أبو إبراهيم مات على الكفر ، و الصواب الذي نعتقده أن اسمه آزر ؛ كما قال الله تعالى : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً)(الأنعام: من الآية74)، و قال تعالى : (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ)(التوبة: من الآية114) لأنه قال : َ (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) (مريم:47) ، ( فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)(التوبة: من الآية114) و في سورة إبراهيم قال : (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ) (ابراهيم:41) ، و لكن فيما بعد تبرأ منه . أما نوح ؛ فقال: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ)(نوح: من الآية28)، و هذا يدل على أن أبوي نوح كانا مؤمنين .
فائدة أخرى :
قال الإمام أحمد : ثلاثة ليس لها أصل : المغازي ، و الملاحم ، و التفسير ؛ فهذه الغالب فيها أنها تذكر بدون إسناد، و لهذا ؛ فإن المفسرين يذكرون قصة آدم ، ( فلما آتاهما صالحا ) ( الأعراف : 190) ،و قليل منهم من ينكر القصة المكذوبة في ذلك (1) .
فالقاعدة إذا : أنه لا أحد يعلم عن الأمم السابقة شيئا إلا من طريق الوحي ، قال تعالى: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ)(ابراهيم: من الآية9).
* * *
وقال : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) (المؤمنون:59).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الآية الثانية : قوله : ( والذين هم بربهم لا يشركون ) .(115/70)
هذه الآية سبقها آية ، و هي قوله : (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ)(المؤمنون:57).
لكن المؤلف ذكر الشاهد . و قوله تعالى : ( من خشية ربهم ) ؛ أي : من خوفهم منه على علم ، و ( مشفقون ) ؛ أي : خائفون من عذابه إن خالفوه .
فالمعاصي بالمعنى الأعم ـ كما سبق ـ (1) شرك ؛ لأنها صادرة عن هوى مخالف للشرع، وقد قال تعالى:(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)(الجاثية:من الآية23).
أما بالنسبة للمعنى الأخص ؛ فيقسمها العلماء قسمين :
1- شرك.
2- فسوق .
و قوله : ( لا يشركون ) ، يراد به الشرك بالمعنى الأعم ؛ إذ تحقيق التوحيد لا يكون إلا باجتناب الشرك بالمعنى الأعم ، و لكن ليس معنى هذا ألا تقع منهم المعاصي ؛ لأن كل ابن آدم خطاء ، و ليس بمعصوم ، و لكن إذا عصوا ؛ فإنهم يتوبون و لا يستمرون عليها ؛ كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (آل عمران:135) .
* * *
وعن حصين بن عبد الرحمن ؛ قال : كنت عند سعيد بن جبير ، فقال :أيكم رأى الكوكب الذي انقض البارحة ؟ فقلت : أنا . ثم قلت : أما إني لم أكن في صلاة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( عن حصين بن عبد الرحمن ؛ قال : كنت عند سعيد بن جبير)
و هما رجلان من التابعين ثقتان .
قوله : ( انقض البارحة ) ، أي : سقط البارحة ، و البارحة : أي أقرب ليلة مضت ، و قال بعض أهل اللغة : تقول فعلنا الليلة كذا إن قلته قبل الزوال ، و فعلنا البارحة كذا إن قلته بعد الزوال .(115/71)
و في عرفنا ؛ فمن طلوع الشمس إلى الغروب نقول : البارحة لليلة الماضية ، و من غروب الشمس إلى طلوعها نقول : الليلة لليلة التي نحن فيها .
بل بعض العامة يتوسع متى قام من الليل قال : البارحة و إن كان في ليلته .
قوله : ( فقلت أنا ) ، أي : حصين .
قوله : ( أما إني لم أكن في صلاة ) ، أما : أداة استفتاح ، و قيل : إنها بمعنى حقا ، و على هذا ؛ فتفتح همزة ( إن ) ، فيقال : أما أني لم أكن في صلاة ، أي حقا أني لم أكن في صلاة .
و قال هذا رحمه الله لئلا يظن أنه قائم يصلي فيحمد بما لم يفعل ، و هذا خلاف ما عليه بعضهم ، يفرح أن الناس يتوهمون أنه يقوم يصلي ، و هذا من نقص التوحيد .
و قول حصين رحمه الله ليس من باب المراءاة ، بل هو من باب الحسنات ،
و لكني لدغت . قال : فما صنعت ؟ قلت : ارتقيت . قال : فما حملك على ذلك ؟ قلت : حديث حدثناه الشعبي . قال : وما حدثكم ؟ قلت : حدثناه عن بريدة بن الحصيب ؛ أنه قال: لا رقية إلا من عين أو حمة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وليس كمن يترك الطاعات خوفا من الرياء ؛ لأن الشيطان قد يلعب على الإنسان، ويزين له ترك الطاعة خشية الرياء ، بل افعل الطاعة ، و لكن لا يكن في قلبك أنك ترائي الناس .
قوله : ( لدغت ) ، أي : لدغته عقرب أو غيرها ، و الظاهر أنها شديدة ؛ لأنه لم ينم.
قوله : ( ارتقيت ) ، أ ي : استرقيت ؛ لأن افتعل مثل استفعل ، و في رواية مسلم : (استرقيت )؛ أي : طلبت الرقية .
قوله : ( فما حملك على ذلك ) ، أي : قال سعيد : ما السبب أنك استرقيت .
قوله : ( حديث حدثناه الشعبي ) ، و هذا يدل على أن السلف رضي الله عنهم يتحاورون حتى يصلوا إلى الحقيقة ، فسعيد بن جبير لم يقصد الانتقاد على هذا الرجل ، بل قصد أن يستفهم منه ويعرف مستنده.
قوله: (لا رقية)، أي: لا قراءة أو لا استرقاء على مريض أو مصاب.(115/72)
قوله: (إلا من عين)، وهي نظرة من حاسد، نفسه خبيثة، تتكيف بكيفية خاصة فينبعث منها ما يؤثر على المصاب، ويسميها العامة الآن: (النحاتة)، وبعضهم يسميها (النفس) ، وبعضهم يسميها (الحسد)
قوله: (حمة)، بضم الحاء، وفتح الميم، مع تخفيفها: وهي كل ذات
قال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سم ، والمعنى لدغته إحدى ذوات السموم، والعقرب من ذوات السموم.
فقال سعيد بن جبير: قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، ولكن حدثنا ابن عباس… إلخ .
إذن فحصين استند على حديث : (لا رقية إلا من عين أو حمة)، وهذا يدل على أن الرقية من العين أو الحمة مفيدة، وهذا أمر واقع؛ فإن الرقى تنفع بإذن الله من العين ومن الحمة أيضاً ، وكثير من الناس يقرؤون على الملدوغ فيبرأ حالاً، ويدل لهذا قصة الرجل الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فاستضافوا قوماً، فلم يضيفوهم، فلدغ سيدهم لدغة عقرب، فقالوا: من يرقي؟ فقالوا: لعل هؤلاء الركب عندهم راق، فجاؤوا إلى السرية، قالوا: هل فيكم من راق؟ فاقتطعوا لهم من الغنم، ثم ذهب أحدهم يقرأ عليه الفاتحة، قرأها ثلاثاً أو سبعاً، فقام كأنما نشط من عقال، فانتفع اللديغ بقراءتها، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (وما يدريك أنها رقية؟)(يعني: الفاتحة) (1) ، وكذا القراءة من العين مفيدة.
ويستعمل للعين طريقة أخرى غير الرقية، وهو الاستغسال، وهي أن يؤتى بالعائن، ويطلب منه أن يتوضأ، ثم يؤخذ ما تناثر من الماء من أعضائه ويصب على المصاب، ويشرب منه، ويبرأ بإذن الله.
ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال: (عرضت علي الأمم، فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/73)
وهناك طريقة أخرى، ولا مانع منها أيضاً، وهي أن يؤخذ شيء من شعاره، أي: ما يلي جسمه من الثياب؛ كالثوب، والطاقية، والسروال، وغيرها أو التراب إذا مشي عليه وهو رطب، ويصب على ذلك ماء يرش به المصاب أو يشربه، وهو مجرب.
وأما العائن؛ فينبغي إذا رأى ما يعجبه أن يبرك عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة لما عان سهل بن حنيف: (هلا بركت عليه) (1) ؛ أي : قلت : بارك الله عليك.
قوله: (ولكن حدثنا) ، القائل: سعيد بن جبير.
قوله: (عرضت علي الأمم)، العارض لها الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وهذا في المنام فيما يظهر. وانظر: (فتح الباري) (11/407) باب يدخل الجنة سبعون ألفاً، كتاب الرقاق)، والأمم: جمع أمة وهي أمم الرسل.
قوله: (الرهط)، من الثلاثة إلى التسعة.
قوله: (والنبي ومعه الرجل والرجلان)، الظاهر أن الواو بمعنى أو ؛ أي:
إذ رفع لي سواد عظيم، فظننت أنهم أمتي، فقيل لي: هذا موسى وقومه، فنظرت؛ فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك، ومعهم، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب). ثم نهض. فدخل منزله، فخاض الناس في أولئك. فقال بعضهم: فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعه الرجل أو الرجلان؛ لأنه لو كان معه الرجل والرجلان صار يغني أن يقول: ومعه ثلاثة، لكن المعنى: والنبي ومعه الرجل، والنبي الثاني ومعه الرجلان.
قوله: (والنبي وليس معه أحد)، أي: يبعث ولا يكون معه أحد، لكن يبعثه الله لإقامة الحجة، فإذا قامت الحجة حينئذ؛ يعذر الله من الخلق، ويقيم عليهم الحجة.
قوله: (سواد عظيم)، المراد بالسواد هنا الظاهر أنه الأشخاص، ولهذا يقال: ما رأيت سواده؛ أي: شخصه، أي أشخاصاً عظيمة كانوا من كثرتهم سواداً.
قوله: (فظننت أنهم أمتي)، لأن الأنبياء عرضوا عليه بأممهم؛ فظن هذا السواد أمته ـ عليه الصلاة والسلام ـ .(115/74)
قوله: (فقيل لي: هذا موسى وقومه)، وهذا يدل على كثرة أتباع موسى عليه السلام وقومه الذين أرسل إليهم.
………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإذا سواد عظيم، فقيل لي: هذه أمتك)، وهذا أعظم من السواد الأول؛ لأن أمة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر بكثير من أمة موسى عليه السلام.
قوله: (بغير حساب ولا عذاب)، أي: لا يعذبون ولا يحاسبون كرامة لهم، وظاهره أنه لا في قبورهم ولا بعد قيام الساعة،
قوله: (فخاض الناس في أولئك)، هذا الخوص للوصول إلى الحقيقة نظرياً وعملياً حتى يكونوا منهم.
قوله: (الذين صحبوا رسول الله) ، يحتمل أن المراد الصحبة المطلقة، ويؤيده ظاهر اللفظ.
ويحتمل أن المراد الذين صحبوه في هجرته، ويؤيده أنه لو كان المراد الصحبة المطلقة؛ لقالوا: نحن؛ لأن المتكلم هم الصحابة، ويدل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم لخالد بن الوليد: (لا تسبوا أصحابي) (1) ؛ فإن المراد بهم الذين صحبوه في هجرته، لكن يمنع منه أن المهاجرين لا يبلغون سبعين ألفاً.
ويمنع الاحتمال الأول: أن الصحابة أكثر من سبعين ألفاً، ويحتمل أن المراد من كان مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة؛ لأنه بعد فتح مكة دخل الناس في دين الله أفواجاً.
وهذه المسألة تحتاج إلى مراجعة أكثر.
وقال بعضهم: فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام فلم يشركوا بالله شيئاً … وذكروا أشياء ، فخرج عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبروه، فقال: (هم الذين لا يسترقون).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (الذين ولدوا في الإسلام)، أي: من ولد بعد البعثة وأسلم، وهؤلاء كثيرون، ولو قلنا: ولدوا في الإسلام من الصحابة ما بلغوا سبعين ألفاً.
قوله: (فخرج عليهم رسول الله ، فأخبروه)، أي: أخبروه بما قالوا وما جري بينهم.
قوله (لا يسترقون)، في بعض روايات مسلم (1) : (لا يرقون).(115/75)
ولكن هذه الرواية خطأ؛ كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرقي (2) ، ورقاه جبريل (3) ، وعائشة (4) ، وكذلك الصحابة كانوا يرقون (5).
واستفعل بمعنى طلب الفعل، مثل: استغفر؛ أي: طلب المغفرة، واستجار: طلب الجوار، وهنا استرقى؛ أي: طلب الرقية، أي لا يطلبون من أحد أن يقرأ عليهم؛ لما يلي :
ولا يكتوون ولا يتطيرون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- لقوة اعتمادهم على الله.
2- 2- لعزة نفوسهم عن التذلل لغير الله.
3- 3- ولما في ذلك من التعلق بغير الله.
وقوله: (ولا يكتوون)، أي: لا يطلبون من أحد أن يكويهم.
ومعنى اكتوى: طلب من يكويه، وهذا مثل قوله: (ولا يسترقون).
أما بالنسبة لمن أعد للكي من قبل الحكومة، فطلب الكي منه ليس فيه ذلك؛ لأنه معد من قبل الحكومة يأخذ الأجر على ذلك من الحكومة، ولأن هذا الطلب مجرد إخبار من الطالب بأنه محتاج إلى الكي، وليس سؤال تذلل.
قوله: (ولا يتطيرون)، مأخوذ من الطير، والمصدر منه تطير، والطيرة اسم المصدر، وأصله: التشاؤم بالطير، ولكنه أعم من ذلك؛ فهو التشاؤم بمرثي، أو مسموع، أو زمان، أو مكان.
وكانت العرب معروفة بالتطير، حتى لو أراد الإنسان منهم خيراً ثم رأى الطير سنحت يميناً أو شمالاً حسب ما كان معروفاً عندهم، تجده يأخر عن هذا الذي أراده، ومنهم من إذا سمع صوتاً أو رأى شخصاً تشاءم، ومنهم من يتشاءم من شهر شوال بالنسبة للنكاح، ولذا قالت عائشة رضي الله عنها: (عقد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شوال، وبنى بي في شوال؛ فأيكن كان أحظى عنده) (1) ، ومنهم من يتشاءم بيوم الأربعاء، أو بشهر صفر، وهذا كله مما أبطله
وعلى ربهم يتوكلون).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/76)
الشرع؛ لشرره على الإنسان عقلاً وتفكيراً وسلوكاً، وكون الإنسان لا يبالي بهذه الأمور، هذا هو التوكل على الله ولهذا ختم المسألة بقوله: (وعلى ربهم يتوكلون)؛ فإنتفاء هذه الأمور عنهم يدل على قوة توكلهم.
وهل هذه الأشياء تدل على أن من لم يتصف بها فهو مذموم، أو فاته الكمال؟
الجواب: أن الكمال فاته إلا بالنسبة للتطير؛ فإنه لا يجوز؛ لأنه ضرر وليس له حقيقة أصلاً.
أما بالنسبة لطلب العلاج؛ فالظاهر أنه مثله لأنه عام، وقد يقال: إنه لولا قوله: (ولا يسترقون)؛ لقلت: إنه لا يدخل؛ لأن الاكتواء ضرر محقق : إحراق بالنار، وألم للإنسان، إن لم تنفع لم تضر، وهنا نقول: الدواء مثلها؛ لأن الدواء إذا لم ينفع لم يضر، وقد يضير أيضاً لأن الإنسان إذا تناول دواء وليس فيه مرض لهذا الدواء فقد يضره.
وهذه المسألة تحتاج إلى بحث، وهل نقول مثلاً: ما تؤكد منفعته إذا لم يكن في الإنسان إذلال لنفسه؛ فهو لا يضر، أي: لا يفوت المرء الكمال به، مثل الكسر وقطع العضو مثلاً، أو كما يفعل الناس الآن في الزائدة وغيرها.
ولو قال قائل بالاقتصار على ما في هذا الحديث، وهو أنهم لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون، وأن ما عدا ذلك لا يمنع من دخول الجنة بلا حساب ولا عذاب؛ للنصوص الواردة بالأمر بالتداوي والثناء على بعض الأدوية؛ كالعسل والحبة السوداء؛ لكان له وجه.
فقام عكاشة بن محسن، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: (أنت منهم). ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم فقال: (سبقك بها عكاشة) (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا طلب منك إنسان أن يرقيك؛ فهل يفوتك كمال إذا لم تمنعه؟(115/77)
الجواب:لا يفوتك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمنع عائشةأن ترقيه (2)، وهو أكمل الخلق توكلاً على الله وثقة به، ولأن هذا الحديث: (لا يسترقون . . .) إلخ إنما كان في طلب هذه الأشياء، ولا يخفى الفرق بين أن تحصل هذه الأشياء بطلب وبين أن تحصل بغير طلب.
قوله: (فقال: أنت منهم)، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا هل هو بوحي من الله إقراري، أو وحي إلهامي، أو وحي رسول؟
مثل هذه الأمور يحتمل أنها وحي إلهامي، أو بواسطة الرسول ، أو وحي إقراري، بمعنى أن الرسول يقولها، فإذا أقره الله عليه؛ صارت وحياً إقرارياً.
لكن رواية البخاري: (اللهم اجعله منهم) تدل على أن الجملة: (أنت منهم) خبر بمعنى الدعاء.
قوله: (ثم قام رجل آخر، فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. قال: سبقك بها عكاشة)، لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول له : لا ، ولكن قال: سبقك بها؛ أي
* فيه مسائل: الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد. الثانية: ما معنى تحقيقه. الثالثة: ثناؤه سبحانه على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بهذه المنقبة
وقد اختلف العلماء لماذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الكلام؟
فقيل: إنه كان منافقاً، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يجابهه بما يكره تأليفاً.
وقيل: خاف أن ينفتح الباب فيطلبها من ليس منهم؛ فقال هذه الكلمة التي أصبحت مثلاً ، وهذا أقرب.
* * *
قوله: (فيه مسائل)، أي: في هذا الباب مسائل:
· · المسألة الأولى: معرفة مراتب الناس في التوحيد، وهذه مأخوذة من قوله: (يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب). ثم قال: (هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون، ولا يتطيرون) (1) .
· · الثانية : ما معنى تحقيقه ؟ أي: تحقيق التوحيد، وسبق لنا في أول الباب أن تحقيقه: تخليصه من الشرك.(115/78)
· · الثالثة : ثناؤه ـ سبحانه ـ على إبراهيم بكونه لم يك من المشركين، وهو ظاهر في الآية الكريمة: (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (النحل:120)؛ فإن هذه الآية لا شك أنها سيقت للثناء على إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وإذا كان مناط الثناء انتفاء الشرك عنه؛ دل ذلك على أن كل من انتفى عنه الشرك فهو محل ثناء من الله ـ سبحانه وتعالى ـ.
الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك. الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد. السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل. السابعة: عمق علم الصحابة بمعرفتهم أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الرابعة: ثناؤه على سادات الأولياء بسلامتهم من الشرك، لقوله تعالى: (والذين هم بربهم لا يشركون)، وهذه الآية في سياق آيات كثيرة ابتدأها الله بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُون * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون:57-61)؛ فهؤلاء هم سادات الأولياء، وكلام المؤلف من باب إضافة الصفة إلى موصوفها، أي: الأولياء السادات، وليس يريد رحمه الله السادات من الأولياء، بل يريد الأولياء الذي هم سادات الخلق.
* الخامسة: كون ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد، لقوله: (الذين لا يسترقون ولا يكتوون)؛ فالمراد بقول المؤلف: (الرقية والكي): الاسترقاء والاكتواء.(115/79)
* السادسة: كون الجامع لتلك الخصال هو التوكل، والخصال هي : ترك الاسترقاء، وترك الاكتواء، وترك التطير، يعني أن العامل لهذه الأشياء هو قوة التوكل على الله ـ عز وجل ـ .
* السابعة : عمق عمل الصحابة لمعرفة أنهم لم ينالوا ذلك إلا بعمل، أي :
الثامنة : حرصهم على الخير. التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية. العاشرة: فضيلة أصحاب موسى. الحادية عشرة: عرض الأمم عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم ينل هؤلاء السبعون ألفاً هذا الثواب إلا بعمل، ووجهه أن الصحابة خاضعوا فيمن يكون له هذا الثواب العظيم وذكروا أشياء.
* الثامنة: حرصهم على الخير، وجهه خوضهم في هذا الشيء؛ لأنهم يريدون أن يصلوا إلى نتيجة حتى يقوموا بها.
* التاسعة: فضيلة هذه الأمة بالكمية والكيفية، أما الكمية؛ فلأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى سواداً عظيماً أعظم من السواد الذي كان مع موسى، وأما الكيفية؛ فلأن معهم هؤلاء الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
* العاشرة: فضيلة أصحاب موسى، وهو مأخوذ من قوله: (إذ رفع لي سواد عظيم)، ولكن قد يقال: إن التعبير بقوله: كثرة أتباع موسى أنسب لدلالة الحديث: لأن الحديث يقول: (سواد عظيم فظننت أنهم أمتي)، وهذا يدل على الكثرة.
* الحادية عشرة: عرض الأمم عليه ـ عليه الصلاة والسلام ـ ، وهذا له فائدتان:
الفائدة الأولى : تسلية الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث رأى من الأنبياء من ليس معه إلا الرجل والرجلان، ومن الأنبياء من ليس معه أحد؛ فيتسلى بذلك عليه الصلاة والسلام، ويقول: (ما كنت بدعاً من الرسل).
الفائدة الثانية: بيان فضيلته عليه الصلاة والسلام وشرفه، حيث كان(115/80)
الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها. الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء. الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد وحده. الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة، وعدم الزهد في القلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أكثرهم أتباعاً وأفضلهم ؛ فصار في عرض الأمم عليه هاتان الفائدتان.
* الثانية عشرة: أن كل أمة تحشر وحدها مع نبيها، لقوله: (رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان)، ولولا أن كل نبي متميز عن النبي الآخر؛ لاختلط بعضهم ببعض، ولم يعرف الأتباع من غير الأتباع، ويدل لذلك قوله سبحانه وتعالى (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا )(الجاثية: من الآية28) فإنه يدل على أن كل أمة تكون وحدها.
* الثالثة عشرة: قلة من استجاب للأنبياء، وهو واضح من قوله: (والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد).
* الرابعة عشرة: أن من لم يجبه أحد يأتي وحده، لقوله: (والنبي وليس معه أحد).
* الخامسة عشرة: ثمرة هذا العلم، وهو عدم الاغترار بالكثرة . . . إلخ ، فإن الكثرة قد تكون ضلالاً ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)(الأنعام: من الآية116)، وأيضاً الكثرة من جهة أخرى إذا اغتر الإنسان بكثرة وظن لن يغلب أو أنه منصور؛ فهذا أيضاً سبب للخذلان؛ فالكثرة إن نظرنا إلى أن أكثر أهل الأرض ضلال لا تغتر بهم، فلا تقل: إن الناس على هذا، كيف أنفرد عنهم؟
السادسة عشرة: الرخصة في الرقية من العين و الحمة . السابعة عشرة : عمق علم السلف ؛ لقوله : ( قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، و لكن كذا و كذا )، فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك أيضا لا تغتر بالكثرة إذا كان معك أتباع كثيرون على الحق ؛ فكلام المؤلف له وجهان :(115/81)
الوجه الأول : أن لا نغتر بكثرة الهالكين فنهلك معهم .
