوظ ولا مانع من ذلك ، ولكن الله تعالى عند إنزاله إلى محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وسلم يتكلم به ويلقيه إلى جبريل ، هذا قول السلف وأهل السنة في القرآن ) ، وقد شرح الشيخ كتاب ( الأربعين النووية ) مرةً ثانية في دورته الصيفية الأخيرة في سنة 1421 هـ التي قبل وفاته ببضعة أشهر وشرحه موجودٌ منتشر وعدد أشرطته ( 19 شريطاً ) ، والصحيح : ما رجع إليه الشيخ رحمه الله وهو أن القرآن الكريم مكتوبٌ كله في اللوح المحفوظ ، وهذا هو قول أهل السنة والجماعة وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 12 / 126 و 127 ، 15 / 223 ) فاقتضى ذلك التنبيه والتنويه على ذلك ، والله أعلم ) .
[47] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 12 / 138 ، 211 ، 320 ) ( 17 / 55 – 56 ، 85 ) ،
[48] - أخرجه البخاري ( 1425 ) ومسلم ( 19 ) ،
[49] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 7 / 49 ) ،
[50] - أخرجه مسلم ( 130 ) ،
[51] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 10 / 111 – 112 – 120 - 121 ) ،
[52] - أخرجه البخاري ( 5672 ) ومسلم ( 47 ) ،
[53] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 9 / 249 ) ( 28 / 148 ) وشرح العقيدة الطحاوية ص 394 – 395 ،
[54] - ذكر هذا البيت الجويني في لمع الأدلة ص 95 والنسفي في تبصرة الأدلة ( 1 / 184 ) والرازي في أساس التقديس ص 202 والعز بن عبد السلام في الإشارة إلى الإيجاز ص 110 ،
والقاضي عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة ص 226 وزاد فيه : ( فالحمد للمهيمن الخلاق ) ،
وفي المختصر في أصول الدين ( 1/ 216 ) له ضمن رسائل العدل والتوحيد ،
والإيجي في المواقف ص 297 ولكن فيه : ( قد استوى عمرو ) ،
ولم يتعقبه الجرجاني في شرحه له ( 3 / 150 ) ،
وابن القيم في الصواعق المرسلة ( 1 / 359 المختصر ) ولكن بلفظ : ( بشر قد استولى على العراق ) ،
وكلهم ذكروه مجهول النسبة ،(125/180)
ولكن ذكر الزبيدي في شرحه للإحياء ( 2 / 173 ) أنه منسوب إلى الأخطل ،
وأرجع هذا القول إلى الجوهري ،
وفي الصحاح للجوهري ( 6 / 2385 ) لم ينسبه لأحد ! ،
وانظر لسان العرب لابن منظور ( 6 / 447 ) وجعله محقق ديوانه ضمن ما نسب إليه وليس من أصل ديوانه ( ص 557 ) ،
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 5 / 146 ) : (أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى استولى ; إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور :
ثم استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه وقالوا : إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده وقد طعن فيه أئمة اللغة ; وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه ( الإفصاح ) قال : سئل الخليل هل وجدت في اللغة استوى بمعنى استولى ؟ فقال : هذا ما لا تعرفه العرب ; ولا هو جائز في لغتها وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل ) ،
[55] - كتاب الإيمان ص 163 ،
[56] - أخرجه البخاري ( 2343 ) ومسلم ( 57 ) وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث في كتاب الإيمان ص 30 ،
[57] - بغية المرتاد ص 350 – 353 ، 383 ،
[58] - أخرجه البخاري ( 6139 ) ومسلم ( 867 ) ،
[59] - القاموس المحيط للفيروز آبادي ص 318 ،
[60] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 262 ) ،
[61] - أخرجه البخاري ( 1252 ) ،
[62] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 257 ) ،
[63] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 277 – 278 ، 280 – 281 ) ،(125/181)
[64] - أخرجه النسائي ( 2053 ) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي ( 2 / 73 ) برقم 2052 ،
[65] - أخرجه مسلم ( 2870 ) .
[66] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 293 ) وشرح حديث النزول ص 269 وما بعدها ،
[67] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 524 – 525 ) ،
[68] - فتح الباري لابن حجر ( 3 / 233 ، 236 ، 240 ) ،
[69] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 262 ) ،
[70] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 262 – 270 ، 282 – 299 ) ،
[71] - الروح لابن القيم ص 96 .
[72] - ومنهم الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى انظر فتح الباري ( 3 / 233 ، 235 ) ( 11 / 366 ) ،
[73] - أخرجه مسلم ( 2868 ) .
[74] - أخرجه البخاري ( 213 ) ومسلم ( 292 ) ،
[75] - كتاب الإيمان ص 37 ،
[76] - أخرجه ابن أبي عاصم في كتاب الجهاد ( 2 / 582 ) برقم 238 .
[77] - أخرجه البخاري ( 1303 ) ،
[78] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 221 – 226 ) ،
[79] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 468 ) ،
[80] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 227 ) ( 5 / 422 ) ( 17 / 340 – 342 ) وبيان تلبيس الجهمية ( 1 / 55 ) والرسالة التدمرية ص 50 – 51 وكتاب الروح لابن القيم ص 272 وما بعدها وشرح العقيدة الطحاوية ص 391 وما بعدها ،
[81] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 17 / 348 ) وبيان تلبيس الجهمية ( 1 / 55 ) والرسالة التدمرية ص 50 – 51 ،
[82] - أخرجه مسلم ( 920 ) ،
[83] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 3 / 32 – 33 ) ،(125/182)
[84] - أخرجه أبو داود ( 4753 ) وأحمد ( 18063 ) والحاكم في المستدرك ( 37 – 40 ) وصححه ابن القيم في تهذيب السنن ( 4 / 337 ) وقال الحاكم : ( صحيح على شرط الشيخين ) ووافقه الذهبي وقال الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني في أحكام الجنائز ص 159 : ( وهو كما قالا ) ،
[85] - انظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على حقيقة الملائكة في بغية المرتاد ص 229 – 232 ،
[86] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 1 / 105 ، 225 ، 284 ، 294 ، 312 ، 326 ، 332 ، 359 ) ( 2 / 106 – 375 ) ومنهاج السنة النبوية ( 2 / 417 ) ،
[87] - هو برهان الدين إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني المصري المالكي الصوفي الأشعري ، ونسبته إلى لقانه من قرى مصر ، من أبرز علماء الأشاعرة في عصره ، وصاحب نظم جوهرة التوحيد في عقيدة الأشاعرة المشهورة ، وقد ألف عليها ناظمها ثلاثة شروح ، صغير ووسط وكبير ، ثم توالت الشروحات عليها من قبل معتقديها ، مات سنة 1041هـ ، خلاصة الأثر للمحبي ( 1 / 6 ) ، هدية العارفين للبغدادي ( 1 / 30 ) ، شجرة النور الزكية لمخلوف ( 1 / 291 ) ، فهرس الفهارس والأثبات للكتاني ( 1 / 130 ) ، وفي المرجعين الأخيرين إسقاط إبراهيم الثاني ، انظر معجم المؤلفين لعمر كحالة ( 1 / 2 ) ،
[88] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 1 / 105 ، 225 ، 284 ، 294 ، 312 ، 326 ، 332 ، 359 ) ( 2 / 106 – 375 ) ( 10 / 503 ) ( 15 / 57 ) ( 22 / 466 ) ومنهاج السنة النبوية ( 2 / 417 ) وبغية المرتاد ص 223 ،
[89] - أخرجه مسلم ( 2278 ) ،
[90] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 342 ، 343 ، 344 – 350 ، 356 ) ،
[91] - أخرجه أحمد ( 13117 ) ،
[92] - أخرجه مسلم ( 2278 ) ،
[93] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 342 ، 343 ، 344 – 350 ، 356 ) ،
[94] - أخرجه البخاري ( 213 ) ومسلم ( 292 ) ،(125/183)
[95] - انظر رسالة في العقل والنفس ضمن مجموعة الرسائل المنيرية ( 2 / 26 ) ،
[96] - انظر بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 30 ) ،
[97] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 300 – 301 ، 477 ) وفتح الباري لابن حجر ( 6 / 493 – 494 ) ولوامع الأنوار البهية للسفاريني ( 2 / 84 ) ولفضيلة الشيخ العلامة المحدث عبدالمحسن العباد حفظه الله تعالى رسالتان في موضوع المهدي إحداهما بعنوان ( الرد على من كذب الأحاديث الواردة في المهدي ) والثانية بعنوان ( عقيدة أهل السنة والأثر في المهدي المنتظر وهما مطبوعتان في كتاب واحد فننصح بالرجوع إليهما ،
[98] - فتح الباري لابن حجر ( 13 / 108 – 110 ) ،
[99] - فتح الباري لابن حجر ( 6 / 386 ) ( 13 / 106 – 107 ) ،
[100] - أخرجه مسلم ( 2937 ) ،
[101] - بغية المرتاد ص 485 ،
[102] - أخرجه البخاري ( 1783 ) ومسلم ( 2983 ) وانظر بغية المرتاد ص 514 ،
[103] - أخرجه مسلم ( 2937 ) .
[104] - أخرجه مسلم ( 2937 ) ،
[105] - أخرجه الترمذي ( 3169 ) وقال : حديث حسن صحيح ، وأحمد ( 19400 ) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ( 3 / 286 ) برقم 3169 ،
[106] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 3 / 174 – 175 ، 198 – 199 ) ( 6 / 528 – 529 ) ( 12 / 561 ) وجامع الرسائل والمسائل ( 1 / 162 ) ،
[107] - أخرجه البخاري ( 988 ) ومسلم ( 900 ) ،
[108] - أخرجه أبو داود ( 2479 ) وأحمد ( 16463 ) والدارمي ( 2513 ) والبيهقي في السنن الكبرى ( 9 / 17 ) وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل برقم 1208 ،
[109] - أخرجه ابن ماجة ( 4055 ) وأحمد ( 27574 ) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ( 3 / 329 ) برقم 4127 ،
[110] - أخرجه البخاري ( 3329 ) ،
[111] - فتح الباري لابن حجر ( 3 / 4 ) ( 11 / 114 ، 393 ) ،
[112] - فتح الباري لابن حجر ( 8 / 289 ) ( 11 / 367 – 368 ) ،(125/184)
[113] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 16 / 35 ) واختار شيخ الإسلام ابن تيمية أن النفخ ثلاث مرات ،
[114] - دلت النصوص على أن الصعق يقع مرتين انظر كتاب الروح لابن القيم ص 72 ،
[115] - أخرجه البخاري ( 5420 ) ومسلم ( 220 ) ،
[116] - حديث البطاقة أخرجه الترمذي ( 2639 ) وابن ماجة ( 4300 ) وأحمد ( 6955 ) والحاكم ( 1 / 6 – 529 ) وقال : ( صحيح الإسناد على شرط مسلم ) .
وقال الشيخ العلامة محدث العصر محمد ناصر الدين الألباني : ( وهو كما قالا ) ثم قال : ( وفي الحديث دليل على أن ميزان الأعمال له كفتان مشاهدتان وأن الأعمال وإن كانت أعراضاً فإنها توزن والله على كل شيء قدير وذلك من عقائد أهل السنة والجماعة والأحاديث متضافرة إن لم تكن متواترة ) انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 1 / 262 – 263 ) برقم 135 .
وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 301 – 302 ) ،
[117] - شرح العقيدة الطحاوية ص 417 ،
[118] - أخرجه أحمد ( 922 ) ،
[119] - أخرجه البخاري ( 4453 ) ومسلم ( 2849 ) وانظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 2 / 312 ) ،
[120] - وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن أبي العز الطحاوي انظر مجموع الفتاوى ( 4 / 301 ) وشرح العقيدة الطحاوية ص 418 ،
[121] - أخرجه البخاري ( 6043 ) ومسلم ( 2694 ) ،
[122] - وقال بعض العلماء أنه يوزن الجميع صاحب العمل والعمل وصحائف العمل لأن النصوص وردت فيهم جميعاً فلا مانع من القول بها كلها وهو ما رجحه الشيخ حافظ الحكمي رحمه الله تعالى في معارج القبول ( 2 / 848 – 849 ) ،
[123] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 375 ) ،
[124] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 6 / 495 ) ،
[125] - أخرجه البخاري ( 773 ) ومسلم ( 182 ) ،
[126] - فتح الباري لابن حجر ( 11 / 466 ) ،(125/185)
[127] - هذا الحديث أخرجه مسلم ( 2300 ) بلفظ ( عن أبي ذر قال قلت يا رسول الله ما آنية الحوض قال والذي نفس محمد بيده لآنيته أكثر من عدد نجوم السماء وكواكبها ألا في الليلة المظلمة المصحية آنية الجنة من شرب منها لم يظمأ آخر ما عليه يشخب فيه ميزابان من الجنة من شرب منه لم يظمأ عرضه مثل طوله ما بين عمان إلى أيلة ماؤه أشد بياضا من اللبن وأحلى من العسل ) وفي رواية أحمد ( 5877 ) : ( وأطيب من ريح المسك ) .
[128] - أخرجه البخاري ( 6209 ) ومسلم ( 2300 ) ،
[129] - أخرجه البخاري ( 6208 ) ومسلم ( 2292 ) ،
[130] - الروضة الندية شرح العقيدة الواسطية للشيخ زيد بن عبدالعزيز آل فياض ص 339 والتنبيهات السنية على العقيدة الواسطية للشيخ عبد العزيز بن ناصر الرشيد ص 234 – 235 ،
[131] - أخرجه البخاري ( 2992 ) ومسلم ( 1061 ) ،
[132] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 17 / 126 ) وإعلام الموقعين لابن القيم ( 1 / 150 ) ،
[133] - أخرجه البخاري ( 5226 ) ومسلم ( 1960 ) ،
[134] - أخرجه البخاري ( 912 ) ،
[135] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 17 / 126 – 127 ) ( 21 / 419 ) وجواب أهل العلم والإيمان ص 156 ،
[136] - أخرجه الترمذي ( 2443 ) وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 4 / 117 ) برقم 1589 ،
[137] - أخرجه البخاري ( 4463 ) ومسلم ( 2860 ) ،
[138] - هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد الحريري صاحب المقامات والملحة وشرحها ، كان إماماً في النحو واللغة ، مات سنة 516 هـ ، دول الإسلام للذهبي ( 2 / 23 ) المختصر في أخبار البشر للملك أبي الفداء ( 2 / 57 ) ، انباه الرواة للقفطي ( 3 / 25 ) ،
[139] - البيت موجود في : شرح الملحة ( ص 278 ) له ،
[140] - اقتضاء الصراط المستقيم ( 1 / 830 ) والرد على المنطقيين ص 526وما بعدها ،(125/186)
[141] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 1 / 332 ) ( 14 / 386 – 397 ) وكتاب الإيمان ص 74 وما بعدها ،
[142] - معارج القبول للشيخ حافظ الحكمي ( 2 / 886 – 894 ) وشرح العقيدة الواسطية ص 217 للشيخ محمد خليل هراس ،
[143] - الصفدية ( 2 / 290 ) ومختصر الاستغاثة ص 267 – 268 ،
[144] - العقيدة الواسطية ص 36 ، 37 ،
[145] - أخرجه مسلم ( 221 ) ،
[146] - أخرجه البخاري ( 1298 ) ومسلم ( 2931 ) ،
[147] - أخرجه البخاري ( 6171 ) ومسلم ( 2876 ) ،
[148] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 580 ) ،
[149] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 2 / 25 ، 428 ) ( 4 / 261 ) ( 11 / 350 – 351 ) ( 13 / 202 ) ،
[150] - أخرجه البخاري ( 4800 ) ومسلم ( 1453 ) ،
[151] - أخرجه مسلم ( 1453 ) .
[152] - المحلى لابن حزم ( 10 / 202 – 212 ) ،
[153] - وهو قول الزيلعي في تبيين الحقائق ( 2 / 182 ) وسبل السلام للصنعاني ( 2 / 312 – 313 ) ونيل الأوطار للشوكاني ( 6 / 371 – 376 ) ،
[154] - وهو قول البهوتي في كشاف القناع ( 5 / 445 ) والجصاص في أحكام القرآن ( 1 / 559 ) والباجي في المنتقى شرح الموطأ ( 4 / 154 ) والسبكي في الفتاوى ( 1 / 382 ) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 34 / 39 – 41 ، 44 ، 59 – 60 ، 63 ) والفتاوى الكبرى ( 3 / 162 ) وطرح التثريب للعراقي ( 7 / 135 – 136 ) ،
[155] - مختصر فتاوى ابن تيمية ص 450 وإعلام الموقعين لابن القيم (4 / 264 – 265 ) وزاد المعاد لابن القيم ( 5 / 552 ) وشرح النووي على صحيح مسلم ( 10 / 284 ) وإكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض ( 4 / 640 ) والتمهيد لابن عبدالبر ( 8 / 256 – 260 ) والموسوعة الفقهية ( 22 / 245 – 247 ) ،
[156] - جواب أهل العلم والإيمان ص 156 ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 34 / 35 – 42 – 51 – 60 ) ،(125/187)
[157] - أخرجه البخاري ( 4934 ) ومسلم ( 2172 ) ،
[158] - أخرجه مسلم ( 2236 ) ،
[159] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 306 – 307 ) والنبوات ( 2 / 1009 ) ،
[160] - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363 ،
[161] - وهو قول أبي حنيفة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 4 / 234 ) ،
[162] - وهو قول جمهور العلماء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ( 11 / 306 – 307 ) ،
[163] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 233 – 234 ) ،
[164] - وهو قول جمهور العلماء كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى ( 11 / 307 ) والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 363 ،
[165] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 233 – 437 ) ،
[166] - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ( 364 – 365 ) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 13 / 87 ) ،
[167] - وهي رسالة موجودة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية ،
[168] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 63 ) ،
[169] - شرح العقيدة الطحاوية ص 395 – 396 ،
[170] - أخرجه البخاري ( 421 ) ومسلم ( 904 ) ،
[171] - أخرجه مسلم ( 2856 ) ،
[172] - أخرجه مسلم ( 904 – 1496 ) ،
[173] - أخرجه البخاري ( 712 ) ومسلم ( 901 ) ،
[174] - أخرجه البخاري ( 3070 ) ومسلم ( 2395 ) ،
[175] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 77 ) ( 7 / 332 ) ( 18 / 306 ) ،
[176] - أخرجه البخاري ( 4453 ) ومسلم ( 2849 ) .
[177] - عقيدة السلف أصحاب الحديث للصابوني ص 81 ،
[178] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 306 – 307 ) ،
[179] - إيضاح الدلالة في عموم الرسالة ضمن مجموعة الرسائل المنيرية ( 2 / 124 ) ،
[180] - أخرجه البخاري ( 6986 ) ومسلم ( 2751 ) ،
[181] - الموسوعة الفقهية ( 34 / 152 ) ،(125/188)
[182] - أخرجه البخاري ( 2615 ) ومسلم ( 89 ) ،
[183] - الفواكه الدواني للنفراوي ( 1 / 78 ) ،
[184] - الموسوعة الفقهية ( 34 / 151 – 153 ) ،
[185] - المحلى لابن حزم ( 8 / 472 ) وبدائع الصنائع للكاساني ( 6 / 268 ) والبحر المحيط للزركشي ( 6 / 153 – 156 ) والفروق للقرافي ( 1 / 120 – 136 ) ( 4 / 65 – 66 ) والتقرير والتحبير في شرح التحرير لابن أمير الحاج ( 2 / 244 ) والأشباه والنظائر للسيوطي ص 385 – 386 والبحر الرائق لابن نجيم ( 7 / 89 – 90 ) ومغني المحتاج للشربيني الخطيب ( 6 / 344 – 346 ) ونهاية المحتاج للرملي ( 8 / 294 – 302 ) وسبل السلام للصنعاني ( 2 / 552 – 553 ) والموسوعة الفقهية ( 8 / 25 ) ( 27 / 17 – 19 ) ( 34 / 148 – 151 ) ،
[186] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 650 – 660 ) ،
[187] - أخرجه البخاري ( 13 ) ومسلم ( 45 ) ،
[188] - كشاف القناع للبهوتي ( 6 / 115 – 116 ) والفواكه الدواني للنفراوي ( 1 / 78 ) وطرح التثريب للعراقي ( 2 / 266 ) ( 8 / 39 ) وأسنى المطالب لزكريا الأنصاري ( 4 / 359 ) وبريقة محمودية للخادمي ( 3 / 139 ) ،
[189] - لم يعرف قائله ، والبيت ذكر في : أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك (1/ 247) ، وشرح قطر الندى ( ص 131 ) ، وتلخيص الشواهد لابن هشام ( ص 241 ) ، كلهم لابن هشام ، وشرح ابن عقيل على الألفية ( 1 / 274 ) ، وشرح التحفة الوردية لابن الوردي ( ص 171 ) ، والمقاصد النحوية للعيني ( 2 / 20 ) ، وفتح الجليل للعدوي (ص 47 ) ، وتوضيح المقاصد للمرادي ( 1 / 298 ) ، وشرح الأشموني على الألفية ( 1 / 231 ) ، وهمع الهوامع ( 1 / 372 ) ، والمطالع السعيدة ( 1 / 203 ) كلاهما للسيوطي ، والدرر اللوامع للشنقيطي ( 2 / 69 ) ، وشرح الجرجاوي على شواهد ابن عقيل ( ص 47 ) .(125/189)
[190] - هو الصحابي النمر بن تولب العكلي ، أبو قيس رضي الله عنه ، ويقال الذهلي ، كان شاعراً جواداً في الجاهلية والإسلام ، ويسمى الكَيِّسَ ، لحسن شعره ، كتب له النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً ، ويعد من المعمرين ، فلما هرم كان دأبه أن يقول : أصبحوا الراكب ، اغبقوا له ، اقروا الضيف ، انحروا له ، أعطوا السائل ، مات رضي الله عنه نحو 14 هـ . معجم الصحابة لابن قانع ( 3 / 165 ) ، معرفة الصحابة لأبي نعيم الأصبهاني ( 5 / 2706 ) ، الإستيعاب في معرفة الأصحاب لابن عبد البر ( 4 / 92 ) ، أسد الغابة في معرفة الصحابة لابن الأثير ( 5 / 336 ) ، الثقات لابن حبان ( 3 / 423 ) ، طبقات ابن سعد ( 7 / 28 ) ، تهذيب الكمال للمزي ( 30 / 19 ) ، التذكرة بمعرفة رجال الكتب العشرة للحسيني ( 3 / 1782 ) ، خلاصة التذهيب للخزرجي ( 3 / 105 ) ، كتاب المعمرين لأبي حاتم السجستاني ( ص 87 ) ، التذكرة الحمدونية لابن حمدون ( 3 / 255 ) ، الأسماء المبهمة للخطيب ( 314 ) ، سؤالات أبي حاتم للأصمعي في فحولة الشعراء ( ص 68 ) ، طبقات فحول الشعراء لابن سلام ( 1 / 164 ) ، اختيار الممتع للنهشلي ( 1 / 329 ) ، سر صناعة الإعراب لابن جني ( 1 / 423 ) ، كنى الشعراء لابن حبيب ( 2 / 317 _ ضمن نوادر المخطوطات ) ، الدرر اللوامع للشنقيطي ( 2 / 22 ) ، ويرى ابن حجر أن هناك شاعر آخر بنفس اسم الصحابي ، استناداً إلى ما ذكره ابن حزم في جمهرة أنساب العرب ( ص 199 ) ، انظر الإصابة ( 6 / 470 ) ، تهذيب التهذيب ( 10 / 474 ) ، والتقريب ( ص 1008 ) ، وفي التهذيب ( الديلي ) بدل ( الذهلي ) ، وهو تصحيف ، ولم يتعقبه السهارنفوري في كتابه : " تصويب التقليب الواقع في تهذيب التهذيب"، وفي تاريخ التراث العربي لفؤاد سزكين ( 2 / 2 / 198 ) : ( نكل ) بدل ( عكل ) وهو تصحيف .(125/190)
[191] - البيت موجود في : ديوان الحماسة للبحتري ( ص 149 ) ،كتاب سيبويه ( 1 / 86 ) ، شرح أبيات سيبويه للشنتمري ( 1 / 90 ) ، المقاصد النحوية للعيني ( 1 / 565 ) ، المؤتلف والمختلف للآمدي ( ص 25 ) ، التمثيل والمحاضرة ( ص 56 ) ، وثمار القلوب ( 2 / 912 )كلاهما للثعالبي مع نسبته له في الأول ، أمالي ابن الحاجب ( 2 / 749 ) ، ما يجوز للشاعر في الضرورة للقزاز ( ص 166 ) ، شرح الإختيارات للتبريزي ( 3 / 1357 ) ، تلخيص الشواهد لابن هشام ( ص 193 ) ، همع الهوامع للسيوطي ( 1 / 327 ) ، العقد الفريد لابن عبدربه ( 3 / 59 ) ، ذخائر العقبى للطبري ( ص 307 ) ، المطالع السعيدة للسيوطي ( 1 / 184 ) ، شرح التحفة الوردية لابن الوردي ( ص 143 ) .
[192] - أخرجه البخاري ( 5638 ) ومسلم ( 2556 ) ،
[193] - التحفة العراقية ص 399 ،
[194] - أخرجه البخاري ( 773 ) ومسلم ( 182 ) ،
[195] - بغية المرتاد ص 530 ،
[196] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 6 / 488 ) وبيان تلبيس الجهمية ( 1 / 349 – 366 ) ( 2 / 78 وما بعدها ) وبغية المرتاد ص 344 ، 470 وحادي الأرواح ص 373 وما بعدها لابن القيم وشرح العقيدة الطحاوية ص 193 ،
[197] - بغية المرتاد ص 471 وما بعدها ،
[198] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 553 ) ،
[199] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 6 / 486 – 502 ) وأحكام القرآن للشافعي ( 1 / 40 ) ،
[200] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 409 ) وبغية المرتاد ص 451 – 466 وحادي الأرواح لابن القيم ص 373 ،(125/191)
[201] - هو أبو عبدالله محمد التاودي بن محمد الطالب بن سودة المري الفاسي ، إمام فقهاء المغرب ، قد حاز الرياسة فيها ، وكان خاتمة شيوخ فاس ، مات سنة 1209 هـ وقد جاوز التسعين ، شجرة النور الزكية في طبقات المالكية لمخلوف ( 1 / 372 ) ، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى للناصري ( 8 / 96 ) ، فهرس الفهارس والأثبات للكتاني ( 1 / 256 ) ، وفي شجرة النور الزكية ( المزي ) بالزاي وهو تصحيف ،
[202] - النظم موجود في : نظم المتناثر من الحديث المتواتر لابن جعفر ( ص 18 ) نقلاً من كتاب التاودي " زاد المجد الساري " وهو حاشية على صحيح البخاري ، طبع قديماً في فاس ، معجم المطبوعات لسركيس ( 2 / 1643 ) ،
[203] - أخرجه البخاري ( 100 ) ومسلم ( 2673 ) ،
[204] - قال الحافظ ابن حجر ( فوصف الرسالة يستلزم وصف النبوة ) انظر فتح الباري ( 1 / 118 ) ( 12 / 314 ) ،
[205] - جامع البيان للطبري ( 11 / 28 ) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 396 ) ( 18 / 266 - 267 ) ،
[206] - أخرجه البخاري ( 4163 ) ،
[207] - بغية المرتاد ص 392 ،
[208] - الصفدية ( 1 / 229 ) ،
[209] - سلسة الأحاديث الصحيحة ( 6 / 363 – 369 ) للشيخ العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله تعالى ،
[210] - أخرجه أحمد ( 21036 ) ،
[211] - أخرجه البخاري ( 3162 ) ومسلم ( 194 ) ،
[212] - البداية والنهاية لابن كثير ( 1 / 92 وما بعدها ) وشرح مختصر خليل للخرشي ( 1 / 30 ) ويراجع تهذيب الأسماء واللغات للنووي وشرح القسطلاني على صحيح البخاري عند شرح حديث الشفاعة للأهمية ،
[213] - أخرجه البخاري ( 3503 ) ومسلم ( 2404 ) ،
[214] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 170 ) ،
[215] - أخرجه البخاري ( 328 ) ومسلم ( 521 ) ،(125/192)
[216] - أخرجه الترمذي ( 2670 ) وأحمد ( 21855 ) وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 4 / 216 ) برقم 1160 ،
[217] - أخرجه البخاري ( 5378 ) ومسلم ( 220 ) ،
[218] - أخرجه مسلم ( 50 ) ،
[219] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 17 / 529 ) ،
[220] - أخرجه البخاري ( 4163 ) ،
[221] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 14 / 472 ) ،
[222] - وهو قول مجاهد وغيره ، انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي ( 10 / 201 ) ،
[223] - قال تعالى : { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولاً نبيا ، وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة وكان عند ربه مرضيا ، واذكر في الكتاب ادريس إنه كان صديقا نبيا } ( مريم 54 – 56 ) .
[224] - فتح الباري لابن حجر ( 6 / 582 ) ( 9 / 7 ) ،
[225] - مجموعة الرسائل والمسائل ( 4 / 153 ) ،
[226] - وهو قول أبي بكر الباقلاني ، النبوات ( 1 / 225 ) ،
[227] - هو شمس الدين محمد بن عبد القوي بن بدران المقدسي المرداوي الحنبلي ، الفقيه ، المحدث ، النحوي ، الشاعر ، كان حسن الديانة كثير الإفادة ، برع في العربية واللغة ، ودرس ، وأفتى ، وصنف ، ومن تصانيفه " منظومة الآداب " ، ومن أشهر من شرحها العلامة السفاريني ، وهي القصيدة الدالية الطويلة في الفقه ، وممن قرأ عليه في العربية شيخ الإسلام ابن تيمية ، مات سنة 699هـ . المقصد الأرشد لابن مفلح ( 2 / 459 ) ، المنهج الأحمد للعليمي ( 4 / 357 ) ، الذيل على طبقات الحنابلة لابن رجب ( 2/ 342 ) ، برنامج الوادي آشي لابن جابر ( ص 123 ) ، درة الحجال للمكناسي ( 2 / 260 ) ، الوافي بالوفيات للصفدي ( 3 / 278 ) ، بغية الوعاة للسيوطي ( 1 / 161 ) ، العبر للذهبي ( 5 / 403 ) .(125/193)
[228] - البيت موجود في : الآداب الشرعية لابن مفلح ( 3 / 560 ) ، وهو غير موجود في ( منظومة الآداب ) للناظم بشرح السفاريني ( طبعة دار الكتب العلمية ، وطبعة ... ) ، فلعلها سقطت من الطابع أو من نسخة الشارح ، والله اعلم .
[229] - أخرجه أحمد ( 24080 ) ،
[230] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 27 / 394 ) ،
[231] - أخرجه البخاري ( 342 ) ومسلم ( 164 ) ،
[232] - أخرجه مسلم ( 162 ) ،
[233] - أخرجه البخاري ( 3060 – 3062 ) ،
[234] - أخرجه البخاري ( 3673 ) ومسلم ( 170 ) ،
[235] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 12 / 492) ( 27 / 388 ) ،
[236] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 6 ، 25 ، 31 ) ( 24 / 173 ) ( 27 / 388 ) والرد على البكري ص 329 ، 330 ،
[237] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 25 / 285 ) ،
[238] - أخرجه البخاري ( 4 ) ومسلم ( 160 ) .
[239] - أخرجه البخاري ( 6588 ) ومسلم ( 2263 ) ،
[240] - مجموعة الرسائل والمسائل ( 1 / 144 ) ،
[241] - البداية والنهاية ( 6 / 331 ) .
[242] - الجواب الصحيح ( 6 / 324 وما بعدها ) ،
[243] - البداية والنهاية ( 6 / 76 وما بعدها ) ،
[244] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 280 ) والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 315 ٍ،
[245] - أخرجه مسلم ( 2278 ) ،
[246] - منهاج السنة النبوية ( 2 / 417 ) والرد على البكري ص 329 – 330 ،(125/194)
[247] - هو برهان الدين إبراهيم بن إبراهيم بن حسن اللقاني المصري المالكي الصوفي الأشعري ، ونسبته إلى لقانه من قرى مصر ، من أبرز علماء الأشاعرة في عصره ، وصاحب نظم جوهرة التوحيد في عقيدة الأشاعرة المشهورة ، وقد ألف عليها ناظمها ثلاثة شروح ، صغير ووسط وكبير ، ثم توالت الشروحات عليها من قبل معتقديها ، مات سنة 1041هـ ، خلاصة الأثر للمحبي ( 1 / 6 ) ، هدية العارفين للبغدادي ( 1 / 30 ) ، شجرة النور الزكية لمخلوف ( 1 / 291 ) ، فهرس الفهارس والأثبات للكتاني ( 1 / 130 ) ، وفي المرجعين الأخيرين إسقاط إبراهيم الثاني ، انظر معجم المؤلفين لعمر كحالة ( 1 / 2 ) ،
[248] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 17 / 17 ) ،
[249] - أخرجه البخاري ( 6398 ) ،
[250] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 188 – 189 ) ( 14 / 432 ) ،
[251] - قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( ومحمد وإبراهيم أفضل الرسل ) النبوات ( 1 / 209 ) ،
[252] - وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى ( 27 / 101 ) ،
[253] - النبوات ( 2 / 714 – 717 ) وشرح العقيدة الطحاوية ص 158 ،
[254] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 7 / 10 ) ( 10 / 290 ) ( 11 / 226 ) ( 18 / 7 ) والنبوات ( 2 / 717 ) سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 6 / 363 – 369 ) للعلامة الألباني رحمه الله تعالى ،
[255] - أخرجه البخاري ( 3179 ) ومسلم ( 2371 ) ،
[256] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 19 / 158 – 159 ) ( 22 / 233 ) ( 30 / 394 ) ،
[257] - منهاج السنة النبوية ( 1 / 470 – 474 ) والجواب الصحيح ( 6 / 298 – 299 ) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 319 – 320 ) ( 10 / 392 – 393 ، 309 ) ( 15 / 148 – 150 ) والنبوات ( 2 / 873 ) وبغية المرتاد ص 496 – 501 والرد على البكري ص 151 ، 371 وأضواء البيان للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ( 4 / 522 – 538 ) ،(125/195)
[258] - أخرجه البخاري ( 392 ) ومسلم ( 572 ) ،
[259] - الفروع لابن مفلح ( 6 / 476 ، 563 ) والآداب الشرعية لابن مفلح ( 1 / 20 – 22 ) والإنصاف للمرداوي ( 11 / 253 ) وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ( 3 / 524 ) وكشاف القناع للبهوتي ( 6 / 338 ) وغذاء الألباب للسفاريني ( 1 / 139 – 140 ) ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 6 / 518 ) ونيل الأوطار ( 7 / 302 ) والموسوعة الفقهية ( 5 / 295 ) ،
[260] - أحكام القرآن للجصاص ( 3 / 285 ) وأدب الدنيا والدين للماوردي ص 265 – 266 ،
[261] - وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية مجموع الفتاوى ( 19 / 158 – 159 ) ( 22 / 233 ) ( 30 / 394 ) وإعلام الموقعين لابن القيم ( 3 / 183 ، 283 ) ،(125/196)
[262] - البيت لم يعرف قائله ، وكل من استشهد به من أهل العلم ذكروه بلا نسبة ، كالأنباري في الإنصاف ( 2 / 613 ) ، والسيوطي في كتابيه شرح الشواهد ( 2 / 929 ) ، وهمع الهوامع ( 3 / 159 ) ، والمرادي في توضيح المقاصد ( 2 / 101 ) و ( 3 / 237 ) ، والرضى في شرح الكافية ( 2 / 36 ) ، والمكودي في شرحه على الألفية ( ص 232 ) ، وابن هشام في كتابيه المغني ( 2 / 727 ) ، وشرح شذور الذهب ( ص 263 ) ، وابن منظور في اللسان ( 11 / 276 ) مادة ( قلد ) ، وابن الشجري في أماليه ( 3 / 83 ) ، وابن يعيش في شرح المفصل ( 2 / 9 ) ، وابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن ( ص 213 ) ، وابن جني في الخصائص ( 2 / 431 ) ، والتبريزي في شرح الاختيارات ( 1 / 228 ) ، والجوهري في الصحاح ( 2 / 527 ) مادة ( قلد ) ، وأبي علي الفارسي في إيضاح الشعر ( ص 573 ) ، وأبي حيان في ارتشاف الضرب ( 3 / 1491 ) ، والجرجاوي في شرحه على شواهد ابن عقيل ( ص 119 ) ، والأشموني في شرحه على الألفية ( 1 / 499) ، والطيبي في التبيان ( ص 407 ) ، والمرزوقي في شرح الحماسة ( 3 / 1147 ) ، والعلائي في الفصول المفيدة ( ص 202 ) ، وابن أبي الأصبع في تحرير التحبير ( ص 465 ) ، وذكر العيني في المقاصد النحوية ( 3 / 101 ) و ( 4 / 181 ) أنه مشهور عند القوم ، ولم ير أحداً عزاه إلى قائله ، وقال العدوي في فتح الجليل ( ص 119 ) : أنه لا يعرف قائله ، وكذلك الشنقيطي كما في الدرر اللوامع ( 6 / 80 ) ، وذكر عبدالقادر البغدادي في خزانة الأدب ( 1 / 499 ) أنه نسب إلى ذي الرمة ، ولكنه فتش عنه في ديوانه فلم يجده ، وجعله محقق ديوانه د . عبد القدوس ضمن ما نسب إليه وليس من أصل ديوانه ( 3 / 1862 ) ، وذكر الفراء في معاني القرآن ( 1 / 14 ) أنه لبعض بني أسد ، وتارة أنه لبعض بني دبير ، في ( 3 /124 ) .(125/197)
[263] - وعجزه : "حتى شتت همالةً عيناها " ، ويروى : ( غدت ) بدل : ( شتت ) ، كما في شرح المكودي ، وشرح شذور الذهب لابن هشام ، وشرح الجرجاوي ، ومعناهما واحد ، وأورد له البعض صدراً ، وجعلوا المذكور عجزاً هكذا :
لما حططت عنها الرحل واردا ،
علفتها تبنا وماءاً باردا ،
كما في الخزانة .
[264] - أخرجه ابن ماجة ( 4308 ) وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ( 4 / 99 ) برقم 1571 ) ،
[265] - أخرجه النسائي ( 450 ) ،
[266] - انظر نحو هذا الكلام والرد عليه في بغية المرتاد ص 496 والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 190- 191 ،(125/198)
[267] - هو الحلولي الإتحادي المتهم بالإلحاد والزندقة محمد بن علي الحاتمي المعروف بابن عربي النكرة الذي فاقت مقالاته مقالات الأديان والفرق الخارجة عن الإسلام مجتمعة ، حيث يرى أن الله إنسان كبير ، وأن الله مفتقر إلى خلقه ، وأن كل شيء هو رب وإله ، فيرى أن الطبيعة هي الله ، وأن الكون هو الرب ، وأن الهوى رب أيضاً ، وتمجيده لليهودية عباد العجل ، والنصارى عباد عيسى ، والمجوسية عباد النار ، والوثنية عباد الأصنام، وزعم أنه اجتمع بالأنبياء ، ويرى أنه يتلقى الوحي من الله تعالى ، وقوله بوحدة الأديان ، وأنه يعلم الغيب ، وأن الكعبة طافة به ، ويرى بإيمان فرعون وربوبيته ، ويعتقد بعقيدة التثليث التي اخترعها ، وهي : ( حق - رجل - امرأة ) ، ويرى أن أكمل صورة لله هي المرأة ، ويرى أن الأنوثة صفة الإله ، وكان يعمل بالسحر ، وكان باطني المذهب ، وكان لا يحرم فرجاً ، ولقد أعانه إبليس على جمع كفره وزندقته في كتابين سماهما بهتاناً وزوراً ( الفتوحات المكية ) ، وهو بالفتوحات الشيطانية أصدق ، و ( فصوص الحكم ) وهو بفصوص الظُّلم أحق ، الذي قال عنه الذهبي : ( فإن كان لا كفر فيه ، فما في الدنيا كفر ! ) ، ولقد أطبق العلماء – جزاهم الله عن الإسلام خيراً - على تكفيره ، بل وقال بعضهم بتخليده في النار إن كان مات على زندقته ، وقد تبشر المسلمون بهلاكه سنة 638 هـ ،
انظر نفح الطيب للتلمساني ( 2 / 161 ) وشذرات الذهب لابن العماد ( 7 / 332 ) وجامع كرامات الأولياء للنبهاني ( 1 / 198 ) وسير أعلام النبلاء للذهبي ( 23 / 48 ) ، والعقد الثمين للفاسي ( 2 / 160 ) وطبقات الأولياء لابن الملقن ( ص 469 ) ومجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 491 ) ، ( 10 / 162 ) ، وانظر كتاب تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي للبقاعي .(125/199)
[268] - نسبه له ابن تيمية في مجموعة الرسائل والمسائل ( 4 / 66 ) ، وهو في الطبقات الكبرى للشعراني الصوفي ( 2 / 62 ) بلا نسبة ، وفي الصفدية ( 1 / 252 ) ، والفرقان ( ص 197 ) كلاهما لابن تيمية أيضاً ، ويوجد بيت قريب منه في لطائف الأسرار لابن عربي ( ص 49 ) ، وفيه :
سماء النبوة في برزخ .
دون الولي وفوق الرسول .
ومثل معناه في كتابه الفتوحات المكية ( 2 / 249 ) يقول :
بين الولاية والرسالة برزخ .
فيه النبوة حكمها لا يجهل .
[269] - بغية المرتاد ص 227 – 228 ، 386 وانظر الصفدية ( 1 / 247 ) ،
[270] - أخرجه أبو داود ( 2041 ) وحسنه العلامة الألباني رحمه الله تعالى في صحيح سنن أبي داود ( 1 / 570 ) برقم 2041 وراجع جلاء الأفهام ص 108 تحقيق فضيلة الشيخ مشهور حسن سلمان حفظه الله تعالى .(125/200)
فصل
في ذكر الصحابة الكرام
الصحابة والصحب والصحابي والصاحب ، صاحب رسول الله كلهم لهم ميزة على غيرهم ،
فالصاحب في غير صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هو : من كثرت ملازمته ،
صاحبك من كثرت ملازمته لك هذا في حق غير صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،
أما الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام فالصحابي : هو ( من اجتمع بالنبي صلى الله عليه صلى الله وآله وسلم مؤمناً به ولو حكماً ومات على ذلك ) [1] ،
فخرج بقولنا : ( من اجتمع ) : من أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وآمن ولكن لم يجتمع به .
مثل : أن يكون أقبل على المدينة ليبايع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمات الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يصل فهذا ليس بصحابي .
وإن كان قد أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ،
لكنهم اصطلحوا على أن يسموه مخضرماً ومرتبته بين الصحابة الخُلَّص وبين التابعين الخُلَّص ،
لأنك إن نظرت إلى كونه أسلم في عهد الرسول ألحقته بالصحابة ،
وإن نظرت إلى أنه لم يجتمع به ألحقته بالتابعين ،
ولهذا كان في منزلة بين الصحابة وبين منزلة التابعين ويُسمى مخضرماً وما رواه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يُعتبر منقطعا لأنه لم يجتمع بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم ،
وقولنا : ( مؤمناً به ) : خرج بذلك من اجتمع بالرسول صلى الله عليه وآله وسلم مؤمناً بغيره ولما مات الرسول آمن بالرسول فهذا ليس بصحابي .
لأنه حين اجتماعه به ليس مؤمناً به ،
ولهذا نقول : ( مؤمناً به ) ،
ودخل في قولنا : ( من اجتمع بالرسول ) : من كان أعمى واجتمع بالرسول فإنه يكون صحابياً ،
وبهذا نعرف أن قولنا : ( من اجتمع به ) : أحسن من قول بعض العلماء : ( من رآه مؤمناً به ) ،
لأننا إذا قلنا : ( من رآه ) : خرج بذلك العمى ،
وقولنا : ( ولو حكماً ) : دخل فيه الصبي في المهد إذا اجتمع بالرسول عليه الصلاة والسلام ،(126/1)
كما لو جيء بصبيٍّ من أبناء المسلمين إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ثم مات النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يميز هذا الصبي فإن هذا مؤمنٌ بالرسول حقيقةً أو حكماً ؟
حكماً ، لماذا ؟
لأنه صبي لا عقل له لكنه مؤمنٌ لإيمان أبويه ،
وقولنا : ( ومات على ذلك ) : دخل فيه من ارتد ثم رجع إلى الإسلام ومات على الإسلام فإنه يكون صحابياً ،
فالردة لا تبطل الصحبة ،
إلا أن يموت على الردة كما أنها لا تبطل الأعمال الصالحة إلا أن يموت على الردة ،
لقوله تعالى : { ومن يرتدد منكم عند دينه فيمت وهو كافر فأولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والأخرة } ( البقرة 217 ) .
وخرج به من اجتمع بالرسول عليه الصلاة والسلام مؤمناً به ثم ارتد ومات على الردة ،
فإنه لا يكون صحابياً ،
فاعرف القيود حتى يتبين لك من هو الصحابي ،
ثم الصحابة على مراتب كما سيأتي في هذا الباب على مراتب في الفضيلة والسبق إلى الإسلام سيذكرها المؤلف ،
معنى قولنا : ( ولو حكماً ) : أي أن من كان صبياً فهو صحابي حكماً لا حقيقةً ،
وعلى هذا فمحمد بن أبي بكر الذي وُلد في حجة الوداع يُعتبر صحابياً ،
ولو اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ثم لم يره بعد وآمن أيكون صحابياً ؟
لا يكون ،
لأنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة ،
ونحن قلنا : ( من اجتمع بالنبي ) بوصفه نبياً لا بوصفه رجلاً سيُنبأ ،
فمن اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمناً بالرسول وقال هذا هو النبي بشرت به التوراة والإنجيل فآمن بالرسول لكن بعد بعثة الرسول لم يره فإنه لا يُعتبر صحابياً ،
لأنه آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون نبياً ،
وقولنا : ( مات على ذلك ) : يشمل ما لو ارتد ثم عاد إلى الإسلام ،
فإنه يبقى على وصف الصحبة أما لو ارتد ومات على الكفر ، فمعلوم أنه ليس بصحابي ،
لأن الردة تبطل الأعمال كلها إذا مات الإنسان عليها والعياذ بالله ،
وهكذا نقول في الأعمال كلها ،(126/2)
لو أن الإنسان ارتد ثم عاد للإسلام ومات على الإسلام ، فإن أعماله السابقة للردة تبقى صحيحة مقبولة إذا تمت فيها شروط القبول ،
فإذا حج الإنسان ثم ارتد بترك الصلاة مثلاً صار لا يصلي ثم عاد للإسلام هل نأمره بإعادة الحج ؟
لا ،
لأن الردة لا تبطل الأعمال ، إلا إذا مات وهو على الكفر ،
أما الصحبة في حق غير الرسول فإنها لا تكون إلا بملازمةٍ طويلة يستحق أن يكون بها صاحباً فمجرد أن يتفق شخص مع آخر في سفر ،
فإذا وصلا إلى المدينة تفرقا لا يُعد ذلك صحبة إلا مقيدة ،
فيقال : صحبته في السفر الفلاني ، صحبته في الحج ، وما أشبه ذلك ،
أولاً : هذه الأمة أفضل الأمم ولله الحمد بالقرآن والسنة :
{ كنتم خير أمة أخرجت للناس } ( آل عمران 110 ) .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( إنكم توفون سبعين أمةً أنتم أكرمها على الله عز وجل ) [2] ، هذا الحديث أو معناه ،
فهذه الأمة ولله الحمد أفضل الأمم بالقرآن والسنة ،
ثم إن خير هذه الأمة الصحابة [3] ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) [4] ،
ثم الصحابة المهاجرون أفضل من الأنصار ،
لأن المهاجرين جمعوا بين النصرة والهجرة هاجروا أوطانهم وأموالهم وأهليهم إلى الله ورسوله ونصروا الله ورسوله ،
قال الله تعالى في وصف المهاجرين : { وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون } ( الحشر 8 ) .
فنص على الهجرة ونص على النصرة ، فهم رضي الله عنهم أفضل من الأنصار ،
وهذا من حيث الجنس كل التفضيل الذي قلنا الآن من حيث الجنس ،
ثم بعد ذلك أفضل المهاجرين الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ،
ثم أفضل هؤلاء الأربعة كما قال المؤلف :
******************
147 – وليس في الأمة بالتحقيق ،(126/3)
في الفضل والمعروف كالصديق ،
قوله : ( في الأمة ) : أمة محمد صلى عليه الصلاة والسلام ،
قوله : ( بالتحقيق ) : أي بالقول المحقق الذي دلت عليه النصوص في الكتاب والسنة ليس فيها في الفضل والمعروف ( كالصديق ) ،
قوله : ( بالفضل ) : الفضل : بذل الخير والإحسان من العلم والمال وغير ذلك ،
قوله : ( والمعروف ) : ضد المنكر ،
فهو جامعٌ رضي الله عنه بين العدل الذي هو المعروف وبين الفضل الذي هو الإحسان ،
ويدل لذلك : أن الله تعالى لم يصف أحداً من الصحابة بأنه صاحب رسول الله إلا أبا بكر ،
قال تعالى : { إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه إن الله معنا } ( التوبة 40 ) .
وهذه منقبة عظيمة لم ينلها إلا من هو أهلٌ لها وهو أبو بكر ، { الله أعلم حيث يجعل رسالته } ( الأنعام 124 ) .
وأعلم حيث يجعل فضله فهذا الفضل العظيم لأبي بكر لم ينله أحد .
وقال النبي عليه الصلاة والسلام : ( لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ ) ، ما قال : اتخذت فلان ولا فلان ، قال : ( لاتخذت أبا بكرٍ ولكن أخوة الإسلام ومودته ) .
وقال : ( لا يبقين في المسجد بابٌ ولا خوخة إلا سُدَّت إلا باب أبا بكر ) [5] .
وقال معلناً على المنبر : ( إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر ) [6] ،
أفبعد هذا يقال إن غيره أفضل منه ؟
لا والله ،
أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر مع أن المنة حقيقةً لمن ؟
للرسول عليه الصلاة والسلام يعني كون أبي بكر يكون صاحباً للرسول ولم يطرده الرسول أو يعرض عنه أو يريه وجه غضب هذا منة للرسول في الواقع لكن من كرم الرسول عليه الصلاة والسلام جعل المنة من أبي بكر عليه ،
كذلك أيضاً الصحبة المنة لمن ؟
للرسول عليه الصلاة والسلام والمنة الأولى للجميع لله عز وجل ،(126/4)
ولهذا لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام للأنصار يبين ما من الله به عليهم كلما ذكر لهم أن الله هداهم به وأغناهم به وألفهم به قالوا : الله ورسوله أمن .
إذن ليس في الأمة مثل أبي بكر رضي الله عنه في الفضل والمعروف الذي هو الإحسان والعدل وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام وكل شئ .
ليس فيها مثل أبي بكر .
حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم حث على الصدقة فانصرف الناس ليتصدقوا ، فقال عمر رضي الله عنه : الآن أسبق أبا بكر ،
انظر كيف يتسابقون فأتى بنصف ماله الله أكبر نصف ماله أتى به في الصدقة الواحد إذا أراد أن يخرج ربع العشر وهو واجب صار يحمر ويصفر ،
ويمكن يسأل العلماء لعل أحداً منهم يقول : هذا ليس فيه زكاة ،
أتى بنصف ماله فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام ماذا تركت لأهلك ؟ قال : شطر المال ، فأتى أبو بكر بكل ماله فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام : ماذا تركت لهم ؟ قال : تركت لهم الله ورسوله ، الله أكبر كل المال ما بقي شئ ، فقال عمر : الآن لا أسابق أبا بكرٍ أبداً [7] ،
عرف أنه عاجز أن يسبقه وعمر هو الرجل الثاني في هذه الأمة ،
إذن لا يسبق أبا بكر أحدٌ من هذه الأمة ما دام الرجل الثاني عجز عن مسابقته أو عن سبقه فمن دونه من باب أولى ،
قوله : ( كالصديق ) : هذا لقب أبي بكر رضي الله عنه ،
وكنيته : ( أبو بكر ) ،
واسمه : ( عبدالله ) ،
وإنما سمي الصديق من الفِعِّيل من الصدق :
لكمال صدقه في المقال والفعال ،
ولتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس ،(126/5)
ويقال : أول ما لُقب بهذا اللقب لما حدَّث النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج ، اتخذت قريشٌ هذا فرصة ، وذهبت إلى أبي بكر وقالت : إن صاحبك يحدث بحديث المجانين يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس ورجع منه ونحن لا نصل إليه إلا في شهر ولا نرجع إلا في شهر ، فقال : إن كان ما قلتم حقاً فهو صادق ، انظر هذا الاحتراز ، لم يقل : هو صادق ، لأنه يحتمل أنهم كذبوا على الرسول ، إن كان ما حدثتموني به فهو صادق .
فسمي من ذلك اليوم الصديق ،
ولا شك أنه أصدق هذه الأمة في المقال والفعال والمقاصد وغيرها وأنه أقواها يقيناً وتصديقاً ،
فهو رضي الله عنه ليس في هذه الأمة مثله [8] ،
لو لم يكن من حسناته على هذه الأمة إلا استخلاف عمر بن الخطاب لكفى بذلك فخراً ،
لأنه لا أحد ينكر ما صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من السياسة الحكيمة والحكم العادل والفتوحات العظيمة وإذلال أهل الشرك ،
فلذلك يعتبر عمر حسنةً من حسنات أبي بكر على هذه الأمة جمعنا الله وإياكم وإياهم في دار النعيم المقيم ،
******************
148 – وبعده الفاروق من غير افتراء ،
وبعده عثمان فاترك المِرا ،
سبق لنا بيان فضل هذه الأمة ،
ثم بيان أن خير هذه الأمة القرون الثلاثة ،
ثم بيان أن خير هذه القرون الصحابة ،
ثم بيان أن خير الصحابة المهاجرون ،
ثم بيان أن خير المهاجرين الخلفاء الأربعة ،
ثم بيان أن خير الخلفاء أبو بكر رضي الله عنه ،
وذكرنا شيئاً من مناقبه وفضائله رضي الله عنه ،
ومن أراد التوسع في ذلك فليقرأ كتب التاريخ كـ ( البداية والنهاية ) لابن كثير وغيرها مما ألف على وجه الخصوص في أبي بكر رضي الله عنه ،(126/6)
قوله : ( وبعده الفاروق ) : بعد أبي بكر الفاروق ، والفاروق على وزن فاعول وهو من صيغ المبالغة مأخوذٌ من الفرق ،
وسُمي بذلك لأن الله تعالى فرَّق به بين الحق والباطل ،
فإن الله سبحانه وتعالى أعز الإسلام بعمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
وفرَّق الله تعالى به بين الحق والباطل في خلافته وقبل خلافته وجعل الله الحق على لسانه وقال فيه النبي عليه الصلاة والسلام ( إن يكن فيكم مُحدَّثون – أي ملهمون بالوحي – فعمر ) ،
وكان رضي الله عنه موفقاً للصواب حتى إنه يأتي الوحي أحياناً موافقاً لقوله واقتراحه فهو رضي الله عنه فاروق فرق الله به بين الحق والباطل ،
وكان رضي الله عنه بعد أبي بكر رضي الله عنه في الفضيلة وبعد أبي بكرٍ في الخلافة ،
وعلى هذا أجمع أهل السنة والجماعة على أن هذين الرجلين أبو بكر وعمر هما أفضل الأمة [9] ،
وأن أبا بكر أفضل من عمر ، عمر رضي الله عنه يلي أبا بكرٍ في الخلافة بتعيينٍ من أبي بكر فإنه عينه وتحمل أبو بكرٍ رضي الله عنه المسؤولية في هذه الأمة حياً وميتاً ،
لكنه رضي الله عنه أدى الأمانة وَوُفِّق فصار من فضائله على الأمة أن استخلف عمر ابن الخطاب ،
ولا يخفى على أحدٍ منصف فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا قرأ سيرته عمر رضي الله عنه تولى الخلافة بعد أبي بكر وقام بأعباء الخلافة خير قيام وكثرت الفتوحات على يده وصار له من الهيبة والعظمة ما خذل الله به أعداءه ومع ذلك كان متواضعاً يقبل الحق من أي شئ شخصِ كان وكان متواضعاً لا يأخذ من بيت المال إلا مثل ما يأخذه واحد من الناس ولا يعطي أحداً من أولاده إلا مثل ما يعطي واحداًَ من الناس بل ربما نَقَصَهُم وكان رضي الله عنه لم يتخذ لنفسه بوَّاباً ولا قصراً بل كان ينام في المسجد فيجمع الحصى ثم ينام عليها وِسادةً له وكان عليه رداءٌ مُرَقَّع وسيرته عجيبة لا تكاد تصدق بما يُنقل عنه ،(126/7)
ولهذا أعز الله به الإسلام بعد كونه خليفة وقبل كونه خليفة وكان له هيبةٌ عظيمة ،
يُذكر أن رجلاً من اليهود في الشام كان منزله إلى جنب بيت المال ، فعرض عليه معاوية أن يشتريه منه ، قال : بِعْ علي البيت ، من أجل أن يدخله بيت المال ، فأبى اليهودي ، فأعطاه ثمناً أكثر من ثمنه ، معاوية رضي الله عنه رأى أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة ، فأدخله في بيت المال ، وقال : خذ إذا شئت القيمة أعطيناك ، ولكن اليهودي أبى ، فقدم المدينة ، فجاء إلى عمر يبحث عن عمر ، فقيل له : تجده الآن في المسجد فذهب إلى المسجد فوجد رجلاً كأنه فقير رداءٌ مرقع نائم على بطحاء فصدَّق أو كذَّب هل هذا الخليفة الذي يكون معاوية أميراً له ، أميراً من أمرائه ، وكان معاوية رضي الله عنه باعتبار أنه في الشام وأنهم يقدسون ملوكهم وأنهم يعظمونهم ويجعلون لهم القصور قد اتخذ لنفسه مثل هذا لا حباً في الدنيا ، ولكن إقامةً للسلطة مقام السلطة الأولى حتى يهابها الناس ، لأن معاوية لو فعل مثل ما فعل عمر في المدينة وهو في الشام لم يبال الناس به فجاء إلى عمر فقص عليه القصة ، فيقال : إنه أخذ عظماً من الأرض وكتب فيه ليس كسرى بأعدل مني ووضع خطاً وفوقه خط آخر كالصليب ، وقال لليهودي : اذهب أعطه لمعاوية ، فلما جاء به إلى معاوية ، معاوية قطعاً بينه وبين عمر إشارة وهي ما يُسمى في العرف الحاضر شفرة لما رأى هذا العظم يُقال إنه وضعه على رأسه ثم قال لليهودي : ماذا تريد ؟ أتريد أن أبني لك بيتك وأعيده من جديد أم تريد أن أعطيك عشرة أمثاله أم ماذا تريد ؟ قال : وهكذا يكون خلفاؤكم وهكذا يكون أمراؤكم مع خلفاؤكم ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وأن بيتي صدقة للمسلمين ،
سبحان الله انظر كيف العدل يعني يجعلوا الناس يستجيبون ولو كانوا كفاراً والظلم والاستئثار يجعل الناس لا يستجيبون ولو كانوا مسلمين ،(126/8)
فالحاصل : أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع كونه ذا سلطةٍ عظيمة وهيبةٍ عظيمة إذا جاءه الإنسان وجده كأنه وجده كأنه عادي والقصة المشهورة ،
وإن كان الحديث فيه شئٌ من النظر لما خطب الناس حين تغالوا في المهور وقال : لا يزيد أحدٌ على مهر النبي عليه الصلاة والسلام لأزواجه أو بناته إلا جعلت الزائد في بيت المال ، فقامت امرأةٌ ، فقالت : مهلاً يا أمير المؤمنين ليس ذلك إليك ، إن الله تعالى يقول : { وإن أدتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } ( النساء 10 ) ، فأقر الله تعالى إيتاء القنطار للزوج ،
والقنطار : ألف مثقال للذهب ،
وقيل : إنه ملء جلد ثورٍِ صغير من الذهب .
كم يأتي ملء جلد الثور ؟
آلاف ،
فقال : امرأةٌ أفقه من عمر .
ثم ترك الناس ،
فالحديث هذا فيه صحته نظر لكنه مشهور عند الناس ،
وعمر رضي الله عنه يكون أكثر من ذلك تواضعاً ،
وعظ الناس يوماً من الأيام فقام إليه سلمان الفارسي وقال : يا أمير المؤمنين كيف تعطي عبدالله بن عمر ثوبين والناس لم تعطهم إلا على ثوبٍ واحد من بيت المال ؟ فقال له : قم يا عبدالله يعني رد عليه فقام فرد عليه ، فقال : إن الثوب الثاني ثوب عمر أعطاه إياه وليس زائداً على ما يعطي المسلمين ، وكان رضي الله عنه إذا أمر الناس بشيء أو نهاهم عن شئ جمع أهله وقال لهم : إن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم والطيور تنظر إلى اللحم نظر شرَه تريد أن تبتلعهم وإني قد أمرت بكذا أو نهيت عن كذا فلا أجد أحدكم يعني مخالفاً إلا أضعفت عليه العقوبة .
كل هذا من باب العدل والتخويف وإلا كان العدل أيضاًَ ألا يضعف العقوبة عليهم .
لكنه رضي الله عنه له غورٌ في الفقه قال : إن أقرباء السلطان يخالفون بسلطة قربهم منه فيتوصلون إلى المخالفة بقربهم من ولي الأمر فرأى رضي الله عنه أن هذه نوع مخالفة مع المخالفة الأصلية فيجمع عليهم بين عقوبتين ومآثره رضي الله عنه كثيرة .(126/9)
وكان آخر أمره أنه سأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة في سبيله والموت في بلد رسوله فكان الناس يتعجبون المدينة بلد إسلام ليس فيها قتال كيف يكون يجتمع أنه شهيدٌ في سبيل الله ميتٌ في مدينة رسول الله فاستجاب الله دعوته ،
وقُتل شهيداً في بلد الرسول عليه الصلاة والسلام وهو لم يُقتل لعداءٍ شخصي لكنه لعداءٍ ديني ،
لأن القاتل له : أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة .
وكان رضي الله عنه عمر ينهى أن تكثر العلوج يعني هؤلاء الأرقاء من الفرس وغيرهم في المدينة ولكن كان أمر الله مفعولا .
هذا الخبيث لما قتل عمر رضي الله عنه في خنجرٍ له وجهان والإمساك بالوسط ، وكان قد سقى كل جانبٍ منه السم فلما طعن عمر وهو يصلي بالناس الفجر ، قال : أكلني الكلب ، فزع الناس فلحقوا هذا الرجل الخبيث الهارب فقتل أظن ثلاثة عشر نفراً فلما رأى أنه قد أُدرك وألقى عليه أحد الصحابة بساطاً غمّه فيه لما رأى أنه قد أدرك قتل نفسه .
فالحمد لله رب العالمين أنه قتل نفسه على هذا الوجه وهو لم يسجد لله سجدة .
فكان والعياذ بالله آخر أمره أن قتل نفسه .
والذي يظهر لنا أنه قتل نفسه على الكفر .
هذا آخر ما حصل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه ،
ومن أراد المزيد من ذلك فليقرأ ما كُتب عنه في ( البداية والنهاية ) وغيرها ،
قوله : ( وبعده عثمان فاترك المِرا ) : بعد من عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأفضل عثمان ،
قوله : ( فاترك المِرا ) : أي الجدال فإن هذا أمرٌ مفروغٌ منه ،
أن عثمان : هو الثالث في الخلافة والفضيلة ،
وإنما قال : ( فاترك المِرا ) : لكثرة الجدال فيه وفي علي بن أبي طالب أيهما أفضل ؟
حتى إن بعض علماء السنة قالوا : علي بن أبي طالب أفضل من عثمان ،
فجعلوه في المرتبة الثالثة في الفضيلة وعثمان في المرتبة الرابعة ،
ومنهم من قال : أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم سكت ،
ومنهم من أخذ بما مشى عليه المؤلف :
وهو أن الأفضل عثمان ثم علي ،(126/10)
قال شيخ الإسلام رحمه الله : ( وهذا هو الذي استقر عليه أمر أهل السنة والجماعة أن ترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة ) [10] ،
عثمان رضي الله عنه تولى الخلافة لا بنصٍ من عمر وتعيين ولا باجتهادٍ من الرعية ،
فتوليه للخلافة أمرٌ غريب لم يكن معروفاً ،
لأن عمر لما طُعن وقيل له : استخلف على الأمة ، قال : إن استخلف فقد استخلف من هو خيرٌ مني يعني أبا بكر وإن لم استخلف فقد ترك من هو خيرٌ مني يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته أبو عبيدة عامر بن الجراح ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إنه أمين هذه الأمة ) [11] ،
سبحان الله لا ينظرون إلى شرف قبيلة ولا إلى سيادة ذي قوم ينظرون إلى المعاني الشرعية .
فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح ) .
قال عمر : لو كان حياً لاستخلفته [12] .
ولكنه مات قبل عمر ثم جعل الأمر شورى بين الستة الذين تُوفي عنهم النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راضٍ ،
فلما تُوفي جلس هؤلاء للتشاور واستقر الأمر على عثمان وكان أكثر أهل المدينة يختارون عثمان ،
فبويع عثمان بالخلافة مبايعة شرعية بايعه عليها علي بن أبي طالب وبقية أصحاب الشورى وغيرهم ،
وأجمعت الأمة على ذلك وصار الخليفة الثالث بإجماع المسلمين [13] ،
ولهذا قال الإمام أحمد : ( من طعن في خلافة واحدٍ من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله ) [14] ،
أما الرافضة فقد طعنت في خلافة الجميع إلا علي بن أبي طالب ،
فَضَلَّتْ بهذا عن الأمة وعن الحق بل وبما مشى عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،
فإنه بايع أبا بكر وعمر وعثمان اختياراً لا اضطراراً ،
والعجب أن غلاة الرافضة قالوا : إن علياً فاسق لماذا يرضى بالظلم ؟ فكونه رضي بالظلم وبايع هذه مداهنة والمداهنة في الحق ضلالٌ وفسق ،
فأتعجب كيف وصل بهم الحال إلى هذا السفه ؟(126/11)
والمنصف من يعرف منهم أنه على ضلال ،
هم يقولون : نحن شيعة .
وهؤلاء أهل السنة .
وأيهما أولى بالحق أهل السنة أو الشيعة المتعصبين لأشخاصٍ معينين ؟
كلٌّ يعرف أن أهل السنة هم الذين على الحق لأنهم على سنة ،
وكونهم يقولون : هؤلاء أهل السنة ونحن شيعة اعترافٌ منهم بأنهم ليسوا على سنة
وإذا كان كذلك فيقال : اتقوا الله ارجعوا إلى السنة ، ما دام تعترفون بأن هؤلاء أهل سنة وأنتم شيعة ،
ثم نقول : من أحق الناس تشيعاً لآل البيت من ؟
أهل السنة نحن نحب آل البيت المؤمنين منهم :
لكونهم مؤمنين ،
ولكونهم من قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام ،
ونفضلهم على غيرهم بهذا المعنى ، لكن لا نعطيهم الفضل المطلق ، بل ننزلهم منزلتهم ،
وهم أعني آل البيت يرضون بهذا غاية الرضا ،
وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو إمام أهل البيت كان رضي الله عنه يقول على منبر الكوفة يعلن : ( خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ) [15] ، وأحياناً ( ثم عثمان ) وأحياناً يسكت ،
فعلى هذا نقول : إن عثمان رضي الله عنه يلي عمر بن الخطاب في الفضيلة فهو الثالث في الفضل في هذه الأمة وهو الثالث في الخلافة من هذه الأمة ،
ومن أنكر ذلك بالنسبة للخلافة فيقول الإمام احمد : إنه أضل من حمار أهله ،
وقال : إنه أضل من الحمار لأن الحمار من أبلد الحيوانات ،
ولهذا مثَّل الله اليهود بالحمار : { مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها } ( الجمعة 5 ) ، قال : {كمقل الحمار يحمل أسفارا } .
إذا حمَّلت على الحمار المغني والمجموع شرح المهذب والإنصاف وتفسير ابن كثير وفتح الباري ثم رجعت للحمار وقال ماذا قال في فتح الباري ماذا يقول ؟
يوفيك نهيقاً ،
فعلى كل حال الحمار أبلد الحيوانات وأدل الحيوانات بالنسبة لمكان مبيته ،(126/12)
وسألت مرةً الشيخ عبدالرزاق العفيفي رضي الله عنه وعافاه قال : إنما كان الحمار أدل ما يكون إلى مأواه ومبيته لأنه بليد لا يشغل مخه شئٌ من التفكير فيكون معتمداً على المظاهر الخارجية لأنه ذهنه لا يفكر في مخه ،
وهذه مناسبة غريبة لذلك تجد الإنسان الذي معه سائق لا يذهب بالسيارة إلا بسائق ولا يجيء إلا بسائق لا يعرف الأسواق ولا يعرف البيوت لو يتردد عليها عشر مرات والسائق يعرفها من أول من مرة لأنه قد وضع ذهنه لهذا الشيء الحمار ليس عنده إلا المأوى والمبيت والأكل والشرب وأما غيره فليس عنده تفكير ،
فالحاصل أن نقول الإمام أحمد يقول : ( من طعن في خلافة واحدٍ من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله ) [16] ،
قال ذلك لماذا ؟
لأن أبلد ما يكون من الحبوانات الحمار ،
******************
149 – وبعد فالفضل حقيقاً فاسمعِ ،
مني نظامي للبطين الأنزع ،
قوله : ( وبعد ) : أي بعد الثلاثة الخلفاء الراشدين أبي بكرٍ وعمر وعثمان بعد ذلك ،
قوله : ( فالفضل حقيقاً ) : أي حقيقةً
أو ( حقيقاً ) بمعنى جديراً ، كما في قوله تعالى : { حقيق علي أن لا أقول على الله إلا الحق } ( الأعراف 105 ) ، فهي صالحة لهذا وهذا ،
قوله : ( فاسمع نظامي هذا ) : وأمر بسماع النظام للتأكيد والتنبيه ،
قوله : ( للبطِين ) : خبر قوله : ( فالفضل ) أي فالفضل كائنٌ للبطين الأنزع ،
البطين يعني واسع البطن ،
قوله : ( الأنزع ) : الذي انحسر شعره مقدم رأسه هذا الأنزع ،
والبطين ضده الضامر الذي بطنه ليس واسعاً ،
والأنزع ضده الأفرع الذي نزل شعر رأسه إلى جبهته ،
إذن وصف هذا المذكور بوصفين :
الأول : بأنه بطين .
والثاني : أنه أنزع .(126/13)
وهل أراد المؤلف رحمه الله الذم أو أراد التعريف ؟
الثاني قطعاً ،
أراد التعريف لأنه لا يريد أن يذم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الوصف أراد أن يعرِّفه وكان رضي الله عنه بطيناً أي واسع البطن وقد عُلم بهذا الوصف ،
الأنزع أي كان منحسر شعر الرأس من الأمام ،
وهذا لا يدل على شئ إنما هو خِلقة ويكون عند الكبر كثيراً كما هو معروف مشاهد ،
******************
150 – مجدِّل الأبطال ماضي العزم ،
مفرِّج الأوجال وافي الحزم ،
قوله : ( مجدِّل الأبطال ) : التجديل معناه أنه يوقعهم صرعى والأبطال جمع بطل وهم الشجعان ،
قوله : ( ماضي العزم ) : يعني أنه ذو عزيمةٍ ماضية لا ينثني ، كم هذا من وصف ؟ أربعة ،
قوله : ( مفرج الأوجال ) : ( الأوجال ) : جمع : ( وجل ) : وهو الخوف .
يعني أنه يفرج الخوف من شجاعته رضي الله عنه ولا شك أنه من أشجع الناس .
قوله : ( وافي الحزم ) : يعني أنه ذو حزمٍ وافي أي كامل وهذه ستة أوصاف ،
******************
151 – مسدي الندي مبدي الهدى مردي العدى ،
مُجْلي الصدى يا ويل من فيه اعتدى ،
قوله : ( وافي الندى ) : وافيه أي كامله ،
قوله : ( مبدي الهدى ) : مظهر الهدى وهو العلم ،
وقد اشتهر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بسعة علمه وذكائه ،
قوله : ( مردي العدى ) : مردي أي مهلك ،
كما قال تعالى : { وما يغني عنه ماله وما تردى } ( الليل 11 ) ، أي إذا هلك ،
و ( العدى ) جمع عدو ، هذه ثلاثة أوصاف بالإضافة إلى ما سبق تكون تسعة أوصاف ،
قوله : ( مجلي الصدى ) : مجلي أي مذهب والصدى في الأصل هو الوسخ الذي يكون على الحديد لطول مكثه أو لكونه حول الماء فهذا يجلوه ويزيله ،(126/14)
قوله : ( يا ويل ) : ( يا ) هذه للندبة ( ويل ) الهلاك ،
قوله : ( من فيه اعتدى ) : أي من اعتدى في عليٍّ بن أبي طالب رضي الله عنه ،
ويريد بذلك الوعيد على من اعتدى في حق علي بن أبي طالب بإفراط أو تفريط ، كلاهما يا ويلهما ،
فالذين في حقه الإفراط هم الرافضة ،
والذين اعتدوا بحقه في التفريط هم الناصبة النواصب ،
لأنه هلك في علي بن أبي طالب طائفتان :
1 - طائفةٌ غلت ،
2 - وطائفةٌ فرّطت ،
الطائفة التي غلت غلوا فيه حتى جعلوه إلهاً حتى إنهم صرحوا بذلك ،
قال عبدالله بن سبأ وشيعته لعلي بن أبى طالب صراحةً ومقابلة ، قال له : أنت الله حقاً ،
وهو خبيث يهودي دخل في دين الإسلام ظاهراً ليفسده ،
كما قال شيخ الإسلام رحمه الله كما ظهر بولس في دين النصارى وتنصر ظاهراً من أجل أن يفسد دين النصارى هذا الخبيث عبدالله بن سبأ يهودي ماكر دخل في دين الإسلام على أنه مسلم [17] ،
لكن أتى إلى علي بن أبي طالب ، وقال له : أنت الله أين الإسلام فأمره رضي الله عنه لشدة ما جرى أمر بالأخدود فحُفرت ثم أمر بالحطب فجُمع في هذا الأخدود ، ثم أمر بعبدالله بن سبأ وشيعته أن يُلقوا في هذه النار بعد أن أضرم فيها النار فأُحرقوا ،
ويقال : أن عبدالله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر وبث دعوته فيها ، ثم إلى العراق ، ثم إلى فارس انتشرت الدعوة ،
هؤلاء اعتدوا في علي بن أبي طالب بماذا ؟
بالإفراط وزيادة الحد ،
قسمٌ آخر قابلوهم لأن العادة أنه إذا وُجد غلوٌ في جانب وجد فيه تطرفٌ آخر من أجل ضد هذا الغلو فيه أناس بالعكس صاروا نواصب نصبوا العداوة لآل البيت وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجعلوا يسبونهم ويلعنونهم والعياذ بالله هؤلاء أيضاً اعتدوا في حق آل البيت فيا ويل الطرفين هؤلاء وهؤلاء ،
وأيهم أشد ضرراً على الإسلام المفرِّط أو المفرِط ؟
المفرِط أشد ضرراً على الإسلام ،(126/15)
لأن المفرط تعدى طوره كثيراً حتى جعل علي بن أبي طالب إلهاً وجعل من أئمة أهل البيت من يعلم الغيب ويدبِّر الكون ،
حتى سمعنا من أشرطتهم من يقول : إن جميع الكون تحت ظُفر فلان يدبره حيث يشاء تحت الظفر جعله وسخاً من أوساخ الأظفار ،
نسأل الله العافية ،
كل الكون هذا أشد وهذا في الحقيقة يصوغونه بصيغة عاطفية حتى في أداء شعائرهم التي يترنمون بها من الدعاء لآل البيت والدعوة لهم تجدهم يترنمون بصوتٍ حزين يشد العاطفة ،
أما الذين ينصبون العداوة لآل البيت فمن يطيعهم ؟!!
من يطيع من يسب علي بن أبي طالب رضي الله عنه ؟!!
كل الناس ينفرون مما ذهبوا إليه ،
لكن هؤلاء من حيث أنهم يخاطبون العاطفة صار ضررهم على الناس أكثر بكثير ،
ولهذا لو قارنت بين النواصب والروافض من حيث العدد لوجدت أن النواصب لا ينصبون إلى الروافض ،
فإن قال قائل : لماذا أطنب المؤلف رحمه الله في وصف علي بن أبي طالب دون الثلاثة الأولين وهم أفضل منه ؟
فالجواب : أنه أطنب في ذلك لسببين :
السبب الأول : الرد على النواصب ،
ما هو موقف النواصب ؟
السب لعلي بن أبي طالب فأراد أن يمدحه أو أن يصفه وهو يثني عليه بما هو أهله رداًّ على هؤلاء النواصب ،
ثانياً : الرد على الروافض ، كأنه قال علي بن أبي طالب مع هذه الأوصاف الكريمة والآداب العالية والشجاعة التامة لا يستحق أن يترقى إلى المكان الذي رقاَّه إليه هؤلاء الرافضة ،
فصار في إطنابه في مدحه صار فيه فائدتان :
الأولى : الرد على النواصب ،
والثانية : الرد على الروافض ،
يعني أننا أيها الروافض نقر بفضله وأنه فيه من الفضل كذا وكذا وكذا لكننا لا ننزِّله فوق منزلته كما فعلتم أنتم ،
فهذا هو السبب في أنه رحمه الله أطنب في ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،
******************
152 – فحبه كحبهم حتماً وجب ،(126/16)
ومن تعدى أو قلى فقد كذب ،
قوله : ( فحبه ) : أي حب علي بن أبي طالب ،
قوله : ( كحبهم ) : أي كحب الثلاثة أبو بكر وعمر وعثمان ،
قوله : ( حتماً وجب ) : أي وجب حتماً ،
أي وجوباً حتماًَ مؤكَّداً ،
ونشهد الله عز وجل على محبتهم ونشهد الله على محبة إمامنا وإمامهم محمد ٌصلى الله عليه وسلم ،
فالمحبة أولاً وآخراً كلها ، لمن ؟
للرسول ،
ونحن لم نحب هؤلاء إلا بمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام ،
وإلا لكانوا من رجالات قريش وليس لهم فضل ،
لكن لمحبة الرسول لهم كنا نحبهم ،
ثم إن محبتنا للرسول أيضاً تابعة لمحبة الله ،
لأن المحبة الأولى والأخيرة والنهاية والبداية كلها لله عز وجل ،
خلافاً لمن كانوا الآن يحبون الرسول أكثر من محبة الله ،
إذا ذُكر الرسول عندهم بكوا وتهامنت الدموع ،
وإذا ذُكر الله فالوجه هو الوجه لا يتغير ولا بكاء ،
نسأل الله العافية والسلامة سبحان الله ،
الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان له هذا الشرف إلا لأنه رسول الله ولأن الله يحبه ،
وإلا لكان بشراً عادياً لا يُحب ولا يُكره إلا بما فيه من الخير أو الشر ،
لكننا نحب الرسول صلى الله عليه وسلم لمحبتنا لله الذي أرسله ،
ونحب الخلفاء الراشدين لمحبتهم للرسول عليه الصلاة والسلام ولمحبتنا للرسول وهم خلفاؤه ،
حب علي بن أبي طالب كحب الثلاثة السابقين واجبٌ حتماً يجب علينا أن نحبه ،
فإذا قال قائل : المحبة وصفٌ فطري نفسي لا يملكه الإنسان ولهذا يُذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : ( هذا قَسْمي فيما أملك فلا تملني فيما لا أملك ) يعني المحبة ، هل يمكن لإنسان أن يجعل في قلبه محبة إنسانٍ يبغضه ؟
لا ، لكن يمكن أن تنال المحبة بالكسب بأن تذكر صفات الكمال في هذا الرجل .
فإذا ذكرت أوصاف الكمال واعتقدتها ثبوتها فيه فإن النفوس تميل بلا شك إلى الكمال وتحبه ،(126/17)
ولهذا جاء في الحديث : ( أحبوا الله لما يغدوكم به من النعم ) ،
يعني على الأقل اذكر نعم الله عليك فأحبه لذلك ،
لأنك لو أن أحداً مَنَّ عليك بمنة هل تحبه ؟
( تهادوا تحابوا ) [18] ،
وهذا شيءٌ مجرب ،
فمعلومٌ أن الإنسان لا يمكن أن يقع في قلبه محبة إلا لسببٍ ظاهر يحمله على المحبة ،
فإذا الأمر كان كذلك ،
فاذكر ما كان للنبي عليه الصلاة والسلام وما للخلفاء الراشدين وما لغيرهم من عباد الله ،
اذكر ما لهم من الصفات الحميدة والخصال الطيبة ،
وحينئذٍ لا بد أن تحبهم ،
ولهذا أحياناً يجمع الإنسان في قلبه بين محبة شخصٍ وكراهته سبحان الله بين محبته وكراهته ،
المحبة والكراهة ضدان لا يجتمعان ؟!!!
فيقال : بل يجتمعان ،
يكون في الإنسان خير ويكون فيه شر ،
الإنسان يحبه لخيره ويكرهه لشره ،
ثم إذا كان منصفاً عمل بأقوى الجانبين إن غلب خيره على شره غلبت محبته على كراهته واغتفر شره بجانب الخير ،
ولهذا قال ابن رجب قولاً حكيماً صحيحاً يقول في أول قواعد الفقه : ( يأبى الله العصمة لكتابٍ غير كتابه والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه ) [19] ،
فنحن إذا نظرنا إلى ما للصحابة رضي الله عنه من الفضائل والسَّبْق أحببناهم فنحن نحب الخلفاء الأربعة كلهم كما يجب علينا أن نحب بقية الصحابة لكن لكلٍ درجاتٌ مما عملوا ،
قوله : ( ومن تعدى ) : مثل الرافضة ،
قوله : ( أو قلى ) : كالنواصب ،
قوله : ( فقد كذب ) : نعم صدق فقد كذب واعتدى لا شك أن من تعدى في حق هؤلاء وتجاوز الحد فقد كذب ومن قلى وأبغض فقد كذب ،
إذن الرافضة مخطئون من الجانبين تعدوا في علي وقلوا في بقية الخلفاء ،
فجمعوا بين الشرَّين وبين الفسادين :
1 - غلو زائد في علي بن أبي طالب ،
2 - تفريطٌ زائد في حق الخلفاء الراشدين الثلاثة ،(126/18)
حتى إن بعضهم والعياذ بالله يلعن أبا بكر وعمر صراحةً ويقول إنهما ظالمان وإنهما ممن يذاد عن حوض الرسول يوم القيامة قاتلهم الله كيف يُذاد رجلان دُفِنا إلى جنب الرسول عليه الصلاة والسلام ولم تحصل هذه الفضيلة لأحدٍ سواهما أبداً ولهذا كانا رفيقيه في الدنيا ورفيقيه في القبر في البرزخ وسيكونان رفيقيه يوم القيامة رضي الله عنهما وأرضاهما ،
******************
153 – وبعد فالأفضل باقي العشرة ،
فأهل بدر ثم أهل الشجرة ،
قوله : ( وبعد ) : أي بعد الخلفاء الأربعة ،
قوله : ( فالأفضل باقي العشرة ) : وهم ستة ،
قوله : ( باقي العشرة ) : إذا أخذنا الخلفاء الأربعة ،
فالباقي كم ؟
ستة ،
هؤلاء العشرة هم المبشرون بالجنة أطلق عليهم هذا اللقب .
لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرهم في نسق واحد في حديث واحد .
فقال : ( أبو بكر في الجنة وعمر في الجنة وعثمان في الجنة وعلي في الجنة وسعيد بن زيد في الجنة ) [20] ،
وقد جُمِعوا في بيت [21] :
سعيد وسعد وابن عوف وطلحة .
وعامر فهرٍ والزبير الممدح [22] .
خذ الخلفاء الأربعة .
وهؤلاء ستة في البيت سعيد وسعد وابن عوف وطلحة وعامر فهرٍ والزبير الممدح .
هؤلاء ستة مع الأربعة .
الجميع عشرة .
عدهم النبي عليه الصلاة والسلام في نسق واحد في حديث واحد قال : هؤلاء في الجنة .
سعيد بن زيد بن نفيل وسعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وطلحة بن عبيد الله وعامر بن الجراح أبو عبيدة والزبير بن العوام هؤلاء ستة مع الأربعة كلهم بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة أخبر أنهم في الجنة وهذا بشرى لهم ،(126/19)
ويجب علينا أن نقول : أن هؤلاء أفضل الصحابة لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في نسقٍ واحد في حديثٍ واحد ،
وهل اقتصرت شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لأحد بالجنة على هؤلاء ؟
لا ،
شهد لأناس كثيرين غير هؤلاء ،
عكاشة بن محصن شهد له بأنه يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب لأنه لما حدًّث النبي عليه الصلاة والسلام أن من أمته سبعين ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب قام عكاشة وقال أدعو الله أن يجعلني منهم قال : ( أنت منهم ) [23] ،
وثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه قال له النبي عليه الصلاة والسلام : يحيا سعيداً ويقتل شهيداً ويدخل الجنة [24] .
وكذلك المرأة التي تصرع ، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام : ( إن شئت دعوت الله لكِ وإن شئت صبرتِ ولك الجنة ) ، فقالت : أصبر [25] ،
وتتبع هذا إذا تتبعه الإنسان يتبين له أُناسٌ كثيرون ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ،
والشهادة بالجنة نوعان :
1 - شهادةٌ بوصف ،
2 - وشهادةٌ بشخص ،
فأما الشهادة بالوصف : فأن نشهد لكل مؤمن بأنه في الجنة على سبيل العموم ،
وأما الشهادة بالشخص : فأن نشهد لشخص بعينه بأنه من أهل الجنة ،
وكلاهما أو وكلتاهما أي الشهادتان قد دل عليها الكتاب والسنة ،
فمثلاً : بيَّن الله تعالى في القرآن أن الجنة أعدت للمتقين فنشهد لكل متقي أنه في الجنة ،
لكن هل نشهد لفلان أنه في الجنة إذا رأيناه تقياً ؟
لا ، لاحتمال أنْ يرد عليه في آخر عمره أشياء تصرفه عن التقوى فلا نشهد بالجنة بالتعيين إلا لمن عينه الرسول صلى الله عليه وسلم ،
ولا نشهد بالوصف إلا لمن شهد له الله ورسوله والشهادة بالوصف لا تجوِّز الشهادة بالعين ،
فمثلاً نقول : كل مؤمن فإنه في الجنة كل تقي في الجنة ،
لكن هل نشهد بأن فلان المعين في الجنة ؟
لا ، كذلك أيضاً في الشهادة كل من قتل في سبيل الله فهو شهيد ،
لكن لو رأينا رجلا مسلما قتل في المعركة هل نقول إنه شهيد ؟(126/20)
لا ، لأننا لو قلنا بأنه شهيد للزم من ذلك أن نشهد له بالجنة وهذا لا يجوز
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : من أجمعت الأمة أو كادت أن تجمع على الثناء عليه فإننا نشهد له بالجنة [26] ،
واستدل لذلك : بقوله تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا } ( البقرة 143 ) .
فإنه قد مرت جنازة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه ، فأثنوا عليها خيرا ، فقال : ( وجبت ) ثم مرت أخرى فأثنوا عليها شرا ، فقال : ( وجبت ) فقالوا : يا رسول الله ، ما وجبت ؟ قال : مرت الجنازة الأولى فأثنيتم عليها خيراً ، فقلت : ( وجبت أي وجبت له الجنة والثانية أثنيتم عليها شراَّ ، فقلت : وجبت أي وجبت له النار أنتم شهداء الله في أرضه ) [27] ،
وعلى رأي شيخ الإسلام رحمه الله يجوز أن نشهد للإمام أحمد بأنه من أهل الجنة لاتفاق الناس أو جملتهم عليه وكذلك بقية الأئمة وأئمة الأتباع لأنهم ممن اتفق الناس أو جلهم على الثناء عليهم ،
قوله : ( فأهل بدر ) : بعد العشرة أهل بدر والعشرة من أهل بدر ،
يعني لا يمتنع أن يكون في الإنسان وصفان أهل بدر هم الذين قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر ،
وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة في رمضان ،
وكان سببها : أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بعيرٍ لقريش جاءت من الشام تريد مكة وهي لا بد أن تمر بالمدينة أو حولها فندب أصحابه إلى الخروج لهذه العير لأخذها فانتدب منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فقط على سبعين بعير وفرسين ، ثلاثمائة وبضعة عشر رجل على سبعين بعيراً إذا لا بد من تعاقب وفرسين فقط وكانوا لا يريدون الغزو ولا فكروا أن يكون هناك غزو إنما أرادوا عير قريش مع أبي سفيان وهي عيرٌ كبيرة يعني إبل محملة بالطعام والثياب وغيرها ولهذا كان معها أبو سفيان من كبراء قريش فلولا أنها عيرٌ كبيرة لم يكن معها هذا زعيم ،(126/21)
فإذا قال قائل : كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج ليأخذ أموالهم ؟
نقول : إذا أخذ أموالهم فليست بشيء بالنسبة لإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم هؤلاء أخرجوا الرسول من ديارهم وأموالهم والرسول أراد أن يأخذ أموالهم فقط وهي من الأنفال التي نفلها الله عز وجل : { قل الأنفال وللرسول } ( الأنفال 1 ) ، لما سمع أبو سفيان بالخبر وأن الرسول خرج هو وأصحابه إليهم وكان رجلاً ذكياً عدل عن الطريق إلى سيف البحر وأرسل إلى أهل مكة يستصرخهم لا للقتال ولكن لإنقاذ العير فقط وظن أنهم سيرسلون فلان وفلان من عامة الناس لإنقاذ العير ويرجعون ولكن قريش أخذتهم الحمية وقالوا كيف محمد يتعرض لعيرنا بقيادة زعيمٍ من زعمائنا ؟ لابد أن نخرج نقضي عليه المهم تشاوروا في ما بينهم وفي النهاية أجمعوا على أن يخرجوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بكبرائهم ( خرج بطراً ورئاء الناس ) بحدِّهم وحديدهم وخيلهم ورجلهم وزعمائهم ومن دونهم فجاءوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فلما كانوا في أثناء الطريق تشاوروا في ما بينهم هل نمضي أو نرجع ؟ فكان أبو جهل يلمزهم في هذا يعني كيف تفكرون بالرجوع وقد خرجتم والله لا نرجع حتى نقدم بدراً ونقيم فيها ثلاثاً ننحر الجزور ونسقي الخمور وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا انظر فخر بطر ولكن الحمد لله لم تنحر الجزور ولكن نُحِرَ هو لله الحمد قدموا بدراً وتلاقى الصفان وترائى الجمعان وحصل ما حصل وبُنيَ للرسول صلى الله عليه وسلم عريش يدخل فيه يدعو الله سبحانه وتعالى بالنصر ،
لأنه إذا استنفذنا قوتنا المادية والحسية لم يبقى لنا إلا الدعاء ، الدعاء مع القوة المادية والحسية وعدم استعمالها هذا خطأ ،(126/22)
لكن الدعاء عند العجز هذا واجب وإن جمعت بينهما فخير لكن قام يدعوا الله عز وجل ثم ماذا كان الأمر ؟ قال الله تعالى : { إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان } ( الأنفال 11 ) ، فنفرت الملائكة ونزلت تقاتل تثبت المؤمنين وتلقي في قلوب الكفار الرعب فهربوا وقُتل منهم سبعون رجلا وأُسر سبعون رجلا وكان ممن قتل هذا الزعيم الذي يقول إننا لن نرجع حتى نقدم بدراً وآخر ما قال : وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً ، لكن العرب سمعت بهم فنزلت مرتبتهم عند العرب ،
وقد سبق لنا أن الخلفاء الأربعة هم أفضل الصحابة وأن أفضلهم أبو بكر رضي الله عنه وأن ترتيبهم في الأفضلية كترتيبهم في الخلافة ،
أي أن علماء أهل السنة اختلفوا في أمر عثمان وعلي :
1 - فبعضهم رتب فضلهما على الخلافة ،
2 - وبعضهم قدم علي بن أبي طالب رضي الله عنه ،
3 - وبعضهم ذكر عثمان ثم سكت ،
4 - وبعضهم توقف ،
وأن الذي استقر عليه أمر أهل السنة والجماعة : تقديم عثمان على علي رضي الله عنه ، وهذا هو ندين الله به ،
ومع ذلك فإننا نحب علي بن أبي طالب من وجه آخر ونقدمه من وجه آخر ،
وهو قرابته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ،
ولكن الفضل لكن في خصيصةٍ واحد لا يعني الفضل المطلق بعد الأربعة الأفضل العشرة المبشرون بالجنة والمبشرون بالجنة أكثر من عشرة ،
لكن هؤلاء عشرةٌ ذكرهم النبي صلى عليه وآله وسلم في نسقٍ واحد بعد هؤلاء أهل بدر ،
وسبق ذكر قصة بدر وسببها ونتيجتها نتيجتها النتيجة العظيمة حتى سمى الله تعالى يومها يوم الفرقان ،
قوله : ( ثم من أهل الشجرة ) : بعد أهل بدر أهل الشجرة ،
( أل ) هنا للعهد الذهني أي الشجرة التي بايع تحتها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه ،(126/23)
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة ومعه نحو ألفٍ وأربعمائة رجل خرج قاصداً البيت للعمرة ومعه البُدْن قد ساقها عليه الصلاة والسلام تعظيماً لله عز وجل وللبيت الحرام فلما وصل إلى الحديبية وهي مكانٌ بعضها من الحل وبعضها من الحرم صده المشركون وقالوا : لا يمكن أن تدخل علينا مكة ، نؤخذ ضغطة لا يمكن ،
وهذا من حمية الجاهلية لأن قريشاً لا تمنع أي واحد من الحج أو من العمرة بل ترحب به لأنه يفيدها اقتصادياً لكن محمداً صلى الله عليه وآله يسلم وهو أولى الناس بالبيت هو ومن معه هو الذي يُصد ،
إذن حمية علم أم حمية جهل ؟
حمية جهل فمنعوه وجرت وبينهم وبينه مراسلات فبايع النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه تحت هذه الشجرة على ألا يفروا أبداً وأراد صلى الله عليه وسلم أن يناجز قريشاً ويدخل مكة عنوة ولكن الله عز وجل له حكمة بالغة ،
قتل الرسول ممنوع في كل قانون ،
الرسول الذين يكون بين متحاربين لا يمكن أن يُقتل حتى في الجاهلية ممنوع فقال إن كانوا قتلوه لأناجزنهم فبايع أصحابه وكان عليه الصلاة والسلام يبايعهم على ألا يفروا وقد قال الله في هذه البيعة المباركة ، { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم } ( الفتح 10 ) .
فصرَّح أن مبايعتهم للرسول مبايعةٌ لله وأن الرسول نائبٌ عن الله في ذلك يد الله وهي الرسول فوق أيديهم لكن لما كانت يد رسوله كانت كيده على أحد القولين في الآية ،
فالرسول صلى الله عليه وسلم بايع وقد قال الله في هذه البيعة : { لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرةفعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا عظيما } ( الفتح 18 ) .
والفتح القريب هو الصلح الذي جرى بين الرسول صلي الله عليه وسلم وبين قريش ،
وقد يقول إنسان كيف كان فتحاً مع أن ظاهره أنه هضمٌ للمسلمين ؟(126/24)
قلنا : كانت فتحاً لأن الناس بدءوا يأتي بعضهم إلى بعض من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة لأجل العهد الذي بينهم فكان فتحاً مبيناً والشيء الذي خُشي عليه أن يكون ضغطاً على المسلمين زال ولله الحمد في قصة من ؟
أبي بصير رضي الله عنه ومن خرج إلى مكة ، لما جاء أبو بصير إلى المدينة فاراً من أهل مكة ألحقوا به رجلين ، تعصب ، وإلا لكانوا قالوا : رجلٌ ذهب دعوه يمشي فألحقوا به رجلين يطلبانه لما وصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وإذا الرجلان قد وصلا إلى خلفه فقالا : يا محمد العهد أن من جاء منا إليك فإنك ترده إلينا فلما رده إليهم خرجوا من المدينة وجلسوا يتغدون الثلاثة أبو بصير ورجلا قريش وكان أبو بصير قوياً فقال لأحدهم أعطني سيفك إنه سيفٌ جيد وقام يمدحه قام يمدح هذا السيف قال نعم إنه جيد وكم قرعت به من رأس أكملوا فأعطاه السيف فسلَّه أبو بصير وجبَّ به رقبته والثاني هرب إلى المدينة فاراًّ ولحقه أبو بصير فجاء إلى الرسول مذعوراً وقال إن صاحبي قُتل يعني وأنا أخاف على نفسي فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : ويل أمه يعنى أبا بصير مسعر حرب لو يجد من ينصره فعرف أن الرسول سوف لن ينصره وسيسلمه مرة ثانية فخرج من المدينة وجلس الصراط لعير قريش قعد الصراط لهم كلما جاءت عير هجم عليها وأخذ منها ما شاء الله فعلم بعض الصحابة الذين في مكة بخبره فخرجوا إليه فكانوا عصابة فأخافوا السبيل وأرسلت قريش إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت كلاما معناه خلصنا منه نحن ألغينا عهد الذي بيننا وبينك فيها فرجع أبو بصير ومن معه إلى المدينة واستتب الأمن [28] ولله الحمد وأما العهد الذي كانت مدته عشر سنين فإن قريشاً نقضته حيث أعانت حلفاءها على حلفاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحينئذ أنتقض العهد فلم يكن بينهم وبين الرسول عهد فغزاهم وبهذا صار هذا الصلح صار فتحاً مبيناً [29] ،(126/25)
{ لا يستوي منكم أنفق قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } ( الحديد 10 ) ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية ،
هؤلاء أهل الشجرة ، هذه الشجرة بقيت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى عهد أبي بكر وهي باقية فلما كان عمر سمع أن قوماً يترددون إليها إلى هذه الشجرة فحماية لحمى التوحيد أمر رضي الله عنه بقطعها أرأيتم لو بقيت ؟
لكانت ذات أنواط أو أشد لكان يعبدها الناس ،
والناس الآن أكثرهم همج لكن من بركات عمر بن الخطاب على هذه الأمة أن قطع دابر الشرك قطعها وأخفى موضعها حتى أخفيت الله الحمد ولم يعرف مكانها حتى الآن ،
******************
154 – وقيل : أهل أحد المقدِّمِة ،
والأول أولى للنصوص المحكمة ،
يعني بعد أهل بدر أهل أحد ،
قال بعض العلماء : أن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان ،
ومن المعلوم أن من الصحابة من كان من أهل بدر ومن العشرة ومن أهل بيعة الرضوان ومن أهل أحد يعني بعض الصحابة اجتمعت لهم الأوصاف الأربعة وبعضهم لا ،
إذا قلنا : إن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان ، أيهم أكثر ؟
أهل بيعة الرضوان لأن أهل بيعة الرضوان ألف وأربع مائة وأهل أحد نحو سبع مائة نفر لكن أصابهم من البلاء والتمحيص والقتل ما لم يكن في بيعة الرضوان ،
لهذا رجَّح بعض العلماء أهل أحد على أهل بيعة الرضوان ،
ولكن الذي يظهر القول الأول : أن أهل بيعة الرضوان أفضل ،(126/26)
لأن أهل بيعة الرضوان استحقوا الرضا ، { لقد رضي الله عن المؤمنين } ( الفتح 18 ) .
أما أهل أحد فاستحقوا العفو ،
وفرق بين هذا وهذا قال الله تعالى : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على العالمين } ( الحج 52 ) .
ففرق بين من استحق وصف العفو وبين من استحق وصف الرضوان أيهما أكمل ؟
الثاني أكمل ،
فالصحيح : أن أهل بيعة الرضوان الضربة أفضل من أهل أحد ،
مع أنه ربما يكون أهل أحد قد شملتهم بيعة الرضوان ،
أما أهل أحد فالقصة فيها معروفة ،
الغزوة سببها : أن قريشاً لما هزموا تلك الهزيمة النكراء في بدر ورجعوا إلى بلدهم تشاوروا في ما بينهم وقالوا : محمد استأصل شأفتنا وقتل خيارنا وسادتنا فلنخرج إليه حتى نأتيه في المدينة ونقضي عليه فجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة يريدون القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه هل يخرج أو لا يخرج ، فالذين لم يشهدوا بدراً قالوا له : اخرج ماذا يريدون ؟
يريدون الشهادة الغزو ، والذين حضروا بدرًا قالوا يا رسول الله نبقى في المدينة فإذا جاءونا قضينا عليهم ،
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رجَّح رأي الذين قالوا بالخروج دخل بيته من أجل أن يتأهب للحرب ويلبس لامة الحرب والدرع وغير ذلك ،
فكأنهم تشاوروا في ما بينهم قالوا لعلنا أكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج لأنه كان يميل بالأول إلى أنهم لا يخرجون فلما خرج عليهم وقد لبس لامة الحرب على رأسه واستعد للحرب قالوا : يا رسول الله لو تركنا هذا وبقينا على الرأي الأول أن نبقى في المدينة فإذا يعني قاتلناهم ،
فقال : ما كان ينبغي لنبي لبس لامة الحرب حتى يقضي الله بينه وبين عدوه فخرج ومعه ألف نفر سبعمائة مؤمنون خلص وثلاثمائة منافقون ،(126/27)
وكان المنافقون لا يريدون الغزو يقولون ابقوا هاهنا ولما كان في أثناء الطريق قال عبد الله بن أبي رأس المنافقين محمد يطيع صغار السن ويعصينا لا يمكن أن نقاتل فرجع بثلث الجيش ، ثلث الجيش ليس بالأمر الهين في كسر قلوب الجيش لولا أن الله تعالى أعان المسلمين بالإيمان لانخذلوا إذا رجع من الجيش ثلثه هل يبقى على عزيمته الأولى ؟
أبداً ولهذا حرم الفرار من الزحف ولو واحداً من الناس يفر لأنه يكون سبباً لضعف النفوس ووهن القلوب والهزيمة ،
لكن هؤلاء صمموا حتى كانت الغزوة في أحد تفيد وكان في أول النهار النصر للمؤمنين إلا أن الله أراد بحكمته خلاف ذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خمسين رامياً وأمَّر عليهم عبدالله بن جبير جعلهم على ثغرٍ في الجبل وقال لا تبرحوا مكانكم أبداً سواءٌ لنا أو علينا فلما انكشف المشركون وانهزموا صار المسلمون يجمعون الغنائم قال الرماة بعضهم لبعض انكشف المشركون وولوا الأدبار فانزلوا أنزلوا خذوا من الغنائم اجمعوهاكما يجمعها الناس فذكَّرهم أميرهم عبدالله بن جبير بقول النبي عليه الصلاة والسلام ولكن { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة } ( آل عمران 152 ) ، نزلوا إلا نفراً قليلاً لا يغنون شيئاً وإذا فرسان قريش النبيهين الشجعان رأوا المكان خالياً فكرُّوا على المسلمين من خلف الجبل ومنهم خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل وهما فارسان من فرسان المسلمين والحمد لله فاختلط المشركون بالمسلمين من وراءهم وحصل ما حصل من الأذى والضرر والقتل وأصاب المسلمين محنٌ عظيمة لا على الرسول عليه الصلاة والسلام ولا على أبي بكر ولا عمر ولا غيرها ،(126/28)
حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسد الله وأسد رسوله يُمَثَّلُ بعد أن قتل حتى قيل إن هند بنت عتبة أخذت من كبده فرت بطنه وأخذت كبده جعلت تأكله لكن عجزت أن تبلعه بإذن الله عز وجل والرسول عليه الصلاة والسلام شُجَّ وجهه وجعل الدم يسيل على وجهه وكسرت رباعيته وحصل له من التعب والمشقة ما لا يصبر عليه إلا أمثاله عليه الصلاة والسلام وقتل منهم سبعون نفراً وأصابهم غمٌّ بغم ولكن الله عز وجل سلاّهم بآيات كثيرة في سورة آل عمران نصفها أو أكثر كلها عن هذا الغزوة ،
وكانت النتيجة أن قتل منهم سبعون نفراً وقال الله تبارك وتعالى : { أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا } ( آل عمران 165 ) ، كيف هذه المصيبة ؟ قال تعالى : { قل هو من عند أنفسكم } ، أنتم السبب ، { إن الله على كل شيء قدير } ، هو قادر عز وجل على أن يكشف المشركين ولا ينالكم سوء لكن أنتم البلاء ، { قل هو من عند أنفسكم } ، يقول هذا : لمن ؟ لجندٍ معهم رسول الله عليه الصلاة والسلام { قل هو من عند أنفسكم } .
وما هي المعصية التي فعلوا ؟ معصية يسيرة ، فما ظنكم بنا الآن ؟
نعم هل عندنا شئٌ يمنعنا من النصر ؟
أقول : ليس عندنا شيء يوجب لنا النصر ، كثيرٌ من حكام المسلمين لا يرضون أن يحكموا بكتاب الله وسنة رسوله وكثيرٌ من حكام المسلمين يلاحقون المؤمنين بالله ورسوله ، { وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد } ( البروج 8 ) .
وكثيرٌ من أسواق المؤمنين تُشرب فيها الخمور وتُعاقر فيها النساء وكثيرٌ من حكام المسلمين لهم موالاةٌ ظاهرة مع أعداء الله فهل يمكن أن يكون النصر لهؤلاء ؟
أبداٌ قد يكون هؤلاء أحق بالخذلان من الكفار الخُلَّص لأن الكفار كفار لكن هؤلاء ينتمون إلى الإسلام وهم لا يؤمنون بالإسلام حقيقة ولذلك نبذوا الكتاب وراء ظهورهم إلا من شاء الله ،(126/29)
فأقول : إننا ما أصبنا بهذه المصائب التي نحن عليها اليوم إلا بسبب ذنوبنا وذكرت لكم سابقاً أن لذلك سببين :
الأول : الذنوب ،
الثاني : الامتحان لنصبر أو لا نصبر ،
لأنني قلت لكم الآن : إنه ولله الحمد فيه نهضة ،
لأنني قلت لكم : أنه الآن ولله الحمد فيه نهضة شبابية إسلامية فيمتحن هؤلاء هل يصبرون أو لا يصبرون ،
قال الله تعالى : { أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول } ( البقرة 214 ) : يعني معهم رسولهم ، { حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله } ، قال الله تعالى : { ألا إن نصر الله قريب } .
فالحاصل : هذه أحد غزوة أحد حصل فيها من البلاء والتمحيص ما لم يحصل في غيرها ،
ولهذا قال بعض العلماء : إنها أفضل من غزوة الحديبية ،
ولكن الصحيح : أن أهل الحديبية أفضل من أهل بدر ،
وذلك لأنه الله تعالى أحل عليهم رضوانه وأما هؤلاء فقال الله تعالى : { ولقد عفا عنكم } ( آل عمران 152 ) .
قوله : ( والأول أوْلى ) : هنا تسقط الهمزة همزة القطع مراعاة للوزن ،
قوله : ( للنصوص المحكمة ) : يعني للأدلة أدلة النصوص المحكمة يعني الواضحة البينة ،
لأن المحكم يقال بازاء المتشابه ،
قوله تعالى : { منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات } ( آل عمران 7 ) .
ويقال بإزاء المنسوخ فيقال هذا محكم وهذا منسوخ وأصل الإحكام هو الإتقان ،
******************
155 – وعائِشُ في العلم مع خديجة ،
في السَّبْقِ فافهم نُكْتَةَ النتيجة ،
156 – وليس في الأمة كالصحابة ،
في الفضل والمعروف والإصابة ،(126/30)
157 – فإنهم قد شاهدوا المختارا ،
وعاينوا الأسرار والأنوارا ،
158 – وجاهدوا في الله حتى بانا ،
دين الهدى وقد سَمَى الأديانا ،
159 – وقد أتى في محكم التنزيل ،
من فضلهم ما يشفي الغليل ،
عائشة وخديجة من أمهات المؤمنين رضي الله عنهن ،
وقد اختلف العلماء أيهما أفضل [30] :
1 - فقيل : إن عائشة أفضل ،
2 - وقيل : إن خديجة أفضل ،
والصواب : أن يقال :
أما مرتبتهما عند الله فهذا ليس إلينا ، إلى من ؟ إلى الله عز وجل لا نتكلم في هذا ،
وأما المفاضلة بينهما بحسب ما ظهر لنا من أفعالهما وأحوالهما فهذا إلينا ،
لأنه أمرٌ ظاهر معروف ،
وأما باعتبار كونهما زوجين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مفاضلة ،
كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يشتركن في هذه الفضيلة ،
في أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة ،
وأنهن أمهات المؤمنين ،
وأنه يجب علينا من احترامهن وتعظيمهن ما يليق بهن وبحالهن ،
فالجهات الآن ثلاث :
أولاً : من حيث كونهما زوجين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ،
ففي هذه الحال لا مفاضلة ،
لأن جميع أزواج الرسول يشتركن في هذا الفضل ،
ثانياً : من حيث المرتبة عند الله ،
فهذا لا مفاضلة أيضاً ،
لأن هذا مجهول لنا وكم من شخصين علمهما واحد لكن مرتبتهما عند الله بينهما كما بين السماء والأرض لأن الله لا ينظر إلى صورنا وأعمالنا وإنما ينظر إلى قلوبنا ،
بقي علينا الأعمال الظاهرة أيهما أفضل عائشة أم خديجة ؟
أصح ما قيل في ذلك : ما أشار إليه المؤلف رحمه الله :(126/31)
أن خديجة لها فضل السبق إلى الإسلام ولها فضل مناصرة النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره وأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها دائماً وأنه لم يتزوج عليها وأنها أم أكثر أولاده ولها مزايا ،
عائشة رضي الله عنها في كونها أحب النساء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعنايتها بالرسول صلى الله عليه وسلم وشدة محبتها له وما نشرت من العلم الكثير في الأمة تكون بذلك أميز من خديجة ،
فصارت هذه أفضل من وجه وهذه أفضل من وجه ،
وعلى هذا أشار بقوله : ( وعائشة في العلم مع خديجة في السبق ) ، هذه علم نشرته كثيراً في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ،
وتلك خديجة سبقت وناصرت الرسول وعاضدته رضي الله عنه وجزاها الله عنا خيراً ،
وعائشة في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام لا أحد يشك في درجتها عند الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته لها بل وكونه صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها وفي حَجْرِِها وفي يومها وآخر ما طَعِمَ من الدنيا ريقها رضي الله عنها .
كل هذه فضائل وميزات لم تحصل لخديجة ولا لغيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم ،
ولهذا قال : ( فافهم ) : بالنسبة للمحبة محبتنا لهن نحبهن كلهن على حدٍّ سواء من حيث كونهن زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام ولهن عندنا من الاحترام والتعظيم ما يليق بحالهن ويزداد حبنا للواحدة منهن بحسب ما أسدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وما وإلى الأمة ،
وهذا هو العدل والميزان الحق ،
وأما الميل مع العاطفة فهذا لا شك أنه خلاف الحق ، { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } ( النساء 135 ) ، يعني إن أردتم العدل لا تتبعوا الهوى اتبعوا ما يقتضيه العقل نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهل الحق والعدل إنه على كل شئٍ قدير ،(126/32)
والقرآن لا شك أنه محكم متقن في ألفاظه ومعانيه وفي جميع ما يتعلق به أخباره صدق وأحكامه عدل لا تجد فيه تناقضاً ، { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا } ( النساء 82 ) .
ولكن قد يشكل على أن الله تعالى سماه في موضعٍ متشابهاً فقال : { الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها } ( الزمر 23 ) ، والتشابه ضد المحكم ، لأن المتشابه يوجب لمن نظر فيه الحيرة والتردد ، فلا يكون محكماً ؟
والجواب عن ذلك أن يقال :
التشابه الذي وُصف به القرآن ، ليس هو التشابه الذي هو خفاء المعنى بل التماثل والتساوي يعني أنه متماثِل يشبه بعضه بعضاً في كماله وجودته وإصلاحه للقلوب والأعمال ،
ولهذا لما أُريد بالمتشابه ( المشتبه فيه معناه ) قسَّم الله تعالى المتشابه إلى قسمين :
1 - محكم ،
2 - ومتشابه ،
فقال جل وعلا : { هو الذي أنزل عليك الكتاب هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله } ( آل عمران 7 ) .
فحينئذٍ نقول : القرآن محكم بمعنى واضح بيِّن لا يشتبه على أحد ،
ومتشابه خفيُّ المعنى لا يعلمه إلا أولوا العلم الراسخون فيه ،
ولهذا قال : { وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم } ، على قراءة الوصل ،
فصار القرآن نَصِفُهُ بأنه كله محكم وبأنه كله متشابه وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه ،
ولكن المعنى يختلف في هذا التفسير ،
هل يمكن في القرآن آياتٌ متشابهة على جميع الناس لا يُعرفون معناها ؟
لا ، لا يوجد مثل هذا في القرآن ،
والدليل : قوله تعالى : { ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء } ( النحل 89 ) ، { يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا } ( النساء 174 ) .
لا يمكن إطلاقاً أن يوجد فيه آية أو كلمة لا يُفهم معناها لكن حقيقة الذي يخفى هو حقيقة مدلولات الآيات مثل ما اخبر الله عن نفسه وعن اليوم الآخر ، لا نعرف حقيقته ،(126/33)
إذا قال قائل : هذا القول الذي قلتم أنه لا يوجد شئٌ يخفى معناه على جميع الناس منقوضٌ بالحروف الهجائية التي ابتدئت بها السور فإن أحداً لا يعرف معناها ، إذا قال لك قائل : ما معنى { نون والقلم ما يسطرون } ( القلم 1 ) ، ما معنى : { نون } [31] ؟
نقول : ليس لها معنى أصلاً لأنها حروف هجائية غير مركبة والقرآن نزل بلسانٍ عربي واللسان العربي يقتضي أن هذه الحروف ليس لها معنى ولكن لها مغزى وهي ظهور إعجاز القرآن لهؤلاء القوم الذين ادعوا أنه مُفترىً على الله عز وجل وأنه قول البشر .
ويدل لهذا : أنه ما من سورة ابتدئت بهذه الحروف إلا وبعدها ذكر القرآن ،
******************
160 – وفي الأحاديث وفي الآثار ،
وفي كلام القوم والأشعار ،
قوله : ( وفي الأحاديث وفي الآثار ) : يعني ورد أيضاً في الأحاديث والآثار ، الأحاديث ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والآثار ما أضيف لغيره ،
هذا عند الإطلاق .
وإلا فقد يراد بالأثر : ( ما أضيف للنبي صلى الله عليه وآله وسلم ) .
لكن الغالب أنه يُقيد يقال : في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
قوله : ( وفي كلام القوم والأشعار ) : الظاهر أنه يريد بالقوم الصحابة وكذلك من بعدهم فإن في أشعارهم من الثناء على الصحابة وبيان فضلهم ومواقفهم ،
******************
161 – ما قد ربا من أن يحيط نظمي ،
عن بعضه فاقنع وخذ من علم ،
قوله : ( ما قد ربا من أن يحيط نظمي عن بعضه ) : ( ربا ) مكتوبة عندي بالياء ،
والصواب : أن تُكتب بالألف ،
لأن الألف المتطرفة في الثلاثي يُنظر إلى أصلها ،
إن كان أصلها الواو فإنها تُكتب بالألف وإن كان أصلها الياء فإنها تُكتب بالياء ،(126/34)
فمثلاًَ : ( دعا ) تُكتب بالألف لأنها أصلها الواو دعا يدعو ،
( ربا ) مكتوبة بالألف لأنها من ربا يربو ،
( رمى ) لأنها من رمى يرمي ،
( قضى ) بالياء لأنها من قضى يقضي ،
أما ما زاد على الأربعة الألف التي تكون رابعةً فأكثر يعني ما زاد على الثلاثة فتُكتب بالياء إلا ما استثني ،
قلنا مثلاً : ( ربا ) تُكتب بالألف .
لكن لو قلت : ( يستربي ) ، فإنها تًُكتب بالياء .
لأنها زائدة على الثلاثة دعا تُكتب بالألف .
لكن لو قلت : يُستدعى كتبتها بالياء .
فهذه هي القاعدة ،
قوله : ( عن بعضه ) : يعني معناها أن نظمه ربا من أن يحيط عن بعض ما قيل فيهم ،
فكيف بالكل ؟
يكون من باب أولى أن يعجز عنه ،
قوله : ( فاقنع وخذ من علمِ ) : رحمه الله وجزاه الله خيراً ،
ولْيُعْلَم أن المطالعة في سيرة الصحابة رضي الله عنهم تحتاج إلى حذر ،
وذلك لأنه ظهر أعداءٌ للصحابة من بعدهم من الخوارج والروافض ،
فيحتاج الإنسان إلى حذرٍ فيما يُنقل عن الصحابة رضي الله عنهم وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية [32] تلك العقيدة المباركة أشار إلى ما ورد عن الصحابة مما حصل من الفتن وأن ما وقع منهم يكون مغفوراًَ ومغموراً بجانب الفضائل ،
******************
162 – واحذر من الخوض الذي قد يُزري ،
بفضلهم مما جرى لو تدري ،
قوله : ( احذر ) : فعل أمر من الحذر وهو التخوف وعدم الإقدام والوقوف أمام الشر والفتنة بحيث لا يتجاوزها المرء ،
قوله : ( من الخوض ) : ( الخوض ) الكلام اللغو الذي لا فائدة منه ،(126/35)
ويُطلق على الكلام الذي يتأثم فيه الإنسان كما قال تعالى : { الذين هم في خوض يلعبون } ( الطور 12 ) ، فالكلام الذي لا فائدة منه في الصحابة أو الكلام الذي قد يتأثم فيه العبد يجب أن نحذره وألا نتكلم فيه ،
قوله : ( قد يزري بفضلهم ) : أي يحط من قدرهم ،
قوله : ( مما جرى ) : بينهم أي مما وقع بينهم
قوله : ( لو تدري ) : ( لو ) هذه للتمني يعني ليتك تدري ،
وذلك أنه جرى من الصحابة رضي الله عنهم من الأمور التي هي في الواقع من المتشابه لكن من المتشابه الواقع لا من المتشابه المُنزَّل ،
وجه كونها من المتشابه أنه قد يكون فيها مدخلٌ لكل ذي غرضٍ سيئ وأن الصحابة رضي الله عنهم تقاتلوا فيما بينهم وأراقوا الدماء من أجل الوصول إلى السلطة لا من أجل الوصول إلى الحق فهو من المتشابه الواقع ،
وطريقة أهل العلم والإيمان في المتشابه من المنزل أو من الواقع أن يرجعوا إلى المحكم الذي لا تشابه فيه ،
فما جرى من الصحابة رضي الله عنهم من الفتن كالذي بين علي وعائشة رضي الله عنهما والزبير [33]وبين علي ومعاوية [34] وأحداث كثيرة تُعلم من التاريخ استغلها المغرضون الحاقدون على الإسلام من أجل الطعن في الصحابة ، وحملوها على أنها صدرت عن نيةٍ سيئة كالرافضة الذين في قلوب كثيرٍ منهم غِلْ وحقد على الإسلام ولا سيما على عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي أطاح بعروشهم وفلَّ جموعهم فكانوا يتخذون من هذه الوقائع سُلَّماً للقدح في الصحابة رضي الله عنهم حتى أنهم كانوا يلعنون من قام ضد علي بن أبي طالب رضي الله عنه ويتقربون إلى الله تعالى بلعنه والعياذ بالله مع ما له من الفضيلة ،
لكن الراسخين في العلم وأهل الإيمان يقولون : إن هذا الأمر الذي وقع بينهم يجب أن يُحمل على نيةٍ حسنة ، لماذا ؟(126/36)
لما للصحابة من الفضل والمعروف والإحسان والجهاد في سبيل الله فما يقع منهم من المعاصي فهو مغمورٌ في جانب الحسنات والحَكَمُ العَدْلُ هو الذي يقارن بين الحسن والسيء ويجعل الحكم للأكثر ونحن إذا قارناَّ لما حصل بين الصحابة مما يُظنُّ إثماً وبين ما حصل منهم من الفضائل والكمالات وجدنا أن الثاني أكثر بكثير والواجب أن تنغمر السيئات في جانب الحسنات هذا هو العدل ،
وما أحسن كلمة قالها ابن رجب رحمه الله في مقدمة كتاب القواعد : ( المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه ) [35] ،
ولهذا يقول المؤلف رحمه الله : ( فإنه عن اجتهادٍ قد صدر ) ،
******************
163 – فإنه عن اجتهادٍ قد صدر ،
فاسلم أذل الله من لهم هجر ،
قوله : ( فإنه ) : أي ما جرى بين الصحابة من الفتن والقتال ،
قوله : ( عن اجتهادٍِ قد صدر ) : والاجتهاد افتعال من جَهَدَ أي بذل الجهد وهو الطاقة في الحصول على المقصود ،
ولهذا يُسمى العالم الذي يتطلب الأحكام من أدلتها الشرعية يُسمى مجتهداً لأنه يبذل جهده وطاقته ووُسْعَه للوصول إلى الحق عن طريق الدليل ،
فالصحابة رضي الله عنهم حصل ما حصل بينهم عن اجتهاد ،
فمثلاً : معاوية وعائشة رضي الله عنها والزبير قاتلوا يظنون أن هذا هو الذي سبباً للعثور على قتلة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه ليُقتص منه ، وعلي بن أبي طالب أخَّر البحث عن القاتل أو عن المتآمرين لأن الحال تقتضي ذلك الناس في فتنة ويصعب جداً أن نعثر على هؤلاء المدبرين ثم إذا عثرنا فإن قتلهم قد يؤدي إلى فتنةٍ أكبر لأن منهم رؤوس قبائل ،
فعليٌّ له رأي ،
ومعاوية وعائشة والزبير لهم رأيٌ آخر ،
كلها عن اجتهاد ،(126/37)
ثم إنه قد قيل : إن الفتنة كادت أن تنطفئ لولا رجالٌ من رجال معاوية صار في نفوسهم بعض الشيء وبادروا بالقتال فحصل الشر ،
وأياًّ كان التقدير فإنه يجب أن نحمل الإساءة على الإحسان وننظر بينهما ونقول : إذا قدَّرنا أن هؤلاء أخطئوا في هذه الفتنة الكبيرة فإن لهم من الحسنات ما يوجب محو هذا ،
والإنسان المجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر والخطأ مغفور ،
هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا حكم الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجرٌ ) [36] ،
وهؤلاء بين مجتهدٍ مصيب ومجتهد مخطئ فالمصيب له أجران والمخطئ له أجرٌ واحد ،
فإن قال قائل : أيهم أقرب إلى الصواب وأيهم أحق بالخلافة ؟
فالجواب : أن الأقرب للصواب والأحق للخلافة علي بن أبي طالب لا شك في هذا ،
ودليل ذلك : قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمار بن ياسر : ( إنه تقتله الفئة الباغية ) [37] ، ( الباغية ) يعني الخارجة على الإمام والذي قتل عمَّاراً هم أصحاب معاوية ،
وعلى هذا يكون علي بن أبي طالب أقرب إلى الصواب ويكون جيش معاوية هو الفئة الباغية ،
لكن مع هذا يجب علينا ألا نضمر حقداً ولا بغضاء لواحد من الصحابة وأن نحمل ما جرى منهم من الخطأ على أنه اجتهاد والله يغفر له ،
ثم إنه من العقل والإيمان ألا نجعل ما جرى بين الصحابة من هذه المسائل سبباً للأخذ والرد والخلاف لأن هذه أمةٌ قد خلت { لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت } ( البقرة 286 ) .
علينا أن نجتمع من الآن على طريق الحق الذي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وألا نداهن كما يدعو إليه بعض الناس اليوم من محاولة التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة
لأن محاولة التقريب بين المذهب الحق والمذهب الباطل ليس إلا مداهنة ، مداهنة في دين الله ،
وإن من الواجب على الجميع الرجوع إلى الكتاب والسنة وهَدْي السلف الصالح ،(126/38)
وأول ما يجب الكف عن مساوئ الصحابة رضي الله عنهم [38] واعتقاد أن من أخطأ منهم فإن خطأه منغمر في جانب صوابه وما حصل من فساد فإنه منغمر في جانب الإصلاح هذا الواجب علينا فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم ،
قوله : ( فاسلم ) : من أي شيء ؟ اسلم من الخوض والوقوع فيهم والعداوة والبغضاء لهم ،
قوله : ( أذل الله من لهم هجر ) : أي أوقعه الله في الذل والهوان وهذه الجملة الخبرية جملةٌ دعائية ، ويشير رحمه الله إلى الرافضة الذين هجروه ،
لا نقول : هجروهم لا يكلمونهم لأنهم أموات ،
لكن هجروا فضلهم ونشر فضلهم بل اعتدوا عليهم يعني ليت الصحابة سلموا منهم ليتهم سكتوا عن نشر فضائلهم ولكن لم يتهموهم ويرموهم بالباطل والكذب ويلعنونهم على رؤوس المنابر والعياذ بالله ويلعنوهم في كتبهم الصباحية في أذكار الصباح والمساء يكتبون ( اللهم ألعن صنمي قريش وجتبيهما وطاغوتيهما ) يعنون بذلك أبا بكر وعمر والعياذ بالله نسأل الله العافية نحن رأينا كتبهم هكذا في أذكار الصباح والمساء يعني يتقربون إلى الله بلعن أبي بكر وعمر نسأل الله العافية ،
ولكن أبعدهم الله لا يزدادون بذلك إلا بعداً من الله عز وجل ،
فنشكر المؤلف ونسأل الله أن يعفو عنه حيث دعا بالذل على من هجر الصحابة بعدم نشر فضائلهم بل زاد على ذلك أنه نشر ما اتهمهم به بل وكذب عليهم به من المساوئ ،
******************
164 – وبعدهم فالتابعون أحرى ،
بالفضل ثم تابِعوهُم طراّ ،
قوله : ( أحرى ) : أجدر بعد الصحابة التابعون ، التابعون لهم بإحسان وهم القرن الثاني من هذه الأمة ،
واعلم أن القرن يُعتبر بأكثره كما قال شيخ الإسلام رحمه الله [39] ،(126/39)
وليس معنى التابعين أنه لا يوجد أحدٌ من الصحابة لا ، فإذا كان القرن أكثره من التابعين أي ممن لم يشاهدوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يُسمى قرن التابعين وإن كان يوجد العشرة والمائة وما أشبه ذلك من الصحابة وكذلك يقال في تابع التابعين فالقرن يُعتبر بأكثر أهله ،
التابعون هم أحرى الناس بالفضل بعد الصحابة رضي الله عنهم ،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) [40] ،
والتفضيل هنا تفضيلٌ للجملة على الجملة وليس لكل فردٍ على كل فرد ،
بمعنى أنه قد يوجد في تابع التابعين من هو أفضل من التابعين في العلم والعبادة والجهاد ،
كذلك أيضاً يوجد في التابعين من هو أفضل من الصحابة في العلم والجهاد ليس الصحابة عموماً ،
بل من بعض الصحابة الواحد من هؤلاء قد يفضل الواحد من هؤلاء ، إلا أن الصحابة يتميزون بخصيصةٍ ليست لغيرهم وهي الصحبة هذه لا يمكن أن ينالها أحد من التابعين لكن الفضل والعلم والجهاد ربما يوجد في التابعين من خيرٌ من بعض الصحابة كما يوجد في تابع التابعين من هو خيرٌ من التابعين ،
فالتفضيل إذن للجملة لا لكل فرد إلا ما ذكرت لكم من تميز الصحابة رضي الله عنهم بهذه الخصيصة وهي الصحبة ،
قوله : ( ثم تابعوهم طُراّ ) : تابع من ؟ تابع التابعين ،
قوله : ( طُراًّ ) : يحتمل بمعنى قطعاً وأن تكون بمعنى جميعاً وهو كذلك نحن نقطع بأن تابع التابعين بعد التابعين وأن التابعين بعد الصحابة ، نقطع بذلك ،
وسكت المؤلف عن بقية الطبقات يعني لم يذكر إلا ثلاث طبقات الصحابة والتابعون لهم وتابع التابعين وإنما اقتصر على ذلك بناءاً على ما في حديث عمران بن حصين وغيره من أن خير الناس الصحابة ثم التابعين ثم تابعوا التابعين ،
وعلى هذا فنقول : ما بعد هذه القرون الثلاثة حصلت الفتن وانتشرت البدع وتفرقت الأهواء وحصل الشر الكثير ورفعت المبتدعة رؤوسها ،(126/40)
واضطرب الناس أمناً وإيماناً وتكلم الناس في كل شيء حتى تكلموا في الله عز وجل ،
وصاروا في الله ما بين معطّلٍ لصفاته ومثبتٍ ممثل وقائمٍ بالقسط معتدل ،
واختلاف الناس في الله عز وجل وفي أسمائه وصفاته كان بعد الاختلاف في مسألة القدر ومسألة الإيمان والكفر ،
لأن مسألة القدر أدركت أواخر عصر الصحابة رضي الله عنهم ،
ومسألة الأسماء والإيمان والكفر بعدها وكذلك الإرجاء وما يتعلق به ،
ثم جاءت بدع الأسماء والصفات وانتشرت هذه انتشاراً عظيماً وصار الناس يتكلمون عليها أكثر من غيرها لأنها أشد خطراً من غيرها ،
وإلى هنا انتهى كلام المؤلف على الصحابة على ما يتعلق بفضلهم وبعدُ فإني أدعوكم إلى قراءة أخبار الصحابة رضي الله عنهم بعد قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يشد الإنسان نفسه مع السابقين السالفين ليزداد بذلك إيماناً ومحبةً لهم ومنهجاً طيباً ،
الأسئلة
السؤال : صغار الصحابة الذين كانوا في المدينة ولكن لم يروا النبي صلى الله عليه وسلم كانوا داخل البيوت ، هل تعتبر لهم صُحبة أم لا ؟
الجواب : لا ، الذين لم يجتمعوا به لا تعتبر لهم صُحبة ،
السؤال : يعتبرون متبعين حكماً لأن آباؤهم متبعين لفعله ؟
الجواب : لا ، لا تعتبر ، لا بد أن يجتمعوا به ،
السؤال : صغار الصحابة الذين رأوا النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكونوا متحملين ؟
الجواب : تكون روايتهم مرسلة ،
السؤال : هل تُقبل ؟
الجواب : ومرسل الصحابي له حكم الاتصال ، هذا يُعلم من مصطلح الحديث ،
السؤال : من أعلى مرتبة الأخوة أو الصحبة يعني إذا قلت هذا صاحبي أو أخي ليست بأخوة نسب ؟
الجواب : المصاحب لك مؤمن ، إذن اجتمعت في حقه أخوة وصُحبة ،(126/41)
ومن لم يكن صاحباً فليس في حقه إلا الأخوة ولهذا لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام : ( ليت أناَّ نرى إخواننا ) قالوا : أو لسنا إخوانك يا رسول الله ؟ قال : ( أنتم أصحابي ، إخواني قومٌ يأتون من بعدي يؤمنون بي ولم يروني ) فقوله : ( أنتم أصحابي ) [41] : يعني أعلى من الأخوة ، وإذا كان أخوك فهو من الإيمان فإن صاحَبَك فهو أخوك وصاحبك ،
السؤال : بالنسبة لمصطلح الحديث : الذين قالوا أن مرسل التابعي الأصل فيه الضعف فمرسل الصحابي لا يقبل لأن الأصل فيه الضعف ؟
الجواب : ليس بصحيح ،
الصحيح : أن مرسل الصحابي مقبول وأن له حكم الاتصال ،
أما مرسل من بعد الصحابة فهو منقطع ،
إلا إذا عُلم أن هذا التابعي لا يروي إلا عن صحابي كسعيد بن المسيب فإنهم قالوا : إنه لا يروي إلا عن أبي هريرة وعلى هذا فيكون مرسله متصلاً ،
السؤال : المخضرم حديثه منقطع أو مرسل ؟
الجواب : منقطع ، المرسل منقطع ،
لأن كل مرسل أو معلق أو معضل أو منقطع بالمعنى الخاص فهو منقطع ما لم يتصل سنده ،
فيشمل الأربعة يشمل المنقطع والمعضل والمرسل والمعلق ،
السؤال : الصديق والزميل هل هما بمعنى الصاحب ؟
الجواب : لا الصديق غير الزميل قد يكون صديقك وليس زميلك وقد يكون زميلك وليس صديقك ، الزميل المشارك لك في مهنة من المهن ،
فمثلاً : قد تكون أنت وهو في فصلٍ واحد فيكون زميلك ، لكن هل هو صاحبك ؟
قد وقد ، الصديق صديق سواءً زميل أو غير زميل حتى لو مثلاً عمله يباين عملك فهو صديقك ،
لا يشترط في التحمل الإسلام ، الإسلام يشترط في الأداء ،
أما التحمل فلا يُشترط لأنه إذا أسلم لا يمكن أن يقول كذباً ,
السؤال : كيف نوفِّق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ ) [42] ، وقول أبي هريرة : أوصاني خليلي …… ، [43] ؟
الجواب : الخلة من جانبين ، الخلة تكون من جانبين زيد خليلٌ لعمرو وعمرو خليلٌ لزيد ،(126/42)
الممنوع هو أن الرسول يتخذ خليلاً ،
أما أن يُتخذ هو خليلاً فلا بأس ،
بل هو الواجب علينا ، الواجب علينا أن نجعل الرسول عليه الصلاة والسلام هو خليلنا وأحب الناس إلينا ،
السؤال : أخذنا أحسن الله إليك أنه إذا كان الإنسان مسلماً ثم ارتد ثم أسلم ، فإن أعماله السابقة تُقبل ، والله سبحانه وتعالى يقول : { لئن أشركت ليحبطن عملك } ( الزمر 65 ) ، فيشمل جميع الأعمال ؟
الجواب : هذا عام ظاهره سواءً رجعت أو لم ترجع ولكن الذي قال : { لئن أشركت ليحبطن عملك } ، والذي قال : { ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون } ( الأنعام 88 ) .
فالأول في حق الرسول وهذا في حق الناس هو الذي قال : { ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم } ( البقرة 217 ) .
وعلى هذا فيكون المطلق مقيداً بما إذا مات عليه ، وربما يكون عوده إلى الإسلام بعد الردة خيراً كثير من الناس السفهاء عندنا الآن مسلمون هم مسلمون حقيقةً وحكماً ثم يرتدون بترك الصلاة والفجور وكل الأعمال السيئة ثم يهديهم الله فيكونون أحسن حالاً من قبل بكثير ،
السؤال : هل من مذهب أهل السنة الترضي عن الصحابة ؟
الجواب : نعم ، هذا من حقهم علينا ، وإلا فإن الله عز وجل وصف الذين من بعدهم بأنهم { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } ( الحشر 10 ) ، ولم يذكر الترضي لكن من حقوقهم علينا ومن الأدب ، ومن الاعتراف بالفضل أن نترضى عليهم وإلا فهو ليس بواجب ،
السؤال : قولهم علي كرم الله وجهه وقولهم الإمام علي هل هذه …… ؟
الجواب : هذه من شعار الرافضة ، نحن نقول عليٌ إمام لا شك وقوله متبوعٌ بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام : ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ) [44] ، وعليٌ منهم ،
ونقول : أبو بكر إمام وعمر إمام وعثمان إمام بل نقول : من دون هؤلاء إمام ،
الإمام أحمد بن حنبل الإمام الشافعي الإمام أبو حنيفة ،(126/43)
ليست الإمامة خاصة بعلي بن أبي طالب إلا إذا كانوا يريدون بها إمامةً هم يدَّعونها وهي إمامة العصمة ،
فنحن لا نقرهم على ذلك لا في علي بن أبي طالب ولا غيره إلا الرسول صلى الله عليه وسلم [45] ،
أما قولهم : ( كرم الله وجهه ) فالتكريم أيها أبلغ التكريم أو الرضا ؟
الرضا ،
الدليل على هذا : ( أهل الجنة يقول الله لهم تمنوا علي فيقولون ألم تعطنا ألم تفعل ألم تفعل ويذكرون ما هو عليهم ثم يقول إنكم عليَّ أن أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً ) [46] ،
فصار الرضوان أعظم من التكريم هؤلاء الذين أرادوا أن يكرموا علي بن أبي طالب عدلوا عن الأفضل إلى المفضول ،
نقول : إذا قلتم علي ( رضي الله عنه ) أفضل من إذا قلت ( كرم الله وجهه ) ،
لأن التكريم دون الرضا ،
والدليل : حديث أهل الجنة مع الله عز وجل أنهم يذكرون نعمه عليهم وإعطاءه ثم يقول : ( أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً ) ،
لكن الإنسان الذي يريد الباطل بإذن الله يُحرم الحق لما أرادوا الباطل بهذا ،
وتخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك حُرموا الحق و عدلوا إلى المفضول مع وجود أفضل ،
فنحن نقول : إن أكرم شيء يناله العبد رضا الله ، { والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان } ( التوبة 100 ) ، كرَّم الله وجوههم ، هذه الآية ؟ أم { رضي الله عنهم ورضوا عنه } ( البينة 8 ) ؟
{ رضي الله عنهم ورضوا عنه } ، { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا } ( البينة 7 – 8 ) ، ماذا بعدها ؟
{ رضي الله عنهم ورضوا عنه } ، ختمها بهذا { ذلك لمن خشي ربه } .
يقولون : إنهم يصفونه بـ ( كرَّم الله وجهه ) لأنه لم يسجد لصنم ،(126/44)
فنقول : إذا كان الأمر كذلك فما أكثر الصحابة الذين لم يسجدوا لصنم ، كل الذين وُلدوا في الإسلام لم يسجدوا لصنم والذين في الجاهلية لا نعلم عنهم سجدوا للأصنام أم لم يسجدوا ،
السؤال : قوله ( مفرج الأوجال ) و ( مُجْلي الصدا ) أليس في هذا العموم غلو ؟
الجواب : الحقيقة أن فيه شيئاً من الغلو خصوصاً ( مفرج الأوجال ) ،
لكنه يقال في الاعتذار عن المؤلف رحمه الله : أن هذا وصفٌ إضافي بمعنى أنه عندما يخاف الناس يكون هو الذي يزيل الخوف عنهم لكن بأمر الله عز وجل ،
وإلا فإن التفريج المطلق لا يكون إلا لله عز وجل ،
أما ( مجلي الصدا ) فكذلك أيضاً يمكن أن نقول فيه شيء من المبالغة ،
لكنه رحمه الله كما قلت لكم إنما أطنب في وصفه بالمدح للسببين اللذين ذكرناهما أولاً الرد على الرافضة والثاني الرد على الناصبة ،
السؤال : هل صحيح أن شيخ الإسلام قال : ( أن علماء الرافضة كفار وعامتهم فساق ) ، هل ثبت عنه هذا القول ؟
الجواب : لا أدري ، لم أرَ هذا لكن القاعدة عن شيخ الإسلام كما عرفتموها أن الإنسان الذي لا يعلم الحق ولم يُبين له لا يكون كافراً ،
السؤال : سمعنا ورأينا من عوام الرافضة سبهم للصحابة على المنابر والطرقات وأنهم إذا أرادوا أن يسبوا امرأة قالوا : ( أنتِ عائشة ) سباًّ لها ؟
الجواب : إذا كان هؤلاء يسبون الصحابة على المنابر فالواجب منعهم وإذا لم نستطع يجب أن نبين الحق وألا نّسُبَّ من يغلون فيهم ،
لأن هؤلاء النواصب لما صار هؤلاء يسبون الصحابة قالوا : إذن نسب جماعتكم الذين تغلون فيهم ،
فنحن نتبع الحق نقول : أهل البيت لا شك أن المؤمنين منهم الذين يساويهم غيرهم في الإيمان هم أعني آل البيت هم أحق بالمحبة لقرابتهم بالنبي عليه الصلاة والسلام ونكتفي بالتبيين لأن العوام مشكل العامي الآن يرى أن عالمهم هو العالم وأن من سواه جاهل ،(126/45)
ولهذا تجد مثلا الرجل يثق بفتوى عالم من علماء المملكة إذا كان هو من أهل المملكة لكن لا يثق من نفس الفتوى إذا كانت من عالمٍ آخر ،
فهذه مشكلة في الحقيقة مسألة العوام من أشكل ما يكون عندي ،
لأن بعضهم قد يكون بلغه الحق ولو لم يكن من بيان الحق ،
إلا أنهم يقولون هؤلاء هم أهل سنة وهؤلاء شيعة أيهم أقرب للصواب الذين على سنة أو الذي يتشيع لآل البيت ؟
يعني حتى الفطرة تقتضي أنه لا يجوز اعتناق الشيعة مع وجود السنة لأن السنة هي الأصل ،
السؤال : المراد بعلي أبو ذو السبطين ؟
الجواب : السبطين الحسن والحسين فإن سبطا الرجل أولاد بناته أي يعني بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم ذو النورين عثمان يقال أنه أخذ بنتي رسول صلى الله عليه وسلم ،
السؤال : قول الله تعالى لأهل بدر : ( اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) [47] ؟
الجواب : هذا مشكل لأن ظاهر العموم ( اعملوا ما شئتم ) يشمل الكفر ،
والجواب عن هذا بأحد وجهين :
الأول : أن يقال إنه لا يمكن أن يشاءوا الكفر لما حل في قلوبهم من الإيمان الراسخ الذي لا يمكن أن يدخل من خلاله الكفر فيكون هذا بشارةٌ لهم أنهم لن يكفروا ويبقى ما دون الكفر مكفر بهذه الغزوة ،
إذن معناه أن قوله ( ما شئتم ) لا يدخل فيه الكفر لأنه لا يمكن أن يشاءوا الكفر بسبب ما قدموه من هذه الحسنات العظيمة ويكون في هذا بشارةٌ لهم بأنهم لن يكفروا ،
ثانياً : أنه على فرض كفرهم سوف يُيسرون للتوبة حتى يُغفر لهم : { قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف } ( الأنفال 38 ) .
فيكون في هذا بشارتين :
إما أنه لن يكفروا أو بأنه لو قُدر بأنه لو كفروا فإنه سوف يعودون للإسلام ويُغفر لهم ما قد سلف ومن تتبع أحوالهم لم يجد منهم ارتد كل الذي في غزوة بدر ما ارتد منهم أحد ،
فيكون المعنى الأول أقرب وأصح أنهم لن يشاءوا الكفر ، ولو قلت لك أثبت لي معصية واحدةً وقعت من أهل بدر فلن تستطيع ،(126/46)
والفرض الذهني لا يعني الأمر الواقع قد يفرض الذهن أن الرسول قد يرتد حاشاه من ذلك ، أنت الآن هل عندك أن واحداً من أهل بدر زنا أو سرق أو شرب الخمر ،
لذلك أنا استثنيت قلت : متأول لم يفعل أحدٌ منهم معصية جهاراً يعلم أنها معصية إلا بتأويل ،
المهم الآن هل تستطيع أن تقدح في أحد من أهل بدر تقول أنه زنا ؟
لا تستطيع وأنا قلت لكم : لو فرضنا أنهم زنوا وسرقوا وشربوا الخمر ،
فهذه معاصي دون الكفر فتكون مُكفَّرة بهذه الحسنة العظيمة هي ما أشكل عليهم بمسألة الكفر ومسألة الكفر أخبرتكم بأن هذه بشرى بأنهم لن يشاءوا الكفر ،
لأن الله قال : ( اعملوا ما شئتم ) وهم لن يعملوا الكفر ،
وكيف يتصور الإنسان أنهم غزوا هذه الغزوة العظيمة التي فتح الله بها على المسلمين ثم يكفر ؟
هذا بعيد ،
لكن نقول : هو دليل على أنهم لن يكفروا أي لن يشاءوا الكفر ثم لو فُرض أنهم كفروا فرضاً ذهنياً ليس واقعياً ،
يقول ابن حجر وغيره من العلماء : لو أننا نزَّلنا الفروض الذهنية منزلة الواقع لما استدللنا بأي حديث ،
وكذلك نقول في الآيات : يعني لو فرضنا أن كل فرض يفرضه الذهن يَرِدْ على مسألة من المسائل على نص من النصوص ما استطعنا ، كل نص يمكن أن يحتمل نحن ليس لنا إلا الظاهر ،
السؤال : لماذا فضلنا بقية العشرة على أهل بدر ، ما هو الشيء الذي فضلنا به البقية على أهل بدر مع أن دخول الجنة لا يستلزم مغفرة الذنوب وأهل بدر غُفرت ذنوبهم ؟
الجواب : أولاً نقول : أنا أوكلك الآن تتبع هؤلاء العشرة هل تخلف أحدٌ منهم عن بدر فإذا وجدت أحداً تخلف وهو حي باقي فحينئذٍ يَرِد هذا الإشكال ولكنه في الواقع يمكن الإجابة عنه ،
السؤال : أهل الحديبية هل يُشهد لهم بالجنة ؟
الجواب : أما على سبيل الفردية فكل واحد نقول : هذا في الجنة فهذا لا يكون يقال الذين بايعوا تحت الشجرة كلهم رضي الله عنهم لا يُشهد للواحد منهم ،
السؤال : نقول للشهيد : اِستشهد أو قُتل ؟(126/47)
الجواب : نقول : استشهد أو قُتل شهيداً ،
السؤال : هل ورد أن النبي إذا هُزم كر على الكفار مرة أخرى ؟
الجواب : نعم بعد أن رجعوا قيل أنه نزلوا في مكانٍ واستشار أصحابه أن يعودوا إليهم فخرجوا ولم يجدوهم ،
ولهذا قال الله تعالى : { الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم ، الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم } ( آل عمران 172 – 174 ) ، معناه أنهم خرجوا يريدون قريشاً ولكن لم يجدوا قريشاً صاروا معه شيعاً هذا ليس بصحيح ،
السؤال : القول بأن أهل بدر معصومون من الكفر وبعض الذنوب ويغفر لهم صغائر الذنوب ؟
الجواب : هذا قولٌ ليس بصحيح لأن حتى غير أهل بدر فالصغائر تقع مُكفرة بفعل الحسنات ، الصغائر تقع مُكفرة بفعل الحسنات ،
السؤال : لو استدل مستدل بكتاب حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه لأهل مكة على أن فعل أهل بدر لو فعلوا الكفر فإنه يقع مغفوراً لهم هل يصح ؟
الجواب : نعم يصح لو فعله من أهل أحد لكان غُفر له ،
لأن حاطب بن أبي بلتعة ما ارتد عن الإسلام ،
السؤال : ألم يقصد موالاتهم ؟
الجواب : أبداً لم يقصد موالاتهم وإنما يقصد الخوف على أهله منهم ، هو صرَّح بهذا ،
السؤال : نسمع كثيراً جملة : ( لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ) ، فما معنى هذه الجملة ؟
الجواب : ( صرفاً ) يعني معناها أن يصرف عنه العذاب بدون مقابل ( ولا عدلاً ) بمقابل ،
السؤال : هل إذا اختلف الصحابة على قولين ، فهل نقول : ( إن القولين تعارضا فتساقطا ) أو هل لا بد أن نطلب ما يساعده الدليل ؟
الجواب : الغالب أن الحق لا يخرج عن أقوال الصحابة ،
وبناءاً على ذلك نقول : نبحث فيما يعضده الدليل لأنهم هم أقرب الناس إلى الصواب ،(126/48)
وصحيحٌ أنه إذا تعارض قولان للصحابة بدون مرجح صحيحٌ أنه يضعف القول لا شك لأنه عورض بمثله ،
وهذا قد يبدو للإنسان أن يقول : لا احتج به ما دام ضعيفاً عورض بمثله فلا احتج به ،
لكن الخير أن نقول : ما دام أنه عورض بمثله فإن الواجب أن نبحث لأنهما وإن تعارضا فإنهما أقرب إلى الصواب من غيرهما ،
ولكن نلاحظ أنه لا يمكن أن نعارض قول ابن عمر بقول رجلٍ من الصحابة بعيدٍ عن الفقه إلا إذا عضده الدليل ، إذا عضد المفضولَ الدليلُ فمعلومٌ أن الواجب اتباع الدليل ،
السؤال : ذكر الحافظ رحمة الله عليه في ( فتح الباري ) أن بعض أهل العلم قالوا : الذين ارتدوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم الصحابة ، فما الدليل على ذلك ؟
الجواب : يعني على هذا القول : أن الذين لم يرتدوا ليسوا صحابة ؟
الظاهر أن الأمر بالعكس ،
لأن بعض العلماء يقول : إن الصحابي إذا ارتد بطلت صحبته .
وقد أشار إلى هذا في نخبة الفكر فقال : ( ولو تخللت ردة في الأصح ) .
يعني أن الصحابي : ( من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً ومات على ذلك ولو تخللت ردة بين إيمانه بالرسول صلى الله عليه وموته على الإسلام ) ،
السؤال : هل نقول أن هناك إجماعاً أن من ارتد بعد النبي صلى الله عليه وسلم فليس بصحابي ؟
الجواب : لا ، فيه خلاف ولهذا قال : ( ولو تخللت ردةٌ في الأصح ) ،
السؤال : هل يصح أن نقول إن القرآن متفاضل يفضل بعضه بعضاً ؟
الجواب : القرآن باعتبار المتكلم به لا يتفاضل ،
لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل ،
وأما باعتبار مدلوله فلا شك أنه يتفاضل فـ { تبت يدا أبي لهب } ( المسد 1 ) ، ليست مثل : { قل هو الله أحد } ( الإخلاص 1 ) ، وأعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي ،
إذن يتفاضل من حيث ما يدل عليه ،
فصلٌ
في ذكر كرامات الأولياء وإثباتها
165 – وكل خارقٍ أتى عن صالح ،(126/49)
من تابع لشرعنا وناصح ،
انتقل المؤلف بعد هذا إلى ذكر كرامات الأولياء وإثباتها ،
الكرامات : جمع كرامة وهو ( ما يُقدم للضيف تكريماً له ) هذا هو الأصل ،
هذا هو الأصل أن الكرامة ما يُقدم للضيف ونحوه تكريماً له ،
ثم صارت الكرامة اسماً لكل خارقٍ للعادة يظهره الله سبحانه وتعالى على يدي وليٍّ من أوليائه تكريماً له أو إحقاقاًَ لحقٍّ قام به [48] ،
فهي إذن ( أمرٌ خارقٌ للعادة ، يجريه الله تعالى على يد وليٍّ من أوليائه ، إما تكريماً له ، وإما إظهاراً للحقٍّ الذي قام به ) ،
فقولنا : ( كل أمرٍ خارقٍ للعادة ) : يخرج ما كان جارياً على العادة فما كان جارياً على العادة لا يُعدُّ كرامة ،
مثل : أن يأكل الوليُّ طعاماً فيشبع ، هل إذا شبع من الخبز يُقال هذه كرامة ؟ لا ، لأن هذا على العادة أو يقول الولي مثلاً : بعد عشر دقائق ستظهر الشمس وهو باقٍ على طلوعها عشر دقائق فخرجت فقال : ألا أيها الناس اشهدوا على كرامتي أني قلت الشمس تطلع بعد عشر دقائق فطلعت ، هل هذه كرامة ؟ لا ، لأن هذه جارية على العادة هذه جرت على العادة ،
ولهذا قال العلماء : إن الكرامة أمرٌ خارق للعادة ،
القيد الثاني : ( يظهره الله على يد وليٍّ من أوليائه ) : وحينئذٍ نسأل من هو الولي ؟
الولي بيَّنه الله عز وجل في قوله : { ألا إن أولياء لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، الذين آمنوا وكانوا يتقون } ( يونس 62 – 63 ) .
من تحقق فيه هذان الوصفان الإيمان والتقوى فهو الولي ،
قال شيخ الإسلام رحمه الله: من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً [49] ، من الآية الكريمة أخذ هذا { الذين آمنوا وكانوا يتقون } .