الوجه الثاني : أن لا نغتر بكثرة الناجين فيلحقنا الإعجاب بالنفس و عدم الزهد في القلة ، أي أن لا نزهد بالقلة ؛ فقد تكون القلة خيرا من الكثرة .
* السادسة عشرة : الرخصة في الرقية من العين و الحمة ، مأخوذ من قوله : ( لا رقية إلا من العين أو الحمة ) .
* السابعة عشرة : عمق علم السلف ؛ لقوله : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع ، و لكن كذا وكذا ) ؛ فعلم أن الحديث الأول لا يخالف الثاني ، لأن قوله : (لا رقية إلا من عين أو حمة ) لا يخالف الثاني لأن الثاني إنما هو في الاسترقاء ، و الأول في الرقية ؛ فالأنسان إذا أتاه من يرقيه و لم ينافي قوله : ( ولا يسترقو) ؛ لأن هناك ثلاث مراتب :
المرتبة الأولى : أن يطلب من يرقيه ، و هذا قد فاته الكمال .
المرتبة الثانية : أن لا يمنع من يرقية ، و هذا لم يفته الكمال ؛ لأنه لم يسترق ولم يطلب .
المرتبة الثالثة : أن يمنع من يرقية و هذا خلاف السنة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم
الثامنة عشرة : بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه . التاسعة عشرة : قوله ( أنت منهم ) : علم من أعلام النبوة . العشرون : فضيلة عكاشة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمنع عائشة أن ترقية ، و كذلك الصحابة لم يمنعوا أحدا أن يرقيهم( 1) ؛ لأن هذا لا يؤثر في التوكل.
* الثامنة عشرة بعد السلف عن مدح الإنسان بما ليس فيه ، ئؤخذ من قوله : ( لم أكن في صلاة و لكني لدغت ) ؛ لأنه إذا رأى الكوكب الذي انقض استلزم أن يكون يقظان ، و اليقظان : إما أن يصلي ، وإما أن يكون له شغل آخر ، و إما أن يكون لديه مانع من النوم .(115/82)
* التاسعة عشرة : قوله : ( أنت منهم ) علم من أعلام النبوة . يعني : دليلا على نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكيف ذلك ؟ لأن عكاشة بن محصن رضي الله عنه بقي محروسا من الكفر حتى مات على الإسلام ، فيكون في هذا علم ، يعني : دليلا من دلائل نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، هذا إذا قلنا : إن الجملة خبرية و ليست جملة دعائية ؛ فقد نقول أيضا : فيه علم من أعلام النبوة ، وهو أن الله استجاب دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن استجابة الدعوة ليست من خصائص الأنبياء ؛ فقد تجاب دعوة من ليس بنبي ، و حين إذ ٍ لا يمكن أن تكون علما من أعلام النبوة إلا حيث جعلنا الجملة خبرية محضة .
* العشرون : فضيلة عكاشة ، بكونه ممن يدخلون الجنة بغير حساب و لا عذاب ، و هل نشهد له بذلك، نعم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد له بها .
الحادية و العشرون : استعمال المعاريض . الثانية و العشرون : حسن خلقه صلى الله عليه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الحادية و العشرون : استعمال المعاريض . و في المعاريض مندوحة عن الكذب ، و ذلك لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : : ( سبقك بها عكاشة ) ؛ فإن هذا في الحقيقة ليس هو المانع الحقيقي ، بل المانع ما أشرنا إليه في الشرح : إما أن يكون هذا الرجل منافقا فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعله مع الذين يدخلون الجنة بغير حساب و لا عذاب ، و إما خوفا من انفتاح الباب ؛ فيسأل هذه المرتبة من ليس من أهلها
* الثانية و العشرون : حسن خلقه صلى الله عليه وسلم . و ذلك لأنه رد هذا الرجل و سد الباب على وجه ليس فيه غضاضة على أحد و لا كراهة .
* * *
باب الخوف من الشرك
و قول الله غز و جل : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء)(النساء: من الآية116).(115/83)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب للبابين قبله :
في الباب الأول ذكر المؤلف رحمه الله تحقيق التوحيد ، و في الباب الثاني ذكر أن من حقق التوحيد دخل الجنة بغير حساب و لا عذاب ، و ثلث بهذا الباب رحمه الله تعالى ؛ لأن الإنسان يرى أنه قد حقق التوحيد و هو لم يحققه ، و لهذا قال بعض السلف : ( ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص ) ، و ذلك أن النفس متعلقة بالدنيا تريد حظوظها من مال أو جاه أو رئاسة ، وقد تريد بعمل الآخرة الدنيا ، وهذا نقص في الإخلاص ، و قل من يكون غرضه الآخرة في كل عمله ، و لهذا أعقب المؤلف رحمه الله ما سبق من البابين بهذا الباب ، و هو الخوف من الشرك ، وذكر فيه آيتين :
الأولى قوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به )
( لا) : نافية ، ( أن يشرك به ) : فعل مضارع مقرون بان المصدرية ؛ فيحول إلى مصدر تقدره : إن الله لا يغفر الإشراك به ، أو لا يغفر إشراكا به ؛ فالشرك لا يغفره الله أبدا ؛ لأنه جناية على حق الله الخاص ، و هو التوحيد .
أما المعاصي ؛ كالزنى و السرقة ؛ فقد يكون للإنسان فيها حظ نفس بما نال
و قال الخليل عليه السلام : ( وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)(ابراهيم: من الآية35).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من شهوة ، أما الشرك ؛ فهو اعتداء على حق الله تعالى ، و ليس للإنسان فيه حظ نفس ، و ليس شهوة يريد الإنسان أن ينال مراده ، و لكنه ظلم ، و لهذا قال الله تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم ) ( لقمان : 13) .
و هل المراد بالشرك هنا الأكبر ، أم مطلق الشرك ؟(115/84)
قال بعض العلماء : إنه مطلق يشمل كل شرك و لو أصغر ؛ كالحلف بغير الله ، فإن الله لا يغفره ، أما بالنسبة لكبائر الذنوب ؛ كالسرقة و الخمر ؛ فإنها تحت المشيئة ، فقد يغفرها الله ، و شيخ الإسلام ابن تيميه المحقق في هذه المسائل اختلف كلامه في هذه المسألة ؛ فمرة قال : الشرك لا يغفره الله و لو كان أصغر ، و مرة قال : الشرك الذي لا يغفره الله هو الشرك الأكبر ، و على كل حال ؛ فيجب الحذر من الشرك مطلقا ؛ لأن العموم يحتمل أن يكون داخلا فيه الأصغر ؛ لأن قوله: ( أن يشرك به ) أن و ما بعدها في تأويل مصدر ، تقديره : إشراكا به ؛ فهو نكرة في سياق النفي ، فتفيد العموم .
قوله : ( و يغفر ما دون ذلك ) ، المراد بالدون هنا : ما هو أقل من الشرك و ليس ما سوى الشرك .
* * *
الآية الثانية : قوله : ( واجنبني و بني أن نعبد الأصنام ) .
قيل المراد ببنيه : بنوه لصلبه ، و لا نعلم له من صلبه سوى إسماعيل و إسحاق ، و قيل : المراد ذريته و ما توالد من صلبه ، و هو الأرجح ، و ذلك
……………………………………………………………………
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للآيات التي دلت على دعوته للناس من ذريته ، و لكن كان من حكمة الله أن لا تجاب دعوته في بعضهم ، كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أن لا يجعل بأس أمته بينهم(1) فلم يجب الله دعاه .
و أيضا يمنع من الأول أن الآية بصيغة الجمع ، و ليس لإبراهيم من الأبناء سوى إسحاق و إسماعيل .
و معنى : ( و اجنبني ) ؛ أي : اجعلني في جانب و الأصنام في جانب ، و هذا أبلغ مما لو قال : امنعني و بني من عبادة الأصنام ؛ لأنه إذا كان في جانب عنها كان أبعد .
فإبراهيم عليه السلام يخاف الشرك على نفسه ، و هو خليل الرحمن و إمام الحنفاء ؛ فما بالك بنا نحن إذاً ؟!(115/85)
فلا تأمن الشرك ، و لا تأمن النفاق ؛ إذ لا يأمن النفاق إلا منافق ، و لا يخاف النفاق إلا مؤمن ، و لهذا قال ابن أبي ملكية : ( أدركت ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، كلهم يخاف النفاق على نفسه )(2) .
و ها هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه خاف على نفسه النفاق ؛ فقال ؛ لحذيفة بن اليمان رضي الله عنه : ( أنشدك الله ؛ هل سماني لك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع من سمى من المنافقين ؟ . فقال حذيفة رضي الله عنه : لا ، و لا أزكي بعدك أحدا )(3) ، أراد عمر بذلك زيادة الطمأنينة ، و إلا ؛ فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة
………………………………………………………………..
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و لا يقال : إن عمر رضي الله عنه أراد حث الناس على الخوف من النفاق و لم يخفه على نفسه ؛ لأن ذلك خلاف ظاهر اللفظ ، و الأصل حمل اللفظ على ظاهره، و مثل هذا القول يقوله بعض العلماء فيما يضيفه النبي صلى الله عليه وسلم إلى نفسه في بعض الأشياء ، و يقولون : هذا قصد به التعليم ، و قصد به أن يبين لغيره ، كما قيل : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل : رب اغفر لي لأن له ذنبا ، و لكن لأجل أن يعلم الناس الاستغفار ، و هذا خلاف الأصل ، و قال بعضهم: إنه جهر بالذكر عقب الفريضة ليعلم الناس الذكر ، لا لأن الجهر بذلك من السنة و نحو ذلك .
قوله : ( أن نعبد الأصنام ) . أن و الفعل بعدها في تأويل مصدر : مفعول ثان لقوله : اجنبني .
و الأصنام : جمع صنم ، وهو ما جعل على صورة إنسان أو غيره يعبد من دون الله .
أما الوثن ؛ فهو ما عبد من دون الله على أي وجه كان ، وفي الحديث:( و لا تجعل قبري وثنا يعبد )0(1) فالوثن أعم من الصنم .
و لا شك ان إبراهيم سأل ربه الثبات على التوحيد ؛ لأنه إذا جنبه عبادة الأصنام صار باقيا على التوحيد .
· · الشاهد من هذه الآية :(115/86)
أن إبراهيم خاف الشرك ، وهو إمام الحنفاء ، و هو سيدهم ما عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
و في الحديث : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر ) . فسئل عنه ؟ فقال : ( الرياء )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( و في الحديث ). الحديث: ما أضيف إلى الرسول ، و الخبر : ما أضيف إليه و إلى غيره ، و الأثر : ما أضيف إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ أي : إلى الصحابي فمن بعده ، إلا إذا قيد فقيل : و في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيكون على ما قيد به .
قوله : ( أخوف ما أخاف عليكم ) . الخطاب للمسلمين ؛ إذ المسلم هو الذي يخاف عليه الشرك الأصغر ، و ليس لجميع الناس
قوله : ( الرياء ) ، مشتق من الرؤية مصدر راءى يرائي ، و المصدر رياء ؛ كقاتل يقاتل قتالا .
و الرياء : أن يعبد الله ليراه الناس فيمدحوه على كونه عابدا ، و ليس يريد أن تكون العبادة للناس ؛ لأنه لو أراد ذلك ؛ لكان شركا أكبر ، و الظاهر أن هذا على سبيل التمثيل ، و إلا ؛ فقد يكون رياء ، و قد يكون سماعا أي يقصد بعبادته أن يسمعه الناس فيثنوا عليه ، فهذا داخل في الرياء ؛ فالتعبير بالرياء من باب التعبير بالأغلب.
أما إن أراد بعبادته أن يقتدي الناس به فيها ؛ فليس هذا رياء ، بل هذا من الدعوة إلى الله ـ عز و جل ـ ، و الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( فعلت هذا لتأتموا بي
………………………………………………………………….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و تعلموا صلاتي )(1).
و الرياء ينقسم باعتبار إبطاله للعبادة إلى قسمين :
الأول:أن يكون في أصل العبادة، أي ما قام يتعبد إلا للرياء ؛ فهذا عمله باطل مردود عليه لحديث أبي هريرة في( الصحيح ) مرفوعا ، قال الله تعالى:( أنا أغنى الشركاء عن الشرك،من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته و شركه ) (2).(115/87)
الثاني: أن يكون الرياء طارئا على العبادة ، أي أن أصل العبادة لله لكن طرأ عليها الرياء ؛ فهذا ينقسم إلى قسمين :
الأول : أن يدافعه ؛ فهذا لا يضره .
مثاله : رجل صلى ركعة ، ثم جاء أناس في الركعة الثانية ، فحصل في قلبه شئ بأن أطال الركوع أو السجود أو تباكى و ما أشبه ذلك ، فإن دافعه ؛ فلإنه لا يضره لأنه قام بالجهاد .
القسم الثاني : أن استرسل معه ؛ فكل عمل ينشأ عن الرياء ، فهو باطل ؛ كما لو أطال القيام ، أو الركوع ، أو السجود ، أو التباكى ؛ فهذا كل عمله حابط ، و لكن هل هذا البطلان يمتد إلى جميع العبادة أم لا ؟
نقول : لا يخلو هذا من الحالتين :
الحال الأول : أن يكون آخر العبادة مبنيا على أولها ، بحيث لا يصح
………………………………………………………………….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أولها مع فساد آخرها ؛ فهذه كلها فاسدة .
و ذلك مثل الصلاة ؛ فالصلاة مثلا لا يمكن أن يفسد آخرها و لا يفسد أولها و حينئذ تبطل الصلاة كلها إذا طرأ الرياء في أثناء ولم يدافعه .
الحال الثانية : أن يكون أول العبادة منفصلا عن آخرها ، بحيث يصح أولها دون آخرها ، فما سبق الرياء ؛ فهو صحيح ، وما كان بعده ؛ فهو باطل .
مثال ذلك : رجل عنده مئة ريال ، فتصدق بخمسين بنية خالصة ، ثم تصدق بخمسين بقصد الرياء ؛ فالأولى مقبولة ، و الثانية غير مقبولة ؛ لأن آخرها منفك عن أولها .
فإن قيل : لو حدث الرياء في أثناء الوضوء ؛ هل يلحق بالصلاة فيبطل كله ، أو بالصدقة فيبطل ما حصل فيه الرياء فقط .(115/88)
فالجواب : يحتمل هذا و هذا ؛ فيلحق بالصلاة لأن الوضوء عبادة واحدة ينبني على بعض ، و ليس تطهير كل عضو عبادة مستقلة ، و يلحق بالصدقة لأنه ليس كالصلاة من كل وجه و لا الصداقة من كل وجه ؛ لأننا إذا قلنا ببطلان ما حصل فيه الرياء فأعاد تطهيره وحده لم يضر ؛ لأن تكرار غسل العضو لا يبطل الوضوء و لو كان عمدا ، بخلاف الصلاة ؛ فإنه إذا كرر جزءا منها كركوع أو سجود لغير سبب شرعي ؛ بطلت صلاته ، فلو أنه أن غسل يديه رجع و غسل وجهه ؛ لم يبطل و ضوؤه ، ولو أنه بعد أن سجد رجع و ركع ؛ لبطلت صلاته ، و الترتيب موجود في هذا و هذا ، لكن الزيادة في الصلاة تبطلها ، و الزيادة في الوضوء لا تبطلة ، و الرجوع مثلا إلى الأعضاء الأولى لا يبطله أيضا ، و إن كان الرجوع في الحقيقة في الحقيقة لا يعتبر و ضوءا لأنه غير شرعي ، و ربما يكون في الأولى غسل وجهه على أنه واحدة ، ثم غسل يديه ، ثم قال :
وعن ابن مسعود رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من مات و هو يدعو من دون الله ندا ؛ دخل النار ) . رواه البخاري(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأحسن أن أكمل الثلاث في الوجه أفضل ، فغسل وجهه مرتين ، و هو سيرتب أي سيغسل وجهه ثم يديه ؛ فوضؤه صحيح .
و لو ترك التسبيح ثلاث مرات في الركوع ، و بعدما سجد قال : فوت على نفسي فضيلة ، سأرجع لأجل أن أسبح ثلاث مرات ؛ فتبطل صلاته ؛ فالمهم أن هناك فرقا بين الوضوء و الصلاة ، و من أجل هذا الفرق لا أبت فيها الآن حتى أراجع و أتأمل إن شاء الله تعالى .
* * *
قوله : ( من ) . هذه شرطية تفيد العموم للذكر و الأنثى .
قوله : ( يدعو من الله ندا ) ، أي : يتخذ لله ندا سواء دعاه دعاء عبادة أم دعاء مسألة ؛ لأن الدعاء ينقسم إلى قسمين :(115/89)
الأول : دعاء عبادة ، مثاله : الصوم ، و الصلاة ، و غير ذلك من العبادات فإذا صلى الإنسان أو صام ؛ فقد دعا ربه بلسان الحال أن يغفر له ، و أن يجيره من عذابه ، و أن يعطيه من نواله ، و هذا في أصل الصلاة ، كما أنها تتضمن الدعاء بلسان المقال .
و يدل لهذا القسم قوله تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي)(غافر: من الآية60)؛ فجعل الدعاء عبادة ، وهذا القسم كله
………………………………………………………………….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شرك، فمن صرف شيئا من شيئا من أنواع؛ فقد كفر كفراً مخرجاً له عن الملة، فلو ركع الإنسان أو سجد لشيء يعظمة كتعظيم الله في هذا الركوع أو السجود؛ لكان مشركاً، ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم من الانحناء عند الملاقاة لما سئل عن الرجل يلقى أخاه أن ينحني له؟ قال: (لا) (1) .
خلافاً لما يفعله بعض الجهال إذا سلم عليك انحنى لك؛ فيجب على كل مؤمن بالله أن ينكره؛ لأنه عظمك على حساب دينه.
الثاني: دعاء المسألة؛ فهذا ليس كله شركاً، بل فيه تفصيل، فإن كان المخلوق قادراً على ذلك؛ فليس بشرك؛ كقوله: اسقني ماء لمن يستطيع ذلك قال صلى الله عليه وسلم : (من دعاكم فاجيبوه) (2) ، وقال تعالى: (وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ)(النساء: من الآية8).
فإذا مد الفقير يده، وقال: ارزقني؛ أي: أعطني؛ فليس بشرك، كما قال تعالى: (فارزقوهم منه) ، وأما إن دعا المخلوق بما لا يقدر عليه إلا الله؛ فإن دعوته شرك مخرج عن الملة.
مثال ذلك: أن تدعو إنساناً أن ينزل الغيث معتقداً أنه قادر على ذلك.
والمراد بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : (من مات وهو يدعو لله نداً) المراد الند في العبادة، أما الند في المسألة؛ ففيه التفصيل السابق.(115/90)
ومع الأسف؛ ففي بعض البلاد الإسلامية من يعتقد أن فلاناً المقبور الذي
………………………………………………………………….
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقي جثة أو أكلته الأرض ينفع أو يضر، أو يأتي بالنسل لمن لا يولد لها، وهذا ـ والعياذ بالله ـ شرك أكبر مخرج من الملة ، وإقرار هذا أشد من إقرار شرب الخمر والزنا واللواط؛ لأنه إقرار على كفر، وليس إقراراً على فسوق فقط.
قوله: (دخل النار). أي: خالداً، مع أن اللفظ لا يدل عليه؛ لأن دخل فعل، والفعل يدل على الإطلاق.
وأيضاً قال الله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: من الآية72) ، وإذا حرمت الجنة؛ لزم أن يكون خالداً في النار أبداً، فيجب أن نخاف من الشرك ما دامت هذه عقوبته؛ فالمشرك خسر الآخرة؛ لأنه في النار خالد، وخسر الدنيا أيضاً؛ لأنه لم يستفد منها شيئاً، وقامت عليه الحجة، وجاءه النذير، ولكنه خسر ـ والعياذ بالله ـ ، ما استفاد شيئاً من الدنيا، قال تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)(فاطر: من الآية37)، وقال الله ـ عز وجل ـ : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ * يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ * يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) (الحج:11-13) ، وقال تعالى: (قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(الزمر: من الآية15).(115/91)
فخسر نفسه؛ لأنه لم يستفد منها شيئاً، وخسر أهله؛ لأنهم إن كانوا من المؤمنين فهم في الجنة، فلا يتمتع بهم في الآخرة وإن كانوا في النار فكذلك؛ لأنه كلما دخلت أمة لعنت أختها، والشرك خفي جداً؛ فقد يكون في الإنسان وهو لا يشعر إلا بعد المحاسبة ولهذا قال بعض السلف: (ما جاهدت
ولمسلم عن جابر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً، دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً؛ دخل النار) (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نفسي على شيء كما جاهدتها على الإخلاص).
فالشرك أمره صعب جداً ليس بالهين، ولكن ييسر الله الإخلاص على العبد، وذلك بأن يجعله الله نصب عينيه، فيقصد بعمله وجه الله لا يقصد مدح الناس أو ذمهم أو ثناءهم عليه؛ فالناس لا ينفعونه أبداً، حتى لو خرجوا معه لتشييع جنازته لم ينفعه إلا عمله، قال صلى الله عليه وسلم : (يخرج مع الميت أهله وماله وعمله؛ فيرجع اثنان: أهله وماله، ويبقى عمله) (2) .
وكذلك أيضاً من المهم أن الإنسان لا يفرحه أن يقبل الناس قوله لأنه قوله، لكن يفرحه أن يقبل الناس قوله إذا رأى أنه الحق لأنه الحق، لا أنه قوله، وكذا لا يحزنه أن يرفض الناس قوله لأنه قوله؛ لأنه حينئذ يكون قد دعا لنفسه، لكن يحزنه أن يرفضوه لأنه الحق، وبهذا يتحقق الإخلاص.
فالإخلاص صعب جداً، إلا أن الإنسان إذا كان متجهاً إلى الله اتجاهاً صادقاً سليماً على صراط مستقيم؛ فإن الله يعينه عليه، وييسره له.
* * *
قوله: (من) . شرطية تفيد العموم ، وفعل الشرط: (لقي) ، وجوابه قوله: (دخل الجنة)، وهذا الدخول لا ينافي أن يعذب بقدر ذنوبه إن كانت عليه
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذنوب؛ لدلالة نصوص الوعيد على ذلك ، وهذا إذا لم يغفر الله له؛ لأنه داخل تحت المشيئة.(115/92)
قوله: (لايشرك). في محل نسب على الحال من فاعل (لقي).
قوله: (شيئا) . نكره في سياق الشرط؛ فيعم أي شرك حتى ولو أشرك مع الله أشرف الخلق، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم دخل النار؛ فكيف بمن يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من الله ، فيلجأ إليه عند الشدائد، ولا يلجأ إلى الله ، بل يلجأ إلى ما دون الرسول صلى الله عليه وسلم ؟! وهناك من لا يبالي بالحلف بالله، ولكنه لا يخلف بملته أو بما يعظمه إلا صادقاً، فلزمته يمين؛ هل يحلف بالله أو يحلف بهذا؟
فقيل: يحلف بالله ولو كذب، ولا يعان على الشرك، وهو الصحيح.
وقيل: يحلف بغير الله؛ لأن المقصود الوصول لبيان الحقيقة، وهو إذا كان كاذباً لا يمكن أن يحلف، لكن نقول: إن كان صادقاً حلف ووقع في الشرك.
· · مسألة : هل يلزم من دخول النار الخلود لمن أشرك؟
هذا بحسب الشرك، إن كان الشرك أصغر كما دلت على ذلك النصوص؛ فإنه لا يلزم من دخول النار الخلود لمن أشرك؟
هذا بحسب الشرك، إن كان الشرك أصغر كما دلت على ذلك النصوص؛ فإنه لا يلزم من ذلك الخلود في النار، وإن كان أكبر؛ فإنه يلزم منه الخلود في النار.
لكن لو حملنا الحديث على الشرك الأكبر في الموضعين في قوله: (من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة) (1) ، وفي قوله : (ومن لقي الله يشرك به شيئاً
· · فيه مسائل :
الأولى : الخوف من الشرك . الثانية : أن الرياء من الشرك . الثالثة : أنه من الشرك الأصغر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دخل النار) (1) ؛ وقلنا : من لقي الله لا يشرك به شركاً أكبر دخل الجنة ، وإن عذب قبل الدخول في النار بما يستحق؛ فيكون مآله إلى الجنة، ومن لقيه يشرك به شركاً أكبر دخل النار مخلداً فيها لم نحتج إلى هذا التفصيل.
* * *
فيه مسائل :(115/93)
· · الأولى : الخوف من الشرك . لقوله : (إن الله لا يغفر أن يشرك به)، ولقوله : (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام).
· · الثانية : أن الرياء من الشرك . لحديث : (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر). فسئل عنه فقال (الرياء)، وقد سبق بيان أحكامه بالنسبة إلى إبطال العبادة.
· · الثالثة : أنه من الشرك الأصغر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عنه قال: (الرياء)، فسماه شركاً أصغر ، وهل يمكن أن يصل إلى الأكبر ؟
ظاهر الحديث لا يمكن؛ لأنه قال : (الشرك الأصغر)، فسئل عنه؛ فقال : (الرياء).
الرابعة : أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين . الخامسة : قرب الجنة والنار . السادسة : الجمع بين قربهما في حديث واحد . السابعة : أنه من لقيه يشرك به شيئاً ؛ دخل النار ، ولو كان من أعبد الناس.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكن في عبارات ابن القيم رحمه الله أنه إذا ذكر الشرك الأصغر قال : كيسير الرياء؛ فهذا يدل على أن كثيره ليس من الأصغر ، لكن إن أراد بالكمية؛ فنعم؛ لأنه لو كان يرائي في كل عمل لكان مشركاً شركاً أكبر لعدم وجود الإخلاص في عمل يعمله، أما إذا أراد الكيفية؛ فظاهر الحديث أنه أصغر مطلقاً.
· · الرابعة : أنه أخوف ما يخاف منه على الصالحين . وتؤخذ من قوله: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر) ، ولأنه قد يدخل في قلب الإنسان من غير شعور لخفائه وتطلع النفس إليه، فإن كثيراً من النفوس تحب أن تمدح بالتعبد لله.
· · الخامسة: قرب الجنة والنار. لقوله: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً؛ دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً؛ دخل النار)0
· · السادسة: الجمع بين قربهما في حديث واحد. (من لقي الله لا يشرك به شيئاً...) الحديث.(115/94)
· · السابعة: أن من لقيه يشرك به شيئاً دخل النار، ولو كان من أعبد الناس. تؤخذ من العموم في قوله: (من لقي الله)؛ لأن (من) للعموم، لكن إن كان شركه أكبر؛ لم يدخل الجنة وإن كان أعبد الناس؛ لقوله تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ )(المائدة: من الآية72) وإن كان أصغر؛ عذب.
الثامنة : المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام. التاسعة: اعتباره بحال الأكثر؛ لقوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ)(ابراهيم: من الآية36). العاشرة : فيه تفسير ( لا إله إلا الله) كما ذكره البخاري. الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقدر ذنوبه ثم دخل الجنة.
· · الثامنة: المسألة العظيمة سؤال الخليل له ولبنيه وقاية عبادة الأصنام. تؤخذ من قوله تعالى : (واجنبني وبني أن نعبد الأصنام).
· · التاسعة : اعتباره بحال الأكثر؛ لقوله: (رب إنهن أضللن كثيراً من الناس). وفيه إشكال؛ إذ المؤلف يقول: بحال الأكثر، والآية: (كثيراً من الناس)، وفرق بين كثير وأكثر، ولهذا قال تعالى في بني آدم: (وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الاسراء: من الآية70)؛ فلم يقل على أكثر الخلق، ولا على الخلق؛ فالآدميون فضلوا على كثير ممن خلق الله، وليسوا أكرم الخلق على الله، ولكنه كرمهم.
· · العاشرة: فيه تفسير لا إله إلا الله كما ذكره البخاري. الظاهر أنها تؤخذ من جميع الباب؛ لأن لا إله إلا الله فيها نفس وإثبات.
· · الحادية عشرة: فضيلة من سلم من الشرك. لقوله: (ويغفر ما دون ذلك)، وقوله: (من لقي الله لا يشرك به شيئاً؛ دخل الجنة).
* * *
باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله(115/95)
وقول الله تعالى : ( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ) الآية (يوسف: من الآية108).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الترتيب الذي ذكره المؤلف من أحسن ما يكون؛ لأنه لما ذكر توحيد الإنسان بنفسه ذكر دعوة غيره إلى ذلك؛ لأنه لا يتم الإيمان إلا إذا دعا إلى التوحيد، قال تعالى: (وَالْعَصْر إن الإنسان لفي خصر إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (سورة العصر).
فلا بد مع التوحيد من الدعوة إليه، وإلا؛ كان ناقصاً، ولا ريب أن هذا الذي سلك سبيل التوحيد لم يسلكه إلا وهو يرى أنه أفضل سبيل، وإذا كان صادقاً في اعتقاده؛ فلابد أن يكون داعياً إليه والدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله من تمام التوحيد، ولا يتم التوحيد إلا به.
* * *
قوله: (قل هذه سبيلي)، المشار إليه ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من الشرع عبادة ودعوة إلى الله.
سبيل: طريقي.
قوله : (أدعو) ، حال من الياء في قوله: (سبيلي)، ويحتمل أن تكون استئنافاً لبيان تلك السبيل.
.............................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (إلى الله)؛ لأن الدعاة إلى الله ينقسمون إلى قسمين:
1ـ داع إلى الله.
2ـ داع إلى غيره.
فالداعي إلى الله تعالى هو المخلص الذي يريد أن يوصل الناس إلى الله تعالى.
والداعي إلى غيره قد يكون داعياً إلى نفسه ، يدعو إلى الحق لأجل أن يعظم بين الناس ويحترم ، ولهذا تجده يغضب إذا لم يفعل الناس ما أمره به، ولا يغضب إذا ارتكبوا نهياً أعظم منه، لكن لم يدع إلى تركه.
وقد يكون داعياً إلى رئيسه كما يوجد في كثير من الدول من علماء الضلال من علماء الدول، لا علماء الملل، يدعو إلى رؤسائهم.(115/96)
من ذلك لما ظهرت الاشتراكية في البلاد العربية قام بعض علماء الضلال بالاستدلال عليها بآيات وأحاديث بعيدة الدلالة، بل ليس فيها دلالة؛ فهؤلاء دعوا إلى غير الله.
ومن دعا إلى الله ثم رأى الناس فارين منه ؛ فلا ييأس، ويترك الدعوة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لعلي: (انفذ على رسلك؛ فوالله؛ لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) (1)؛ يعني: أن اهتداء رجل واحد من قبائل اليهود خير لك من حمر النعم، فإذا دعا إلى الله ولم يجب؛ فليكن غضبه من أجل أن الحق لم يتبع، لا لأنه لم يجب، فإذا كان يغضب لهذا: فمعناه أنه يدعو إلى الله، فإذا استجاب واحد؛ فقد أبرأ ذمته أيضاً،
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الحديث : (والنبي وليس معه أحد) (1)
ثم إنه يكفي من الدعوة إلى الحق والتحذير من الباطل أن يتبين للناس أن هذا حق وهذا باطل ؛ لأن الناس إذا سكتوا عن بيان الحق، وأقر الباطل مع طول الزمن؛ ينقلب الحق باطلاً، والباطل حق.
قوله: (على بصيرة)، أي: علم ؛ فتضمنت هذه الدعوة الإخلاص والعلم؛ لأن أكثر ما يفسد الدعوة عدم الإخلاص، أو عدم العلم، وليس المقصود بالعلم في قوله (على بصيرة) العلم بالشرع فقط، بل يشمل: العلم بالشرع، والعلم بحال المدعو، والعلم بالسبيل الموصل إلى المقصود، وهو الحكمة.(115/97)
فيكون بصيراً بحكم الشرع، وبصيراً بحال المدعو، وبصيراً بالطريق الموصلة لتحقيق الدعوة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب) (2) .وهذه ليست كلها من العلم بالحكم الشرعي؛ لأن علمي أن هذا الرجل قابل لدعوة باللين، وهذا قابل للدعوة بالشدة، وهذا عنده علم يمكن أن يقابلني بالشبهات أمر زائد على العلم بالحكم الشرعي، وكذلك العلم بالطرق التي تجلب المدعوين كالترغيب بكذا والتشجيع؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:(من قتل قتيلاً؛ فله سلبه)(3) ، أوبالتأليف فالنبي صلى الله عليه وسلم أعطى المؤلفة قلوبهم في غزوة
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن؛ قال له: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب؛ فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حنين إلى مئة بعير (1) ، فهذا كله من الحكمة؛ فالجاهل لا يصلح للدعوة، وليس محموداً ، وليست طريقته طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الجاهل يفسد أكثر مما يصلح.
قوله : (أنا ومن اتبعني)، ذكروا فيها رأيين:
الأول : (أنا) مبتدأ، وخبرها (على بصيرة)، (ومن اتبعني) معطوفة على (أنا)؛ أي: أنا ومن اتبعني على بصيرة؛ أي: في عبادتي ودعوتي.
الثاني: (أنا) توكيد للضمير المستتر في قوله: (أدعو) ؛ أي: أدعو أنا إلى الله ومن اتبعني يدعو أيضاً؛ أي: قل هذه سبيلي أدعو إلى الله ويدعو من اتبعني، وكلانا على بصيرة.
قوله: (وسبحان الله)، أي : أن أكون أدعو على غير بصيرة!
وإعراب (سبحان) : مفعول مطلق عامله محذوف تقديره أسبح.
قوله: (وما أنا من المشركين) ، محلها مما قبلها في المعني توكيد؛ لأن التوحيد معناه نفي الشرك.
* * *
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/98)
قوله (أي: قول ابن عباس) : (بعث معاذاً)، أي: أرسله، وبعثه على صفة المعلم والحاكم والداعي، وبعثه في ربيع الأول سنة عشرة من الهجرة، وهذا هو المشهور، وبعثه هو وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما، بعث معاذاً إلى صنعاء وما حولها، وأبا موسى إلى عدن وما حولها، وأمرهما: (أن اجتمعا وتطاوعا ولا تفترقا، ويسرا ولا تعسرا، وبشرا وذكرا ولا تنفرا) (1).
قوله: (لما)، إعرابها شرطية، وهي حرف وجود لوجود، و (لو) : حرف امتناع لا متناع، و (لولا) حرف امتناع لوجود.
قوله: (إنك تأتي قوماً من أهل كتاب)، قال ذلك مرشداً له، وهذا دليل على معرفته صلى الله عليه وسلم بأحوال الناس، وما يعلمه من أحوالهم؛ فله طريقان:
1ـ الوحي. 2ـ العلم والتجربة.
قوله: (من) بيانية، والمراد بالكتاب: التوراة والإنجيل؛ فيكون المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، وهم أكثر أهل اليمن في ذلك الوقت، وإن كان في اليمن مشركون؛ لكن الأكثر اليهود والنصارى، ولهذا اعتمد الأكثر.
وأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأمرين:
الأول: أن يكون بصيراً بأحوال من يدعو.
الثاني: أن يكون مستعداً لهم؛ لأنهم أهل كتاب، وعندهم علم.
قوله: (فليكن)، الفاء للاستئناف أو عاطفة، واللام للأمر، و(أول): اسم يكن ، وخبرها (شهادة) وقيل العكس، يعني (أول) خبر مقدم (وشهادة) اسم يكن مؤخراً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والظاهر أنه يريد أن يبين أن أول ما يكون هي الشهادة، وإذا كان كذلك؛ يكون (أول) مرفوعاً على أنه اسم يكون؛ أي: أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: (شهادة)، الشهادة هنا من العلم، قال تعالى : إلا من شهد بالحق وهم يعلمون)(الزخرف:86)؛ فالشهادة هنا العلم والنطق باللسان؛ لأن الشاهد مخبر عن علم، وهذا المقام لا يكفي فيه مجرد الإخبار، بل لابد من علم وإخبار وقبول وإقرار وإذعان؛ أي انقياد.(115/99)
فلو اعتقد بقلبه، ولم يقل بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فقد قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: إنه ليس بملسم بالإجماع حتى ينطق بها؛ لأن كلمة أشهد تدل على الإخبار، والإخبار متضمن للنطق، فلابد من النطق؛ فالنية فقط لا تجزيء ، ولا تنفعه عند الله حتى ينطق، والنبي صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب: (قل) (1) ، ولم يقل: اعتقد أن لا إله إلا الله.
قوله: (لا إله)، أي: لا معبود؛ فإله بمعنى مألوه؛ فهو فعال بمعنى مفعول، وعند المتكلمين: إله بمعنى آله؛ فهو اسم فاعل، وعليه يكون معنى لا إله؛ أي: لا قادر على الإختراع، وهذا باطل (2) ، ولو قيل بهذا المعنى؛ لكان المشركون الذين قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم موحدين لأنهم يقرون به، قال تعالى : (ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله)(الزخرف:87)، وقال تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله)(الزمر:38) .
(وفي رواية: إلى أن يوحدوا الله)، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإن هم أطاعوك لذلك؛ فإياك وكرائم أموالهم، واتقى دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجاب). أخرجاه (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل: كيف يقال: لا معبود إلا الله، والمشركون يعبدون أصنامهم؟!
أجيب: بأنهم يعبدونها بغير حق؛ فهم وإن سموها آلهة؛ فألوهيتها باطلة، وليست معبودات بحق، ولذلك إذا مسهم الضر؛ لجئوا إلى الله تعالى ، وأخلصوا له الدين، وعلى هذا لا تستحق أن تسمى آلهة.(115/100)
فهم يعبدونها ويعترفون بأنهم لا يعبدونها إلا لأجل أن تقربهم إلى الله فقط؛ فجعلوها وسيلة وذريعة، وبهذا التقدير لا يرد علينا إشكال في قول الرسل لقومهم (واعبدوا الله ما لكم من إله غيره)(الأعراف:59)؛ لأن هذه المعبودات لا تستحق أن تعبد، بل الإله المعبود حقاً هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
وفي قوله: (لا إله إلا الله) نفي الألوهية لغير الله ، وإثباتها لله، ولهذا جاءت بطريق الحصر.
* * *
ولهما عن سهل بن سعد (رضي الله عنه) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؛ يفتح الله على يديه). فبات الناس يدوكون ليلتهم؛ أيهم يعطاها، فلما أصبحوا؛ غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كلهم يرجو أن يعطاها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لأعطين)، هذه جملة مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم المقدر، واللام ، والنون، والتقدير: والله لأعطين.
قوله: (الراية)، العلم، وسمي راية؛ لأنه يرى، وهو ما يتخذه أمير الجيش للعلامة على مكانه.
واللواء؛ قيل: إنه الراية، وقيل: ما لوي أعلاه، أو لوي كله؛ فيكون الفرق بينهما: أن الراية مفلولة لا تطوى، واللواء يطوى إما أعلاه أو كله، والمقصود منهما الدلالة، ولهذا يسمى علماً.
قوله: (غداً) ، يراد به ما بعد اليوم، والأمس يراد به ما قبله.
والأصل أنه يراد بالغد ما يلي يومك، ويراد بالأمس الذي يليه يومك، وقد يراد بالغد ما وراء ذلك، قال تعالى: (ولتنظر نفس ما قدمت لغد)(الحشر:18)؛ أي: يوم القيامة.
وكذلك بالأمس قد يراد به ما وراء ذلك؛ أي: ما وراء اليوم الذي يليه يومك.
قوله: (يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله). أثبت المحبة لله من الجانبين، أي أن الله تعالى يحب ويحب، وقد أنكر هذا أهل التعطيل، وقالوا: المراد بمحبة الله للعبد إثابته أو إرادة إثابته، والمراد بمحبة العبد لله محبة ثوابه، وهذا تحريف(115/101)
فقال: (أين علي بن أبي طالب؟). فقيل هو يشتكي عينيه. فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق في عينيه، ودعا له، فبرأ كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية، فقال: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للكلام عن ظاهره مخالف لإجماع السلف من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى من بعدهم، ومحبة الله تعالى ثابتة له حقيقة وهي من صفاته الفعلية، وكل شيء من صفات الله يكون له سبب؛ فهو من الصفات الفعلية، والمحبة لها سبب؛ فقد يبغض الله إنساناً في وقت ويحبه في وقت لسبب من الأسباب.
قوله: (على يديه)، أي يفتح خيبر على يديه، وفي ذلك بشارة بالنصر.
قوله: (يدركون)، أي: يخوضون، وجملة يدركون خبر بات.
قوله: (غدوا على رسول الله)، أي: ذهبوا إليه في الغدوة مبكرين، كلهم يرجو أن يعطاها لينال محبة الله ورسوله.
قوله: (فقال : أين علي؟) ، القائل: الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله: (يشتكي عينيه)، أي : يتألم منهما، ولكنه يشتكي إلى الله ؛ لأن عينيه مريضة.
وقوله: (فأرسلوا إليه): بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله: (فأتى به)، كأنه رضي الله عنه قد عمم على عينيه؛ لأن قوله: (أتي به) أي : يقاد.
وقوله: (كأن لم يكن به وجع)، أي : ليس بهما أثر حمرة ولا غيرها.
قوله: (فبرأ)، هذا من آيات الله الدالة على قدرته وصدق رسوله صلى الله عليه وسلم ، وهذا من مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي رضي الله عنه:
ثم ادعهم إلى الإسلام ، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فوالله؛ لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) (1) (يدركون)؛ أي : يخوضون.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أنه يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله؛ لتخصيص النبي صلى الله عليه وسلم له ذلك من بين سائرالصحابة.(115/102)
قوله: (انفذ على رسلك)، أي: مهلك، مأخوذ من رسل الناقة؛ أي: حليبها يحلب شيئاً فشيئاً، والمعنى: امس هويناً هويناً؛ لأن المقام خطير؛ لأنه يفضى من كمين، واليهود خبثاء أهل غدر.
قوله: (حتى تنزل بساحتهم)، أي: ما يقرب منهم وما حولهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين) (2) .
وهذا إذا كنا على الوصف الذي عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، أما إذا كنا على وصف القومية، فإننا لو نزلنا في أحضانهم؛ فمن الممكن أن يقوموا ونكون في الأسفل.
قوله: (ثم ادعهم)، أي: أهل خيبر، (إلى الإسلام)؛ أي: الاستسلام لله.
قوله: (وأخبرهم بما يجب عليهم)، أي: فلا تكفي الدعوة إلى الإسلام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فقط، بل يخبرهم بما يجب عليهم فيه حتى يقتنعوا به ويلتزموا ، لكن على الترتيب الذي في حديث بعث معاذ.
وهذه المسألة يتردد الإنسان فيها: هل يخبرهم بما يجب عليهم من حق الله في الإسلام قبل أن يسلموا أو بعده؟
فإذا نظرنا إلى ظاهر حديث معاذ وحديث سهل هذا؛ فإننا نقول: الأولى أن تدعوه للإسلام، وإذا أسلم تخبره.
وإذا نظرنا إلى واقع الناس الآن، وأنهم لا يسلمون عن اقتناع؛ فقد يسلم، وإذا أخبرته ربما يرجع، قلنا: يخبرون أولاً بما يجب عليهم من حق الله فيه؛ لئلا يرتدوا عن الإسلام بعد إخبارهم بما يجب عليهم، وحينئذ يجب قتلهم لأنهم مرتدون.
ويحتمل أن يقال: تترك هذه المسألة للواقع وما تقتضيه المصلحة من تقديم هذا أو هذا.
قوله: (لأن يهدي الله)، اللام واقعة في جواب القسم، وأن بفتح الهمزة مصدرية، ويهدي مؤول بالمصدر مبتدأ، و(خير): خبر، ونظيرها قوله تعالى: (وإن تصوموا خير لكم)(البقرة:184).
قوله: (حمر النعم) بتسكين الميم: جمع أحمر، وبالضم: جمع حمار، والمراد الأول.
وحمر النعم: هي الإبل الحمراء، وذكرها لأنها مرغوبة عند العرب، وهي أحسن وأنفس ما يكون من الإبل عندهم.(115/103)
وقوله: (لأن يهدي الله بك)، ولم يقل: لأن تهدي؛ لأن الذي يهدي هو الله.
* فيه مسائل :
الأول : أن الدعوة إلى الله من أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم الثانية : التنبيه على الإخلاص؛ لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق؛ فهو يدعو إلى نفسه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمراد بالهداية هنا هداية التوفيق والدلالة.
وهل المراد الهداية من الكفر إلى الإسلام، أو يعم كل هداية؟
نقول: هو موجه إلى قوم يدعوهم إلى الإسلام، وهل نقول: إن القرينة الحالية تقتضي التخصيص، وأن من اهتدى على يديه رجل في مسألة فرعية من مسائل الدين لا يحصل له هذا الثواب بقرينة المقام؛ لأن علياً موجه إلى قوم كفار يدعوهم إلى الإسلام، والله أعلم
* * *
فيه مسائل :
* الأولى : أن الدعوة إلى الله طريق من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتؤخذ من قوله تعالى: (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني).