الشرط الثالث : ( تكريماً له أو إظهاراً للحق الذي قام به ) : يعني قد يكون تكريماً للشخص كما وقع كثيراً من بعض الأولياء يعطش في البر فيسأل الله تعالى الماء فينشأ الله السحاب ويمطر ويشرب ،(126/50)
وكذلك أيضاً صلة بن أشيم أظنه دعا مات فرسه في أثناء السفر فدعا الله أن يحييه إلى أن يصل إلى بلده فأحيا الله له الفرس فركبه فلما وصل إلى بيته قال : يا بني ألق السرج عن الفرس فإنه عارية ، فألقى السرج فمات الفرس في الحال [50] ، هذه كرامة ،
وما يُذكر عن العلاء الحضرمي أنه خاض البحر بجنوده ،
وكذلك سعد بن أبي وقاص وغير ذلك المهم الكرامات كثيرة ،
ومن أراد أن يطلع على شيء منها فعليه بكتاب ( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ،
قال العلماء رحمهم الله : وكل كرامةٍ لولي فإنها آيةٌ للنبي الذي اتبعه ، لأن هذه الكرامة شهادةٌ من الله أن هذا الولي على حق فإذا كان يتبع نبياًّ من الأنبياء فهي أيضاً تستلزم الشهادة بأن هذا النبي حق وإلا لما أُيد وليه بهذه الكرامة [51] ،
ويأتي إن شاء الله تعالى الفرق بين الكرامة وبين الآية النبوية وبين الإهانة والشعوذة ،
ومن معجزات الأنبياء أيضاً معجزات الأنبياء خوارق للعادة [52] ،
لكنها ليست على يدي الأولياء يعني على يد من هم أعظم وأكبر من هؤلاء وهم الأنبياء عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام يقف ويقول : اخرج ، فيخرج ، وعلى الميت فيقول : احيا ، فيحيى فهو يحيي الموتى ويخرج الموتى ،
هذه لا شك أنها معجزة خارق للعادة لكن على يد من ؟
على يد نبي فلا تسمى كرامةً اصطلاحاً وإلا فهي لا شك أنها كرامة لكنها اصطلاحاً لا تسمى كرامة لأن الكرامات تكون على يد الأولياء ، ماذا تسمى ؟
تسمى عند كثيرٍ من العلماء معجزة ،
والصحيح : أنها آية وليست معجزة ، هي معجزة لا شك [53] ،
ولكن تسميتها بآية أصح :
أولاًَ : لأن هذا هو الموافق للفظ القرآن لأن الله سمى هذه المعجزات التي تأتي بها الأنبياء آيات ولم يسمها معجزات ،
ثانياً : أن المعجزة قد لا تكون على آيةً على نبوة كما في الحال المشعوذين وغيرهم والسحرة ،(126/51)
لكن إذا قلنا : آية يعني علامة على صدق هذا النبي ،
ثالثاً : أن كلمة ( معجزة ) من الإعجاز لفظها بشع ،
لكن ( آية ) علامة هذه مُحببة للنفوس : كأنه علمٌ في رأسه نارُ ،
فلهذا كان التعبير بـ ( الآية ) أولى ،
وخرج بذلك أيضاً قولنا ( على يد ولي ) : ما يخرق العادة مما جرى على يد أولياء الشيطان من السحرة والمشعوذين وغيرهم لأن منهم من يأتي بالخارق الذي يخرج عن العادة لكن بواسطة الشياطين ،
يُذكر عنهم أشياء عجيبة أن الواحد منهم قبل أن تأتي الطائرات إذا كان يوم عرفة أحرم من بيته وذهب إلى مكة وهو من أقصى الشرق أو الغرب وحج مع الناس ، هذا خارق للعادة أم غير خارق ؟ خارق للعادة لكن الذي حمله هم الشياطين والشياطين قد تحمل الأشياء الثقيلة من البلاد البعيدة وتحضرها في ساعةٍ سريعة ،
ورأيتُ كلاماً لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الاستغاثة قال :
( لو لم يكن من خطأ هؤلاء إلا أنهم يتجاوزون الميقات بلا إحرام ) [54] ،
نعم كيف ذلك ؟ هو يمر به الشيطان مع الجو ولا يحرم إذا حاذى الميقات يحرم في مكة فقلت سبحان الله الآن الناس في الطائرات الذي يريد في الحج والعمرة يلزمه أن يحرم من الجو إذا حاذى الميقات لو أنك حدَّثتَ الناس بهذا الحديث لقالوا : سبحان الله شيخ الإسلام وش جابه للطائرات ، نقول : هذه نفس الشيء ،
فالحاصل : أن ما يحصل من الأمور الخارقة للعادة على يد هؤلاء الذين نسميهم أولياء الشيطان هذا ليس بكرامة بل إهانة ،
فصار الخارق للعادة إما آية وإما كرامة وإما إهانة وإما فتنة ،
الفتنة ما يأتي من السحرة وشبههم لأنهم هم يرون ذلك إكراماً لهم ،(126/52)
الإهانة ما يُذكر عن مسيلمة الكذاب ، مسيلمة الكذاب في اليمامة ادَّعى أنه نبي في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ بذلك قومه وجعلوه نبياً وصار يعينه الشيطان في بعض الأمور يُقال إنهم جاءوا إليه يوماً من الأيام وقالوا يا أيها النبي إن عندنا بئراً قد غار ماؤها ولم يبق فيها إلا ماءٌ قليل فنريد أن نتبرك بك فذهب معهم وأخذ ماءاً يتمضمض به ويَمُجُّهُ في البئر ينتظر أن يرتفع ماؤها يقال إنه لما مجَّ الماء في البئر غار الماء الموجود فصار هذا ماذا ؟ خارق للعادة لا شك ، يعني العادة ليس أن الواحد يتمضمض في بئر ويذهب ماؤه هذا خارق للعادة لكنه إهانة ودليلٌ على كذبه ،
وقصةٌ أخرى يقال إنه جيءَ إليه بصبي غلام رأسه فيه قزع يعني بعضه نابت وبعضه ما نبت فقيل له يا أيها النبي امسح على رأس هذا الغلام لعل أن يخرج بقية الشعر فمسحه فزال الشعر الموجود هذا أيضاً إهانة لأنه لم تجرِ العادة أن الإنسان يمسح على الشعر فيتحاتّ ،
فعلى كل حال الخارق للعادة أربعة أنواع :
1 - أعلاها الآية ،
2 - ثم الكرامة ،
3 - ثم الإهانة ،
4 - ثم الفتنة [55] ،
ثم إن أهل العلم قالوا : كل كرامةٍ لولي فهي آية للنبي لأنه مثلاً إذا كان الولي متبعاً لنبيٍّ من الأنبياء [56] ،
ومعلومٌ أنه لا نبي بعد محمدٍ صلى الله وعلى آله وسلم ثم أوتيَ كرامة لتأييد ما هو عليه من الحق كان هذا آيةً للرسول الذي اتبعه ،
قوله : ( خارق ) : أي خارقٍ للعادة ،
قوله : ( من تابعٍ لشرعنا ) : خرج به التابع لغير شرعنا لأنه لا يمكن أن يُؤتى كرامة لأن من لم يتبع شرعنا فهو كافر فإن وُجِدَ على يده خارق فهو فتنة أو إهانة ، فتنة إن كان فيما يحب أو إهانة إن كان فيما يكره ،
قوله : ( وناصح ) : ناصح لمن ؟ بيَّن النبي عليه الصلاة والسلام لمن تكون النصيحة ؟
فقال : ( لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ) [57] ، خمسة ،
******************(126/53)
166 – فإنها من الكرامات التي ،
بها نقول فاقفُ الأدلة ،
قوله : ( بها نقول ) : الفاعل مستتر وجوباً تقديره ( نحن ) ،
والمراد بذلك أهل السنة يعني أن أهل السنة يقولون بذلك بإثبات الكرامات للأولياء ،
قوله : ( للأدلة ) : اللام هنا للتعليل ،
والأدلة جمع دليل وهو في اللغة : المرشد ،
ومنه الدليل في الطريق ،
لكنه في الشرع : ( ما يثبت به الحكم ) فهو الدليل ،
إذن هناك أدلة تدل على كرامات الأولياء وهي كثيرة منها :
مثلاً : قصة أصحاب البقرة ، قومٌ تدارءوا حيث قُتل بينهم قتيل وكادت الفتنة أن تكون بين القبيلتين فأمرهم موسى أن يذبحوا بقرة وأن يضربوا القتيل بجزءٍ منها ففعلوا ذلك فلما ضربوا بهذا الجزء من البقرة حيا بإذن الله وقال بأن قاتله فلان ، كرامةٌ لهؤلاء القوم حيث ذهب عنهم النزاع وطفئت الفتنة ،
وربما نقول : هي كرامةٌ من وجه ومعجزةٌ أو وآية من وجهٍ آخر لأن موسى هو الذي أمر بذلك ،(126/54)
ومثالٌ آخر : مرَّ رجلٌ { على قرية وهي خاوية على عروشها } ( البقرة 259 ) ، هامدة فـ { قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها } ، فأكرمه الله عز وجل أماته الله مائة عام مائة سنة ثم بعثه وكان هذا الرجل معه حمار ومعه طعام ، الحمار مات والطعام لم يتغير بقي مائة سنة لم يتغير لا غيرته الشمس ولا الهواء ولا المطر ولا شيء وهو طعام وتعرفون الطعام يسرع إليه الفساد يمكن في يوم وليلة يفسد لكن هذا الطعام بقي مائة سنة ، الحمار لما بعث الله صاحبه وجد أن الحمار ميت عظام ، وجدها عظاماً تلوح ، فقال الله له : { وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحما } ( البقرة 259 ) ، فجعل ينظر إلى عظام الحمار يتراكب بعضها على بعض وينشزها الله تعالى بالعصا ويكسوها اللحم حتى كَمُلَ الحمار { فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } .
هذه نعمة من الله عز وجل أن يُرِيَ الله العبد آية كونية أو شرعية تقوي إيمانه ، أليست هذه بنعمة ؟
يعني قد يضعف الإنسان أحياناً ، أحياناً يعتري الإنسان كسل وفتور وأشياء تَرِد على القلب لأن القلب يتقلب ،
فإذا مَنَّ الله على العبد آية يطمئنُّ بها قلبه لا شك أن هذه نعمة من الله عز وجل نعمة كبيرة ليس لها ثمن هذا الرجل كان يقول ويشك في إحياء الله الموتى لأنه أتى هذه القرية وقال : { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } ، يعني هذه قرية كيف إذن البشر ؟
فأراه الله الآية : { فلما تبين له قال أعلم أن الله على كل شيء قدير } ، ولا شك أن هذا كرامةٌ لهذا الرجل ، الحمار شاهده والله تعالى يحييه شيئاً فشيئاً ، الطعام شاهده وهو لم يتغير وقد بقي كم ؟(126/55)
مائة سنة ، ليست هيِّنة لم يتغير آمن أن الله قادرٌ على أن لا يغير الشيء مع طول المدة وقادرٌ على أن ينشئ الشيء مرةً أخرى ففيها طردٌ وعكس ، هذه الآية طرد وعكس ، إبقاء الشيء على ما هو عليه وإنشاء الشيء من جديد ، كل ذلك كرامة لهذا الرجل ،
من الأدلة قصة مريم ، مريم عليها الصلاة والسلام وهي ليست نبية أرسل الله تعالى إليها رسوله جبريل فنفخ فيها من روح الله عز وجل أي نفخ في فرجها روحاً فصار فالتقمها الرحم وصار إنساناً بشراً عيسى أجاءها المخاض إلى جذع النخلة يعني أدركها إلى جذع النخلة ، فـ { قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا } ( مريم 23 ) ، هنا لم تتمنى الموت ولكنها تمنت أنها ماتت قبل أن تحصل هذه الفتنة لأنها تعرف أن بني إسرائيل سيتهمونها كما وقع والمسألة مسألة عرض ليست هيِّنة ، فـ { قالت يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ، فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل لك ربك تحتك سريا } ( مريم 23 – 24 ) ، نهر من أين جاء النهر ؟ كرامة لها ، { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا } ( مريم 25 ) الله أكبر امرأة أدركها المخاض والمرأة إذا أدركها المخاض تكون ماذا ؟ قوية أم ضعيفة ؟ ضعيفة جداً ، تهز بجذع النخلة لا برأس النخلة والهز بجذع النخلة لا يجعل النخلة تتحرك أصلاً ، أليس كذلك ؟ { وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا } ، الرطب قريب أو بعيد ؟ قطعاً بعيد لا تدركه هي ، لو أدركته لأخذته { تساقط عليك رطبا جنيا } ، بدأت تهز بالجذع ويتساقط الرطب { جنيا } : أي مخروفاً يسقط هذا الرطب اللين جداً من مكانٍ عالٍ على الأرض ويبقى كما هو كأنه مخروف باليد هذه آيةٌ أم لا ؟ آية خارق للعادة العادة أن الرطب إذا سقط من مثل هذا السقط تتفت وتمزق لكن هذا بقي كأنه مخروفٌ باليد ، { فكلي واشربي وقري عينا } ( مريم 26 ) ، كل هذا أيضاً من آيات الله عز وجل أن تقر عيناً في هذا المكان الخالي ،(126/56)
فالمهم أن الأدلة كثيرة في هذا أصحاب الكهف أيضاً أعطاهم الله كرامة ما هي كرامتهم ؟ أنهم خرجوا من قومهم المشركين مهاجرين إلى الله عز وجل فهيأ الله لهم كهفاً غاراً في الجبل موَجَّه توجيهاً تاماًّ إلى ما بين الشمال والشرق ، إذا طلعت الشمس تزاور عن كهفهم ذات اليمين إذا غربت تقرضهم ذات الشمال إذن اتجاهه إلى أين ؟ إلى الشمال الشرقي حتى لا تدخل الشمس عليهم فتؤذيهم أو تتلف أجسامهم ، بقوا ثلاث مائة سنة وتسع سنين وهم لم يحتاجوا لأكل ولا شرب ولا بول ولا غائط ولا شيء وهذا غير معتاد أليس كذلك ؟ ثم إن الله تعالى بحكمته ورحمته يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال لأنهم لو بقوا على جنبٍ واحد لتأثر هذا الجنب ولكن الله يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال ،
وفي هذا : دليل على أن النائم لا يكون مستلقياً ولا منبطحاً على بطنه ، إنما هو على يمين أو على شمال ،
وفيه أيضاً : دليل على النائم لا يُنسب إليه فعل لأن الله قال : { ونقلبهم } ( الكهف 18 ) ، ولم يقل : ( يتقلبون ) ، إذن بقوا هذه المدة وهم لم يتغيروا ، شعورهم وأظفارهم بقيت على ما هي عليه أم طالت ؟ بقيت على ما هي عليه لأنهم لما استيقظوا ، { قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم } ( الكهف 19 ) .
ولو أن الشعور والأظفار نمت كالعادة لعرفوا أنهم بقوا مدةً طويلة أليس كذلك ؟ لكن بقيت لم تنمُ فهل يعني ذلك أن النائم لا تنمو أظفاره وشعوره أم أن هذا من آيات الله لهؤلاء القوم ؟
الظاهر الثاني وكذلك أجسامهم لم تتغير بعرق ولا غيره ولم تأكل الأرضة ثيابهم ،
وكذلك ما حصل لأمير المؤمنين عمر حينما حصر سارية وهو أميرٌ على سرية فاطلع عليه عمر من بُعْد وأرسل إليه كلاماً قال : يا سارية الجبل ، فسمع سارية كلامه فانحاز إلى الجبل ،
هذه قصة مشهورة ،
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله جملةً صالحة من ذلك في كتابه : ( الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ) [58] ،(126/57)
فالمهم أن المؤلف رحمه الله يقول ( للأدلة ) أي للأدلة التي دلت على ذلك ،
******************
167 – ومن نفاها من ذوي الضلال ،
فقد أتى في ذاك بالمحال ،
قوله : ( ومن نفاها فقد أتى في ذاك بالمحال ) : ( من ) شرطية و ( نفى ) فعل الشرط ، وجملة : ( فقد أتى في ذاك بالمحال ) جواب الشرط ،
يعني الذي ينفي الكرامات أتى بمحال أي بشيءٍ محال ،
وذلك أنه حاول إبطال ما تواترت الأدلة على ثبوته والمتواتر كما نعلم جميعاً يفيد العلم اليقيني الذي يستحيل ارتفاعه فمن نفى هذه الكرامات فقد أتى بشيءٍ محال لأنه حاول أن ينفي ما تواتر وفي المتواتر أمرٌ محال ،
قوله : ( من ذوي الضلال ) : أي من أصحاب الضلال ،
يشير إلى من رد الكرامات مثل المعتزلة وغيرهم ،
قالوا : لا يمكن كرامات ، لماذا لا يمكن ؟
قالوا : لأنك لو أثبتَّ الكرامات لاشتبه النبي بالولي والولي بالساحر [59] ،
فالمعتزلة ومن نحى نحوهم قالوا : إنه لا يمكن أن نثبت الكرامات لئلا يشتبه الولي بالنبي والساحر ،
فيقال لهم : أين الاشتباه ؟
الولي لا يقول إنه نبي لو قال : إنه نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ولياً ،
لأنه لا يوجد إيمان ولا تقوى فلا يمكن الاشتباه ،
قد يكون هذا فيما مضى من الأمم يمكن لكن في هذه الأمة لا يمكن أبداً ،
لأن الولي لا يقول : إنه نبي كذلك أيضاًَ بالنسبة للساحر لا يمكن أن يشتبه ،
لأن الولي مؤمنٌ تقي والساحر كافرٌ شقي فكيف يشتبه هذا بهذا ؟
ثم الأدلة الكثيرة الموجودة إلى اليوم تثبت وجود الكرامات فهي موجودة إلى يومنا هذا ،
لكن الكرامات بعضها ظاهر وكبير وبعضها خفي ،(126/58)
مثلاً : لو أن رجلاً أراد أن يسافر إلى الرياض وكان أراد أن يسلك الطريق اليمنى في آخر لحظة اتجه إلى الطريق اليسرى وبعد ذلك اتضح أن في الطريق اليمنى قُطَّاع طريق ،
هل يعتبر هذا أمرٌ خارقٌ للعادة ؟
لا شك انه في الواقع أن العادة أن الإنسان إذا عزم على شيء ولم يكن هناك مانعٌ حسيٌّ ظاهر العادة أنه يتجه إليه ويسير معه لكن هذا صُرف بدون أي سببٍ ظاهر إلى الطريق الآخر وإذ به يُبلَّغ أن الطريق الذي كان ناوياً الاتجاه إليه فيه قُطاع طريق أنا اعتبر أن هذه من الكرامة ولكن ليست من الكرامة الكبيرة وإنما هي كرامة ولا شك أنها نعمة حتى الإنسان يعلم أن الله دفع عنه من النقم ما لم يكن في حسابه وعلى كل حال هي موجودة ،
ويقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية إنها موجودة في هذه الأمة إلى يوم القيامة ومنها الشاب الذي يعارض الدجال ويتحدى الدجال حينما يأتي الدجال ويقول إنه الرب ولكن هذا الشاب يعارض ويقول : أنت الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله فيقتله ويجعل جزءاً مه هنا وجزءاً منه هناك ويمر بين الجزئين ويقول : قم ، ثم يقوم ولكنه لا يزداد إلا تحدياً وفي النهاية يعجز عنه الدجال أن يقتله ، هذا يعتبر كرامة ، هذا كرامة بلا شك ،
فالحاصل أنها موجودة ،
ولهذا قال : ( لأنها شهيرةٌ ) ،
******************
168 – لأنها شهيرةٌ ولم تزل ،
في كل عصرٍ يا شقى أهل الزلل ،
قوله : ( لأنها ) : أي الكرامات ،
قوله : ( شهيرةٌ ) : أي مشهورة ، فعيلة بمعنى مفعولة كجريحة بمعنى مجروحة ،
قوله : ( ولم تزل في كل عصر ) : يعني أنها ما زالت ولا تزال موجودة في كل عصر ،
قوله : ( يا شقى أهل الزلل ) : ( يا ) هنا تحتمل أن تكون منادى والمعنى يا شقى أهل الزلل ،(126/59)
ويحتمل أن تكون للتعجب فمعنى يا شقى يعني ما أشقى أهل الزلل ،
ولا شك أن أهل الزلل أشقياء لا سيما من زلَّ عن عمد فإنه من أشقى عباد الله والعياذ بالله ،
وبهذا انتهى الكلام على كرامات الأولياء ،
الأسئلة
السؤال : قول ابن حزم : أن كل الصحابة في الجنة واستدل بقوله تعالى : { لا يستوي منكم من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى } ( الحديد 10 ) ، فقال : أن كل الصحابة في الجنة قطعاً ؟
الجواب : هذا صحيح نشهد للصحابة لكن لا نشهد لكل واحدٍ بعينه ومر علينا هذا قلنا الشهادة على سبيل الإجمال وعلى سبيل التعيين فنحن نشهد لكل مؤمن بأنه في الجنة لكن لا نشهد لكل واحد فهناك بين التعيين بالشخص والتعيين بالوصف ،
السؤال : من سب الصحابة هل نطلق عليه الكفر ؟
الجواب : نعم قال شيخ الإسلام رحمه الله : إذا سبَّ الصحابة جميعاً أو اعتقد أنهم ارتدوا بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام فلا شكَّ في كفره بل لا شكَّ في كفر من شكَّ في كفره ،
السؤال : الضابط في المتشابه والمحكم نجد بعض أهل العلم يأتي في المسألة ويحكم هذه المسألة بين الحديثين أن هذا المتشابه يُحمل على المحكم ويأتي عالم آخر ويقول لا يوجد تشابه ( كلمة غير واضحة ) ولكن ما هو الضابط لذلك ؟
الجواب : لو رجعت إلى كتاب تقريب التدمرية لعرفت الضابط ،
التشابه نوعان :
1 – حقيقي ،
2 – ونسبي [60] ،
حقيقي بمعنى أنه حقيقةً ، متشابه يخفى على كل إنسان ،
مثل : حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر وعن كل أمرٍ غيبي حتى روح الإنسان حقيقتها لا تُعرف لا ندري من أي مادةٍ هي هذا ،
نقول : تشابه مطلق ولا يمكن لأحد أن يدَّعي فيه العلم ،
والتشابه النسبي هذا واسع بابٌ واسع تجد هذه الآية تشتبه على فلان ولا تشتبه على فلان أو هذا الحديث يشتبه على فلان ولا يشتبه على فلان وهو بابٌ واسع ،(126/60)
الآن طلبة العلم إذا أورد عليهم الإنسان آيةً يسألهم فيها ،
فمنهم من يجيب بالصواب ،
ومنهم بالخطأ ،
ومنهم من يتوقف ،
فالتشابه المطلق هو الذي يخفى على جميع الناس وهذا إنما يكون في حقائق ما أخبر الله به نفسه وعن اليوم الآخر لأن هذا مشتبه لا يمكن لأحد أن يدَّعِيَ علمه ومن ادعى علمه فهو كاذب ،
والتشابه النسبي هذا كثير نجد بعض العلماء يعجز عن الجمع بين آيتين وبين حديث ويأتي آخر بكل سهولة ،
السؤال : بعض الناس يطلق على الرافضة كلمة الشيعة وهم يحبون هذا الكلمة ، فهل الأولى يسمون رافضة أم شيعة ؟
الجواب : أما العلماء ، علماء أهل السنة كشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما فإنهم لا يطلقون عليهم إلا اسم الرافضة ،
وذلك لأن اسم الشيعة أعم ، الشيعة يدخل فيها الزيدية مثلاً ،
والزيدية لا يُسمون رافضة يُسمون شيعة ولا يُسمون رافضة ،
والرافضة : اسمٌ لكل من رفض زيد بن علي بن الحسين رحمه الله ،
حين جاءوا فسألوه وقالوا : ما تقول في أبي بكرٍ وعمر ؟ فأثنى عليهما خيراً ،
وقال : هما وزيرا جدي ،
يعني النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،
فلما رأوا أن منهجه يخالف ما يريدون رفضوه وانفضوا عنه ،
وسُمُّوا من ذلك الحين رافضة ثم بدءوا والعياذ بالله يتشددون في أمرهم حتى بلغ بهم الحد إلى أن ألّهوا أئمتهم يعني يعتقدون الآن أن الذي يدبر الكون هم أئمتهم وأن الله سبحانه وتعالى متخلٍّ عن الكون نسأل الله العافية ،
ويقولون : ( إن من أصول عقيدتنا أن من أئمتنا من هو في منزلةٍ لا ينالها مَلَكٌ مقرب ولا نبي مرسل ) وهذا يعني تفضيل أئمتهم على الأنبياء والرسل فهم كفروا بالربوبية أولاً ،
وقالوا : الذي يدبر الكون هم الأئمة ثم كفروا بالرسل أيضاً ،
قالوا إن أئمتهم خيرٌ من الرسل لكن هم يُسمُّون أنفسهم شيعة ،
والحقيقة أننا نحن أحق بهذا الوصف منهم ،(126/61)
لأننا نؤمن بأن لآل بيت صلى الله عليه وآله وسلم المؤمنون منهم بأن لهم علينا حقين :
الحق الأول : حق الإيمان والحق ،
الثاني : حق القرابة من النبي عليه الصلاة والسلام ،
نحبهم لقربهم من الرسول وأن الكافرين من أقارب الرسول عليه الصلاة والسلام نحن بريئون منهم براءة الذئب من دم يوسف ونبغضهم ونتقرب إلى الله تعالى ببغضهم فمن الشيعة الآن ؟
ثم إن هؤلاء الذين يدَّعون أنهم نجد أن خالفوا إمام أهل البيت وهو علي بن أبي طالب في مسائل كثيرة كمسائل المتعة مثلاً والمسح على الخفين وتفضيل أبي بكر وعمر ،
والعجب أن علي بن أبي طالب سأله ابنه محمد بن الحنفية قال يا أبي أيُّ الناس خير بعد رسول الله عليه وسلم ؟ قال أبو بكر قاله في خلافته لا يخشى من أحد قال ثم من ؟ قال عمر قال ثم أنت ؟ قال ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين وهذا كلام علي بن أبي طالب لكنهم يقولون لا ، أبداً أبو بكر وعمر ماتا على النفاق نسأل الله العافية حتى أنه من جرمهم والعياذ بالله قالوا إن أبا بكر رضي الله عنه قعد مع النبي صلى الله عليه وسلم في العريش في بدر لأن الرسول خاف أن يقلب عليه الصحابة فيُعتبر هذا منه اعتقالاً لأبي بكر وحبساً له نعوذ بالله جرأة عظيمة على الصحابة لا أحد يتجرؤها ،
السؤال : كرامات الولي هل تمتد إلى بعد مماته ؟
الجواب : يمكن أن تمتد آثارها لكن أن تظهر كرامة جديدة ويقال هذه من الولي هذه لا تجوز أبداً وهذا يُخشى أن تكون شركاً مثل لو أظهر الله كرامة أن نَبَعَ ماءٌ من هذا المكان وبقي ،
السؤال : الكرامات التي حصلت للمجاهدين الأفغان ؟
الجواب : والله على كل حال كرامات الأفغان كثيرة والسند فيها الله أعلم به ،(126/62)
لكن أنا أحدثكم عن شخصٍ في البوسنة ويسمى ( محمد دهيمان ) وأظنه كان في المنطقة الشرقية في الأول يقول إنهم دفنوا شاباً استشهد هناك يعني قُتل وبقي شهرين إلا عشرة أيام ثم تبيَّن أنهم دفنوه إلى غير القبلة فنبشوه فإذا الرجل لم يتغير إطلاقاً باقي كأنما قُتل اليوم هذه ،
لا شك أنها من الكرامات والشهداء قد لا تأكلهم الأرض لكن ليس كل شهيدٍ لا تأكله الأرض الذي نجزم بأن الأرض لا تأكله هم الأنبياء لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ) [61] ،
ولهذا حاول بعض الزنادقة أن يحفر قبر النبي عليه الصلاة والسلام ليأخذ جسده فأرى الله سبحانه وتعالى أحد الخلفاء في المنام صورة هذين الرجلين اللذين أرادا أن يستخرجا جسد النبي صلى الله عليه وسلم وفزع لهذا فسافر إلى المدينة لأن الأمر هام وأمر بأن يُدعى جميع أهل المدينة للوليمة التي صنعها ووقف عند الباب وجعل ينظر إلى كل من دخل ولم يرَ الرجليْن اللذين عُرِضا عليه في المنام فقال لأصحابه ادعوا أهل المدينة كلهم لا يبقى أحد قالوا ما بقي أحد قال لا ما يصير بقي أحد قالوا ما بقي إلا رجلان غريبان في المسجد ليس لهم شأن مع الناس ولا تدخل مع الناس قال : هاتوهم فلما جيء بهما فإذا هما الرجلان اللذان عرضا عليه في المنام سبحان الله فأمر بقتلهما ثم أمر أن يُحفر ما حول القبر إلى أن وصل إلى الجبل ثم صبَّهُم رصاصاً وحمى الله نبيه من كيد هؤلاء الأعداء ،
وإلا فهؤلاء يريدون أن يأخذوا جسد النبي عليه الصلاة والسلام إما أنهم مؤمنون بأن الأرض لم تأكله أو لغير ذلك من الأسباب أو إغاظةً للمسلمين لا ندري الله أعلم ،
السؤال : بالنسبة للكرامة نقل أحد علماء الإسلام عن أحد الصحابة بلا إسناد ؟
الجواب : هذه من جنس ما ذكره الإمام أحمد في التاريخ والسير أحياناً تُنقل بلا إسناد تشتهر وتُنقل مع الناس بلا إسناد ،
فصلٌ(126/63)
في المفاضلة بين الملائكة والبشر [62]
انتقل المؤلف رحمه الله إلى فصلٍ جديد ،
قال : ( فصلٌ في المفاضلة بين البشر والملائكة ) ،
وهذا الفصل ليت المؤلف لم يعقده يعني ليته لم يتكلم بهذه المسألة ،
وموضوعها : أيهم أفضل الملائكة أو البشر ؟ أيهم أفضل ؟
فيقال : أصل البحث في هذا لا داعي له ،
لأن الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الناس على العلم والإيمان ما بحثوا هذا البحث ما قالوا : نحن أفضل أو الملائكة ؟ ما قالوا هذا ما قالوا البشر أفضل أم الملائكة ،
وشيءٌ سكت عنه الصحابة مما يتصل بالدين فالأجدر بنا أن نسكت عنه ،
وهذه قاعدة يجب عليك أن تفهمها : ( أن كل شيءٍ سكت عنه الصحابة من أمور الدين فاعلم أن الخوض فيه من فضول الكلام ولا حاجة إليه ) ،
لأنه لو كان من مهمات ديننا ومن أصول ديننا ومما يجب علينا أن ندين الله به لتبيَّن إما عن طريق القرآن أو عن طريق السنة أو الصحابة فإذا لم يوجد واحدٌ من هذه الثلاثة عُلم أنه ليس من الدين في شيء ،
وإذا بنيتَ نهجك على هذا استرحت من إشكالاتٍ كثيرة يوردها بعض المتعلمين اليوم فيما يتعلق بصفات الله عز وجل وفيما يتعلق باليوم الآخر من أمور الغيب التي لا مجال للعقل فيها ،
فيوردون أشياء هي في الحقيقة تدخل في قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( هلك المتنطعون ) قالها ثلاثاً ، وصدق والله رسول الله كل إنسان يتنطع فهو هالك ولا بد لو لم يكن من هلاكه إلا مخالفته لطريق الصحابة ،
فنحن مثلاً نقول : ليت المؤلف لم يتكلم بهذا إذ لا فائدة لنا منه هذا من الناحية العقلية ،
من الناحية الأثرية أن ذلك لم يكن في أسلافنا من الصحابة أن يخوضوا في هذا الأمر لكن مع ذلك خاض الناس ،
واضطر بعض من يكره الخوض في هذا اضطر إلى أن يخوض فيه ويتكلم ، لماذا ؟
لئلا يترك المجال لمن لا يصلح أن يتكلم فيه وهذا كثير يا إخواني في العقائد وغير العقائد ،(126/64)
فمثلاً : وُجد من يتكلم في العقائد فيقول مثلاً هل الله جسم أو غير جسم ؟ ثم يقول ليس بجسم ثم يبني على ذلك جميع الصفات التي ينكرها بهذه الحجة ، هل الله في جهة أو ليس في جهة ؟ هل الله يُحد أو لا يُحد ؟ ما هذا الكلام ؟ هل الصحابة سألوا الرسول عن ذلك أو بحثوا فيه ؟ اسكت كما سكتوا فلا وسَّع الله على من لم يسعه ما وسعهم اسكت ،
لكن لما اضطر علماء السنة إلى الكلام في هذا بناءاً على أن غيرهم تكلم قالوا : لم نكن ندع المجال والميدان لهؤلاء الضُلاَّل يتلاعبون به بل لا بد أن نخوض ثم نبيِّن الحق ،
فمثلاً في مسألة الجسم قالوا : ماذا تريدون بالجسم ؟
هل تريدون بالجسم أنه مُكوَّنٌ من أشياء يمكن فقدها مع بقاء الجسم ؟
أو لا يمكن بقاء الجسم مع فقدها أو ما أشبه ذلك ؟
إن أردتم هذا المعنى فنحن ننفي هذا المعنى عن الله ،
وإن أردتم بالجسم القائم بنفسه المتصف بالصفات اللائقة به الفعَّال لما يريد فإننا نثبت هذا المعنى لله عز وجل ،
أما لفظ الجسم فنبعده بعيداً لا ننفيه ولا نثبته ،
لكننا نستفصل في معناه أما نقول أن جسم أو غير جسم فليس لنا أن نتكلم لأن الله لم يقل عن نفسه أنه جسم أو غير جسم [63] ،
كذلك مسألة تفضيل الملائكة على البشر أو بالعكس هذه المسألة التي ينبغي للإنسان أن يدع الكلام فيها ما لم يُضطر والعلماء اضطُّروا إلى ذلك ،
******************
169 – وعندنا تفضيل أعيان البشر ،
على ملاك ربنا كما اشتهر ،
قوله : ( عندنا ) : الضمير هنا يعود على من ؟
على أهل السنة والجماعة ، تفضيل أعيان البشر على ملاك الله ،
قوله : ( أعيان ) : يعني لا الجنس يعني أننا نفضِّل الأعيان على الجنس على جنس الملائكة ،
فالرسل مثلاً هم أعيان البشر هم خلاصة البشر هم المُصْطَفَوْنَ من البشر هؤلاء أفضل من الملائكة ،(126/65)
لكن جنس البشر على جنس الملائكة لا نفضِّلهم نفضِّل الأعيان من البشر على جنس الملائكة ،
وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء ولكل قومٍ دليل ،
استدل من يقول : إن البشر أفضل من الملائكة :
بأن الله أمر الملائكة أن بالسجود لآدم وهو أبو البشر ،
ومعلومٌ أن السجود ذُلٌّ للمسجود له فيكون المسجود له أعز وأكرم من الساجد ،
واستدل من قال : إن الملائكة أفضل :
بقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي : ( من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم ) [64] ،
وكلا الاستدلالين في القلب منه شيء ،
أما الأول فإنه لا يلزم إذا أكرم الله آدم بهذه المنقبة أن يكون البشر أفضل من الملائكة ،
وذلك للقاعدة العامة : وهي أن ( التميز في خصيصةٍ واحدة لا يقتضي التميز المطلق ) ، التميز بخصيصةٍ واحدة لا يلزم التميز المطلق ،
ولهذا نجد بعض الصحابة يميِّزه الرسول صلى الله عليه وسلم بميزة لا تكون لغيره ولا يقتضي أن يكون أفضل من غيره ،
وأما الثاني : ( من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأٍ خيرٍ منهم ) ، فالمراد خيرٍ من المراد الذين ذُكر الله عندهم ليس خيراً من كل البشر ،
ومعلومٌ أنه لا يلزم من كون الملائكة الذين عند الله الذين يذكر الله الذاكر فيهم أن كونهم خيراً من الملأ الذين ذُكر الله عندهم لا يستلزم الخيرية المطلقة ،
ولهذا نرى التوقف في هذا :
أولاً : التوقف عن البحث فيه إطلاقاً ،
والثاني : التوقف عن الحكم بتفضيل هؤلاء على هؤلاء ،(126/66)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : الملائكة أفضل باعتبار البداية والبشر أفضل باعتبار النهاية فباعتبار البداية الملائكة أفضل لأنهم خُلقوا من نور ولا يستكبرون عن الله ولا يستحسرون ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمرون ولم تُركَّب فيهم الشهوة التي تعصف بهم بل هم عباد مكرمون قائمون بأمر الله فهم باعتبار البداية أفضل باعتبار النهاية وكون البشر محل رضا الله وأهل كرامته وما أشبه ذلك حتى الملائكة يدخلون عليهم في الجنة يُدخلون السرور عليهم يدخلون عليهم من كل باب سلامٌ عليكم بما صبرتم فهذا يدل على أن البشر أفضل باعتبار النهاية ،
وهذا له وجهٌ حسن ،
لكن الذي أرى الإعراض عن كل هذا ،
وأن نقول : مسألة التفضيل :
أولاً : الجنس مختلف ولا تفاضل بين الجنسين المختلفين ،
والشيء الثاني : باعتبار المرتبة عند الله عز وجل وهذا ليس لنا به علم إطلاقاً ، علمه عند الله سبحانه وتعالى ،
قوله : ( ملاك ) : يعني ملائكة ، ملائكة الله ،
قوله : ( كما اشتهر ) : يعني كما مشهور عند العلماء ،
******************
170 – وقال : من قال سوى هذا افترا ،
وقد تعدى في المقال واجترى ،
قوله : ( وقال ) : الفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره ( هو ) فمن القائل ؟
القائل الإمام أحمد رحمه الله القائل هو الإمام أحمد ،
ومثل هذا التعبير عند العلماء غير صحيح ،
وذلك لأن لجهالة مرجع الضمير فيه فيكون الكلام غير معلوم ،
إذ أنه لا بد أن يُعلم مرجع الضمير :
1 - إما من سياق الكلام ،
2 - وإما من مذكورٍ سابق أو مذكور لاحق ،
ولكن يجب أن نعلم أن مقلدي الإمام إذا ذكروا الفعل دون مرجعٍ معلومٍ له فهو يرجع إلى الإمام ،
انظر في كتب الفقه مثلاً في ( الإنصاف ) وغيره إذا قال ( نص عليه ) لا يوجد مرجع سابق ،
لكن من هو ؟(126/67)
الإمام أحمد إذا قال ( إذا فعل كذا فعليه كذا وعنه لا يلزمه كذا ) عن من ؟ الإمام أحمد لأنه ليس له مرجع ،
لكن كون الكتب أُلِّفت في مذهبه يدل على أن الضمير الذي ليس له مرجعٌ معلوم يعود إلى الإمام ،
السفاريني رحمه الله من الحنابلة فإذا قال : ( وقال ) فالظاهر أن مرجعه إلى الإمام أحمد ،
على القاعدة المعروفة أن الضمير إذا لم يكن له مرجعٌ معلوم في كتب المقلدة فإنه يرجع إلى من ؟ يرجع إلى إمامهم ،
قوله : ( هذا ) : الضمير يعود على تفضيل أعيان البشر على ملاك الله ،
قوله : ( افترى ) : أي كذب ،
قوله : ( وقد تعدى في المقال واجترى ) : أي تعدى في قوله واجترى وكأن الإمام أحمد رحمه الله ينكر إنكاراً تاماًّ على من قال بهذا القول أي أن الملائكة أفضل من البشر ،
والخلاصة الآن العلماء اختلفوا في تفضيل الملائكة على البشر أو البشر على الملائكة على أقوال يمكن أن نجعلها أربعة :
1 - تفضيل البشر ،
2 - تفضيل الملائكة ،
3 - الوقف ،
4 - التفصيل ،
والتفصيل مذهب من ؟
شيخ الإسلام ابن تيمية يقول : الملائكة أفضل باعتبار البداية والبشر أفضل باعتبار النهاية ،
أما الوقف فهو قول صاحبكم ،
أن نقول الله : أعلم وليس لنا أن نتكلم في هذا لأنه لم يكن من بحث الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله ،
ولا شك أن داعي السؤال عما يتعلق بالدين في الصحابة أقوى منه فينا ،
ولا شك أيضاً أن الإجابة عن الاستشكال في عهد الصحابة أقرب إلى الصواب بل هو الصواب من إجابتنا نحن لأنهم سيسألون من ؟ الرسول عليه الصلاة والسلام وسيجيبهم بالعلم اليقيني فإذا لم يكن سؤالٌ من الصحابة عما يتعلق بالدين ،
فاعلم أن السؤال عنه من باب التنطع في دين الله وإن شئت فاجعله بدعة كما قال الإمام مالك رحمه الله فيمن قال : { الرحمن على العرش استوى } ( طه 5 ) ، كيف استوى ؟ قال ما أُراك إلا مبتدعاً ،
الباب السادس
في ذكر الإمامة ومتعلقاتها(126/68)
وهذا الباب كنا نستهونه في أيام طلبنا كما كنا نستهون كتاب الجهاد .
كنا نقول أين الجهاد ؟
لا حاجة نبحث في الجهاد ومتى يكون واجباً على العين وعلى الكفاية وما حكم ما يلزم الجيش وما يلزم الإمام وما أشبه ذلك ثم لما حصل الجهاد في الوقت الأخير عرفنا أننا مفرِّطون وأنه ينبغي أن نكون أدركنا الجهاد تماماً ،
في مسألة الإمامة كنا نقول : لا حاجة في أن نبحث في الإمامة ، الحمد لله إمامنا ابن سعود وهؤلاء أئمتهم عندهم والحمد لله كل شيء ساكن ،
لكن تبيَّن أنه لا بد أن نعرف الحكم لا بد أن نعرف من هو الإمام ؟ من يستحق الإمامة ؟ لا بد أن نعرف ما حق الإمام على رعيته ؟ وما حق الرعية على الإمام ؟ لأنه كَثُرَ القيل والقال وخاض في ذلك من هو من الجاهلين فصاروا يتخبطون خبط عشواء فيما يلزم الإمام وفيما يلزم الرعية ،
وغالبهم يميل إلى تحميل الإمام ما لا يلزمه حمله وتبرئة الشعب مما يلزمهم القيام به هذا غالبهم ،
لأن بعض الناس مشغوف والعياذ بالله بنشر المساوئ من ولاة الأمور وكتم المحاسن فيكون معه جورٌ في الحكم وسوءٌ في التصرف ،
إذن لا بد أن الآن أن نعرف من هو الإمام وبما تثبت الإمامة وما حق الإمام على الرعية وما حق الرعية على الإمام وما طريق السلف في معاملة الأئمة الظلمة والمنحرفين حتى نمشي على طريقهم ونكون أمةً سلفية ،
وحتى نعلم في الواقع أننا لا نبرئ أنفسنا نحن من النقص ، أليس كذلك ؟
بل نحن ناقصون إذا قارنت بين أعمالنا وعقائدنا وبين ما كان عليه الصحابة وجدت أن الفرق بيننا وبينهم كالفرق بين زماننا وزمانهم وأن الفرق كبير ،
وإذا كان الأمر كذلك فكيف نريد أن يكون لنا ولاةٌ كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي هذا ظلم هذا تأباه حكمة الله عز وجل ،
ولهذا جاء في الأثر : كما تكونون يُولىّ عليكم ،
كيف نريد أن يكون خلفاء الأمة الإسلامية كخلفاء الأمة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ونحن على هذه الحال ؟(126/69)
كذب غش ظلم سوء عقيدة عدِّد ولا تخف ،
ويُذكر أن عبدالملك بن مروان شاور أن الناس قد ملُّوه وأن عندهم شيء من التمرد عليه فجمع وجهاء القوم وأعيانهم وتكلم فيهم وهو جيد في الكلام وقال لهم : أتريدون أن نكون لكم كأبي بكرٍ وعمر ؟ سيقولون : نعم ، قال : إن كنتم تريدون ذلك فكونوا لنا كالذين كانوا لأبي بكرٍ وعمر ، فأقام عليهم الحجة ،
وكذلك أيضاً رجل خارجي يُنقل عن علي رضي الله عنه أن رجلاً خارجياً قال له : يا علي ، لا يقول : يا أمير المؤمنين ، يقول : يا علي ، يا علي كيف دان الناس لأبي بكر وعمر ولم يدينوا لك ؟ قال : لأن أبا بكرٍ وعمر كان رجالهم أنا وأمثالي وكان رجالي أنت وأمثالك ، فأقام عليه الحجة ،
فالمهم أنه لا يمكن يا إخواني أن نطمع في أن يكون ولاة أمورنا كأبي بكرٍ وعمر وعثمان ، ونحن على الحال التي تشاهدون يعني لا أقول إن البيت الذي فيه ثلاثة أنفار يكون فيه أربعة آراء فالآراء أكثر من عدد الأنفار أو أكثر فكيف يكون هذا ؟ أين الوفاق فينا ؟
فالمهم أن هذا الباب الذي نحن مقبلون عليه بابٌ مهم يجب أن أعتني أنا أولاً ثم أنتم إن شاء الله ثانياً ،
******************
171 – ولا غنى لأمة الإسلام ،
في كل عصرٍ كان عن إمام ،
إمامةٌ في الدين وإمامةٌ في التدبير والتنظيم ،
فمن إمامة الدين الإمامة في الصلاة فإن الإمامة في الصلاة إمامته إمامة دين ومع ذلك فله نوعٌ من التدبير ،
حيث أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أمر بمتابعته ونهى عن سبقه والتخلف عنه فهذا نوع تدبير لأنه مثلاً ،
إذا كبَّر كبرنا وإذا ركع ركعنا وإذا سجد سجدنا وهلمَّ جراَّ ،(126/70)
وأما إمامة التدبير فتشمل الإمام الأعظم ومن دونه ، الإمام الأعظم هو الذي له الكلمة العليا في البلاد كالملوك ورؤساء الجمهوريات وما أشبه ذلك والإمام وما دونه كالوزراء والأمراء وما أشبه هذا والأمة الإسلامية كغيرها من الأمم بشر والبشر كائنٌ من الأحياء ،
وكل حيٍّ فلا بد له من رئيس حتى البهائم حتى الطيور في الجو لها رئيس تتبعه ولهذا كان الصيادون إذا مرت بهم جحافل من الطيور أو الضباع وما أشبه ذلك يصيرون أول ما يصيدون قائدهم فإذا صادوا القائد ارتبكت المجموعة فسهُل صيدهم لأن كل كائنٍ من البشر لا بد له من قائدٍ يقوده ،
ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسافرين إذا كانوا ثلاثة يعني فأكثر أن يُأمِّروا واحداً منهم لأنه لا بد من أمير ،
وإلا لاضطربت الأحوال وصار كل إنسان يقول أنا أمير نفسي وحينئذِ يتزعزع الأمن ويحل الخوف ،
ولهذا قال المؤلف رحمه الله :
ولا غنى لأمة الإسلام ،
في كل عصرٍ كان عن إمام ،
يعني لا يمكن أن تستغني أمة المسلمين في كل عصر من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا عن إمام أي عن قائدٍ يقودها ،
وحتى الأمم الكافرة لا بد لها من إمام ولذلك تجد الأمم الكافرة ربما ينقادون لأئمتهم أكثر مما ينقاد بعض المسلمين لأئمتهم لأنهم يعلمون أن الأمن الاستقرار إنما يكون في اتباع الأئمة والانقياد لهم والانصياع لأوامرهم ،
وهذه مسألة يغفل عنها كثيرٌ من المسلمين حدثنا بعض من يذهبون إلى بلاد الكفر أن رعاياهم يتبعون الأنظمة تماماً ويطبقونها تماماً أنظمة المرور وأنظمة الأمن وغير ذلك مع أنهم كفار لا يرجون بهذا ثواباً من الله عز وجل ، لكن يعلمون أن انتظام الأمة وحفظ أمنها لا يكون إلا بهذا باتباع أوامر الرؤساء ،(126/71)
فلذلك كانوا أشد تطبيقاً من المسلمين أو من بعض المسلمين لطاعة ولاة الأمور ، مع أننا نحن بامتثالنا لطاعة ولي الأمر نرجو الثواب من الله عز وجل وبالمخالفة نخاف العقاب ،
لأن مخالفة أي نظام من أنظمة الدولة بدون سببٍ شرعي والسبب الشرعي سببٌ واحدٌ وحيد وهو أن يأمروا بمعصية الله ما سوى ذلك تجب علينا طاعته من أجل حفظ الأمن ،
بعض الناس يتوهم أنه لا تجب طاعتهم إلا حيث أمروا بما أمر الله به وهذا وهمٌ باطل ،
لأنهم إذا أمروا بما أمر الله به فأمرهم هذا تأكيدٌ لأمر الله فقط ولو أمرني أي واحد بما أمرني الله به لكانت الطاعة مفروضةً علي لأنه أمر الله لكن طاعة ولاة الأمور في غير المعصية شيءٌ وراء ذلك ،
فيجب علينا أن نطيع ولاة الأمور في كل ما أمروا به ما لم يأمروا بمعصية ،
فإذن لا بد للأمة بل وغير الإسلامية لا بد لها من إمام يقودها يوجهها يأمرها ينهاها وإلا لضاعت وأصبحت الأمور فوضى ،
قال الشاعر [65] :
لا يصلح الناس فوضى لا سَراةَ لهم ،
ولا سَراةَ إذا جُهَّالُهُم سادوا [66] ،
فلا بد من قيادة ولا بد من أن تكون هذه القيادة حكيمة ،
قوله : ( عصر ) : عصر بمعنى وقت والوقت كما نعلم هو ظرف الحوادث والأحداث ،
ولهذا أقسم الله به في قوله تعالى : { والعصر إن الإنسان لفي خسر } ( العصر 1 – 2 ) .
لأن العصر هو ظرف الأحداث والحوادث كل عصر ،
لا بد للأمة الإسلامية من إمام [67] ، يذب عنها كل ذي جحود ويعتني بالغزو والحدود ،
******************
172 – يذب عنها كل ذي جحود ،
ويعتني بالغزو والحدود ،
قوله : ( يذب ) : يعني يطرد ،(126/72)
قوله : ( كل ذي جحود ) : أي كل ذي كفر ، هذه فائدة من فوائد الإمامة أن الإمام يذب أهل الكفر عن بلاد المسلمين يعني يرد ويطرد ويمنع كل ذي جحود من أن يعتدي على بلاد المسلمين ومن المعلوم أنه ليس يمنع بنفسه يمنع بجنوده ،
الفائدة الثانية : قوله : ( ويعتني بالغزو ) : يعني غزو الكفار ،
والشطر الأول : للمدافعة ،
والشطر الثاني : للمهاجمة يعتني بالغزو غزو الكفار ومقاتلتهم ،
لأن الواجب على المسلمين أن يقاتلوا الكفار فرض كفاية أن يقاتلوا الكفار حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله إذا نظرنا في واقعنا اليوم وإذا هذه ممحوة من القاموس مسألة غزو الكفار ممحو من القاموس أليس كذلك ؟ اللهم إلا ما يقع مدافعة ومع ذلك ما يقع مدافعة لا تكاد تجد من يساعد هؤلاء المدافعين إلا من أفراد الشعوب ،
أما الحكومات الإسلامية مع الأسف ونقولها بكل مرارة : فإنها لا تساعد على الأقل مساعدةً ظاهرة بالنسبة للدفاع عن المسلمين والأحداث لا يحتاج أن أفصلها لكم لأنها أمامكم منشورة مشهورة ،
فلا بد من مقاتلة الكفار : { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } ( البقرة 193 ) ، لا بد من هذا فرض كفاية ،
ومعلومٌ أن فرض الكفاية يحتاج إلى شرط وهو القدرة بالنسبة للشعوب لا قدرة لهم بالنسبة للحكومات الله حسيبهم منهم من يقتدر ومنهم لا يقتدر وفي ظني أن كل واحدٍ منهم يقتدر بالنسبة للمضايقات الدبلوماسية لكن لا شيء ، هذا واحد ،
الثالث : قوله : ( والحدود ) : يعني يعتني بالحدود ،
والحدود جمع حد ،
والحد في اللغة : المنع ،
والمراد به هنا ( العقوبات المقدرة في فعل معصية ) [68] ، هذه الحدود ،
العقوبات التي قدَّرها الله ورسوله في فعل معصية ،
مثل : قطع يد السارق هذا حد متى ثبت في السرقة وتمت شروط القطع فإنه يجب هذا القطع حد متى تمت شروط القطع وجب تنفيذه وجوباً ،
فالحدود يجب تنفيذها وهي رحمةٌ من الله عز وجل لعباده إذ أنها كفارةٌ للفاعل وردعٌ لغيره ،(126/73)
الحدود فيها فائدتان :
1 - كفارةٌ للفاعل الذي أقيم عليه الحد ،
2 - وردعٌ لغيره ،
قد يقول قائل : لكن فيها إتلاف عضوٍ من الأعضاء وربما يكون هذا العضو عاملاً من أكبر العمل مثلاً ربما يكون الإنسان عنده صناعة قنبلة وما أشبه ذلك من الأشياء التي لا بد منها فماذا نقول ؟
نقطعها نبترها حتى لا يجيء آخر فيسرق ،
ولهذا قال الله تعالى : { ولكم في القصاص حياة } ( البقرة 179 ) ، مع أن القصاص إضافة إزهاق نفسٍ إلى نفسٍ أخرى فالمقتول واحد وبالقصاص يكون اثنين لكن هذا فيه حياة كم من إنسانٍ يرتدع عن القتل إذا علم أنه إذا قتل قُتل ولهذا قال : { ولكم في القصاص حياة } .
ومن الحدود : حد الزنا .
وهو على حسب الجرم فالبكر حده مائة جلدة وتغريب سنة ،
يعني يُجلد مائة جلدة ويُطرد عن البلد لمدة سنة .
والثيب الزاني قد منَّ الله عليه بالنكاح حده الرجم يُرجم بالحجارة ، حجارة لا صغيرة ولا كبيرة حتى يموت .
وإذا مات هل يُصلى عليه ؟
نعم ، يُصلى عليه .
لأنه مسلم ويُدعى له بالمغفرة والرحمة .
ومن الحدود : حد القذف ، القذف : هو أن يرمي المُحصن بالزنا ،
المحصن يعني العفيف بأن يقول لشخصٍ عفيف ذكر أنثى إنه زان فهذا :
إما أن يقيم البيِّنة أربعة رجال يشهدون ،
وإلا فحدٌّ في ظهره ، { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة } ( النور 4 ) .
وقد رتَّب الله على القتل ثلاثة أمور : { فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا وأولئك هم الفاسقون } ، ثلاثة .
{ إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم } ( النور 5 ) .
وهذا الاستثناء يعود على قوله : { وأولئك هم الفاسقون } : يعني إذا تابوا وأصلحوا زال عنهم الفسق .
وهل يعود إلى ما قبلها وهو عدم قبول الشهادة ؟
فيه خلاف :
فمنهم من يقول : إنه إذا تاب قُبلت شهادته [69] ،
ومنهم من يقول : لا [70] ،(126/74)
لأن الله تعالى قال : { ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } ، الأول : { فاجلدوهم ثمانين جلدة } .
إذا تاب لا يعود عليه بالاتفاق ،
فصارت هذه العقوبات الثلاث :
الاستتثناء لا يعود على آخرها بالاتفاق ، ولا يعود على أولها بالاتفاق ،
وهل يعود على الأوسط ؟
فيه خلاف ،
ومن الحدود : حد قطاع الطريق : { الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا } ( المائدة 33 ) ، يقفون على الطرق معهم السلاح ومن مر أخذوا ماله أو قتلوه وما أشبه ذلك ،
هؤلاء حدُّهم : { أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض } ( المائدة 33 ) .
كم ذكرنا من الأنواع ؟
أربعة أنواع هذه كلها حدود لا إشكال فيها ،
واختلف العلماء في الخمر هل عقوبته حدٌّ أو تعزير [71] ؟
والصحيح : أنها تعزير [72] ،
ويدل لذلك ما يكاد يكون إجماعاً من الصحابة ،
حيث إنه لما كَثُرَ الناس في شرب الخمر جمع عمر رضي الله عنه الصحابة واستشارهم ماذا نصنع ؟ فقال عبدالرحمن بن عوف : يا أمير المؤمنين أخف الحدود ثمانون يعني فاجلد شارب الخمر هذا الجلد فأمر به عمر فارتفع إلى ثمانين جلدة [73] ،
وهذا يكاد يكون كالإجماع لأنه يقول : أخف الحدود ، يعني أن عقوبة الخمر ليست حداًّ ،
ويدل لذلك أيضاً : أنه لو كانت عقوبة الخمر حداًّ ما كان لعمر أن يغيرها ، { تلك حدود الله فلا تعتدوها } ( البقرة 229 ) ، ولهذا لو كثر في الناس الزنا نسأل الله العافية ،
هل نزيد المائة جلدة إلى مائتين مثلاً ؟
لا ، لا يمكن الحدود لا تُزاد ،
وهذا يدل على أن عقوبة شارب الخمر ليست من الحد ،
لكن المشهور عند أكثر العلماء : أنها حد ،
هذه خمسة ،
قتل المرتد هل هو حد أو لا ؟
قتل المرتد ليس حداًّ ،
لأن الحد لا يسقط بعد القدرة وقتل المرتد يسقط بعد القدرة إذا تاب ،
في الحدود إذا قدرنا على الفاعل لا يسقط الحد ولو تاب [74] ،(126/75)
أما الردة فإذا تاب منها ولو بعد القدرة عليه فإنه لا يُقتل يحرم قتله ،
إلا ما قيل في الساحر : إنه يُقتل حداًّ [75] ،
لحديث : ( حد الساحر ضربةٌ بالسيف ) [76] ،
القصاص هل هو حد أو لا ؟ ،
ليس بحد ، القصاص ليس بحد ،
ولذلك لو أن أولياء المقتول عَفَوْا يُقتص من القاتل ، إذن ليس بحد ،
وقد رأيت بعض المتأخرين المعاصرين يجعل الحدود سبعة أنواع ، ويُدخِل حد الردة والقصاص ،
وهذا خطأ وغلط ،
لأن الحد عقوبةٌ مقدرة من الشرع لا تسقط بإسقاط أحد [77] ،
حتى إن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما شفعوا إليه في المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتشحذه فأمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بقطع يدها غضب وخطب الناس وقال لأسامة وقد شفع إليه : ( أتشفع في حدٍّ من حدود الله ؟ ) [78] ،
ولو أن القاتل لما طلب أولياء المقتول أن يُقتل وشفع أحدٌ فيه فهل يُنكر عليه ؟
لا يُنكر لأن الحق لهم ،
لو أن أولياء المقتول قالوا : لا بد أن نقتل القاتل وحكم القاضي بقتله فجاء رجلٌ طيب وعرف أن هذا القاتل رجل من الخيار لكن سوَّلت نفسه قتل أخيه فقتله ذهب إلى أولياء المقتول وشفع إليه فلا بأس ،
ولو كان حداًّ لحرمت الشفاعة إليه ،
إذن من مهمات الإمام إقامة الحدود ،
وهذا يعني أنه يجب على الإمام أن يقيم الحدود على أي إنسانٍ كائناً من كان ،
لو سرق أبو الحاكم أبو الإمام يأمر بقطع يده سبحان الله أبوه يا جماعة أين البر ؟
يقطع يده وهذا من البر هذا صحيح ،
لأن الحد كفارةٌ له يسقط عنه عقوبة الآخرة من عقوبة الدنيا هذا جواب ،
جواب آخر أن نقول : هذا الحق ليس حقاًّ للإمام هذا حقٌّ لله عز وجل رب الإمام ورب أب الإمام فإذا أمر بقطع يد أبيه لأنه سرق قلنا : جزاك الله خيراً ،
هذا محمدٌ رسول الله صلوات الله وسلامه عليه أقسم إقساماً أمام الناس قال : ( وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ) [79] ،
******************(126/76)
173 – وفعل معروفٍ وترك نكر ،
ونصر مظلومٍ وقمع كفر ،
قوله : ( وفعل معروف ) : هذا الرابع من مسؤوليات الإمام ،
يعني ويعتني بفعل المعروف يعني أن يفعل هو المعروف أو يأمر بالمعروف أو الأمران ؟
كلاهما لكن الأول له ولغيره فعل المعروف كل إنسان مطالب به ،
لكن الأمر بالمعروف أول من يُطالب به الإمام ،
يجب عليه أن يأمر بالمعروف إما بنفسه وإما بنوابه وجوباً ،
الأمر بالمعروف من مهمات الإمام ومن مسؤولياته وإذا أُضيع لا قدَّر الله فإن الله سوف يسأله عنه يوم القيامة سؤالاً مباشراً ،
ولذلك كان من توفيق الله لهذه البلاد أن يسَّر الله فيها إقامة آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر من قِبَلِ الإمام ونسأل الله تعالى أن يوفِّق الإمام حتى يعطيهم جميع الصلاحيات التي يقوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
الأمر بالمعروف من مسؤوليات الإمام فلنسأل ما هو المعروف ؟ هل المعروف ما تعارف الناس عليه ؟ أو المعروف ما عرفه الشرع وأقره ؟
{ وعاشروهن بالمعروف } ( النساء 4 ) ، ماذا تقولون ؟ ما المراد بالمعروف ؟
ما تعارف الناس عليه ،
هنا لماذا لا نقول : ما تعارف الناس عليه ؟
لو قلنا بذلك لفسدت الدنيا وفسد الدين وصار لكل بلدٍ شرع ،
لأن أعراف الناس تختلف من الناس من يستبيحون أن يقيموا أسواق الدعارة ،
فهل يكون ذلك معروفاً لأنهم يتعارفون ذلك بينهم ؟،
لا ،
من الناس من تُباع عندهم جرار الخمر كما تُباع جرار البيبسي فهل هذا معروف ؟
لا ،
إذن المعروف ما عرفه الشرع وأقره ،
وإن شئت فقل وهو أدق ما شرعه الشرع ، ما شرعه لأن شرعه إياه اعترافٌ به ،
فكل المشروعات كل ما شرعه الله ورسوله فهو معروف ،
ثم الأمر به على حسب مرتبته فالأمر بالواجب واجب والأمر بالمستحب مستحب ،
الأمر بالمعروف يحتاج إلى شروط لا بد من تحققها ،(126/77)
وسيأتينا عن شاء الله في الفصل الذي بعده شروطها فنؤجل هذا إلى ما بعد ،
قوله : ( وترك نُكْرِ ) : ترك المنكر أيضاً المسؤولية على الإمام ،
وليعلم أن ترك المعروف وفعل المنكر إذا كان مستتراً عن الإمام فليس من مسئوليته ليس من مسئوليته ،
مسئوليته الظاهر لكن المنكرات في البيوت إذا لم يطلع عليها فإنها ليست من مسئوليته لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها ،
من المنكرات التي يجب على الإمام أن يمنعها أن يظهر النصارى أو اليهود أو البوذيون أو غيرهم من أهل الكفر ما يكون شعاراً لهم في بلاد الإسلام ،
مثل : أن يعلق النصراني صليباً في صدره ممنوع في بلاد الإسلام يجب منعه ولكن بالتي هي أحسن ،
سمعت أن بعض الأخوة الناهين عن المنكر رأى فليبينياً قد تقلَّد قلادة ذهب وفي أسفلها الصليب فأمسك بالقلادة وبترها كادت تحز رقبته أو تقطعها هل هذا من الخير ؟
لا ، هذا إساءة للإسلام وغلط ،
والواجب أن مثل هذا يُنصح لو أنه قال لهذا الرجل : يا رجل أخفي هذا ، بلطف لحصل المقصود بدون عنف .
والله تعالى يحب الرفق في الأمر كله .
كما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام : ( رفيقٌ يحب الرفق في الأمر كله ) [80] .
إذن يجب على الإمام أن يمنع المنكرات فما كان مُعْلَنَاً فالأمر واضح أنه من مسئوليته وما كان مستوراً فإن علم به فعليه مسئوليته وإن لم يعلم فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها ،
ما هو المنكر ؟ ما أنكره الناس ؟
لا ما أنكره الشرع ومنعه فهذا هو المنكر ،
أما ما أنكره الناس فهذا يُنظر فيه ،
إن كان مشروعاً فالواجب إظهاره ،
مثل : لو أنكر الناس الصلاة في النعال وكانوا ينكرون ذلك فهنا أنكروا معروفاً فهنا لا يُجابون على ذلك بل يُبيَّن الحق حتى يطمئن الناس إليهم ،
وأقول لهم ذلك حين كانت المساجد مفروشةً بالحصباء أو بالرمل ،
أما الآن فلا يمكن الصلاة بالنعال لما في ذلك من تلويثها وأكثر الناس لا يهتمون عند الدخول في المسجد ،(126/78)
ويمكن للإنسان أن يحصِّل السنة بأن يصلي في بيته بنعاله ،
وأما ما أنكره الناس مما ليس مشروعاً فإنه يُنكر لئلا يقع الإنسان في الشُّهرة ،
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة حتى لا يُذكر المرء في المجالس ،
لأن الإنسان الذي يخالف عادات الناس سوف تلوكه ألسنتهم :
إما بالذم ،
وإما بالمدح ،
والغالب أنه يكون بالذم الغالب أن يكون بالذم ،
فلو قام طالب علم من طلبة العلم المحترمين وخرج إلى الناس ببنطلون وبُرنيطِه وكرافِتِّه ماذا يقولون الناس ؟ شهرة أو لا ؟
شهرة مع أنه في الأصل مباح إذا لم يكن تشبهاً للكفار ،
لكنه مخالف للعادة فيشتهر الإنسان به ويكون ملاكاً تلوكه الألسن ،
ولماذا نُهِيَ عن لباس الشهرة مع أنه قد يكون طيباً ؟
لئلا يُشتهر به الإنسان ويُذكر في المجالس ،
والناس في الواقع لا يجعلون بالاً لهذا الأمر وهو مسألة الشهرة تجد إنسان لا يبالي بأحد اشتهر أو لم يشتهر ،
هذا غلط لأنك عرَّضت لنفسك لماذا ؟ لأي شيء ؟ للكلام في المجالس فلان ماذا به ؟ انهبل ماذا جاءه ؟ وهَلُمَّ جراَّ ،
والإنسان في غنىً عن أن يتكلم الناس به ،
إذن ما هو المنكر ؟
ما أنكره الشرع ولم يقره ،
أما ما أنكره العرف فيُنظر فيه :
إن كان من الأمور المشروعة فلا بد أن يُرَوَّضَ الناس عليه وأن يُفعل أمامهم حتى يطمئنوا إليه ،
وما لم يكن كذلك فإنه من الشهرة التي نُهي عنها وعرفتم الحكمة في النهي عن الشهرة ،
هذه خمسة أشياء ،
السادس من مسؤولياته : نصر المظلوم يجب على الإمام وعلى غيره أيضاً ،
ولكن على الإمام بالدرجة الأولى ،
لأنه هو الذي يستطيع أن ينصر المظلوم وذلك برفع الظلم عنه إن كان قد وقع ودفعه عنه إن كان مُتوقعاً بأن يسمع إنسان يهدد شخصاًَ بأخذ ماله أو غيره فيمنع أو يكون إنسان فعلاً قد استولى على حقِّ غيره فيرفعه ،
فعلى الإمام مسؤولية نصر المظلوم ،
وغيره عليه أيضاً أن ينصر المظلوم ،(126/79)
لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً ) [81] ،
لكن غير الإمام قد لا يتسنى له ذلك قد يكون الظالم أكبر من الذي يريد أن يرفع الظلم ،
وحينئذِ لا يقدر لكن الإمام لا أحد فوقه من البشر فيجب عليه أن ينصر المظلوم ،
كيف ذلك ؟
يدفع المتوقع ويرفع الواقع ،
وبماذا يرفع الظلم ؟
إذا كان هذا الرجل قد اِسْتُوْلِيَ على أرضه مثلاً له أرض استولى عليها ظالم ، فيجب عليه أن يزيل هذا الاستيلاء ،
إنسان سُرق منه حاجة يجب على الإمام أن يرد هذه الحاجة إلى صاحبها ،
ولكن لا بد من شروط لا بد من ثبوتها ،
لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( لو يُعطى الناس بدعواهم لادَّعى قوم دماء رجالٍ وأموالهم ) [82] ,
هذا الباب في ذكر الإمامة ومتعلقاتها ، و نصب الإمام لا بد منه [83] ،
وقد صرَّح العلماء بأنه فرض كفاية وهذا واضح ،
قوله : ( وقمع كفر ) : قمع الكفر يعني إذا ظهر ،
وهذا غير الذب ذب الجحود ،
لأن ذب الجحود يعني دفعه ومنعه ،
أما هذا فقمعه بعد وقوعه ،
والكفر كما نعلم كفرٌ صريح بالسلاح وهذا له جهاد وكفرٌ باطن ، وهذا أيضاً يجب أن يُقمع ،
مثل : أن يكون هذا الرجل متظاهراً بالإسلام لكن له أفكاراً رديئةً ينشرها في الأمة ،
فهذا أيضاً يجب على ولي الأمر أن يقمعه ولا يجوز له أن يُمَكِّنَهُ من كفره الذي ينشره في الأمة وإن كان يتظاهر بالإسلام ،
وذلك لأنه إذا لم يقم بهذا انتشر الكفر واستشرى في الأمة من حيث لا يعلم ،
قد يقول قائل : إذا كان هذا الرجل له فكرٌ رديء ، يدعو إليه ، أفلا كنتم تقولون : إن الإسلام يعطي الحرية يعطي كل إنسان حريته فأفسحوا المجال لكل من عنده رأي أو فكر يتكلم بما شاء وإلا فقد كذبتم في دعواكم ؟
نقول : نعم نحن نقول إن الإسلام قد أعطى كل إنسانٍ حريته ،
لكن ما هي الحرية الصحيحة ؟
الحرية الصحيحة التحرر من قيود الشيطان ومن قيود النفس الأمارة بالسوء ،(126/80)
ولهذا كل من خالف الشرع فإنه رقيق وليس بحر ،
وإلى هذا يشير ابن القيم رحمه الله في بيتٍ أرى أن يُكتب بماء الذهب ،
وذلك أنه قال معنى البيت أنهم تحرروا من الرق الذي خُلقوا له وابتلوا برق النفس والشيطان ،
يعني أنهم تحرروا من الرق الذي خُلقوا له وهو الرق لمن ؟ ،
لله عز وجل ولكنهم ابتلوا برق النفس والشيطان ،
وهذا الذي يقول : أعطوني حريتي أقول ما شئت نقول : نحن إذا أعطيناك حريتك وقلت ما شئت من الكفر والفسوق والأخلاق الرديئة فإنك قد بُليت برق وهو رق النفس والشيطان ،
وعلى هذا نقول عن قمع الكفر ولو تظاهر الإنسان بالإسلام : إنه من واجبات الإمام ،
وعلى هذا يجب على الإمام أن يجعل له نظراء ينظرون في كل ما يُكتب في الصحف والمجلات وكل ما يُنشر في الإذاعات المسموعة والمرئية وكل ما يُذكر في الكتب والرسائل المؤلفة يجعل أمناء علماء لا يجعل علمهم بالانتساب أنهم منتسبون إلى كذا فلهم الحق في النظر بل يكونوا أمناء وعلماء بالشريعة ويمنع كل شيءٍ يدعو إلى الفسوق والمجون والكفر يجب على الإمام ،
ومعنى قولنا يجب ليس حروفاً تُكتب على ورق بل هي مسؤولية عظيمة يُسأل عنها الإمام بين يدي الله عز وجل ،
فعليه مسؤولية قمع الكفر بأنواعه وأشكاله ،
******************
174 – وأخذ مال الفيء والخراج ،
ونحوه والصرف في منهاج ،
الثامن : قوله : ( وأخذ مال الفيء [84] والخراج ) : يعني ويعتني أيضاً بأخذ مال الفيء والخراج ،
وهذان مادة بيت المال ،
وبيت المال هو عبارة عن الخزانة التي تودع فيها أموال المسلمين ،
فمنها : مال الفيء ، والفيء ما أفاء الله على المسلمين من أموال الكفار ،
وذلك أن المسلمين إذا غنموا غنيمة قُسمت إلى خمسة أقسام [85] :
أربعة أقسام للغانمين [86] ،
والقسم الخامس يُقسَّم أيضاً خمسة أقسام [87] ،(126/81)
ذكره الله بقوله : { واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } ( الأنفال 41 ) .
هذا خمسة أقسام من خُمْس لله ورسوله ،
وهذا هو الفيء ،
إذن الفيء جزء من خمسة وعشرين جزءاً من الغنيمة هذا يُجعل لبيت المال للمصالح العامة ،
نقسِّم الغنيمة أولاً خمسة أقسام ،
ونأخذ منها أربعة أخماس للغانمين ،
ويبقى معنا خُمْس ، هذا الخُمْس أيضاً نقسمه خمسة أقسام :
خُمْس لله ورسوله فهذا إلى بيت المال ،
وأربعة أخماس لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ،
وذوو القربى :
قيل : إنهم هم قرابة الإمام ،
وقيل : هم قرابة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،
والصحيح : الثاني [88] ،
وبناءاً على هذا التقسيم الذي سمعتم يكون مال الفيء بالنسبة للغنيمة جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً خمس الخمس ،
المهم على كل حال الآن غنم المسلمون الغنيمة غنموا أموالاً كثيرة من الكفار يعني غزوا الكفار وغنموا غنيمة كثيرة نقسمها كم ؟
خمسة أسهم أربعة أسهم للغانمين يعني للمجاهدين الذين جاهدوا وباشروا القتال تُقسم بينهم :
للراجل وللفارس ثلاثة أسهم ،
وللراكب على بعير ونحوها سهمان هذا معروف ،
الُخْمس الخامس نقسمه أيضاً خمسة أقسام خمسة أسهم ،
خُمْس يكون فيئاً لبيت المال ،
وأربعة أخماس تُقسم كالآتي لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ،
وعلى هذا فنسبة الفيء لجميع الغنيمة كم ؟
واحدٌ من خمسة وعشرين ، هذا الفيء ،
الخَراج أيضاً ،
الثامن : أخذ مال الخراج فما هو الخراج ؟
الخراج هو أن المسلمين إذا غنموا أرضاً وتعرفون أن الغنائم :
إما عقارات وأراضي ،
وإما منقول غنموا أرضاً فتحوها بالسيف وجلى أهلها عنها تكون للمسلمين ،
هذه يُخيَّر الإمام بين قسمها على ما سبق كم ؟
خمسة أسهم ،
والخمس الخامس يقسم خمسة أسهم ،
وبين أن يقفها على المسلمين يجعلها وقف ويضرب عليها خَراجاً ،(126/82)
خراجاً يعني دراهم معينة ، كالأجرة .
كل مساحة معينة عليها شيءٌ معين من الدراهم ، هذا يُسمى الخراج ،
والخراج يعني الرزق : { أم تسألهم خرجا فخراج ربك خير وهو خير الرازقين } ( المؤمنون 72 ) .
هذا الخراج يُؤخذ من كل من تكون هذه الأرض بيده سواءٌ انتقلت بميراث أو ببيع أو بغير ذلك ،
وهذه الطريقة اختارها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموفق للصواب ،
مثلاً : خيبر قُسمت أو جُعل عليها خراج ؟
قسمت ،
ولهذا في الصحيحين أن عمر قال : يا رسول الله إني أصبت أرضاً بخيبر ، ولم يكن لي مالٌ أنفس منه .. إلى آخر الحديث [89] .
لكن أرض الشام ومصر والعراق التي فُتحت في عهد عمر رأى رضي الله عنه ألا تُقسم بين الغانمين قال : إذا قسمناها ألا تُقسم بين غانمين انحصر نفعها بمن بالغانمين أربعة أخماس من نفعها تكون للغانمين ثم يموت فلان ويأتون ذريته الذين قد لا يكون فيهم خير ،
فرأى أنها تبقى بأيدي أهلها عامة ويُوضع عليها خراجاًَ مستمراً يؤخذ ممن هي بيده ،
الآن لو كان لي بيت وأجرته واحداً من الناس عشر سنوات كل سنة بمائة ريال هذه الأجرة نظيرها الخراج ،
الخراج يقال مثلاً : من أخذ من هذه الأرض مساحة كذا وكذا فعليه كذا وكذا من الدراهم تبقى الأرض بيده وكل سنة يُسلم الدراهم التي جُعلت عليه ،
أين تذهب الدراهم ؟ ،
لبيت المال ,
من المَعْنِيُّ ببيت المال ؟
الإمام ، ولهذا قال : ( وأخذ مال الفيء والخراج ) ،
فهذا من مسؤوليات الإمام ،
لكننا نسألكم الآن هل يوجد أرض خراجية يُستخرج منها ؟
الآن لا ، تغيرت البلاد ومن عليها ،
لكن فيما سبق موجود وتدر هذه الأراضي على بيت المال شيئاً كثيراً ،
لكن الآن إلى الله المشتكى ،
قوله : ( ونحوه ) : يعني أخذ مال الفيء والخراج ونحوه ،
( ونحوه ) هذه بمعنى مثل وهي كلمةٌ واسعة كثيرة ،
مثلاً : إذا مات ميت وليس له وارث أين يذهب ماله ؟
لبيت المال والمَعْنِيُّ بذلك الإمام ،(126/83)
الأموال المجهول صاحبها ضائعة ولم يُعرف لها صاحب أيضاَ تكون لبيت المال وهلم جراَّ ،
أموال كثيرة تدر على بيت المال ،
وبيت المال يُعنى به الإمام ويجب أن يصرفه في مصالح المسلمين ،
قوله : ( والصرف في منهاج ) : الصرف معطوفة على ( يعتني بالغزو ) يعني بصرفه في منهاج ،
يعني ويعتني أيضاً بالصرف في منهاج وما أثقل هذا الأخذ سهل على الإمام أو لا ؟
سهل أن يأخذ الخراج من الأراضي ويأخذ مال من مات ليس له وارث هذا سهل ،
لكن الشاق الأخير ( الصرف في منهاج ) يعني الصرف في طريق شرعية أن يصرف المال في طريقٍ شرعي ،
هذا من مسؤوليات الإمام يجب عليه أن يصرف مال المسلمين في الطريق الصحيح النافع للمسلمين ،
لا يكن جمَّاعاً منَّاعاً دفَّاعاً جمَّاع للمال منَّاع في بذله في الخير دفَّاع في بذله في الشر ،
هذا حرام ، ( إن أقواماً يتخوَّرون في مال الله بغير حق لهم النار يوم القيامة ) [90] ،
فالآن اسمع ما يجب على الإمام من المسؤوليات العظيمة ،
وأكبر مسؤولية عليه فيما أرى من هذه الأشياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
لأن هذا واجبٌ في الحرب والسِّلم والأمن والخوف والرخاء والشدة ،
وواجب في كل قرية وفي كل مدينة وفي كل طريق وواسع ،
فلذلك نقول : إن مسؤوليات الإمام عظيمة نسأل الله أن يعين الأئمة على ما فيه الخير ،
أما ما يجب علينا فسيذكره المؤلف إن شاء الله فيما بعد ،
ولم يذكره لأنه في الواقع يريد أن يبيِّن أن الإمامة أمرٌ لا بد منه ،
لكن نسأل هل هذه الإمامة شرطٌ في العبادات بمعنى أنها لا تصح العبادات إلا بإمام ؟
لا إلا عند الرافضة ،(126/84)
الرافضة يقولون : لا يمكن أبداً أن نصلي جماعةً إطلاقاً ، حتى يأتي الإمام المنتظر هذا الإمام الذي يدَّعون أنه اختفى في سردابٍ منذ مئات السنين اختفى في سرداب من زمان وكل صباح يهيئون فرساً عليه راكب معه رمح وخبز وعسل وماء كل صباح يجلس عند هذا السرداب ينتظر خروج الإمام فإذا خرج أفطر بالخبز والماء والعسل ثم أخذ الرمح وركب الفرس وسار في الأرض يملؤها عدلاً بعد أن ملئت جوراً يُسمى الإمام المنتظر يقولون لا يمكن أبداً أن نصلي جماعةً ولا جمعة إلا إذا جاء هذا الإمام المنتظر ،
لكن في ظني أنه بعد أن جاء زعيمهم [91] الذي أسس ولاية الفقيه غيَّر هذا الرأي وقال : لا يمكن هذا الإمام المنتظر أين الإمام المنتظر ؟ لا نصلي جمعة ولا جماعة إلى أن يأتي وصار يأمرهم أن يصلوا مع الجماعات والجمعات أيضاً وهذا طيب تحوُّل إلى حق والله المستعان ،
******************
175 – ونصبه بالنص والإجماع ،
وقهره فَحُلْ عن الخداع ،
قوله : ( ونصبه بالنص والإجماع ) : مصالح الأمة كما ينبغي ،
لأن الذي يغلب عليه العبادة والزهد وما أشبه ذلك لكن جبراً لمنزلته وقربه جعله يحضر مجالس الشورى الذين جعلهم عمر رضي الله عنه يختارون ما فيه الخير ،
إذن الأمر الأول ما هو ؟
بالنص إذا نصَّ عليه خليفةٌ من قبله [92] ،
فإنه يكون خليفة ولا تجوز منازعته ولا يحتاج إلى بيعة لأن بيعته يغني عنها بيعة الأول ،
إذ أن بيعة الأول معناها التزام الناس بتصرف الأول ،
وإذا تصرف الأول هذا التصرف وقال : إن الإمام من بعدي أو الخليفة من بعدي فلان فإنه يكون هو الخليفة بدون أن يكون هناك مبايعة ، هذا واحد ،
الثاني : الإجماع : يعني إجماع أهل الحل والعقد على بيعته ،
كما أجمع أصحاب الشورى الستة الذين وضعهم عمر على مبايعة عثمان بن عفان رضي الله عنه ،(126/85)
فإذا أجمع أهل الحل والعقد على شخص ونصبوه إماماً صار إماماً [93] ،
لكن هذا بشرط ألا يكون الخليفة الأول قد نصَّ على شخصٍ معين [94] ،
فإن كان نصَّ على شخصٍ معين فلا كلام ،
لكن لو مات ولم ينصَّ على أحد فإنه يجتمع أهل الحل والعقد فإذا أجمعوا على أن فلاناً هو الخليفة صار الخليفة ،
وهل يُشترط أن يبايعه كل فردٍ من الأمة ؟
الجواب : لا يشترط وهذا شيءٌ غير ممكن ،
ولهذا لم يُبايع أبا بكر ٍ رضي الله عنه إلا أهل الحل والعقد ما أرسل إلى كل مراهق وإلى كل عجوز وإلى كل شاب وإلى كل رجل أن يبايعه لا أرسل إلى مكة ولا إلى الطائف ولا إلى غيرها من البلاد بل ولا إلى أهل المدينة،
اكتفى بمبايعة من ؟
أهل الحل والعقد ،
ولهذا نعرف أن من قال من السفهاء الأغرار أنا لم أبايع ،
نقول من الذي قال أنه اشترط أن تبايع ؟
المبايعة ليست لكل واحدٍ من الناس المبايعة لأهل الحل والعقد ،
فإذا أجمعوا وبايعوا عليه صار إماماً ووجب على الجميع التزام أحكام الإمام في هذا الرجل الذي أجمع عليه أهل الحل والعقد هذه واحدة ،
مثل من ؟
مثل عثمان ،
عثمان رضي الله عنه بويع بإجماع أهل الشورى الذين نصبهم عمر رضي الله عنه ،
الثالث : القهر : يعني لو خرج رجل واستولى على الحكم وجب على الناس أن يدينوا له حتى ولو كان قهراً بلا رضىً منهم ، لأنه استولى على السلطة [95] ،
ووجه ذلك : أنه لو نوزع هذا الذي وصل إلى سُدَّة الحكم لحصل بذلك شرٌّ كثير حصل بهذا شرٌّ كثير ،
وهذا كما جرى في دولة بني أمية فإن منهم من استولى بالقهر والغلبة وصار خليفةً يُنادى باسم الخليفة ويُدان له بالطاعة امتثالاً لأمر الله عز وجل ،
هل بقي شيءٌ رابع ؟
يقولون لا ،
هذه هي الطرق التي يكون بها الإمام إماماً ثلاثة :
1 - النص ،
2 - والإجماع ،
3 - والقهر ،
وإذا قلنا إن الخلافة تثبت بواحدٍ من هذه الطرق الثلاث ،(126/86)
فيعني أنه لا يجوز الخروج على من كان إماماً بواحدٍ منها أبداً [96] ،
قوله : ( فَحُلْ عن الخداع ) : يعني لا تخادع ، ولا تخن ،
إذا ثبتت الإمامة بواحدةٍ من هذه الطرق فالإمامة ثابتة ،
******************
176 – وشرطه الإسلام والحرية ،
عدالةٌ سمعٌ مع الدَّرية ،
قوله : ( وشرطه إسلام وحرية ) : أي شرط الإمام الذي يكون خليفةً على المسلمين الإسلام [97] ،
وهذا لا بد منه لا يمكن أن يتولى على المسلمين غير مسلم أبداً ، بل لا بد أن يكون مسلماً ،
فلو استولى عليهم كافرٌ بالقهر وعندهم فيه من الله برهان أنه كافر بأن كان يعلن أنه يهودي أو نصراني مثلاً ، فإن ولايته عليهم لا تنفذ ولا تصح وعليهم أن ينابذوه ،
ولكن لا بد من شرطٍِ مهم وهو القدرة على إزالته ،
فإن كان لا تمكن إزالته إلا بإراقة الدماء وحلول الفوضى فليصبروا حتى يفتح الله لهم باباً لأن منابذة الحاكم بدون القدرة على إزالته لا يستفيد منها الناس إلا الشر والفساد والتنازع وكون كل طائفة تريد أن تكون السلطة حسب أهوائها ،
الشرط الثاني : الحرية يعني يُشترط أن يكون حرًّا [98] ،
أما الرقيق فلا ولاية له ،
لأن الرقيق قاصر والرقيق مملوك فكيف يكون مالكاً ،
يعني لو فُرض أن العبد كان مالكاً خليفة ماذا يكون موقفه مع سيده ؟
لا شيء لأن سيده مالكٌ له وإذا كان هو مملوكاً بمنزلة البعير يُباع ويُشترى ويُؤجَّر ،
كيف يكون هذا إماماًَ للمسلمين ؟
فلا بد من الحرية ،
لا بد من كمال الحرية أو يصح أن يكون المبعض إماماً ؟
لا بد من كمال الحرية ،
لأن هذا الجزء الرقيق منه يمنعه من كمال التصرف ،
الشرط الثالث : قوله : ( عدالة ) : العدالة هي العدل ، أي أن يكون عدلاً [99] ،
والعدالة في اللغة : الاستقامة ،
وفي الشرع : هي ( الاستقامة في الدين والمروءة ) [100] ،(126/87)
يعني أن يكون مؤدياً للفرائض مجتنباً للكبائر ذا مروءة من الكرم والشجاعة والحزم واليقظة وما أشبه ذلك ،
فإذا لم يكن مستقيماً في دينه فإنه لا يجوز أن يُولَّى ،
وهذا الشرط شرطٌ للابتداء أعني العدالة شرطٌ للابتداء ،
بمعنى أننا لا نوليه وهو غير عدلٍ إذا كان الأمر باختيارنا،
أما من ملك وصار خليفة فإن العدالة ليست شرطاً فيه ،
ولهذا أذعن المسلمون للخلفاء ذوي الفسق والفجور مع فسقهم وفجورهم وخلاعة بعضهم وانحراف بعضهم في الدين إلا أنه انحرافٌ لا يصل إلى الكفر أذعن المسلمون وأئمة المسلمين للولاة ،
إذن فالعدالة هنا شرطٌ للابتداء ،
يعني عندما نريد أن ننصِّب إماماً فلا بد أن يكون عدلاً أي مستقيماً في دينه ومستقيماً في مروءته ،
الشرط الرابع : قوله : ( سمعٌ ) : يعني يُشترط أن يكون سميعاً [101] ،
فإن كان أصم لا يسمع أبداً فإنه لا يصح أن يكون إماماً ،
وهذا أيضاً شرطٌ في الابتداء ،
فلو أنه صار إماماً ثم حدث له حادث فَأَصَمَّهُ فإن ولايته باقية ،
لكن حينما نريد أن ننصبه لا بد أن يكون سميعاً ،
وذلك لأن الأصم لا يمكن أن يتم به الحكم يعني ،
وإن تم في بعض الأمور لكن لا يكون تاماًّ كما ينبغي ،
حتى وإن كان له وزراء ومساعدون يساعدونه فإنه لا يكفي لا بد أن يكون سميعاً ،
وهل الشرط قوة السمع أو مطلق السمع ؟
مطلق السمع وإن لم يكن قوياً ،
المهم أن يسمع ولو كان سماعه بعد التصويت البالغ ،
العلة لأن غير السميع لا يتم به التصرف في الإمامة ،
الشرط الخامس : قوله : ( مع الدرية ) : يعني أن يكون ذا دراية ، ذا دراية يعني ذا فطنة ومعرفةٍ بالسياسة ومعرفةٍ بالأحوال [102] ،
حتى يدير الحكم على ما تقتضيه الشريعة وتقتضيه المصالح ، والمصالح لا تنكرها الشريعة ،
ضد ذي الدرية من ؟
المغفل الغبي إن جئنا إنسان نريد أن ننصبه إماماً للمسلمين وهو مغفل غبي يأتيه الصبي فيلعب بعقله ،
كيف هذا يتولى على المسلمين ؟(126/88)
لا بد أن يكون دراية أي علم بأحوال الناس وبمخادعة الناس وغير هذا مما تتطلبه الإمامة ،
******************
177 – وأن يكون من قريش عالماً ،
مكلفاً ذا خبرةٍ وحاكماً ،
قوله : ( وأن يكون من قريش ) [103] : أن يكون الخليفة من قريش ،
وهذا أيضاً شرطٌ في الابتداء ،
ومع ذلك قد اختلف العلماء في اشتراطه :
فمنهم من قال وهم الجمهور : لا بد أن يكون قريش [104] ،
فإن كان من غير قريش وإن كان عربياً فإنه لا يجوز أن يكون إماماً ،
ومعنى لا يجوز أي لا يجوز أن ننصبه إماماً ،
ووجه ذلك : أنه قد ورد في بعض الأحاديث ما يدل على أنه لا بد أن يكون من قريش ،
ولأن قريشاً أفضل العرب وفيهم أفضل الرسالة فكانوا أحق بالإمامة كما جعلهم الله أحق بالرسالة ،
الشرط السابع : قوله : ( عالماً ) [105] : يعني ذا علم ،
وهل المراد العلم بالشرع أو العلم بأحوال الخلافة وما تتطلبه الخلافة ؟
الثاني يعني لا يُشترط أن يكون عالماً بالشرع ،
إن كان عالماً بالشرع فلا شك أنه أكمل ، لكنه ليس بشرط [106] ،
أما العلم بما تتطلبه الإمامة فلا بد منه ،
إذ كيف يتصرف وهو لا يعلم هل هذا مناسب أو غير مناسب وهل هذا لا بد منه أو يُستغنى عنه أو ما أشبه ذلك ،
قوله : ( مكلفاً ) [107] : يعني بالغاً عاقلاً ،
فلا يجوز أن نجعل صبياَّ له عشر سنوات خليفةً على المسلمين ، لماذا ؟
لأن من دون البلوغ مُولىًّ عليه ،
فكيف يكون والياً على المسلمين حتى لو فُرض أنه مراهق وأنه ذكي فإنه لا يصح أن يتولى إمامة المسلمين لنقصه ،
وإن كان مجنوناً فمن باب أولى أن نجعل رجلاً مجنوناً خليفةً على المسلمين كل يضربهم ببلية ويأمرهم بِطامَّة لا بد أن يكون بالغاً عاقلاً ،
التاسع : قوله : ( ذا خبرة ) [108] : الخبرة هي العلم ببواطن الأمور ،(126/89)
وهي أخص من قوله فيما سبق ( عالماً ) يعني ذا خبرة في أساليب الحكم ومنها :
أن يكون ذا خبرة فيما يتعلق بالجهاد من السلاح وغير ذلك ،
وهذه الشروط كما قلتُ لكم شروطٌ في ماذا ؟
في الابتداء إلا الإسلام فإنه شرطٌ في الابتداء والدوام ،
قوله : ( وحاكماً ) [109] : هذا الشرط قد يقول القائل ما معنى الحاكم ؟
يعني له قوة شخصية حتى يحكم تماماً ،
لأن من الناس من يكون عنده علم وخبرة وعدالة ومن قريش وغير ذلك من الشروط ،
لكنه ليس بحاكم يُلعب به في الحكم فيكون حاكماً بلا حكم ما الفائدة منه ؟
لا بد أن يكون حاكماً أي ذا شخصيةٍ يستطيع بها تنفيذ حكمه ،
هذه الشروط الآن كم صارت ؟
عشرة شروط ،
واحدٌ منها شرطٌ للابتداء والاستمرار وهو الإسلام وأيضاً يُلحق به العقل ،
العقل لا بد منه لو أنه جُنّ لا بد من عزله يجب عزله و إقامة غيره ،
لكن إذا فسق بعد العدالة أو ضعف لكنه يستطيع تدبير الحكم فإنه لا تزول ولايته ،
هذه عشرة شروط ،
******************
178 – فكن مطيعاً أمره فيما أمر ،
ما لم يكن بمنكرٍ فيُحتذر ،
قوله : ( فكن ) : يعني أيها الإنسان ،
قوله : ( مطيعاً أمره ) : أمر من ؟ أمر الإمام ،
قوله : ( فيما أمر ) : يعني في كل ما أمر الإمام به لأن ( ما ) اسم موصول واسم الموصول يفيد العموم أي في جميع ما يأمر به ،
قوله : ( ما لم يكن بمنكر ) : فإن أمر بمنكر فلا طاعة له ،
والنصوص في هذا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلومة مستفيضة مشهورة ،
وتعليل ذلك : أنه لو عُصي الإمام لصار الناس فوضى ،
إذ لا فائدة في إمامٍ لا يُؤتمُّ به ، فلا بد من طاعة ولي الأمر لكن أقول : ما لم يكن بمنكر ،
والمنكر نوعان :
1 - إما فعل محرم ،
2 - وإما ترك واجب ،
فلو أمر بترك الواجب وقال لا تصلوا مع الجماعة فماذا نقول ؟(126/90)
لا سمعاً ولا طاعة ونصلي مع الجماعة ،
ولو أمر بمنكر بأن قال يا فلان في البلد نصارى كثيرون والنصارى لا يحرمون شرب الخمر افتح لهم معملاً من الخمر حتى يشربوا كما أنك تشرب البيبسي والكاكولا وأما أشبهها فدعهم يشربوا هل يطيعه ؟
لا يطيعه حتى ولو أمر ،
لأن هذا معصية لله عز وجل ،
وقد قال الله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم } ( المائدة 59 ) ، ولم يعد الفعل لم يقل : ( وأطيعوا أولي الأمر ) ،
فدل ذلك على أن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله ورسوله فإذا أمروا بالمعصية فلا سمع ولا طاعة ،
إن أكرهوا على المعصية مثل أن يقول احلق لحيتك وإلا حبسناك فماذا يقول ؟
تُباح المعصية للإكراه ،
لأن الله أباح الكفر للإكراه ،
لكن بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان هذا أيضاً المعصية ،
إذا أمرك بها وأكرهك عليها فافعل بشرط أن يكون قلبك مطمئناً بأن هذا معصية لله ،
ولولا الإكراه ما فعلت وهذا من رحمة أرحم الراحمين سبحانه وتعالى أن الإنسان عند الإكراه يفعل ما أكره عليه ،
وهل إذا أكره على الفعل يفعله دفعاً للإكراه أو يفعله للإكراه ؟
قال بعض العلماء : لا بد أن ينوي أنه يفعله دفعاً للإكراه لا للإكراه ،
ولكن الصحيح : أنه ليس بشرط أنه يفعله دفعاً للإكراه ،
بل الشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالإيمان وبحكم الله عز وجل ،
لأنه كونه بذلك يريد بذلك دفع الإكراه لا يتسنى لكل أحد لا يتسنى إلا لطالب علمٍ يعرف ،
ثم إن طالب العلم قد يكون المقام لهوله وشدته منسياً له عن هذه الإرادة ،
فالصواب : أنه يفعله لماذا ؟
للإكراه لا اختياراً له لا لدفع الإكراه ،
الفرق يفعله لدفع الإكراه يعني لا يريد به إلا أن يدفع إكراه هذا الرجل لا يريد الفعل يفعله للإكراه يريد الفعل ، يريد الفعل لكنه مكره لا اختياراً للفعل ،
فالأول : ما نوى الفعل أصلاً إنما هو مدافع فقط يدافع الإكراه ،(126/91)
والثاني : نوى الفعل لكن من الإكراه وقلبه مطمئن ،
هناك مرتبة ثالثة : يفعل الفعل مع الاطمئنان إليه ،
فهذا له حكم الفاعل بدون إكراه ،
الثالث : قد يقول قائل إنه هذه مسألة فرضية ولا يمكن توجد ؟
لكن نقول قد توجد نقول الرجل هذا قد يكره المعصية التي أمر بها لكن يجعل الإكراه سبباً مبيحاً هو يريد المعصية لكنه قبل الإكراه لا يفعلها فيجعل الإكراه سبباً لاستباحتها ،
مثلاً : لو فرضنا أن رجلاً يحب الزنا والعياذ بالله ويريد لكن ما دام لم يُحرك فهو مجتنب له فإذا جاءه أحد يكرهه سواءٌ من المرأة نفسها أو من غيرها فَعَلَهُ حباًّ له وتعلل بأنه مكره وهذا أمرٌ يقع ،
ولذلك قال الفقهاء رحمهم الله : إن الرجل لو أكره على الزنا فزنا فإنه تجب إقامة الحد عليه ولو أكرهت المرأة لم تجب إقامة الحد عليها [110] ،
إذا أكره الرجل على الزنا فزنا أقيم الحد عليه وإذا أكرهت المرأة فزنت لا يقام الحد عليها لماذا ؟
قالوا : لأن الرجل لا يمكن أن يجامع إلا إذا انتشر ذكره ولا انتشار إلا بإرادة فكان هذا الرجل جاهز لكن يخشى من اللوم يعني يريد الزنا ويريد الوطء لكنه يخشى من اللوم فلما أكره قال هذا مرادي ففعل ،
على كل حال المكره إما أن يفعل ما أكره عليه لدفع الإكراه أو للإكراه مع كراهته للشيء أو للإكراه مع محبته للشيء ويكون هذا الإكراه سبب ضعيف لكنه له هوى ،
الأسئلة
السؤال : ( غير واضح ) ؟(126/92)
الجواب : هل أنت تعرف كتب الفقه ؟ أنا أسألك ؟ إن كنت لا تعرفها فكيف تسأل عما لا تعرف ؟ وإن كنت تعرفها فكتب الفقه عبارة عن مسائل مبينة على دلائل ، مسائل يكتبها العلماء مستنتجة من كتاب الله وسنة رسوله وأقوال الصحابة لكن ليست هي أسئلة يأتي الواحد يسأل في أمرٍ غيبي ليس فيه اجتهاد وأنا قلت لكم الأمور الغيبية أليس كذلك ؟ الأمور الغيبية فيما يتعلق بالله واليوم الآخر وما أشبه ذلك أما الأمور الاجتهادية فاسأل ، الذهن ليس له حد في الأمور الاجتهادية ،
السائل : يعني نقيد ذلك بالأمور الغيبية ؟
الجواب : ذكرناها وقيدناها مراراً وتكراراً ،
السؤال : من المعلوم أنه يحسن مخاطبة الناس بالتوحيد والصلاة وأمور الدين الواضحة فهل يحسن أيضاً مخاطبة من كان معهم في مثل هذا الأمر من حقوق ولي الأمر وما ينبغي له أم أنه يترك الأمر والمجال إذا أتى ؟
الجواب : لا ، هذه لا بد لها من شروط لأن كثيراً من الناس الآن لو إنسان يتكلم بما يجب عليه في ولي الأمر مما هو حقٌّ له وحقٌّ عليه اِتُّهِمْ ،
لأن الناس بعضهم غوغائي مع كل ناعق .
فلو قال : إن ولي الأمر يلزمه كذا ويلزم الرعية كذا وكذا ، اِتُّهِمْ .
وقالوا : هذا منحاز وهذا محابي وهذا مداهن وما أشبه ذلك ،
اليوم القول بالهوى أكثر من القول بالهدى وهذا فيه نوع من الفتنة لكن على الإنسان في مناسبة كما قيل عن عمر رضي الله عنه : إذا تكلم أسمع وإذا ضرب أوجع فأنت إذا تكلمت اجعل كلامك يكون رصيناً ،
السؤال : يتكلم ابتداءً أو بالمناسبة ؟
الجواب : لا في المناسبة لئلا تُتَّهم لكن إذن من المناسبة إذا كَثُرَ الخوض وكثر الكلام وما أشبه ذلك فمن المناسبة أن تتكلم ،
السؤال : هل يجوز للعالم أن يحدث قولاً جديداً في مسألة اختلف فيها الصحابة على عدة أقوال ؟
الجواب : مثل ماذا ؟
السؤال : ما يحضرني الآن ؟(126/93)
الجواب : نقول : إن هذا القول الذي يُحدثه إن كان داخلاً في الأقوال فلا بأس إذا كان خارجاً فلا ، داخلاً في الأقوال ،
افرض مثلاً اختلف الصحابة في مسألة أحدهما ينفي والثاني يثبت فجاء إنسان وفصَّل ، فصَّل في المسألة ،
مثلاً : القول بوجوب الوتر :
قال بعض العلماء : إن الوتر واجب [111] ،
وقال بعضهم : ليس بواجب [112] ،
وفصَّل قوم وقالوا : من كان له وردٌ من الليل يعني صلاةٌ من الليل يجب عليه الوتر [113] ،
لقوله : ( اجعلوا آخر صلاتكم من الليل وتراً ) [114] ، ومن لم يكن فلا يجب عليه الوتر ،
فمثلاً : إذا اختلفوا على قولين فإنه لا يجوز إحداث قولٍ ثالث ،
إلا إذا كان القول الثالث لا يخرج عن القولين ،
السؤال : لو قال قائل : ما هي الحكمة لنا ونحن لسنا أئمة ولا مسؤولين أن ندرس مثل هذا ؟
الجواب : سأسألك هل الرجال يحيضون ؟
السؤال : لا ،
الجواب : لا يحيضون ، إذن ما الفائدة أن ندرس الحيض ؟
السؤال : لأنهم يلابسون من يحيض ،
الجواب : ما يخالف ما تزوجوا ؟
السؤال : أمهاتهم وأخواتهم ،
الجواب : ما لهم دخل فيهم ؟
السؤال : لا لهم دخل فيهم ،
الجواب : لا أبداً ،
السؤال : هذه واضحة ،
الجواب : حتى هذه أيضاً واضحة إذا عرفت أن الإمام عليه هذا الحق ولم يقم به أناصحه وأعرف حقه ولهذا الواقع أن علينا أن نعرف ما على الإمام وما على الرعية حتى يقوم الإنسان بما يجب عليه ،
السؤال : ( السؤال غير واضح ) ؟
الجواب : بأي شيء كل ما يشتهر به لكن لو كان الإنسان من غير هذا البلد وبقي على لباسه في بلده ، هل يكون هذا شهرة ؟ لا بل قد يكون في هذا ميزة نعرف أن هذا الرجل من البلد الفلاني ،
السؤال : إذا الإمام ضيَّع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهل يكون ( كلمة غير واضحة ) الرعية بهذا الأمر بهذا الأمر ؟
الجواب : نعم لا بد أن يقوموا به لكن ليس لهم حق التغيير لأنهم لا يستطيعون ذلك ،(126/94)
السؤال : هل يمكن أن يأتي زمان يخلو من إمام يقوم بمسؤولياته ؟
الجواب : أما الإمامة العامة فيمكن وهذا حصل من زمن الصحابة ، من زمن الصحابة خلت الأمة الإسلامية من إمام عام ،
فمثلاً : ابن الزبير في مكة وبنو أمية في الشام وجماعة آخرون في العراق يعني من زمان هذا ،
ولو قلنا : إنه لا تثبت الإمامة ولا تجب طاعة ولاة الأمور الذين في كل صُقْعٍ من الأرض ما بقي للناس الآن أئمة ،
فالإمامة العظمى واجبة بقدر الإمكان ،
لكن إذا لم يمكن كوقتنا الحاضر وما قبله بأزمانٍ كثيرة فكل من تولى على جهة فهو إمامهم ،
السؤال : بالنسبة لحد القذف إذا عفا عنه صاحبه فهل يسقط ؟
الجواب : هذه المسألة فيها خلاف :
فذهب جماعةٌ من العلماء ومنهم الظاهرية : إلى أنه حقٌّ لله [115] ،
وقالوا : إن القاذف يُقام عليه حدُّ القذف سواءٌ طالب المقذوف أم لم يطالب ،
وقالوا : إذا كان المقذوف لا يبالي بنفسه فنحن نبالي به لأنه مسلم ولا نريد أن يكون المسلمون محلاًّ للقذف ،
والآية عامة : { والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم } ( النور 4 ) ، كقوله : { الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة } ( النور 2 ) .
وبعضهم يقول : إنه حقٌّ للمقذوف [116] ،
ولا يُقام إلا بطلبه لاحتمال أن يكون المقذوف قد عرف من نفسه أنه ليس بمحصن ،
لأن من شرط إقامة الحد على القاذف أن يكون المقذوف محصناً ،
وقد يكون المقذوف عرف من نفسه أنه غير محصن أنه والعياذ بالله يزني ليس عفيفاً ،
وحينئذٍ تكون إقامة الحد على القاذف جنايةً وظلماً ،
السؤال : كيف نجمع بين ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : نقول : إن قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إذا لقيتموهم في طريقٍ فاضطروهم إلى أضيقه ) [117] ، ليس معناه أنني إذا وجدت اليهود والنصارى في الطريق أني أرصه على الجدار ،
بل المعنى ألا تتمايزوا للتوسعة عليهم ،(126/95)
ويدل لهذا المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يعاملون اليهود الذين في المدينة كما يفهمه بعض الناس من الحديث ،
فمعنى : ( فاضطروهم إلى أضيقه ) أنه إذا كان الطريق مثلاً فيه فسحة وفيه ضيق نجعلهم هم يمشون مع الضيق ،
مثلاً : التقى بالشارع جماعة من المسلمين وجماعة من اليهود أو النصارى العادة أن أحد الجماعات يُوسِّع للأخرى ،
نقول : لا توسعوا لهم دعوهم هم الذين يضطرون ويمشون على واحد واحد ،
هذا معنى الحديث ،
السؤال : بارك الله فيكم العقيدة السفارينية تكلم أحد طلاب العلم المعتبرين بأنها عقيدة غير عقيدة أهل السنة وأنه من المتكلمين فهل هذا حق ؟
الجواب : لا شك أن كل إنسان له أخطاء إلا من شاء الله ،
السفارينية فيها كلمات يعني تُنتقد ،
ولكن إذا كانت مسألة من آلاف المسائل منتقدة هل يقال : إن الرجل خرج عن أهل السنة والجماعة ؟ أو خرج عن السلفية ؟
وما ندري لعل هذا القائل هو الذي خرج عن السلفية ،
إذ أن السلف يغتفرون قليل الخطأ في كثير الصواب ويحكمون بالقسط ،
أما أن يحكم بالجور وإذا أخطأ إنسانٌ ما في مسألة وتبع فيها مذهباً مبتدعاً في هذه المسألة قيل هذا من هؤلاء هذا أشعري ولا يُؤخذ قوله هذا ليس من طريق السلف ،
السلف الصالح رضي الله عنهم ينظرون بين الحسنات والسيئات ويحكمون بالقسط ،
والعقيدة هي سلفية لكن فيها أخطاء لا شك فيها أخطاء ،
مثل : وصف القرآن بالقدم .
وفيها أيضاً بعض المسائل الأخرى نبهنا عليها في الشرح فيما سبق ،
السؤال : الخراج المضروب هل يمكن أن يُزاد أم هو ثابت ؟
الجواب : اختلف العلماء فيما وضعه عمر رضي الله عنه :
فمنهم من قال : لا يُزاد على ما وضعه عمر لأنه له سنةً متبعة ،
وأما ما وضعه الخلفاء بعده فإنه لا بأس أن يُزاد أو يُنقص عليه ،
والمرجع إلى رأي الإمام في هذه المسألة ،
قد تكون الأراضي مثلاً مرتفعة الأسعار فيزيد في الخراج وقد تكون بالعكس وينقص ،(126/96)
السؤال : بالنسبة لمن يدعو إلى منهج كفري على رؤوس العوام والإمام ما اتخذ معه أي موقف فهل يجب على أهل هذا البلد أن يتخذوا معه موقف معين أم يتركوا هذا للمصلحة للإمام مع أنهم … ؟
الجواب : لا ، يجب رد الباطل يجب ،
كل إنسانٍ يعلن نفاقه يجب أن يُرد عليه علناً ، ولا يمكن أن يُقر الخطأ لكن ليس لهم أن يقمعوا هذا بالقوة لأن هذا افتياتٌ على الإمام لأنه يحصل فيه من الفوضى والشر أكثر مما يحصل من الخير ،
السؤال : بالنسبة للبيت ( والصرفِ ) أو ( والصرفَ ) ؟
الجواب : ( والصرفِ ) ،
السؤال : في بعض النسخ مكتوب ( والصرفَ ) ؟
الجواب : لا ( والصرفِ ) معطوفة على ( ويعتني بالغزو ) يعني : ويعتني بصرفه في منهاج ، و ( وقهره ) معطوف بـ ( بالنص ) يعني نصبه بالنص والإجماع وقهره لكن في الحقيقة بالنسبة لقهره هو ما نُصب لكن انتصب ،
السؤال : في بعض البلاد مثلاً يعني التي يتسلط فيها أعداء الإسلام الملحدين ونحوهم ، يحاولون مثلاً إزالة من كان موجوداًَ من المسلمين مثلاً من الجيش فيفرضون عليهم يقولون مثلاً : إما أن تحلقوا اللحى وإما لا حق لكم في الجيش ولا مكان لكم في الجيش ، فيكون مثلاً الواحد يريد أن يبقى في مكانه يحافظ على الإسلام ويفعل هذا وقلبه مطمئن هل يجوز هذا ؟
الجواب : هذه المسألة مشكلة ،
يعني مثلاً يقول هذا الفاسق نسأل الله ألا يولي الفاسقين على المؤمنين يقول هذا الفاسق لازم تحلق لحيتك وإلا اخرج من الجيش ،
فهذا الرجل يقول : إن خرجت من الجيش حلَّ محلي فاسق أو مبتدعٌ خطر على الإسلام مع حلق اللحية ،
وإن حلقت اللحية وبقيت بذلك مصالح كثيرة لو لم يكن منها إلا دفع هذا المبتدع الفاسق الشرير أن يكون في هذا المقام الخطير لأنه أخطر ما يكون في الجيش ،
أنا أتردد فيها في الحقيقة أحياناً أقول : اخرج من الجيش لا خير في جيشٍ ينبني على معصية الله ،(126/97)
وأحياناً أقول هذا أمرٌ واقع فيجب أن نقدِّر الأمور بواقعها وأن نخفف بقدر الإمكان فهذا الرجل إذا حلق لحيته معصية لا شك وليست معصية بالإجماع أيضاً لاحظوا هذه ،
لأن من العلماء من يقول : إن حلق اللحية مكروه وليس بحرام أفهمتم ،
فيقول هذا الرجل : أنا إذا حلقت اللحية بقيت في مكاني أمرت بمعروف نهيت عن المنكر وربما تكون الدولة فيما بعد لأهل الخير لكن إذا تخلى أهل الخير جاءنا من يحلق اللحية ومن يفسد الجيش بعقيدته أو أخلاقه فما رأيكم في هذه المسألة ؟
أنا متأرجح أحياناً أقول : لا تكن في الجيش وأحياناً أقول في فكري كيف تمنعهم من الجيش وهؤلاء رجالٌ طيبون ؟ إذا منعتهم حلَّ محلهم من الفساق والفجار والمبتدعة والذين هم خطر على الإسلام ،
السؤال : نؤمر ( كلمة غير واضحة ) الموسيقية مثل تحية العَلَم ، وقد نؤمر أحياناً بقتال المسلمين فما رأيكم ؟
الجواب : أما تحية العَلَم فلا نسلِّم أنها شرك تحية العَلَم ليست بشرك هل سجد له ؟ هل ركع له ؟ هل ذبح له ؟ حتى التعظيم بالسلام هل هو شرك ؟ ليس بشرك ثم بإمكان الإنسان أن يقول كذا للعلم وهو يقول : قبحك الله ، نعم الكلام على النية ،
السؤال : لو خلع غطاء الرأس ألا يكون ( كلمة غير واضحة ) ؟
الجواب : ما يخالف أخلع غطاء الرأس لأن هذا ليس أهلاً بأن اتخذه زينةً عنده ، غطاء الرأس زينة ، { يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد } ( الأعراف 31 ) ، فهذا العلم ليس أهلاً لأن أكمِّل زينتي عنده أخلع غطاء الرأس ولو كان عندي سروال ثاني لخلعت السروال الأول إهانةً له ما دامت المسألة بالنية يا إخوان ما دامت المسألة بالنية أنا أقول : لا نفرِّط في المصالح ،
الآن مسألة الموسيقى مثلاً في بعض الجيوش لازم الموسيقى يعني بدل من أن يسبح الله في الصباح يأتي بمزمار الشيطان في الصباح ،(126/98)
الموسيقى الآن هل نقول اترك الجيش الذي فيه خير ومصلحة وأنت رجل من أهل الخير والصلاح من أجل هذه الموسيقى ؟
لا تتركها ابن عمر كان إذا سمع زمَّارة الراعي وضع إصبعه في أذنه اجعل عندك قطنة محكمة تماماً وَسُدَّ أذنيك هذه واحدة ،
الشيء الثاني : من علماء المسلمين من أجاز الموسيقى ،
وأنا لا أقول هذا إقراراً ،
لكن أقول هذا لئلا نذهب بعيداً ونجعل أشياء موضع خلاف المسلمين نجعلها من أكبر الكبائر نجعلها من التي لا تُغتفر أبداً ،
فالحاصل أني أقول : يجب أن ننظر المصالح والمفاسد أنا عندي لو بقي الجيش على استعمال الموسيقى وحلق اللحية وتحية العلم وقتال المسلمين لا شك أن هذه منكرات ،
لكن إذا تخلى أهل الخير عن هذا من يأتي ؟
يأتي أهل الشر الذين يفعلون هذا وزيادة ،
وقد سئل شيخ الإسلام عن شخص يريد أن يكون المكوس وفي المكوس ظلم يعني الجمارك ظلم فقال : إن كان فيها من أجل تخفيف الظلم فلا بأس [118] ،
انظر كيف نظر للمصلحة العامة ؟
هو سيمارس بعض الظلم لكن يريد أن يخفف ،
يُنظر للمصلحة العامة ،
إلا في مسألة خلق اللحية فأنا أتأرجح فيها،
أما مسألة الموسيقى فهي منفصلة عن البدن فلا يهم ،
الإنسان في الموسيقى يسد أذنيه وفي تحية العَلَم ومثل ما قلت لكم قبل قليل وتنزيل الطاقية وما أشبه ذلك أيضاً يمكن أن يقصد بذلك الإهانة وإن كان عند هؤلاء أن هذا إكراه ،
لكن المشكلة الذي يتعلق ببدنه وهي حلق اللحية ،
فهل نقول : إن هذا ذنبٌ مغتفر في جانب المصالح لأن الشريعة الإسلامية شريعة عدل ومقارنة بين المصالح والمفاسد ،(126/99)
أو نقول : هم أمروا بمعصية الله فلا طاعة لهم ولا خير في جيشٍ ينبني على معصية الله وكل جيشٍ ينبني على المعصية فمآله الخذلان لأن الله تعالى إذا خذل الصحابة في غزوة أحد مع أنهم ارتكبوا مخالفة واحدة مع التنازل قال : { حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون } ( آل عمران 152 ) ، يعني حصل ما كنتم تكرهون ،
فالحاصل إني أنا والله متأرجح فإن أعنتموني على ترجيح أحد من هذين الاحتمالين فهذا طيب ،
ولكن ليكن عن تروي ليس الآن ، الآن نعرف أن أكثركم يقول : لا ، لا ، ما فيه حلق لحية ،
السؤال : الواحد يُتاح له أن يمارس الدعوة ويمارس كل نشاط دعوي ولا يُحرم ولا يكون عليه رقيب ويصلح الله به عباداً كثيرين وفي مناطق يكون عبدالمأمور يعني لا يعمل شيء وإنما هو نفسه قد يقع في محظورات أكبر وأكبر فهل الفتوى قد تتغير ( يوجد كلمات غير واضحة ) ؟
الجواب : ليس فيه شك هذا مُسَلَّم بارك الله فيك ،
فصلٌ
في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة هذه الأمة ورمز شرفها وفضلها ،
لقول الله تبارك وتعالى : { كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله } ( آل عمران 110 ) .
حتى إن بعض العلماء ذكره من أركان الإسلام هو والجهاد [119] لأنه أمرٌ عظيم لا تقوم الأمة إلا به ولا يحصل الائتلاف إلا به ،
قال الله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } ( آل عمران 104 – 105 ) .
فدل ذلك على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجب الاختلاف وهو ظاهر لأننا إذا جعلنا هذا يعمل على ما شاء وهذا يعمل على ما شاء وهذا يعمل على ما شاء تفرقت الأمة ،
فإذا أُلزمت الأمة جميعاً على العمل بدين الله ائتلفت واتفقت ،(126/100)
وهذا هو السر في قوله : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات } ، بعد قوله : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف } .
ولا بد هنا أن نعرف ما هو المعروف ؟ وما هو المنكر ؟
المعروف ما عرفه الشارع وأقره وأمر به فهو كل ما أمر الله به فهو معروف والمنكر ما نهى الله عنه ، كل ما نهى الله عنه فهو منكر ،
هل لأن الشرع نهى عنه وأنكره أو لأن الشرع أنكره والنفوس السليمة والفطر تنكره أيضاً ؟
الثاني يعني يُجمع بين هذا وهذا ،
فالشرع أنكره والنفوس السليمة والعقول المستقيمة كذلك تنكره ،
قال بعض العلماء : إن الله لم يأمر بشيءٍ فقال العقل : ليته لم يأمر به ولم ينهَ عن شيءٍ فقال : العقل ليته لم ينهَ عنه ،
يعني أن المأمورات موافقة ومطابقة للعقول الصريحة ، وكذلك المنهيات ،
لكن العقل لا يمكن أن يحيط بتفاصيل المصالح والمفاسد حتى يستقل بالأمر والنهي ولذلك لا بد من الشرع ، والإنسان إذا لم يقس الأمور بالشريعة ضلّ ،
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما حكمه ؟
حكمه فرض كفاية إن قام به من يكفي سقط عن الباقين وإن لم يقم به من يكفي تعين على الجميع [120] ،
لقول الله تعالى : { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير } .
و ( من ) هنا :
قيل : إنها للتبعيض يعني وليكن بعضكم ،
وقيل : إنها لبيان الجنس فتكون للعموم ، يعني كونوا أمةً تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله ،
وإذا تتبعت موارد الشريعة عرفت أنه فرض كفاية ،
لكن من رأى المنكر فَلْيَنْهَ عنه ومن رأى الإخلال بالمعروف فليأمر به ،
لكن هل إذا رأيتُ زيداً ينهى عن منكر ، أقول أنا إذن أيضاً أنهى عنه ؟
لا لأنه حصل فيه الكفاية ،
إلا إذا رأينا الذي أنكر عليه لم يمتثل فحينئذٍ يتعين أن يُساعد هذا الناهي ،
******************
179 – واعلم بأن الأمر والنهي معا ،(126/101)
فرضا كفايةٍ على من قد وعى ،ت
قوله : ( واعلم ) : إذا صُدِّرت الجملة بـ ( اعلم ) فهو دليلٌ على الاهتمام بها والعناية بها ،
ومن ذلك : قوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك } ( محمد 19 ) .
وقوله تعالى : { اعلموا أن الله شديد العقاب وأن الله غفور رحيم } ( المائدة 98 ) .
{ اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد } ( الحديد 20 ) .
فتصدير الجملة بكلمة ( اعلم ) يدل على أهميتها والعناية بها ،
المؤلف رحمه الله صدَّر هذا الحكم أي حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله : ( واعلم ) يعني أيها المخاطب بـ ( أن الأمر والنهي معا فرضا كفايةٍ ) ،
قوله : ( الأمر والنهي ) : الأمر بماذا ؟ الأمر بالمعروف ، والنهي عن ماذا ؟ النهي عن المنكر ،
قوله : ( معاً ) : أي جميعاً ،
قوله : ( فرضا كفاية ) : ( فرضا ) خبر ( أنَّ ) مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى ،
وقد قيل : إن مثل هذا التعبير غير صحيح وذلك لأن ( فرض ) مصدر والمصدر لا يُجمع ولا يُثنى حتى وإن وقع خبراً أو وقع وصفاً ،
قال ابن مالك رحمه الله :
ونعتوا بمصدرٍ كثيراً ،
فالتزموا الإفراد والتذكيرا [121] ،
لكن يسهِّل تثنيته أو جمعه يسهِّل ذلك بمعنى اسم المفعول ،
واسم المفعول يُجمع ويُثنى ويُفرد ،
فمعنى ( فرضا كفاية ) أي مفروضا كفايةٍ وعلى هذا سَهُلَ أن يُثنى وهو مصدر ،
قوله : ( فرضا كفاية ) : معناه معنى فرض الكفاية أنه يُقصد حصول الفعل بقطع النظر عن الفاعل ،
فإذا وُجد الفعل فلا يهمنا الفاعل أن يكون واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر ، المهم أن هذا الفعل يوجد ،
ومعلومٌ أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يُقصد إيجاده فقط بقطع النظر عن القائم به ،(126/102)
وحدَّه أهل العلم بقولهم فرض الكفاية : ( هو الذي من قام به من يكفي سقط عن الباقين ) [122] ،
واختلف العلماء رحمهم الله : أيهما أفضل فرض الكفاية أو فرض العين ؟ [123]
فقال بعضهم : فرض الكفاية أفضل ،
لأن الإنسان يقوم به عن نفسه وعن غيره ،
وأما فرض العين فلا يقوم به إلا عن نفسه ،
ولكن الصحيح : أن في ذلك تفصيلاً :
فأما من حيث التأكد ومحبة الله للفعل ففرض العين أفضل ،
ولذلك أوجبه الله على كل واحد ،
وأما من حيث أن القائم به أي فرض الكفاية قام عن الباقين فهو أفضل ،
لأنه أسقط به الفرض وعن غيره ،
قوله : ( على من قد وعى ) : أي على من كان واعياً أي عاقلاً ،
لم يذكر المؤلف رحمه الله إلا شرط العقل ،
ويمكن أن يقال : المراد بالوعي ما هو أعم من العقل ،
بل المراد العاقل العالم ،
وذلك لأن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر مما ذكره رحمه الله ،
فمن الشروط :
أولاً : أن يكون الإنسان عالماً بأن هذا منكر يعني أنه قد أنكره الشرع ،
فلا يجوز أن يحكم بالذوق أو بالعاطفة أو ما أشبه ذلك لأن المرجع في هذا إلى الشرع ،
فلا بد أن تعلم أن هذا مما أنكره الشرع ،
فمثلاً : أول ما ظهرت مكبرات الصوت في المساجد أنكرها بعض الناس وقال لا يمكن هذا حرام هذا هو بوق اليهود تماماً فهل نحن إذا صلينا نتشبه باليهود في عباداتنا ؟
الجواب : لا لكن المشكل هل هذا من أبواق اليهود ليس هذا إلا نقل الصوت على وجهٍ أوسع فقط وكما أن الإنسان يضع نظارةً على عينه فتكبر الحروف هذا يضع أمامه لاقطة مكبر تكبر الصوت ولا فرق لا بد أن نعلم أن هذا محرم رأينا أيضاً من يقول : يحرم على الإنسان تحريماً باتاًّ قاطعاً ،
قد يقول أنه يُعلم بالضرورة من الدين قد يقول ،
وقد لا يقول : أن يستمع الإنسان إلى القرآن من الشريط المسجل لماذا ؟
قال : لأن الشريط المسجل ليس له أجر وأنت لا بد أن تستمع إلى إنسان يُؤجر فتُؤجر معه تعاليل عليلة هل هذا صحيح ؟(126/103)
ولذلك رأينا بعض الناس ينكرون هذا حتى على أهله إذا دخل البيت وسمع المرأة تستمع إلى القرآن ، قال : صكيه ،
إذن لا بد أن نعلم أن هذا شيءٌ أنكره الشرع ،
بقي علينا إذا كان هذا منكراً في رأينا لكنه ليس منكراً عند غيرنا ونحن نعلم أن هذا الرجل الذي تلبَّس بما رآه محرماً يرى أنه حلال فهل يلزمنا أن ننكر عليه ؟
الجواب : لا ، لا يلزمنا ما دامت المسألة فيها مساغٌ للاجتهاد فإنه لا يلزمنا ،
مثال ذلك : رأينا رجلاً يرمي في الليل رمي الجمرات ونحن نرى أنه لا يُرمى بالليل في أيام التشريق ورأينا رجلاً يرمي ونعرف أن هذا الرجل يرى هذا الرأي أي يرى أنه يجوز الرمي ليلاً فهل يجب علينا أن ننكر عليه ؟
لا المسألة فيها يعني فيها مجال للاجتهاد فلا ننكر عليه ،
رأينا رجلاً يشرب الدخان وهو يرى أنه حلال يجب أن ننكر عليه ؟
لا ، لا يجب ما دمنا نعلم أنه يقول حلال فلا يُنكر عليه ،
لأن هذا فيه مساغ للاجتهاد ،
لكن رأينا امرأةً كاشفةً وجهها وهي ترى أنه يجوز كشف الوجه للرجال الأجانب ، هل ننكر عليها ؟
لا ننكر هي تعتقد أن هذا هو الدين فلا ننكر عليها ،
لكن لنا أن نمنعها إذا كانت في بلدٍ محافظ وأهله يرون أنه لا بد من تغطية الوجه ،
يجب أن نمنعها ليس من جهة أنه في الشرع حرام عليها لا هي تعتقد أنه حلال ،
لكن هذا من جهة أن هذا يفسد علينا النساء فلنا أن نمنعها ،
ولهذا قال العلماء رحمهم الله : يجوز أن نقر أهل الذمة على شرب الخمر ما لم يعلنوه في أسواقنا فإن أعلنوه منعناهم للإعلان لا لأنه حرام لأنهم يعتقدون أنه حلال ،
وهذه المسألة يجب التفطن لها صحيح أننا لا ننكر على غيرنا اجتهاده ،
ما دامت المسألة فيها مساغ للاجتهاد ،
لكننا نمنع ما يكون ضرراً علينا أن يُظهر بين شعبنا مثلاً ،
إذن لا بد أن نعلم أن هذا منكر ،(126/104)
ولا بد أيضاً أن يكون الذي ننكر عليه يرى أنه منكر فإن كان لا يرى أنه منكر وهو مما يسوغ فيه الاجتهاد فإنه لا يلزمنا أن ننهى عنه ،
لأن الدين يُسْر والصحابة وهم أَجَلُّ منا قَدْراً وأحب للائتلاف والاجتماع منا لا ينكر بعضهم على بعضٍ في مسائل الاجتهاد ،
وإن كان الحاكم منهم الذي يتولى الحكم قد ينكر على غيره الاجتهاد خوفاً من أن يشيع في المجتمع ،
كما أنكر أظنه عبدالله بن الزبير على عبدالله بن عباس في مسألة المتعة [124] ،
لأن عبدالله بن عباس رضي الله عنه يرى جواز المتعة للضرورة [125] ،
ولكن القول الذي عليه أهل العلم عامةً أو أكثرهم : أنه لا يجوز للضرورة ولا لأن يمكن للإنسان أن يعقد النكاح ،
الشرط الثاني : أن نعلم أن هذا الفاعل فاعلٌ للمنكر وهو منكرٌ في حقه ،
لأنه قد يكون منكراً عندنا وعنده لكنه في حالٍ يُباح له أن يمارس هذا المحرم يُشترط أن نعلم أن هذا الفاعل للمنكر قد فعله وهو منكر في حقه ،
مثال ذلك : إنسان يأكل لحم ميتة لحم الميتة حرام عند الجميع لكن هذا الرجل مضطر إن لم يأكل مات ، هل ننكر عليه إذا أكل ؟
لا ،
إذن لا بد أن نعلم أن هذا الفاعل للمنكر قد فعله في حقه ،
وكذلك نقول : الأمر في المعروف والنهي عن المنكر ،
نقول في الأمر بالمعروف : لا بد أن نعلم أن هذا التارك للمعروف تركه وهو معروفٌ في حقه ،
ولهذا لما دخل رجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب جلس هل قال به قم فَصَلِّ ركعتين أو سأله أولاً هل صلى أو لا ؟ سأله أولاً قال ( أصليت ) قال : لا ، إذن لا آمر بالمعروف حتى أعرف أنه تركه في حال يُؤمر فيها ، لأني قد أقول : قم صل ، فيقول : صليت ،
افرض أني رأيت رجل دخل المسجد وغاب عني ثم رأيته قلت : صل ، قال : صليت ، يقال أني تسرعت أم لا ؟
يقال : تسرعت ، أسأل أولاً : هل صلى ؟ إذا قال : نعم ، انتهى الأمر ، إذا قال : لا ، قلنا : قم صل ركعتين ،(126/105)
فصار لا بد أن نعلم أن هذا منكر وأن فاعله يرى أنه منكر وأن نعلم أنه فعل المنكر وهو منكرٌ في حقه ،
وكذلك يقال في الواجب : لو أن رجلاً أكل لحم الإبل وقام يريد أن يصلي وضوءه من لحم الإبل معروف أو منكر ؟ وضوؤه من لحم الإبل معروف لكن هل آمره وأنا اعلم أنه لا يجب الوضوء منه ؟
لا آمره لأنه يقول أنا لا أرى الوجوب ،
إذن لا بد أن نعلم أن هذا التارك للمعروف يرى أنه معروف ،
أما إذا كان لا يرى أنه معروف ويقول : الأمر ليس للوجوب فلي أن آمره نعم لي أن آمره على سبيل الاستحباب ،
أقول : يا أخي أنت لا ترى أنه واجب لكن أليس الأحوط والأولى بك أن تتوضأ ،
الشرط الثالث : ألا يزول المنكر إلى أنكر منه ،
وفي هذا المقام تكون أربعة أحوال : إذا نهينا عن المنكر :
1. إما أن يزول بالكلية ،
2. أو يقل ،
3. أو ينتقل إلى مساوٍ ،
4. أو ينتقل إلى أشد ،
يتغير إلى مساوٍ أو يتغير على أشد ،
كم الأقسام ؟
أربعة :
الأول : أن يزول بالكلية يعني إذا نهينا عنه زال تركه ،
الثاني : أن يقل ،
الثالث : أن يتغير إلى مثله ،
الرابع : أن يتغير على أنكر منه ،
فالنهي عن هذا المنكر واجبٌ لأن إزالة المنكر ،
والتقليل منه واجب فيجب أن ننهى ،
الحال الثالثة : أن يتغير إلى مثله ،
مثل : نهينا زيداً عن السرقة من علي فذهب يسرق من خالد تغير المنكر الآن ،
لكن إلى مثله مساوي هل ننهاه ونحن نعلم أنه لا بد أن يفعل كذا ؟
لا ، ما ننهاه ،
فلو أن سلطاناً جائراً يريد أن يضرب ضريبة على التجار ضرب على هذا الرجل ، قلنا : ننهاه عن الضريبة لأنها حرام قال : طيب حرام أني آخذه من زيد ، قال : ما عليه خلُّوه يقعد نأخذ من علي ،
ماذا نقول ؟
لا ننهاه لأنه لا فائدة من النهي ،
لو قال قائل : ألا يمكن أن يكون تغير من حالٍ إلى حال سبباً لإقلاعه عنه ؟
قلنا : إن صح ذلك وجب النهي ،
أما إذا لم يصح فيقال ليس بواجب ،(126/106)
لكن هل يُخيَّر الإنسان بين أن ينهى أو يترك أو الأرجح النهي أو الأرجح الإمساك ؟
الظاهر : أنه يُنظر للمصلحة ،
الحال الرابعة : أن يزول أو أن يتغير إلى أنكر منه ،
فمثلاً : رجل رأيناه ينظر إلى النساء وعرفنا أنه أحمق ونعلم أننا لو نهيناه عن النظر للنساء ذهب يغمزهن أيهما أنكر ؟ الثاني ، هل ننهاه عن النظر ؟ لا ، لا ننهاه عن النظر ،
ويدل لذلك : قوله تبارك وتعالى : { ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم } ( الأنعام 108 ) .
وجه الدلالة : أن سب آلهة المشركين خير وواجب ،
فإذا كان يتضمن شراًّ أكبر من ترك سبهم قلنا : اترك سبهم ، وما هو الأمر الأكبر ؟
الأمر الأكبر أنهم يسبون المنزه عن كل عيب وهو الله عز وجل يسبونه عدواً بغير علم ونحن إذا سببنا آلهتهم سببناها حقاً بعلم سببناها عدلاً بعلم ليس عدوا بل هو عدل لكن لما كان هذا يتضمن شراًّ أكبر نهى الله عنه ،
مر شيخ الإسلام رحمه الله بجماعةٍ من التتار يشربون الخمر ويسكرون ومعه صاحبٌ له وكان شيخ الإسلام رحمه الله لا تأخذه في الله لومة لائم جعلنا الله وإياكم ممن يتبعون آثار الصالحين فقال له صاحبه لماذا لم تنههم ؟ قال هم الآن يشربون الخمر وضررهم على أنفسهم لكن لو نهيناهم وصاروا صاحين لذهبوا يفجرون بنساء المسلمين ويأخذون أموالهم أيهم أعظم ؟ الثاني أعظم دعهم يشربون الخمر ولا يعتدون على المسلمين ،
وهذا من فقهه رحمه الله وهو واضح عند التأمل ليس فيه إشكال ،
فتبين الآن أنه يُشترط ألا يتحول المنكر إلى ما هو أنكر منه ،
فإذا كان كذلك حَرُمَ النهي يحرم النهي لأن كونه ينتقل من مفسدة إلى أعظم هذا حرام فالشروط إذن العلم بأن هذا منكر العلم بحال الرجل أنه ارتكبه وهو منكر في حقه العلم بأنه ارتكب منكراً وهذا غير العلم بأنه ارتكب منكراً في حقه انتبهوا للتفريق أليس كذلك ؟ ،(126/107)
الرابع : إذن ألا يزول أو ألا يتغير إلى أنكر منه فإن تغير إلى أنكر منه فإنه لا يجوز أن يُنكر ،
قول العلماء أو بعض العلماء : لا إنكار في مسائل الاجتهاد [126] ، هل هي مبنية على ما ذكرنا من الشروط ؟
نعم ، مبينة على ذلك ،
لأن المسائل الاجتهادية ليس فيها إنكار ما دام يسوغ فيها الاجتهاد ،
أما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فإنه يُنكر على فاعله ،
ولو قال : أنا أداني اجتهادي إلى كذا وكذا ، يقال : لا محل للاجتهاد هنا النص في هذا صريح ؟
فلو قال قائل : في قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } ( المائدة 3 ) ، قال : كل ميتة الظبي والأرنب ولا حرج هل ننكر عليه ؟
يقول : أنا مجتهد لأن الله قال : { حرمت عليكم الميتة } ، بعد أن قال : { أحلت لكم بهيمة الأنعام } ( الأنعام 1 ) ، فيكون معنى الآية حرمت عليكم الميتة من بهيمة الأنعام هل تلزمونني باجتهادكم أنتم ؟ معناه أنكم رسل هذا معناه أنكم رسل معصومون أنا عندي { أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم وأنتم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد ، يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله } ( الأنعام 1 – 2 ) ، إلى أن قال : { حرمت عليكم الميتة } : يعني من بهيمة الأنعام ،
المهم هل يسوغ فيها الاجتهاد أو لا ؟
لا لأن العلماء مجمعون على أن جميع الميتات حرام [127] ،
إذن ما لا يسوغ فيه الاجتهاد لو زعم فاعله أنه مجتهد قلنا لا قبول والذي أنكروا صفات الله عز وجل إما كليةً أو جزئية ننكر عليهم أو لا ؟
إذا قالوا : هذا اجتهادنا عقولنا ترفض هذا الشيء ، ماذا نقول ؟
إذا قال : عقولنا ترفض أن يكون لله عين أو يد أو وجه أو قدم ؟
نقول : هل المرجع في الأمور الغيبية إلى العقول أو إلى النقل ؟
إلى النقل المجرد شيء غيبي عنك ، كيف تُحَكِّم عقلك فيه ؟
ثم شيءٌ غيبي أيضاً لا يمكن إدراكه ولا يحيطون به علماً كيف تُحَكِّم عقلك فيه ؟
فهذا لا يسوغ ،(126/108)
فيه الاجتهاد ثم أين الاجتهاد في عهد الصحابة في هذا في عهد الصحابة رضي الله عنهم أو التابعين ،
فالمهم انتبهوا لهذه المسألة : أن قول بعض العلماء : ( لا إنكار في مسائل الاجتهاد ) ، ليس على إطلاقه المراد ما يمكن أن يُجتهد فيه وما لا يمكن ففيه الإنكار ،
ويأتي إن شاء الله بقية الكلام على هذا ،
******************
180 – وإن يكن ذا واحداً تعينا ،
عليه لكن شرطه أن يأمنا ،
قوله : ( لكن شرطه أن يأمنا ) : يُشترط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القدرة يُشترط القدرة وهذا شرطٌ في جميع العبادات كل العبادات يُشترط فيها القدرة كل العبادات شرطها القدرة [128] ،
والدليل : قوله تبارك وتعالى : { فاتقوا الله ما استطعتم } ( التغابن 16 ) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا منه ما استطعتم ) [129] .
وقول الله تعالى : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } ( البقرة 286 ) .
وقوله تعالى : في المسألة الخاصة : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } ( آل عمران 97 ) .
وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة الخاصة لعمران بن حصين : ( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب ) [130] ،
إذن الدليل على هذه المسألة من القرآن قواعد ،
وأمثلة القواعد : { فاتقوا الله ما استطعتم } .
{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } .
الأمثلة : الحج : { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا } .
وفي السنة : ( صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً فإن لم تستطع فعلى جنب ) ،
هناك أيضاً أمثلة أخرى :
{ ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج } ( النور 61 ) .
{ ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله } ( التوبة 91 ) .(126/109)
وذكر الله الهجرة وتوعد على من تركها :
{ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم } .
المهم هذه القاعدة ولها أمثلة في القرآن والسنة من جملة ذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد من استطاعة فمن لم يستطع من لم يستطع أن يأمر وينهى سقط عنه إما رجل عاجز عن القول والإشارة ، وإما رجلٌ قيل له : إذا أمرت بمعروفٍ أو نهيتَ عن منكرٍ قصصنا لسانك أو سجناك فهذا عاجز تسقط عنه الواجبات ،
إذن الشروط صارت خمسة شرطٌ في كل عبادة وشروط خاصة في النهي عن المنكر والشرط العام هو القدرة ولهذا قال : ( شرطه أن يأمنا ) ،
******************
181 – فاصبر وزل باليد واللسان ،
لمنكرٍ واحذر من النقصان ،
قوله : ( فاصبر ) : الصبر : ( حبس النفس عن التسخط وعن الإحجام ) ،
لا تحجم ولا تتسخط ،
وهذا مأخوذٌ من قوله تعالى في سورة لقمان : { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } ( لقمان 17 ) ، قال : { واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور } ، فلا بد من صبر ،
وإنما أمر الله بالصبر عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إشارةً إلى أن الآمر والناهي سوف يلقى الأذى ،
وربما يلقى الضرر فليصبر دائماً يقولون للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر : هذا متشدد ، هذا مطوع ،
يقولونه على سبيل السخرية ويتكلمون بكلامٍ كثير ،
فما موقف الآمر الناهي ؟
الصبر وليعلم أنه ما أوذي أذيةً في ذلك إلا كتب الله له بها أجراً وقرَّبه إلى العاقبة الحميدة ،
لأن الله تعالى : { تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين } ( هود 49 ) ، وكلما اشتد الأذى قَرُبَ الفرج ،
لكن ما معنى قرب الفرج ؟(126/110)
هل معناه أن يُفرج عن الإنسان حساً ؟ أو أن يُفرج عنه معنىً وحساً ؟
الثاني أما التفريج حساً فظاهر بأن يزول عنه الكبت والمنع والأذى ،
وأما معنى وهو أهم فأن يشرح الله صدره ويعطيه الطمأنينة في قلبه ويصبر ويحتسب ويرى العذاب في ذات الله عذباً يرى العذاب عذباً ، { هذا عذب فرات وهذا ملح أجاج } ( الفرقان 53 ) .
يقال : إن شيخ الإسلام رحمه الله لما حبسوه وأغلقوا عليه الباب قال : { فضرب لهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب } ( الحديد 13 ) .
وقال : ما يصنع أعدائي بي ؟ إن حبسي خلوة ونفيي سياحة وقتلي شهادة ،
أي حال يفعلونها بي فهي خيرٌ لي هذا أيضاً مما يفرج الله به على الإنسان إذا كبت وأوذي وعذب في ذات الله فهذا من أقوى التفريج عنه أن يشرح الله صدره لما وقع عليه وكأن شيئاً لم يكن ،
الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، نقول له : اصبر اصبر على الأذى الفرج قريب لا تيأس من رحمه الله أنت تقاتل بسيف الله أنت تدعو بدعوة الله احتسب لو شق عليك نفسياً أو جسمياً فاصبر اصبر ،
قوله : ( وزل ) : وأصلها أَزِلْ ،
هذه مرتبة ثانية غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذه مسألة التغيير ،
التغيير ليس كالأمر والنهي ،
واضرب لكم مثلاً يتبين به الفرق : رأيتَ مع شخصٍ زُمَّارة تعرفون الزمارة من آلة اللهو يزمر بها ويرقص عليها فقلت يا فلان اتق الله هذا حرام ولا يحل ماذا نسمي هذا ؟ نهي عن منكر جئته مرةً أخرى فرأيتَ معه الزمارة فأخذتها وكسرتها هذا يسمى تغيير ،
إذن مقام المغيِّر أقوى من مقام الناهي أو الآمر ،(126/111)
رأيت رجلاً لا يصلي مع الجماعة مع وجوبها عليه فقلت له : يا أخي اتق الله أقم الصلاة صلِّ مع المسلمين هذا يسمى أمر بالمعروف ثم جئته مرة ثانية ووجدته لم يخرج من بيته فقرعت الباب عليه وإذا أبى كسرت الباب ثم جررته إلى المسجد هذا ماذا ؟ هذا تغيير هذا ليس كل واحد يطيقه الأول كل أحد يطيقه إلا ما ندر الثاني ما كل أحد يطيقه ،
ولهذا جاء التعبير النبوي : ( فإن لم يستطع ) .
ولم يأتِ حرفٌ واحد : ( مروا بالمعروف فإن لم تستطيعوا ) .
فدل ذلك على أن التغيير شيء والأمر شيءٌ آخر ،
قوله : ( باليد ) : واليد في وقتنا هذا لا تكون إلا من ذي سلطان وإنما كان الأمر كذلك لئلا يصبح الناس فوضى ،
على كل حال نحن نقول : إن التغيير شيء لا يكون إلا من ذي سلطان وهو حق ،
لأنه لو جُعل التغيير باليد لكل إنسان لأصبح من رأى ما يظنه منكراً منكراً عنده ثم أتلف أموال الناس من أجل أنها منكر يرى بعض الناس أن الراديو منكر فمر برجلٍ قد فتح الراديو على أخبار مكة وهو يرى أنه منكر وقلنا غيِّر باليد ماذا يصنع بالراديو يكسِّره هل له حق أن يكسره ؟
ليس له حق في وقتنا الحاضر أما في الوقت الذي مضى ما نعلم عنه ،(126/112)
لكن في وقتنا الحاضر لو جُعل التغيير باليد لغير ذي سلطان لأصبح الناس فوضى وتقاتل الناس فيما بينهم ولقد رأيتُ رجلاً منذ سنوات دخل المسجد إنسانٌ ومعه راديو فقام الرجل الحبيب الطيب الناهي عن المنكر أمام المصلين وقال والعياذ بالله يأتي أحدكم بالراديو مزمار الشيطان ويجعله معه في المسجد والذي جاء به حاج من الحجاج نحن كنا نشتغل في مطار جدة من الحجاج أتى بهذا الراديو وهو فيه تسجيل لعله يسمع أخباراً يسجلها تنفعه حاج يحب أخبار الحجاز وقام يتكلم كلاماً عظيماً الحجاج انبهروا هذا حرام هذا حرام فجاءوا يسألون يقولون : هل هذا حرام ؟ نحن ما أتينا للحج لنبحث عن الحرام فقلنا لهم : حلال اطمئنوا إن شاء الله ما فيه إلا العافية لكن إياكم أن تفتحوه على الأغاني والموسيقى هذا حرام أما الأخبار والقرى والحديث فهذا ليس فيه شيء طيب القرآن والحديث طيب والأخبار من الأمور المباحة ،
فأقول : بعض الناس يظن ما ليس منكراً منكراً فلو قلنا غيِّر باليد كسَّر هذا الراديو أو المسجل الذي يرى أنه منكر ،
ولهذا نقول : الإزالة باليد أو التغيير باليد في الوقت الحاضر لا يكون إلا من ذي سلطان والسلطان من أعطاه ولي الأمر صلاحيةً في ذلك ،
وعلى هذا رجال الحسبة الموجودون عندنا يكون لهم السلطة أليس كذلك ؟ وبعض المواضع بالنسبة للمكان في بعض الأحيان بالنسبة للزمان ،
قوله : ( فاصبر ) : أمر بالصبر لأن المقام يحتاج إلى الصبر ،
ولهذا قال الله تعالى : { يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك } ( لقمان 17 ) .
فاصبر وزل باليد واللسان ،
لمنكرٍ واحذر من النقصان ،
هذه مراتب التغيير غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
وقد ذكرنا قبل أن هناك ثلاث مراتب :
1. الدعوة ،
2. والأمر ،
3. والتغيير ،(126/113)
فلا تلتبس عليكم أو فلا يلتبس عليكم بعضها مع بعض ،
1 – الدعوة ،
2 – والثاني : الأمر والنهي ،
3 – والثالث : التغيير ،
الدعوة أن يدعو الإنسان إلى الله عز وجل ترغيباً وترهيباً دون أن يوجه أمراً معيناً لشخصٍ معين ،
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو شيءٌ موجه لشخص معين أو طائفة معينة أو ما أشبه ذلك لكن فيه أمر افعلوا اتركوا وأظنكم تعرفون الفرق ،
لو قام رجلٌ بعد صلاة الجمعة بعد صلاة الظهر أحسن لأن الخطبة بعد صلاة الجمعة فيها ما فيها لو قام رجل بعد صلاة الظهر يدعو الناس يرشدهم إلى الله يبين الحق يبين الباطل يحذر من هذا وهذا هل يقال هذا آمرٌ بمعروف ناهٍ عن منكر ؟
يقال : هذا داعٍ إلى الله .
ولو رأينا رجلاً يقول : يا فلان افعل كذا اتق الله ، يا فلان اترك كذا اتق الله ،
هذا آمر وناهي ،
التغيير أن يغير الإنسان المنكر بنفسه بأن يكون دعا صاحب المنكر إلى تركه ولكن أبى أو أمر تارك المعروف أن يفعله ولكن أبى هذا يغير يضرب ويحبس ويكسر آلة اللهو وما أشبه ذلك ،
هذا التغيير قيده الرسول عليه الصلاة والسلام ولم يقيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
قال : ( والله لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد السفيه ، ولَتَأْطُرُنَّهُ على الحق أَطْراً ) [131] ،
لم يقل : إن استطعتم لكن قال : ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ،،، ) [132] ،
إذن فالتغيير غير فنقول : التغيير فيه سلطة وقدرة ، الأب في بيته داعٍ آمر مغير لأن له سلطة ، رجل الحسبة في المجتمع داعي وآمر ومغير لكن ليس التغيير لكل أحد ليس كل أحد يستطيع قد يغير ويلحقه من الضرر ما لا يعلمه إلا الله وقد يلحق غيره أيضاً ممن لم يشاركه في التغيير كما هو الواقع ،
ولهذا نقول : غيِّر باليد فإن لم تستطع ،(126/114)
قال : ( واللسان ) : والمؤلف رحمه الله رتبها ترتيباً محلياً لا لفظياً يعني ما أتى بـ ( ثم ) الدالة على الترتيب أو بالفاء أو ما أشبه ذلك ،
لكن تقديم بعضها على بعض يدل على الترتيب ،
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله أبدأ بما بدأ الله به ) [133] ، مع أن الله قال : { إن الصفا والمروة } ( البقرة 158 ) ، ولم يقل : ( إن الصفا ثم المروة ) ،
إذن الأول اليد الثاني اللسان ، اللسان ليس أن تقول يا فلان اتق الله أن تنتهره وأن تريه سلطة وقدرة واستعلاءً ، استعلاءً بالحق ،
قوله : ( النقصان ) : النقصان ما هو ؟ أن تغير بالقلب لأنه أضعف الإيمان أن تغير بالقلب كيف التغيير بالقلب ؟ هل الإنسان يمكن أن يغير بالقلب ؟
يمكن بالكراهة وعدم المخالطة هذا التغيير بالقلب ، الكراهة للمنكر وعدم مخالطة فاعليه ،
لقول الله تبارك وتعالى : { وقد نزل عليكم الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذن } ( النساء 140 ) ، إن قعدتم { مثلهم } .
فلو فرضنا مثلاً : أن قوماً يلعبون الشطرنج ومعهم رجلٌ صالح قال : يا قوم اتقوا الله هذا حرام لا يجوز ، قالوا : لن ندع هذا فهل يجوز أن يجلس معهم ؟ لا ، لكنهم قالوا له : إن خرجت فنفعل بك كذا وكذا فجلس .
هل يأثم ؟
لا ،
لماذا ؟
لأنه مكره على الجلوس ،
فإن قال أنا لم أُكْرَه على الجلوس لكن أخشى إن ذهبتُ أن يقع بيني وبينهم عداوة ماذا نقول ؟
نقول : وليكن إذا عاديتهم لله لا يضرك فإن قال : أخشى أن يقع بيني وبينهم قطيعة رحم ، نقول : لا يقع بينك وبينهم قطيعة رحم صِلْهُم أنت ، لأن صلة الرحم من قبلك ممكنة أو متعذرة ؟ ممكنة وأنت إذا وصلتهم وهم يقطعونك فكأنما تُسِفُّهُمْ الملّ كما جاء في الحديث ،
فالحاصل الآن أن التغيير له ثلاث مراتب ،
******************(126/115)
182 – ومن نهى عن ما له قد ارتكب ،
فقد أتى مما به يقضي العجب ،
قوله : ( ومن ) : شرطية ،
قوله : ( فقد ) : جواب الشرط ،
قوله : ( عن ما ) : لماذا لم تُكتب ( ما ) مع ( عن ) ؟ جعل ( ما ) وحدها و ( عن ) وحدها وهذا غلط ،
لأن الذي يقرؤها على حسب نسختي يحسبها ( عن مالِهِ ) يحسب أن ( ما ) و ( له ) هي ( ماله ) المهم أن يقال : ( ومن نهى عما له قد ارتكب ) ،
قوله : ( فقد أتى ما يقضى به العجب ) : يعني إذا نهى الإنسان عن شيءٍ يرتكبه ،
مثل : أن رأى رجلاً يتعامل بالربا قال له يا فلان اتق الله كيف تتعامل بالربا ، الربا من كبائر الذنوب وهو نفسه له محل يتعامل بالربا فيه هذا عجب هذا يُقضى به العجب ،
يقال كيف تنهى عن شيءٍ أن تفعله ؟
لو كان باطلاً ما فعلته وإن فعلته وأنت تعتقد أنه باطل فأنت سفيه ،
لقول الله في بني إسرائيل : { أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون } ( البقرة 44 ) .
وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون ، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون } ( الصف 2 – 3 ) ، فهذا من كبائر الذنوب ،
ولهذا يؤتى بالرجل يوم القيامة فيُلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه يعني أمعاءه فيدور عليها كما يدور الحمار على رحاه فيجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان مالك ؟ ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر ؟ فيقول : كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه [134] ،
وهذا وعيدٌ شديد نسأل الله العافية فضيحة وعار ،
وكذلك يكون هو أول من يُسَعَّر به النار يوم القيامة .
نسأل الله العافية ،
فالمهم أن الإنسان الذي يأتي بشيءٍ ينهى عنه هذا أتى مما به يُقضى العجب أو مما به يُقضى العجب كيف تأمر بما لا تفعل أو تنهى عما تفعل ؟(126/116)
وإتيان المؤلف رحمه الله بهذا البيت أو بهذا الحكم بعد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يفيد أن من فعل ذلك لا يسقط عنه الأمر والنهي ،
فلو قال هو مبتلىً بهذا الأمر يفعله ولنقل أنه اِبْتُلي بشرب المخدرات وشارب المخدرات لا يكاد يقلع وهو ينهى الناس عن شرب المخدرات ،
هل نقول : انه الناس أو ما دمت تفعل اسكت ؟
نقول : انه الناس ،
إذن لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الإنسان مخالفاً ،
لأنه لو ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المخالفة ترك واجبين :
الأول : المعصية التي هو يفعلها ،
والثاني : ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
نحن نقول : وإن كنت لا تفعل المعروف فأمر به وإن كنت تفعل المنكر فإن فعلك إياه لا يسقط عنك النهي عنه انه عنه
فإذا قال قائل : كيف أعرض نفسي للفضيحة أن أُلْقى في النار فتندلق أقتاب بطني ؟
نقول : إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تحذيراً من أن يكون كذلك يأمر ولا يفعل وينهى ويفعل وليس مراده أن يحذر من أن يأمر بما لا يفعل أو أن ينهى عما يفعل ،
لأن بعض الناس يقول إذن لماذا آمر بما أفعل وأنهى عما أفعل وهذه العقوبة ؟
نقول : لا الرسول ما أخبرنا بذلك لأجل أن نفعل أخبرنا بذلك لنحذر ،
******************
183 – فلو بدا بنفسه فذادها ،
عن غيِّها لكان قد أفادها ،
قوله : ( لو بدا بنفسه ) : انظر قال المؤلف :
فلو بدا بنفسه فذادها ،
عن غيِّها لكان قد أفادها ،(126/117)
ولم يقل : ( فلو اعتنى بنفسه ) يعني وترك الآخرين لأن البداية لها نهاية فيبدأ أولاً بنفسه ثم بغيره هذه الحكمة ، وهذا الترتيب الصحيح ، لكن لو أصر هو على فعل المعصية فلا يمنعنه ذلك من ترك النهي عنها ،
وبهذا انتهى الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،
وأتت الخاتمة نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة ،
الأسئلة
السؤال : وجدت كلاماً لشيخ الإسلام في هذا أنه إذا كانت الفتوى في بلد على أمرٍ معين فلا ينقل الناس عنه أو لا يُفتى بغيرها وكذلك وجدت قريباً من هذا الكلام للشيخ محمد بن إبراهيم ؟
الجواب : كلام شيخ الإسلام والشيخ محمد بن إبراهيم ما وقفت عليه .
لكن شيخنا عبدالرحمن بن سعدي يقول : إن العامة ليس لهم إلا ما قال علماؤهم المعتبرون ، فلو جاء عامي وقال : أنا سأقلد من قال : إن الدخان حرام ، قلنا : لا ، لا نوافقك كذلك إذا كانت الفتوى شائعة في بلد فإنه إذا كان في ذكر الخلاف مفسدة فالواجب تجنبه ما لم يكن الفتوى على خلاف النص ونحب إن شاء الله أن نطلع على ما ذكرت الذي قلت لنا : جزاك الله خير ، لأن هذا مهم .
لأنه أصبح الناس الآن الحقيقة في فوضى من الفتاوى الشاذة التي يطلقها بعض الشباب .
وهي أقوال شاذة ليس بأقوال ملزمة بإظهارها .
فتجد كثير من العامة الآن متبلبلين مساكين يأتون يسألون : ما تقولون في كذا ، وما تقولون في كذا ،
السؤال : من المعروف أن المسائل الخلاف أن أكثر مسائل الدين خلافية أما المسائل المتفق عليها و،،،،،، ؟
الجواب : اللهم صلِّ على محمد ، اللهم صلِّ على محمد ، هذا يوجع الراس أكثر الدين خلاف ؟!!!
السؤال : أكثر المسائل الفقهية خلافية ؟
الجواب : أنا أرجو منك مسألة واحدة قارن لي بين المتفق عليه والمختلف فيه ولك مدة شهر ،
السؤال : بعض الكتب درست الخلاف و ،،،،، ؟
الجواب : هذا إذن أسهل لك ما دام درستها تجيبه لنا أسهل ،
السؤال : بداية المجتهد درست الخلاف ،،،،،،، ؟(126/118)
الجواب : أنت قل الخلاف كثير أوافقك أما الخلاف أكثر ما أوافقك وهذه طعن في ديننا إذا قال : أكثر علمائكم مختلفون في أكثر المسائل أكثر ما عندهم الخلاف هل نطيعه ؟ نقول له : سمعاً وطاعة ؟ لا يمكن على كل حال لك مدة شهر ما دامت هذه قد بُحثت فالله ميسر أمرك كمِّل السؤال ،
السؤال : كيف يكون الإنكار مع أن مسائل الخلاف كثيرة جداً فهذا يؤدي إلى تضييق الإنكار خاصة إذا كانت المسائل المتفق عليها لا أحد يرتكبها ؟ المسائل المتفق في الغالب لا يرتكبونها ؟
الجواب : يعني لا يخالفونها ؟
السؤال : فلا يكون هناك داعي إلى الإنكار عليهم لأنهم لم يرتكبوها أصلاً أما المسائل المختلف فيها فهي التي يقع فيها الناس ؟
الجواب : ما تقول في صلاة الجماعة ؟
السؤال: أنا أقول إنها واجبة وفيها خلاف ،
الجواب : ما يخالف فيها خلاف لكن اتفق العلماء على أنها من أجلّ الطاعات وأفضل العبادات لا أحد يقول أنها مباحة أو أنها مكروهة مثلاً نأمر بها أو لا نأمر ؟
السؤال : نأمر ،
الجواب : إذن ليس بصحيح لكن بعض الناس يقول : أنه هناك شيء معروف ومشهور ونعرف أن الذي ارتكبه يعلم أنه حرام ،
مثل حلق اللحية الآن عندنا حلق اللحية معروف أنه حرام أليس كذلك ؟ فبعض الناس يقول لا ونجد في السوق الكثير من الناس حالقين لحاهم كيف ذلك وهم يعرفون أنه حرام ؟ وهم يعلمون أنهم خالفوا عمداً ؟
نقول : نعم أنت لا تأمر بالمعروف على وجه إيضاحه للناس لأنه معلوم لكن مُرْ بالمعروف نصيحةً لهم قل : يا أخي أنت تعلم أن هذا لا يجوز أن هذا خلاف السنة مثلاً ويكون نصيحة وليس أمراً بالمعروف ،
السؤال : سافرنا واستأجرنا سيارة واشترطنا على صاحب السيارة ألا يدخن وألا يسمعنا مثلاً أغاني وفي الطريق نقض هذا الشرط وفعل ما اشترطنا عليه ألا يفعل فهنا نستعمل اليد ( جملة غير واضحة ) في إنكار المنكر ؟(126/119)
الجواب : هذا شرط لكم أنتم شرطتموه تملكون أنتم تنفيذ هذا الشرط إن كنتم حول إمارة فاصبروا حتى تصلوا إلى الإمارة لكن إذا لم تكونوا حول إمارة فأنتم الأمراء هو سيقول سأشرب وسأفتح الأغاني وإذا شئتم انزلوا تقول ما ننزل نحن اشترطنا عليك نحن الآن لا يمكن أن ينفسخ العقد ولا يمكن أن تنزلنا ،
السؤال : إذا كنت في بلد ( جملة غير واضحة ) وهؤلاء الناس يفعلون المنكر ولا يأمرون بالمعروف ؟
الجواب : يفعلون المنكر ولا يأمرون به طيب هذا جزاهم الله خير ،
السؤال : لا ، يفعلونه ويأمرون به ولا يأمرون بالمعروف بل ربما الذي يأمر بالمعروف ينهونه فيصير الوضع في هذه الحال يعني شق على النفس أنني إذا رأيت منكر لا أغيِّره ( جملة غير واضحة ) ؟
الجواب : نحن ذكرنا أنه لا بد من استطاعة ،
السؤال : لكن يستشري الفساد في البلاد ؟
الجواب : وهل إذا فعلت سيقف الفساد ؟ أنت مُرْ بالمعروف ادع إلى الله بالحكمة ، قل : هذا حرام ولا يجوز ربما تتكلم في مسجد فيه خمس مائة نفر يستفيدون لكن تأتي واحد تضربه لأنه فعل هذا المنكر فيذهب يشكوك على الولاية ثم الولاية تحبسك وتؤذيك وتؤذي الذين من ورائك مفاسد ،
السؤال : لا أتكلم على التغيير باليد مجرد الكلام ما يقبلوا الكلام من أي إنسان يتكلم إلا أهل الأمر ، وأهل الأمر لا يأمرون ؟
الجواب : نحن قلنا لكم بارك الله فيكم الأمر بالمعروف لا أحد يقول لا أقدر إلا إنسان قيل له إن أمرت فعلنا بك كذا وكذا بعينه فهذا يصبح مكره على ترك الواجب أو على فعل المحرم ،
السؤال : يعني لا يأثم هو إذا تركه ؟
الجواب : لا ، يأثم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر إذا قيل له : انظر أنت إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر حبسناك قتلناك آذيناك آذينا أهلك أخذنا مالك فهذا لا يستطيع ،
السؤال : ( غير واضح ) ؟
الجواب : بالوقت الحاضر نحن ما خصصناه مطلقاً بالوقت الحاضر تصبح الأمور فوضى ،
السؤال : ( غير واضح ) ؟(126/120)
الجواب : نعم لكن إذا قلنا أنك لا تغير إلا إذا علمت ثم إنك إذا غيرت ترتب عليه مفسدة أكبر إذن هذه نحن في وقتنا الحاضر لو يغير الإنسان غير ذي سلطان لو يغير بيده ترتب عليه مفسدة أكبر إلا إنسان له ولاية خاصة على أهله لا بأس إذا أدخل أهلك آلة لهو اكسرها ،
السؤال : ( غير واضح ) ؟
الجواب : إن الله وسَّع علينا فلا نضيِّق على أنفسنا ،
قال : { من استطاع } ( آل عمران 97 ) .
وقال : { فاتقوا الله ما استطعتم } ( التغابن 16 ) .
وقال الله لنبيه : { فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد } ( آل عمران 20 ) .
وقال الله تعالى : { فذكر إنما أنت مذكر } ( الغاشية 21 ) ، ثم قال : { إن إلينا إيابهم ، ثم إن علينا حسابهم } ( الغاشية 25 – 26 ) .
وقال لنبيه : { لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين } ( الشعراء 3 ) : أي مهلكٌ نفسك لعدم إيمانهم ،
لا تهلك نفسك يا أخي ما دام الله وسَّع عليك وسِّع على نفسك لا إفراط ولا تفريط ،
الخاتمة [135]
هذه مسائل منطقية تتعلق بالمنطق والمؤلف رحمه الله أتى بها مُلجأً إليها [136] ،
وإلا فنحن في غنىً عن المنطق الصحابة ما درسوا المنطق ولا عرفوا المنطق والتابعون كذلك ،
والمنطق حدث أخيراً لا سيما بعد افتتاح بلاد الفرس والرومان حيث انتشرت كتب الفلاسفة ولا سيما أنها دُعِّمت بعملٍ من الخلافة ،
كما فعل المأمون الذي قال عنه شيخ الإسلام : لا أعتقد أن الله يغفل المأمون عما صنع بهذه الأمة أو كلمةً نحوها والعياذ بالله [137] ،
فقد جر الناس إلى سوء ودعاهم إلى ضلالة والله حسيبه قدم على ربه لكن علم المنطق كتب فيه العلماء وحذروا منه ،
وممن كتب في الرد على أهل المنطق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ،
شيخ الإسلام ابن تيمية كتب في الرد عليهم كتابين مطولاً ومختصراً ،
المطول : الرد على المنطقيين ،
والمختصر : نقض المنطق وهذا أحسن لطالب العلم ،
لأنه أوضح وأحسن ترتيباً ،(126/121)
ذكر في مقدمة الرد على المنطقيين قوله : ( كنت أظن دائماً أو قال اعتقد أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد ) [138] ،
الذكي لا يحتاج إليه والبليد لا ينتفع به ، إذن دراسته مضيعة وقت ،
وهذا الكلام من كلام شيخ الإسلام يدل على أن أقل أحواله الكراهة ،
والعلماء اختلفوا فيه [139] :
1 - فمنهم من حرمه ،
2 - ومنهم قال : ينبغي أن يُعلم ،
3 - ومنهم من فصَّل قال : الإنسان الذي عنده منعة لا يؤثر على عقيدته فإنه ينبغي أن يتعلمه ليحاج به قومه أي قوم المنطق ومن لم يكن كذلك فلا يتعلمه لأنه ضلالة ،
والصحيح : أنه لا يتعلمه مطلقاً ،
لأنه مضيعة وقت لكن إن اضطُّر إلى شيءٍ منه فليراجع ما اضطُّر إليه منه فقط ليكون تعلمه إياه كأكل الميتة متى يحل ؟
عند الضرورة ، وبقدر الضرورة ،
فإن كان هناك اضطرار أخذ من علم المنطق ما يضطر إليه فقط أما أن يدرسه ويضيع وقته فيه فلا ،
ولهذا ما الذي دخَّل علم المنطق على المسلمين ؟ دخَّل البلاء حتى أوصلهم إلى أن يقولوا على الله ما لا يعلمون وينكروا على الله ما وصف به نفسه ،
فالمسألة خطيرة والله عز وجل نزَّل الكتاب تِبْياناً لكل شيء لا يحتاج الناس لشيءٍ بعد كتاب الله وأمر عند التنازع أن يُرَدَّ إلى أين ؟ إلى الكتاب والسنة [140] ، { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله وإلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا } ( النساء 59 ) .
هذه خاتمة مبينة على علم المنطق وعلم المنطق علمٌ لا خير فيه ولكنه مضيعة وقت لأنه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله أنه لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد ، البليد يبقى ساعاتٍ ليحلَّ سطراً واحداً مما كُتِبَ فيه ويعجز والذكي لا يحتاج إليه ولهذا لم يُعرف علم المنطق في صدر هذه الأمة ،
******************
184 – مدارك العلوم في العيان ،(126/122)
محصورةٌ في الحد والبرهان ،
بماذا ندرك الشيء ؟
يقول المؤلف : ندرك الشيء بأمرين :
1. حده ،
2. ودليله ،
الحد والدليل ،
الحد بقوله : ( في الحد ) ،
والثاني : ( البرهان ) يعني الدليل ،
كل المعلومات محصورة في الحد والدليل [141] ،
الحد به يكون التصور، والدليل يكون به النفي أو الإثبات ،
وأيهما أسبق ؟ الأسبق الحد ،
ولهذا يقال : ( الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره ) [142] ،
تصور أولاً ثم احكم بالإثبات أو بالنفي وهذا حق ،
لأنني مثلاً لا أستطيع الأمر بالمعروف واجب حتى أعرف ما المعروف وما معنى الأمر ، حينئذٍ أقول هو واجب ،
أما أن أقول الأمر بالمعروف وأنا لا أعرف ما معنى الأمر وما معنى المعروف فهذا سَبْقٌ للشيء عن أوانه ،
وقد عرفتم في شرحنا لنظم الورقات أن من العلماء ولا سيما الفقهاء من يَحُدُّونَ الشيء بحكمه وعلى هذا فيتضمن الحكمُ الحدَّ لكن هذا عند المناطقة ممنوع ،
كما قال :
وعندهم من جملة المردود ،
أن تُدخل الأحكام في المحدود ،
فيقولون : حدد ثم احكم ،
هذا ما ذهب إليه المؤلف : أن جميع الأشياء محصورة بالحد والبرهان [143] ،
وهذا في الأمور المعقولة قد يكون مقبولاً ، قد يكون مقبولاً في الأمور المعقولة أن نحد أولاً ثم نحكم ثانياً ،
لكن هناك أشياء لا تتوقف على العقل تُعرف بالحس ،
فإذا قلنا : إن مدارك العلوم محصورة بالحد والبرهان خرج عن هذا جميع المحسوسات كل المحسوسات تخرج وهذا لا شك أنه نقص لأننا نعلم بالحس أحياناً أكثر مما نعلم بالعقل ،
والحس يشترك به عامة الناس وخاصة الناس والعقل لا يشترك فيه إلا من كان ذا عقل وذكاء ،
ولهذا قال : ( وقال قومٌ ) : هذا القول الثاني ،
******************(126/123)
185 – وقال قومٌ عند أصحاب النظر ،
حسٌ وإخبار صحيح والنظرٌ ،
قوله : ( عند أصحاب النظر ) : أي من أصحاب النظر ،
قوله : ( حِسٌّ وإخبارٌ صحيحٌ والنظر ) : قال قومٌ من العلماء : إن مدارك العلوم ثلاثة :
1. الحس ،
2. والخبر الصحيح ،
3. والنظر وهو العقل ،
يعني أن الأشياء تُدرك بواحدٍ من الأمور الثلاثة :
الحس وهو ما يُدرك بإحدى الحواس الخمس ،
الحواس خمسة وهي : السمع والبصر والشم والذوق واللمس خمسة أشياء ،
هذه الحواس الخمس ما أُدرك بها فهو مُدركٌ بالمحسوس ،
فإذا أخذتُ عسلاً وشربته أدركت حلاوته بالذوق وإذا أخذت طيباً فشممته أدركته بالشم وإذا رأيت شبحاً فأدركت أنه إنسان فبالبصر وإذا سمعت صوتاً فأدركت أنه صوت فهو بالسمع وإذا وقعت يدي على شيءٍ لين فأدركته لينته أو ليونته على الأصح فهو باللمس ،
هذا لا شك أن كل إنسانٍ يدركه حتى الصبي بل حتى البهائم ،
البهائم إذا رأت الشيء الأخضر قربت منه على أنه علف وإذا شمت الشيء هربت منه على أنه سيء ولهذا تقدم لها أحياناً طعاماً له رائحة ونفس الطعام بدون رائحة تأكل الذي لا رائحة فيه يعني منتنة وتدع الذي فيه الرائحة المنتنة وتشاهد البقرة وهي من أبلد الأشياء تنفض العلف تنفضه بفمها وتأخذ الشيء الطيب كما تختار أنت التمرة الطيبة من التمر ،
فهذا الإدراك بالحس متفق عليه بين جميع المدركين من البهائم والآدميين ،
هل الإدراك بالحس أمرٌ يقيني أو أحياناً يقيني وأحياناً ظني ؟
الثاني هو المتأكِّد أحياناً تدرك الشيء على ما هو عليه وأحياناً تدركه ظناً ،
ولذلك يرى الإنسان الشبح البعيد فيظنه أحياناً رجلاً فإذا دنا منه فإذا هو شجرةٌ ملتفةٌ على بعضها أحياناً يرى حيواناً بعيداً فيظنه ذئباً فإذا دنا منه فإذا هو غزال فرق بين هذا وهذا أليس كذلك ؟(126/124)
أحياناً يرى الشيء متحركاً وهو ساكن أو ساكناً وهو متحرك ،
إذن الإدراك بهذه الأمور الحسية يكون بين يقين وظن ،
لكن كلامنا على الإدراك التام لا يكون علماً أحياناً تشم الشيء تظنه جيداً وإذا به ليس بجيد ، ويُذكر أن امرأةً كانت تتوقى ،،،، أن الشم أيضاً يخطئ هذا الرجل فضَّل الجاز على الورد ،
فعلى كل حال إن المدارك بالحس ليس معناه أنها يقينية بكل حال ،
قد تكون يقينية وقد تكون غير يقينية حسب القوة والقرب ،
والإدراك الثاني : الإخبار الصحيح : مما تُدرك به العلوم نحن لم نعلم عمن مضى من الأمم والرسل إلا عن طريق الخبر الصحيح ،
قال الله تعالى : { ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } ( إبراهيم 9 ) ، فمن الذي أعلمنا ؟ الله عز وجل وكذلك الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذي دلَّنا أن هناك ثلاثةً من بني إسرائيل انطبق عليهم الغار وتوسلوا إلى الله بصالح أعمالهم ؟ النبي الأخبار الصحيحة ،
الثالث : النظر : النظر يعني العقل ، النظر العقل ،
ولهذا يقال : أدلةٌ نظرية وأدلةٌ أثرية ،
النظرية : هي ما يُدرك بالعقل لأن العقل ينظر الإنسان ثم يدرك ينظر الإنسان ثم يحكم ،
الأثرية : ما أُثِرَ من الكتاب والسنة هذا القول أصح ،
لكن أتعلمون أن هذا القول أخرج الحد ؟
كأنه يقول : لا ضرورة له لا ضرورة للحد ،
كل أحد يعرف الإنسان لو تقول : ما هو الإنسان ؟
كان عند القوم الأولين يقولون : لا بد أن تعرف من هو الإنسان ، ما هو الإنسان ؟
يقول لك : حيوان ناطق الإنسان حيوانٌ ناطق ،
هؤلاء يقولون : الإنسان هو الإنسان ، الإنسان هو الإنسان معروف هذا بالحس ،
أما أولئك فيقولون : الإنسان حيوانٌ ناطق ،
ويا ويلك لو قلت للعامي : أنت حيوانٌ ناطق ،
لو قلت للعامي : أنت حيوانٌ ناطق ، ماذا يقول ؟
يخاصمك ويقيم عليك الحجة ،(126/125)
لكنهم يقولون : حيوان لأن فيه حياةً ناطق لأن هذا هو الفصل المميز بينه وبين بقية الحيوانات ،
لأن كل الحيوانات تسمى بهيم لأنها لا تنطق ،
لكنها مع ذلك فيما بينها تنطق أو لا ؟
تنطق وتعرف حتى معنى الصوت تعرفه حتى أن الذكور لو احتاجت الإناث أو بالعكس فلها نغمة غير نغمتها التي تحتاج للطعام حتى إن الهرة إذا نادت أولادها لها نغمة غير النغمة الأخرى لأنها تنطق بكلامٍ يُفهم ولذلك تجدها إذا وجدت طعاماً ثم نادت أولادها بصوتٍ خاص اجتمعوا عليها الديك الآن الديك له مناطق يؤذن معروف يقطقط إذا رأى هِراًّ أو شيئاً يستنكره وهذا معناه احتجاج الثالث يدعو إذا رأى حبة بعض الديكة عندها إيثار عظيم لو كان جائعاً جداًّ إذا رأى حبة ينادي الدجاج ونداؤه للدجاج بنغمة خاصة إذن معناه أن كل شيءٍ له منطق لكن نحن لا نفهمه ،
بل قال الله عز وجل : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم } ( الإسراء 44 ) .
المهم أن القول الثاني يقولون : لا حاجة للحد ،
لأن الأمور معروفة الآن ربما لو أنك حددت شيئاً على حسب قواعد المنطق ربما تجعله خفياً على الناس أيما أوضح أن تقول الإنسان هو البشر أو أن تقول الإنسان حيوان ناطق ؟
الأول أوضح وأبين ،
فالحاصل : أن هؤلاء يقولون : لا حاجة للحد ،
لأن الأمور معروفة إما بالحس أو بالإخبار الصحيح أو بالنظر ،
بدأ المؤلف بتعريف الحد ، تفريعاً على ماذا ؟ على القول الأول أو الثاني ؟ الأول ،
******************
186 – فالحد وهو أصل كل علم ،
وصفٌ محيطٌ كاشفٌ فافتهم ،
الحد وصفٌ محيط ،
هذا ما ننازعه فيه لكن قوله : ( وهو أصل كل علم ) هذا فيه نظر ،
من قال : أنه أصل كل علم ؟ بل من قال أن العلوم تفتقر إليه ؟(126/126)
لأن القول الثاني الذي ذكره يقول : الحد لا نفتقر إليه ، فكيف نقول : إنه أصل كل علم ؟
ولهذا تجد هؤلاء القوم الذين يرون هذا تجدهم يتعبون في صياغة الحد فيأتي بجملة ثم يأتي آخر فيقول : هذه غير جامع ،
ومعنى ( غير جامع ) : أنه يخرج منه بعض الأفراد ويأتي آخر فيقول الثاني غير مانع ومعنى غير مانع أنه يدخل فيه ما ليس منه فتجدهم يتعبون في صياغة الحدود مع أنها أمر واضح ،
نحن نقول : الحد لا شك أنه يبين في بعض الأحيان ويوضح لكن ليس لنا أن ندَّعي أنه أصل كل علم ، كل علم فأصله الحد ،
قوله : ( وصفٌ محيط كاشفٌ فافتهم ) : هذا الحد ،
قوله : ( محيط ) : هذا الجامع ،
قوله : ( كاشف ) : يعني مانع ، فلا بد أن يكون جامعاً مانعاً ،
هذا هو الحد ،
فإذا قلت لك : ما هي الطهارة ؟
الطهارة على الرأي الثاني أن يتنظف الإنسان مما ينبغي أن يتنظف عنه ، هذه الطهارة ،
يقولون : لا ، الطهارة هي ارتفاع الحدث وما في معناه وزوال الخبث هذه الطهارة ارتفاع الحدث وما في معناه ليس معنى الحدث بل معنى ارتفاع الحدث يعني ارتفاع الحدث وما في معنى ارتفاع الحدث وزوال الخبث ،
هذا تعريف ،
فتجد أن هذا ربما لا يفهمه إلا ذاك عن ذياك ،
لكن إذا قلت : الطهارة التنظف مما ينبغي التنظف منه إن حدثاً كان وإن خبثاً ماذا يكون ؟
تعريف واضح لكن الأول جامعٌ مانع في الواقع لكن فيه صعوبة في صياغته وفي فهمه ،
******************
187 – وشرطه طردٌ وعكس وهو إن ،
أنبا عن الذوات فالتام استبن ،
قوله : ( وشرطه ) : أي شرط صحته ،
قوله : ( طردٌ وعكس ) : يعني يُشترط أن يكون مضطرداً منعكساً ،
مضطرداً يعني الجامع ،
منعكس يعني المانع ،
يعني يُشترط أن يكون مضطرداًَ تدخل فيه جميع الأفراد ،
منعكساً يخرج منه ما ليس منه ،
لو قيل لك : ما هو الإنسان فقلت : حيوان فقط ،(126/127)
أو قلت : الإنسان هو جثةٌ ذو روح نقول هكذا نترك الحيوان ومشكلتها الإنسان جثةٌ ذو روح صحيح الحد لماذا ؟
لا لأنه غير مانع لأنه يدخل فيه البعير ، البعير جثةٌ ذو روح ،
قال آخر : الإنسان جثةٌ ذو روحٍ طبيب ، غير جامع ، لماذا ؟
لأنه ليس كل إنسانٍ طبيباً يخرج منه بعض الناس ليس بطبيب ،
فيكون هذا غير جامع لم يجمع الناس كلهم ،
هذا غير منعكس أو غير مضطرد ؟
المضطرد الجامع والمنعكس المانع ،
هذا الآن غير مضطرد لماذا ؟
لأنه غير جامع فلا بد في الحد أن يكون مضطرداً منعكساً ،
لو قلنا : من هو عضو الهيئة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؟
نقول : هو رجلٌ يأمر الناس بالمعروف وينهي عن المنكر ،
ماذا تقولون في هذا ؟ صحيح أو لا ؟ هل هذا الحد صحيح أو غير صحيح ؟ رجل الحسبة رجلٌ يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ؟
هذا غير صحيح الحد هذا غير صحيح لماذا ؟
لأنه غير مانع يدخل فيه من ليس من أعضاء الهيئة يدخل فيه كل من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر وهو من غير أعضاء الهيئة ،
إذا قلت : رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بتكليفٍ من السلطان ،
فهذا صحيح هذا صحيح هذا جامع ومانع ،
رجل الهيئة رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر مكلفٌ من ذي السلطان عليه شماغ ؟ يصح أو لا ؟
لا ، لأنه غير جامع لأن بعضهم ليس عليه شماغ بعضهم عليه غترة مثلاً ،
إذن عرفنا الجامع والمانع ما هو الجامع ؟
الشامل لجميع المحدود ،
والمانع ما يمنع دخول غير المحدود فيه ،
نأتي للمعاني :
الطهارة : إزالة الخبث ، غير جامع ،
لأنه لا يدخل فيه الطهارة من الحدث ،
الطهارة هي ارتفاع الحدث الواجب رفعه وزوال الخبث غير جامع ،
لأنه يخرج بذلك الطهارة المسنونة ،
المهم أن الحد لا بد أن يكون جامعاً مانعاً ،
انظر هذه التعقيدات لو سلمنا من هذا وقلنا المحدودات معروفة سلمنا من هذا ،(126/128)
لكن مع ذلك يقولون : لا يمكن أن تدرك المعلوم إلا بمعرفة حده أولاً ثم الدليل البرهان الذي يقتضي إثباته أو نفيه [144] ،
الدليل هذا صحيح أنه لا بد من دليل يثبت الشيء أو ينفيه ، لكن كون أننا لا ندرك المعلومات إلا بهذا فيه نظر ،
ولهذا كان القول الراجح في هذه المسألة هو القول الثاني :
أن مدارك العلوم يعني التي يُدرك بها العلوم ثلاثة :
1. الحس ،
2. الإخبار الصحيح ،
3. العقل ،
يقولون : إن الحد ينقسم على خمسة أقسام ،
نرى كم ذكر المؤلف :
أولا : ( ما أنبا عن الذوات ) : أي عن حقيقة الذات ،
فإذا أنبا عن حقيقة الذات مع جنسٍ قريب فهو تام ،
مثال ذلك : الإنسان حيوانٌ ناطق هذا أنبأ عن حقيقة الإنسان أنه حيوان وأنه ناطق ،
الجنس قريب أو بعيد ؟ ما معنى الجنس ؟
كلمة : ( حيوان ) ، لو وضعت بدلها : ( جثة ) لَصَحَّ .
( جثة ناطقة ) : لكن الجثة أبعد عن الإنسانية من : ( حيوان )
لأن ( الجثة ) : تشمل الحيوان الذي فيه والذي ليس فيه روح .
فهي ( جنسٌ بعيد ) ، وحيوان : ( جنس قريب ) ،
فإذا كان الجنس قريباً مع ذكر الفصل فإن هذا يكون حداًّ تاماًّ ويسمونه : ( الحد الحقيقي ) ، حقيقيٌ تام ،
******************
188 – وإن تكن بالجنس ثم الخاصة ،
فذاك رسمٌ فافهم المحاصة ،
قوله : ( وإن يكن بالجنس ثم الخاصة فذاك رسمٌ ) : الأول عرفناه ،
الحقيقي التام هو الذي ينبئ عن الحقيقة مع ذكر جنسٍ قريب ،
مثل : الإنسان حيوانٌ ناطق فإن كان بالجنس والخاصة ،
الخاصة معناه يعني ما يختص به الإنسان ولكنه ليس فصلاً ،
مثل أن تقول : الإنسان حيوانٌ ضاحك ،
كلمة : ( ضاحك ) : لا تلازم الإنسان كما يلازمه ناطق ،
لكنها يقولون – وقد لا نسلِّم لهم – يقولون : إنها من خصائص الإنسان إنه لا يضحك الإنسان،
فهي من خصائصه لكن ليست من لوازمه ،(126/129)
النطق من لوازمه الأصل أنه ناطق ،
لكن ليس الضحك من لوازمه ،
لأنه الأصل أنه ضاحك أو غير ضاحك ؟
غير ضاحك لأن الضحك له سبب ،
فيكون هذا بالجنس ثم الخاصة هذا يسمونه رسم ليس حقيقياًّ هذا يسمونه حدٌّ بالرسم ،
إذن إذا كان ينبئ عن الذات فهو الحقيقي ،
ثم إن كان بجنسٍ قريب فهو التام ،
وإن كان بجنسٍ بعيد فهو الناقص ،
وما أنبأ عن الخصائص فهذا الرسم ،
الرسم يكون تاماًّ إن كان بجنسٍ قريب وناقصاً إن كان بجنسٍ بعيد ،
فالأقسام إذن أربعة :
1. حقيقيٌّ تام ،
2. وحقيقيٌّ ناقص ،
3. رسميٌّ تام ،
4. ورسميٌّ ناقص ،
هذا الحد الذي يقولون : إنه أصل كل علم هو الذي لخبط العلم ،
عندنا الحقيقي التام هو الذي ينبئ عن الذات مع الجنس القريب ،
مثاله : الإنسان حيوانٌ ناطق هذا حقيقيٌّ تام ،
الحقيقي الناقص هو أن يكون بجنسٍ بعيد مع بيان الحقيقة،
مثل : أن تقول الإنسان جثةٌ ناطقة ،
الرسمي هو الذي لا يُذكر معه الفصل وإنما يُذكر الخصائص ،
فإن كان مع جنس قريب فهو تام ،
وإن كان مع جنسٍ بعيد فهو ناقص ،
مثاله : الإنسان حيوانٌ ضاحك ، هذا رسمي تام ،
الإنسان جثةٌ ضاحك هذا ناقص ،
بقينا بالخامس : الحد بالأظهر ،
الحد بالأظهر يسمى حداًّ لفظياً ومعناه أن تفسر الكلمة بما هو أوضح منها عند المخاطب ،
القسم الخامس : اللفظي : وهو أن تأتي بكلمةٍ مرادفة تكون عند المخاطب أوضح ،
مثال ذلك : كنت تتكلم عن العيش عندنا بلغتنا العامية ، يقول : العيش ،
العيش عندنا هو القمح .
فإذا كنت تخاطب مثلاً واحد من سوريا أو من مصر أو من الأردن أو من العراق أو من بلدٍ آخر ، تقول : فلان اشترى مني عيش كثير اليوم .
ماذا سيفهم هذا ؟
خبز .
لا ، ليس كذلك .
نحن عندنا في وسط نجد ، العيش يعني البُر ،
فإذا قال لي المخاطب : ما العيش ؟
قلت : البر .
هذا تعريف للعيش أو لا ؟
هذا تعريف للعيش .
باللفظ أو بالمعنى ؟
تعريف للعيش باللفظ .(126/130)
يعني إذا جئت بمرادف هو أظهر ،
سألني سائل : قال : ما هو الهر ؟
فقلت : البَسْ ،
ماذا تقولون في هذا ؟
هذا تعريف لفظي أكثر ما يستعمل الناس في الهررة ، يقولون : إنها بس وبساس ،
فإذا جاءني الطفل ، وقال : يا بابا ما معنى هذا ؟
أقول له : بس .
يقول هذا تعريف أو غير تعريف ؟
تعريف ،
لفظي أو معنوي ؟
لفظي .
لأن المعنى ما تغير المعنى هو هو .
لكن أتينا بلفظٍ مرادفٍ أظهر .
فيكون هذا ماذا ؟
تعريفاً لفظياً ،
واعلم أن صواب العبارة في كلمة ( بِس ) ،
أن تقول : ( بَس ) كما في القاموس .
قال : البس : الهر ،
أو قال : القط .
والعامة تكسره ، يعني تقول : ( بِس ) ،
إذن صار الحد ينقسم إلى كم ؟
خمسة :
1. حقيقي تام ،
2. حقيقي ناقص ،
3. رسمي تام ،
4. رسمي ناقص ،
5. الخامس لفظي ،
تعريف لفظي وهو أن نفسره بكلمةٍ أظهر عند المخاطب ،
وشرطه طردٌ وعكس وهو إن ،
أنبا عن الذوات فالتام استبن ،
إذن المؤلف لم يستوعب الأقسام الخمسة ،
ما أتى إلا بقسمين فقط :
1. الحقيقي التام ،
2. والثاني : الرسم التام ،
الجنس يعني الجنس القريب ثم الخاصة ،
قوله : ( فافهم المحاصة ) : المحاصة معناها المقاسمة ، بمعنى أن يأخذ كل واحدٍ من الشريكين حصته ،
أي افهم المحاصة بين الرسمي وبين الحقيقي ،
وقد جاء به لتكميل البيت وإلا فلسنا في حاجةٍ إليه ،
******************
189 – وكل معلومٍ بحسٍّ وحِجا ،
فَنُكْرُهُ جهلٌ قبيحٌ في الهجى ،
قوله : ( فَنُكْرُهُ ) : أي إنكاره ،
كل شيءٍ معلوم بالحس أو العقل فإن إنكاره جهلٌ قبيح ويسمى مثل هذا الإنكار مكابرةً ،
وهذا يرد به على السوفسطائية ،(126/131)
وهم الذين ينكرون الحقائق [145] ويقولون : كل شيءٍ فهو شك ،
وقال بعضهم : جزمك بأن كل شيءٍ هو شك هو أيضاً شك ،
فإذا قلت : أنا أشك ، قلنا : وهذا شك ،
فإذا قلت : وأنا أشك بأني أشك ، قلنا : وأيضاً هذا شك ، وهَلُمَّ جراّ ،
ليس له عذر هؤلاء ينكرون حتى الحقائق حتى أنه يكلمك ويخاطبك ويقول : أنا لا أدري هل أنا أنت أو أنت أنا ، حقيقةً هذا موجود ،
ويقال : إذا أرادوا النوم جميعاً ربطوا في رجل كل واحدٍ خيطاً يخالف خيط الآخر من أجل إذا صحا لا يغلط لا يحسب نفسه رفيقه وشيء عجيب سبحان الله يذكرون عنهم أشياء عجيبة ،
نقول هؤلاء لا شك أنهم قالوا قولاً قبيحاً ،
لأن هذا يؤدي إلى أن يشكوا حتى في الله حتى في السماوات حتى في الأرضين حتى في كل شيء وهو كذلك هم يشكون في كل شيء ،
ثم إن بعضهم يقول ما دمت جزمت بالشك فأنا شاكٌّ به وحينئذٍ لا يمكن أن أصل إلى يقينٍ أبداً ،
وكذلك الذي ينكر ما ثبت بالعقل ، ما ثبت بالعقل ينكره ،
قيل له : كل حادث فلا بد له من محدث ،
قال لا أسلِّم بهذا ، ماذا نقول له ؟
نقول : هذا قبيح أن تنكر شيئاً معلوماً بالضرورة من العقل ويُعتبر هذا منه ماذا ؟
مكابرة ، ما موقفنا مع المكابر ؟
الإعراض عنه وتركه ، { إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم } ( يونس 96 – 97 ) ، نتركه إذا جاءه الأجل عرف لأنه مشكلة المكابر لا تستطيع إقناعه إطلاقاً إن أتيت بدليل أنكره إن أمكنه الإنكار أو حرَّفه إن لم يمكنه الإنكار فكيف تعمل مع هذا ؟
فصار الآن الذين ينكرون المحسوسات جُهَّالٌ وجهلهم قبيح ،
والذين ينكرون العقليات ليس الوهميات أيضاً جُهَّالٌ وجهلهم قبيح ،
وأنا قلت لكم : العقليات الصريحة دون الوهميات ،
وإنما قلنا ذلك لئلا يحتج علينا المعتزلة والأشاعرة والجهمية وغيرهم الذين سلكوا تحكيم العقل في الأمور الغيبية حتى في صفات الله ،(126/132)
قالوا : ما نقبل إلا ما أملت علينا عقولنا ،
نقول : هذه العقول التي زعمتموها هي عقول وهمية وخيالات لا أصل لها ،
لأن العقل الصريح لا يمكن أن يناقض النقل الصحيح أبداً ،
وهذه قاعدة مضطردة كل عقلٍ صريح فإنه لا يمكن أن يخالف النقل الصحيح في الكتاب والسنة ،
ومعنى قولنا : ( العقل الصريح ) : يعني الخالص من داءين عظيمين هما الشبهة والشهوة ،
ولا أعني شهوة الفرج ، الشهوة يعني الإرادة ، الشبهة ألا يكون عنده علم ، والشهوة ألا يكون له إرادةٌ صالحة ،
لأن كل الانحرافات عن الحق لا تخرج عن أحد هذين السببين :
وهما الشبهة والشهوة إما جهل وإما سوء إرادة ،
قوله : ( بالهجى ) : يعني بالتتبع أن إنكاره جهلٌ قبيح ،
******************
190 – فإن يقم بنفسه فجوهر ،
أو لا فذاك عَرَض مفتقر ،
يعني أن المعلومات لا تخلو من حالين :
1. إما شيءٌ قائمٌ بنفسه ،
2. وإما شيءٌ قائمٌ بغيره ،
كل الموجودات بل كل المعلومات إما قائمةٌ بنفسها وإما قائمةٌ بغيرها ،
فمن مصطلحاتهم :
أن القائم بنفسه يسمى جوهراً ،
وليس الجوهر الذي هو النوع من الزينة جوهر أي قائم بنفسه ، جسم الإنسان جوهر ، الشمس جوهر القمر جوهر وهلم جراّ ،
كل شيء قائم بنفسه نسميه جوهراً ،
فلو قال آدم مثلاً سأهبك جوهرةً فأخذ صدري ينشرح وأفرح بذلك ثم أعطاني حجراً قدر الأنملة ، هل وفى بالوعد ؟ نعم على كلام المؤلف وفى بالوعد لكن على العرف ، لا ،
قوله : ( فذاك عرض ) : سواءٌ كان لازماً أم طارئاً يسمونه عرضاً ،
وعلى هذا فالطول والقصر واللون والقوة والضعف وما أشبه ذلك تسمى عرض ،
فلان جوهر كونه طويلاً أو قصيراً عرض ، الباب جوهر كونه أحمر أو أبيض أو أسود هذا عَرَض وهلم جراّ ،
ما الفائدة من معرفتنا لهذه الأمور ؟
لا فائدة ،(126/133)
ولكن كما قلت لكم أولاً : أنه لما أدخل المتكلمون هذه المسائل وهذه البحوث في عقائدهم اضطر علماء السنة إلى أن يتدخلوا في الموضوع لئلا يبقى الميدان خالياً من أهل الحق ،
قوله : ( مفتقر ) : أي مفتقر لغيره لأنه لا يقوم بنفسه ،
وأنت بمجرد ما يقال لك : ( طول ) ، ( قصر ) ، تعرف أنه عرض قائم بغيره لا بد أن هناك شيء يسمى طويل وشيء آخر يسمى قصير ،
******************
191 – والجسم ما ألف من جزئين ،
فصاعدا فاترك حديث المين ،
الجسم : كل شيءٍ مؤلف من جزئين ،
والواقع أن كل شيءٍ وإن صَغُرْ مؤلف من جزئين حتى نصل إلى شيءٍ كرأس الإبرة وهو الفرد المطلق ،
والناس مختلفون في وجود الفرد المطلق هل يمكن أو لا ؟ أو إنه ما يمكن من شيءٍ إلا ويمكن أن يتجزأ ؟
فيقولون : الجسم : ( ما أُلِّفَ من جزئين ) [146] ،
واسأل الآن اسأل في وقتنا هذا علماء الذرة لأنهم هم الذين يعرفون هذه الأشياء وما يمكن أن يُشَطَّرْ وما لا يمكن أن يُشَطَّرْ ،
لكن على كل حال عند المناطقة أن الجسم كل شيءٍ مؤلف من جزئين فإنه جسم ،
بقي عندنا المعاني غير مؤلفة من جزئين ، الصفات غير مؤلفة من جزئين ،
لكن الله قادرٌ على أن يجعل هذه الأوصاف والمعاني أجساماً فالأعمال يوم القيامة تُجعل أجساماً وتوزن والموت يكون كبشاً ويُذبح بين الجنة والنار مع أن الموت معنا ،
فصار الجسم ما أُلِّفَ من جزئين ،
مع أن هذا أدى إلى إنكار الصفات قالوا : لأنك إذا أثبتَّ الصفات فالصفات لا تقوم إلا بجسم والجسم مؤلف من جزئين فيكون الرب عز وجل مؤلفاً من جزئين وهذا ممتنع ،
انظر كيف أدى علم الكلام إلى القول بالباطل من حيث لا يشعر ،
ونحن بيَّنا فيما سبق في هذه العقيدة أنه لا يجوز إطلاق لفظ الجسم نفياً ولا إثباتاً ،
لا نقول : الله جسم ولا ليس بجسم ،(126/134)
لأن ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة لا نفيه ولا إثباته ،
لكن يُستفصل في المعنى :
إن أردت بالجسم الشيء المركب من أعضاءٍ وأجزاء فهذا شيءٌ ممنوع [147] ،
وإن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يليق به فهذا حق فإن الله تعالى قائمٌ بنفسه متصفٌ بما يليق به ،
قوله : ( حديث المين ) : يعني حديث الكذب ،
******************
192 – ومستحيل الذات غير ممكن ،
وضده ما جاز فاسمع زكني ،
هنا بدأ بالمستحيل والجائز ، وينبغي أن يضاف الواجب أيضاً ،
المستحيل : ما لا يمكن وجوده ،
والجائز : ما يمكن وجوده وعدمه ،
والواجب : ما لا يمكن عدمه ،
والموجودات إما من قبيل الجائز أو من قبيل الواجب أو من قبيل المستحيل ،
ولكن إلى أيِّ شيءٍ نرجع في استحالة الشيء وعدمه ؟ هل نرجع إلى عقولنا أم ماذا ؟
نرجع في هذا إلى الشرع إلى الكتاب والسنة فيما يتعلق بالشرعيات ،
وإلى الواقع وأهل الخبرة فيما يتعلق فيما سوى ذلك ، وإلا لأمكن لكل واحدٍ أن يقول : هذا مستحيل كما قال أهل التعطيل إن الله مستحيل أن يكون له وجه مستحيل أن يكون له يد مستحيل أن يكون له عين وما أشبه ذلك ، لكن الكلام على الواقع ،
فالمستحيل غير ممكن ،
والواجب غير ممكنٍ عدمه ،
والجائز ما أمكن وجوده وعدمه ،
فلنضرب لهذا أمثلة :
وجود إلهٍ مع الله مستحيل لا شك ،
عدم الله مستحيل ،
وجود الله واجب ،
وجود الآدمي جائز ، لأن الله تعالى جائز أن يخلق الآدمي وجائز ألا يخلقه ،
تعذيب الله سبحانه وتعالى للطائع هو جائز من حيث الوقوع يمكن ،
لكنه ممتنعٌ شرعاً وممتنع عقلاً من وجهٍ آخر ،
ممتنعٌ شرعاً لأن الله تعالى أخبر أنه لا يظلم أحداً وتعذيب الطائع ظلم قال الله تعالى : { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما } ( طه 112 ) ، إذن مستحيل شرعاً ،(126/135)
وهو مستحيل عقلاً بالنسبة لله عز وجل لأن الله منزهٌ عن الظلم لذاته ،
فإن قال قائل : إنه جاء في الحديث : ( إن الله لو عذَّب أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهو غير ظالمٍ لهم ) [148] ، وجاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لن يدخل أحدٌ الجنة بعمله ) قالوا : ولا أنت ؟ ، قال : ( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ) [149] ؟
قلنا : لا إشكال ،
فأما الأول : فمعناه أن الله لو عذَّب أهل سماواته وأرضه لعذَّبهم وهم مستحقون للعذاب وهو غير ظالم ومتى يستحقون ؟ إذا خالفوا في ترك الطاعة أو فعل المعصية ،
وأما الثاني : فالباء في قوله ( بعمله ) للمعاوضة يعني لو رجعنا للتعويض ما دخل أحدٌ الجنة ،
لأن الإنسان لو حوسب على أدنى نعمةٍ من الله لهلك لكن برحمة الله تعالى ،
قوله : ( زُكَني ) : أو ( زَكَني ) وعندنا ثالث وهو الواجب ،
******************
193 – والضد والخلاف والنقيض ،
والمثل والغيران مستفيض ،
قوله : ( مستفيض ) : يعني العلم بهذه الأشياء مستفيض ، لكن لا حاجة لنا به وإن كان مستفيضاً ،
أولاً : ضد ، فما هو ضد الشيء ؟
ضد الشيء : هو ( الذي لا يمكن أن يجتمع معه لكن يمكن أن يُعدما جميعاً ) ،
يعني لا يجتمعان ويجوز أن يرتفعا هذا الضد ضد الشيء ما لا يجتمع معه لكن يجوز أن يرتفع معه
مثال ذلك : اللون الأبيض والأسود هذان ضدان لا يمكن أن يكون الشيء أبيض أسود لا يمكن لكنهما يرتفعان فيمكن أن يكون الشيء أحمر ،
فكل شيئين لا يجتمعان ولكنهما يرتفعان يعني يجوز ارتفاعهما فإنهما يسميان ضدين ،
الثاني : الخلاف [150] ، الخلافان : هما ( اللذان يجتمعان ويرتفعان ) ،
ولكن كل واحد غير الثاني يعني غيران يجتمعان ويرتفعان ،
مثاله : الحركة والبياض هذان خلافان ، خلافان ،
لأن كل واحد يخالف الآخر ،(126/136)
ولكنهما يجتمعان ويرتفعان ،
فقد يكون الشيء لا متحركاً ولا أبيض ،
يعني ساكناً أسود ،
وقد يكون متحركاً أسود ،
وقد يكون أبيض ساكن ،
إذن يجتمعان من كل وجه ويرتفعان من كل وجه ،
وحقيقتهما متماثلة أو غير متماثلة ؟
غير متماثلة ،
النقيض : نقيض الشيء : ( ما لا يجتمع معه لكن لا يرتفعان لكن لا بد من وجود أحدهما ) ،
فهما أي النقيضان : ( ما لا يجتمعان ولا يرتفعان ) ،
هذان النقضيان لا بد من وجود أحدهما ،
مثاله : الوجود والعدم ،
الوجود والعدم ، نقيضان أو لا ؟
نقيضان ،
لأن المعدوم غير موجود [151] والموجود غير معدوم ،
هل يمكن أن يجتمعا ؟
لا ،
هل يمكن أن يرتفعا ؟
لا ،
يعني لا يمكن أن يكون الشيء لا موجود ولا معدوم ،
لا بد أن تقول : إما موجود وإما معدوم ،
الحركة والسكون نقيضان ،
لماذا ؟
لا يجتمعان ولا يرتفعان ،
لأنه ما من شيء إلا متحرك أو ساكن ،
الخالق والمخلوق متباينان ،
لكن يختلفان في أن الخالق واجب الوجود [152] والمخلوق جائز الوجود ،
قوله : ( والمثل ) : وهما المثلان ، المثلان هما شيءٌ واحد ،
لا يصح أن نقول : هما متغايران [153] ،
كالجلوس والقعود مثلاً : الجلوس والقعود شيءٌ واحد ،
هذا إذا أريد بالقعود قعود الإنسان بجسمه ،
أما إذا أريد بالقعود التأخر ،
مثل : { وقيل اقعدوا مع القاعدين } ( التوبة 46 ) ، فهذا غير هذا ،
قوله : ( والغيران مستفيض ) : ( الغيران ) يعني : ( الذي أحدهما غير الآخر ) ،
وهذا يشمل كل ما سبق مما لا يجتمعان ،
قوله : ( مستفيض ) : يعني الغيران تشمل الضد والخلاف والنقيض [154] ،
وأما المثل فليس غير المثل بل هو المثل ،
قوله : ( مستفيض ) : يعني معلومٌ مشهور عند علماء المنطق ،
ولكن كما رأيتم الآن هل نحن نستفيد من هذا ؟
لا فائدة وصدق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال : كنت أعلم دائماً أن المنطق اليوناني لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد ،
******************(126/137)
194 – وكل هذا علمه مُحقَّق ،
فلم نُطِلْ فيه ولم ننمق ،
قوله : ( وكل هذا علمه مُحقَّق ) : عند من ؟ عند أهل المنطق ،
قوله : ( ولم ننمقُ ) : رَفَعَها مراعاةًَ للرَّوي ،
وإلا كان الواجب أن يقول : ( ولم ننمقِ ) أو ( ولم ننمقْ ) لكن لا بأس ،
لأن النَّظْم كما قال صاحب الملحة الحريري رحمه الله صلف يعسف الناس ولا يعسفونه ،
قال :
وجائزٌ في صنعة الشعر الصَّلِف ،
أن يصرف الشاعر ما لا ينصرف [155] ،
يعني ما أطلنا فيه ولا نمَّقنا ولا حسَّناَّ وزيَّناَّ ،
ونقول : جزاك الله خيراً وغفر لك وليتك لم تأتي به أصلاً ،
ثم حمد الله عز وجل على إكمال هذه المنظومة فقال :
******************
195- والحمد لله على التوفيق ،
لمنهج الحق والتحقيق ،
لأن من وفقه الله عز وجل لمنهج الحق فقد أنعم عليه نعمةً كبيرة ،
لأن الهداية مع أن أكثر أهل الأرض على ضلال نعمة من الله ونجاة من الله سبحانه وتعالى ينجي بها العبد فيستحق عز وجل أن يُحمد عليها ،
قوله : ( على التحقيق ) : يعني أن هذا المنهج ، وهو منهج أهل السنة والجماعة ،
هو منهج التحقيق ،
وليس ما يدَّعيه أهل الكلام أهل الكلام إذا أراد أن يتكلم قال : ( قال أهل التحقيق ) ، ( أجمع أهل التحقيق ) ،
وهذا دعوى ،
فالتحقيق هو محاولة الوصول إلى الحق ولا نعلم أحداً يحاول الوصول إلى الحق وهو أقرب إلى الحق من أهل السنة والجماعة ،
******************(126/138)
196 – مُسَلِّماً لمقتضى الحديث ،
والنص في القديم والحديث ،
قوله : ( مسلِّماً ) : يعني حال كوني مسلِّماً ،
قوله : ( لمقتضى الحديث ) : أي لما يقتضيه حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،
قوله : ( والنص ) : أي القرآن ،
قوله : ( في القديم ) : في الزمان القديم ،
قوله : ( والحديث ) : يعني الزمان الحديث ،
ولا يخفى ما في هذا البيت من الجناس اتفاق اللفظين مع اختلاف المعنى ،
لأن قوله : ( الحديث ) : يعني الحديث النبوي ،
وقوله : ( الحديث ) : يعني الجديد ضد القديم ،
******************
197 – لا أعتني بقول غير السلفِ ،
موافقاً أئمتي وسلفي ،
يعني لا أهتم بقول غير السلف حال كوني موافقاً ( أئمتي وسلفي ) ،
وهذا تحدثٌ بنعمة الله عز وجل عليه وليس من باب الفخر والعلو ،
******************
198 – ولست في قولي بِذا مقلِّداَ ،
إلا النبي المصطفى مبدي الهدى ،
يعني لا أقلد فيما ذهبت إليه إلا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ،
وفُهِمَ من كلامه أنه يجوز أن يسمى اتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تقليداً ،
وهذا مختلفٌ فيه :
فمنهم من يقول : لا تسمي نفسك مقلداً للرسول ولكن سمي نفسك متبعاً للرسول ،
ولا شك أن هذا هو الأوْلى ،
لأن الأصل في التقليد قبول قول القائل بدون دليل ،
وقبولنا لقول الرسول قبولٌ بدليل ،
ولهذا ينبغي أن نسمي ذلك اتباعاً .
كما قال تعالى : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني } ( آل عمران 31 ) .(126/139)
وقال : { فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون } ( الأعراف 158 ) .
لكن لا بأس أن نتسامح ونقول من باب التَّجَوُّز : أن هذا تقليد ،
قوله : ( إلا النبي المصطفى ) : ويعني بذلك محمداً صلى الله عليه وسلم ،
و ( المصطفى ) : اسم مفعول من الصفوة ، وأصله : ( المصتفى ) .
ولكن قُلِبَت التاء طاءاً لعلةٍ تصريفية ،
والمصطفى : يعني : الذي اصطفاه الله عز وجل وجعله من صفوة خلقه ،
قوله : ( مبدي الهدى ) : أي مظهره ،
قال الله تعالى : { وإنكم لتهدي إلى صراط مستقيم } ( الشورى 52 ) .
******************
199 – صلى الله عليه الله ما قطرٌ نزل ،
وما تعالى ذكره من الأزل ،
قوله : ( صلى عليه الله ) : الصلاة من الله يعني ثناءه عليه في الملأ الأعلى ،
قوله: ( ما قَطْرٌ نزل ) : يعني مدة نزول القَطْر ،
ومن يحصي نزول القطر ؟
لا يحصيه إلا الله عز وجل يعني صلى الله عليه صلواتٍ كثيرةً كثيرةً كثيرةً كقطرات المطر ،
قوله : ( وما تعالى ذكره من الأزل ) : يعني وأصلي عليه أيضاً ما تعالى ذكره من الأزل ،
قوله : ( من الأزل ) : يعني ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الماضي القديم ،
وفي نسخة : ( تعانى ) : وهي في الشرح ،
المهم أنه يصلي عليه جزاه الله خيراً بهذا القدر الكثير الذي لا يُحصى وهو صلى الله عليه وآله وسلم أهلٌ لذلك ،
******************
200 – وما انجلى بِهَدْيِهِ الديجور ،
وراقت الأوقات والدهور ،
قوله : ( الديجور ) : أي الظلام ،(126/140)
وما أكثر ما انجلى الظلام بهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم ،
ما أكثر المتبعين له اهتدوا بهديه واستناروا بنوره ،
قوله : ( وراقت الأوقات والدهور ) : أي صارت رائقة محبوبة ،
والمراد تكثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو صلى الله عليه وآله وسلم أهلٌ لذلك ، فصلوات الله وسلامه عليه ،
******************
201 – وآله وصحبه أهل الوفا ،
معادن التقوى وينبوع الصفا ،
قوله : ( وآله ) : عطفاً على قوله ( صلى الله عليه الله ) يعني وصلى الله على آله وصحبه ،
قوله : ( آله ) : إذا لم يقترن معها شيء فأصح الأقوال : أنهم أتباعه على دينه ،
قوله : ( وصحبه ) : وهم أصحابه ،
والصحابي : ( من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمناً به ومات على ذلك ) [156] ،
ويشمل أي اجتماع سواءٌ كان طويلاً أو قصيراً فهذا هو الصحابي ،
قوله : ( أهل الوفا ) : يعني أصحاب الوفا ،
فإنه لا أحد من أتباع الأنبياء أوفى من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولهذا هاجروا أوطانهم وتركوا أموالهم إلى الله ورسوله ونصروا الله ورسوله وجاهدوا في الله حتى فتح الله بهم قلوباً غلفاً وآذاناً صُماًّ وفتحوا البلاد وأنجوا العباد وصار لهم من المكانة ما ليس لغيرهم من أتباع الرسل ،
قوله : ( معادن التقوى ) : يعني أنهم معادن التقوى ،
والمعادن : جمع : ( معدن ) : وهو : ما يكون في الأرض من غير جنسها .
مما خبَّأتْه الأرض من أطايب العناصر .
كالذهب والفضة وما أشبه ذلك .
هؤلاء هم معادن التقوى أي تقوى الله عز وجل ،
******************
202 – وتابعٍ وتابعٍ للتابع ،(126/141)
خير الورى حقاًّ بنص الشارع ،
قوله : ( وينبوع ) : يعني الماء النابع من الأرض ،
قوله : ( والصفا ) : من الصَّفْوَة .
لأن الصحابة رضي الله عنهم هم صفوة هذه الأمة .
كما النبي عليه الصلاة والسلام : ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) [157] ،
قوله : ( وتابعٍ ) : للصحابة ،
قوله : ( وتابعٍ للتابع ) : تابع التابعين ، وهذه هي القرون المفضلة ،
ولهذا قال : ( خير الورى حقاًّ ) ،
قوله : ( حقاًّ ) : مفعول مطلق لعاملٍ محذوف ، التقدير : ( أُحِقُّ ذلك حقاًّ وأثبته إثباتاً ) ،
قوله : ( بنص الشارع ) : من الشارع ؟
محمدٌ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ،
ويُطلق على الله أيضاً ،
قال الله تعالى : { شرع لكم الدين ما وصى به نوحا } ( الشورى 13 ) .
وقال تعالى : { ثم جعلناك على شريعة من الأمر } ( الجاثية 18 ) .
والرسول صلى الله عليه وسلم شارع يشرع للناس ويبين لهم الطريق فقد نصَّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم على أن خير الناس قرنه ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ،
******************
203 – ورحمة الله مع الرضوان ،
والبِر والتكريم والإحسان ،
قوله : ( ورحمة الله ) : مبتدأ ، وما عُطِفَ عليها و ( تُهدى ) خبر المبتدأ ،
قوله : ( رحمة الله مع الرضوان ) : أي مع رضاه عز وجل ،
ورضاه أخص من رحمته ،
لأن رحمته تنقسم على قسمين :
1. عامة لجميع الخلق ،
2. وخاصة للمؤمنين ،
أما الرضا : فإنه خاصٌ بالمؤمنين ،
ولا يمكن أن يرضى الله عن الكافرين ولا عن أعمالهم ،
فلذلك صار الرضوان أخص ،
قوله : ( والبر ) : البر الخير الكثير ،
قوله : ( والتكريم ) : يعني منا لهم نكرمهم ولكن كيف نكرمهم وهم أموات ؟(126/142)
إكرامنا إياهم وهم أموات بإكرام آرائهم وأقوالهم واحترامها وعدم الاعتراض عليها والدعاء لهم وسؤال العفو لهم إذا أخطئوا وما أشبه ذلك ،
قوله : ( والإحسان ) : الإحسان إليهم بالدعاء ،
وكان المؤمنون يقولون : { ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان } ( الحشر 10 ) .
******************
204 – تُهدى مع التبجيل والإنعام ،
مني لمثوى عصمة الإسلام ،
قوله : ( تُهدى ) : ممن ؟ من المؤلف ولذلك حذف الفاعل لأجل أن يكون عاماً المؤلف وغيره ،
قوله : ( التبجيل ) : التبجيل : ( غاية التكريم ) ،
قوله : ( والإنعام ) : يعني الإفضال والنعمة هي الفضل ،
قوله : ( مني ) : خص الآن ما عاد يمكن الآن القول بالعموم ،
قوله : ( لمثوى عصمة الإسلام ) : هي قبورهم فكأنه دعا رحمه الله لأهل عصمة الإسلام أن يضع الله في قبورهم الرحمة والرضوان والبر والتكريم والإحسان إلى آخره ،
قوله ( عصمة الإسلام ) : يعني الذين بهم عُصِمَ الإسلام ،
وهم العلماء الربانيون الذين علموا الحق وعملوا بالحق ودعوا إلى الحق ودافعوا إلى الحق هؤلاء هم الأئمة رحمة الله عليهم ،
******************
205 – أئمة الدين هُداة الأمة ،
أهل التُّقى من سائر الأئمة ،
قوله : ( هداة ) : جمع هادي ،
والمراد بالهداية هنا هداية الدلالة والإرشاد ،
لأنه لا أحد يهدي أحداً هداية توفيق إلا رب العالمين عز وجل ،
قوله : ( سائر ) : أي جميع ،
و ( سائر ) تطلق بمعنى ( جميع ) وتطلق بمعنى ( بعض ) ،
فأما إطلاقها بمعنى ( جميع ) فهي مشتقة من السور لأنه محيطٌ بالبيت ،(126/143)
وأما ( باقي ) فهي مشتقة من السؤر وهو بقية شراب الحيوان كسؤر الهرة وسؤر الإنسان وما أشبه ذلك ،
وهنا المراد المعنى الأول أو الثاني ؟
الأول ،
قوله : ( الأئمة ) : جمع إمام : وهو ( من تَمَيَّزَ بشيءٍ من متبوعٍ عليه ) ،
وليس كل عالمٍ إماماً ،
لكن العلماء الأجلاء الذين تميزوا بالتحقيق والتدقيق والتحرير حتى تبعهم الناس هؤلاء أئمة ،
لكن منهم أئمةٌ اشتهروا وانتشرت آراؤهم وكاد المسلمون يجمعون على أنهم أئمة ومنهم أئمةٌ دون ذلك ،
******************
206 – لا سيما أحمد والنعمان ،
ومالك محمد الصنوان ،
قوله : ( لا سيما ) : كلمة يؤتى بها لبيان أن ما بعدها أولى مما قبلها ، هذا هو معناها ،
قوله : ( أحمد ) : يعني به ابن حنبل ،
قوله : ( النعمان ) : يعني به أبا حنيفة ،
قوله : ( مالك ) : يعني به مالك بن أنس إمام دار الهجرة ،
قوله : ( محمد ) : يعني به الشافعي ،
قوله : ( الصنوان ) : لأنه رحمه الله كان مُطَّلِبِياًّ ،
وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام : ( إن عم الرجل صِنْوُ أبيه ) [158] ، فهو صنوانٌ للرسول عليه الصلاة والسلام ،
وتراجم هؤلاء الأئمة الأربعة معروفة مشهورة لا نطيل بذكرها ،
******************
207 – من لازمٍ لكل أربابه العمل ،
تقليد حَبْرٍ منهم فاسمع تخل ،
قوله : ( من ) : اسم موصول ،
قوله : ( لازم ) : خبر مقدم ،
قوله : ( تقليد ) : مبتدأ مؤخر ، يعني من تقليد حَبْرٍ منهم لازمٌ لكل أرباب العمل ،
إذن فالعبارة فيها تقديم وتأخير ، تقديم الخبر على المبتدأ ،(126/144)
يعني أنه يلزم لكل إنسانٍ يعمل أن يقلد واحداً من هؤلاء الأربعة ،
هذا معنى كلام المؤلف وهذا قولٌ ضعيف جداًّ ،
لأنه مقتضاه أنه لا يجوز العمل بقولٍ خارجٍ عن أقوال هؤلاء الأئمة الأربعة ،
والأمر ليس كذلك ولا يلزم اتباع أحدٍ ،
على كل حال إلا الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي يلزم اتباع قوله ،
على كل حال أما هؤلاء الأئمة الأربعة فإنه لا يلزمنا أن نأخذ بقولهم ولنا أن نخرج عن أقوالهم ،
ولكن لا شك أنهم إذا أطبقوا على شيء فإنه أقرب إلى الصواب فالخروج عنه يحتاج إلى تأني ،
واعرفوا هذه القاعدة :
أنك إذا رأيت الجمهور على قولٍ فلا تخرج عنه إلا بعد التأني والتريث والنظر في الأدلة والتدبر فيها ،
لماذا ؟
لأن قول الجمهور لا يُستهان به ،
قول الجمهور أقرب إلى الحق من قول الواحد ،
فلا تفرح أن تجد قولاً غريباً تخرج به أمام الناس ليصدق قول الناس عليك : ( خالف تُعرف ) ، وبعض الناس يقول : ( خالف تُذكر ) ،
لا ، كن مع الجماعة ، لكن إذا بان أن الحق في خلاف قول الجمهور فالواجب عليك اتباع الحق ، إذن في كلام المؤلف نظر ،
قوله : ( تُخَلْ ) : أي تُخَلَّى ،
******************
208 – ومن نحى لسبلهم من الورى ،
ما دارت الأفلاك أو نجمٌ سرى ،
قوله : ( من نحا ) : أي اتجه وأخذ ،
قوله : ( لسبلهم ) : لطرقهم ،
قوله : ( من الورى ) : من الخلق ،
قوله : ( ما دارت الأفلاك أو نجمٌ سرى ) : يعني مدة دوران الأفلاك وسريان النجم ، والنجم هنا عام يشمل كل نجم فما أكثر هذا الدعاء الذي ذكره المؤلف ما دام شاملاً لكل الأفلاك أو لكل دورةٍ من دورة الأفلاك وسريان النجم ،
******************
209 – هديةٌ مني لأرباب السلف ،(126/145)
مجانباً للخوض من أهل الخلف ،
قوله : ( هديةٌ مني ) : نقول : مقبولة ، أهداها لنا رحمه الله ،
قوله : ( لأرباب السلف ) : أي لأصحاب السلف ،
قوله : ( مجانباً للخوض من أهل الخلف ) : لأن هذه العقيدة مبنية على طريق السلف ،
وإن كان فيها بعض الشيء الذي نبَّهنا عليه أثناء مرورنا به ،
لكنها في الجملة سلفيةٌ محضة ،
******************
210 – خذها هُديتَ واقتفي نظامي ،
تَفُزْ بما أَمْلَيْتُ والسلام ،
المعنى واضح يعني أنك إذا أخذتها واتبعت نظامي أي منظومي فيها فإنك تفوز بما أمَّلْتَ أو بما أمَّلْتُ أنا ولكن الحسن بما أمَّلْتَ أنت ،
قوله : ( والسلام ) : نقول : هي هدية مقبولة وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ،
والحمد لله على التمام
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ونسأل الله تعالى أن يهدي إخواننا للحفظ وأن يدعوا الكسل والتكاسل فإنه لا خير في الكسل والتكاسل ،
الأسئلة
السؤال : كتاب ( التدمرية ) فيه ما يصعب على طالب العلم فهمه إذا أراد أن يدرس هذا الكتاب يعني يصعب عليه فيستعين بكتاب ( تسهيل المنطق ) قبل أن يدرس هذا الكتاب ، فما رأيكم ؟
الجواب : ليس بصحيح رأيي أنه ليس بصحيح ،
الحمد لله أنا فهمت ( العقيدة التدمرية ) ولا درست من المنطق ولا شيء أبداً ليس بصحيح لست في ضرورة ، ( العقيدة التدمرية ) صحيح فيها مقدمات صحيح يحتاج لأحدٍ يفهمه إياها ،
لكن ليس بلازم تقرأ علم كامل من أجل مسألة تشكل عليك ليس بصحيح ، بيَّنا رأينا لكم فيه أنه يجوز للضرورة وبقدر الضرورة فقط ،(126/146)
السؤال : قوله تعالى : { وقد نزل عليكم في الكتاب ،،،،،،،،،، } ( النساء 140 ) الآية كيف نستدل بها على المنكرات التي أقل من الكفر لأن يقول آيات يُكفر بها ويُستهزأ فمثلاً شرب الدخان كيف نستدل بها على عدم جواز بقاء الإنسان الذي يرى ،،،، ؟
الجواب : العلة العلة ، العلة هي البقاء معهم فإن كان على كفرٍ فهو كفر وإن كان على ما دون الكفر فهو دون الكفر ،
السؤال : الاستهزاء بالآيات يشمل الكفر ؟
الجواب : هذا كفر ،
السؤال : من الآية يا شيخ ؟
الجواب : كيف الآية ؟
السؤال : الآية نصت على أنه يُكفر بها ويُستهزأ ،
الجواب : هذا في الكفر والاستهزاء ، والمعاصي ؟
السؤال : ليس في الآية نص ،
الجواب : مثلها العلة واحدة العلة المشاركة والمخالطة فإن خالطهم على أمرٍ كفريٍّ فهو كفر وعلى أمرٍ دونه فهو دونه ،
السؤال : بعض المشايخ يحرمون الدخول في هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عللوا لذلك أنه أصبح رجال الهيئة لا حول لهم ولا قوة يوم الخميس والجمعة يعطلون والساعة الواحدة في الليل إن كان هناك منكر فلا يستطيعون لأن الدوام انتهى فعللوا بهذه العلل فما هو رأيكم ؟
الجواب : أقول إن من العلل ما هو علةٌ بنفسه وهذه علةٌ عليلة هل الدخول في هذا الأمر القاصر خيرٌ أم تركه لمن لا يستحقه ؟
الأول يعني لا ينظر للواقع ينظر لما يحصل من نتيجة وعاقبة ،
لو أنا تركنا المسائل أو الجهات التي فيها منكر لو تركناها بحجةٍ أننا لا نريد أن نشارك في أمرٍ يكون فيه المنكر ثم شغل هذا المكان المعد لنا من ليس فيه خير فهل المنكر يزيد ؟
نعم إن لم يزد لم ينقص لكن إذا دخل أهل الخير فيه إن لم ينقص لم يزد بل نقول : إن لم يزل نقص فأرى أنه من الخطأ أن الإنسان يترك الانتظام في سلك الهيئة لهذه العلل هذه علةٌ عليلة ،(126/147)
ثم ليعلم أن الولايات عملها بحسب ما يسنه الإمام يعني من له ولاية سواءاً الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو القضاء أو غيره يكون على الحد الذي حُدَّ له من قِبَلِ الإمام حتى إن القضاة قالوا يجوز أن يُولى القضاء في الأنكحة فقط في شرقي الرياض ،
انظر الآن لو تحاكم عند القاضي هذا شخصان فقط في شرقي الرياض في مسألة بيع ينفذ حكمه أو لا ؟
لا ينفذ حكمه ولو حكم هذا القاضي في غربي الرياض في مسألة بيع ؟ لم ينفذ ولو قيل أنت قاضٍ لمدة شهر ابتداءاً من ربيع الأول فحكم في أول يوم من ربيع الثاني ؟
لا ينفذ ،
ذفإذا قيل للهيئات : أنتم عملكم من السبت إلى الأربعاء خلاص يكون عملهم الخميس والجمعة تطوعاً كغيرهم من الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كغيرهم من الناس لأنهم لم يقل لهم لا تأمروا ولا تنهوا ،
والخلاصة أن هذه المسألة يعني فرعية أو فردية وإنما أقول على وجه العموم أن دخول الإنسان في الولايات أو إن شئت فقل في الجهات الحكومية أمرٌ مطلوب لا سيما إذا كان الإنسان يُؤَمِّل أن يكون فيه خير ونحن علمنا أن في سلك الجيش وفي سلك الطب وفي سلك الطيران شباب مستقيم نفع الله به نفعاً عظيماً واهتدى على أيديهم أناس بعملهم وفي غير عملهم فإذا انزاح هؤلاء عن المكان ماذا بقي ؟ بقي المكان فاسداً والإنسان كما قلت لكم ينظر للمصالح العامة ،
حتى إن شيخ الإسلام رحمه الله سئل مرة قيل له : رجل يشتغل في المكوس والمكوس حرام ليس فيها إشكال أكل المال بالباطل لكنه يخفف بقدر المستطاع أيجوز أن يدخل ؟ ،
قال نعم ،
لماذا ؟
لأنه يقلل المفسدة والضرر صحيح أنه سيمارس ضرراً لكن يقلل والعبرة بالعموم بالمنفعة العامة العبرة بالمنفعة العامة ،
السؤال : إذا كان يجالس مع قوماً دعاهم فلم يستجيبوا له فهل يجلس معهم لعلهم يستجيبوا له فيما بعد ؟(126/148)
الجواب : عندنا ضررٌ محقق ومنفعةٌ موهومة فأيهما نقدِّم ؟ اعتبار الضرر المحقق أو المنفعة الموهومة ؟
الضرر المحقق وكوني أبقى عندهم على المنكر رجاء أن ينتفعوا فيما بعد يرد عليه العكس أنك إذا قعدت معهم على المنكر أثمت ومن جهةٍ أخرى إذا أنكرت عليهم في المرة الثانية احتجوا بفعلك الأول قالوا ما الذي فرَّق بين اليوم والأمس لكن لو هجرتهم وقمت فقد يكون في هذا ردعٌ لهم وحياء وخجل انتهى الوقت ،
السؤال : قلنا أنه فائدة من علم المنطق ثم نحن ندرسه الآن فهل هذا للتمرين أم لأن المؤلف أتى به ؟
الجواب : ما دام المؤلف أتى لا بد ندرسه لئلا يقال درسنا العقيدة إلا آخرها ،
السؤال : إذن فيه فائدة من الدليل العقلي ؟
الجواب : فيها تمرين ليس فيه شك العقل فيه ، لكن هناك معلومات أهم منه ،
السؤال : هل يدخل علم المنطق في أصول الفقه ؟
الجواب : لا ، لا يدخل المنطق في أصول الفقه لكن الأصوليون بعضهم دخل علم المنطق ،
السؤال : هل له دخول في العقيدة ؟
الجواب : له دخول في العقيدة أيضاً سيأتينا إن شاء الله بعد أن نكمل كيف تدخل في العقيدة ،
- النهي عن المنكر واجب وفعل المنكر حرام ،
فإذا فعل المنكر فقد أتى المحرم وإذا لم يَنْهَ عنه فقد ترك الواجب لأنه ارتكب المحرم ،
فهذه هي هو الآن يريد أن يفعلها ليس يقول : أنا بين أمرين :
إما أن أنهى المنكر ،
وإما أن أفعل المنكر ،
لو كان هذا نظرنا في الموضوع لكن يقول هو سيفعل المنكر لا بد وسيقوم بالنهي عن المنكر ولا بد إذا ترك النهي ارتكب محظوراً آخر ،
لكن هل الرسول قال هذا لأجل أن يفعله الناس أو محذراً منه ؟
يعني بعض الناس يلتبس عليه والعياذ بالله يفعل الزنا ولا ينهى عنه حتى لا يقع في هذا العقاب وهذه الكبيرة ،
نقول : غلط هذا ،(126/149)
لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما بيَّن ذلك للنهي عن ارتكاب هذا الشيء ولاحظ أن الذي ينهى المنكر وهو يرتكبه أنه كالمستهزئ بآيات الله كيف تنهى عنه وأنت ترتكبه لو كنت صادقاً في النهي عنه ما فعلته إلا إذا كان ليس لك عقل فهذا شيء ثاني ،
إذا كنت أن ترتكب المحرم وتترك الواجب لكن الرسول حذر من هذا إذا حذر من الزنا هل معناه نرتكب الزنا ؟
لكن الرسول حذر من هذا الشيء لئلا نرتكبه ليس لأن نرتكبه واضح تأمله ,
السؤال : قولنا : ( كل حادث لا بد له من محدث ) ، هل هذا مُسَلَّمْ ؟
الجواب : نعم ،
السؤال : يعني يطلق على الله أنه محدث ؟
الجواب : أعوذ بالله ليس بصحيح ، كل حادث لا بد له من محدث هذا صحيح ، { أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون } ( الطور 35 ) ، هذا صحيح وهو الله كل حادث لا بد له من محدث أليس النبي عليه الصلاة والسلام قال : ( ولكن الله يحدث من أمره ما يشاء ) [159] ؟ يصح أن نخبر عن الله بأنه محدث كما نقول بأنه خالق لعلك تحوم حول شيءٍ آخر غير هذا وهو أن الناس لا يزالون يقولون : من خلق كذا ؟ من خلق كذا ؟ حتى يقولون من خلق الله ؟
فحينئذٍ لا يمكن أن نتسلسل لأن عندهم القاعدة العقلية التسلسل في الآثار لا في المؤثر [160] ، المؤثر لا يمكن أن يتسلسل ،
ولهذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام من أُصيبَ بهذا أن ينتهي [161] ،
السؤال : لماذا لم يقل :
مُسَلِّماً لمقتضى النص والحديث في القديم والحديث
أليس ذلك أفضل ؟
الجواب : لا يصح البيت إذا زدت في الشطر الثاني رجح على الشطر الأول صار ، كأنك تقول لماذا يقدم الحديث على النص وهو القرآن ، القرآن أشرف ؟
نقول : يجوز تقديم غير الأشرف لمراعاة نسق الكلام ،
انظر إلى موسى وهارون أيهما أشرف ؟(126/150)
موسى ، وموسى يقدم في الذكر ، لكن في سورة طه قال : { برب هارون وموسى } ( طه 70 ) ، لأجل أن تتناسب هذه الآية مع الآية الأخرى ،
السؤال : النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من صلى علي واحدة صلى الله عليها بها عشرا ) [162] ، فهل قوله : ( ما قطرٌ نزل ) ، يعني كل قطرة تنزل له بها حسنة ؟
الجواب : لا ، يعني أنه مستحق أنه يُصلّى عليه بكثرة قطر الندى وإلا فلا أظنه أنه يحصل له الثواب ،
السؤال : أتى المؤلف ببعض قواعد المنطق في هذه الخاتمة ولم يبين رحمه الله كيفية استخدامها في علم العقيدة ولا فوائدها في العقيدة ؟
الجواب : أبداً لولا المنطق لسلمت العقيدة ، المنطق بلاء ،
السؤال : لكن لم يبين لماذا جاء بها ؟
الجواب : جاء بها الظاهر تبعاً لغيره لأن بعض الذين يؤلفون في العقائد يذكرون مثل هذه المسائل ،
السؤال : ذكروها لاستخدامها في العقيدة ؟
الجواب : يذكرونها لئلا تَرِد على أحد وتشكل عليه ،
- إذا قلت : الإنسان جسم ناطق ، هل هذا الحد تام أو لا ؟
لا ، لأن الجنس بعيد ( جسم ) ،،،
لأنك إذا قلت : جسم الإنسان يتصور كل الأشياء المجسمة ،
إذا قلت : حيوان خرج جميع الأشياء المجسمة إلا الحيوان ،
ولا يُعدل عن الجنس القريب إلا لحاجة لأن الحد يكون ناقصاً ،
- البر هو القمح هذا تعريف بالأظهر وهو الحد اللفظي .
انتهى نسخ هذا الشرح في الساعة الثامنة وست وأربعين دقيقة من ليلة السبت
بتاريخ 20 / 1 / 1422 هـ الموافق 13 / 4 / 2001 م .
فالحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات
غفر الله لمؤلف هذا الكتاب وشارحه وناسخيه
ومن قام على إخراج هذا الشرح
والحمد لله رب العالمين
فهرس الموضوعات
المقدمة ................................................................................ 3 .(126/151)
متن العقيدة السفارينية ................................................................. 7 مقدمة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى .............................. 23 .
خطبة المتن ............................................................................. 36 .
أسئلة خطبة المتن ....................................................................... 75 .
فصل : في ترجيح مذهب السلف على الخلف ......................................... 79 .
الأسئلة .............................................................................. 122 .
الباب الأول : في معرفة الله ......................................................... 127 . .
فصل : في بحث أسمائه جل وعلا ..................................................... 132 .
الأسئلة ............................................................................. 144 .
فصل : في بحث صفاته جل وعلا ...................................................... 147
الأسئلة ............................................................................... 176
فصل : في مبحث القرآن العظيم وبيان اختلاف الناس فيه ومذهب السلف .............. 181
الأسئلة ............................................................................... 193
فصل : في الصفات التي يثبتها السلفيون ويجحدها غيرهم ............................... 195
الأسئلة ............................................................................... 259
فصل : في إيمان المقلد ................................................................. 269(126/152)
الباب الثاني : في الأفعال المخلوقة ..................................................... 274
الأسئلة والمناقشة ..................................................................... 303
فصل : في الكلام على الرزق ......................................................... 306
الأسئلة والمناقشة ..................................................................... 312
الباب الثالث : في الأحكام والإيمان ومتعلقات ذلك ................................... 313
الأسئلة ............................................................................... 319
فصل : في الكلام على القضاء والقدر غير ما تقدم ..................................... 320
الأسئلة والمناقشة ..................................................................... 325
فصل : في الكلام على الذنوب ومتعلقاتها ............................................. 327
الأسئلة ............................................................................... 333
فصل : في ذكر من قيل بعدم قبول إسلامه ............................................. 334
الأسئلة ............................................................................... 341
فصل : في الكلام على الإيمان واختلاف الناس فيه وتحقيق مذهب السلف في ذلك ....... 342
الأسئلة ............................................................................... 371
الباب الرابع : ذكر البرزخ والقبور والبعث النشور .................................... 378
الأسئلة ............................................................................... 386
فصل : في ذكر الروح والكلام عليها ................................................. 388(126/153)
الأسئلة ............................................................................... 395
فصل : في أشراط الساعة وعلاماتها الدالة على اقترابها ومجيئها .......................... 397
الأسئلة ............................................................................... 410
فصل : في أمر المعاد .................................................................. 411
الأسئلة ............................................................................... 434
فصل : في الكلام على الجنة والنار .................................................... 438
الأسئلة ............................................................................... 459
الباب الخامس : في ذكر النبوة ومتعلقاتها .............................................. 460
الأسئلة ............................................................................... 473
فصل : في بعض الخصائص النبوية ..................................................... 479
فصل : في التنبيه على بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم وهي كثيرة جداًّ .............. 492
الأسئلة .............................................................................. 500
فصل : في ذكر فضيلة نبينا وأولي العزم وغيرهم من النبيين والمرسلين ................... 502
فصل : فيما يجب للأنبياء عليهم السلام وما يجوز عليهم وما يستحيل في حقهم ......... 505
الأسئلة ............................................................................... 511
فصل : في ذكر الصحابة الكرام ...................................................... 516
الأسئلة ............................................................................... 552(126/154)
فصل : في ذكر كرامات الأولياء وإثباتها .............................................. 560
الأسئلة ............................................................................... 568
فصل : في المفاضلة بين الملائكة والبشر ................................................ 572
الباب السادس : في ذكر الإمامة ومتعلقاتها ............................................ 577
الأسئلة ............................................................................... 603
فصل : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ........................................... 611
الأسئلة ............................................................................... 628
الخاتمة ................................................................................ 631
الأسئلة ............................................................................... 658
فهرس الموضوعات .................................................................... 663
---
[1] - انظر تعريف الصحابي في الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ( 1 / 158 ) وفتح الباري لابن حجر ( 6 / 490 ) ( 7 / 5 ) والنكت على نزهة النظر في توضيح نخبة الفكر ص 149 للشيخ علي حسن عبدالحميد الحلبي وكشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري ( 2 / 384 ) والبحر المحيط للزركشي ( 6 / 190 – 196 ) والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج ( 2 / 261 – 262 ) وشرح الكوكب المنير ص 292 – 293 وكشاف القناع للبهوتي ( 1 / 16 – 17 ) وشرح مختصر خليل للخرشي ( 1 / 29 ) وحاشية البيجرمي على الخطيب ( 1 / 42 ) وغذاء الألباب للسفاريني ( 1 / 28 – 29 ) ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 1 / 16 ) والموسوعة الفقهية ( 26 / 312 – 313 ) ،(126/155)
[2] - أخرجه الترمذي ( 3001 ) وابن ماجة ( 4288 ) وأحمد ( 19525 ) والدارمي ( 2760 ) وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ( 3 / 395 ) برقم 3480 ،
[3] - الصفدية ( 1 / 247 ) ،
[4] - أخرجه البخاري ( 2509 ) ومسلم ( 2533 ) ،
[5] - أخرجه البخاري ( 454 ) ومسلم ( 2382 ) .
[6] - أخرجه البخاري ( 454 ) ومسلم ( 2382 ) ،
[7] - أخرجه الترمذي ( 3675 ) وأبو داود ( 1678 ) وأحمد ( 267 ) والدارمي ( 1660 ) وحسنه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ( 3 / 507 ) برقم 3675 ،
[8] - الصفدية ( 1 / 247 ، 252 ) ،
[9] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 3 / 405 – 406 ) ( 13 / 237 ) والصفدية ( 1 / 247 ) ،
[10] - العقيدة الواسطية ص 46 ،
[11] - أخرجه البخاري ( 4119 ) ومسلم ( 2419 ) ،
[12] - أخرجه الإمام أحمد في فضائل الصحابة ( 1 / 926 – 927 ) برقم ( 1285 ) .
[13] - منهاج السنة النبوية ( 4 / 323 ) ،
[14] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 3 / 153 ) ( 4 / 439 ، 479 ) ،
[15] - أخرجه أحمد ( 838 ) وصححه العلامة الألباني في السنة لابن أبي عاصم ص 556 – 558 برقم 1201 – 1208 ،
[16] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 3 / 153 ) ( 4 / 439 ، 479 ) ،
[17] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 518 ) ، ( 28 / 474 ) ، ( 35 / 184 ) ،
[18] - أخرجه مالك ( 1685 ) وحسنه العلامة الألباني في إرواء الغليل برقم 1601 ،
[19] - قواعد ابن رجب ص 3 ،
[20] - أخرجه الترمذي ( 3747 ) وأبو داود ( 4649 ) وابن ماجة ( 133 ) وأحمد ( 1632 ) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن الترمذي ( 3 / 529 ) .(126/156)
[21] - قائل هذا البيت هو : عبد الله بن سليمان الأشعث ، أبو بكر بن أبي داود السجستاني الحافظ ، ابن صاحب السنن الإمام المشهور ، قد طاف به أبيه في صغره مشارق الأرض ومغاربها ، فسمع من علماء ذلك العصر ، فأصبح من جل المحدثين وفقهائهم ، له تصانيف عدة منها : المصاحف ، والبعث والنشور ، ومسند عائشة ، وله شعر مليح ، منه قصيدته في الاعتقاد " الحائية " ، وهي متواترة عنه ، عكف العلماء على شرحها ، كالآجري ، وابن البناء الحنبلي ، وآخرهم السفاريني في شرح له أسماه : " لوائح الأنوار السَّنية ولواقح الأفكار السُّنية شرح قصيدة ابن أبي داود الحائية " ، وقد أُخِذَ على أبي بكر أشياء لا تقدح في حفظه وعلمه وفضله لعدم ثبوتها ، مات سنة 316 هـ . ذكر أخبار أصبهان لأبي نعيم ( 2 / 66 ) ، طبقات الحنابلة لأبي يعلى ( 2 / 51 ) ، تاريخ دمشق لابن عساكر ( 29 / 77 ) ، العلو ( ص 154 ) ، والسير ( 13 / 221 ) كلاهما للذهبي ، والفهرست لابن النديم ( ص 488 ) .
[22] - البيت موجود في : الكتاب اللطيف لابن شاهين ( ص 255 ) وهو من تلامذة المترجَم ، والمنهج الأحمد للعليمي ( 2 / 216 ) ، وطبقات الحنابلة لأبي يعلى ( 2 / 53 ) ، والسير للذهبي ( 13 / 235 ) .
[23] - أخرجه مسلم ( 218 ) ،
[24] - أخرجه الحاكم في المستدرك ( 3 / 260 ) برقم ( 5034 ) .
[25] - أخرجه البخاري ( 5328 ) ومسلم ( 2576 ) ،
[26] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 518 ) ، ( 18 / 313 ، 314 ) ،
[27] - أخرجه البخاري ( 1301 ) ومسلم ( 949 ) ،
[28] - أخرجه البخاري ( 2583 ) ،
[29] - هذه القصة أخرجها البخاري في صحيحه ( 2583 ) .
[30] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 393 – 394 ) ،
[31] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 17 / 420 ) ،
[32] - العقيدة الواسطية ص 48 ،(126/157)
[33] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 13 / 97 – 98 ، 359 ) ( 35 / 50 – 51 ) ،
[34] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 431 ، 437 ) ( 35 / 18 – 32 ، 58 – 79 ) ،
[35] - قواعد ابن رجب ص 3 ،
[36] - أخرجه البخاري ( 6919 ) ومسلم ( 1716 ) ،
[37] - أخرجه البخاري ( 436 ) ومسلم ( 2915 ) ،
[38] - أصول السنة لابن أبي زمنين ص 263 وعقيدة السلف للصابوني ص 107 وشرح العقيدة الواسطية للشيخ محمد خليل هراس ص 236 – 237 ومعارج القبول للشيخ حافظ الحكمي ( 3 / 1126 ) ،
[39] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 10 / 357 ) ،
[40] - أخرجه البخاري ( 2509 ) ومسلم ( 2533 ) ،
[41] - أخرجه مسلم ( 249 ) ،
[42] - أخرجه البخاري ( 454 ) ومسلم ( 2382 ) ،
[43] - أخرجه البخاري ( 1124 ) ومسلم ( 721 ) ،
[44] - أخرجه الترمذي ( 2676 ) وابن ماجة ( 42 ) وأحمد ( 16692 ) والدارمي ( 95 ) وصححه العلامة الألباني في إرواء الغليل برقم 2455 ،
[45] - بغية المرتاد ص 496– 498 ،
[46] - أخرجه البخاري ( 6183 ) ومسلم ( 2829 ) ،
[47] - أخرجه البخاري ( 2845 ) ومسلم ( 2494 ) ،
[48] - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 292 التحفة العراقية ص 335 ،
[49] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 2 / 224 ) ( 11 / 64 ) ( 25 / 316 ) ، والفتاوى الكبرى ( 1 / 206 ) ( 4 / 221 ) ،
[50] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 280 ) والفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 315 ،
[51] - النبوات ( 2 / 823 – 824 ) ،
[52] - انظر مراتب خوارق العادة عند شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه النبوات ( 1 / 141 ، 160 ) وأنواع الخوارق في مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 11 / 319 – 320 ، 323 – 329 ) والصفدية ( 1 / 183 ) ،(126/158)
[53] - الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ( 5 / 412 – 421 ) والنبوات ( 2 / 828 – 829 ، 848 ) ،
[54] - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 327 ،
[55] - أقسام أهل خوارق العادة عند شيخ الإسلام ابن تيمية في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 342 والتحفة العراقية ص 336 ،
[56] - النبوات ( 1 / 142 ) ،
[57] - أخرجه مسلم ( 55 ) ،
[58] - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 309 ،
[59] - النبوات ( 1 / 129 – 130 ) وشرح العقيدة الطحاوية ص 498 ،
[60] - الرسالة التدمرية ص 102 – 103 ،
[61] - أخرجه النسائي ( 1374 ) وأبو داود ( 1047 ) وابن ماجة ( 1085 ) وأحمد ( 15729 ) والدارمي ( 1572 ) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ( 1 / 322 ) برقم 1094 ،(126/159)
[62] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 4 / 343 – 345 ، 352 – 392 ) ( 10 / 300 ) ( 11 / 95 ) وبغية المرتاد ص 223 والرد على البكري ص 329 – 330 وشرح العقيدة الطحاوية ص 301 والمحلى لابن حزم ( 1 / 33 ) والمبسوط للسرخسي ( 1 / 30 – 31 ) وبدائع الصنائع للكاساني ( 1 / 214 – 215 ) وقواعد الأحكام للعز بن عبدالسلام ( 2 / 232 – 233 ) والفروق للقرافي ( 2 / 224 – 226 ) وكشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري ( 2 / 119 ) وتبيين الحقائق للزيلعي ( 1 / 126 – 127 ) وفتح القدير لابن الهمام ( 4 / 198 ) وحاشيتان قليوبي وعميرة ( 1 / 8 ) وفتاوى الرملي ( 4 / 381 ) والبحر الرائق لابن نجيم ( 4 / 353 ) والفواكه الدواني للنفراوي ( 1 / 14 ) وبريقة محمودية للخادمي ( 1 / 249 ) وحاشية العدوي ( 1 / 21 – 22 ) وحاشية البجيرمي على الخطيب ( 1 / 40 ، 185 ) وحاشية العطار ( 2 / 474 – 475 ) وحاشية ابن عابدين ( 1 / 527 – 528 ) ولوامع الأنوار البهية للسفاريني ( 2 / 399 ) وفتح القدير للشوكاني ( 2 / 118 ) والجامع لأحكام القرآن القرطبي ( 6 / 277 ) وعالم الملائكة الأبرار للشيخ عمر الأشقر ص 84 وما بعدها ،
[63] - انظر كلام شيخ الإسلام في شبهة التجسيم في : بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 9 ، 29 ، 50 ، 100 ، 505 وما بعدها ، 550 ، 618 ) ( 2 / 93 ) والرسالة التدمرية ص 35 ، 120 ، 133 ومجموع الفتاوى ( 4 / 144 ) ( 5 / 176 ، 418 – 419 ، 428 – 434 ) ( 13 / 146 ) ) والرد على المنطقيين ص 224 وما بعدها والفتوى الحموية الكبرى ص 54 ،
[64] - أخرجه البخاري ( 6970 ) ومسلم ( 2675 ) ،(126/160)
[65] - هو صلاءة بن عمرو بن مالك الأودي ، ويكنى أبا ربيعة ، ولقبه الأفوه ، لأنه كان حسن الكلام ، وقيل لأنه غليظ الشفتين واسع الفم ، وهو جاهلي قديم ، وذكر بعض المؤرخين أنه أدرك المسيح عليه السلام ، وهو قول ضعيف ، ويعد أول من ذكر في شعره الطير التي تتبع الجيش لتصيب من لحوم القتلى ، مات نحو 50 ق هـ ( 750 م ) ، الأغاني لأبي الفرج ( 12 / 198 ) ، سمط اللآلي للبكري ( 1 / 365 ) ، معاهد التنصيص للعباسي ( 4 / 104 ) ، أمالي ابن الشجري ( 3 / 137 ) ، شعراء النصرانية قبل الإسلام للويس شيخو ( ص 70 ) ، شمس العلوم للحميري ( 8 / 5279 ) ، سر صناعة الإعراب لابن جني ( 1 / 415 ) ، ألقاب الشعراء لابن حبيب (2 / 351 ـ ضمن نوادر المخطوطات ) .
[66] - البيت موجود في : الشعر والشعراء لابن قتيبة ( 1 / 223 ) ، ولباب الآداب لابن قنفذ ( ص 40 ) ، والتمثيل والمحاضرة للثعالبي ( ص 51 ) .
[67] - قال الحافظ ابن حجر : ( المراد بالإمام كل قائم بأمور الناس ) فتح الباري ( 6 / 116 ) ويطلق عليه الخليفة والحاكم انظر الفتح ( 13 / 111 – 119 ) ،
[68] - بدائع الصنائع للكاساني ( 7 / 33 ) وتبيين الحقائق للزيلعي ( 3 / 163 ) ونصب الراية للزيلعي ( 4 / 89 – 93 ) والعناية شرح الهداية للبابرتي ( 5 / 208 – 212 ) وفتح القدير لابن الهمام ( 5 / 208 – 213 ) والبحر الرائق لابن نجيم ( 5 / 2 – 3 ) وكشاف القناع للبهوتي ( 6 / 78 ) ومجمع الأنهر لدامادا أفندي ( 1 / 584 ) وحاشية الجمل ( 5 / 136 ) وحاشية البجيرمي على الخطيب ( 4 / 167 ) ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 6 / 158 ) وحاشية ابن عابدين ( 4 / 3 ) والموسوعة الفقهية ( 12 / 254 ) ( 17 / 129 – 130 ) ( 33 / 259 – 260 ) ،
[69] - وهو قول الشافعي وابن حزم الظاهري انظر الأم للشافعي ( 7 / 27 ، 94 ) والمحلى لابن حزم (8 / 529 – 530 ) ،(126/161)
[70] - وهو قول أبو حنيفة ومالك وأحمد انظر فتح القدير لابن الهمام ( 5 / 316 ) والمنتقى شرح الموطأ للباجي ( 5 / 207 ) ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 6 / 616 ) ،
[71] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 14 / 118 ) ( 34 / 204 ، 214 ) ومنهاج السنة النبوية ( 6 / 82 – 83 ) والفروق للقرافي ( 1 / 215 – 216 ) ومشكل الآثار للطحاوي ( 3 / 237 – 240 ) شرح معاني الآثار للطحاوي ( 3 / 152 ) والأحكام السلطانية للماوردي ص 294 – 295 ، 313 والمحلى لابن حزم ( 12 / 83 – 86 ، 172 ، 364 – 367 ) وأحكام القرآن للجصاص ( 378 – 380 ) والبحر الرائق لابن نجيم ( 6 / 235 ) ومواهب الجليل للحطاب ( 1 / 90 ) وحاشيتا قليوبي وعميرة ( 4 / 205 ) وسبل السلام ( 2 / 455 ) ونيل الأوطار ( 7 / 169 ) ،
[72] - الفتاوى الكبرى ( 3 / 427 – 429 ) والسياسة الشرعية ص 139 – 142 ، 156 – 157 وإعلام الموقعين لابن القيم ( 2 / 83 – 84 ) والمحلى لابن حزم ( 12 / 364 – 367 ) والمغني لابن قدامة ( 9 / 173 ) وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد ( 2 / 249 – 250 ) والإنصاف للمرداوي ( 10 / 229 – 230 ) وسبل السلام للصنعاني ( 2 / 443 – 445 ، 455 ) ونيل الأوطار للشوكاني ( 7 / 169 - 170 ) والموسوعة الفقهية ( 15 / 245 – 246 ) والمبسوط للسرخسي ( 9 / 71 – 72 ) ،
[73] - أخرجه مسلم ( 1706 ) ،
[74] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 10 / 374 ) ( 12 / 498 ) ( 35 / 76 ) ،(126/162)
[75] - لمزيد من الفائدة في حكم الساحر انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 28 / 346 ) ( 29 / 384 ) والمغني لابن قدامة ( 9 / 34 – 38 ) والفروع لابن مفلح ( 6 / 177 – 180 ) والإنصاف للمرداوي ( 9 / 440 – 441 ، 10 / 353 ) ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 6 / 293 ) والسياسة الشرعية ص 154 – 157 وأحكام القرآن للجصاص ( 1 / 71 – 79 ) والتاج والإكليل للمواق ( 8 / 376 ) والموسوعة الفقهية ( 24 / 266 – 269 ) ،
[76] - أخرجه الترمذي ( 1460 ) ،
[77] - الموسوعة الفقهية ( 12 / 254 – 256 ) ،
[78] - أخرجه البخاري ( 3288 ) ومسلم ( 1688 ) ،
[79] - أخرجه البخاري ( 3288 ) ومسلم ( 1688 ) .
[80] - أخرجه البخاري ( 6528 ) ومسلم ( 2165 ) .
[81] - أخرجه البخاري ( 2311 ) ومسلم ( 2584 ) .
[82] - أخرجه البخاري ( 4277 ) ومسلم ( 1711 ) ،
[83] - الدرر السنية في الأجوبة النجدية ( 9 / 7 – 11 ) ،
[84] - الرد على البكري ص 329 – 330 ،
[85] - المغني لابن قدامة ( 6 / 313 ) ،
[86] - المغني لابن قدامة ( 2 / 346 ) ،
[87] - شرح معاني الآثار للطحاوي ( 3 / 276 ) وأحكام القرآن للجصاص ( 3 / 91 وما بعدها ) والمحلى لابن حزم ( 5 / 392 ) ،
[88] - شرح معاني الآثار للطحاوي ( 3 / 281 – 282 ) وأحكام القرآن للجصاص ( 3 / 96 – 97 ، 292 ) وأحكام القرآن لابن العربي ( 2 / 402 ، 409 ) والمغني لابن قدامة ( 6 / 317 ) ،
[89] - أخرجه البخاري ( 2586 ) ومسلم ( 1633 ) .
[90] - أخرجه البخاري ( 2950 ) ،
[91] - وهو الخميني أسس ولاية الفقيه في كتابه ( ولاية الفقيه ) ،
[92] - المغني لابن قدامة ( 9 / 5 – 6 ) ،
[93] - الأحكام السلطانية للماوردي ص 6 والمغني لابن قدامة ( 9 / 5 – 6 ) ونيل الأوطار للشوكاني ( 6 / 62 ) والموسوعة الفقهية ( 6 / 221 – 222 ) ( 7 / 116 – 117 ) ( 9 / 280 ) ،
[94] - الأحكام السلطانية للماوردي ص 11 – 12 ،(126/163)
[95] - المغني لابن قدامة ( 9 / 5 – 6 ) ،
[96] - فتح الباري لابن حجر ( 2 / 187 ) ( 3 / 275 ) ( 6 / 284 ) ( 13 / 7 – 8 ، 11 ، 116 ، 203 ) ،
[97] - هذا هو الشرط الأول من شروط الإمامة الكبرى انظر حاشية ابن عابدين ( 1 / 548 – 549 ) والفواكه الدواني للنفراوي ( 1 / 106 ) ونهاية المحتاج للرملي ( 7 / 409 ) الموسوعة الفقهية ( 6 / 218 – 219 ) ،
[98] - الموسوعة الفقهية ( 6 / 218 – 219 ) ،
[99] - أحكام القرآن للجصاص ( 2 / 14 ) والأحكام السلطانية للماوردي ص 6 والمحلى لابن حزم ( 8 / 425 – 426 ) وقواعد الأحكام للعز بن عبدالسلام ( 1 / 79 ، 85 – 87 ، 107 ) ( 2 / 44 – 45 ، 89 ) والفروق للقرافي ( 4 / 34 – 35 ، 67 – 68 ) والفتاوى الكبرى ( 3 / 125 / 126 ) والاستقامة ( 1 / 364 ) والسياسة الشرعية ص 24 والموسوعة الفقهية ( 6 / 6 – 7 ) ،
[100] - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي ( 2 / 77 ) معالم القربة للقرشي ( 211 ) وكشف الأسرار لعبد العزيز البخاري ( 2 / 393 ) والموسوعة الفقهية ( 7 / 2 ) وشرح التلويح على التوضيح للتفتازاني ( 2 / 11 – 12 ) ،
[101] - الأحكام السلطانية للماوردي ص 6 – 7 ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 6 / 264 ) والموسوعة الفقهية ( 26 / 319 ) ،
[102] - الأحكام السلطانية للماوردي ص 6 – 7 والمحلى لابن حزم ( 8 / 425 ) والموسوعة الفقهية ( 6 / 190 ) ،
[103] - هذا هو الشرط السادس من شروط الإمامة الكبرى ،(126/164)
[104] - الأحكام السلطانية للماوردي ص 6 – 7 والمحلى لابن حزم ( 1 / 65 ) ( 8 / 420 – 421 ) وطرح التثريب للعراقي ( 8 / 77 – 80 ) والإنصاف للمرداوي ( 10 / 310 ) وكشاف القناع للبهوتي ( 6 / 159 ) ومجمع الأنهر لدامادا أفندي ( 1 / 357 ) وغمز عيون البصائر للحموي ( 4 / 111 ، 147 ) وحاشية الجمل ( 5 / 119 – 120 ) وحاشية البجيرمي على الخطيب ( 4 / 235 ) وحاشية البجيرمي على المنهج ( 4 / 204 ) وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير ( 4 / 130 ) وحاشية الصاوي على الشرح الصغير ( 4 / 424 – 427 ) ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 6 / 264 ) وحاشية ابن عابدين ( 1 / 548 ) ومنح الجليل ( 8 / 263 – 264 ) والموسوعة الفقهية ( 6 / 219 )
[105] - غمز عيون البصائر للحموي ( 4 / 111 ) ،
[106] - كشاف القناع للبهوتي ( 6 / 159 ) وحاشيتان قليوبي وعميرة على شرح المحلي على المنهاج ( 4 / 174 ) ،
[107] - هذا هو الشرط الثامن من شروط الإمامة الكبرى أسنى المطالب لزكريا الأنصاري ( 4 / 108 ) ومغني المحتاج للشربيني الخطيب ( 5 / 410 – 417 ) ونهاية المحتاج للرملي ( 7 / 409 ) والفتاوى الهندية ( 3 / 317 ) والموسوعة الفقهية ( 8 / 196 – 197 ) ،
[108] - السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية ص 24 ،
[109] - هذا هو الشرط العاشر من شروط الإمامة الكبرى انظر غمز عيون البصائر للحموي ( 4 / 147 ) ،
[110] - المغني لابن قدامة ( 9 / 57 ) الإنصاف للمرداوي ( 10 / 182 – 183 ) والفروع لابن مفلح ( 6 / 75 ) ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 6 / 187 – 188 )
[111] - وهو قول أبو حنيفة وأحمد المبسوط للسرخسي ( 1 / 150 ) والمصنف لابن أبي شيبة ( 2 / 197 ) ،
[112] - وهو قول مالك والشافعي وأحمد التاج والإكليل للمواق ( 2 / 384 ) كتاب الأم للشافعي ( 1 / 86 ) والإنصاف للمرداوي ( 2 / 176 ) والمصنف لابن أبي شيبة ( 2 / 195 – 196 )(126/165)
[113] - المصنف لابن أبي شيبة ( 2 / 197 – 198 ) ( 8 / 410 – 411 ) وأحكام القرآن للجصاص ( 1 / 605 ) ،
[114] - أخرجه البخاري ( 953 ) ومسلم ( 751 ) ،
[115] - وهو قول أبو حنيفة الشافعي وابن حزم أسنى المطالب لزكريا الأنصاري ( 3 / 381 ) المحلى لابن حزم ( 12 / 253 – 257 ) ،
[116] - وهو قول مالك وأحمد المدونة لسحنون ( 4 / 513 – 514 ) والإنصاف للمرداوي ( 10 / 200 – 201 ) ،
[117] - أخرجه مسلم ( 2167 ) ،
[118] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 30 / 356 – 360 ) ،
[119] - الفصول في الأصول للجصاص ( 39 – 40 ) والجوهرة النيرة للعبادي ( 2 / 257 ) ،
[120] - أحكام القرآن لابن العربي ( 1 / 383 ) ،
[121] - شرح ألفية ابن مالك لابن الناظم ( ص 495 ) ،
[122] - المبسوط للسرخسي ( 30 / 262 – 263 ) ،
[123] - المنثور في القواعد الفقهية للزركشي ( 1 / 339 – 340 ) ( 3 / 39 – 40 ) والبحر المحيط للزركشي ( 1 / 332 – 333 ، 390 ) والأشباه والنظائر للسيوطي ص 144 ، 410 – 411 وأسنى المطالب لزكريا الأنصاري ( 4 / 177 ، 182 ) وحاشيتا قليوبي وعميرة ( 4 / 214 ) وشرح الكوكب المنير ص 117 والموسوعة الفقهية ( 32 / 97 ) ،(126/166)
[124] - شرح معاني الآثار للطحاوي ( 3 / 24 ) والمحلى لابن حزم ( 9 / 128 – 129 ) والمنتقى شرح الموطأ للباجي ( 3 / 334 – 335 ) والمبسوط للسرخسي ( 5 / 152 – 153 ) وأحكام القرآن لابن العربي ( 1 / 499 ) والمغني لابن قدامة ( 7 / 136 – 137 ) وإحكام الأحكام لابن دقيق العيد ( 2 / 176 ) والفتاوى الكبرى ( 3 / 261 ) ( 6 / 244 ، 251 ) وتبيين الحقائق للزيلعي ( 2 / 115 ) ونصب الراية للزيلعي ( 3 / 333 – 339 ) والعناية شرح الهداية للبابرتي ( 3 / 246 – 248 ) والمنثور في القواعد الفقهية للزركشي ( 2 / 135 – 136 ) والتلخيص الحبير لابن حجر ( 3 / 325 – 329 ) وفتح القدير لابن الهمام ( 3 / 247 – 249 ) والبحر الرائق لابن نجيم ( 3 / 115 – 116 ) وكشاف القناع للبهوتي ( 5 / 97 ) وحاشية البيجرمي على شرح الخطيب ( 3 / 397 ) وحاشية البيجرمي على المنهج ( 3 / 379 ) ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 5 / 128 ) ونيل الأوطار للشوكاني ( 6 / 159 – 165 ) وفتح العلي المالك لعليش ( 1 / 415 – 416 ) ومنح الجليل لعليش ( 3 / 304 ) ومصنف ابن أبي شيبة ( 3 / 390 ) ،
[125] - أخرجه البخاري ( 4826 ) ،
[126] - الفتاوى الكبرى ( 1 / 160 ) والفروع لابن مفلح ( 2 / 17 ) والبحر المحيط للزركشي ( 6 / 158 ) وشرح منتهى الإرادات للبهوتي ( 1 / 275 ) وكشاف القناع للبهوتي ( 1 / 479 ) ومطالب أولي النهى للرحيباني ( 1 / 663 – 664 ) ، ( 5 / 263 ) وفتح المجيد للشيخ عبدالرحمن بن حسن بن محمد بن عبدالوهاب ( 2 / 646 ) والموسوعة الفقهية ( 13 / 164 – 165 ) ،
[127] - المحلى لابن حزم ( 1 / 152 ) والمغني لابن قدامة ( 4 / 174 ) والمجموع شرح المهذب للنووي ( 9 / 81 ) والبحر المحيط للزركشي ( 1 / 338 ) ومواهب الجليل لعليش ( 3 / 208 ) ونيل الأوطار للشوكاني ( 5 / 169 ) ،
[128] - بدائع الصنائع للكاساني ( 1 / 266 ) ،(126/167)
[129] - أخرجه البخاري ( 6858 ) ومسلم ( 1337 ) ،
[130] - أخرجه البخاري ( 1066 ) ،
[131] - أخرجه أبو داود ( 4336 ) ،
[132] - أخرجه مسلم ( 49 ) ،
[133] - أخرجه مسلم ( 1218 ) ،
[134] - أخرجه البخاري ( 3094 ) ومسلم ( 2989 ) ،
[135] - لمزيد من الفائدة انظر الرسالة التدمرية لوشرحها ( التحفة المهدية ) للشيخ فالح ابن مهدي ونقض المنطق والرد على المنطقيين ،
[136] - الرد على المنطقيين ص 194 ،
[137] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 80 ) ،
[138] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 9 / 82 ) ،
[139] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 9 / 5 – 9 ، 172 ، 269 – 270 ) ونقض المنطق ص 155 ، 168 – 169 ،
[140] - كتاب الإيمان ص 34 ،
[141] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 9 / 255 ) ،
[142] - البحر الرائق لابن نجيم ( 1 / 232 ) وشرح الكوكب المنير لابن النجار ص 15 ومغني المحتاج للشربيني الخطيب ( 3 / 398 ) وغمز عيون البصائر للحموي ( 2 / 313 ) والفواكه الدواني للنفراوي ( 1 / 112 ) وحاشة الجمل ( 1 / 170 ) ( 2 / 4 ) ( 4 / 414 ) وحاشية البجيرمي على الخطيب ( 1 / 70 ، 312 ) ( 4 / 153 ) وحاشية البجيرمي على الخطيب ( 1 / 97 ، 374 ) ( 3 / 232 ) ( 4 / 56 ) والموسوعة الفقهية ( 1 / 62 ) ،
[143] - المستصفى للغزالي ص 10 – 11 ،
[144] - المستصفى للغزالي ص 10 ،
[145] - الفتاوى الكبرى ( 6 / 338 ، 365 ) والتسعينية ( 1 / 252 وما بعدها ) والمستصفى للغزالي ص 349 – 350 وكشف الأسرار لعبدالعزيز البخاري ( 2 / 362 ، 366 ) وشرح التلويح على التوضيح للتفتازاني ( 1 / 293 – 294 ) والبحر المحيط للزركشي ( 1 / 64 ) والتقرير والتحبير لابن أمير الحاج ( 2 / 232 ) ودرر الحكام لعلي حيدر ( 2 / 651 ، 671 ) ،
[146] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 505 ) ،
[147] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 506 ) ،(126/168)
[148] - أخرجه أبو داود ( 4699 ) وابن ماجة ( 77 ) وأحمد ( 21079 ) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن ابن ماجة ( 1 / 42 ) برقم 76 وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيمية على هذا الحديث في مجموع الفتاوى ( 1 / 217 ) ( 18 / 143 – 144 ) وكلام ابن القيم على هذا الحديث في شفاء العليل ص 217 وما بعدها ،
[149] - أخرجه البخاري ( 5349 ) ومسلم ( 2816 ) ،
[150] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 148 ) ،
[151] - بيان تلبيس الجهمية ( 1 / 214 ) ،
[152] - بغية المرتاد ص 427 ،
[153] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 267 ) ،
[154] - بيان تلبيس الجهمية ( 2 / 273 ) ،
[155] - البيت موجود في : شرح الملحة ( ص 278 ) له ،
[156] - الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر ( 1 / 158 ) ،
[157] - أخرجه البخاري ( 2509 ) ومسلم ( 2533 ) ،
[158] - أخرجه مسلم ( 983 ) ،
[159] - أخرجه النسائي ( 1221 ) وأبو داود ( 924 ) وأحمد ( 3934 ) وصححه العلامة الألباني في صحيح سنن النسائي ( 1 / 394 ) برقم 1220 ،
[160] - مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ( 5 / 535 ) ( 6 / 231 – 232 ) ( 8 / 152 ، 380 – 381 ) ( 16 / 382 ) والرد على المنطقيين ص 232 والصفدية ( 1 / 11 ) ،
[161] - أخرجه البخاري ( 3102 ) ومسلم ( 134 ) ،
[162] - أخرجه مسلم ( 408 ) .(126/169)
الاعتدال في الدعوة
محمد بن صالح العثيمين
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله الله تعالى بالهدى ودين الحق فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيسرني أن التقي بكم هذا اللقاء في موضوع هام يهم جميع المسلمين آلا وهو الدعوة إلى الله عز وجل.
قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(1)، والاستفهام في الآية بمعنى النفي أي لا احسن قولاً.
والغرض من الآتيان بالاستفهام في موضع النفي إفادة أمرين:
الأول: انتفاء هذا الشيء.
الثاني: تحدي المخاطب أن يأتي به، فالاستفهام مشرباً معنى التحدي أي إذا كان عندك شيء أحسن من هذا فأت به، ولكننا نقول لا أحد أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين.
والدعوة إلى الله تعالى هي الدعوة إلى شريعة الله الموصلة إلى كرامته. ودعوة الرسل عليه الصلاة والسلام، تدور على ثلاثة أمور:
أولاً: معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته.
ثانياً: معرفة شريعته الموصلة إلى كرامته.
ثالثاً: معرفة الثواب للطائعين والعقاب للعاصين.
والدعوة إلى الله تعالى أحد أركان الأعمال الصالحة التي لا يتم الربح بها كما قال الله تعالى: (وَالْعَصْرِ . إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ . إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ . وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ . وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).(127/1)
فإن التواصي بالحق يلزم منه الدعوة إلى الحق، والتواصي بالصبر يلزم منه الدعوة إلى الصبر على دين الله – عز وجل – في أصوله وفروعه.
إن الدعوة إلى الله – عز وجل – صارت الآن وما زالت بين طرفين ووسط.
أما الطرفان فجانب الإفراط، بحيث يكون الداعية شديداً في دين الله يريد من عباد الله – عز وجل – أن يطبقوا الدين بحذافيره ولا يتسامح عن شيء الدين يسمح به، بل إنه إذا رأى من الناس تقصيراً حتى في الأمور المستحبة تأثر تأثراً عظيماً وذهب يدعو هؤلاء القوم المقصرين دعاء الغليظ الجافي وكأنهم تركوا شيئاً من الواجبات ومن الأمثلة على ذلك:
* المثال الأول: رجل رأى جماعة من الناس لا يجلسون عند القيام إلى الركعة الثانية أو عند القيام إلى الركعة الرابعة، وهي التي تسمى عند أهل العلم جلسة الاستراحة، هو يرى أنها سنة ومع ذلك إذا رأى من لا يفعلها اشتد عليه وقال لماذا لا تفعلها؟ ويتكلم معه تكلم من يظهر من كلامه أنه يقول بوجوبها، مع أن بعض أهل العلم حكى الإجماع على أن هذه الجلسة ليست بواجبة وأن خلاف العلماء فيها دائر بين ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها مستحبة على الإطلاق.
القول الثاني: ليست مستحبة على الإطلاق.
القول الثالث: أنها مستحبة لمن كان يحتاج إليها حتى لا يشق على نفسه كالكبير والمريض ومن في ركبه وجع وما أشبه ذلك.
فيأتي بعض الناس ويشدد فيها ويجعلها كأنها من الواجبات.(127/2)
* المثال الثاني: بعض الناس يرى شخصاً إذا قام بعد الركوع ووضع يده اليمنى على اليسرى قال أنت مبتدع لابد أن تسدل يديك فإن وضعتهما على الصدر فإن ذلك من البدع والمنكرات، مع أن المسألة مسألة اجتهادية، وقد يكون الدليل مع من قال: إن اليدين توضعان بعد الركوع على الصدر كما توضعان قبله أيضاً على الصدر؛ لأن هذا هو مقتضى الحديث الذي رواه البخاري عن سهل بن سعد – رضي الله عنه – قال: "كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة".
* المثال الثالث: كذلك بعض الناس ينكر على من يصلي إذا تحرك أدنى حركة وإن كانت هذه الحركة مباحة وقد ورد في السنة ما هو مثلها أو أكثر فتجده ينكر عليه الإنكار العظيم، حتى إنه يجعل هذا الأمر هو محل الانتقاد في هؤلاء القوم مع أنها حركة مباحة جائزة ورد نظيرها أو ما هو أكثر منها في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا تشديد، وكان أبو جحيفة – رضي الله عنه – ذات يوم يصلي وقد أمسك زمام فرسه بيده فتقدمت الفرس فذهب رضي الله عنه، وهو يصلي يسايرها شيئاً فشيئاً حتى انتهى من صلاته فرآه رجل من طراز هذا المتشدد، فجعل يقول انظروا إلى هذا الرجل، انظروا إلى هذا الرجل، انظروا إلى هذا الرجل – وأبو جحيفة صحابي جليل، رضي الله عنه – فلما سلم أبو جحيفة بين لهذا الرجل أن مثل هذا العمل جائز وأنه لو ترك فرسه لذهبت ولم يحصل عليها إلى الليل، فانظر إلى الفقه في الشريعة والتسامح والتيسير فيها.(127/3)
وهذا النبي، صلى الله عليه وسلم، كان يصلي بأصحابه وهو يحمل إمامة بنت زينب بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم – يعني أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، جد هذه الطفلة – فكان يصلي بالناس يحمل هذه الطفلة إذا قام حملها وإذا سجد وضعها، صلى الله عليه وسلم، هذا فيه حركة، وفيه ملاطفة للطفلة، وفيه أنه يؤم الناس فقد يلتفت بعضهم لينظر ماذا كان للنبي، صلى الله عليه وسلم، مع هذه الطفلة ومع ذلك فالنبي، صلى الله عليه وسلم، وهو اتقى الناس لله – عز وجل – وأعلمهم بما يتقي كان يفعل ذلك.
* ومثال آخر: اجتمع نفر من أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فسألوا عن عمله في السر، فأخبروا بذلك فتقالوا عمل النبي، صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن النبي، صلى الله عليه وسلم، غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، ولكن نحن بحاجة إلى عمل أكثر ليغفر الله لنا ذنوبنا، فقال أحدهم: أنا أصوم ولا أفطر. وقال الثاني: أنا أقوم ولا أنام. وقال الثالث: أنا لا أتزوج النساء، فبلغ قولهم النبي، صلى الله عليه وسلم، فقال: "أما أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني" هذا كله يدل على أنه لا ينبغي لنا بل لا يجوز لنا أن نغلو في دين الله سواء في دعاء غيرنا إلى دين الله، أو في أعمالنا الخاصة بنا، بل نكون وسطاً مستقيماً كما أمرنا الله تعالى بذلك، وكما أمر بذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، فالله – عز وجل – يقول: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)(1)، والنبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم" وأخذ حصيات وهو في أثناء مسيره من مزدلفة إلى منى أخذ حصيات بكفه وجعل يقول: "يا أيها الناس بأمثال هؤلاء فارموا وإياكم والغلو في الدين".(127/4)
* وضد ذلك: من يتهاون في الدعوة إلى الله – عز وجل – فتجده يرى الفرص مواتية والمقام مناسباً للدعوة إلى الله ولكن يضيع ذلك، تارة يضيعه لأن الشيطان يملي عليه أن هذا ليس وقتاً للدعوة، أو أن هؤلاء المدعوين لن يقبلوا منك، أو ما أشبه ذلك من المثبطات التي يلقيها الشيطان في قلبه فيفوت الفرصة على نفسه.
وبعض الناس إذا رأى مخالفاً له بمعصية بترك أمر أو فعل محظور كرهه واشمأز منه وابعد عنه، وأيس من إصلاحه وهذه مشكلة والله سبحانه وتعالى بين لنا أن نصبر وأن نحتسب قال الله تعالى لنبيه: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ)(2). فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب ولو رأى على نفسه شيئاً من الغضاضة فليجعل ذلك في ذات الله عز وجل، والنبي، صلى الله عليه وسلم، عندما أدميت إصبعه في الجهاد قال هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت.
وهذا عكس الأول حتى إن هذا ليرى الأمر بعينه ويسمعه بأذنه يجد هذا الأمر المخالف لشريعة الله ولا يدع الناس إلى الاستقامة وعدم معصية الله – عز وجل – ومخالفته، بل إنا نسمع أن بعض الناس يقول:
يجب أن تجعل الأمة الإسلامية التي تنتسب إلى الإسلام وتتجه في صلاتها إلى القبلة يجب أن تكون طائفة واحدة غير متميزة، لا يفرق بين مبتدع وصاحب سنة، وهذا لا شك خط وخطل وخطر؛ لأن الحق يجب أن يميز عن الباطل، ويجب أن يميز أصحاب الحق عن أصحاب الباطل حتى يتبين، أما لو إندمج الناس جميعاً وقالوا نعيش كلنا في ظل الإسلام وبعضهم على بدعة قد تخرجه من الإسلام فهذا لا يرضى به أحد ناصح لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.(127/5)
ويوجد أناس يستطيعون الدعوة إلى الله لما عندهم، من العلم والبصيرة ويشاهدون الناس يخلون في أشياء ولكن يمنعهم خوف مسبة الناس لهم أو الكلام فيهم أن يقولوا الحق فتجدهم يقصرون ويفرطون في الدعوة إلى الله – عز وجل-. وهؤلاء إذا نظروا إلى القوم الوسط الذين تمسكوا بدين الله على ما هو عليه إذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء لضالون، إن هؤلاء لمتعمقون، إن هؤلاء لمتشددون متنطعون، مع أنهم على الحق.
وإذا نظر إليهم المفرطون الغالون قالوا أنتم مقصرون لم تقوموا بالحق ولم تغاروا لله – عز وجل -، ولهذا يجب أن لا نجعل المقياس في الشدة واللين هو ما تمليه علينا أهواؤنا وأذواقنا، بل يجب أن نجعل المقياس هدي النبي، صلى الله عليه وسلم، وهدى أصحابه، والنبي، صلى الله عليه وسلم، رسم لنا هذا بقوله وبفعله وبحاله، صلى الله عليه وسلم، رسمه لنا رسماً بيناً، فإذا دار الأمر بين أن اشتد أو اتيسر بمعنى أنني كنت في موقف حرج لا أدري الفائدة في الشدة أم الفائدة في التيسير والتسهيل فأيهما أسلك؟ أسلك طريق التيسير لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الدين يسر" ولما بعث معاذ أو أبا موسى الأشعري إلى اليمن قال: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا" ولما مر يهودي بالنبي، صلى الله عليه وسلم، فقال السام عليكم يا محمد – يريد الموت عليك لأن السام بمعنى الموت – وكان عند النبي، صلى الله عليه وسلم، عائشة رضي الله عنها فقالت "عليك السام واللعنة" فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام، "إن الله رفيق يحب الرفق وإن الله ليعطي بالرفق مالا يعطي على العنف"، فإذا أخذنا بهذا الحديث في الجملة الأخيرة منه: "إن الله ليعطي بالرفق مالا يعطي على العنف" عرفنا أنه إذا دار الأمر بين أن استعمل الشدة أو استعمل السهولة كان الأولى أن استعمل السهولة ثقة بقول الرسول، عليه الصلاة والسلام: "إن الله ليعطي بالرفق مالا يعطي على العنف" ومن أراد أن يفهم هذا(127/6)
الأمر فليجرب، لأنك إذا قابلت المدعو بالشدة إشمأز ونفر وقابلك بشدة مثلها، إن كان عامياً قال عندي علماء اعلم منك، وإن كان طالب علم ذهب يجادلك حتى بالباطل الذي تراه مثل الشمس وهو يراه مثل الشمس ولكنه يأبى إلا أن ينتصر لنفسه، لأنه لم يجد منك رفقاً وليناً، ودعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة. والحق لا يخفى إلا على أحد رجلين: إما معرض وإما مستكبر، أما من أقبل على الحق بإذعان وانقياد فإنه بلا شك سيوفق له.
ومن التطرف ما يكون من الآباء والأمهات في زمننا هذا حين صار الشباب – ولله الحمد – من ذكور وإناث عندهم اتجاه إلى العمل بالسنة بقدر المستطاع، صار بعض الآباء والأمهات يضايقون هؤلاء الشاب من بنين وبنات في بيوتهم، وفي أعمالهم حتى إنهم لينهونهم عن المعروف مع أنه لا ضرر على الآباء في فعله ولا ضرر على الأبناء أو البنات في فعل هذا المعروف، كمن يقول لأولاده لا تكثروا النوافل لا تصوموا البيض، أو الاثنين، أو الخميس، أو ما أشبه ذلك، مع أن هذا لا يضر الوالدين شيئاً ولا يحول دون قضاء حوائجهما، وليس بضار على الابن في عقله، أو بدنه، أو في دروسه ولا على البنت كذلك. وأنا أخشى على هؤلاء القوم أن يكون هذا النهي منهم لأولادهم كراهة للحق والشريعة وهذا على خطر، فالذي يكره الحق أو الشريعة ربما يؤدي به ذلك إلى الردة لأن الله تعالى يقول: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ)(1)، ولا تحبط الأعمال إلا بردة عن الإسلام كما قال الله تعالى: (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(1) هذا مثال من الشدة في أولياء الأمور.(127/7)
أما بالنسبة للأولاد من بنين أو بنات إذا كانوا متمشين في منهاجهم وسيرهم على شريعة الله فليسوا في شدة.
* وهناك في المقابل من يكون شديداً من الأولاد بنين وبنات عل أهله بحيث لا يتسع صدرهم لما يكونون عليه من الأمور المباحة فتجده يريد من أبيه أو أمه أو اخوته أو اخوته أن يكونوا على المستوى الذي هو عليه من الالتزام بشريعة الله، وهذا غير صحيح، الواجب عليك إذا رأيتهم على منكر أن تنهاهم عن المنكر، أما إذا رأيتهم قد قصروا في أمر يسعهم التقصير فيه كترك بعض المستحبات فإنه لا ينبغي لك أن تشتد معهم، وكذلك في بعض الأمور الخلافية يجب عليك إذا كانوا مستندين إلى رأي أحد من أهل العلم أن لا تضيق بهم ذرعاً وأن لا تشتد عليهم.
فالذي ينبغي للإنسان سواء كان داعية لغيره إلى الله أم متعبداً لله أن يكون بين الغلو والتقصير مستقيماً على دين الله – عز وجل – كما أمر الله – عز وجل – بذلك في قوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ)(2).
وإقامة الدين الإتيان به مستقيماً على ما شرعه الله – عز وجل -، ولا تتفرقوا فيه نهى عن ذلك سبحانه وتعالى لأن التفرق خطره عظيم على الأمة أفراداً وجماعات.(127/8)
والتفرق أمر مؤلم ومؤسف لأن الناس إذا تفرقوا كما قال الله تعالى: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم)(3)، فإذا تفرق الناس وتنازعوا فشلوا وخسروا وذهبت ريحهم ولم يكن لهم وزن وأعداء الإسلام ممن ينتسبون للإسلام ظاهراً، أو ممن هم أعداء للإسلام ظاهراً وباطناً يفرحون بهذا التفرق وهم الذي يشعلون ناره ويلقون العداوة والبغضاء بين هؤلاء الأخوة الدعاة إلى الله – عز وجل – فالواجب أن نقف ضد كيد هؤلاء المعادين لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولدينه، وأن نكون يد واحدة، وأن نكون اخوة متآلفين على كتاب الله، وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، كما كان سلف الأمة في سيرهم ودعوتهم إلى الله – عز وجل -، ومخالفة هذا الأصل ربما تؤدي إلى انتكاسة عظيمة، والتفرق هو قرة عين شياطين الأنس والجن؛ لأن شياطين الأنس والجن لا يودون من أهل الحق أن يجتمعوا على شيء، بل يريدون أن يتفرقوا لأنهم يعلمون أن التفرق تفتت للقوة التي تحصل بالالتزام بالوحدة والاتجاه إلى الله – عز وجل – ويدل هذا قوله تعالى:(وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم)(1)، وقوله: (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(2)، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ)(3)، وقوله: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيه)(4)، فالله تعالى قد نهانا عن التفرق وبين لنا عواقبه الوخيمة، والواجب علينا أن نكون أمة واحدة، وكلمة واحدة، وإن اختلفت آرائنا في بعض المسائل، أو في بعض الوسائل؛ فالتفرق فساد وشتات للأمر، وموجب للضعف، والصحابة رضوان الله عليهم(127/9)
حصل بينهم الاختلاف لكن لم يحصل منهم التفرق ولا العداوة ولا البغضاء حصل بينهم الاختلاف حتى في عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك أن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال لأصحابه: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة " . وخرجوا رضوان الله عليهم من المدينة إلى بني قريظة وحان وقت صلاة العصر، فاختلف الصحابة فمنهم من قال: لا نصلي إلا في بني قريظة ولو غابت الشمس لأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة" فنقول سمعنا واطعنا.
ومنهم من قال إن النبي، عليه الصلاة والسلام، أراد بذلك المبادرة والإسراع إلى الخروج وإذا حان الوقت صلينا الصلاة لوقتها. فبلغ ذلك النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يعنف أحداً منهم ولم يوبخه على ما فهم، وهم بأنفسهم لم يتفرقوا من أجل اختلف الرأي في فهم حديث الرسول، عليه الصلاة والسلام. وهكذا يجب علينا أن لا نتفرق وأن نكون أمة واحدة. قد يقول قائل: إذا كان المخالف صاحب بدعة فكيف نتعامل معه؟
فأقول: إن البدع تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: بدع مكفرة.
القسم الثاني: بدع دون ذلك.
وفي كلا القسمين الواجب علينا أن ندعو هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ومعهم البدع المكفرة وما دونها إلى الحق ببيان الحق دون أن نهاجمهم عليه إلا بعد أن نعلم منهم الاستكبار عن قبول الحق لأن الله تعالى يقول للنبي، صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(1)، فندعوا أولاً هؤلاء إلى الحق ببيان الحق وإيضاحه بأدلته والحق مقبول لدى ذي كل فطرة سليمة، فإذا وجد منهم العناد والاستكبار فإننا نبين باطلهم على أن بيان باطلهم في غير المجادلة معهم أمر واجب.(127/10)
أما هجرهم فهذا يترتب على البدعة؛ فإذا كانت البدعة مكفرة وجب هجرهم، وإذا كانت دون ذلك فإننا ننظر فإن كان في هجرهم مصلحة فعلناه، وإن لم يكن فيه مصلحة اجتنبناه، وذلك أن الأصل في المؤمن تحريم هجره لقول النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل مؤمن أن يهجر أخاه فوق ثلاث" فكل مؤمن وإن كان فاسقاً فإنه يحرم هجره ما لم يكن في الهجر مصلحة فإذا كان في الهجر مصلحة هجرناه؛ لأن الهجر دواء، أما إذا لم يكن فيه مصلحة، أو كان فيه زيادة في المعصية والعتوا فإن ما لا مصلحة فيه تركه هو المصلحة.
وحل هذه المشكلة: أعني مشكلة التفرق – أن نسلك ما سلكه الصحابة رضي الله عنهم، وأن نعلم أن هذا الخلاف الصادر عن اجتهاد في مكان يسوغ فيه الاجتهاد لا يؤثر بل إنه في الحقيقة وفاق لنا لأن كل واحد منا أخذ بما رأى بناءً على أنه هو مقتضى الدليل، إذاً فمقتضى الدليل أمامنا جميعاً، وكل منا لم يأخذ برأيه إلا لأنه مقتضى الدليل فالواجب على كل واحد منا أن لا يكون في نفسه على أخيه شيء، بل الواجب أن يحمده على ما ذهب إليه لأن هذه المخالفة مقتضى الدليل عنده.
ولو أننا الزمنا أحدنا أن يأخذ بقول الآخر لكن إلزامي إياه أن يأخذ بقولي ليس بأولى من إلزامه إياي أن أخذ بقوله، فالواجب أن نجعل هذا الخلاف المبني على اجتهاد أن نجعله وفاقاً حتى تجتمع الكلمة ويحصل الخير.
وإذا حسنت النية سهل العلاج، أما إذا لم تسحن النية وكان كل واحد معجباً برأيه ولا يهمه غيره فإن النجاح سيكون بعيداً.
وقد أوصى الله عباده بالاتفاق فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)(1) فإن هذه الآية موعظة للإنسان أي موعظة.(127/11)
أسأل الله تعالى أن يجعلني وإياكم من الهداة المهتدين والصلحاء المصلحين إنه جواد كريم. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
---
(1) سورة فصلت الآية: 33.
(1) سورة الأنعام الآية: 153.
(2) سورة الأحقاف الآية: 35.
(1) سورة محمد، الآية: 9.
(1) سورة البقرة، الآية: 217.
(2) سورة الشورى، الآية: 13.
(3) سورة الأنفال، الآية: 46.
(1) سورة الأنفال، الآية: 46.
(2) سورة آل عمران، الآية: 105.
(3) سورة الأنعام، الآية: 159.
(4) سورة الشورى، الآية: 13.
(1) سورة الأنعام، الآية: 108.
(1) سورة آل عمران، الآيتان: 102 – 103.(127/12)
الخلاف بين العلماء
مقدمة
محمد بن صالح العثيمين
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلِّم تسليماً.
{يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }. {يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَآءَلُونَ بِهِ وَالاَْرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً }. {يأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَلَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً }، أما بعد:
فإنه قد يثير هذا الموضوع التساؤل لدى الكثيرين، وقد يسأل البعض: لماذا هذا الموضوع وهذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟ ولكن هذا العنوان وخاصة في وقتنا الحاضر يشغل بالَ كثيرٍ من الناس، لا أقول من العامة بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثّها بين الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير من الناس، لاسيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف، لهذا رأيت ـ وبالله أستعين ـ أن أتحدث في هذا الأمر الذي له في نظري شأن كبير عند المسلمين.
الخلاف بين العلماء
الأسباب
محمد بن صالح العثيمين(128/1)
إن من نعمة الله تبارك وتعالى على هذه الأُمَّة أن الخلاف بينها لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصيلة، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية وهو أمر لابد أن يكون.. وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي:
أولاً: من المعلوم عند جميع المسلمين مما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلّم بالهدى ودين الحق، وهذا يتضمن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد بيَّن هذا الدين بياناً شافياً كافياً، لا يحتاج بعده إلى بيان، لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله عز وجل، ورسول الله بُعِثَ بالهدى ودين الحق، وكان الناس في عهده صلوات الله وسلامه عليه يرجعون عند التنازع إليه فيحكم بينهم ويبيِّن لهم الحق سواء فيما يختلفون فيه من كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل القرآن مبيِّناً لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله: «يسألونك عن كذا»، فيجيب الله تعالى نبيّه بالجواب الشافي ويأمره أن يبلغه إلى الناس. قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ }.
{وَيَسَْلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ }.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ }.(128/2)
{يَسَْلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَبِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.
{يَسَْلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَلُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالاَْخِرَةِ وَأُوْلئِكَ أَصْحَبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَلِدُونَ }. إلى غير ذلك من الآيات.
ولكن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلّم اختلفت الأُمَّة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول الشريعة وأصول مصادرها.
ولكنه اختلاف سنبيِّن إن شاء الله بعض أسبابه. ونحن جميعاً نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم يخالف ما دلَّ عليه كتاب الله وسُنَّة رسوله صلى الله عليه وسلّم عن عمد وقصد؛ لأن من اتَّصفوا بالعلم والديانة فلابد أن يكون رائدهم الحق، ومَن كان رائده الحق فإن الله سييسِّره له. واستمعوا إلى قوله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ }. {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى }.(128/3)
ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله تبارك وتعالى، لا في الأصول التي أشرنا إليها من قبل، وهذا الخطأ أمر لابدَّ أن يكون؛ لأن الإنسان كما وصفه الله تعالى بقوله: {وَخُلِقَ الإِنسَنُ ضَعِيفاً }.
الإنسان ضعيف في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لابدَّ أن يقع الخطأ منه في بعض الأمور، ونحن نجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ من أهل العلم في الأسباب الآتية السبعة، مع أنها في الحقيقة أسباب كثيرة، وبحر لا ساحل له، والإنسان البصير بأقوال أهل العلم يعرف أسباب الخلاف المنتشرة، نجملها بما يأتي:
السبب الأول: أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه.
وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومَن بعدهم. ونضرب مثالين وَقَعَا للصحابة من هذا النوع.
الأول: فإننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشام، وفي أثناء الطريق ذُكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابة رضي الله عنهم، فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين.. وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبدالرحمن بن عوف، وكان غائباً في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك عِلماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه» فكان هذا الحكم خافياً على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبدالرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.(128/4)
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وعبدالله بن عباس رضي الله عنهما يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتدّ بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر... أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عندهما وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل، لأن الله تعالى يقول: {وَأُوْلَتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
ويقول: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}. وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس رضي الله عنهما، ولكن السُّنَّة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج»، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمَّى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى: {وَأُوْلَتُ الاَْحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.. وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعاً، ولم يذهبا إلى رأيهما.(128/5)
السبب الثاني: أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلاً أيضاً، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم. فاطمة بنت قيس رضي الله عنها طلَّقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم فأخبرها النبي: أنه لا نفقة لها ولا سكنى، وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملاً؛ لقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُوْلَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}.
عمر رضي الله عنه ـ ناهيك عنه فضلاً وعلماً ـ خفيت عليه هذه السُّنَّة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، وردَّ حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت، فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضاً لمَن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل. وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها، ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها، نظراً لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم.(128/6)
السبب الثالث: أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجلَّ من لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثاً، بل قد ينسى آية، رسول الله صلى الله عليه وسلّم «صلَّى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسياناً»، وكان معه أُبي بن كعب رضي الله عنه، فلمَّا انصرف من صلاته قال: «هلا كنت ذَكَّرتنيها» وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى * إِلاَّ مَا شَآءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى }.(128/7)
ومن هذا ـ أي مما يكون الحديث قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه ـ قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما أرسلهما رسول الله صلى الله عليه وسلّم في حاجة، فأجنبا جميعاً عمار وعمر. أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلَّى، أما عمر رضي الله عنه فلم يصل.. ثم أتيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: «إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا» ـ وضرب بيديه الأرض مرة واحدة، ثم مسح الشمال على اليمين، وظاهر كفيه ووجهه. وكان عمار رضي الله عنه يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة فأجنبنا، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا». ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال: اتق الله يا عمار، فقال له عمار: إن شئت بما جعل الله عليَّ من طاعتك أن لا أُحدِّث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت ـ يعني فحدِّث به الناس ـ فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلّم جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، وحصل بينه وبين أبي موسى رضي الله عنهما مناظرة في هذا الأمر، فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار، فقال أبوموسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية؟ ـ يعني آية المائدة ـ فلم يقل ابن مسعود شيئاً، ولكن لا شك أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجُنُب يتيمم، كما أن المحدث حدثاً أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي، فيقول قولاً يكون به معذوراً لكن مَن علِم الدليل(128/8)
فليس بمعذور. هذان سببان.
السبب الرابع: أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد.
فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السُّنَّة:
1 ـ من القرآن، قوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً...} اختلف العلماء رحمهم الله في معنى {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ} ففهم بعضٌ منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة. وفهم آخرون أن المراد به الجِماع، وهذا الرأي رأي ابن عباس رضي الله عنهما.(128/9)
وإذا تأمَّلت الآية وجدت أن الصواب مع مَن يرى أنه الجِماع، لأن الله تبارك وتعالى ذَكَرَ نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله: {فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ}. أما الأكبر فقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ...} الآية. وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يُذكر أيضاً موجبا الطهارتين في طهارة التيمم، فقوله تعالى: {أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُم مِّنَ الْغَائِطِ} إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر.. وقوله: {أَوْ لَمَسْتُمُ النِّسَآءَ} إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر.. ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذِكْر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر. وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن، فالذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مسَّ إنسان ذكرٌ بشرةَ الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة انتقض، ولغير شهوة لا ينتقض، والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً.
2 ـ من السُّنَّة: لمَّا رجع رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوة الأحزاب، ووضع عدَّة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلّم أصحابه بالخروج وقال: «لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة» الحديث، فقد اختلف الصحابة في فهمه. فمنهم مَن فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلمَّا حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها.(128/10)
ومنهم مَن فهم: أن مراد رسول الله ألا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخَّروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.
ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نصٌ مشتبه. وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم.. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع.
السبب الخامس: أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ، فيكون الحديث صحيحاً والمراد منه مفهوماً ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه، فحينئذٍ له العذر لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم بالناسخ.
ومن هذا رأى ابن مسعود رضي الله عنه.. ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ويضعهما بين ركبتيه، هذا هو المشروع في أول الإسلام، ثم نُسخ ذلك، وصار المشروع أن يضع يديه على ركبتيه. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود رضي الله عنه لم يعلم بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلَّى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبتيهما، ولكنه رضي الله عنه نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق.. لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه.. قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَفِرِينَ }.(128/11)
السبب السادس: أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع. بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعاً.
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل، لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظنَّ أن لا مخالف لهم، لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص، فيجتمع في ذهنه دليلان النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل لذلك برأي ابن عباس رضي الله عنهما في رِبا الفضل..
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنما الربا في النسيئة»، وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره: «أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة».
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة. أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله لو بعت صاعاً من القمح بصاعين يداً بيد، فإنه عند ابن عباس لا بأس به، لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط.
«وإذا بعت مثلاً مثقالاً من الذهب بمثقالين من الذهب يداً بيد» فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخَّرت القبض، فأعطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا.. لأن ابن عباس رضي الله عنهما يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن (إنما) تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دلَّ عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا لقول الرسول صلى الله عليه وسلّم: «مَن زاد أو استزاد فقد أربى».(128/12)
إذاً ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدلَّ به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضاً في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي وَرَدَ فيه قوله تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَفاً مُّضَعَفَةً}. إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيّم في كتابه «إعلام الموقعين» إلى أن تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد.
السبب السابع: أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً. وهذا كثير جداً، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح، وهو أن يصلي الإنسان ركعتين، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويُسَبِّح خمس عشرة تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها، لأنني لا أعتقدها من حيث الشرع. ويرى آخرون أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد 6 وقال: إنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية 6: إن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة مَن تأمَّلها وجد أن فيها شذوذاً حتى بالنسبة للشرع، إذ إن العبادة إما أن تكون نافعة للقلب، ولابد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة، وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سنداً ومتناً، وأن مَن قال إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام: إنه لم يستحبها أحد من الأئمة.(128/13)
وإنما مثَّلت بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمراً مشروعاً، وإنما أقول بدعة، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس لأننا نعتقد أن كل مَن دان لله سبحانه مما ليس في كتاب الله أو سُنَّة رسوله فإنه بدعة.
كذلك أيضاً مَن يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال. الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث «ذكاة الجنين ذكاة أمه».. فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أمّ الجنين إذا ذكيت فإن ذكاتها ذكاة له ـ أي لا يحتاج إلى ذكاة إذا أُخرج منها بعد الذبح، لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.
ومن العلماء مَن فهم أن المراد به ـ أي بالحديث ـ أن ذكاة الجنين كذكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم ـ ولكن هذا بعيد والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكُل». ومن المعلوم أنه لا يمكن إنهار الدم بعد الموت.
هذه الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثيرة، وبحر لا ساحل له.. ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟
وما قلته في أول الموضوع: أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو اختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون مَن نتبع؟.
>T0M01.6T1M2T2M01.6<تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد وحينئذٍ نقول: موقفنا من هذا الخلاف، وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علماً وديانة، لا مَن هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله، لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.. ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:(128/14)
1 ـ كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يقتضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحِّراً في العلم.
2 ـ ما موقفنا من اتباعهم؟ ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ أيتبع الإنسان إماماً لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب، أم يتبع ما ترجَّح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لِمَا ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟
الجواب هو الثاني، فالواجب على مَن علِم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف مَن خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلّم يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة، لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويُترَك سوى رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
ولكن يبقى الأمر فيه نظر، لأننا لا نزال في دوامة مَن الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟ هذه مشكلة، لأن كل واحد صار يقول: أنا صاحبها. وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل هو جيد؛ أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسُنَّة رسوله، لكن كوننا نفتح الباب لكل مَن عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شئت، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع. والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1 ـ عالِم رزقه الله عِلماً وفهماً.
2 ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحِّر.
3 ـ عامي لا يدري شيئاً.(128/15)
أما الأول: فإن له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه مَن خالفه من الناس، لأنه مأمور بذلك. قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني: الذي رزقه الله علماً ولكنه لم يبلغ درجة الأول، فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزاً في ذلك، وألا يقصِّر عن سؤال مَن هو أعلى منه من أهل العلم؛ لأنه قد يخطأ، وقد لا يصل علمه إلى شيء خصَّص ما كان عامًّا، أو قيَّد ما كان مطلقاً، أو نَسَخَ ما يراه محكماً. وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث: وهو مَن ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ }، وفي آية أخرى: {إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَتِ وَالزُّبُرِ}. فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن مَن يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكلٌّ يقول: إنه عالم، أو كلٌّ يقال عنه: إنه عالم، فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى مَن هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل مَن شئت ممَّن تراه من أهل العلم، والمفضول قد يوفَّق للعلم في مسألة معيَّنة، ولا يوفَّق مَن هو أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟
فمنهم مَن يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل مَن يراه أوثق في علمه من علماء بلده، لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه مَن يراه أقوى معرفة في أمور الطب فكذلك هنا؛ لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك مَن تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار مَن تراه أقوى علماً إذ لا فرق.(128/16)
ومنهم مَن يرى: أن ذلك ليس بواجب؛ لأن مَن هو أقوى عِلماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها، ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل مَن يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب، لأن من هو أفضل قد يخطأ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.
وأخيراً أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولاسيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجَّل ويتسرَّع حتى يتثبَّت ويعلم فيقول لئلا يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلِّغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم «العلماء ورثة الأنبياء».
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلّم «أن القضاة ثلاثة: قاض واحد في الجنة وهو مَن عَلِمَ الحق فحكم به» كذلك أيضاً من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلِّمك لاسيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.
وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمَن سئل عن مسألة أن يُكْثِر من الاستغفار، مستنبطاً من قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً * وَاسْتَغْفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً }، لأن الإكثار من الاستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل كما قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَقَهُمْ لَعنَّهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ}،
وقد ذُكِرَ عن الشافعي أنه قال:(128/17)
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصيوقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي فلا جرم حينئذٍ أن يكون الاستغفار سبباً لفتح الله على المرء.
وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد، وأن يثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهَّاب.
والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً...
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(128/18)
تعاون الدعاة وأثره في المجتمع
المقدمة
الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله، فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله الله ـ تعالى ـ بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.. أما بعد..
موضوع الرسالة
أيها الإخوة: فإنه يسرّني في هذه الليلة.. ليلة الثلاثاء الموافق الثاني من شهر ربيع الثاني عام عشرة وأربعمائة وألف، أن أحضر إلى هذا المكان.. إلى صالة كليّة أصول الدين في الرياض التابعة لجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يجعل هذا الحضور وهذا اللقاء مباركًا نافعًا..
أيها الإخوة: إن موضوع الرسالة، كما هو معلوم للجميع أو لأكثرهم هو: «تعاون الدعاة وأثره في المجتمع» ولا شكَّ أن الدعوة إلى الله لها مرتبة عظيمة في شريعة الله، فإنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ قال في كتابه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم قولاً أمره أن يبلغه إلى الأمة أمرًا خاصًّا، فقال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف: 108].
والنبي صلى الله عليه وسلّم مأمور أن يقول بكل القرآن، أن يبلغ كلام الله إلى عباد الله، ولكن إذا كان الأمر ذا أهمية، فإن الله ـ تعالى ـ يوجه أمرًا خاصًّا إلى رسوله صلى الله عليه وسلّم ليقوم بتبليغه إلى الأمة، ولهذا أمثلة في كتاب الله مثل هذه الاية التي تلوت، ومثل قوله ـ تعالى ـ: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ(129/1)
بِمَا يَصْنَعُونَ ... وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ومثل قوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} وغير هذه الايات كثير، لكن المهم أنه ينبغي أن نعلم أن الله إذا صدّر الأمر بالقول إلى محمدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فإن ذلك يقتضي عناية خاصة فيما وقع فيه هذا القول...
يقول الله ـ تعالى ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والمشار إليه هو المستفاد من قوله: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} فالنبي صلى الله عليه وسلّم، كإخوانه من سائر النبيين والمرسلين، تبوؤا هذا المقام(129/2)
العالي العظيم، وهو مقام الدعوة إلى الله.. لكنها دعوة على بصيرة فيما يدعون إليه.. وعلى بصيرة في حال من يدعونهم.. وعلى بصيرة في أسلوب الدعوة.. لابد من هذه البصائر الثلاث.
البصيرة فيما يدعون إليه، والبصيرة في حال المدعو.