* الثانية: التنبيه على الإخلاص ، وتؤخذ من قوله: (أدعو إلى الله) ، ولهذا قال: (لأن كثيراً من الناس لو دعا إلى الحق؛ فهو يدعو إلى نفسه)؛ فالذي يدعو إلى الله هو الذي لا يريد إلا أن يقوم دين الله، والذي يدعو إلى
الثالثة: أن البصيرة من الفرائض . الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهاً لله تعالى عن المسبة. الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة لله. السادسة: وهي من أهمها: إبعاد المسلم عن المشركين؛ لئلا يصير منهم ، ولو لم يشرك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نفسه هو الذي يريد أن يكون قوله هو المقبول، حقاً كان أم باطلاً.
* الثالثة: أن البصيرة من الفرائض، وتؤخذ من قوله تعالى: (أدعو إلى الله على بصيرة)، ووجه كون البصيرة من الفرائض ؛ لأنه لا بد للداعية من العلم بما يدعو إليه، والدعوة فريضة؛ فيكون العلم بذلك فريضة.(115/104)
* الرابعة: من دلائل حسن التوحيد كونه تنزيهاً لله عن المسبة، وتؤخذ من قوله تعالى : (سبحان الله وما أنا من المشركين)، فسبحان الله دليل على أنه واحد لكماله.
ومعنى عن المسبة؛ أي: وعن مماثلة الخالق للمخلوق؛ إذ تمثيل الكامل بالناقص يجعله ناقصاً.
قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا؟
* الخامسة: أن من قبح الشرك كونه مسبة الله، وتؤخذ من قوله تعالى: (وما أنا من المشركين) بعد قوله: (وسبحان الله).
* السادسة ـ وهي من أهمها ـ: إبعاد المسلم عن المشركين؛ لئلا يصير منهم، ولو لم يشرك. لقوله تعالى: (وما أنا من المشركين)، ولم يقل (وما أنا
السابعة: كون التوحيد أول واجب. الثامنة: أنه يبدأ به قبل كل شيء، حتى الصلاة. التاسعة: أن معنى: (أن يوحدوا الله): معنى شهادة أن لا إله إلا الله. العاشرة: أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب وهو لا يعرفها، أو يعرفها ولا يعمل بها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشرك)؛ لأنه إذا كان بينهم ، ولو لم يكن مشرك ؛ فهو في الظاهر منهم ، و لهذا لما قال الله للملائكة : ( اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ)(البقرة: من الآية34)؛ توجه الخطاب له و لهم .
· · السابعة : كون التوحيد أول واجب ، تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه : شهادة أن لا إله إلا الله ) ، و في رواية : ( أن يوحدوا الله ) .
و قال بعض العلماء : أول واجب النظر ، لكن الصواب أن أول واجب هو التوحيد؛ لأن معرفة الخالق دلت عليها الفطرة .
· · الثامنة: أن يبدأ به قبل كل شئ تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم:(ادعهم إلى الإسلام ، و أخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ) .(115/105)
· · التاسعة : أن معنى أن يوحدوا الله معنى شهادة أن لا إله إلا الله ، تؤخذ من تعبير الصحابي حيث عبر في الرواية بقوله : ( شهادة أن لا إله إلا الله ) ، و في رواية عبر بقوله : ( أن يوحدوا الله ) .
· · العاشرة : أن الإنسان قد يكون من أهل الكتاب و هو لا يعرفها أو يعرفها و لا يعمل بها ، و مراده : ( لا يعرفها ، أو لا يعرفها ) شهادة أن لا إله إلا الله ، و تؤخذ من قوله : ( فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله ) ؛ إذ لو
الحادية عشرة : التنبيه على التعليم بالتدريج . الثانية عشرة : البداءة بالأهم فالأهم . الثالثة عشرة : مصرف الزكاة . الرابعة عشرة : كشف العالم الشبهة عن المتعلم . الخامسة عشرة : النهي عن كرائم الأموال . السادسة عشرة : اتقاء دعوة المظلوم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانوا يعرفون لا إله إلا الله و يعملون بها ما احتاجوا إلى الدعوة إليها .
· · الحادية عشرة : التنبيه على التعليم بالتدريج . تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : ( ادعهم إلى أن يوحدوا الله ، فإن هم أطاعوك لذلك ؛ فأعلمهم أن الله افترض عليهم … ) إلخ الحديث .
· · الثانية عشرة : البداءة بالأهم فالأهم . تؤخذ من أمره صلى الله عليه وسلم معاذا بالتوحيد ليدعو إليه أولا ، ثم الصلاة ، ثم الزكاة .
· · الثالثة عشرة : مصرف الزكاة . تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم : (فترد على فقرائهم ) .
· · الرابعة عشرة كشف العالم الشبهة عن المتعلم . المراد بالشبهة هنا : شبهة العلم ؛ أي : يكون عنده جهل .
تؤخذ من قوله : ( إن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) ، فبين أن هذه الصدقة تؤخذ من الأغنياء ، و أن مصرفها الفقراء
· · الخامسة عشرة : النهي عن كرائم الأموال . تؤخذ من قوله : ( فإياك وكرائم الأموالهم ) ؛ إذ إياك تفيد التحذير ، و التحذير يستلزم النهي .(115/106)
· · السادسة عشرة : اتقاء دعوة المظلوم . تؤخذ من قوله : ( و اتق دعوة
السابعة عشرة : الإخبار بأنها لا تحجب . الثامنة عشرة : من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين و سادات الأولياء من المشقة و الجوع و الوباء . التاسعة عشرة : قوله : ( لأعطين الراية … ) إلخ : علم من أعلام النبوة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* السابعة عشرة : الإخبار بأنها لا تحجب . تؤخذ من قوله : ( فإنه ليس بينها و بين الله حجاب ) ؛ فقرن الترغيب أو الترهيب بالأحكام ، مما يحث النفس إن كان ترغيبا ، و يبعدها و يزجرها إن كان ترهيبا ؛ لقوله : ( اتق دعوة المظلوم )؛ فالنفس قد لا تتقي ، لكن إذا قيل : بينها و بين الله الحجاب ؛ خلفت و نفرت من ذلك .
* الثامنة عشرة : من أدلة التوحيد ما جرى على سيد المرسلين و سادات الأولياء من المشقة و الجوع و الوباء . و الظاهر أن المؤلف رحمه الله يريد الإشارة إلى قصة خبير ؛ إذ وقع فيها في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم جوع عظيم ، حتى إنهم أكلوا الحمير و الثوم ، و أما الوباء ؛ فهو ما وقع في عهد على رضي الله عنه ، و أما المشقة فظاهرة .
ووجه كون ذلك من أدلة التوحيد : أن الصبر و التحمل في مثل هذه الأمور يدل على إخلاص الإنسان في توحيده و أن قصده الله ، و لذلك صبر على البلاء .
* التاسعة عشرة : قوله : ( لأعطين الراية ) علم من أعلام النبوة . لأن هذا حصل فعلي بن أبي طالب يحب الله و رسوله ، و يحبه الله و رسوله .
العشرون : تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا . الحادية و العشرون : فضيلة علي رضي الله عنه . الثانية و العشرون : فضل الصحابه في دوكهم تلك الليلة و شغلهم عن بشارة الفتح . الثالثة و العشرون :الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها و منعها عمن سعى . الرابعة و العشرون : الأدب في قوله : ( على رسلك ) . الخامسة و العشرون : الدعوة إلى الإسلام قبل القتال .(115/107)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* العشرون : تفله في عينيه علم من أعلامها أيضا . لأنه بصق في عينيه ؛ فبرأ كأن لم يكن به وجع .
* الحادية و العشرون : فضيلة علي بن أبي طالب رضي الله عنه . و هذا ظاهر ؛ لأنه يحب الله و رسوله ، و يحبه الله و رسوله .
* الثانية و العشرون : فضل الصحابة في دوكهم تلك الليلة و شغلهم عن بشارة الفتح . لأنهم انشغلوا عن بشارة الفتح بالتماسهم معرفة من يحب الله و رسوله ، و يحبه الله و رسوله .
*الثالثة و العشرون : الإيمان بالقدر لحصولها لمن لم يسع لها و منعها عمن سعى . لأن الصحابة غدوا على رسول الله مبكرين ، كلهم يرجو أن يعطاها و لم يعطوها ، و علي بن أبي طالب مريض و لم يسع لها ، و مع ذلك أعطي الراية .
* الرابعة و العشرون : الأدب في قوله : ( على رسلك ) . ووجهه : أنه أمره بالتمهل و عدم التسرع .
* الخامسة و العشرون : الدعوة إلى الإسلام قبل القتال . لقوله : ( انزل
السادسة و العشرون : أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك و قوتلوا . السابعة و العشرون : الدعوة بالحكمة ؛ لقوله : ( أخبرهم بما يجب عليهم ) . الثامنه و العشرون : ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد . الثلاثون : الحلف على الفتيا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام ) .
· · السادسة و العشرون : أنه مشروع لمن دعوا قبل ذلك و قوتلوا .
· · السابعة و العشرون : الدعوة بالحكمة ؛ لقوله : ( أخبرهم بما يجب عليهم). لأن من الحكمة أن تتم الدعوة ، و ذلك بأن تأمره بالإسلام أولا ، ثم تخبره بما يجب عليه من حق الله ، و لا يكفي أن تأمره بالإسلام ؛ لأنه قد يطبق هذا الإسلام الذي أمرته به و قد لا يطبقه ، بل لابد من تعاهده حتى لا يرجع إلى الكفر.
· · الثامنة عشرة : المعرفة بحق الله في الإسلام . تؤخذ من قوله : (وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه ).(115/108)
· · التاسعة و العشرون : ثواب من اهتدى على يديه رجل واحد . لقوله : (لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير من حمر النعم ) ؛ أي : خير لك من كل ما يستحسن في الدنيا ، و ليس المعنى كما قال بعضهم : خير لك من أن تتصدق بنعم حمر .
· · الثلاثون : الحلف على الفتيا . لقوله : ( فو الله لأن يهدي الله … ) إلخ ؛ فأقسم النبي صلى الله عليه وسلم و هو لم يستقسم ، و الفائدة هي حثه على أن يهدي الله به والتوكيد عليه .
………………………………………………………………………….
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن لا ينبغي الحلف على الفتيا إلا لمصلحة و فائدة ؛ لأنه قد يفهم السامع المفتي لم يحلف إلا لشك عنده .
والإمام أحمد رحمه الله أحيانا يقول في إجابته : إي و الله ، و قد أمر الله رسوله بالحلف في ثلاثة مواضع من القرآن :
في قوله تعالى : (وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هو قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقّ) (يونس: من الآية 53) وفي قوله تعالى : (زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنّ)(التغابن: من الآية7) في قوله تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ )(سبأ: من الآية3)
فأذا كان في القسم مصلحة ابتداء ، أو جوابا لسؤال ؛ جاز و ربما يكون مطلوبا .
* * *
باب تفسير التوحيد و شهادة أن لا إله إلا الله
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التفسير معناه : الكشف ة الإيضاح ، مأخوذ من قولهم : فسرت الثمرة قشرها ، ومن قول الإنسان : فسرت ثوبي ؛ فاتضح ما وراءه ، و منه تفسير القرآن الكريم .
و التوحيد تقدم تعريفه ([1][1])، و المراد به هنا اعتقاد أن الله واحد في ألوهيته .
و قوله : ( شهادة أن لا إله إلا الله ) ، معطوف على التوحيد ؛ أي : و تفسيرشهادة أن لا إله إلا الله(115/109)
و العطف هنا من باب عطف المترادفين ؛ لأن التوحيد حقيقة هو شهادة أن لا إله إلا الله
و هذا الباب مهم لأنه لما سبق الكلام على التوحيد و فضله و الدعوة إليه ، كأن النفس الآن اشرأبت إلى بيان ما هو هذا التوحيد الذي بوب له هذه الأبواب ( وجوبه ، و فضله ، و الدعوة إليه ) .
فيجاب بهذا الباب ، و هو تفسير التوحيد ، و قد ذكر المؤلف خمس آيات :
وقول الله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ)(الاسراء: من الآية57).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الآية الأولي : قوله تعالى : ( أولئك ) . ( أولاء ) : مبتدأ .
( الذين ) : اسم موصول بدل منه .
( يدعون ) : صله الموصول .
و جمله ( يبتغون ) : خبر المبتدأ ؛ أي : هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء هم أنفسهم يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ؛ فكيف تدعونهم و هم محتاجون مفتقرون ؟ ! فهذا سفه في الحقيقة ، و هذا ينطبق على كل من دعي ، و هو داع ؛ كعيسى بن مريم ، و الملائكة ، و الأولياء ، و الصالحين ، و أما الشجر و الحجر؛ فلا يدخل في الآية .
فهؤلاء الذين زعمتم أنهم أولياء من دون الله لا يملكون كشف الضر و لا تحويله من مكان إلى مكان ؛ لأنهم هم بأنفسهم يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ، و قد قال تعالى مبنيا حال هؤلاء المدعون : ( وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ* إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر:13-14).
قوله : ( يدعون ) ؛ أي : دعاء مسألة ؛ كمن يدعو عليا عند وقوعهم في الشدائد ، و كمن يدعو النبي صلى الله عليه وسلم يقول :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم(115/110)
و قوله : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ* إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي)(الزخرف: من الآية27)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و قد يكون دعاء عبادة ؛ كمن يتذلل لهم بالتقرب ، و النذر ، و الركوع ، و السجود .
قوله : ( يبتغون ) : يطلبون .
قوله : ( الوسيلة ) ؛ أي : الشيء الذي يوصلهم إلى الله ؛ يعني : يطلبون ما يكون وسيلة إلى الله ـ سبحانه و تعالى ـ أيهم أقرب إلى الله ، و كذلك أيضا يرجون رحمته و يخافون عذابه .
* وجه مناسبة الآية للباب باب تفسير التوحيد و شهادة أن لا إله إلا الله :
أن التوحيد يتضمن البراءة من الشرك ، بحيث لا يدعو مع الله أحدا ؛ لا ملكا مقربا ، و لا نبيا مرسلا ، و هؤلاء الذين يدعون الأنبياء و الملائكة لم يتبرؤا من الشرك ، بل هم واقعون فيه ، ومن العجب أنهم يدعون من هم في حاجة إلى ما يقربهم إلى الله تعالى ؛ فهم غير مستغنين عن الله بأنفسهم ؛ فكيف يغنون غيرهم ؟!
الآية الثانية و الثالثة: قوله تعالى: ( وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه …)الآيتين.
قوله : ( براء ) : على وزن فعال ، و هي صفة مشبهة من التبرؤ ، وهو التخلي ؛ أي : إنني متخل غاية التخلي عما تعبدون إلا الذي فطرني ، و إبراهيم عليه الصلاة و السلام قوي في ذات الله ، فقال ذلك معلنا به لأبيه و قومه ، و أبوه هو آزر (1).
………………………………………………………………………….
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( تعبدون ) : العبادة هنا التذلل و الخضوع ؛ لأن في قومه من يعبد الأصنام ، و منهم من يعبد الشمس و القمر و الكواكب .(115/111)
قوله : ( إلا الذي فطرني ) : جمع بين النفي و الإثبات ؛ فالنفي : ( براء مما تعبدون ) ، و الإثبات : ( إلا الذي فطرني ) ؛ فدل على أن التوحيد لا يتم إلا بالكفر بما سوى الله و الإيمان بالله وحده ، ( فمن يكفر بالطاغوت و يؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى ) ( البقرة : 256) ، و هؤلاء يعبدون الله و يعبدون غيره؛ لأنه قال : ( إلا الذي فطرني )، و الأصل في الاستثناء الاتصال إلا بدليل ، و مع ذلك تبرأ منهم .
وكذا يوجد في بعض البلدان الإسلامية من يصلي و يزكي و يصوم و يحج ، و مع ذلك يذهبون إلى القبور يسجدون لها و يركعون ؛ فهم كفار غير موحدين ، ولا يقبل منهم أي عمل ، و هذا من أخطر ما يكون على الشعوب الإسلامية ؛ لأن الكفر بما سوى الله عندهم ليس بشيء ، و هذا جهل منهم ، و تفريط من علمائهم ؛ لأن العامي لا يأخذ إلا من عالمه ، لكن بعض الناس ـ و العياذ بالله ـ عالم دولة لا عالم ملة .
و في قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: ( إلا الذي فطرني ) ، و لم يقل إلا الله فائدتان :
الأولى : الإشارة إلى علة إفراد الله و بالعبادة ؛ لأنه كما أنه منفرد بالخلق؛ فيجب أن يفرد بالعبادة .
الثانية : الإشارة إلى بطلان الأصنام ؛ لأنها لم تفطركم حتى تعبدوها ؛ ففيها تعليل للتوحيد الجامع بين النفي والإثبات ، و هذه من البلاغة التامة في تعبيرإبراهيم عليه السلام .
يستفاد من الآية أن الآية أن التوحيد لا يحصل بعبادة الله مع غيره ، بل لابد من
و قوله:(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ) (التوبة:من الآية31).
.ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إخلاصه لله ، و الناس في هذا المقام ثلاثة أقسام :
قسم يعبد الله وحده .
قسم يعبد غيره فقط .
قسم يعبد الله و غيره .
والأول فقط هو الموحد .
* * *(115/112)
* الآية الرابعة : قوله تعالى:( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله …) الآية.
قوله : ( أحبارهم ) : و المعطوف عليها المفعول الأول ل (اتخذوا ) ، و الثاني: ( أربابا ) ؛ أي : هؤلاء اليهود و النصارى صيروا أحبارهم ورهبانهم أربابا.
و الأحبار : جمع حبر ، و هو العالم ، و يقال للعالم أيضا بحر لكثرة علمه . والحبر ؛ بفتح الحاء ، و كسرها يقال : حَبر ، و حبر .
قوله تعالى : ( ورهبانهم )؛ أي : عبادهم .
قوله : ( أربابا ) : جمع رب ، أي يجعلونها أربابا من دون الله ؛ فيجعلوا الأحبار أربابا لأنهم يأتمرون بأمرهم في مخالفة أمر الله ، فيطيعونهم في معصية الله .
و جعلوا الرهبان أربابا باتخاذهم أولياء يعبدونهم من دون الله .
قوله : ( من دون الله ) ؛ أي : من غير الله .
قوله : ( والمسيح ابن مريم ) : معطوف على أحبارهم ؛ أي : اتخذوا المسيح
وقوله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ )(البقرة: من الآية165).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن مريم أيضاً رباً حيث قالوا: إنه ثالث ثلاثة.
قوله: (إلا ليعبدون؛ أي: يتذللوا بالطاعة لله وحده، الذي خلق المسيح والأحبار والرهبان والسماوات والأرض.
قوله: (لا إله إلا هو)؛ أي: لا معبود حق إلا هو.
قوله: (سبحانه): تنزيه لله عما يشركون.
وجه كون هذه الآية تفسيراً للتوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله: أن الله أنكر عليهم اتخاذ الأحبار والرهبان أرباباً من دون الله، وهذه الآية سيأتي فيها ترجمة كاملة في كلام المؤلف رحمه الله؛ فهؤلاء جعلوا الأحبار شركاء في الطاعة، كلما أمروا بشيء أطاعوهم، سواء وافق أمر الله أم لا.
إذاً؛ فتفسير التوحيد أيضاً بلا إله إلا الله يستلزم أن تكون طاعتك لله وحده، ولهذا على الرغم من تأكيد النبي صلى الله عليه وسلم لطاعة ولاة الأمر؛ قال: (إنما الطاعة في المعروف) (1) .(115/113)
* * *
* الآية الخامسة: قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ . . . ) الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من الناس): من للتبعيض، وعلامتها أن يصح أن يحل محلها بعض، والجار والمجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم، و(من يتخذ) مبتدأ مؤخر، أي من يجعل لله أنداداً، ومفعولها الأول (أنداداً) مؤخراً، ومفعولها الثاني (من دون الله) مقدماً.
وقوله: (يتخذ) : جاءت بالإفراد مراعاة للفظ (من).
وقوله: (يحبونهم): بالجمع مراعاة للمعنى.
وقوله: (أنداداً): جمع ند، وهو الشبيه والنظير، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له ما شاء الله وشئت : (أجعلتني لله نداً ؟! بل ما شاء الله وحده) (1) .
وقوله: (يحبونهم كحب الله): هذا وجه المشابهة؛ أي: الندية في المحبة يحبونهم كحب الله.
واختلف المفسرون في قوله: (كحب الله):
فقيل: يجعلون محبة الأصنام مساوية لمحبة الله، فيكون في قلوبهم محبة لله ومحبة للأصنام، ويجعلون محبة الأصنام كمحبة الله؛ فيكون المصدر مضافاً إلى مفعوله، أي يحبون الأصنام كحبهم الله.
وقيل: يحبون هذه الأصنام محبة شديدة كمحبة المؤمنين لله.
وسياق هذه الآية يؤيد القول الأول.
وقوله: (والذين آمنوا أشد حباً لله).
على الرأي الأول يكون معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لله ؛ لأن محبة المؤمنين خالصة ، ومحبة هؤلاء شرك بين الله وبين أصنامهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى الرأي الثاني معناها: والذين آمنوا أشد حباً لله من هؤلاء لأصنامهم؛ لأن محبة المؤمنين ثابتة في السراء والضراء على برهان صحيح، بخلاف المشركين ؛ فإن محبتهم لأصنامهم تتضاءل إذا مسهم الضر.(115/114)
فما بالك برجل يحب غير الله أكثر من محبته لله ؟ ! وما بالك برجل يحب غير الله ولا يحب الله ؟ ! فهذا أقبح وأعظم ، وهذا موجود في كثير من المنتسبين للإسلام اليوم، فإنهم يحبون أولياءهم أكثر مما يحبون الله، ولهذا لو قيل له: احلف بالله؛ حلف صادقاً أو كاذباً ، أما الولي ؛ فلا يحلف به إلا صادقاً.
وتجد كثيراً منهم يأتون إلى مكة والمدينة ويرون أن زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من زيارة البيت؛ لأنهم يجدون في نفوسهم حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم كحب الله أو أعظم ، وهذا شرك؛ لأن الله يعلم أننا ما أحببنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لحب الله، ولأنه رسول الله، ما أحببناه لأنه محمد بن عبدالله لكننا أحببناه لأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فنحن نحبه بمحبة الله، لكن هؤلاء يجعلون محبة الله تابعة لمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم إن أحبوا الله.