والبصيرة في أسلوب الدعوة، وإذا تمت هذه الأمور الثلاثة؛ صارت الدعوة دعوة محمد صلى الله عليه وسلّم، وإذا اختل منها واحد؛ نقص من كمالها بقدر ما اختل من هذه الأمور الثلاثة يقول الله ـ تعالى ـ في هذه الاية: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
خصائص الداعية
فكل من اتبع النبي صلى الله عليه وسلّم فإنه لا يُكتفى باتباعه، أن يقوم بالعبادات الخاصة. من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج وبر والدين، وصلة رحم، بل لابد أن يكون داعية إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بحاله ومقاله.. ولابُدَّ أن يكون أيضًا داعية إلى الله على بصيرة.. بحال من يدعوهم..؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلّم لمّا بعث معاذًا إلى اليمن، قال له: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب..»(1) وأخبره بحالهم؛ ليكون مستعدًّا لملاقاتهم.. حتى ينزل كل إنسان منزلته، ولا ريب أنَّ كل إنسان عاقل.. يعلم الفرق بين دعوة الإنسان الجاهل، ودعوة الإنسان المعاند المكابر، ولهذا قال الله ـ تعالى ـ {وَلاَ تُجَادِلُواْ أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [العنكبوت: 46]، فالذين ظلموا لا نجادلهم بالتي هي أحسن، وإنما نجادلهم بما يليق بحالهم، وظلمهم، ولابُدَّ أن يكون الداعية عالمًا بأسلوب الدعوة.. وكيف يدعو الناس.. وهذا أمرٌ مهم جدًّا، بالنسبة للدُّعاة.. كيف يدعون الناس؟ هل يدعون الناس بالعنف، والشدِّة، والقدح فيما هم عليه، وسب ما(129/3)
ينتهجونه؟! أو يدعون الناس باللين والرفق، وتحسين ما يدعونهم إليه دون أن يقبوحهم فيما هم عليه من منهج وسلوك؟ نستمع يقول الله ـ تعالى ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم بل لعباده، لجميع المؤمنين: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108].
نحن نعلم جميعًا أن سب آلهة المشركين أمرٌ مطلوب؛ لأنها آلهة باطلة، كما قال الله ـ تعالى ـ: {ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [الحج: 62].
وسبّ الباطل، وبيان منزلته للناس أمرٌ مطلوب لابد منه.. ولكن إذا كان يترتب على ذلك مفسدة أكبر، مع إمكان زوال الباطل بدون هذه المفسدة.. فإن الله يقول: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ومعلوم أنهم إذا سبُّوا الله فإنهم يسبونه عدوًا بغير علم، بل نعلم أن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ منزه عن كل عيب، ونحن إذا سببنا آلهتهم، فقد سببناها بحق، ومع ذلك نهى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عن هذا الحقِّ خوفًا من هذا الباطل العادي؛ لأنه شر، وبناءً على ذلك فإذا رأى الداعية شخصًا على أمرٍ يرى هذا الداعية أنه باطل، وصاحبه يرى أنه حق، فليس من طريق الدعوة التي أرشد الله إليها نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلّم أن يقدح فيما هو عليه، من مذهب أو نحلة؛ لأن ذلك ينفره، وربما يؤدي إلى أن يسب ما أنت عليه من الحق؛ لأنك سببت ما هو عليه من الباطل الذي يعتقده حقًّا، ولكن الطريق: أن(129/4)
أبين له الحق، وأشرحه له؛ لأن كثيرًا من الناس، ولا سيما المقلدون، قد يخفى عليهم نور الحق.. بما غشيهم من الهوى والتقليد، لذلك أقول: يبين الحق ويوضح، ولا شك أن الحق تقبله الفطر السليمة؛ لأنه دين الله وشرعه.. فلابد أن يؤثر هذا الحق... أن يؤثر في المدعو.. لا أقول: إنه يؤثر في الحال؛ لأن هذا قد يكون من الأمور الصعبة.. لكن قد يؤثر ولو بعد حين.. قد يفكر هذا المدعو فيما دُعِيَ إليه، مرةً بعد أخرى حتى يتبين له الحق، فالمهم أن الداعية لابد أن يكون ذا بصيرة بما يدعو إليه في الأسلوب الذي يدعو إليه الناس؛ لأن هذا أمر مهم بالنسبة لقبول الدعوة ورفضها.. ولا يخفى علينا جميعًا ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلّم في كيفية الدعوة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ بالتي هي أحسن، لا يخفى علينا قصة الأعرابي الذي جاء فبال في طائفة من المسجد ـ فزجره الناس وأنكروا عليه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلّم قال: «دعوه ولا تزرموه...»(2)
فلما فرغ من بوله.. أمر النبي صلى الله عليه وسلّم بما تزول به هذه المفسدة، وهي أن يصب عليه ذنوبٌ من ماء، أي: دلو أو شبهه، ثم دعا الأعرابيّ، وقال له: «إن هذه المساجد، لا تصلح لشيء من هذا البول، ولا القذر، إنما هي لذكر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ والصلاة، وقراءة القرآن(3)» أو كما قال صلى الله عليه وسلّم. فتأمل هذه الدعوة إلى الحق بهذا الأسلوب.. ماذا تتصور من حال هذا الأعرابي الذي دعاه الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ إلى تعظيم المساجد.. بهذا الأسلوب الليّن السهل، إنك لن تتصور إلاَّ أن هذا الأعرابي سيقبل وسيطمئن وسيرتاح، وسيجد الفرق بين ما قام به الصحابةـ رضي الله عنهم ـ من الزجر، وما قام به النبي صلى الله عليه وسلّم من التعليم الهادئ، الذي ينشرح فيه الصدر، ويطمئن به القلب..
تخلق الداعية بما يدعو إلية
إنه يجب على الداعية أيضًا أن يكون هو أول من يتخلق بما يدعو إليه.. لأنه إذا كان يدعو إلى حق، فإن(129/5)
من الحمق البالغ أن يخالف ذلك الحق، وإن كان يدعو إلى باطل، فإن ذلك أشد وأقبح، أن يدعو الناس إلى الضلال، وإلى الشر، فحال الداعية إذا كانت مخالفة لدعوته، لا شكَّ أنه مؤثر في دعوته في ألاَّ تقبل، فإن الناس ينظرون إلى الدعاة غير نظرهم إلى سائر الناس، إذا رأوا الداعية يدعو إلى شيء، ولكنه لا يقوم به، فسيكون عندهم شك فيما دعا إليه، أهو حق أو باطل؟! لأنه سيقول المدعو: إذا كان حقًّا فلماذا لا يفعله.. وحينئذٍ يقل قبول الناس له.. مع ما يلحقه من الإثم العظيم في كونه يدعو ولكنه لا يفعل، يقول الله ـ تعالى ـ منكرًا على بني إسرائيل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 44].
إذن.. فليس من العقل أن يأمر الإنسان غيره بالبر وينسى نفسه.. لأنه إذا كان برًّا، فليكن هو أول من يدعو إليه، هو أول من ينفذه، هو أول من يقوم به، حتى يكون داعية للناس بمقاله وبحاله..
أن يكون بصيرا بما يدعو اليه
ومما يجب على الداعية أن يكون بصيرًا بما يدعو إليه، فلا يتكلم إلاَّ بما يعلم أنه الحق، أو بما يغلب على ظنه أنه الحق، إذا كان هذا الشيء الذي يدعو إليه مما يسوغ فيه الظن، أما أن يدعو بجهل؛ فإنه يهدم أكثر مما يبني، مع أنه آثم إثمًا كبيرًا، يقول الله ـ سبحانه وتعالى ـ: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].
لا تتبع شيئًا لا علم لك به؛ لأنك مسؤول.. ويقول ـ عزَّ وجلَّ ـ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33].
ونحن نسمع عن بعض(129/6)
الدعاة، أنهم يدعون إلى أمر يجانبون فيه الصواب.. ونعلم أو يغلب على ظنناـ أنهم لم يدعو إلى هذا الشيء عن علم واختيار منهم له.. ولكنه عن جهل.. فيحصل بذلك مفسدتان عظيمتان..
المفسدة الأولى: قبول هذا الباطل الذي دعا إليه هذا الداعية، عن غير علم.
المفسدة الثانية: رد الحق المبني على العلم، كما نشاهد أو نسمع عن بعض الناس في تحريم أشياء ليس لديهم برهان من الله على تحريمها، أو إيجاب أشياء ليس عندهم فيها برهان من الله على إيجابها، فإذا سمع العامّة هذا الداعية يقول بهذا وهم يحسنون الظن به.. رَدّوا الحق الذي عند غيره، وقبلوا هذا الباطل، وعلى سبيل المثال لا الحصر، نسمع من يقول: إنه لا يجوز استعمال آلات التسجيل، ولماذا؟ قال: لأن هذا ليس موجودًا على عهد النبي صلى الله عليه وسلّم فهل هذا الدليل الذي استدل به، هل له وجه في استدلاله به؟
الجواب عليه: ليس له وجه، وذلك لأن هذا ليس من الأمور التعبدية.. حتى نقول إنه إذا لم يثبت شرعيته فهو مردود، بل هو من أمور الوسائل المباحة على الأصل؛ لأن الأصل فيما عدا العبادات الأصل فيه الإباحة.والأصل في الأشياء حل وامنِع عبادةً إلاَّ بإذن الشارع الأصل فيما عدا العبادات هو الحل، ثم هذا الشيء الذي حكمنا بحله.. قد يكون وسيلة إلى أمر مطلوب فيكون مطلوبًا، وقد يكون وسيلة إلى أمر منكر فيكون منكرًا، فآلات التسجيل مثلاً، إذا سجل فيها الخير، فلا شك أنها خير، وفي عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ كانوا يسجلون القرآن بالكتابة.. وهذه وسيلة، أما الان فنسجل بالكتابة، ونسجل بالصوت، وهذه وسيلة.
من نعم الله علينا (فيما أرى)، كم حفظ فيها من العلم، وكم استفاد منها السامع، فكيف يمكن لداعية أن يقوم ويقول للناس: إنّ هذا أمرٌ منكر، هذا أمر بدعة، هذا أمر لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، لو أننا سلكنا هذا المسلك؛ لألغينا كثيرًا من الأمور التي فيها مصالح ظاهرة للمسلمين،(129/7)
أمثال ذلك كثير، ولا أحب أن أطيل بها، لكن الذي أريد أن أؤكد عليه، هو أنه يجب على الداعية أن يكون بصيرًا في دين الله عزَّ وجلَّ، حتى لا يدعو إلى منكر وهو لا يعلم، أو لا يحذّر من معروف وهو لا يعلم، والحمد لله الشيء الذي لا تدعو إليه اليوم وتؤجله إلى الغد بعد أن تتأمل في النصوص والأدلة خيرٌ لك من أن تتعجل وتقول فيما لا تعلم، هذه مسائل عامة بالنسبة للداعية أن يكون على بصيرة فيما يدعو إليه، وفي حال من يدعوهم، وفي أساليب الدعوة.
أن يكون صبورا
ومما يجب أن يكون عليه أيضًا الداعية أن يكون صبورًا على ما يناله من أذًى قولي أو فعلي؛ لأن الداعية إلى الخير، لابد أن يكون له أضداد، يكرهون ما يدعو إليه، كما قال الله ـ تعالى ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31]، كل نبي له عدو من المجرمين، لا من أجل شخصه، ولكن من أجل نبوته، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم قبل أن يبعث ويرسل، كان عند قريش الصادق الأمين، ولمّا بعث بشريعة الله؛ صار عندهم الكذَّاب، الساحر، الشاعر، الكاهن، المجنون، إلى آخر ما يلقبونه به من ألقاب السوء، يقول الله ـ عزَّ وجلَّ ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان: 31]، لماذا لشخصه، أو لنبوته؟ لنبوته فكل من أخذ بمنهاج النبي؛ فلابد أن يكون له عدو من المجرمين، وإذا كان له عدو، فلابد أن يحرص هذا العدوّ على إيذائه بكل ما يستطيع، من قول أو فعل، ولكن على الداعية أن يصبر، ويحتسب، ويؤمل ويرجو نصر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ والعاقبة الحميدة.
لا ينبغي أن يكون داعية لشخص
ثم إن الداعية لا ينبغي أن يكون داعية لشخصه، بل يجب أن يكون داعية إلى الله، بمعنى أنه لا يهمه أن ينتصر أو(129/8)
أن يقبل قوله في حياته، أو بعد مماته، المهم أن ما يدعو إليه من الحق يكون مقبولاً لدى الناس، سواء في حياته أو بعد موته، صحيح أن الإنسان يُسر وينشط إذا قبل الحق الذي يدعو إليه في حياته، لكن إذا قُدِّر أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ ابتلاه ليعلم صبره من عدم الصبر، ابتلاه بعدم القبول المباشر أو السريع، فليصبر وليحتسب، وما دام يعلم أنه على الحق، فليثبت عليه، وتكون العاقبة له، خلافًا لبعض الدعاة، الذين إذا سمعوا قولاً يؤذيهم، أو فُعِلَ فيهم فِعْلٌ يؤذيهم، نكصوا أو ترددوا أو شكّوا فيما هم عليه، وقد قال الله ـ تعالى ـ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [يونس: 94].
الإنسان الداعية إذا لم يجد قبولاً حاضرًا ربما ينكص على عقبيه، أو يتشكك ويتردد، هل هو على حق أو ليس على حق؟! ولكن الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد بيَّن الحق، وجعل للحق منارًا معلومًا، فإذا علمت أنك على حق فاثبت، وإن سمعت ما تكره، أو رأيت ما تكره، فاصبر فإن العاقبة للمتقين..
من آداب الدعاة
ومن آداب الدُّعاة التي يجب أن يكونوا عليها هو تعاونهم، تعاونهم فيما بينهم، لا يكن همّ الواحد منهم أن يقبل قوله ويُقدم على غيره، بل يكن همّ الداعية أن تُقبل الدعوة، سواء صدرت منه أو صدرت من غيره، ما دُمتَ تريد أن تعلو كلمة الله، فلا يهمنك أن تكون من قِبَلكِ أو من قِبَلِ غيرك، صحيح أن الإنسان يحب أن يكون الخير على يده، لكن لا يكره أن يكون الخير على يد غيره، بل يجب أن يحب أن تعلو كلمة الله، سواء على يده أو يد غيره، وإذا بنى اتجاهه على هذا؛ فسوف يعاون غيره في الدعوة إلى الله، وإن تقدَّم قَبُول الناس لغيره على قبولهم إياه.
الواجب على الدعاة أن يكونوا يدًا واحدة، يتساعدون،(129/9)
ويتعاونون، ويتشاورون فيما بينهم، وينطلقون انطلاقًا واحدًا، ويقومون لله مثنى وثلاث ورباع {قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} [سبأ: 46].
وإذا كنَّا نرى أن دعاة الشرّ والسوء يجتمعون ويتحدون ويخططون، فلماذا لا يعمل الدعاة هذا العمل، حتى يرشد بعضهم بعضًا فيما يخطئ فيه الآخر من علم أو وسيلة دعوة أو ما أشبهه ذلك؟! ونحن إذا نظرنا إلى نصوص الكتاب والسنة؛ وجدنا أنَّ الله ـ تعالى ـ وصف المؤمنين بأوصاف تدل على أنهم متحدون متعاونون، قال الله ـ تعالى ـ: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [التوبة: 71].
وقال ـ تعالى ـ: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 104، 105].
إنَّ الشيطان يلقي في قلب الداعية شيئًا من كراهة داعية مثله إذا نجح في دعوته، لا يحب أن يكون مثله في نجاح الدعوة، بل يكره أن يتقدم هذا في النجاح، وقبول الناس له، ولهذا قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ في تفسير الحسد: إنَّ الحسد أن تكره نعمة الله على غيرك، وإن كان معروفًا عند العلماء أن الحسد تمني زوال النعمة عن الغير، بل نقول: الحسد كراهة نعمة الله تعالى على غيرك، سواء تمنيت زوالها أم لم(129/10)
تتمنَ، فأنت أيها الإنسان يجب عليك أن تعاون أخاك الداعية في دعوته، حتى وإن تقدم عليك ونجح في دعوته، ما دمت تريد أن تكون كلمة الله هي العُليا، واعلموا أيها الإخوة أن دُعاة السوء والشر يحبون أن يتفرق دُعاة الخير؛ لأنهم يعلمون أن اتحادهم وتعاونهم سبب لنجاحهم، وأن تفرقهم سبب لفشلهم، قال الله ـ تعالى ـ: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46].
ولا ريب أن كل واحدٍ منا معرّض للخطأ، فإذا رأينا من أحدنا خطأً؛ فلنتعاون على إزالة هذا الخطأ بالاتصال به، وبيان هذا الخطأ، وقد يكون الخطأ خطأً في ظننا، ولكنه في الواقع ليس بخطأ، فيبين لنا هذا خطأنا في ظننا أنه خطأ، أما أن نأخذ من خطئه سببًا للقدح فيه، والتنفير عنه، فإن هذا ليس من سمات المؤمنين، فضلاً عن كونه من سمات الدعاة إلى الله عزَّ وجلَّ ، ولا أحد يشك أننا في هذه السنوات القريبة بدأ الشباب ـ ولله الحمد ـ ينطلق منطلقًا سليمًا للدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، ولكن حصل فيه شيءٌ من الخطأ، في أنَّ بعض الشباب الآن صار ينطلق من منطلق وحده، ولا يبالي برأي غيره، بل هو معجبٌ بما عنده من العلم والفكر، وإن كان على جانب كبير من الجهل بعلمه، والخطأ في فكره، فتجده يحتقر غيره، ولا ينصاع لما معه من الحق، حتى لو ذُكر له إمامٌ من أئمة المسلمين المشهود لهم بالعلم والدين والأمانة، قال: ومن هذا، أليس رجلاً وأنا رجل؟! مع العلم بأن ما ذهب إليه مما ادَّعى أنه من رجولته مبني على قلة البصيرة والعلم، فتجده لا يجمع بين أطراف الأدلة مثلاً: يأخذ بدليل، ولا سيما إذا كان هذا الدليل يدل على حكم غريب، يأخذ به، ويدع ما سواه، ولا يرعوي أو ينصاع إذا قيل له فكّر في الأمر، انظر في الأدلة، انظر إلى خلاف جمهور العلماء مثلاً، ولكنه لا يفكّر، وهو أيضًا يعامل إخوانه الدعاة هذه المعاملة، يجد أن غيره إذا خالفه،(129/11)
فهو على باطل، وهو الذي على الحق، كأنما يوحى إليه.
ولا شكَّ أن هذا المنهج منهجٌ غير سديد، فلا يجوز للإنسان أن يعتقد خطأ غيره، وأنَّ الصواب معه في أمورٍ تقبل الاجتهاد؛ لأنه إذا اعتقد ذلك فكأنما تنصّب منصب النبوة والرسالة والعصمة، فالخطأ جائز على غيرك، هو جائز عليك، والصواب الذي تدّعيه لنفسك يدّعيه غيرك، وقد يكون الصواب مع غيرك، والخطأ معك، ومن ثَمَّ صار بعض الشباب الان ينتمي إلى طائفةٍ معيَّنة، أو إلى عالمٍ معيّن ينتصر له، ويأخذ بقوله، سواء كان صوابًا أم خطأً، وهذا في الواقع مما يشتت الأمة، ويضعف العزيمة، ويجعل هؤلاء الشباب المقبل على الله محلّ هزء وسخرية لأهل الشر والسوء.
فالواجب علينا أن نكون كما أمر الله، بل أن نكون كما وصفنا الله {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} وأن تكون كلمتنا واحدة، ولست أقول: إنه يجب أن يكون قولنا واحدًا بمعنى ألاَّ يقع بيننا خلاف فيما يسوغ فيه الخلاف؛ لأن هذا أمرٌ لا يمكن، لكن أقول: إنه إذا وقع بيننا خلافٌ فيما يسوغ فيه الخلاف، يجب ألاَّ يؤدي هنا إلى اختلاف القلوب، بل تكون القلوب واحدة، والموالاة بيننا قائمة، والمحبة ثابتة، ولو اختلفنا فيما يسوغ فيه الاجتهاد.
وأضرب لهذا مثلاً، في مسألة تعتبر يسيرة بالنسبة للمهمات من الإسلام، كمسألة الجلوس في الصلاة عند القيام إلى الركعة الثانية، أو القيام إلى الركعة الرابعة، فإنَّ من أهل العلم من يرى أنه سنة، ومن العلماء من يرى أنه ليس بسنة، ومن العلماء من يفصّل، والخلاف في هذا مشهور، لكن إذا كان صاحبي ومشاركي في الدعوة، إذا كان يرى أن الجلوس سنة، وأنا لا أرى أنَّه سنة، وجلس ولم أجلس أنا، فهل يسوغ لنا أن نجعل من هذا الخلاف سببًا لكراهة بعضنا بعضًا؟! أو للتشهير أو للتشنيع؟ لا والله لا يسوغ، وإذا كان الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ اختلفوا في أمرٍ أكبر من هذا، وأهمّ وأعظم، ولم(129/12)
ينفّر بعضهم عن بعض، ولم يكره بعضهم بعضًا.. فما بالنا نحن، يكره بعضنا بعضًا من أجل هذه المسائل اليسيرة، بالنسبة لما هو أهمّ منها في الدين، ألم يعلم الكثير منَّا أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم لما رجع من غزوة الأحزاب، وجاءه جبريل، وأمره أن يخرج إلى بني قريظة، لنقضهم العهد، ندب أصحابه صلى الله عليه وسلّم إلى الخروج إلى بني قريظة، وقال: «لا يصلينَّ أحدٌ العصر إلاَّ في بني قريظة(1)» فخرجوا من المدينة، فأدركتهم الصلاة، فمنهم من قال: لا نصلي إلاَّ في بني قريظة، وأخّروا الصلاة حتى خرج الوقت، ومنهم من قال: نصلي العصر في وقتها، وإن لم نصل إلى بني قريظة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلّم، فلم يُعنف أحدًا من الطائفتين، وهم بأنفسهم لم يكن في قلوب بعضهم على بعض شيءٌ من الكراهة أو العداوة مع أنَّ الخلاف هذا أشدّ من الاختلاف في الجلوس، عند القيام للركعة الثانية أو الرابعة، يعني هذا خلاف في إخراج الصلاة عن وقتها، أو الصلاة في وقتها، فالذي أرجوه من إخوتي الدعاة ألاَّ يجعلوا هذه الأمور التي يقع فيها الاختلاف السائغ الذي يُسوِّغه الاجتهاد، ألاَّ يجعلوها سببًا للفرقة والتحزب وتضليل بعضهم بعضًا؛ لأن ذلك مما يضعف منصبهم أمام أعدائهم، وأنتم تعلمون أن هناك أعداءً يتربصون الدوائر بالدعاة إلى الخير، ولكن من كان الله معه؛ فله العاقبة، وهو المنصور في الدنيا والاخرة، كما قال الله ـ تعالى ـ: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].
أسأل الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن يجعلني وإياكم من أنصار دينه، والدعاة إليه على بصيرة، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، وأسأل الله ـ تعالى ـ أن يجزي إخواننا الذين هيئوا لنا هذا اللقاء، أن يجزيهم خيرًا، وأن يجعلهم ـ دائمًا ـ من هداة الخير.
أسئلة
إن مما وقع فيه الخلاف بين الدعاة إلى الله ـ عزَّ(129/13)
وجلَّ ـ أمر وسائل الدعوة، فمنهم من يجعله عبادةً توقيفية، وبالتالي ينكر على من يقيمون الأنشطة المتنوعة، الثقافية أو الرياضية، أو المسرحية، كوسائل لجذب الشباب ودعوتهم، ومنهم من يرى أن الوسائل تتجدد بتجدد الزمان، وللدعاة أن يستخدموا كل وسيلة مباحة في الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ.. نرجو من فضيلتكم بيان الصواب في ذلك، والله يحفظكم؟.
ج1: الحمد رب العالمين... لا شكَّ أن الدعوة إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ عبادة.. كما أمر الله بها في قوله {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل: 521]، والإنسان الداعي إلى الله يشعر وهو يدعو إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أنه ممتثل لأمر الله، متقرب إليه به، ولا شك أيضًا أن أحسن ما يُدعى به هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم؛ فإن كتاب الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو أعظم واعظ للبشرية {يأَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ}[يونس: 57]، والنبي صلى الله عليه وسلّم كذلك، قوله أبلغ الأقوال موعظة، فقد كان يعظ أصحابه أحيانًا موعظة يصفونها بأنها وجلت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فإذا تمكن الإنسان من أن تكون عظته بهذه الوسيلة؛ فلا شك أن هذه خير وسيلة، أي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وإذا رأى أن يضيف إلى ذلك أحيانًا وسائل مما أباحه الله، فلا بأس بهذا، لا بأس بذلك، ولكن بشرط أن تكون هذه الوسائل لا تشتمل على شيء محرّم كالكذب، أو تمثيل دور الكافر مثلاً في التمثيليات، أو تمثيل الصحابة رضي الله عنهم، أو أئمة المسلمين من بعد الصحابة، أو ما أشبه ذلك، مما يُخشى منه أن يُزْدَرى، أو أن يزدري أحدٌ من الناس(129/14)
هؤلاء الأئمة الفضلاء، وكذلك أيضًا لا تشتمل التمثيلية على تشبه رجلٍ بامرأة، أو بالعكس؛ لأن هذا مما ثبت فيه اللعن عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ فإنه لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء(5)، المهم أنه إذا فُعِلَ شيء من هذه الوسائل أحيانًا من أجل التأليف ولم تشتمل على شيء محرّم، فلا أرى بها بأسًا، أمَّا الإكثار منها وجعلها هي الوسيلة في الدعوة إلى الله، والإعراض عن الدعوة بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم بحيث لا يتأثر المدعو إلاَّ بمثل هذه الوسائل، فلا أرى ذلك، بل أرى أنه محرّم؛ لأنَّ توجيه الناس إلى غير الكتاب والسنة فيما يتعلق بالدعوة إلى الله أمر منكر، لكن فعل ذلك أحيانًا لا أرى فيه بأسًا إذا لم يشتمل على شيء محرّم.
: هل الدعوة إلى الله واجبة على كل مسلم ومسلمة، أم تقتصر على العلماء وطلاب العلم فقط؟
ج2: إذا كان الإنسان على بصيرة فيما يدعو إليه، فلا فرق بين أن يكون عالمًا كبيرًا يُشار إليه، أو طالب علمٍ مجدًّا في طلبه، أو عاميًّا لكنه علم المسألة علمًا يقينيًّا، فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم يقول: «بلِّغوا عنِّي ولو آية»(6)ولا يشترط في الداعية أن يبلغ مبلغًا كبيرًا في العلم، لكن يشترط أن يكون عالمًا بما يدعو إليه، أما أن يقوم عن جهل ويدعو بناءً على عاطفةٍ عنده، فإنَّ هذا لا يجوز، ولهذا نجد من الإخوة الذين يدعون إلى الله، وهم ليس عندهم من العلم إلاَّ القليل، نجدهم لقوة عاطفتهم يحرّمون ما لم يحرّمه الله، ويوجبون ما لم يوجبه الله على عباده، وهذا أمرٌ خطير جدًّا؛ لأن تحريم ما أحل الله كتحليل ما حرَّم الله، فهم مثلاً إذا أنكروا على غيرهم تحليل هذا الشيء، فغيرهم ينكر عليهم تحريمه أيضًا؛ لأن الله جعل الأمرين سواء فقال: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ(129/15)
الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل: 116، 117].
: هل يجوز للداعية أن يدعو الناس وهم على منكراتهم، كإتيانهم وهم على الأرصفة في معازفهم ولهوهم؟.. وهل تجوز الزيارات بغرض الدعوة لبيوت العُصاة؟ وما هو الأسلوب المناسب في ذلك؟
ج3: الدعوة تكون بالحكمة.. كما أمر الله ـ عزَّ وجلَّ ـ فإذا رأى الإنسان أنّ دعوتهم في هذا المحل، أو في هذا الوقت مناسبة ومثمرة؛فليتقدم إليهم حتى وإن جاء العُصاة في أماكنهم، وقد ذكر المؤرخون أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يأتي الناس في الموسم، موسم الحج في منازلهم ويدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ، وكذلك يدعوهم وإن كانوا على الأرصفة وفي لهوهم إذا رأى في ذلك مصلحة، وإذا كان لا يرى مصلحة في دعوتهم جميعًا فبإمكانه أن يأخذهم واحدًا واحدًا، وليحرص على زعمائهم، والكبراء منهم؛ لأن الزعماء والكبراء إذا صلحوا؛ صلح الأتباع، فليحرص مثلاً إذا كان لا يتمكن أو لم ير مصلحة في الدعوة العامة على الكبراء والزعماء، ويتقدم إليهم إمَّا في بيوتهم أو في مكان آخر أنسب ويدعوهم.
المهم أنَّ الإنسان إذا التزم ما أرشد الله إليه، وأمر به من الحكمة؛ صار على خير كثير {يُؤّتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ} [البقرة: 269].
: ما رأيك يا فضيلة الشيخ في بعض الشباب، بل ومنهم بعض طلبة العلم الذي صار ديدنهم التجريح في بعضهم البعض، وتنفير الناس عنهم والتحذير منهم، هل هذا عملٌ شرعي، يثاب عليه أو يعاقب عليه؟
ج4: الذي أرى أنَّ هذا عمل محرَّم، وإذا كان الإنسان لا يجوز أن يغتاب أخاه المؤمن، وإن لم يكن عالمًا، فكيف يسوغ له أن يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين، والواجب على الإنسان المؤمن أن يَكُفَّ لسانه عن الغيبة في إخوانه(129/16)
المؤمنين، قال ـ تعالى ـ: {يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُواْ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ} [الحجرات: 12]، وليعلم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى، أنَّه إذا جرح العالم، فسيكون سببًا في رد ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال رد الحق وإثمه على هذا الذي جرح العالم؛ لأن جرح العالِم في الواقع ليس جرحًا شخصيًّا، بل هو جرح لإرث محمد صلى الله عليه وسلّم؛ فإن العلماء ورثة الأنبياء، فإذا جُرِّح العلماء وقدح فيهم، لم يثق الناس في العلم الذي عندهم، وهو موروث عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وحينئذٍ لا يثقون بشيء من الشريعة التي يأتي بها هذا العالِم الذي جُرح، ولست أقول: إن كل عالِم معصوم، بل كل إنسان معرّض للخطأ، وأنت إذا رأيت من عالمٍ خطأ فيما تعتقده فاتصل به وتفاهم معه، فإن تبين لك أن الحق معه؛ وجب عليك اتباعه، وإن لم يتبين لك، ولكن وجدت لقوله مساغًا؛ وجبَ عليك الكفّ عنه، وإن لم تجد لقوله مساغًا، فحذّر عن قوله؛ لأن الإقرار على الخطأ لا يجوز، لكن لا تجرحه وهو رجل عالم معروف بحسن النية، ولو أردنا أن نجرح العلماء المعروفين بحسن النية لخطأ وقعوا فيه من مسائل الدين، لجرحنا علماءً كبارًا، ولكن الواجب هو ما ذكرت، إذا رأيت من عالم خطأً فناقشه وتكلم معه فإما أن يتبين لك أن الصواب معه فتتبعه، أو أن الصواب معك فيتبعك، أو لا يتبين الأمر ويكون الخلاف من الخلاف السائغ. وحينئذ يجب عليك الكف عنه، وليقل هو ما يقول،وأنت تقول ما تقول.
والحمد لله الخلاف ليس في هذا العصر فقط. الخلاف من عهد الصحابة إلى يومنا... وأما إذا تبين الخطأ ولكنه أصر انتصارًا لقوله؛ وجب عليك أن تبين الخطأ، وتنفر من الخطأ، لكن(129/17)
على أساس القدح في هذا الرجل وإرادة الانتقام منه؛ لأن هذا الرجل قد يقول قولاً حقًّا في غير ما جادلته فيه المهم أني أنصح إخواني بالابتعاد عن هذا البلاء وهذا المرض، وأسأل الله لي ولهم الشفاء من كل ما يعيبنا أو يضرنا في ديننا ودنيانا.
: قلتم في كتابكم: «زاد الداعية إلى الله عزَّ وجلَّ» ما نصّه: «أما التفرق والتحزب، فإنَّ هذا لا تقر به عين أحد. إلاَّ من كان عدوًّا للإسلام والمسلمين» والنبي صلى الله عليه وسلّم يقول: «اختلاف أمتي رحمة(7)» فما المراد بهذا الخلاف الذي هو الرحمة، وما التفرق المقصود في كلامكم؟ حفظكم الله.
ج5: أمَّا الحديث الذي ذكره السائل، فهو حديث ضعيف ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلّم؛ لأن الله يقول {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ} [هود: 118، 119]، فجعل الله ـ تعالى ـ الاختلاف من صفة غير المرحومين، فالأمة لا يمكن أن تختلف، بل رحمة الله بها ألاَّ تختلف، لا أقول: لا تختلف أقوالها، فإن الأقوال قد تختلف، لكن لا تختلف قلوبها.. وعلى تقدير أن يكون الحديث صحيحًا، أو حجة، فإن معناه: أن الخلاف الواقع بين الأمة في آرائهم داخلٌ تحت رحمة الله، أي: أن الله تعالى يرحم المجتهد منهم، وإن وقع بينهم خلاف في اجتهادهم، بمعنى أن الله لا يعاقب من جَانَبَ الصواب، وقد اجتهد فيه كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر»(8) هذا معنى الحديث إن كان حجة، وإلاَّ فالصحيح أن الحديث ضعيف، وليس ثابتًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وبناءً على ذلك لا يقع خلاف بين ما ذكر في «زاد الداعية» وبين هذا الذي قيل إنه حديث.
: فضيلة الشيخ: لا شكَّ أن التعاون بين الدعاة أمرٌ محتم لنجاح دعوتهم، وقبول الناس لها، والسؤال: الساحة الإسلامية تحفل بكثير من الدعاة، ولكل منهم أسلوبه وطريقته، لكن مع ذلك،(129/18)
قد يكون هناك خلافٌ في مسائل مهمة كالعقيدة، فما هي الضوابط التي ترونها للعمل والتعاون مع هؤلاء وغيرهم، والدعاة بحاجة إلى توجيهكم في هذه المسألة.. وفقكم الله.
ج6: لا شك أن الضوابط لهذا الخلاف هو الرجوع إلى ما أرشد الله إليه في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء: 59]، وفي قوله ـ تعالى ـ: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]، فالواجب على من خرج عن الصواب في العقيدة أو في العمل أي في الأمور العلمية والعملية ـ الواجب أن يُبين له الحق ويُوضح، فإن رجع فذلك من نعمة الله عليه، وإن لم يرجع فهو ابتلاء من الله ـ سبحانه وتعالى ـ له، وعلينا أن نبيِّن الخطأ الذي هو واقع فيه، وعلينا أن نبيِّن الخطأ وأن نحذِّر من هذا الخطأ بقدر الاستطاعة، ومع هذا لا نيأس، فإن الله ـ تعالى ـ رد أقوامًا من بدع عظيمة حتى صاروا من أهل السنة، ولا يخفى على كثير منا ما اشتهر عن أبي الحسن الأشعري ـ رحمه الله ـ أنه بقي في طائفة الاعتزال مدة أربعين سنة من عمره، ثم اعتدل بعض الشيء لمدة، ثم هداه الله ـ عزَّ وجلَّ ـ إلى السبيل الأقوام، إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل ـ رحمه الله ـ الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة، فالحاصل أن مسائل العقيدة مهمة، ويجب التناصح فيها، كما يجب التناصح أيضًا في الأمور العملية، وإن كانت دائرة الخلاف بين أهل العلم في المسائل العملية أوسع وأكثر، إذ إن المسائل العلمية العقدية لم يحصل فيها اختلاف في الجملة، وإن كان بعضها قد وقع فيه بعض الخلاف، كمسألة(129/19)
فناء النار، ومسألة عذاب البرزخ، ومسألة الموازين، ومسألة ما يوزن، وأشياء متعددة لكن إذا قستها بالخلاف العملي وجدت أنها في دائرة ضيقة ولله الحمد، ولكن مع هذا يجب علينا فيمن خالفنا في الأمور العلمية أو العملية يجب علينا المناصحة وبيان الحق على كل حال.
: يقول السائل: فضيلة الشيخ: هل يؤخذ من الاية {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هل يؤخذ منها أنه يجب على الداعية أن يترك السنة إذا كان يترتب على تطبيق هذه السنة أن تُسبَّ هذه السنة، كتقصير الثياب وغيرها؟ وجزاكم الله خيرًا؟
ج7: إن ترك السنة ليس فيها سب للاخرين فلا تنطبق عليه الاية، لكن ربما يؤخذ ترك السنة من دليل آخر من السنة وهو ترك النبي صلى الله عليه وسلّم بناء البيت «الكعبة» على قواعد إبراهيم خوفًا من الفتنة؛ لأنهم كانوا حديثي عهد بكفر، فمثلاً إذا كانت السُّنة من الأمور المستغربة عند العامة والتي يتهم الإنسان فيها بما ليس فيه فإن الأولى والأفضل أن الإنسان يمهد لهذه السُّنة في القول قبل أن يتخذها بالفعل، يبين للناس في المجالس، في المساجد، في أي فرصة مناسبة يبين لهم الحق حتى إذا قام بفعله. فإذا الناس قد اطمأنوا وفهموا وعرفوا.
وأنا أجزم أن العامة قد يكرهون السُّنة؛ لأن هذا الرجل هو الذي فعلها ولا يكرهونها لأن رجلاً آخر فعلها.
لو أن أحدًا من أهل العلم المعتبرين عند العامة رفع ثوبه لم يكن استنكار الناس لهذا العمل كاستنكارهم له إذا وقع من شخص آخر لا يعتبرونه عالمًا ولا يثقون به، وهذا أمرٌ معلوم.
وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الأولى أن تتدرج بالعامة بحيث إذا فعلت فعلاً يستنكرونه يكون عندهم علم مسبق به حتى يرد على قلوبهم وهي غير فارعة من العلم به.
س(129/20)
8: من الدعاة من ينتهج أسلوب التربية والتعليم للمدعوين، ومنهم من ينتهج أسلوب الوعظ والتذكير في الأماكن العامة التي يجتمع فيها الناس، فما رأي فضيلتكم في هذا، وأيُّ الأساليب أنجح؟
ج 8: الذي أرى أنَّ هذه من نعمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ على العباد، أن جعلهم يختلفون في الطريق أو الوسيلة في الدعوة إلى الله، فهذا رجلٌ واعظ أعطاه الله سبحانه وتعالى بيانًا وقدرة على الكلام وتأثيرًا، نقول له: الوعظ أحسن له، وهذا آخر أعطاه الله ـ تعالى ـ لينًا ورقَّة ولطافة يربي الناس بأن يدخل فيهم من هذه الناحية، فنقول: هذا الأسلوب أفضل من الأول، لا سيما أنه إذا كان لا يحسن أن يتكلم؛ لأن بعض الناس داعية وعنده علم، لكن لا يحسن أن يتكلم؛ وفضل الله ـ سبحانه وتعالى ـ موزَّع بين عباده، رفع الله بعضهم فوق بعضٍ درجات، فالذي أرى أن الإنسان يستعمل الأسلوب الذي يرى أنه أنفع وأجدى، وأنه به أقوم، وألاَّ يدخل نفسه في أمرٍ يعجز عنه، بل يكون واثقًا من نفسه، مستعينًا بالله عزَّ وجلَّ، حتى إذا وردت عليه إيرادات تخلَّص منها.
س 9: ما رأي فضيلتكم فيمن ينفر من قراءة كتب الدُّعاة المعاصرين، ويرى الاقتصار على كتب السَّلف الأخيار، وأخذ المنهج منها، ثم ما هي النظرة الصحيحة أو الجامعة لكتب السلف رحمهم الله، وكتب الدعاة المعاصرين والمفكرين؟ وفقكم الله!
ج 9: الذي أرى أن الدعوة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم فوق كل شيء، وهذا رأينا جميعًا بلا شك، ثم يلي ذلك ما ورد عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة، وعن أئمة الإسلام فيمن سلف، أما ما يتكلم عليه المتأخرون المعاصرون فإنه قد حدثت أشياء، هم بها أدرى، فإذا اتخذ الإنسان من كتبهم ما ينتفع به في هذه الناحية، فقد أخذ بحظ وافر، ونحن نعلم أن المعاصرين إنما أخذوا ما أخذوا من العلم ممن سبق، فلنأخذ نحن مما أخذوا منه لكن استجدت أمور، هم بها أبصر منا، ولم تكن معلومة لدى السلف بأعيانها،(129/21)
فالذي أرى أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، فيعتمد أولاً على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، وثانيًا على كلام السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة وأئمة المسلمين، ثم على ما كتبه المعاصرون، الذين جدَّت في زمنهم حوادث لم تكن معلومة بأعيانها فيما سلف.
س 10: فضيلة الشيخ يثير البعض قضية أن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قد تكفَّل بحفظ هذا الدين، ومن ثمَّ فإن العمل الذي يؤدّيه الدُّعاة في سبيل خدمة الإسلام عبث لا داعي له، فكيف الرد على هؤلاء؟
ج10: الرد على هؤلاء بسيط، إذ إن هؤلاء نزعتهم نزعة من ينكر الأسباب، ولا ريب أن إنكار الأسباب من الضلال في الدين والسفه في العقل، فإن الله ـ سبحانه وتعالى ـ تكفَّل بحفاظ الدين، لكن بأسباب... كذلك بما يقوم به الدعاة إلى هذا الدين من نشره وبيانه للناس، والدعوة إليهم، وما هذا القول إلاَّ بمنزلة من يقول: لا تتزوج فإن قُدّر لك ولد فسيأتيك، أو لا تسعى في الرزق، فإن قُدر لك رزقٌ فسيأتيك، فنحن نعلم أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ إذا كان يقول سبحانه وبحمده: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، فإنما يقول ذلك لعلمه؛ بأنه سبحانه وتعالى الحكيم، لا تكون الأشياء إلاَّ بأسباب فيقدر الله ـ تعالى ـ لحفظ هذا الدين من الأسباب ما يكون به الحفظ، ولهذا نجد علماء السلف حينما حفظ الله بهم دينهم من البدع العقدية والعملية، ساروا يتكلمون ويكتبون، ويبينون للناس، فلابد أن نقوم بما أوجب الله علينا من الدفاع عن الدين، وحمايته، ونشره بين العباد، وبذلك سيتحقق الحفظ.
س 11: هناك من الناس، من لا يرتدع إلاَّ بالعنف، فما العمل معه؟
ج 11: لا شك أنَّ من الناس من لا يرتدع إلاَّ بالعنف، ولكن العنف الذي لا يخدم المصلحة، ولا يحصل به إلاَّ ما هو أشر، لا يجوز استعماله؛ لأن الواجب اتباع الحكمة، والعنف الذي منه الضرب والتأديب والحبس، إنما يكون لولاة(129/22)
الأمور، وأما عامة الناس، فعليهم بيان الحق، وإنكار المنكر، وأمَّا تغيير المنكر، ولا سيما باليد، فإن هذا موكول إلى ولاة الأمور، وهم الذين يجب عليهم أن يُغيروا المنكر بقدر ما يستطيعون؛ لأنهم هم المسؤولون عن هذا الأمر، ولو أن الإنسان أراد أن يُغير المنكر بيده كلما رأى منكرًا، لحصل بذلك مفسدة قد تكون أكبر من المنكر الذي أراد أن يغيره بيده، فلهذا يجب اتباع الحكمة في هذا الأمر، لو كنت ربّ أهل بيت، أي راعيهم، فإنك تستطيع أن تُغير المنكر في هذا البيت بيدك، فغيَّره، لكن تغير هذا المنكر بيدك في السوق، قد تكون النتيجة أسوأ من بقاء هذا المنكر، ولكن يجب عليك أن تبلغ من يملك تغيير هذا المنكر في السوق.
س 12: فضيلة الشيخ: قد ذكرتم خلال المحاضرة أنه يجب على الداعية ألاَّ يدعو إلى شيء إلاَّ بعد تحقيقه في نفسه، والسؤال هو: إذا كان هذا الداعية يدعو إلى شيء لا يستطيع تطبيقه بعد المحاولة على ذلك، ويرى أن هذا المدعو سوف يقدر على القيام به.. فهل يدعو إليه؟
ج 12: نعم.. إذا كان هذا الداعي الذي يدعو إلى الخير، لا يستطيع أن يفعله بنفسه، فعليه أن يدعو غيره إليه، ولنفرض كذلك أن رجلاً يدعو إلى قيام الليل، لكنه لا يستطيع أن يقوم الليل، يعني لا يستطيع أن يقوم هو الليل، فلا نقول: إذا كنت لا تستطيع، فلا تدعُ إلى قيام الليل، رجل يدعو إلى الصدقة وهو لا يستطيع، لا يملك أن يتصدق، نقول: ادعُ، وأما شيء يدعو إليه وهو يستطيعه، فلا شك أنه سفهٌ في العقل وضلال في الدين.
س 13: لماذا لا تُحقق مسائل الخلاف، ليتبنّى الداعية وجه الصواب فيها سبيلاً إلى جمع كلمة الأمة؟
ج 13: مسألة تحقيق مسائل الخلاف مشكلة؛ لأن كل إنسان يذهب إلى قول يرى أنه مُحقق فيه، وإذا أردنا أن نجمع العلماء في بلدٍ ما، فإن الظاهر أنه ألا يتفقوا والظاهر لا يتفقوا سيكون هناك خلاف في الرأي، حتى وإن حققنا، فإنه سيقع الخلاف، ولكن الواجب على العامة أو الذين لا(129/23)
يستطيعون أن يعرفوا الحق بأنفسهم، الواجب عليهم، أن يتقوا الله ما استطاعوا، وألاَّ يكون الدافع لهم بقبول هذا العالم المخالف لهذا العالم الاخر هو الهوى، بل يكون الدافع هو قصد الهدى، وعلى هذا فيتبع الإنسان عند اختلاف العلماء من يرى أنه أقرب إلى الصواب لعلمه ودينه وأمانته، وأما أن نجمع الناس على قول واحد، فالظاهر أنَّ هذا أمرٌ متعذر، وليت....
س 14: أنا شاب أريد أن أكون داعية.. ولكن لا يوجد لدي الأسلوب المناسب، هل الشريط الإسلامي والكتاب الإسلامي المفيد، يكفي بأن أقوم بنشره أو توزيعه، أفيدونى جزاكم الله خيرًا؟
ج 14: نعم، لا شك أن الإنسان قد لا يتمكن من الدعوة بنفسه، ولكنه يتمكن من الدعوة بنشر الكتب النافعة والأشرطة النافعة، ولكنه بناءً على أنه لا يستطيع الدعوة بنفسه، فإنه لا ينشر هذه الكتب، ولا هذه الأشرطة، إلاَّ بعد عرضها على طالب علم، ليعرف ما فيها من خطأ، حتى لا يوزع هذا الرجل ما كان خطأً وهو لا يشعر به، وله أيضًا ـ بل من أساليب الدعوة ـ أن يتفق مع طالب علم، بأن يكتب طالب العلم ما فيه الدعوة إلى الخير، ويكون تمويل هذا على هذا الرجل الذي لا يستطيع الدعوة بنفسه.
س 15: فضيلة الشيخ: ألسنا ـ نحن المسلمين ـ مسؤولين أمام الله عزَّ وجلَّ، عن مآل، ومصير غير المسلمين في العالم كله، حيث يقع علينا مسؤولية دعوتهم لدين الله، ودين الحق، وإبراز السبيل السوي المستقيم لحكمة الله في الخلق، فما هو موقفنا إذا قالوا عند الحساب يوم القيامة لم يأتنا نذير ولا دعوة؟
ج 15: لا شك أن الواجب على المسلمين أن يبلغوا دين الله إلى جميع الناس، ولكن من الذي يقدر على ذلك إنه لابد أن يكون هناك قدرة؛ لأن جميع الواجبات التي أوجبها الله على عباده، مشروطة بالقدرة عليها؛ لقول الله ـ تعالى ـ: {فَاتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ(129/24)
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلّم: «وإذا أمرتكم بأمر، فأتوا منه ما استطعتم(9)» فنحن يجب علينا ـ نحن المسلمين ـ أن نبلغ دين الله وشريعته لجميع الخلق لكن بقدر الاستطاعة، فمن الذي يستطيع أن يبلغ جميع الخلق شريعة الله، إن الذي يستطيع ذلك هو الذي يجب عليه، وأما من لا يستطيع؛ فلا يكلف الله نفسًا إلاَّ وسعها.
س 16: هل يعني كلامكم في التعاون بين الدعاة أن يكونوا على صف واحد، من ناحية منهج الدعوة، وأسلوب الدعوة، أم أنه التعاون العام بالعمل العام بين الناس؟
ج 16: الذي أرى أن المراد بالتعاون الإطار العام، وذلك لأن الإطار الخاص، أو الأسلوب الخاص موكول إلى الشخص نفسه، فقد يرى الإنسان الداعية أن هذا الأسلوب المعين في هذا الوقت المعين في هذا المكان المعين خيرٌ منه في مكان آخر، ولا يمكن الاتفاق على أسلوب معين، في جميع الأحوال وجميع الأوقات وجميع الأماكن، لكن الإطار العام هو الذي يجب على الدعاة أن يتعاونوا فيه.
س 17: فضيلة الشيخ: قلتم إن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الإمام أحمد فكيف حكمنا على المذاهب الثلاثة الباقية؟
ج 17: ما أظن أنا هذا باعتبار أن المذاهب الثلاثة ليست على مذهب أهل السنة، لكن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ معروف بين أهل العلم أنه إمام أهل السنة، وأنه قام بالدفاع عن السنة قيامًا لم يقمه أحدٌ فيما نعلم، ومحنته مع المأمون ومن بعده مشهورة، وإلا فلا شك أن أئمة الإسلام ـ ولله الحمد ـ كلهم على خير، وعلى حق ولكن ذلك لا يعني أن نبرئ كل واحد منهم من الخطأ، بل كل واحد منهم قد يقع منه الخطأ، بل الإمام أحمد نفسه قد يصرح بالرجوع عن القول وإن كان قد قاله من قبل كما في قوله في طلاق السكران، يقول: كنت أقول في وقوع طلاق السكران حتى تبينته، يعني فتبين له أنه لا يقع،؛ لأنه إذا أوقعه أتى خسرتين: تحريم هذه الزوجة على زوجها الذي طلقها وحلها لغيره، وإذا قال بعدم(129/25)
الوقوع أتى خسرة واحدة وهي حلها لهذا الزوج، الذي لم يتحقق بينونتها منه.
س 18: يحجم كثير من الدعاة في التعاون مع المؤسسات الإعلامية، رغم تأثيرها الواضح على المجتمعات.. ما هو رأي فضيلتكم في واجب الدعاة تجاه هذه المؤسسات والعاملين بها؟
ج 18: الذي أرى أنه إذا طُلب من الإنسان أن يدعو إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ في مكان تكون المصلحة فيه أكثر والنفع أعم؛ فإنه لا ينبغي له أن يحجم عن هذا، بل الذي ينبغي أن يتقدم، وأن يرى أنَّ ذلك من نعمة الله عليه، حتى وإن كان قد يتعلل بأن هذه الوسائل الإعلامية، قد يكون فيها شيء من الشر، فإن هذا فيما أرى ليس بعلة؛ لأن هذه الوسائل إن لم تُملأ بالخير؛ ملئت بضده، وإذا ملئت بالخير، فلا يضر من تقدم إلى الخير أن يشوبها شيء من الشر، فأرى أنه من التعاون والتناصح أن يُقدِم الإنسان ويلبي الدعوة إذا طُلب إلى المشاركة في هذه الأمور.
س 19: نرى بعض الدعاة وبعض الشباب ممن يكون إمام مسجد، قد يترك المسجد، ويذهب يدعو للمناطق من حوله، ويترك المسجد دون إمام.. فما توجيهكم لهذا؟. جزاكم الله خيرًا.
ج 19: أنا أوجه الإخوة الأئمة إلى أنَّ بقاءهم في منصبهم، يؤمون المسلمين ويؤدون ما يجب عليهم أفضل من كونهم يخرجون إلى الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وأفضل من كونهم يذهبون ليصوموا رمضان بمكة، أو يصلوا قيام العشر الأواخر في مكة؛ لأن قيامهم بوظيفتهم قيام بواجب، وذهابهم إلى ما يذهبون إليه ذهاب إلى سنة، وقد ثبت في الحديث الصحيح القدسي أن الله ـ عزَّ وجلَّ ـ قال: «ما تقرب إلي عبدي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضته عليه(10)» أمَّا إذا تعين أن يكون هو الداعي إلى الجهة التي ذهب إليها ولم يقم بهذا الفرض فليقدم إلى الجهات المسؤولة عن حاله، حتى يؤذن له بالذهاب، وتلتزم الجهات المسؤولة بإقامة من يكون مكانه.
(5) رواه البخاري، كتاب اللباس، باب المتشبهين بالنساء، والمتشبهات بالرجال، رقم (5885).
(6) رواه(129/26)
البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل، رقم (1643).
(7) انظر كشف الخفا للعجلوني (1/66).
(8) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب، رقم(2537)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب بيان أجر الحاكم إذا اجتهد فأخطأ أو أصاب، رقم(6171).
(9) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، رقم (8827)، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم (7331).
(10) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (2056).
(1) رواه البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً، رقم (649).
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، رقم (91).
(2) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، رقم (5026)، ومسلم، كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات، رقم (482).
(3) رواه مسلم، كتاب الطهار، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات، رقم (582)(129/27)
زاد الداعية إلى الله
المقدمة
محمد بن صالح العثيمين
* الزاد الأول: أن يكون الداعية على علم فيما يدعو إليه:
على علم صحيح مرتكز على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، لأن كل علم يتلقى من سواهما فإنه يجب أن يعرض عليهما أولاً، وبعد عرضه فإما أن يكون موافقاً أو مخالفاً. فإن كان موافقاً قُبل، وإن كان مخالفاً وجب رده على قائله كائناً من كان، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر». إذا كان هذا في قول أبي بكر وعمر الذي يُعارض به قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فما بالكم بقول من دونهما في العلم والتقوى والصحبة والخلافة؟! إن ردَّ قوله إذا خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، من باب أولى، ولقد قال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. (النور: 63). قال الإمام أحمد رحمه الله: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك».
وإن أول زاد يتزود به الداعية إلى الله عز وجل أن يكون على علم مستمد من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، الصحيحة المقبولة، وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على الجهل ضررها أكبر من نفعها، لأن هذا الداعية قد نصب نفسه موجهاً ومرشداً فإذا كان جاهلاً فإنه بذلك يكون ضالاً مضلاًّ والعياذ بالله، ويكون جهله هذا جهلاً مركباً، والجهل المركب أشد من الجهل البسيط، فالجهل البسيط يمسك صاحبه ولا يتكلم، ويمكن رفعه بالتعلم، ولكن المشكلة كل المشكلة في حال الجاهل المركب، إن هذا الجاهل المركب لن يسكت بل سيتكلم ولو عن جهل وحينئذ يكون مدمراً أكثر مما يكون منوراً.(130/1)
* أيها الأخوة: إن الدعوة إلى الله على غير علم خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم، ومن اتبعه، استمعوا إلى قول الله تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم، حيث قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }. (يوسف: 108). فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }، أي أن من اتبعه، صلى الله عليه وسلّم، فإنه لابد أن يدعو إلى الله على بصيرة لا على جهل.
* وتأمل أيها الداعية لله قول الله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي على بصيرة في ثلاثة أمور:
الأول: على بصيرة فيما يدعو إليه، بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجباً، وهو في شرع الله غير واجب فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرماً، وهو في دين الله غير محرم فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم.(130/2)
الثاني: على بصيرة في حال الدعوة ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم، معاذاً إلى اليمن قال له: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب». ليعرف حالهم ويستعد لهم. فلابد أن تعلم حال هذا المدعو ما مستواه العلمي؟ وما مستواه الجدلي؟ حتى تتأهب له فتناقشه وتجادله، لأنك إذا دخلت مع مثل هذا في جدال وكان عليك لقوة جدله صار في هذا نكبة عظيمة على الحق وأنت سببها، ولا تظن أن صاحب الباطل يخفق بكل حال فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم، قال: «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع» فهذا يدل على أن المخاصم وإن كان مبطلاً قد يكون ألحن بحجته من آخر فيُقضى بحسب ما تكلم به هذا المخاصم فلابد أن تكون عالماً بحال المدعو.
الثالث: على بصيرة في كيفية الدعوة قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }. (النحل: 125).
* وبعض الناس قد يجد المنكر فيهجم عليه، ولا يفكر في العواقب الناتجة عن ذلك لا بالنسبة له وحده، ولكن بالنسبة له ولنظرائه من الدعاة إلى الحق، لذا يجب على الداعية قبل أن يتحرك أن ينظر إلى النتائج ويقيس، قد يكون في تلك الساعة ما يطفي لهيب غيرته فيما صنع، لكن سيخمد هذا الفعل نار غيرته وغيرة غيره في المستقبل، قد يكون في المستقبل القريب دون البعيد؛ لهذا أحث أخواني الدعاة على استعمال الحكمة والتأني، والأمر وإن تأخر قليلاً لكن العاقبة حميدة بمشيئة الله تعالى.(130/3)
وإذا كان هذا أعني تزود الداعية بالعلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، هو مدلول النصوص الشرعية فإنه كذلك مدلول العقول الصريحة التي ليس فيها شبهات ولا شهوات، لأنك كيف تدعو إلى الله ـ عز وجل ـ وأنت لا تعلم الطريق الموصل إليه، لا تعلم شريعته كيف يصح أن تكون داعية؟!
فإذا لم يكن الإنسان ذا علم فإن الأولى به أن يتعلم أولاً، ثم يدعو ثانياً.
قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلغوا عني ولو آية».
فالجواب: لا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم، يقول: «بلغوا عني» إذاً فلابد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، هذا هو ما نريده، ولسنا عندما نقول إن الداعية محتاج إلى العلم لسنا نقول إنه لابد أن يبلغ شوطاً بعيداً في العلم، ولكننا نقول لا يدعو إلا بما يعلم فقط ولا يتكلم بما لا يعلم.
زاد الداعية إلى الله
الزاد الأول: أن يكون الداعية على علم فيما يدعو إليه
محمد بن صالح العثيمين
* الزاد الأول: أن يكون الداعية على علم فيما يدعو إليه:(130/4)
على علم صحيح مرتكز على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، لأن كل علم يتلقى من سواهما فإنه يجب أن يعرض عليهما أولاً، وبعد عرضه فإما أن يكون موافقاً أو مخالفاً. فإن كان موافقاً قُبل، وإن كان مخالفاً وجب رده على قائله كائناً من كان، فقد ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله وتقولون: قال أبو بكر وعمر». إذا كان هذا في قول أبي بكر وعمر الذي يُعارض به قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فما بالكم بقول من دونهما في العلم والتقوى والصحبة والخلافة؟! إن ردَّ قوله إذا خالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، من باب أولى، ولقد قال عز وجل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَلِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }. (النور: 63). قال الإمام أحمد رحمه الله: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا ردّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك».
وإن أول زاد يتزود به الداعية إلى الله عز وجل أن يكون على علم مستمد من كتاب الله تعالى، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، الصحيحة المقبولة، وأما الدعوة بدون علم فإنها دعوة على جهل، والدعوة على الجهل ضررها أكبر من نفعها، لأن هذا الداعية قد نصب نفسه موجهاً ومرشداً فإذا كان جاهلاً فإنه بذلك يكون ضالاً مضلاًّ والعياذ بالله، ويكون جهله هذا جهلاً مركباً، والجهل المركب أشد من الجهل البسيط، فالجهل البسيط يمسك صاحبه ولا يتكلم، ويمكن رفعه بالتعلم، ولكن المشكلة كل المشكلة في حال الجاهل المركب، إن هذا الجاهل المركب لن يسكت بل سيتكلم ولو عن جهل وحينئذ يكون مدمراً أكثر مما يكون منوراً.(130/5)
* أيها الأخوة: إن الدعوة إلى الله على غير علم خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلّم، ومن اتبعه، استمعوا إلى قول الله تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم، حيث قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ هَذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }. (يوسف: 108). فقال: {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }، أي أن من اتبعه، صلى الله عليه وسلّم، فإنه لابد أن يدعو إلى الله على بصيرة لا على جهل.
* وتأمل أيها الداعية لله قول الله تعالى: {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } أي على بصيرة في ثلاثة أمور:
الأول: على بصيرة فيما يدعو إليه، بأن يكون عالماً بالحكم الشرعي فيما يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجباً، وهو في شرع الله غير واجب فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرماً، وهو في دين الله غير محرم فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم.(130/6)
الثاني: على بصيرة في حال الدعوة ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم، معاذاً إلى اليمن قال له: «إنك ستأتي قوماً أهل كتاب». ليعرف حالهم ويستعد لهم. فلابد أن تعلم حال هذا المدعو ما مستواه العلمي؟ وما مستواه الجدلي؟ حتى تتأهب له فتناقشه وتجادله، لأنك إذا دخلت مع مثل هذا في جدال وكان عليك لقوة جدله صار في هذا نكبة عظيمة على الحق وأنت سببها، ولا تظن أن صاحب الباطل يخفق بكل حال فإن الرسول صلى الله عليه وسلّم، قال: «إنكم تختصمون إليّ ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع» فهذا يدل على أن المخاصم وإن كان مبطلاً قد يكون ألحن بحجته من آخر فيُقضى بحسب ما تكلم به هذا المخاصم فلابد أن تكون عالماً بحال المدعو.
الثالث: على بصيرة في كيفية الدعوة قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }. (النحل: 125).
* وبعض الناس قد يجد المنكر فيهجم عليه، ولا يفكر في العواقب الناتجة عن ذلك لا بالنسبة له وحده، ولكن بالنسبة له ولنظرائه من الدعاة إلى الحق، لذا يجب على الداعية قبل أن يتحرك أن ينظر إلى النتائج ويقيس، قد يكون في تلك الساعة ما يطفي لهيب غيرته فيما صنع، لكن سيخمد هذا الفعل نار غيرته وغيرة غيره في المستقبل، قد يكون في المستقبل القريب دون البعيد؛ لهذا أحث أخواني الدعاة على استعمال الحكمة والتأني، والأمر وإن تأخر قليلاً لكن العاقبة حميدة بمشيئة الله تعالى.(130/7)
وإذا كان هذا أعني تزود الداعية بالعلم الصحيح المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، هو مدلول النصوص الشرعية فإنه كذلك مدلول العقول الصريحة التي ليس فيها شبهات ولا شهوات، لأنك كيف تدعو إلى الله ـ عز وجل ـ وأنت لا تعلم الطريق الموصل إليه، لا تعلم شريعته كيف يصح أن تكون داعية؟!
فإذا لم يكن الإنسان ذا علم فإن الأولى به أن يتعلم أولاً، ثم يدعو ثانياً.
قد يقول قائل: هل قولك هذا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلّم: «بلغوا عني ولو آية».
فالجواب: لا، لأن الرسول صلى الله عليه وسلّم، يقول: «بلغوا عني» إذاً فلابد أن يكون ما نبلغه قد صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم، هذا هو ما نريده، ولسنا عندما نقول إن الداعية محتاج إلى العلم لسنا نقول إنه لابد أن يبلغ شوطاً بعيداً في العلم، ولكننا نقول لا يدعو إلا بما يعلم فقط ولا يتكلم بما لا يعلم.
زاد الداعية إلى الله
الزاد الثاني: أن يكون الداعية صابراً على دعوته
محمد بن صالح العثيمين
* الزاد الثاني: أن يكون الداعية صابراً على دعوته، صابراً على ما يدعو إليه، صابراً على ما يعترض دعوته، صابراً على ما يعترضه هو من الأذى.
أن يكون صابراً على الدعوة أي مثابراً عليها لا يقطعها ولا يمل، بل يكون مستمراً في دعوته إلى الله بقدر المستطاع وفي المجالات التي تكون الدعوة فيها أنفع وأولى وأبلغ، وليصبر على الدعوة ولا يمل، فإن الإنسان إذا طرقه الملل استحسر وترك، ولكن إذا كان مثابراً على دعوته فإنه ينال أجر الصابرين من وجه، وتكون له العاقبة من وجه آخر، واستمع إلى قول الله عز وجل مخاطباً نبيه: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ }. (هود: 49).(130/8)
ولابد أن يكون الإنسان صابراً على ما يعترض دعوته من معارضات ومجادلات لأن كل إنسان يقوم داعياً إلى الله عز وجل لابد أن يعارض: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِىٍّ عَدُوّاً مِّنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً }. (الفرقان: 31). فكل دعوة حقة لابد أن يقوم لها معارض، لابد أن يقوم لها ممانع، ومجادل فيها ومشكك، ولكن يجب على الداعية أن يصبر على ما يعترض دعوته حتى لو وصفت تلك الدعوة بأنها خطأ أو أنها باطل وهو يدرك أنها مقتضى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فليصبر على ذلك.
ولكن هذا لا يعني أن الإنسان يصر على ما يقول، وما يدعو إليه، وإن تبين له الحق، فإن الذي يصر على ما يدعو إليه وإن تبين له الحق يشبه من قال الله فيهم: {يُجَدِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ }. (الأنفال: 6). والمجادلة في الحق بعدما تبين صفة مذمومة، وقد قال الله فيمن اتصف بها: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً }. (النساء: 115). فما يعترض دعوتك أيها الداعية إن كان حقّاً فالواجب عليك الرجوع إليه، وإن كان باطلاً فلا يثني عزمك عن المضي قدماً في دعوتك.(130/9)
* كذلك لابد أن يكون الداعية صابراً على ما يعترضه هو من الأذى لأن الداعية لابد أن يؤذى إما بالقول وإما بالفعل، وهاهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أوذوا بالقول وأوذوا بالفعل اقرأ قول الله عز وجل: {كَذَلِكَ مَآ أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ }. (الذاريات: 52). ما رأيك فيمن يأتيه الوحي من ربه ويقال في وجهه إنك ساحر أو مجنون؟ لاشك أنه يتأذى ومع هذا فالرسل صبروا على ما أوذوا بالقول وعلى ما أوذوا بالفعل؛ انظر إلى أول الرسل نوح عليه الصلاة والسلام كان قومه يمرون به وهو يصنع الفلك ويسخرون به فيقول لهم: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ}. (نوح: 38، 39). ولم يقتصر الأمر بهم على السخرية به، بل توعدوه بالقتل: {قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ ينُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ }. (الشعراء: 116). أي من المقتولين رمياً بالحجارة، هنا توعد بالقتل مع تهديد بأنا قد رجمنا غيرك إظهاراً لعزتهم وأنهم قد رجموا آخرين وأنت منهم، ولكن هذا لم يثن نوحاً، عليه الصلاة والسلام، عن دعوته بل استمر حتى فتح الله بينه وبين قومه، وهذا إبراهيم عليه الصلاة والسلام، قابله قومه بالرفض بل شهّروا به بين الناس: {قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ }. (الأنبياء: 61).(130/10)
ثم توعدوه بالإحراق: {قَالُواْ حَرِّقُوهُ وَانصُرُواْ ءَالِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَعِلِينَ }. (الأنبياء: 68). فأوقدوا ناراً عظيمة ورموه بالمنجنيق لبعدهم عنها لشدة حرارتها ولكن قال رب العزة والجلال: {قُلْنَا ينَارُ كُونِى بَرْداً وَسَلَمَا عَلَى إِبْرَهِيمَ }. (الأنبياء: 69). فكانت برداً وسلاماً ونجا منها، فكانت العاقبة لإبراهيم، {وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَهُمُ الاَْخْسَرِينَ }. (الأنبياء: 70). وهذا موسى عليه الصلاة والسلام توعده فرعون بالقتل: {ذَرُونِى أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّى أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الاَْرْضِ الْفَسَادَ }. (غافر: 26). فتوعده بالقتل ولكن آخر الأمر كانت العقبى لموسى عليه الصلاة والسلام {وَحَاقَ بَِالِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ } (غافر: 45) عليه الصلاة والسلام، حصل له من الأذية ما حصل حتى رماه اليهود بأنه ابن بغي، وقتلوه على زعمهم وصلبوه ولكن الله تعالى يقول: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً لَفِى شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً يَقِيناً * بَل رَّفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً}. (النساء: 157، 158). فنجي منهم، وهذا خاتم الرسل وإمامهم وسيد بني آدم محمد صلى الله عليه وسلّم، قال الله عنه: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَكِرِينَ }. (الأنفال: 30).(130/11)
{وَقَالُواْ يأَيُّهَا الَّذِى نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ }. (الحجر: 6). {وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُو ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }. (الصافات: 36). وحصل من أذيتهم القولية والفعلية ما هو معلوم لدى العلماء في التاريخ ومع هذا صبر فكانت العاقبة له.
إذن فكل داعية لابد أن يناله أذى ولكن عليه أن يصبر، ولهذا لما قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلّم، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ تَنزِيلاً }. (الإنسان: 23). كان من المتوقع أن يقول الله فاشكر نعمة الله على تنزيل هذا القرآن، ولكن الله قال له: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً }. (الإنسان: 24). إشارة إلى أن كل من قام بهذا القرآن فلابد أن يناله ما يناله من الأمور التي تحتاج إلى صبر عظيم، فعلى الداعية أن يكون صبوراً وأن يستمر حتى يفتح الله له، وليس من الضروري أن يفتح الله له في حياته؛ بل إن المهم أن تبقى دعوته بين الناس ناصعة متبوعة، ليس المهم الشخص ولكن المهم الدعوة فإذا بقيت دعوته ولو بعد موته، فإنه حي قال الله عز وجل: {أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَفِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ }. (الأنعام: 122). ففي الحقيقة أن حياة الداعية ليس معناها أن تبقى روحه في جسمه فقط بل أن تبقى مقالته حية بين الناس، وانظر إلى قصة أبي سفيان مع هرقل وكان قد سمع بمخرج النبي صلى الله عليه وسلّم، دعا أبا سفيان فسأله عن النبي صلى الله عليه وسلّم، عن ذاته، ونسبه، وما يدعو إليه، وأصحابه فلما أخبره أبو سفيان عما سأله عنه قال هرقل له: «إن كان ما تقول حقّاً فسيملك ما تحت قدمي هاتين». سبحان الله من يتصور أن ملكاً إمبراطوريّاً كما يقولون(130/12)
يقول مثل هذا القول في محمد صلى الله عليه وسلّم، وهو مع ذلك لم يحرر جزيرة العرب من رق الشيطان والهوى، ومن يتصور أن مثل هذا الرجل يقول مثل هذا القول؟ ولهذا لما خرج أبو سفيان قال لقومه: «لقد أمِر أمر ابن أبي كشبة إنه ليخافه ملك بني الأصفر»، «أمِر» يعني عظم ومنه قوله تعالى: {لقد جئت شيئاً إمرا} أي عظيماً.
وقد ملك النبي صلى الله عليه وسلّم ما تحت قدمي هرقل بدعوته لا بشخصه، لأن دعوته أتت على هذه الأرض واكتسحت الأوثان والشرك وأصحابه، وملكها الخلفاء الراشدون بعد محمد صلى الله عليه وسلّم، ملكوها بدعوة النبي صلى الله عليه وسلّم، وبشريعة النبي صلى الله عليه وسلّم، إذن على الداعية أن يصبر وستكون العاقبة له إذا كان صادقاً مع الله سواء في حياته أو بعد مماته.
{إِنَّ الأَرْضَ للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }. (الأعراف: 128). وقال الله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ }. (يوسف: 90).
زاد الداعية إلى الله
الزاد الثالث: الحكمة فيدعو إلى الله بالحكمة
محمد بن صالح العثيمين(130/13)
* الزاد الثالث: الحكمة فيدعو إلى الله بالحكمة، وما أمرَّ الحكمة على غير ذي الحكمة. والدعوة إلى الله تعالى تكون بالحكمة، ثم بالموعظة الحسنة، ثم الجدال بالتي هي أحسن لغير الظالم، ثم الجدال بما ليس أحسن للظالم، فالمراتب إذن أربع. قال الله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَدِلْهُم بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }. (النحل: 125). وقال تعالى: {وَلاَ تُجَدِلُواْ أَهْلَ الْكِتَبِ إِلاَّ بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وَقُولُواْ ءَامَنَّا بِالَّذِى أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ }. (العنكبوت: 46).(130/14)
* إن الحكمة: إتقان الأمور وإحكامها، بأن تنزل الأمور منازلها وتوضع في مواضعها، ليس من الحكمة أن تتعجل وتريد من الناس أن ينقلبوا عن حالهم التي هم عليها إلى الحال التي كان عليها الصحابة بين عشية وضحاها. ومن أراد ذلك فهو سفيه في عقله بعيد عن الحكمة، لأن حكمة الله عز وجل تأبى أن يكون هذا الأمر، ويدلك لهذا أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وهو الذي ينزل عليه الكتاب نزل عليه الشرع متدرجاً حتى استقر في النفوس وكمل. فرضت الصلاة في المعراج قبل الهجرة بثلاث سنوات، وقيل سنة ونصف، وقيل خمس سنين، على خلاف بين العلماء في هذا.. ومع هذا لم تفرض على وضعها الان، أول ما فرضت كانت ركعتين للظهر والعصر والعشاء والفجر، وكانت المغرب ثلاثاً، لأجل أن تكون وتراً للنهار، وبعد الهجرة وبعد أن أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ثلاث عشرة سنة في مكة زيدت صلاة الحضر فصارت أربعاً في الظهر والعصر والعشاء، وبقيت صلاة الفجر على ما هي عليه؛ لأنها تطول فيها القراءة، وبقيت المغرب ثلاثاً لأنها وتر النهار.
والزكاة فرضت في السنة الثانية من الهجرة أو فرضت في مكة لكنها لم تقدر تقديراً في أنصبائها وواجبها ولم يبعث النبي صلى الله عليه وسلّم السعاة لأخذ الزكاة إلا في السنة التاسعة من الهجرة فكان تطور الزكاة على ثلاث مراحل: في مكة {وآتوا حقه يوم حصاده}، ولم يبين الواجب، ولا مقدار ما يجب فيه ذلك الواجب، وجعل الأمر موكولاً إلى الناس، وفي السنة الثانية من الهجرة بينت الزكاة بأنصبائها. وفي السنة التاسعة من الهجرة صار النبي صلى الله عليه وسلّم، يبعث السعاة إلى أهل المواشي والثمار لأخذها.
فتأمل مراعاة أحوال الناس في تشريع الله عز وجل وهو أحكم الحاكمين. وكذلك في الصيام تطور في تشريعه فكان أول ما فرض يخير الإنسان بين أن يصوم أو يطعم، ثم تعين الصيام، وصار الإطعام لمن لا يستطيع الصوم على وجه مستمر.(130/15)
* أقول إن الحكمة تأبى أن يتغير العالم بين عشية وضحاها فلابد من طول النفس، واقبل من أخيك الذي تدعوه ما عنده اليوم من الحق، وتدرج معه شيئاً فشيئاً حتى تنتشله من الباطل، ولا يكن الناس عندك على حد سواء، فهناك فرق بين الجاهل والمعاند.
* ولعل من المناسب أن أضرب أمثلة من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلّم:
* المثال الأول: دخل رجل أعرابي والنبي صلى الله عليه وسلّم، جالس في أصحابه في المسجد فبال الأعرابي في طائفة من المسجد فزجره الناس ـ والزجر هو النهر بشدة ـ ولكن النبي صلى الله عليه وسلّم، وهو الذي أعطاه الله تعالى من الحكمة نهاهم، فلما قضى بوله أمر صلى الله عليه وسلّم أن يراق على بوله ذنوباً من ماء ـ يعني دلواً ـ فزالت المفسدة فدعا الرسول صلى الله عليه وسلّم، الأعرابي فقال له: «إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من الأذى أو القذر إنما هي للصلاة وقراءة القرآن». أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، فانشرح صدر الأعرابي لهذه المعاملة الحسنة، ولهذا رأيت بعض أهل العلم نقل أن هذا الأعرابي قال: «اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً». لأن محمداً صلى الله عليه وسلّم، عامله هذه المعاملة الطيبة، أما الصحابة رضوان الله عليهم فسعوا في إزالة المنكر من غير تقدير لحال هذا الرجل الجاهل.(130/16)
* المثال الثاني: معاوية بن الحكم رضي الله عنه جاء والنبي صلى الله عليه وسلّم، يصلي بالناس فعطس رجل من القوم فقال الحمد لله ـ فإذا عطس أحد في الصلاة فليقل الحمد لله سواء في القيام أو في الركوع أو في السجود ـ قال هذا الرجل: الحمد لله، فقال له معاوية: يرحمك الله، وهذا خطاب لادمي يبطل الصلاة فرماه الناس بأبصارهم وجعلوا ينظرون إليه فقال معاوية: واثكل أمِّياه ـ والثكل الفقد وهذه كلمة تقال ولا يراد معناها، وقد قالها النبي صلى الله عليه وسلّم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قال قلت: بلى يا رسول الله. قال: كف عليك هذا وأخذ بلسانه وقال: كفه عليك، فقال معاذ: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ قال: «ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم». ثم مضى معاوية رضي الله عنه في صلاته فلما أتم الصلاة دعاه النبي صلى الله عليه وسلّم، قال معاوية رضي الله عنه: فوالله ما رأيت معلماً أحسن تعليماً منه، اللهم صلي وسلم عليه، والله ما كهرني، ولا نهرني وإنما قال: «إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح، والتكبير وقراءة القرآن». أو كما قال صلى الله عليه وسلّم، انظر إلى الدعوة المحببة إلى النفوس يقبلها الإنسان وينشرح بها صدره.
ونأخذ من الحديث من الفوائد الفقهية: أن من تكلم في الصلاة وهو لا يدري أن الكلام يبطل الصلاة فإن صلاته صحيحة.(130/17)
* المثال الثالث: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلّم، فقال: يا رسول الله هلكت. قال: «ما أهلكك؟» قال: وقعت على امرأتي في رمضان وأنا صائم. فأمره النبي صلى الله عليه وسلّم أن يعتق رقبة، فقال: لا أجد، ثم أمره أن يصوم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، ثم أمره أن يطعم ستين مسكيناً، فقال: لا أستطيع، فجلس الرجل. فأتي النبي صلى الله عليه وسلّم، بتمر فقال: «خذ هذا فتصدق به». ولكن الرجل طمع في كرم النبي صلى الله عليه وسلّم، الذي هو أعظم كرم لمخلوق، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أكرم الناس، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني، فضحك النبي صلى الله عليه وسلّم حتى بدت أنيابه أو نوجذه. لأن هذا الرجل جاء خائفاً يقول: «هلكت» فذهب غانماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلّم: «أطعمه أهلك» فذهب الرجل مطمئناً غانماً فرحاً بهذا الدين الإسلامي، وبهذا اليسر من الداعية الأول لهذا الدين الإسلامي صلوات الله وسلامه عليه.
* المثال الرابع: ولننظر كيف عامل النبي صلى الله عليه وسلّم مرتكب الإثم: رأى النبي صلى الله عليه وسلّم رجلاً وفي يده خاتم ذهب فنزعه النبي صلى الله عليه وسلّم بيده الكريمة وطرحه في الأرض، وقال: «يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده». فالنبي صلى الله عليه وسلّم لم يعامله معاملة الأولين بل نزعه من يده وطرحه في الأرض، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلّم قيل للرجل خذ خاتمك انتفع به فقال: «والله لا آخذ خاتماً طرحه النبي صلى الله عليه وسلّم»، الله أكبر هذا الامتثال العظيم من الصحابة رضوان الله عليهم.
المهم أنه يجب على الداعية أن يدعو إلى الله عز وجل بالحكمة فليس الجاهل كالعالم، وليس المعاند كالمستسلم، فلكل مقام مقال، ولكل منزلة حال.
زاد الداعية إلى الله
الزاد الرابع: أن يتخلق الداعية بالأخلاق الفاضلة
محمد بن صالح العثيمين(130/18)
* الزاد الرابع: أن يتخلق الداعية بالأخلاق الفاضلة بحيث يظهر عليه أثر العلم في معتقده، وفي عبادته، وفي هيئته، وفي جميع مسلكه حتى يمثل دور الداعية إلى الله، أما أن يكون على العكس من ذلك فإن دعوته سوف تفشل وإن نجحت فإنما نجاحها قليل.
فعلى الداعية أن يكون متخلقاً بما يدعو إليه من عبادات أو معاملات أو أخلاق وسلوك حتى تكون دعوته مقبولة وحتى لا يكون من أول من تسعر بهم النار.
* أيها الأخوة: إننا إذا نظرنا إلى أحوالنا وجدنا أننا في الواقع قد ندعو إلى شيء ولكننا لا نقوم به وهذا لا شك أنه خلل كبير، اللهم إلا أن يحول بيننا وبينه النظر إلى ما هو أصلح لأن لكل مقام مقالاً. فالشيء الفاضل قد يكون مفضولاً لأمور تجعل المفضول راجحاً ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يدعو إلى بعض الخصال ولكنه يشتغل أحياناً بما هو أهم منها، وربما يصوم حتى يقال لا يفطر، ويفطر حتى يقال لا يصوم.
* أيها الأخوة: إنني أريد من كل داعية أن يكون متخلقاً بالأخلاق التي تليق بالداعية حتى يكون داعية حقّاً وحتى يكون قوله أقرب إلى القبول.
زاد الداعية إلى الله
الزاد الخامس: أن يكسر الداعية الحواجز
محمد بن صالح العثيمين(130/19)
* الزاد الخامس أن يكسر الداعية الحواجز التي بينه وبين الناس لأن كثيراً من إخواننا الدعاة إذا رأى قوماً على منكر قد تحمله الغيرة وكراهة هذا المنكر على أن لا يذهب إلى هؤلاء ولا ينصحهم، وهذا خطأ وليس من الحكمة أبداً؛ بل الحكمة أن تذهب وتدعو، وتبلغ وترغب وترهب، ولا تقل هؤلاء فسقة لا يمكن أن أمشي حولهم. إذا كنت أنت أيها الداعية المسلم لا يمكن أن تمشي حول هؤلاء ولا أن تذهب إليهم لدعوتهم إلى الله فمن الذي يتولاهم؟ أيتولاهم أحد مثلهم؟! أيتولاهم قوم لا يعلمون؟ أبداً ولهذا ينبغي للداعية أن يصبر، وهذا من الصبر الذي ذكرناه سابقاً أن يصبر نفسه ويكرهها وأن يكسر الحواجز بينها وبين الناس حتى يتمكن من إيصال دعوته إلى من هم في حاجة إليها، أما أن يستنكف فهذا خلاف ما كان الرسول صلى الله عليه وسلّم يفعله، والنبي صلى الله عليه وسلّم كما هو معلوم كان يذهب في أيام منى إلى المشركين في أماكنهم ويدعوهم إلى الله وقد أثر عنه أنه صلى الله عليه وسلّم قال: «ألا أحد يحملني حتى أبلغ كلام ربي فإن قريشاً منعتني أن أبلغ كلام ربي». فإذا كان هذا دأب نبينا، وإمامنا وقدوتنا محمد صلى الله عليه وسلّم، فإنه من الواجب علينا أن نكون مثله في الدعوة إلى الله.
زاد الداعية إلى الله
الزاد السادس: أن يكون قلب الداعية منشرحاً لمن خالفه
محمد بن صالح العثيمين
* الزاد السادس: أن يكون قلب الداعية منشرحاً لمن خالفه، لاسيما إذا علم أن الذي خالفه حسن النية وأنه لم يخالفه إلا بمقتضى قيام الدليل عنده، فإنه ينبغي للإنسان أن يكون مرناً في هذه الأمور، وأن لا يجعل من هذا الخلاف مثاراً للعداوة والبغضاء، اللهم إلا رجل خالف معانداً بحيث يبين له الحق ولكن يصر على باطله فإن هذا يجب أن يعامل بما يستحق أن يعامل به من التنفير عنه، وتحذير الناس منه؛ لأنه تبين عداوته حيث بين له الحق فلم يمتثل.(130/20)
* وهناك مسائل فرعية يختلف فيها الناس وهي في الحقيقة مما وسع الله فيه على عباده ـ وأعني مسائل ليست من الأصول التي تبلغ إلى تكفير المخالف ـ فهذه مما وسع الله فيها على العباد وجعل الخطأ فيها واسعاً، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد». فالمجتهد لا يخرج عن دائرة الأجر أبداً فإما أجران إن أصاب، وإما أجر واحد إن أخطأ، وإذا كنت لا تريد أن يخالفك غيرك فإن غيرك أيضاً يريد أن لا يخالفه أحد، فكما أنك تريد أن يأخذ الناس بقولك، فالمخالفون لك يريدون أيضاً أن يأخذ الناس بقولهم، والمرجع عند التنازع ما بيّنه الله عز وجل في قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَىْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّى عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ }. (الشورى: 10). ويقول عز وجل: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الاَْمْرِ مِنْكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الاَْخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً }. (النساء: 59). فيجب على كل المختلفين والمتنازعين أن يرجعوا إلى هذين الأصلين كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلّم، ولا يحل لأحد أن يعارض كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم بكلام أحد من البشر مهما كان، فإذا تبين لك الحق فالواجب أن تضرب بقول من خالفه عرض الحائط، وأن لا تلتفت إليه مهما كانت منزلته من العلم والدين، لأن البشر يخطىء لكن كلام الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلّم ليس فيه خطأ.(130/21)
* ويؤسفني أن أسمع عن قوم يعتبرون جادّين في طلب الحق والوصول إليه ومع ذلك نجدهم متفرقين، لكل واحد منهم اسم معين أو وصف معين، وهذا في الحقيقة خطأ، إن دين الله عز وجل واحد، وأمة الإسلام واحدة، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }. (المؤمنون: 52). ويقول الله سبحانه وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلّم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ }. (الأنعام: 159). وقال عز وجل: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِى أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِى إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ }. (الشورى: 13). فإذا كان هذا توجيه الله عز وجل لنا فالواجب علينا أن نأخذ بهذا التوجيه، وأن نجتمع على بساط البحث، وأن يناقش بعضنا بعضاً على سبيل الإصلاح لا على سبيل الانتقاد أو الانتقام، فإن أي إنسان يجادل غيره ويحاج بقصد الانتصار لرأيه واحتقار رأي غيره، أو لقصد الانتقاد دون الإصلاح فإن الغالب أن يخرجوا على وجه لا يرضي الله ورسوله، فالواجب علينا في مثل هذا الأمر أن نكون أمة واحدة، وأنا لا أقول إنه لا يخطىء أحد، كل يخطىء، ويصيب، ولكن الكلام في الطريق إلى إصلاح هذا الخطأ، ليس الطريق إلى إصلاح الخطأ(130/22)
أن أتكلم في غيبته وأقدح فيه، ولكن الطريق إلى إصلاحه، أن أجتمع به وأناقشه فإذا تبين بعد ذلك أن الرجل مصرّ على عناده، وعلى ما هو عليه من باطل فحينئذ لي العذر ولي الحق بل يجب عليّ أن أبين خطأه، وأن أحذر الناس من خطئه، وبهذا تصلح الأمور، أما التفرق والتحزب فإن هذا لا تقر به عين أحد، إلا من كان عدوّاً للإسلام والمسلمين.
والله أسأل أن يجمع قلوبنا على طاعته، وأن يجعلنا من المتحاكمين إلى الله ورسوله، وأن يخلص لنا النية ويبين لنا ما خفي علينا من شريعته إنه جواد كريم.
والحمد لله رب العالمين وصلى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(130/23)
كتاب العلم
في تعريف العلم وفضله وحكم طلبه
محمد بن صالح العثيمين
في تعريف العلم وفضله وحكم طلبه
الفصل الأول
تعريف العلم
لغة: نقيض الجهل، وهو: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً حازماً.
اصطلاحاً: فقد قال بعض أهل العلم: هو المعرفة وهو ضد الجهل، وقال آخرون من أهل العلم: إن العلم أوضح من أن يعرف.
والذي يعنينا هو العلم الشرعي، والمراد به : ((علم ما أنزل الله على رسوله من البيانات والهدى)) ، فالعلم الذي فيه الثناء والمدح به خيراً يفقهه في الدين )) (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) (2) .
ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم شريعة الله – عز وجل – وليس غيره، فالأنبياء – عليهم الصلاة والسلام_ ما ورثوا للناس علم الصناعات وما يتعلق بها، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حي قدم المدينة وجد الناس يؤبرون النخل – أي يلقحونها – قال لهم لما رأى من تعبهم كلاماً يعني أنه لا حاجة إلى هذا ففعلوا، وتركوا التلقيح، ولكن النخل فسد، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : (( أنتم أعلم بشؤون دنياكم )) (1).
ولو كان هذا هو العلم الذي عليه الثناء لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به، لأن أكثر من يثني عليه بالعلم والعمل هو النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن فالعلم الشرعي هو الذي يكون فيه الثناء ويكون الحمد لفاعله، ولكني مع ذلك لا أنكر أن يكون للعلوم الأخرى فائدة، ولكنها فائدة ذات حدين : إن أعانت على طاعة الله وعلى نصر دين الله وانتفع بها عباد الله، فيكون ذلك خيراً ومصلحة، وقد يكون تعلمها واجبا في بعض الأحيان إذا كان ذلك داخلاً في قوله تعالي: )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ َ) (لأنفال:60) .(131/1)
وقد ذكر كثير من أهل العلم أن تعلم الصناعات فرض كفاية ، وذلك لأن الناس لابد لهم من أن يطبخون بها، ويشربون بها ، وغير ذلك من الأمور التي ينتفعون بها، فإذا لم يوجد من يقوم بهذه المصانع صار تعلمها فرض كفاية. وذا محل جدل بين أهل العلم، الشرعي الذي هو فقه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما عدا ذلك فإما أن يكون وسيلة إلى خير أو وسيلة إلى شر، فيكون حكمه بحسب ما يكون وسيلة إليه.
الفصل الثاني
فضائل العلم
لقد مدح الله – سبحانه وتعالى العلم وأهله، وحثَ عباده على العلم والتزود منه وكذلك السنة المطهرة.
فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، وهو من أفضل وأجلَ العبادات، عبادات التطوع، لأنه نوع من الجهاد في سبيل الله، فإن دين الله – عز وجل – إنما قام بأمرين :
أحدهما: العلم والبرهان.
والثاني: القتال والسنان، فلا بد من هذين الأمرين، ولا يمكن أن يقوم دين الله ويظهر إلا بهما جميعاً ، والأول منهما مقدًم على الثاني، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يغيٌر على قوم حتى تبلغهم الدعوة إلى الله - عز وجل – فيكون العلم قد سبق القتال.
قال تعالي: )أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) (الزمر، الآية:9) فالاستفهام هنا لابد فيه من مقابل أمن هو قائم قانت آناء الليل والنهار أي كمن ليس كذلك، والطرف الثاني المفضل عليه محذوف للعلم به، فهل يستوي من هو قانت آناء الليل ساجداً أو قائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هل يستوي هو من هو مستكبر عن طاعة الله ؟(131/2)
الجواب: لا يستوي فهذا الذي هو قانت يرجو ثواب الله ويحذر الآخرة هل فعلُهُ ذلك عن علم أو عن جهل ؟ الجواب : عن علم، ولذلك قال: ] أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ [ (الزمر الآية: 9) . لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى، العلم نور يهتدي به الإنسان، ويخرج به من الظلمات إلى النور، العلم يرفع الله به من يشاء من خلقه ] يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [ (المجادلة: الآية11). ولهذا نجد أن أهل العلم محل الثناء، كلما ذُكروا أثنى عليهم، وهذا رفع لهم في الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يرتفعون درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما عملوا .
إن العابد حقًا هو الذي يعبد ربه على بصيرة ويتبين له الحق، وهذه سبيل النبيe ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [ (يوسف الآية : 108)
فالإنسان الذي يتطهر وهو يعلم أنه على طريق شرعي، هل هو كالذي يتطهر من أجل أنه رأى أباه أو أمه يتطهرا؟ .
أيهما أبلغ في تحقيق العبادة ؟ رجل يتطهر لأنه علم أن الله أمر بالطهارة وأنها هي طهارة النبي صلى الله عليه وسلم فيتطهًر امتثالاً لأمر الله واتباعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم رجل آخر يتطهر لأن هذا هو المعتاد عنده ؟ .(131/3)
فالجواب: بلا شك أن الأول هو الذي يعبد الله على بصيرة. فهل يستوي هذا وذاك؟ وإن كان فعل كل منهما واحداً ، لكن هذا عن علم وبصيرة يرجو الله – عز وجل ويحذر الآخرة ويشعر بأنه متبع للرسول صلى الله عليه وسلم وأقف عند هذه النقطة وأسأل هل نستشعر عند الوضوء بأننا نمتثل لأمر الله – سبحانه وتعالى- في قوله : ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْن) [ (المائدة: الآية6).
هل الإنسان عند وضوئه يستحضر هذه الآية وأنه يتوضأ امتثالاً لأمر الله؟ .
هل يستشعر أن هذا وضوء رسول الله e وأنه يتوضأ اتباعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
الجواب: نعم، الحقيقة أن منا من يستحضر ذلك، ولهذا بذلك الإخلاص وأن نكون متبعين لرسول الله e . نحن نعلم أن من شروط الوضوء النية، لكن النية قد يراد بها نية العمل وهذا نتنبه لهذا الأمر العظيم، وهي أن نستحضر ونحن نقوم بالعبادة أن نمتثل أمر الله بها لتحقيق الإخلاص، وأن نستحضر أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها ونحن له متبعون فيها لتحقيق المتابعة؛ لأن من شروط صحة العمل:
الإخلاص.
والمتابعة.
اللذين بها تتحقق شهادة أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .
نعود إلى ما ذكرنا أولاً من فضائل العلم، إذ بالعلم يعبد الإنسان ربه على بصيرة، فيتعلق قلبه بالعبادة ويتنور قلبه بها، ويكون فاعلاً لها على أنها عبادة لا على أنها عادة، ولهذا إذا صلي الإنسان على هذا النحو فإنه مضمون له ما أخبر الله به من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ومن أهم فضائل العلم ما يلي:(131/4)
1- أنه إرث الأنبياء، فالأنبياء – عليهم الصلاة والسلام – لم يورثوا درهماًَ ولا ديناراً وإنما ورثوا العلم، فمنْ أخذ بالعلم فقد أخذ بحظ وافر من إرث الأنبياء، فأنت الآن في القرن الخامس عشر إذا كنت من أهل العلم ترث محمداً e وهذا من أكثر الفضائل.
2- أنه يبقى والمالي يفني، فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه – من فقراء الصحابة حتى إنه يسقط من الجوع كالمغمي عليه وأسألكم بالله هل يجري لأبي هريرة ذكر بين الناس في عصرنا أم لا ؟ نعم يجري كثيرا فيكون لأبي هريرة أجر من انتفع بأحاديثه، إذ العلم يبقى والمال يفنى، فعليك يا طالب العلم أن تستمسك بالعلم فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )) (1)
3- أنه لا يتعقب صاحبه في الحراسة؛ لأنه إذا رزقك الله علماً فمحله في القلب لا يحتاج إلى صناديق أو مفاتيح أو غيرها، هو في القلب محروس، وفي النفس محروس، وفي الوقت نفسه هو حارس
لك؛ لأنه يحميك من الخطر بإذن الله – عز وجل – فالعلم يحرسك، ولكن المال أنت تحرسه تجعله في صناديق وراء الأغلاف، ومع ذلك تكون غير مطمئن عليه.
4- أن الإنسان يتوصل به إلى أن يكون من الشهداء على الحق، والدليل قوله تعالي: ] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ (آل عمران: الآية18). فهل قال: (( أولو المال))؟ لا، بل قال : ] وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ [ فيكفيك فخراً يا طالب العلم أن تكون ممن شهد الله أنه لا إله إلا هو مع الملائكة الذين يشهدون بوحدانية الله – عز وجل –(131/5)
5- أن أهل العلم هو أحد صنفي ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله تعالي: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [ (النساء: من الآية59). فإن ولاة الأمور هنا تشمل ولاة الأمور من الأمراء والحكام، والعلماء وطلبة العلم؛ فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله ودعوة الناس إليها وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله وإلزام الناس بها.
6- أن أهل العلم هو القائمون على أمر الله تعالي حتى تقوم الساعة، ويستدل لذلك بحديث معاوية – رضى الله عنه – يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقوم: (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله )) (1) . رواه البخاري.
وقد قال الإمام أحمد عن هذه الطائفة: (( إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم )).
وقال القاضي عياض – رحمه الله - : (( أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب الحديث)).
7- أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرغب أحداً أن يغبط أحداً على شيْ من النعم التي أنعم الله بها إلا على نعمتين هما:
1- طلب العلم والعمل به.
2- التاجر الذي جعل ماله خدمة للإسلام. فعن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا حسد إلا في إثنتين: رجل أتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويعٌلّمٌها)) (1)(131/6)
8- ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُُه في دين الله ونفعهُ ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به )) (2
9- أنه طريق الجنة كما دل على ذلك حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله e قال: (( ومن سلك طريقا يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة. )) (1) . رواه مسلم.
10- ما جاء في حديث معاوية – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله e: (( من يرد الله به خيراً يُفقهه في الدين )) (2) . أي يجعله فقيهاً في دين الله – عز وجل - ، والفقه في الدين ليس المقصود به فقه الأحكام العملية المخصوصة عند أهل العلم بعلم الفقه فقط، ولكن المقصود به هو: علم التوحيد، وأصول الدين، وما يتعلق بشريعة الله – عز وجل -. ولو لم يكن من نصوص الكتاب والسنة إلا هذا الحديث في فضل العلم لكان كاملاً في الحثً على طلب علم الشريعة والفقه فيها.
11- أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.(131/7)
12- أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفي على كثير منّا قصة الرجل الذي من بني إسرائيل قتل تسعا ًوتسعين نفساً، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عابد فسأله هل له من توبة ؟ فكان العابد استعظم الأمر فقال: لا. فقتله فأتم به المئة، ثم ذهب إلى عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لاشيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دله على بلد أهله صالحون ليخرج إليها، فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق. والقصة مشهورة (1) . فانظر الفرق بين العالم والجاهل.
13- أن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله – عز وجل – والعمل بما علموا ، وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به. قال الله تعالي: ] يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ[ (المجادلة: الآية11).
الفصل الثالث
حكم طلب العلم
طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون طلب العلم واجباً على الإنسان عيناً أي فرض عين، وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها، فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة، وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يشعر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حال طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل هو من الجاهد في سبيل الله، ولاسيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم، وبدأ الجدل من كثير من الناس ، فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم.
أولا: بدع بدأت تظهر شرورها.(131/8)
ثانيًا: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم.
ثالثاً: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها
بغير علم.
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع، وعندهم فقه في دين الله، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله لأن كثيراً من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شر أكبر لا يعلم مداه إلا الله.
---
(1) البخاري ، كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيراً، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة.
(2) أبو داود، كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، والترميذي، كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة.
(1) أخرجه مسلم من كتاب الفضائل، باب : وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره r من معايش الدنيا على سبيل الرأي.
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية ، باب : ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.
(1) البخاري، كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيراً ومسلم، كتاب الزكاة، باب: النهي عن المسألة.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم ، كتاب الصلاة ، باب: فضل
من يقوم بالقرآن ويعلمه.
(2) أخرجه البخاري ، كتاب العلم، باب: فضل من علم وعمل ، ومسلم، كتاب الفضائل ، باب: مثل مابعث به النبي e من الهدى والعلم.
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الدعوات ، باب : فضل الاجتماع على تلاوة القرآن.
(2) تقدم تخريجه ص 13.
(1) أخرجها البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر من بني إسرائيل ، ومسلم، كتاب التوبة، باب: قبول توبة القاتل.
كتاب العلم
في آداب طالب العلم والأسباب المعينة على تحصيله
محمد بن صالح العثيمين
في آداب طالب العلم والأسباب المعينة على تحصيله
الفصل الأول
آداب طالب العلم(131/9)
طالب العلم لابد له من التأدب بآداب، نذكر منها :
الأمر الأول : إخلاص النية لله - عز وجل -:
بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله والدار الآخرة؛ لأن الله حثُ عليه ورغب فيه، فقال تعالى: ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ (محمد: الآية19) والثناء على العلماء في القرآن معروف، وإذا أثنى الله على شيء أو أمر به صار عبادة.
إذن فيجب الإخلاص فيه لله بأن ينوي الإنسان في طلب العلم وجه الله – عز وجل – وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة أو رتبة، فقد قال رسول الله e (( من تعلم علماً يبتغي به وجه الله – عز وجل – لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة)) – يعني ريحها - (1) وهذا وعيد شديد.
لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظ من الدنيا، ولكن لأن النظم أصبح مقياس العالم فيها
شهادته فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليمًا أو إدارة أو نحوها، فهذه نية سليمة لا تضره شيئاً ؛ لأنها نية حق.
وإنما ذكرنا الإخلاص في أول آداب طالب العلم ؛ لأن الإخلاص أساس، فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم امتثال أمر الله – عز وجل – لأن الله - عز وجل – أمر بالعلم فقال تعالي : ] فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [ (محمد: الآية 19) فأمر بالعلم، فإذا تعلمت فإنك ممتثل لأمر الله – عز وجل - .
الأمر الثاني: رفع الجهل عن نفسه وعن غيره :(131/10)
أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غير؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل، ودليل ذلك قوله تعالي: ] وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون [ (النحل:78) . والواقع يشهد بذلك فتنوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسك وبذلك تنال خشية الله ]إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ (فاطر، الآية:28) فتنوي رفع الجهل عن نفسك لأن الأصل فيك الجهل، فإذا تعلمت وصرت من العلماء انتفي عنك الجهل، وكذلك تنوي رفع الجهل عن الأمة ويكون ذلك بالتعليم بشتى الوسائل لتنفع الناس بعلمك.
وهل من شرط نفع العلم أن تجلس في المسجد في حلقة ؟
أو يمكن أن تنفع الناس بعلمك في كل حال ؟
الجواب: بالثاني؛ لأن الرسول e يقول: (( بلغوا عني ولو آية )) (1)
لأنك إذا علمت رجلاً علماً وعلّمه رجلاً آخر صار لك أجر رجلين، ولو علم ثالثاُ صال لك أجر ثلاثة وهكذا، ومن ثم صار من البدع أن الإنسان إذا فعل عبادة قال: (( اللهم اجعل ثوابها لرسول الله ))؛ لأن الرسول e هو الذي علمك بها وهو الذي دلك عليها فله مثل أجرك.
قال الإمام أحمد – رحمه الله تعالي -: (( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته )). قالوا : كيف ذلك ؟ (( ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ))؛ لأن الأصل فيهم الجهل كما هو الأصل فيك، فإذا تعلمت من أجل أن ترفع الجهل عن هذه الأمة كنت من المجاهدين في سبيل الله الذين ينشرون دين الله.
الأمر الثالث: الدفاع عن الشريعة:(131/11)
أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الكتب لا يمكن أن تدافع عن الشريعة، ولا يدافع عن الشريعة إلا حامل الشريعة، فلوا أن رجلاً من أهل البدع جاء إلى مكتبة حافلة بالكتب الشرعية فيها ما لا يحصي من الكتب، وقام يتكلم ببدعة ويقررها فلا أظن أن كتاباً واحداً يرد عليه، لكن إذا تكلم عن عند شخص من أهل العلم ببدعته ليقررها فإن طالب العلم يرد عليه ويدحض كلامه بالقرآن والسنة.
فعلى طالب العلم أن ينوى بطلب العلم الدفاع عن الشريعة ؛ لأن الدفاع عن الشريعة لا يكون إلا برجالها كالسلاح تماماً، لو كان عندنا أسلحة ملأت خزائنها فهل هذه الأسلحة تستطيع أن تقوم من أجل أن تلقي قذائفها على العدو؟ أو لا يكون ذلك إلا بالرجال ؟
فالجواب: لا يكون ذلك إلا بالرجال، وكذلك العلم.
ثم إن البدع تتجدد، فقد توجد بدع ما حدثت في الزمن الأول ولا توجد في الكتب فلا يمكن أن يدافع عنها إلا طالب العلم، ولهذا أقول:
إن ما تجب مراعاته لطالب العلم الدفاع عن الشريعة، إذن فالناس في حاجة ماسة إلى العلماء؛ لأجل أن يردوا على كيد المبدعين وسائر أعداء الله – عز وجل – ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي المتلقي من كتاب الله وسنة رسوله e .
الأمر الرابع: رحابة الصدر في مسائل الخلاف:
أن يكون صدره رحباً في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد ؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء، أما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه ويكون الأمر فيها واضحاً فهذه لا يعذر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال فهذه يعذر فيها من خالفها، ولا يكون قولك حجة على من خالفك فيها؛ لأننا لو قبلنا ذلك لقنا بالعكس قوله حجة عليك.(131/12)
وأنا أريد بهذا ما للرأي فيه مجال، ويسع الإنسان فيه الخلاف، أما من خالف طريق السلف كمسائل العقيدة فهذه لا يقبل من أحد مخالفة ما كان عليه السلف الصالح، لكن في المسائل الأخرى التي للرأي فيها مجال فلا ينبغي أن يتُخذ من هذا الخلاف مطعنٌ في الآخرين، أو يتُخذ منها سببٌ للعداوة والبغضاء .
فالصحابة – رضي الله عنهم – يختلفون في أمور كثيرة، ومن أراد أن يطلع على اختلافهم فليرجع إلى الآثار الواردة عنهم يجد الخلاف في مسائل كثيرة، وهي أعظم من المسائل التي اتخذها الناس هذه الأيام ديدناً للاختلاف حتى اتخذ الناس من ذلك تحزباً بأن يقولوا: أنا مع فلان كأن المسألة مسألة أحزاب فهذا خطأ.
من ذلك مثلاً كأن يقول أحد إذا رفعت من الركوع فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، بل أرسلها إلى جنب فخذيك فإن لم تفعل فأنت مبتدع.
كلمة مبتدع ليست هينة على النفس، إذا قال لي هذا سيحدث في صدري شيء من الكراهية؛ لأن الإنسان بشر، ونحن نقول هذه المسألة فيها سعة إما أن يضعها أو يرسلها، ولهذا نص الإمام أحمد – رحمه الله – على أنه يخيّر بين أن يضع يده اليمنى على اليسرى وبين الإرسال؛ لأن الأمر في ذلك واسع، ولكن ما هي السنة عند تحرير هذه المسألة؟(131/13)
فالجواب: السنة أن تضع يدك اليمنى على اليسرى إذا رفعت من الركوع كما تضعها إذا كنت قائماً، والدليل فيما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال ((كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة ))(1) فلتنظر هل يريد بذلك في حال السجود؟ أو يريد بذلك في حال القعود ؟ لا بل يريد بذلك في حالة القيام وذلك يشمل القيام قبل الركوع والقيام بعد الركوع، فيجب أن لا نأخذ من هذا الخلاف بين العلماء سبباً للشقاق والنزاع؛ لأننا كلنا نريد الحق وكلنا فعل ما أدّاه اجتهاده إليه، فما دام هكذا فإنه لا يجوز أن نتخذ من ذلك سبباً للعداوة والتفرق بين أهل العلم؛ لأن العلماء لم يزالوا يختلفوا حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن فالواجب على طلبة العلم أن يكونوا يداًَ واحدة، ولا يجعلوا مثل هذا الخلاف سبباً للتباعد والتباغض، بل الواجب إذا خالفت صاحبك بمقتضى الدليل عندك، وخالفكم هو بمقتضى الدليل عنده أن تجعلوا أنفسكم على طريق واحد، وأن تزداد المحبة بينكما.
ولهذا فنحن نحب ونهنىء شبابنا الذين عندهم الآن اتجاهاً قوياً إلى أن يقرنوا المسائل بالدلائل وأن يبنوا علمهم على كتاب الله وسنة رسوله، نرى أن هذا من الخير وأنه يبشر بفتح أبواب العلم من مناهجه الصحيحة، ولا نريد منهم أن يجعلوا ذلك سببا للتحزب والبغضاء، وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ [ (الأنعام: الآية: 159) فالذين يجعلون أنفسهم أحزاباً يتحزبون إليها لا نوافقهم على ذلك لأن حزب الله واحد ، ونرى أن اختلاف الفهم لا يوجب أن يتباغض الناس وأن يقع في عرض أخيه.(131/14)
فيجب على طلبة العلم أن يكونوا إخوة، حتى وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وعلى كل واحد أن يدعو الآخر بالهدوء والمناقشة التي يُراد بها وجه الله والوصول إلى العلم، وبهذا تحصل الألفة، ويزول هذا العنت والشدة التي تكون في بعض الناس، حتى قد يصل بهم الأمر إلى النزاع والخصام، وهذا لا شك يفرح أعداء المسلمين والنزاع بين الأمة من أشد ما يكون في الضرر قال الله تعالى: ] )وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [ ( الأنفال، الآية:46) .
وكان الصحابة- رضي الله عنهم – يختلفون في مثل هذه المسائل، ولكنهم على قلب واحد، على محبة وائتلاف، بل إني أقول بصراحة إن الرجل إذا خالفك بمقتضى لدليل عنده فإنه موافق لك في الحقيقة؛ لأن كلاً منكما طال للحقيقة وبالتالي فالهدف واحد وهو الوصول إلى الحق عن دليل ، فهو إذن لم يخالفك ما دمت تقرّ أنه إنما خالفك بمقتضى الدليل عنده، فأين الخلاف؟ وبهذه الطريقة تبقي الأمة واحدة وإن اختلفت في بعض المسائل لقيام الدليل عندها، أما مَنْ عاند وكابر بعد ظهور الحق فلا شك أنه يجب أن يعامل بما يستحقه بعد العناد والمخالفة، ولكل مقام مقال.
الأمر الخامس: العمل بالعلم:
أن يعمل طالب العلم بعلمه عقيدة وعبادة، وأخلاقاً وآداباً ومعاملةً ؛ لأن هذا هو ثمرة العلم وهو نتيجة العلم، وحامل العلم كالحامل لسلاحه، إما له وإما عليه، ولهذا ثبت عن النبي e أنه قال: (( القرآن حجة لك أو عليك)) (1) . لك إن عملت به،(131/15)
وعليك إن لم تعمل به، وكذلك يكون العمل بما صح عن النبي e بتصديق الأخبار وامتثال الأحكام ، إذا جاء الخبر من الله ورسوله فصدقه وخذه بالقبول والتسليم ولا تقل: لم؟ وكيف؟ فإن هذا طريقة غير المؤمنين فقد قال الله تعالى: ] )وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً[ (الأحزاب الآية :36) .
والصحابة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم بأشياء قد تكون غريبة وبعيدة عن أفهامهم، ولكنهم يتلقون ذلك بالقبول لا يقولون: لم؟ وكيف؟ بخلاف ما عليه المتأخرون من هذه الأمة، نجد الواحد منهم إذا حُدًث بحديث عن الرسول e وحار عقله فيه نجده يورد على كلام الرسول e الإيرادات التي تستشف منها أنه يريد الاعتراض لا الاسترشاد، ولهذا يحال بينه وبين التوفيق، حتى يرد هذا الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لم يتلقه بالقبول والتسليم.
وأضرب لذلك مثلاً ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) (1)
هذا الحديث حدّث به النبي e وهو حديث مشهور بل متواتر، ولم يرفع أحد من الصحابة لسانه ليقول: يا رسول الله كيف ينزل؟ وهل يخلو منه العرش أم لا؟ وما أشبه ذلك، لكن نجد بعض الناس يتكلم في مثل هذا ويقول كيف يكون على العرش وهو ينزل إلى السماء الدنيا؟ وما أشبه ذلك من الإيرادات التي يوردونها، ولو أنهم تلقوا هذا الحديث بالقبول وقالوا إن الله – عز وجل – مستو على عرشه والعلو من لوازم ذاته، وينزل كما يشاء- سبحانه وتعالي – لاندفعت عنهم هذه الشبهة ولم يتحيروا فيما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.(131/16)
إذن الواجب علينا أن نتلقى ما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب والتسليم، وأن لا نعارضها بما يكون في أذهاننا من المحسوس والمشاهد؛ لأن الغيب أمر فوق ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة لا أحب أن أطيل بذكرها، إنما موقف المؤمن من مثل هذه الأحاديث هو القبول والتسليم بأن يقول صدق الله ورسوله كما أخبر الله عن ذلك في قوله: ] )آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ [ (البقرة الآية: 285) .
فالعقيدة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وسنة رسوله، وأن يعلم الإنسان أنه لا مجال للعقل فيها لا أقول مدخل للعقل فيها، وإنما أقول لا مجال للعقل فيها، إلا لأن ما جاءت به من نصوص في كمال الله شاهدة به العقول، وإن كان اعقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله من كمال لكنه يدرك أن الله قد ثبت له كل صفة الكمال لابد أن يعمل بهذا العلم الذي منّ الله به عليه من ناحية العقيدة.
كذلك من ناحية العبادة، التعبد لله – عز وجل – وكما يعلم كثير منا أن العبادة مبنية على أمرين أساسين :
إحداهما: الإخلاص لله – عز وجل ـ .
والثاني: المتابعة للرسول، فيبني الإنسان عبادته على ما جاء عن الله ورسوله، لا يبتدع في دين الله ما ليس منه لا في أصل العبادة، ولا في وصفها ، ولهذا نقول : لا بد في العبادة أن تكون ثابتة بالشرع في هيئتها، وفي مكانها، وفي زمانها، وفي سببها، لابد أن تكون ثابتة بالشرع في هذه الأمور كلها.(131/17)
فلو أن أحداً أثبت شيئاً من الأسباب لعبادة تعبد الله بها دون دليل رددنا عليه ذلك، وقلنا: إن هذا غير مقبول؛ لأنه لابد أن يثبت بأن هذا سبب لتلك العبادة وإلا فليس بمقبول منه، ولو أن أحداً شرع شيئاً من العبادات لم يأت به الشرع أو أتي بشيء ورد به الشرع لكن على هيئة ابتدعها أو في زمان ابتدعه، قلنا إنها مردودة عليك؛ لأنه لابد أن تكون العبادة مبنية على ما جاء به الشرع؛ لأن هذا هو مقتضى ما علّمك الله تعالى من العلم ألا تتعبد الله تعالى إلا بما شرع.
ولهذا قال العلماء إن الأصل في العبادات الحظر حتى يقوم دليل على المشروعية واستدلوا على ذلك بقوله: ] أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّه [ (الشورى: الآية21) . وبقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة – رضي الله عنها -: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد )) (1) .
حتى لو كنت مخلصا وتريد الوصول إلى الله، وتريد الوصول إلى كرامته، ولكنه على غير الوجه المشروع فإن ذلك مردود عليك، ولو أنك أردت الوصول إلى الله من طريق لم يجعله الله تعالى طريقا.
للوصول إليه فإن ذلك مردود عليه.
إذن فواجب طالب العلم أن يكون متعبداً الله تعالى بما علمه من الشرع لا يزيد ولا ينقص، لا يقول إن هذا الأمر الذي أريد أن أتعبد لله به أمر تسكن إليه نفسي ويطمئن إليه قلبي وينشرح به صدري، لا يقول هكذا حتى لو حصل هذا فليزنها بميزان الشرع فإن شهد الكتاب والسنة لها بالقبول فعلى العين والرأس وإلا فإنه قد يزين له سوء عمله: ] )أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [ (فاطر: الآية8) .(131/18)
كذلك لابد أن يكون عاملا بعمله في الأخلاق والمعاملة ، والعلم الشرعي يدعو إلى كل خلق فاضل من الصدق، والوفاء ومحبة الخير للمؤمنين حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) (1) وقال عليه الصلاة والسلام: (( من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه )) (2) ، وكثير من الناس عندهم غيرة وحب للخير، ولكن يسعون الناس بأخلاقهم، نجدة عنده شدة وعنف حتى في مقام الدعوة إلى الله – عز وجل، نجده يستعمل العنف والشدة، وهذا خلاف الأخلاق التى أمر بها الله - عز وجل ـ.
واعلم أن حسن الخلق هو ما يقرب إلى الله – عز وجل – وأولى الناس برسول الله e وأدناهم منه منزلة أحاسنهم أخلاقاً كما قال صلى الله عليه وسلم (( إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، وإن أبغضكم إلى وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمفيهقون)) . قالوا يا رسول الله ! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال؟ ((المتكبرون)) (1)
الأمرالسادس: الدعوة إلى الله :
أن يكون داعياً بعلمه إلى الله – عز وجل – يدعو في كل مناسبة في المساجد، وفي المجالس، وفي الأسواق وفي كل مناسبة، هذ1 النبي e بعد أن آتاه الله النبوة والرسالة ما جلس في بيته بل كان يدعو الناس ويتحرك، وأنا لا أريد من طلبة العلم أن يكونوا نسخاً من كتب، ولكني أريد منهم أن يكونوا علماء عاملين.
الأمر السابع: الحكمة :(131/19)
أن يكون متحلياً بالحكمة، حيث يقول الله تعلي:] يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [ (البقرة: الآية269) والحكمة أن يكون طالب العلم مربياً لغيره بما يتخلق به من الأخلاق، وبما يدعو إليه من دين الله – عز وجل – بحيث يخاطب كل إنسان بما يليق بحاله، وإذا سلكنا هذا الطريق حصل لنا خير كثير كما قال ربنا – عز وجل:- ] وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [ (البقرة: الآية269) .
والحكيم هو : الذي ينزل الأشياء منازلها ، لأن الحكيم مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان، وإتقان الشيء أن ينزله منزلته، فينبغي بل يجب على طالب العلم أن يكون حكيماً دعوته.
وقد ذكر الله مراتب الدعوة في قوله تعالي: ] )ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: الآية125) وذكر الله تعالى مرتبة رابعة في جدال أهل الكتاب فقال تعالي:] )وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ) (العنكبوت: الآية46) .فيختار طالب العلم من أساليب الدعوة ما يكون أقرب إلى القبول، ومثال ذلك في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء أعرابي فبال في جهة من المسجد، فقام إليه الصحابة يزجرونه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما قضى بوله دعاه النبي وقال له: (( إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن )) (1) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، أرأيتم أحسن من هذه الحكمة؟ فهذا الأعرابي انشرح صدره واقتنع حتى إنه قال (( اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحداً)) .(131/20)
وقصة أخرى عن معاوية بن الحكم السُلميّ ، قال: بيْنا أنا أصلي مع رسول الله e إذ عطس رجل من القوم، فقلت: واُثكل أُمياه! ما شأنكم تنظرون إلي ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني، لكنّي سكتٌ. فما صلى رسول الله e ، فبأبي هو وأمي ! ما رأيت معلماً بعده أحسن تعليماً منه، فوالله ! ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )) (2) ومن هنا نجد أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالحكمة كما أمر الله – عز وجل -.
ومثال آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً وفي يده خاتم ذهب وخاتم الذهب حرام على الرجال، فنزعه النبي e من يده ورمى به، وقال: (( يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده )) (3) ولما انصرف النبي e قيل للرجل : خذ خاتمك انتفع به، فقال: والله لا
آخذ خاتماً طرحه رسول الله e، فأسلوب التوجيه هنا أشد؛ لأن لكل مقام مقالاً ، وهكذا ينبغي لك من يدعو إلى الله أن ينزل الأمور منازلها وألا يجعل الناس على حد سواء، والمقصود حصول المنفعة.
وإذا تأملنا ما عليه كثير من الدعاة اليوم وجدنا أن بعضهم تأخذه الغيرة حتى ينفر الناس من دعوته، لو وجد أحداً يفعل شيئاً محرماً لوجدته يشهر به بقوى وبشدة يقول: ما تخاف الله، ما تخشى الله، وما أشبه ذلك حتى ينفر منه، وهذا ليس بطيب؛ لأن هذا يقابل بالضد، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – لما نقل عن الشافعي – رحمه الله – ما يراه في أهل الكلام، حينما قال: (( حكمي في أهل الكلام أ، يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام )).(131/21)
قال شيخ الإسلام: إن الإنسان إذا نظر إلى هؤلاء وجدهم مستحقين لما قاله الشافعي من وجه، ولكنه إذا نظر إليهم بعين القدر والحيرة قد استولت عليهم والشيطان قد استحوذ عليهم، فإنه يرق لهم ويرحمهم، ويحمد الله أن عافاه مما ابتلاهم به، أو توا ذكاءً وما أوتوا زكاء، أو أوتوا فهوما وما أوتوا علوما، أو أوتوا سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء.
هكذا ينبغي لنا أيها الأخوة أن ننظر إلى أهل المعاصي بعينين: عين الشرع، وعين القدر،عير الشرع إي لا تأخذنا في الله لومة لائم كما قالت تعالى عن الزانية والزاني:] َفاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [ (النور: الآية2)
وننظر إليهم بعين القدر فنرحمهم ونرق لهم ونعاملهم بما نراه أقرب إلى حصول المقصود وزوال المكروه، وهذا من آثار طالب العلم بخلاف الجاهل الذي عنده غيرة، لكن ليس عنده علم، فطالب العلم الداعية إلى الله يجب أن يستعمل الحكمة.
الأمر الثامن: أن يكون الطالب صابراً على العلم:
أي مثابراً عليه لا يقطعه ولا يمل بل يكون مستمراً في تعلمه بقدر المستطاع، وليصبر على العلم، ولا يمل فإن الإنسان إذا طرقه الملل استحسر وترك، ولكن إذا كان مثابراً على العلم فإنه ينال أجر الصابرين من وجه، وتكون له العاقبة من وجه آخر، واستمع إلى قول الله – عز وجل – مخاطباً نبيه : ] )تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [ (هود الآية:49) .
الأمر التاسع : احترام العلماء وتقديرهم:(131/22)
إن على طلبة العلم احترام العلماء وتقديرهم، وأن تتسع صدورهم لما يحصل من اختلاف بين العلماء وغيرهم ، وأن يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلاً خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة مهمة جداً؛ لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين، ليتخذ منها ما ليس لائقا في حقهم ، ويشوش على الناس سمعتهم، وهذا أكبر الأخطاء، وإذا كان اغتياب العامي من الناس من كبائر الذنوب فإن اغتياب العالم أكبر وأكبر؛ لأن اغتياب العالم لا يقتصر ضرره على العالم بل عليه وعلى ما يحمله من العلم الشرعي.
والناس إذا زهدوا في العالم أو سقط من أعينهم تسقط كلمته أيضاً . وإذا كان يقول الحق ويهدي إليه فإن غيبة هذا الرجل لهذا العالم تكون حائلاً بين الناس وبين علمه الشعري، وهذا خطره كبير وعظيم.
أقول: إن على هؤلاء الشباب أن يحملوا ما يجري بين العلماء من الاختلاف على حسن النية، وعلى الاجتهاد، وأن يعذروهم فيما اخطأوا فيه، ولا مانع أن يتكلموا معهم فيما يعتقدون أنه خطأ، ليبينوا لهم هل الخطأ منهم أومن الذين قالوا إنهم أخطأوا؟ لأن الإنسان أحياناً يتصور أن قول العالم خطأ، ثم بعد المناقشة يتبين له صوابه. والإنسان بشر (( كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)) (1)
أما أن يفرح بزلة العالم وخطئه ، ليشيعها بين الناس فتحصل الفرقة، فإن هذا ليس من طريق السلف.(131/23)
وكذلك أيضاً ما يحصل من الأخطاء من الأمراء، لا يجوز لنا أن نتخذ ما يخطئون فيه سٌلّماً للقدح فيهم في كل شيء ونتغاضي عما لهم من الحسنات؛ لأن الله يقول في كتابه: ] )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا[ (المائدة: الآية8).يعني لا يحملكم بغض قوم على عدم العدل، فالعدل واجب، ولا يحل للإنسان أن يأخذ زلات أحد من الأمراء أو العلماء أو غيرهم فيشيعها بين الناس ، ثم يسكت عن حسناتهم، فإن هذا ليس بالعدل . وقس هذا الشيء على نفسك لو أن أحداً سٌلط عليكم وصار ينشر زلاتك وسيئاتك، ويخفي حسناتك وإصاباتك ، لعددت ذلك جناية منه عليك، فإذا كنت ترى ذلك في نفسك؛ فإنه يجب عليك أن ترى ذلك في غيرك، وكما أشرت آنفاً إلى أن علاج ما تظنه خطأ أن تتصل بمن رأيت أنه أخطأ، وأن تناقشه، ويتبين الموقف بعد المناقشة .
فكم من إنسان بعد المناقشة يرجع عن قوله إلى ما يكون هو الصواب، وكم من إنسان بعد المناقشة يكون قوله هو الصواب، وظننا هو الخطأ. (( فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)) (1) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه )) (2) ، وهذا هو العدل والاستقامة.
الأمر العاشر: التمسك بالكتاب والسنة:
يجب على طالبة العلم الحرص التام على تلقي العلم والأخذ من أصوله التي لا فلاح لطالب العلم إن لم يبدأ بها، وهي:(131/24)
1- القران الكريم : فإنه يجب على طالب العلم الحرص عليه قراءةً وحفظاً وفهماً وعملاً به، فإن القرآن هو حبل الله المتين ، وهو أساس العلوم، وقد كان السلف يحرصون عليه غاية الحرص فيذكر عنهم الشيء العجيب من حرصهم على القرآن ، فتجد أحدهم حفظ القرآن وعمره سبع سنوات، وبعضهم حفظ القرآن في أقل من شهر، وفي هذا دلالة على حرص السلف – رضوان الله عليهم – على القرآن ، فيجب على طالب العلم الحرص عليه وحفظه على يد أحد المعلمين؛ لأن القرآن يؤخذ عن طريق التلقي.
وإنه مما يؤسف له أن تجد بعض طلبة العلم لا يحفظ القرآن ، بل بعضهم لا يحسن القراءة، وهذا خلل كبير في منهج طلب العلم. لذلك أكرر أنه يجب على طلبة العلم الحرص على حفظ القرآن والعمل به والدعوة إليه وفهمه فهماً مطابقاً لفهم السلف الصالح.
2- السنة الصحيحة: فهي ثاني المصدرين للشريعة الإسلامية، وهي الموضحة للقرآن الكريم، فيجب على طالب العلم الجمع بينهما والحرص عليهما، وعلى طالب العلم حفظ السنة، إما بحفظ نصوص الأحاديث أو بدراسة أسانيدها ومتونها وتمييز الصحيح من الضعيف، وكذلك يكون حفظ السنة بالدفاع عنها والرد على شبهات أهل البدع في السنة.
فيجب على طالب العلم أن يلتزم بالقرآن والسنة الصحيحة، وهما له – إي طالب العلم – كالجناحين للطائر إذا انكسر أحدهما لم يطر.(131/25)
لذلك لا تراعي السنة وتغفل عن القرآن ، أو تراعي القرآن وتغفل عن السنة ، فكثير من طلبة العلم يعتني بالسنة وشروحها ورجالها، ومصطلحاتها اعتناءً كاملاً؛ لكن لو سألته عن آية من كتاب الله لرأيته جاهلا بها، وهذا غلط كبير، فلا بد أن يكون الكتاب والسنة لرأيته جاهلا بها، وهذا غلط كبير، فلا بد أن يكون الكتاب والسنة جناحين لك يا طالب العلم، وهناك شيء ثالث منهم وهو كلام العلماء، فلا تهمل كلام العلماء ولا تغفل عنه ؛ لأن العلماء أشد رسوخاً منك في العلم، وعندهم من قواعد الشريعة وأسرارها وضوابطها ما ليس عندك ولهذا كان العلماء الأجلاء المحققون إذا ترجح عندهم قول، يقولون: إن كان أحد قال به وإلا فلا نقول به، فمثلا شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي- على علمه وسعة اطلاعه إذا قال قولاً لا يعلم به قائلاً قال : أنا أقول به إن كان قد قيل به، ولا يأخذ برأيه.
لذا يجب على طالب العلم الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يستعين بكلام العلماء .
والرجوع إلى كتاب الله يكون بحفظه وتدبره والعمل على ما جاء به؛ لأن الله يقول: ] كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ (ص الآيةّ:29) (لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ[ وتبر الآيات يوصل إلى فهم المعنى،] وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [. والتذكر هو العمل بهذا القرآن.
نزل هذا القرآن لهذه الحكم، وإذا كان نزل لذلك؛ فلنرجع إلى الكتاب لنتدبره ولنعلم معانيه، ثم نطبق ما جاء به ووالله إن فيه سعادة الدنيا والآخرة، يقول الله تعالي: ] فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى[ ] مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [ (طه: الآيتان 123 ، :124)(131/26)
ولهذا لا تجد أحداً أنعم بألاً ، ولا أشرح صدراً ، ولا أشد طمأنينة في قلبه من المؤمن أبداً ، حتى وإن كان فقيراً ، فالمؤمن أشد الناس انشراحاً ، وأشد الناس اطمئناناً ، وأوسع الناس صدراً وأقرأوا إن شئتم قول الله تعالي: قول الله تعالي: ] مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون [ (النحل الآية:97) .
ما هي الحياة الطيبة ؟
الجواب: الحياة الطيبة هي انشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى ولو كان الإنسان في أشد بؤس، فإنه مطمئن القلب منشرح الصدر، قال النبي e : (( عجباً الأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له )) (1)
الكافر إذا أصابته الضراء هل يصبر ؟ فالجواب: لا. بل يحزن وتضيق عليه الدنيا، وربما انتحر وقتل نفسه، ولكن المؤمن يصبر ويجد لذة الصبر انشراحاً وطمأنينة؛ ولذلك تكون حياته طيبة، وبذلك يكون قوله تعالى: ] فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً [ . حياة طيبة في قبله ونفسه.
بعض المؤرخين الذين تكلموا عن حياة الحافظ ابن حجر – رحمه الله – وكان قاضي قضاة مصر في عهده، وكان إذا جاء إلى مكان عمله يأتي بعربة تجرها الخيول أو البغال في موكب. فمر ذات يوم برجل يهودي في مصر زيات – أي يبيع الزيت – وعادة يكون الزيات وسخ الثياب – فجاء اليهودي فأوقف الموكب. وقال للحافظ ابن حجر – رحمه الله -: إن نبيكم يقول" (( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر )) (1) . وأنت قاضي قضاة مصر ،وأنت في هذا الموكب، وفي هذا النعيم، وأنا – يعني نفسه اليهودي – في هذا العذاب وهذا الشقاء.(131/27)
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - : (( أنا فيما أنا فيه من الترف والنعيم يعتبر بالنسبة إلى نعيم الجنة سجناً ، وأما أنت بالنسبة للشقاء الذي أنت فيه يعتبر بالنسبة لعذاب النار جنة)) . فقال اليهودي: أهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنمحمداً رسول الله. وأسلم.
· فالمؤمن في خير مهما كان، وهو الذي ربح الدنيا والآخرة.
· والكافر في شر وهو الذي خسر الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى : ] )وَالْعَصْر* إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ * وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر* [ ( العصرالآيات 1- 3) .
فالكفار والذين أضاعوا دين الله وتاهوا في لذاتهم وترفهم ، فهم وإن بنوا القصور وشيدوها وازدهرت لهم الدنيا؛ فإنهم في الحقيقة في جحيم، حتى قال بعض السلف: (( لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف )).
أما المؤمنون فقد نعموا بمناجاة الله وذكره، وكانوا مع قضاء الله وقدره ، فإن أصابتهم الضراء صبروا، وإن أصابتهم السراء شكروا، فكانوا في أنعم ما يكون، بخلاف أصحاب الدينا فإنهم كما وصفهم الله بقوله: ] ) فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [ (التوبة: الآية58) .
وأما الرجوع إلي السنة النبوية: فسنة الرسول e ثابتة بين أيدينا، ولله الحمد، ومحفوظة، حتى ما كان مكذوباً على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن أهل العلم بينوا سنته، وبينوا ما هو مكذوب عليه، وبقيت السنة - ولله الحمد – ظاهرة محفوظة، يستطيع إي إنسان أن يصل إليها إما بمراجعة الكتب – إن تمكن – وإلا ففي سؤال أهل العلم.(131/28)
ولكن إذا قال قائل: كيف توفق بين ما قلت من الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله e؟ مع أننا نجد أن أناساً يتبعون الكتب المؤلفة في المذاهب ويقول: أنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا!! حتى إنك لتفتي الرجل وتقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيقول : أنا مذهبي حنفي، أنا مذهبي مالكي، أنا مذهبي شافعي، أنا مذهبي حنبلي ... وما أشبه ذلك.
فالجواب: أن نقول لهم إننا جميعا نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله .
فما معني شهادة أن محمداً رسول الله ؟
قال العلماء : معناها: (( طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهي وزجر، وأن لا يعبد الله إلا بما شرع )) .
فإذا قال إنسان أنا مذهبي كذا أو مذهبي كذا أو مذهبي كذا فنقول له: هذا قول الرسول- عليه الصلاة والسلام – فلا تعارضه بقول أحد.
حتى أئمة المذاهب ينهون عن تقليدهم تقليدا محضاً ويقولون: (( متى تبين الحق فإن الواجب الرجوع إليه)).
فنقول لمن عارضنا بمذهب فلان أو فلان: نحن وأنت نشهد أن محمداً رسول الله، وتقتضي هذه الشهادة إلا نتبع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذه السنة بين أيدينا واضحة جلية، ولكن لست أعني بهذا القول أن نقلل من أهمية الرجوع لكتب الفقهاء وأهل العلم، بل إن الرجوع إلى كتبهم للانتفاع بها ومعرفة الطرق التي بها تستنبط الأحكام من أدلتها من الأمور التي لا يمكن أن تحقق طلب العلم إلا بالرجوع إليها.(131/29)
ولذلك نجد أولئك القوم الذين لم يتفقهوا على أيدي العلماء نجد أن عندهم من الزلات شيئاً كثيراً؛ لأنهم صاروا ينظرون بنظر أقل مما ينبغي أن ينظروا فيه، يأخذون مثلاُ صحيح البخاري فيذهبون إلى ما فيه من الأحاديث، مع أن في الأحاديث ما هو عام ، ومخصص، ومطلق، ومقيد ، وشيء منسوخ، لكنهم لا يهتدون إلى ذلك، فيحصل بهذا ضلال كبير.
الأمر الحادي عشر: التثبت والثبات:
ومن أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم التثبت فيما ينقل من الأخبار والتثبت فيما يصدر من الأحكام، فالأخبار إذا نقلت فلابد أن تتثبت أولاً هل صحت عمن نقلت إليه أو لا، ثم إذا صحت فتثبت في الحكم ربما يكون الحكم الذي سمعته مبنياً على أصل تجهله أنت، فتحكم أنه خطأ، والواقع أنه ليس بخطأ .
ولكن كيف العلاج في هذه الحال ؟
العلاج: أن تتصل بمن نُسب إليه الخبر وتقول نقلأ عنك كذا وكذا فهل هذا صحيح؟ ثم تناقشه فقد يكون استنكارك ونفور نفسك منه أول وهلة سمعته لأنك لاتدري ما سبب هذا المنقول، ويقال إذا علم السبب بطل العجب، فلابد أولاً من التثبت في الخبر والحكم، ثم بعد ذلك تتصل بمن نقل عنه وتسأله هل صح ذلك أم لا؟ ثم تناقشه: إما أن يكون هو على حق وصواب فترجع إليه أو يكون الصواب معك فيرجع إليه.
وهناك فرق بين الثبات والتثبت فهما شيئان متشابهان لفظاً مختلفان معني.(131/30)
فالثبات معناه : الصبر والمثابرة وإلا يمل ولا يضجر وإلا يأخذ من كل كتاب نتفة، أو من كل فن قطعة ثم يترك؛ لأن هذا الذي يضر الطالب، ويقطع عليه الأيام بلا فائدة، فمثلاً بعض الطلاب يقرأ في النحو : في الأجرومية ومرة في متن قطر الندي، ومرة في الألفية. وكذلك الحال في: المصطلح، مرة في النخبة، ومرة في الفية العراقي، وكذلك في الفقه: مرة في زاد المستقنع، ومرة في عمدة الفقه، ومرة في المغني ، ومرة في شرح المهذب، وهكذا في كل كتاب، وهلم جرا ، هذا في الغالب لا يحصلُ علماً، ولو حصل علماً فإنه يحصل مسائل لا أصولاً ، وتحصيل المسائل كالذي يتلقط الجراد واحدة بعد الأخرى، لكن التأصيل والرسوخ والثبات هو المهم، فكن ثابتاً بالنسبة للكتب التي تقرأ أو تراجع وثابتاً بالنسبة للشيوخ الذين تتلقى عنهم، لا تكون ذواقاً كل أسبوع عند شيخ، كل شهر عن شيخ ، قرر أولاً من ستتلقى العلم عنده، ثم إذا قررت ذلك فاثبت ولا تجعل كل شهر أو كل أسبوع لك شيخا ، ولا فرق بين أن تجعل لك شيخاً في الفقه وتستمر معه في الفقه، وشيخا آخر في النحو وتستمر معه في النحو، وشيخاً آخر في العقيدة والتوحيد وتستمر معه، المهم أن تستمر لا أن تتذوق، وتكون كالرجل المطلاق كما تزوج امرأة وجلس عندها أياماً طلقها وذهب يطلب أخرى.
أيضاً التثبت أمر مهم؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة، ينقلون ما يشوه سمعته المنقول عنه قصداً وعمداً ، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي أريد به، ولهذا يجب التثبت، فإذا ثبت بالسند ما نٌقل أتى دور المناقشة مع صاحبه الذي نقل عنه قبل أن تحكم على القول بأنه خطأ أو غير خطأ، وذلك لأنه ربما يظهر لك بالمناقشة أن الصواب مع هذا الذي نٌقل عنه الكلام.
والخلاصة أنه إذا نقل عن شخص ما، ترى أنه خطأ فاسلك طرقا ثلاثة على التريب:
الأول : التثبت في صحة الخبر.(131/31)
الثاني: النظر في صواب الحكم، فإن كان صواباً فأيده ودافع عنه، وإن رأيته خطأ فاسلك الطريق الثالث وهو : الاتصال بمن نسب إليه لمناقشته فيه وليكن ذلك بهدوء واحترام.
الأمر الثاني عشر: الحرص على فهم مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم :
من الأمور المهمة في طلب العلم قضية الفهم، أي فهم مراد الله – عز وجل – ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كثيراً من الناس أوتوا علماً ولكن لم يؤتوا فهماً. لا يكفي أن تحفظ كتاب الله وما تيسر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون فهم. لابد أ ن تفهم عن الله ورسوله ما أراده الله ورسوله، وما أكثر الخلل من قوم استدلوا بالنصوص على غير مراد الله ورسوله فحصل بذلك الضلال.
وهنا أنبّه على نقطة مهمة ألا وهي: أن الخطأ في الفهم قد يكون أشد خطراً بالجهل؛ لأن الجاهل الذي يخطىء بجهله يعرف أنه جاهل ويتعلم، لكن الذي فهم خطأ يعتقد في نفسه أنه عالم مصيب، ويعتقد أن هذا هو مراد الله ورسوله، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة ليتبين لنا أهمية الفهم:
المثال الأول: قال الله تعالي: ] )وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * [ ] فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ * [ (الانبياء الآيتان: 78، 79) .
فضل الله – عز وجل – سليمان على داود في هذه القضية بالفهم ] فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَان[َ ولكن ليس هناك نقص في علم داود ] وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً [ .(131/32)
وانظر إلى هذه الآية الكريمة لما ذكر الله – عز وجل – ما امتاز به سليمان من الفهم، فإنه ذكر أيضاً ميزة داود عليه السلام، فقال تعالى: ] وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ [ . وذلك حتى يتعادل كل منهما، فذكر الله تعالى ما اشتركا فيه من الحكم والعلم ثم ذكر ما امتاز به كل واحد منهما عن الآخر.
وهذا يدلنا على أهمية الفهم، وأن العلم ليس كل شيء.
المثال الثاني: إذا كان عندك وعاءان أحدهما فيه ماء ساخن دافىء، والآخر فيه ما بارد قارس، والفصل فصل الشتاء، فجاء رجل يريد الاغتسال من الجنابة، فقال بعد الناس: الأفضل أن تستخدم الماء البارد، وذلك لأن الماء البارد فيه مشقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ألا أدلكم على ما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، قالوا بلي يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره ... )) (1) الحديث.
يعني إسباغ في أيام البرد فإذا أسبغت الوضوء بالماء البارد كان أفضل من أن تسبغ الوضوء بالماء المناسب لطبيعة الجو.
فالرجل أفتى بأن استخدام الماء البارد أفضل واستدل بالحديث السابق.
فهل الخطأ في العلم أم في الفهم ؟
الجواب: أن الخطأ في الفهم؛ لأن الرسول e يقول: (( إسباغ الوضوء على المكاره)) ولم يقل: أن تختار الماء البارد للوضوء، وفرق بين التعبيرين . لو كان الوارد في الحديث التعبير الثاني لقلنا نعم اختر الماء البارد. ولكن قال: (( إسباغ الوضوء على المكاره)). أي أن الإنسان لا يمنعه برودة الماء من إسباغ الوضوء.
ثم نقول: هل يريد الله بعباده اليسر أم يريد بهم العسر ؟
الجواب: في قوله تعالي:] يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[ (البقرة: الآية 185) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( إن الدين يسر )) (1)(131/33)
فأقول لطلبة العلم: إن قضية الفهم قضية مهمة، فعلينا أن تفهم ماذا أراد الله من عباده ؟ هل أراد أن يشق عليهم في أداء العبادات أم أراد بهم اليسر ؟!
ولا شك أن الله - عز وجل – يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.
فهذه بعض آداب مما ينبغي لطالب العلم أن يكون متأثراً بها في علمه حتي يكون قدوة صالحاً وحتى يكون داعيا إلى الخير وإماماً في دين الله – عز وجل – فبالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، كما قال الله تعالي: ] وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [ (السجدة الآية:24) .
الفصل الثاني
الأسباب المعينة على طلب العلم
الأسباب المعينة على طلب العلم كثيرة، نذكر منها :
أولا: التقوى:
وهي وصية الله للأولين والآخرين من عباده، قال الله تعالي:] وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيدا [ (النساء: من الآية131) .(131/34)
وهي أيضاً وصية الرسول e لأمته، فعن أبي إمامة صدي بن عجلان الباهلي– رضي الله عنه – قال: (( سمعت رسول الله e يخطب في حجة الوداع فقال: إتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدٌوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم )) (1) وكان e إذا بعث أميراً على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً. ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها في خطبهم ومكاتباتهم ووصاياهم عند الوفاة ؛ كتب عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – إلى ابنه عبدالله: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله -عز وجل– فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه ؛ ومن شكره زاده – وأوصى علي – رضي الله عنه – رجلاً فقال: ( أوصيك بتقوي عز وجل الذي لا بد لك من لقائه ولا منتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة) ، وكتب أحد الصالحين إلى أخ له في الله تعالى: ( أما بعد ... أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ، ورقيبك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك. وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه لا تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك وليكثر وجلك والسلام).
ومعنى التقوى : أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية تقيه منه. وتقوى العبد ربه: أن يجعل بينه وبين من يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تقيه من ذلك، بفعل طاعته واجتناب معاصيه.
واعلم أن التقوى أحياناً تقترن بالبر، فيقال: بر وتقوى كما في قوله تعالى: ] وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [ (المائدة: الآية2)
وتارة تذكر وحدها فإن قرنت بالبر صار البر فعل الأمر، والتقوى ترك النواهي.(131/35)
وإذا أفردت صارت شاملة نعم فعل الأمر واجتناب النواهي، وقد ذكر الله في كتابه أن الجنة أعدت للمتقين، فأهل التقوى هم أهل الجنة – جعلنا الله وإياكم منهم – ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله – عز وجل – امتثالاً لأمره، وطلباً لثوابه، والنجاة من عقابه. قال الله – عز وجل -: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيم [ (لأنفال الآية:29) .
وهذه الآية فيها ثلاث فوائد مهمة:
الفائدة الأولى: ] يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانا [ أي يجعل لكم ما تٌفرقون به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع ، وهذا يدخل فيه العلم بحيث يفتح الله على الإنسان من العلوم ما لا يفتح لغيره، فإن التقوى يحصل بها زيادة الهدى، وزيادة العلم، وزيادة الحفظ، ولهذا يذكر عن الشافعي – رحمه الله – أنه قال :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي
فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال أعلم بأن العلم نور
ونور الله لا يؤتاه عاصي
ولا شك أن الإنسان كلما ازداد علماً ازداد معرفة وفرقاناً بين الحق والباطل، والضار والنافع، وكذلك يدخل فيه ما يفتح الله على الإنسان من الفهم؛ لأن التقوى سبب لقوى الفهم، وقوة يحصل بها زيادة العلم، فإنك ترى الرجلين يحفظان آية من كتاب الله يستطيع أحدهما أن يستخرج منها ثلاثة أحكام، ويستطيع الآخر أن يستخرج أكثر من هذا بحسب ما أتاه الله من الفهم.
الفتوى سبب لزيادة الفهم، ويدخل في ذلك أيضاً الفراسة أن الله يعطي المتقي فراسة يميز بها حتى بين الناس.(131/36)
فبمجرد ما يرى الإنسان يعرف أنه كاذب أو صادق، أو بر أو فاجر حتى أنه ربما يحكم على الشخص وهو لم يعاشره، ولم يعرف عنه شيئاً بسبب ما أعطاه الله من الفراسة.
الفائدة الثانية: ] وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [ . (الأنفال الآية: 29) وتكفير السيئات يكون بالأعمال الصالحة، فإن الأعمال الصالحة تكفر الأعمال السيئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (( الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر )) (1) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : (( العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما )) (2) . فالكفارة تكون بالإعمال الصالحة، وهذا يعني أن الإنسان إذا اتقي الله سهل له الأعمال الصالحة التي يكفّر الله بها عنه.
الفائدة الثالثة: ] ويغفر لكم [ بأن ييسر كم للاستغفار والتوبة، فإن هذا من نعمة الله على العبد أن ييسر للاستغفار والتوبة.
ثانياً : المثابرة والاستمرار على طلب العلم:
يتعين على طالب العلم أن يبذل الجهد في إدراك العلم والصبر عليه وأن يحتفظ به بعد تحصيله، فإن العلم لا ينال براحة الجسم، فيسلك المتعلم جميع الطرق الموصلة إلى العلم وهو مثاب على ذلك؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : (( من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقا إلى الجنة )) (3) . فليثابر طالب العلم ويجتهد ويسهر الليالي ويدع عنه كل ما يصرفه أو يشغله عن طلب العلم.(131/37)
وللسلف الصالح قضايا مشهورة في المثابرة على طلب العلم حتى أنه يروى عن ابن عباس – رضي الله عنه – أنه سئل بما أدركت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدون غير مئول وعنه أيضا – رضي الله عنه – قال : (( ... إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه – وهو قائل – فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح على من التراب، فيخرج فيقول : يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ؟ ألا أرسلت إلي فآتيك ؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث ... )) . فابن عباس – رضي الله عنه – تواضع للعلم فرفعه الله به.
وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يثابر المثابرة الكبيرة، ويروى أيضاً عن الشافعي – رحمه الله – أنه استضافه الإمام أحمد ذات ليلة فقدم له العشاء، فأكل الشافعي ثم تفرق الرجلان إلى منامهما، فبقي الشافعي – رحمه الله – يفكر في استنباط أحكام من حديث، وهو قول النبي e: ((يا أبا عمير ما فعق النغير )) (1) أبا عمير كان معه طائر صغير يسمي النغير ، فمات هذا الطائر فحزن عليه الصبي، وكان النبي e يداعب الصبيان ويكلم كل إنسان بما يليق به، فظل طول الليل يستنبط من هذا الحديث ويقال إنه استنبط منه أكثر من ألف فائدة، ولعله إذا استنبط فائدة جز إليها حديث آخر ، وهكذا حتى تتم فلما أذن الفجر قام الشافعي – رحمه الله – ولم يتوضأ ثم انصرف إلى بيته، وكان الإمام أحمد يثني عليه عند أهله فقالوا له:
يا أبا عبد الله كيف تثني على هذا الرجل الذي أكل فشرب ونام ولم يقم، وصلى الفجر بدون وضوء؟ فسأل الإمام الشافعي فقال: ( أما كوني أكلت حتى أفرغت الإناء فذلك لأني ما وجدت طعاماً أطيب من طعام الإمام أحمد فأردت أن أملأ بطني منه، وأما كوني لم أقسم لصلاة الليل فإن العلم أفضل من قيام الليل، وقد كنت أفكر في هذا الحديث، وأما كوني لم أتوضأ لصلاة الفجر فكنت على وضوء من صلاة العشاء ) ولا يحب أن يكلفهم بماء الوضوء .(131/38)
أقول على كل حال، إن المثابرة في طلب العلم أمر مهم، فلننظر في حاضرنا الآن هل نحن على هذه المثابرة؟ لا. أما الذين يدرسون دراسة نظامية إذا انصرفوا من الدراسة ربما يتلهون بأشياء لا تعين على الدرس، وإني أضرب مثلا وأحب ألا يكون وإلا يوجد له نظير، أحد الطلبة في بعض المواد أجاب إجابة سيئة ، فقال المدرس: لماذا؟ فقال : لأني قد أيست من فهم هذه المادة، فأنا لا أدرسها ولكن أريد أن أكون حاملاً لها، كيف اليأس؟ وهذا خطأ عظيم، يجب أن نثابر حتى نصل إلى الغاية.
وقد حدثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي – رحمه الله – أنه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن،وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعاماً لها وتصعد به إلى الجدار وكما صعدت سقطت ، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة وصعدت الجدار، فقال الكسائي: هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فاثبر حتى صار إماماً في النحو.
ولهذا ينبغي لنا أيها الطلبة أن نثابر ولا نيأس فإن اليأس معناه سد باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم بل نتفاءل وأن نعد أنفسنا خيراً.
ثالثاً الحفظ :
فيجب على طالب العلم الحرص على المذاكرة وضبط ما تعلمه إما بحفظه في صدره، أو كتابته، فإن الإنسان عرضة للنسيان، فإذا لم يحرص على المراجعة وتكرر ما تعلمه فإن ذلك يضيع منه وينساه وقد قيل:
العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة وتتركها بين الخلائق طالقة
ومن الطرق التي تعين على حفظ العلم وضبطه أن يهتدي الإنسان بعلمه، قال الله تعالي: ] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم [ (محمد، الآية: 17).
وقال ] )وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً[ (مريم الآية: 76)
فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظاً وفهماً، لعموم قوله: ] زادهم هدى [ .(131/39)
رابعاً ملازمة العلماء:
يجب على طالب العلم أن يستعين بالله – عز وجل – ثم بأهل العلم، ويستعين بما كتبوا في كتبهم؛ لأن الاقتصار على مجرد القراءة والمطالعة يحتاج إلى وقت طويل بخلاف من جلس إلى عالم يبين له ويشرح له وينير له الطريق، وأنا لا أقول إنه لا يدرك العلم إلا بالتلقي من المشائخ ، فقد يدرك الإنسان بالقراءة والمطالعة لكن الغالب أنه إذا ما أكب إكباباً تاماً ليلاً ورزق الفهم فإنه قد يخطء كثيراً ولهذا يقال: [ من كان دليله كتابه فخطئه أكثر من صوابه ]، ولكن هذا ليس على الإطلاق في الحقيقة.
ولكن الطريقة المثلى أن يتلقى العلم على المشائخ ، وأنا أنصح طالب أيضاً ألا يتلقف من كل شيخ في فن واحد، مثل أن يتعلم الفقه من أكثر من شيخ؛ لأن العلماء يختلفون في طريقة استدلالهم من الكتاب والسنة، ويختلفون في آرائهم أيضاً، فأنت تجعل لك عالماً تتلقى علمه في الفقه أو البلاغة وهكذا ، أي تتلقى العلم في فن واحد من شيخ واحد، وإذا كان الشيخ عنده أكثر من فن فتلتزم معه، لأنك إذا تلقيت علم الفقه مثلاً من هذا وهذا واختلفوا في رأيهم فماذا يكون موقفك وأنت طالب؟ يكون موقفك الحيرة والشك، لكن التزامك بعالم في فن معين فهذا يؤدي إلى راحتك.
---
(1) أخرجه الإمام أحمد ج 2 ص 338، وأبوداود ، كتاب العلم، باب: طلب العلم لغير الله تعالى. وابن ماجه، المقدمة، باب: الانتفاع بالعلم والعمل به، والحاكم في (( المستدرك)) ج 1 ص 160، وابن أبي شيبة في (( المصنف)) ج8 ص 543، قال الحاكم : حديث صحيح سنده ثقات.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء ، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل
(1) أخرجه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب: وضع اليمنى على اليسرى، ولفظه: (( عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)).
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوضوء ، باب : فضل الوضوء.(131/40)
(1) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب: الدعاء والصلاة من الليل ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.
(1) رواه مسلم، كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ، ورد محدثات الأمور.
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب: باب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم، كتاب الإيمان،
باب:
الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
(2) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب: الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول . ونصة: عن عبدالله بن عمر – رضي الله عنهما – قال: كنا مع رسول الله e في سفر فنزلنا منزلاً فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتصل، ومنا من هو في جشره إذا نادي مُنادي رسول الله e : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله e فقال: (( أنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جٌعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاْ وأمور تنكرونها. =
= وتجيء فتن يدقق بعضاً وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه ! فمن أحب أن يزحزح عن الناس ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه .ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يديه وثمرة قلبه فليطعمه إن استطاع، فإن جاء آخر فاضربوا عنق الآخر )).
(1) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة ، باب: ما جاء في معالي الأخلاق ، والإمام أحمد يلفظ (( إن من أحبكم أحسنكم خلقاً)) جـ 2 ص 189 ، والبغوي في (( شرح السنة )) جـ 12 ص 366، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) وقال: (( رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح)).
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء باب : صب الماء على البول في المسجد ، ومسلم كتاب الطهارة، باب :
وجوب غسل البول.(131/41)
(2) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة.
(3) أخرجه مسلم ، كتاب اللباس، باب : تحريم خاتم الذهب على الرجال.
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 3 ص 198 والترمذي، كتاب : صفة القيامة، جـ 4 ص 569 برقم [ 2499] ، وابن ماجه ، كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة ، والدارسي كتاب الرقاق، باب : في التوبة، والبغوي في ((شرح السنة)) جـ 5 ص 92، وأبو نعيم في (( الحلية )) جـ 332 والحاكم في (( المستدرك)) جـ 273، وقال: ((حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، قال العجلوني: (( إسناده قوي )) ج 2 ص 120.
(1) رواه البخاري، كتاب المساجد، باب : تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ومسلم، كتاب البر والصلة،
باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم .
(2) تقدم تخريجه ص 37.
(1) رواه مسلم، كتاب الزهد، المؤمن أمره كله خير.
(1) رواه مسلم ، كتاب الزهد .
(1) رواه مسلم، كتاب الطهارة ، باب: فضل إسباغ الوضوء على المكاره .
(1) رواه البخاري ، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر .
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الجمعة.
(1) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة باب: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات
لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
(2) أخرجه البخاري، كتاب العمرة ، ومسلم، كتاب الحج.
(3) أخرجه مسلم، كتاب الدعوات، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب : الانبساط إلى الناس.
كتاب العلم
في طريق تحصيل العلم وأخطاء يجب الحذر منها
محمد بن صالح العثيمين
في طريق تحصيل العلم وأخطاء يجب الحذر منها
الفصل الأول
طريق تحصيل العلم(131/42)
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد مكاناً فلا بد أن يعرف الطريق الموصل إليه، وإذا تعددت الطرق فإنه يبحث عن أقربها وأيسرها؛ لذلك كان من المهم طالب العلم أن يبني طلبه للعلم على أصول، ولا يتخبط عشواء، فمن لم يتقن الأصول حرم الوصول، قال الناظم :
وبعد فالعلم بحور زاخرة لن يبلغ الكادح فيه آخره
لكن في أصوله تسهيلاً لنيله فاحرص تجد سبيلاً
اغتنم القواعد الأصولا فمن تفته يحرم الوصولا
فالأصول هي: العلم والمسائل فروع، كأصل الشجرة وأغصانها إذا لم تكن الأغصان على أصل جيد فإنها تذبل وتهلك
لكن ما هي الأصول؟
هل هي القواعد والضوابط ؟
أو هي القواعد والضوابط ؟
أو كلاهما ؟
الجواب : الأصول هي أدلة الكتاب والسنة، والقواد والضوابط المأخوذة بالتتبع والاستقراء من الكتاب والسنة، وهذه من أهم ما يكون لطالب العلم، مثلاً المشقة تجب التيسير هذا من الأصول مأخوذ من الكتاب والسنة. من الكتاب من قوله تعالي:]وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [ (الحج: الآية 78) ومن السنة: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمران بن حصين: (( صلَ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع على جنب )) (1) وقوله صلى الله عليه وسلم (( إذا أمرتكم بأمر فاتوا منه ما استطعتم )) (2) . هذا أصل لو جاءتك ألف مسألة بصور متنوعة لأمكنك أن تحكم على هذه المسائل بناء على هذا الأصل، ولكن لو لم يكن عندك هذا الأصل وتأتيك مسألتان أشكل عليك الأمر.
ولنيل العلم طريقان:
أحدهما: أن يتلقى ذلك من الكتب الموثوق بها، والتي ألفها علماء معروفون بعلمهم، وأمانتهم، وسلامة عقيدتهم من البدع والخرافات.
وأخذ العلم من بطون الكتب لا بد أن الإنسان يصل فيه إلى غاية ما. لكن هناك عقبتان:
العقبة الأولى:(131/43)
الطول، فإن الإنسان يحتاج إلى وقت طويل، ومعاناة شديدة، وجهد جهيد حتى يصل إلى ما يرومه من العلم، وهذه عقبة قد لا يقوى عليها كثير من الناس، لاسيما وهو يرى من حوله قد أضاعوا أوقاتهم بلا فائدة ، فيأخذه الكسل ويكل ويمل ثم لا يدرك ما يريد.
العقبة الثانية: أن الذي يأخذ العلم من بطون الكتب علمه ضعيف غالباً ، لا ينبني عليه قواعد أو أصول، ولذلك نجد الخطأ الكثير من الذي يأخذ العلم من بطون الكتب لأنه ليس له قواعد وأصول يقٌعد عليها ويبني عليها الجزئيات التي في الكتاب والسنة نجد بعض الناس يمر بحديث ليس مذكوراً في كتب الحديث المعتمدة من الصحاح والمسانيد وهذا الطريق يخالف ما في هذه الأصول المعتمدة هند أهل العلم، بل عند الأمة ، ثم يأخذ بهذا الحديث ويبني عقيدته عليه، وهذا لاشك أنه خطأ؛ لأن الكتاب والسنة لهما أصول تدور عليها الجزئيات ، فلابد أن ترد هذه الجزئيات إلى أصول، بحيث إذا وجدنا في هذه الجزئيات شيئاً مخالفاً لهذه الأصول لا يمكن الجمع فيها، فإننا ندع هذه الجزئيات.
الثاني: من طرق تحصيل العلم أن تتلقى ذلك من معلم موثوق في علمه ودينه، وهذا الطريق أسرع وأتقن للعلم؛ لأن الطريق الأول قد يضل فيه الطالب وهو لا يدري إما لسوء فهمه، أو قصور علمه، أو لغير ذلك من الأسباب، أما الطريق الثاني فيكون فيه المناقشة والأخذ والرد مع المعلم فينفتح بذلك للطالب أبواب كثيرة في الفهم، والتحقيق، وكيفية الدفاع عن الأقوال الصحيحة، ورد الأقوال الضعيفة، وإذا جمع الطالب بين الطريقين كان ذلك أكمل وأتم ، وليبدأ الطالب بالأهم فالأهم،
وبمختصرات العلوم قبل مطولاتها حتى يكون مترقياً من درجة إلى درجة أخري فلا يصعد إلى درجة حتى يتمكن من التي قبلها ليكون صعوده سليماً.
الفصل الثاني
أخطاء يجب الحذر منها
وهناك أخطاء يرتكبها بعض طلبة العلم:
منها الحسد:(131/44)
وهو: كراهة ما أنعم الله به على غيره، وليس هو تمني زوال نعمة الله على الغير، بل هو مجرد أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره، فهذا هو الحسد سواء منى زواله أو أن يبقى ولكنه كاره له.
كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله- فقال: (( الحسد كراهة الإنسان ما أنعم الله به على غيره)).
والحسد قد لا يخلو منه النفوس، يعني قد يكون اضطرارياً للنفس، ولكن جاء في الحديث: (( إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت لا تحقق )) (1)، يعني أن الإنسان يجب عليه إذا رأى من قلبه حسداً للغير ألا يبغي عليه بقول أو فعل، فإن ذلك من خصال اليهود الذين قال الله عنهم: ] )أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (النساء الآية:54)
ثم إن الحاسد يقع في محاذير:
أولاً: كراهيته ماقدره الله، فإن كراهته ما أنعم الله به على هذا الشخص كراهة لما قدره كوناً ، ومعارضة لقضاء الله – عز وجل –
ثانيا: أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل الناس الحطب؛ لأن الغالب أن الحاسد يعتدي على المحسود بذكر ما يكره وتنفير الناس عنه، والحط من قدره وما أشبه ذلك ، وهذا من كبائر الذنوب التي قد تحيط بالحسنات.
ثالثا: مايعق في قلب الحاسد من الحسرة والجحيم والنار التي تأكله أكلاً ، فكلما رأى نعمة من الله على هذا المحسود اغتم وضاق صدره؛ وصار يراقب هذا الشخص كلما أنعم الله عليه بنعمة حزن واغتم وضاقت عليه الدنيا.
رابعا: أن في الحسد تشبهاً باليهود ، معلوم أن من أتى خصلة من خصال الكفار صار منهم في هذه الخصلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( من تشبه بقوم فهو منهم )) (1)(131/45)
خامساً: أنه مهما كان حسده ومهما قوي لا يمكن أبداً أن يرفع نعمة الله عن الغير، إذا كان هذا غير ممكن فكيف يقع في قلبه الحسد.
سادساً: أن الحسد ينافي كمال الإيمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( لا يؤمن لأحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه )) (1) ولازم هذا أن تكره أن تزول نعمة الله على أخيك، فإذا لم تكو تكره أن تزول نعمة الله عليك فأنت لم تحب لأخيك ما تحب لنفسك وهذا ينافي كمال الإيمان.
سابعاً: أن الحسد يوجب إعراض العبد عن سؤال الله تعالى من فضله، فتجده دائما مهتماً بهذه النعمة التي أنعم الله بها على غيره ولا يسأل الله من فضله، وقد قال الله تعالي: ] وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِه[ (النساء الآية: 32) .
ثامناً أن الحسد يوجب ازدراء نعمة الله عليه، أي أن الحاسد يرى أنه ليس في نعمة ، وأن هذا المحسود في نعمة أكبر منه، وحينئذ يحتقر نعمة الله عليه فلا يقوم بشكرها بل يتقاعس.
تاسعا: الحسد خلق ذميم؛ لأن الحاسد يتتبع نعم الله على الخلق في مجتمعه، ويحاول بقدر ما يمكنه أن يحول بين الناس وبين هذا المحسود بالحط من قدره أحياناً، وبازدراء ما يقوم به من الخير أحياناً إلى غير ذلك.
عاشراً: إن الحاسد إذا حسد فالغالب أن يعتدي على المحسود وحينئذ يأخذ المحسود من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاته فطٌرح عليه ثم طٌرح في النار.(131/46)
والخلاصة: أن الحسد خلق ذميم، ومع الأسف أنه أكثر من يوجد بين العلماء وطلبة العلم، ويوجد بين التجار فيحسد بعضهم البعض، وكل ذي مهنة يحسد من شاركه فيها، لكن مع الأسف أنه بين العلماء أشد وبين طلبة العلم أشد مع أنه كان الأولى والأجدر أن يكون أهل اللم أبعد الناس عن الحسد وأقرب الناس إلى كمال الأخلاق.
وأنت يا أخي إذا رأيت الله قد أنعم على عبده نعمة ما فاسع أن تكون مثله ولا تكره من أنعم الله عليه فقل: اللهم زده من فضلك وأعطني أفضل منه، والحسد لا يغير شيئا من الحال لكنه كما ذكرنا آنفاً فيه هذه المفاسد وهذه المحاذير العشرة، ولعل من تأمل وجد أكثروالله المستعان.
ومنها الإفتاء بغير علم:
الإفتاء منصب عظيم، به يتصدى صاحبه لبيان ما يشكل على العامة من أمور دينهم، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم؛ لذلك كان هذا المنصب العظيم لا يتصدر له إلا من كان أهلاً له لذلك يجب على العباد أن يتقوا الله تعالى وأن لا يتكلموا إلا عن علم وبصيرة، وأن يعلموا أن الله وحده له الخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للخلق إلا الله ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله، فهو الذي يوجب الشيء، وهو يحرمه، وهو الذي يندب إليه ويحلله، ولد أنكر الله على من يحللون ويحرمون بأهوائهم فقال تعالي:] قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [ (يونس الآية:59)(131/47)
] )وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَة [ (يونس الآيتان: 59، 60) وقال تعالي: ] وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ [ ] مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) (النحل الآيتان: 116 ، 117) وإن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري ما حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه واجب وهو لا يدري أن الله أوجبه، ويقول عن الشيء إنه غير واجب هو لا يدري أن الله لم يوجبه، إن هذه جناية وسوء أدب مع الله – عز وجل -.
كيف تعلم أيها العبد أن الحكم لله ثم تتقدم بين يديه فتقول في دينه وشريعته ما لا تعلم ؟ لقد قرن الله القول عليه بلا علم بالشرك به ، فقال سبحانه: ] قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [ (لأعراف ،الآية:33) .
وإن كثيراً من العامة يفتي بعضهم بعضاً بما لا يعلمون فتجدهم يقولون هذا حلال،أو حرام،أو واجب،أو غير واجب، وهم لا يدرون عن ذلك شيئاً ، أفلا يعلم هؤلاء أن الله تعالى سائلهم عما قالوا يوم القيامة .
أفلا يعلم هؤلاء أنهم إذا أضلوا شخصاً فأحلوا له ما حرم الله ، أو حرَّموا ما أحل الله له فقد باءوا بإثمه وكان عليهم مثل وزر ما عمل وذلك بسبب ما أفتوه به.(131/48)
إن بعض العامة يجني جناية أخرى فإذا رأى شخصاً يريد أن يستفتي عالماً يقول له هذا عالمي لا حاجة أن تستفتي ،هذا أمر واضح ، هذا حرام مع أنه في الواقع حلال فيحرمه ما أحل الله له ، أو يقول له: هذا واجب فيلزمه بما لم يلزمه الله به، أو يقول هذا غير واجب في شريعة الله فيسقط عنه ما أوجب الله عليه، أو يقول هذا حلال وهو في الواقع حرام، وهذه جناية منه على شريعة الله، وخيانة لأخيه المسلم حيث أفتاه بدون علم، أرأيتم لو أن شخصاً سأل عن طريق بلد من البلدان، فقلت الطريق من هنا وأنت لا تعلم أفلا يعد الناس ذلك خيانة منك؟ فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئاً؟!
وإن بعض المتعلمين أنصاف العلماء يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون، ويجملون في الشريعة ويفصلون، وهم من أجهل الناس في أحكام الله، إذا سمعت الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي فيما يقول من جزمه وعدم تورعه، لا يمكن أن ينطق ويقول: لا أدري مع أن عدم العلم هو صفة الحق الثابت ومع ذلك يصر بناء على جهله على أنه عالم فيضر العامة؛ لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء القوم يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقولون: الإسلام يرى كذا، وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام، ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله ،أو إجماع المسلمين عليه .
إن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه وعدم حيائه من الله وعدم خوفه منه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه ما أظن هذا حرام، أو عن الشيء الواجب والواضح وجوبه يقول ما أظن هذا واجباً، إما جهلاً منه، أو عناداً ومكابرة، أو تشكيكاً لعباد الله في دين الله .(131/49)
أيها الإخوة: إن من العقل والإيمان ومن تقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل عما لا يعلم لا أعلم، لا أدري، اسأل غيري، إن ذلك من تمام العقل؛ لأن الناس إذا رأوا تثبته وثقوا به، ولأنه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلتها، وإن ذلك أيضاً من تمام الإيمان بالله وتقوى الله حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه في دينه مالا يعلم، ولقد كان رسول الله e وهو أعلم الخلق بدين الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه ] يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ [ (المائدة الآية: 4) ] وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرا [ (الكهف الآية:83) ] يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [ (لأعراف الآية: 187) ولقد كان الأجلاء من الصحابة، تعرض لهم المسألة لا يدرون حكم الله فيها فيهابونها ويتوقفون فيها.
فها هو أبوبكر الصديق – رضي الله عنه – يقول: (( أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم)).
وهاهو عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها، قال ابن سيرين: لم يكن أحد أهيب مما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر، وقال ابن مسعود – رضي الله عنه :- (( أبها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم ، فأن مع العلم أن يقول لما لا يعلم الله أعلم)). وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أحسنها، فقال له أصحابه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: ] لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا [ (البقرة الآية:32) .(131/50)
وهناك أمثلة كثيرة على الإفتاء بغير علم، أن المريض إذا تنجست ثيابه ولم يمكن أن يطهرها يفتى بأنه لا يصلي حتى يطهر ثيابه، وهذه فتوى كاذبة خاطئة باطلة ، فالمريض يصلي ولو كان عليه ثياب نجسه’ ، ولو كان بدنه نجساً إذا كان لا يستطيع أن يطهر ذلك، لأن الله يقول: ] فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم[ (التغابن الآية: 16) فيصلي المريض على حسب حاله وعلى حسب ما يقدر عليه، يصلى قائماً ، فإن لم يستطع فقاعداً فإن لم يستطع فعلى جنبه يومىء برأسه إذا استطاع، فإن ، فإن لم يستطع أو ما بعينه عند بعض أهل العلم، فإن لم يستطع الإيماء بعينه وكان معه عقه فلينو الفعل بقلبه وليقل القول بلسانه مثلا: يقول الله أكبر ثم يقرأ الفاتحة وسورة ، ثم يقول: الله أكبر وينوى أنه راكع، ثم يقول سمعه الله لمن حمده وينوي أنه رفع الركوع، ثم يقول هكذا في السجود وبقية أفعال الصلاة، ينوي الفعل الذي لا يقدر عليه، ينويه بقلبه ولا يؤخر الصلاة عن وقتها.
وبسبب هذه الفتوى الكاذبة الخاطئة يموت بعض المسلمين وهم لا يصلون من أجل هذه الفتوى الكاذبة، ولو أنهم علموا أن الإنسان المريض يصلي على أي حال لماتوا وهم يصلون .
ومثل هذه المسألة وأشباهها كثير فيجب على العامة أن يتلقوا أحكامها من أهل العلم حتى يعرفوا بذلك حكم الله – عز وجل – وحتى لا يقولوا في دين الله ما يعلمون.
ومنها: الكبر:
وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأجمع التفسير وأبينه وأوضحه فقال :
(( الكبرٌ بطَرٌ الحق وغًمْطٌ الناس )) (1)
وبطر الحق هو : رد الحق، وغمط الناس يعني احتقارهم، ومن الكبرياء ردك على معلمك، والتطاول عليه وسوء الأدب معه، وأيضا استنكافك عمن يفيدك ممن هو دونك كبرياء، وهذا يقع لبعض الطلبة إذا أخبره أحد بشيء وهو دونه في العلم استنكف ولم يقبل، وتقصيرك عن العمل بالعلم عنوان حرمان – نسأل الله العافية -:(131/51)
وفي هذا يقول القائل:
العلم حربٌ للفتى المتعالي كالسيل حربٌ للمكان العالي
ومعنى البيت:
أن الفتى المتعالي لا يمكن أن يدرك العلم؛ لأن العلم حرب له كالسيل حرب للمكان العالي، لأن المكان العالي ينفض عنه السيل يميناً وشمالاً ولا يستقر عليه، كذلك العلم لا يستقر مع الكبر والعلو، وربما يسلبٌ العلم بسبب ذلك.
ومنها : التعصب للمذاهب والآراء:
فيجب على طالب العلم أن يتخلى عن:
الطائفية والحزبية بحيث يعقد الولاء والبراء على طائفة معينة أو على حزب معين فهذا لا شك خلاف منهج السلف، فالسلف الصالح ليسوا أحزاباً بل هم حزب واحد، ينضوون تحت قول الله – عز وجل -: ] هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل ُ[ (الحج: الآية78) .(131/52)
فلا حزبية ولا تعدد، ولا موالاة ، ولا معاداة إلا على حسب ما جاء في الكتاب والسنة، فمن الناس مثلاً من يتحزب إلى طائفة معينة، يقرر منهجها ويستدل عليه بالأدلة التي قد تكون دليلاً عليه، ويحامي دونها، ويضلل من سواه حتى وإن كانوا أقرب إلى الحق منها، ويأخذا مبدأ: من ليس معي فهو على، وهذا مبدأ خبيث؛ لأن هناك وسطاً بين أن يكون لك أو عليك، وإذا كان عليك بالحق، فليكن عليك وهو في الحقيقة معك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً)) (1) ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم، فلا حزبية في الإسلام، ولهذا لما ظهرت الأحزاب في المسلمين، وتنو عن الطرق، وتفرقت الأمة، وصار بعضهم يضلل بعضاً، ويأكل لحم أخيه ميتاً، لحقهم الفشل كما قال الله تعالي:] وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [ (لأنفال: الآية46) لذلك نجد بعض طلاب العلم يكون عند شيخ من المشايخ، ينتصر لهذا الشيخ بالحق والباطل ويعادي من سواه، ويضلله ويبدعه، ويرى أن شيخه هو العالم المصلح، ومن سواه إما جاهل أو مفسد، وهذا غلط كبير، بل يجب أخذ قول من وافق قوله الكتاب والسنة وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ومنها: التصدر قبل التأهل:
مما يجب الحذر منه أن يتصدر طالب العلم قبل أن يكون أهلاً للتصدر ؛ لأنه إذا فعل ذلك كان هذا دليلاً على أمور:
الأمر الأول : إعجابه بنفسه حيث تصدر فهو يرى نفسه عَلَم الأعلام.
الأمر الثاني : أن ذلك يدل على عدم فقهه ومعرفته للأمور؛ لأنه إذا تصدر، ربما يقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه، إذ أن الناس إذا روأوه متصدراً أو ردوا عليه من المسائل ما يبين عواره.
الأمر الثالث: أنه إذا تصدر قبل أن يتأهل لزمه أن يقول على الله ما لا يعلم؛ لأن الغالب أن من كان هذا قصده، أنه لا يبالي ويجب على كل ما سٌئِلَ ويخاطر بدينه وبقوله على الله – عز وجل – بلا علم.(131/53)
الأمر الرابع: أن الإنسان إذا تصدر فإنه في الغالب لا يقبل الحق، لأنه يظن بسفهه أنه إذا خضع لغيره ولو كان معه الحق كان هذا دليلاً على أنه ليس بعالم.
ومنها: سوء الظن:
فيجب على طالب العلم الحذر من أن يظن بغيره ظناً سيئاً مثل أن يقول: لم يتصدق هذا إلا رياء، لم يلق الطالب هذا السؤال إلا رياءً ليعرف أنه طال فاهم، وكان المنافقون إذا أتى المتصدق من المؤمنين بالصدقة، إن كانت كثيرة قالوا: مرائي، وإذا كانت قليلة قالوا: إن الله غني عن صدقة هذا كما قال الله عنهم: ] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[ (التوبة الآية:79) فإياك وسوء الظن بمن ظاهره العدالة، ولا فرق بين أن تظن ظناً سيئاً بمعلمك أو بزميلك، فإن الواجب إحسان الظن بمن ظاهر العدالة، أما من ظاهره غير العدالة فلا حرج أن يكون في نفسك سوء ظن به ، لكن مع ذلك عليك أن تتحقق حتى يزول ما في نفسك من هذا الوهم ، لأن بعض الناس قد يسيء الظن بشخص ما بناء على وهم كاذب لا حقيقة له.
فالواجب إذا أسأت الظن بشخص، سواء من طلبة العلم أو غيرهم، الواجب أن تنظر هل هناك قرائن واضحة تسوغ لك سوء الظن فلا بأس، وأما إذا كان مجرد أوهام فإنه لا يحل لك أن تسيء الظن بمسلم ظاهره العدالة، قال تعالي: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ [ (الحجرات الآية:12) لم يقل كان الظن؛ لأن بعض الظنون لها أصل ولها مبرر
( إن بعض الظن إثم ) وليس لك الظن، فالظن الذي يحصل فيه العدوان على الغير لا شك أنه إثم، وكذلك الظن الذي لا مستند له، وأما إذا كان له مستند فلا بأس أن تظن الظن السيء بحسب القرائن والأدلة.(131/54)
لذلك ينبغي للإنسان أن ينزل نفسه منزلتها، وأن لا يدنسها بالأقذار، وأن يحذر هذه الأخطاء مما تقدم؛ لأن طالب العلم شرفه الله بالعلم وجعله أسوة وقدوة، حتى أن لله رد أمور الناس عند الإشكال إلى العلماء فقال: ] فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ ( الأنبياء الآية: 7) وقال تعالى: ] وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(النساء الآية: 83) فالحاصل أنك يا طالب العلم محترم، فلا تنزل بنفسك إلى ساحة الذل والضعة، بل كن كما ينبغي أن تكون.
---
(1) أخرجه البخاري، كتاب تقصير الصلاة، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقرها، باب: جواز النافلة قائماً أو
قاعداً .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله e ومسم كتاب الحج باب فرض الحج
مرة في العمر.
(1) نص الحديث: (( ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة ، والظن، والحسد ، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا
حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق )) ذكره الحافظ ابن حجر في (( فتح البار)) جـ 10 ص 213
وقال عنه:(( هذا مرسل أو معضل لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في(( الشعب))
أ . هـ
وأخرجه ابن عبدالبر في التمهيد بلفظ: (( إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا تطيرتم
فامضوا وعلى الله فتوكلوا))(131/55)
وبلفظ آخر: (( ثلاث لم يسلم منهم أحد: الطيرة، والظن ، والحسد ، قيل: فما المخرج منهن يا رسول
الله قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدتم فلا تبغوا )) جـ 6 ص 125.
أخرجه الطبراني في (( الكبير )) بلفظ : ثلاثة لازمات لأمتي: الطيرة، والحسد ، وسوء الظن ))
فقال رجل : وما يذهبهن يارسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : (( إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا
ظننت فلا تحقق، وإذا طيرت فامض )) جـ 3 ص 8258.
وانظر: كشف الخفاء للعجلوني جـ 1 ص 104 ، وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 191 ((صورة
الحجرات)).
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 5 ص 5 ، وأبو داود، كتاب اللباس، باب : في لبس شهرة، وابن أبي شيبة في (( المصنف )) جـ 5 ص 313، والهيثمي في (( مجمع الزوائد )) جـ 10 ص 271، وابن عبد البر في (( التمهيد)) جـ 6 ص 80 ـ قلل الهيثمي: (( رواه الطبراني في الأوسط وفيه على بن غراب وقد وثقه غير واحد وضعفه بعضهم وبقية رجاله ثقات )) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي: (( إسناده جيد)) الفتاوى جـ 5 ص 331، وقال ابن حجر – بعد ذكر الحديث : - (( حسن من هذا الوجه وأبو منيب لا يعرف اسمه، وفي الإسناد عبدالرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف في توثيقه، وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة )) فتح الباري 6/97، وقد ذكره السيوطي في (( الجامع الصغير )) 1/590 وأشار إلى أنه حسن. وصححه أحمد شاكر (( المسند)) رقم 5114).
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم، كتاب الإيمان،
باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه.(131/56)
(1) أخرجه البخاري، كتاب المظالم باب: أعن أخاك ظالماً أو مظلوماً، ومسلم كتاب البر والصلة، باب: نصر
الأخ ظالماً أو مظلوماً.
كتاب العلم
في كتب طالب العلم وفتاوى حول العلم وفوائد
محمد بن صالح العثيمين
في كتب طالب العلم وفتاوى حول العلم وفوائد
الفصل الأول
كتب طالب العلم
قبل البدء في هذا الفصل لابد أن نبين بعض الأمور المهمة لطالب العلم وهي:
الأمر الأول: كيف تتعامل مع الكتاب ؟
التعامل مع الكتاب يكون بأمور:
الأول: معرفة موضوعه: حتى يستفيد الإنسان منه؛ لأنه يحتاج إلى التخصص، ربما يكون كتاب سحر أو شعوذة أو باطل، فلا بد من معرفة موضوع الكتاب حتى تحصل الفائدة منه.
الثاني: معرفة مصطلحاته: لأن معرفة المصطلحات يحصل بها أنك تحفظ أوقاتاً كثيرة، وهذا يفعله العلماء في مقدمات الكتب، فمثلاً نعرف أن صاحب (( بلوغ المرام )) إذا قال متفق عليه يعني رواه البخاري ومسلم، لكن صاحب (( المنتقى )) على خلاف ذلك فإذا قال صاحب المنتقى – متفق عليه فإنه يعني رواه الإمام أحمد والبخاري، ومسلم، وكذلك في كتب الفقه يفرق كثير من العلماء بين القولين، والوجهين، والروايتين، والاحتمالين، فالروايتان عن الإمام، والوجهان عن الأصحاب، وهم أصحاب المذهب الكبار أهل التوجيه، والاحتمالان للتردد بين قولين، والقولان أعم من ذلك كله .
كذلك يحتاج أن تعرف مثلاً إذا قال المؤلف إجماعاً أو وفاقاً، إذا قال إجماعاً يعني بين الأمة، وإذا قال وفاقاً يعني مع الأئمة الثلاثة كما هو اصطلاح صاحب (( الفروع)) في فقه الحنابلة، وكذلك بقية أصحاب المذاهب كل له اصطلاح ، فلا بد أن تعرف اصطلاح المؤلف.(131/57)
الثالث: معرفة أسلوبه وعباراته: ولهذا تجد أنك إذا قرأت الكتاب أول ماتقرأ لاسيما في الكتب العلمية المملوءة علماً تجد أنه تمر بك العبارة تحتاج إله تأمل وتفكير في معناها؛ لأنك لم تألفه، فإذا كررت هذا الكتاب ألفته.
وهناك أيضا أمر خارج عن التعامل مع الكتاب وهو : التعليق بالهوامش أو الحواشي. فهذا أيضاً مما يجب لطالب العلم أن يغتنمه، وإذا مرت به مسألة تحتاج إلى شرح، أو إلى دليل، أو إلى تعليل ويخشى أن ينساه فإنه يُعلق إما بالهامش - وهو الذي على اليمين أو اليسار – أو بالحاشية – وهي التي في الأسفل – وكثيراً ما يفوت الإنسان مثل هذه الفوائد التي لو علقها لم تستغرق عليه إلا دقيقة أو دقيقتين، ثم إذا عاد ليتذكرها بقي مدة يتذكرها وقد لا يذكرها.
فينبغي على طالب العلم أن يعتني بذلك لاسيما في كتب الفقه، يمر بك في بعض الكتب مسألة وحكمها ويحصل عندك توقف وإشكال ، فإذا رجعت للكتب – التي أوسع من الكتب الذي بين يديك ووجدت قولاً يوضح المسألة فإنك تعلق القول من أجل أن ترجع إليه مرة أخرى إذا احتجت إليه دون الرجوع إلى اصل الكتاب الذي نقلت منه، فهذا مما يوفر عليك الوقت.
الأمر الثاني: مطالعة الكتب على نوعين:
أولاً: مطالعة تدبر وتفهم، فهذه لابد أن يتأمل الإنسان ويتأنى.
ثانيا: مطالعة استطلاع فقط ينظر من خلالها على موضوع الكتاب، وما فيه من مباحث، ويتعرف على مضمون الكتاب، وذلك من خلال تصفح وقراءة سريعة للكتاب، فهذه لا يحصل فيها من التأمل والتدبر ما يحصل في النوع الأول . والطريقة المثلى في قراءة الكتب، التدبر والتفكر في المعاني والاستعانة بذوي الفهم من أهل العلم الصحيح، ولا يخفى أن أولى الكتب بذلك ؛ كتاب الله عز وجل . وعليك بالصبر والمثابرة، فما أعطى الإنسان عطاء خيراً وأوسع من الصبر.
الأمر الثالث: جمع الكتب :(131/58)
ينبغي لطال العلم أن يحرص على جمع الكتب ، ولكن يبدأ بالأهم فالأهم، فإذا كان الإنسان قليل ذات اليد ، فليس من الخير وليس من الحكمة أن يشتري كتباً كثيرة يٌلزم نفسه بغرامة قيمتها، فإن هذا من سوء التصرف، وإذا لم يمكنك أن تشتري من مالك فيمكنك أن تستعير من أي مكتبة .
الأمر الرابع : الحرص على الكتب المهمة:
يجب على طالب العلم أن يحرص على الكتب الأمهات الأصول دون المؤلفات حديثاً؛ لأن بعض المؤلفين حديثاً ليس عنده العلم الراسخ، ولهذا إذا قرأت ما كتبوا تجد أنه سطحي، قد ينقل الشيء بلفظه، وقد يحرفه إلى عبارة طويلة لكنها غثاء، فعليك بالأمهات كتب السلف فإنها خير وأبرك بكثير من كتب الخلف.
لأن غالب كتب المتأخرين قليلة المعاني، كثيرة المباني، تقرأ صفحة كاملة يمكن أن تلخصها بسطر أو سطرين، لكن كتب السلف تجدها هينة، لينة، سهلة رصينة، لا تجد كلمة واحدة ليس لها معنى.(131/59)
ومن أجل الكتب التي يجب على طالب العلم أن يحرص عليها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم – رحمهما الله – ومن المعلوم أن كتب ابن القيم أسهل وأسلس؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية كانت عباراته قوية لغزارة علمه، وتوقد ذهنه، وابن القيم رأى بيتاً معموراً فكان من التحسين والترتيب، ولسنا نريد بذلك أن نقول إن ابن القيم نسخة من ابن تيمية، بل ابن القيم حر إذا رأى أن شيخه خالف ما يراه صواباً تكلم، لما رأى وجوب فسخ الحج إلى العمرة، وأن ابن عباس – رضي الله عنهما – يرى أنه يجب على من لم يسق الهدي إذا أحرم بحج أو قرا، وأن يفسخه إلى عمرة، وكان شيخ الإسلام يرى أن الوجوب خاص بالصحابة، قال وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا، فصرح بمخالفته، فهو رحمه الله مستقل ، حر الفكر، لكن لا غرو أن يتابع شيخه رحمه الله فيما يراه حقاً وصواباً، ولا شك أنك إذا تأملت غالب اختيارات شيخ الإسلام وجدت أنها هي الصواب وهذا أمر يعرفه من تدبر كتبهما.
الأمر الخامس: تقويم الكتب:
الكتب تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول : كتب خير.
القسم الثاني: كتب شر.
القسم الثالث: كتب لا خير ولا شر.
فاحرص أن تكون مكتبتك خالية من الكتب التي ليس فيها خير أو التي فيها شر وهناك كتب يقال إنها كتب أدب، لكنها تقطع الوقت وتقتله في غير فائدة، وهناك كتب ضارة ذات أفكار معينة وذات منهج معين، فهذه أيضاً لا تدخل المكتبة سواء كان ذلك في المنهج أو كان ذلك في العقيدة، مثل كتب المبتدعة التي تضر في العقيدة، والكتب الثورية التي تضر في المنهج.
وعموماً كل كتب تضر فلا تدخل مكتبتك؛ لأن الكتب غذاء للروح كالطعام والشراب للبدن، فإذا تغذيت بمثل هذه الكتب صار عليك ضرر عظيم واتجهت اتجاهاً مخالفاً لمنهج طالب العلم الصحيح.
كتب مختارة لطالب العلم(1)
أولاً: العقيدة:(131/60)
1- كتاب (( ثلاثة الأصول )).
2- كتاب (( القواعد الأربع))
3- كتاب (( كشف الشبهات ))
4- كتاب (( التوحيد ))
وهذه الكتب الأربعة لشيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله تعالي-:
5- كتاب (( العقيدة الواسطية )) وتتضمن توحيد الأسماء والصفات، وهي من أحسن ما أٌلف في هذا الباب وهي جديرة بالقراءة والمراجعة.
6- كتاب (( الحموية)).
7- كتاب (( التدمورية)) وهما رسالتان أوسع من (( الواسطية)). وهذه الكتب الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالي -.
8- كتاب (( العقيدة الطحاوية )) للشيخ أبي جعفر بن محمد الطحاوي.
9- كتاب (( شرح العقيدة الحاوية )) لأبي الحسن علي بن أبي العز.
10- كتاب (( الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم – رحمه الله تعالي:-
11- كتاب (( الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية )) لمحمد بن أحمد السفاريني الحنبلي، وفيها بعض الإطلاقات التي تخالف مذهب السلف، كقوله:
وليس ربنا بجوهر ولا عرض ولا جسم تعالى في العلى
لذلك لابد لطالب العلم أن يدرسها على شيخ ملم بالعقيدة السلفية لكي يبين ما فيها من الإطلاقات المخالفة لعقيدة السلف الصالح.
ثانيا: الحديث:
1- كتاب (( فتح الباري شرح صحيح البخاري)) لابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى -:
2- كتاب (( سبل السلام شرح بلوغ المرام)) للصنعاني، وكتابه جامع بين الحديث والفقه.
3- كتاب (( نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار )) للشوكاني .
4- كتاب (( عمدة الأحكام )) للمقدسي، وهو كتاب مختصر ، وعامة أحاديثه في الصحيحين فلا يحتاج إلى البحث عن صحتها.(131/61)
5- كتاب (( الأربعين النووية)) لأبي زكريا النووي – رحمه الله تعالى وهذا كتاب طيب؛ لأن فيه آداباً، ومنهجاً جيداً، وقواعد مفيدة جداً مثل حديث (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) (1) فهذه قاعدة لو جعلتها هي الطريق الذي تمشي عليه لكانت كافية،
الفصل الثاني
فتاوى حول العلم
1- سئل فضيلته – حفظه الله -: هل يعذر طلبة العلم الذين درسوا العقيدة على غير مذهب السلف الصالح محتجبين بأن العالم الفلاني أو الإمام الفلاني يعتقد هذه العقيدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا لا يعذر به صاحبه حيث بلغه الحق؛ لأن الواجب عليه أن يتبع الحق أينما كان، وأن يبحث حتى يتبين له.
والحق – ولله الحمد – ناصع، بين لمن صلحت نيته، وحسن منهاجه، فإن الله – عز وجل يقول في كتابه: ] )وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر[ (القمر الآية:17) . ولكن بعض الناس – كما ذكر الأخ السائل- يكون لهم متبوعون معظمون لا يتزحزحون عن آرائهم،
مع أنه قد ينقدح في أذهانهم أن آراءهم ضعيقة أو باطلة، لكن التعصب والهوى يجملهم على موافقة متبوعيهم، وإن كان قد تبين لهم الهدي.
2- وسئل فضيلة الشيخ: عمن لا يحب دراسة العقيدة خصوصاً مسألة القدر خوفاً من الزلل؟
فأجاب بقوله: هذه المسألة كغيرها من المسائل المهمة التي لابد للإنسان منها في دينه ودنياه، لابد أن يخوض غمارها وأن يستعين بالله – تبارك وتعالى على تحقيقها ومعرفتها حتى يتبين له الأمر؛ لأنه لا ينبغي أن يكون على شك في هذه الأمور المهمة. أما المسائل التي لا تخل بدينه لو أجلها ولا يخشى أن تكون سببا لانحرافه، فإنه لا بأس أن يؤجلها مادام غيرها أهم منها، ومسائل القدر من الأمور المهمة التي يجب على العبد أن يحققها تماما حتى يصل فيها إلى اليقين.(131/62)
وهي في الحقيقة ليس فيها إشكال – ولله الحمد – والذي يثقل دروس العقيدة على بعض الناس هم أنهم مع الأسف الشديد يرجحون جانب ((كيف)) على جانب ((لم)) والإنسان مسؤول عن عمله بأداتين من أدوات الاستفهام ((لم)) و ((كيف)) فلم عملت كذا ؟ هذا الإخلاص. كيف عملت كذا؟ هذا المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأكثر الناس الآن مشغولون بتحقيق جواب ((كيف)) غافلون عن تحقيق جواب ((لم)) ولذلك تجدهم في جانب الإخلاص لا يتحرون كثيراً ، وفي جانب المتابعة يحرصون على أدق الأمور، فالناس الآن مهتمون كثيراً بهذا الجانب، غافلون عن الجانب الأهم وهو جانب العقيدة وجانب الإخلاص وجانب التوحيد .
لهذا تجد بعض الناس في مسائل الدين يسأل عن مسألة يسيرة جداً جداً وقلبه منكب على الدنيا غافل عن الله مطلقاً في بيعه وشرائه، ومركوبه، ومسكنه، وملبسه ، فقد يكون بعض الناس الآن عابداً للدنيا وهو لا يشعر، وقد يكون مشركاً بالله في الدنيا وهو لا يشعر، لأنه مع الأسف الشديد لا يهتم بجانب التوحيد وجانب العقيدة، وهذا ليس من العامة فقط ولكن من بعض طلاب العلم وهذا أمر له خطورته.
كما أن التركيز على العقدية فقط بدون العمل الذي جعله الشارع كالحامي والسور لها خطأ أيضاً لأننا نسمع في الإذاعات ونقرأ في الصحف التركيز على أن الدين هو القيدة السمحاء وما أشبه ذلك من العبارات، وفي الحقيقة أن هذا يخشى أن يكون باباً يلج منه من يلج في استحلال بعض المحرمات بحجة أن العقيدة سليمة، ولكن لابد من ملاحظة الأمرين جميعاً ليستقيم الجواب على ((لم)) وعلى ((كيف)).
وخلاصة الجواب : أنه يجب على المرء دراسة علم التوحيد والعقيدة؛ ليكون على بصيرة في إلهه ومعبوده – جل وعلا – على بصيرة بأسماء الله، وصفاته، وأفعاله، على بصيرة في أحكامه الكونية، والشرعية، على بصيرة في حكمته، وأسرار شرعه وخلقه، حتى لا يضل بنفسه أو يضل غيره.(131/63)
وعلم التوحيد هو أشرف العلوم لشرف متعلقه ولهذا سماه أهل العلم ( الفقه الأكبر) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (( من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )) (1) . وأول ما يدخل في ذلك وأولاه علم التوحيد والعقيدة، لكن يجب على المرء أيضاً أن يتحرى كيف يأخذ هذا العلم ومن أي مصدر يتلقاه، فليأخذ من هذا العلم أولاً ما صفا منه وسلم من الشبهات، ثم ينتقل ثانيا إلى النظر فيما أورد عليه من البدع والشبهات؛ ليقوم بردها وبيانها مما أخذ من قبل العقيدة الصافية، وليكن المصدر الذي يتلقاه منه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم كلام الصحابة – رضي الله عنهم – ثم ما قاله الأئمة بعدهم من التابعين وأتباعهم، ثم ما قاله العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم، وخصوصا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما وعلى سائر المسلمين وأئمتهم سابغ الرحمة والرضوان.
* * *
3- سئل فضيلة الشيخ : يتحرج بعض طلبة العلم الشرعي عند قصدهم العلم والشهادة فكيف
يتخلص طالب العلم من هذا الحرج؟
فأجاب بقوله : يجاب على ذلك بأمور:
أحدها: أن لا يقصدوا بذلك الشهادة لذاتها، بل يتخذون هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس غالباً لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة وبذلك تكون النية سليمة.
الثاني: أن من أراد العلم قد لا يجده إلا في هذه الكليات فيدخل فيها بنية طلب العلم ولا يؤثر عليه ما يحصل له من الشهادة فيما بعد.(131/64)
الثالث: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حسنى الدنيا، وحسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك؛ لأن الله يقول] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا [ ]2[ ] وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ[ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق الآيتان: 2 ، 3 ) وهذا ترغيب في التقوى بأمر دنيوي.
فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يُقال بأنه مخلص ؟
فالجواب: أنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم على عبادته بل قصد أمراً مادياً من ثمرات العبادة، فليس كالمرائي الذي يتقرب إلى الناس بما يتقرب به إلى الله ويريد أن يمدحوه به، لكنه بإرادة هذا الأمر المادي نقص إخلاصه فصار معه نوع من الشرك وصارت منزلته دون منزلة من أراد الآخرة إرادة محضة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية؛ فمثلاً يقولون في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة لإزالة الفضلات وترتيب الوجبات، والمفروض ألا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل؛ لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة، ولذلك بين الله تعالى في كتابه حكمة الصوم – مثلاً أنه سبب للتقوى، فالفوائد الدينية هي الأصل، والدنيوية ثانوية، وعندما نتكلم عند عامة الناس فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند ممن لا يقتنع إلا بشيء مادي فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ولكل مقام مقال.
* * *
4- وسئل فضيلته – حفظه الله تعالى -: يختلف الكثير من طلبة العلم في معاملة أهل المعاصي، فما التوجيه الصحيح جزاكم الله خيراً ؟(131/65)
فأجاب – رعاه الله تعالى -: نقول: هذه المسألة وهي أن بعض طلبة العلم إذا رأوا المنحرف خٌلقياً أو فكرياً أو عملياً . يكرهونه ويتخذون من هذه الكراهة نفوراً منه وبعداً عنه، ولا يحاولون أبداً أن يصلحوا إلا من شاء الله من طلبة العلم الذين أنار الله قلوبهم ويرون أن هجره وكراهته والبعد عنه والتنفير منه يرون ذلك قربة. وهذا لا شك أنه خطأ وأن الواجب على طلبة العلم أن ينصحوا وينظروا كم من إنسان في غفلة فإذا نُصح استجاب.
وما أشد تأثير جماعة أهل الدعوة الذين يسمون أنفسهم أهل الدعوة والتبليغ. ما أشد تأثيرهم على الناس . وكم من فاسق اهتدي فأطاع، وكم من كافر اهتدى فأسلم على أيديهم؛ لأنهم وسعوا الناس بحسن الأخلاق، فلذلك نحن نسأل الله أن يجعل إخواننا الذين أعطاهم العلم أن يطعمهم من أخلاق هؤلاء حتى ينفعوا الناس أكثر وإن كان يؤخذ على جماعة الدعوة والتبليغ ما يؤخذ لكنهم في حسن الخلق والتأثير يسبب أخلاقهم لا أحد ينكر فضلهم، وقد رأيت كتاباً للشيخ عبد العزيز ابن باز – حفظه الله – وجهه إلى شخص كتب إليه ينتقد هؤلاء الجماعة، فقال في جملة رده:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ
من اللوم أو سدّوا المكان الذي سّدوا
وحسن الخلق لا شك أنه له تأثيراً عظيما ًفي استجابة الناس للداعي.(131/66)
أما إذا رأوا الإنسان خشناً فإنهم يسبونه ويذمونه على ما فيه من الأخلاق الشرعية، تجدهم مثلاً يسبونه على لحيته، واللحية أخلاق شرعية، ويسبونه على تقصير الثوب، يسبونه على المشي حافياً . لماذا؟ لأنه ليس حَسَنَ الأخلاق مع الناس. لا يدعو بالأخلاق إنما يدعو بالجفاء والغلظة، ويريد أن يصلح الناس كلهم في ساعة واحدة، هذا خطأ لا يمكن أن يصلح الناس في ساعة واحدة أبدأً . أليس النبي e قد بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس؟ وفي النهاية أخرج من مكة حين تآمروا عليه ] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوك[ (لأنفال الآية: 30).يثبتوك يعني يحبسوك أو يقتلوك أو يخرجوك ] وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[ . فلا يمكن أن تصلح الخلق بمجرد دعوة أو دعوتين لاسيما إذا لم تكن ذا قيمة بينهم لكن اصبر وأطل النفس وادع بالحكمة وأحسن الخلق وسيتبين لك الأمر فيما بعد . ولا شك أن حسن المنطق له تأثير عظيم بالغ. ويُحكى أن رجلاً من أهل الحسبة مر على فلاح يسني إبله وكان في أذان المغرب. وكان هذا الفلاح يغني لأن الإبل إذا سمعت الغناء تمشي كأنها مجنونة؛ لأنها تطرب فكان يغني غافلاً ولا يسمع الأذان فتكلم عليه رجل الحسبة بكلام شديد. قال له – أي صاحب الإبل -: سوف أغني وأستمر في الغناء وإذا ما ذهبت فالعصا لمن عصا، - يقول هذا الكلام بسبب أنه جاءه بعنف – فذهب صاحب الحسبة إلى الشيخ القاضي وقال له: أنا ذهبت لفلان وسمعته يغني على إبله والمؤذن يؤذن المغرب ونصحته فلم يستجب. فلما كان من الغد ذهب الشيخ القاضي إلى مكان صاحب الإبل في الوقت نفسه فلما إذن جاء الفلاح وقال له: يا أخي أذن المؤذن فعليك أن تذهب وتصلي فإن الله يقول: ] وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ (طه الآية:132) . فقال(131/67)
صاحب الإبل: جزاك الله خير، ووضع العصا التي يسوق بها الإبل وتوضأ ومشى معه، وماذا حصل؟ حصل المقصود، أما الأول لو تمادي معه لحصل الشر وترك الخير، ولكن الثاني أتاه بالتي هي أحسن فانقاد تماماً، فلذلك أقول: إن بعض طلبة العلم يكون عندهم غيرة لكن لا يحسنون التصرف، والواجب أن الإنسان يكون في تصرفاته على علم وبصيرة وعلى قدر كبير من الحكمة نسأل الله للجميع التوفيق، والحمد الله رب العالمين.
* * *
5- وسئل فضيلته: هناك بعض طلبة العلم يحرص على حضور دروس طلبة العلم دون
أن يلقي اهتماماً بدروس العلماء الذين جمعوا ما لم يجمعه طلبة العلم.
فما توجيه فضيلتكم – حفظكم الله تعالى -؟
فأجاب فضيلته بقوله : الذي أراه أن الإنسان ينبغي أن يطلب العلم على عالم ناضج؛ لأن بعض طلبة العلم يتصدر للتدريس فيحقق المسألة من المسائل سواء حديثية أو فقهية أو عقائدية يحققها تماماً ويراجع عليها، فإذا سمعه الناشيء من طلبة العلم ظن أنه من أكابر العلماء، لكن لو خرج قيد أنملة عن هذا الموضوع الذي حققه ونقحه وراجع عليه وجدت أنه ليس عنده علم، لذلك يجب على طالب العلم المبتدىء أن يتلقي العلم على يد العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم.
6- فضيلة الشيخ: يلاحظ ضعف الهمة والفتور في طلب العلم، فما الوسائل والطرق التي تدفع إلى علو الهمة والحرص على العلم؟
فأجاب – حفظه الله ورعاه – بقوله: ضعف الهمم في طلب العلم الشرعي من المصائب الكبيرة وهناك أمور لابد منها:(131/68)
الأمر الأول: الإخلاص لله – عز وجل – في الطلب والإنسان إذا أخلص لله في الطلب وعرف أنه يُثاب على طلبه وسيكون في الدرجة الثالثة من درجات الأمة فإن همته تنشط ] وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقا [ (النساء الآية:69).
ثانيا: أن يُلازم زملاء يحثونه على العلم ويساعدونه على المناقشة والبحث ولا يمل من صحبتهم ماداموا يعينونه على العلم .
ثالثا: أن يصبر نفسه بمعني يحبسها لو أرادت أن تتفلت، قال الله تعال للنبي e: ] وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [ (الكهف الآية: 28) فليصبر؛ وإذا صبر وتعود الطلبة صار الطلب سجية له وصار اليوم الذي يفقد فيه الطلب يوماً طويلاً عليه، أما إذا أعطي نفسه العنان فلا، فالنفس أمارة بالسوء والشيطان يحثه على الكسل وعدم التعلم.
7- سئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى -: ما نصيحة فضيلتكم لمن يجعل الولاء والبراء لإخوانه في موافقتهم له في مسألة أو عدم موافقتهم له، وكذلك ما يحصل من الحسد والبعض من طلاب العلم ؟(131/69)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا صحيح، فإن بعض الناس يجعلون الولاء والراء مقيد بالموافقة له أو عدم الموافقة، فتجد الشخص يتولى الشخص؛ لأنه وافقه فيها، يتبرأ منه لأنه خالفه فيها، وأذكر لكم قصة مرت علينا في منى بين طائفتين من الإفريقيين كل واحد يلعن الثاني ويكفره، فجيء بهم إلينا، وهم يتنازعون قلنا: ما لذي حدث؟ قال الأول: هذا الرجل إذا قام إلى الصلاة يضع يده اليمنى على اليسرى فوق الصدر وهذا كفر بالسنة ، وقال الثاني: هذا إذا قام للصلاة يرسل يديه على الفخذين دون أن يجعل اليمنى على اليسرى وهذا كفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( من رغب عن سنتي فليس مني)) (1) . وعلى هذا يكفر بعضهم بعضاً !! مع العلم أن هذه المسألة مسألة سنة، وليست واجبة ولا ركن ولا شرط للصحة وبعد جهد وعناء كبير اقتنعوا أمامنا والله أعلم بما وراءنا ، والآن تجد بعض الإخوان مع الأسف يرد على إخوانه أكثر مما يرد على الملحدين الذين كفرهم صريح، يعاديهم أكثر مما يعادي هؤلاء ويشهر بهم في كلام لا أصل له، ولا حقيقة له، لكن حسد وبغي،
class=Section2>
ولا شك أن الحسد من أخلاق اليهود أخبث عباد الله.(131/70)
ثم إن الحسد لا يستفيد منه الحاسد إطلاقا، بل لايزيده إلا غماً وحسرة، ابغ الخير للغير يحصل لك الخير، وأعلم أن فضل الله يؤتيه من يشاء، لو حسدت فإنك لن تمنع فضل الله، ربما تمنع فضل الله عليك بمحبتك زوال فضل الله على غيرك وكراهتك نعمة الله على غيرك، لذلك الحاسد في ظروف طالب العلم مشكوك في نيته وإخلاصه في طلب العلم؛ لأنه إنما حسد لكون الثاني صار له جاه عند الناس وله كلمة والتف الناس حوله فحسده، لكونه يريد الدنيا، أما لو كان يريد الآخرة حقاً، ويريد العلم حقاً، لسأل عن هذا الرجل الذي التف الناس حوله وأخذوا بقوله. تسأل عن علمه لتكون مثله أيضاً ؛ تجيء أنت لتستفيد منه؛ أما أن تحسده وتشوه سمعته، وتذكر فيهمن العيوب ما ليس فيه فهذا لا شك أنه بغي وعدوان وخصلة ذميمة.
* * *
8- سئل فضيلة الشيخ : ذكر الخطيب البغدادي جانباً من جوانب تعلم العلم وهو لزوم أحد
العلماء أو أحد المشائخ فما رأي فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته : بقوله: هذا جيد كون الإنسان يركز على شيخ من المشائخ يجعله هو الأصل لاسيما المبتدىء الصغير، المبتدىء الصغير إذا طلب العلم على عدة أناس تذبذب، لأن الناس ليسوا على رأي واحد خصوصاً في عصرنا الآن، كان فيما سبق أي قبل مدة كان الناس هنا في المملكة لا يخرجون أبداً عن الإقناع والمنتهى؛
فتجد فتاواهم واحدة، وشروحهم واجدة، لا يختلف واحد عن الآخر إلا في الإلقاء وحسن الأسلوب،لكن الآن لما كان كل واحد حافظاً حديثاً أو حديثين قال: أنا الإمام المقتدي به والإمام أحمد رجل ونحن رجال، فصارت المسألة فوضى، صار كل إنسان يفتي أحياناً تأتي الفتاوى تبكي وتُضحك وكنت أهم أن أدؤّن مثل هذه الفتاوى لكن كنت أخشى أن أكون ممن تبع عورات إخوانه فتركته تحاشياً مني وإلا نقلنا أشياء بعيدة عن الصواب بعد الثريا عن الثرى.(131/71)
فأقول: ملازمة عالم واحد مهمة جداً مادام الطالب في أول الطريق لكي لا يتذبذب، ولهذا كان مشائخنا ينهوننا عن مطالعة المغني وشرح المهذب والكتب التي فيها أقوال متعددة عندما كنا في زمن الطلبة، وذكر لنا بعض مشائخنا أن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين رحمه الله – وهو من أكبر مشائخ نجد مفتي الديار النجدية ذكروا أنه كان مكبًا على الروض المربع لا يطالع إلا إياه ويكرره، كل ما خلص منه كرره لكن يأخذه بالمفهوم و المنطوق والإشارة والعبارة فحصل خير كثير.
أما إذا توسعت مدارك الإنسان فهذا ينبغي له أن ينظر أقوال العلماء يستفيد منها فائدة علمية وفائدة تطبيقية، لكن في أول الطلب أنا أنصح الطالب أن يركز على شيخ معين لا يتعداه.
9- وسئل فضيلة الشيخ : إذا أراد طالب العلم أن ينقل الأحاديث التي زادت من بلوغ المرام على المحرر لابن عبد الهادي فهل هذه الطريقة مفيدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شيء في ذلك، هذه طريقة خاصة لكنه على سبيل العموم كونه يًُدرس الكتب المشهورة المتداولة بين الناس أحسن.
* * *
10- سئل فضيلة الشيخ : عن: كتاب المحرر لابن عبد الهادي أليس خيراً من بلوغ
المرام؟
فأجاب فضيلته بقوله: بلوغ المرام بين الناس، وصحابه محقق – رحمه الله
والشيء المتداول ينبغي للإنسان أن يعتني به أكثر من غيره؛ لأن الشيء
المهجور لا ينتفع به الناس كثيراً، والبلوغ كما هو معلوم خُدم وقرأ به علماؤنا
ومشائخنا.
* * *
11- وسئل حفظة الله تعالى:- ذٌكر عن ابن الوزير – رحمه الله – أن الصحابة أبابكر، وعمر، وعثمان، وعلي – رضي الله عنهم – لم يحفظوا القران الكريم ، وكذلك ما ورد عن الأئمة كعثمان ابن أبي شيبة على قدره أنه لم يحفظ القرآن ، الأشياء التي تدعو بعض طلبة العلم لترك حفظ كتاب الله ، هل هذا صحيح؟(131/72)
فأجاب فضيلته : بقوله: أنا أستبعد أن أبابكر، وعمر وعثمان ، وعلياًُ وهؤلاء الأجلة من الصحابة لم يحفظوا كتاب الله – هذا بعيد – وتعلم أن القرآن جمع على عهد أبي بكر، وعلى عهدعثمان كيف يجمعون ولا يحفظون؟! بعيد جداً ولكن حتى لو رُوي عنه فيجب أن ننظر في الإسناد أولاً ثم إذا صح الإسناد فنقول: إن الذي تحدث عنهم وقال إنهم لم يحفظوا القرآن كله تحدث عما علمَ ، ويبعده جداً أن مثل هؤلاء لا يحفظون القرآن، ولام ينبغي أن يثني الرجل عن حفظ القرآن مثل هذه الروايات.
* * *
12 - وسئل فضيلة الشيخ: أرجو من فضيلتكم – حفظكم الله تعالى – توضيح المنهج الصحيح
في طلب العلم في مختلف العلوم الشرعية جزاكم الله غيراً وغفر لكم؟
فأجاب بقوله: العلوم الشرعية على أصناف منها:
1- علم التفسير: فينبغي لطالب العلم أن يقرن التفسير بحفظ كتاب الله– عز وجل – اقتداء بالصحابة – رضي الله عنهم– حيث لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، ولأجل أن يرتبط معنى القرآن الكريم بحفظ ألفاظه فيكون الإنسان ممن تلاه حق تلاوته لا سيما إذا طبقه.
2- علم السنة: فيبدأ بما هو أصح، وأصح ما في السنة ما اتفق عليه البخاري ومسلم.
لكن طلب السنة ينقسم إلى قسمين:
قسم يريد الإنسان معرفة الأحكام الشرعية سواء في علم العقائد والتوحيد أو في علم الأحكام العملية، وهذا ينبغي أن يُركز على الكتب المؤلفة في هذا فيحفظها كبلوغ المرام، وعمدة الأحكام ، وكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاب التوحيد ، وما أشبه ذلك
وتبقى الأمهات للمراجعة والقراءة، فهناك حفظ وهناك قراءة يقرأ الأمهات ويكثر من النظر فيها لأن في ذلك فائدتين:
الأولى: الرجوع إلى الأصول.
الثانية: تكرار أسماء الرجال على ذهنه، فإنه إذا تكررت أسماء الرجاء لا يكاد يمر به رجل مثلا من رجال البخاري في أي سند كان إلا عرف أنه من رجال البخاري فيستفيد هذه الفائدة الحديثية.(131/73)
3- علم العقائد: كتبه كثيرة وأرى أن قراءتها في هذا الوقت تستغرق وقتاً كثيراً والفائدة موجودة في الزبد التي كتبها مثل شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله والعلامة ابن القيم، وعلماء نجد مثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ومن بعده من العلماء.
4- علم الفقه: ولا شك أن الإنسان ينبغي له أن يُركز على مذهب معين يحفظه ويحفظ أصوله وقواعده، لكن لا يعني ذلك أن نلتزم التزاماً بما قاله الإمام في هذا المذهب كما يلتزم بما قاله النبي e ، لكنه يبني الفقه على هذا ويأخذ من المذاهب الأخري ما قام الدليل على صحته، كما هي طريقة الأئمة من أتباع المذاهب كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والنووي وغيرهما حتى يكون قد بنى على أصل، لأني أرى أن الذين أخذوا بالحديث دون أن يرجعوا إلى ما كتبه العلماء في الأحكام الشرعية، أرى عندهم شطحات كثيرة ، وإن كانوا أقوياء في الحديث وفي فهمه لكن يكون عندهم شطحات كثيرة؛ لأنهم بعيدون عما يتكلم به الفقهاء.(131/74)
فتجد عندهم من المسائل الغريبة ما تكاد تجزم بأنها مخالفة لإجماع أو يغلب على ظنك أنها مخالفة للإجماع، لهذا ينبغي للإنسان أن يربط فقهه بما كتبه الفقهاء- رحمهم الله – ولا يعني ذلك أن يجعل الإمام، إمام هذا المذهب كالرسول – عليه الصلاة والسلام – يأخذ بأقواله وأفعاله على وجه الالتزام، بل يستدل بها ويجعل هذا قاعدة ولا حرج بل يجب إذا رأى القول الصحيح في مذهب آخر أن يرجع إليه ، والغالب في مذهب الإمام أحمد أنه لا تكاد ترى مذهباً من المذاهب إلا وهو قول للإمام أحمد، راجع كتب الروايتين في المذهب تجد أن الإمام أحمد – رحمه الله – لا يكاد يكون مذهب من المذاهب إلا وله قول يوافقه، وذلك لأنه – رحمه الله – واسع الإطلاع ورجّاع للحق أينما كان، فلذلك أرى أن الإنسان يركز على مذهب من المذاهب التي يختارها، وأحسن المذاهب فيما نعلم من حيث اتباع السنة مذهب الإمام أحمد رحمه الله – وإن كان غيره قد يكون أقرب إلى السنة من غيره، على إنه كما أشرت قبل قليل؛ لا تكاد تجد مذهباً من المذاهب إلا والإمام أحمد يوافقه – رحمه الله
وأهم شيء أيضاً في منهج طالب العلم بعد النظر والقراءة، أن يكون فقيهاً، بمعنى أنه يعرف حكم الشريعة وآثارها ومغزاها وأن يطبق ما علمه منها تطبيقاً حقيقياً بقدر ما يستطيع ]لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا [ (البقرة الآية: 286) لكن يحرص على التطبيق بقدر ما يستطيع، وأنا أكرر عليكم دائماً هذه النقطة (( التطبيق)) سواء في العبادات أو الأخلاق أو في المعاملات. طبق حتى يُعرف أنك طالب علم عامل بما علمت.
ونضرب مثلاً إذا مَر أحدكم بأخيه هل يشرع له أن يسلم عليه؟(131/75)
الجواب: نعم يشرع ولكن أرى الكثير يمر بإخوانه وكأنما مر بعمود لا يسلم عليه، وهذا خطأ عظيم حيث يمكن أن ننقد العامة إذا فعلوا مثل هذا الفعل، فكيف لا يُنتقد الطالب ؟ وما الذي يضرك إذا قلت السلام عليكم ؟ وكم يأتيك ؟ عشر حسنات – تساوي الدنيا كلها عشر حسنات لو قيل للناس: كل من مر بأخيه وسلم عليه سيدفع له ريال، لوجدت الناس في الأسواق يدورون لكي يسلموا عليه؛ لأن سيحصل على ريال لكن عشر حسنات نفرط فيها. والله المستعان.
وفائدة أخرى: المحبة والألفة بين الناس، فالمحبة والألفة جاءت نصوص كثيرة بإثباتها وتمكينها وترسيخا، والنهي عما يضادها والمسائل التي تضاد كثيرة، كبيع المسلم على بيع أخيه، والخطبة على خطبة المسلم، وما أشبه ذلك، كل هذا دفعاُ للعداوة والبغضاء وجلباً للألفة والمحبة، وفيها أيضاً تحقيق الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم (( والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا)) (1) ومعلوم أن كل واحد منا يحب أن يصل إلى درجة يتحقق فيها الإيمان له؛ لأن أعمالنا البدنية قليلة وضعيفة.
الصلاة يمضي أكثرها ونحن ندبر شئوناً أخرى، الصيام كذلك، الصدقة الله أعلم بها، فأعمالنا وإن فعلناها فهي هزيلة نحتاج إلى تقوية الإيمان، السلام مما يقوي الإيمان؛ لأن الرسول e قال: (( لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذ(131/76)
فعلتموه تحاببتم – يعني حصل لكم الإيمان – أفشوا السلام بينكم)) (1) هذه نقطة واحدة مما علمناه ولكننا أخللنا به كثيراً لذلك أقول: أسأل الله أن يعينني وإياكم على تطبيق ما علمنا ؛ لأننا نعلم كثيرا ولكن لا نعمل إلا قليلاً، فعليكم يا إخواني بالعلم وعليكم بالعمل وعليكم بالتطبيق، فالعلم حجة عليكم، العلم إذا غذيتموه بالعمل أزداد ] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ[ (محمد الآية:17) . إذا غذيتموه بالعمل أزددتم نوراً وبرهاناً ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [ (لأنفال: الآية29) ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيم [ (الحديد الآية:28) والآيات في هذا المعنى كثيرة، فعليكم بالتطبيق في العبادات وفي الأخلاق وفي المعاملات حتى تكونوا طلاب علم حقيقة، أسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
* * *
13- سئل فضيلة الشيخ : متى يكون طالب العلم متبعاً لمذهب الإمام أحمد ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : مذهب الإمام أحمد وغيره من الأئمة قسمان :
* مذهب شخصي.
* ومذهب اصطلاحي.
فأنت تكون متبعاً له شخصياً إذا أخذت برواية من الروايات عنه، ولكنك لست آخذاً بالمذهب المصطلح عليه إذا كان يخالف المصطلح عليه، والمذهب المصطلح عليه، أحياناً ينص الإمام أحمد على أنه رجع عنه وعلى أنه لا يقول به ، لكن لكل أناس من أصحاب المذاهب طريقة يمشون عليها.
* * *(131/77)
14- وسئل الشيخ : ما توجيه فضيلتكم – حفظكم الله تعالى – لطالب العلم المبتدىء هل يقلد إماماً من أئمة المذاهب أم يخرج عنه ؟
فأجاب قائلا: قال الله –عز وجل-: ] فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ ( الأنبياء الآية: 7)
فإذا كان هذا طالباً ناشئاً لا يعرف كيف يخرج الأدلة فليس له إلا التقيد سواء قلد إماماً سابقاً ميتاً أو إماماً حاضراً – عالم من العلماء – وسأله، هذا هو الأحسن، لكن إذا تبين له أن هذا القول مُخالف للحديث الصحيح وجب عليه أن يأخذ بالحديث الصحيح.
15- سئل فضيلة الشيخ – رعاه الله -: ما رأي فضيلتكم في بعض طلبة العلم الذين قد جمعوا أسس العلم في العقيدة ومعرفة الأحكام الفقهية أخذاً من العلماء، فهل يقومون الدعوة في المساجد أم ينتظرون حتى يكون عندهم إذن
رسمي من الجهات المختصة، وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته: بقوله: الذي أرى ألا يتكلموا فيما يمنع فيه الكلام إلا بإذن لأن طاعة ولي الأمر في تنظيم الأمور واجبة، وتعلم أنه لو أذن للصغار الذين ابتدأوا طلب العلم بالكلام لتكلموا بما لا يعلمون، وحصل بذلك مفسدة واضطراب للناس، ربما في العقائد فضلاً عن الأعمال البدنية.
فمنع الناس من الكلام إلا بإذن وبطاقة ليس منعاً تاماً حتى نقول لا طاعة لولاة الأمر في ذلك لأن فيه منعاً لتبليغ الشريعة لكنه منعُ مقيد بما يضبطه بحيث يُعرف من هو أهل لذلك أو لا، وكما تعلمون الآن كل من تقدم إلى المسئولين لهذا الأمر وعلموا أنه أهل لذلك أعطوه إذناً لم نعلم بأنهم قالوا لأحد تقدم وهو أهل لنشر العلم لا تفعل، والأمر – والحمد لله – أمر يطمئن إليه الإنسان، ولا يجوز لأحد أن يتكلم في موضع يُمنع فيه من الكلام من جهة ولي الأمر، إلا بإذن يعني مثلاً في المساجد أو في الأماكن العامة، لكن بينه وبين إخوانه، في غرفته، في حجرته فهذا لا بأس به ولا يمنع أحد منه.
* * *(131/78)
16 - سئل فضيلة الشيخ : – عفر الله له -: كثرت الأسئلة عن كيفية الطلب وبأي شيء يبدأ من أراد أن يطلب العلم وبأي المتون يبدأ حفظاً ، فما توجيهكم لهؤلاء الطلبة، وجزاكم الله خيراً؟
فأجاب فضيلته بقوله : أولاً وقبل أن أذكر التوجيه لهؤلاء
الطلبة أوجه الطلبة أن يتلقوا العلم عن عالم؛ لأن تلقي العلم عن العالم فيه فائدتان عظيمتان:
الأولى: أنه أقرب تناولا؛ لأن العالم عنده اطلاع وعنده معرفة ويعطيك العلم ناضجاً سهلاً .
الثانية: أن الطلب على عالم يكون أقرب إلى الصواب بمعنى أن الذي يطلب العلم على غير عالم يكون له شطحات وآراء شاذة بعيدة عن الصواب، وذلك لأنه لم يقرأ على عالم راسخ في علمه حتى يربيه على طريقته التي يختارها.
فالذي أرى أن يحرص الإنسان على أن يكون له شيخ يلازمه لطلب العلم؛ لأنه إذا كان له شيخ فإنه سوف يوجهه التوجيه الذي يرى أنه مناسب له.
أما بالنسبة للجواب على سبيل العموم فإننا نقول:
أولاً: الأولى أن يحفظ الإنسان كتاب الله تعالى قبل كل شيء ؛لأن هذا هو دأب الصحابة – رضي الله عنه – كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى تعلموها وما فيها من العلم والعمل، وكلام الله أشرف الكلام على الإطلاق.
ثانيا: يأخذ من متون الأحاديث المختصرة ما يكون ذخراً له في الاستدلال بالنسبة مثل: عمدة الأحكام، بلوغ المرام، الأربعين النووية وما أشبه ذلك.
ثالثا: يحفظ من متون الفقه ما يناسبه ومن أحسن المتون التي نعلمها (( زاد المستقنع في اختصار المقنع )) لأن هذا الكتاب قد خدم من قبل شارحه منصور بن يونس البهوتي ومن قبل من بعده من خدموا
هذا الشرح والمتن بالحواشي الكثيرة.
رابعاً: النحو وما أدراك ما النحو الذي لا يعرفه من الطلبة إلا القليل حتى إنك لترى الرجل قد تخرج من الكلية وهو لا يعرف عن النحو شيئاً يتمثل بقول الشاعر:
لا بارك الله في النحو ولا أهله إذا كان منسوبا إلى نفطويه(131/79)
أحرقه الله بنصف اسمه وجعل الباقي صراخاً عليه
لماذا قال الشاعر هذا الكلام ؟ الجواب: لأنه عجز عن النحو، ولكن أقول إن النحو بابه من حديد ودهاليزه قصب يعني أنه شديد وصعب عند أول الدخول فيه، ولكنه إذا انفتح الباب لطالبه سهل عليه الباقي بكل يسر وصار سهلاً عليه، حتى إن بعض طلبة العلم الذين بدءوا في النحو صاروا يعشقونه فإذا خاطبتهم بخطاب عادي جعل يعربه ليتمرن على الإعراب، ومن أحسن متون النحو الأجرومية، كتاب مختصر مركز غاية التركيز ولهذا أنصح من يبدأ أن يبدأ به فهذه الأصول التي ينبغي أن يبني عليها طالب العلم.
خامساً: أما ما يتعلق بعلم التوحيد فالكتب في هذا كثيرة منها: (( كتاب التوحيد)) لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب – رحمه الله – ومنها: (( العقيدة الواسطية)) لشيخ ابن تيمية، وهي كثيرة معروفة ولله الحمد.
والنصيحة العامة لطالب العلم أن يكون عليه آثار علمه من تقوي الله – عز وجل والقيام بطاعته ، وحسن الخلق، والإحسان إلى الخلق بالتعليم والتوجيه والحرص على نشر العلم بجميع الوسائل سواء كان ذلك عن طريق الصحف أو المجلات أو الكتب أو الرسائل أو
النشرات وغير ذلك من الوسائل.
وأنصح طالب العلم أيضاً ألا يتسرع في الحكم على الشيء ؛ لأن بعض طلبة العلم المبتدئين تجده يتسرع في الإفتاء وفي الأحكام وربما يخطىء العلماء الكبار وهو دونهم بكثير، حتى إن بعض الناس يقول : ناظرت شخصاً من طلبة العلم المبتدئين فقلت له: إن هذا قول الإمام أحمد بن حنبل. فقال: وما الإمام أحمد بن حنبل؛ الإمام أحمد بن حنبل رجل ونحن رجال، سبحان الله !! صحيح أن الإمام أحمد رجل وأنت رجل، فأنتما مستويان في الذكورة، أما في العلم فبينكما فرق عظيم ، وليس كل رجل رجلاً بالنسبة للعلم.
وأقول إن على طالب العلم أن يكون متأدباً بالتواضع وعدم الإعجاب بالنفس وأن يعرف قدر نفسه.(131/80)
ومن المهم لطالب العلم المبتدىء : ألا يكون كثير المراجعة لأقوال العلماء؛ لأنك إذا أكثرت مراجعتك لأقوال العلماء وجعلت تطالع المغني في الفقه لابن قدامة، والمجموع للنووي والكتب الكبيرة التي تذكر الخلاف وتناقشه فإنك تضيع.
ابدأ أولاً كما قلنا بالمتون المختصرة شيئاً حتى تصل إلى الغاية، وأما أن تريد أن تصعد الشجرة من فروعها فهذا خطأ.
* * *
17- سئل فضيلة الشيخ: – حفظه الله تعالى-: ما طريقة طلب العلم باختصار جزاكم الله خيرا ً؟.
فأجاب فضيلته: بقوله: طريقة طلب العلم باختصار في نقاط :
1- احرص على حفظ كتاب الله تعالى واجعل لك كل يوم شيئا معيناً تحافظ على قراءته
بتدبر وتفهم، وإذا عنت لك فائدة أثناء القراءة فقيدها.
2- احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حفظ عمدة الأحكام.
3- احرص على التركيز والثبات بحيث لا تأخذ العلم نتفاً من هذا شيئاً ومن هذا شيئاً؛ لأن هذا يضيع وقتك ويشتت ذهنك.
4- ابدأ بصغار الكتب وتأملها جيداً ثم انتقل إلى ما فوقها، حتى تحصل على العلم شيئاً فشيئاً على وجه يرسخ في قلبك وتطمئن إليه نفسك.
5- احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها وقيد كل شيء يمر بك من هذا القبيل فقد قيل: من حُرم الأصول حُرم الوصول.
6- ناقش المسائل من شيخك، أو مع من تثق به علماً وديناً من أقرانك، ولو بأن تقدر في ذهنك أن أحداً يناقشك فيها إذا لم تمكن المناقشة مع من سمينا.
* * *
18- وسئل فضيلة الشيخ – حفظه الله تعالى - : عن حكم تعلم اللغة الإنجليزية في الوقت الحاضر؟(131/81)
فأجاب فضيلته: بقوله: تعلمها وسيلة، فإذا كنت محتاجاً إليها كوسيلة في الدعوة إلى الله فقد يكون تعلمها واجباً ، وإن لم تكن محتاجاً إليها فلا تشغل وقتك بها واشتغل بما هو أهم وأنفع، والناس يختلفون في حاجتهم إلى تعلم اللغة الإنجليزية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد
بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود (1) فتعلم اللغة الإنجليزية وسيلة من الوسائل إن احتجت إليها تعلمتها وإن لم تحتج إليها فلا تضع وقتك فيها .
* * *
19- سئل رعاه الله بمنه وكرمه – عن حكم مشاهدة الأفلام التعليمية التي قد تكون فيها نساء وخصوصاً أفلام تعلم اللغة الإنجليزية ؟
فأجاب قائلاً : أنا أرى أن مشاهدة الأفلام التعليمية جائزة ولا بأس بها؛ لأنها مشاهدة لأمر يكون خيراً ، وإذا كان الذي يظهر من النساء والمشاهدون رجال فإن حصل تمتع بالنظر إليها ، فهذا محرم، وأما إذا لم يكن ذلك فهذا محل توقف عندي، وعلى كل حال فإنني أكره ذلك لأن يُخشى على الإنسان من الفتنة إذا شاهد ذلك، وبالإمكان إذا كان الذي يتكلم في هذه الحلقة امرأة أن تضع على الشاشة غطاء حتى لا تظهر أما الطلبة،
هذا إذا اضطررنا إلى الاستماع للمرأة بحيث لا يوجد لهذا الموضوع رجل، فإن كان يوجد رجل فلا يعدل عنه إلى النساء إذا كان المتعلمون رجالاً والعكس بالعكس.
* * *
20- وسئل فضيلته : كثر عند بعض الشباب الصالح القول بعدم التقيد مستندين إلى بعض أقوال ابن القيم عليه رحمة الله، فما قولكم ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الحقيقة إنني أؤيد هذا، أن الإنسان لا يركن إلى التقليد؛ لأن المقلد قد يخطىء، ولكني مع ذلك لا أرى أن نبتعد عن أقوال أهل العلم السابقين حتى لا نتشتت ونأخذ من كل مذهب لأننا وجدنا أن الإخوة الذين يُنكرون التقليد وجدناهم أحياناً يضيعون حتى يقولوا بما لم يسبقهم إليه أحد.(131/82)
ولكن إذا دعت الضرورة إلى التقليد فإنه لابد منه لقول الله تعالى: ] فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [ (الأنبياء الآية: 7) فأوجب – سبحانه سؤال أهل الذكر إذا كنا لا نعلم، وسؤالهم يتضمن اعتماد قولهم وإلا لم يكن لسؤالهم فائدة.
فالتقليد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى– بمنزلة الميتة إن اضطررت إليها فكلها ، وإن استغنيت عنها فهي حرام عليك، فمتى نزل بالإنسان نازلة ولا يتمكن من مطالعتها في الكتب التي تسوق الأدلة فلا حرج عليه حينئذ أن يقلد، ولكنه يقلد من يراه أقرب إلى الحق في علمه وأمانته، وأما مادام عنده قدرة على
استنباط الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقلد.
* * *
21- سئل فضيلة الشيخ: إذا كانت الأمة أحوج إلى العلوم المادية كالطب والهندسة وغيرها، فهل الأفضل للإنسان أن يتخصص في العلوم المادية أم العلوم الشرعية ؟(131/83)
فأجاب بقوله: لاشك أن الأصل هو العلوم الشرعية ولا يمكن لإنسان أن يعبد الله حق عبادته إلا بالعلم الشرعي كما قال الله تعالى: ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [ (يوسف الآية: 108) فلا بد من العلم الشرعي الذي تقوم به حياة المرء في الدنيا والآخرة، ولا يمكن لأي دعوة أن تقوم إلا وهي مبنية على العلم، وبهذه المناسبة أود أن أحث إخواني الدعاة إلى الله أن يتعلموا قبل أن يدعوا وليس معنى ذلك أن يتبحروا في العلم لكن ألا يتكلموا بشيء إلا وقد بنوه على العلم؛ لأنهم إذا تكلموا بما لا يعلمون كانوا داخلين تحت قوله تعالي: ] قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [ (لأعراف الآية: 33)
والعلوم الشرعية تنقسم إلى قسمين:
قسم لابد للإنسان من تعلمه وهو ما يحتاجه في أمور دينه ودنياه.
وقسم آخر وهو فرض كفاية، فإنه هنا يمكن الموازنة بينه وبين ما تحتاجه الأمة من العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية.
وكذلك العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم علوم ضارة، فيحرم تعلمها ولا يجوز للإنسان أن يشتغل بهذه العلوم مهما تكن نتيجتها.
2- قسم علوم نافعة، فإنه يتعلم منها ما فيه النفع.
3- وقسم العلوم التي جهلها لا يضر والعلم بها لا ينفع وهذه لا ينبغي للطالب أن يقضي وقته في طلبها.
* * *
22- سئل فضيلة الشيخ: نلاحظ أن أكثر الشباب يهتم بقراءة الكتب الثقافية العامة متأثراً بها وغير مهتم بكتب الأصول فما نصيحتكم وفقكم الله ؟(131/84)
فأجاب قائلاً : نصيحتي لنفسي أولاً لإخواننا طلبة العلم أن يعتنوا بكتب أهل العلم من السلف؛ لأن كتب السلف فيها من الخير الكثير والعلم الكثير وفيها من البركة ما هو معلوم.
* * *
23- وسئل فضيلته : نرى كثيراً من الناس يعلم بعض الأحكام الشرعية كتحريم حلق اللحية وشرب الدخان ومع ذلك لا يعمل بعلمه، فما أسباب ذلك ؟ وكيف تُعالح هذه الظاهرة الخطيرة ؟
فأجاب بقوله: أسباب ذلك هو: اتباع الهوى، وكون الإنسان ليس عنده من الوازع الديني ما يحمله على تقوى الله – عز وجل –
في تجنب ما يراه حراماً ، والإنسان إذا حاسب نفسه ورأى أنه راجع إلى ربه مهما طال فإنه قد يغلب هواه وقد يسيطر على نفسه.
ومن أسباب ذلك أيضاً: أن الشيطان يصغر مثل هذه المعاصي في قلب العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك فقال:(( إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مثل ذلك كمثل قوم نزلوا أرضاً فأتي هذا بعود وهذا بعود وهذا بعود ثم إذا جمعوا حطباً كثيراً وأضرموا ناراً كثيراً )) (1) فهكذا المعاصي المحقرات التي يراها الإنسان حقيرة لا تزال به حتى تكون من كبائر الذنوب.
ولهذا قال أهل العلم: إن الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر ، وإن الاستغفار من الكبائر يكفرها ، لهذا نقول لهؤلاء: عليكم أن تحاسبوا أنفسكم.
ومن أسباب ذلك أيضا: قلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان كل واحد منا إذا رأى أحداً على معصية أرشده وبين له أن ذلك مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العاقل سوف يعتبر ويتغير.
24- وسئل – غفر الله له -: ما لواجب على طالب العلم والعالم تجاه الدعوة إلى الله ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة إلى الله واجبه كما قال الله تعالي:(131/85)
] ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ (النحل، الآية:125 ) . وقد جعل الله الدعوة على ثلاث مراتب: الدعوة بالحكمة، وبالموعظة وبالمجادلة؛ لأن من تدعوه إما أن يكون لا علم عنده ولا منازعة عنده ولا مخالفة فهذا يُدعوه إما أن يكون لا علم عنده ولا منازعة عنده ولا مخالفة فهذا يُدعى بالحكمة، والحكمة هي بيان الحق، وحكمة الحق إن تيسر لك ؛ والموعظة تكون مع من عنده شيء من الإعراض وتوقف عن قبول الحق فإنك تعظه بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى وبهما جميعاً إن اقتضت الحال ذلك، والمجادلة تكون مع من عنده إعراض ومنازعة في الحق فإنك تجادله بالتي هي أحسن من القول أو بالتي هي أحسن بالإقناع.(131/86)
وانظر إلى مجادلة إبراهيم – عليه السلام- مع الذي حاجه في ربه، قال الله عن ذلك: ] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[(البقرة الآية: 258) وكيف هذا ؟ يؤتى بالرجل مستحقاً للقتل فلا يقتله وهذا بزعمه إحياؤه، ويؤتى بالرجل لا يستحق القتل فيقتله وهذا بزعمه إماتته، يمكن أن يجادل هذا بأن يقال: إنك إذا أوتيت بالرجل المستحق القتل فلم تقتله، إنك ما أحييته؛ لأن الحياة موجودة فيه من قبل، ولكنك أبقيت الحياة بعدم قتله، ويمكن تقول: إنه إذا قتل من لا يستحق القتل إنه لم يمته، وإنما فعل سبباً يكون به الموت ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الدال أنه يؤتى إليه بشاب فيشهد هذا الشاب أنه الدجال الذي أخبر عنه النبي e فيقتله الدجال، ويجعله قطعتين ويمشي بينهما تحقيقاً للتباين بينهما، ثم يناديه الدجال فيقوم متهلهلاً يضحك يقول: أشهد إنك الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتي ليقتله فلا يقدر (1) فهذا دليل على أن الأمر كله بيد الله.
فيمكن أن يحاج هذا الرحل بمثل ذلك، ولكن إبراهيم عليه السلام، أراد أن يأتي بدليل آخر لا يحتاج إلى محاجة ولا مجادلة، قال إبراهيم : ] فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ [ (البقرة الآية: 258) فنكص عن الجواب: ] فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ (البقرة الآية: 258) .(131/87)
فقوله تعالى: ] وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [ (النحل الآية:125) أي الأحسن في الأسلوب والإقناع وبالتالي يجب علينا أن ندعو إلى الله مادام الإنسان قادراً على ذلك، ولكن الدعوة إلى الله فرض كفاية أي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإذا رأيت شخصاً منحرفاً وليس حولك من يدعوه صار الآن فرض عين عليك؛ لأن العلماء يقولون فرض الكفاية: إنه إذا لم يوجد سوى هذا الرجل تعين عليه.
* * *
25- سئل فضيلة الشيخ: ما فائدة تعلم طلاب العلم فرق المعتزلة والجهمية والخوارج مع عدم وجودها في هذا العصر؟
فأجاب فضيلته بقوله: تعلم فرق المبتدعة في هذا الزمان فيه فائدة وهي: أن نعرف مآخذ هذه الفرق لنرد عليهم إذا وجدوا، وهم موجودون فعلاً، وقوله السائل: إنه لا وجود لهم الآن مبني على علمه هو، ولكن المعلوم عندنا وعند غيرنا ممن يطلعون على أحوال الناس أن هذه الفرق موجودة وأن لها نشاطاً أيضاً في نشر بدعهم، ولذلك لابد من أن نتعلم هذه الآراء حتى نعرف زيفها ونعرف الحق ونرد على من يجادلون فيها.
* * *
26 - سئل فضيلة الشيخ: نحن طلاب العلم نحفظ الكثير من الآيات على سبيل الاستشهاد، وفي نهاية العام نكون قد نسينا الكثير منها، فهل ندخل في حكم من يعذبون بسبب نسيان ما حفظوه ؟
فأجاب قائلاً : نسيان القرآن له سببان:
الأول: ماتقتضيه الطبيعة.
والثاني: الإعراض عن القرآن وعدم المبالاة به.
فالأول لا يأثم به الإنسان ولا يعاقب عليه، فقد وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى بالناس ونسي آية، فلما انصرف ذكره بها أبي بن كعب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( هلا كنت ذكرتنيها )) (1) وسمع رسول الله قارئاً يقرأ، فقال: (( يرحم الله فلاناً فقد ذكرني آية كنت أنسيتها ))
وهذا يدل على أن النسيان الذي يكون بمقتضى الطبيعة ليس فيه لوم على الإنسان.(131/88)
أما ما سببه الإعراض وعدم المبالاة فهذا قد يأثم به . وبعض الناس يكيد له الشيطان ويوسوس له إلا يحفظ القرآن لئلا ينساه ويقع في الإثم، والله سبحانه وتعالى يقول:] فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً [ (النساء الآية: 76) فليحفظ الإنسان القرآن لأنه خير، وليؤمل عدم النسيان، والله سبحانه عند ظن عبده به.
ونظير هذا ما يستدل به بعض الناس بقول الله تعالى : ] لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [ (المائدة الآية: 101) فيترك السؤال والعلم والتعلم. ولكن كان هذا حين نزول الوحي والتشريع، فقد يسأل البعض عن أشياء سكت الله عنها فُتبين لهم فيكون فيها تشديد على المسلمين بالإيجاب أو التحريم. أما الآن فلا تغيير في الأحكام ولا نقص فيها فيجب السؤال عن الدين .
* * *
27- سئل فضيلة الشيخ – غفر الله له -: قد يعلم الإنسان شيئاً ويأمر به غيره وهو نفسه لا يعمله سواء كان فرضاً أو نفلاً فهل يحل له أن يأمر غيره بما لا يعمل؟.
وهل يجب على المأمور امتثال أمره أم يحل له الاحتجاج عليه بعدم عمله ثم لا يعمل ما أمر به تبعاً لذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هنا أمران، الأمر الأول: هذا الذي يدعو إلى الخير وهو لا يفعله نقول له: قال الله – عز وجل:
] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ[ ] كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ[ (الصف الآيتان: 2 ، 3) وأنا أعجب كيف رجل يؤمن بأن هذا هو احلق، ويؤمن بأن التعبد لله به يقربه إليه ويؤمن بأنه عبد لله ثم لا يفعله فهذا شيء يعجب له ويدل على السفه وأنه محط التوبيخ واللوم لقوله تعالي: ] لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ[ . فنقول لهذا الرجل: أنت آثم بتركك العمل بما علمت وبما تدعو إليه، ولو بدأت بنفسك لكان ذلك من العقل والحكمة.(131/89)
أما الأمر الثاني: بالنسبة للمأمور فإنه لا يصح له أن يحتج على هذا الرجل بفعله فإذا أمره بخير وجب عليه القبول ، يجب أن يقبل الحق من كل من قال به ولا يأنف من العلم.
* * *
28- وسئل فضيلته : كيف نرد على من قال: إن العلماء السابقين لم تكن لديهم المشاغل التي تؤثر على حفظهم كما هو حاصل لعلماء هذا الزمان، ومنهم من يكون ليس لديهم إلا التفرغ لطلب العلم وحفظه والجلوس بلا مشاغل، أما الآن فكثرت المشاغل الدنيوية التي تأخذ كل الوقت، والإنسان قد لا يستطيع الاستغناء عن هذه المشاغل؟
فأجاب – حفظه الله - : أقول لطالب العلم ما دمت أنك قد فرغت نفسك للعلم فكن طالب علم حقاً ، وأعتقد أن البناء الذي فرغ نفسه للبناء لا يلتفت إلى عمل آخر، بل يلتفت إلى مهمته التي كرس نفسه لها ورأى أنها هي الخير له، فما دمت تعلم أن طلب العلم هو الخير وتريد أن تتخذه طريقاً فلا تلتفت إلى غيره.
وفي ظني أن الرجل إذا ثابر مع الإيمان والإخلاص وصدق النية فإن الله – سبحانه وتعالى – يعينه ولا يعبأ بهذه المشكلات، والله – عز وجل – يقول:] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً [ (الطلاق الآية: 4) ] وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً [ ] وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [ (الطلاق الآيتان: 2 ، 3) فعليك بصدق النية في الطلب تجد أن الأمر سهل وميسر.
* * *
29- وسئل الشيخ: بماذا تنصح من يريد طلب العلم الشرعي ولكنه بعيد عن العلماء مع العلم بأن لديه مجموعة كتب منها الأصول والمختصرات ؟(131/90)
فأجاب بقوله: أنصحه بأن يثابر على طلب العلم ويستعين بالله – عز وجل – ثم بأهل العلم، لأن تلقي الإنسان العلم على يدي العالم يختصر له الزمن بدلاً من أن يذهب ليراجع عدة كتب وتختلف عليه الآراء، ولست أقول كمن يقول، أنه لا يمكن إدراك العلم إلا على عالم أو على شيخ فهذا ليس بصحيح، لأن الواقع يكذبه لكن دراستك علىالشيخ تُنورُ لك الطريق وتختصره.
* * *
30- سئل الشيخ: أنا طالب علم وأهلي عندهم ظروف مادية، فقال لي والدي اعمل علينا أفضل لك من طلب العلم فهل أترك دراستي للعلم؟ وهل العمل على الأهل أفضل أم لا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله: لا شك أن طلب العلم أفضل، اللهم إلا في حالة الضرورة إلا أنه يمكنه أن يجمع بينهما ولا سيما أن الحالة الاقتصادية – والحمد لله – أن أكثر الناس قد أوسع الله عليهم فيمكن أن تقوم بحاجة أهلك فتتزوج امرأة يكون عندها بعض المؤنة وتكون مستمراً في طلب العلم .
* * *
31- وسئل فضيلة الشيخ: أنا طالب في الجامعة وكل دراستي نظريات غربية تنافي تعاليم الشرع فيما رأيكم إذا علمت أنني أنوي نقد مثل هذه النظريات ونفع الأمة الإسلامية في دراستي الحالية وبعد تخرجي ؟
فأجاب بقوله: أقول هذا لا شك أنه من الجاهد في سبيل الله، أن يدرس الإنسان هذه النظريات المخالفة للإسلام حتى يرد عليها عن علم.
ولهذا قال النبي e لمعاذ وقد أرسله إلى اليمن: (( إنك ستأتي قوماً من أهل الكتاب )) (1) فأخبره بحالهم كي يستعد لهم، وكذلك العلماء الذين درسوا هذه الأمور كشيخ الإسلام ابن تيمية درس من العلوم والنظريات الفلسفية وغيرها ما يستطيع أن يرد به على أصحابها.(131/91)
فإذا كنت تتعلم هذه الأمور للرد، وأنت واثق أن لديك المقدرة والحصانة على الرد بحيث لا تتأثر بها، بأن يكون لديك علم شرعي راسخ، ويكون لديك عبادة وتقوى فأرجو إن شاء الله تعالى أن يكون هذا خيراً لك ونفعاً للمسلمين، وأما إذا كنت ترد عليها بشيء غير مقبول أو ليس لديك دليل، فلا تنتهج هذا الطريق وكذلك إذا كنت تعرف نفسك أنك لست على يقين كامل وثبات راسخ فأنا أشير عليك أن تدع هذه الأمور لأنها خطيرة، ولا ينبغي للإنسان أن يتعرض للبلاء مع الخوف منه .
* * *
32- وسئل فضيلته: أنا طالب أحب أن آخذ درجات عالية ومعدلاً ممتازاً وأنا مع ذلك نيتي طيبة فما رأيك في الفرح بالدرجات العالية والغضب من الدرجات الضعيفة، هل في هذا خدس للإخلاص ؟
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر إن شاء الله أنه ليس في هذا خدش للإخلاص؛لأن هذا أمر طبيعي أن الإنسان يُسر بالحسنة ويُساء بالسيئة ، والله تعالى بين أن الأشياء التي لا تلائم المرء سماها سيئة فلا بد أن تسؤه وكذلك الحسنة لا بد أن تسره.
فهذا لا يؤثر على إخلاصك إذا كان الأمر كما قلت عندك نية طيبة، أما إذا كان همك هو الدرجات أو الشهادة فهذا شيء آخر، فها هو عبد الله بن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – لما ألقى النبي e على أصحابه مسألة قال: (( أن في الشجر شجرة تشبه المؤمن فجعل الصحابة – رضي الله عنهم – يخوضون في أشجار البوادي قال ابن عمر: فوقع في قلبي أنها النخلة ولكني كنت صغيراً فما أحبب أن أتكلم )) (1) ، وعمر رضي الله عنه – قال لابنه: (( وددت أنك قلتها)) ، وهذا يدل على أن فرح الإنسان بنجاح وما أشبه ذلك لا يضر.
* * *
33- وسئل الشيخ – غفر الله له -: ما رأي فضيلتكم في تعلم طالب العلم اللغة الإنجليزية لا سيما في سبيل استخدامها في الدعوة إلى الله ؟(131/92)
فأجاب فضيلته: بقوله: رأينا في تعلم اللغة الإنجليزية أنها وسيلة لا شك، وتكون وسيلة طيبة إذا كانت الأهداف طيبة، وتكون رديئة إذا كانت لأهداف رديئة، لكن الشيء الذي يجب اجتنابه أن تتخذ بديلاً عن اللغة العربية، فإن هذا لا يجوز، وقد سمعنا بعض السفهاء يتكلم بها بدلاً من اللغة العربية، حتى إن بعض السفهاء المغرمين الذين اعتبرهم أذناباً لغيرهم كانوا يعلمون أولادهم تحية غير المسلمين يعلمونهم أن يقولوا بأي باي عند الوداع وما أشبه ذلك.
لأن إبدال اللغة العربية التي هي لغة القرآن وأشرف اللغات بهذه اللغة محرم وقد صح عن السلف النهي عن رطانة الأعاجم وهم من سوى العرب.
أما استعمالها وسيلة للدعوة فإنه لا شك أن يكون واجباً أحياناً، وأنا لم أتعلمها وأتمني أنني كنت تعلمتها ووجدت في بعض الأحيان أني أضطر إليها حتى المترجم لا يمكن أن يعبر عما في قلبي تماما.
وأذكر لكم قصة حديث في مسجد المطار بجدة مع رجال التوعية الإسلامية نتحدث بعد صلاة الفجر عن مذهب التيجاني وأنه مذهب باطل وكفر بالإسلام وجعلت أتكلم بما أعلم عنه فجاءني رجل فقال: أريد أن تأذن لي أن أترجم بلغة الهوسا. فقلت: لا مانع فترجم فدخل رجل مسرع فقال: هذا الرجل الذي يترجم عنك يمدح التيجانية فدهشت وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلوا كنت أعلم مثل هذه اللغة ما كنت أحتاج إلى مثل هؤلاء الذين يخدعون، فالحاصل أن معرفة لغة من تخاطب لا شك أنا مهمة في إيصال المعلومات قال الله تعالي ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [ (ابراهيم: الآية: 4)
34- وسئل – حفظه الله تعالى -: أنا متخصص في علم الكيمياء وأتابع البحوث والدراسات التي تصدر في هذا المجال لكي أستفيد وأفيد من ذلك في أي مجال أعمل به سواء مدرسة أو مصنعاً مع العلم بأن ذلك يشغلني عن طلب العلم والشرعي فكيف أوفق بينهما ؟.(131/93)
فأجاب بقوله : أرى أن التوفيق بين العلمين يمكن بحيث تركز على العلم الشرعي ويكون هو الأصل لديك، ويكون طلب العلم الآخر على سبيل الفضول ثم مع ذلك تمارس هذا العلم الثاني من أجل مصلحة تعود عليك وعلى أمتك بالخير مثل أتستدل بدراسة هذا العلم على كمال حكمة الله – عز وجل – وربط الأسباب بمسبباتها وما إلى ذلك مما يعرفه غيرنا ولا نعرفه في هذه العلوم، فأنا أقول استمر في طلب العلم الشرعي وأطلب الآخر لكن اجعل الأهم والمركز عليه هو العلم الشرعي.
35- سئل فضيلة الشيخ: أي كتب تفسير القرآن تنصح بقراءتها؟ وحفظ القرآن، إذا حفظ الإنسان ونسي فهل هناك وعيد فيه ؟ وكيف يحفظ الإنسان ويحافظ على ما حفظ؟
فأجاب بقوله: القرآن وعلومه متنوعة، وكل مفسر يفُسر القرآن يتناول طرفاً من هذه العلوم ولا يمكن أن يكون تفسيراً واحداً يتناول القرآن من جميع الجوانب.
فمن العلماء من ركز في تفسيره على التفسير الأثري – أي على ما يؤثر عن الصحابة والتابعين – كابن جرير وابن كثير.
ومنهم من ركز على التفسير النظري كالزمخشري وغيره ولكن أنا أرى أن يفسر الآية هو بنفسه أولاً – أي يكرر في نفسه أن هذا هو معنى الآية – ثم بعد ذلك يراجع ما كتبه العلماء فيها؛ لأن هذا يفيده أن يكون قوياً في التفسير غير عالة على غيره، وكلام الله –عز وجل – منذ بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ] بلسان عربي مبين [
وإن كان يجب الرجوع إلى تفسير الصحابة؛ لأنهم أدرى الناس بمعانيه، ثم إلى كتب المفسرين التابعين، لكن مع ذلك لا أحد يستوعب كلام الله - عز وجل .
فالذي أرى أن الطريقة المثلى أن يكرر الإنسان تفسير الآية في نفسه، ثم بعد ذلك يراجع كلام المفسرين فإذا وجده مطابقاً فهذا مما يُمكنه من تفسير القرآن وييسره له وإن وجده مخالفاً رجع إلى الصواب.(131/94)
وأما حفظ القرآن فطريقة حفظه تختلف من شخص لآخر، بعض الناس يحفظ القرآن آية آية بمعنى أنه يحفظ آية يقرأها أولاً ثم يرددها ثانياً وثالثاً حتى يحفظها ثم يحفظ التي بعدها ثم يكمل ثمن أو ربع الجزء أو ما أشبه ذلك، وبعض الناس يقرأ إلى الثمن جميعاً ويردده حتى يحفظه ومثل هذا لا يمكن أن نحكم عليه بقاعدة عامة فنقول للإنسان استعمل ما تراه مناسباً لك في حفظ القرآن.
لكن المهم أن يكون عندك علم لما حفظت متى أردت الرجوع إليه، وأحسن ما رأيت في العلم أن الإنسان إذا حفظ شيئاً اليوم يقرأه مبكراً الصباح التالي فإن هذا يعين كثيراً على حفظ ما حفظه في اليوم الأول هذا شيء فعلته أنا فإن هذا يعين على الحفظ الجيد.
أما الوعيد على من ينسى ، قال الإمام أحمد: (( ما أشد ما ورد فيه)) أي حفظ آية ونسيها والمراد بذلك من أعرض عنها حتى تركها، وأما من نسيها لسبب طبيعي أو لأسباب كانت واجبة أشغلته فإن هذا لا يلحق به إثم ] لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا[ (البقرة الآية: 286) .
وقد ثبت عن النبي e أنه صلى بأصحابه فنسي آية فذكره أحد الصحابة بها بعد الصلاة فقال: (( هلا كنت ذكرتني بها )) فالإنسان الذي ينساه تهاوناً به وإعراضاً عنه لا شك أنه خاسر وأنه مستحق الإثم، وأما الذي ينساه لشيء واجب عليه أوجبه الله – سبحانه وتعالى – عليه أو نسياناً طبيعياً فهذا لا يلحقه شيء .
* * *
فأجاب فضيلته: بقوله: لا شك أنه من خير الكتب ؛ لأن فيه مسائل كثيرة مقرونة بالأدلة، لكنه لا يسلم من الأخطاء،وكما قال ابن رجب – رحمه الله – في مقدمة القواعد الفقهية، قال (( يأبي الله العصمة لكتاب غير كتابه ولكن المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه))، الكتاب لا شك أنه نافع لكن لا أرى أن يقتنيه إلا طالب علم يميز بين الصحيح والضعيف ؛ لأن به مسائل ضعيفة كثيرة.(131/95)
ومن ذلك القول باستحباب صلاة التسبيح (1) فإن صلاة التسبيح هذه قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إن حديثها كذب، وقال إنها لا يستحبها أحد من الأئمة، ولما سئل عنها الإمام أحمد نفض يده كالمنكر لها .
37- وسئل -حفظه الله تعالى -: في هذا الزمن يجرى تسمية بعض العلوم التجريبية بالعلم حتى إن المدارس الثانوية سمت بعلمي وأدبي، فهل هذا صحيح؟ إضافة لذلك إن هذا التقسيم في المدارس يعلق بأذان الطلاب مما يؤثر عليهم مستقبلاً؟
فأجاب فضيلته: بقوله: هذا التقسيم إلى علمي وأدبي هو اصطلاح ولا مشاحة في الاصطلاح؛ لأنهم يرون أن المواد العلمية هي ما يتعلق بعلم الكون والأحياء والنباتات وما أشبه ذلك ، ولكن الذي يجب أن نفهمه أن هذا ليس هو العلم الذي حٌثّ عليه وأثني على طلبيه، فإن العلم الذي أثنى الله على أصحابه، والذي أصحابه ، والذي أصحابه هم أهل خشية الله، إنما هو علم الشريعة فقط، وأما العلوم الأخرى فإنها إن كانت نافعة فإنها تكون مطلوبة لا لذاتها ولكن لما يرجى فيها من نفع ، وأما إذا كانت ضارة وجب اجتنابها، وأما إذا كانت غير نافعة ولا ضارة فإن الإنسان لا ينبغي أن يضيع وقته فيها.
38- وسئل أعلى الله درجته في المهديين - : هل يعذر الشخص بعدم طلبه للعلم بسبب انشغاله بدراسته التي ليس بها طلب للعلم الشرعي أو بسبب عمله أو غير ذلك؟
فأجاب فضيلته: بقوله: طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون واجباً على الإنسان عيناً أي فرض عين كما لو أراد الإنسان أن يتعبد الله بعبادة فإنه يجب عليه أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة.
وعلى هذا ، فهذا الذي يشغله عن طلب العلم الشرعي حاجة أهله أو غير ذلك من الصوارف مع محافظة على ما يجب الحفاظ عليه من العبادة نقول: إن هذا معذور ولا حرج عليه ولكن ينبغي أن يتعلم من العلم الشرعي بقدر ما يستطيع.
* * *(131/96)
39- سئل فضيلة الشيخ: ما المقصود بالعلماء في قوله تعالي: ] إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [ ؟
فأجاب بقوله: المقصود بهم العلماء الذين يوصلهم علمهم إلى خشية الله، وليس المراد بالعلماء من علموا شيئاً من أسرار الكون كأن يعلموا شيئاً من أسرار الفلك وما أشبه ذلك أو ما يسمى بالإعجاز العلمي، فالإعجاز العلمي في الحقيقة لا ننكره، لا ننكر أن في القران أشياء ظهر بيانها في الأزمنة المتأخرة لكن غالى بعض الناس في الإعجاز العلمي حتى رأينا من جعل القرآن كأنه كتاب رياضة وهذا خطأ، فنقول: إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا ينبغي لأن هذه قد تكون مبنية على نظريات والنظريات تختلف، فإذا جعلنا القرآن دالاً على هذه النظرية ثم تبين بعد أن هذه النظرية خطأ معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة، وهذه مسألة خطيرة جداً.
والآن يا إخواني : اعتنى في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات ولهذا بين دقيقها وجليلها حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرها. لكن علم الكون هل جاء على سبيل التفصيل ؟ ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي أن يشتغلوا به عما هو أهم، إن الشي الأهم هو تحقيق العبادة لأن القرآن نزل بهذا، قال الله تعالي: ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [ (الذريات، الآية: 56)
أما علماء الكون الذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه فننظر إن اهتدوا بما وصلوا إليه من العلم واتقوا الله – عز وجل – وأخذوا بالإسلام صاروا من علماء المسلمين الذين يخشون الله، وإن بقوا على كفرهم وقالوا إن هذا الكون له محدث فإن هذا لا يعدو أن يكونوا قد خرجوا من كلامهم الأول إلى كلام لا يستفيدون منه، فكل يعلم أن لهنذا الكون محدثاً؛ لأن هذا الكون إما أن يحدث نفسه، وإما أن يحدث صدفة، وإما أن يحدثه خالق وهو الله – عز وجل(131/97)
فكونه يحدث نفسه مستحيل ؛ لأن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقاً ؟!
ولا يمكن أن تُوجد صدفة؛ لأن كل حادث لابد له من محدث، ولأن وجوده على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعاً باثاً أن يكون وجوده صدقة، إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظماً حال بقائه وتطوره ؟ !
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها ، ولا أن تُوجد صدفة تعينً أن يكون لها مٌوجد وهو الله رب العالمين.
* * *
40- سئل الشيخ – غفر الله له -: هل تعليم الطالب الرياضيات إذا كان الشخص ينوي بها وجه الله له أجر أم لا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله: إذا كانت هذه الرياضيات ما تنفع المسلمين في معاشهم ونوى الشخص بذلك نفع الناس بها فإنه يؤجر على نيته، ولكنها ليست كالعلوم الشرعية فإنها إذا كانت من المباحات تكون وسيلة؛ لأن القاعدة الشرعية أن المباح قسم واسع فقد يكون حراماً وقد يكو مكروهاً وقد يكون مستحباً وقد يكون واجباً.
ونقول مثلاً : أن الأصل في البيع الحلال، ولكن قد يكون مكروهاً، فإذا أراد شخص أن يشتري منك شيئاً ينقذ به حياته مثل الطعام والشراب فما حكم البيع ؟ الحكم واجب، وشخص آخر أراد أن يشتري منك عنباً ليجعله خمراً فهذا البيع حرام، وشخص آخر أراد أن يشتري ماء ليتوضأ به وليس عنده ماء فالشراء واجب ؛ فعلى هذا نقول: إن المباح إذا كان وسيلة لأمر مشروع كان مشروعاً وإذا كان ذريعة لأمر محرّم كان حراماً.
* * *
41- وسئل فضيلة الشيخ : بعض الشباب يريدون أن يتعلموا الطب وبعض العلوم الأخرى ولكن هناك عوائق مثل الاختلاط والسفر إلى بلاد الخارج فما الحل؟ وما نصيحتكم لهؤلاء الشباب ؟(131/98)
فأجاب فضيلته: بقوله: نصيحتي لهؤلاء أن يتعلموا الطب لأننا في بلادنا في حاجة شديدة إليه، وأما مسألة الاختلاط فإنه هنا في بلادنا والحمد لله يمكن أن يتقي الإنسان ذلك بقدر الاستطاعة.
وأما السفر إلى بلاد الكفار فلا أرى جواز السف إلا بشروط :
الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات ؛ لأن هناك في لبلاد الكفار يوردون على أبناء المسلمين الشبهات حتى يردوهم عن دينهم.
الثاني: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات، فلا يذهب إلى هناك وهو ضعيف الدين ، فتغلبه الشهوات فتدفع به إلى الهلاك.
الثالث: أن يكون محتاجاً إلى السفر بحيث لا يوجد هذا التخصص في بلاد الإسلام.
فهذه الشروط الثلاثة إذا تحققت فليذهب، فإن تخلف واحد منها فلا يسافر،لأن المحافظة على الدين أهم من المحافظة على غيره (1)
42– سئل فضيلته بقوله: نعم، فهم اللغة العربية مهم سواء في قواعد الإعراب أو قواعد البلاغة، كلها مهمة ولكن بناء على بناء على أننا والحمد الله عرب فإنه يمكننا أن نتعلم دون أن نعرف قواعد اللغة العربية، لكن من الكمال أن يتعلم الإنسان قواد اللغة العربية، فأنا أحدث على تعلم اللغة العربية في جميع قواعدها
* * *
43- سئل فضيلة الشيخ: أيهما أفضل: التفرغ للدعوة إلى الله – عز وجل – أم التفرغ لطلب العلم؟
فأجاب قائلاً: طلب العلم أفضل وأولى، وبإمكان طالب العلم أن يدعو وهو يطلب العلم، ولا يمكن أن يقوم بالدعوة إلى الله وهو على غير علم، قال الله تعالى: ] قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [ (يوسف: الآية 108) فكيف يكون هناك دعوة بلا علم؟ ولا أحد دعا بدون علم أبداً ، ومن يدعوا بدون علم لا يوفق.
* * *(131/99)
44- سئل فضيلة الشيخ : إذا كان آفة العلم النسيان فما الأمور أو الطرق التي تعين على ضبط العلم: أن يهتدي الإنسان بعلمه قال تعالي:] وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُم [ (محمد، الآية: 17)
فإذا عمل العالم بعلمه، ازداد علماً وأتي تقوى، أي عبادة وخشية.
ومنها: أن يفرغ قلبه للعلم بحيث لا يتشاغل بغيره عنه بل يكون هو همه وهاجسه.
ومنها: أن يتعاهده بالحفظ والمذاكرة.
ومنها: أن يستحضر الحكم ودليله عند كل عمل يقوم به.
ومنها: أن يكب على طلب العلم فلا يجعل طلب العلم عند التفرغ فقط، ولهذا يقولون أعط العلم كلك يعطيك بعضه، وأعط العلم بعضك لا يعطيك شيئاً ، فلا بد من الإكباب على طلب العلم ليلاً ونهاراً، والمناقشة وتطبيق ما علمت على ما عملت حتى يبقى العلم.
* * *
45- سئل فضيلة الشيخ: ما توجيهكم – حفظكم الله تعالى – لطلاب العلم حيث يلاحظ الإهمال وعدم الجد مما له آثار سيئة في التحصيل العلمي؟
فأجاب بقوله: يجب على طلاب العلم أن يبذلوا غاية الجهد في تحصيل العلم، حتى يدركوا المعلومات إدراكاً قوياً، راسخاً في نفوسهم؛ لأنهم إذا اجتهدوا ,اخذوا العلوم شيئاً فشيئاً سهلت عليهم ورسخت في نفوسهم وسيطروا عليها سيطرة تامة، وإن أنتم يا طلاب العلم أهملتم وتهاونتم انطوى عنكم الزمن، وتراكمت عليكم الدروس، فأصبحتم عاجزين عن تصورها فضلاً عن تحقيقها فندمتم حين لا تنفع الندامة.
46- وسئل فضيلته: نرجو من سماحتكم – حفظكم الله تعالي – توجيه نصيحة لمن عمل في مجال التدريس ، عسى الله أن ينفع بها وجزاكم الله خيراً ؟(131/100)
فأجاب فضيلته: بقوله : نقول أهم ما يتعلق بالمعلمين أن يدركوا العلوم التي يعطونها للطلبة إدراكاً جيداً مستقراً في نفوسهم، قبل أن يقفوا أمام الطلبة حتى لا يقع الواحد منهم في حيرة عند سؤال التلاميذ له ومناقشتهم إياه فإن من أعظم المقومات الشخصية لدى الكلبة أن يكون المعلم قوياً في علمه وملاحظته، إن قوة المعلم العلمية في تقويم شخصيته لا تقل عن قوة ملاحظته، إن المعلم إذا لم يكن عنده علم ارتبك عند السؤال فينحط قدره أمام تلاميذه، وإن أجاب بالخطأ فلن يثقوا فيه بعد ذلك، إن انتهرهم عند السؤال والمناقشة فلن ينسجموا معه.(131/101)
إذن فلا بد للمعلم من إعداد واستعداد وتحمل وصبر، المعلم عند توجيه السؤال له إن كان عنده علم راسخ في ذهنه مستقر في نفسه أجاب بكل سهولة وانطلاق وإلا فإنه لا يخلو بعد ذلك من هذه الأمور الثلاثة السابقة وكل 1لك ينافي الآداب التي ينبغي أن يكون المعلم عليها، وإذا كان على المعلم أن يدرك العلم الذي سيلقيه أمام الطلبة فإن عليه أن يحرص على حُسن إلقائه إليهم بأن يسلك أسهل الطرق في إيضاح المعاني وضرب الأمثال ومناقشة الطلبة فيما ألقاه عليهم سابقاً، أما أن يأتي يقرأ الشيء عليهم قراءة ولا يدري من فهم ممن لم يفهم ولا يناقشهم فيما مضى فإن هذه الطريقة عقيمة جداً لا تثمر ثمراً ولا تكون نتيجتها طيبة وإذا كان المعلم يجتهد في الأمور العلمية تحصيلاً وعرضاً فعليه أن يجتهد في الأمور التعبدية، عليه أن يكون حسن النية والتوجيه فينوي بتعليمه الإحسان إلى طلبته وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وليجعل نفسه لهم بمنزلة الأب الرفيق الشفيق ليكون لتعليمه أثرٌُ بالغُ في نفوسهم وعلى المعلم أن يظهر أما طلبته بالمظهر اللائق من الأخلاق الفاضلة والآداب العالية التي أساسها تمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ليكون قدوة لتلاميذه في العلم والعمل فإن التلميذ ربما يتلقى من معلمه من الأخلاق والآداب أكثر مما يتلقى منه من العلم من حيث التأثر لأن أخلاق المعلم وآدابه صورة مشهودة معبرة عما في نفسه ظاهرة في سلوكه فتنعكس هذه الصورة تماماً على إدارة التلاميذ.
إن على المعلم أن يتقي الله تعالى في نفسه، وفيمن ولاه الله عليهم من التلاميذ وأن يحرص غاية الحرص أن يمثل أمامهم بالأخلاق حتى يكو قدوة صالحة (( ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة )) (1) .(131/102)
وإنني أقول للمعلمين: إن عند التلاميذ ملاحظة دقيقة عجيبة على صغر سنهم، إن المعلم إذا أمرهم بشيء ثم رأوه يخالفهم فيما أمرهم به فإنهم سوف يضعون علامات الاستفهام أما وجه هذا المعلم، كيف يعلمنا بشيء ويأمنا به وهو يخالف ما كان يعلمنا ويأمرنا به، لا تستهن يا معلماً بالتلاميذ حتى ولو كانوا صغاراً فعندهم أمر الملاحظة من الأمور العجيبة.
* * *
47- وسئل فضيلة الشيخ: عن طال علم يريد أن يذهب مع إخوانه في الله لطلب العلم وكان الحائل بينه وبين الذهاب معهم هو أهله، والده وأمه، فما الحكم في خروج هذا الطالب ؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الطالب إن كان هناك ضرورة لبقائه عندهم فهذا أفضل مع أنه يمكنه أن يبقي عندهم مع طلب العلم، لأن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله ، والعلم من الجهاد وبالتالي فيكون بر الوالدين مقدماً عليه إذا كانا في حاجة إليه.
أما إذا لم يكونا في حاجة إليه ويتمكن من طلب العلم أكثر إذا خرج فلا حرج عليه أن يخرج في طلب العلم في هذه الحال، ولكنه مع هذا لا ينسى حق الوالدين في الرجوع إليهما وإقناعهما إذا رجع، وأما إذا علم كراهة الوالدين للعلم الشرعي فهؤلاء لا طاعة لهما، ولا ينبغي له أن يستأذن منهما إذا خرج؛ لأن الحامل لهما كراهة العلم الشرعي.
* * *
48ـ سئل فضيلة الشيخ ـ غفر الله له ـ: هل يجوز تعلم العلم من الكتب فقط دون العلماء وخاصة إذا كان يصعب تعلم العلم من العلماء لندرتهم؟ وما رأيك في القول القائل: من كان شيخه الكتاب كان خطؤه أكثر إلى الصواب؟(131/103)
فأجاب قائلاً: لا شك أن اعلم يحصل بطلبه عند العلماء وبطلبه في الكتب؛ لأن كتاب العالم هو العالم نفسه، فهو يحدثك من خلال كتابه، فإذا تعذر الطلب على أهل العلم، فإنه يطلب العلم من الكتب، ولكن تحصيل العلم عن طريق العلماء أقرب من تحصيله عن طريق الكتب؛ لأن الذي يحصل عن طريق الكتب يتعب أكثر ويحتاج إلى جهد كبير جداً، ومع ذلك فإنه قد تخفى عليه بعض الأمور كما في القواعد الشرعية التي قعدها أهل العلم والضوابط، فلابد أ، يكون له مرجع من أهل العلم بقدر الإمكان.
وأما قوله: "من كان دليله كتابه فخطؤه أكثر من صوابه" ، فهذا ليس صحيحاً على إطلاقه ولا فاسداً على إطلاقه، أما الإنسان الذي يأخذ العلم من أي كتاب يراه فلا شك أنه يخطئ كثيراً، وأما الذي يعتمد في تعلمه على كتب رجال معروفين بالثقة والأمانة والعلم فإن هذا لا يكثر خطؤه بل قد يكون مصيباً في أكثر ما يقول.
* * *
49ـ سئل فضيلة الشيخ: هل يجوز تفسير القرآن الكريم بالنظريات العلمية الحديثة؟(131/104)
فأجاب بقوله: تفسير القرآن بالنظريات العلمية له خطورته، وذلك إننا إذا فسرنا القرآن بتلك النظريات ثم جاءت نظريات أخرى بخلافها فمقتضى ذلك أن القرآن صار غير صحيح في نظر أعداء الإسلام؛ أما في نظر المسلمين فإنهم يقولون إن الخطأ من تصور هذا الذي فسر القرآن بذلك، لكن أعداء الإسلام يتربصون به الدوائر، ولهذا أنا أحذر غاية التحذير من التسرع في تفسير القرآن بهذه الأمور العلمية ولندع هذا الأمر للواقع، إذا ثبت في الواقع فلا حاجة إلى أن نقول القرآن قد أثبته، فالقرآن نزل للعبادة والأخلاق، والتدبر، يقول الله ـ عز وجل (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29) وليس لمثل هذه الأمور التي تدرك بالتجارب ويدركها الناس بعلومهم، ثم إنه قد يكون خطراً عظيماً فادحاً في تنزل القرآن عليها، أضرب لهذا مثلاً قوله تعالى:( )يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (الرحمن:33) لما حصل سعود الناس إلى القمر ذهب بعض الناس ليفسر هذه الآية ونزلها على ما حدث وقال: إن المراد بالسلطان العلم، وأنهم بعلمهم نفذوا من أقطار الأرض وتعدوا الجاذبية وهذا خطأ ولا يجوز أن يفسر القرآن به وذلك لأنك إذا فسرت القرآن بمعنى فمقتضى ذلك أنك شهدت بأ، الله أراده وهذه شهادة عظيمة ستسأل عنها.
ومن تدبر الآية وجد أن هذا التفسير باطل لأن الآية سيقت في بيان أحوال الناس وما يؤول إليه أمرهم، اقرأ سورة الرحمن تجد أن هذه الآية ذُكرت بعد قوله تعالى: : ()كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)( الرحمن الايات 26 - 28 )
فلنسأل هل هؤلاء القوم نفذوا من أقطار السموات؟(131/105)
الجواب: لا، والله يقول: (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض) .
ثانياً: هل أرسل عليهم شواظ من نار ونحاس؟
والجواب: لا. إذن فالآية لا يصح أن تفسر بما فسر به هؤلاء، ونقول: إن وصول هؤلاء إلى ما وصولوا إليه هو من العلوم التجريبية التي أدركوها بتجاربهم، أما أن نُحرِّف القرآن لنخضعه للدلالة على هذا فهذا ليس بصحيح ولا يجوز.
* * *
50ـ سئل الشيخ : ذكرتم ـ جزاكم الله خيراً ـ أن الاعتماد على أقوال الرجال خطأ يضر طالب العلم فهل يفهم من هذا عدم التمذهب أو الرجوع إلى مذهب معين فيما يشكل من أحكام ؟
فأجاب فضيلته بقوله : التمذهب بمذهب معين إذا كان المقصود منه أن الإنسان يلتزم بهذا المذهب معرضاً عما سواه سواء كان الصواب في مذهبه أو مذهب غيره فهذا لا يجوز ولا أقول به .
أما إذا كان الإنسان يريد أن ينتسب إلى مذهب معين لينتفع بما فيه من القواعد والضوابط ولكنه يرد ذلك إلى الكتاب والسنة، وإذا تبين له الرجحان في مذهب آخر ذهب إليه فهذا لا بأس به ، والعلماء المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره هم من هذا النوع هم محققون ولهم مذهب معين ولكنهم لا يخالفون الدليل إذا تبين لهم .
* *
51ـ سئل الشيخ: هل حديث " كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله ... إلى آخر الحديث " حديث صحيح لأنه يكثر في مؤلفات العلماء؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الحديث اختلف العلماء في صحته، فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن له أصلاً، فالذي ينبغي للإنسان التسمية على كل الأمور المهمة، أو البداية بحمده الله ـ عز وجل ـ .
* * *
52ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ: أيهما أفضل: مخالطة الناس بعد العشاء لتعليمهم وإرشادهم ونصحهم بحيث لا يمكن قيام الليل أو اعتزالهم حتى يتم قيام الليل؟(131/106)
فأجاب قائلاً : طلب العلم أفضل من قيام الليل؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد:"لا يَعدلُهُ شيء لمن صحته نيته" قالوا: كيف ذلك؟ قال: "ينوي به رفع الجهل عن نفسه وعن غيره"، فإذا كان الإنسان يسهر في أول الليل في طلب العلم ابتغاء لوجه الله سواء كان يدرُسه أو يدرِّسه أو يعلِّمه ثم يقول الليل فهو أفضل لكن إذا تزاحم الأمران فطلب العلم الشرعي أفضل وأولى، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة أن يوتر قبل أن ينام، قال العلماء: وسبب ذلك أن أبا هريرة كان يحفظ أحاديث الرسول أول الليل وينام آخر
الليل، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يوتر قبل أن ينام ([1]) .
* * *
53 ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ ماذا يجب على تجاه أحد الأساتذة عندما يخطئ وخصوصاً في المواد الدينية وأنا متأكد من الجواب الصحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا سؤال مهم حيث نجد أن بعض الأساتذة لا يريد لأحد أن يخطئه مهما ارتكب من الخطأ، وهذا ليس بصحيح، فكل إنسان معرض للخطأ، والإنسان إذا أخطأ ونُبّه فهذا من نعمة الله عليه، حتى لا يغتر الناس بخطئه، ولكن ينبغي للطالب أن يكون عنده شيء من اللباقة، فلا يقوم أمام الطلبة يرد على هذا المدرس، فهذا خلاف الأدب، ولكن يكون ذلك بعد انتهاء الدرس، فإن اقتنع المدرس فعليه أن يعيد ذلك أمام الطلبة في الدرس المقبل وأن لم يقتنع فعلى الطالب أن يقوم أمام الطلبة في الدرس المقبل، ليقول يا أستاذ إنك قلت كذا وكذا وهذا ليس بصحيح.
* * *
54ـ وسئل ـ جزاه الله خيراً ـ: هل يجوز إلقاء التحية على مدرس غير مسلم في الفصل أو خارجه؟(131/107)
فأجاب فضيلته بقوله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام"(1) ، وكان اليهود يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: السام عليكم والسام معناه الموت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول وعليكم (2) فأنت لا تبدأه بالسلام، فإذا سلم وبدأ فردّ عليه وعليكم، إلا أن ابن القيم رحمه الله ـ ذكر في أحكام أهل الذمة أن الكافر إذا علمنا أنه قال السلام عليكم فلنا أن نقول وعليكم السلام.
* * *
55ـ وسُئل فضيلة الشيخ: أمامي مجال لدخول كلية علمية فهل أدخلها لنفع المسلمين أم أسلك المجال في كلية الشريعة؟ أفيدوني جزاكم الله خيراً.
فأجاب بقوله: الذي أرى أن أفضل الكليات في الجامعات هي الكليات الدينية، وأما المواد الأخرى فربما يقوم بها رجل آخر، لا سيما من كانت له رغبة في دراسة العلوم الدينية، ومادام عندك رغبة في دخول كلية الشريعة فإن ذلك من أفضل.
* * *
56ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: ما سبب توقف العالم عن الفتوى؟
فأجاب فضيلته بقوله : توقف العالم عن الفتوى إذا كان أهلاً للفتوى وعنده علم قد يكون لتعارض الأدلة عنده، وقد يكون لظنه أن هذا المستفتي متلاعب؛ لأن بعض المستفتين لا يستفتي للحق إنما يريد التلاعب والنظر فيما عند هذا العالم، والعالم الثاني، والعالم الثالث وهكذا، فيتقوف العالم أو يعرض عن إجابة هذا السائل الذي يعلم أو يغلب على ظنه أنه متلاعب لينظر ماذا عند الناس ، أو يريد أن يضرب أقوال الناس بعضها ببعض، وهذا أشد فيذهب ويقول: قال العالم الفلاني كذا، وقال العالم الفلاني كذا، فهذا من أسباب توقف المفتي.
* * *
57ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: هناك من الناس من يفتي بغير علم، ما حكم ذلك؟(131/108)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل من أخطر الأمور وأعظمها إثماً، وقد قرن الله سبحانه وتعالى ـ القول عليه بلا علم ، بالشرك به ، فقال تعالى: ()قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33)
وهذا يشمل القول على الله في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو شرائعه، فلا يحل لأحد أن يفتي بشيء حتى يعلم أن هذا هو شرع الله ـ عز وجل ـ وحتى تكون عنده أداة وملكة يعرف بها ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ يفتي
والمفتي معبرِّ عن الله ـ عز وجل ـ ومبلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قولاً وهو لا يعلم أو لا يغلب على ظنه ـ بعد النظر والاجتهاد والتأمل في الأدلة ـ فإنه يكون قد قال على وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم، قولاً بلا علم ، فيتأهب للعقوبة، فإن الله ـ عز وجل يقول : ()وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكَافِرِينَ) (العنكبوت:68)
* * *
58ـ سئل الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: هل هناك دعاء لحفظ القرآن؟ وما طريقة حفظه ؟
فأجاب قائلاً : لا أعرف في ذلك دعاء يحفظ به القرآن إلا حديثاً، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم علمه علي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ (1)، وفي صحته نظر ، قال عنه ابن كثير ـ رحمه الله تعالى:ـ إنه من البينّ غرابته بل نكارته .
وقال السيد محمد رشيد رضا ـ في التعليق عليه ـ: بل أسلوبه أسلوب الموضوعات لا أسلوب أفصح البشر محمد صلى الله عليه وسلم ـ رضي الله عنه ـ ولا أسلوب عصرهما .
أ . هـ .(131/109)
وقال الذهبي: هذا الحديث منكر شاذ ، ولكن الطريق إلى حفظه هو: أن يواظب الإنسان على حفظه وللناس في حفظه طريقان:
أحدهما : أن يحفظه آية آية أو آيتين آيتين أو ثلاثاً ثلاثاًَ حسب طول الآيات وقصرها .
الثاني : أن يحفظه صفحة صفحة.
والناس يختلفون منهم من يفضل أن يحفظه صفحة صفحة يرددها حتى يحفظها ، ومنهم من يفضل أن يحفظ الآية ثم يرددها حتى يحفظها ثم يحفظ آية أخرى كذلك وهكذا حتى يتم .
ثم إنه أيضاً ينبغي سواء حفظ بالطريقة الأولى أو الثانية ألا يتجاوز شيئاً حتى يكون قد أتقنه لئلا يبني على غير أساس، وينبغي أن يستعيد ما حفظه كل يوم خصوصاً في الصباح، فإذا عرف أنه قد أجاد ما حفظه أخذ درساً جديداً.
* * *
59ـ سئل الشيخ : أريد أن أتعلم العلم الشرعي وأبدأ في التعلم ولا أعرف كيف أبدأ ، فبماذا تنصحوني في ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: خير ممنهج لطالب العلم أن يبدأ الطالب بفهم كلام الله عز وجل ـ من كتب التفسير الموثوق بها كتفسير ابن كثير والبغوي ، ثم بفهم ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة من الكتب الحديثة الموثوقة كبلوغ المرام والمنتقى وأصول كتب الحديث الملتزمة بالصحيح كصحيحي البخاري ومسلم ثم بكتب العقيدة السليمة مثل العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم بكتب الفقه المختصرة ليتفقه بها على المذهب الذي يراه أقرب إلى الكتاب والسنة ، وحين يترقى في العلم يقرأ الكتب المطولة ليزداد بها علماً .
* * *
60ـ سئل الشيخ حفظه الله تعالى ـ: هل يجوز للمرء أن يترك عمله ويتفرغ لطلب العلم ، فيكون عالة على أبيه وأخيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال بل هو من الجهاد في سبيل الله ، ولا سيما في وقتنا هذا حين(131/110)
بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر ، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم ، وبدأ الجدل من كثير من الناس ، فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم:
أولاً: بدع بدأت تظهر شرورها.
ثانياً: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم .
ثالثاً: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع وعندهم أيضاً فقه في دين الله ، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله؛ لأن كثيراً من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى اصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شرٍّ أكبر لا يعلم مداه إلا الله.
وهاهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أحياناً يُلْزَمون بأشياء قد تكون النصوص دالة على عدم الإلزام بها من أجل تربية الخلق .
عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ ألزم الناس بإمضاء الطلاق الثلاث، كان الطلاق الثلاث في عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، كان الطلاق الثلاثـ أي في مجلس واحد ـ واحداً ، لكن هو محرم أي طلاق المرأة ثلاثاً في مجلس واحد حرام ، لأنه تعدى حدود الله ـ عز وجل ـ .
قال عمر ـ رضي الله عنه ـ: "أرى الناس قد تتايعوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم"(1) ، فأمضاه عليهم ، وجعل الطلاق الثلاث ثلاثاً لا واحداً بعد أن مضى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر وسنتان من خلافته ـ رضي الله عنه ـ ألزم الناس بالطلاق الثلاث ، مع أن الإنسان لو راجع زوجته بعد هذا الطلاق لكان رجوعه صحيحاً في العهدين السابقين لعهد عمر وسنتين من خلافته ، لكن رأى أن المصلحة تقتضي إمضاء الطلاق الثلاث ومنع الإنسان من الرجوع إلى زوجته .(131/111)
أيضاً عقوبة الخمر في عهد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يؤتي بالرجل الشارب فيضرب بطرف الثوب أو بالجريد أو النعال نحواً من أربعين جلدة ، وفي عهد أبي بكر يجلد أربعين، وفي عهد عمري يجلد أربعين، لكنه لما كثير الشرب جمع الصحابة واستشارهم فقال عبد الرحمن بن عوف : أخف الحدود ثمانون، فجعل عمر عقوبة شارب الخمر ثمانين جلدة.(2) كل هذا من أجل إصلاح الخلق ، فينبغي للمسلم أو المفتي والعالم في مثل هذه الأمور أن يراعي أحوال الناس وما يصلحهم .
* * *
61ـ وسئل الشيخ : طالب العلم المبتدئ هل يبدأ في طلب العلم بالبحث عن الأدلة أم يقلد في ذلك أئمة أحد المذاهب ؟ ما توجيه سماحتكم ـ حفظكم الله تعالى ـ ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الطالب المبتدئ في العلم يجب عليه البحث عن الدليل بقدر إمكانه؛ لأنه المطلوب الوصول إلى الدليل، ولأجل أن يحصل له التمرن على طلب الأدلة وكيفية الاستدلال فيكون سائراً إلى الله على بصيرة وبرهان، ولا يجوز له التقليد إلا لضرورة كما لو بحث فلم يستطع الوصول إلى نتيجة أو حدثت له حادثة تتطلب الفورية فلم يتمكن من معرفة الحكم بالدليل قبل فوات الحاجة إليها فله حينئذ أن يقلد بنيه أنه متى تبين له الدليل رجع إليه، وإذا اختلف عليه المفتون، فقيل يخيَّر، وقيل يأخذ بالأيسر لأنه الموافق لقوله تعالى )يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ )(البقرة: من الآية185) . وقيل: يأخذ بالأشد لأنه أحوط وغيره مشتبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم من أتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه" (1). والأرجح أن يأخذ بما يغلب على ظنه أنه أقرب إلى الصواب لكون قائله أعلم وأورع، والله أعلم.
* * *
62ـ وسئل فضيلته: ما هي الكتب التي تنصح بها؟ ونرجو توجيه نصيحة للطلاب جزاكم الله خيراً.(131/112)
فأجاب فضيلته بقوله: من أحسن ما يطالعه الطلاب من الكتب ، كتب التفسير الموثوقة كتفسير ابن كثير، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وكتب الحديث كفتح الباري شرح صحيح البخاري، وسبل السلام بلوغ المرام، ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، ورياض الصالحين.
ننصح أبناءنا الطلبة بالحرص على العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الحسنة، وكسب الوقت فيما فيه خيرهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم ، وأن يمرِّنوا أنفسهم على فعل الجميل والصبر على الأمور التي فيها مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
* * *
63ـ وسئل ـ حفظه الله تعالى ـ: بماذا تنصح من بدأ في طلب العلم على كبر سنه؟ وإن لم يتيسر له شيخ يأخذ منه ويلازمه فهل ينفعه طلب العلم بلا شيخ؟
فأجاب فضيلته بقوله: نسأل الله تعالى أن يعين من أكرمه الله بالاتجاه إلى طلب العلم، ولكن العلم في ذاته صعب يحتاج إلى جهد كبير؛ لأننا نعلم أنه كلما تقدمت السن من الإنسان زاد حجمه وقل فهمه ، فهذا الرجل الذي بدأ الآن في طلب العلم ينبغي له أن يختار عالماً يثق بعلمه ليطلب العلم عليه؛ لأن طلب العلم عن طريق المشائخ أوفر وأقرب وأيسر، فهو أوفر لأن الشيخ عبارة عن موسوعة علمية، لا سيما الذي عنده علم نافع في النحو والتفسير والحديث والفقه وغيره.
فبدلاً من أن يحتاج إلى قراءة عشرين كتاباً يتيسر تحصيله من الشيخ ، وهو لذلك يكون أقصر زمناً، وهو أقرب للسلامة كذلك، لأنه ربما يعتمد على كتاب ويكون نهج مؤلفه مخالفاً لنهج السلف سواء في الاستدلال أو في الأحكام .
فننصح هذا الرجل الذي يريد طلب العلم على الكبر أن يلزم شيخاً موثوقاً، ويأخذ منه؛ لأن ذلك أوفر له، ولا ييأس، ولا يقول بلغت من الكبر عتيًّا؛ لأنه بذلك يَحرمُ نفسه من العلم.(131/113)
وقد ذُكر أن بعض أهل العلم دخل المسجد يوماً بعد صلاة الظهر فجلس، فقال لله أحد الناس: قم فصل ركعتين، فقام فصلى ركعتين ، وذات يوم دخل المسجد بعد صلاة العصر فكبر ليصلي ركعتين فقال له الرجل: لا تصلِّ فهذا وقت نهي، فقال : لا بد أن أطلب العلم، وبدأ في طلب العلم حتى صار إماماً ، فكان هذا الجهل سبباً لعلمه ، وإذا علم الله منك حسن النية ومنَّ عليك بالتوفيق فقد تجمع من العلم الشيء الكثير .
* * *
64ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما هي نصيحتك لمن ينسى ما يقرأ ويتعلم ؟
فأجاب بقوله : أهم شيء في حفظ العلم أن يعمل الإنسان بحفظه ، لقوله الله تعالى (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) (محمد:17)
وقال )وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً )(مريم: من الآية76) . فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظاً وفهماً ، لعموم قوله( زادهم هدى)
وقد روي عن الشافعي ـ رحمه الله ـ قوله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال أعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
ومن أسباب ذلك الإعراض عن الشواغل التي تأخذ بالفكر عن العلم؛ لأن الإنسان بشر إذا تشتت همته ضعفت قدرته على تحصيل العلم .
وكذلك كثرة البحث مع الزملاء بغرض الوصول للحق وليس للغلبة ولا شك الإخلاص من جملة ما يحفظ به العلم.
* * *
65ـ سئل فضيلة الشيخ: انتشرت الفتوى حتى صار الصغير يفتي، فما تعليقكم ـ غفر الله لكم ـ ؟(131/114)
فأجاب قائلاً : كان السلف ـ رحمهم الله ـ يتدافعون الفتوى لعظم أمرها ومسئوليتها وخوفاً من القول على الله بلا علم؛ لأن المفتي مخبر عن الله مبين لشرعه، فإن قال على الله بلا علم؛ لأ، المفتي مخبر عن الله مبين لشرعه، فإن قال على الله بلا علم فقد وقع فيما هو صنو للشرك، واستمع إلى قول الله تعالى )قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33) فقرن الله ـ سبحانه ـ القول عليه بلا علم بالشرك، وقال سبحانه)وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الاسراء:36) . فلا ينبغي أن يتسرع الإنسان في الفتوى ، بل ينتظر ويتدبر ويراجع ، فإن ضاق الوقت فيحول المسألة إلى من هو أعلم منه ليسلم من القول على الله بلا علم .
وإذا علم الله من نيته الإخلاص وإرادة الصلاح فسوف يصل إلى المرتبة التي يريدها بفتواه ، فمن اتقى الله فسيوفقه الله ويرفعه .
والذي يفتي بلا علم أضل من الجاهل ، فالجاهل يقول : لا أدري ويعرف قدر نفسه ، ويلتزم الصدق ، أما الذي يقارن نفسه بأعلام العلماء بل ربما فضل نفسه عليهم فيَضل ويُضل ويخطئ في مسائل يعرفها أصغر طالب علم فهذا شره عظيم وخطره كبير .
* * *
66ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجوز لطالب العلم أن يرجح بعض الآراء الفقهية على بعض ثم يلزم بها غيره؟
وهل له أن يأخذ بالرأي المرجوح في بعض الأحوال وهو يعلم الراجح؟(131/115)
فأجاب بقوله : إذا لم يتبين الحكم بياناً تامًّا لطالب العلم ويظل عنده شك منه، فله أن يلزم نفسه به احتياطاً، ولا يلزم غيره بذلك، لأنه ليس عنده دليل بين يكون حجة له أمام الله عز وجل ـ حين يحرِّم أو يوجب على عباد الله ما لم يثبت شرعاً ـ وكثيراً ما يتردد المجتهد في بعض الأشياء فيحب أن يطبقها على نفسه ويحتمل ما يكون فيها من المشقة، ولكنه يخشى من إلزام عباد الله بها .
ولذلك نقول : لا مانع أن يسلك الإنسان هذا المسلك، ولكنه لا يترك إعادة النظر مرة بعد أخرى حتى يتبين الأمر ويلزم الناس بمقتضى الدليل ولا يكون مقصراً في طلب الدليل فيكون مقصراً في بيان الشرع.
ولا يجوز له العمل بالمرجوح، بل يتعين عليه أن يعمل بالراجح إذا تبين له أنه راجح.
* * *
67ـ سئل فضيلة الشيخ: يلاحظ التقصير في العمل بالعلم، فما نصيحة فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على من علم شيئاً صحيحاً من الشريعة أن يبلغه للناس لأن العمل بما علم الإنسان يستوجب حفظه بالعمل ويزيده الله تعالى بالقرآن نوراً فيكتسب من حفظ العلم بطريقة العمل به أن الله ـ عز وجل نوراً زائداً على ما عنده قال الله تعالى )وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (التوبة:124 ()وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ) (التوبة:125) . ولهذا قيل : العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل .(131/116)
السلف الصالح في طلب العلم إذا علموا مسألة عملوا بها وكثير منهم لا يخفى عليه ما يقع من سرعة الامتثال والمبادرة للصحابة فيما عملوا حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم حث النساء على الصدقة في يوم العيد فجعل النساء يلقين ما على آذانهن من الحلي يلقينه في ثوب بلال رضي الله عنه ـ ولم يقلن إذا وصلنا إلى البيت تصدقنا ولن بادرن بذلك .
وكذلك الرجل الذي طرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه الذي كان من ذهب وألقاه في الأرض ما رجع إليه بعد أن علم التحريم حتى قيل له خذ خاتمك لتنتفع به فقال : والله لا آخذ خاتماً طرحه النبي صلى الله عليه وسلم بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال اخرجوا إلى بني قريظة : " لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة"(1). فخرجوا بعد أن كانوا مرهقين حتى إن الصلاة أدركتهم في الطريق فمنهم من صلى خوفاً من فوات الوقت ومنهم من أخر لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة" .
فأنظر يا أخي طالب العلم إلى سرعة امتثال الصحابة لما علموا من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم فهل إذا طبقنا هذا الأمر على ما هو الواقع الآن فهل نحن على هذا الأمر في هذا الوقت؟ أعتقد أن هذا يفوت كثيراً وما أكثر ما علمنا أن الصلاة ركن من أركان الإسلام يكفر المرء بتركها وما أكثر ما علمنا أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان ولابد منه، وما أكثر ما علمنا أشياء كثيرة هي من المحظورات ومع ذلك نجد في طلبة العلم من ينتهك هذا المحظور، وكذلك من يترك هذا الواجب ولا يبالي به فهذا فرق عظيم بين طلب العلم في الماضي وطلبه في الحاضر.
* * *
68ـ وسئل فضيلة الشيخ: ما هي الطريقة الصحيحة في طلب العلم؟ هل يكون بحفظ المتون في علوم الشريعة أم فهمها؟ نرجو التوضيح حفظكم الله تعالى .(131/117)
فأجاب فضيلته بقوله: على طالب العلم أن يبدأ العلم شيئاً فشيئاً ، فعليك أن تبدأ في الأصول والقواعد والضوابط وما أشبه ذلك من المختصرات مع المتون؛ لأن المختصرات سُلّم إلى المطولات، لكن لابد من معرفة الأصول والقواعد ومن لم يعرف الأصول حُرم الوصول.
وكثير من طلبة العلم تجده يحفظ مسائل كثيرة لكن ما عنده أصل لو تأتيه مسألة واحدة شاذة عما كان يحفظه ما استطاع أن يعرف لها حلًّا ، لكن إذا عرف الضوابط والأصول استطاع أن حيكم على كل مسألة جزئية من مسائلة، ولهذا فأنا أحث إخواني على معرفة الأصول والضوابط والقواعد لما فيها من الفائدة العظيمة وهذا شيء جربناه وشاهدناه مع غيرنا على أن الأصول هي المهم، ومنها حفظ المختصرات ، وقد أراد بعض الناس أن يمكروا بنا قالوا لنا: إن الحفظ لا فائدة فيه، وإن المعنى هو الأصل، ولكن الحمد لله أنه أنقذنا من هذه الفكرة وحفظنا ما شاء الله أن نحفظ من متون النحو وأصول الفقه والتوحيد.
وعلى هذا فلا يُستهان بالحفظ ؛ فالحفظ هو الأصل، ولعل أحداً منكم الآن يذكر عبارات قرأها من قبل مدة طويلة، فالحفظ مهم لطالب العلم حتى وإن كان فيه من الصعوبة، ونسأل الله سبحانه وتعالى ـ أن تكونوا ممن اهتدوا بطريقة سلفنا الصالح وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم .
* * *
69ـ سئل فضيلة الشيخ : ما رأيكم بمن يترك الدعوة بحجة التفرغ لطلب العلم، وأنه لا يتمكن من الجمع بين الدعوة والعلم في بداية الطريق؛ لأنه يغلب على ظنه ترك العلم إذا اشتغل بالدعوة، ويرى أن يطلب العلم حتى إذا أخذ منه نصيباً اتجه لدعوة الناس وتعليمهم وإرشادهم؟(131/118)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الدعوة إلى الله تعالى مرتبة عالية ومقام عظيم؛ لأنه مقام الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وقد قال الله تعالى )وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (فصلت:33) وأمر الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقول )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يوسف:108) ومن المعلوم أن ه لا يمكن الدعوة بغير علم كما في قوله هنا (على بصيرة) وكيف يدعو الشخص إلى شيء لا يعلمه؟ ومن دعا إلى الله تعالى بغير علم كان قائلاً على الله ما لا يعلم، فالعلم هو المرتبة الأولى للدعوة.
ويمكن الجمع بين العلم والدعوة في بداية الطريق ونهايته، فإن تعذر الجمع كان البدءُ بالعلم؛ لأنه الأصل الذي ترتكز عليه الدعوة، قال البخاري ـ رحمه الله ـ في صحيحه في الباب العاشر من كتاب العلم : باب العلم قبل القول والعمل واستدل بقوله تعالى )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) (محمد:19) قال فبدأ العلم.
ومن ظن أنه لا يمكن الجمع بين العلم والدعوة فقد أخطأ، فإن الإنسان يمكنه أن يتعلم ويدعو أهله وجيرانه وأهل حارته وأهل بلدته وهو في طلب العلم .
والناس اليوم في حاجة بل في ضرورة إلى طلب العلم الراسخ المتمكن في النفوس المبني على الأصول الشرعية، وأما العلم السطحي الذي يعرف الإنسان به شيئاً من المسائل التي يتلقاها كما يتلقاها العامة دون معرفة لأصولها وما بنيت عليه فإنه علم قاصر جدًّا لا يتمكن الإنسان به من الدفاع عن الحق وقت الضرورة وجدال المبطلين.(131/119)
فالذي أنصح به شباب المسلمين أن يكرسوا جهودهم لطلب العلم مع القيام بالدعوة إلى الله بقدر استطاعتهم وعلى وجه لا يصدهم عن طلب العلم ؛ لأن طلب العلم جهاد في سبيل الله تعالى، ولهذا قال أهل العلم: إذا تفرغ شخص قادر على التكسب من أجل طلب العلم فإنه يعطي من الزكاة؛ لأن ذلك من الجهاد في سبيل الله بخلاف ما إذا تفرغ للعبادة، فإنه لا يعطي من الزكاة، لأنه قادر على التكسب.
* * *
70ـ سئل الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ: ما رأي فضيلتكم في تعلم التجويد والالتزام به؟
وهل صحيح ما يذكر عن فضيلتكم ـ حفظكم الله تعالى ـ من الوقوف بالتاء في نحو(الصلاة، الزكاة)؟
فأجاب قائلاً: لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد التي فصلت بكتب التجويد، وإنما أرى أنها من باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير الإلزام، وقد ثبت في صحيح البخاري (1) عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنهما ـ أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: كانت مدًّا، ثم قرأ"بسم الله الرحمن الرحيم"يمدّ ببسم الله، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم.
والمد هنا طبيعي لا يحتاج إلى تعمده والنص عليه هنا يدل على أنه فوق الطبيعي .
ولو قيل بأن العلم بأحكام التجويد المفصلة في كتب التجويد واجب للزم تأثيم أكثر المسلمين اليوم، ولقلنا لمن أراد التحدث باللغة الفصحى: طبق أحكام التجويد في نطقك بالحديث وكتب أهل العلم وتعليمك ومواعظك.
وليعلم أن القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تبرأ به الذمة أمام الله ـ عز وجل ـ في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به من كتاب عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ في جواب له أن التجويد حسب القواعد المفصلة في كتب التجويد غير واجب.(131/120)
وقد اطلعت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه اله ـ حول حكم التجويد قال فيه ص50 مجلد 16 من مجموع ابن قاسم ـ رحمه الله ـ للفتاوى : "ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك ، فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق ب(أأنذرتهم) وضم الميم من (عليهم) ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت" . ا.هـ .
وأما ما سمعتم من أني أقف بالتاء في نحو " الصلاة، الزكاة"
فغير صحيح بل أقف في هذا وأمثالها على الهاء.
* * *
71ـ سئل فضيلة الشيخ: بعض الناس يكتبون حرف(ص) بين قوسين ويقصدون به رمز لجملة صلى الله عليه وسلم فهل يصح استعمال حرف (ص) رمزاً لكلمة (صلى الله عليه وسلم )؟
فأجاب فضيلته بقوله: من آداب كتابة الحديث كما نص عليه علماء المصطلح ألا يرمز إلى هذه الجملة بحرف(ص)، وكذلك لا يعبر عنها بالنعت مثل(صلعم)، ولا ريب أن الرمز أو النعت يفوت الإنسان أجر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا كتبها ثم قرأ الكتاب من بعده وتلا القارئ هذه الجملة صار للكاتب الأول نيل ثواب من قرأها، ولا يخفى علينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه : "أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة صلى الله عليه بها عشراً" (1).
فلا ينبغي للمؤمن أن يحرم نفسه الثواب والأجر لمجرد أن يسرع في إنهاء ما كتبه.
* * *
72ـ سئل فضيلة الشيخ: عندما يطرح سؤال شرعي يتسابق عامة الناس إذا كانوا في مجلس مثلاً بالفتيا في تلك المسألة وبغير علم غالباً، فما تعليقكم على هذه الظاهرة؟
وهل يعتبر هنا الأمر من التقديم بين يدي الله ورسوله؟(131/121)
فأجاب بقوله: من المعلوم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في دين الله بغير علم؛لأن الله تعالى يقول: ()قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (لأعراف:33)
والواجب على الإنسان أن يكون ورعاً خائفاً من أن يقول على الله بغير علم، وليس هذا من الأمور الدنيوية التي للعقل فيها مجال، على أنها وإن كانت من الأمور الدنيوية التي للعقل فيها مجال، فإن الإنسان ينبغي له أن يتأنى وأن يتروى، وربما يكون الجواب الذي في نفسه يجيب به غيره فيكون هو كالحكم بين المجيبين وتكون كلمته هي الأخيرة الفاصلة، وما أكثر ما يتكلم الناس بآرائهم ، أعني غير المسائل الشرعية، فإذا تأنى الإنسان وتأخر ظهر له من الصواب من أجل تعدد الآراء ما لم يكن على باله.
ولهذا فإني أنصح كل إنسان أن يتأنى وأن يكون هو الأخير في التكلم ليكون كالحاكم بين هذه الآراء، ومن أجل أن تظهر له في الآراء المختلفة ما لم يظهر له قبل سماعها، هذا بالنسبة للأمور الدنيوية، أما الأمور الدينية فلا يجوز أبداً أن يتكلم الإنسان إلا بعلم يعلمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو أقوال أهل العلم.