فهذه الآية فيها محنة عظيمة لكثير من قلوب المسلمين اليوم الذين يجعلون غير الله مثل الله في المحبة، وفيه أناس أيضاً أشركوا بالله في محبة غيره، لا على وجه العبادة الشرعية؛ لكن على وجه العبادة المذكورة في الحديث (1) ، وهي محبة الدرهم والدينار والخميصة والخميلة ، يوجد أناس لو فتشت عن قلوبهم؛ لوجدت قلوبهم ملأى من محبة متاع الدنيا، وحتى هذا الذي جاء يصلي هو في المسجد لكن قلبه مشغول بما يحبه من أمور الدنيا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/115)
فهذا نوع من أنواع العبادة في الحقيقة، ولو حاسب الإنسان نفسه لماذا خلق؟ لعلم أنه خلق لعبادة الله، وأيضاً خلق لدار أخرى ليست هذه الدار؛ فهذه الدار مجاز يجوز الإنسان منها إلى الدار الأخرى، الدار التي خلق لها والتي يجب أن يعنى بالعلم لها، يا ليت شعري متى يوماً من الأيام فكر الإنسان ماذا عملت ؟ وكم بقي لي في هذه الدنيا؟ وماذا كسبت؟ الأيام تمضي ولا أدري هل أزددت قرباً من الله أو أم بعداً من الله؟ هل نحاسب أنفسنا عن هذا الأمر؟
فلابد لكل إنسان عاقل من غاية؛ فما هي غايته؟
نحن الآن نطلب العلم للتقرب إلى الله بطلبه، وإعلام أنفسنا، وإعلام غيرنا؛ فهل نحن كلما علمنا مسألة من المسائل طبقناها؟ نحن على كل حال نجد في أنفسنا قصوراً كثيراً وتقصيراً ، وهل نحن إذا علمنا مسألة ندعو عباد الله إليها؟
هذا أمر يحتاج إلى محاسبة، ولذلك؛ فإن على طالب العلم مسؤولية ليست هينة، عليه أكثر من زكاة المال؛ فيجب أن يعلم ويتحرك ويبث العلم والوعي في الأمة الإسلامية، وإلا انحرفت عن شرع الله.
قال ابن القيم رحمه الله: كل الأمور تسير بالمحبة؛ فأنت مثلاً لا تتحرك لشيء إلا وأنت تحبه، حتى اللقمة من الطعام لا تأكلها إلا لمحبتك لها.
ولهذا قيل: إن جميع الحركات مبناها على المحبة؛ فالمحبة أساس العمل، فالإشراك في المحبة إشراك بالله.
* والمحبة أنواع :
الأول : المحبة لله، وهذه لا تنافي التوحيد، بل هي من كماله، فأوثق عرى الإيمان: الحب في الله ، والبغض في الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمحبة لله هي أن تحب هذا الشيء؛ لأن الله يحبه، سواء كان شخصاً أو عملاً ، وهذا من تمام التوحيد.
قال مجنون ليلى:
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا(115/116)
الثاني : المحبة الطبيعية التي لا يؤثرها المرء على محبة الله؛ فهذه لا تنافي محبة الله؛ كمحبة الزوجة، والولد ، والمال، ولهذا لما سئل النبي صلى الله عليه وسلم : من أحب الناس إليك؟ قال: (عائشة). قيل: فمن الرجال؟ قال: (أبوها) (1) .
ومن ذلك محبة الطعام والشراب واللباس.
الثالث : المحبة مع الله التي تنافي محبة الله ، وهي أن تكون محبة غير الله كمحبة الله أو أكثر من محبة الله، بحيث إذا تعارضت محبة الله ومحبة غيره قدم محبة غير الله ، وذلك إذا جعل هذه المحبة نداً لمحبة الله يقدمها على محبة الله أو يساويها بها.
الشاهد من هذه الآية: أن الله جعل هؤلاء الذين ساووا محبة الله بمحبة غيره مشركين جاعلين لله أنداداً.
* * *
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ما له ودمه، وحسابه على الله عز وجل) (1) . وشرح هذه الترجمة ما بعدها من الأبواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وفي الصحيح). لم يفصح المؤلف رحمه الله بمراده بالصحيح؛ أهو (صحيح البخاري) أم (صحيح مسلم)، أم أن المراد به الحديث الصحيح؛ سواء كان في (الصحيحين) معاً أم في أحدهما أم في غيرهما، وليس له اصطلاح في ذلك يحمل عليه عند الإطلاق، وعلى هذا يبحث عن الحديث في مظانه، وقد ورد هذا التعبير في سياق المؤلف للحديث في مواضع أخرى، والمراد به هنا (صحيح مسلم).
قوله صلى الله عليه وسلم : (من قال لا إله إلا الله) أي لا معبود حق إلا الله، فلفظ الجلالة بدل من الضمير المستتر في الخبر، ومن يرى أن (لا) تعمل في المعرفة يقولون: هو الخبر.(115/117)
قوله: (وكفر بما يعبد من دون الله)، أن: بعبادة من يعبد من دون الله، قلنا ذلك؛ لأن عيسى بن مريم كان يعبد من دون الله، ونحن نؤمن به، لكن لا نؤمن بعبادته ولا بأنه مستحق للعبادة؛ كما قال تعالى : (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي
* فيه مسائل :
فيه أكبر المسائل وأهمها ، وهي تفسير التوحيد وتفسير الشهادة، وبينها بأمور واضحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَرَبَّكُمْ )(المائدة: 116) .
وفي قوله: (وكفر بما يعبد من دون الله) دليل على أنه لا يكفي مجرد التلفظ بلا إله إلا الله بل لا بد أن تكفر بعبادة من يعبد من دون الله، بل وتكفر أيضاً بكل كفر، فمن يقول: لا إله إلا الله، ويرى أن النصارى واليهود اليوم على دين صحيح؛ فليس بمسلم، ومن يرى الأديان أفكاراً يختار منها ما يريد؛ فليس بمسلم، بل الأديان عقائد مفروضة من قبل الله ـ عز وجل ـ ، يتمشى الناس عليه، ولهذا بنكر على بعض الناس في تعبيره بقوله: الفكر الإسلامي، بل الواجب أن يقال: الدين الإسلامي أو العقيدة الإسلامية، ولا بأس بقول المفكر الإسلامي؛ لأنه وصف للشخص نفسه لا للدين الذي هو عليه.
قوله: (وشرح هذه الترجمة)، المراد بالشرح هنا: التفصيل، والترجمة: هي التعبير بلغة عن لغة أخرى، ولكنها تطلق باصطلاح المؤلفين على العناوين والأبواب، فيقال: ترجم على كذا؛ أي: بوب له.
* * *
قوله: (فيه أكبر المسائل وأهمها، وهي تفسير التوحيد).(115/118)
فتفسير التوحيد أنه لا بد فيه من أمرين:
الأول: نفى الألوهية عما سوى الله ـ عز وجل ـ .
منها أية الإسراء : بين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين ؛ ففيها بيان أن هذا هو الشرك الأكبر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني : إثبات الألوهية لله وحده؛ فلابد من النفي والإثبات لتحقيق التوحيد؛ لأن التوحيد جعل الشيء واحداً بالعقيدة والعمل، وهذا لا بد فيه من النفي والإثبات.
فإذا قلت: زيد قائم؛ أثبت له القيام ولم توحده، لكن إذا قلت: لا قائم إلا زيد؛ أثبت له القيام ووحدته به.
وإذا قلت: الله إله أثبت له الألوهية، لكن لم تنفها عن غيره؛ فالتوحيد لم يتم، وإذا قلت: لا إله إلا الله، أثبت الألوهية لله ونفيتها عما سواه.
قوله: (تفسير الشهادة). الشهادة: هي التعبير عما تيقنه الإنسان بقلبه؛ فقول: أشهد أن لا إله إلا الله؛ أي : أنطلق بلساني معبراً عما يكنه قلبي من اليقين، وهو أنه لا إله إلا الله.
قوله: (منها آية الإسراء) . وهي قوله تعالى: (أولئك الذين يدعون . . . ) (الإسراء: 57)؛ فبين فيها الرد على المشركين الذين يدعون الصالحين، وبين أن هذا هو الشرك الأكبر؛ لأن الدعاء من العبادة، قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60) ؛ فدل على أن الدعاء عبادة، لأن آخر الكلام تعليل لأوله، فكل من دعا أحداً غير الله حياً أو ميتاً ؛ فهو مشرك شركاً أكبر.
ودعاء المخلوق ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
ومنها آية (براءة) : بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
وبين أنهم لم يؤمروا إلا بأن يعبدوا إلهاً واحداً، مع أن تفسيرها الذي لا إشكال فيه طاعة العلماء في المعصية، لا دعاؤهم إياهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/119)
الأول: جائز، وهو أن تدعو مخلوقاً بأمر من الأمور التي يمكن أن يدركها بأشياء محسوسة معلومة؛ فهذا ليس من دعاء العبادة، بل هو من الأمور الجائزة، قال صلى الله عليه وسلم : (وإذا دعاك فأجبه) (1) .
الثاني : أن تدعو مخلوقاً مطلقاً ، سواء كان حياً أو ميتاً فيما لا يقدر عليه إلا الله ؛ فهذا شرك أكبر لأنك جعلته نداً لله فيما لا يقدر عليه إلا الله، مثل: يا فلان اجعل ما في بطن امرأتي ذكراً.
الثالث : أن تدعو مخلوقاً ميتاً لا يجيب بالوسائل الحسية المعلومة؛ فهذا شرك أكبر أيضاً لأنه لا يدعو من كان هذه حاله حتى يعتقد أن له تصرفاً خفياً في الكون.
قوله: (ومنها آية براءة بين فيها أن أهل الكتاب اتخذوا أحبارهم وهبانهم أرباباً من دون الله) . وهذا شرك الطاعة، وهو بتوحيد الربوبية ألصق من توحيد
ومنها قول الخليل عليه السلام للكفار: (إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلا الذي فطرني) (الزخرف:26) فاستثنى من المعبودين ربه.
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله، فقال: (وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الزخرف:28) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الألوهية؛ لأن الحكم شرعياً كان أو كونياً إلى الله تعالى؛ فهو من تمام ربوبيته، قال تعالى: ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ )(الشورى: من الآية10)، وقال تعالى: (له الحكم وإليه ترجعون)(القصص: 70).
والشيخ رحمه الله جعل شرك الطاعة من الأكبر، وهذا فيه تفصيل، وسيأتي إن شاء الله في باب من أطاع الأمراء والعلماء في تحليل ما حرم الله أو بالعكس.
قوله: (ومنها: قول الخليل عليه السلام للكفار: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني)؛ فاستثنى من المعبودين ربه. فدل هذا على أن التوحيد لا بد فيه من نفي وإثبات: البراءة مما سوى الله، وإخلاص العبادة لله وحده.(115/120)
وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي تفسير شهادة أن لا إله إلا الله ؛ فقال: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)، وهي لا إله إلا الله؛ فكان معنى قوله: (إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني) هو معنى قول: لا إله إلا الله.
ومنها آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: (وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ)(البقرة: من الآية167) . ذكر أنهم يحبون أندادهم كحب الله ، فدل على أنهم يحبون الله حباً عظيماً، ولم يدخلهم في الإسلام؛ فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله ؟ ! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله ؟ !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (ومنها: آية البقرة في الكفار الذين قال الله فيهم: (وما هم بخارجين من النار).
فجعل الله المحبة شركاً إذا أحب شيئاً سوى الله كمحبته لله؛ فيكون مشركاً مع الله في المحبة، ولهذا يجب أن تكون محبة الله خالصة لا يشاركه فيها أحد حتى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلولا أنه رسول ما وجبت طاعته ولا محبته إلا كما نحب أي مؤمن، ولا يمنع الإنسان من محبة غير الله ، بل له أن يحب كل شيء تباح محبته؛ كالولد ، والزوجة ، ولكن لا يجعل ذلك كمحبة الله.
قال المؤلف: (فكيف بمن أحب الند أكبر من حب الله ؟! وكيف بمن لم يحب إلا الند وحده ولم يحب الله ؟!).
فالأقسام أربعة:
الأول: أن يحب الله حباً أشد من غيره؛ فهذا هو التوحيد.
الثاني: أن يحب غير الله كمحبة الله، وهذا شرك.
الثالث: أن يحب غير الله أشد حباً من الله، وهذا أعظم مما قبله.
الرابع: أن يحب غير الله وليس في قلبه محبة لله تعالى، وهذا أعظم وأطم.
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم : (من قال: لا إله إلا الله ، وكفر بما يعبد من دون الله؛ حرم ما له ودمه، وحسابه على الله).(115/121)
وهذا من أعظم ما يبين معنى (لا إله إلا الله)؛ فإنه لم يجعل التلفظ بها عاصماً للدم والمال، بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك ، بل ولا كونه لا يدعو إلا الله وحده لا شريك له، بل لا يحرم ماله ودمه حتى يضيف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمحبة لها أسباب ومتعلقات، وتختلف باختلاف متعلقها ، كما أن الفرح يختلف باختلاف متعلقه وأسبابه، فعندما يفرح بالطرب؛ فليس هذا كفرحه بذكر الله ونحوه.
حتى نوع المحبة يختلف، يحب والده ويحب ولده وبينهما فرق، ويحب الله ويحب ولده، ولكن بين المحبتين فرق.
فجميع الأمور الباطنة في المحبة والفرح والحزن تختلف باختلاف متعلقها، وسيأتي إن شاء الله لهذا البحث مزيد تفصيل عند قول المؤلف: (ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً).
قوله:(ومنها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله ) إلخ.
إذاً؛ فلا بد من الكفر بالطاغوت والإيمان بالله، قال تعالى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى)(البقرة: من الآية256).
قوله: (وكفر بما يعبد من دون الله) . أي: كفر بالأصنام، وأنكر أن تكون عبادتها حقاً؛ يكفي أن يقول: لا إله إلا الله ، ولا أعبد صنماً ، بل لا بد أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول: الأصنام التي تعبد من دون الله أكفر بها وبعبادتها.
فمثلاً لا يكفي أن يقول: لا إله إلا الله ولا أعبد اللات، ولكن لا بد أن يكفر بها ويقول: إن عبادتها ليست بحق، وإلا؛ كان مقراً بالكفر.
فمن رضي دين النصارى ديناً دينون الله به؛ فهو كافر لأنه إذا ساوى غير دين الإسلام مع الإسلام؛ فقد كذب قوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)(آل عمران: من الآية85).(115/122)
وبهذا يكون كافراً ، وبهذا نعرف الخطر العظيم الذي أصاب المسلمين اليوم باختلاطهم مع النصارى، والنصارى يدعون إلى دينهم صباحاً ومساءً، والمسلمون لا يتحركون، بل بعض المسلمين الذين ما عرفوا الإسلام حقيقة يلينون لهؤلاء ، (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم:9) ، وهذا من المحنة التي أصابت المسلمين الآن، وآلت بهم إلى هذا الذل الذي صاروا فيه.
* * *
باب من الشرك لبس الحلقة والخيط ونحوهما
لرفع البلاء أو دفعه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من الشرك)، من هنا للتبعيض؛ أي: أن هذا بعض الشرك، وليس كل الشرك، والشرك: اسم جنس يشمل الأصغر والأكبر، ولبس هذه الأشياء قد يكون أصغر وقد يكون أكبر بحسب اعتقاد لابسها، وكان لبس هذه الأشياء من الشرك؛ لأن كل من أثبت سبباً لم يجعله الله سبباً شرعياً ولا قدرياً؛ فقد جعل نفسه شريكاً مع الله.
فمثلاً : قراءة الفاتحة سبب شرعي للشفاء.
وأكل المسهل سبب حسي لانطلاق البطن، وهو قدري؛ لأنه يعلم بالتجارب.
والناس في الأسباب طرفان ووسط:
الأول: من ينكر الأسباب، وهم كل من قال بنفي حكمة الله؛ كالجبرية، والأشعرية.
الثاني: من يغلو في إثبات الأسباب حتى يجعلوا ما ليس بسبب سبباً، وهؤلاء هم عامة الخرافيين من الصوفية ونحوهم.
الثالث: من يؤمن بالأسباب وتأثيراتها، ولكنهم لا يثبتون من الأسباب إلا ما أثبته الله سبحانه ورسوله، سواء كان سبباً شرعياً أو كونياً.
ولا شك أن هؤلاء هم الذين آمنوا إيماناً حقيقياً ، وآمنوا بحكمته؛ حيث ربطوا الأسباب بمسبباتها، والعلل بمعلولاتها، وهذا من تمام الحكمة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولبس الحلقة ونحوها إن اعتقد لابسها أنها مؤثرة بنفسها دون الله؛ فهو مشرك شركاً أكبر في توحيد الربوبية؛ لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً غيره.(115/123)
وإن اعتقد أنها سبباً ولكنه ليس مؤثراً بنفسه؛ فهو مشرك شركاً أصغر لأنه لما اعتقد أن ما ليس بسبب سبباً؛ فقد شارك الله تعالى في الحكم لهذا الشيء بأنه سبب، والله تعالى لم يجعله سبباً.
وطريق العلم بأن الشيء سبب:
إما عن طريق الشرع، وذلك كالعسل ( فيه شفاء للناس)(النحل:69)، وكقراءة القرآن فيها شفاء للناس، قال الله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ )(الاسراء: من الآية82).
وإما عن طريق القدر، كما إذا جربنا هذا الشيء فوجدناه نافعاً في هذا الألم او المرض، ولكن لا بد أن يكون أثره ظاهراً مباشراً كما لو اكتوى بالنار فبريء بذلك مثلاً ؛ فهذا سبب ظاهر بين، وإنما قلنا هذا لئلا يقول قائل: أنا جربت هذا وانتفعت به، وهو لم يكن مباشراً؛ كالحلقة، فقد يلبسها إنسان وهو يعتقد أنها نافعة، فينتفع لان للانفعال النفسي للشيء أثراً بيناً؛ فقد يقرأ إنسان على مريض فلا يرتاح له، ثم يأتي آخر يعتقد أن قراءته نافعة، فيقرأ عليه الآية نفسها فيرتاح له ويشعر بخفة الألم، كذلك الذين يلبسون الحلق ويربطون الخيوط، قد يحسون بخفة الألم أو اندفاعه أو ارتفاعه بناءً على اعتقادهم نفعها.
وخفة الألم لمن اعتقد نفع تلك الحلقة مجرد شعور نفسي، والشعور النفسي ليس طريقاً شرعياً لإثبات الأسباب، كما أن الإلهام ليس طريقاً للتشريع.
وقول الله تعالى : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (لبس الحلقة والخيط)، الحلقة: من حديد أو ذهب أو فضة أو ما أشبه ذلك ، والخيط معروف.
قوله: (ونحوهما)، كالمرصعات، وكمن يصنع شكلاً معيناً من نحاس أو غيره لدفع البلاء، أو يعلق على نفسه شيئاً من أجزاء الحيوانات، والناس كانوا يعلقون القرب البالية على السيارات ونحوها لدفع العين، حتى إذا رآها الشخص نفرت نفسه فلا يعين.(115/124)
قوله: (لرفع البلاء، أو دفعه)، الفرق بينهما: أن الرفع بعد نزول البلاء، والدفع قبل نزول البلاء.
وشيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب لا ينكر السبب الصحيح للرفع أو الدفع، وإنما ينكر السبب غير الصحيح.
* * *
وقول الله تعالى: (أفرأيتم)؛ أي: أخبروني، وهذا تفسير باللازم؛ لأن من رأى أخبر، وإلا؛ فهي استفهام عن رؤية، قال تعالى: (أرأيت الذي يكذب بالدين)(الماعون:1)؛ أي: أخبرني ما حال من كذب بالدين؟ وهي تنصب مفعولين: الأول مفرد، والثاني جملة استفهامية.
وقوله: (ما)، المفعول الأول لرأيتم، والمفعول الثاني جملة: (إن أرادني الله بضر).
بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ)(الزمر: من الآية38).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (تدعون)، المراد بالدعاء دعاء العبادة ودعاء المسألة؛ فهم يدعون هذه الأصنام دعاء عبادة، فيتعبدون لها بالنذر والذبح والركوع والسجود، ويدعونها دعاء مسألة لدفع الضرر أو جلب النفع.
فالله سبحانه إذا أراد ضراً لا تستطيع الأصنام أن تكشفه، وإن أراده برحمة لا تستطيع أن تمسك الرحمة؛ فهي لا تكشف الضرر ولا تمنع النفع؛ فلماذا تعبد ؟!
وقوله: (كاشفات)، يشمل الدفع والرفع؛ فهي لا تكشف الضر بدفعه وإبعاده، ولا تكشفه برفعه وإزالته.
وقوله: (قل حسبي الله)، أي: كافيني، والحسب: الكفاية، ومنه قوله تعالى: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَاباً) (النبأ:36)، من الحسب، وهو الكفاية، وحسبي: مبتدأ، ولفظ الجلالة خبر، وهذا أبلغ.
وقيل العكس، والراجح الأول؛ لوجهين:
الأول: أن الأصل عدم التقديم والتأخير.
الثاني: أن قولك: حسبي الله فيه حصر الحسب في الله، أي حسبي الله لا غيره؛ فهو كقولك: لا حسب لي إلا الله ، بخلاف قولك: الله حسبي؛ فليس فيه الحصر المذكور؛ فلا يدل على حصر الحسب في الله.
قوله: (عليه يتوكل المتوكلون) . قدم الجار والمجرور لإفادة الحصر؛ لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.(115/125)
والمعنى ان المتوكل حقيقة هو المتوكل على الله، أما الذي يتوكل على الأصنام والأولياء والأضرحة؛ فليس بمتوكل على الله تعالى.
عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في يده حلقة من صفر، فقال: (ما هذه)؟ قال: من الواهنة. فقال: (انزعها؛ فإنها لا تزيدك إلا وهناً، فإنك لو مت وهي عليك؛ ما أفلحت أبداً). رواه أحمد بسند لا بأس به (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا لا ينافي أن يوكل الإنسان إنساناً في شيء ويعتمد عليه؛ لأن هناك فرقاً بين التوكل على الإنسان الذي يفعل شيئاً بأمرك، وبين توكلك على الله؛ لأن توكلك على الله اعتقادك أن بيده النفع والضر، وأنك متذلل ، معتمد عليه، مفتقر إليه، مفوض أمرك إليه.
والشاهد من هذه الآية: أن الأصنام لا تنفع أصحابها لا بجلب نفع و لا بدفع ضر ؛ فليست أسباب لذلك ، فيقاس عليها كل ما ليس بسبب شرعي أو قدري ؛ فيعتبر اتخاذه سببا إشراكا بالله .
و هناك شاهد آخر في قوله : ( حسبي الله ) ؛ فإن فيه تفويض الكفاية إلى الله دون الأسباب الوهمية ، و أما الأسباب الحقيقة ؛ فلا ينافي تعاطيها توكل العبد على الله تعالى و تفويض الأمر إليه ؛ لأنها من عنده .
* * *
………………………………………………………………………….
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في عمران : (رأى رجلا ) . لم يبين اسمه ؛ لأن المهم بيان القضية و حكمها ، لكن ورد ما يدل على أنه عمران نفسه ، لكنه أبهم نفسه .
قوله : ( حلقة من صفر ، فقال : ماهذا ؟ قال : من الواهنة ) ، و الحلقة و الصفر معروفان ، و أما الواهنة ؛ فوجع في الذراع أو العضد .
( ما أفلحت ) : الفلاح هو النجاة من المرهوب و حصول المطلوب .