* * *
73ـ وسئل ـ أعلى الله درجته ـ: عن كتاب بدائع الزهور؟
فأجاب قائلاً: هذا الكتاب رأيت فيه أشياء كثيرة غير صحيحة، ولا أرى أن يقتنيه الإنسان ولا أن يجعله بين أيدي أهله لما فيه يمن الأشياء المنكرة.
* * *
74ـ وسئل أيضاً: عن كتاب تنبيه الغافلين؟(131/122)
فأجاب فضيلته بقوله: تنبيه الغافلين كتاب وعظ وغالب كتب المواعظ يكون فيها الضعيف، وربما الموضوع ويكون فيها حكايات غير صحيحة، يريد المؤلفون بها أن يرققوا القلوب وأن يبكوا العيون، ولكن هذا ليس بطريق سديد؛ لأن فيما جاء في كتاب الله وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواعظ كفاية.
ولا ينبغي أن يوعظ الناس بأشياء غير صحيحة سواء نُسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو نُسبت إلى قوم صالحين قد يكونوا أخطأوا فيما ذهبوا إليه من الأقوال والأعمال، والكتاب فيه أشياء لا بأس بها ومع ذلك فإنني لا أنصح أن يقرأه إلا الشخص الذي عنده علم وفهم وتمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع .
* * *
75ـ وسئل فضيلته: ما هي مكانة وفضل أهل العلم في الإسلام؟
فأجاب فضيلته بقوله: مكانة أهل العلم أعظم مكانة؛ لأنهم ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهذا يجب عليهم من بيان العلم والدعوة إلى الله ما لا يجب على غيرهم، وهم في الأرض كالنجوم في السماء يهدون الخلق الضالين التائهين، ويبينون لهم الحق ويحذرونهم من الشر ولذلك كانوا في الأرض كالغيث يصيب الأرض القاحلة فتنبت بإذن الله .
ويجب على أهل العلم من العمل والأخلاق والآداب ما لا يجب على غيرهم؛ لأنهم أسوة وقدوة فكانوا أحق الناس وأولى الناس بالتزام الشرع في آدابه وأخلاقه .
* * *
76ـ سئل فضيلة الشيخ: بعض الناس يعتقد أن دور علماء المسلمين مقصور على الأحكام الشرعية وأنه لا دخل لهم في العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد ونحوهما، فما رأيكم في هذا الاعتقاد؟
فأجاب فضيلته بقوله: رأينا في هذا الاعتقاد أنه مبني على الجهل في حال العلماء، ولا ريب أن العلماء علماء الشريعة عندهم علم في الاقتصاد وفي السياسة، وفي كل ما يحتاجون إليه في العلوم الشرعية، وإذا شئت أن تعرف ما قلته فانظر إلى محمد رشيد رضا ـ رحمه الله صاحب مجلة المنار في تفسيره وفي غيرها من كتبه .(131/123)
وانظر أيضاً إلى من قبله من أهل العلم بالشرع من يكون مقدماً للأهم على المهم، فتجده في العلم الشرعي بلغ إلى نصيب كبير وفي العلوم الأخرى يكون أقل من ذلك بناء على قاعدة أن تبدأ بالأهم قبل المهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين"(1).
* * *
77ـ سئل فضيلة الشيخ: متى يكون الخلاف في الدين معتبراً؟
وهل يكون الخلاف في كل مسألة أم له مواضع معينة؟
نرجو بيان ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: أولاً اعلم أن خلاف علماء الأمة الإسلامية إذا كان صادراً عن اجتهاد فإنه لا يضر من لم يوفق للصواب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد"(1) . ولكن من تبين له الحق وجب عليه اتباعه بكل حال، والاختلاف الذي يقع بين علماء الأمة الإسلامية لا يجوز أن يكون سباً لاختلاف القلوب؛ لأن اختلاف القلوب يحصل فيه مفاسد عظيمة كبيرة كما قال تعالى)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46)
والخلاف المعتبر بين العلماء والذي ينقل ويذكر هو الخلاف الذي له حظ من النظر، أما خلاف العامة الذين لا يفهمون ولا يفقهون فلا عبرة به ولهذا يجب على العامي أن يرجع إلى أهل العلم كما قال الله تعالى:(فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) النحل ، الآية: 43
وأما قول السائل: هل يكون الخلاف في كل مسألة؟
فالجواب أن الخلاف قد يكون في بعض المسائل التي يختلف فيها الاجتهاد أو يكون بعض الناس أعلم من بعض في الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، أما المسائل الأصلية فإنها يقل فيها الخلاف.
* * *
78ـ وسئل فضيلة الشيخ: ما حكم الاجتهاد في الإسلام؟
فأجاب قائلاً: الاجتهاد في الإسلام هو: بذل الجهد لإدراك حكم شرعي من أدلته الشرعية.(131/124)
وهو واجب على من كان قادراً عليه؛لأن الله ـ عز وجل ـ يقول: ) فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(النحل: من الآية43). والقادر على الاجتهاد يمكنه معرفة الحق بنفسه ولكن لابد أن يكون ذا سعة في العم واطلاع على النصوص الشرعية وعلى الأصول المرعية، وعلى أقوال أهل العلم لئلا يقع فيما يخالف ذلك، فإن من طلبة العلم من لم يدركوا من العلوم إلا الشيء اليسير، ثم ينصب نفسه مجتهداً فتجده يعمل بأحاديث عامة، لها ما يخصها أو يعمل بأحاديث منسوخة لا يعلم ناسخها أو يعمل بأحاديث أجمع العلماء على أنها على خلاف ظاهرها ولا يدري عن إجماع العلماء ومثل هذا على خطر عظيم.
فالمجتهد لابد أن يكون عنده علم بالأدلة الشرعية وعنده علم بالأصول التي إذا عرفها استطاع أن يستنبط الأحكام من أدلتها وعلم بما عليه العلماء لئلا يخالف الإجماع وهو لا يدري فإذا كانت هذه الشروط في حقه موجودة متوافرة فإنه يجتهد ويمكن أن يتجزأ الاجتهاد بأن يجتهد الإنسان في مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها ويكون مجتهداً فيها أو في باب من أبواب العلم كأبواب الطهارة مثلاً يبحثه ويحققه ويكون مجتهداً فيه .
* * *
79ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجب التقليد لمذهب معين أم لا ؟
فأجاب قائلاً: نعم، يجب التقليد لمذهب معين وجوباً لازماً؛ لكن هذا المذهب المعين الذي يجب تقليده مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الذي ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع، وهو الذي به سعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى)قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (آل عمران:31)(131/125)
وقال تعالى )وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (آل عمران:132) فهذا هو المذهب الواجب الاتباع بإجماع أهل العلم وأما غير هذا المذهب فإن اتباعه ضائع إذا لم يتبين الدليل من خلافه فإن تبين الدليل بخلافه فاتباعه محرم .
حتى قال شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ من قال : إن أحداً من الناس يجب طاعته في كل ما قال ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن في ذلك طاعة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق ـ رحمه الله ـ لا أحد من الناس يجب أن يؤخذ بقوله مطلقاً إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجب الأخذ بقوله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم :"اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر"(1). وقال :"إن يطيعوا أبابكر وعمر يرشدوا"(2).
* * *
80ـ سئل فضيلة الشيخ : من الملاحظ في الصحوة الإسلامية الاتجاه إلى العلم ولله الحمد والمنة، وخصوصاً علم السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم ومن الملاحظات:
أ ـ العرض للصحيحين (البخاري ومسلم) نقداً، تضعيفاً وتصحيحاً من قبل بعض طلبة العلم الذين لم ترسخ أقدامهم في هذا العلم، علماً بأن هذين الكتابين من أصول السنة والجماعة وقد تلقتهما الأمة بالقبول.
ب ـ رواج مذهب الظاهرية عند غالبية الشباب والإعراض عن كتب فقهاء الأمة .
جـ ـ انشغال بعض طلبة هذا العلم الشريف به عن العلوم الضرورية لطلبة العلم الشرعي مثل القرآن الكريم، واللغة العربية ، والفقه ، والفرائض ... إلخ .
د ـ شيوع ظاهرة التعالم والتصدر للتدريس والفتيا من قبل بعض طلبة العلم الذين لا يعرف لهم شيوخ ولا قدم ثابتة في العلم وإنما هي القراءة ومطالعة الكتب .
فما توجيهكم حفظكم الله ورعاكم؟
فأجاب حفظه الله ورعاه قائلاً:(131/126)
الجواب على الملاحظة الأولى: لا شك أن هذه الصحوة صاحَبَها ولله الحمد حب اتباع السنة والحرص عليها، ولكن كما ذكرت صار ينتهج هذا المنهج قوم لم يبلغوا ما بلغ أهل العلم من قبلهم في التحري والدقة، وربط الشريعة بعضها بعض، وتقييد مطلقها وتخصيص عامها والرجوع إلى القواعد العامة المعروفة بالشريعة، فصاروا يلتقطون من كل وجه حتى في الأحاديث الضعيفة التي لا يعمل بها عند أهل العلم لشذوذها ومخالفتها لما في الكتب المعتمدة بين الأمة.
تجدهم يتلقفونها ويحتدون فيها وفي العلم بها وفي الإنكار على من خلافها، وكذلك أيضاً تجدهم قد بلغ ببعضهم العجب إلى أن صاروا يعترضون على الصحيحين أو أحدهما من الناحية الحديثية، ويعترضون على الأئمة من الناحية الفقهية، الأئمة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم وحسن نيتهم وعلمهم، فتجد هؤلاء الذين لم يبلغوا ما بلغه من سبقهم يتعرضون لهؤلاء الأئمة ويحطون من قدرهم وهذه وصمة عظيمة لهذه الصحوة، والواجب على الإنسان أن يتريث، وأن يتعقل وأن يعرف لذوي الحق حقهم ولذوي الفضل فضلهم، وإنما يعرف الفضل من الناس أهله، نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق.
وأما الجواب على الملاحظة الثانية فنقول: هذا أيضاً من البلاء، ولعل في جوابي السابق ما يدل عليه؛ لأن مذهب الظاهرية كما هو معروف مذهب يأخذ بالظاهر ولا يرجع إلى القواعد العامة النافعة، ولو إننا ذهبنا نتتبع من أقوالهم ما يتبين به فساد منهجهم أو بعض منهجهم لوجدنا الكثير، ولكننا لا نحب أن نتتبع عورة الناس .(131/127)
والجواب على الملاحظة الثالثة : فلا شك أن الأولى بطالب العلم أن يبدأ أولاً بكتاب الله ـ عز وجل ـ فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا لا يتعلمون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل ، ثم بالسنة النبوية، ولا يقتصرون على معرفة الأسانيد والرجال والعلل إنما يحرصون على مسألة فقه هذه السنة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول:"رب مُبلغ أوعى من سامع" (1)ويقول :" رُبَّ حامل فقهٍ ليس بفقيه"(2). والناس الآن في ضرورة إلى معرفة الأسانيد وصحتها وفي ضرورة أيضاً إلى الفقه في هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها على القواعد والأصول الشرعية حتى لا يضل الإنسان ويضل غيره .
الجواب على الملاحظة الرابعة : يجب أن يعلم الإنسان المفتي، أنه سفير بين الله وبين خلقه، ووارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلابد أن يكون عنده علم راسخ يستطيع به أن يفتي عباد الله، ولا يجوز للإنسان أن يتصدر للفتوى والتدريس وليس معه علم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر"أن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جُهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلَّوا وأضلُّوا"(1) والحمد لله، الإنسان الذي يريد الخير ولكنه يأتي حتى يدركه وينشره فإنه إن فسح له الأجل حتى أدرك ما أراد فهذا هو مطلوبه، وإن لم يفسح له في الأجل وقضى الله عليه الموت، فإنه كالذي يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله .
وكم من إنسان تعجل في التدريس والفتيا فندم؛ لأنه تبين له أن ما كان يقرره في تدريسه أو يفتي به في فتواه كان خطأ، والكلمة إذا خرجت من فم صاحبها ملكته، وإذا كانت عنده ملكها.(131/128)
فليحذر الأخوة الذين هم في ريعان طلب العلم من التعجل وليتأنوا حتى تكون فتواهم مبينة على أسس سليمة، وليس العلم كالمال يتطلب الإنسان فيه الزبائن ليدرك من يبيع بل يدرك من يشتري منه، بل العلم إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيجب على الإنسان أن يكون مستشعراً حين الفتوى شيئين:
الأول: أنه يقول عن الله ـ عز وجل ـ وعن شريعة الله .
الثاني: أنه يقول عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم لأن العلماء ورثة الأنبياء.
* * *
81ـ وسئل ـ غفر الله له ـ عن أقسام الناس في طلب علم الكتاب والسنة الصحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: انقسم الناس في طلب علم الكتاب والسنة إلى أربعة أقسام:
القسم الأولى من تجده معرضاً عن الكتاب والسنة، مكبًّا على الكتب الفقهية المذهبية يعمل بما فيها مطلقاً، ولا يرجع إلا إلى ما قاله فلان وفلان من أصحاب الكتب المذهبية.
القسم الثاني: من أكب على علوم القرآن، مثل علم التجويد أو ما يتصل بمعناه أو إعرابه وبلاغته، وأما بالنسبة للسنة وعلم الحديث فهو قليل البضاعة فيها وهذا قصور كبين بلا شك.
القسم الثالث: من تجده مكبًّا على علم الحديث وعلم تحقيق الأسانيد وما فيها من علل وما يتعلق بالحديث من حيث القبول أو الرد؛ ولكنه في علوم القرآن ضعيف جدًّا، فلو سألته عن تفسير أوضح آية في كتاب الله فلا يعرف تفسيرها، وكذلك في علم التوحيد وال عقيدة ولو سُئِلَ لم يعرف، وهذا قصور كبير بلا شك .(131/129)
القسم الرابع: من كان حريصاً على الجمع بين الكتاب والسنة الصحيحة، وما كان عليه سلف الأمة مما يتعلق بعلم الكتاب والسنة، ومع ذلك ليس معرضاً عما قاله أهل العلم في كتبهم بل هو يقيم له وزناً ويستعين به على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العلماء ـ رحمهم الله ـ وضعوا قواعد وضوابط وأصولاً ينتفع بها طالب العلم، حتى المفسر في تفسير القرآن وحتى طالب السنة في معرفة السنة أو في شرح معانيها فيكون مركزاً على الكتاب والسنة ومستعيناً بما قاله أهل العلم في كتبهم وهذا هو خير الأقسام .
ولننظر هل نحن طبقنا سير العلم على هذه الطريقة الأخيرة أو أننا من القسم الأول أو الثاني أو الثالث .
فإذا كان غير القسم الأخير فإنه يجب أن نصحح طريقنا؛ لأن الله يقول في كتابه:(يا أيها الذين أمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) . النساء ، الآية: 59 . وأولى الأمر يشمل العلماء ويشمل الأمراء :(فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ... الآية). النساء ، الآية : 59. ونحن دائماً لا سيما إذا رجعنا إلى المأخوذ عن الصحابة والتابعين نجدهم دائماً يتحاكمون إلى كتاب الله وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ومع ذلك فإني لا أقول إنه يجب أن تهدر أقوال العلماء، بل أقوال العلماء لها قيمتها ووزنها واعتبارها ويستعان بها على فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
* * *
82ـ سئل ـ غفر الله له ـ: ما قول فضيلتكم في بعض الطلاب الذين يدرسون من أجل الوظيفة والراتب، وكذلك ما يفعله البعض من استئجار من يكتب لهم البحوث، أو يعد لهم الرسائل، أو يحقق بعض الكتب فيحصلون به على شهادات علمية؟(131/130)
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على طلبة العلم إخلاص النية لله ـ عز وجل ـ وأن يعتقد أنه ما قرأ حرفاً ولا كلمة، ولا أتم صفحة في العلم الشرعي إلا وهو يقربه إلى الله ـ عز وجل ـ ولكن كيف يمكن أن ينوي التقرب إلى الله بطلب العلم؟
الجواب: يمكن ذلك، لأن الله أمر به، والله إذا أمر بشيء ففعله الإنسان امتثالاً لأمر الله، فتلك عبادة الله؛ لأن عبادة الله هي امتثال أمره، واجتناب نهيه، وطلب مرضاته، واتقاء عقوبته.
ومن إخلاص النية في طلب العلم أن ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره من الأمة، وعلامة ذلك أن الرجل تجده بعد طلب العلم متأثراً بما طلب، متغيراً في سلوكه ومنهاجه، وتجده حريصاً على نفع غيره، وهذا يدل على أن نيته في طلب العلم رفع الجهل عنه وعن غيره فيكون قدوة، صالحاً مصلحاً، وهذا ما كان عليه السلف الصالح، أما ما عليه الخلف اليوم فيختلف كثيراً عن ذلك، فتجد الأعداد الكبيرة من الطلاب في الجامعات والمعاهد، منهم من نيته لا تنفعه في الدنيا والآخرة، بل تضره، فهو ينوي أن يصل إلى الشهادة لكي يتوصل بها إلى الدنيا فقط، وقد جاء التحذير من الرسول صلى الله عليه وسلم فقال:"من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله عز وجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا، لم يجد عرف الجنة يوم القيامة" أي ريحها ـ .
وهذا خطر عظيم، فعلم شرعي تجعله وسيلة إلى عرض الدنيا، هذا قلب للحقائق، والطالب إذا أخلص النية جاءته الدنيا تبعاً ولن يفوته شيء وسيخرج هو ومن يريد الشهادة للدنيا على حد سواء، بل المخلص أكثر تحصيلاً للعلم وأبلغ رسوخاً فيه.(131/131)
وإن مما يؤسف له ـ كما ذكر السائل ـ أن بعض الطلاب يستأجرون من يعد لهم بحوثاً أو رسائل يحصلون على شهادات علمية، أو من يحقق بعض الكتب فيقول لشخص حضر لي تراجم هؤلاء وراجع البحث الفلاني، ثم يقدمه رسالة ينال بها درجة يستوجب بها أن يكون في عداد المعلمين أو ما أشبه ذلك، فهذا في الحقيقة مخالف لمقصود الجامعة ومخالف للواقع، وأرى أنه نوع من الخيانة؛ لأنه لابد أن يكون المقصود من ذلك الشهادة فقط فإنه لو سئل بعد أيام عن الموضوع الذي حصل على الشهادة فيه لم يجب.
لهذا أحذر إخواني الذين يحققون الكتب أو الذين يحضّرون رسائل على هذا النحو من العاقبة الوخيمة، وأقول إنه لا بأس من الاستعانة بالغير ولكن ليس على وجه أن تكون الرسالة كلها من صنع غيره، وفق الله الجميع للعلم النافع والعمل الصالح ، إنه سميع مجيب .
* * *
83ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ: هل العلوم كالطب والهندسة من التفقه في دين الله؟(131/132)
فأجاب فضيلته بقوله: ليست هذه العلوم من التفقه في دين الله؛ لأن الإنسان لا يدرس فيها الكتاب ولا السنة، لكنها من الأمور التي يحتاجها المسلمون، ولهذا قال بعض أهل العلم: عن تعلم الصناعات والطب والهندسة والجيولوجيا وما أشبه ذلك من فروض الكفايات، لا لأنها من العلوم الشرعية، ولكنها لأنها لا تتم مصالح الأمة إلا بها، ولهذا أنبه الإخوان الذين يدرسون مثل هذه العلوم أن يكون قصدهم بتعلم هذه العلوم نفع إخوانهم المسلمين ورفع أمتهم الإسلامية. الأمة الإسلامية الآن ملايين لو أنها استغلت مثل هذه العلوم فيما ينفع المسلمين لكان في ذلك خير كثير، ولا ما احتجنا إلى الكفار في تحصيل كمالياتنا بل وفي تحصيل ضرورياتنا أحياناً، فهذه العلوم إذا قصد بها الإنسان القيام بمصالح العباد صارت مما يقرب إلى الله لا لذاتها ولكن لما قُصد بها، أما أنها فقه في الدين فليست فقهاً في الدين؛ لأن الفقه في الدين هو الفقه في أحكام الله تعالى الشرعية والقدرية، والفقه في ذات الله تعالى وأسمائه وصفاته.
* * *
84ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: بِمَ يكون الإخلاص في طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: الإخلاص في طلب العلم يكون بأمور:
الأمر الأول: أن تنوي بذلك امتثال أمر الله؛ لأن الله أمر بذلك فقال )فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِك)(محمد: من الآية19). وحث سبحانه وتعالى على العلم، والحث على الشيء يستلزم محبته والرضا به والأمر به.
الأمر الثاني: أن تنوي بذلك حفظ شريعة الله؛ لأن حفظ شريعة الله يكون بالتعلم والحفظ في الصدر ويكون كذلك بالكتابة.
الأمر الثالث: أن تنوي حماية الشريعة والدفاع عنها؛ لأنه لولا العلماء ما حُميت الشريعة ولا دافع عنها أحد، ولهذا نجد مثلاً شيخ الإسلام أبن تيمية وغيره من أهل العلم تصدوا لأهل البدع وبينوا بطلان بدعهم، نرى أنهم حصلوا على خير كثير.(131/133)
الأمر الرابع: أن تنوي بذلك اتباع شريعة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنك لا يمكن أن تتبع شريعته حتى تعلم هذه الشريعة.
الأمر الخامس: أن تنوي بذلك رفع الجهل عن نفسك وعن غيرك.
* * *
85ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ: يقول بعض الناس : إن إخلاص النية في عصرنا الحاضر صعب أو قد يكون مستحيلاً؛ لأن الذين يطلبون العلم ولا سيما الطلب النظامي يطلبون العلم لنيل الشهادة فحسب؟
فأجاب فضيلته بقوله: نقول: إذا كنت تطلب العلم لنيل الشهادة، فإن كنت تريد من هذه الشهادة أن ترتقي مرتقى دنيويًّا فالنية فاسدة، أما إذا كنت تريد أن ترتقي إلى مرتقى تنفع الناس به لأنك تعرف اليوم أنه لا يمكَّن الإنسان من ارتقاء المناصب العالية النافعة للأمة إلا إذا كان معه شهادة، فإذا قصدت بهذه الشهادة أن تنال ما تنفع الناس به فهذه نية طيبة لا تنافي الإخلاص.
* * *
86ـ وسئل فضيلة الشيخ: ما نصيحة فضيلتكم حول العمل بالعلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لابد من العمل بالعلم، لأن ثمرة العلم العمل؛ لأنه إذا لم يعمل بعلمه صار من أول من تُسعَّر بهم النار يوم القيامة كما قيل:
وعالم بعلمه لم يعملن معذب من قبل عبّاد الوثن(131/134)
فإذا لم يعمل بعلمه أورث الفشل في العلم وعدم البركة ونسيان العلم، لقول الله تعالى(فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ )(المائدة: من الآية13) وهذا النسيان يشمل النسيان الذهني والنسيان العملي، فيكون بمعنى ينسونه ذهنيًّا أو ينسونه يتركونه؛ لأن النسيان في اللغة العربية يطلق بمعنى الترك، أما إذا عمل الإنسان بعلمه فإن الله تعالى يزيده هدى، قال تعالى:(والذين أهتدوا زادهم هدى) . محمد ، الآية: 17. ويزيده تقوى ولهذا قال :(وأتاهم تقواهم) محمد، الآية:17. فإذا عمل بعلمه ورَّثه الله علم ما لم يعلم ولهذا قال بعض ا لسلف : العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
* * *
87ـ سئل الشيخ ـ وفقه الله تعالى: ما الأمور التي جب توافرها فيمن يتلقى عنه العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لابد أن يُطلب العلم على شيخ متقن ذي أمانة؛ لأن الإتقان قوة، والقوة لابد معها من أمانة، قال الله تعالى) إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)(القصص: من الآية). ربما يكون العالم عنده إتقان وسعة علم وقدرة على التفريع والتقسيم، ولكن ليس عنده أمانة فربما أضلك من حيث لا تشعر، وليعلم أن أخذ العلم عن الشيخ أفيد من الكتب من وجوه:
الأول:قصر المدة.
الثاني: قلة التكلفة.
الثالث: أن ذلك أحرى بالصواب.(131/135)
لأن هذا الشيخ قد علم وتعلم ورجح وفهم فيعطيك الشيء ناضجاً، لكنه يمرنك على المطالعة والمراجعة إذا كان عنده شيء من الأمانة، أما من اعتمد على الكتب فلابد أن يكرس جهوده ليلاً ونهاراً، ثم إذا طالع الكتب التي يقارن فيها بين أقوال العلماء فسيقت أدلة هؤلاء وسيقت أدلة هؤلاء من يدله على أن هذا أصوب؟ يبقى متحيراً، ولهذا نرى أن ابن القيم حينما يناقش قولين لأهل العلم سواء في زاد المعاد أو أعلام الموقعين إذا ساق أدلة القول الأول وعلله نقول هذا هو القول الصواب ولا يجوز العدول عنه بأي حال من الأحوال ثم ينقضه ويأتي بالقول المقابل ويذكر أدلته وعلله فتقول هذا هو القول الصواب، فيحصل عندك من الإشكال والتردد، فلابد أن تكون قراءتك على شيخ متقن أمين .
* * *
88ـ وسئل فضيلة الشيخ: بعض المبتدئين يبدأون في القراءة من كتاب المحلي لابن حزم بحجة التمرن على المناظرة وحينما تنصحهم بأن هذا سابق لأوانه فيقولون نريد التمرن فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: مناظرة ابن حزم ـ رحمه الله ـ مناظرة صعبة، يشدد على خصمه، ويحصل منه أحياناً سبّ لمخالفه، فهو ـ رحمه الله ـ كان شديداً جداً، وأخشى أن يكون طالب العلم الصغير إذا تعود على مثل ما كان عليه ابن حزم أخشى عليه من المماراة، فلو أنه سلاك مسلكاً سهلاً لكان أحسن، وإذا حصل على قدر كبير من العلم ـ إن شاء الله ـ وعرف كيف يستفيد من ابن حزم فليطالع في كتابه، لذلك لا أنصح بمطالعته للطالب المبتدئ، لكن التمرن على المجادلة لإثبات الحق أمر لابد منه، فكثير من الناس عنده علم واسع لكنه عند المجادلة لا يستطيع إثبات الحق.
* * *
89ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: إذا أراد طالب العلم الفقه فهل له الاستغناء عن أصول الفقه؟(131/136)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا أراد طالب العلم أن يكون عالماً في الفقه فلابد أن يجمع بين الفقه وأصول الفقه ليكون متبحراً متخصصاً فيه، وإلا فيمكن أن تعرف الفقه بدون علم الأصول، ولكن لا يمكن أن تعرف أصول الفقه، وتكون فقيهاً بدون علم الفقه، أي أنه يمكن أن يستغني الفقيه عن أصول الفقه ولا يمكن أن يستغني الأصولي عن الفقه إذا كان يريد الفقه، ولهذا اختلف علماء الأصول هل الأولى لطالب العلم أن يبدأ بأصول الفقه حتى يبني الفقه عليها، أو بالفقه لدعاء الحاجة إليه، حيث إن الإنسان يحتاج إليه في عمله، في عبادته ومعاملاته قبل أن يتقن أصول الفقه، والثاني هو الأولى وهو المتبع غالباً.
* * *
90ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين: بعض طلبة العلم يأتي إلى مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها بأدلتها ومناقشتها مع العلماء، فإذا حضر مجلس عالم يشار إليه بالبنان، قال: ما تقول أحسن الله إليك في كذا وكذا، قال: هذا حرام مثلاً، قال: كيف؟ بم تجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم كذا ؟ عن قول فلان كذا؟ ثم أتى بأدلة لا يعرفها العالم؛ لأن العلام ليس محيطاً بكل شيء حتى يُظهر نفسه أنه أعلم من هذا العالم فما رأي فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذه المسألة تقع كثيراً يأتي الإنسان يكون باحثاً المسألة بحثاً دقيقاً جيداً ثم يباغت العلماء بمثل هذا، وعلى الإنسان أن يكون سؤاله لطلب العلم ومعرفة الحق لا ليظهر علمه وضعف علم غيره .
والحاصل أن الإنسان يجب أن يكون متأدباً مع من هو أكبر منه، وإذا حصل خطأ ممن هو أكبر، فالخطأ يجب أن يُبين بحال لبقة أو ينتظر حتى يخرج مع هذا العالم ويكلمه بأدب، والعالم الذي يتقي الله إذا بان له الحق فإنه سوف يرجع إليه، وسوف يبين للناس أنه رجع عن قوله.
* * *
91ـ وسئل فضيلة الشيخ: ما توجيهكم حول استغلال الوقت وحفظه من الضياع؟(131/137)
فأجاب فضيلته قائلاً: ينبغي لطالب العلم أن يحفظ وقته عن الضياع، وضياع الوقت يكون على وجوه:
الوجه الأول: أن يدع المذاكرة ومراجعة ما قرأ.
الوجه الثاني:أن يجلس إلى أصدقائه ويتحدث بحديث لغو ليس فيه فائدة.
الوجه الثالث: وهو أضرها على طالب العلم ألا يكون له هم إلا تتبع أقوال الناس وما قيل وما قال، وما حصل وما يحصل في أمر ليس معنيًّا به، وهذا لا شك أنه من ضعف الإسلام؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:" من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه"(1)، والاشتغال بالقيل والقال وكثرة السؤال مضيعة للوقت، وهو في الحقيقة مرض إذا دبَّ في الإنسان ـ نسأل الله العافية ـ صار أكبر همه، وربما يعادي من لا يستحق العداء، أو يوالي من لا يستحق الولاء، من أجل اهتمامه بهذه الأمور التي تشغله عن طلب العلم بحجة أن هذا من باب الانتصار للحق، وليس كذلك، بل هذا من إشغال النفس بما لا يعني الإنسان، أما إذا جاءك الخبر بدون أن تلقفه وبدون أن تطلبه، فكل إنسان يتلقى الأخبار، لكن لا ينشغل بها، ولا تكون أكبر همه؛ لأن هذا يشغل طالب العلم، ويفسد عليه أمره ويفتح في الأمة باب الحزبية فتتفرق الأمة.
* * *
92ـ وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز لطالب العلم إذا كان في مجلس عامة أن يقول لهم من عنده مسألة أو مشكلة فليطرحها حتى أجيب عليها وتحصل الفائدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجوز عرض العالم على المتعلم وعامة الناس أن يسألوا عما بدا لهم ولا يعد ذلك إعجاباً من العالم بنفسه، لأنه قد يقول قائل: لماذا يقول اسأل عما بدالك، هذا تعظيم لنفسه، وكبر منه؟ نقول: ليس هذا المراد بل المراد نشر العلم، والإنسان لا يعلم عما في قلب أخيه حتى يحدثه به، لذلك لا يقال هذا الفعل خطأ مادام الإنسان ليس قصده الإعجاب بالنفس وإنما قصده بث العلم فلا حرج في ذلك.
* * *(131/138)
93ـ وسئل فضيلة الشيخ: هل تعتبر أشرطة التسجيل طريقة من طرق العلم؟ وما هي الطريقة المثلى للاستفادة منها؟
فأجاب فضيلته بقوله: أما كون هذه الأشرطة وسيلة من وسائل تحصيل العلم فهذا لا يَشُكُّ فيه أحد ، ولا نجحد نعمة الله علينا في هذه الأشرطة التي استفدنا كثيراً من العلم بها؛ لأنها توصّل إلينا أقوال العلماء في أي مكان كنا.
ونحن في بيوتنا قد يكون بيننا وبين هذا العالم مفاوز ويسهل علينا أن نسمع كلامه من خلال هذا الشريط. وهذه من نعم الله ـ عز وجل ـ علينا، وهي في الحقيقة حجة لنا وعلينا، فإن العلم انتشر انتشاراً واسعاً بواسطة هذه الأشرطة.
وأما كيف يستفاد منها؟
فهذا يرجع إلى حال الإنسان نفسه، فمن الناس من يستطيع أن يستفيد منها ، وهو يقود السيارة، ومنهم من يستمع إليه أثناء تناوله لطعام الغداء أو العشاء أو القهوة.
المهم أن كيفية الاستفادة منها ترجع إلى كل شخص بنفسه، ولا يمكن أن نقول فيها ضابطاً عاماً.
* * *
94ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ: أيهما أفضل: قيام الليل، أم طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: طلب العلم أفضل م قيام الليل؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد:" لا يعدله شيء لمن صحت نيته ينوي به رفع الجهل عن نفسه وعن غيره". فإذا كان الإنسان يسهر في أول الليل لطلب العلم ابتغاء وجه الله سواء كان يُدرسه ويعلمه الناس فإنه خير من قيام الليل، وإن أمكنه أن يجمع بين الأمرين فهو أولى لكن إذا تزاحم الأمران فطلب العلم الشرعي أفضل وأولى، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة: " أن يوتر قبل أن ينام" (1)قال العلماء: وسبب ذلك أن أبا هريرة كان يحفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم أول الليل وينام آخر الليل فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن يوتر قبل أن ينام .
* * *
95ـ سئل فضيلة الشيخ: هل من توجيه إلى طلبة العلم حتى يكونوا دعاة؟ حيث إنهم يحتجون بطلب العلم وأنه يشغلهم عن الدعوة؟(131/139)
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة التي تكون دون طلب العلم لا خير فيها، بمعنى أنها تفوِّت خيراً كثيراً، والواجب على طالب العلم أن يطلب العلم مع الدعوة إلى الله. ما المانع لطالب العلم إذا رأى شخصاً معرضاً بالمسجد الذي يطلب فيه العلم أن يدعوه إلى الله ـ عز وجل ـ؟ ما المانع إذا خرج إلى السوق ليقضي حوائجه أن يدعو إلى الله ـ عز وجل في السوق إذا رأى معرضاً عن دين الله؟ ما المانع إذا كان بالمدرسة ورأى من الطلبة من هو معرض أن يدعوه إلى الله عز وجل ـ ويأخذ بيده . لكن المشكلة أن الإنسان إذا رأى مخالفاً له بمعصية أو ترك أمر كرهه واشمأز منه، وأبعد عنه، ويئس من إصلاحه والله ـ سبحانه وتعالى ـ بين لنا أن نصبر، وأن نحتسب.
قال الله لنبيه)فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ )(الاحقاف: من الآية3) فالإنسان يجب عليه أن يصبر ويحتسب، ولو رأى في نفسه شيئاً أو على نفسه شيئاً من الغضاضة فليجعل ذلك في ذات الله ـ عز وجل ـ إن النبي عليه الصلاة والسلام لما أدميت أصبعه في الجهاد، قال:
هل أنت إلا أصبع دَميت وفي سبيل الله ما لَقِيت(1)
* * *
96ـ سئل فضيلة الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ: إذا اجتهد العالم في مسألة من المسائل ولم يصب الحكم الصحيح فبم يحكم عليه؟
فأجاب فضيلته قائلاً: العالم إذا اجتهد في مسألة من المسائل قد يصيب وقد يخطئ لما ثبت من حديث بريدة ـ رضي الله عنه ـ: " وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا". رواه مسلم(1).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:" إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد". متفق عليه(2)، وعليه فهل نقول إن المجتهد مصيب ولو أخطأ؟(131/140)
الجواب: قيل: كل مجتهد مصيب، وقيل: ليس كل مجتهد مصيباً. وقيل: كل مجتهد مصيب في الفروع دون الأصول، حذراً من أن نصوب أهل البدع في باب الأصول.
والصحيح: أن كل مجتهد مصيب من حيث اجتهاده، أما من حيث موافقته للحق؛ فإنه يخطئ ويصيب، ويدل قوله صلى الله عليه وسلم:"فاجتهد فأصاب، واجتهد فأخطأ"؛ فهذا واضح في تقسيم المجتهدين إلى مخطئ ومصيب، وظاهر الحديث والنصوص أنه شامل للفروع والأصول، حيث دلت تلك النصوص على أن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها، لكن الخطأ المخالف لإجماع السلف خطأ ولو كان المجتهدين؛ لأنه لا يمكن أن يكون مصيباً والسلف غير مصيبين سواء في علم الأصول أو الفروع.
على أن شيخ الإسلام ابن تيمية وبان القيم أنكرا تقسيم الدين إلى أصول وفروع، وقالا: إن هذا التقسيم محدث بعد عصر الصحابة، ولهذا نجد القائلين بهذا التقسيم يلحقون شيئاً من أكبر أصول الدين بالفروع، مثل الصلاة، وهي ركن من أركان الإسلام ويخرجون أشياء في العقيدة اختلف فيها السلف، يقولون: إنها من الفروع؛ لأنها ليست من العقيدة، ولكن فرع من فروعها، ونحن نقول: إن أردتم بالأصول ما كان عقيدة؛ فكل الدين أصول؛ لأن العبادات المالية أو البدنية لا يمكن أن تتعبد لله بها إلا أن تعتقد أنها مشروع’؛ فهذا عقيدة سابقة على العمل، ولو لم تعتقد ذلك لم يصح تعبدك لله بها.
والصحيح: أن باب الاجتهاد مفتوح فيما سمي بالأصول أو الفروع، لكن ما خرج عن منهج السلف فليس بمقبول مطلقاً.
* * *
97- سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ: عمن يقول بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين؟
فأجاب فضيلته بقوله: الصحيح أن باب الاجتهاد باق بدليل السنة كما في حديث عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد"(1) .(131/141)
لذلك قول من يقول: بعدم الاجتهاد وخلو هذا العصر من المجتهدين، قول ضعيف ويترتب عليه الإعراض عن الكتاب والسنة إلى آراء الرجال، وهذا خطأ، بل الواجب على من تمكن من أخذ الحكم من الكتاب والسنة أن يأخذ منها، لكن لكثرة السنن وتفرقها لا ينبغي للإنسان أن يحكم بشيء بمجرد أن يسمع حديثاً في هذا الحكم حتى يتثبت؛ لأن هذا الحكم قد يكون منسوخاً أو مقيداً أو عامًّا وأنت تظنه بخلاف ذلك.
وأما أن نقول لا تنظر في القرآن والسنة؛ لأنك لست أهلاً للاجتهاد، فهذا غير صحيح، ثم إنه على قولنا:أن باب الاجتهاد مفتوح؛ لا يجوز أبداً أن تحتقر آراء العلماء السابقين، أو أن تنزل من قدرهم؛ لأن أولئك تعبوا واجتهدوا وليسوا بمعصومين، فكونك تقدح فيهم، أو تأخذ المسائل التي يلقونها على أنها نكت تعرضها أمام الناس ليسخروا بهم فهذا أيضاً لا يجوز، وإذا كانت غيبة الإنسان العادي محرمة، فكيف بغيبة أهل العلم الذين أفنوا أعمارهم في استخراج المسائل من أدلتها، ثم يأتي في آخر الزمان من يقول: إن هؤلاء لا يعرفون، وهؤلاء يفرضون المحال، ويقولون: كذا وكذا. مع أن أهل العلم فيما يفرضونه من المسائل النادرة قد لا يقصدون الوقوع، ولكن يقصدون تمرين الطالب على تطبيق المسائل على قواعدها وأصولها.
* * *
98ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ: ما قولكم فيما يحصل م البعض من قدح في الحافظين النووي وابن حجر وأنهما من أهل البدع؟
وهل الخطأ من العلماء في العقيدة ولو كان عن اجتهاد وتأويل يلحق صاحبه بالطوائف المبتدعة؟
وهل هناك فرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية؟
فأجاب فضيلته بقوله:(131/142)
إن الشيخين الحافظين( النووي ابن حجر) لهما قدم صدق ونفع كبير في الأمة الإسلامية ولئن وقع منهما خطأ في تأويل بعض نصوص الصفات إنه لمغمور بما لهما من الفضائل والمنافع الجمة ولا نظن أن ما وقع منهما إلا صادر عن اجتهاد وتأويل سائغ ـ ولو في رأيهما وأرجو الله تعالى أن يكون من الخطأ المغفور وأن يكون ما قدماه من الخير والنفع من السعي المشكور وأن يصدق عليهما قول الله تعالى)ِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ )(هود: من الآية114). والذي نرى أنهما من أهل السنة والجماعة، ويشهد لذلك خدمتهما لسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم وحرصهما على تنقيتها مما ينسب إليها من الشوائب، وعلى تحقيق ما دلت عليه من أحكام ولكنهما خالفا في آيات الصفات وأحاديثها أو بعض ذلك عن جادة أهل السنة عن اجتهاد أخطئا فيه، فنرجو الله تعالى أن يعاملهما بعفوه.
وأما الخطأ في العقيدة: فإن كان خطأ مخالفاً لطريق السلف، فهو ضلال بلا شك ولكن لا يحكم على صاحبه بالضلال حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة، وأصر على خطئه وضلاله، كان مبتدعاً فيما خالف فيه الحق، وإن كان سلفيًّا فيما سواه، فلا يوصف بأنه مبتدع على وجه الإطلاق، ولا بأنه سلفي على وجه الإطلاق، بل يوصف بأنه سلفي فيما وافق السلف، مبتدع فيما خالفهم، كا قال أهل السنة في الفاسق: إنه مؤمن بما معه من الإيمان، فاسق بما معه م العصيان، فلا يعطي الوصف المطلق ولا ينفى عنه مطلق الوصف، وهذا هو العدل الذي أمر الله به، إلا أن يصل المبتدع إلى حد يخرجه من الملة فإنه لا كرامة له في هذه الحال .(131/143)
وأما الفرق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية: فلا أعلم أصلاً للتفريق بين الخطأ في الأمور العلمية والعملية لكن لما كان السلف مجمعين فيما نعلم على الإيمان في الأمور العلمية الحيوية والخلاف فيها إنما هو في فروع من أصولها لا في أصولها كان المخالف فيها أقل عدداً وأعظم لوماً. وقد اختلف السلف في شيء من فروع أصولها كاختلافهم، هل رأى النبي صلى الله عليه وسلم ربه في اليقظة واختلافهم في اسم الملكين اللذين يسألان الميت في قبره، واختلافهم في الذي يوضع في الميزان أهو الأعمال أم صحائف الأعمال أم العامل؟ واختلافهم هل يكون عذاب القبر على البدن وحده دون الروح؟ واختلافهم هل يسأل الأطفال وغير المكلفين في قبورهم؟ واختلافهم هل الأمم السابقة يسألون في قبورهم كما تسأل هذه الأمة؟ واختلافهم في صفة الصراط المنصوب على جهنم؟ واختلافهم هل النار تفنى أو مؤبدة، وأشياء أخرى وإن كان الحق مع الجمهور في هذه المسائل، والخلاف فيها ضعيف.
وكذلك يكون في الأمور العملية خلاف يكون قويًّا تارة وضعيفاً تارة.
وبهذا تعرف أهمية الدعاء المأثور: اللهم فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
* * *
99ـ سئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته ـ عما يحصل من اختلاف الفتيا من عالم لآخر في موضوع واحد. ما مرد ذلك؟ وما موقف متلقي الفتيا؟
فأجاب ـ حفظه الله تعالى ـ بقوله: مرد ذلك إلى شيئين:
الأول: العلم. فقد يكون أحد المفتين ليس عنده من العلم ما عند المفتي الآخر، فيكون المفتي الآخر أوسع اطلاعاً منه، يطلع على ما لم يطلع عليه الآخر.(131/144)
والثاني: الفهم، فإن الناس يختلفون في الفهم اختلافاً كثيراً قد يكونون في العلم سواء، ولكن يختلفون في الفهم، فيعطي الله تعالى هذا فهماً واسعاً ثاقباً؛ يفهم مما علم أكثر مما فهمه الآخر، وحينئذ يكون الأكثر علماً والأقوى فهماً أقرب إلى الصواب من الآخر. أما بالنسبة للمستفتي فإنه إذا اختلف عليه عالمان مفتيان فإنه يتبع من يرى أنه أقرب إلى الصواب، إما لعلمه، وإما لورعه ودينه، كما أنه لو كان الإنسان مريضاً واختلف عليه طبيبان فإنه سوف يأخذ بقول من يرى أنه أقرب إلى الصواب فإنه تساوى عنده الأمران ولم يرجح أحد المفتين على الآخر فإنه يخير إن شاء أخذ بهذا وإن شاء أخذ بهذا وما اطمأنت إليه نفسه أكثر فليأخذ به.
* * *
100ـ سئل فضيلة الشيخ: ما قولكم فيمن يتخذ من أخطأ العلماء طريقاً للقدح فيهم ورميهم بالبهتان؟
وما النصيحة التي توجهها لطلبة العلم في ذلك؟(131/145)
فأجاب فضيلته بقوله: العلماء ـ بلا شك ـ يخطئون ويصيبون وليس أحد منهم معصوماً، ولا ينبغي لنا بل ولا يجوز أن نتخذ خطئهم سلماً للقدح فيهم، فإن هذه طبيعة البشر كلهم أن يخطئوا إذا لم يوفقوا للصواب، ولكن علنيا إذا سمعنا عن عالم أو عن داعية من الدعاة أ, عن إمام من أئمة المساجد إذا سمعنا خطأ أن نتصل به، حتى يتبين لنا لأنه قد يحصل في ذلك خطأ في النقل عنه، أو خطأ في الفهم لما يقول، أو سوء قصد في تشويه سمعة الذي نقل عنه هذا الشيء، وعلى كل حال فمن سمع منكم عن عالم أو عن داعية أو عن إمام مسجد أو أي إنسان له ولاية، من سمع منه ما لا ينبغي أن يكون، فعليه أن يتصل به وأن يسأله: هل وقع ذلك منه أم لم يقع، ثم إذا كان قد وقع فليبين له ما يرى أنه خطأ، فإما أن يكون قد أخطأ فيرجع عن خطئه، وإما أن يكون هو المصيب، فيبين وجه قوله حتى تزول الفوضى التي قد نراها أحياناً ولا سيما بين الشباب. وإن الواجب على الشباب وعلى غيرهم إذا سمعوا مثل ذلك أن يكفوا ألسنتهم وأن يسعوا بالنصح، والاتصال بمن نُقل عنه ما نُقل حتى يتبين الأمر، أما الكلام في المجالس ولا سيما في مجالس العامة أن يقال ما تقول في فلان؟ ما تقول في فلان الآخر الذي يتكلم ضد الآخرين؟ فهذا أمر لا ينبغي بثه إطلاقاً؛ لأنه يثير الفتنة والفوضى فيجب حفظ اللسان، قال النبي صلى
الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل ـ رضي الله عنه ـ:"ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ قلت: بلى يا رسول الله، فأخذ بلسان نفسه، وقال: كف عليك هذا. قلت: يا رسول الله إنا لمؤاخذون بما نتكلم به . قال: ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجهوهم أو قال على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم"(1) .(131/146)
وأنصح طلبة العلم وغيرهم أن يتقوا الله وألا يجعلوا أعراض العلماء والأمراء مطية يركبونها كيف ما شاءوا، فإنه إذا كانت الغيبة في عامة الناس من كبائر الذنوب فهي في العلماء والأمراء أشد وأشد، حمانا الله وإياكم عما يغضبه، وحمانا عما فيه العدوان على إخواننا، إنه جواد كريم.
101ـ سئل فضيلة الشيخ ـ غفر الله له ـ: ما توجيهكم حول ما يحصل من البعض من التفرق والتحزب؟ فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن التحزب والتفرق في دين الله منهي عنه محذر منه، لقوله تعالى:( )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105) وقوله تعالى )إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (الأنعام:159) فلا يجوز للأمة الإسلامية أن يتفرقوا أحزاباً، لكل طائفة منهج مغاير لمنهج الأخرى، بل ا لواجب اجتماعهم على دين الله على منهج واحد وهو هدى النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين والصحابة المرضيين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة" (1) .
وليس من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين أن تتفرق الأمة أحزاباً لكل حزب أمير ومنهج، وأمير الأمة الإسلامية واحد، وأمير كل ناحية واحد، من قِبَل الأمير العام.(131/147)
وإنما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ أمير السفر؛ لأن المسافرين نازحون عن المدن والقرى التي فيها أمراء من قبل الأمير العام، وربما تحصل مشاكل لا تقبل التأخير إلى وصول هذه المدن والقرى، أو مشاكل صغيرة لا تحتمل الرفع إلى أمراء المدن والقرى؛ كالنزول في مكان والنزوح عنه وتسريح الرواحل وحبسها ونحو ذلك، فكان من الحكمة أن يؤمر المسافرون أحدهم لمثل هذه الحالات.
ونصيحتي للأمة أن يتفقوا على دين الله ولا يتفرقوا فيه، وإذا رأوا من شخص أو طائفة خروجاً عن ذلك نصحوه وبيّنوا له الحق وحذروه من المخالفة وبينوا له أن الاجتماع على الحق أقرب إلى السداد والفلاح من التفرق. وإذا كان الخلاف عن اجتهاد سائغ فإن الواجب أن لا تتفرق القلوب وتختلف من أجل ذلك، فإن الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ حصل بينهم خلاف في الاجتهاد في عهد نبيهم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم وبعده، ولم يحصل بينهم اختلاف في القلوب أو تفرق فليكن لنا فيهم أسوة، فإن آخر هذه الأمة لن يصلح إلا بما صلح به أولها.
وفقنا الله إلى ما يحبه ويرضاه.
* * *
102ـ سئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: ما الواجب على العامي ومن ليس له قدرة على طلب العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على من لا علم عنده ولا قدرة له على الاجتهاد أن يسأل أهل العلم؛ لقوله تعالى:( )فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الانبياء: من الآية7). ولم يأمر الله تعالى بسؤالهم إلا من أجل الأخذ بقولهم، وهذا هو التقليد. لكن الممنوع في التقليد أن يلتزم مذهباً معيناً يأخذ به على كل حال ويعتقد أن ذلك طريقه إلى الله ـ عز وجل ـ فيأخذ به وإن خالف الدليل.
وأما من له قدرة على الاجتهاد؛ كطالب العلم الذي أخذ بحظ وافر من العلم، فله أن يجتهد في الأدلة ويأخذ بما يرى أنه الصواب أو الأقرب للصواب.(131/148)
وأما العامي وطالب العلم المبتدئ، فيجتهد في تقليد من يرى أنه أقرب إلى الحق؛ لغزارة علمه وقوة دينه وورعه.
* * *
103ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ: من الأصول التي يرجع إليها طالب العلم الشرعي أقوال الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فهل هي حجة يُعمل بها؟
فأجاب بقوله: قول الصحابي أقرب إلى الصواب من غيره بلا ريب، وقوله حجة، بشرطين:
أحدهما: أن لا يخالف نص كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
والثاني: أن لا يخالفه صحابي آخر.
فإن خالف الكتاب أو السنة فالحجة في الكتاب أو السنة، ويكون قوله من الخطأ المغفور.
وإن خالف قول صحابي آخر طلب الترجيح بينهما، فمن كان قوله أرجح فهو أحق أن يتبع، وطرق الترجيح تعرف إما من حال الصحابي أو من قرب قوله إلى القواعد العامة في الشريعة أو نحو ذلك.
ولكن هل هذا الحكم عام لجميع الصحابة أو خاص بالخلفاء الراشدين أو بأبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهماـ .
أما أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ فلا ريب أن قولهما حجة بالشريطين السابقين، وقولهما أرجح من غيرهما إذا خالفهما، وقول أبي بكر أرجح من قول عمر ـ رضي الله عنهما ـ. وقد روى الترمذي من حديث حذيفة بن اليمان ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر"(1) ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي قتادة ـ رضي الله عنه ـ في قصة نومهم عن الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فإن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا" (1) .
وفي صحيح البخاري في باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عمر بن الخطاب قال: " هما المرءان يقتدى بهما" (1) ،يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ـ رضي الله عنه .(131/149)
وأما بقية الخلفاء الراشدين، ففي السنن والمسند من حديث العرباض بن سارية ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" (1). وأولى الناس بالوصف هذا الخلفاء الأربعة ـ رضي الله عنهم ـ فيكون قولهم حجة .
وأما بقية الصحابة، فمن كان معروفاً بالعلم وطول الصحبة فقوله حجة، ومن لم يكن كذلك فمحل نظر، وقد ذكر ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ في أول كتابه(إعلام الموقعين): أن فتاوى الإمام مبينة على خمسة أصول، منها: فتاوى الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ، والعلماء مختلفون فيها ، لكن الغالب واللازم أن يكون هناك دليل يرجح قوله أو يخالفه فيعمل بذلك الدليل.
* * *
رسالة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
فضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين حفظه الله
نرجو من فضيلتكم التكرم بإفادتنا عما إذا كان تحديد موعد منتظم أسبوعياً لإلقاء محاضرة دينية أو حلقة علم، بدعة منهياً عنها باعتبار طلب العلم عبادة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يحدد موعداً لهذه العبادة. وتبعاً لذلك هل إذا اتفق مجموعة من الأخوة على الالتقاء في المسجد ليلة محددة كل شهر لقيام الليل، هل يكون ذلك بدعة مع إيراد الدليل على ذلك؟ وجزاكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
فأجاب فضيلته بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .(131/150)
إن تحديد يوم معين منتظم لإلقاء محاضرة أو حلقة علم ليس ببدعة منهي عنها، بل هو مباح كما يقرر يوم معين في المدارس والمعاهد لحصة الفقة أو التفسير أو نحو ذلك. ولا شك أن طلب العلم الشرعي من العبادات لكن توقيته بيوم معين تابع لما تقتضيه المصلحة، ومن المصلحة أن يعين يوم لذلك حتى يا يضطرب الناس. وطلب العلم ليس عبادة موقتة بل هو بحسب ما تقتضيه المصلحة والفراغ. لكن لو خص يوماً معيناً لطب العلم باعتبار أنه مخصوص لطلب العلم وحده فهذا هو البدعة.
وأما اتفاق مجموعة على الالتقاء في ليلة معينة لقيام الليل فهذا بدعة؛ لأن إقامة الجماعة في قيام الليل غير مشروعة إلا إذا فعلت أحياناً وبغير قصد كما جرى للنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مع عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ.
كتبه محمد الصالح العثيمين
في 28/5/ 1415هـ.
104ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ: عما يحصل من البعض من الوقوع في أعراض العلماء الربانيين والقدح فيهم وغيبتهم وفقكم الله تعالى؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الوقوع في أعراض أهل العلم المعروفين بالنصح، ونشر العلم والدعوة إلى الله تعالى، من أعظم أنواع الغيبة التي هي من كبائر الذنوب.
والوقيعة في أهل العلم أمثال هؤلاء ليست كالوقيعة في غيرهم؛ لأن الوقيعة فيهم تستلزم كراهتهم، وكراهة ما يحملونه، وينشدونه من شرع الله ـ عز وجل ـ فيكون في التنفير عنهم تنفير عن شرع الله ـ عز وجل ـ وفي هذا من الصد عن سبيل الله ما يتحمل به الإنسان إثماً عظيماً وجرماً كبيراً، ثم إنه يلزم من إعراض الناس عن أمثال هؤلاء العلماء، أن يلتفتوا إلى قوم جهلاء يضلون الناس بغير علم؛ لأن الناس لابد لهم من أئمة يأتمون بهم ويهتدون بهديهم، فإما أن يكونوا أئمة يهدون بأمر الله وإما أن يكونوا أئمة يدعون إلى النار، فإذا انصرف الناس عن أحد الجنسين مالوا إلى الجنس الآخر.(131/151)
وعلى المرء الواقع في أعراض أمثال هؤلاء العلماء أن ينظر في عيوب نفسه، فإن أول عيب يخدش به نفسه، وقوعه في أعراض هؤلاء العلماء، مع ما عنده من العيوب الأخرى التي يبرأ منها أهل العلم ويبرؤن أنفسهم من الوقيعة فيه من أجلها.
* * *
105ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ عن المسجلات الصوتية التي يُسجل فيها العالم، وهل هناك حرج من استعمالها؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن المسجلات الصوتية من نعم الله تعالى، إذا كان يسجل بها ما يفيد المسلم في دينه ودنياه، وأنه يحصل بها علم كثير مفيد، إذا كان من أهل العلم المعروفين بالتحقيق والأمانة، وهي بمنزلة الكتب المؤلفة، ومن المعلوم أنه لا أحد ينهى عن تأليف الكتب إذا كانت من أهل التحقيق والأمانة، وهي لا تصد عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بل هي بيان وتفسير لكلام الله ورسوله ونشر لما تضمنه الكتاب والسنة من مواعظ تشتمل على أحاديث وآثار ضعيفة أو مكذوبة لقصد الترغيب أو الترهيب أو كليهما، والذين يسمعونها ممن لا معرفة لهم بالصحيح والضعيف يغترون بها ويأخذون بها مسلمة من غير بحث فيها ولا سؤال عنها ، فالله المستعان.
* * *
106ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: متى ينكر على المخالف في المسائل الخلافية التي بين أهل العلم؟
فأجاب فضيلته بقوله: مسائل الخلاف نوعان:
النوع الأول نوع يكون الدليل فيها واضحاً لا يمكن فيه الاجتهاد، فهذه ينكر على المخالف فيها لمخالفة النص وذلك كحلق اللحية وإسبال الثوب أسفل من الكعبين، والتفرق في دين الله، وغير ذلك.
لكن لا يجعل ذلك وسيلة للتشاتم والتباغض، لا سيما مع العلم بحسن نية المخالف، بل تُعالج الأمور بحكمة حتى يحصل الوفاق.(131/152)
والنوع الثاني: يكون فيها الدليل غير واضح، إما لخفاء ثبوت الدليل، أو الدلالة أو وجود شبهة مانعة، وغير ذلك، فهذا لا ينكر فيه على المخالف؛لأن قول أحد المختلفين ليس حجة على الآخر، وأمثلة هذا كثيرة.
* * *
107ـ وسئل فضيلة الشيخ: إذا أراد الإنسان حفظ القرآن فبماذا تنصحونه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي ننصحه به أن يبدأ من البقرة، إلا إذا كان حفظه من المفصل أسهل له فليكن من المفصل؛ لأن بعض الناس يسهل عليه الحفظ من المفصل من أجل قصر سوره وآياته وكونه يسمعه من الأئمة في المساجد كثيراً، فإذا كان هذا سهل عليه فليبدأ بما هو أسهل، وننصحه أيضاً بتعاهد حفظه كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، وننصحه أيضاً أن يهتم بما كان حفظه أكثر من اهتمامه بكثرة الحفظ؛ لأن العناية بالموجود أولى من العناية بالمفقود.
* * *
رسالة
حول الاجتماع والائتلاف وترك التفرق والاختلاف
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه العظيم:(يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون # واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون). آل عمران، الآيتان 102،103. فأمرنا الله ـ سبحانه وتعالى ـ أن نذكر نعمة الله علينا، إذا كنا أعداء فألف بين قلوبنا، فأصبحنا بنعمته إخوانا، فعلينا جميعاً أن نشكر الله على هذه النعمة وأن نحرص كل الحرص على أن تكون كلمتنا واحدة.(131/153)
لأننا بذلك نكون أمة قوية مرموقة، وأما إذا تنازعنا وتفرقنا فإنه بلا شك سوف نفشل وتذهب ريحنا، كما قال الله تعالى)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (لأنفال:46)
وإن الواجب على طلبة العلم خاصة، وعلى المسلمين عامة أن يدعوا الأحقاد والأضغان وأن يكون هدفهم واحد ودعواهم واحدة، وأن لا يظهروا الشماتة بأنفسهم بالتفرق والتنازع والتنابز بالألقاب والكراهية والبغضاء، فإن ذلك أعظم سلاح فتاك يبطل هيبة المسلمين، ويوجب أن يتسلط عليهم أعداؤهم فيقفون متفرجين عليهم ينظرون إليهم وهم يتنازعون ويتخاصمون ويقولون كفينا أن نفسد بين المسلمين، وأنه يجب على كل واحد منا أن يعذر أخاه فيما طريقه الاجتهاد، فإن اجتهاد كل واحد ليس حجة على الآخر، والحجة ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الخلاف سائغاً لم يظهر فيه العصيان والتعصب للنفس، فإن الواجب أن تتسع صدورنا له، ولا مانع حينئذ من المناقشة الهادئة التي يُراد بها التوصل إلى الحق، فإن هذا هو طريق الصحابة، وأما أن نتخذ من الخلاف السائغ مثاراً للكراهية والبغضاء والتحزب، فإن ذلك خلاف طريق السلف الصالح، ولينظر الإنسان وليتفكر في هذه الشريعة الإسلامية فإنها جاءت بما يوجب الألفة والمحبة، ونهت عن كل ما يوجب التفرق والبغضاء، فكثير من العبادات يشرع فيها الاجتماع كالصلوات، وكثير من الأشياء نهى الله عنها لأنها توجب العداوة والبغضاء كالبيع على بيع المسلم، والخطبة على خطبته وغير ذلك.
فنصيحتي لإخواني أن يتقوا الله تعالى في أنفسهم وفي أمتهم، وأن لا يتنازعوا فيفشلوا وتذهب ريحهم.
وأسأل الله لنا جميعاً التوفيق لما يحب ويرضى.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
حرر في 29/3/1416هـ.(131/154)
108ـ وسئل فضيلة الشيخ: هل يجوز استفتاء أكثر من عالم؟
وفي حالة اختلاف الفتيا هل يأخذ المستفتي بالأيسر أم بالأحوط؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا يجوز للإنسان إذا استفتى عالماً واثقاً بقوله أن يستفتي غيره؛ لأن هذا يؤدي إلى التلاعب بدين الله وتتبع الرخص، بحيث يسأل فلاناً، فإن لم يناسبه سأل الثاني، وإن لم يناسبه سأل الثالث وهكذا.
وقد قال العلماء:(من تتبع الرخص فسق)، لكن أحياناً يكون الإنسان ليس عنده من العلماء إلا فلاناً مثلاً، فيسأله من باب الضرورة، وفي نيته أنه إذا التقى بعالم أوثق منه في علمه ودينه سأله، فهذا لا بأس به، أن يسأل الأول للضرورة، ثم إذا وجد من هو أفضل سأله.
وإذا اختلف العلماء عليه في الفتيا أو فيما يسمع من مواعظهم ونصائحهم مثلاً، فإنه يتبع من يراه إلى الحق أقرب في علمه ودينه، فإن تساوى عنده الرجلان في العلم والدين، فقال بعض العلماء: يتبع الأحوط وهو الأشد، وقيل يتبع الأيسر، وهذا هو الصحيح؛ أنه إذا تعادلت الفتيا عندك، فإنك تتبع الأيسر؛ لأن دين الله ـ عز وجل ـ مبني على اليسر والسهولة، لا على الشدة والحرج.
وكما قالت عائشة ـرضي الله عنهاـ:"ما خُيرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً"(1). ولأن الأصل البراءة وعدم التأثيم والقول بالأشد يستلزم شغل الذمة والتأثيم.
* * *
109ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: قلتم إن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب الإمام أحمد، فكيف حكمنا على المذاهب الثلاثة الباقية؟(131/155)
فأجاب فضيلته بقوله: لا . . . ما أظن إننا قلنا هذا باعتبار أن المذاهب الثلاثة ليست على مذهب أهل السنة، لكن الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ معروف بين أهل العلم إنه إمام أهل السنة وأنه قام بالدفاع عن السنة قياماً لم يقمه أحد فيما نعلم. ومحنته مع المأمون ومن بعده مشهورة، وإلا فلا شك أن أئمة الإسلام ولله الحمد كلهم على خير وعلى حق، ولكن ذلك لا يعني أن نبرئ كل واحد منهم من الخطأ. بل كل واحد منهم قد يقع منه الخطأ بل الإمام أحمد نفسه قد يصرح بالرجوع عن القول وإن كان قد قاله من قبل كما في قوله في طلاق السكران حتى تبيّنته، يعني فتبين له أنه لا يقع؛ لأنه إذا أوقعه أتى خصلتين: تحريم هذه الزوجة على زوجها الذي طلقها وحلها لغيره، وإذا قال بعدم الوقوع أتى خصلة واحدة وهي حلها لهذا الزوج الذي لم يتحقق بينونتها منه.
* * *
110ـ وسئل فضيلته ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ: ما رأي فضيلتكم فيمن ينفّر من قراءة كتب الدعاة المعاصرين ويرى الاقتصار على كتب السلف الأخيار وأخذ المنهج منها؟
ثم ما هي النظرة الصحيحة أو الجامعة لكتب السلف ـ رحمهم الله ـ وكتب الدعاة المعاصرين والمفكرين؟
فأجاب فضيلته بقوله: أرى أن أخذ الدعوة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فوق كل شيء، وهذا رأينا جميعاً بلا شك، ثم يلي ذلك ما ورد عن الخلفاء الراشدين وعن الصحابة وعن أئمة الإسلام فيمن سلف.(131/156)
أما ما يتكلم به المتأخرون والمعاصرون، فإنه يتناول أشياء حدثت هم بها أدرى، فإذا اتخذ الإنسان من كتبهم ما ينتفع به في هذه الناحية فقد أخذ بحظ وافر ونحن نعلم أن المعاصرين إنما أخذوا ما أخذوا من العلم ممن سبق فلنأخذ نحن مما أخذوا منه، ولكن أموراً قد استجدت هم بها أبصر منا، ثم إنها لم تكن معلومة لدى السلف بأعيانها، ولهذا أرى أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، فيعتمد أولاً على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وثانياً على كلام السلف الصالح من الخلفاء الراشدين والصحابة وأئمة المسلمين، ثم على ما كتبه المعاصرون الذين يكتبون عن أشياء حدثت في زمانهم لم تكن معلومة بأعيانها عند السلف.
* * *
111ـ وسئل فضيلته ـ غفر الله له ـ: هناك بعض طلبة العلم يبدأ طلب العلم بكتب الحديث ويعرض عن المتون الفقهية وحجتهم بأن المتون الفقهية خالية من أدلة الكتاب والسنة فهل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن يبدأ الطالب قبل كل شيء بفهم القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى قال)كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ:29) ولان القرآن لا يحتاج إلى أي عناء في ثبوته؛ لأنه ثابت بالتواتر، لكن السنة فيها الصحيح وفيها الحسن وفيها الضعيف وفيها الموضوع فهي تحتاج إلى عناء، ثم هي أيضاً تحتاج إلى جمع أطرافها، فقد يبلغ الإنسان حديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام يكون له مخصص لعمومه، أو مقيد لإطلاقه، أو يكون هذا الحديث منسوخاً وهو لا يعلم، ولهذا نجد كثيراً ممن زعموا أنهم مستندون على الحديث يخطئون في فهمه أو في طريقة الاستدلال به. ولا شك أن السنة عن النبي عليه الصلاة والسلام أصل من الأصول، فهي كالقرآن في وجوب العمل بها إذا صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم.(131/157)
وأما جوابه بأن المتون خالية مما قال الله وقال رسوله فنعم، أكثر المتون الفقهية ليس فيها الدليل، ولكن توجد الأدلة في شروحها، فليست خالية من الأدلة باعتبار شروحها التي تحلل أغراضها وتبين معانيها.
والذي أرى أن يكون الإنسان بادئاً:
أولاً: بكتاب الله ـ عز وجل ـ .
وثانياً: بالسنة الثابتة عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم .
وثالثاً : بكتب الفقه المبنية على الكتاب والسنةز
لأن هذه تضبط تصرفه وتصحح فهمه.
لكن هل الأولى أن يحفظ متناً من متون الفقه أو متناً مختصراً من الحديث؟
الجواب: الأولى أن يحفظ متناً مختصراً من الحديث كعمدة الأحكام، وبلوغ المرام، ولكن لا يدع الاستئناس بكلام أهل العلم وأهل الفقه.
* * *
112ـ وسئل الشيخ ـ غفر الله له ـ: بعض طلبة العلم يكتفون بسماع أشرطة العلماء من خلال دروسهم فهل تكفي في تلقي العلم؟ وهل يعتبرون طلاب علم؟ وهل يؤثر في معتقدهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن هذه الأشرطة تكفيهم عن الحضور إلى أهل العلم إذا كان لا يمكنهم الحضور، وإلا فإن الحضور إلى العلماء أفضل وأحسن وأقرب للفهم والمناقشة، لكن إذا لم يمكنهم الحضور فهذا يكفيهم.
ثم هل يمكن أن يكونوا طلبة علم وهم يقتصرون على هذا ؟
نقول: نعم يمكن إذا اجتهد الإنسان اجتهاداً كثيراً كما يمكن أن يكون الإنسان عالماً إذا أخذ العلم من الكتب، لكن الفرق بين أخذ العلم من الكتب والأشرطة وبين التلقي من العلماء مباشرة، أن التلقي من العلماء مباشرة أقرب إلى حصول العلم؛ لأنه طريق سهل تمكن فيه المناقشة بخلاف المستمع أو القارئ فإنه يحتاج إلى عناء كبير في جمع أطراف العلم والحصول عليه.(131/158)
وأما قول السائل: هل يؤثر الاكتفاء بالأشرطة في معتقدهم، فالجواب: نعم يؤثر في معتقدهم إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة بدعية ويتبعونها، أما إذا كانوا يستمعون إلى أشرطة من علماء موثوق بهم، فلا يؤثر على معتقداتهم، بل يزيدهم إيماناً ورسوخاً واتباعاً للمعتقد الصحيح.
* * *
113وسئل فضيلة الشيخ: ما رأي فضيلتكم فيمن صار ديدنهم تجريح العلماء وتنفير الناس عنهم والتحذير منهم، هل هذا عمل شرعي يثاب عليه أو يعاقب عليه؟
فأجاب فضيلته بقوله: الذي أرى أن هذا عمل محرَّم، فإذا كان لا يجوز للإنسان أن يغتاب أخاه المؤمن وإن لم يكن عالماً فكيف يسوغ له أن يغتاب إخوانه العلماء من المؤمنين؟ والواجب على الإنسان المؤمن أن يكف لسانه عن الغيبة في إخوانه المؤمنين. قال الله تعالى )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات:12) وليعم هذا الذي ابتلي بهذه البلوى أنه إذا جرَّح العالم فسيكون سبباً في رد ما يقوله هذا العالم من الحق، فيكون وبال رد الحق وإثمه على هذا الذي جرح العالم؛ لأن جرح العالم في الواقع ليس جرحاً شخصيّا بل هو جرح لإرث محمد صلى الله عليه وسلم .(131/159)
فإن العلماء ورثة الأنبياء فإذا جرح العلماء وقدح فيهم لم يثق الناس بالعلم الذي عندهم وهو موروث عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ لا يتقون بشيء من الشريعة التي يأتي بها هذا العالم الذي جُرح. ولست أقول إن كل عالم معصوم، بل كل إنسان معرض للخطأ، وأنت إذا رأيت من عالم خطأ فيما تعتقده، فاتصل به وتفاهم معه، فإن تبين لك أن الحق معه وجب عليك اتباعه، وإن لم يتبين لك ولكن وجدت لقوله مساغاً وجب عليك الكف عنه، وإن لم تجد لقوله مساغاً فحذر من قوله؛ لأن الإقرار على الخطأ لا يجوز، لكن لا تجرحه وهو عالم معروف مثلاً بحسن النية، ولو أردنا أن نجرح العلماء المعروفين بحسن النية لخطأ وقعوا فيه من مسائل الفقه، لجرحنا علماء كباراً، ولكن الواجب هو ما ذكرت وإذا رأيت من عالم خطأ فناقسه وتكلم معه، فإما أن يبتين لك أن الصواب معه فتتبعه أو يكون الصواب معك فيتبعك، أو لا يتبين الأمر ويكون الخلاف بينكما من الخلاف السائغ، وحينئذ يحب عليك الكف عنه وليقل هو ما يقول ولتقل أنت ما تقول.
والحمد لله ، الخلاف ليس في هذا العصر فقط، الخلاف من عهد الصحابة إلى يومنا، وأما إذا تبين الخطأ ولكنه أصر انتصاراً لقوله وجب عليك أن تبين الخطأ وتنفر منه، لكن لا على أساس القدح في هذا الرجل وإرادة الانتقام من؛ لأن هذا الرجل قد يقول قولاً حقاً في غير ما جادلته فيه.
فالمهم أنني أحذر إخواني من هذا البلاء وهو تجريح العلماء والتنفير منهم، وأسأل الله لي ولهم الشفاء من كل ما يعيبنا أو يضرنا في ديننا ودنيانا.
* * *
114ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ورعاه ـ: ما هي نصيحتكم لمن ابتدأ في طلب العلم؟ بأي شيء يبدأ؟(131/160)
فأجاب فضيلته بقوله: عندي أن أهم شيء في طلب العلم أن يتعلم الإنسان تفسير كلام الله ـ عز وجل ـ؛ لأن كلام الله هو العلم كله، قال تعالى ) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً)(النحل: من الآية89)وكان الصحابة لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، فتعلموا القرآن والعلم والعمل جميعاً، هذا أهم شيء عندي، وعلى هذا فيبدأ الشاب ولا سيما الصغار من الشباب بحفظ القرآن، والآن حفظ القرآن ـ ولله الحمد ـ متيسر، ففي المسجد حلقات يحفظون القرآن ، وعليهم أمناء من القراء يحفظونهم القرآن، ثم إنه في هذه المناسبة أ,د من إخواني الأغنياء أن يولوا أهمية لهذه الحلقات بتشجيعهم ماديًّا ومعنويًّا، وليعلموا أنهم إذا عانوا في تعليم القرآن فإن لهم مثل أجر المعلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"من جهز غازياً فقد غزى" (1) . ولأن الله تعالى قال) وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)(المائدة: من الآية2). ولم يأمرنا بالتعاون إلا أن لنا أجراً، لذا أحث إخواني الأغنياء على دعم هذه الحلقات بالمال سواء كان المال نقداً أو كان عقارات توقف لهذه الحلقات تنفعه بعد موته. وأحث أيضاً القائمين على الحلقات على أن يهتموا بإنشاء ما يدر على هذه الحلقات في المستقبل؛ لأن التبرع المقطوع ينتهي، لكن إذا حرصوا على أن يؤسسوا منشآت تؤجر كان هذا حماية لهذه الحلقات من التوقف في المستقبل.(131/161)
بعد ذلك على الطالب أن يهتم بالسنة؛ لأنها هي مصدر التشريع الثاني، ولا أقول الثاني بالترتيب المعنوي، لكن بالترتيب الذكري؛ لأن ما ثبت في السنة كما ثبت في القرآن سواء بسواء؛ لأن الله تعالى يقول) وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(النساء: من الآية113). فليحفظ السنة، ومن الكتب المختصرة في السنة "عمدة الأحكام" وهي أيضاً موثوقة؛ لأن جامعها ـ رحمه الله ـ جمع فيها ما اتفق البخاري ومسلم على إخراجه، ولم يشذ عن هذا القيد إلا في أحاديث يسيرة، وإذا ترقى الإنسان شيئاً ما فليحفظ "بلوغ المرام" وهو من أحسن ما ألف في الحديث؛ لأنه ذكر الحديث ويذكر مرتبته فيعطي الإنسان قوة وقدرة على معرفة مرتبة الحديث؛ لأن الحديث ليس كالقرآن، فالقرآن لا يحتاج إلى البحث في سنده؛ لأنه ثابت متواتر، أما السنة فلا يتم الاستدلال بها إلا بأمرين: الأول: صحة الحديث، الثاني: دلالة الحديث على الحكم المطلوب. ولهذا إذا قال لك إنسان هذا حرام والدليل قوله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فعليك أن تطالبه بصحة النقل؛ لأن هناك أحاديث ضعيفة، وأحاديث مكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم مثل:"حب الوطن من الإيمان" (1) .
* * *
115ـ وسئل فضيلته ـ وفقه الله تعالى ـ: هل يجوز لإنسان أن يجتهد في إفتاء بعض الناس إذا كان لا يوجد من يفتي أو لم يتيسر سؤال العلماء؟(131/162)
فأجاب فضيلته بقوله: إذا كان جاهلاً فكيف يجتهد؟ وعلى أي أساس ينبي اجتهاده؟! والواجب على من لا يعلم الحكم أن يتوقف، وإذا سئل يقول : لا علم عندي، فالملائكة لما قال الله ـ عز وجل ـ لهم)أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)(البقرة: من الآية31) (قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) (البقرة:32) أما كونه يقول إذا لم يجد عاماً يفتي أنا أفتي صواب أم خطأ فهذا خطأ ولا يجوز، فالجواب أن يقول للمستفتي: اسأل العلماء، والآن ولله الحمد الاتصالات سهلة يتصل عن طريق الهاتف أو البريد السريع أو البطيء.
* * *
116ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: يقع من بعض الناس ـ هداهم الله تعالى ـ التقليل من شأن العلماء بدعوى عدم فقه الواقع فما توجيه سماحتكم جزاكم الله خيراً ووفقكم لما يحبه ويرضاه؟(131/163)
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن فقه الواقع أمر مطلوب، وأن الإنسان لا ينبغي أن يكون في عزلة عما يقع حوله وفي بلده، بل لابد أن يفقه لكن لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يكون الاشتغال بفقه الواقع مشغلاً عن فقه الشريعة والدين الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:" من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين" (1) ، لم يقل يفقهه في الواقع، فإذا كان عند الإنسان علم بما يقع حوله لكنه قد صرف جهده وجل أمره إلى الفقه في دين الله، فهذا طيب، أما أن ينشغل بالواقع والتفقه فيه ـ كما زعم ـ والاستنتاجات التي يخالفها ما يقع فيما بعد؛ لأن كثيراً من المشتغلين بفقه الواقع يقدمون حسب ما تمليه عليهم مخيلتهم، ويقدرون أشياء يتبين أن الواقع بخلافها، فإذا كان فقه الواقع لا يشغله عن فقه الدين، فلا بأس به، لكن لا يعني ذلك أن نقلل من شأن علماء يشهد لهم بالخير وبالعلم وبالصلاح لكنهم يخفى عليهم بعض الواقع، فإن هذا غلط عظيم، فعلماء الشريعة أنفع للمجتمع من علماء فقه الواقع، ولهذا تجد بعض العلماء الذين عندهم اشتغال كثير في فقه الواقع وانشغال عن فقه الدين لو سألتهم عن أدنى مسألة في دين الله ـ عز وجل ـ لوقفوا حيارى أو تكلموا بلا علم، يتخبطون تخبطاً عشوائياً، والتقليل من شأن العلماء الراسخين في العلم المعروفين بالإيمان والعلم الراسخ جناية، ليس على هؤلاء العلماء بأشخاصهم، بل على ما يحملونه من شريعة الله تعالى، ومن المعلوم أنه إذا قلت هيبة العلماء وقلت قيمتهم في المجتمع فسوف يقل بالتبع الأخذ عنهم، وحينئذ تضيع الشريعة التي يحملونها أو بعضها، ويكون في هذا جناية عظيمة على الإسلام وعلى المسلمين أيضاً.
والذي أرى أنه ينبغي أن يكون عند الإنسان اجتهاد بالغ، ويصرف أكبر همه في الفقه في دين الله ـ عز وجل ـ حتى يكون ممن أراد الله بهم خيراً، وإلا ينسى نفسه من فقه الواقع، وأن يعرف ما حوله من الأمور التي يعملها أعداء الإسلام للإسلام.(131/164)
ومع ذلك أكرر أنه لا ينبغي للإنسان أن يصرف جل همه ووقته للبحث عن الواقع بل أهم شيء أن يفقه في دين الله ـ عز وجل ـ وأن يفقه من الواقع ما يحتاج إلى معرفته فقط وكما أشرت سابقاً في أول الجواب ـ أن من فقهاء الواقع من أخطأوا في ظنهم وتقديراتهم وصار المستقبل على خلاف ما ظنوا تماماً.
لكن هم يقدرون ثم يبنون الأحكام على ما يقدرونه فيحصل بذلك الخطأ، وأنا أكرر أنه لابد أن يكون الفقيه بدين الله عنده شيء من فقه أحوال الناس وواقعهم حتى يمكن أن يطبق الأحكام الشرعية على مقتضى ما فهم من أحوال الناس، ولهذا ذكر العلماء في باب القضاء: أن من صفات القاضي أن يكون عارفاً بأحوال الناس ومصطلحاتهم في كلامهم وأفعالهم.
* * *
117ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ: نحن طلبة نتلقى العلم، وندرس العقيدة على معلمين يدرسونا العقيدة الأشعرية، ويفسرون يد الله تعالى بقدرته أو نعمته واستواءه على عرشه بالاستيلاء عليه ونحو ذلك ، فما حكم الدراسة على هؤلاء المعلمين.(131/165)
فأجاب فضيلته بقوله: هؤلاء الذين يفسرون القرآن بهذا التفسير سواء سميناهم أشعرية أو غير هذا الاسم، لا شك أنهم أخطئوا طريقة السلف الصالح. فإن السلف الصالح لم يرد عنهم حرف واحد فيما ذهب إليه هؤلاء المتأولون، فليأتوا بحرف واحد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عن أبي بكر ، أو عمر ، أو عثمان، أو علي، أنهم أولوا اليد بالقدرة أو بالقوة أو أولوا الاستواء بالاستيلاء، أو أولوا الوجه بالثوب، أو أولوا المحبة بالثواب أو بغير الثواب، ليأتوا بحرف واحد عن هؤلاء أنهم فسروا هذه الآيات وأمثالها بما فسرَّ به هؤلاء، فإذا لم يأتوا فيقال:إما أن يكون السلف الصالح وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتقين عليه الصلاة والسلام إما أن يكونوا على جهل بمعاني هذه العقيدة العظيمة، وإما أن يكونوا على علم، ولكن كتموا الحق وكلا الأمرين لا يمكن أن يوصف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه الراشدين ولا من صحابته المرضيين، فإذا كان ذلك لا يمكن في هؤلاء وجب أن نسير على هديهم.(131/166)
وأن نصيحتي لهؤلاء أن يتقوا الله عز وجل، وأن يدعوا قول فلان وفلان وأن يرجعوا إلى كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين من بعده وأن يعلموا أن لهم مرجعاً يرجعون إلى الله تعالى فيه، ولا يمكن أن يكون لهم حجة فيما قال فلان وفلان، والله إنهم لن يغنوا عنهم من الله شيئاً، إن الله تعالى يقول)وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) (القصص:65) ولم يقل: ويوم يناديهم فيقول: ماذا أجبتم فلان وفلان وإن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه العظيم) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)(لأعراف: من الآية158). فأمر بالإيمان به واتباعه وإذا كان كذلك فهل يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً بالله ورسوله تمام الإيمان ثم يعدل عن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم في عقيدته بربه ويحرف ما وصف الله به نفسه في كتاب أو وصفه به رسوله الله صلى الله عليه وسلم لمجرد وهميات يدعونها عقليات.
إنني أنصحهم أن يرجعوا إلى الله ـ عز وجل ـ وأن يدعوا كل قول، لقول الله ورسوله فإنهم إن ماتوا على ذلك ماتوا على خير وحق وإن خالفوا ذلك فهم على خطر عظيم، ولن يغنوا عنهم من الله شيئاً، قال الله تعالى)يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (النحل:111)(131/167)
أكرر النصيحة لكل مؤمن أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فيما يعتقده بربه ومعبوده ـ جل وعلا ـ وفيما يعتقده في الخلفاء الراشدين المهديين من بعده، وفيما كان عليه أئمة المسلمين الذين قادوا الناس بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون التحكم إلى العقول التي هي وهميات في الحقيقة فيما يتعلق بالله تعالى وأسمائه وصفاته. ولقد أجاد شيخ الإسلام ابن تيمية حق الإجادة في قوله عن أهل الكلام:{إنهم أوتوا فهوماً ولم يؤتوا علوماً، وأتوا ذكاء ولم يؤتوا زكاء} فعلى الإنسان أن يوسع مداركه في العلوم المبنية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يزكي نفسه باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أسأل الله تعالى أن يتوفانا جميعاً على الإيمان، وأن نلقاه وهو راضٍ عنا إنه على كل شيء قدير، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وإني أدعوكم يا طلبة العلم أن تدعو إخوانكم إلى ما سمعتم، فإن والله هو الحق، ومن اطلع على حق سواه فإننا له قابلون وبه مستمسكون. أملاه محمد الصالح العثيمين.
* * *
118ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ جزاه الله خيراً ـ: كثيراً ما يشاع بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان أو المكان، مثل: المذياع في أول ظهوره حرمه البعض، فنرجو من سماحتكم بيان الحق في هذه المسألة؟ والله يحفظكم ويرعاكم.
فأجاب فضيلته بقوله: الفتوى في الحقيقة لا تتغير بتغير الزمان، ولا بتغير المكان، ولا بتغير الأشخاص.(131/168)
ولكن الحكم الشرعي إذا عُلِّق بعلة فإنه إذا وجدت فيه العلة ثبت الحكم الشرعي، وإذا لم توجد لم يثبت الحكم الشرعي، وقد يرى المفتي أن يمنع الناس من شيء أحله الله لهم لما يترتب على فعل الناس له من المحرم كما فعل عمر ـ رضي الله عنه ـ في الطلاق الثلاث حين رأى الناس تتايعوا فيها فألزمهم بها، وكان الطلاق الثلاث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة، فلما رأى عمر الناس تتايعوا في هذا ألزمهم بالثلاث ومنعهم من الرجوع إلى زوجاتهم (1).
وكذلك ما حصل في عقوبة شارب الخمر كانت العقوبة في عهد النبي عليه الصلاة والسلام وعهد أبي بكر لا تزيد على أربعين جلدة، ثم إن الناس كثر شربهم الخمر فاستشار عمر الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ فأشروا بأن يجعل العقوبة ثمانين جلدة (2).
فالأحكام الشرعية لا يمكن أن يتلاعب بها الناس كلما شاءوا حرموا وكلما شاءوا أوجبوا، وإنما يرجع إلى العلل الشرعية التي تقتضي الوجوب أو عدمه وأما بالنسبة للمذياع: فلم يقل أحد بتحريمه من علماء التحقيق، وإنما قال بتحريمه أناس جهلوا حقيقة الأمر، وإلا فإن العلماء المحققين، وأخص منهم شيخانا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ لم يروا أن هذا من المحرمات بل رأوا أن هذا من الأشياء التي علّمها الله ـ عز وجل ـ الخلق، وقد تكون نافعة، وقد تكون ضارة بحسب ما فيها، وكذلك مكبر الصوت ـ المكرفون ـ أيضاً أنكره بعض الناس أول ما ظهر لكن بدون تحقيق، وأما المحققون فلم ينكروه، بل رأوا أنه من نعمة الله عز وجل ـ أن يسر لهم ما يوصلوا خطبهم ومواعظهم إلى البعيدين.
* * *
119ـ وسئل فضيلة الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ: ما نصيحتكم لطلبة العلم حول دعوة الناس وتعليمهم العلم الشرعي؛ لأنه قد يوجد من بعضهم ـ هداهم الله تعالى ـ شيء من الغلظة والشدة في التعامل، نرجو التوجيه والإرشاد، سدد الله خطاكم ووفقكم لما يحبه ويرضاه؟(131/169)
فأجاب فضيلته بقوله: الذي تدل عليه السنة المطهرة، سنة النبي صلى الله عليه وسلم أن الواجب على الإنسان أن يدعوا إلى الله تعالى بالحكمة وباللين وبالتيسير فقد قال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم)ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(النحل: من الآية125)وقال الله تعالى له)فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران:159) وقال الله تعالى حين أرسل موسى وهارون إلى فرعون)فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) (طه:44)
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم "أن الله يعطي بالرفق ما لا يُعطى بالعنف" (1). وكان يقول إذا بعث بعثاً:"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين" (2).
وهكذا ينبغي على الداعية أن يكون ليناً طليق الوجه منشرح الصدر حتى يكون ذلك أدعى لقبول صاحبه الذي يدعوه إلى الله.
ويجب أن تكون دعوته إلى الله ـ عز وجل ـ لا إلى نفسه، ليحب الانتصار أو الانتقام ممن خالف السبيل؛ لأنه إذا دعا إلى الله وحده صار بذلك مخلصاً ويسر الله له الأمر وهدى على يديه من شاء من عباده ، لكن إذا كان يدعو لنفسه كأنه يريد أن ينتصر لها، وكأنه يشعر بأن هذا عدو له يريد أن ينتقم منه، فإن الدعوة ستكون ناقصة وربما تنزع بركتها.
فنصيحتي لإخواني طلبة العلم أن يشعروا هذا الشعور، أي أنهم يدعون الخلق رحمة بالخلق وتعظيماً لدين الله ـ عز وجل ـ ونصرة له.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وهدانا إلى صراطه المستقيم.
* * *
رسالة(131/170)
من محمد الصالح العثيمين إلى أخيه المكرم . . .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
جواباً لكتابكم ذي الرقم . . . والتاريخ 24ـ 25/9/1409هـ.
عليكم السلام ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله تعالى أن يحبك كما أحببتني فيه وأن يجعلنا جميعاً من دعاة الحق وأنصاره، ويوفقنا للصواب في الاعتقاد والقول والعمل.
ثم إن كتابكم المذكور تضمن ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم الرجوع فيما أفتيتم به أو حكمتم.
المسألة الثانية: إذا تبين لكم رجحان قول كنتم تفتون أو تحكمون بخلافه فهل يجوز لكم مستقبلاً أن تفتوا أو تحكموا بما تبين لكم رجحانه.
المسألة الثالثة: هل يجوز للإنسان في مسائل الخلاف أن يفتي لشخص بأحد القولين ولشخ آخر بالقول الثاني.
والجواب على هذه المسائل العظيمة بعون الله وتوفيقه أن نقول مستمدين من الله تعالى الهداية والصواب.
أما المسألة الأولى:
فمتى تبين للإنسان ضعف ما كان عليه من الرأي وأن الصواب في غيره وجب عليه الرجوع عن رأيه الأول إلى ما يراه صواباً بمقتضى الدليل الصحيح، وقد دل على وجوب الرجوع كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقول الخلفاء الراشدين وإجماع المسلمين وعمل الأئمة.(131/171)
أما كتاب الله تعالى: فمن أدلته قوله تعالى : )وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (الشورى:10) فمتى كان الحكم في مسائل الخلاف إلى الله وجب الرجوع فيها إلى ما دل عليه كتاب الله. وقال تعالى) فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)(النساء: من الآية59)وقال تعالى:( )وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) (النساء:115)
ومن سبيل المؤمنين الرجوع إلى ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
وأما السنة: فمن أدلتها قوله صلى الله عليه وسلم:"إنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين من بعدي" (1).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
وأما أقوال الخلفاء الراشدين: فمن أشهرها قول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في المشركة وهي زوج وأم وإخوة لأم وإخوة أشقاء حيث من الإخوة الأشقاء من الميراث لكونها عصبة، وقد استغرقت الفروض التركة ثم قضى بعد ذلك بتشريكهم مع الإخوة لأم، فقال له رجل: قد قضيت في هذا عام الأول بغير هذا، فقال: وكيف قضيت؟ قال: جعلته للإخوة للأم ولم تجعل للإخوة من الأب والأم شيئاً، قال عمر: ذلك على ما قضينا وهذا على ما نقضي. أخرجه ابن أبي شيبة11/253، وقال ـ رضي الله عنه ـ في كتابه لأبي موسى في القضاء: لا يمنعك قضاء قضيت فيه اليوم فراجعت فيه رأيك فهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن مراجعة الحق خير من التمادي في الباطل.(131/172)
وأما الإجماع: فقال الشافعي ـ رحمه الله ـ: أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس.
وأما عمل الأئمة: فها هو الإمام أحمد يقول القول ويقول بخلافه، فتارة يصرح بالرجوع كما صرح بالرجوع عن القول بوقوع طلاق السكران، وتارة يصرح أصحابه برجوعه عنه كما صرح الخلال برجوع الإمام عن قوله فيمن ابتدأ مسح خفيه مقيماً ثم سافر أنه يتم مسح مقيم إلى القول بأن يتم مسح مسافر، وتارة لا يصرح ولا يصرح عنه برجوع فيكون له في المسألة قولان.
والمهم أنه متى تبين للإنسان ضعف رأيه الأول وجب عليه الرجوع عنه ولكن يسوغ له نقض حكمه الأول ولا يلزمه إخبار المستفتي بالرجوع؛ لأن كلا من الرأيين الأول والثاني صادر عن اجتهاد، والاجتهاد لا ينقض بمثله وظهور خطأ اجتهاده الأول لا يمنع احتمال خطئه في الثاني، فقد يكون الاجتهاد الأول هو الصواب في الواقع، وإن ظهر له خلافه؛ لأن الإنسان غير معصوم في اجتهاده لا الثاني ولا الأول.
وأما المسألة الثانية:
فجوابها يعلم من جواب المسألة الأولى وهو أنه يجب على الإنسان الرجوع إلى ما تبين له أنه الصواب، وإن كان يفتي أو يحكم بخلافه سابقاً.
وأما المسألة الثالثة:(131/173)
فإن كان في المسألة نص، كان الناس فيها سواء، ولا يفرق فيها بين شخص وآخر، وأما المسائل الاجتهادية فإنها مبنية على الاجتهاد، وإن كان الاجتهاد فيها في الحكم كذلك في محله، ولهذا لما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه أن الناس كثر شربهم الخمر زادهم في عقوبتها ولما رآهم تتايعوا في الطلاق الثلاث أمضاه عليهم، ولهذا ما يؤيده من كلام الله تعالى وما جاءت به السنة ففي كتاب الله تعالى يقول جل ذكره:( )وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) (الأنعام:146) فعاملهم الله بما تقتضيه حالهم وحرم عليهم هذه الطيبات ببغيهم وظلمهم:( )فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً) (النساء:160) .وفي السنة جاء قتل شارب الخمر في الرابعة إذا تكررت عقوبته ثلاثاً ولم يقلع، مع أن عقوبة شارب الخمر في الأصل لا تبلغ القتل.
فإذا كانت حال المستفتي أو المحكوم عليه تقتضي أن يعامل معاملة خاصة عومل بمقتضاه ما لم يخالف النص.
وكذلك إذا كان الأمر قد وقع وكان في إفتائه بأحد القولين مشقة وأفتى بالقول الثاني فلا حرج مثل أن يطوف في الحج أو العمرة بغير وضوء ويشق عليه إعادة الطواف لكونه نزح عن مكة أو لغير ذلك فيفتي بصحة الطواف بناء على القول بعدم اشتراط الوضوء فيه. وكان شيخنا عبد الرحمن بن سعدي ـ رحمه الله ـ يفعل ذلك أحياناً ويقول لي: هناك فرق بين من فعل ومن سيفعل وبين ما وقع وما لم يقع.(131/174)
وفي مقدمات(المجموع) للنووي ـ رحمه الله ـ 1/88 ط المكتبة العالمية: قال الصيمري: إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامل بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره وله فيه تأويل جاز ذلك زجراً له كما روى عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أنه سئل عن توبة القاتل فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول فرأيت في عينه إرادة القتل فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكيناً قد قتل فلم أقنطه.
وهذا الذي ذكرناه لا يكون مطرداً في كل صورة فلو أراد قاض أو مفت أن يأخذ في ميراث الإخوة مع الجد بقول من يرى توريثهم إذا رأى أنهم فقراء وأن التركة كثيرة وبقول من لا يرى توريثهم إذا كان المال قليلاً وهم أغنياء لم يكن ذلك سائغاً؛ لأن في هذا إسقاط لحق الغير لمصلحة الآخرين بلا موجب شرعي.
هذا والله أسال أن يلهمنا جميعاً الصواب في القول والعمل والاعتقاد
الفصل الثالث
فوائد متنوعة في العلم
الفائدة الأولى
لابد لطالب العلم من مراعاة عدة أمور عند طلبه لأي علم من العلوم:
أولاً: حفظ متن مختصر فيه.
فإذا كنت تطلب النحو، فإن كنت مبتدئاً فلا أرى أحسن من متن الاجرومية؛ لأنه واضح وجامع وحاصر وفيه بركة، ثم متن ألفة ابن مالك؛ لأنها خلاصة علم النحو كما قال هو نفسه:
أحصى من الكفاية الخلاصة كما اقتصي غنى بلا خصاصة
وأما في الفقه فمتن زاد المستنقع، لأنه كتاب مخدوم بالشروح والحواشي والتدريس، وإن كان بعض المتون الأخرى أحسن منه من وجه، لكن هو أحسن من حيث كثرة المسائل الموجودة فيه، ومن حيث إنه مخدوم.
وأما في الحديث فمتن عمدة الأحكام، وإن ترقيت فبلوغ المرام، وإن كنت تقول إما هذا أو هذا، فبلوغ المرام أحسن؛ لأنه أكثر جمعاً للأحاديث، ولأن الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله بين درجة الحديث.(131/175)
وأما في التوحيد فمن أحسن ما قرأنا متن كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، وأما في توحيد الأسماء والصفات فمن أحسن ما قرأت العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فهو كتاب جامع مبارك مفيد، وهلم جرا، خذ من كل فن تطلبه متناً مختصراً فيه واحفظه.
ثانياً: ضبطه وشرحه على شيخ متقن وتحقيق ألفاظه وما كان زائداً أو ناقصاً.
ثلاثاً: عدم الاشتغال بالمطولات، وهذه الفقرة مهمة لطالب العلم، فلابد لطالب العلم أن يتقن المختصرات أولاً حتى ترسخ العلوم في ذهنه ثم يُفيض إلى المطولات، لكن بعض الطلبة قد يغرب فيطالع المطولات ثم إذا جلس مجلساً قال: قال صحاب المغني، قال صاحب المجموع، قال صاحب الإنصاف، قال صاحب الحاوي، ليظهر أنه واسع الاطلاع، وهذا خطأ نحن نقول: ابدأ بالمختصرات حتى ترسخ العلوم في ذهنك، ثم إذا منَّ الله عليك، فاشتغل بالمطولات، وقياس ذلك بالأمر المحسوس أن ينزل مَنْ لم يتعلم السباحة إلى بحر عميق فإنه لا يستطيع أن يتخلص فضلاً عن أن يتقن.
رابعاً: لا تنتقل من مختصر إلى آخر بلا موجب فهذا من باب الضجر، وهذه آفة تقطع على الطالب طلبه وتضيع عليه أوقاته، فإذا كان كل يوم له كتاب يقرأ فيه، فهذا خطأ في منهج طالب العلم، فإذا قررت كتاباً من تب العلم فاستمر فيه، ولا تقول أقرأ كتاباً أو فصلاً من هذا الكتاب ثم أنتقل للآخر، فإن هذا مضيعة للوقت.
خامساً: اقتناص الفوائد والضوابط العلمية، فهناك فوائد التي لا تكاد تطرأ على الذهن، أو يندر ذكرها والتعرض لها، أو تكون مستجدة تحتاج إلى بيان الحكم فيها، فهذه اقتناصها، وقيدها بالكتابة، ولا تقول هذه معلومة عندي، ولا حاجة أن أقيدها، لأنها سرعان ما تُنسى، وكم من فائدة تمر بالإنسان فيقول هذه سهلة ما تحتاج إلى قيد، ثم بعد فترة وجيزة يتذكرها ولا يجدها.(131/176)
لذلك احرص على اقتناص الفوائد التي يندر وقوعها أو يتجدد وقوعها، ومن أحسن ما ألف في هذا الموضوع كتاب العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ"بدائع الفوائد" فقد جمع فيه من بدائع العلوم، ما لا تكاد تجده في كتاب آخر، فهو جامع في كل فن، كلما طرأ على باله مسألة أو سمع فائدة قيدها، ولهذا تجد فيه من علم العقائد ، والفقه، والحديث، والتفسير، والنحو، والبلاغة وغيرها.
وأيضاً أحرص على الاهتمام بالضوابط.
ومن الضوابط: ما يذكره العلماء تعليلاً للأحكام، فإن كل التعليلات للأحكام الفقهية تعتبر ضوابط؛ لأنها تبنى عليها الأحكام، فهذه احتفظ بها، وسمعت أن بعض الإخوان يتتبع هذا الضوابط في الروض المربع ويحررها، وقلت من الأحسن أن يقوم بهذه طائفة، تتبع الروض المربع من أوله إلى آخره كلما ذكر علة تُقيد ، لأن كل علة يبنى عليها مسائل كثيرة، إذ أن العلم له ضابط، فكل ضابط يدخل تحته جزئيات كثيرة.
فمثلاً إذا شك في طهارة ماء أو بنجاسته فإنه يبني على اليقين،فهذه العلة تعتبر حكماً وتعتبر ضابطاً.
أيضاً يعلل بأن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فإذا شك في نجاسة طاهر فهو طاهر، أو في طهارة نجسر فهو نجس؛ لأن الأصل بقاء ما كان على ما كان.
فإذا حرص طالب العلم ودوّن كلما مر عليه من هذه التعليلات وحررها وضبطها ثم حاول في المستقبل أن يبني عليها مسائل جزئية لكان في هذا فائدة كبيرة له ولغيره.
سادساً: جمع النفس للطلب، فلا يشتتها يميناً ويساراً، اجمع النفس على الطلب مادمت مقتنعاً بأ هذا منهجك وسبيلك، وأيضاً اجمع نفسك على الترقي فيه لا تبقى ساكناً. فكِّر فيما وصل إليه علمك من المسائل والدلائل حتى تترقى شيئاً فشيئاً، واستعن بمن تثق به من زملائك وإخوانك فيما إذا احتاجت المسألة إلى استعانة، ولا تستحي أن تقول يا فلان ساعدني على تحقيق هذه المسألة بمراجعة الكتب، الحياء لا ينال العلم به أحد، فلا ينال العلم مستحيي ولا مستكبر.
الفائدة الثانية(131/177)
مما ينبغي لطالب العلم مراعاته تلقي العلم عن الأشياخ؛ لأنه يستفيد بذلك فوائد عدة:
1ـ اختصار الطريق، فبدلاً من أن يذهب يقلب في بطون الكتب وينظر ما هو القول الراجح وما سبب رجحانه، وما هو القول الضعيف وما سبب ضعفه، بدلاً من ذلك كله، يمد إليه المعلم ذلك بطريق سهل ويعرض له خلاف أهل العلم في المسائل على قولين أو
أو ثلاثة مع بيان الراجح، والدليل كذا، وهذا لا شك أنه نافع لطالب العلم.
2ـ السرعة في الإدراك، فطالب العلم إذا كان يقرأ على عالم فإنه يدرك بسرعة أكثر مما رو ذهب يقرأ في الكتب؛ لأنه إذا قرأ في الكتب تمر عليه العبارات المشكلة والغامضة فيحتاج إلى التدبر وتكرار العبارة مما يأخذ منه الوقت والجهد، وربما فهمها على وجه خطأ وعمل بها.
3ـ الربط بين طلاب العلم والعلماء الربانيين، لذلك القراءة على العلماء أجدى وأفضل من قراءة الإنسان لنفسه.
الفائدة الثالثة
إذا دعت الحاجة للسؤال فليحسن طالب العلم السؤال، أما إذا لم تدع الحاجة فلا يسأل، لأنه لا ينبغي للإنسان أن يسأل إلا إذا احتاج هو أو ظن أن غيره يحتاج إلى السؤال، فقد يكون مثلاً في درس، وهو فاهم الدرس ولكن فيه مسائل صعبة تحتاج إلى بيانها لبقية الطلبة فليسأل من أجل حاجة غيره، والسائل لحاجة غيره كالمعلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه جبريل وسأله عن الإيمان، والإحسان، والإسلام، والساعة وأشراطها، قال:" هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم" (1)، فإذا كان الباعث على السؤال حاجة السائل فسؤاله وجيه، أو حاجة غيره وسأل ليعلم غيره فهذا أيضاً وجيه وطيب، أما إذا سأل ليقول الناس: ما شاء الله فلان عنده حرص على العلم، كثير السؤال، فهذا غلط، وعلى العكس من ذلك من يقول: لا أسأل حياءً، فالثاني مُفْرِط، وخير الأمور الوسط.
كذلك ينبغي أن يكون عند طالب العلم حسن الاستماع لجواب العالم، وصحة الفهم للجواب، فبعض الطلبة إذا سأل وأجيب تجده يستحي أن يقول ما فهمت.(131/178)
والذي ينبغي لطالب العلم إذا لم يفهم أن يقول ما فهمت لكن بأدب وتوقير للعالم.
الفائدة الرابعة
الحفظ ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: غريزي: يهبه الله تعالى لمن يشاء، فتجد الإنسان تمر عليه المسألة والبحث فيحفظه ولا ينساه.
والقسم الثاني: كسبي: بمعنى أن يمرن الإنسان نفسه على الحفظ، ويتذكر ما حفظ فإذا عود نفسه تذكر ما حفظ سهل عليه حفظه.
الفائدة الخامسة
المجادلة والمناظرة نوعان:
النوع الأول: مجادلة مماراة: يماري بذلك السفهاء ويجاري العلماء ويريد أن ينتصر قوله فهذه مذمومة.
النوع الثاني: مجادلة لإثبات الحق وإن كان عليه فهذه محمودة مأمور بها، وعلامة ذلك ـ أي المجادلة الحقة ـ أن الإنسان إذا بان له الحق اقتنع وأعلن الرجوع، أما المجادل الذي يريد الانتصار لنفسه فتجده لو بان أن الحق مع خصمه، يورد إيرادات يقول: لو قال قائل، ثم إذا أجيب قال: لو قال قائل، ثم إذا أجيب قال: لو قال قائل، ثم تكون سلسلة لا منتهى له، ومثر هذا عليه خطر ألا يقبل قلبه الحق، لا بالنسبة للمجادلة مع الآخر ولكن في خلوته، وربما يورد الشيطان عليه هذه الإيرادات فيبقى في شك وحيرة، كما قال الله تبارك وتعالى)وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام:110) وقال الله تعالى) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ)(المائدة: من الآية49). فعليك يا أخي بقبول الحق سواء مع مجادلة غيرك أو مع نفسك، فمتى تبين لك الحق فقل: سمعنا وأطعنا، وآمنا وصدقنا.
ولهذا تجد الصحابة يقبلون ما حكم به الرسول عليه الصلاة والسلام أو ما أخبر به دون أن يوردوا عليه الاعتراضات.(131/179)
فالحاصل أن المجادلة إذا كان المقصود بها إثبات الحق وإبطال الباطل فهي خير، وتعودها وتعلمها خير لا سيما في وقتنا هذا، فإنه كثُرَفيه الجدال والمراء، حتى أن الشيء يكون ثابتاً وظاهراً في القرآن والسنة يم يورد عليه أشكالات.
وهنا مسألة : وهي أن بعض الناس يتحرج من المجادلة حتى وإن كانت حقاً استدلالاً بحديث:"وأنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً" (1) فيترك هذا الفعل.
فالجواب: من ترك المراء في دين الله فليس بمحق إطلاقاً؛ لأن هذا هزيمة للحق، لكن قد يكون محقًّا إذا كان تخاصمه هو وصاحبه في شيء ليس له علاقة بالدين أصلاً، قال: رأيت فلاناً في السوق، ويقول الآخر: بل رأيته في المسجد، ويحصل بينهما جدال وخصام فهذه هي المجادلة المذكورة في الحديث، أما من ترك المجادلة في نصرة الحق فليس بمحق إطلاقاً فلا يدخل في الحديث
الفائدة السادسة
من الأمور التي ينبغي لطالب العلم أن يهتم بها المذاكرة، والمذاكرة نوعان:
النوع الأول: مذاكرة مع النفس، بأن تجلس مثلاً جلسة وحدك ثم تعرض مسألة من المسائل أو مسألة قد مرت عليك، ثم تأخذ في محاولة عرض الأقوال وترجيح ما قيل في هذه المسألة بعضها على بعض، وهذه سهلة على طالب العلم، وتساعد على مسألة المناظرة السابقة.
النوع الثاني: مذاكرة مع الغير، بأن يختار من إخوانه الطلبة من يكون عوناً له على طلب العلم، مفيداً له، فيجلس مع ويتذاكرون، يقرأ مثلاً ما حفظاه، كل واحد يقرأ على الآخر قليلاً، أو يتذاكران في مسألة من المسائل بالمراجعة أو بالمفاهمة إن قدرا على ذلك فإن هذا مما ينمي العلم ويزيده، لكن إياك والشغب والصلف؛ لأن هذا لا يفيد.
الفائدة السابعة
كراهية التزكية والمدح والتكبر على الخلق:(131/180)
وهذه يبتلي بها بعض الناس فيزكي نفسه، ويرى أن ما قاله هو الصواب وأن غيره إذا خالفه فهو مخطئ وما أشبه ذلك، كذلك حب المدح تجده يسأل عما يقال عنه فإذا وجد أنهم مدحوه انتفخ وزاد انتفاخه حتى يعجز جلده عن تحمل بدنه، كذلك التكبر على الخلق، بعض الناس ـ والعياذ بالله ـ إذا آتاه الله علماً تكبر، الغني بالمال ربما يتكبر ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم:" العائل المستكبر من الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولا ينظر إليهم، ولهم عذاب أليم" (1)، لأنه ليس عنده مال يوجب الكبرياء، لكن العالم لا ينبغي أن يكون كالغني كلما ازداد علماً ازداد تكبراً، بل ينبغي العكس كلما ازداد علماً ازداد تواضعاً؛ لأن من العلوم التي يقرأها أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقه كلها تواضع للحق وتواضع للخلق، لكن على كل حال إذا تعارض التواضع للحق مع التواضع للخلق أيهما يقدم؟
يقدم التواضع للحق، فمثلاً لو كان هناك إنسان يسب الحق ويفرح بمعاداة من يعمل به، فنا لا تتواضع له، تواضع للحق، وجادل هذا الرجل حتى وإن أهانك أو تكلم فيك فلا تهتم به، فلابد من نصرة الحق.
الفائدة الثامنة
زكاة العلم تكون بأمور:
الأمر الأول : نشر العلم: نشر العلم من زكاته، فكما يتصدق الإنسان بشيء من ماله، فهذا العالم يتصدق بشيء من علمه، وصدقة العلم أبقى دوماً وأقل كلفة ومؤنة، أبقى دوماً؛ لأنه ربما كلمة من عالم تُسمع ينتفع بها أجيال من الناس ومازلنا الآن ننتفع بأحاديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ ولم ننتفع بدرهم واحد من الخلفاء الذين كانوا في عهده، وكذلك العلماء ننتفع بكتبهم ومعهم زكاة وأي زكاة، وهذه الزكاة لا تنقص العلم بل تزيده كما قيل:
يزيده بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفًّا شددت(131/181)
الأمر الثاني: العمل به: لأنه العمل به دعوة إليه بلا شك، وكثير من الناس يتأسون بالعالم، بأخلاقه وأعماله أكثر مما يتأسون بأقواله، وهذا لا شك زكاة.
الأمر الثالث: الصدع بالحق: وهذا من جملة نشر العلم ولكن النشر قد يكون في حال السلامة وحال الأمن على النفس وقد يكون في حال الخوف على النفس، فيكون صدَّعاً بالحق.
الأمر الرابع: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا شك أن هذا من زكاة العلم، لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر عارف للمعروف وعارف للمنكر ثم قائم بما يجب عليه من هذه المعرفة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
الفائدة التاسعة
موقف طالب العلم من وَهْمِ وخطأ العلماء:
هذا الموقف له جهتان:
الأولى: تصحيح الخطأ: وهذا أمر واجب، يجب على من عثر على وهم إنسان ولو كان من أكبر العلماء أن ينبه على هذا الوهم وعلى هذا الخطأ لأن بيان الحق أمر واجب وبالسكوت يمكن أن يضيع الحق لاحترام من قال بالباطل؛ لأن احترام الحق أولى بالمراعاة.
لكن هل يصرح بقائل الوهم أو الخطأ؟ أو يقول توهم بعض الناس فقال كذا وكذا؟
الجواب: ينظر لما تقتضيه المصلحة، قد يكون من المصلحة ألا يصرح، كما لو كان يتكلم عن عالم مشهور في عصره موثوق عند الناس، محبوب إليهم، يقول: قال فلان: كذا، وكذا وهذا خطأن فإن العامة لا يقبلون كلامه بل يسخرون منه ولا يقبلون الحق، ففي هذه الحالة ينبغي أن يقول: من الخطأ أن يقول القائل كذا وكذا، ولا يذكر اسمه، وقد يكون هذا الرجل الذي توهم متبوعاً، يتبعه شرذمة من الناس وليس له قدر في المجتمع فحينئذ يصرح لئلا يغتر الناس به، فيقول: قال فلان كذا وكذا وهو خطأز(131/182)
الثانية: أن يقصد بذلك بيان معايبه لا بيان الحق من الباطل، وهذه تقع من إنسان حاسد ـ والعياذ بالله ـ يتمنى أن يجد قولاً ضعيفاً أو خطأ لشخص ما فينشره بين الناس، ولهذا نجد أهل البدع يتكلمون في شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وينظرون إلى أقرب شيء يمكن أن يقدح به فينشرونه ويعيبونه، مثلاً يقولون خالفت الإجماع في أن الطلاق الثلاث واحدة فيقولون هذا شاذ، ومن شذ في النار، وأمثال هذا كثير.
المهم أن يكون قصدك من البيان إظهار الحق ومن كان قصده الحق وُفق لقبوله، أما من كان قصده أن يظهر عيوب الناس فإن من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف بيته، فإذا عثرت على وهم عالم، حاول أن تدفع اللوم عنه وأن تذب عنه، لا سيما إذا كان من العلماء المشهود لهم بالعدالة والخير ونصح الأمة.
الفائدة العاشرة
في المقصود ببركة العلم:
قبل بيان المقصود بالبركة في العلم لابد أن نعرف البركة فهي كما يقول العلماء"الخير الكثير الثابت" ويعيدون ذلك إلى اشتقاق هذه الكلمة فإنها ن البركة وهي مجمع الماء، والبركة التي هي مجمع الماء مكان واسع، ماؤه كثير ثابت، فالبركة هي الخيرات الكثيرة الثابتة، من كل شيء من المال والولد ومن العلم؟ وكل شيء أعطاه الله ـ عز وجل ـ لك تسأل الله سبحانه البركة فيه؛ لأن الله ـ عز وجل ـ إذا لم يبارك لك فيما أعطاك حرمت خيراً كثيراً.(131/183)
ما أكثر الناس الذين عندهم المال الكثير وهم في عداد الفقراء لماذا؟ لأنهم لا ينتفعون بما لهم، تجد عندهم من الأموال ما لا يحصى، لكن يقصر على أهله في النفقة، وعلى نفسه ولا ينتفع بماله، والغالب أن من كانت هذه حاله وبخل بما يجب عليه، أن يسلط الله على أمواله آفات تذهبها، كثير من الناس عنده أولاد لكن أولاده لم ينفعوه، عندهم عقوق واستكبار على الأب، حتى أنه ـ أي الولد ـ يجلس إلى صديقه الساعات الطويلة يتحدث إليه ويأنس به ويفضي إليه أسراره ـ لكنه إذا جلس عند أبيه، فإذا هو كالطير المحبوس في القفص ـ والعياذ بالله ـ لا يأنس بأبيه، ولا يتحدث إليه، ولا يفضي إليه بشيء من أسراره، ويستثقل حتى رؤية والده: فهؤلاء لم يبارك لهم في أولادهم.
أما البركة في العلم فتجد بعض الناس قد أعطاه الله علماً كثيراً لكنه بمنزلة الأمي فلا يظهر أثر العلم عليه في عباداته، ولا في أخلاقه ولا في سلوكه، ولا في معاملاته مع الناس، بل قد يكسبه العلم استكباراً على عباد الله وعلوًّا عليهم واحتقاراً لهم، وما علم هذا أن الذي منَّ عليه بالعلم هو الله، وإن الله لو شاء لكان مثل هؤلاء الجهال.
تجده قد أعطاه الله علماً، ولكن لم ينتفع الناس بعلمه. لا بتدريس ولا بتوجيه، ولا بتأليف، بل هو منحصر على نفسه، لم يبارك الله له في العلم، وهذا بلا شك حرمان عظيم، مع أن العلم من أبرك ما يعطيه الله العبد؛ لأن العلم إذا علمته غيرك، ونشرته بين الأمة، أجرت على ذلك من عدة وجوه:
أولاً: أن في نشرك العلم نشراً لدين الله ـ عز وجل ـ فتكون من المجاهدين، فالمجاهد في سبيل الله يفتح البلاد بلداً بلداً حتى ينشر فيها الدين، وأنت تفتح القلوب بالعلم حتى تنشر فيها شريعة الله ـ عز وجل ـ .(131/184)
ثانياً: من بركة نشر العلم وتعليمه، أن فيه حفظاً لشريعة الله وحماية لها؛ لأنه لولا العلم لم تحفظ الشريعة، فالشريعة لا تحفظ إلا برجالها رجال العلم، ولا يمكن حماية الشريعة إلا برجال العلم، فإذا نشرت العلم، وانتفع الناس بعلمك، حصل في هذا حماية لشريعة الله، وحفظ لها.
ثالثاً: فيه أنك تُحسن إلى هذا الذي علمته؛ لأنك تبصره بدين الله ـ عز وجل ـ فإذا عبد الله على بصيرة؛ كان لك من الأجر مثل أجره؛ لأنك أنت الذي دللته على الخير، والدال على الخير كفاعل الخير، فالعلم في نشره خير وبركة لناشره ولمن نُشر إليه.
رابعاً: أن في نشر العلم وتعليمه زيادة له، علم العالم يزيد إذا علم الناس؛ لأنه استذكار لما حفظ، وانفتاح لما لم يحفظ، وما أكثر ما يستفيد العالم من طلبة العلم، فطلابه الذين عنده أحياناً يأتون له بمعان ليست له على بال، ويستفيد منهم وهو يعلمهم، وهذا شيء مشاهد.
ولهذا ينبغي للمعلم إذا استفاد من الطالب، وفتح له الطالب شيئاً من أبواب العلم ـ ينبغي له أن يشجع الطالب ، وأن يشكره على ذكل ، خلافاً لما يظنه بعض الناس أن الطالب إذا فتح عليه، وبين له شيئاً كان خفيًّا عليه، تضايق المعلم، يقول هذا صبي يعلم شيخاً فيتضايق، ويتحاشى بعد ذلك أن يتناقش معه، خوفاً من أن يطلعه على أمر قد خفى عليه، وهذا من قصور علمه بل من قصور عقله.
لأنه إذا منَّ الله عليك بطلبة يذكرونك ما نسيت ويفتحون عليك ما جهلت، فهذا من نعمة الله عليك، فهذا من فوائد نشر العلم أنه يزيد إذا علمت العلم كما قال القائل مقارناً بين المال والعلم يقول في العلم:
يزيد بكثرة الإنفاق منه وينقص إن به كفًّا شددت
إذا شددت به كفًّا، وأمسكته نقص، أي تنساه، ولكن إذا نشرته يزداد.
وينبغي للإنسان عند نشر العلم أن يكون حكيماً في التعليم، بحيث يلقي على الطلبة المسائل التي تحتملها عقولهم فلا يأتي إليهم بالمعضلات، بل يربيهم بالعلم شيئاً فشيئاً.(131/185)
ولهذا قال بضعهم في تعريف العالم الرباني: العالم الرباني هو: الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره.
ونحن نعْلَمُ جميعاً أن البناء ليس يؤتي به جميعاً حتى يوضع على الأرض، فيصبح قصراً مشيداً بل يبنى لبنة لبنة، حتى يكتمل البناء، فينبغي للمعلم أن يراعي أذهان الطلبة بحيث يلقي إليهم ما يمكن لعقولهم أن تدركه، ولهذا يؤمر العلماء أن يحدثوا الناس بما يعرفون.
قال ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: إنك لن تحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
كذلك أيضاً ينبغي لمعلم أن يعتني بالأصول والقواعد؛ لأن الأصول والقواعد هي التي يبنى عليها العلم.
وقد قال العلماء: من حُرم الأصول حُرم الوصول، أي لا يصل إلى الغاية إذا حرم الأصول، فنبغي أن يلقي على الطلبة القواعد والأصول التي تتفرع عليها المسائل الجزئية؛ لأن الذي يتعلم على المسائل الجزئية لا يستطيع أن يهتدي إذا أتته معضلة فيعرف حكمها؛ لأنه ليس عنده أصل.
* * *
كتاب العلم
رسائل مختارة
محمد بن صالح العثيمين
رسائل مختارة
الرسالة الأولى
حسن الخلق وأهميته لطالب العلم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيراً ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ووفق الله من شاء من عباده فاستجاب لدعوته، واهتدى بهديه، وخذل الله بحكمته من شاء من عباده فاستكبر عن طاعته، وكذب خبره، وعاند أمره، فباء بالخسران والضلال البعيد.
أيها الأخوة، يطيب لي أن أتحدث إليكم عن الخلق الحسن، والخلق كما يقول أهل العلم هو: صورة الإنسان الباطنة؛ لأن للإنسان صورتين:(131/186)
صورة ظاهرة، وهي خلقته التي جعل الله البدن عليه. وكما نعلم جميعاً أن هذه الصورة الظاهرة منها ما هو جميل حسن، ومنها ما هو قبيح سيئ، ومنها ما بين ذلك.
وصورة باطنة، منها صورة حسنة ومنها صورة سيئة، ومنها ما بين ذلك. وهذا ما يعبر عنه بالخلق.
فالخُلُق إذن هو:
"الصورة الباطنة التي طُبعَ الإنسان عليها"، وكما يكون الخُلُق طبيعة فإنه يكون كسباً. بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعاً على الخُلُق الحسن الجميل قد يحصل على الخُلُق الحسن الجميل عن طريق الكسب والمرونة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس:"إن فيك خصلتين يحبهما الله، الحلم والأناة. قال يا رسول الله أهما خُلُقان تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ قال: بل جبلك الله عليهما"(1) .
فهذا دليل على أن الأخلاق الفاضلة تكون طبعاً وتكون تطبعاً، ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع؛ لأن الخلق إذا كان طبيعيًّا صار سجية للإنسان وطبيعة له لا يحتاج في ممارسته إلا تكلف، ولا يحتاج في ممارسته إلى تصنع، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء. ومن حُرم هذا أي من حرم الخلق على سبيل الطبع فإنه يمكنه أن يناله على سبيل التطبع، وذلك بالمرونة والممارسة كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
وكثير من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق لا يكون إلا في معاملة الخلق، دون معاملة الخالق. ولكن هذا الفهم قاصر فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون فيم معاملة الخالق.
فموضوع حسن الخلق إذن معاملة الخالق ـ جل وعلا ـ، ومعاملة الخلق أيضاً.
فما هو حسن الخلق في معاملة الخالق؟
حسن الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاث أمور:
1ـ تلقي أخبار الله تعالى بالتصديق.
2ـ وتلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق.
3ـ وتلقي أقداره بالصبر والرضا.
فهذه ثلاث أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله ـ عز وجل
أولاً: تلقي أخباره بالتصديق:(131/187)
بحيث لا يقع عند الإنسان شك أو تردد في تصديق خبر الله تعالى، لأن خبر الله ـ سبحانه وتعالى ـ صادر عن علم وهو أصدق القائلين كما قال تعالى عن نفسه:( ومن أصدق من الله حديثا) النساء، الآية:87.
ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان واثقاً بها مدافعاً عنها مجاهداً بها، بحيث لا يدخله شك، أو تشكيك في أخبار الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، وإذا تخلق بهذا الخلق أمكنه أن يدفع كل شبهة يوردها المغرضون على أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم، سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه أم كانوا ن غير المسلمين الذين يلقون الشبهة في قلوب المسلمين، ولنضرب لذلك مثلاً: ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم لينزعه، فإن فإحدى جناحيه داء والأخرى شفاء"(1) .
هذا خبر رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم في أمور الغيب لا ينطق بما أوحى الله إليه؛ لأنه بشر والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له:(قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن اتبع إلا ما يوحي إلي). الأنعام، الآية:50. هذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن الخلق وحسن الخلق نحو هذا الخبر أن نتلقى هذا الخبر بالقبول، وأن نجزم بأن ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث فهو حق وصدق وإن اعترض عليه من يعترض. ونعلم علم اليقين أن ما خالف ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه باطل؛ لأن الله تعالى يقول:( )فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (يونس:32)
ومثال آخر:(131/188)
من أخبار يوم القيامة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل (1)، سواء كان ميل المكحلة أو ميل المسافة،هذه المسافة بين الشمس ورؤوس الخلائق قليلة، ومع ذلك فإن الناس لا يحترقون بحرّها مع أن الشمس لو تدنو الآن في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الدنيا، فقد يقول قائل كيف تدنو من رؤوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة ثم يبقى الناس؟ فما هو حسن الخلق نحو هذا الحديث؟ حسن الخلق نحو هذا الحديث أن نقبله ونصدق به، وأن لا يكون في صدورنا حرج منه، ولا ضيق، ولا تردد، وأن نعلم أن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا فهو حق، ولا يمكن أن نقيس أحوال الآخرة على أحوال الدنيا لوجود الفارق العظيم. فإذا كان كذلك فإن المؤمن يقبل مثل هذا الخبر بانشراح وطمأنينة ويتسع فهمه له.
ثانياً: تلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق: إن حسن الخلق في معاملة الله بالنسبة للأحكام أن يتلقاها الإنسان بالقبول والتنفيذ والتطبيق فلا يرد شيئاً من أحكام الله، فإذا ردّ شيئاً من أحكام الله، فهذا سوء خلق مع الله سواء ردها منكراً حكمها، أو ردها مستكبراً عن العمل بها، أو ردها متهاوناً بالعمل بها، فإن ذلك مناف لحسن الخلق مع الله ـ عز وجل ـ.
ولنضرب لذلك مثلاً، الصوم لا شك أنه شاق على الإنسان؛ لأن الإنسان يترك فيه المألوف من طعام وشراب ونكاح، وهذا أمر شاق، ولكن المؤمن حسن الخلق مع ربه ـ عز وجل ـ يقبل هذا التكليف بانشراح صدر وطمأنينة، وتتسع له نفسه فتجده يصوم الأيام الحارة الطويلة وهو بذلك راضٍ منشرح الصدر؛ لأنه يحسن الخلق مع ربه. أما سيئ الخُلُق مع الله فيقابل مثل هذه العبادة بالضجر والكراهية ولولا أنه يخشى من أمر لا تحمد عقباه لكان لا يلتزم بالصيام.
ومثال آخر:(131/189)
الصلاة لا شك أنها ثقيلة على بعض الناس، وهي ثقيلة على المنافقين، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:"أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر" (1)، لكن الصلاة بالنسبة للمؤمن قرة عينه وراحة نفسه، قال الله تعالى)وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) (البقرة:45) )الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة:46 على هؤلاء غير كبيرة بل إنها سهلة يسيرة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"جعلت قرة عيني في الصلاة" (2) .
فحسن الخلق مع الله ـ عز وجل ـ بالنسبة للصلاة، أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن وعيناك قريرتان، تفرح إذا كنت متلبساً بها وتنتظرها إذا أقبل وقتها، فإذا صليت الفجر كنت في شوق إلى صلاة الظهر، وإذا صليت الظهر كنت في شوق إلى صلاة العصر، وإذا صليت العصر كنت في شوق إلى صلاة المغرب، وإذا صليت المغرب كنت في شوق إلى صلاة العشاء، وإذا صليت العشاء كنت في شوق إلى صلاة الفجر، وهكذا دائماً قلبك معلق بهذه الصلوات.
ونضرب مثالاً ثالثاً في المعاملات:(131/190)
في المعاملات حرم الله عينا الربا، حرمه تحريماً صريحاً في القرآن كما قال الله تعالى:(وأحل الله البيع وحرم الربا). البقرة، الآية:275. وقال فيه:( ) فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(البقرة: من الآية275) فتوعد من عاد إلى الربا بعد أن جاءته الموعظة وعلم الحكم توعده بالخلود في النار والعياذ بالله. المؤمن يقبل هذا الحكم بانشراح ورضا وتسليم. وأما غير المؤمن؛ فإنه لا يقبله ويضيق صدره به، يتحيل عليه بأنواع الحيل لأننا نعلم أن في الربا كسباً متيقناً وليس فيه مخاطرة، لكنه في الحقيقة كسب لشخص وظلم لآخر. ولهذا قال الله تعالى) وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ)(البقرة: من الآية279) أما الأمر الثالث من موضوع حسن الخلق مع الله فهو تلقي أقداره بالصبر والرضا، وكلنا يعلم أن أقدار الله ـ عز وجل ـ التي ينفذها في خلقه بعضها ملائم وبعضها غير ملائم.
هل المرض يلائم الإنسان؟ أبداً الإنسان يحب أن يكون صحيحاً. وهل الفقر يلائم الإنسان ؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون غنيًّا. وهل الجهل يلائم الإنسان؟ لا. فالإنسان يحب أن يكون عالماً. لكن أقدار الله ـ عز وجل ـ بحكمته تتنوع منها ما يلائم الإنسان ويستريح له بمقتضى طبيعته، ومنها ما لا يكون كذلك. فما هو حسن الخلق مع الله ـ عز وجل ـ نحو أقدار الله؟(131/191)
حسن الخلق مع الله نحو أقداره أن ترضى بما قدر الله لك، وأن تطمئن إليه، وأن تعلم أن الله سبحانه وتعالى ـ ما قدره لك إلا لحكمة وغاية محموة يستحق عليها الشكر، وعلى هذا فإن حسن الخلق مع الله نحو أقداره هو أن الإنسان يرضى ويستسلم ويطمئن. ولهذا امتدح الله تعالى الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون. وقال:( وبشر الصابرين). البقرة، الآية:155.
ونوجز ما سبق:
نقول إن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق يكون في معاملة الخالق، وأن حسن الخلق في معاملة الخالق هو تلقي أخباره بالتصديق وتلقي أحكامه بالقبول والتطبيق. وتلقي أقداره بالصبر والرضا. هذا حسن الخلق مع الله.
أما حسن الخلق مع المخلوق فعرفه بعضهم. ويذكر عن الحسن البصري أنه "كف الأذى، وبذل الندى، وطلاقة الوجه".
ثلاثة أمور:
1ـ كف الأذى.
2ـ بذل الندى.
3ـ طلاقة الوجه.
ومعنى كف الأذى، أن الإنسان يكف أذاه عن غيره سواء كان هذا الأذى يتعلق بالمال، أو يتعلق بالنفس، أو يتعلق بالعرض. فمن لم يكف أذاه عن الخلق فليس من حسن الخُلق، بل هو سيئ الخُلق. وقد أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم في أعظم مجمع اجتمع به في أمته. قال:"إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" (1).(131/192)
إذا كان رجل يعتدي على الناس بالخيانة، أو يعتدي على الناس بالضرب والجناية، أو يعتدي على الناس في العرض، أو بالسب والغيبة. فهذا ليس بحسن الخلق مع الناس؛ لأنه لم يكف أذاه عنهم، ويعظم إثم ذلك كلما كان موجهاً إلى من له حق عليك أكبر. فالإساءة إلى الوالدين مثلاً أعظم من الإساءة إلى غيرهما، والإساءة إلى الأقارب أعظم من الإساءة إلى الأباعد، والإساءة إلى الجيران أعظم من الإساءة إلى من ليسوا من جيراناً لك.ولهذا قال النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ:" والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه" (1). وفي رواية لمسلم:"لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" والبوائق هي: الشرور.
وأما بذل الندى، الندى هو الكرم والجود. يعني أن تبذل الكرم والجود، والكرم ليس كما يظنه بعض الناس هو أن تبذل المال، بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال، إذا رأينا شخصاً يقضي حوائج الناس يساعدهم يتوجه في شئونهم إلى من لا يستطيعون الوصول إليه، ينشر علمه بين الناس، يبذل ماله بين الناس، فإنا نصفه بحسن الخلق لأنه بذل الندى، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:"اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن"(2) .
ومعنى ذلك أنك إذا ظُلمت أو أسيء إليك فإنك تعفو وتصفح، وقد امتدح الله العافين عن الناس فقال في الجنة)الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران:134) وقال الله تعالى:(وأن تعفوا أقرب للتقوى). البقرة، الآية: 237. وقال تعالى:(وليعفوا وليصفحوا) . النور، الآية: 22.(131/193)
وكل إنسان يتصل بالناس فلابد أن يجد من الناس شيئاً من الإساءة، فموقفه من هذه الإساءة أن يعفوا ويصفح، وليعلم علم اليقين أنه بعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنى سوف تنقلب العداوة بينه وبين أخيه إلى ولاية وصداقة. قال الله تعالى)وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت:34) فما هو الأحسن، السيئة أم الحسنة؟ الحسنة. وتأملوا أيها العارفون باللغة العربية كيف جاءت النتيجة ب (إذا) الفجائية تدل على الحدث الفوري في نتيجتها.(فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم) ولكن هل كل أحد يوفق إلى ذلك؟ لا)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصلت:35)
وهاهنا مسألة:
هل نفهم من هذا أن العفو عن الجاني مطلقاً محمود ومأمور به؟
قد نفهم من هذا الكلام أن العفو مطلقاً محمود ومأمور به. ولكن ليكن معلوماً لديكم أن العفو إنما يُحمد إذا كان العفو أحمد، ولهذا قال الله تعالى)وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (الشورى:40) فجعل العفو مقروناً بالإصلاح، وهل يمكن أن يكون العفو غير إصلاح؟
الجواب: نعم. قد يكون هذا الذي اجترأ عليك وجنى عليك رجلٌ شريرُ، معروف بالشر والفساد، فلو عفوت عنه لتمادى في شره، وفساده، فما هو الأفضل حينئذ، أن نعفو أو نأخذ بالجريمة؟
الأفضل أن نأخذ بالجريمة؛ لأن في ذلك إصلاحاً.
قال شيخ الإسلام:{ الإصلاح واجب، والعفو مندوب}. فإذا كان في العفو فوات الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوباً على واجب. وهذا لا تأتي به الشريعة. وصدق رحمه الله.(131/194)
وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه على مسألة يفعلها كثير من الناس بقصد الإحسان، وهي أن تقع حادثة من شخص فيهلك بسببها شخص آخر، فيأتي أولياء المقتول فيسقطون الدية عن هذا الجاني الذي فعل الحادث، فهل إسقاطهم محمود ويعتبر من حسن الخلق أو في ذلك تفصيل؟ في ذلك تفصيل.
لابد أن نتأمل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث هل هو من الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة؟ هل هو من الطراز الذي يقول أنا لا أبالي أن أصدم شخصاً لأن ديته في الدرج. والعياذ بالله؟
أم أنه رجل حصلت منه الجناية مع كمال التحفظ وكمال الاتزان ولكن الله تعالى قد جعل كل شيء بمقدار؟ فالجواب: إن كان من الطراز الثاني فالعفو بحقه أولى، ولكن قبل العفو حتى في الطراز الثاني يجب أن نلاحظ هل على الميت دين؟ إذا كان عليه دين فإنه لا يمكن أن نعفو.
ولو عفونا فإن عفونا لا يعتبر، وهذه مسألة ربما يغفل عنها كثير من الناس. لماذا نقول إنه قبل العفو يجب أن نلاحظ هل على الميت دين أم لا؟ لماذا نقول ذلك؟
لأن الورثة يتلقون الاستحقاق لهذه الدية من الميت الذي أصيب بالحادث ولا يرد استحقاقهم إلا بعد الدين ولهذا لما ذكر الله الميراث قال) مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ)(النساء: من الآية11)هذه مسألة تخفى على كثير من الناس وعلى هذا فنقول: إذا حصلت حادث على شخص ما فمات فإنه قبل أن يقدم ورثته على العفو ننظر في حال المجني عليه فإن كان عليه دين لا وفاء له إلا من الدية فلا عفوا؛ لأن الدين مقدم على الميراث، وإن لم يكن عليه دين نظرنا في حال الجاني فإن كان من المتهورين فترك العفو عنه أولى، وإن لم يكن منهم نظرنا في ورثة المجني عليه فإن كان غير مرشدين فلا يملك أحد إسقاط حقهم عن المجني عليه، وإن كانو مرشدين فالعفو في هذه الحال أفضل.(131/195)
والحاصل: أن من حسن الخلق العفو عن الناس، وهو بذل الندى؛ لأن بذل الندى: إما إعطاء، وإما إسقاط، والعفو من الإسقاط.
وأما طلاقة الوجه فهي أن يكون الإنسان طليق الوجه، وضد طليق الوجه عبوس الوجه، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"لا تحقرنّ من المعروف شيئاً، ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق" (1) .
طلاقة الوجه تدخل السرور على من قابلك. وعلى من اتجه لك، وتجلب المودة والمحبة، وتوجب انشراح القلب، بل توجب انشراح الصدر منك وممن يقابلك ـ وجرب تجد ـ لكن إذا كنت عبوساً فإن الناس ينفرون منك ، ولا ينشرحون بالجلوس إليك، ولا بالتحدث معك، وربما تصاب بمرض خطير يسمى بالضغط، فإن انشراح الصدر وطلاقة الوجه من أكبر العقاقير المانعة من هذا الداء داء الضغط. ولهذا فإن الأطباء ينصحون ابتلي بهذا الداء بأن يبتعد عما يثيره ويغضبه؛ لأن ذلك يزيد في مرضه، فطلاقة الوجه تقضي على هذا المرض؛ لأن الإنسان يكون منشرح الصدر محبوباً إلى الخلق.
هذه الأصول الثلاثة التي يدور عليها حسن الخلق في معاملة الخلق.
ومما ينبغي أن يعرف من حسن الخلق حسن المعاشرة بأن يكون الإنسان مع من يعاشره من أصدقاء، وأقارب، وأهل، يكون حسن العشرة معهم لا يضيق بهم ولا يُضِّيق عليهم، بل يدخل السرور عليهم بقدر ما يمكنه في حدود شريعة الله. وهذا القيد لابد منه أعني أن يكون في حدود شريعة الله؛ لأن من الناس من لا يسير إلا بمعصية الله والعياذ بالله وهذا لا يوافق عليه.
لكن إدخال السرور على من يتصل بك من أهل وأصدقاء وأقارب من حسن الخلق . ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"إن خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي" (1) .(131/196)
وكثير من الناس مع الأسف الشديد يحسن الخلق مع الناس، ولكنه لا يحسن الخلق مع أهله وهذا خطأ وقلب للحقائق. كيف تحسن الخلق مع الأباعد وتسيء الخلق مع الأقارب؟ فالأقارب أحق الناس بأن تحسن إليهم الصحبة والعشرة. ولهذا قال رجل: يا رسول الله:"من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال:أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أبوك. في الثالثة أو الرابعة" (2) .
والحاصل إن إحسان العشرة مع الأهل والأصحاب والأقارب كل ذلك من حسن الخلق، وينبغي لنا في هذه المراكز الصيفية أن نستغل وجود الشباب بحيث نمرنهم على إحسان الخلق لتكون هذه المراكز مراكز تعليم وتربية؛ لأن العلم بدون تربية يكون ضرره أكثر من نفعه. لكن مع التربية يكون العلم مؤدياً لنتيجته المقصودة. ولهذا قال الله تعالى)مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) (آل عمران:79) هذه فائدة العلم أن يكون الإنسان ربانيًّا بمعنى مربياً لعباد الله على شريعة الله.(131/197)
فهذه المراكز التي نأمل من القائمين عليها أن يجعلوها ميداناً للتسابق في الأخلاق الفاضلة ومنها حسن الخلق. فحسن الخلق يكون بالطبع ويكون بالتطبع ـ كما تقدم ـ وحسن الخلق بالطبع أكمل من حسن الخلق بالتطبع. وأتينا على ذلك بدليل وهو قول الرسول عليه الصلاة والسلام:"بل جبلك الله عليهما" (1). وحسن الخلق بالتطبع قد يفوت الإنسان في مواطن كثيرة؛ لأن حسن الخلق بالتطبع يحتاج إلى ممارسة وإلى معاناة وإلى تذكر عند وجود كل ما يثير الإنسان، ولهذا جار رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يا رسول الله أوصني، قال:" لا تغضب" فردد مراراً قال:"لا تغضب" (2) ، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:"ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب" (3).
والصرعة: هو الذي يغلب الرجال عند المصارعة.
إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، الذي يصرع نفسه ويملكها عند الغضب هو الشديد. وملك الإنسان نفسه عند الغضب يعتبر من أحاسن الأخلاق، فإذا غضبت فلا تنفذ الغضب، استعذ بالله من الشيطان الرجيم، وإذا كنت قائماً فأجلس وإذا كنت جالساً فاضجع،
وإذا زاد بك الغضب فتوضأ حتى يزول عنك.
والمقصود أننا نقول: إن حسن الخلق طبع وتطبع وأن حسن الخلق بالطبع هو الأفضل؛ لأنه يكون سجية الإنسان ويسهل عليه في كل موطن، ولكن التطبع قد يفوته في بعض المواقف.
كذلك نقول إن حسن الخلق يكون بالاكتساب بمعنى أن الإنسان يمرن نفسه، فكيف يكون الإنسان حسن الخلق؟ يكون الإنسان حسن الخلق بالآتي:
أولاً: بأن ينظر في كتاب الله وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم. ينظر النصوص الدالة على مدح ذلك الخلق العظيم، والمؤمن إذا رأى النصوص تمدح شيئاً من الأخلاق أو من الأعمال فإنه سوف يقوم به.(131/198)
ثانياً: مجالسة الأخيار والصالحين الموثوق بعلمهم وأمانتهم يقول النبي عليه الصلاة والسلام:"مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل صاحب المسك وكير الحداد لا يَعدمُك من صاحب المسك: إما تشتريه أو تجد ريه، وكير الحداد: يحرق بدنك أو ثوبك أو تجد منه ريحاً خبيثة" (1).
فعليكم أيها الشباب أن تصاحبوا من عُرفوا بحسن الأخلاق، والبعد عن مساوئ الأخلاق وسفاسف الأعمال، حتى تأخذوا من هذه الصحبة مدرسة تستعينون بها على حسن الخلق.
ثالثاً: أن يتأمل الإنسان ماذا يترتب على سوء خلقه، فسيئ الخلق ممقوت، وسيئ الخلق مهجور، وسيئ الخلق مذكور بالوصف القبيح. فإذا علم الإنسان أن سوء الخلق يفضي به إلى هذا فإنه يبتعد عنه.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المتمسكين بكتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً وأن يتوفانا على ذلك، وأن يتولانا في الدنيا والآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
* * *
الرسالة الثانية
الخلاف بين العلماء وأسبابه وموقفنا(131/199)
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً()يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (آل عمران:102) ()يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1))يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب:70) (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) (الأحزاب:71)
أما بعد:فإنه قد يثير هذا الموضوع التساؤل لدى الكثيرين، وقد يسأل البعض لماذا هذا الموضوع وهذا العنوان الذي قد يكون غيره من مسائل الدين أهم منه؟(131/200)
ولكن هذا العنوان وخاصة في وقتنا الحاضر يشغل بال كثير من الناس، لا أقول من العامة بل حتى من طلبة العلم، وذلك أنها كثرت في وسائل الإعلام نشر الأحكام وبثها بين الأنام، وأصبح الخلاف بين قول فلان وفلان مصدر تشويش، بل تشكيك عند كثير من الناس، لا سيما من العامة الذين لا يعرفون مصادر الخلاف، لهذا رأيت وبالله أستعين أن أتحدث في هذا الأمر الذي له في نظري شأن كبير عند المسلمين.إن من نعمة الله ـ تبارك وتعالى ـ على هذه الأمة أن الخلاف بين الأمة لم يكن في أصول دينها ومصادره الأصلية، وإنما كان الخلاف في أشياء لا تمس وحدة المسلمين الحقيقية وهو أمر لابد أن يكون، وقد أجملت العناصر التي أريد أن أتحدث عنها بما يأتي:(131/201)
أولاً: من المعلوم عند جميع المسلمين مما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى بعث محمداً بالهدى ودين الحق وهذا يتضمن أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين هذا الدين بياناً شافياً كافياً، لا يحتاج بعده إلى بيان، لأن الهدى بمعناه ينافي الضلالة بكل معانيها، ودين الحق بمعناه ينافي كل دين باطل لا يرتضيه الله عز وجل ـ ورسول الله بعث بالهدى ودين الحق، وكان الناس في عهده ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يرجعون عند التنازع إليه فيحكم بينهم ويبين لهم الحق سواء فيما يختلفون فيه من كلام الله، أو فيما يختلفون فيه من أحكام الله التي لم ينزل حكمها، ثم بعد ذلك ينزل القرآن مبيناً لها، وما أكثر ما نقرأ في القرآن قوله:(يسألونك عن) كذا فيجيب الله ـ تعالى نبيه بالجواب الشافي ويأمره أن يبلغه إلى الناس، قال الله تعالى)يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) (المائدة:4)
) وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ)(البقرة: من الآية219) ()يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (لأنفال:1)
(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون) البقرة، الآية:189.(131/202)
()يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة:217)
إلى غير ذلك من الآيات.
ولكن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم اختلفت الأمة في أحكام الشريعة التي لا تقضي على أصول الشريعة، وأصول مصادرها.
ولكنه اختلاف سنبين إن شاء الله بعض أسبابه.
ونحن جميعاً نعلم علم اليقين أنه لا يوجد أحد من ذوي العلم الموثوق(131/203)
بعلمهم وأمانتهم ودينهم يخالف ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم عن عمد وقصد؛ لأن من اتصفوا بالعلم والديانة، فلابد أن يكون رائدهم الحق، ومن كان رائده الحق فإن الله سييسره له. واستمعوا إلى قوله تعالى)وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (القمر:17) )فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى) (الليل:5) )فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) (الليل:7) ولكن مثل هؤلاء الأئمة يمكن أن يحدث منهم الخطأ في أحكام الله ـ تبارك وتعالى ـ لا في الأصول التي أشرنا إليها من قبل، وهذا الخطأ أمر لابد أن يكون ، لأن الإنسان كما وصفه الله ـ تعالى ـ بقوله:(وخلق الإنسان ضعيفاً). النساء، الآية:28.الإنسان ضعيف في علمه وإدراكه، وهو ضعيف في إحاطته وشموله، ولذلك لابد أن يقع الخطأ منه في بعض الأمور. ونحن نجمل ما أردنا أن نتكلم عليه من أسباب الخطأ من أهل العلم في الأسباب الآتية السبعة: مع أنها في الحقيقة أسباب كثيرة، وبحر لا ساحل له، والإنسان البصير بأقوال أهل العلم يعرف أسباب الخلاف المنتشرة، نجملها بما يأتي:
السبب الأول:
أن يكون الدليل لم يبلغ هذا المخالف الذي أخطأ في حكمه.
وهذا السبب ليس خاصًّا فيمن بعد الصحابة، بل يكون في الصحابة ومن بعدهم . ونضرب مثالين وقعا للصحابة من هذا النوع:(131/204)
الأول إننا علمنا بما ثبت في صحيح البخاري(1) وغيره حينما سافر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ إلى الشام، وفي أثناء الطريق، ذكر له أن فيها وباء وهو الطاعون، فوقف وجعل يستشير الصحابةـ رضي الله عنهم ـ فاستشار المهاجرين والأنصار واختلفوا في ذلك على رأيين . . . وكان الأرجح القول بالرجوع، وفي أثناء هذه المداولة والمشاورة جاء عبد الرحمن بن عوف، وكان غائباً في حاجة له، فقال: إن عندي من ذلك علماً، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليه، وإن وقع وأنتم فيها فلا تخرجوا فراراً منه" فكان هذا الحكم خافياً على كبار الصحابة من المهاجرين والأنصار، حتى جاء عبد الرحمن فأخبرهم بهذا الحديث.(131/205)
مثال آخر: كان علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يريان أن الحامل إذا مات عنها زوجها تعتد بأطول الأجلين، من أربعة أشهر وعشر. . أو وضع الحمل، فإذا وضعت الحمل قبل أربعة أشهر وعشر لم تنقض العدة عنده وبقيت حتى تنقضي أربعة أشهر وعشر، وإذا انقضت أربعة أشهر وعشر من قبل أن تضع الحمل بقيت في عدتها حتى تضع الحمل(2) ، لأن الله تعالى يقول:" ) وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )(الطلاق: من الآية4).ويقول)وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً)(البقرة: من الآية234)وبين الآيتين عموم وخصوص وجهي، وطريق الجمع بين ما بينهما عموم وخصوص وجهي، أن يؤخذ بالصورة التي تجمعهما، ولا طريق إلى ذلك إلا ما سلكه علي وابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ولكن السنة فوق ذلك. فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سبيعة الأسلمية أنها نفست بعد موت زوجها بليال فأذن لها رسول الله أن تتزوج، ومعنى ذلك أننا نأخذ بآية سورة الطلاق التي تسمى سورة النساء الصغرى، وهي عموم قوله تعالى:) وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ). الطلاق، الآية:4. وأنا أعلم علم اليقين أن هذا الحديث لو بلغ عليًّا وابن عباس لأخذا به قطعاً، ولم يذهبا إلى رأيهما.
السبب الثاني:
أن يكون الحديث قد بلغ الرجل ولكنه لم يثق بناقله، ورأى أنه مخالف لما هو أقوى منه، فأخذ بما يراه أقوى منه، ونحن نضرب مثلاً أيضاً، ليس فيمن بعد الصحابة، ولكن في الصحابة أنفسهم.
فاطمة بنت قيس ـ رضي الله عنها ـ طلقها زوجها آخر ثلاث تطليقات، فأرسل إليها وكيله بشعير نفقة لها مدة العدة، ولكنها سخطت الشعير وأبت أن تأخذه، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا نفقة لها ولا سكنى(1) ،(131/206)
وذلك لأنه أبانها، والمبانة ليس لها نفقة ولا سكنى على زوجها إلا أن تكون حاملاً لقوله تعالى) وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ )(الطلاق: من الآية6)عمر رضي الله عنه ـ ناهيك عنه فضلاً وعلماًـ خفيت عليه هذه السنة، فرأى أن لها النفقة والسكنى، ورد حديث فاطمة باحتمال أنها قد نسيت فقال: أنترك قول ربنا لقول امرأة لا ندري أذكرت أم نسيت؟ وهذا معناه أن أمير المؤمنين عمر ـ رضي الله عنه ـ لم يطمئن إلى هذا الدليل، وهذا كما يقع لعمر ومن دونه من الصحابة ومن دونهم من التابعين، يقع أيضاً لمن بعدهم من أتباع التابعين، وهكذا إلى يومنا هذا بل إلى يوم القيامة، أن يكون الإنسان غير واثق من صحة الدليل، وكم رأينا من أقوال لأهل العلم فيها أحاديث يرى بعض أهل العلم أنها صحيحة فيأخذون بها ويراها الآخرون ضعيفة، فلا يأخذون بها نظراً لعدم الوثوق بنقلها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
السبب الثالث:
أن يكون الحديث قد بلغه ولكنه نسيه، وجل من لا ينسى، كم من إنسان ينسى حديثاً، بل قد ينسى آية.(131/207)
رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ذات يوم في أصحابه فأسقط آية نسياناً، وكان معه أبي بن كعب ـ رضي الله عنه فلما انصرف من صلاته قال:"هلا كنت ذكرتنيها"(1) وهو الذي ينزل عليه الوحي، وقد قال له ربه:(سنقرئك فلا تنسى(6) إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى). الأعلى، الآيتان:6، 7. ومن هذا ـ أي مما يكون قد بلغ الإنسان ولكنه نسيه ـ قصة عمر بن الخطاب مع عمار بن ياسرـ رضي الله عنهما ـ حينما أرسلهما رسول الله في حاجة، فأجنبا جميعاً عمار وعمر(1) . أما عمار فاجتهد ورأى أن طهارة التراب كطهارة الماء، فتمرغ في الصعيد كما تمرغ الدابة، لأجل أن يشمل بدنه التراب، كما كان يجب أن يشمله الماء وصلى، أما عمر ـ رضي الله عنه ـ فلم يصل ... ثم أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرشدهما إلى الصواب، وقال لعمار: إنما كان يكفيك أن تقول بيديك هكذا ـ وضرب بيديه ووجهه وكان عمار ـ رضي الله عنه ـ يحدث بهذا الحديث في خلافة عمر، وفيما قبل ذلك، ولكن عمر دعاه ذات يوم وقال له: ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ فأخبره وقال: أما تذكر حينما بعثنا رسول الله في حاجة، فأجنبنا فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمرغت في الصعيد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما كان يكفيك أن تقول كذا وكذا". ولكن عمر لم يذكر ذلك وقال :اتق الله يا عمار، فقال له عمال: إن شئت بما جعل الله علّي من طاعتك أن لا أحدث به فعلت، فقال له عمر: نوليك ما توليت ـ يعني فحدث به الناس ـ فعمر نسي أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم جعل التيمم في حال الجنابة كما هو في حال الحدث الأصغر، وقد تابع عمر على ذلك عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وحصل بينه وبين أبي موسى ـ رضي الله عنهما مناظرة في هذا الأمر فأورد عليه قول عمار لعمر، فقال ابن مسعود: ألم تر أن عمر لم يقنع بقول عمار فقال أبو موسى: دعنا من قول عمار، ما تقول في هذه الآية يعني آية المائدة، فلم يقل ابن مسعود شيئاً، ولكن(131/208)
لا شك في أن الصواب مع الجماعة الذين يقولون أن الجنب يتيمم، كما أن المحدث حدثاً أصغر يتيمم، والمقصود أن الإنسان قد ينسى فيخفى عليه الحكم الشرعي فيقول قولاً يكون به معذوراً، لكن من علم الدليل فليس بمعذور، هذان سببان.
السبب الرابع:
أن يكون بلغه وفهم منه خلاف المراد.
فنضرب لذلك مثالين، الأول من الكتاب، والثاني من السنة:
1ـ من القرآن قوله تعالى:(وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيداً طيبا). النساء، الآية:43.
اختلف العلماء ـ رحمهم الله ـ في معنى(أو لامستم النساء). ففهم بعض منهم أن المراد مطلق اللمس، وفهم آخرون: أن المراد به اللمس المثير للشهوة. وفهم آخرون أن المراد به الجماع وهذا الرأي رأي ابن عباس ـ رضي الله عنهماـ .(131/209)
وإذا تأملت الآية وجدت أن الصواب مع من يرى أنه الجماع؛ لأن الله ـ تبارك وتعالى ذكر نوعين في طهارة الماء، طهارة الحدث الأصغر والأكبر. ففي الأصغر قوله: ) فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ )(المائدة: من الآية6)أما الأكبر فقوله:( ) وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(المائدة: من الآية6). . .) الآية. وكان مقتضى البلاغة والبيان أن يذكر أيضاً موجباً الطهارتين في طهارة التيمم فقوله تعالى:(أو جاء أحد منكم من الغائط) إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأصغر . . . وقوله:(أو لامستم النساء) إشارة إلى موجب طهارة الحدث الأكبر . . ولو جعلنا الملامسة هنا بمعنى اللمس، لكان في الآية ذكر موجبين من موجبات طهارة الحدث الأصغر، وليس فيها ذكر لشيء من موجبات طهارة الحدث الأكبر، وهذا خلاف ما تقتضيه بلاغة القرآن، فاللذين فهموا من الآية أن المراد به مطلق اللمس قالوا: إذا مس إنسان ذكر بشرة الأنثى انتقض وضوؤه، أو إذا مسها لشهوة أنتقض، ولغير شهوة لا ينتقض، والصواب عدم الانتقاض في الحالين، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَّل إحدى نسائه، ثم ذهب إلى الصلاة ولم يتوضأ(1) ، وقد جاء من طرق يقوي بعضها بعضاً.
2ـ من السنة: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة الأحزاب، ووضع عدة الحرب جاءه جبريل فقال له: إنا لم نضع السلاح فاخرج إلى بني قريظة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بالخروج وقال:"لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة"(2)(131/210)
الحديث ، فقد اختلف الصحابة في فهمه. فمنهم من فهم أن مراد الرسول المبادرة إلى الخروج حتى لا يأتي وقت العصر إلا وهم في بني قريظة، فلما حان وقت العصر وهم في الطريق صلوها ولم يؤخروها إلى أن يخرج وقتها. ومنهم من فهم: أن مراد رسول الله أن لا يصلوا إلا إذا وصلوا بني قريظة فأخروها حتى وصلوا بني قريظة فأخرجوها عن وقتها.ولا ريب أن الصواب مع الذين صلوا الصلاة في وقتها؛ لأن النصوص في وجوب الصلاة في وقتها محكمة، وهذا نص مشتبه. وطريق العلم أن يحمل المتشابه على المحكم. إذن من أسباب الخلاف أن يفهم من الدليل خلاف مراد الله ورسوله، وذلك هو السبب الرابع.
السبب الخامس:
أن يكون قد بلغه الحديث لكنه منسوخ ولم يعلم بالناسخ فيكون الحديث صحيحاً والمراد منه مفهوماً ولكنه منسوخ، والعالم لا يعلم بنسخه فحينئذ له العذر؛ لأن الأصل عدم النسخ حتى يعلم الناسخ.
ومن هذا رأي ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ ماذا يصنع الإنسان بيديه إذا ركع؟ كان في أول الإسلام يشرع للمصلي التطبيق بين يديه ويضعهما بين ركبتيه. هذا هو المشروع في أول الإسلام ثم نسخ ذلك وصار المشروع أن يضع يديه على ركبته. وثبت في صحيح البخاري وغيره النسخ، وكان ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لم يعلم(131/211)
بالنسخ، فكان يطبق يديه، فصلى إلى جانبه علقمة والأسود، فوضعا يديهما على ركبهما، ولكنه ـ رضي الله عنه ـ نهاهما عن ذلك وأمرهما بالتطبيق . . . لماذا؟ لأنه لم يعلم بالنسخ، والإنسان لا يكلف إلا وسع نفسه، قال تعالى)لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (البقرة:286)
السبب السادس:
أن يعتقد أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو أجماع، بمعنى أنه يصل الدليل إلى المستدل، ولكنه يرى أنه معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع، وهذا كثير في خلاف الأئمة. وما أكثر ما نسمع من ينقل الإجماع، ولكنه عند التأمل لا يكون إجماعاً.
ومن أغرب ما نقل في الإجماع أن بعضهم قال: أجمعوا على قبول شهادة العبد. وآخرون قالوا: أجمعوا على أنها لا تقبل شهادة العبد. هذا من غرائب النقل؛ لأن بعض الناس إذا كان من حوله اتفقوا على رأي، ظن أن لا مخالف لهم، لاعتقاده أن ذلك مقتضى النصوص، فيجتمع في ذهنه دليلان، النص والإجماع، وربما يراه مقتضى القياس الصحيح، والنظر الصحيح فيحكم أنه لا خلاف، وأنه لا مخالف لهذا النص القائم عنده مع القياس الصحيح عنده، والأمر قد كان بالعكس.
ويمكن أن نمثل ذلك برأي ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في ربا الفضل.
ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إنما الربا في النسيئة"(1) .
وثبت عنه في حديث عبادة بن الصامت وغيره:"أن الربا يكون في النسيئة وفي الزيادة"(2)(131/212)
وأجمع العلماء بعد ابن عباس على أن الربا قسمان: ربا فضل، وربا نسيئة. أما ابن عباس فإنه أبى إلا أن يكون الربا في النسيئة فقط. مثاله لو بعت صاعاً من القمح بصاعين يداً بيد فإنه عند ابن عباس لا بأس به؛ لأنه يرى أن الربا في النسيئة فقط . وإذا بعت مثلاً مثقالاً من الذهب بمثقالين من الذهب يداً بيد فعنده أنه ليس ربا. لكن إذا أخرت القبض، فأعتطيتني المثقال ولم أعطك البدل إلا بعد التفرق فهو ربا . . لأن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ يرى أن هذا الحصر مانع من وقوع الربا في غيره، ومعلوم أن : إنما تفيد الحصر فيدل على أن ما سواه ليس بربا، لكن الحقيقة أن ما دل عليه حديث عبادة يدل على أن الفضل من الربا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم:"من زاد أو استزاد فقد أربى(3
إذن ما موقفنا نحن من الحديث الذي استدل به ابن عباس؟ موقفنا أن نحمله على وجه يمكن أن يتفق مع الحديث الآخر الدال على أن الربا يكون أيضاً في الفضل، بأن نقول: إنما الربا الشديد الذي يعمد إليه أهل الجاهلية والذي ورد فيه قوله تعالى)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران:130) إنما هو ربا النسيئة، أما ربا الفضل فإنه ليس الربا الشديد العظيم، ولهذا ذهب ابن القيم في كتابه "إعلام الموقعين": إلى تحريم ربا الفضل من باب تحريم الوسائل، وليس من باب تحريم المقاصد.
السبب السابع:(131/213)
أن يأخذ العالم بحديث ضعيف أو يستدل استدلالاً ضعيفاً. وهذا كثير جدًّا، فمن أمثلته: أي أمثلة الاستدلال بالحديث الضعيف: ما ذهب إليه بعض العلماء من استحباب صلاة التسبيح(1) وهو أن يصلي الإنسان، يقرأ فيهما بالفاتحة، ويسبح خمس عشر تسبيحة، وكذلك في الركوع والسجود إلى آخر صفتها التي لم أضبطها، لأنني لا أعتقد من حيث اشرع، ويرى آخرون: أن صلاة التسبيح بدعة مكروهة، وأن حديثها لم يصح، وممن يرى ذلك الإمام أحمد ـ رحمه الله ـ وقال: إنها لا تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وإن حديثها كذب على رسول الله، وفي الحقيقة من تأملها وجد أن فيها شذوذاً حتى بالنسبة للشرع إذ أن العبادة، إما أن تكون نافعة للقلب، ولابد لصلاح القلب منها فتكون مشروعة في كل وقت وفي كل مكان، وإما أن لا تكون نافعة فلا تكون مشروعة وهذه في الحديث الذي جاء عنها يصليها الإنسان كل يوم أو كل أسبوع أو كل أسبوع أو كل شهر أو في العمر مرة، وهذا لا نظير له في الشرع، فدل على شذوذها سنداً ومتناً، وأن من قال إنها كذب، كشيخ الإسلام فإنه مصيب، ولذا قال شيخ الإسلام: أنه لم يستحبها أحد من الأئمة .
وإنما مثلت بها لأن السؤال عنها كثير من الرجال والنساء، فأخشى أن تكون هذه البدعة أمراً مشروعاً، وإنما أقول بدعة، أقولها ولو كانت ثقيلة على بعض الناس؛ لأننا نعتقد أن كل من دان لله ـ سبحانه ـ مما ليس في كتاب الله أو سنة رسوله فإنه بدعة.
كذلك أيضاً من يأخذ بدليل ضعيف من حيث الاستدلال. الدليل قوي لكنه من حيث الاستدلال به ضعيف، مثل ما أخذ بعض العلماء من حديث أسود"ذكاة الجنين ذكاة أمه"(1)
فالمعروف عند أهل العلم من معنى الحديث أن أم الجنين إذا ذكيت فإن ذكاتها ذكاة له ـ أي لا يحتاج إلى ذكاة إذا أخرج منها بعد الذبح؛ لأنه قد مات ولا فائدة من تذكيته بعد موته.(131/214)
ومن العلماء من فهم أن المراد به أي بالحديث . . . إن ذكاة الجنين
الجنين كذكاة أمه، تكون بقطع الودجين وإنهار الدم ـ ولكن هذا بعيد والذي يبعده أنه لا يحصل إنهار الدم بعد الموت.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" ما أن هر الدم وذكر اسم الله عليه فكل"(1) . ومن المعلوم أنه لا مكن إنهار الدم بعد الموت، هذه الأسباب التي أحببت أن أنبه عليها مع أنها كثير، وبحر لا ساحل له . . ولكن بعد هذا كله ما موقفنا؟
وما قلته في أول الموضوع أن الناس بسبب وسائل الإعلام المسموعة والمقروءة والمرئية واختلاف العلماء أو أختلاف المتكلمين في هذه الوسائل صاروا يتشككون ويقولون من نتبع؟
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
وحينئذ نقول: موقفنا من هذا الخلاف وأعني به خلاف العلماء الذين نعلم أنهم موثوقون علماً وديانة، لا من هم محسوبون على العلم وليسوا من أهله؛ لأننا لا نعتبر هؤلاء علماء، ولا نعتبر أقوالهم مما يحفظ من أقوال أهل العلم.
ولكننا نعني به العلماء المعروفين بالنصح للأمة والإسلام والعلم، موقفنا من هؤلاء يكون على وجهين:
1ـ كيف خالف هؤلاء الأئمة لما يتقضيه كتاب الله وسنة رسوله؟ وهذا يمكن أن يعرف الجواب عنه بما ذكرنا من أسباب الخلاف، وبما لم نذكره، وهو كثير يظهر لطالب العلم حتى وإن لم يكن متبحراً في العلم.(131/215)
2ـ ما موقفنا من اتباعهم؟ ومن نتبع من هؤلاء العلماء؟ ايتبع الإنسان إماماً لا يخرج عن قوله، ولو كان الصواب مع غيره كعادة المتعصبين للمذاهب. أم يتبع ما ترجح عنده من دليل ولو كان مخالفاً لما ينتسب إليه من هؤلاء الأئمة؟ الجواب هو الثاني، فالواجب على من علم بالدليل أن يتبع الدليل ولو خالف من خالف من الأئمة. إذا لم يخالف إجماع الأمة، ومن اعتقد أن أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجب أن يؤخذ بقوله فعلاً وتركاً بكل حال وزمان، فقد شهد لغير الرسول بخصائص الرسالة؛ لأنه لا يمكن أحد أن يكون هذا حكم قوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحد إلا يؤخذ من قوله ويترك سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن يبقى الأمر فيه نظر؛ لأننا لانزال في دوامة من الذي يستطيع أن يستنبط الأحكام من الأدلة؟ هذه مشكلة؛ لأن كل واحد صار يقول: أنا صحابها، وهذا في الحقيقة ليس بجيد، نعم من حيث الهدف والأصل، هو جيد أن يكون رائد الإنسان كتاب الله وسنة رسوله، لكن كوننا نفتح الباب لكل من عرف أن ينطق بالدليل، وإن لم يعرف معناه وفحواه، فنقول: أنت مجتهد تقول ما شئ، هذا يحصل فيه فساد الشريعة وفساد الخلق والمجتمع، والناس ينقسمون في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام:
1ـ عالم رزقه الله علماً وفهماً.
2ـ طالب علم عنده من العلم، لكن لم يبلغ درجة ذلك المتبحر.
3ـ عامي لا يدري شيئاً.
أما الأول:
فإنه له الحق أن يجتهد وأن يقول، بل يجب عليه أن يقول ما كان مقتضى الدليل عنده مهما خالفه من خالفه من الناس لأنه مأمور بذلك، قال تعالى:(لعلمه الذين يستنبطونه منهم). النساء، الآية:83. وهذا من أهل الاستنباط الذين يعرفون ما يدل عليه كلام الله وكلام رسوله.
أما الثاني:(131/216)
الذي رزقه الله علماً ولكنه لم يبلغ درجة الأول فلا حرج عليه إذا أخذ بالعموميات والإطلاقات وبما بلغه، ولكن يجب عليه أن يكون محترزاً في ذلك وألا يقصر عن سؤال من هو أعلى منه من أهل العلم لأنه قد يخطئ وقد لا يصل علمه إلى شيء خصص ما كان عاماً، أو قيد ما كان مطلقاً، أو نسخ ما يراه محكماً. وهو لا يدري بذلك.
أما الثالث:
وهو من ليس عنده علم، فهذا يجب عليه أن يسأل أهل العلم لقوله تعالى) فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الانبياء: من الآية7)وفي آية أخرى:(إن كنتم لا تعلمون(43) بالبينات والزبر) النحل، الآيتان:43،44. فوظيفة هذا أن يسأل، ولكن من يسأل؟ في البلد علماء كثيرون، وكل يقول: إنه عالم، أو كل يقال عنه: إنه عالم فمن الذي يسأل؟ هل نقول: يجب عليك أن تتحرى من هو أقرب إلى الصواب فتسأله ثم تأخذ بقوله، أو نقول: اسأل من شئت ممن تراه من أهل العلم
والمفضول قد يوفق للعمل في مسألة معينة، ولا يوفق من هل أفضل منه وأعلم ـ اختلف في هذا أهل العلم؟
فمنهم من يرى: أنه يجب على العامي أن يسأل من يراه أوثق في علمه من علماء بلده؛ لأنه كما أن الإنسان الذي أصيب بمرض في جسمه فإنه يطلب لمرضه من يراه أقوى في أمور الطب فكذلك هنا، لأن العلم دواء القلوب، فكما أنك تختار لمرضك من تراه أقوى فكذلك هنا يجب أن تختار من تراه أقوى علماً إذاً لا فرق.
ومنهم من يرى: أن في ذلك ليس بواجب لأن من هو أقوى علماً قد لا يكون أعلم في كل مسألة بعينها ويرشح هذا القول أن الناس في عهد الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يسألون المفضول مع وجود الفاضل.
والذي أرى في هذه المسألة أنه يسأل من يراه أفضل في دينه وعلمه لا على سبيل الوجوب؛ لأن من هو أفضل قد يخطئ في هذه المسألة المعينة، ومن هو مفضول قد يصيب فيها الصواب، فهو على سبيل الأولوية، والأرجح: أن يسأل من هو أقرب إلى الصواب لعلمه وورعه ودينه.(131/217)
وأخيراً أنصح نفسي أولاً وإخواني المسلمين، ولا سيما طلبة العلم إذا نزلت بإنسان نازلة من مسائل العلم ألا يتعجل ويتسرع حتى يتثبت ويعلم فيقول لئلا يقول على الله بلا علم.
فإن الإنسان المفتي واسطة بين الناس وبين الله، يبلغ شريعة الله كما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"العلماء ورثة الأنبياء"(1) .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم:"أن القضاة ثلاثة: قاضٍ واحد في الجنة وهو من علم الحق فحكم به"(2) . كذلك أيضاً من المهم إذا نزلت فيك نازلة أن تشد قلبك إلى الله وتفتقر إليه أن يفهمك ويعلمك لا سيما في الأمور العظام الكبيرة التي تخفى على كثير من الناس.
وقد ذكر لي بعض مشائخنا أنه ينبغي لمن سئل عن مسألة أن يكثر من الاستغفار، مستنبطاً ن قوله تعالى)إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً) (النساء:105) ( واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيما) . النساء، 106. لأن الإكثار من الأستغفار يوجب زوال أثر الذنوب التي هي سبب في نسيان العلم والجهل كما قال تعالى:(فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظاً مما ذكروا به). المائدة، الآية:13.
وقد ذكر الشافعي أنه قال:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يؤتاه عاصي
فلا جرم حينئذ أن يكون الاستغفار سبباً لفتح الله على المرء.
وأسأل الله التوفيق والسداد وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب.
والحمد لله رب العالمين أولاً وأخيراً.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
* * *
الرسالة الثالثة
حث طلبة العلم على الالتحاق بجماعات تحفيظ القرآن الكريم(131/218)
الحمد لله ، نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
نعم إن خير الحديث كتاب الله تعالى؛ لأنه كلام الله ـ عز وجل ـ تنزيل رب العالمين، نزل به الروح الأمين(جبريل) على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين.
وقد جاء نصوص الكتاب والسنة في فضل تلاوة القرآن والعمل به، فقال الله تعالى)إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر:29) )لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ) (فاطر:30) وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(1) متفق عليه ، وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران"(2) متفق عليه، وعن أبي موسى الأشعري ـ رضي الله عنه ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول:"مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن كمثل الأترجة طعمها طيب، وريحها طيب، ومثل الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة، طعمها طيب، ولا ريح لها، ومثل الفاجر الذي يقرأ القرآن كمثل الريحانة ريحها طيب، ولا طعم لها، ومثل الفاجر الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة، طعمها مر، ولا ريح لها . . ." (3) .(131/219)
وعن أبي أمامة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"اقرؤوا القرآن، فإنه يأتي شافعاً لأصحابه، اقرؤوا الزهراوين البقرة وآل عمران، فإنهما يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غياتيان أو فرقان من طير صواف تحاجان عن صحابهما"(4) .
ولما كانت تلاوة القرآن وتعلمه وتعليمه بهذه المثابة هبَّ كثير من الشباب في بلادنا وغيرها إلى تلاوة الكتاب العزيز تعليماً فأنشئت في بلادنا جماعات تحفيظ القرآن الكريم في مدن وقرى كثيرة تحت إشراف ورعاية وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد والتحق بها ـ ولله الحمد ـ جم غفير من الشباب ولم يتقصر نشاطها على الذكور، بل شمل النساء أيضاً وحصل بذلك خير كثير، حتى حفظ القرآن عن ظهر قلب كثير من هؤلاء الشباب، فالحمد لله رب العالمين.
وإنني لأحث إخواني الذي منَّ الله تعالى عليهم بالأولاد، أن يشجعوا أولادهم على الالتحاق بهذه الجماعات، وأن يتعاهدوهم حال التحاقهم، ويستعينوا على ذلك بالاتصال بالمسؤولين في هذه الجماعات للمتابعة. فإن تلاوة كتاب الله من أسباب الصلاح وصلاح الولد خير للوالد في دنياه وبعد مماته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"(1) .
ولا شك أن الالتحاق بهذه الجماعات ـ أعني جماعات تحفيظ القرآن ـ يحصل به مصالح وتندرئ به مفاسد.
يحصل به حفظ القرآن الكريم ومحبته والميل إليه.
ويحصل به ربط الدارس ببيوت الله ـ عز وجل ـ (المساجد) .
ويحصل به استغلال الوقت بهذا الهدف النبيل.
ويحصل به من حسن رعاية الطالب ما يثاب عليه أبوه أو غيره من ولاة أمره.(131/220)
ويحصل به ثواب المجتمعين على تلاوة كتاب الله تعالى في بيت من بيوته فما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده، وكما تحصل به هذه المصالح فإنه تندرئ به مفاسد .
يندرئ به ضياع الوقت الذي هو أشد ضرراً من ضياع المال، فإن المال له ما يخلفه والوقت لا يخلفه شيء فإن كل وقت مضى لا يرجع كما قيل: امس الدابر لا يعود.
تندرس به مفسدة الفراغ مفسدة بل مفاسد كما قيل:
إن الشباب والفراغ والجدة(1) مفسدة للمرء أي مفسدة
فمن مفاسد الفراغ أن الشباب ينشأ على حياة ضياع لا جدية فيها.
ومن مفاسد الفراغ أنه قد يكون سبباً للتخريب.
ومن مفاسد الفراغ أنه يفضي إلى التسكع في الأسواق والتجول، الذي ربما يفضي إلى فاسد الأخلاق.
ومن مفاسد الفراغ البدني أنه يفضي إلى الفراغ الذهني فيتبلد الذهن ويكون الشاب سطحياً ليس عنده تفكير عميق ولا ذهن حاد.
وإني لأحث إخواني الذين منَّ الله عليهم بالمال أن يجودوا بشيء مما منَّ الله به عليهم، فإن بذل المال في هذه الجماعات من أفضل الأعمال لمشاركة الباذل العامل فيها في الأجر كما جاء نحو ذلك فيمن جهز غازياً، قال النبي صلى الله عليه وسلم :"من جهز غازياً في سبيل ا لله فقد غزا"(2) .
كما أحث سائر إخواني المسلمين على تشجيع هذه الجماعات بكافة أنواع التشجيع المعنوي والمادي، عملاً بقول الله تعالى:(وتعاونوا على البر والتقوى). المائدة، الآية:2.
وأسأل الله تعالى أن يجعلنا جميعاً ممن حقق ذلك بمقالة وفعاله، وأن يهب لنا منه رحمة إنه هو الوهاب، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والذين اتبعوهم بإحسان مدى الأوقات.
رسالة: في التحذير من الحسد وبيان خطره(131/221)
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خاتم النبيين، وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الحسد خُلق ذميم وهو: تمني زوال نعمة الله على الغير.
وقيل: الحسد كراهة ما أنعم الله به على غيره.
فالأول هو المشهور عند أهل العلم، والثاني هو الذي قرّره شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فمجرد كراهة ما أنعم الله به على الناس يعتبر حسداً، والحسد محرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه وحذر منه، وهو من خصال اليهود الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
والحسد مضارهُ كثيرة: منها: أنه اعتراض على قضاء الله وقدره وعدم رضا بما قدره الله عز وجل؛ لأن الحسد يكره هذه النعمة التي أنعم الله بها على المحسود.
ومنها : أن الحاسد يبقى دائماً في قلق وحرقة ونكد، لأن نعم الله على العباد لا تحصى، فإذا كان كلما رأى نعمه على غيره حسده وكره أن تكون هذه النعمة حالة عليه، فلابد أن يكون في قلق دائم وهذا هو شأن الحاسد والعياذ بالله.
ومنها: أن الغالب أن الحاسد يبغي على المحسود فيحاول أن يكتم نعمة الله على المحسود أو يزيل نعمة الله على هذا المحسود فيجمع بين الحسد وبين العدوان.
ومنها: أن الحاسد فيه شبه من اليهود الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله.
ومنها: أن الحاسد يحتقر نعمة الله عليه؛ لأنه يرى أن المحسود أكمل منه وأفضل فيزدري نعمة الله عليه، ولا يشكره سبحانه تعالى عليها.
ومنها: أن الحسد يدل على دناءة الحاسد، وأنه شخص لا يحب الخير للغير؛ بل هو سافل ينظر إلى الدنيا، ولو نظر إلى الآخرة لأعرض عن هذا.
ولكن إذا قال قائل: إذا وقع الحسد في قلبي بغير اختياري فما هو الدواء؟
فالجواب: أن الدواء يكون بأمرين:(131/222)
الأول: الإعراض عن هذا بالكلية، وأن يتناسى هذا الشيء، وأن يشتغل بما يهمه في نفسه.
الثاني: أن يتأمل ويتفكر في مضار الحسد، فإن التفكر في مضار العمل يوجب النفور منه، ثم يجرب إذا أحب الخير لغيره واطمأن بما أعطاه الله، هل يكون هذا خيرًا، أم الخير أن يتتبع نعمة الله على الغير ثم تبقى حرقة في نفسه وتسخطأً لقضاء الله وقدره، وليختر أي الطريقين شاء، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والذين اتبعوهم بإحسان إلى يوم الدين.
رسالة في بيان خطر التقول على العلماء
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
ليس بغريب أن ينسب إلى أحد العلماء المعتبرين ما لم يقله بل ما يصرح بخلافه، وهذا معلوم من عهد السلف الصالح، ففي صحيح مسلم ـ في كتاب اللباس في باب تحريم استعمال إناء الذهب والفضة 3/1641 ـ أن أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ أرسلت مولاها إلى عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ فقالت:" بلغني عنك أنك تُحرم أشياء ثلاث: العلم في الثّوب، ومَيثرةَ الأُرجُوانِ وصوْمَ رجَبٍ كُلّه" . فقال عبد الله: أمّا ما ذَكرتّ من رجبٍ، فكيف بمن يصومُ الأبد.
وأما ما ذكرتَ من العَلمُ في الثّوبِ فإني سمعتُ عمر بن الخطّاب يقول:سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولُ:"إنما يلبسُ الحرير من لا خَلاقَ له"، فخفتُ أن يكون العَلمُ منه.
وأما ميثرةُ الأرجُوان، فهذه ميثرةُ عبد الله ، فإذا هي أُرجُوانُ.(131/223)
فرجع مولى أسماء إليها فأخبرها بما قال عبد الله فقالت: هذه جُبّة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجتْ جُبّة طيالسةِ كَسْرِوانّية لها لِبنةُ ديباجٍ وفرجيها مكفُوفين بالدّيباج، فقالت: هذه كانت عند عائشة حتّى قُبضتْ. فلمّا قُبضت قبضتها. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يَلبُسها فنحنُ نغسلُها للمرضى ليُستشفى بها.
الميثرةُ: وطاء يجعل على الرحل ليلين للراكب من الوثارة.
والأُرجُوان: بضم الهمزة والجيم هو الأحمر الشديد الحمرة.
ومعنى قول ابن عمر:" فكيف بمن يصوم الأبد" لإنكار على من نسب إليه تحريم صوم رجب كله، لأنه ـ رضي الله عنه ـ كان يصوم الأبد.
وقد أنكر ـ رضي الله عنه ـ كل ما نسب إليه من تحريم الثلاثة، فأنكر صوم رجب بأنه كان يصوم الأبد، وتحريم علم الثوب بأنه كان تركه خوفاً من أن يكون من لبس الحرير فهو حكم احتياطي، وأنكر تحريم ميثرة الأرجوان بأنه كان له ميثرة أرجوان.
والمهم أن التقول على العلماء كان من قديم الزمان وله أسباب:
1ـ منها أن يسأل الشخص عالماً سؤالاً يقصد به معنى، فيفهمُ العالمُ المجيبُ خلاف ما قصد السائل، فيجيبُ بحسب ما فهم من السؤال ويفهم السائل الجواب على ما قصد من السؤال.
2ـ ومنها أن يفهم العالم السؤال على ما قصده به السائل فيجيبه بحسبه لكن يفهم السائل منه خلاف ما قصده المجيب.
3ـ ومنها أن يكون له هوى في حكم مسألة ما، فيُشّيع نسبته إلى عالمٍ معروفٍ ليكون أدى لقبوله.
4ـ ومنها أن يكون الحكم غربياً منكرًا، فيُنسبه إلى عالم ليشوه به سُمعتّهُ ويتخذ من ذلك وسيلةً إلى غيبته، والإيقاع به، مع أن العالم لم يكن منه فتوى في ذلك.
إلى غير ذلك من الأسباب وشر الأسباب التي ذكرناها هذا الأخير والذي قبله.(131/224)
ولكن الواجب على من سمع من ذلك أن يتثبت أولاً من صحة نسبة القول إلى العالم، ثم يتأمل في القول المنقول هل له حظ من النظر، فإن كان له حظ من النظر قبله ودافع عنه؛ لأنه حقٌ والحقُ يجبُ قبوله والدفاع عن القائل به.
وإن لم يكن حظٌ من النظر، اتصل بقائله وناقشه بأدبٍ فيقول: بلغني كذا وكذا فما وجه ذلك في شريف علمكم، أو نحو هذه العبارة.
ثم يأخذ في النقاش معه بأدب واحترام لقوله تعالى)ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ )(النحل: من الآية125)إلا أن يكون معانداً ظالماً فيجادل بما يستحق، كما قال تعالى في مجادلة أهل الكتاب)وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ )(العنكبوت: من الآية46)وإذا تبين الحق بعد النقاش وجب على من تبين له ابتاعه والدفاع عمن قال به.فإن لم يتبين لكل واحد أن الحق مع صاحبه، فالله تعالى حسيب الجميع وهو تعالى عند قلب كل قائل وقوله، وليس قول كل واحد حجة على الآخر، فليذهب كل واحد إلى ما تبين له أنه الحق ولا يُشّنعُ على صاحبه أو يُبدّعهُ أو يُفسّقُه ما دامت المسألة تحت مجهر الاجتهاد.
نسأل الله التوفيق للصواب والعمل بما يرضيه، وأن يهب لنا من لدنه رحمة وحكمة إنه هو الوهاب، والحمد لله رب العالمين الذي بنعمة تتم الصالحات، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين .
كتبه محمد الصالح العثيمين في 22/6/1417هـ.
* * *
رسالة
في بيان الموقف الصحيح نحو العلماء
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
نسأل الله لكم التوفيق والسداد والعناية وأن يجزيكم على ما قدمتموه لهذا الدين خير الجزاء.(131/225)
سماحة الشيخ، نحو إخوانكم في إندونيسيا نحبكم في الله ونتابع أخباركم وفتاواكم ونستفيد كثيراً من علومكم عن طريق كتبكم وأشرطتكم، وفي هذه المناسبة نستفتيكم فيما كتبه أحد الدعاة في إحدى مجلات إندونيسية المسماء بـ"سلفي" قال:" أهل الراي هم أهل الفكر الذي يستدلون بالقياس أكثر من استدلالهم بالقرآن والحديث وإمامهم أبو حنيفة النعمان بن ثابت". وقال:" وأهم شيء في هذا المبحث هو في أي مسألة نهينا أخذ مفاهيم دينية منه(أبو حنيفة)، حتى لا نغتر بعده. روايات منقولة عنه ضل فيها هو" وقال:" بل أهل السنة يحترمون أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بكل احترام لكن لا يمنعهم ذلك من انتقادهم بأسلوب علمي مؤدب فيما أخطأوا فيه من أجل أن لا يتبعوا ما أخطأوا" ثم قال:" في المسائل العقدية والفقهية كثيراً ما اعتمد أبو حنيفة على قياس وينقصه الاهتمام بالأدلة من السنة النبوية" ثم قال: "هناك روايات تؤكد على أن أبا حنيفة مرجئي والإرجاء مذهب بدعي مبني على الإيمان قول واعتقاد في القلب دون جعل العمل من ضمنه" ثم نقل أقوال العلماء الذين تكلموا على أبى حنيفة بكلام شديد التي رواها الإمام اللالكائي مثل قول الثوري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح وشريك بن عبد الله وأقوال الأئمة الأخرى مثل ابن قتيبة وابن أبي شيبة ثم قال:"لكن موقف شيخ الإسلام ابن تيمية من مخالفة أبي حنيفة لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يختلف عن موقف الأوزاعي منها، حيث قال: ومن ظن بأبي حنيفة أو غيره من أئمة المسلمين أنهم يعتمدون مخالفة الحديث الصحيح لقياس أو غيره فقد أخطأ عليهم، وتكلم إما بظن وإما بهوى.(مجموع الفتاوى 20/304) ثم علق عليه وقال:"موقف شيخ الإسلام المذكور أعلاه لولا أنه خالف آراء الأئمة السابقين مثل الأوزاعي وبان قتيبة وابن أبي شيبة وغيرهم لقبلناه واعتمدنا عليه في موقفنا نحو أخطاء أبي حنيفة في المسائل الفقهية، لكن عصر شيخ الإسلام بعيد عن أبي حنيفة،(131/226)
والأئمة الذين خالفهم أبو حنيفة عاصروه أو جاءوا بعده بفترة قصير فيكون موقفهم نحو أبي حنيفة أرجح من موقف ابن تيمية نحوه.
السؤال: ما الموقف الصحيح نحو الإمام أبي حنيفة؟ نرجو توجيهاتكم.
الجواب: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
الموقف الصحيح نحو الأئمة الذين لهم أتباع، يشهدون بعدالتهم، واستقامتهم، أن لا نتهجم عليهم، وأن نعتقد أن ما خالفوا فيه الصواب، صادر عن اجتهاد، والمجتهد من هذه الأمة لا يخلو من أجر، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، وخطؤه مغفور.
وأبو حنيفة ـ رحمه الله ـ كغيره من الأئمة له أخطأ وله إصابات، ولا أحد معصوم إلا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، كما قال الإمام مالك: كان يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر، وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
والواجب الكف عن أئمة المسلمين، لكن القول إذا كان خطأ، فيذكر القول دون أن يتعرض أحد لقائله بسبب، يذكر القول إذا كان خطأ ويرد عليه، هذا هو الطريق السليم . حرر في 12/2/1420هـ.
رسالة
في التحزّب خطره وضرره
سماحة الشيخ العلامة محمد بن صالح العثيمين حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:
لا يخفى على فضيلتكم كثرة الأحزاب في الساحة، فما توجيهكم حفظكم الله تعالى؟
فأجاب بقوله: بسم الله الرحمن الرحيم، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
لا شك أن تحزب المسلمين إلى أحزاب متفرقة متناحرة، مخالف لما تقتضيه الشريعة الإسلامية من الائتلاف والاتفاق، موافق لما يريده الشيطان من التحريش بين المسلمين، وإيقاع العداوة والبغضاء، وصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، قال الله تعالى:(إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فأعبدون) . الأنبياء، الآية:92.(131/227)
وفي الآية الأخرى :(وأنا ربكم فاتقون) . المؤمنون، الآية:52. وقال تعالى:(واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). آل عمران، الآية:103. وقال تعالى: )وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) (آل عمران:105)
فاجتهدوا في جمع الكلمة، وترك التنابذ، والتفرق فإن التنازع والتفرق، سبب للخذلان والفشل.
أسأل الله تعالى أن يصلح أمور المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق إنه على كل شيء قدير. كتبه محمد الصالح العثيمين في 13 صفر سنة 1419هـ .
رسالة
فضل تلاوة كتاب الله والحث على تعليمه
قال فضيلة الشيخ ـ أعلى الله درجته في المهديين ـ:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فإن من المعلوم ما في فضل تلاوة كتاب الله العزيز، من الأجر العظيم، وحفظ شريعة الله ـ عز وجل ـ وصلة العبد بربه، حيث يتلو كتابه الذي هو كلامه، الموصوف بصفات العظمة، والمجد، والكرم، قال الله تعالى)وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (الحجر:87) . وقال تعالى)بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ:(22) وقال تعالى: )فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيم(ٌ76) إنه لقرآن كريم(77) في كتاب مكنون(131/228)
(78) لا يمسه إلا المطهرون(79) تنزيل من رب العالمين(80). الواقعة، الآيات:75ـ80. ولهذا أقسم الله به كما في قوله تعالى:(ق والقرآن المجيد). ق، الآية:1. وأثنى على من يقوم بتلاوته، وبين ما لهم من الثواب في قوله تعالى)إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) (فاطر:29) ليوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور) فاطر، الآيتان:29، 30. وقال تعالى:( الذين أتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون) . البقرة، الآية:121.
وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" خيركم من تعلم القرآن وعلمه"(1) . وأنه قال:"ما اجتمع قوم في بيوت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده"(2) .
ولقد ظهر في زماننا هذا جماعات كثر لتحفيظ القرآن في جميع أنحاء البلاد، ومقر هذه الجماعات بيوت الله عز وجل، وهي المساجد، والتحق بها ولله الحمد شباب كثير من ذكور وإناث.
وإني أدعوا إخواني المسلمين أن يحرصوا على مساعدة هذه الجماعات، لينالوا مثل أجر التالين لكتاب الله عز وجل فإن من أعان على خير أصابه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" من دعاء إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"(3) . وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من جهز غازياً في سبيل الله فقد غز، ومن خلف غازياً في أهله بخير فقد غزا"(4).
وفق الله الجميع لما فيه الخير والهدى والصلاح والإسلاح إنه جواد كريم. كتبه محمد الصالح العثيمين في 7/8/ 1408هـ.
تم
بحمد الله تعالى
كتاب العلم
---(131/229)
(1) [1] (1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب : الأمر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ـ مختصر ـ والإمام أحمد 4/206، وأبي داود (5525).
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ... إلخ .
(1) (1) جزء من حديث أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قوله تعالى:( إنا أرسلنا نحواً إلى قومه . . .)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: أدنى أهل الجنة منزلاً.
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب: فضل العشاء في الجماعة، ومسلم، كتاب المساجد، باب: فضل صلاة العشاء والصبح في جماعة.
(2 ( 2) أخرجه الإمام أحمد جـ3 ص128، والنسائي، كتاب النساء، باب: عشرة النساء، والحاكم في "المستدرك" جـ2 ص175 وقال:"حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"ووافقه الذهبي.
(1) [2] (1) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا ترجعوا بعدي كفاراً . . .".
(1) [3] (1) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: إثم من لم يأمن جاره بوائقه، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: تحريم إيذاء الجار.
(2) (2) أخرجه الإمام أحمد جـ5 ص153، والترمذي، كتاب البر والصلة، باب: ما جاء في معاشر الناس، والدارمي، كتاب الرقاق، باب: حسن الخلق.
(1) [4] (1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب: استحباب طلاقة الوجه عند اللقاء.
(1) [5] (1)أخرجه الإمام أحمد جـ2 ص250ـ472، وبان ماجة، كتاب النكاح، باب: حسن معاشرة النساء، والهيثمي جـ4 ص302ـ303.
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: من أحق الناس بحسن الصحبة، ومسلم ، كتاب البر والصلة، باب: بر الوالدين وأنهما أحق به.
(1) (1) تقدم تخريجه ص256
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب.
(3) (3) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الحذر من الغضب، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب: فضل من يملك نفسه عند الغضب.(131/230)
(1) [6] (1) أخرجه البخاري، كتاب البيوع، باب: في العطار وبيع المسك
(1)(1) البخاري، كتاب الأنبياء، باب: حديث الغار، ومسلم، كتاب السلام، باب: الطاعون والطيرة والكهانة.
(2) (2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، سورة الطلاق، آية: 4. ومسلم، كتاب الطلاق، باب:انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل.
(1) (1)صحيح مسلم، كتاب الطلاق، باب: المطلقة ثلاثاً لا نفقة لها.
(1) [7] (1) تقدم تخريجه ص128.
(1) [8] (1) البخاري، كتاب التيمم، باب: التيمم ضربة، ومسلم، كتاب الحيض، باب: التيمم.
(1) (1) أخرجه الإمام أحمد جـ6 ص210، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القُبلة، والترمذي، كتاب الطهارة ، باب: الوضوء من القبلة، وابن ماجة، كتاب الطهارة، باب: الوضوء من القبلة، والنسائي، كتاب الطهارة، باب: ترك الوضوء من القبلة، والدار قطني جـ1 ص138، والبيهقي جـ1 ص125.
(2) (2) البخاري، كتاب صلاة الخوف، باب: صلاة الطالب والمطلوب، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: المبادرة بالغزو.
(1) (1) أخرجه مسلم، كتاب المساقاة، باب: بيع الطعام مثلاً بمثل.
(2) (2) مسلم، كتاب المساقاة، باب: صرف وبيع الذهب بالورق نقداً.
(3) (3) جزء من الحديث السابق.
(1) [9] (1) حديث صلاة التسبيح تقدم تخريجه ص138.(131/231)
(1) [10] (1) أخرجه الإمام أحمد جـ 3 ص39، والترمذي، كتاب الأطعمة، باب: ذكاة الجنين، وابن ماجة، كتاب الذبائح، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والدرامي، كتاب الأضاحي، باب: ذكاة الجنين ذكاة أمه. والبيهقي، جـ 9 ص335، والحاكم في "المستدرك" جـ4 ص127، والطبراني في الكبير، جـ 4 ص192، وابن أبي شيبة في المصنف جـ14 ص179، والهيثمي في "المجمع" جـ4 ص35، وأبو نعيم في "الحلية" جـ7 ص92، وابن حبان(1077). قال الحاكم"صحيح على شرط مسلم"،ووافقه الذهبي. وقال الزيلعي في "نصب الراية" جـ4 ص190:"ورجاله رجال الصحيح، وليس فيه غير ابن إسحاق وهو مدلس ولم يصرح بالسماع، فلا يحتج به، ومحمد بن الحسن الواسطي ذكره ابن حبان في "الضعفاء" وروى له هذا الحديث، وصححه الألباني في "الإرواء" جـ8 ص142.
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب الذبائح، باب: التسمية على الذبيحة، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب: جواز الذبح بكل ما أنهر الدم إلا السن والظفر.
(1) تقدم تخرجه ص13.
(2)أخرجه أبو داود، كتاب الأقضية، باب: في القاضي يخطئ بلفظ:"القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار؛ فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" قال أبو داود:" وهذا أصح شيء فيه، يعني حديث ابن بريدة".(131/232)
وأخرجه الترمذي، كتاب الأحكام، باب: ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القاضي، بلف:" القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة ، رجل قضى بغير حق فعلم ذاك فذاك في النار. وقاض لا يعلم فأهلك حقوق الناس فهو في النار، وقاض قضى بالحق فذلك في الجنة".وأخرجه ابن ماجة، كتاب الأحكام، باب: الحاكم يجتهد فيصيب الحق، والبغوي في "شرح السنة" جـ10 ص94، والبيهقي جـ10 ص116 ، ص117، والطبراني في "المعجم الكبير" جـ2 ص5، والحاكم في "المستدرك" جـ4 ص91، وقال:"حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وله شاهد بإسناد صحيح على شرط مسلم" ووافقه الذهبي. قال الهيثمي:"رجاله ثقات" .
(1) (1) البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: خيركم من تعلم القرآن.
(2) (2) مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضل الماهر بالقرآن والذي يتتعتع فيه.
(3) (3) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: فضل القرآن على سائر الكلام، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: فضيلة حافظ القرآن.
(4) (4) أخرجه مسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب: قراءة القرآن وسورة البقرة.
(1) [11] (1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية، باب: ما يلحق الإنسان بعد وفاته.
(1) [12] (1) الجدة : الغنى .
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الجهاد، باب: فضل من جهَّز غازياً أو خلفه بخير. ومسلم ، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي.
(1) [13] (1) تقدم تخريجه ص294.
(2) (2) رواه مسلم(2700) في الذكر والدعاء.
(3) (3) رواه مسلم (2674) .
(4) (4) تقدم تخريجه ص296.
---
(1) هذه الكتب سئل عنها فضيلة شيخنا – جزاه الله خيراً – فجمعت هاهنا على وجه الاختصار.
(1) أخرجه الإمام أحمد (1-201) ، والترمذي (2318)، وحسنه النووي في ( رياض الصالحين) ص 73،
وصححه أحمد شاكر ( المسند) 1737).
(1) تقدم تخريجه ص 13(131/233)
(1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب : الترغيب في النكاح، ومسلم، كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.
(1) تقدم تخريجه ص 113
(1) ونصه : عن خارجه – يعني ابن زيد بن ثابت :- قال : قال زيد بن ثابت: أمرني رسول الله e فتعلمت له كتاب يهود، وقال: (( إني والله ما آمن يهود على كتابي)) فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذفته، فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له إذا كُتب إليه)) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب، والإمام أحمد جـ 5 ص 186، والحاكم في (( المستدرك)) جـ 1 ص 75، وقال: (( حديث صحيح)) ووافقه الذهبي.
والحديث علقه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب: ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد بقوله: (( وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت أن النبي e أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي e كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه)). وانظر: الإصابة جـ 1 ص 543.
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ ص 402، والدارمي، كتاب الرقاق ، باب: في المحقرات، والهيثمي في (( مجمع الزوائد)) جـ 10 ص 190 ، وقال: (( رجاله رجال الصحيح )).
(1) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب: ذكر الدجال وصفة ما معه.
(1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: نسيان القرآن.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة (1395) ، ومسلم، كتاب الإيمان (29).
(1) أخرجه البخاري، كتب العلم، باب: قول لمحدث حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا ، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب: مثل المؤمن مثل النخلة. ولفظه (( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها،وأنها مثل المسلم فحدثوني ما هي ؟ )) فوق الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستصيبت ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال: (( هي النخلة)).(131/234)
(1) حديث صلاة التسبيح أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة ، باب: صلاة التسبيح، والترمذي ، كتاب الصلاة، باب : التسبيح.
وابن ماجة،كتاب إقامة الصلاة، باب : ما جاء في صلاة التسبيح، وابن خزيمة، كتاب التطوع ، باب: صلاة التسبيح، والبيهقي في (( السنن)) جـ 3 ص 51، والبغوي في (( شرح السنة )) جـ 4 ص 156، والطبراني في (( الكبير)) جـ 12 ص 243، قال الترمذي: (( حديث غريب من حديث أبي رافع)) قال ابن خزيمة : (( في القلب من إسناده شيء)) وقال الإمام أحمد : (( لم تثبت عندي صلاة التسبيح)) مسائل الإمام أحمد – روياة ابنه عبد الله جـ 2 ص 295، وقال أيضاً: (( إسناده ضعيف)) مسائل الإمام أحمد – رواية النيسابوري – جـ 1 ص 105.
وقد فصل القول فيها شيخنا العلامة محمد بن عثيمين – حفظه الله ورعاه – فقال: (( والذي يترجح عندي أن صلاة التسبيح ليست بسنة وأن خبرها ضعيف وذلك من وجوه:
أولا: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل تثبت به مشروعيتها.
الثاني: أن حديثها مضطر فقد اختلف فيه على عدة أوجه.
الثالث:أنها لم يستحبها أحد من العلماء وأئمة السلف – رحمهم الله تعالى – قال شيخ الإسلام: (( نص الإمام أحمد على كراهيتها ولم يستحبها إمام. قال: أما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يسموا عنها بالكلية)).(131/235)
الرابع : أنها لو كانت هذه الصلاة مشروعة لنقلت للأمة نقلاً لا ريب فيه واشتهرت بينهم لعظم فائدتها ولخروجها عن جنس الصلوات بل وعن جنس العبادات ، فإننا لا نعلم عبادة يخير فيها هذا التخيير بحيث تفعل في كل يوم أو أسبوع مرة أو في الشهر مرة أو في السنة مرة أو في العمر مرة فلما كانت عظيمة الفائدة خارجة عن جنس الصلوات ولم تشتهر ولم تنقل على أنه لا أصل لها وذلك إن ما خرج عن نظائره وعظمت فائدته فإن الناس سيهتمون به وينقلونه ويشيع بينهم شيوعاً ظاهراً وعظمت فائدته فإن الناس سيهتمون به وينقلونه ويشيع بينهم شيوعا ظاهرا فلما لم يكن هذا في هذه الصلاة علم أنها ليست مشروعة ولذلك لم يستحبها أحد من الأئمة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – وأن فيما يثبت مشروعيته من النوافل الخير والبركة لم أراد المزيد وهو في غني بما ثبت عما لم يثبت مما فيه خلاف وشبهة والله المستعان )) انتهى كلامه – حفظه الله ورعاه – نقلاً من مجموع الفتاوى لفضيلته، في فتاوى الفقه، كتاب الصلاة، باب: صلاة التطوع، يسّر الله تعالى نشره.
(1) انظر تفصيل هذه المسألة في " مجموع الفتاوى" لفضيلة شيخنا 3/28.
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة.
(1) أخرجه البخاري، كتاب الصيام، باب: صيام البيض، ومسلم ، كتاب صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، ولفظه: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام" .
(1) (1) رواه مسلم ، كتاب السلام، باب : النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم .
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الأداب، باب: الرفق في الأمر كله، مسلم، كتاب السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم.(131/236)
(1) (1) أخرجه الترمذي (3570) ، والحاكم (1-316).
(1) (1) أخرجه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب : طلاق الثلاث.
(2) (2) أخرجه مسلم ، كتاب الحدود ، باب : حد الخمر .
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان ، باب : فضل من استبرأ لدينه، ومسلم، كتاب المساقاة ، باب : أخذ الحلال وترك الشبهات .
(1) [3](1) أخرجه البخاري، كتاب صلاة الخوف ، باب : صلاة الطالب والمطلوب راكباً وإيماءً ، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب : المبادرة بالغزو.
(1) (1) في فضائل القرآن، باب: مدّ القراءة(4759).
(1) (1) أخرجه الإمام أحمد 2/168.
(1) (1) تقدم تخريجه صلى الله عليه وسلم ص13 .
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب : أجر الحاكم إذا اجتهد، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد .
(1) [4] (1) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب، وابن ماجة في المقدمة .
(2) (2) مسلم، كتاب المساجد ، باب: قضاء الصلاة الفائتة .
(1) [5] (1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى.
(2) (2) أخرجه الإمام أحمد 5/183.
(1) [6] (1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب: كيف يُقبض العلم، ومسلم، كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه .
(1) (1) تقدم تخريجه صلى الله عليه وسلم 93.
(1) (1) تقدم تخريجه ص154 .
(1) (1) أخرجه البخاري ، كتاب الجهاد، ومسلم ، كتاب الجهاد.
(1) (1) أخرجه مسلم، كتاب الجهاد، باب: تأمير الإمام الأمراء.
(2) (2) تقدم تخريجه ص176.
(1) (1) تقدم تخريجه ص176.
(1) (1) أخرجه الإمام أحمد 3/413، وابن ماجة(3973).
(1) (1) أخرجه الإمام أحمد(4/126 ـ 127)، وأبو داود (4607)، والترمذي (2676)، وابن ماجة (42ـ 44).
(1) (1) تقدم تخريجه ص178.
(1) (1) تقدم تخريجه ص 178 .
(1) (1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب:كسوة الكعبة، وفي كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(131/237)
(1) (1) تقدم تخريجه ص 204.
(1) (1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب: صفة النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلم كتاب الفضائل، باب: مباعدته صلى الله عليه وسلم للآثام.
(1) (1) رواه البخاري، كتاب الجهاد، باب: فضل من جهّز غازياً أو خلفه بخير، ومسلم ، كتاب الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله .
(1) (1) أنظر الدرر المنتثرة للسيوطي، ص110، وكشف الخفاء 1/325، والأسرار المرفوعة ص189.
(1) [8](1) تقدم تخريجه ص13.
(1) [9] (1) تقدم تخرجيه ص160.
(2) (2) تقدم تخريجه ص160.
(1) [10] ـ(1) أخرجه مسلم، كتاب البر، باب فضل الرفق.
(2) (2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: قوله عليه الصلاة والسلام:"يسروا. . ."، ومسلم، كتاب الجهاد، باب: الأمر بالتيسير وترك التنفير.
(1) (1) تقدم تخريجه ص204.
(1) (1) أخرجه مسلم ، كتاب الإيمان، باب: بيان أركان الإيمان والإسلام.
(1) (1) أخرجه أبو داود، كتاب الأدب، باب: حسن الخلق.
(1) [11] (1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، برقم (107).(131/238)
كتاب العلم
الشيخ محمد بن صالح العثيمين
في تعريف العلم وفضله وحكم طلبه
الفصل الأول
تعريف العلم
لغة: نقيض الجهل، وهو: إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكًا جازمًا.
اصطلاحًا: فقد قال بعض أهل العلم: هو المعرفة وهو ضد الجهل، وقال آخرون من أهل العلم: إن العلم أوضح من أن يعرف.
والذي يعنينا هو العلم الشرعي، والمراد به : علم ما أنزل الله على رسوله من البينات والهدى، فالعلم الذي فيه الثناء والمدح ما في الحديث « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » (1) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر » (2) .
ومن المعلوم أن الذي ورثه الأنبياء إنما هو علم شريعة الله - عز وجل - وليس غيره، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام- ما ورثوا للناس علم الصناعات وما يتعلق بها، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة وجد الناس يؤبرون النخل - أي يلقحونها - قال لهم لما رأى من تعبهم كلامًا يعني أنه لا حاجة إلى هذا ففعلوا، وتركوا التلقيح، ولكن النخل فسد، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « أنتم أعلم بشؤون دنياكم » (3) .
_________
(1) البخاري ، كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيرًا، ومسلم، كتاب الزكاة، باب النهي عن المسألة.
(2) أبو داود، كتاب العلم، باب: الحث على طلب العلم، والترمذي، كتاب العلم، باب: ما جاء في فضل الفقه على العبادة.
(3) أخرجه مسلم من كتاب الفضائل، باب : وجوب امتثال ما قاله شرعًا دون ما ذكره من معايش الدنيا على سبيل الرأي.(132/1)
ولو كان هذا هو العلم الذي عليه الثناء لكان الرسول صلى الله عليه وسلم أعلم الناس به؛ لأن أكثر من يُثنى عليه بالعلم والعمل هو النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن فالعلم الشرعي هو الذي يكون فيه الثناء ويكون الحمد لفاعله، ولكني مع ذلك لا أنكر أن يكون للعلوم الأخرى فائدة، ولكنها فائدة ذات حدين : إن أعانت على طاعة الله وعلى نصر دين الله وانتفع بها عباد الله، فيكون ذلك خيرًا ومصلحة، وقد يكون تعلمها واجبا في بعض الأحيان إذا كان ذلك داخلا في قوله تعالى: { وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } (الأنفال:60) .
وقد ذكر كثير من أهل العلم أن تعلم الصناعات فرض كفاية ؛ وذلك لأن الناس لا بد لهم من أن يطبخوا بها، ويشربوا بها ، وغير ذلك من الأمور التي ينتفعون بها، فإذا لم يوجد من يقوم بهذه المصانع صار تعلمها فرض كفاية. وذا محل جدل بين أهل العلم الشرعي الذي هو فقه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وما عدا ذلك فإما أن يكون وسيلة إلى خير أو وسيلة إلى شر، فيكون حكمه بحسب ما يكون وسيلة إليه.(132/2)
الفصل الثاني
فضائل العلم
لقد مدح الله - سبحانه وتعالى - العلم وأهله، وحثَّ عباده على العلم والتزود منه وكذلك السنة المطهرة.
فالعلم من أفضل الأعمال الصالحة، وهو من أفضل وأجلّ العبادات، عبادات التطوع؛ لأنه نوع من الجهاد في سبيل الله، فإن دين الله - عز وجل - إنما قام بأمرين :
أحدهما: العلم والبرهان.
والثاني: القتال والسنان، فلا بد من هذين الأمرين، ولا يمكن أن يقوم دين الله ويظهر إلا بهما جميعًا ، والأول منهما مقدّم على الثاني، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يُغِير على قوم حتى تبلغهم الدعوة إلى الله - عز وجل - فيكون العلم قد سبق القتال.
قال تعالى: { مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } (الزمر، الآية :9) فالاستفهام هنا لا بد فيه من مقابل " أمَّن هو قائم قانت آناء الليل والنهار" أي كمن ليس كذلك، والطرف الثاني المفضل عليه محذوف للعلم به، فهل يستوي من هو قانت آناء الليل ساجدًا أو قائمًا يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه، هل يستوي هو ومن هو مستكبر عن طاعة الله ؟(132/3)
الجواب: لا يستوي؛ فهذا الذي هو قانت يرجو ثواب الله ويحذر الآخرة هل فِعلُه ذلك عن علم أو عن جهل ؟ الجواب : عن علم، ولذلك قال: { مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ } (الزمر الآية : 9) . لا يستوي الذي يعلم والذي لا يعلم، كما لا يستوي الحي والميت، والسميع والأصم، والبصير والأعمى، العلم نور يهتدي به الإنسان، ويخرج به من الظلمات إلى النور، العلم يرفع الله به من يشاء من خلقه { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (المجادلة: الآية 11). ولهذا نجد أن أهل العلم محل الثناء، كلما ذُكروا أُثنِيَ عليهم، وهذا رَفْع لهم في الدنيا، أما في الآخرة فإنهم يرتفعون درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله والعمل بما عملوا .(132/4)
إن العابد حقًّا هو الذي يعبد ربه على بصيرة ويتبين له الحق، وهذه سبيل النبي صلى الله عليه وسلم { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف الآية : 108)
فالإنسان الذي يتطهر وهو يعلم أنه على طريق شرعي، هل هو كالذي يتطهر من أجل أنه رأى أباه أو أمه يتطهرا؟
أيهما أبلغ في تحقيق العبادة ؟ رجل يتطهر ؛ لأنه علم أن الله أمر بالطهارة ، وأنها هي طهارة النبي صلى الله عليه وسلم فيتطهر امتثالا لأمر الله واتباعًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أم رجل آخر يتطهر ؛ لأن هذا هو المعتاد عنده ؟(132/5)
فالجواب: بلا شك أن الأول هو الذي يعبد الله على بصيرة. فهل يستوي هذا وذاك؟ وإن كان فعل كل منهما واحدًا ، لكن هذا عن علم وبصيرة يرجو الله - عز وجل ويحذر الآخرة ويشعر بأنه متبع للرسول صلى الله عليه وسلم وأقف عند هذه النقطة وأسأل هل نستشعر عند الوضوء بأننا نمتثل لأمر الله - سبحانه وتعالى- في قوله : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ } (المائدة: الآية 6).
هل الإنسان عند وضوئه يستحضر هذه الآية وأنه يتوضأ امتثالا لأمر الله؟ .
هل يستشعر أن هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه يتوضأ اتباعًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟(132/6)
الجواب: نعم، الحقيقة أن منا من يستحضر ذلك، ولهذا يجب عند فعل العبادات أن نكون ممتثلين لأمر الله بها حتى يتحقق لنا بذلك الإخلاص وأن نكون متبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم . نحن نعلم أن من شروط الوضوء النية، لكن النية قد يراد بها نية العمل ، وهذا نتنبه لهذا الأمر العظيم، وهي أن نستحضر ونحن نقوم بالعبادة أن نمتثل أمر الله بها لتحقيق الإخلاص، وأن نستحضر أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعلها ونحن له متبعون فيها لتحقيق المتابعة؛ لأن من شروط صحة العمل:
الإخلاص.
والمتابعة.
اللذين بهما تتحقق شهادة أنه لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله .
نعود إلى ما ذكرنا أولا من فضائل العلم، إذ بالعلم يعبد الإنسان ربه على بصيرة، فيتعلق قلبه بالعبادة ويتنور قلبه بها، ويكون فاعلا لها على أنها عبادة لا على أنها عادة، ولهذا إذا صلى الإنسان على هذا النحو فإنه مضمون له ما أخبر الله به من أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.
ومن أهم فضائل العلم ما يلي:(132/7)
1- أنه إرث الأنبياء، فالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لم يورثوا درهمًا ولا دينارًا وإنما ورثوا العلم، فمَنْ أخذ بالعلم فقد أخذ بحظ وافر من إرث الأنبياء، فأنت الآن في القرن الخامس عشر إذا كنت من أهل العلم ترث محمدًا صلى الله عليه وسلم وهذا من أكثر الفضائل.
2- أنه يبقى والمال يفنى، فهذا أبو هريرة - رضي الله عنه - من فقراء الصحابة حتى إنه يسقط من الجوع كالمغمى عليه وأسألكم بالله هل يجري لأبي هريرة ذكر بين الناس في عصرنا أم لا ؟ نعم يجري كثيرا فيكون لأبي هريرة أجر من انتفع بأحاديثه؛ إذ العلم يبقى والمال يفنى، فعليك يا طالب العلم أن تستمسك بالعلم فقد ثبت في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا مات الإنسان، انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية أو عمل ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له » (1)
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوصية ، باب : ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته.(132/8)
3- أنه لا يُتعب صاحبه في الحراسة؛ لأنه إذا رزقك الله علمًا فمحله في القلب لا يحتاج إلى صناديق أو مفاتيح أو غيرها، هو في القلب محروس، وفي النفس محروس، وفي الوقت نفسه هو حارس لك؛ لأنه يحميك من الخطر بإذن الله - عز وجل - فالعلم يحرسك، ولكن المال أنت تحرسه تجعله في صناديق وراء الأغلاق، ومع ذلك تكون غير مطمئن عليه.
4- أن الإنسان يتوصل به إلى أن يكون من الشهداء على الحق، والدليل قوله تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } (آل عمران: الآية 18). فهل قال: (( أولو المال))؟ لا، بل قال : { وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ } فيكفيك فخرًا يا طالب العلم أن تكون ممن شهد الله أنه لا إله إلا هو مع الملائكة الذين يشهدون بوحدانية الله - عز وجل - .(132/9)
5- أن أهل العلم هو أحد صنفي ولاة الأمر الذين أمر الله بطاعتهم في قوله تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } (النساء: من الآية 59). فإن ولاة الأمور هنا تشمل ولاة الأمور من الأمراء والحكام، والعلماء وطلبة العلم؛ فولاية أهل العلم في بيان شريعة الله ودعوة الناس إليها وولاية الأمراء في تنفيذ شريعة الله وإلزام الناس بها.
أن أهل العلم هو القائمون على أمر الله تعالى حتى تقوم الساعة، ويستدل لذلك بحديث معاوية - رضي الله عنه - يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله » (1) رواه البخاري .
وقد قال الإمام أحمد عن هذه الطائفة: (( إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم )).
وقال القاضي عياض - رحمه الله - : (( أراد أحمد أهل السنة ومن يعتقد مذهب الحديث)).
7- أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يرغب أحدًا أن يغبط أحدًا على شيء من النعم التي أنعم الله بها إلا على نعمتين هما:
1- طلب العلم والعمل به.
_________
(1) البخاري ، كتاب العلم، باب: من يرد الله به خيرًا ومسلم، كتاب الزكاة، باب: النهي عن المسألة .(132/10)
2- التاجر الذي جعل ماله خدمة للإسلام. فعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمةً فهو يقضي بها ويُعلّمها » (1) .
8- ما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة طيبة، قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعُشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تُمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من فقُُه في دين الله ونفعهُ ما بعثني الله به، فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ، ولم يقبل هُدى الله الذي أرسلتُ به » (2) .
9- أنه طريق الجنة كما دل على ذلك حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « ومن سلك طريقا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة » . )) (3) رواه مسلم .
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب العلم، باب الاغتباط في العلم والحكمة، ومسلم ، كتاب الصلاة ، باب: فضل من يقوم بالقرآن ويعلمه.
(2) أخرجه البخاري ، كتاب العلم، باب: فضل من علم وعمل ، ومسلم، كتاب الفضائل ، باب: مثل ما بعث به النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم.
(3) أخرجه مسلم ، كتاب الدعوات ، باب : فضل الاجتماع على تلاوة القرآن.(132/11)
10- ما جاء في حديث معاوية - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من يرد الله به خيرًا يُفقهه في الدين » (1) أي: يجعله فقيهًا في دين الله - عز وجل - ، والفقه في الدين ليس المقصود به فقه الأحكام العملية المخصوصة عند أهل العلم بعلم الفقه فقط، ولكن المقصود به هو: علم التوحيد، وأصول الدين، وما يتعلق بشريعة الله - عز وجل -. ولو لم يكن من نصوص الكتاب والسنة إلا هذا الحديث في فضل العلم لكان كاملا في الحثّ على طلب علم الشريعة والفقه فيها.
11- أن العلم نور يستضيء به العبد فيعرف كيف يعبد ربه، وكيف يعامل عباده، فتكون مسيرته في ذلك على علم وبصيرة.
_________
(1) تقدم تخريجه ص 13.(132/12)
12- أن العالم نور يهتدي به الناس في أمور دينهم ودنياهم، ولا يخفى على كثير منّا قصة الرجل الذي من بني إسرائيل « قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُلَّ على رجل عابد فسأله هل له من توبة ؟ فكأن العابد استعظم الأمر فقال: لا. فقتله فأتم به المائة، ثم ذهب إلى عالم فسأله فأخبره أن له توبة وأنه لا شيء يحول بينه وبين التوبة، ثم دلَّه على بلد أهله صالحون ليخرج إليها، فخرج فأتاه الموت في أثناء الطريق . » والقصة مشهورة (1) . فانظر الفرق بين العالم والجاهل.
13- أن الله يرفع أهل العلم في الآخرة وفي الدنيا، أما في الآخرة فإن الله يرفعهم درجات بحسب ما قاموا به من الدعوة إلى الله - عز وجل - والعمل بما علموا ، وفي الدنيا يرفعهم الله بين عباده بحسب ما قاموا به. قال الله تعالى: { يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } (المجادلة: الآية 11).
_________
(1) أخرجها البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر من بني إسرائيل ، ومسلم، كتاب التوبة، باب: قبول توبة القاتل.(132/13)
الفصل الثالث
حكم طلب العلم
طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون طلب العلم واجبًا على الإنسان عينًا أي فرض عين، وضابطه أن يتوقف عليه معرفة عبادة يريد فعلها أو معاملة يريد القيام بها، فإنه يجب عليه في هذه الحال أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة وكيف يقوم بهذه المعاملة، وما عدا ذلك من العلم ففرض كفاية وينبغي لطالب العلم أن يشعر نفسه أنه قائم بفرض كفاية حال طلبه ليحصل له ثواب فاعل الفرض مع التحصيل العلمي.
ولا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال، بل هو من الجهاد في سبيل الله، ولا سيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم، وبدأ الجدل من كثير من الناس ، فهذه ثلاثة أمور كلها تُحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم.
أولا: بدع بدأت تظهر شرورها.
ثانيًا: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم.
ثالثًا: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم.(132/14)
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع، وعندهم فقه في دين الله، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله ؛ لأن كثيرًا من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شر أكبر لا يعلم مداه إلا الله.(132/15)
الأمر الأول : إخلاص النية لله - عز وجل -:
بأن يكون قصده بطلب العلم وجه الله والدار الآخرة؛ لأن الله حثَّ عليه ورغَّب فيه، فقال تعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } (محمد: الآية 19) والثناء على العلماء في القرآن معروف، وإذا أثنى الله على شيء أو أمر به صار عبادة.
إذن فيجب الإخلاص فيه لله بأن ينوي الإنسان في طلب العلم وجه الله - عز وجل - وإذا نوى الإنسان بطلب العلم الشرعي أن ينال شهادة ليتوصل بها إلى مرتبة أو رتبة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تعلم علمًا يبتغي به وجه الله - عز وجل - لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضًا من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة » - يعني ريحها - (1) وهذا وعيد شديد.
لكن لو قال طالب العلم: أنا أريد أن أنال الشهادة لا من أجل حظّ من الدنيا، ولكن لأن النُّظُم أصبح مقياس العالم فيها شهادته فنقول: إذا كانت نية الإنسان نيل الشهادة من أجل نفع الخلق تعليمًا أو إدارة أو نحوها، فهذه نية سليمة لا تضره شيئًا ؛ لأنها نية حق.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد ج 2 ص 338، وأبو داود ، كتاب العلم، باب طلب العلم لغير الله تعالى. وابن ماجه، المقدمة، باب الانتفاع بالعلم والعمل به، والحاكم في «المستدرك» ج 1 ص 160، وابن أبي شيبة في «المصنف» ج8 ص 543، قال الحاكم : حديث صحيح سنده ثقات.(132/16)
وإنما ذكرنا الإخلاص في أول آداب طالب العلم ؛ لأن الإخلاص أساس، فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم امتثال أمر الله - عز وجل - لأن الله - عز وجل - أمر بالعلم فقال تعالى : { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ } (محمد: الآية 19) فأمر بالعلم، فإذا تعلمت فإنك ممتثل لأمر الله - عز وجل - .(132/17)
الأمر الثاني: رفع الجهل عن نفسه وعن غيره :
أن ينوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ؛ لأن الأصل في الإنسان الجهل، ودليل ذلك قوله تعالى: { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } (النحل:78) . والواقع يشهد بذلك فتنوي بطلب العلم رفع الجهل عن نفسك وبذلك تنال خشية الله { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } (فاطر، الآية :28) فتنوي رفع الجهل عن نفسك ؛ لأن الأصل فيك الجهل، فإذا تعلمت وصرت من العلماء انتفى عنك الجهل، وكذلك تنوي رفع الجهل عن الأمة ويكون ذلك بالتعليم بشتى الوسائل لتنفع الناس بعلمك.
وهل من شرط نفع العلم أن تجلس في المسجد في حلقة ؟ أو يمكن أن تنفع الناس بعلمك في كل حال ؟
الجواب: بالثاني؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « بلِّغوا عني ولو آية » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الأنبياء ، باب: ما ذكر عن بني إسرائيل(132/18)
لأنك إذا علَّمت رجلا علمًا وعلَّمه رجلا آخر صار لك أجر رجلين، ولو علَّم ثالثا صار لك أجر ثلاثة وهكذا، ومن ثَمَّ صار من البدع أن الإنسان إذا فعل عبادة قال: (( اللهم اجعل ثوابها لرسول الله ))؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي علمك بها وهو الذي دلك عليها فله مثل أجرك.
قال الإمام أحمد - رحمه الله تعالى -: (( العلم لا يعدله شيء لمن صحت نيته )). قالوا : كيف ذلك ؟ (( ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره ))؛ لأن الأصل فيهم الجهل كما هو الأصل فيك، فإذا تعلمت من أجل أن ترفع الجهل عن هذه الأمة كنت من المجاهدين في سبيل الله الذين ينشرون دين الله.(132/19)
الأمر الثالث: الدفاع عن الشريعة:
أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة؛ لأن الكتب لا يمكن أن تدافع عن الشريعة، ولا يدافع عن الشريعة إلا حامل الشريعة، فلو أن رجلا من أهل البدع جاء إلى مكتبة حافلة بالكتب الشرعية فيها ما لا يحصى من الكتب، وقام يتكلم ببدعة ويقررها فلا أظن أن كتابًا واحدًا يرد عليه، لكن إذا تكلم عند شخص من أهل العلم ببدعته ليقررها فإن طالب العلم يرد عليه ويدحض كلامه بالقرآن والسنة.
فعلى طالب العلم أن ينوي بطلب العلم الدفاع عن الشريعة ؛ لأن الدفاع عن الشريعة لا يكون إلا برجالها كالسلاح تمامًا، لو كان عندنا أسلحة ملأت خزائنها ؛ فهل هذه الأسلحة تستطيع أن تقوم من أجل أن تلقي قذائفها على العدو؟ أو لا يكون ذلك إلا بالرجال ؟
فالجواب: لا يكون ذلك إلا بالرجال، وكذلك العلم.
ثم إن البدع تتجدد، فقد توجد بدع ما حدثت في الزمن الأول ولا توجد في الكتب فلا يمكن أن يدافع عنها إلا طالب العلم، ولهذا أقول:(132/20)
إن ما تجب مراعاته لطالب العلم الدفاع عن الشريعة، إذن فالناس في حاجة ماسة إلى العلماء؛ لأجل أن يردوا على كيد المبتدعين وسائر أعداء الله - عز وجل - ولا يكون ذلك إلا بالعلم الشرعي المتلقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .(132/21)
الأمر الرابع: رحابة الصدر في مسائل الخلاف:
أن يكون صدره رحبًا في مواطن الخلاف الذي مصدره الاجتهاد ؛ لأن مسائل الخلاف بين العلماء، إما أن تكون مما لا مجال للاجتهاد فيه ويكون الأمر فيها واضحًا فهذه لا يُعذر أحد بمخالفتها، وإما أن تكون مما للاجتهاد فيها مجال فهذه يُعذر فيها من خالفها، ولا يكون قولك حجة على من خالفك فيها؛ لأننا لو قبلنا ذلك لقلنا بالعكس قوله حجة عليك.
وأنا أريد بهذا ما للرأي فيه مجال، ويسع الإنسانَ فيه الخلافُ، أما من خالف طريق السلف كمسائل العقيدة فهذه لا يقبل من أحد مخالفة ما كان عليه السلف الصالح، لكن في المسائل الأخرى التي للرأي فيها مجال فلا ينبغي أن يتُخذ من هذا الخلاف مطعن في الآخرين، أو يتُخذ منها سببٌ للعداوة والبغضاء .
فالصحابة - رضي الله عنهم - يختلفون في أمور كثيرة، ومن أراد أن يطلع على اختلافهم فليرجع إلى الآثار الواردة عنهم يجد الخلاف في مسائل كثيرة، وهي أعظم من المسائل التي اتخذها الناس هذه الأيام ديدنًا للاختلاف حتى اتخذ الناس من ذلك تحزبًا بأن يقولوا: أنا مع فلان كأن المسألة مسألة أحزاب فهذا خطأ.(132/22)
من ذلك مثلا كأن يقول أحد إذا رفعت من الركوع فلا تضع يدك اليمنى على اليسرى، بل أرسلها إلى جنب فخذيك فإن لم تفعل فأنت مبتدع.
كلمة مبتدع ليست هينة على النفس، إذا قال لي هذا سيحدث في صدري شيء من الكراهية؛ لأن الإنسان بشر، ونحن نقول هذه المسألة فيها سعة إما أن يضعها أو يرسلها، ولهذا نص الإمام أحمد - رحمه الله - على أنه يخيّر بين أن يضع يده اليمنى على اليسرى وبين الإرسال؛ لأن الأمر في ذلك واسع، ولكن ما هي السنة عند تحرير هذه المسألة؟(132/23)
فالجواب: السنة أن تضع يدك اليمنى على اليسرى إذا رفعت من الركوع كما تضعها إذا كنت قائمًا، والدليل فيما رواه البخاري عن سهل بن سعد قال « كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل يده اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة » (1) فلتنظر هل يريد بذلك في حال السجود؟ أو يريد بذلك في حال القعود ؟ لا بل يريد بذلك في حالة القيام وذلك يشمل القيام قبل الركوع والقيام بعد الركوع، فيجب أن لا نأخذ من هذا الخلاف بين العلماء سببًا للشقاق والنزاع؛ لأننا كلنا نريد الحق وكلنا فعل ما أدّاه اجتهاده إليه، فما دام هكذا فإنه لا يجوز أن نتخذ من ذلك سببًا للعداوة والتفرق بين أهل العلم؛ لأن العلماء لم يزالوا يختلفوا حتى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم .
إذن فالواجب على طلبة العلم أن يكونوا يدًا واحدة، ولا يجعلوا مثل هذا الخلاف سببًا للتباعد والتباغض، بل الواجب إذا خالفت صاحبك بمقتضى الدليل عندك، وخالفكم هو بمقتضى الدليل عنده أن تجعلوا أنفسكم على طريق واحد، وأن تزداد المحبة بينكما.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب: وضع اليمنى على اليسرى، ولفظه: (( عن سهل بن سعد قال: كان الناس يؤمرون أن يضع الرجل اليد اليمنى على ذراعه اليسرى في الصلاة)).(132/24)
ولهذا فنحن نحب ونهنىء شبابنا الذين عندهم الآن اتجاهًا قويًّا إلى أن يقرنوا المسائل بالدلائل وأن يبنوا علمهم على كتاب الله وسنة رسوله، نرى أن هذا من الخير وأنه يبشر بفتح أبواب العلم من مناهجه الصحيحة، ولا نريد منهم أن يجعلوا ذلك سببا للتحزب والبغضاء، وقد قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } (الأنعام: الآية : 159) فالذين يجعلون أنفسهم أحزابًا يتحزبون إليها لا نوافقهم على ذلك؛ لأن حزب الله واحد ، ونرى أن اختلاف الفهم لا يوجب أن يتباغض الناس وأن يقع في عرض أخيه.(132/25)
فيجب على طلبة العلم أن يكونوا إخوة، حتى وإن اختلفوا في بعض المسائل الفرعية، وعلى كل واحد أن يدعو الآخر بالهدوء والمناقشة التي يُراد بها وجه الله والوصول إلى العلم، وبهذا تحصل الألفة، ويزول هذا العنت والشدة التي تكون في بعض الناس، حتى قد يصل بهم الأمر إلى النزاع والخصام، وهذا لا شك يفرح أعداء المسلمين والنزاع بين الأمة من أشد ما يكون في الضرر قال الله تعالى: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } ( الأنفال، الآية :46) .(132/26)
وكان الصحابة- رضي الله عنهم - يختلفون في مثل هذه المسائل، ولكنهم على قلب واحد، على محبة وائتلاف، بل إني أقول بصراحة : إن الرجل إذا خالفك بمقتضى الدليل عنده فإنه موافق لك في الحقيقة؛ لأن كلًّا منكما طالب للحقيقة وبالتالي فالهدف واحد وهو الوصول إلى الحق عن دليل ، فهو إذن لم يخالفك ما دمت تقرّ أنه إنما خالفك بمقتضى الدليل عنده، فأين الخلاف؟ وبهذه الطريقة تبقى الأمة واحدة وإن اختلفت في بعض المسائل لقيام الدليل عندها، أما مَنْ عاند وكابر بعد ظهور الحق فلا شك أنه يجب أن يعامل بما يستحقه بعد العناد والمخالفة، ولكل مقام مقال.(132/27)
الأمر الخامس: العمل بالعلم:
أن يعمل طالب العلم بعلمه عقيدة وعبادة، وأخلاقًا وآدابًا ومعاملةً ؛ لأن هذا هو ثمرة العلم وهو نتيجة العلم، وحامل العلم كالحامل لسلاحه، إما له وإما عليه، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « القرآن حجة لك أو عليك » (1) لك إن عملت به ، وعليك إن لم تعمل به، وكذلك يكون العمل بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم بتصديق الأخبار وامتثال الأحكام ، إذا جاء الخبر من الله ورسوله فصدِّقه وخُذه بالقبول والتسليم ولا تقل: لِمَ؟ وكيف؟ فإن هذا طريقة غير المؤمنين فقد قال الله تعالى: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا } (الأحزاب الآية :36) .
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الوضوء ، باب : فضل الوضوء.(132/28)
والصحابة كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم بأشياء قد تكون غريبة وبعيدة عن أفهامهم، ولكنهم يتلقون ذلك بالقبول لا يقولون: لِمَ؟ وكيف؟ بخلاف ما عليه المتأخرون من هذه الأمة، نجد الواحد منهم إذا حُدِّث بحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم وحارَ عقله فيه نجده يورد على كلام الرسول صلى الله عليه وسلم الإيرادات التي تستشف منها أنه يريد الاعتراض لا الاسترشاد، ولهذا يُحال بينه وبين التوفيق، حتى يردّ هذا الذي جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لم يتلقه بالقبول والتسليم.
وأضرب لذلك مثلا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير، فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له » (1)
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب التهجد، باب: الدعاء والصلاة من الليل، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.(132/29)
هذا الحديث حدّث به النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث مشهور بل متواتر، ولم يرفع أحد من الصحابة لسانه ليقول: يا رسول الله كيف ينزل؟ وهل يخلو منه العرش أم لا؟ وما أشبه ذلك، لكن نجد بعض الناس يتكلم في مثل هذا ويقول كيف يكون على العرش وهو ينزل إلى السماء الدنيا؟ وما أشبه ذلك من الإيرادات التي يوردونها، ولو أنهم تلقوا هذا الحديث بالقبول وقالوا : إن الله - عز وجل - مستو على عرشه والعلو من لوازم ذاته، وينزل كما يشاء- سبحانه وتعالى - لاندفعت عنهم هذه الشبهة ولم يتحيروا فيما أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه.
إذن الواجب علينا أن نتلقى ما أخبر الله به ورسوله من أمور الغيب والتسليم، وأن لا نعارضها بما يكون في أذهاننا من المحسوس والمشاهد؛ لأن الغيب أمر فوق ذلك، والأمثلة على ذلك كثيرة لا أحب أن أطيل بذكرها، إنما موقف المؤمن من مثل هذه الأحاديث هو القبول والتسليم بأن يقول : صدَق الله ورسوله كما أخبر الله عن ذلك في قوله: { آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ } (البقرة الآية : 285) .(132/30)
فالعقيدة يجب أن تكون مبنية على كتاب الله وسنة رسوله، وأن يعلم الإنسان أنه لا مجال للعقل فيها لا أقول مدخل للعقل فيها، وإنما أقول لا مجال للعقل فيها، إلا لأن ما جاءت به من نصوص في كمال الله شاهدة به العقول، وإن كان العقل لا يدرك تفاصيل ما يجب لله من كمال لكنه يدرك أن الله قد ثبت له كل صفة الكمال لا بد أن يعمل بهذا العلم الذي منَّ الله به عليه من ناحية العقيدة.
كذلك من ناحية العبادة، التعبد لله - عز وجل - وكما يعلم كثير منا أن العبادة مبنية على أمرين أساسين :
إحداهما: الإخلاص لله - عز وجل ـ .
والثاني: المتابعة للرسول، فيبني الإنسان عبادته على ما جاء عن الله ورسوله، لا يبتدع في دين الله ما ليس منه لا في أصل العبادة، ولا في وصفها ، ولهذا نقول : لا بد في العبادة أن تكون ثابتة بالشرع في هيئتها، وفي مكانها، وفي زمانها، وفي سببها، لا بد أن تكون ثابتة بالشرع في هذه الأمور كلها.(132/31)
فلو أن أحدًا أثبت شيئًا من الأسباب لعبادة تعبد الله بها دون دليل رددنا عليه ذلك، وقلنا: إن هذا غير مقبول؛ لأنه لا بد أن يثبت بأن هذا سبب لتلك العبادة وإلا فليس بمقبول منه، ولو أن أحدًا شرع شيئًا من العبادات لم يأت به الشرع أو أتي بشيء ورد به الشرع لكن على هيئة ابتدعها أو في زمان ابتدعه، قلنا إنها مردودة عليك؛ لأنه لا بد أن تكون العبادة مبنية على ما جاء به الشرع؛ لأن هذا هو مقتضى ما علّمك الله تعالى من العلم ألا تتعبد الله تعالى إلا بما شرع.
ولهذا قال العلماء : إن الأصل في العبادات الحظر حتى يقوم دليل على المشروعية ، واستدلوا على ذلك بقوله: { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ } (الشورى: الآية 21) وبقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث عائشة -رضي الله عنها-: « من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد » (1) .
حتى لو كنت مخلصا وتريد الوصول إلى الله، وتريد الوصول إلى كرامته، ولكنه على غير الوجه المشروع فإن ذلك مردود عليك، ولو أنك أردت الوصول إلى الله من طريق لم يجعله الله تعالى طريقا للوصول إليه فإن ذلك مردود عليك.
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة ، وردّ محدثات الأمور.(132/32)
إذن فواجب طالب العلم أن يكون متعبدًا الله تعالى بما علمه من الشرع لا يزيد ولا ينقص، لا يقول : إن هذا الأمر الذي أريد أن أتعبد لله به أمر تسكن إليه نفسي ويطمئن إليه قلبي وينشرح به صدري، لا يقول هكذا حتى لو حصل هذا فليزنها بميزان الشرع فإن شهد الكتاب والسنة لها بالقبول فعلى العين والرأس وإلا فإنه قد يزين له سوء عمله: { أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } (فاطر: الآية 8) .(132/33)
كذلك لا بد أن يكون عاملا بعمله في الأخلاق والمعاملة ، والعلم الشرعي يدعو إلى كل خلق فاضل من الصدق، والوفاء ومحبة الخير للمؤمنين حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » (1) وقال عليه الصلاة والسلام: « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » (2) ، وكثير من الناس عندهم غيرة وحب للخير، ولكن يسعون الناس بأخلاقهم، نجده عنده شدة وعنف حتى في مقام الدعوة إلى الله - عز وجل، نجده يستعمل العنف والشدة، وهذا خلاف الأخلاق التى أمر بها الله - عز وجل ـ.
واعلم أن حسن الخلق هو ما يقرب إلى الله - عز وجل - وأولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم وأدناهم منه منزلة أحاسنهم أخلاقًا كما قال صلى الله عليه وسلم : « (( إن من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون )) . قالوا يا رسول الله ! قد علمنا الثرثارون والمتشدقون فما المتفيهقون؟ قال؟ ((المتكبرون)) » (3)
_________
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب: باب أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير.
(2) رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب: الأمر بالوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول . ونصه: عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلا فمنا من يصلح خباءه ومنا من ينتضل، ومنا من هو في جَشَرِه إذا نادى مُنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة جامعة، فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « إنه لم يكن نبي قبلي إلا كان حقًّا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم، وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها وسيصيب آخرها بلاء وأمور تنكرونها. وتجيء فتن يرقق بعضها بعضًا وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مُهلكتي ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه ! فمن أحب أن يزحزح عن الناس ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه . ومن بايع إمامًا فأعطاه صفقة يديه وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر فاضربوا عنق الآخر )).
(3) أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة ، باب: ما جاء في معالي الأخلاق ، والإمام أحمد بلفظ (( إن من أحبكم أحسنكم خلقًا)) جـ 2 ص 189 ، والبغوي في (( شرح السنة )) جـ 12 ص 366، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) وقال: (( رواه أحمد والطبراني ورجال أحمد رجال الصحيح)).(132/34)
الأمر السادس: الدعوة إلى الله :
أن يكون داعيًا بعلمه إلى الله - عز وجل - يدعو في كل مناسبة في المساجد، وفي المجالس، وفي الأسواق وفي كل مناسبة، هذا النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن آتاه الله النبوة والرسالة ما جلس في بيته بل كان يدعو الناس ويتحرك، وأنا لا أريد من طلبة العلم أن يكونوا نسخًا من كتب، ولكني أريد منهم أن يكونوا علماء عاملين.(132/35)
الأمر السابع: الحكمة :
أن يكون متحليًا بالحكمة، حيث يقول الله تعالى: { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة: الآية 269) والحكمة أن يكون طالب العلم مُربيًا لغيره بما يتخلق به من الأخلاق، وبما يدعو إليه من دين الله - عز وجل - بحيث يخاطب كل إنسان بما يليق بحاله، وإذا سلكنا هذا الطريق حصل لنا خير كثير كما قال ربنا - عز وجل:- { وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } (البقرة: الآية 269) .
والحكيم هو : الذي ينزل الأشياء منازلها؛ لأن الحكيم مأخوذ من الإحكام وهو الإتقان، وإتقان الشيء أن ينزله منزلته، فينبغي بل يجب على طالب العلم أن يكون حكيمًا في دعوته.(132/36)
وقد ذكر الله مراتب الدعوة في قوله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل: الآية 125) وذكر الله تعالى مرتبة رابعة في جدال أهل الكتاب فقال تعالى: { وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } (العنكبوت: الآية 46) فيختار طالب العلم من أساليب الدعوة ما يكون أقرب إلى القبول، ومثال ذلك في دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، جاء أعرابي فبال في جهة من المسجد، فقام إليه الصحابة يزجرونه، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما قضى بوله دعاه النبي وقال له: « إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله عز وجل، والصلاة، وقراءة القرآن » (1) أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم ، أرأيتم أحسن من هذه الحكمة؟ فهذا الأعرابي انشرح صدره واقتنع حتى إنه قال (( اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدًا)) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء باب : صب الماء على البول في المسجد ، ومسلم كتاب الطهارة، باب : وجوب غسل البول.(132/37)
وقصة أخرى عن معاوية بن الحكم السُلميّ ، قال: « بيْنا أنا أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله ، فرماني القوم بأبصارهم ، فقلت: واثُكل أُمياه! ما شأنكم تنظرون إليَّ ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم. فلما رأيتهم يصمتونني، لكنّي سكتّ. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فبأبي هو وأمي ! ما رأيت معلمًا بعده أحسن تعليمًا منه، فوالله ! ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني. قال: (( إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن )) » (1) ومن هنا نجد أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالحكمة كما أمر الله - عز وجل -.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة.(132/38)
ومثال آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا وفي يده خاتم ذهب وخاتم الذهب حرام على الرجال، فنزعه النبي صلى الله عليه وسلم من يده ورمى به، وقال: « يعمد أحدكم إلى جمرة من نار فيضعها في يده » (1) ولما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم قيل للرجل : خذ خاتمك انتفع به، فقال: والله لا آخذ خاتمًا طرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلوب التوجيه هنا أشد؛ لأن لكل مقام مقالا ، وهكذا ينبغي لكل من يدعو إلى الله أن ينزل الأمور منازلها وألا يجعل الناس على حد سواء، والمقصود حصول المنفعة.
وإذا تأملنا ما عليه كثير من الدعاة اليوم وجدنا أن بعضهم تأخذه الغيرة حتى يُنَفِّر الناس من دعوته، لو وجد أحدًا يفعل شيئًا محرمًا لوجدته يُشهِّر به بقوة وبشدة يقول: ما تخاف الله، ما تخشى الله، وما أشبه ذلك حتى ينفر منه، وهذا ليس بطيب؛ لأن هذا يقابل بالضد، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - لما نقل عن الشافعي - رحمه الله - ما يراه في أهل الكلام، حينما قال: (( حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال ويطاف بهم في العشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام )).
_________
(1) أخرجه مسلم ، كتاب اللباس، باب : تحريم خاتم الذهب على الرجال.(132/39)
قال شيخ الإسلام : إن الإنسان إذا نظر إلى هؤلاء وجدهم مستحقين لما قاله الشافعي من وجه، ولكنه إذا نظر إليهم بعين القدر ، والحيرة قد استولت عليهم والشيطان قد استحوذ عليهم، فإنه يَرِقّ لهم ويرحمهم، ويحمد الله أن عافاه مما ابتلاهم به، أوتوا ذكاءً وما أوتوا ذكاء، أو أوتوا فهوما وما أوتوا علوما، أو أوتوا سمعًا وأبصارًا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء.
هكذا ينبغي لنا أيها الإخوة أن ننظر إلى أهل المعاصي بعينين: عين الشرع، وعين القدر، عين الشرع أي لا تأخذنا في الله لومة لائم كما قالت تعالى عن الزانية والزاني: { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } (النور: الآية 2)
وننظر إليهم بعين القدر فنرحمهم ونرق لهم ونعاملهم بما نراه أقرب إلى حصول المقصود وزوال المكروه، وهذا من آثار طالب العلم بخلاف الجاهل الذي عنده غيرة، لكن ليس عنده علم، فطالب العلم الداعية إلى الله يجب أن يستعمل الحكمة.(132/40)
الأمر الثامن: أن يكون الطالب صابرًا على العلم:
أي مثابرًا عليه لا يقطعه ولا يمل بل يكون مستمرًّا في تعلمه بقدر المستطاع، وليصبر على العلم، ولا يمل فإن الإنسان إذا طرقه الملل استحسر وترك، ولكن إذا كان مثابرًا على العلم فإنه ينال أجر الصابرين من وجه، وتكون له العاقبة من وجه آخر، واستمع إلى قول الله - عز وجل - مخاطبًا نبيه : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ } (هود الآية :49) .
الأمر التاسع : احترام العلماء وتقديرهم:
إن على طلبة العلم احترام العلماء وتقديرهم، وأن تتسع صدورهم لما يحصل من اختلاف بين العلماء وغيرهم ، وأن يقابلوا هذا بالاعتذار عمن سلك سبيلا خطأ في اعتقادهم، وهذه نقطة مهمة جدًّا؛ لأن بعض الناس يتتبع أخطاء الآخرين؛ ليتخذ منها ما ليس لائقا في حقهم ، ويشوش على الناس سمعتهم، وهذا أكبر الأخطاء، وإذا كان اغتياب العامي من الناس من كبائر الذنوب فإن اغتياب العالم أكبر وأكبر؛ لأن اغتياب العالم لا يقتصر ضرره على العالم بل عليه وعلى ما يحمله من العلم الشرعي.(132/41)
والناس إذا زهدوا في العالم أو سقط من أعينهم تسقط كلمته أيضًا . وإذا كان يقول الحق ويهدي إليه فإن غيبة هذا الرجل لهذا العالم تكون حائلا بين الناس وبين علمه الشرعي، وهذا خطره كبير وعظيم.
أقول: إن على هؤلاء الشباب أن يحملوا ما يجري بين العلماء من الاختلاف على حسن النية، وعلى الاجتهاد، وأن يعذروهم فيما أخطأوا فيه، ولا مانع أن يتكلموا معهم فيما يعتقدون أنه خطأ؛ ليبينوا لهم هل الخطأ منهم أو من الذين قالوا إنهم أخطأوا ؟ لأن الإنسان أحيانًا يتصور أن قول العالم خطأ، ثم بعد المناقشة يتبين له صوابه .
والإنسان بشر « كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون » (1) .
أما أن يفرح بزلة العالم وخطئه ، ليشيعها بين الناس فتحصل الفرقة، فإن هذا ليس من طريق السلف.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 3 ص 198 والترمذي، كتاب : صفة القيامة، جـ 4 ص 569 برقم [ 2499] ، وابن ماجه ، كتاب الزهد، باب: ذكر التوبة ، والدارمي كتاب الرقاق، باب : في التوبة، والبغوي في ((شرح السنة)) جـ 5 ص 92، وأبو نعيم في (( الحلية )) جـ 332 والحاكم في (( المستدرك)) جـ 273، وقال: ((حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، قال العجلوني: (( إسناده قوي )) ج 2 ص 120.(132/42)
وكذلك أيضًا ما يحصل من الأخطاء من الأمراء، لا يجوز لنا أن نتخذ ما يخطئون فيه سُلّمًا للقدح فيهم في كل شيء ونتغاضى عما لهم من الحسنات؛ لأن الله يقول في كتابه: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا } (المائدة: الآية 8) يعني لا يحملكم بغض قوم على عدم العدل، فالعدل واجب، ولا يحل للإنسان أن يأخذ زلات أحد من الأمراء أو العلماء أو غيرهم فيشيعها بين الناس ، ثم يسكت عن حسناتهم، فإن هذا ليس بالعدل . وقس هذا الشيء على نفسك لو أن أحدًا سُلِّط عليك وصار ينشر زلاتك وسيئاتك، ويُخفي حسناتك وإصاباتك ، لعددت ذلك جناية منه عليك، فإذا كنت ترى ذلك في نفسك؛ فإنه يجب عليك أن ترى ذلك في غيرك، وكما أشرت آنفًا إلى أن علاج ما تظنه خطأ أن تتصل بمن رأيت أنه أخطأ، وأن تناقشه، ويتبين الموقف بعد المناقشة .(132/43)
فكم من إنسان بعد المناقشة يرجع عن قوله إلى ما يكون هو الصواب، وكم من إنسان بعد المناقشة يكون قوله هو الصواب، وظننا هو الخطأ. « فالمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا » (1) وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » (2) ، وهذا هو العدل والاستقامة.
_________
(1) رواه البخاري، كتاب المساجد، باب : تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب: تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم .
(2) تقدم تخريجه ص 37.(132/44)
الأمر العاشر: التمسك بالكتاب والسنة:
يجب على طلبة العلم الحرص التام على تلقي العلم والأخذ من أصوله التي لا فلاح لطالب العلم إن لم يبدأ بها، وهي:
1- القران الكريم : فإنه يجب على طالب العلم الحرص عليه قراءةً وحفظًا وفهمًا وعملا به، فإن القرآن هو حبل الله المتين ، وهو أساس العلوم، وقد كان السلف يحرصون عليه غاية الحرص فيذكر عنهم الشيء العجيب من حرصهم على القرآن ، فتجد أحدهم حفظ القرآن وعمره سبع سنوات، وبعضهم حفظ القرآن في أقل من شهر، وفي هذا دلالة على حرص السلف - رضوان الله عليهم - على القرآن ، فيجب على طالب العلم الحرص عليه وحفظه على يد أحد المعلمين؛ لأن القرآن يؤخذ عن طريق التلقي.
وإنه مما يؤسف له أن تجد بعض طلبة العلم لا يحفظ القرآن ، بل بعضهم لا يحسن القراءة، وهذا خلل كبير في منهج طلب العلم. لذلك أكرر أنه يجب على طلبة العلم الحرص على حفظ القرآن والعمل به والدعوة إليه وفهمه فهمًا مطابقًا لفهم السلف الصالح.(132/45)
2- السنة الصحيحة: فهي ثاني المصدرين للشريعة الإسلامية، وهي الموضحة للقرآن الكريم، فيجب على طالب العلم الجمع بينهما والحرص عليهما، وعلى طالب العلم حفظ السنة، إما بحفظ نصوص الأحاديث أو بدراسة أسانيدها ومتونها وتمييز الصحيح من الضعيف، وكذلك يكون حفظ السنة بالدفاع عنها والرد على شبهات أهل البدع في السنة.
فيجب على طالب العلم أن يلتزم بالقرآن والسنة الصحيحة، وهما له - أي : طالب العلم - كالجناحين للطائر إذا انكسر أحدهما لم يطر.(132/46)
لذلك لا تراعِ السنة وتغفلْ عن القرآن ، أو تراعِ القرآن وتغفلْ عن السنة ، فكثير من طلبة العلم يعتني بالسنة وشروحها ورجالها، ومصطلحاتها اعتناءً كاملا؛ لكن لو سألته عن آية من كتاب الله لرأيته جاهلا بها، وهذا غلط كبير، فلا بد أن يكون الكتاب والسنة جناحين لك يا طالب العلم، وهناك شيء ثالث مهم وهو كلام العلماء، فلا تهمل كلام العلماء ولا تغفل عنه ؛ لأن العلماء أشد رسوخًا منك في العلم، وعندهم من قواعد الشريعة وأسرارها وضوابطها ما ليس عندك ولهذا كان العلماء الأجلاء المحققون إذا ترجح عندهم قول، يقولون: إن كان أحد قال به وإلا فلا نقول به، فمثلا شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- على علمه وسعة اطلاعه إذا قال قولا لا يعلم له قائلا قال : أنا أقول به إن كان قد قيل به، ولا يؤخذ برأيه.
لذا يجب على طالب العلم الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأن يستعين بكلام العلماء .(132/47)
والرجوع إلى كتاب الله يكون بحفظه وتدبره والعمل على ما جاء به؛ لأن الله يقول: { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (ص الآية :29) { لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ } وتدبر الآيات يوصل إلى فهم المعنى، { وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } والتذكر هو العمل بهذا القرآن.
نزل هذا القرآن لهذه الحِكَم، وإذا كان نزل لذلك؛ فلنرجع إلى الكتاب لنتدبره ولنعلم معانيه، ثم نطبق ما جاء به ووالله إن فيه سعادة الدنيا والآخرة، يقول الله تعالى: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى }{ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } (طه: الآيتان 123، 124)(132/48)
ولهذا لا تجد أحدًا أنعم بالا ، ولا أشرح صدرًا ، ولا أشد طمأنينة في قلبه من المؤمن أبدًا ، حتى وإن كان فقيرًا ، فالمؤمن أشد الناس انشراحًا ، وأشد الناس اطمئنانًا ، وأوسع الناس صدرًا واقرءوا إن شئتم قول الله تعالى: { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (النحل الآية :97) .
ما هي الحياة الطيبة ؟
الجواب: الحياة الطيبة هي انشراح الصدر وطمأنينة القلب، حتى ولو كان الإنسان في أشد بؤس، فإنه مطمئن القلب منشرح الصدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عجبًا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له وإن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له » (1)
الكافر إذا أصابته الضراء هل يصبر ؟ فالجواب: لا. بل يحزن وتضيق عليه الدنيا، وربما انتحر وقتل نفسه، ولكن المؤمن يصبر ويجد لذة الصبر انشراحًا وطمأنينة؛ ولذلك تكون حياته طيبة، وبذلك يكون قوله تعالى: { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } حياة طيبة في قلبه ونفسه.
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الزهد، المؤمن أمره كله خير.(132/49)
بعض المؤرخين الذين تكلموا عن حياة الحافظ ابن حجر - رحمه الله - وكان قاضي قضاة مصر في عهده، وكان إذا جاء إلى مكان عمله يأتي بعربة تجرها الخيول أو البغال في موكب ، فمر ذات يوم برجل يهودي في مصر زَيّات - أي : يبيع الزيت - وعادة يكون الزيّات وَسِخ الثياب - فجاء اليهودي فأوقف الموكب. وقال للحافظ ابن حجر - رحمه الله -: إن نبيكم يقول : « الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر » (1) . وأنت قاضي قضاة مصر ، وأنت في هذا الموكب، وفي هذا النعيم، وأنا - يعني نفسه اليهودي - في هذا العذاب وهذا الشقاء.
قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله - : (( أنا فيما أنا فيه من الترف والنعيم يعتبر بالنسبة إلى نعيم الجنة سجنًا ، وأما أنت بالنسبة للشقاء الذي أنت فيه يعتبر بالنسبة لعذاب النار جنة)) . فقال اليهودي: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله. وأسلم.
* فالمؤمن في خير مهما كان، وهو الذي ربح الدنيا والآخرة.
* والكافر في شر وهو الذي خسر الدنيا والآخرة.
_________
(1) رواه مسلم ، كتاب الزهد .(132/50)
قال الله تعالى : { وَالْعَصْرِ }{ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ }{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ } ( العصر الآيات 1- 3) .
فالكفار والذين أضاعوا دين الله وتاهوا في لذاتهم وترفهم ، فهم وإن بنوا القصور وشيدوها وازدهرت لهم الدنيا؛ فإنهم في الحقيقة في جحيم، حتى قال بعض السلف: (( لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف )).
أما المؤمنون فقد نعموا بمناجاة الله وذكره، وكانوا مع قضاء الله وقدره ، فإن أصابتهم الضراء صبروا، وإن أصابتهم السراء شكروا، فكانوا في أنعم ما يكون، بخلاف أصحاب الدنيا فإنهم كما وصفهم الله بقوله: { فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } (التوبة: الآية 58) .(132/51)
وأما الرجوع إلي السنة النبوية: فسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ثابتة بين أيدينا، ولله الحمد، ومحفوظة، حتى ما كان مكذوبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإن أهل العلم بيَّنوا سنته، وبيَّنوا ما هو مكذوب عليه، وبقيت السنة - ولله الحمد - ظاهرة محفوظة، يستطيع أي إنسان أن يصل إليها إما بمراجعة الكتب - إن تمكن - وإلا فبسؤال أهل العلم.
ولكن إذا قال قائل: كيف توفق بين ما قلت من الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ مع أننا نجد أن أناسًا يتبعون الكتب المؤلفة في المذاهب ويقول: أنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا؛ وأنا مذهبي كذا!! حتى إنك لتفتي الرجل وتقول له: قال النبي صلى الله عليه وسلم كذا، فيقول : أنا مذهبي حنفي، أنا مذهبي مالكي، أنا مذهبي شافعي، أنا مذهبي حنبلي ... وما أشبه ذلك.
فالجواب: أن نقول لهم إننا جميعا نقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله .
فما معنى شهادة أن محمدًا رسول الله ؟
قال العلماء : معناها: (( طاعته فيما أمر، وتصديقه فيما أخبر، واجتناب ما عنه نهى وزجر، وأن لا يُعبد الله إلا بما شرع )) .(132/52)
فإذا قال إنسان أنا مذهبي كذا أو مذهبي كذا أو مذهبي كذا فنقول له: هذا قول الرسول- عليه الصلاة والسلام - فلا تعارضه بقول أحد.
حتى أئمة المذاهب ينهون عن تقليدهم تقليدا محضًا ويقولون: (( متى تبين الحق فإن الواجب الرجوع إليه)).
فنقول لمن عارضنا بمذهب فلان أو فلان: نحن وأنت نشهد أن محمدًا رسول الله، وتقتضي هذه الشهادة ألا نتبع إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وهذه السنة بين أيدينا واضحة جلية، ولكن لست أعني بهذا القول أن نقلل من أهمية الرجوع لكتب الفقهاء وأهل العلم، بل إن الرجوع إلى كتبهم للانتفاع بها ومعرفة الطرق التي بها تستنبط الأحكام من أدلتها من الأمور التي لا يمكن أن يتحقق طلب العلم إلا بالرجوع إليها.
ولذلك نجد أولئك القوم الذين لم يتفقهوا على أيدي العلماء نجد أن عندهم من الزلات شيئًا كثيرًا؛ لأنهم صاروا ينظرون بنظر أقل مما ينبغي أن ينظروا فيه، يأخذون مثلا صحيح البخاري فيذهبون إلى ما فيه من الأحاديث، مع أن في الأحاديث ما هو عام ، ومخصص، ومطلق، ومقيد ، وشيء منسوخ، لكنهم لا يهتدون إلى ذلك، فيحصل بهذا ضلال كبير.(132/53)
الأمر الحادي عشر: التثبت والثبات:
ومن أهم الآداب التي يجب أن يتحلى بها طالب العلم التثبت فيما ينقل من الأخبار والتثبت فيما يصدر من الأحكام، فالأخبار إذا نقلت فلا بد أن تتثبت أولا ، هل صحت عمن نقلت إليه أو لا ؟ ثم إذا صحت فتثبت في الحكم ربما يكون الحكم الذي سمعته مبنيًّا على أصل تجهله أنت، فتحكم أنه خطأ، والواقع أنه ليس بخطأ .
ولكن كيف العلاج في هذه الحال ؟
العلاج: أن تتصل بمن نُسِبَ إليه الخبر وتقول : نُقل عنك كذا وكذا فهل هذا صحيح؟ ثم تناقشه فقد يكون استنكارك ونفور نفسك منه أول وهلة سمعته لأنك لا تدري ما سبب هذا المنقول، ويقال : إذا علم السبب بطل العجب، فلا بد أولا من التثبت في الخبر والحكم، ثم بعد ذلك تتصل بمن نقل عنه وتسأله هل صح ذلك أم لا؟ ثم تناقشه: إما أن يكون هو على حق وصواب فترجع إليه أو يكون الصواب معك فيرجع إليه.
وهناك فرق بين الثبات والتثبت فهما شيئان متشابهان لفظًا مختلفان معنى.(132/54)
فالثبات معناه : الصبر والمثابرة وألا يمل ولا يضجر وألا يأخذ من كل كتاب نتفة، أو من كل فن قطعة ثم يترك؛ لأن هذا الذي يضر الطالب، ويقطع عليه الأيام بلا فائدة، فمثلا بعض الطلاب يقرأ في النحو : في الآجرومية ومرة في متن قطر الندى، ومرة في الألفية. وكذلك الحال في: المصطلح، مرة في النخبة، ومرة في ألفية العراقي، وكذلك في الفقه: مرة في زاد المستقنع، ومرة في عمدة الفقه، ومرة في المغني ، ومرة في شرح المهذب، وهكذا في كل كتاب، وهلم جرا ، هذا في الغالب لا يحصِّلُ علمًا، ولو حصَّل علمًا فإنه يحصل مسائل لا أصولا ، وتحصيل المسائل كالذي يتلقط الجراد واحدة بعد الأخرى، لكن التأصيل والرسوخ والثبات هو المهم، فكن ثابتًا بالنسبة للكتب التي تقرأ أو تراجع وثابتًا بالنسبة للشيوخ الذين تتلقى عنهم، لا تكون ذوّاقًا كل أسبوع عند شيخ، كل شهر عن شيخ ، قرِّر أولا من ستتلقى العلم عنده، ثم إذا قرّرت ذلك فاثبت ولا تجعل كل شهر أو كل أسبوع لك شيخا ، ولا فرق بين أن تجعل لك شيخًا في الفقه وتستمر معه في الفقه، وشيخا آخر في النحو وتستمر معه في النحو، وشيخًا آخر في العقيدة والتوحيد وتستمر معه، المهم أن تستمر لا أن تتذوق، وتكون(132/55)
كالرجل المطلاق كما تزوج امرأة وجلس عندها أيامًا طلقها وذهب يطلب أخرى.
أيضًا التثبت أمر مهم؛ لأن الناقلين تارة تكون لهم نوايا سيئة، ينقلون ما يشوه سمعة المنقول عنه قصدًا وعمدًا ، وتارة لا يكون عندهم نوايا سيئة ولكنهم يفهمون الشيء على خلاف معناه الذي أريد به، ولهذا يجب التثبت، فإذا ثبت بالسند ما نقل أتى دور المناقشة مع صاحبه الذي نقل عنه قبل أن تحكم على القول بأنه خطأ أو غير خطأ؛ وذلك لأنه ربما يظهر لك بالمناقشة أن الصواب مع هذا الذي نقل عنه الكلام.
والخلاصة أنه إذا نُقل عن شخص ما ترى أنه خطأ فاسلك طرقًا ثلاثة على الترتيب:
الأول : التثبت في صحة الخبر.
الثاني: النظر في صواب الحكم، فإن كان صوابًا فأيده ودافع عنه، وإن رأيته خطأ فاسلك الطريق الثالث وهو : الاتصال بمن نُسب إليه لمناقشته فيه وليكن ذلك بهدوء واحترام.(132/56)
الأمر الثاني عشر: الحرص على فهم مراد الله تعالى ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم :
من الأمور المهمة في طلب العلم قضية الفهم، أي فهم مراد الله - عز وجل - ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن كثيرًا من الناس أوتوا علمًا ولكن لم يؤتوا فهمًا. لا يكفي أن تحفظ كتاب الله وما تيسر من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون فهم. لا بد أن تفهم عن الله ورسوله ما أراده الله ورسوله، وما أكثر الخلل من قوم استدلوا بالنصوص على غير مراد الله ورسوله فحصل بذلك الضلال.
وهنا أنبّه على نقطة مهمة ألا وهي: أن الخطأ في الفهم قد يكون أشد خطرًا بالجهل؛ لأن الجاهل الذي يخطئ بجهله يعرف أنه جاهل ويتعلم، لكن الذي فهم خطأ يعتقد في نفسه أنه عالم مصيب، ويعتقد أن هذا هو مراد الله ورسوله، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة ليتبين لنا أهمية الفهم:(132/57)
المثال الأول: قال الله تعالى: { وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ }{ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ } (الأنبياء الآيتان: 78، 79) .
فضَّل الله - عز وجل - سليمان على داود في هذه القضية بالفهم { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } ولكن ليس هناك نقص في علم داود { وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا } .
وانظر إلى هذه الآية الكريمة لما ذكر الله - عز وجل - ما امتاز به سليمان من الفهم، فإنه ذكر أيضًا ميزة داود عليه السلام، فقال تعالى: { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ } . وذلك حتى يتعادل كل منهما، فذكر الله تعالى ما اشتركا فيه من الحكم والعلم ثم ذكر ما امتاز به كل واحد منهما عن الآخر.
وهذا يدلنا على أهمية الفهم، وأن العلم ليس كل شيء.(132/58)
المثال الثاني: إذا كان عندك وعاءان أحدهما فيه ماء ساخن دافئ، والآخر فيه ماء بارد قارس، والفصل فصل الشتاء، فجاء رجل يريد الاغتسال من الجنابة، فقال بعض الناس: الأفضل أن تستخدم الماء البارد؛ وذلك لأن الماء البارد فيه مشقة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات ، قالوا بلى يا رسول الله. قال: إسباغ الوضوء على المكاره » ... )) (1) الحديث.
يعني إسباغ في أيام البرد فإذا أسبغت الوضوء بالماء البارد كان أفضل من أن تسبغ الوضوء بالماء المناسب لطبيعة الجو.
فالرجل أفتى بأن استخدام الماء البارد أفضل واستدل بالحديث السابق.
فهل الخطأ في العلم أم في الفهم ؟
الجواب: أن الخطأ في الفهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: « إسباغ الوضوء على المكاره » ولم يقل: أن تختار الماء البارد للوضوء، وفرق بين التعبيرين . لو كان الوارد في الحديث التعبير الثاني لقلنا نعم اختر الماء البارد. ولكن قال: « إسباغ الوضوء على المكاره » . أي أن الإنسان لا يمنعه برودة الماء من إسباغ الوضوء.
ثم نقول: هل يريد الله بعباده اليسر أم يريد بهم العسر ؟
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الطهارة ، باب: فضل إسباغ الوضوء على المكاره .(132/59)
الجواب: في قوله تعالى: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (البقرة: الآية 185) وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الدين يسر » (1)
فأقول لطلبة العلم: إن قضية الفهم قضية مهمة، فعلينا أن تفهم ماذا أراد الله من عباده ؟ هل أراد أن يشق عليهم في أداء العبادات أم أراد بهم اليسر ؟!
ولا شك أن الله - عز وجل - يريد بنا اليسر ولا يريد بنا العسر.
فهذه بعض آداب مما ينبغي لطالب العلم أن يكون متأثرًا بها في علمه حتى يكون قدوة صالحًا وحتى يكون داعيا إلى الخير وإمامًا في دين الله - عز وجل - فبالصبر واليقين تُنَال الإمامة في الدين ، كما قال الله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } (السجدة الآية :24) .
_________
(1) رواه البخاري ، كتاب الإيمان، باب: الدين يسر .(132/60)
الفصل الثاني
الأسباب المعينة على طلب العلم
الأسباب المعينة على طلب العلم كثيرة، نذكر منها :
أولا: التقوى:
وهي وصية الله للأولين والآخرين من عباده، قال الله تعالى: { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا } (النساء: من الآية 131) .(132/61)
وهي أيضًا وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، فعن أبي أمامة صدي بن عجلان الباهلي - رضي الله عنه - قال: « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب في حجة الوداع فقال: اتقوا ربكم، وصلوا خمسكم، وصوموا شهركم، وأدّوا زكاة أموالكم، وأطيعوا أمراءكم تدخلوا جنة ربكم » (1) وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرًا. ولم يزل السلف الصالح يتواصون بها في خُطَبهم ومكاتباتهم ووصاياهم عند الوفاة ؛ كتب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - إلى ابنه عبد الله : أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله -عز وجل- فإنه من اتقاه وقاه، ومن أقرضه جزاه ؛ ومن شكره زاده - وأوصى علي - رضي الله عنه - رجلا فقال: ( أوصيك بتقوى عز وجل الذي لا بد لك من لقائه ولا مُنتهى لك دونه، وهو يملك الدنيا والآخرة) ، وكتب أحد الصالحين إلى أخ له في الله تعالى: (أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيك في سريرتك ورقيبك في علانيتك ، فاجعل الله من بالك على كل حال في ليلك ونهارك ، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك ، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره ، فليعظم منه حذرك
_________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب الجمعة.(132/62)
وليكثر منه وجلك والسلام).
ومعنى التقوى : أن يجعل العبد بينه وبين ما يخافه وقاية تقيه منه. وتقوى العبد ربه: أن يجعل بينه وبين من يخشاه من غضبه وسخطه وقاية تقيه من ذلك، بفعل طاعته واجتناب معاصيه.
واعلم أن التقوى أحيانًا تقترن بالبر، فيقال: بر وتقوى كما في قوله تعالى: { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } (المائدة: الآية 2)
وتارة تذكر وحدها فإن قرنت بالبر صار البر فعل الأمر، والتقوى ترك النواهي.
وإذا أفردت صارت شاملة تعم فعل الأمر واجتناب النواهي، وقد ذكر الله في كتابه أن الجنة أعدت للمتقين، فأهل التقوى هم أهل الجنة - جعلنا الله وإياكم منهم - ولذلك يجب على الإنسان أن يتقي الله - عز وجل - امتثالا لأمره، وطلبًا لثوابه، والنجاة من عقابه. قال الله - عز وجل -: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } (الأنفال الآية :29) .
وهذه الآية فيها ثلاث فوائد مهمة:(132/63)
الفائدة الأولى: { يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا } أي يجعل لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل، وبين الضار والنافع ، وهذا يدخل فيه العلم بحيث يفتح الله على الإنسان من العلوم ما لا يفتح لغيره، فإن التقوى يحصل بها زيادة الهدى، وزيادة العلم، وزيادة الحفظ، ولهذا يذكر عن الشافعي - رحمه الله - أنه قال :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي
ولا شك أن الإنسان كلما ازداد علمًا ازداد معرفة وفرقانًا بين الحق والباطل، والضار والنافع، وكذلك يدخل فيه ما يفتح الله على الإنسان من الفهم؛ لأن التقوى سبب لقوة الفهم، وقوة يحصل بها زيادة العلم، فإنك ترى الرجلين يحفظان آية من كتاب الله يستطيع أحدهما أن يستخرج منها ثلاثة أحكام، ويستطيع الآخر أن يستخرج أكثر من هذا بحسب ما آتاه الله من الفهم.
الفتوى سبب لزيادة الفهم، ويدخل في ذلك أيضًا الفراسة أن الله يعطي المتقي فراسة يميّز بها حتى بين الناس.
فبمجرد ما يرى الإنسان يعرف أنه كاذب أو صادق، أو بر أو فاجر حتى أنه ربما يحكم على الشخص وهو لم يعاشره، ولم يعرف عنه شيئًا بسبب ما أعطاه الله من الفراسة.(132/64)
الفائدة الثانية: { وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . (الأنفال الآية : 29) وتكفير السيئات يكون بالأعمال الصالحة، فإن الأعمال الصالحة تكفر الأعمال السيئة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما ما اجتنبت الكبائر » (1) .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم : « العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما » (2) . فالكفارة تكون بالأعمال الصالحة، وهذا يعني أن الإنسان إذا اتقى الله سهل له الأعمال الصالحة التي يكفّر الله بها عنه.
الفائدة الثالثة: { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } بأن ييسركم للاستغفار والتوبة، فإن هذا من نعمة الله على العبد أن ييسر للاستغفار والتوبة.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الطهارة باب: الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر.
(2) أخرجه البخاري، كتاب العمرة ، ومسلم، كتاب الحج.(132/65)
ثانيًا : المثابرة والاستمرار على طلب العلم:
يتعين على طالب العلم أن يبذل الجهد في إدراك العلم والصبر عليه وأن يحتفظ به بعد تحصيله، فإن العلم لا يُنَال براحة الجسم، فيسلك المتعلم جميع الطرق الموصلة إلى العلم وهو مُثَاب على ذلك؛ لما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من سلك طريقًا يلتمس به علمًا سهَّل الله له طريقا إلى الجنة » (1) . فليثابر طالب العلم ويجتهد ويسهر الليالي ويدع عنه كل ما يصرفه أو يشغله عن طلب العلم.
وللسلف الصالح قضايا مشهورة في المثابرة على طلب العلم حتى إنه يروى عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه سئل بما أدركت العلم؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول، وبدن غير ملول وعنه أيضا - رضي الله عنه - قال : (( ... إن كان ليبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه - وهو قائل - فأتوسد ردائي على بابه، تسفي الريح علي من التراب، فيخرج فيقول : يا ابن عم رسول الله ما جاء بك ؟ ألا أرسلت إليَّ فآتيك ؟ فأقول: أنا أحق أن آتيك، فأسأله عن الحديث ... )) . فابن عباس - رضي الله عنه - تواضع للعلم فرفعه الله به.
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الدعوات، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر.(132/66)
وهكذا ينبغي لطالب العلم أن يثابر المثابرة الكبيرة، ويروى أيضًا عن الشافعي - رحمه الله - أنه استضافه الإمام أحمد ذات ليلة فقدم له العشاء، فأكل الشافعي ثم تفرق الرجلان إلى منامهما، فبقي الشافعي - رحمه الله - يفكر في استنباط أحكام من حديث، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أبا عمير ما فعل النغير » (1) أبا عمير كان معه طائر صغير يسمى النغير ، فمات هذا الطائر فحزن عليه الصبي، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يداعب الصبيان ويكلم كل إنسان بما يليق به، فظل طول الليل يستنبط من هذا الحديث ويقال : إنه استنبط منه أكثر من ألف فائدة، ولعله إذا استنبط فائدة جر إليها حديث آخر، وهكذا حتى تتم فلما أذن الفجر قام الشافعي - رحمه الله - ولم يتوضأ ثم انصرف إلى بيته، وكان الإمام أحمد يثني عليه عند أهله فقالوا له:
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الأدب : الانبساط إلى الناس.(132/67)
يا أبا عبد الله كيف تثني على هذا الرجل الذي أكل فشرب ونام ولم يقم، وصلى الفجر بدون وضوء؟ فسأل الإمام الشافعي فقال: ( أما كوني أكلت حتى أفرغت الإناء فذلك لأني ما وجدت طعامًا أطيب من طعام الإمام أحمد فأردت أن أملأ بطني منه، وأما كوني لم أقم لصلاة الليل فإن العلم أفضل من قيام الليل، وقد كنت أفكر في هذا الحديث، وأما كوني لم أتوضأ لصلاة الفجر فكنت على وضوء من صلاة العشاء ) ولا يحب أن يكلفهم بماء الوضوء .
أقول على كل حال، إن المثابرة في طلب العلم أمر مهم، فلننظر في حاضرنا الآن هل نحن على هذه المثابرة؟ لا. أما الذين يدرسون دراسة نظامية إذا انصرفوا من الدراسة ربما يتلهون بأشياء لا تعين على الدرس، وإني أضرب مثلا وأحب ألا يكون وألا يوجد له نظير، أحد الطلبة في بعض المواد أجاب إجابة سيئة ، فقال المدرس: لماذا؟ فقال : لأني قد أيست من فهم هذه المادة، فأنا لا أدرسها ولكن أريد أن أكون حاملا لها، كيف اليأس؟ وهذا خطأ عظيم، يجب أن نثابر حتى نصل إلى الغاية.(132/68)
وقد حدثني شيخنا المثابر عبد الرحمن السعدي - رحمه الله - أنه ذكر عن الكسائي إمام أهل الكوفة في النحو أنه طلب النحو فلم يتمكن، وفي يوم من الأيام وجد نملة تحمل طعامًا لها وتصعد به إلى الجدار وكلما صعدت سقطت ، ولكنها ثابرت حتى تخلصت من هذه العقبة وصعدت الجدار، فقال الكسائي : هذه النملة ثابرت حتى وصلت الغاية، فثابر حتى صار إمامًا في النحو.
ولهذا ينبغي لنا أيها الطلبة أن نثابر ولا نيأس فإن اليأس معناه سد باب الخير، وينبغي لنا ألا نتشاءم بل نتفاءل وأن نعد أنفسنا خيرًا.(132/69)
ثالثًا الحفظ :
فيجب على طالب العلم الحرص على المذاكرة وضبط ما تعلمه إما بحفظه في صدره، أو كتابته، فإن الإنسان عرضة للنسيان، فإذا لم يحرص على المراجعة وتكرار ما تعلمه فإن ذلك يضيع منه وينساه وقد قيل:
العلم صيد والكتابة قيده ... قيِّد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة ... وتتركها بين الخلائق طالقة
ومن الطرق التي تعين على حفظ العلم وضبطه أن يهتدي الإنسان بعلمه، قال الله تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (محمد، الآية : 17).
وقال { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } (مريم الآية : 76)
فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظًا وفهمًا، لعموم قوله: { زَادَهُمْ هُدًى } .(132/70)
رابعًا ملازمة العلماء:
يجب على طالب العلم أن يستعين بالله - عز وجل - ثم بأهل العلم، ويستعين بما كتبوا في كتبهم؛ لأن الاقتصار على مجرد القراءة والمطالعة يحتاج إلى وقت طويل بخلاف من جلس إلى عالم يبين له ويشرح له وينير له الطريق، وأنا لا أقول: إنه لا يُدرَك العلم إلا بالتلقي من المشايخ ، فقد يدرك الإنسان بالقراءة والمطالعة لكن الغالب أنه إذا ما أكبّ إكبابًا تامًّا ، ورزق الفهم فإنه قد يخطئ كثيرًا ولهذا يقال: من كان دليله كتابه فخطؤه أكثر من صوابه ، ولكن هذا ليس على الإطلاق في الحقيقة.(132/71)
ولكن الطريقة المثلى أن يتلقى العلم على المشايخ ، وأنا أنصح طالب العلم أيضًا ألا يتلقف من كل شيخ في فن واحد، مثل أن يتعلم الفقه من أكثر من شيخ؛ لأن العلماء يختلفون في طريقة استدلالهم من الكتاب والسنة، ويختلفون في آرائهم أيضًا، فأنت تجعل لك عالمًا تتلقى علمه في الفقه أو البلاغة وهكذا ، أي تتلقى العلم في فن واحد من شيخ واحد، وإذا كان الشيخ عنده أكثر من فن فتلتزم معه، لأنك إذا تلقيت علم الفقه مثلا من هذا وهذا واختلفوا في رأيهم فماذا يكون موقفك وأنت طالب؟ يكون موقفك الحيرة والشك، لكن التزامك بعالم في فن معين فهذا يؤدي إلى راحتك.(132/72)
في طريق تحصيل العلم وأخطاء يجب الحذر منها
الفصل الأول
طريق تحصيل العلم
من المعلوم أن الإنسان إذا أراد مكانًا فلا بد أن يعرف الطريق الموصل إليه، وإذا تعددت الطرق فإنه يبحث عن أقربها وأيسرها؛ لذلك كان من المهم لطالب العلم أن يبني طلبه للعلم على أصول، ولا يتخبط عشواء، فمن لم يتقن الأصول حرم الوصول، قال الناظم :
وبعد فالعلم بحور زاخرة ... لن يبلغ الكادح فيه آخره
لكن في أصوله تسهيلا ... لنيله فاحرص تجد سبيلا
اغتنم القواعد الأصولا ... فمن تفته يُحرم الوصولا
فالأصول هي: العلم والمسائل فروع، كأصل الشجرة وأغصانها إذا لم تكن الأغصان على أصل جيد فإنها تذبل وتهلك.
لكن ما هي الأصول؟
هل هي القواعد والضوابط ؟
أو هي القواعد والضوابط ؟
أو كلاهما ؟(132/73)
الجواب : الأصول هي أدلة الكتاب والسنة، والقواعد والضوابط المأخوذة بالتتبع والاستقراء من الكتاب والسنة، وهذه من أهم ما يكون لطالب العلم، مثلا المشقة تجلب التيسير هذا من الأصول مأخوذ من الكتاب والسنة. من الكتاب من قوله تعالى: { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } (الحج: الآية 78) ومن السنة: قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لعمران بن حصين : « صلِّ قائمًا ، فإن لم تستطع فقاعدًا ، فإن لم تستطع على جنب » (1) وقوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » (2) . هذا أصل لو جاءتك ألف مسألة بصور متنوعة لأمكنك أن تحكم على هذه المسائل بناء على هذا الأصل، ولكن لو لم يكن عندك هذا الأصل وتأتيك مسألتان أشكل عليك الأمر.
ولنيل العلم طريقان:
أحدهما: أن يتلقى ذلك من الكتب الموثوق بها، والتي ألفها علماء معروفون بعلمهم، وأمانتهم، وسلامة عقيدتهم من البدع والخرافات.
وأخذ العلم من بطون الكتب لا بد أن الإنسان يصل فيه إلى غاية ما. لكن هناك عقبتان:
العقبة الأولى:
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب تقصير الصلاة، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب: جواز النافلة قائمًا أو قاعدًا .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب: الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسلم ، كتاب الحج ، باب فرض الحج مرة في العمر.(132/74)
الطول، فإن الإنسان يحتاج إلى وقت طويل، ومعاناة شديدة، وجهد جهيد حتى يصل إلى ما يرومه من العلم، وهذه عقبة قد لا يقوى عليها كثير من الناس، لا سيما وهو يرى من حوله قد أضاعوا أوقاتهم بلا فائدة ، فيأخذه الكسل ويكل ويمل ثم لا يدرك ما يريد.
العقبة الثانية: أن الذي يأخذ العلم من بطون الكتب علمه ضعيف غالبًا ، لا ينبني عليه قواعد أو أصول، ولذلك نجد الخطأ الكثير من الذي يأخذ العلم من بطون الكتب؛ لأنه ليس له قواعد وأصول يقعد عليها ويبني عليها الجزئيات التي في الكتاب والسنة نجد بعض الناس يمر بحديث ليس مذكورًا في كتب الحديث المعتمدة من الصحاح والمسانيد وهذا الطريق يخالف ما في هذه الأصول المعتمدة عند أهل العلم، بل عند الأمة ، ثم يأخذ بهذا الحديث ويبني عقيدته عليه، وهذا لا شك أنه خطأ؛ لأن الكتاب والسنة لهما أصول تدور عليها الجزئيات ، فلا بد أن ترد هذه الجزئيات إلى أصول، بحيث إذا وجدنا في هذه الجزئيات شيئًا مخالفًا لهذه الأصول لا يمكن الجمع فيها، فإننا ندع هذه الجزئيات.(132/75)
الثاني: من طرق تحصيل العلم أن تتلقى ذلك من معلم موثوق في علمه ودينه، وهذا الطريق أسرع وأتقن للعلم؛ لأن الطريق الأول قد يضل فيه الطالب وهو لا يدري إما لسوء فهمه، أو قصور علمه، أو لغير ذلك من الأسباب، أما الطريق الثاني فيكون فيه المناقشة والأخذ والرد مع المعلم فينفتح بذلك للطالب أبواب كثيرة في الفهم، والتحقيق، وكيفية الدفاع عن الأقوال الصحيحة، ورد الأقوال الضعيفة، وإذا جمع الطالب بين الطريقين كان ذلك أكمل وأتم ، وليبدأ الطالب بالأهم فالأهم، وبمختصرات العلوم قبل مطولاتها حتى يكون مترقيًا من درجة إلى درجة أخرى فلا يصعد إلى درجة حتى يتمكن من التي قبلها ليكون صعوده سليمًا.(132/76)
الفصل الثاني
أخطاء يجب الحذر منها
وهناك أخطاء يرتكبها بعض طلبة العلم:
منها الحسد:
وهو: كراهة ما أنعم الله به على غيره، وليس هو تمني زوال نعمة الله على الغير، بل هو مجرد أن يكره الإنسان ما أنعم الله به على غيره، فهذا هو الحسد سواء تمنى زواله أو أن يبقى ولكنه كاره له.
كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- فقال: (( الحسد كراهة الإنسان ما أنعم الله به على غيره)).
والحسد قد لا تخلو منه النفوس، يعني قد يكون اضطراريًّا للنفس، ولكن جاء في الحديث: « إذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت لا تحقق » (1) ، يعني أن الإنسان يجب عليه إذا رأى من قلبه حسدًا للغير ألا يبغي عليه بقول أو فعل، فإن ذلك من خصال اليهود الذين قال الله عنهم: { أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا } (النساء الآية :54)
ثم إن الحاسد يقع في محاذير:
أولًا: كراهيته ما قدره الله، فإن كراهته ما أنعم الله به على هذا الشخص كراهة لما قدره كونًا ، ومعارضة لقضاء الله - عز وجل -.
_________
(1) نص الحديث: (( ثلاثة لا يسلم منهن أحد: الطيرة ، والظن، والحسد ، فإذا تطيرت فلا ترجع، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق )) ذكره الحافظ ابن حجر في (( فتح البار)) جـ 10 ص 213 وقال عنه: (( هذا مرسل أو معضل لكن له شاهد من حديث أبي هريرة أخرجه البيهقي في« الشعب» ا . هـ وأخرجه ابن عبد البر في التمهيد بلفظ: « إذا حسدتم فلا تبغوا، وإذا ظننتم فلا تحققوا، وإذا تطيرتم فامضوا وعلى الله فتوكلوا» وبلفظ آخر: « ثلاث لم يسلم منهم أحد: الطيرة، والظن ، والحسد ، قيل: فما المخرج منهن يا رسول الله قال: إذا تطيرت فلا ترجع، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدتم فلا تبغوا» جـ 6 ص 125. أخرجه الطبراني في «الكبير» بلفظ : ثلاثة لازمات لأمتي: « الطيرة، والحسد ، وسوء الظن» فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه ؟ قال صلى الله عليه وسلم : « إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا طيرت فامض» جـ 3 ص 8258. وانظر: كشف الخفاء للعجلوني جـ 1 ص 104 ، وتفسير ابن كثير جـ 4 ص 191 ((سورة الحجرات)).(132/77)
ثانيا: أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب؛ لأن الغالب أن الحاسد يعتدي على المحسود بذكر ما يكره وتنفير الناس عنه، والحطّ من قدره وما أشبه ذلك ، وهذا من كبائر الذنوب التي قد تحيط بالحسنات.
ثالثا: ما يقع في قلب الحاسد من الحسرة والجحيم والنار التي تأكله أكلا ، فكلما رأى نعمة من الله على هذا المحسود اغتم وضاق صدره؛ وصار يراقب هذا الشخص كلما أنعم الله عليه بنعمة حزن واغتم وضاقت عليه الدنيا.
رابعا: أن في الحسد تشبهًا باليهود ، معلوم أن من أتى خصلة من خصال الكفار صار منهم في هذه الخصلة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « من تشبه بقوم فهو منهم » (1)
خامسًا: أنه مهما كان حسده ومهما قوي لا يمكن أبدًا أن يرفع نعمة الله عن الغير، إذا كان هذا غير ممكن فكيف يقع في قلبه الحسد.
سادسًا: أن الحسد ينافي كمال الإيمان لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه » (2) ولازم هذا أن تكره أن تزول نعمة الله على أخيك، فإذا لم تكن تكره أن تزول نعمة الله عليك فأنت لم تحب لأخيك ما تحب لنفسك وهذا ينافي كمال الإيمان.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ 5 ص 5 ، وأبو داود، كتاب اللباس، باب في لبس شهرة، وابن أبي شيبة في (( المصنف )) جـ 5 ص 313، والهيثمي في (( مجمع الزوائد )) جـ 10 ص 271، وابن عبد البر في (( التمهيد)) جـ 6 ص 80 ـ قال الهيثمي: (( رواه الطبراني في الأوسط وفيه علي بن غراب وقد وثقه غير واحد وضعفه بعضهم وبقية رجاله ثقات )) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى: (( إسناده جيد)) الفتاوى جـ 5 ص 331، وقال ابن حجر - بعد ذكر الحديث : - (( حسن من هذا الوجه وأبو منيب لا يعرف اسمه، وفي الإسناد عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان مختلف في توثيقه، وله شاهد مرسل بإسناد حسن أخرجه ابن أبي شيبة من طريق الأوزاعي عن سعيد بن جبلة )) فتح الباري 6 / 97، وقد ذكره السيوطي في (( الجامع الصغير )) 1 / 590 وأشار إلى أنه حسن. وصححه أحمد شاكر (( المسند)) رقم 5114).
(2) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: الدليل على أن من خصال الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.(132/78)
سابعًا: أن الحسد يوجب إعراض العبد عن سؤال الله تعالى من فضله، فتجده دائما مهتمًا بهذه النعمة التي أنعم الله بها على غيره ولا يسأل الله من فضله، وقد قال الله تعالى: { وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } (النساء الآية : 32) .
ثامنًا : أن الحسد يوجب ازدراء نعمة الله عليه، أي أن الحاسد يرى أنه ليس في نعمة ، وأن هذا المحسود في نعمة أكبر منه، وحينئذ يحتقر نعمة الله عليه فلا يقوم بشكرها بل يتقاعس.
تاسعا: الحسد خلق ذميم؛ لأن الحاسد يتتبع نعم الله على الخلق في مجتمعه، ويحاول بقدر ما يمكنه أن يحول بين الناس وبين هذا المحسود بالحطّ من قدره أحيانًا، وبازدراء ما يقوم به من الخير أحيانًا إلى غير ذلك.
عاشرًا: إن الحاسد إذا حسد فالغالب أن يعتدي على المحسود وحينئذ يأخذ المحسود من حسناته، فإن بقي من حسناته شيء وإلا أخذ من سيئاته فطرح عليه ثم طرح في النار.(132/79)
والخلاصة: أن الحسد خلق ذميم، ومع الأسف أنه أكثر من يوجد بين العلماء وطلبة العلم، ويوجد بين التجار فيحسد بعضهم البعض، وكل ذي مهنة يحسد من شاركه فيها، لكن مع الأسف أنه بين العلماء أشد وبين طلبة العلم أشد مع أنه كان الأولى والأجدر أن يكون أهل العلم أبعد الناس عن الحسد وأقرب الناس إلى كمال الأخلاق.
وأنت يا أخي إذا رأيت الله قد أنعم على عبده نعمة ما فاسع أن تكون مثله ولا تكره من أنعم الله عليه فقل: اللهم زده من فضلك وأعطني أفضل منه، والحسد لا يغير شيئا من الحال لكنه كما ذكرنا آنفًا فيه هذه المفاسد وهذه المحاذير العشرة، ولعل من تأمل وجد أكثر والله المستعان.(132/80)
ومنها الإفتاء بغير علم:(132/81)
الإفتاء منصب عظيم، به يتصدى صاحبه لبيان ما يشكل على العامة من أمور دينهم، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم؛ لذلك كان هذا المنصب العظيم لا يتصدر له إلا من كان أهلا له لذلك يجب على العباد أن يتقوا الله تعالى وأن لا يتكلموا إلا عن علم وبصيرة، وأن يعلموا أن الله وحده له الخلق والأمر، فلا خالق إلا الله، ولا مدبر للخلق إلا الله ولا شريعة للخلق سوى شريعة الله، فهو الذي يوجب الشيء، وهو يحرمه، وهو الذي يندب إليه ويحلله، ولقد أنكر الله على من يحللون ويحرمون بأهوائهم فقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ }{ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } (يونس الآيتان: 59، 60) وقال تعالى: { وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ }{ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (النحل الآيتان:(132/82)
116 ، 117) وإن من أكبر الجنايات أن يقول الشخص عن شيء إنه حلال وهو لا يدري ما حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه حرام وهو لا يدري عن حكم الله فيه، أو يقول عن الشيء إنه واجب وهو لا يدري أن الله أوجبه، ويقول عن الشيء إنه غير واجب وهو لا يدري أن الله لم يوجبه، إن هذه جناية وسوء أدب مع الله - عز وجل -.
كيف تعلم أيها العبد أن الحكم لله ثم تتقدم بين يديه فتقول في دينه وشريعته ما لا تعلم ؟ لقد قرن الله القول عليه بلا علم بالشرك به ، فقال سبحانه: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف ، الآية :33) .
وإن كثيرًا من العامة يفتي بعضهم بعضًا بما لا يعلمون فتجدهم يقولون هذا حلال، أو حرام، أو واجب، أو غير واجب، وهم لا يدرون عن ذلك شيئًا ، أفلا يعلم هؤلاء أن الله تعالى سائلهم عما قالوا يوم القيامة .(132/83)
أفلا يعلم هؤلاء أنهم إذا أضلوا شخصًا فأحلوا له ما حرم الله ، أو حرَّموا ما أحل الله له فقد باءوا بإثمه وكان عليهم مثل وزر ما عمل وذلك بسبب ما أفتوه به.
إن بعض العامة يجني جناية أخرى فإذا رأى شخصًا يريد أن يستفتي عالمًا يقول له هذا العامي لا حاجة أن تستفتي ، هذا أمر واضح ، هذا حرام مع أنه في الواقع حلال فيحرمه ما أحل الله له ، أو يقول له: هذا واجب فيلزمه بما لم يلزمه الله به، أو يقول هذا غير واجب في شريعة الله فيسقط عنه ما أوجب الله عليه، أو يقول هذا حلال وهو في الواقع حرام، وهذه جناية منه على شريعة الله، وخيانة لأخيه المسلم حيث أفتاه بدون علم، أرأيتم لو أن شخصًا سأل عن طريق بلد من البلدان، فقلت الطريق من هنا وأنت لا تعلم أفلا يعد الناس ذلك خيانة منك؟ فكيف تتكلم عن طريق الجنة وهو الشريعة التي أنزل الله وأنت لا تعلم عنها شيئًا؟!(132/84)
وإن بعض المتعلمين أنصاف العلماء يقعون فيما يقع فيه العامة من الجرأة على الشريعة في التحليل والتحريم والإيجاب فيتكلمون فيما لا يعلمون، ويُجملون في الشريعة ويُفصلون، وهم من أجهل الناس في أحكام الله، إذا سمعت الواحد منهم يتكلم فكأنما ينزل عليه الوحي فيما يقول من جزمه وعدم تورعه، لا يمكن أن ينطق ويقول: لا أدري مع أن عدم العلم هو صفة الحق الثابت ومع ذلك يصر بناء على جهله على أنه عالم فيضر العامة؛ لأن الناس ربما يثقون بقوله ويغترون به، وليت هؤلاء القوم يقتصرون على نسبة الأمر إليهم لا بل تراهم ينسبون ذلك للإسلام فيقولون: الإسلام يرى كذا، وهذا لا يجوز إلا فيما علم القائل أنه من دين الإسلام، ولا طريق إلى ذلك إلا بمعرفة كتاب الله وسنة رسوله ، أو إجماع المسلمين عليه .
إن بعض الناس لجرأته وعدم ورعه وعدم حيائه من الله وعدم خوفه منه يقول عن الشيء المحرم الواضح تحريمه ما أظن هذا حرام، أو عن الشيء الواجب والواضح وجوبه يقول ما أظن هذا واجبًا، إما جهلا منه، أو عنادًا ومكابرة، أو تشكيكًا لعباد الله في دين الله .(132/85)
أيها الإخوة: إن من العقل والإيمان ومن تقوى الله وتعظيمه أن يقول الرجل عما لا يعلم لا أعلم، لا أدري، اسأل غيري، إن ذلك من تمام العقل؛ لأن الناس إذا رأوا تثبته وثقوا به، ولأنه يعرف قدر نفسه حينئذ وينزلها منزلتها، وإن ذلك أيضًا من تمام الإيمان بالله وتقوى الله حيث لا يتقدم بين يدي ربه ولا يقول عليه في دينه ما لا يعلم، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الخلق بدين الوحي فيجيب الله سبحانه عما سئل عنه نبيه { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ } (المائدة الآية : 4) { وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا } (الكهف الآية :83) { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ } (الأعراف الآية : 187) ولقد كان الأجلاء من الصحابة، تعرض لهم المسألة لا يدرون حكم الله فيها فيهابونها ويتوقفون فيها.
فها هو أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يقول: (( أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا أنا قلت في كتاب الله بغير علم)).(132/86)
وها هو عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - تنزل به الحادثة فيجمع لها الصحابة ويستشيرهم فيها، قال ابن سيرين : لم يكن أحد أهيب مما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب بما لا يعلم من عمر، وقال ابن مسعود - رضي الله عنه :- ((أيها الناس من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم : الله أعلم)). وسئل الشعبي عن مسألة فقال: لا أحسنها، فقال له أصحابه: قد استحيينا لك، فقال: لكن الملائكة لم تستح حين قالت: { لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا } (البقرة الآية :32) .(132/87)
وهناك أمثلة كثيرة على الإفتاء بغير علم: منها أن المريض إذا تنجست ثيابه ولم يمكن أن يطهرها يُفتى بأنه لا يصلي حتى يُطهر ثيابه، وهذه فتوى كاذبة خاطئة باطلة ، فالمريض يصلي ولو كان عليه ثياب نجسة ، ولو كان بدنه نجسًا إذا كان لا يستطيع أن يطهر ذلك؛ لأن الله يقول: { فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } (التغابن الآية : 16) فيصلي المريض على حسب حاله وعلى حسب ما يقدر عليه، يصلي قائمًا ، فإن لم يستطع فقاعدًا فإن لم يستطع فعلى جنبه يومئ برأسه إذا استطاع، فإن لم يستطع أومأ بعينه عند بعض أهل العلم، فإن لم يستطع الإيماء بعينه وكان معه عقله فلينو الفعل بقلبه وليقل القول بلسانه مثلا: يقول الله أكبر ثم يقرأ الفاتحة وسورة ، ثم يقول: الله أكبر وينوي أنه راكع، ثم يقول سمع الله لمن حمده وينوي أنه رفع الركوع، ثم يقول هكذا في السجود وبقية أفعال الصلاة، ينوي الفعل الذي لا يقدر عليه، ينويه بقلبه ولا يؤخر الصلاة عن وقتها.
وبسبب هذه الفتوى الكاذبة الخاطئة يموت بعض المسلمين وهم لا يصلون من أجل هذه الفتوى الكاذبة، ولو أنهم علموا أن الإنسان المريض يصلي على أي حال لماتوا وهم يصلون .(132/88)
ومثل هذه المسألة وأشباهها كثير فيجب على العامة أن يتلقوا أحكامها من أهل العلم حتى يعرفوا بذلك حكم الله - عز وجل - وحتى لا يقولوا في دين الله ما يعلمون.
ومنها: الكبر:
وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأجمع التفسير وأبينه وأوضحه فقال :
« الكبرٌ بطَر الحق وغمْط الناس » (1)
وبطر الحق هو : رد الحق، وغمط الناس يعني احتقارهم، ومن الكبرياء ردك على معلمك، والتطاول عليه وسوء الأدب معه، وأيضا استنكافك عمن يفيدك ممن هو دونك كبرياء، وهذا يقع لبعض الطلبة إذا أخبره أحد بشيء وهو دونه في العلم استنكف ولم يقبل، وتقصيرك عن العمل بالعلم عنوان حرمان - نسأل الله العافية -:
وفي هذا يقول القائل:
العلم حربٌ للفتى المتعالي ... كالسيل حربٌ للمكان العالي
ومعنى البيت:
أن الفتى المتعالي لا يمكن أن يدرك العلم؛ لأن العلم حرب له كالسيل حرب للمكان العالي؛ لأن المكان العالي ينفض عنه السيل يمينًا وشمالا ولا يستقر عليه، كذلك العلم لا يستقر مع الكبر والعلو، وربما يسلب العلم بسبب ذلك.
ومنها : التعصب للمذاهب والآراء:
فيجب على طالب العلم أن يتخلى عن:
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب: تحريم الكبر وبيانه.(132/89)
الطائفية والحزبية بحيث يعقد الولاء والبراء على طائفة معينة أو على حزب معين ؛ فهذا لا شك خلاف منهج السلف، فالسلف الصالح ليسوا أحزابًا بل هم حزب واحد، ينضوون تحت قول الله - عز وجل -: { هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ } (الحج: الآية 78) .(132/90)
فلا حزبية ولا تعدد، ولا موالاة ، ولا معاداة إلا على حسب ما جاء في الكتاب والسنة، فمن الناس مثلا من يتحزب إلى طائفة معينة، يقرر منهجها ويستدل عليه بالأدلة التي قد تكون دليلا عليه، ويحامي دونها، ويضلل من سواه حتى وإن كانوا أقرب إلى الحق منه، ويأخذا مبدأ: من ليس معي فهو عليّ، وهذا مبدأ خبيث؛ لأن هناك وسطًا بين أن يكون لك أو عليك، وإذا كان عليك بالحق، فليكن عليك وهو في الحقيقة معك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا » (1) ونصر الظالم أن تمنعه من الظلم، فلا حزبية في الإسلام، ولهذا لما ظهرت الأحزاب في المسلمين، وتنوعت الطرق، وتفرقت الأمة، وصار بعضهم يُضَلّل بعضًا، ويأكل لحم أخيه ميتًا، لحقهم الفشل كما قال الله تعالى: { وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } (الأنفال: الآية 46) لذلك نجد بعض طلاب العلم يكون عند شيخ من المشايخ، ينتصر لهذا الشيخ بالحق والباطل ويعادي من سواه، ويضلله ويبدعه، ويرى أن شيخه هو العالم المصلح، ومن سواه إما جاهل أو مفسد، وهذا غلط كبير، بل يجب أخذ قول من وافق قوله الكتاب والسنة وقول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب المظالم باب: أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا، ومسلم كتاب البر والصلة، باب: نصر الأخ ظالمًا أو مظلومًا.(132/91)
ومنها: التصدر قبل التأهل:
مما يجب الحذر منه أن يتصدر طالب العلم قبل أن يكون أهلا للتصدر؛ لأنه إذا فعل ذلك كان هذا دليلا على أمور:
الأمر الأول : إعجابه بنفسه حيث تصدر فهو يرى نفسه عَلَم الأعلام.
الأمر الثاني : أن ذلك يدل على عدم فقهه ومعرفته للأمور؛ لأنه إذا تصدر، ربما يقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه، إذ إن الناس إذا رأوه متصدرًا أو ردوا عليه من المسائل ما يبين عواره.
الأمر الثالث: أنه إذا تصدر قبل أن يتأهل لزمه أن يقول على الله ما لا يعلم؛ لأن الغالب أن من كان هذا قصده، أنه لا يبالي ويجيب على كل ما سُئِلَ ويخاطر بدينه وبقوله على الله - عز وجل - بلا علم.
الأمر الرابع: أن الإنسان إذا تصدر فإنه في الغالب لا يقبل الحق؛ لأنه يظن بسفهه أنه إذا خضع لغيره ولو كان معه الحق كان هذا دليلا على أنه ليس بعالم.
ومنها: سوء الظن:(132/92)
فيجب على طالب العلم الحذر من أن يظن بغيره ظنًّا سيئًا مثل أن يقول: لم يتصدق هذا إلا رياء، لم يُلق الطالب هذا السؤال إلا رياءً ليعرف أنه طالب فاهم، وكان المنافقون إذا أتى المتصدق من المؤمنين بالصدقة، إن كانت كثيرة قالوا: مُرَائ، وإذا كانت قليلة قالوا: إن الله غني عن صدقة هذا كما قال الله عنهم: { الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } (التوبة الآية :79) فإياك وسوء الظن بمن ظاهره العدالة، ولا فرق بين أن تظن ظنًّا سيئًا بمعلمك أو بزميلك، فإن الواجب إحسان الظن بمن ظاهره العدالة، أما من ظاهره غير العدالة فلا حرج أن يكون في نفسك سوء ظن به ، لكن مع ذلك عليك أن تتحقق حتى يزول ما في نفسك من هذا الوهم ، لأن بعض الناس قد يسيء الظن بشخص ما بناء على وهم كاذب لا حقيقة له.(132/93)
فالواجب إذا أسأت الظن بشخص، سواء من طلبة العلم أو غيرهم، الواجب أن تنظر هل هناك قرائن واضحة تسوغ لك سوء الظن فلا بأس، وأما إذا كان مجرد أوهام فإنه لا يحل لك أن تسيء الظن بمسلم ظاهره العدالة، قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ } (الحجرات الآية :12) لم يقل كل الظن؛ لأن بعض الظنون لها أصل ولها مبرر .
( إن بعض الظن إثم ) وليس كل الظن، فالظن الذي يحصل فيه العدوان على الغير لا شك أنه إثم، وكذلك الظن الذي لا مستند له، وأما إذا كان له مستند فلا بأس أن تظن الظن السيء بحسب القرائن والأدلة.(132/94)
لذلك ينبغي للإنسان أن ينزل نفسه منزلتها، وأن لا يدنسها بالأقذار، وأن يحذر هذه الأخطاء مما تقدم؛ لأن طالب العلم شرَّفه الله بالعلم وجعله أسوة وقدوة، حتى إن الله رد أمور الناس عند الإشكال إلى العلماء فقال: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ( الأنبياء الآية : 7) وقال تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } (النساء الآية : 83) فالحاصل أنك يا طالب العلم محترم، فلا تنزل بنفسك إلى ساحة الذل والضعة، بل كن كما ينبغي أن تكون.(132/95)
في كتب طالب العلم وفتاوى حول العلم وفوائد
الفصل الأول
كتب طالب العلم
قبل البدء في هذا الفصل لا بد أن نُبين بعض الأمور المهمة لطالب العلم وهي:
الأمر الأول: كيف تتعامل مع الكتاب ؟
التعامل مع الكتاب يكون بأمور:
الأول: معرفة موضوعه: حتى يستفيد الإنسان منه؛ لأنه يحتاج إلى التخصص، ربما يكون كتاب سحر أو شعوذة أو باطل، فلا بد من معرفة موضوع الكتاب حتى تحصل الفائدة منه.