هذا الحديث مناسب للباب مناسبة تامة ؛ لأن هذا الرجل لبس حلقة من صفر؛ إما لدفع البلاء أو لرفعه .(115/126)
و الظاهر أنه لرفعه ؛ لقوله : ( لا تزيدك إلا و هنا ) ، و الزيادة تكون مبنية على أصل .
ففي الحديث دليل على عدة فوائد :
1-أنه ينبغي لمن أراد إنكار المنكر أن يسأل أولا عن الحال ؛ لأنه قد يظن ماليس بمنكرا ، و دليله أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال : ( ما هذه ) .
و الاستفهام هنا للاستعلام فيما يظهر و ليس للإنكار ، و قول الرجل : ( من الواهنة ) : من للسببية ؛ أي : لبستها بسب الواهنة ، و هي مرض يوهن الإنسان و يضعفه، قد يكون في الجسم كله و قد يكون في بعض الأعضاء كما سبق .
2-وجوب إزالة المنكر ؛ لقوله : ( انزعها ) ، فامره بنزعها ؛ لأن لبسها منكر ، و أيد ذلك بقوله : ( إنها لا تزيدك إلا و هنا ) ؛ أي : و هنا في النفس لا في الجسم ، وربما تزيده و هنا في الجسم ، أما وهن النفس ؛ فلأن الإنسان إذا تعلقت نفسه بهذه الأمور ضعفت و اعتمدت عليها و نسيت الاعتماد على الله ـ عز وجل ـ والانفعال النفسي له أثر كبير في إضعاف الإنسان ؛ فأحيانا يتوهم الصحيح أنه مريض فمريض ، و أحيانا يتناسى الإنسان المرض وهو مريض
وله عن عقبة بن عامر مرفوعا : ( من تعلق تميمة ؛ فلا أتم الله له و من تعلق ودعة ؛ فلاودع الله له ) (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيصبح صحيحا ؛ فانفعال النفس بالشيء له أثر بالغ ، و لهذا تجد بعض الذين يصابون بالأمراض النفسية يكون أصل إصابتهم ضعف النفس من أول الأمر ، حتى يظن الإنسان أنه مريض بكذا أو بكذا ؛ فيزداد عليه الوهم حتى يصبح الموهوم حقيقة .
فهذا الذي لبس الحلقة من الواهنة لا تزيده إلا و هنا ؛ لأنه سوف يعتقد أنها مادامت عليه فهو سالم فإذا نزعها عاد إليه الوهن ، وهذا بلا شك ضعف في النفس.
3-أن الأسباب التي لا أثر لها يقتضى الشرع أو العادة أو التجربة لا ينتفع بها الإنسان .(115/127)
4-أن لبس الحلقة و شبهها لدفع البلاء أو رفعه من الشرك ؛ لقوله : ( لو مت و هي عليك ما أفلحت أبدا ) ، و انتفاء الفلاح دليل على الخيبة و الخسران . و لكن هل هذا شرك أكبر أو أصغر؟
سبق لنا عند الترجمة أنه يختلف بحسب اعتقاد صاحبه .
5-أن الأعمال بالخواتيم ؛ لقوله : ( لو مت و هي عليك )؛ فعرف أنه لو أقلع عنها قبل الموت لم تضر لأن الإنسان إذا تاب قبل ان يموت صار كمن لا ذنب له .
* * *
وفي رواية : ( من تعلق تميمة ؛ فقد أشرك ) (1)
ولابن أبي حاتم عن حذيفة : ( أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى ، وتلا قوله : (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف:106).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( من تعلق تميمة ) : أي : علق بها قلبه و اعتمد عليها في جلب النفع ودفع الضرر . و التميمة : شيء يعلق على الأولاد من خرز أو غيره يتقون به العين .
وقوله : (فلا أتم الله له ) . الجمله خبرية بمعنى الدعاء ، و يحتمل أن تكون خبرية محضة ، و كلا الاحتمالين دال على أن التميمة محرمة ، سواء نفى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتم الله له أودعا بأن لا يتم الله له ؛ فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم أراد به الخبر فإننا نخبر بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم ، و إلا ؛ فإننا ندعو بما ندعو بما دعا به الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن تعلق ودعة ؛ فلا ودع الله له) .
والودعة : واحدة الودع، وهي أحجار تؤخذ من البحر يعلقونها لدفع العين، ويزعمون أن الإنسان إذا علق هذه الودعة لم تصبه العين ، أو لا يصبه الجن .
قوله : ( لا ودع الله له ) ، أي : لا تركه الله في دعة و سكون ، وضد الدعة والسكون القلق و الألم .
وقيل : لا ترك الله له خيرا ؛ فعومل بنقيض قصده .(115/128)
وقوله: (فقد أشرك)، ذا الشرك يكون أكبر إن اعتقد أنها ترفع أو تدفع بذاتها دون أمر الله ، و إلا ؛ فهو أصغر .
قوله: (من الحمى)، (من) هنا للسببية؛ أي : في يده خيط لبسه من أجل الحمى لتبرد عليه ، أو يشفي منها.
*فيه مسائل :
الأولى : التغليظ في لبس الحلقة و الخيط و نحوهما لمثل ذلك
الثانية : ان الصحابي لو مات و هي عليه ؛ ما أفلح . فيه شاهد لكلام الصحابة : أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: ( فقطعه ) أي : قطع الخيط ؛ ، وفعله هذا من تغيير المنكر باليد ، وهذا يدل على غيرة السلف الصالح و قوتهم في تغيير المنكر باليد و غيرها.
و قوله : وتلا قوله تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) ، أي و تلا حذيفة هذه الآية . و المراد بها المشركون الذين يؤمنون بتوحيد الربوبية و يكفرون بتوحيد الألوهية .
قوله : ( وهم مشركون ) في محل نصب على الحال ؛ أي : وهم متلبسون بالشرك ، وكلام حذيفة في رجل مسلم لبس خيطا لتبريد الحمى أو الشفاء منها . وفيه دليل على أن الإنسان قد يجتمع فيه إيمان وشرك،و لكن ليس الشرك الأكبر ؛ لأن الشرك الأكبر لا يجتمع مع الإيمان ، ولكن المراد هنا الشرك الأصغر ، وهذا أمر معلوم
* * *
قوله : (فيه مسائل ) ، أي : في الباب مسائل :
الأولى : التغليظ في لبس الحلقة و الخيط ونحوهما لمثل ذلك ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( انزعها ـ لا تزيدك إلا وهنا ـ، لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا )، وهذا تغليظ عظيم في لبس هذه الأشياء والتعلق بها .
· · الثانية : أن الصحابي لو مات وهي عليه ما أفلح ، هذا وهو صحابي فكيف بمن دون الصحابي ؟! فهو أبعد عن الفلاح .
الثالثة : أنه لم يعذر بالجهالة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال المؤلف : ( فيه شاهد لكلام الصحابة : أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر ).(115/129)
قوله : ( لكلام الصحابة )؛ أي : لقولهم ، وهو كذلك ؛ فالشرك الأصغر أكبر من الكبائر ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : ( لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقا ) (1) ، وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكبيرة ؛ لأن الشرك لا يغفر ولو كان أصغر ، بخلاف الكبائر ؛ فإنها تحت المشيئة .
*الثالثة : أنه لم يعذر بالجهالة . هذا فيه نظر ؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم : (لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا ) ليس بصريح أنه لو مات قبل العلم ، بل ظاهره: ( لو مت وهي عليك ما أفلحت أبدا )؛ أي : بعد أن علمت و أمرت بنزعها.
هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل ؛ فنقول : الجهل نوعان : جهل يعذر فيه الإنسان ، وجهل لا يعذر فيه ، فما كان ناشئا عن تفريط وإهمال مع قيام المقتضي للتعلم ؛ فإنه لا يعذر فيه ، سواء في الكفر أو في المعاصي ، وما كان ناشئا عن خلاف ذلك ، أي أنه لم يهمل ولم يفرط ولم يقم المقتضي للتعلم بأن كان لم يطرأ على باله أن هذا الشيء ؛ فإنه يعذر فيه ، فان كان منتسبا إلى الإسلام ؛ لم يضره ، وإن كان منتسبا إلى الكفر ؛ فهو كافر في الدنيا ، لكن في الآخرة أمره إلى الله على القول الراجح ، فإن أطاع دخل الجنة ، و إن عصى دخل النار.
الرابعة : أنها لا تنفع في العاجلة ؛ بل تضر ، لقوله : ( لا تزيدك إلا وهنا) . الخامسة: الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعلى هذا من نشأ ببادية بعيدة ليس عنده علماء ولم يخطر بباله أن هذا الشيء حرام ، أو أن هذا الشيء واجب ؛ فهذا يعذر ، وله أمثلة :(115/130)
ومنها: رجل بلغ وهو صغير وهو في بادية ليس عنده عالم ، ولم يسمع عن العلم شيئا ، ويظن أن الإنسان لا تجب عليه العبادات إلا إذا بلغ خمس عشرة سنة، فبقي بعد بلوغه حتى تم له خمس عشرة سنة وهو لا يصوم ولا يصلي ولا يتطهر من جنابة ؛ فهذا لا نأمره بالقضاء لأنه معذور بجهله الذي لم يفرط فيه بالتعلم ولم يطرأ له على بال ، وكذلك لو كانت أنثى أتاها الحيض وهي صغيرة وليس عندها من تسأل ولم يطرأ على بالها أن هذا الشيء واجب إلا إذا تم لها خمس عشرة سنة؛ فإنها تعذر إذا كانت لا تصوم و لا تصلي
وأما من كان بالعكس كالساكن في المدن يستطيع أن يسأل ، لكن عنده تهاون و غفلة ؛ فهذا لا يعذر ؛ لأن الغالب في المدن أن هذه الأحكام لا تخفى عليه ويوجد فيها علماء يستطيع أن يسألهم بكل سهولة ؛ فهو مفرط ،فيلزمه القضاء و لا يعذر بالجهل .
· · الربعة : الإنكار بالتغليظ على من فعل مثل ذلك ، أي : ينبغي أن ينكر إنكارا مغلظا على من فعل مثل هذا ، ووجه ذلك سياق الحديث الذي أشار إليه المؤلف ،و أيضا قوله : ( من تعلق تميمة ؛ فلا أتم الله له ) .
السادسة : التصريح بأن من تعلق شيئا ؛ وكل إليه . السابعة : التصريح بان من تعلق تميمة ؛ فقد أشرك . الثامنة : أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك . التاسعة : تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر ؛ كما ذكر ابن عباس في آية البقرة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* السادسة : التصريح بأن من تعلق شيئا وكل إليه . تؤخذ من قوله : ( من تعلق تميمة ؛ فلا أتم الله له ) إذا جعلنا الجملة خبرية ، وأن من تعلق تميمة ؛ فإن الله لا يتم له ، فيكون موكولا إلى هذه التميمة ، ومن وكل إلى مخلوق ؛ فقد خذل ، ولكنها في الباب الذي بعده صريحة ، ( من تعلق شيئا وكل إليه )(1)(115/131)
* السابعة : التصريح بأن من تعلق تميمة ؛ فقد أشرك . وهو إحدى الروايتين في حديث عقبة بن عامر .
* الثامنة : أن تعليق الخيط من الحمى من ذلك . يؤخذ من فعل حذيفة أنه رأى رجلا في يده خيط من الحمى فقطعه ، وتلا قوله تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ) .
* التاسعة : تلاوة حذيفة الآية دليل على أن الصحابة يستدلون بالآيات التي في الشرك الأكبر على الأصغر كما ذكر ابن عباس في سورة البقرة .
العاشرة : أن تعليق الودع من العين من ذلك . الحادية عشرة : الدعاء على من تعلق تميمة أن لا يتم له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له ؛ أي : ترك له .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي : أن قوله تعالى : ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركين ) في الشرك الأكبر ، لكنهم يستدلون بالآيات الواردة في الشرك الأكبر على الأصغر ؛ لأن الأصغر شرك في الحقيقة وإن كان لا يخرج من الملة ، ولهذا نقول : الشرك نوعان : أصغر و أكبر
و قوله : ( كما من ذكر ابن عباس في آية البقرة ) وهي قوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ )(البقرة: من الآية165)؛ فجعل المحبة التي تكون كمحبة الله من اتخاذ الند لله ـ عز وجل ـ.
* العاشرة : أن تعليق الودع من العين من ذلك ، و قوله : ( من ذلك ) ؛ أي : من تعليق التمائم الشركية ؛ لأنه لا أثر لها ثابت شرعا ولا قدرا .(115/132)
* الحادية عشرة : الدعاء على من تعلق تميمة أن الله لا يتم له ، ومن تعلق ودعة فلا ودع الله له ؛ أي : ترك الله له . تؤخذ من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الذين اتخذوا تمائم وودعا ، ليس هذا بغريب أن نؤمر بالدعاء على من خالف وعصى ؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إذا سمعتم من ينشد الضالة في المسجد ؛ فقولوا : لا ردها الله عليك ) (1) ، وإذا رأيتم من يبيع أم يبتاع في المسجد؛فقولوا : لا
...............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أربح الله تجارتك ) (1) .
فهنا أيضا تقول له : لا أتم الله لك ، ولكن الحديث إنما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم ؛ فلا نخاطب هذا بالتصريح و نقول لشخص رأينا عليه تميمة : لا أتم الله لك ، وذلك لأن مخاطبتنا الفاعل بالتصريح و التعيين سوف يكون سببا لنفوره ، ولكن نقول : دع التمائم أو الودع ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( من تعلق تميمة ؛ فلا أتم الله له ، ومن تعلق ودعة ؛ فلا ودع الله له ) .
باب ما جاء في الرقي و التمائم
في الصحيح عن أبي بشير الأنصاري رضي الله عنه ؛ أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، فأرسل رسولا : ( أن يبقين في رقبة بعير قلادة من وتر أو قلادة إلا قطعت )(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول المؤلف : باب ما جاء في الرقى و التمائم
لم يذكر المؤلف أن هذا الباب من الشرك ؛ لأن الحكم فيه يختلف عن حكم لبس الحلقة و الخيط ، ولهذا جزم المؤلف في الباب الأول أنها من الشرك بدون استثناء ، أما هذا الباب ؛ فلم يذكر أنها شرك ؛ لأن من الرقى ما ليس بشرك ، و لهذا قال : ( باب ما جاء في الرقى و التمائم ) .(115/133)
قوله : ( شرك ) ، جمع رقية ، وهي القراءة ؛ فيقال : رقى : رقى عليه ـ بالألف ـ من القراءة ، ورقي عليه ـ بالياء ـ من الصعود .
قوله : ( التمائم ) ، جمع تميمة ، وسميت تميمة ؛ لأنهم يرون أنه يتم بها دفع العين .
قوله : ( أسفاره ) ، السفر : مفارقة محل الإقامة ، وسمي سفرا ؛ لأمرين:
...............................................................................
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول : حسي، وهو أنه يسفر ويظهر عن بلده لخروجه من البنيان.
الثاني: معنوي، وهو أنه يسفر عن أخلاق الرجال؛ أي: يكشف عنها وكثير من الناس لا تعرف أخلاقهم وعاداتهم وطبائعهم إلا بالأسفار.
قوله: (قلادة من وتر، أو قلادة)، شك من الراوي، والأول أرجح؛ لأن القلائد كانت تتخذ من الأوتار، ويعتقدون أن ذلك يدفع العين عن البعير، وهذا اعتقاد فاسد؛ لأنه تعلق بما ليس بسبب، وقد سبق أن التعلق بما ليس بسبب شرعي أو حسي شرك؛ لأنه يتعلقه أثبت للأشياء سبباً لم يثبته الله لا بشرعه ولا بقدره، ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن نقطع هذه القلائد.
أما إذا كانت هذه القلادة من غير وتر، وإنما تستعمل للقيادة كالزمام؛ فهذا لا بأس به لعدم الاعتقاد الفاسد، وكان الناس يعلمون ذلك كثيراً من الصوف أو غيره.
قوله: ( في رقبة بعير)، ذكر البعير؛ لأن هذا هو الذي كان منتشراً حينذاك؛ فهذا القيد بناءً على الواقع عندهم؛ فيكون كالتمثيل، وليس بمخصص.
* يستفاد من الحديث:
1- أنه ينبغي لكبير القوم أن يكون مراعياً لأحوالهم؛ فيتفقدهم وينظر في أحوالهم.
2- أنه يجب عليه رعايتهم بما تقتضيه الشريعة؛ فإذا فعلوا محرماً منعهم منه، وإن تهاونوا في واجب حثهم عليه.
3- أنه لا يجوز أن تعلق في أعناق الإبل أشياء تجعل سبباً في جلب منفعة أو دفع مضرة، وهي ليست كذلك لا شرعاً ولا قدراً؛ لأنه شرك ، ولا(115/134)
وعن ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) . رواه أحمد وأبو داود (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يلزم أن تكون القلادة في القربة، بل لو جعلت في اليد أو الرجل؛ فلها حكم الرقبة؛ لأن العلة هي هذه القلادة، وليس مكان وضعها؛ فالمكان لا يؤثر.
4- أنه يجب على من يستطيع تغيير المنكر باليد أن يغيره بيده.
* * *
قوله: (إن الرقى) ، جمع رقية ، وهذه ليست على عمومها، بل هي عام أريد به خاص، وهو الرقى بغير ما ورد به الشرع، أما ما ورد به الشرع؛ فليست من الشرك، قال صلى الله عليه وسلم في الفاتحة: (وما يدريك أنها رقية) (2) .
وهل المراد بالرقى في الحديث ما لم يدر به الشرع ولو كانت مباحة، أو المراد ما كان في شرك ؟
الجواب: الثاني؛ لأن كلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يناقض بعضه بعضاً؛ فالرقى المشروعة التي ورد بها الشرع جائزة.
وكذا الرقى المباحة التي يرقى بها الإنسان المريض بدعاء من عنده ليس فيه شرك جائز أيضاً.
قوله: (التمائم)، فسرها المؤلف بقوله: (شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين) ، وهي من الشرك؛ لأن الشارع لم يجعلها سبباً تتقى به العين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا كان الإنسان يلبس أبناءه ملابس رثة وبالية خوفاً من العين؛ فهل هذا جائز؟
الظاهر أنه لا بأس به؛ لأنه لم يفعل شيئاً، وإنما ترك شيئاً، وهو التحسين والتجميل، وقد ذكر ابن القيم في (زاد المعاد) أن عثمان رأى صبياً مليحاً، فقال: دسموا نونته، والنونة: هي التي تخرج في الوجه عندما يضحك الصبي كالنقوة، ومعنى دسموا؛ أي: سودوا.
وأما الخط: وهي أوراق من القرآن تجمع وتوضع في جلد ويخاط عليها، ويلبسها الطفل على يده أو رقبته؛ ففيها خلاف بين العلماء.
وظاهر الحديث: أنها ممنوعة، ولا تجوز.(115/135)
ومن ذلك أن بعضهم يكتب القرآن كله بحروف صغيرة في أوراق صغيرة، ويضعها في صندوق صغير، ويعلقها على الصبي، وهذا مع أنه محدث؛ فهو إهانة للقرآن الكريم؛ لأن هذا الصبي سوف يسيل عليه لعابه، وربما يتلوث بالنجاسة، ويدخل به الحمام والأماكن القذرة، وهذا كله إهانة للقرآن.
ومع الأسف أن بعض الناس اتخذوا من العبادات نوعاً من التبرك فقط؛ مثل ما يشاهد من أن بعض الناس يمسح الركن اليماني من باب التبرك لا التعبد، وهذا جهل، وقد قال عمر في الحجر: (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك) (1)
وعن عبد الله بن عكيم مرفوعاً: (من تعلق شيئاً؛ وكل إليه) رواه أحمد والترمذي (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (التولة)، شيء يعلقونه على الزوج، يزعمون أنه يحبب الزوجة إلى زوجها والزوج إلى امرأته، وهذا شرك؛ لأنه ليس بسبب شرعي ولا قدري للمحبة.
ومثل ذلك الدبلة، والدبلة: خاتم يشترى عند الزواج يوضع في يد الزوج، وإذا ألقاه الزوج؛ قالت المرأة: إنه لا يحبها؛ فهم يعتقدون فيه النفع والضرر، ويقولون: إنه ما دام في يد الزوج؛ فإنه يعني أن العلاقة بينهما ثابتة، والعكس بالعكس، فإذا وجدت هذه النية؛ فإنه من الشرك الأصغر، وإن لم توجد هذه النية ـ وهي بعيدة ألا تصحبها ـ ؛ ففيه تشبه بالنصارى، فإنها مأخوذة منهم.
وإن كانت من الذهب؛ فهي بالنسبة للرجل فيها محذور ثالث وهو لبس الذهب؛ فهي إما من الشرك، أو مضاهاة النصارى، أو تحريم النوع إن كانت للرجال، فإن خلت من ذلك فهي جائزة لأنها خاتم من الخواتم.
وقوله: (شرك)، هل هي شرك أصغر أو أكبر؟
نقول: بحسب ما يريد الإنسان منها إن أتخذها معتقداً أن المسبب للمحبة هو الله؛ فهي شرك أصغر، وإن اعتقد أنها تفعل بنفسها؛ فهي شرك اكبر.
* * *
قوله: (من تعلق)، أي: اعتمد عليه وجعله همه ومبلغ علمه، وصار يعلق رجاءه به وزوال خوفه به.(115/136)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (شيئاً) نكرة في سياق الشرط؛ فتعم جميع الأشياء، فمن تعلق بالله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وجعل رغبته ورجاءه فيه وخوفه منه؛ فإن الله تعالى يقول: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُه)(الطلاق: من الآية3)؛ أي؛ كافية، ولهذا كان من دعاء الرسل وأتباعهم عند المصائب والشدائد: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، قالها إبراهيم حين ألقي في النار وقالها محمد وأصحابه حين قيل لهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) (1) (آل عمران: من الآية173).
قوله: (وكل إيه)، أي: أسند إليه، وفوض.
* أقسام التعلق بغير الله
الأول: ما ينافي التوحيد من أصله، وهو أن يتعلق بشيء لا يمكن أن يكون له تأثير، ويعتمد عليه اعتماداً معرضاً عن الله، مثل تعلق عباد القبور بمن فيها عند حلول المصائب، ولهذا إذا مستهم الشراء الشديدة يقولون: يا فلان ! أنقذنا؛ فهذا لا شك أنه شرك أكبر مخرج من الملة.
الثاني: ما ينافي كمال التوحيد، وهو أن يعتمد على سبب شرعي صحيح من الغفلة عن المسبب، وهو الله ـ عز وجل ـ ، وعدم صرف قلبه إليه؛ فهذا نوع من الشرك، ولا نقول شرك أكبر؛ لأن هذا السبب جعله الله سبباً.
الثالث: أن يتعلق بالسبب تعلقاً مجرداً لكونه سبباً فقط، مع اعتماده الأصلي على الله؛ فيعتقد أن هذا السبب من الله، وأن الله لو شاء لأبطل أثره،
(التمائم): شيء يعلق على الأولاد يتقون به العين.
لكن إذا كان المعلق من القرآن؛ فرخص فيه بعض السلف، وبعضهم لم يرخص فيه، ويجعله من المنهي عنه، منهم ابن مسعود رضي الله عنه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولو شاء لأبقاه، وأنه لا أقر للسبب إلا بمشيئة الله ـ عز وجل ـ ؛ فهذا لا ينافي التوحيد لا كمالاً ولا أصلاً، وعلى هذا لا إثم فيه.
ومع وجود الأسباب الشرعية الصحيحة ينبغي للإنسان أن لا يعلق نفسه بالسبب ، بل يعلقها بالله.(115/137)
فالموظف الذي يتعلق قلبه بمرتبه تعلقاً كاملاً، مع الغفلة عن المسبب، وهو الله، قد وقع في نوع من الشرك، أما إذا اعتقد أن المرتب سبب والمسبب هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وجعل الاعتماد على الله، وهو يشعر أن المرتب سبب؛ فهذا لا ينافي التوكل.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأخذ بالأسباب مع اعتماده على المسببن وهو الله ـ عز وجل ـ .
وجاء في الحديث: (من تعلق)، ولم يقل: من علق؛ لأن المتعلق بالشيء يتعلق به بقلبه وبنفسه، بحيث ينزل خوفه ورجاءه وأمله به وليس كذلك من علق.
قوله: (إذا كان المعلق من القرآن . . .) إلخ.
إذا كان المعلق من القرآن أو الأدعية المباحة والأذكار الواردة ؛ فهذه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المسألة اختلف فيها السلف رحمهم الله؛ فمنهم من رخص في ذلك لعموم قوله تعالى: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ )(الاسراء: من الآية82)، ولم يذكر الوسيلة التي نتوصل بها إلى الاستشفاء بهذا القرآن؛ فدل على أن كل وسيلة يتوصل بها إلى ذلك فهي جائزة، كما لو كان القرآن دواء حسياً.
ومنهم من منع ذلك وقال: لا يجوز تعليق القرآن للاستشفاء به؛ لأن الاستشفاء بالقرآن ورد على صفة معينة، وهي القراءة به، بمعنى أنك تقرأ على المريض به؛ فلا نتجاوزها، فلو جعلنا الاستشفاء بالقرآن على صفة لم ترد؛ فمعنى ذلك أننا فعلنا سبباً ليس مشروعاً (1) ، وقد نقله المؤلف رحمه الله عن ابن مسعود رضي الله عنه.
ولولا الشعور النفسي بأن تعليق القرآن سبب للشفاء؛ لكان انتفاء السببية على هذه الصورة أمراً ظاهراً ؛ فإن التعليق ليس له علاقة بالمرض، بخلاف النفث على مكان الألم؛ فإنه يتأثر بذلك.(115/138)
ولهذا نقول؛ الأقرب أن يقال: إنه لا ينبغي أن تعلق الآيات للاستشفاء بها، لا يسما وأن هذا المعلق قد يفعل أشياء تنافي قدسية القرآن؛ كالغيبة مثلاً، ودخول بيت الخلاء، وأيضاً إذا علق وشعر أن به شفاء استغنى به عن القراءة المشروعة؛ فمثلاً: علق آية الكرسي على صدره، وقال: ما دام أن آية الكرسي على صدري فلن أقرأها، فيستغنى بغير المشروع عن المشروع، وقد يشعر بالاستغناء عن القراءة المشروعة إذا كان القرأن على صدره.
و (الرقى): هي التي تسمى العزائم، وخص منها الدليل ما خلا من الشرك؛ فقد رخص فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من العين والحمة.
و (التولة): هي شيء يصنعونه يزعمون أنه يحبب المرأة إلى زوجها والرجل إلى امرأته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا كان صبيا؛ فربما بال ووصلت الرطوبة إلى هذا المعلق، وأيضاً لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء.
فالأقرب أن يقال : إنه لا يفعل ، أما أن يصل إلى درجة التحريم؛ فأنا أتوقف فيه، لكن إذا تضمن محظوراً؛ فإنه محرماً بسبب ذلك المحظور.
* * *
قوله: (التي تسمى العزائم). أي: في عرف الناس ، وعزم عليه؛ أي: قرأ عليه، وهذه عزيمة؛ أي قراءة.
قوله: (وخص منها الدليل ما خلا من الشرك)، أي: الأشياء الخالية من الشرك؛ فهي جائزة، سواء كان مما ورد بلفظه مثل: (اللهم رب الناس ! أذهب الباس، اشف أنت الشافي . . .) (1) ، أو لم يرد بلفظه مثل: (اللهم عافه، اللهم اشفه)، وإن كان فيها شرك؛ فإنها غير جائزة ، مثل: (يا جني ! أنقده ، ويا فلان الميت ! اشفه)، ونحو ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من العين والحمة)، سبق تعريفهما في باب من حقق التوحيد دخل الجنة.(115/139)
وظاهر كلام المؤلف أن الدليل يرخص بجواز القراءة إلا في هذين الأمرين: (العين، والحمة)، لكن ورد بغيرهما؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينفخ على يديه عند منامه بالمعوذات، ويمسح بهما ما استطاع من جسده (1) ، وهذا من الرقية، وليس عيباً ولا حمة.
ولهذا يرى بعض أهل العلم الترخيص في الرقية من القرآن للعين والحمة وغيرهما عام، ويقول: إن معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا رقية إلا من عين أو حمة)؛ أي: لا استرقاء إلا من عين أو حمة ، والاسترقاء: طلب الرقية؛ فالمصيب بالعين ـ وهو (العائن) ـ يطلب منه أن يقرأ على المعيون.
وكذلك الحمة يطلب الإنسان من غيره أن يقرأ عليه؛ لأنه مفيد كما في حديث أبي سعيد في قصة السرية (2) .
* شروط جواز الرقية :
الأول: أن لا يعتقد أنها تنفع بذاتها دون الله، فإن اعتقد أنها تنفع بذاتها من دون الله؛ فهو محرم، بل شرك، بل يعتقد أنها سبب لا تنفع إلا بإذن الله.
الثاني: أن لا تكون مما يخالف الشرع ؛ كما إذا كانت متضمنة دعاء غير الله، أو استغاثة بالجن، وما أشبه ذلك؛ فإنها محرمة، بل شرك.
الثالث: أن تكون مفهومة معلومة، فإن كانت من جنس الطلاسم
وروي أحمد عن رويفع؛ قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (يا رويفع ! لعل الحياة ستطول بك؛ فأخبر الناس أن من عقد لحيته، أو تقلد وتراً، أو استنجى برجيع دابة أو عظم؛ فإن محمداً بري منه) (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والشعوذة؛ فإنها لا تجوز.
أما بالنسبة للتمائم؛ فإن كانت من أمر محرم، أو اعتقد أنها نافعة لذاتها، أو كانت بكتابة لا تفهم؛ فإنها لا تجوز بكل حال.
وإن تمت فيها الشروط الثلاثة السابقة في الرقية؛ فإن أهل العلم اختلفوا فيها كما سبق.
* * *
قوله: (من عقد لحيته)، اللحية عند العرب كانت لا تقص ولا تحلق، كما أن ذلك هو السنة، لكنهم كانوا يعقدون لحاهم لأسباب:(115/140)
منها: الافتخار والعظمة، فتجد أحدهم يعقد أطرافها، أو يعقدها من الوسط عقدة واحدة ليعلم أنه رجل عظيم، وأنه سيد في قومه.
الثاني: الخوف من العين؛ لأنها إذا كانت حسنة وجميلة ثم عقدت أصبحت قبيحة، فمن عقدها لذلك؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم بريء منه.
وبعض العامة إذا جاءهم طعام من السوق أخذوا شيئاً منه يرمونه في الأرض؛ دفعاً للعين، وهذا اعتقاد فاسد ومخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
وعن سعيد بن جبير؛ قال : (من قطع تميمة من إنسان؛ كان كعدل رقبة) . رواه وكيع (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(إذا سقطت لقمة أحدكم؛ فليمط ما بها من الأذى، وليأكلها) (2) .
قوله: (أو تقلد وتراً) ، الوتر : سلك من العصب يؤخذ من الشاة، وتتخذ للقوس وتراً، ويستعملونها في أعناق إبلهم أو خيلهم، أو في أعناقهم، يزعمون أنه يمنع العين، وهذا من الشرك.
قوله: (أو استنجى برجيع دابة) ، الاستنجاء: مأخوذ من النجو، وهو إزالة أثر الخارج من السبيلين؛ لأن الإنسان الذي يتمسح بعد الخلاء يزيل أثره.
ورجيع الدابة: هو روثها.
قوله: (أو عظم). العظم معروف، وإنما تبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن استنجى بهما؛ لأن الروث علف بهائم الجن والعظم طعامهم، يجدونه أوفر ما يكون لحماً.
وكل ذنب قرن بالبراءة من فاعله؛ فهو من كبائر الذنوب، كما هو معروف عند أهل العلم.
الشاهد من هذا الحديث قوله: (من تقلد وتراً).
* * *
· · قوله: وعن سعيد بن جبير؛ قال: (من قطع تميمة . . .) الحديث.
قوله : (كعدل رقية) بفتح العين لأنه من غير الجنس، والمعادلة من الجنس
وله عن إبراهيم ؛ قال : (كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن) (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/141)
بكسر العين، ووجه المشابهة بين قطع التميمة وعتق الرقبة: أنه إذا قطع التميمة من إنسان؛ فكأنه أعتقه من الشرك، ففكه من النار ، ولكن يقطعها بالتي هي أحسن؛ لأن العنف يؤدي إلى المشاحنة والشقاق، إلا إن كان ذا شأن كالأمير، والقاضي، ونحوه ممن له سلطة؛ فله أن يقطعها مباشرة.
* * *
قوله: (كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن)، وقد سبق أن هذا رأي ابن مسعود رضي الله عنه؛ فأصحابه يرون ما يراه.
قوله: (وله عن إبراهيم)، وهو إبراهيم النخعي.
قوله: (كانوا)، الضمير يعود إلى أصحاب ابن مسعود ؛ لأهم هم قرناء إبراهيم النخعي.
قوله: (التمائم)، هي ما يعلق على المريض أو الصحيح/ سواء من القرآن أو غيره للاستشفاء أو لاتقاء العين، أو ما يعلق على الحيوانات.
وفي هذا الوقت أصبح تعليق القرآن لا للاستشفاء ، بل لمجرد التبرك والزينة؛ كالقلائد الذهبية، أو الحلي التي يكتب عليها لفظ الجلالة، أو آية الكرسي، أو القرآن كاملاً ؛ فهذا كله من البدع.
* فيه مسائل :
الأولى: تفسير الرقى والتمائم. الثانية: تفسير التولة. الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالقرآن ما نزل ليستشفى به على هذا الوجه، إنما يستشفى به على ما جاء به الشرع.
* * *
* قوله: الأولى : تفسير الرقى والتمائم، وقد سبق ذلك.
* الثانية: تفسير التولة، وقد سبق ذلك، وعندي أن منها ما يسمى بالدبلة إن اعتقدوا أنها صلة بين المرء وزوجته.(115/142)
· · الثالثة: أن هذه الثلاثة كلها من الشرك من غير استثناء، ظاهر كلامه حتى القرى، وهذا فيه نظر؛ لأن الرقى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يرقي ويرقى (1) ، ولكنه لا يستوقي؛ أي: لا يطلب الرقية؛ فإطلاقها بالنسبة للرقى فيه نظر، وقد سبق للمؤلف رحمه الله أن الدليل خص منها ما خلا من الشرك، وبالنسبة للتمائم، فعلى رأي الجمهور فيه نظر أيضاً.
وأما على رأي ابن مسعود؛ فصحيح، وبالنسبة للتولة؛ فهي شرك بدون استثناء.
الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين والحمة ليس من ذلك . الخامسة: أن التميمة إذا كانت من القرآن؛ فقد اختلف العلماء؛ هل هي من ذلك أم لا ؟ السادسة: أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الرابعة: أن الرقية بالكلام الحق من العين أو الحمة ليس من ذلك.
قوله : ( الكلام الحق ) ، ضده الباطل ، وكذا المجهول الذي لا يعلم أنه حق أو باطل .
و المؤلف رحمه الله تعالى خصص العين أو الحمة فقط استنادا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( لا رقية إلا من عين أو حمة ) (1) ، ولكن الصحيح أنه يشمل غيرهما ؛ كالسحر .
* الخامسة : أن التميمة إذا كانت من القرآن ؛ فقد اختلف العلماء : هل هي من ذلك أم لا ؟ قوله : ( ذلك ) المشار إليه : التمائم المحرمة .
وقد سبق بيان هذا الخلاف (2)،و الأحوط مذهب ابن مسعود ؛ لأن الأصل عدم المشروعية حتى يتبين ذلك من السنة .
السادسة : أن تعليق الأوتار على الدواب عن العين من ذلك ، أي : من الشرك .
السابعة : الوعيد الشديد على من تعلق وترا . الثامنة : فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ( تنبيه ) :(115/143)
ظهر في الأسواق في الآونة الأخيرة حلقة من النحاس يقولون : إنها تنفع من الروماتيزم ، يزعمون أن الإنسان إذا وضعها على عضده وفيه روماتيزم نفعته من هذا الروماتيزم ، ولا ندري هل هذا صحيح أم لا ؟ لكن الأصل أنه ليس بصحيح لأنه ليس عندنا دليل شرعي ولا حسي يدل على ذلك ، وهي لا تؤثر على الجسم؛ فليس فيها مادة دهنية حتى نقول: إن الجسم يشرب هذه المادة و ينتفع بها؛ فالأصل أنها ممنوعة حتى يثبت لنا بدليل صحيح صريح واضح أن لها اتصالا مباشرا بهذا الروماتيزم حتى ينتفع بها .
* السابعة : الوعيد الشديد على من تعلق وترا ، وذلك لبراءة الرسول صلى الله عليه وسلم ممن تعلق وتبراً ، بل ظاهره أنه كفر مخرج من الملة، قال تعالى: (وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ )(التوبة: من الآي3)، لكن قال أهل العلم: إن البراءة هنا براءة من هذا الفعل؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : (من غشنا؛ فليس منا) (1) .
· · الثامنة: فضل ثواب من قطع تميمة من إنسان، لقول سعيد بن جبير: (كان كعدل رقبة)، ولكن هل قوله حجة أو لا ؟
إن قيل: ليس بحجة؛ فكيف يقول المؤلف: فضل ثواب من قطع تميمة
التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من إنسان ؟ !
فيقال: إنه إنما كان كذلك؛ لأنه إنقاذ له من رق الشرك؛ فهو كمن أعتقه، بل أبلغ.
فهو من باب القياس، فمن أنقذ نفساً من الشرك؛ فهو كمن أنقذها من الرق لأنه أنقذه من رق الشيطان والهوى.
* فائدة :
إذا قال التابعي: من السنة كذا ؛ فهل يعتبر موقوفاً متصلاً ويكون المراد من السنة أي سنة الصحابة، أو يكون مرفوعاً مرسلاً.(115/144)
وتقدم لنا أنه ينبغي أن يفصل في هذا، وإن التابعي إذا قاله محتجاً به؛ فإنه يكون مرفوعاً مرسلاً، أما إذا قاله في سياق غير الاحتجاج؛ فهذا قد يقال: إنه من باب الموقوف الذي ينسب إلى الصحابي.
* التاسعة: أن كلام إبراهيم لا يخالف ما تقدم من الاختلاف؛ لأن مراده أصحاب عبد الله بن مسعود، وليس مراده الصحابة، ولا التابعين عموماً.
* * *
باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (تبرك)، تفعل من البركة، والبركة: هي كثرة الخير وثبوته، وهي مأخوذة من البركة بالكسر، والبركة: مجمع الماء، ومجمع الماء يتميز عن مجرى الماء بأمرين:
1 – الكثرة.
2 – الثبوت.
والتبرك طلب البركة، وطلب البركة لا يخلو من أمرين:
1 – أن يكون التبرك بأمر شرعي معلوم؛ مثل القرآن، قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ )(صّ: من الآية29) ، فمن بركته أن من أخذ به حصل له الفتح، فأنقذ الله بذلك أمماً كثيرة من الشرك، ومن بركته أن الحرف الواحد بعشر حسنات، وهذا يوفر للإنسان الوقت والجهد، إلى غير ذلك من بركاته الكثيرة.
2 – أن يكون بأمر حسي معلوم؛ مثل: التعليم، والدعاء، ونحوه؛ فهذا الرجل يتبرك بعلمه ودعوته إلى الخير؛ فيكون هذا بركة لأننا نلنا منه خيراً كثيراً.
وقال أسيد بن خضير: (ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر) (1) ؛ فإن الله يجري على بعض الناس من أمور الخير ما لا يجريه على يد الآخر.
وهناك بركات موهومة باطلة؛ مثل ما يزعمه الدجالون : أن فلاناً الميت
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الذي يزعمون أنه ولي أنزل عليكم من بركته وما أشبه ذلك؛ فهذه بركة باطلة، لا أثر لها ، وقد يكون للشيطان أثر في هذا الأمر، لكنها لا تعدو أن تكون آثاراً حسية، بحيث إن الشيطان يخدم هذا الشيخ؛ فيكون في ذلك فتنه.(115/145)
أما كيفية معرفة هل هذه من البركات الباطلة أو الصحيحة؛ فيعرف ذلك بحال الشخص، فإن كان من أولياء الله المتقين المتبعين للسنة المبتعدين عن البدعة؛ فإن الله قد يجعل على يديه من الخير والبركة ما لا يحصل لغيره.
ومن ذلك ما جعل الله على يد شيخ الإسلام ابن تيميه من البركة التي انتفع بها الناس في حياته وبعد موته.
أما إن كان مخالفاً للكتاب والسنة، أو يدعو إلى باطل؛ فإن بركته موهومة، وقد تضعها الشياطين له مساعدة على باطله، وذلك مثل ما يحصل لبعضهم أنه يقف مع الناس في عرفة ثم يأتي إلى بلده ويضحي مع أهل بلده.
قال شيخ الإسلام ابن تيميه: إن الشياطين تحملهم لكي يغتر بهم الناس، وهؤلاء وقع منهم مخالفات، منها: عدم إتمام الحج، ومنها أنهم يمرون بالميقات ولا يحرمون منه (1) .
قوله: (شجر)، اسم جنس؛ فيشمل أي شجرة تكون، ومن حسنات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه لما رأى الناس ينتابون الشجرة التي وقعت تحتها بيعة الرضوان أمر بقطعها.
قوله: (وحجر)، اسم جنس يشمل أي حجر كان حتى الصخرة التي في بيت المقدس؛ فلا يتبرك بها، وكذا الحجر الأسود لا يتبرك به، وإنما يتعبد لله
وقول الله تعالى (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) الآيات (النجم:19).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمسحه وتقبيله؛ اتباعاً للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبذلك تحصل بركة الثواب.
ولهذا قال عمر رضي الله عنه، (إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك؛ ما قبلتك) (1) .
فتقبيله عبادة محضة خلافاً للعامة، يظنون أن به بركة حسية، ولذلك إذا استلمه بعض هؤلاء مسح على جميع بدنه تبركاً بذلك.
قوله: (ونحوهما)، أي: من البيوت، والقباب، والحجر؛ حتى حجرة قبر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلا يتمسح بها تبركاً، لكن لو مسح الحديد لينظر هل هو أملس أو لا ؛ فلا باس ، إلا إن خشي أن يقتدي به ؛ فلا يمسحه.(115/146)
* * *
قوله : (أفرأيتم اللات والعزى) ، لما ذكر الله ـ عز وجل ـ المعراج بقوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى . . .) (النجم:1 ، 2)، قال: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (النجم:18)؛ أي رأى النبي صلى الله عليه وسلم من آيات الله الكبرى. وقد اختلف العلماء في قوله: (الكبرى): هل هي مفعول لـ (رأى) ، أو صفة لـ (آيات) ؟
وقوله: (الكبرى) قيل: إنها مفعول لـ (رأى) ، والتقدير : لقد رأى من آيات الله الكبرى.
فعلى الأول: يكون المعنى: أنه رأى الكبرى من الآيات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى الثاني: يكون المعنى: أنه رأى بعض الآيات الكبرى ، وهذا هو الصحيح، أن الكبرى صفة لـ (آيات) ، وليست مفعولاً لـ (رأى) ؛ إذ إن ما رآه ليس أكبر آيات الله.
وبعد أن ذكر الله ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآيات؛ قال: (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى)؛ أي: أخبروني ما شأنها، وما حالها بالنسبة إلى هذه الآيات العظيمة، إنها ليست بشيء.
والاستفهام : للاستخفاف والاستهجان بهذه الأصنام.
قوله: (اللات)، تقرأ بتشديد التاء وتخفيفها، والتشديد قراءة ابن عباس؛ فعلى قراءة التشديد تكون اسم فاعل من اللت، وكان هذا الصنم أصله رجل يلت السويق للحجاج؛ أي: يجعل فيه السمن، ويطعمه الحجاج، فلما مات عكفوا على قبره وجعلوه صنماً.
وأما على قراءة التخفيف؛ فإن اللات مشتقة من الله، أو من الإله ؛ فهم اشتقوا من أسماء الله اسماً لهذا الصنم، وسموه اللات ، وهي لأهل الطائف ومن حولهم من العرب.
وقوله: (العزى)، مؤنث أعز ، وهو صنم يعبده قريش وبنو كنانة مشتق من اسم الله العزيز كان بنخلة بين مكة والطائف.
قوله: (ومناة)، قيل: مشتقة من المنان، وقيل: من منى؛ لكثرة ما يمنى عنده من الدماء بمعنى يراق، ومنه سميت منى؛ لكثرة ما يراق فيها من الدماء.(115/147)
وكان هذا الصنم بين مكة والمدينة لهذيل وخزاعة، وكان الأوس والخزرج يعظمونها ويهلون منها للحج.
قوله: (الثالثة الأخرى)، إشارة إلى أن التي تعظمونها ، وتذبحون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عندها، وتكثر إراقة الدماء حولها: أنها أخرى بمعنى متأخرة؛ أي: ذميمة حقيرة: مأخوذة من قولهم: فلان أخر؛ أي: ذميم ، حقير، متأخر.
فهذه الأصنام الثلاثة المعبودة عند العرب ما حالها بالنسبة لما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ؟
لا شي ، وإنما ذكر هذه الأصنام الثلاثة لأنها أشهر الأصنام وأعظمها عند العرب.
قوله: (الأيات)، أي: أكمل الآيات بعدها.
قوله: (ألكم الذكر وله الأنثى)، هذا أيضاً استفهام إنكاري على المشركين الذين يجعلون لله البنات ولهم البنين، فإذا ولد لهم الذكر فرحوا واستبشروا به، وإذا ولدت الأنثى ظل وجه الإنسان منهم مسوداً، وهو كظيم، ومع ذلك يقولون: الملائكة بنات الله؛ فيجعلون البنات لله ـ والعياذ بالله ـ ولهم ما يشتهون.