الثاني: معرفة مصطلحاته: لأن معرفة المصطلحات يحصل بها أنك تحفظ أوقاتًا كثيرة، وهذا يفعله العلماء في مقدمات الكتب، فمثلا نعرف أن صاحب (( بلوغ المرام )) إذا قال متفق عليه يعني رواه البخاري ومسلم، لكن صاحب (( المنتقى )) على خلاف ذلك فإذا قال صاحب المنتقى - متفق عليه فإنه يعني رواه الإمام أحمد والبخاري، ومسلم، وكذلك في كتب الفقه يفرق كثير من العلماء بين القولين، والوجهين، والروايتين، والاحتمالين، فالروايتان عن الإمام، والوجهان عن الأصحاب، وهم أصحاب المذهب الكبار أهل التوجيه، والاحتمالان للتردد بين قولين، والقولان أعم من ذلك كله .(132/96)
كذلك يحتاج أن تعرف مثلا إذا قال المؤلف إجماعًا أو وفاقًا، إذا قال إجماعًا يعني بين الأمة، وإذا قال وفاقًا يعني مع الأئمة الثلاثة كما هو اصطلاح صاحب ((الفروع)) في فقه الحنابلة، وكذلك بقية أصحاب المذاهب ؛ كلّ له اصطلاح ، فلا بد أن تعرف اصطلاح المؤلف.
الثالث: معرفة أسلوبه وعباراته: ولهذا تجد أنك إذا قرأت الكتاب أول ما تقرأ - لا سيما في الكتب العلمية المملوءة علمًا - تجد أنه تمر بك العبارة تحتاج إلى تأمل وتفكير في معناها؛ لأنك لم تألفه، فإذا كررت هذا الكتاب ألفته.
وهناك أيضا أمر خارج عن التعامل مع الكتاب وهو : التعليق بالهوامش أو الحواشي. فهذا أيضًا مما يجب لطالب العلم أن يغتنمه، وإذا مرت به مسألة تحتاج إلى شرح، أو إلى دليل، أو إلى تعليل ويخشى أن ينساه فإنه يُعلق إما بالهامش - وهو الذي على اليمين أو اليسار - أو بالحاشية - وهي التي في الأسفل - وكثيرًا ما يفوت الإنسان مثل هذه الفوائد التي لو علقها لم تستغرق عليه إلا دقيقة أو دقيقتين، ثم إذا عاد ليتذكرها بقي مدة يتذكرها وقد لا يذكرها.(132/97)
فينبغي على طالب العلم أن يعتني بذلك لا سيما في كتب الفقه، يمر بك في بعض الكتب مسألة وحكمها ويحصل عندك توقف وإشكال ، فإذا رجعت للكتب - التي أوسع من الكتب الذي بين يديك ووجدت قولا يوضح المسألة ؛ فإنك تعلق القول من أجل أن ترجع إليه مرة أخرى إذا احتجت إليه دون الرجوع إلى أصل الكتاب الذي نقلت منه، فهذا مما يوفر عليك الوقت.(132/98)
الأمر الثاني: مطالعة الكتب على نوعين:
أولا: مطالعة تدبر وتفهم، فهذه لا بد أن يتأمل الإنسان ويتأنى.
ثانيا: مطالعة استطلاع فقط ينظر من خلالها على موضوع الكتاب، وما فيه من مباحث، ويتعرف على مضمون الكتاب، وذلك من خلال تصفح وقراءة سريعة للكتاب، فهذه لا يحصل فيها من التأمل والتدبر ما يحصل في النوع الأول . والطريقة المثلى في قراءة الكتب التدبر والتفكر في المعاني والاستعانة بذوي الفهم من أهل العلم الصحيح، ولا يخفى أن أولى الكتب بذلك ؛ كتاب الله عز وجل . وعليك بالصبر والمثابرة، فما أعطي الإنسان عطاء خيرًا وأوسع من الصبر.(132/99)
الأمر الثالث: جمع الكتب :
ينبغي لطالب العلم أن يحرص على جمع الكتب ، ولكن يبدأ بالأهم فالأهم، فإذا كان الإنسان قليل ذات اليد ، فليس من الخير وليس من الحكمة أن يشتري كتبًا كثيرة يلزم نفسه بغرامة قيمتها، فإن هذا من سوء التصرف، وإذا لم يمكنك أن تشتري من مالك فيمكنك أن تستعير من أي مكتبة .(132/100)
الأمر الرابع : الحرص على الكتب المهمة:
يجب على طالب العلم أن يحرص على الكتب الأمهات الأصول دون المؤلفات حديثًا؛ لأن بعض المؤلفين حديثًا ليس عنده العلم الراسخ، ولهذا إذا قرأت ما كتبوا تجد أنه سطحيّ، قد ينقل الشيء بلفظه، وقد يحرفه إلى عبارة طويلة لكنها غثاء، فعليك بالأمهات كتب السلف فإنها خير وأبرك بكثير من كتب الخلف.
لأن غالب كتب المتأخرين قليلة المعاني، كثيرة المباني، تقرأ صفحة كاملة يمكن أن تلخصها بسطر أو سطرين، لكن كتب السلف تجدها هينة، لينة، سهلة رصينة، لا تجد كلمة واحدة ليس لها معنى.(132/101)
ومن أجلّ الكتب التي يجب على طالب العلم أن يحرص عليها كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله - ومن المعلوم أن كتب ابن القيم أسهل وأسلس؛ لأن شيخ الإسلام ابن تيمية كانت عباراته قوية لغزارة علمه، وتوقد ذهنه، وابن القيم رأى بيتًا معمورًا فكان من التحسين والترتيب، ولسنا نريد بذلك أن نقول إن ابن القيم نسخة من ابن تيمية، بل ابن القيم حرّ إذا رأى أن شيخه خالف ما يراه صوابًا تكلم، لما رأى وجوب فسخ الحج إلى العمرة، وأن ابن عباس - رضي الله عنهما - يرى أنه يجب على من لم يسق الهدي إذا أحرم بحج أو قران أن يفسخه إلى عمرة، وكان شيخ الإسلام يرى أن الوجوب خاص بالصحابة، قال وأنا إلى قوله أميل مني إلى قول شيخنا، فصرح بمخالفته، فهو رحمه الله مستقل ، حر الفكر، لكن لا غرو أن يتابع شيخه رحمه الله فيما يراه حقًّا وصوابًا، ولا شك أنك إذا تأملت غالب اختيارات شيخ الإسلام وجدت أنها هي الصواب وهذا أمر يعرفه من تدبر كتبهما.(132/102)
الأمر الخامس: تقويم الكتب:
الكتب تنقسم إلى ثلاثة أقسام.
القسم الأول : كتب خير.
القسم الثاني: كتب شر.
القسم الثالث: كتب لا خير ولا شر.
فاحرص أن تكون مكتبتك خالية من الكتب التي ليس فيها خير أو التي فيها شر وهناك كتب يقال : إنها كتب أدب، لكنها تقطع الوقت وتقتله في غير فائدة، وهناك كتب ضارة ذات أفكار معينة وذات منهج معين، فهذه أيضًا لا تدخل المكتبة سواء كان ذلك في المنهج أو كان ذلك في العقيدة، مثل كتب المبتدعة التي تضر في العقيدة، والكتب الثورية التي تضر في المنهج.
وعمومًا كل كتب تضر فلا تدخل مكتبتك؛ لأن الكتب غذاء للروح كالطعام والشراب للبدن، فإذا تغذيت بمثل هذه الكتب صار عليك ضرر عظيم واتجهت اتجاهًا مخالفًا لمنهج طالب العلم الصحيح.(132/103)
كتب مختارة لطالب العلم (1)
أولا: العقيدة:
1- كتاب (( ثلاثة الأصول )).
2- كتاب (( القواعد الأربع)).
3- كتاب (( كشف الشبهات )).
4- كتاب (( التوحيد )).
وهذه الكتب الأربعة لشيخ الإسلام الإمام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالى-:
5- كتاب (( العقيدة الواسطية )) وتتضمن توحيد الأسماء والصفات، وهي من أحسن ما ألف في هذا الباب وهي جديرة بالقراءة والمراجعة.
6- كتاب (( الحموية)).
7- كتاب (( التدمورية)) وهما رسالتان أوسع من (( الواسطية)). وهذه الكتب الثلاثة لشيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -.
8- كتاب (( العقيدة الطحاوية )) للشيخ أبي جعفر بن محمد الطحاوي .
9- كتاب (( شرح العقيدة الحاوية )) لأبي الحسن علي بن أبي العز .
10- كتاب (( الدرر السنية في الأجوبة النجدية)) جمع الشيخ عبد الرحمن بن قاسم - رحمه الله تعالى:-
11- كتاب (( الدرة المضية في عقيدة الفرقة المرضية )) لمحمد بن أحمد السفاريني الحنبلي، وفيها بعض الإطلاقات التي تخالف مذهب السلف، كقوله:
وليس ربنا بجوهر ولا عرض ... ولا جسم تعالى في العلى
_________
(1) هذه الكتب سئل عنها فضيلة شيخنا - جزاه الله خيرًا - فجمعت هاهنا على وجه الاختصار.(132/104)
لذلك لا بد لطالب العلم أن يدرسها على شيخ ملم بالعقيدة السلفية لكي يبين ما فيها من الإطلاقات المخالفة لعقيدة السلف الصالح.(132/105)
ثانيا: الحديث:
1- كتاب (( فتح الباري شرح صحيح البخاري )) لابن حجر العسقلاني رحمه الله تعالى -:
2- كتاب (( سبل السلام شرح بلوغ المرام )) للصنعاني، وكتابه جامع بين الحديث والفقه.
3-كتاب (( نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار )) للشوكاني .
4- كتاب (( عمدة الأحكام )) للمقدسي، وهو كتاب مختصر ، وعامة أحاديثه في الصحيحين فلا يحتاج إلى البحث عن صحتها.
5- كتاب (( الأربعين النووية)) لأبي زكريا النووي - رحمه الله تعالى - وهذا كتاب طيب؛ لأن فيه آدابًا، ومنهجًا جيدًا، وقواعد مفيدة جدًّا مثل حديث « من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه » (1) فهذه قاعدة لو جعلتها هي الطريق الذي تمشي عليه لكانت كافية .
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد (1-201) ، والترمذي (2318)، وحسنه النووي في ( رياض الصالحين) ص 73، وصححه أحمد شاكر ( المسند) 1737).(132/106)
الفصل الثاني
فتاوى حول العلم
1- سئل فضيلته - حفظه الله -: هل يعذر طلبة العلم الذين درسوا العقيدة على غير مذهب السلف الصالح محتجين بأن العالم الفلاني أو الإمام الفلاني يعتقد هذه العقيدة ؟
فأجاب فضيلته بقوله : هذا لا يُعذر به صاحبه حيث بلغه الحق؛ لأن الواجب عليه أن يتبع الحق أينما كان، وأن يبحث حتى يتبين له.
والحق - ولله الحمد - ناصع، بيِّن لمن صلحت نيته، وحسن منهاجه، فإن الله - عز وجل يقول في كتابه: { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ } (القمر الآية :17) . ولكن بعض الناس - كما ذكر الأخ السائل- يكون لهم متبوعون معظمون لا يتزحزحون عن آرائهم، مع أنه قد ينقدح في أذهانهم أن آراءهم ضعيفة أو باطلة، لكن التعصب والهوى يحملهم على موافقة متبوعيهم، وإن كان قد تبين لهم الهدى.
2- وسئل فضيلة الشيخ: عمن لا يحب دراسة العقيدة خصوصًا مسألة القدر خوفًا من الزلل؟(132/107)
فأجاب بقوله: هذه المسألة كغيرها من المسائل المهمة التي لا بد للإنسان منها في دينه ودنياه، لا بد أن يخوض غمارها وأن يستعين بالله - تبارك وتعالى على تحقيقها ومعرفتها حتى يتبين له الأمر؛ لأنه لا ينبغي أن يكون على شك في هذه الأمور المهمة. أما المسائل التي لا تخل بدينه لو أجلها ولا يخشى أن تكون سببا لانحرافه، فإنه لا بأس أن يؤجلها ما دام غيرها أهم منها، ومسائل القدر من الأمور المهمة التي يجب على العبد أن يحققها تماما حتى يصل فيها إلى اليقين.(132/108)
وهي في الحقيقة ليس فيها إشكال - ولله الحمد - والذي يثقل دروس العقيدة على بعض الناس هم أنهم مع الأسف الشديد يرجحون جانب ((كيف)) على جانب ((لِمَ)) والإنسان مسؤول عن عمله بأداتين من أدوات الاستفهام ((لِمَ)) و ((كيف)) فلِم عملت كذا ؟ هذا الإخلاص. كيف عملت كذا؟ هذا المتابعة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وأكثر الناس الآن مشغولون بتحقيق جواب ((كيف)) غافلون عن تحقيق جواب ((لِم)) ولذلك تجدهم في جانب الإخلاص لا يتحرون كثيرًا ، وفي جانب المتابعة يحرصون على أدق الأمور، فالناس الآن مهتمون كثيرًا بهذا الجانب، غافلون عن الجانب الأهم وهو جانب العقيدة وجانب الإخلاص وجانب التوحيد .
لهذا تجد بعض الناس في مسائل الدين يسأل عن مسألة يسيرة جدًّا جدًّا وقلبه منكبّ على الدنيا غافل عن الله مطلقًا في بيعه وشرائه، ومركوبه، ومسكنه، وملبسه ، فقد يكون بعض الناس الآن عابدًا للدنيا وهو لا يشعر، وقد يكون مشركًا بالله في الدنيا وهو لا يشعر، لأنه مع الأسف الشديد لا يهتم بجانب التوحيد وجانب العقيدة، وهذا ليس من العامة فقط ولكن من بعض طلاب العلم وهذا أمر له خطورته.(132/109)
كما أن التركيز على العقدية فقط بدون العمل الذي جعله الشارع كالحامي والسور لها خطأ أيضًا ؛ لأننا نسمع في الإذاعات ونقرأ في الصحف التركيز على أن الدين هو العقيدة السمحاء وما أشبه ذلك من العبارات، وفي الحقيقة أن هذا يُخشى أن يكون بابًا يلج منه مَن يلج في استحلال بعض المحرمات بحجة أن العقيدة سليمة، ولكن لا بد من ملاحظة الأمرين جميعًا ليستقيم الجواب على ((لم)) وعلى ((كيف)).
وخلاصة الجواب : أنه يجب على المرء دراسة علم التوحيد والعقيدة؛ ليكون على بصيرة في إلهه ومعبوده - جل وعلا - على بصيرة بأسماء الله، وصفاته، وأفعاله، على بصيرة في أحكامه الكونية، والشرعية، على بصيرة في حكمته، وأسرار شرعه وخلقه، حتى لا يضلّ بنفسه أو يضل غيره.(132/110)
وعلم التوحيد هو أشرف العلوم لشرف متعلقه ؛ ولهذا سماه أهل العلم ( الفقه الأكبر) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » (1) . وأول ما يدخل في ذلك وأولاه علم التوحيد والعقيدة، لكن يجب على المرء أيضًا أن يتحرى كيف يأخذ هذا العلم ومن أيّ مصدر يتلقاه، فليأخذ من هذا العلم أولا ما صفا منه وسلم من الشبهات، ثم ينتقل ثانيا إلى النظر فيما أورد عليه من البدع والشبهات؛ ليقوم بردها وبيانها مما أخذ من قبل العقيدة الصافية، وليكن المصدر الذي يتلقاه منه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ثم كلام الصحابة - رضي الله عنهم - ثم ما قاله الأئمة بعدهم من التابعين وأتباعهم، ثم ما قاله العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم، وخصوصا شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم عليهما وعلى سائر المسلمين وأئمتهم سابغ الرحمة والرضوان.
* * * 3- سئل فضيلة الشيخ : يتحرج بعض طلبة العلم الشرعي عند قصدهم العلم والشهادة فكيف يتخلص طالب العلم من هذا الحرج؟
فأجاب بقوله : يجاب على ذلك بأمور:
_________
(1) تقدم تخريجه ص 13(132/111)
أحدها: أن لا يقصدوا بذلك الشهادة لذاتها، بل يتخذون هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق؛ لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات، والناس غالبًا لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة وبذلك تكون النية سليمة.
الثاني: أن من أراد العلم قد لا يجده إلا في هذه الكليات فيدخل فيها بنية طلب العلم ولا يؤثر عليه ما يحصل له من الشهادة فيما بعد.
الثالث: أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين حُسنى الدنيا، وحُسنى الآخرة فلا شيء عليه في ذلك؛ لأن الله يقول { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } (الطلاق الآيتان: 2 ، 3 ) وهذا ترغيب في التقوى بأمر دنيوي.
فإن قيل: من أراد بعمله الدنيا كيف يُقال بأنه مخلص ؟(132/112)
فالجواب: أنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم على عبادته بل قصد أمرًا ماديًّا من ثمرات العبادة، فليس كالمرائي الذي يتقرب إلى الناس بما يتقرب به إلى الله ويريد أن يمدحوه به، لكنه بإرادة هذا الأمر المادي نقص إخلاصه فصار معه نوع من الشرك وصارت منزلته دون منزلة من أراد الآخرة إرادة محضة.
وبهذه المناسبة أود أن أنبه على أن بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية؛ فمثلا يقولون في الصلاة رياضة وإفادة للأعصاب، وفي الصيام فائدة لإزالة الفضلات وترتيب الوجبات، والمفروض ألا تجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل؛ لأن ذلك يؤدي إلى إضعاف الإخلاص والغفلة عن إرادة الآخرة، ولذلك بيَّن الله تعالى في كتابه حكمة الصوم - مثلا أنه سبب للتقوى، فالفوائد الدينية هي الأصل، والدنيوية ثانوية، وعندما نتكلم عند عامة الناس فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية، وعندما نتكلم عند ممن لا يقتنع إلا بشيء مادي فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ولكل مقام مقال.(132/113)
* * * 4- وسئل فضيلته - حفظه الله تعالى -: يختلف الكثير من طلبة العلم في معاملة أهل المعاصي، فما التوجيه الصحيح جزاكم الله خيرًا ؟
فأجاب - رعاه الله تعالى -: نقول: هذه المسألة وهي أن بعض طلبة العلم إذا رأوا المنحرف خُلقيًّا أو فكريًّا أو عمليًّا . يكرهونه ويتخذون من هذه الكراهة نُفورًا منه وبُعدًا عنه، ولا يحاولون أبدًا أن يصلحوا إلا من شاء الله من طلبة العلم الذين أنار الله قلوبهم ويرون أن هجره وكراهته والبعد عنه والتنفير منه يرون ذلك قربة. وهذا لا شك أنه خطأ وأن الواجب على طلبة العلم أن ينصحوا وينظروا كم من إنسان في غفلة فإذا نُصح استجاب.(132/114)
وما أشد تأثير جماعة أهل الدعوة الذين يسمون أنفسهم أهل الدعوة والتبليغ. ما أشد تأثيرهم على الناس . وكم من فاسق اهتدى فأطاع، وكم من كافر اهتدى فأسلم على أيديهم؛ لأنهم وسعوا الناس بحسن الأخلاق، فلذلك نحن نسأل الله أن يجعل إخواننا الذين أعطاهم العلم أن يطعمهم من أخلاق هؤلاء حتى ينفعوا الناس أكثر وإن كان يؤخذ على جماعة الدعوة والتبليغ ما يؤخذ لكنهم في حسن الخلق والتأثير يسبب أخلاقهم لا أحد ينكر فضلهم، وقد رأيت كتابًا للشيخ عبد العزيز بن باز - حفظه الله - وجهه إلى شخص كتب إليه ينتقد هؤلاء الجماعة، فقال في جملة رده:
أقلوا عليهم لا أبا لأبيكمُ ... من اللوم أو سدّوا المكان الذي سّدوا
وحسن الخلق لا شك أنه له تأثيرًا عظيما في استجابة الناس للداعي.(132/115)
أما إذا رأوا الإنسان خشنًا فإنهم يسبونه ويذمونه على ما فيه من الأخلاق الشرعية، تجدهم مثلا يسبونه على لحيته، واللحية أخلاق شرعية، ويسبونه على تقصير الثوب، يسبونه على المشي حافيًا . لماذا؟ لأنه ليس حَسَن الأخلاق مع الناس. لا يدعو بالأخلاق إنما يدعو بالجفاء والغلظة، ويريد أن يصلح الناس كلهم في ساعة واحدة، هذا خطأ لا يمكن أن يصلح الناس في ساعة واحدة أبدًا . أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعو الناس؟ وفي النهاية أُخرِجَ من مكة حين تآمروا عليه { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } (الأنفال الآية : 30) يثبتوك يعني يحبسوك أو يقتلوك أو يخرجوك { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } . فلا يمكن أن تصلح الخلق بمجرد دعوة أو دعوتين لا سيما إذا لم تكن ذا قيمة بينهم لكن اصبر وأطل النَّفَس وادع بالحكمة وأحسن الخلق وسيتبين لك الأمر فيما بعد . ولا شك أن حسن المنطق له تأثير عظيم بالغ. ويُحكى أن رجلا من أهل الحسبة مر على فلاح يسني إبله وكان في أذان المغرب. وكان هذا الفلاح يغني ؛ لأن الإبل إذا سمعت(132/116)
الغناء تمشي كأنها مجنونة؛ لأنها تطرب فكان يغني غافلا ولا يسمع الأذان فتكلم عليه رجل الحسبة بكلام شديد. قال له - أي صاحب الإبل -: سوف أغني وأستمر في الغناء وإذا ما ذهبت فالعصا لمن عصا، - يقول هذا الكلام بسبب أنه جاءه بعنف - فذهب صاحب الحسبة إلى الشيخ القاضي وقال له: أنا ذهبت لفلان وسمعته يغني على إبله والمؤذن يؤذن المغرب ونصحته فلم يستجب. فلما كان من الغد ذهب الشيخ القاضي إلى مكان صاحب الإبل في الوقت نفسه فلما أذن جاء الفلاح وقال له: يا أخي أذن المؤذن فعليك أن تذهب وتصلي فإن الله يقول: { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى } (طه الآية :132) . فقال صاحب الإبل: جزاك الله خير، ووضع العصا التي يسوق بها الإبل وتوضأ ومشى معه، وماذا حصل؟ حصل المقصود، أما الأول لو تمادى معه لحصل الشر وترك الخير، ولكن الثاني أتاه بالتي هي أحسن فانقاد تمامًا، فلذلك أقول: إن بعض طلبة العلم يكون عندهم غيرة لكن لا يحسنون التصرف، والواجب أن الإنسان يكون في تصرفاته على علم وبصيرة وعلى قدر كبير من الحكمة نسأل الله للجميع التوفيق،(132/117)
والحمد الله رب العالمين.
* * *
5- وسئل فضيلته: هناك بعض طلبة العلم يحرص على حضور دروس طلبة العلم دون أن يلقي اهتمامًا بدروس العلماء الذين جمعوا ما لم يجمعه طلبة العلم . فما توجيه فضيلتكم - حفظكم الله تعالى -؟
فأجاب فضيلته بقوله : الذي أراه أن الإنسان ينبغي أن يطلب العلم على عالم ناضج؛ لأن بعض طلبة العلم يتصدر للتدريس فيحقق المسألة من المسائل سواء حديثية أو فقهية أو عقائدية يحققها تمامًا ويراجع عليها، فإذا سمعه الناشيء من طلبة العلم ظن أنه من أكابر العلماء، لكن لو خرج قيد أنملة عن هذا الموضوع الذي حققه ونقحه وراجع عليه وجدت أنه ليس عنده علم، لذلك يجب على طالب العلم المبتدئ أن يتلقى العلم على يد العلماء الموثوق بعلمهم وأمانتهم ودينهم.
6- فضيلة الشيخ: يلاحظ ضعف الهمة والفتور في طلب العلم، فما الوسائل والطرق التي تدفع إلى علو الهمة والحرص على العلم؟
فأجاب - حفظه الله ورعاه - بقوله : ضعف الهمم في طلب العلم الشرعي من المصائب الكبيرة وهناك أمور لا بد منها:(132/118)
الأمر الأول: الإخلاص لله - عز وجل - في الطلب والإنسان إذا أخلص لله في الطلب وعرف أنه يُثاب على طلبه وسيكون في الدرجة الثالثة من درجات الأمة فإن همته تنشط { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (النساء الآية :69).
ثانيا: أن يُلازم زملاء يحثونه على العلم ويساعدونه على المناقشة والبحث ولا يمل من صحبتهم ما داموا يعينونه على العلم .
ثالثا: أن يصبر نفسه بمعنى يحبسها لو أرادت أن تتفلت، قال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: { وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا } (الكهف الآية : 28) فليصبر؛ وإذا صبر وتعود الطلبة صار الطلب سجية له وصار اليوم الذي يفقد فيه الطلب يومًا طويلا عليه، أما إذا أعطى نفسه العنان فلا، فالنفس أمارة بالسوء والشيطان يحثه على الكسل وعدم التعلم.(132/119)
7- سئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى -: ما نصيحة فضيلتكم لمن يجعل الولاء والبراء لإخوانه في موافقتهم له في مسألة أو عدم موافقتهم له، وكذلك ما يحصل من الحسد والبغض من طلاب العلم ؟(132/120)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا صحيح، فإن بعض الناس يجعلون الولاء والبراء مقيد بالموافقة له أو عدم الموافقة، فتجد الشخص يتولى الشخص؛ لأنه وافقه فيها، يتبرأ منه لأنه خالفه فيها، وأذكر لكم قصة مرت علينا في منى بين طائفتين من الإفريقيين كل واحد يلعن الثاني ويكفره، فجيء بهم إلينا، وهم يتنازعون قلنا: ما الذي حدث؟ قال الأول: هذا الرجل إذا قام إلى الصلاة يضع يده اليمنى على اليسرى فوق الصدر وهذا كفر بالسنة ، وقال الثاني: هذا إذا قام للصلاة يرسل يديه على الفخذين دون أن يجعل اليمنى على اليسرى وهذا كفر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من رغب عن سنتي فليس مني » (1) وعلى هذا يكفر بعضهم بعضًا !! مع العلم أن هذه المسألة مسألة سنة، وليست واجبة ولا ركن ولا شرط للصحة وبعد جهد وعناء كبير اقتنعوا أمامنا والله أعلم بما وراءنا ، والآن تجد بعض الإخوان مع الأسف يرد على إخوانه أكثر مما يرد على الملحدين الذين كفرهم صريح، يعاديهم أكثر مما يعادي هؤلاء ويشهر بهم في كلام لا أصل له، ولا حقيقة له، لكن حسد وبغي ، ولا شك أن الحسد من أخلاق اليهود أخبث عباد الله.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب : الترغيب في النكاح، ومسلم، كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح لمن تاقت نفسه إليه.(132/121)
ثم إن الحسد لا يستفيد منه الحاسد إطلاقا، بل لا يزيده إلا غمًّا وحسرة، ابغ الخير للغير يحصل لك الخير، واعلم أن فضل الله يؤتيه من يشاء، لو حسدت فإنك لن تمنع فضل الله، ربما تمنع فضل الله عليك بمحبتك زوال فضل الله على غيرك وكراهتك نعمة الله على غيرك، لذلك الحاسد في ظروف طالب العلم مشكوك في نيته وإخلاصه في طلب العلم؛ لأنه إنما حسد لكون الثاني صار له جاه عند الناس وله كلمة والتف الناس حوله فحسده، لكونه يريد الدنيا، أما لو كان يريد الآخرة حقًّا، ويريد العلم حقًّا، لسأل عن هذا الرجل الذي التف الناس حوله وأخذوا بقوله. تسأل عن علمه لتكون مثله أيضًا ؛ تجيء أنت لتستفيد منه؛ أما أن تحسده وتشوه سمعته، وتذكر فيه من العيوب ما ليس فيه فهذا لا شك أنه بغي وعدوان وخصلة ذميمة.
* * * 8- سئل فضيلة الشيخ : ذكر الخطيب البغدادي جانبًا من جوانب تعلم العلم وهو لزوم أحد العلماء أو أحد المشائخ فما رأي فضيلتكم ؟(132/122)
فأجاب فضيلته : بقوله : هذا جيد كون الإنسان يركز على شيخ من المشايخ يجعله هو الأصل لا سيما المبتدئ الصغير، المبتدئ الصغير إذا طلب العلم على عدة أناس تذبذب؛ لأن الناس ليسوا على رأي واحد خصوصًا في عصرنا الآن، كان فيما سبق أي قبل مدة كان الناس هنا في المملكة لا يخرجون أبدًا عن الإقناع والمنتهى ؛ فتجد فتاواهم واحدة، وشروحهم واحدة، لا يختلف واحد عن الآخر إلا في الإلقاء وحسن الأسلوب، لكن الآن لما كان كل واحد حافظًا حديثًا أو حديثين قال: أنا الإمام المقتدى به والإمام أحمد رجل ونحن رجال، فصارت المسألة فوضى، صار كل إنسان يفتي أحيانًا تأتي الفتاوى تُبكي وتُضحك ، وكنت أهم أن أدون مثل هذه الفتاوى لكن كنت أخشى أن أكون ممن تتبع عورات إخوانه فتركته تحاشيًا مني وإلا نقلنا أشياء بعيدة عن الصواب بُعد الثريا عن الثرى.(132/123)
فأقول: ملازمة عالم واحد مهمة جدًّا ما دام الطالب في أول الطريق لكي لا يتذبذب، ولهذا كان مشايخنا ينهوننا عن مطالعة المغني وشرح المهذب والكتب التي فيها أقوال متعددة عندما كنا في زمن الطلبة، وذكر لنا بعض مشايخنا أن الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بابطين رحمه الله - وهو من أكبر مشايخ نجد مفتي الديار النجدية ذكروا أنه كان مُكبًا على الروض المربع لا يطالع إلا إياه ويكرره، كل ما خلص منه كرره لكن يأخذه بالمفهوم والمنطوق والإشارة والعبارة فحصل خير كثير.
أما إذا توسعت مدارك الإنسان فهذا ينبغي له أن ينظر أقوال العلماء يستفيد منها فائدة علمية وفائدة تطبيقية، لكن في أول الطلب أنا أنصح الطالب أن يركز على شيخ مُعين لا يتعداه.
9- وسئل فضيلة الشيخ : إذا أراد طالب العلم أن ينقل الأحاديث التي زادت من بلوغ المرام على المحرر لابن عبد الهادي فهل هذه الطريقة مفيدة؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شيء في ذلك، هذه طريقة خاصة لكنه على سبيل العموم كونه يدرس الكتب المشهورة المتداولة بين الناس أحسن.
* * * 10- سئل فضيلة الشيخ : عن كتاب المحرر لابن عبد الهادي أليس خيرًا من بلوغ المرام؟(132/124)
فأجاب فضيلته بقوله: بلوغ المرام بين الناس، وصاحبه محقق - رحمه الله - والشيء المتداول ينبغي للإنسان أن يعتني به أكثر من غيره؛ لأن الشيء المهجور لا ينتفع به الناس كثيرًا، والبلوغ كما هو معلوم خُدِمَ وقرأ به علماؤنا ومشايخنا.
* * * 11- وسئل -حفظه الله تعالى - ذُكر عن ابن الوزير - رحمه الله - أن الصحابة أبا بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم - لم يحفظوا القرآن الكريم ، وكذلك ما ورد عن الأئمة كعثمان بن أبي شيبة على قدره أنه لم يحفظ القرآن ، الأشياء التي تدعو بعض طلبة العلم لترك حفظ كتاب الله ، هل هذا صحيح؟
فأجاب فضيلته : بقوله : أنا أستبعد أن أبا بكر، وعمر وعثمان ، وعليًّا وهؤلاء الأجلة من الصحابة لم يحفظوا كتاب الله - هذا بعيد - وتعلم أن القرآن جمع على عهد أبي بكر، وعلى عهد عثمان كيف يجمعون ولا يحفظون؟! بعيد جدًّا ولكن حتى لو رُوي عنه فيجب أن ننظر في الإسناد أولا ثم إذا صح الإسناد فنقول: إن الذي تحدث عنهم وقال إنهم لم يحفظوا القرآن كله تحدث عما علمَ ، ويبعده جدًّا أن مثل هؤلاء لا يحفظون القرآن، ولا ينبغي أن يثني الرجل عن حفظ القرآن مثل هذه الروايات.
* * *(132/125)
12 - وسئل فضيلة الشيخ: أرجو من فضيلتكم - حفظكم الله تعالى - توضيح المنهج الصحيح في طلب العلم في مختلف العلوم الشرعية جزاكم الله خيرًا وغفر لكم؟
فأجاب بقوله: العلوم الشرعية على أصناف منها:
1- علم التفسير: فينبغي لطالب العلم أن يقرن التفسير بحفظ كتاب الله- عز وجل - اقتداء بالصحابة - رضي الله عنهم- حيث لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، ولأجل أن يرتبط معنى القرآن الكريم بحفظ ألفاظه فيكون الإنسان ممن تلاه حق تلاوته لا سيما إذا طبقه.
2- علم السنة: فيبدأ بما هو أصح، وأصح ما في السنة ما اتفق عليه البخاري ومسلم .
لكن طلب السنة ينقسم إلى قسمين:
قسم يريد الإنسان معرفة الأحكام الشرعية سواء في علم العقائد والتوحيد أو في علم الأحكام العملية، وهذا ينبغي أن يُركز على الكتب المؤلفة في هذا فيحفظها كبلوغ المرام، وعمدة الأحكام ، وكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب كتاب التوحيد ، وما أشبه ذلك.
وتبقى الأمهات للمراجعة والقراءة، فهناك حفظ وهناك قراءة يقرأ الأمهات ويكثر من النظر فيها ؛ لأن في ذلك فائدتين:
الأولى: الرجوع إلى الأصول.(132/126)
الثانية: تكرار أسماء الرجال على ذهنه، فإنه إذا تكررت أسماء الرجاء لا يكاد يمر به رجل مثلا من رجال البخاري في أي سند كان إلا عرف أنه من رجال البخاري فيستفيد هذه الفائدة الحديثية.
3- علم العقائد: كتبه كثيرة وأرى أن قراءتها في هذا الوقت تستغرق وقتًا كثيرًا والفائدة موجودة في الزبد التي كتبها مثل شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله والعلامة ابن القيم، وعلماء نجد مثل شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ومن بعده من العلماء.
4- علم الفقه: ولا شك أن الإنسان ينبغي له أن يُركز على مذهب معين يحفظه ويحفظ أصوله وقواعده، لكن لا يعني ذلك أن نلتزم التزامًا بما قاله الإمام في هذا المذهب كما يلتزم بما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، لكنه يبني الفقه على هذا ويأخذ من المذاهب الأخرى ما قام الدليل على صحته، كما هي طريقة الأئمة من أتباع المذاهب كشيخ الإسلام ابن تيمية ، والنووي وغيرهما حتى يكون قد بنى على أصل؛ لأني أرى أن الذين أخذوا بالحديث دون أن يرجعوا إلى ما كتبه العلماء في الأحكام الشرعية، أرى عندهم شطحات كثيرة ، وإن كانوا أقوياء في الحديث وفي فهمه لكن يكون عندهم شطحات كثيرة؛ لأنهم بعيدون عما يتكلم به الفقهاء.(132/127)
فتجد عندهم من المسائل الغريبة ما تكاد تجزم بأنها مخالفة للإجماع أو يغلب على ظنك أنها مخالفة للإجماع، لهذا ينبغي للإنسان أن يربط فقهه بما كتبه الفقهاء- رحمهم الله - ولا يعني ذلك أن يجعل الإمام، إمام هذا المذهب كالرسول - عليه الصلاة والسلام - يأخذ بأقواله وأفعاله على وجه الالتزام، بل يستدل بها ويجعل هذا قاعدة ولا حرج بل يجب إذا رأى القول الصحيح في مذهب آخر أن يرجع إليه ، والغالب في مذهب الإمام أحمد أنه لا تكاد ترى مذهبًا من المذاهب إلا وهو قول للإمام أحمد، راجع كتب الروايتين في المذهب تجد أن الإمام أحمد - رحمه الله - لا يكاد يكون مذهب من المذاهب إلا وله قول يوافقه؛ وذلك لأنه - رحمه الله - واسع الاطلاع ورجّاع للحق أينما كان، فلذلك أرى أن الإنسان يركز على مذهب من المذاهب التي يختارها، وأحسن المذاهب فيما نعلم من حيث اتباع السنة مذهب الإمام أحمد رحمه الله - وإن كان غيره قد يكون أقرب إلى السنة من غيره، على إنه كما أشرت قبل قليل؛ لا تكاد تجد مذهبًا من المذاهب إلا والإمام أحمد يوافقه - رحمه الله.(132/128)
وأهم شيء أيضًا في منهج طالب العلم بعد النظر والقراءة، أن يكون فقيهًا، بمعنى أنه يعرف حكم الشريعة وآثارها ومغزاها وأن يطبق ما علمه منها تطبيقًا حقيقيًّا بقدر ما يستطيع { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (البقرة الآية : 286) لكن يحرص على التطبيق بقدر ما يستطيع، وأنا أكرر عليكم دائمًا هذه النقطة ((التطبيق)) سواء في العبادات أو الأخلاق أو في المعاملات. طبِّق حتى يُعرف أنك طالب علم عامل بما علمت.
ونضرب مثلا إذا مَرّ أحدكم بأخيه هل يشرع له أن يسلم عليه؟
الجواب : نعم يشرع ولكن أرى الكثير يمر بإخوانه وكأنما مر بعمود لا يسلم عليه، وهذا خطأ عظيم حيث يمكن أن ننقد العامة إذا فعلوا مثل هذا الفعل، فكيف لا يُنتقد الطالب ؟ وما الذي يضرك إذا قلت السلام عليكم ؟ وكم يأتيك ؟ عشر حسنات - تساوي الدنيا كلها عشر حسنات لو قيل للناس: كل من مر بأخيه وسلم عليه سيدفع له ريال، لوجدت الناس في الأسواق يدورون لكي يسلموا عليه؛ لأن سيحصل على ريال لكن عشر حسنات نفرط فيها. والله المستعان.(132/129)
وفائدة أخرى: المحبة والألفة بين الناس، فالمحبة والألفة جاءت نصوص كثيرة بإثباتها وتمكينها وترسيخها، والنهي عما يضادها والمسائل التي تضادها كثيرة، كبيع المسلم على بيع أخيه، والخِطبة على خِطبة المسلم، وما أشبه ذلك، كل هذا دفع للعداوة والبغضاء وجلب للألفة والمحبة، وفيها أيضًا تحقيق الإيمان؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « والله لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا » (1) ومعلوم أن كل واحد منا يحب أن يصل إلى درجة يتحقق فيها الإيمان له؛ لأن أعمالنا البدنية قليلة وضعيفة.
_________
(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب: بيان أنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون.(132/130)
الصلاة يمضي أكثرها ونحن ندبر شئونًا أخرى، الصيام كذلك، الصدقة الله أعلم بها، فأعمالنا وإن فعلناها فهي هزيلة نحتاج إلى تقوية الإيمان، السلام مما يقوي الإيمان؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: « لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أخبركم بشيء إذ فعلتموه تحاببتم - يعني حصل لكم الإيمان - أفشوا السلام بينكم » (1) هذه نقطة واحدة مما علمناه ولكننا أخللنا به كثيرًا ؛ لذلك أقول: أسأل الله أن يعينني وإياكم على تطبيق ما علمنا ؛ لأننا نعلم كثيرا ولكن لا نعمل إلا قليلا، فعليكم يا إخواني بالعلم وعليكم بالعمل وعليكم بالتطبيق، فالعلم حجة عليكم، العلم إذا غذيتموه بالعمل ازداد { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (محمد الآية :17) . إذا غذيتموه بالعمل ازددتم نورًا وبرهانًا { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } (الأنفال: الآية 29) { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا
_________
(1) تقدم تخريجه ص 113(132/131)
تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (الحديد الآية :28) والآيات في هذا المعنى كثيرة، فعليكم بالتطبيق في العبادات وفي الأخلاق وفي المعاملات حتى تكونوا طلاب علم حقيقة، أسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
* * * 13- سئل فضيلة الشيخ : متى يكون طالب العلم متبعًا لمذهب الإمام أحمد ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : مذهب الإمام أحمد وغيره من الأئمة قسمان :
* مذهب شخصي.
* ومذهب اصطلاحي.
فأنت تكون متبعًا له شخصيًّا إذا أخذت برواية من الروايات عنه، ولكنك لست عليه إذا كان يخالف المصطلح عليه آخذًا بالمذهب المصطلح ، والمذهب المصطلح عليه، أحيانًا ينص الإمام أحمد على أنه رجع عنه وعلى أنه لا يقول به ، لكن لكل أناس من أصحاب المذاهب طريقة يمشون عليها.
* * * 14- وسئل الشيخ : ما توجيه فضيلتكم - حفظكم الله تعالى - لطالب العلم المبتدئ هل يقلد إمامًا من أئمة المذاهب أم يخرج عنه ؟
فأجاب قائلا: قال الله -عز وجل-: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ( الأنبياء الآية : 7)(132/132)
فإذا كان هذا طالبًا ناشئًا لا يعرف كيف يُخرج الأدلة فليس له إلا التقليد سواء قلد إمامًا سابقًا ميتًا أو إمامًا حاضرًا - عالم من العلماء - وسأله، هذا هو الأحسن، لكن إذا تبين له أن هذا القول مُخالف للحديث الصحيح وجب عليه أن يأخذ بالحديث الصحيح.
15- سئل فضيلة الشيخ - رعاه الله -: ما رأي فضيلتكم في بعض طلبة العلم الذين قد جمعوا أسس العلم في العقيدة ومعرفة الأحكام الفقهية أخذًا من العلماء، فهل يقومون بالدعوة في المساجد أم ينتظرون حتى يكون عندهم إذن رسمي من الجهات المختصة، وجزاكم الله خيرًا؟
فأجاب فضيلته: بقوله : الذي أرى ألا يتكلموا فيما يُمنع فيه الكلام إلا بإذن لأن طاعة ولي الأمر في تنظيم الأمور واجبة، وتعلم أنه لو أذن للصغار الذين ابتدأوا طلب العلم بالكلام لتكلموا بما لا يعلمون، وحصل بذلك مفسدة واضطراب للناس، ربما في العقائد فضلا عن الأعمال البدنية.(132/133)
فمنع الناس من الكلام إلا بإذن وبطاقة ليس منعًا تامًّا حتى نقول لا طاعة لولاة الأمر في ذلك ؛ لأن فيه منعًا لتبليغ الشريعة لكنه منعٌ مقيد بما يضبطه بحيث يُعرف من هو أهل لذلك أو لا، وكما تعلمون الآن كل من تقدم إلى المسئولين لهذا الأمر وعلموا أنه أهل لذلك أعطوه إذنًا ، لم نعلم بأنهم قالوا لأحد تقدم - وهو أهل لنشر العلم- لا تفعل، والأمر - والحمد لله - أمر يطمئن إليه الإنسان، ولا يجوز لأحد أن يتكلم في موضع يُمنع فيه من الكلام من جهة ولي الأمر، إلا بإذن يعني مثلا في المساجد أو في الأماكن العامة، لكن بينه وبين إخوانه، في غرفته، في حجرته فهذا لا بأس به ولا يمنع أحد منه.
* * *
16 - سئل فضيلة الشيخ : - غفر الله له -: كثرت الأسئلة عن كيفية الطلب وبأي شيء يبدأ من أراد أن يطلب العلم وبأي المتون يبدأ حفظًا ، فما توجيهكم لهؤلاء الطلبة، وجزاكم الله خيرًا؟
فأجاب فضيلته بقوله : أولا وقبل أن أذكر التوجيه لهؤلاء الطلبة أوجه الطلبة أن يتلقوا العلم عن عالم؛ لأن تلقي العلم عن العالم فيه فائدتان عظيمتان:
الأولى: أنه أقرب تناولا؛ لأن العالم عنده اطلاع وعنده معرفة ويعطيك العلم ناضجًا سهلا .(132/134)
الثانية: أن الطلب على عالم يكون أقرب إلى الصواب بمعنى أن الذي يطلب العلم على غير عالم يكون له شطحات وآراء شاذة بعيدة عن الصواب؛ وذلك لأنه لم يقرأ على عالم راسخ في علمه حتى يربيه على طريقته التي يختارها.
فالذي أرى أن يحرص الإنسان على أن يكون له شيخ يلازمه لطلب العلم؛ لأنه إذا كان له شيخ فإنه سوف يوجهه التوجيه الذي يرى أنه مناسب له.
أما بالنسبة للجواب على سبيل العموم فإننا نقول:
أولا: الأولى أن يحفظ الإنسان كتاب الله تعالى قبل كل شيء ؛ لأن هذا هو دأب الصحابة - رضي الله عنه - كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى تعلموها وما فيها من العلم والعمل، وكلام الله أشرف الكلام على الإطلاق.
ثانيا: يأخذ من متون الأحاديث المختصرة ما يكون ذخرًا له في الاستدلال بالنسبة مثل: عمدة الأحكام، بلوغ المرام، الأربعين النووية وما أشبه ذلك.
ثالثا: يحفظ من متون الفقه ما يناسبه ومن أحسن المتون التي نعلمها (( زاد المستقنع في اختصار المقنع )) لأن هذا الكتاب قد خدم من قبل شارحه منصور بن يونس البهوتي ومن قبل من بعده من خدموا هذا الشرح والمتن بالحواشي الكثيرة.(132/135)
رابعًا: النحو وما أدراك ما النحو الذي لا يعرفه من الطلبة إلا القليل حتى إنك لترى الرجل قد تخرج من الكلية وهو لا يعرف عن النحو شيئًا يتمثل بقول الشاعر:
لا بارك الله في النحو ولا أهله ... إذا كان منسوبا إلى نفطويه
أحرقه الله بنصف اسمه ... وجعل الباقي صراخًا عليه
لماذا قال الشاعر هذا الكلام ؟ الجواب: لأنه عجز عن النحو، ولكن أقول : إن النحو بابه من حديد ودهاليزه قصب يعني أنه شديد وصعب عند أول الدخول فيه، ولكنه إذا انفتح الباب لطالبه سهل عليه الباقي بكل يسر وصار سهلا عليه، حتى إن بعض طلبة العلم الذين بدءوا في النحو صاروا يعشقونه فإذا خاطبتهم بخطاب عادي جعل يعربه ليتمرن على الإعراب، ومن أحسن متون النحو الآجرومية، كتاب مختصر مركز غاية التركيز ولهذا أنصح من يبدأ أن يبدأ به فهذه الأصول التي ينبغي أن يبني عليها طالب العلم.
خامسًا: أما ما يتعلق بعلم التوحيد فالكتب في هذا كثيرة منها: (( كتاب التوحيد)) لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - ومنها: (( العقيدة الواسطية)) لشيخ الإسلام ابن تيمية، وهي كثيرة معروفة ولله الحمد.(132/136)
والنصيحة العامة لطالب العلم أن يكون عليه آثار علمه من تقوى الله - عز وجل والقيام بطاعته ، وحسن الخلق، والإحسان إلى الخلق بالتعليم والتوجيه والحرص على نشر العلم بجميع الوسائل سواء كان ذلك عن طريق الصحف أو المجلات أو الكتب أو الرسائل أو النشرات وغير ذلك من الوسائل.
وأنصح طالب العلم أيضًا ألا يتسرع في الحكم على الشيء ؛ لأن بعض طلبة العلم المبتدئين تجده يتسرع في الإفتاء وفي الأحكام وربما يخطِّىء العلماء الكبار وهو دونهم بكثير، حتى إن بعض الناس يقول : ناظرت شخصًا من طلبة العلم المبتدئين فقلت له: إن هذا قول الإمام أحمد بن حنبل . فقال: وما الإمام أحمد بن حنبل؛ الإمام أحمد بن حنبل رجل ونحن رجال، سبحان الله !! صحيح أن الإمام أحمد رجل وأنت رجل، فأنتما مستويان في الذكورة، أما في العلم فبينكما فرق عظيم ، وليس كل رجل رجلا بالنسبة للعلم.
وأقول : إن على طالب العلم أن يكون متأدبًا بالتواضع وعدم الإعجاب بالنفس وأن يعرف قدر نفسه.(132/137)
ومن المهم لطالب العلم المبتدىء : ألا يكون كثير المراجعة لأقوال العلماء؛ لأنك إذا أكثرت مراجعتك لأقوال العلماء وجعلت تطالع المغني في الفقه لابن قدامة، والمجموع للنووي والكتب الكبيرة التي تذكر الخلاف وتناقشه فإنك تضيع.
ابدأ أولا كما قلنا بالمتون المختصرة شيئًا حتى تصل إلى الغاية، وأما أن تريد أن تصعد الشجرة من فروعها فهذا خطأ.
* * * 17- سئل فضيلة الشيخ: - حفظه الله تعالى-: ما طريقة طلب العلم باختصار جزاكم الله خيرًا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : طريقة طلب العلم باختصار في نقاط :
1- احرص على حفظ كتاب الله تعالى واجعل لك كل يوم شيئا معينًا تحافظ على قراءته بتدبر وتفهم، وإذا عنت لك فائدة أثناء القراءة فقيدها.
2- احرص على حفظ ما تيسر من صحيح سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ومن ذلك حفظ عمدة الأحكام.
3- احرص على التركيز والثبات بحيث لا تأخذ العلم نتفًا من هذا شيئًا ومن هذا شيئًا؛ لأن هذا يضيع وقتك ويشتت ذهنك.
4- ابدأ بصغار الكتب وتأملها جيدًا ثم انتقل إلى ما فوقها، حتى تحصل على العلم شيئًا فشيئًا على وجه يرسخ في قلبك وتطمئن إليه نفسك.(132/138)
5- احرص على معرفة أصول المسائل وقواعدها وقيِّد كل شيء يمر بك من هذا القبيل فقد قيل: من حُرم الأصول حُرم الوصول.
6- ناقش المسائل مع شيخك، أو مع من تثق به علمًا ودينًا من أقرانك، ولو بأن تقدر في ذهنك أن أحدًا يناقشك فيها إذا لم تمكن المناقشة مع من سمينا.
* * * 18- وسئل فضيلة الشيخ - حفظه الله تعالى - : عن حكم تعلم اللغة الإنجليزية في الوقت الحاضر؟
فأجاب فضيلته: بقوله : تعلمها وسيلة، فإذا كنت محتاجًا إليها كوسيلة في الدعوة إلى الله فقد يكون تعلمها واجبًا ، وإن لم تكن محتاجًا إليها فلا تشغل وقتك بها واشتغل بما هو أهم وأنفع، والناس يختلفون في حاجتهم إلى تعلم اللغة الإنجليزية، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود (1) فتعلم اللغة الإنجليزية وسيلة من الوسائل إن احتجت إليها تعلمتها وإن لم تحتج إليها فلا تضع وقتك فيها .
* * * 19- سئل -رعاه الله بمنه وكرمه - عن حكم مشاهدة الأفلام التعليمية التي قد تكون فيها نساء وخصوصًا أفلام تعلم اللغة الإنجليزية ؟
_________
(1) ونصه : عن خارجة - يعني ابن زيد بن ثابت :- قال : قال زيد بن ثابت: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب يهود، وقال: (( إني والله ما آمن يهود على كتابي)) فتعلمته، فلم يمر بي إلا نصف شهر حتى حذفته، فكنت أكتب له إذا كتب وأقرأ له إذا كُتب إليه)) أخرجه أبو داود، كتاب العلم، باب: رواية حديث أهل الكتاب، والإمام أحمد جـ 5 ص 186، والحاكم في (( المستدرك)) جـ 1 ص 75، وقال: (( حديث صحيح)) ووافقه الذهبي. والحديث علقه البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، باب: ترجمة الحكام وهل يجوز ترجمان واحد بقوله: (( وقال خارجة بن زيد بن ثابت عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلم كتاب اليهود حتى كتبت للنبي صلى الله عليه وسلم كتبه، وأقرأته كتبهم إذا كتبوا إليه)). وانظر: الإصابة جـ 1 ص 543.(132/139)
فأجاب قائلا : أنا أرى أن مشاهدة الأفلام التعليمية جائزة ولا بأس بها؛ لأنها مشاهدة لأمر يكون خيرًا ، وإذا كان الذي يظهر من النساء والمشاهدون رجال فإن حصل تمتع بالنظر إليها ، فهذا محرم، وأما إذا لم يكن ذلك فهذا محل توقف عندي، وعلى كل حال فإنني أكره ذلك؛ لأنه يُخشى على الإنسان من الفتنة إذا شاهد ذلك، وبالإمكان إذا كان الذي يتكلم في هذه الحلقة امرأة أن تضع على الشاشة غطاء حتى لا تظهر أمام الطلبة، هذا إذا اضطررنا إلى الاستماع للمرأة بحيث لا يوجد لهذا الموضوع رجل، فإن كان يوجد رجل فلا يعدل عنه إلى النساء إذا كان المتعلمون رجالا والعكس بالعكس.
20- وسئل فضيلته : كثر عند بعض الشباب الصالح القول بعدم التقليد مستندين إلى بعض أقوال ابن القيم عليه رحمة الله، فما قولكم ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الحقيقة إنني أؤيد هذا، أن الإنسان لا يركن إلى التقليد؛ لأن المقلد قد يخطىء، ولكني مع ذلك لا أرى أن نبتعد عن أقوال أهل العلم السابقين حتى لا نتشتت ونأخذ من كل مذهب ؛ لأننا وجدنا أن الإخوة الذين يُنكرون التقليد وجدناهم أحيانًا يضيعون حتى يقولوا بما لم يسبقهم إليه أحد.(132/140)
ولكن إذا دعت الضرورة إلى التقليد فإنه لا بد منه ؛ لقول الله تعالى: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (الأنبياء الآية : 7) فأوجب - سبحانه سؤال أهل الذكر إذا كنا لا نعلم، وسؤالهم يتضمن اعتماد قولهم وإلا لم يكن لسؤالهم فائدة.
فالتقليد كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى- بمنزلة الميتة إن اضطررت إليها فكلها ، وإن استغنيت عنها فهي حرام عليك، فمتى نزل بالإنسان نازلة ولا يتمكن من مطالعتها في الكتب التي تسوق الأدلة فلا حرج عليه حينئذ أن يقلد، ولكنه يقلد من يراه أقرب إلى الحق في علمه وأمانته، وأما ما دام عنده قدرة على استنباط الأحكام من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يقلد.
* * * 21- سئل فضيلة الشيخ: إذا كانت الأمة أحوج إلى العلوم المادية كالطب والهندسة وغيرها، فهل الأفضل للإنسان أن يتخصص في العلوم المادية أم العلوم الشرعية ؟(132/141)
فأجاب بقوله: لا شك أن الأصل هو العلوم الشرعية ولا يمكن لإنسان أن يعبد الله حق عبادته إلا بالعلم الشرعي كما قال الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } (يوسف الآية : 108) فلا بد من العلم الشرعي الذي تقوم به حياة المرء في الدنيا والآخرة، ولا يمكن لأي دعوة أن تقوم إلا وهي مبنية على العلم، وبهذه المناسبة أود أن أحث إخواني الدعاة إلى الله أن يتعلموا قبل أن يدعوا وليس معنى ذلك أن يتبحروا في العلم لكن ألا يتكلموا بشيء إلا وقد بنوه على العلم؛ لأنهم إذا تكلموا بما لا يعلمون كانوا داخلين تحت قوله تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف الآية : 33)
والعلوم الشرعية تنقسم إلى قسمين:
قسم لا بد للإنسان من تعلُّمه وهو ما يحتاجه في أمور دينه ودنياه.(132/142)
وقسم آخر وهو فرض كفاية، فإنه هنا يمكن الموازنة بينه وبين ما تحتاجه الأمة من العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية.
وكذلك العلوم الأخرى التي ليست من العلوم الشرعية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- قسم علوم ضارة، فيحرم تعلمها ولا يجوز للإنسان أن يشتغل بهذه العلوم مهما تكن نتيجتها.
2- قسم علوم نافعة، فإنه يتعلم منها ما فيه النفع.
3- وقسم العلوم التي جهلها لا يضر والعلم بها لا ينفع وهذه لا ينبغي للطالب أن يقضي وقته في طلبها.
* * * 22- سئل فضيلة الشيخ: نلاحظ أن أكثر الشباب يهتم بقراءة الكتب الثقافية العامة متأثرًا بها وغير مهتم بكتب الأصول فما نصيحتكم وفقكم الله ؟
فأجاب قائلا : نصيحتي لنفسي أولا لإخواننا طلبة العلم أن يعتنوا بكتب أهل العلم من السلف؛ لأن كتب السلف فيها من الخير الكثير والعلم الكثير وفيها من البركة ما هو معلوم.
* * * 23- وسئل فضيلته : نرى كثيرًا من الناس يعلم بعض الأحكام الشرعية كتحريم حلق اللحية وشرب الدخان ومع ذلك لا يعمل بعلمه، فما أسباب ذلك ؟ وكيف تُعالج هذه الظاهرة الخطيرة ؟(132/143)
فأجاب بقوله: أسباب ذلك هو: اتباع الهوى، وكون الإنسان ليس عنده من الوازع الديني ما يحمله على تقوى الله - عز وجل - في تجنب ما يراه حرامًا ، والإنسان إذا حاسب نفسه ورأى أنه راجع إلى ربه مهما طال فإنه قد يغلب هواه وقد يسيطر على نفسه.
ومن أسباب ذلك أيضًا: أن الشيطان يصغر مثل هذه المعاصي في قلب العبد، والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من ذلك فقال: « إياكم ومحقرات الذنوب، فإنما مَثَل ذلك كمثل قوم نزلوا أرضًا فأتى هذا بعود وهذا بعود وهذا بعود ثم إذا جمعوا حطبًا كثيرًا وأضرموا نارًا كثيرًا » (1) فهكذا المعاصي المحقرات التي يراها الإنسان حقيرة لا تزال به حتى تكون من كبائر الذنوب.
ولهذا قال أهل العلم: إن الإصرار على الصغائر يجعلها كبائر ، وإن الاستغفار من الكبائر يكفرها ، لهذا نقول لهؤلاء: عليكم أن تحاسبوا أنفسكم.
ومن أسباب ذلك أيضا: قلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولو كان كل واحد منا إذا رأى أحدًا على معصية أرشده وبين له أن ذلك مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم فإن العاقل سوف يعتبر ويتغير.
24- وسئل - غفر الله له -: ما الواجب على طالب العلم والعالم تجاه الدعوة إلى الله ؟
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد جـ ص 402، والدارمي، كتاب الرقاق ، باب: في المحقرات، والهيثمي في (( مجمع الزوائد)) جـ 10 ص 190 ، وقال: (( رجاله رجال الصحيح )).(132/144)
فأجاب فضيلته بقوله: الدعوة إلى الله واجبة كما قال الله تعالى: { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل، الآية :125 ) . وقد جعل الله الدعوة على ثلاث مراتب: الدعوة بالحكمة، وبالموعظة وبالمجادلة؛ لأن من تدعوه إما أن يكون لا علم عنده ولا منازعة عنده ولا مخالفة فهذا الذي يدعوه إما أن يكون لا علم عنده ولا منازعة عنده ولا مخالفة فهذا يُدعى بالحكمة، والحكمة هي بيان الحق، وحكمة الحق إن تيسر ذلك ؛ والموعظة تكون مع من عنده شيء من الإعراض وتوقف عن قبول الحق فإنك تعظه بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى وبهما جميعًا إن اقتضت الحال ذلك، والمجادلة تكون مع من عنده إعراض ومنازعة في الحق فإنك تجادله بالتي هي أحسن من القول أو بالتي هي أحسن بالإقناع.(132/145)
وانظر إلى مجادلة إبراهيم - عليه السلام- مع الذي حاجه في ربه، قال الله عن ذلك: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } (البقرة الآية : 258) وكيف هذا ؟ يؤتى بالرجل مستحقًّا للقتل فلا يقتله وهذا بزعمه إحياؤه، ويؤتى بالرجل لا يستحق القتل فيقتله وهذا بزعمه إماتته، يمكن أن يُجَادل هذا بأن يقال: إنك إذا أوتيت بالرجل المستحق القتل فلم تقتله، إنك ما أحييته؛ لأن الحياة موجودة فيه من قبل، ولكنك أبقيت الحياة بعدم قتله، ويمكن تقول: إنه إذا قتل من لا يستحق القتل إنه لم يمته، وإنما فعل سببًا يكون به الموت ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الدجال أنه يؤتى إليه بشاب فيشهد هذا الشاب أنه الدجال الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيقتله الدجال، ويجعله قطعتين ويمشي بينهما تحقيقًا للتباين(132/146)
بينهما، ثم يناديه الدجال فيقوم متهلهلا يضحك يقول: أشهد إنك الدجال الذي أخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يأتي ليقتله فلا يقدر (1) فهذا دليل على أن الأمر كله بيد الله.
فيمكن أن يحاج هذا الرجل بمثل ذلك، ولكن إبراهيم عليه السلام، أراد أن يأتي بدليل آخر لا يحتاج إلى محاجة ولا مجادلة، قال إبراهيم : { فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ } (البقرة الآية : 258) فنكص عن الجواب: { فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ } (البقرة الآية : 258) .
فقوله تعالى: { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } (النحل الآية :125) أي الأحسن في الأسلوب والإقناع ، وبالتالي يجب علينا أن ندعو إلى الله ما دام الإنسان قادرًا على ذلك، ولكن الدعوة إلى الله فرض كفاية ، أي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، فإذا رأيت شخصًا منحرفًا وليس حولك من يدعوه صار الآن فرض عين عليك؛ لأن العلماء يقولون فرض الكفاية: إنه إذا لم يوجد سوى هذا الرجل تعين عليه.
* * *
25- سئل فضيلة الشيخ: ما فائدة تعلم طلاب العلم فرق المعتزلة والجهمية والخوارج مع عدم وجودها في هذا العصر؟
_________
(1) جزء من حديث طويل أخرجه مسلم، كتاب الفتن، باب: ذكر الدجال وصفة ما معه.(132/147)
فأجاب فضيلته بقوله: تعلُّم فِرَق المبتدعة في هذا الزمان فيه فائدة وهي: أن نعرف مآخذ هذه الفرق لنرد عليهم إذا وُجدوا، وهم موجودون فعلا، وقول السائل: إنه لا وجود لهم الآن مبني على علمه هو، ولكن المعلوم عندنا وعند غيرنا ممن يطلعون على أحوال الناس أن هذه الفِرَق موجودة وأن لها نشاطًا أيضًا في نشر بدعهم؛ ولذلك لا بد من أن نتعلم هذه الآراء حتى نعرف زيفها ونعرف الحق ونرد على من يجادلون فيها.
* * * 26 - سئل فضيلة الشيخ: نحن طلاب العلم نحفظ الكثير من الآيات على سبيل الاستشهاد، وفي نهاية العام نكون قد نسينا الكثير منها، فهل ندخل في حكم من يعذبون بسبب نسيان ما حفظوه ؟
فأجاب قائلًا : نسيان القرآن له سببان:
الأول: ما تقتضيه الطبيعة.
والثاني: الإعراض عن القرآن وعدم المبالاة به.
فالأول لا يأثم به الإنسان ولا يعاقب عليه، فقد « وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى بالناس ونسي آية، فلما انصرف ذَكَّرَه بها أبي بن كعب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( هلا كنت ذكرتنيها )) » (1) « وسمع رسول الله قارئًا يقرأ، فقال: (( يرحم الله فلانًا فقد ذكرني آية كنت أنسيتها )) »
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب: نسيان القرآن.(132/148)
وهذا يدل على أن النسيان الذي يكون بمقتضى الطبيعة ليس فيه لوم على الإنسان.
أما ما سببه الإعراض وعدم المبالاة فهذا قد يأثم به . وبعض الناس يكيد له الشيطان ويوسوس له ألا يحفظ القرآن لئلا ينساه ويقع في الإثم، والله سبحانه وتعالى يقول: { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } (النساء الآية : 76) فليحفظ الإنسان القرآن لأنه خير، وليؤمل عدم النسيان، والله سبحانه عند ظن عبده به.
ونظير هذا ما يستدل به بعض الناس بقول الله تعالى : { لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } (المائدة الآية : 101) فيترك السؤال والعلم والتعلم. ولكن كان هذا حين نزول الوحي والتشريع، فقد يسأل البعض عن أشياء سكت الله عنها فُتبين لهم فيكون فيها تشديد على المسلمين بالإيجاب أو التحريم. أما الآن فلا تغيير في الأحكام ولا نقص فيها فيجب السؤال عن الدين .(132/149)
* * * 27- سئل فضيلة الشيخ - غفر الله له -: قد يعلم الإنسان شيئًا ويأمر به غيره وهو نفسه لا يعمله سواء كان فرضًا أو نفلا فهل يحل له أن يأمر غيره بما لا يعمل؟ وهل يجب على المأمور امتثال أمره أم يحل له الاحتجاج عليه بعدم عمله ثم لا يعمل ما أمر به تبعًا لذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هنا أمران، الأمر الأول: هذا الذي يدعو إلى الخير وهو لا يفعله نقول له: قال الله - عز وجل: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ }{ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ } (الصف الآيتان: 2 ، 3) وأنا أعجب كيف رجل يؤمن بأن هذا هو الحق، ويؤمن بأن التعبد لله به يقربه إليه ويؤمن بأنه عبد لله ثم لا يفعله فهذا شيء يعجب له ويدل على السفه وأنه محط التوبيخ واللوم ؛ لقوله تعالى: { لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } . فنقول لهذا الرجل: أنت آثم بتركك العمل بما علمت وبما تدعو إليه، ولو بدأت بنفسك لكان ذلك من العقل والحكمة.(132/150)
أما الأمر الثاني: بالنسبة للمأمور فإنه لا يصح له أن يحتج على هذا الرجل بفعله فإذا أمره بخير وجب عليه القبول ، يجب أن يقبل الحق من كل من قال به ولا يأنف من العلم.
* * * 28- وسئل فضيلته : كيف نرد على من قال: إن العلماء السابقين لم تكن لديهم المشاغل التي تؤثر على حفظهم كما هو حاصل لعلماء هذا الزمان، ومنهم من يكون ليس لديهم إلا التفرغ لطلب العلم وحفظه والجلوس بلا مشاغل، أما الآن فكثرت المشاغل الدنيوية التي تأخذ كل الوقت، والإنسان قد لا يستطيع الاستغناء عن هذه المشاغل؟
فأجاب - حفظه الله - : أقول لطالب العلم ما دمت أنك قد فرغت نفسك للعلم فكن طالب علم حقًّا ، وأعتقد أن البَنَّاء الذي فرغ نفسه للبناء لا يلتفت إلى عمل آخر، بل يلتفت إلى مهمته التي كرَّس نفسه لها ورأى أنها هي الخير له، فما دمت تعلم أن طلب العلم هو الخير وتريد أن تتخذه طريقًا فلا تلتفت إلى غيره.(132/151)
وفي ظني أن الرجل إذا ثابر مع الإيمان والإخلاص وصدق النية فإن الله - سبحانه وتعالى - يعينه ولا يعبأ بهذه المشكلات، والله - عز وجل - يقول: { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } (الطلاق الآية : 4) { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } (الطلاق الآيتان: 2 ، 3) فعليك بصدق النية في الطلب تجد أن الأمر سهل وميسر.
* * * 29- وسئل الشيخ: بماذا تنصح من يريد طلب العلم الشرعي ولكنه بعيد عن العلماء مع العلم بأن لديه مجموعة كتب منها الأصول والمختصرات ؟
فأجاب بقوله: أنصحه بأن يثابر على طلب العلم ويستعين بالله - عز وجل - ثم بأهل العلم؛ لأن تلقي الإنسان العلم على يدي العالم يختصر له الزمن بدلا من أن يذهب ليراجع عدة كتب وتختلف عليه الآراء، ولست أقول كمن يقول : إنه لا يمكن إدراك العلم إلا على عالم أو على شيخ فهذا ليس بصحيح؛ لأن الواقع يكذبه لكن دراستك على الشيخ تُنَوِّر لك الطريق وتختصره.(132/152)
* * * 30- سئل الشيخ: أنا طالب علم وأهلي عندهم ظروف مادية، فقال لي والدي : اعمل علينا أفضل لك من طلب العلم فهل أترك دراستي للعلم؟ وهل العمل على الأهل أفضل أم لا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله: لا شك أن طلب العلم أفضل، اللهم إلا في حالة الضرورة إلا أنه يمكنه أن يجمع بينهما ولا سيما أن الحالة الاقتصادية - والحمد لله - أن أكثر الناس قد أوسع الله عليهم فيمكن أن تقوم بحاجة أهلك فتتزوج امرأة يكون عندها بعض المؤنة وتكون مستمرًا في طلب العلم .
* * * 31- وسئل فضيلة الشيخ: أنا طالب في الجامعة وكل دراستي نظريات غربية تنافي الشرع ، فيما رأيكم إذا علمت أنني أنوي نقد مثل هذه النظريات ونفع الأمة الإسلامية في دراستي الحالية وبعد تخرجي ؟
فأجاب بقوله: أقول هذا لا شك أنه من الجهاد في سبيل الله، أن يدرس الإنسان هذه النظريات المخالفة للإسلام حتى يرد عليها عن علم.(132/153)
ولهذا « قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وقد أرسله إلى اليمن: (( إنك ستأتي قومًا من أهل الكتاب )) » (1) فأخبره بحالهم كي يستعد لهم، وكذلك العلماء الذين درسوا هذه الأمور كشيخ الإسلام ابن تيمية درس من العلوم والنظريات الفلسفية وغيرها ما يستطيع أن يرد به على أصحابها.
فإذا كنت تتعلم هذه الأمور للرد، وأنت واثق أن لديك المقدرة والحصانة على الرد بحيث لا تتأثر بها، بأن يكون لديك علم شرعي راسخ، ويكون لديك عبادة وتقوى فأرجو إن شاء الله تعالى أن يكون هذا خيرًا لك ونفعًا للمسلمين، وأما إذا كنت ترد عليها بشيء غير مقبول أو ليس لديك دليل، فلا تنتهج هذا الطريق وكذلك إذا كنت تعرف نفسك أنك لست على يقين كامل وثبات راسخ فأنا أشير عليك أن تدع هذه الأمور ؛ لأنها خطيرة، ولا ينبغي للإنسان أن يتعرض للبلاء مع الخوف منه .
* * *
32- وسئل فضيلته: أنا طالب أحب أن آخذ درجات عالية ومعدلا ممتازًا وأنا مع ذلك نيتي طيبة فما رأيك في الفرح بالدرجات العالية والغضب من الدرجات الضعيفة، هل في هذا خدش للإخلاص ؟
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة (1395) ، ومسلم، كتاب الإيمان (29).(132/154)
فأجاب فضيلته بقوله: الظاهر إن شاء الله أنه ليس في هذا خدش للإخلاص؛لأن هذا أمر طبيعي أن الإنسان يُسر بالحسنة ويُساء بالسيئة ، والله تعالى بين أن الأشياء التي لا تلائم المرء سماها سيئة فلا بد أن تسؤه وكذلك الحسنة لا بد أن تسره.
فهذا لا يؤثر على إخلاصك إذا كان الأمر كما قلت عندك نية طيبة، أما إذا كان همك هو الدرجات أو الشهادة فهذا شيء آخر، فها هو عبد الله بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - « لما ألقى النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه مسألة قال: (( أن في الشجر شجرة تشبه المؤمن فجعل الصحابة - رضي الله عنهم - يخوضون في أشجار البوادي قال ابن عمر : فوقع في قلبي أنها النخلة ولكني كنت صغيرًا فما أحبب أن أتكلم )) » (1) ، وعمر رضي الله عنه - قال لابنه: (( وددت أنك قلتها)) ، وهذا يدل على أن فرح الإنسان بنجاح وما أشبه ذلك لا يضر.
* * * 33- وسئل الشيخ - غفر الله له -: ما رأي فضيلتكم في تعلم طالب العلم اللغة الإنجليزية لا سيما في سبيل استخدامها في الدعوة إلى الله ؟
_________
(1) أخرجه البخاري، كتب العلم، باب: قول المحدث حدثنا أو أخبرنا أو أنبأنا ، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم، باب: مثل المؤمن مثل النخلة. ولفظه (( إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم فحدثوني ما هي ؟ )) فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: ووقع في نفسي أنها النخلة فاستحييت ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله ؟ قال: (( هي النخلة)).(132/155)
فأجاب فضيلته: بقوله : رأينا في تعلم اللغة الإنجليزية أنها وسيلة لا شك، وتكون وسيلة طيبة إذا كانت الأهداف طيبة، وتكون رديئة إذا كانت الأهداف رديئة، لكن الشيء الذي يجب اجتنابه أن تتخذ بديلا عن اللغة العربية، فإن هذا لا يجوز، وقد سمعنا بعض السفهاء يتكلم بها بدلا من اللغة العربية، حتى إن بعض السفهاء المغرمين الذين أعتبرهم أذنابًا لغيرهم كانوا يعلمون أولادهم تحية غير المسلمين يعلمونهم أن يقولوا باي باي عند الوداع وما أشبه ذلك.
لأن إبدال اللغة العربية التي هي لغة القرآن وأشرف اللغات بهذه اللغة محرم وقد صح عن السلف النهي عن رطانة الأعاجم وهم من سوى العرب.
أما استعمالها وسيلة للدعوة فإنه لا شك أن يكون واجبًا أحيانًا، وأنا لم أتعلمها وأتمنى أنني كنت تعلمتها ووجدت في بعض الأحيان أني أضطر إليها حتى المترجم لا يمكن أن يعبر عما في قلبي تماما.(132/156)
وأذكر لكم قصة حديث في مسجد المطار بجدة مع رجال التوعية الإسلامية نتحدث بعد صلاة الفجر عن مذهب التيجاني وأنه مذهب باطل وكفر بالإسلام وجعلت أتكلم بما أعلم عنه فجاءني رجل فقال: أريد أن تأذن لي أن أترجم بلغة الهوسا. فقلت: لا مانع فترجم فدخل رجل مسرع فقال: هذا الرجل الذي يترجم عنك يمدح التيجانية فدهشت وقلت: إنا لله وإنا إليه راجعون، فلو كنت أعلم مثل هذه اللغة ما كنت أحتاج إلى مثل هؤلاء الذين يخدعون، فالحاصل أن معرفة لغة من تخاطب لا شك أنا مهمة في إيصال المعلومات قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } (إبراهيم: الآية : 4)
34- وسئل - حفظه الله تعالى -: أنا متخصص في علم الكيمياء وأتابع البحوث والدراسات التي تصدر في هذا المجال لكي أستفيد وأفيد من ذلك في أي مجال أعمل به سواء مدرسة أو مصنعًا مع العلم بأن ذلك يشغلني عن طلب العلم الشرعي فكيف أوفق بينهما ؟(132/157)
فأجاب بقوله : أرى أن التوفيق بين العلمين يمكن بحيث تركز على العلم الشرعي ويكون هو الأصل لديك، ويكون طلب العلم الآخر على سبيل الفضول ، ثم مع ذلك تمارس هذا العلم الثاني من أجل مصلحة تعود عليك وعلى أمتك بالخير مثل أن تستدل بدراسة هذا العلم على كمال حكمة الله - عز وجل - وربط الأسباب بمسبباتها وما إلى ذلك مما يعرفه غيرنا ولا نعرفه في هذه العلوم، فأنا أقول : استمر في طلب العلم الشرعي واطلب الآخر لكن اجعل الأهم والمركز عليه هو العلم الشرعي.
35- سئل فضيلة الشيخ: أي كتب تفسير القرآن تنصح بقراءتها؟ وحفظ القرآن، إذا حفظ الإنسان ونسي فهل هناك وعيد فيه ؟ وكيف يحفظ الإنسان ويحافظ على ما حفظ؟
فأجاب بقوله: القرآن وعلومه متنوعة، وكل مفسر يفُسر القرآن يتناول طرفًا من هذه العلوم ولا يمكن أن يكون تفسيرًا واحدًا يتناول القرآن من جميع الجوانب.
فمن العلماء من ركز في تفسيره على التفسير الأثري - أي على ما يؤثر عن الصحابة والتابعين - كابن جرير وابن كثير .(132/158)
ومنهم من ركَّز على التفسير النظري كالزمخشري وغيره ولكن أنا أرى أن يفسر الآية هو بنفسه أولا - أي يكرر في نفسه أن هذا هو معنى الآية - ثم بعد ذلك يراجع ما كتبه العلماء فيها؛ لأن هذا يفيده أن يكون قويًّا في التفسير غير عالة على غيره، وكلام الله -عز وجل - منذ بُعث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليوم { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ }
وإن كان يجب الرجوع إلى تفسير الصحابة؛ لأنهم أدرى الناس بمعانيه، ثم إلى كتب المفسرين التابعين، لكن مع ذلك لا أحد يستوعب كلام الله - عز وجل .
فالذي أرى أن الطريقة المثلى أن يكرر الإنسان تفسير الآية في نفسه، ثم بعد ذلك يراجع كلام المفسرين فإذا وجده مطابقًا فهذا مما يُمكنه من تفسير القرآن وييسره له وإن وجده مخالفًا رجع إلى الصواب.(132/159)
وأما حفظ القرآن فطريقة حفظه تختلف من شخص لآخر، بعض الناس يحفظ القرآن آية آية بمعنى أنه يحفظ آية يقرأها أولا ثم يرددها ثانيًا وثالثًا حتى يحفظها ثم يحفظ التي بعدها ثم يكمل ثمن أو ربع الجزء أو ما أشبه ذلك، وبعض الناس يقرأ إلى الثمن جميعًا ويردده حتى يحفظه ومثل هذا لا يمكن أن نحكم عليه بقاعدة عامة فنقول للإنسان : استعمل ما تراه مناسبًا لك في حفظ القرآن.
لكن المهم أن يكون عندك علم لما حفظت متى أردت الرجوع إليه، وأحسن ما رأيت في العلم أن الإنسان إذا حفظ شيئًا اليوم يقرأه مبكرًا الصباح التالي ، فإن هذا يعين كثيرًا على حفظ ما حفظه في اليوم الأول ، هذا شيء فعلته أنا فإن هذا يعين على الحفظ الجيد.
أما الوعيد على من ينسى ، قال الإمام أحمد : (( ما أشد ما ورد فيه)) أي من حفظ آية ونسيها ، والمراد بذلك من أعرض عنها حتى تركها، وأما من نسيها لسبب طبيعي أو لأسباب كانت واجبة أشغلته فإن هذا لا يلحق به إثم { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا } (البقرة الآية : 286) .(132/160)
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه « صلى بأصحابه فنسي آية فذكره أحد الصحابة بها بعد الصلاة فقال: (( هلا كنت ذكرتني بها )) » فالإنسان الذي ينساه تهاونًا به وإعراضًا عنه لا شك أنه خاسر وأنه مستحق الإثم، وأما الذي ينساه لشيء واجب عليه أوجبه الله - سبحانه وتعالى - عليه أو نسيانًا طبيعيًّا فهذا لا يلحقه شيء .
* * * 36- سئل فضيلة الشيخ - رعاه الله تعالى - : عن كتاب فقه السنة ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : لا شك أنه من خير الكتب ؛ لأن فيه مسائل كثيرة مقرونة بالأدلة، لكنه لا يسلم من الأخطاء، وكما قال ابن رجب - رحمه الله - في مقدمة القواعد الفقهية، قال (( يأبي الله العصمة لكتاب غير كتابه ولكن المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه))، الكتاب لا شك أنه نافع لكن لا أرى أن يقتنيه إلا طالب علم يميز بين الصحيح والضعيف ؛ لأن به مسائل ضعيفة كثيرة.
ومن ذلك القول باستحباب صلاة التسبيح (1) فإن صلاة التسبيح هذه قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - إن حديثها كذب، وقال: إنها لا يستحبها أحد من الأئمة، ولما سئل عنها الإمام أحمد نفض يده كالمُنكِر لها .
_________
(1) حديث صلاة التسبيح أخرجه أبو داود، كتاب الصلاة ، باب: صلاة التسبيح، والترمذي ، كتاب الصلاة، باب : التسبيح. وابن ماجة، كتاب إقامة الصلاة، باب : ما جاء في صلاة التسبيح، وابن خزيمة، كتاب التطوع ، باب: صلاة التسبيح، والبيهقي في (( السنن)) جـ 3 ص 51، والبغوي في (( شرح السنة )) جـ 4 ص 156، والطبراني في (( الكبير)) جـ 12 ص 243، قال الترمذي: (( حديث غريب من حديث أبي رافع)) قال ابن خزيمة : (( في القلب من إسناده شيء)) وقال الإمام أحمد : (( لم تثبت عندي صلاة التسبيح)) مسائل الإمام أحمد - روياه ابنه عبد الله جـ 2 ص 295، وقال أيضًا: ((إسناده ضعيف)) مسائل الإمام أحمد - رواية النيسابوري - جـ 1 ص 105. وقد فصل القول فيها شيخنا العلامة محمد بن عثيمين - حفظه الله ورعاه - فقال: (( والذي يترجح عندي أن صلاة التسبيح ليست بسنة وأن خبرها ضعيف وذلك من وجوه: أولا: أن الأصل في العبادات الحظر والمنع حتى يقوم دليل تثبت به مشروعيتها. الثاني: أن حديثها مضطرب فقد اختلف فيه على عدة أوجه. الثالث: أنها لم يستحبها أحد من العلماء وأئمة السلف - رحمهم الله تعالى - قال شيخ الإسلام: (( نص الإمام أحمد على كراهيتها ولم يستحبها إمام. قال: أما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم يسمعوا عنها بالكلية)). الرابع : أنها لو كانت هذه الصلاة مشروعة لنقلت للأمة نقلا لا ريب فيه واشتهرت بينهم؛ لعظم فائدتها ولخروجها عن جنس الصلوات بل وعن جنس العبادات ، فإننا لا نعلم عبادة يخير فيها هذا التخيير بحيث تفعل في كل يوم أو أسبوع مرة أو في الشهر مرة أو في السنة مرة أو في العمر مرة فلما كانت عظيمة الفائدة خارجة عن جنس الصلوات ولم تشتهر ولم تنقل على أنه لا أصل لها وذلك إن ما خرج عن نظائره وعظمت فائدته فإن الناس سيهتمون به وينقلونه ويشيع بينهم شيوعًا ظاهرًا ؛ فلما لم يكن هذا في هذه الصلاة علم أنها ليست مشروعة ولذلك لم يستحبها أحد من الأئمة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - وأن فيما يثبت مشروعيته من النوافل الخير والبركة لمن أراد المزيد وهو في غنى بما ثبت عما لم يثبت مما فيه خلاف وشبهة والله المستعان )) انتهى كلامه - حفظه الله ورعاه - نقلا من مجموع الفتاوى لفضيلته، في فتاوى الفقه، كتاب الصلاة، باب: صلاة التطوع، يسّر الله تعالى نشره.(132/161)
37- وسئل -حفظه الله تعالى -: في هذا الزمن يجرى تسمية بعض العلوم التجريبية بالعلم حتى إن المدارس الثانوية سمت بعلمي وأدبي، فهل هذا صحيح؟ إضافة لذلك إن هذا التقسيم في المدارس يعلق بأذان الطلاب مما يؤثر عليهم مستقبلا؟
فأجاب فضيلته: بقوله : هذا التقسيم إلى علمي وأدبي هو اصطلاح ولا مشاحّة في الاصطلاح؛ لأنهم يرون أن المواد العلمية هي ما يتعلق بعلم الكون والأحياء والنباتات وما أشبه ذلك ، ولكن الذي يجب أن نفهمه أن هذا ليس هو العلم الذي حثّ عليه وأثني على طالبيه، فإن العلم الذي أثنى الله على أصحابه، والذي أصحابه هم أهل خشية الله، إنما هو علم الشريعة فقط، وأما العلوم الأخرى فإنها إن كانت نافعة فإنها تكون مطلوبة لا لذاتها ولكن لما يُرجى فيها من نفع ، وأما إذا كانت ضارة وجب اجتنابها، وأما إذا كانت غير نافعة ولا ضارة فإن الإنسان لا ينبغي أن يضيع وقته فيها.
38- وسئل أعلى الله درجته في المهديين - : هل يعذر الشخص بعدم طلبه للعلم بسبب انشغاله بدراسته التي ليس بها طلب للعلم الشرعي أو بسبب عمله أو غير ذلك؟(132/162)
فأجاب فضيلته: بقوله : طلب العلم الشرعي فرض كفاية إذا قام به من يكفي صار في حق الآخرين سنة، وقد يكون واجبًا على الإنسان عينًا أي فرض عين كما لو أراد الإنسان أن يتعبد الله بعبادة فإنه يجب عليه أن يعرف كيف يتعبد لله بهذه العبادة.
وعلى هذا ، فهذا الذي يشغله عن طلب العلم الشرعي حاجة أهله أو غير ذلك من الصوارف مع محافظة على ما يجب الحفاظ عليه من العبادة نقول: إن هذا معذور ولا حرج عليه ولكن ينبغي أن يتعلم من العلم الشرعي بقدر ما يستطيع.
* * * 39- سئل فضيلة الشيخ: ما المقصود بالعلماء في قوله تعالى: { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } ؟(132/163)
فأجاب بقوله: المقصود بهم العلماء الذين يوصلهم علمهم إلى خشية الله، وليس المراد بالعلماء من علموا شيئًا من أسرار الكون كأن يعلموا شيئًا من أسرار الفلك وما أشبه ذلك أو ما يسمى بالإعجاز العلمي، فالإعجاز العلمي في الحقيقة لا ننكره، لا ننكر أن في القران أشياء ظهر بيانها في الأزمنة المتأخرة لكن غالى بعض الناس في الإعجاز العلمي حتى رأينا من جعل القرآن كأنه كتاب رياضة وهذا خطأ، فنقول: إن المغالاة في إثبات الإعجاز العلمي لا ينبغي لأن هذه قد تكون مبنية على نظريات والنظريات تختلف، فإذا جعلنا القرآن دالا على هذه النظرية ثم تبين بعد أن هذه النظرية خطأ ، معنى ذلك أن دلالة القرآن صارت خاطئة، وهذه مسألة خطيرة جدًّا.(132/164)
والآن يا إخواني : اعتنى في الكتاب والسنة ببيان ما ينفع الناس من العبادات والمعاملات ولهذا بيَّن دقيقها وجليلها حتى آداب الأكل والجلوس والدخول وغيرها. لكن علم الكون هل جاء على سبيل التفصيل ؟ ولذلك فأنا أخشى من انهماك الناس في الإعجاز العلمي أن يشتغلوا به عما هو أهم، إن الشيء الأهم هو تحقيق العبادة ؛ لأن القرآن نزل بهذا، قال الله تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ } (الذاريات، الآية : 56)(132/165)
أما علماء الكون الذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه فننظر إن اهتدوا بما وصلوا إليه من العلم واتقوا الله - عز وجل - وأخذوا بالإسلام صاروا من علماء المسلمين الذين يخشون الله، وإن بقوا على كفرهم وقالوا : إن هذا الكون له محدث ، فإن هذا لا يعدو أن يكونوا قد خرجوا من كلامهم الأول إلى كلام لا يستفيدون منه، فكل يعلم أن لهذا الكون محدثًا؛ لأن هذا الكون إما أن يحدث نفسه، وإما أن يحدث صدفة، وإما أن يحدثه خالق وهو الله - عز وجل فكونه يحدث نفسه مستحيل ؛ لأن الشيء لا يخلق نفسه؛ لأنه قبل وجوده معدوم فكيف يكون خالقًا ؟! ولا يمكن أن تُوجد صدفة؛ لأن كل حادث لا بد له من محدث، ولأن وجوده على هذا النظام البديع، والتناسق المتآلف، والارتباط الملتحم بين الأسباب ومسبباتها، وبين الكائنات بعضها مع بعض يمنع منعًا باتًّا أن يكون وجوده صدفة؛ إذ الموجود صدفة ليس على نظام في أصل وجوده فكيف يكون منتظمًا حال بقائه وتطوره ؟ !
وإذا لم يمكن أن توجد هذه المخلوقات نفسها بنفسها ، ولا أن تُوجد صدفة تعين أن يكون لها مُوجد وهو الله رب العالمين.(132/166)
* * * 40- سئل الشيخ - غفر الله له -: هل تعليم الطالب الرياضيات إذا كان الشخص ينوي بها وجه الله له أجر أم لا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : إذا كانت هذه الرياضيات مما تنفع المسلمين في معاشهم ونوى الشخص بذلك نفع الناس بها فإنه يؤجر على نيته، ولكنها ليست كالعلوم الشرعية ؛ فإنها إذا كانت من المباحات تكون وسيلة؛ لأن القاعدة الشرعية أن المباح قسم واسع فقد يكون حرامًا وقد يكون مكروهًا وقد يكون مستحبًا وقد يكون واجبًا.
ونقول مثلا : إن الأصل في البيع الحلال، ولكن قد يكون مكروهًا، فإذا أراد شخص أن يشتري منك شيئًا ينقذ به حياته مثل الطعام والشراب فما حكم البيع ؟ الحكم واجب، وشخص آخر أراد أن يشتري منك عنبًا ليجعله خمرًا فهذا البيع حرام، وشخص آخر أراد أن يشتري ماء ليتوضأ به وليس عنده ماء فالشراء واجب ؛ فعلى هذا نقول: إن المباح إذا كان وسيلة لأمر مشروع كان مشروعًا وإذا كان ذريعة لأمر محرّم كان حرامًا.
* * * 41- وسئل فضيلة الشيخ : بعض الشباب يريدون أن يتعلموا الطب وبعض العلوم الأخرى ولكن هناك عوائق مثل الاختلاط والسفر إلى بلاد الخارج فما الحل؟ وما نصيحتكم لهؤلاء الشباب ؟(132/167)
فأجاب فضيلته: بقوله: نصيحتي لهؤلاء أن يتعلموا الطب ؛ لأننا في بلادنا في حاجة شديدة إليه، وأما مسألة الاختلاط فإنه هنا في بلادنا والحمد لله يمكن أن يتقي الإنسان ذلك بقدر الاستطاعة.
وأما السفر إلى بلاد الكفار فلا أرى جواز السفر إلا بشروط :
الأول: أن يكون عند الإنسان علم يدفع به الشبهات ؛ لأن هناك في بلاد الكفار يُوردون على أبناء المسلمين الشبهات حتى يردوهم عن دينهم.
الثاني: أن يكون عند الإنسان دين يدفع به الشهوات، فلا يذهب إلى هناك وهو ضعيف الدين ، فتغلبه الشهوات فتدفع به إلى الهلاك.
الثالث: أن يكون محتاجًا إلى السفر بحيث لا يوجد هذا التخصص في بلاد الإسلام.
فهذه الشروط الثلاثة إذا تحققت فليذهب، فإن تخلف واحد منها فلا يسافر؛ لأن المحافظة على الدين أهم من المحافظة على غيره (1)
42- سئل فضيلته الشيخ - حفظه الله تعالى - : من الملاحظ انصرف كثير من طلاب العلم عن إتقان قواعد اللغة العربية مع أهميتها فما تعليقكم ؟
_________
(1) انظر تفصيل هذه المسألة في « مجموع الفتاوى» لفضيلة شيخنا 3 / 28.(132/168)
فأجاب فضيلته بقوله : نعم، فهم اللغة العربية مهم سواء في قواعد الإعراب أو قواعد البلاغة، كلها مهمة ولكن بناء على أننا -والحمد الله - عرب فإنه يمكننا أن نتعلم دون أن نعرف قواعد اللغة العربية، لكن من الكمال أن يتعلم الإنسان قواعد اللغة العربية، فأنا أحث على تعلُّم اللغة العربية في جميع قواعدها .
* * *
43- سئل فضيلة الشيخ: أيهما أفضل: التفرغ للدعوة إلى الله - عز وجل - أم التفرغ لطلب العلم؟
فأجاب قائلا: طلب العلم أفضل وأولى، وبإمكان طالب العلم أن يدعو وهو يطلب العلم، ولا يمكن أن يقوم بالدعوة إلى الله وهو على غير علم، قال الله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ } (يوسف: الآية 108) فكيف يكون هناك دعوة بلا علم؟ ولا أحد دعا بدون علم أبدًا ، ومن يدعو بدون علم لا يوفق.
* * * 44- سئل فضيلة الشيخ : إذا كان آفة العلم النسيان فما الأمور أو الطرق التي تعين على ضبط العلم
: أن يهتدي الإنسان بعلمه قال تعالى: { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (محمد، الآية : 17)
فإذا عمل العالم بعلمه، ازداد علمًا وأُتي تقوى، أي : عبادة وخشية.(132/169)
ومنها: أن يفرغ قلبه للعلم بحيث لا يتشاغل بغيره عنه بل يكون هو همه وهاجسه.
ومنها: أن يتعاهده بالحفظ والمذاكرة.
ومنها: أن يستحضر الحكم ودليله عند كل عمل يقوم به.
ومنها: أن يكب على طلب العلم فلا يجعل طلب العلم عند التفرغ فقط، ولهذا يقولون: أعط العلم كلك يعطيك بعضه، وأعط العلم بعضك لا يعطيك شيئًا ، فلا بد من الإكباب على طلب العلم ليلا ونهارًا، والمناقشة وتطبيق ما علمت على ما عملت حتى يبقى العلم.
* * * 45- سئل فضيلة الشيخ: ما توجيهكم - حفظكم الله تعالى - لطلاب العلم حيث يلاحظ الإهمال وعدم الجد مما له آثار سيئة في التحصيل العلمي؟
فأجاب بقوله: يجب على طلاب العلم أن يبذلوا غاية الجهد في تحصيل العلم، حتى يدركوا المعلومات إدراكًا قويًّا، راسخًا في نفوسهم؛ لأنهم إذا اجتهدوا أخذوا العلوم شيئًا فشيئًا سهلت عليهم ورسخت في نفوسهم وسيطروا عليها سيطرة تامة، وإن أنتم يا طلاب العلم أهملتم وتهاونتم انطوى عنكم الزمن، وتراكمت عليكم الدروس، فأصبحتم عاجزين عن تصورها فضلا عن تحقيقها فندمتم حين لا تنفع الندامة.(132/170)
46- وسئل فضيلته: نرجو من سماحتكم - حفظكم الله تعالى - توجيه نصيحة لمن عمل في مجال التدريس ، عسى الله أن ينفع بها وجزاكم الله خيرًا ؟
فأجاب فضيلته: بقوله : نقول أهم ما يتعلق بالمعلمين أن يدركوا العلوم التي يعطونها للطلبة إدراكًا جيدًا مستقرًّا في نفوسهم، قبل أن يقفوا أمام الطلبة حتى لا يقع الواحد منهم في حيرة عند سؤال التلاميذ له ومناقشتهم إياه فإن من أعظم المقومات الشخصية لدى الطلبة أن يكون المعلم قويًّا في علمه وملاحظته، إن قوة المعلم العلمية في تقويم شخصيته لا تقل عن قوة ملاحظته، إن المعلم إذا لم يكن عنده علم ارتبك عند السؤال فينحط قدره أمام تلاميذه، وإن أجاب بالخطأ فلن يثقوا فيه بعد ذلك، إن انتهرهم عند السؤال والمناقشة فلن ينسجموا معه.(132/171)
إذن فلا بد للمعلم من إعداد واستعداد وتحمل وصبر، المعلم عند توجيه السؤال له إن كان عنده علم راسخ في ذهنه مستقر في نفسه أجاب بكل سهولة وانطلاق وإلا فإنه لا يخلو بعد ذلك من هذه الأمور الثلاثة السابقة وكل ذلك ينافي الآداب التي ينبغي أن يكون المعلم عليها، وإذا كان على المعلم أن يدرك العلم الذي سيلقيه أمام الطلبة فإن عليه أن يحرص على حُسن إلقائه إليهم بأن يسلك أسهل الطرق في إيضاح المعاني وضرب الأمثال ومناقشة الطلبة فيما ألقاه عليهم سابقًا، أما أن يأتي يقرأ الشيء عليهم قراءة ولا يدري من فهم ممن لم يفهم ولا يناقشهم فيما مضى فإن هذه الطريقة عقيمة جدًّا لا تثمر ثمرًا ولا تكون نتيجتها طيبة وإذا كان المعلم يجتهد في الأمور العلمية تحصيلا وعرضًا فعليه أن يجتهد في الأمور التعبدية، عليه أن يكون حسن النية والتوجيه فينوي بتعليمه الإحسان إلى طلبته وإرشادهم إلى ما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم وليجعل نفسه لهم بمنزلة الأب الرفيق الشفيق ليكون لتعليمه أثر بالغ في نفوسهم ، وعلى المعلم أن يظهر أما طلبته بالمظهر اللائق من الأخلاق الفاضلة والآداب العالية التي أساسها التمسك بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله(132/172)
عليه وسلم ليكون قدوة لتلاميذه في العلم والعمل ، فإن التلميذ ربما يتلقى من معلمه من الأخلاق والآداب أكثر مما يتلقى منه من العلم من حيث التأثر ؛ لأن أخلاق المعلم وآدابه صورة مشهودة معبرة عما في نفسه ظاهرة في سلوكه فتنعكس هذه الصورة تمامًا على إدارة التلاميذ.
إن على المعلم أن يتقي الله تعالى في نفسه، وفيمن ولاه الله عليهم من التلاميذ وأن يحرص غاية الحرص أن يمثل أمامهم بالأخلاق حتى يكون قدوة صالحة « ومن سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة » (1) .
وإنني أقول للمعلمين: إن عند التلاميذ ملاحظة دقيقة عجيبة على صغر سنهم، إن المعلم إذا أمرهم بشيء ثم رأوه يخالفهم فيما أمرهم به فإنهم سوف يضعون علامات الاستفهام أمام هذا المعلم، كيف يعلمنا شيئا ويأمرنا به وهو يخالف ما كان يعلمنا ويأمرنا به، لا تستهن يا معلمًا بالتلاميذ حتى ولو كانوا صغارًا فعندهم أمر الملاحظة من الأمور العجيبة.
* * * 47- وسئل فضيلة الشيخ: عن طالب علم يريد أن يذهب مع إخوانه في الله لطلب العلم وكان الحائل بينه وبين الذهاب معهم هو أهله، والده وأمه، فما الحكم في خروج هذا الطالب ؟
_________
(1) أخرجه مسلم، كتاب الزكاة، باب: الحث على الصدقة ولو بشق تمرة أو كلمة طيبة.(132/173)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الطالب إن كان هناك ضرورة لبقائه عندهم فهذا أفضل مع أنه يمكنه أن يبقى عندهم مع طلب العلم؛ لأن بر الوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله ، والعلم من الجهاد وبالتالي فيكون بر الوالدين مقدمًا عليه إذا كانا في حاجة إليه.
أما إذا لم يكونا في حاجة إليه ويتمكن من طلب العلم أكثر إذا خرج فلا حرج عليه أن يخرج في طلب العلم في هذه الحال، ولكنه مع هذا لا ينسى حق الوالدين في الرجوع إليهما وإقناعهما إذا رجع، وأما إذا علم كراهة الوالدين للعلم الشرعي فهؤلاء لا طاعة لهما، ولا ينبغي له أن يستأذن منهما إذا خرج؛ لأن الحامل لهما كراهة العلم الشرعي.
* * * 48ـ سئل فضيلة الشيخ ـ غفر الله له ـ : هل يجوز تعلم العلم من الكتب فقط دون العلماء وخاصة إذا كان يصعب تعلم العلم من العلماء لندرتهم؟ وما رأيك في القول القائل: من كان شيخه الكتاب كان خطؤه أكثر إلى الصواب؟(132/174)
فأجاب قائلا: لا شك أن العلم يحصل بطلبه عند العلماء وبطلبه في الكتب؛ لأن كتاب العالم هو العالم نفسه، فهو يحدثك من خلال كتابه، فإذا تعذر الطلب على أهل العلم، فإنه يطلب العلم من الكتب، ولكن تحصيل العلم عن طريق العلماء أقرب من تحصيله عن طريق الكتب؛ لأن الذي يحصل عن طريق الكتب يتعب أكثر ويحتاج إلى جهد كبير جدًّا، ومع ذلك فإنه قد تخفى عليه بعض الأمور كما في القواعد الشرعية التي قعَّدها أهل العلم والضوابط، فلا بد أن يكون له مرجع من أهل العلم بقدر الإمكان.
وأما قوله: "من كان دليله كتابه فخطؤه أكثر من صوابه" ، فهذا ليس صحيحًا على إطلاقه ولا فاسدًا على إطلاقه، أما الإنسان الذي يأخذ العلم من أيّ كتاب يراه فلا شك أنه يخطئ كثيرًا، وأما الذي يعتمد في تعلُّمه على كتب رجال معروفين بالثقة والأمانة والعلم فإن هذا لا يكثر خطؤه بل قد يكون مصيبًا في أكثر ما يقول.
* * *
49ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجوز تفسير القرآن الكريم بالنظريات العلمية الحديثة؟(132/175)
فأجاب بقوله: تفسير القرآن بالنظريات العلمية له خطورته، وذلك إننا إذا فسرنا القرآن بتلك النظريات ثم جاءت نظريات أخرى بخلافها فمقتضى ذلك أن القرآن صار غير صحيح في نظر أعداء الإسلام؛ أما في نظر المسلمين فإنهم يقولون: إن الخطأ من تصور هذا الذي فسر القرآن بذلك، لكن أعداء الإسلام يتربصون به الدوائر، ولهذا أنا أحذر غاية التحذير من التسرع في تفسير القرآن بهذه الأمور العلمية ولندع هذا الأمر للواقع، إذا ثبت في الواقع فلا حاجة إلى أن نقول القرآن قد أثبته، فالقرآن نزل للعبادة والأخلاق، والتدبر، يقول الله ـ عز وجل { كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ } (صّ:29) وليس لمثل هذه الأمور التي تدرك بالتجارب ويدركها الناس بعلومهم، ثم إنه قد يكون خطرًا عظيمًا فادحًا في تنزل القرآن عليها، أضرب لهذا مثلا قوله تعالى: { يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ } (الرحمن:33) لما حصل صعود الناس إلى القمر ذهب بعض الناس ليفسر هذه الآية(132/176)
ونزلها على ما حدث وقال: إن المراد بالسلطان العلم، وأنهم بعلمهم نفذوا من أقطار الأرض وتعدوا الجاذبية وهذا خطأ ، ولا يجوز أن يفسر القرآن به وذلك لأنك إذا فسرت القرآن بمعنى فمقتضى ذلك أنك شهدت بأن الله أراده وهذه شهادة عظيمة ستسأل عنها.
ومن تدبر الآية وجد أن هذا التفسير باطل ؛ لأن الآية سيقت في بيان أحوال الناس وما يؤول إليه أمرهم، اقرأ سورة الرحمن تجد أن هذه الآية ذُكرت بعد قوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }{ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ }{ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ( الرحمن الآيات 26 - 28 )
فلنسأل هل هؤلاء القوم نفذوا من أقطار السماوات؟
الجواب: لا، والله يقول: { إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } .
ثانيًا: هل أرسل عليهم شواظ من نار ونحاس؟
والجواب: لا. إذن فالآية لا يصح أن تفسر بما فسر به هؤلاء، ونقول: إن وصول هؤلاء إلى ما وصولوا إليه هو من العلوم التجريبية التي أدركوها بتجاربهم، أما أن نُحرِّف القرآن لنُخضعه للدلالة على هذا ؛ فهذا ليس بصحيح ولا يجوز.(132/177)
* * * 50ـ سئل الشيخ : ذكرتم ـ جزاكم الله خيرًا ـ أن الاعتماد على أقوال الرجال خطأ يضر طالب العلم فهل يفهم من هذا عدم التمذهب أو الرجوع إلى مذهب معيَّن فيما يشكل من أحكام ؟
فأجاب فضيلته بقوله : التمذهب بمذهب معين إذا كان المقصود منه أن الإنسان يلتزم بهذا المذهب مُعرضًا عما سواه سواء كان الصواب في مذهبه أو مذهب غيره فهذا لا يجوز ولا أقول به .
أما إذا كان الإنسان يريد أن ينتسب إلى مذهب معين لينتفع بما فيه من القواعد والضوابط ولكنه يرد ذلك إلى الكتاب والسنة، وإذا تبين له الرجحان في مذهب آخر ذهب إليه ؛ فهذا لا بأس به ، والعلماء المحققون كشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره هم من هذا النوع هم محققون ولهم مذهب معين ولكنهم لا يخالفون الدليل إذا تبين لهم .
* * 51ـ سئل الشيخ : هل حديث « كل أمر ذي بال لم يبدأ ببسم الله » ... إلى آخر الحديث " حديث صحيح لأنه يكثر في مؤلفات العلماء؟(132/178)
فأجاب فضيلته بقوله: هذا الحديث اختلف العلماء في صحته، فمن أهل العلم من صححه واعتمده كالنووي، ومنهم من ضعفه، ولكن تلقي العلماء له بالقبول ووضعهم ذلك الحديث في كتبهم يدل على أن له أصلا، فالذي ينبغي للإنسان التسمية على كل الأمور المهمة، أو البداية بحمده الله -عز وجل- .
* * * 52ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : أيهما أفضل: مخالطة الناس بعد العشاء لتعليمهم وإرشادهم ونصحهم بحيث لا يمكن قيام الليل أو اعتزالهم حتى يتم قيام الليل؟
فأجاب قائلا : طلب العلم أفضل من قيام الليل؛ لأن طلب العلم كما قال الإمام أحمد :"لا يَعدلُهُ شيء لمن صحت نيته" قالوا: كيف ذلك؟ قال: "ينوي به رفع الجهل عن نفسه وعن غيره"، فإذا كان الإنسان يسهر في أول الليل في طلب العلم ابتغاء لوجه الله سواء كان يدرُسه أو يدرِّسه أو يعلِّمه ثم يقول الليل فهو أفضل لكن إذا تزاحم الأمران فطلب العلم الشرعي أفضل وأولى، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا هريرة أن يوتر قبل أن ينام، قال العلماء: وسبب ذلك أن أبا هريرة كان يحفظ أحاديث الرسول أول الليل وينام آخر الليل، فأرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى « أن يوتر قبل أن ينام » (1) .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الصيام، باب: صيام البيض، ومسلم ، كتاب صلاة المسافرين، باب: استحباب صلاة الضحى، ولفظه: «أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام» .(132/179)
* * * 53 ـ سئل الشيخ ـ غفر الله له ـ : ماذا يجب عليَّ تجاه أحد الأساتذة عندما يخطئ وخصوصًا في المواد الدينية وأنا متأكد من الجواب الصحيح؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا سؤال مهم حيث نجد أن بعض الأساتذة لا يريد لأحد أن يخطئه مهما ارتكب من الخطأ، وهذا ليس بصحيح، فكل إنسان معرض للخطأ، والإنسان إذا أخطأ ونُبّه فهذا من نعمة الله عليه، حتى لا يغتر الناس بخطئه، ولكن ينبغي للطالب أن يكون عنده شيء من اللباقة، فلا يقوم أمام الطلبة يرد على هذا المدرس، فهذا خلاف الأدب، ولكن يكون ذلك بعد انتهاء الدرس، فإن اقتنع المدرس فعليه أن يعيد ذلك أمام الطلبة في الدرس المقبل وإن لم يقتنع فعلى الطالب أن يقوم أمام الطلبة في الدرس المقبل، ليقول يا أستاذ إنك قلت كذا وكذا وهذا ليس بصحيح.
* * * 54ـ وسئل ـ جزاه الله خيرًا ـ : هل يجوز إلقاء التحية على مدرس غير مسلم في الفصل أو خارجه؟(132/180)
فأجاب فضيلته بقوله: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « لا تبدءوا اليهود والنصارى بالسلام » (1) ، « وكان اليهود يمرون على النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: السام عليكم ، والسام معناه الموت، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقول : وعليكم » (2) فأنت لا تبدأه بالسلام، فإذا سلم وبدأ فردّ عليه وعليكم، إلا أن ابن القيم رحمه الله ـ ذكر في أحكام أهل الذمة أن الكافر إذا علمنا أنه قال السلام عليكم فلنا أن نقول: وعليكم السلام.
* * * 55ـ وسُئل فضيلة الشيخ : أمامي مجال لدخول كلية علمية فهل أدخلها لنفع المسلمين أم أسلك المجال في كلية الشريعة؟ أفيدوني جزاكم الله خيرًا.
فأجاب بقوله: الذي أرى أن أفضل الكليات في الجامعات هي الكليات الدينية، وأما المواد الأخرى فربما يقوم بها رجل آخر، لا سيما من كانت له رغبة في دراسة العلوم الدينية، ومادام عندك رغبة في دخول كلية الشريعة فإن ذلك أفضل.
* * *
56ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : ما سبب توقف العالم عن الفتوى؟
_________
(1) رواه مسلم ، كتاب السلام، باب : النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام، وكيف يرد عليهم .
(2) أخرجه البخاري، كتاب الأدب، باب: الرفق في الأمر كله، مسلم، كتاب السلام، باب: النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام وكيف يرد عليهم.(132/181)
فأجاب فضيلته بقوله : توقف العالم عن الفتوى إذا كان أهلا للفتوى وعنده علم قد يكون لتعارض الأدلة عنده، وقد يكون لظنه أن هذا المستفتي متلاعب؛ لأن بعض المستفتين لا يستفتي للحق إنما يريد التلاعب والنظر فيما عند هذا العالم، والعالم الثاني، والعالم الثالث وهكذا، فيتوقف العالم أو يعرض عن إجابة هذا السائل الذي يعلم أو يغلب على ظنه أنه متلاعب ؛ لينظر ماذا عند الناس ، أو يريد أن يضرب أقوال الناس بعضها ببعض، وهذا أشد فيذهب ويقول: قال العالم الفلاني كذا، وقال العالم الفلاني كذا، فهذا من أسباب توقف المفتي.
* * * 57ـ سئل فضيلة الشيخ ـ حفظه الله تعالى ـ : هناك من الناس من يفتي بغير علم، ما حكم ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: هذا العمل من أخطر الأمور وأعظمها إثمًا، وقد قرن الله سبحانه وتعالى ـ القول عليه بلا علم ، بالشرك به ، فقال تعالى: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف:33).(132/182)
وهذا يشمل القول على الله في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو شرائعه، فلا يحل لأحد أن يفتي بشيء حتى يعلم أن هذا هو شرع الله -عز وجل- وحتى تكون عنده أداة وملكة يعرف بها ما دلت عليه النصوص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحينئذٍ يفتي.
والمفتي معبِّر عن الله -عز وجل- ومبلِّغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا قال قولا وهو لا يعلم أو لا يغلب على ظنه ـ بعد النظر والاجتهاد والتأمل في الأدلة ـ فإنه يكون قد قال على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم قولا بلا علم ، فيتأهب للعقوبة، فإن الله ـ عز وجل يقول : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ } (العنكبوت:68)
* * * 58ـ سئل الشيخ ـ وفقه الله تعالى ـ : هل هناك دعاء لحفظ القرآن؟ وما طريقة حفظه ؟
فأجاب قائلا : لا أعرف في ذلك دعاء يحفظ به القرآن إلا حديثًا، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم علمه علي بن أبي طالب ـ رضي الله تعالى عنه ـ (1) ، وفي صحته نظر ، قال عنه ابن كثير ـ رحمه الله تعالى:ـ إنه من البيّن غرابته بل نكارته .
_________
(1) أخرجه الترمذي (3570) ، والحاكم (1-316).(132/183)
وقال السيد محمد رشيد رضا ـ في التعليق عليه ـ: بل أسلوبه أسلوب الموضوعات لا أسلوب أفصح البشر محمد صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنه- ولا أسلوب عصرهما . ا . هـ .
وقال الذهبي : هذا الحديث منكر شاذ ، ولكن الطريق إلى حفظه هو: أن يواظب الإنسان على حفظه وللناس في حفظه طريقان:
أحدهما : أن يحفظه آية آية أو آيتين آيتين أو ثلاثًا ثلاثًا حسب طول الآيات وقصرها .
الثاني : أن يحفظه صفحة صفحة.
والناس يختلفون منهم من يفضل أن يحفظه صفحة صفحة يرددها حتى يحفظها ، ومنهم من يفضل أن يحفظ الآية ثم يرددها حتى يحفظها ثم يحفظ آية أخرى كذلك وهكذا حتى يتم .
ثم إنه أيضًا ينبغي سواء حَفِظَ بالطريقة الأولى أو الثانية ألا يتجاوز شيئًا حتى يكون قد أتقنه ؛ لئلا يبني على غير أساس، وينبغي أن يستعيد ما حفظه كل يوم خصوصًا في الصباح، فإذا عرف أنه قد أجاد ما حفظه أخذ درسًا جديدًا.
* * * 59ـ سئل الشيخ : أريد أن أتعلم العلم الشرعي وأبدأ في التعلم ولا أعرف كيف أبدأ، فبماذا تنصحوني في ذلك؟(132/184)
فأجاب فضيلته بقوله: خير منهج لطالب العلم أن يبدأ الطالب بفهم كلام الله عز وجل ـ من كتب التفسير الموثوق بها كتفسير ابن كثير والبغوي ، ثم بفهم ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم من السنة من الكتب الحديثة الموثوقة كبلوغ المرام والمنتقى وأصول كتب الحديث الملتزمة بالصحيح كصحيحي البخاري ومسلم ثم بكتب العقيدة السليمة مثل العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ابن تيمية، ثم بكتب الفقه المختصرة ليتفقه بها على المذهب الذي يراه أقرب إلى الكتاب والسنة ، وحين يترقى في العلم يقرأ الكتب المطولة ليزداد بها علمًا .
* * * 60ـ سئل الشيخ حفظه الله تعالى ـ : هل يجوز للمرء أن يترك عمله ويتفرغ لطلب العلم ، فيكون عالة على أبيه وأخيه؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن طلب العلم من أفضل الأعمال بل هو من الجهاد في سبيل الله ، ولا سيما في وقتنا هذا حين بدأت البدع تظهر في المجتمع الإسلامي وتنتشر وتكثر ، وبدأ الجهل الكثير ممن يتطلع إلى الإفتاء بغير علم ، وبدأ الجدل من كثير من الناس ، فهذه ثلاثة أمور كلها تحتم على الشباب أن يحرص على طلب العلم:
أولا: بدع بدأت تُظهر شرورها.
ثانيًا: أناس يتطلعون إلى الإفتاء بغير علم .(132/185)
ثالثًا: جدل كثير في مسائل قد تكون واضحة لأهل العلم لكن يأتي من يجادل فيها بغير علم
فمن أجل ذلك فنحن في ضرورة إلى أهل علم عندهم رسوخ وسعة اطلاع وعندهم أيضًا فقه في دين الله ، وعندهم حكمة في توجيه عباد الله؛ لأن كثيرًا من الناس الآن يحصلون على علم نظري في مسألة من المسائل ولا يهمهم النظر إلى إصلاح الخلق وإلى تربيتهم، وأنهم إذا أفتوا بكذا وكذا صار وسيلة إلى شرٍّ أكبر لا يعلم مداه إلا الله.
وهاهم الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ أحيانًا يُلْزَمون بأشياء قد تكون النصوص دالة على عدم الإلزام بها من أجل تربية الخلق .
عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ألزم الناس بإمضاء الطلاق الثلاث، كان الطلاق الثلاث في عهد الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ وعهد أبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، كان الطلاق الثلاث - أي في مجلس واحد ـ واحدًا ، لكن هو محرم أي طلاق المرأة ثلاثًا في مجلس واحد حرام ؛ لأنه تعدى حدود الله -عز وجل- .(132/186)
قال عمر -رضي الله عنه-: "أرى الناس قد تتايعوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم" (1) ، فأمضاه عليهم ، وجعل الطلاق الثلاث ثلاثًا لا واحدًا بعد أن مضى عهد النبي صلى الله عليه وسلم ، وعهد أبي بكر وسنتان من خلافته -رضي الله عنه- ألزم الناس بالطلاق الثلاث ، مع أن الإنسان لو راجع زوجته بعد هذا الطلاق لكان رجوعه صحيحًا في العهدين السابقين لعهد عمر وسنتين من خلافته ، لكن رأى أن المصلحة تقتضي إمضاء الطلاق الثلاث ومنع الإنسان من الرجوع إلى زوجته .
أيضًا عقوبة الخمر في عهد النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ يؤتى بالرجل الشارب فيضرب بطرف الثوب أو بالجريد أو النعال نحوًا من أربعين جلدة ، وفي عهد أبي بكر يجلد أربعين، « وفي عهد عمر يجلد أربعين، لكنه لما كثر الشرب جَمَع الصحابة واستشارهم فقال عبد الرحمن بن عوف : أخفّ الحدود ثمانون، فجعل عمر عقوبة شارب الخمر ثمانين جلدة » (2) كل هذا من أجل إصلاح الخلق ، فينبغي للمسلم أو المفتي والعالم في مثل هذه الأمور أن يراعي أحوال الناس وما يصلحهم .
* * *
_________
(1) أخرجه مسلم ، كتاب الطلاق ، باب : طلاق الثلاث.
(2) أخرجه مسلم ، كتاب الحدود ، باب : حد الخمر .(132/187)
61ـ وسئل الشيخ : طالب العلم المبتدئ هل يبدأ في طلب العلم بالبحث عن الأدلة أم يقلد في ذلك أئمة أحد المذاهب ؟ ما توجيه سماحتكم ـ حفظكم الله تعالى ـ ؟
فأجاب فضيلته بقوله : الطالب المبتدئ في العلم يجب عليه البحث عن الدليل بقدر إمكانه؛ لأن المطلوب الوصول إلى الدليل، ولأجل أن يحصل له التمرن على طلب الأدلة وكيفية الاستدلال فيكون سائرًا إلى الله على بصيرة وبرهان، ولا يجوز له التقليد إلا لضرورة كما لو بحث فلم يستطع الوصول إلى نتيجة أو حدثت له حادثة تتطلب الفورية ، فلم يتمكن من معرفة الحكم بالدليل قبل فوات الحاجة إليها فله حينئذ أن يقلد بنيه أنه متى تبين له الدليل رجع إليه، وإذا اختلف عليه المفتون، فقيل يخيَّر، وقيل يأخذ بالأيسر ؛ لأنه الموافق لقوله تعالى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } (البقرة: من الآية 185) .
وقيل: يأخذ بالأشد ؛ لأنه أحوط وغيره مشتبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه » (1) والأرجح أن يأخذ بما يغلب على ظنه أنه أقرب إلى الصواب لكون قائله أعلم وأورع، والله أعلم.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الإيمان ، باب : فضل من استبرأ لدينه، ومسلم، كتاب المساقاة ، باب : أخذ الحلال وترك الشبهات .(132/188)
* * * 62ـ وسئل فضيلته : ما هي الكتب التي تنصح بها؟ ونرجو توجيه نصيحة للطلاب جزاكم الله خيرًا.
فأجاب فضيلته بقوله: من أحسن ما يطالعه الطلاب من الكتب ، كتب التفسير الموثوقة كتفسير ابن كثير، والشيخ عبد الرحمن السعدي، وكتب الحديث كفتح الباري شرح صحيح البخاري، وسبل السلام بلوغ المرام، ونيل الأوطار شرح منتقى الأخبار ، ورياض الصالحين.
ننصح أبناءنا الطلبة بالحرص على العلم النافع والعمل الصالح والأخلاق الحسنة، وكسب الوقت فيما فيه خيرهم وصلاحهم في دينهم ودنياهم ، وأن يمرِّنوا أنفسهم على فعل الجميل والصبر على الأمور التي فيها مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
* * * 63ـ وسئل ـ حفظه الله تعالى ـ : بماذا تنصح من بدأ في طلب العلم على كبر سنه؟ وإن لم يتيسر له شيخ يأخذ منه ويلازمه فهل ينفعه طلب العلم بلا شيخ؟(132/189)
فأجاب فضيلته بقوله: نسأل الله تعالى أن يعين من أكرمه الله بالاتجاه إلى طلب العلم، ولكن العلم في ذاته صعب يحتاج إلى جهد كبير؛ لأننا نعلم أنه كلما تقدمت السن من الإنسان زاد حجمه وقل فهمه ، فهذا الرجل الذي بدأ الآن في طلب العلم ينبغي له أن يختار عالمًا يثق بعلمه ليطلب العلم عليه؛ لأن طلب العلم عن طريق المشايخ أوفر وأقرب وأيسر، فهو أوفر ؛ لأن الشيخ عبارة عن موسوعة علمية، لا سيما الذي عنده علم نافع في النحو والتفسير والحديث والفقه وغيره.
فبدلا من أن يحتاج إلى قراءة عشرين كتابًا يتيسر تحصيله من الشيخ ، وهو لذلك يكون أقصر زمنًا، وهو أقرب للسلامة كذلك؛ لأنه ربما يعتمد على كتاب ويكون نهج مؤلفه مخالفًا لنهج السلف سواء في الاستدلال أو في الأحكام .
فننصح هذا الرجل الذي يريد طلب العلم على الكبر أن يلزم شيخًا موثوقًا، ويأخذ منه؛ لأن ذلك أوفر له، ولا ييأس، ولا يقول بلغت من الكبر عتيًّا؛ لأنه بذلك يَحرم نفسه من العلم.(132/190)
وقد ذُكر أن بعض أهل العلم دخل المسجد يومًا بعد صلاة الظهر فجلس، فقال له أحد الناس: قم فصل ركعتين، فقام فصلى ركعتين ، وذات يوم دخل المسجد بعد صلاة العصر فكبر ليصلي ركعتين فقال له الرجل: لا تصلِّ فهذا وقت نهي، فقال : لا بد أن أطلب العلم، وبدأ في طلب العلم حتى صار إمامًا ، فكان هذا الجهل سببًا لعلمه ، وإذا علم الله منك حسن النية ومنَّ عليك بالتوفيق فقد تجمع من العلم الشيء الكثير .
* * * 64ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما هي نصيحتك لمن ينسى ما يقرأ ويتعلم ؟
فأجاب بقوله : أهم شيء في حفظ العلم أن يعمل الإنسان بحفظه ؛ لقوله الله تعالى : { وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } (محمد:17)
وقال { وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى } (مريم: من الآية 76) . فكلما عمل الإنسان بعلمه زاده الله حفظًا وفهمًا ، لعموم قوله : { زَادَهُمْ هُدًى }
وقد روي عن الشافعي -رحمه الله- قوله :
شكوت إلى وكيع سوء حفظي ... فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ... ونور الله لا يؤتاه عاصي(132/191)
ومن أسباب ذلك الإعراض عن الشواغل التي تأخذ بالفكر عن العلم؛ لأن الإنسان بشر إذا تشتت همته ضعفت قدرته على تحصيل العلم .
وكذلك كثرة البحث مع الزملاء بغرض الوصول للحق وليس للغلبة ولا شك الإخلاص من جملة ما يحفظ به العلم.
* * * 65ـ سئل فضيلة الشيخ : انتشرت الفتوى حتى صار الصغير يفتي، فما تعليقكم ـ غفر الله لكم ـ ؟(132/192)
فأجاب قائلا : كان السلف ـ رحمهم الله ـ يتدافعون الفتوى لعظم أمرها ومسئوليتها وخوفًا من القول على الله بلا علم؛ لأن المفتي مخبر عن الله مبين لشرعه، فإن قال على الله بلا علم؛ لأن المفتي مخبر عن الله مبين لشرعه، فإن قال على الله بلا علم فقد وقع فيما هو صنو للشرك، واستمع إلى قول الله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف:33) فقرن الله ـ سبحانه ـ القول عليه بلا علم بالشرك، وقال سبحانه : { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } (الإسراء:36) فلا ينبغي أن يتسرع الإنسان في الفتوى ، بل ينتظر ويتدبر ويراجع ، فإن ضاق الوقت فيحول المسألة إلى من هو أعلم منه ليسلم من القول على الله بلا علم .(132/193)
وإذا علم الله من نيته الإخلاص وإرادة الصلاح فسوف يصل إلى المرتبة التي يريدها بفتواه ، فمن اتقى الله فسيوفقه الله ويرفعه .
والذي يفتي بلا علم أضل من الجاهل ، فالجاهل يقول : لا أدري ويعرف قدر نفسه ، ويلتزم الصدق ، أما الذي يقارن نفسه بأعلام العلماء بل ربما فضَّل نفسه عليهم فيَضل ويُضل ويخطئ في مسائل يعرفها أصغر طالب علم فهذا شره عظيم وخطره كبير .
* * * 66ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجوز لطالب العلم أن يرجح بعض الآراء الفقهية على بعض ثم يلزم بها غيره؟ وهل له أن يأخذ بالرأي المرجوح في بعض الأحوال وهو يعلم الراجح؟
فأجاب بقوله : إذا لم يتبين الحكم بيانًا تامًّا لطالب العلم ويظل عنده شك منه، فله أن يلزم نفسه به احتياطًا، ولا يلزم غيره بذلك؛ لأنه ليس عنده دليل بيّن يكون حجة له أمام الله عز وجل ـ حين يحرِّم أو يُوجب على عباد الله ما لم يثبت شرعًا ـ وكثيرًا ما يتردد المجتهد في بعض الأشياء فيحب أن يطبقها على نفسه ويحتمل ما يكون فيها من المشقة، ولكنه يخشى من إلزام عباد الله بها .(132/194)
ولذلك نقول : لا مانع أن يسلك الإنسان هذا المسلك، ولكنه لا يترك إعادة النظر مرة بعد أخرى حتى يتبين الأمر ويلزم الناس بمقتضى الدليل ولا يكون مقصرًا في طلب الدليل فيكون مقصرًا في بيان الشرع.
ولا يجوز له العمل بالمرجوح، بل يتعين عليه أن يعمل بالراجح إذا تبين له أنه راجح.
* * * 67ـ سئل فضيلة الشيخ : يلاحظ التقصير في العمل بالعلم، فما نصيحة فضيلتكم؟
فأجاب فضيلته بقوله: يجب على من علم شيئًا صحيحًا من الشريعة أن يبلغه للناس ؛ لأن العمل بما علم الإنسان يستوجب حفظه بالعمل ويزيده الله تعالى بالقرآن نورًا فيكتسب من حفظ العلم بطريقة العمل به أن الله ـ عز وجل نورًا زائدًا على ما عنده قال الله تعالى : { وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } (التوبة:124) { وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ } (التوبة:125) . ولهذا قيل : العلم يهتف بالعمل فإن أجاب وإلا ارتحل .(132/195)
السلف الصالح في طلب العلم إذا علموا مسألة عملوا بها ، وكثير منهم لا يخفى عليه ما يقع من سرعة الامتثال والمبادرة للصحابة فيما عملوا حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم حثَّ النساء على الصدقة في يوم العيد فجعل النساء يلقين ما على آذانهن من الحلي يلقينه في ثوب بلال رضي الله عنه ـ ولم يقلن إذا وصلنا إلى البيت تصدقنا ولكن بادرن بذلك .
وكذلك « الرجل الذي طرح النبي صلى الله عليه وسلم خاتمه الذي كان من ذهب وألقاه في الأرض ما رجع إليه بعد أن علم التحريم حتى قيل له : خذ خاتمك لتنتفع به فقال : والله لا آخذ خاتمًا طرحه النبي صلى الله عليه وسلم » ، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قال: اخرجوا إلى بني قريظة : « لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة » (1) فخرجوا بعد أن كانوا مرهقين حتى إن الصلاة أدركتهم في الطريق فمنهم من صلى خوفًا من فوات الوقت ومنهم من أخر لقول النبي صلى الله عليه وسلم : « لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة » .
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب صلاة الخوف ، باب : صلاة الطالب والمطلوب راكبًا وإيماءً ، ومسلم، كتاب الجهاد والسير، باب : المبادرة بالغزو.(132/196)
فانظر يا أخي طالب العلم إلى سرعة امتثال الصحابة لما علموا من تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهل إذا طبَّقنا هذا الأمر على ما هو الواقع الآن ، فهل نحن على هذا الأمر في هذا الوقت؟ أعتقد أن هذا يفوت كثيرًا وما أكثر ما علمنا أن الصلاة ركن من أركان الإسلام يكفر المرء بتركها وما أكثر ما علمنا أن صلاة الجماعة فرض على الأعيان ولا بد منه، وما أكثر ما علمنا أشياء كثيرة هي من المحظورات ، ومع ذلك نجد في طلبة العلم من ينتهك هذا المحظور، وكذلك من يترك هذا الواجب ولا يبالي به ، فهذا فرق عظيم بين طلب العلم في الماضي وطلبه في الحاضر.
68ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما هي الطريقة الصحيحة في طلب العلم؟ هل يكون بحفظ المتون في علوم الشريعة أم فهمها؟ نرجو التوضيح حفظكم الله تعالى
.
فأجاب فضيلته بقوله: على طالب العلم أن يبدأ العلم شيئًا فشيئًا ، فعليك أن تبدأ في الأصول والقواعد والضوابط وما أشبه ذلك من المختصرات مع المتون؛ لأن المختصرات سُلّم إلى المطولات، لكن لا بد من معرفة الأصول والقواعد ومن لم يعرف الأصول حُرم الوصول.(132/197)
وكثير من طلبة العلم تجده يحفظ مسائل كثيرة لكن ما عنده أصل لو تأتيه مسألة واحدة شاذة عما كان يحفظه ما استطاع أن يعرف لها حلا ، لكن إذا عرف الضوابط والأصول استطاع أن يحكم على كل مسألة جزئية من مسائله، ولهذا فأنا أحث إخواني على معرفة الأصول والضوابط والقواعد لما فيها من الفائدة العظيمة ، وهذا شيء جرَّبناه وشاهدناه مع غيرنا على أن الأصول هي المهم، ومنها حفظ المختصرات ، وقد أراد بعض الناس أن يمكروا بنا قالوا لنا: إن الحفظ لا فائدة فيه، وإن المعنى هو الأصل، ولكن الحمد لله أنه أنقذنا من هذه الفكرة وحفظنا ما شاء الله أن نحفظ من متون النحو وأصول الفقه والتوحيد.
وعلى هذا فلا يُستهان بالحفظ ؛ فالحفظ هو الأصل، ولعل أحدًا منكم الآن يذكر عبارات قرأها من قبل مدة طويلة، فالحفظ مهم لطالب العلم حتى وإن كان فيه من الصعوبة، ونسأل الله سبحانه وتعالى ـ أن تكونوا ممن اهتدوا بطريقة سلفنا الصالح وأن يجعلنا من الهداة المهتدين، إنه جواد كريم .(132/198)
* * * 69ـ سئل فضيلة الشيخ : ما رأيكم بمن يترك الدعوة بحجة التفرغ لطلب العلم، وأنه لا يتمكن من الجمع بين الدعوة والعلم في بداية الطريق؛ لأنه يغلب على ظنه ترك العلم إذا اشتغل بالدعوة، ويرى أن يطلب العلم حتى إذا أخذ منه نصيبًا اتجه لدعوة الناس وتعليمهم وإرشادهم؟
فأجاب فضيلته بقوله: لا شك أن الدعوة إلى الله تعالى مرتبة عالية ومقام عظيم؛ لأنه مقام الرسل ـ عليهم الصلاة والسلام ـ وقد قال الله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } (فصلت:33) وأمر الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف:108) ومن المعلوم أنه لا يمكن الدعوة بغير علم كما في قوله هنا : { عَلَى بَصِيرَةٍ } وكيف يدعو الشخص إلى شيء لا يعلمه؟ ومن دعا إلى الله تعالى بغير علم كان قائلا على الله ما لا يعلم، فالعلم هو المرتبة الأولى للدعوة.(132/199)
ويمكن الجمع بين العلم والدعوة في بداية الطريق ونهايته، فإن تعذر الجمع كان البدءُ بالعلم؛ لأنه الأصل الذي ترتكز عليه الدعوة، قال البخاري -رحمه الله- في صحيحه في الباب العاشر من كتاب العلم : باب العلم قبل القول والعمل واستدل بقوله تعالى { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } (محمد:19) قال فبدأ بالعلم.
ومن ظن أنه لا يمكن الجمع بين العلم والدعوة فقد أخطأ، فإن الإنسان يمكنه أن يتعلم ويدعو أهله وجيرانه وأهل حارته وأهل بلدته وهو في طلب العلم .
والناس اليوم في حاجة بل في ضرورة إلى طلب العلم الراسخ المتمكن في النفوس المبني على الأصول الشرعية، وأما العلم السطحي الذي يعرف الإنسان به شيئًا من المسائل التي يتلقاها كما يتلقاها العامة دون معرفة لأصولها وما بنيت عليه فإنه علم قاصر جدًّا لا يتمكن الإنسان به من الدفاع عن الحق وقت الضرورة وجدال المبطلين.(132/200)
فالذي أنصح به شباب المسلمين أن يكرسوا جهودهم لطلب العلم مع القيام بالدعوة إلى الله بقدر استطاعتهم وعلى وجه لا يصدهم عن طلب العلم ؛ لأن طلب العلم جهاد في سبيل الله تعالى، ولهذا قال أهل العلم: إذا تفرغ شخص قادر على التكسب من أجل طلب العلم فإنه يعطى من الزكاة؛ لأن ذلك من الجهاد في سبيل الله بخلاف ما إذا تفرغ للعبادة، فإنه لا يعطى من الزكاة؛ لأنه قادر على التكسب.
* * * 70ـ سئل الشيخ ـ رعاه الله تعالى ـ : ما رأي فضيلتكم في تعلم التجويد والالتزام به؟
وهل صحيح ما يذكر عن فضيلتكم ـ حفظكم الله تعالى ـ من الوقوف بالتاء في نحو(الصلاة، الزكاة)؟
فأجاب قائلا: لا أرى وجوب الالتزام بأحكام التجويد التي فصلت بكتب التجويد، وإنما أرى أنها من باب تحسين القراءة، وباب التحسين غير الإلزام، وقد ثبت في صحيح البخاري (1) عن أنس بن مالك -رضي الله عنهما- « أنه سئل كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: كانت مدًّا، ثم قرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" يمدّ ببسم الله، ويمد بالرحمن ، ويمد بالرحيم » .
والمد هنا طبيعي لا يحتاج إلى تعمده ، والنص عليه هنا يدل على أنه فوق الطبيعي .
_________
(1) في فضائل القرآن، باب: مدّ القراءة (4759).(132/201)
ولو قيل بأن العلم بأحكام التجويد المفصلة في كتب التجويد واجب للزم تأثيم أكثر المسلمين اليوم، ولقلنا لمن أراد التحدث باللغة الفصحى: طبق أحكام التجويد في نطقك بالحديث وكتب أهل العلم وتعليمك ومواعظك.
وليعلم أن القول بالوجوب يحتاج إلى دليل تبرأ به الذمة أمام الله -عز وجل- في إلزام عباده بما لا دليل على إلزامهم به من كتاب عبد الرحمن بن سعدي -رحمه الله- في جواب له أن التجويد حسب القواعد المفصلة في كتب التجويد غير واجب.
وقد اطلعت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه اله ـ حول حكم التجويد قال فيه ص50 مجلد 16 من مجموع ابن قاسم -رحمه الله- للفتاوى : "ولا يجعل همته فيما حجب به أكثر الناس من العلوم عن حقائق القرآن إما بالوسوسة في خروج حروفه وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل والقصير والمتوسط وغير ذلك ، فإن هذا حائل للقلوب قاطع لها عن فهم مراد الرب من كلامه، وكذلك شغل النطق ب ( أأنذرتهم ) وضم الميم من (عليهم) ووصلها بالواو وكسر الهاء أو ضمها ونحو ذلك وكذلك مراعاة النغم وتحسين الصوت" . ا.هـ .(132/202)
وأما ما سمعتم من أني أقف بالتاء في نحو " الصلاة، الزكاة" فغير صحيح بل أقف في هذا وأمثالها على الهاء.
* * *
71ـ سئل فضيلة الشيخ : بعض الناس يكتبون حرف (ص) بين قوسين ويقصدون به الرمز لجملة صلى الله عليه وسلم ، فهل يصح استعمال حرف (ص) رمزًا لكلمة (صلى الله عليه وسلم )؟
فأجاب فضيلته بقوله : من آداب كتابة الحديث كما نص عليه علماء المصطلح ألا يرمز إلى هذه الجملة بحرف(ص)، وكذلك لا يعبر عنها بالنعت مثل(صلعم)، ولا ريب أن الرمز أو النعت يفوت الإنسان أجر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فإنه إذا كتبها ثم قرأ الكتاب من بعده وتلا القارئ هذه الجملة صار للكاتب الأول نيل ثواب من قرأها، ولا يخفى علينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه : « أن من صلى عليه صلى الله عليه وسلم مرة واحدة صلى الله عليه بها عشرًا » (1) .
فلا ينبغي للمؤمن أن يحرم نفسه الثواب والأجر ؛ لمجرد أن يسرع في إنهاء ما كتبه.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد 2 / 168.(132/203)
* * * 72ـ سئل فضيلة الشيخ : عندما يطرح سؤال شرعي يتسابق عامة الناس إذا كانوا في مجلس مثلا بالفتيا في تلك المسألة وبغير علم غالبًا، فما تعليقكم على هذه الظاهرة؟ وهل يعتبر هذا الأمر من التقديم بين يدي الله ورسوله؟
فأجاب بقوله: من المعلوم أنه لا يجوز للإنسان أن يتكلم في دين الله بغير علم؛ لأن الله تعالى يقول: { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ } (الأعراف: 33)(132/204)
والواجب على الإنسان أن يكون وَرِعًا خائفًا من أن يقول على الله بغير علم، وليس هذا من الأمور الدنيوية التي للعقل فيها مجال، على أنها وإن كانت من الأمور الدنيوية التي للعقل فيها مجال، فإن الإنسان ينبغي له أن يتأنى وأن يتروى، وربما يكون الجواب الذي في نفسه يجيب به غيره ، فيكون هو كالحكم بين المجيبين وتكون كلمته هي الأخيرة الفاصلة، وما أكثر ما يتكلم الناس بآرائهم ، أعني غير المسائل الشرعية، فإذا تأنى الإنسان وتأخر ظهر له من الصواب من أجل تعدد الآراء ما لم يكن على باله.
ولهذا فإني أنصح كل إنسان أن يتأنى وأن يكون هو الأخير في التكلم ؛ ليكون كالحاكم بين هذه الآراء، ومن أجل أن تظهر له في الآراء المختلفة ما لم يظهر له قبل سماعها، هذا بالنسبة للأمور الدنيوية، أما الأمور الدينية فلا يجوز أبدًا أن يتكلم الإنسان إلا بعلم يعلمه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أو أقوال أهل العلم.
* * * 73ـ وسئل ـ أعلى الله درجته ـ : عن كتاب بدائع الزهور؟
فأجاب قائلا: هذا الكتاب رأيت فيه أشياء كثيرة غير صحيحة، ولا أرى أن يقتنيه الإنسان ولا أن يجعله بين أيدي أهله لما فيه يمن الأشياء المنكرة.(132/205)
* * * 74ـ وسئل أيضًا : عن كتاب تنبيه الغافلين؟
فأجاب فضيلته بقوله: تنبيه الغافلين كتاب وعظ وغالب كتب المواعظ يكون فيها الضعيف، وربما الموضوع ويكون فيها حكايات غير صحيحة، يريد المؤلفون بها أن يرققوا القلوب وأن يبكوا العيون، ولكن هذا ليس بطريق سديد؛ لأن فيما جاء في كتاب الله وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من المواعظ كفاية.
ولا ينبغي أن يوعظ الناس بأشياء غير صحيحة سواء نُسبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو نُسبت إلى قوم صالحين قد يكونوا أخطأوا فيما ذهبوا إليه من الأقوال والأعمال، والكتاب فيه أشياء لا بأس بها ومع ذلك فإنني لا أنصح أن يقرأه إلا الشخص الذي عنده علم وفهم وتمييز بين الصحيح والضعيف والموضوع .
* * * 75ـ وسئل فضيلته : ما هي مكانة وفضل أهل العلم في الإسلام؟
فأجاب فضيلته بقوله: مكانة أهل العلم أعظم مكانة؛ لأنهم ورثة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولهذا يجب عليهم من بيان العلم والدعوة إلى الله ما لا يجب على غيرهم، وهم في الأرض كالنجوم في السماء يهدون الخلق الضالين التائهين، ويبينون لهم الحق ويحذرونهم من الشر ولذلك كانوا في الأرض كالغيث يصيب الأرض القاحلة فتنبت بإذن الله .(132/206)
ويجب على أهل العلم من العمل والأخلاق والآداب ما لا يجب على غيرهم؛ لأنهم أسوة وقدوة فكانوا أحق الناس وأولى الناس بالتزام الشرع في آدابه وأخلاقه .
* * * 76ـ سئل فضيلة الشيخ : بعض الناس يعتقد أن دور علماء المسلمين مقصور على الأحكام الشرعية وأنه لا دخل لهم في العلوم الأخرى كالسياسة والاقتصاد ونحوهما، فما رأيكم في هذا الاعتقاد؟
فأجاب فضيلته بقوله: رأينا في هذا الاعتقاد أنه مبني على الجهل في حال العلماء، ولا ريب أن العلماء علماء الشريعة عندهم علم في الاقتصاد وفي السياسة، وفي كل ما يحتاجون إليه في العلوم الشرعية، وإذا شئت أن تعرف ما قلته فانظر إلى محمد رشيد رضا ـ رحمه الله صاحب مجلة المنار في تفسيره وفي غيرها من كتبه .
وانظر أيضًا إلى من قبله من أهل العلم بالشرع من يكون مقدمًا للأهم على المهم، فتجده في العلم الشرعي بلغ إلى نصيب كبير وفي العلوم الأخرى يكون أقل من ذلك بناء على قاعدة أن تبدأ بالأهم قبل المهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين » (1) .
_________
(1) تقدم تخريجه ص13 .(132/207)
* * * 77ـ سئل فضيلة الشيخ : متى يكون الخلاف في الدين معتبرًا؟ وهل يكون الخلاف في كل مسألة أم له مواضع معينة؟ نرجو بيان ذلك؟
فأجاب فضيلته بقوله: اعلم أولا أن خلاف علماء الأمة الإسلامية إذا كان صادرًا عن اجتهاد فإنه لا يضر من لم يوفق للصواب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران ، وإن أخطأ فله أجر واحد » (1) . ولكن من تبين له الحق وجب عليه اتباعه بكل حال، والاختلاف الذي يقع بين علماء الأمة الإسلامية لا يجوز أن يكون سببًا لاختلاف القلوب؛ لأن اختلاف القلوب يحصل فيه مفاسد عظيمة كبيرة كما قال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } (الأنفال: 46)
والخلاف المعتبر بين العلماء والذي ينقل ويذكر هو الخلاف الذي له حظ من النظر، أما خلاف العامة الذين لا يفهمون ولا يفقهون فلا عبرة به ولهذا يجب على العامي أن يرجع إلى أهل العلم كما قال الله تعالى:( { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [النحل ، الآية : 43]
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام، باب : أجر الحاكم إذا اجتهد، ومسلم، كتاب الأقضية، باب: بيان أجر الحاكم إذا اجتهد .(132/208)
وأما قول السائل: هل يكون الخلاف في كل مسألة؟
فالجواب أن الخلاف قد يكون في بعض المسائل التي يختلف فيها الاجتهاد أو يكون بعض الناس أعلم من بعض في الاطلاع على نصوص الكتاب والسنة، أما المسائل الأصلية فإنها يقل فيها الخلاف.
* * *
78ـ وسئل فضيلة الشيخ : ما حكم الاجتهاد في الإسلام؟
فأجاب قائلا: الاجتهاد في الإسلام هو: بذل الجهد لإدراك حكم شرعي من أدلته الشرعية.
وهو واجب على من كان قادرًا عليه؛ لأن الله -عز وجل- يقول: { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } (النحل: من الآية 43). والقادر على الاجتهاد يمكنه معرفة الحق بنفسه ولكن لا بد أن يكون ذا سعة في العلم واطلاع على النصوص الشرعية وعلى الأصول المرعية، وعلى أقوال أهل العلم ؛ لئلا يقع فيما يخالف ذلك، فإن من طلبة العلم من لم يدركوا من العلوم إلا الشيء اليسير، ثم ينصب نفسه مجتهدًا فتجده يعمل بأحاديث عامة، لها ما يخصها أو يعمل بأحاديث منسوخة لا يعلم ناسخها أو يعمل بأحاديث أجمع العلماء على أنها على خلاف ظاهرها ولا يدري عن إجماع العلماء ومثل هذا على خطر عظيم.(132/209)
فالمجتهد لا بد أن يكون عنده علم بالأدلة الشرعية وعنده علم بالأصول التي إذا عرفها استطاع أن يستنبط الأحكام من أدلتها وعلم بما عليه العلماء ؛ لئلا يخالف الإجماع وهو لا يدري ، فإذا كانت هذه الشروط في حقه موجودة متوافرة فإنه يجتهد ويمكن أن يتجزأ الاجتهاد بأن يجتهد الإنسان في مسألة من مسائل العلم فيبحثها ويحققها ويكون مجتهدًا فيها أو في باب من أبواب العلم كأبواب الطهارة مثلا يبحثه ويحققه ويكون مجتهدًا فيه .
* * * 79ـ سئل فضيلة الشيخ : هل يجب التقليد لمذهب معين أم لا ؟
فأجاب قائلا: نعم، يجب التقليد لمذهب معين وجوبًا لازمًا؛ لكن هذا المذهب المعين الذي يجب تقليده مذهب الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الذي ذهب إليه الرسول صلى الله عليه وسلم واجب الاتباع، وهو الذي به سعادة الدنيا والآخرة، قال تعالى : { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (آل عمران:31).(132/210)
وقال تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (آل عمران:132) فهذا هو المذهب الواجب الاتباع بإجماع أهل العلم وأما غير هذا المذهب فإن اتباعه ضائع إذا لم يتبين الدليل من خلافه ، فإن تبين الدليل بخلافه فاتباعه محرم .
حتى قال شيخ الإسلام -رحمه الله- من قال : إن أحدًا من الناس يجب طاعته في كل ما قال ، فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأن في ذلك طاعة غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق -رحمه الله- لا أحد من الناس يجب أن يؤخذ بقوله مطلقًا إلا النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يجب الأخذ بقوله ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » . (1) وقال : « إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا » (2)
80ـ سئل فضيلة الشيخ : من الملاحظ في الصحوة الإسلامية الاتجاه إلى العلم ولله الحمد والمنة، وخصوصًا علم السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم ومن الملاحظات:
أ ـ العرض للصحيحين ( البخاري ومسلم ) نقدًا، تضعيفًا وتصحيحًا من قبل بعض طلبة العلم الذين لم ترسخ أقدامهم في هذا العلم، علمًا بأن هذين الكتابين من أصول السنة والجماعة وقد تلقتهما الأمة بالقبول.
_________
(1) أخرجه الترمذي، كتاب المناقب، وابن ماجه في المقدمة .
(2) مسلم، كتاب المساجد ، باب: قضاء الصلاة الفائتة .(132/211)
ب ـ رواج مذهب الظاهرية عند غالبية الشباب والإعراض عن كتب فقهاء الأمة .
جـ ـ انشغال بعض طلبة هذا العلم الشريف به عن العلوم الضرورية لطلبة العلم الشرعي مثل القرآن الكريم، واللغة العربية ، والفقه ، والفرائض ... إلخ .
د ـ شيوع ظاهرة التعالم والتصدر للتدريس والفتيا من قبل بعض طلبة العلم الذين لا يُعرف لهم شيوخ ولا قدم ثابتة في العلم وإنما هي القراءة ومطالعة الكتب .
فما توجيهكم حفظكم الله ورعاكم؟
فأجاب حفظه الله ورعاه قائلا :(132/212)
الجواب على الملاحظة الأولى : لا شك أن هذه الصحوة صاحَبَها ولله الحمد حب اتباع السنة والحرص عليها، ولكن كما ذكرت صار ينتهج هذا المنهج قوم لم يبلغوا ما بلغ أهل العلم من قبلهم في التحري والدقة، وربط الشريعة بعضها بعض، وتقييد مطلقها وتخصيص عامّها والرجوع إلى القواعد العامة المعروفة بالشريعة، فصاروا يلتقطون من كل وجه حتى في الأحاديث الضعيفة التي لا يعمل بها عند أهل العلم لشذوذها ومخالفتها لما في الكتب المعتمدة بين الأمة ، تجدهم يتلقفونها ويحتدون فيها وفي العلم بها وفي الإنكار على من خالفها، وكذلك أيضًا تجدهم قد بلغ ببعضهم العجب إلى أن صاروا يعترضون على الصحيحين أو أحدهما من الناحية الحديثية، ويعترضون على الأئمة من الناحية الفقهية، الأئمة الذين أجمعت الأمة على إمامتهم وحسن نيتهم وعلمهم، فتجد هؤلاء الذين لم يبلغوا ما بلغه من سبقهم يتعرضون لهؤلاء الأئمة ويحطون من قدرهم وهذه وصمة عظيمة لهذه الصحوة، والواجب على الإنسان أن يتريث، وأن يتعقل وأن يعرف لذوي الحق حقهم ولذوي الفضل فضلهم، وإنما يعرف الفضل من الناس أهله، نسأل الله لنا ولهم الهداية والتوفيق.(132/213)
وأما الجواب على الملاحظة الثانية فنقول : هذا أيضًا من البلاء، ولعل في جوابي السابق ما يدل عليه؛ لأن مذهب الظاهرية -كما هو معروف- مذهب يأخذ بالظاهر ولا يرجع إلى القواعد العامة النافعة، ولو أننا ذهبنا نتتبع من أقوالهم ما يتبين به فساد منهجهم أو بعض منهجهم لوجدنا الكثير، ولكننا لا نحب أن نتتبع عورة الناس .
والجواب على الملاحظة الثالثة : فلا شك أن الأولى بطالب العلم أن يبدأ أولا بكتاب الله -عز وجل- فإن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا لا يتعلمون عشر آيات حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل ، ثم بالسنة النبوية، ولا يقتصرون على معرفة الأسانيد والرجال والعلل إنما يحرصون على مسألة فقه هذه السنة؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: « رب مُبلغ أوعى من سامع » (1) ويقول : « رُبَّ حامل فقهٍ ليس بفقيه » (2) .
والناس الآن في ضرورة إلى معرفة الأسانيد وصحتها وفي ضرورة أيضًا إلى الفقه في هذه السنن الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم وتطبيقها على القواعد والأصول الشرعية حتى لا يضل الإنسان ويضل غيره .
_________
(1) أخرجه البخاري ، كتاب الحج، باب: الخطبة أيام منى.
(2) أخرجه الإمام أحمد 5/183.(132/214)
الجواب على الملاحظة الرابعة : يجب أن يعلم الإنسان المفتي، أنه سفير بين الله وبين خلقه، ووارث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا بد أن يكون عنده علم راسخ يستطيع به أن يفتي عباد الله، ولا يجوز للإنسان أن يتصدر للفتوى والتدريس وليس معه علم؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أخبر « أن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جُهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا » (1) والحمد لله، الإنسان الذي يريد الخير ولكنه يأتي حتى يدركه وينشره فإنه إن فسح له الأجل حتى أدرك ما أراد فهذا هو مطلوبه، وإن لم يفسح له في الأجل وقضى الله عليه الموت، فإنه كالذي يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله .
وكم من إنسان تعجل في التدريس والفتيا فندم؛ لأنه تبين له أن ما كان يقرره في تدريسه أو يفتي به في فتواه كان خطأ، والكلمة إذا خرجت من فم صاحبها ملكته، وإذا كانت عنده ملكها.
_________
(1) أخرجه البخاري، كتاب العلم، باب: كيف يُقبض العلم، ومسلم، كتاب العلم، باب: رفع العلم وقبضه .(132/215)
فليحذر الإخوة الذين هم في ريعان طلب العلم من التعجل وليتأنوا حتى تكون فتواهم مبينة على أسس سليمة، وليس العلم كالمال يتطلب الإنسان فيه الزبائن ليدرك من يبيع بل يدرك من يشتري منه، بل العلم إرث الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فيجب على الإنسان أن يكون مستشعرًا حين الفتوى شيئين:
الأول : أنه يقول عن الله -عز وجل- وعن شريعة الله .
الثاني : أنه يقول عن رسوله الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء.
* * * 81ـ وسئل ـ غفر الله له ـ عن أقسام الناس في طلب علم الكتاب والسنة الصحيحة؟
فأجاب فضيلته بقوله: انقسم الناس في طلب علم الكتاب والسنة إلى أربعة أقسام:
القسم الأولى : من تجده مُعرضًا عن الكتاب والسنة، مكبًّا على الكتب الفقهية المذهبية يعمل بما فيها مطلقًا، ولا يرجع إلا إلى ما قاله فلان وفلان من أصحاب الكتب المذهبية.
القسم الثاني : من أكب على علوم القرآن، مثل علم التجويد أو ما يتصل بمعناه أو إعرابه وبلاغته، وأما بالنسبة للسنة وعلم الحديث فهو قليل البضاعة فيها وهذا قصور بين بلا شك.(132/216)