قوله: (تلك إذاً قسمة ضيزى)، ضيزى: جائزة؛ لأنه على الأقل إذا أردتم القسمة؛ فاجعلوا لكم من البنات نصيباً، واجعلوا لله من البنين نصيباً أما أن تجعلوا ما تختارونه لأنفسكم، وهم البنون، وتجعلون ما تكرهون لله؛ فهذه قسمة جائزة.
قوله: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان)، الضمير في (هي) يعود إلى الأصنام ؛ أي: هذه الأصنام (اللات والعزى ومناة) التي سميتموها آلهة واتخذتموها آلهة تعبدونها هي مجرد أسماء سميتموها، ولكن ما أنزل الله بها من سلطان؛ أي: من حجة ودليل.
بل أبطلها الله ـ سبحانه ـ ، قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (الحج:62).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/148)
وأصل السلطان في اللغة العربية: ما به سلطة، فإن كان في مقام العلم؛ فهو العلم، وإن كان في مقام القدوة؛ فهو القدوة، وإن كان في مقام الأمر والنهي؛ فهو من له الأمر والنهي؛ فمثلاً قوله تعالى (لا تنفذون إلا بسلطان)(الرحمن:33) ؛ أي: بقدرة وقوة، ومثل قوله تعالى: (ما أنزل الله بها من سلطان)(النجم:23)؛أي:من حجة وبرهان.
وفي الحديث (السلطان ولي من لا ولي له) (1) ؛ أي: من له الأمر والنهي.
قوله: (إن يتبعون إلا الظن) ، (إن)هنا بمعنى ما ، وعلامة إن التي بمعنى ما أن تأتي بعدها إلا، قال تعالى: (إن هذا إلا ملك كريم)(يوسف:31)، يعني ما هذا إلا ملك كريم، وقال تعالى (إن هذا إلا قول البشر)(المدثر:25)؛ أي: ما هو إلا قول البشر، وقال تعالى : (إن يتبعون إلا الظن)(النجم: 23)؛ أي: ما يتبعون إلا الظن.
والظن الذي يتبعونه هو أنها آلهة، وأن لله البنات ولهم البنون، والظن لا يغني من الحق شيئاً ؛ كما قال تعالى في آية أخرى.
قوله: (وما تهوى الأنفس)، كذلك أيضاَ يتبعون ما تهوى الأنفس، وهذا أضر شيء على الإنسان أن يتبع ما تهوى؛ فالإنسان الذي يعبد الله بالهوى؛ فإنه لا يعبد الله حقاً، إنما يعبد عقله وهواه، قال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ )(الجاثية: من الآية23)، لكن الذي يعبد الله
وعن أبي واقد الليثي؛ قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين، ونحن حدثاء عهد بكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة، فقلنا :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالهدى لا بالهوى هو الذي على الحق.
قوله:(ولقد جاءهم من ربهم الهدى)، أي:على يد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكان الأجدر بهم أن يتبعوا الهدى دون الهوى.
الأجدر بهم أن يتبعوا الهدى دون الهوى.
* مناسبة الآية للترجمة:(115/149)
أنهم يعتقدون أن هذه الأصنام تنفعهم وتضرهم، ولهذا يأتون إليها؛ يدعونها، ويذبحون لها، ويتقربون إليها، وقد يبتلي الله المرء فيحصل له ما يريد من اندفاع ضر أو جلب نفع بهذا الشرك؛ ابتلاء من الله وامتحاناً، وهذا قد تقدم لنا له نظائر أن الله يبتلي المرء بتيسير أسباب المعصية له حتى يعلم سبحانه من يخافه بالغيب.
* * *
قوله: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ) ، أي: بعد غزوة الفتح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة تجمعت له ثقيف وهوازن بجمع عظيم كثير جداً.
فقصدهم صلى الله عليه وسلم ومعه اثنا عشر ألفاً: ألفان من أهل مكة، وعشرة آلاف جاء بهم من المدينة، فلما توجهوا بهذه الكثرة العظيمة؛ قالوا: لن نغلب اليوم من قلة. فأعجبوا بكثرتهم، ولكن بين الله أن النصر من عنده سبحانه وليس بالكثرة، قال تعالى: (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ
يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (الله أكبر ! إنها السنن ! قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى : (اجْعَلْ لَنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ)(لأعراف: من الآية138) . لتركبن سنن من كان من قبلكم) . رواه الترمزي وصححه (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ . . . ) الآيتين (التوبة:25)، ثم لما انحدروا من وادي حنين وجدوا أن المشركين قد كمنوا لهم في الوادي؛ فحصل ما حصل، وتفرق المسلمون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يبق معه إلا نحو مئة رجل، وفي آخر الأمر كان النصر للنبي صلى الله عليه وسلم ، والحمد لله.(115/150)
قوله: (حدثاء)، جمع حديث ؛ أي: أننا قريبو عهد بكفر، وإنما ذكر ذلك رضي الله عنه للاعتذار لطلبهم وسؤالهم ، ولو وقر الإيمان في قلوبهم لم يسألوا هذا السؤال.
قوله: (يعكفون عندها)، أي: يقيمون عليها، والعكوف: ملازمة الشيء، ومنه قوله تعالى: (وأنتم عاكفون في المساجد)(البقرة:187).
قوله: (ينوطون)، أي: يعلقون بها أسلحتهم تبركاً.
قوله: (يقال: لها ذات أنواط)، أي: أنها تلقب بهذا اللقب لأنه تناط فيها الأسلحة، وتعلق عليها رجاء بركتها؛ فالصحابة رضي الله عنهم قالوا للنبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلى الله عليه وسلم : (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)؛ أي: سدرة نعلق أسلحتنا عليها تبركاً بها؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (الله أكبر) ، كبر تعظيماً لهذا الطلب؛ أي: استعظاماً له، وتعجباً لا فرحاً به، كيف يقولون هذا القول وهم آمنوا بأنه لا إله إلا الله ؟ !
لكن: (إنها السنن)؛ أي: الطرق التي يسلكها العباد.
قوله: (قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة) ، أي: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قاس ما قاله الصحابة رضي الله عنهم على ما قاله بنو إسرائل لموسى حين قالوا: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة؛ فأنتم طلبتم ذات أنواط كما أن لهؤلاء المشركين ذات أنواط.
وقوله عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده) المراد ان نفسه بيد الله، لا من جهة إماتتها وإحيائها فحسب؛ بل من جهة تدبيرها وتصريفها أيضاً، ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ـ سبحانه وتعالى ـ .
قوله: (لتركبن سنن من كان قبلكم) ، أي: لتفعلن مثل فعلهم، ولتقولن مثل قولهم، وهذه الجملة لا يراد بها الإقرار، وإنما يراد بها التحذير؛ لأنه من المعلوم أن سنن من كان قبلنا مما جرى تشبيهه سنن ضالة، حيث طلبوا آلهة مع الله؛ فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يحذر أمته أن تركب سنن من كان قبلها من الضلال والغي.(115/151)
والشاهد من هذا الحديث قولهم: (اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)؛ فأنكر عليهم النبي صلى الله عليه وسلم .
* * *
* فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النجم. الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا. الثالثة: كونهم لم يفعلوا. الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك؛ لظنهم أنه يحبه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
* الأولى : تفسير آية النجم، أي: قوله تعالى : (أفرأيتم اللات والعزى * ومناة الثالثة الأخرى * ألكم الذكر وله الأنثى * تلك إذاً قسمة ضيزى * إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . . .) الآية، وسبق تفسيرها، وأن الله تعالى أنكر على هؤلاء الذين يعبدون اللات والعزى، وأتى بصيغة الاستفهام الدالة على التحقير والتصغير لهذه الأصنام.
* الثانية: معرفة صورة الأمر الذي طلبوا ، وهو أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذات أنواط كما أن للمشركين ذات أنواط، وهم إنما أرادوا أن يتبركوا بهذه الشجرة لا أن يعبدوها؛ فدل ذلك على أن التبرك بالأشجار ممنوع، وأن هذا من سنن الضالين السابقين من الأمم.
* الثالة: كونهم لم يفعلوا، أي: لم يعلقوا أنواطاً على الشجرة، ويطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقرهم على هذا العمل، بل طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم ذلك.
* الرابعة: كونهم قصدوا التقرب إلى الله بذلك لظنهم أنه يحبه، (بذلك)؛ أي: بتعليق الأسلحة ونحوها على الشجرة التي يعينها الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولهذا
الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا؛ فغيرهم أولى بالجهل. السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم. السابعة: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: (الله أكبر ! إنها السنن ! لتتبعن سنن من كان قبلكم)؛ فغلظ الأمر بهذه الثلاث.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/152)
طلبوا ذلك من الرسول لتكتسب بهذا معنى العبادة.
* الخامسة: أنهم إذا جهلوا هذا؛ فغيرهم أولى بالجهل، لأن الصحابة لا شك أعلم الناس بدين الله، فإذا كان الصحابة يجهلون أن التبرك بهذا نوع من اتخاذها إلهاً؛ فغيرهم من باب أولى، وقصد المؤلف رحمه الله بهذا أن لا نغتر بعمل الناس؛ لأن عمل الناس قد يكون عن جهل؛ فالعبرة بما دل عليه الشرع لا بعمل الناس.
* السادسة: أن لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة ما ليس لغيرهم، وهذا معلوم من الآيات، مثل قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى )(الحديد: من الآية10)؛ فالصحابة رضي الله عنهم لهم من الحسنات والوعد بالمغفرة وأسباب المغفرة ما ليس لغيرهم، ومع ذلك لم يعذرهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الطلب.
* السابعة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعذرهم، بل رد عليهم بقوله: (الله أكبر ! إنها السنن، لتتبعن سنن من كان قبلكم)؛ فغلظ الأمر بهذه الثلاث، وهي قوله: (الله أكبر)، وقوله: (إنها السنن)، وقوله (لتركبن سنن من كان قبلكم)؛ فغلظ الأمر بهذا لأن التكبير استعظاماً للأمر الذي طلبوه، و(إنها السنن): تحذير، و(لتركبن
الثامنة: الأمر الكبير ـ وهو المقصود ـ أنه أخبر أن طلبهم كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: اجعل لنا إلهاً. التاسعة: أن نفي هذا من معنى (لا إله إلا الله) مع دقته وخفائه على أولئك.
العاشرة: أنه حلف على الفتيا، وهو لا يحلف إلا لمصلحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سنن من قبلكم) كذلك أيضاً تحذير.(115/153)
· · الثامنة: الأمر الكبير وهو المقصود أنه أخبر أنه كطلب بني إسرائيل لما قالوا لموسى: (اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، فهؤلاء طلبوا سدرة يتبركون بها كما يتبرك المشركون بها ، و أولئك طلبوا إلها كما لهم آلهة ؛ فيكون في كلا الطلبين منافاة للتوحيد ؛ لأن التبرك بالشجر نوع من الشرك ، واتخاذه إلها شرك واضح .
· · التاسعة : أن نفي هذا من معنى : لا إله إلا الله ، مع دقته وخفائه على أولئك ، أي : أن التبرك بالأشجار و نحوها من معنى لا إله إلا الله ؛ فإن لا إله إلا الله تنفي كل إله سوى الله ، وتنفي الأولوهية عما سوى الله ـ عز وجل ـ ؛ فكذلك البركة لا تكون من غير الله ـ سبحانه و تعالى ـ .
العاشرة : أنه حلف على الفتيا وهو لا يحلف إلا لمصلحة ، أي : أن النبي صلى الله عليه وسلم حلف على الفتيا في قوله : ( قلتم ، والذي نفسي بيده ) ، و النبي صلى الله عليه وسلم لا يحلف إلا لمصلحة ، أو دفع مضرة ومفسدة ؛ فليس ممن يحلف على أي سبب يكون ، كما هي عادة بعض الناس .
الحادية عشرة : أن الشرك فيه أصغر و أكبر ؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الحادية عشرة : أن الشرك فيه أصغر و أكبر ؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا ، حيث لم يطلبوا جعل ذات الأنواط لعبادتها ، بل للتبرك بها ، والشرك فيه أصغر وأكبر ، وفيه خفي و جلي .
فالشرك الأكبر : ما يخرج الإنسان من الملة .
والشرك الأصغر : مادون ذلك .
لكن كلمة (مادون ذلك ) ليست ميزانا واضحا . ولذلك اختلف العلماء في ضابط الشرك الأصغر على قولين :
القول الأول : أن الشرك الأصغر كل شيء أطلق الشارع عليه أنه شرك ودلت النصوص على أنه ليس من الأكبر ، مثل : ( من حلف بغير الله ؛ فقد أشرك ) (1)؛ فالشرك هنا أصغر ؛ لأنه دلت النصوص على أن، أن مجرد الحلف بغير الله لا يخرج من الملة(115/154)
القول الثاني : أن الشرك الأصغر : ما كان وسيلة للأكبر ، وإن لم يطلق الشرع عليه اسم الشرك ، مثل : أن يعتمد الإنسان على شيء كاعتماده على الله ،
لكنه لم يتخذه إلها ؛ فهذا شرك أصغر ؛ لأن هذا الاعتماد الذي يكون كاعتماده على الله يؤدي به في النهاية إلى الشرك الأكبر ، وهذا التعريف أوسع من الأول ؛ لأن الأول يمنع أن تطلق على شيء أنه شرك إلا إذا كان لديك
.................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دليل ، و الثاني يجعل كل ما كان وسيلة للشرك فهو شرك ، وربما نقول على هذا التعريف : إن المعاصي كلها شرك أصغر ؛ لأن الحامل عليها الهوى ، وقد قال تعالى:(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ)(الجاثية: من الآية23)، ولهذا أطلق النبي صلى الله عليه وسلم الشرك على تارك الصلاة ، مع أنه لم يشرك ؛ فقال : ( بين الرجل وبين الشرك و الكفر : ترك الصلاة )(1) .
فالحاصل أن المؤلف رحمه الله يقول : إن الشرك فيه أكبر وأصغر ؛ لأنهم لم يرتدوا بهذا ، وسبق وجه ذلك .
الجلي و الخفي ؛ فبعضهم قال : إن الجلي و الخفي هو الأكبر و الأصغر ، وبعضهم قال : الجلي ما ظهر للناس من أصغر أو أكبر ؛ كالحلف بغير الله ، والسجود للصنم .
والخفي : مالا يعلمه الناس من أصغر أو أكبر ؛ كالرياء ، واعتقاد أن مع الله إله آخر .
وقد يقال : إن الجلي ما انجلى أمره وظهر كونه شركا ؛ ولو كان أصغر ، و الخفي : ما سوى ذلك .
وأيهما الذي لا يغفر ؟
قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله : إن الشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر ؛ لعموم قوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ( النساء 116) ، ( وأن يشرك به ) مؤول بمصدر تقديره : شركا به ، وهو نكرة في سياق النفي ؛ فيفيد العموم(115/155)
الثانية عشرة : قولهم : ( ونحن حدثاء عهد بكفر ) ؛ فيه أن غيرهم لا يجهل ذلك . الثالثة عشرة : التكبير عند التعجب ؛ خلافا لمن كرهه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال بعض العلماء : لأن الشرك الأصغر داخل تحت المشيئة ، وإن المراد بقوله : ( أن الشرك به ) الشرك الأكبر ، وأما الشرك الأصغر ؛ فإنه يغفر لأنه لا يخرج من الملة ، وكل ذنب لا يخرج من الملة ؛ فإنه تحت المشيئة ، وعلى كل ؛ فصاحب الشرك الأصغر على خطر، وهو أكبرمن كبائر الذنوب ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : (لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا )(1).
* الثالثة عشرة : قوله : ( ونحن حدثاء عهد بكفر ... )، معناه : أنه يعتذر عما طلبوا ، حيث طلبوا أن يجعل لهم ذات أنواط ؛ فهم يعتذرون لجهلهم بكونهم حدثاء عهد بكفر ، و أما غيرهم ممن سبق إسلامه ؛ فلا يجهل ذلك .
وعلى هذا ؛ فنقول : إنه ينبغي للإنسان أن يقدم العذر عن قوله أو فعله حتى لا يعرض نفسه إلى القول أو الظن بما ليس فيه ، ويدل لذلك حديث صفية حين شيعها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو معتكف ، فمر رجلان من الأنصار ، فقال : ( إنها صفية بنت حيي)(2) .
· · الثالثة عشرة : التكبير عند التعجب ... إلخ تؤخذ من قوله : ( الله أكبر)؛ أي : الله أكبر و أعظم من أن يشرك به ، وفي رواية الترمذي أنه قال : ( سبحان الله )؛ أي : تنزيها لله عما لا يليق به .
الرا بعة عشرة : سد الذرائع . الخامسة عشرة : النهي عن التشبه بأهل الجاهلية . السادسة عشرة : الغضب عند التعليم . السابعة عشرة : القاعدة الكلية لقوله : ( إنها السنن ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· · الرا بعة عشرة : سد الذرائع ، الذرائع : الطرق الموصلة إلى الشيء ، وذرائع الشيء : وسائله وطرقه.
والذرائع نوعان :
أ-ذرائع إلى أمور مطلوبة ؛ فهذه لا تسد ، بل تفتح وتطلب .(115/156)
ب-ذرائع إلى أمور مذمومة ؛ فهذه تسد ، وهو مراد المؤلف رحمه الله تعالى .
وذات الأنواط وسيلة إلى الشرك الأكبر ، فإذا وضعوا عليها أسلحتهم وتبركوا بها ؛ يتدرج بهم الشيطان إلى عبادتها وسؤالهم حوائجهم منها مباشرة ، فلهذا سد النبي صلى الله عليه وسلم الذرائع .
* الخامسة عشرة: النهي عن التشبه بأهل الجاهلية ، تؤخذ من قوله : ( قلتم كما قالت بنو إسرائيل )؛ فأنكر عليهم ، وبهذا نعرف أن الجاهلية لا تختص بمن كان قبل زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، بل كل من جهل الحق وعمل عمل الجاهلين ؛ فهو من أهل الجاهلية .
* السادسة عشرة : الغضب عند التعليم ، و الحديث ليس بصريح في ذلك ، وربما يؤخذ من قرائن قوله : ( الله أكبر ! إنها السنن ... ) ؛ لأن قوة هذا الكلام تفيد الغضب .
· · السابعة عشرة : القاعدة الكلية لقوله : ( إنها السنن ) ، أي : الطرق ، وأن
الثامنة عشرة : أن هذا علم من أعلام النبوة لكونه وقع كما أخبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الأمة ستتبع طرق من كان قبلها ، وهذا لا يعني الحل و الإباحة ، ولكنه للتحذير ؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ستفترق هذه الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار ؛ إلا واحدة )(1) ،وقال : ( ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر و الحرير .... )(2) الحديث ، وقال : ( إن الظعينة تذهب من كذا إلى كذا لا تخشى إلا الله )(3) ،وما أشبه ذلك من الأمور التي اخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن وقوعها مع تحريمها .
*الثامنة عشرة : أن هذا علم من أعلام النبوة لكونه وقع كما أخبر ، يعني اتباع سنن من كان قبلنا .
فإن قال قائل : إن النبي صلى الله عليه وسلم قد خطب الناس بعرفة ، و قال: ( إن الشيطان قد أيس ان يعبده المصلون في جزيرة العرب )(4) ؛ فكيف تقع عبادته .(115/157)
فالجواب : أن إخبار النبي صلى الله عليه وسلم بيأسه لا يدل على عدم الوقوع ، بل يجوز أن يقع ، على خلاف ما توقعه الشيطان ؛ لأن الشيطان لما حصلت الفتوحات ، وقوي الإسلام ، ودخل الناس في دين الله أفواجا ؛ يئس أن يعبد سوى الله في هذه الجزيرة ، ولكن حكمة الله تأبى إلا أن يكون ذلك ، وهذا نقوله ولابد ؛ لئلا يقال : إن جميع الأفعال التي تقع في الجزيرة ا لعربية لا يمكن أن تكون
التاسعة عشرة : أن كل ما ذم الله به اليهود و النصارى في القرآن؛ أنه لنا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شركا ، ومعلوم أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله جدد التوحيد في الجزيرة العربية ، وأن الناس كانوا في ذلك الوقت فيهم المشرك و غير المشرك.
فالحديث أخبر عما وقع في نفس الشيطان ذلك الوقت ، ولكنه لا يدل على عدم الوقوع ، وهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( لتركبن سنن من كان قبلكم ) ، وهو يخاطب الصحابة وهم في جزيرة العرب .
*التاسعة عشرة : أن ما ذم الله به اليهود والنصارى في القرآن أنه لنا هذا ليس على إطلاقه و ظاهره ، بل يحمل قوله : ( لنا ) ؛ أي : لبعضنا ، ويكون المراد به المجموع لا الجميع ؛ كما قال العلماء في قوله تعالى : يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُ)(الأنعام: من الآية130)،و الرسل كانوا من الإنس فقط.
فإذا وقع تشبه باليهود و النصارى ؛ فإن الذم الذي يكون لهم يكون لنا ، وما من أحد من الناس غالبا إلا وفيه شبه باليهود أو النصارى ؛ فالذي يعصي الله على بصيرة فيه شبه من اليهود ، و الذي يعبد الله على ضلاله فيه شبه من النصارى ، و الذي يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله فيه شبه من اليهود ، وهلم جرا .
وإن أراد أن كل ما ذم به اليهود و النصارى ؛ فهو لهذه الأمة على سبيل العموم ؛ فلا .(115/158)
العشرون : أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر ، فصار فيه التنبيه على مسائل القبر : أما ( من ربك ؟) فواضح ، وأما ( من نبيك ؟ ) ؛ فمن إخباره بأنباء الغيب ، وأما ( ما دينك ؟ ) ؛ فمن قولهم : ( اجعل لنا إلها... )إلى آخره .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* العشرون : أنه متقرر عندهم أن العبادات مبناها على الأمر ... إلخ ، وهذا واضح ؛ فالعبادات مبناها على الأمر ، فما لم يثبت فيه أمر الشارع ؛ فهو بدعة ، قال صلى الله عليه وسلم:( من عمل عملا ليس عليه أمرنا ؛ فهو رد )(1) ، وقال : ( إياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل بدعة ضلالة)(2).
فمن تعبد بعبادة طولب بالدليل ؛ لأن الأصل في العبادات الحظر و المنع ، إلا ما قام الدليل على مشروعيتها .
وأما الأكل و المعاملات و الآداب و اللباس و غيرها؛ فالأصل فيها الإباحة؛ إلا ما قام الدليل على تحريمه .
و قوله : ( مسائل القبر التي يسأل فيها الإنسان في قبره : من ربك ؟ من نبيك ؟ ما دينك ؟ )
ففي هذه القصة دليل على مسائل القبر الثلاث ،و ليس مراده أن فيها دليلا
الحادية و العشرون : أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين . الثانية و العشرون : ان المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العادة ؛ لقوله : ( ونحن حدثاء عهد بكفر ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على أن الإنسان يسأل في قبره ، بل فيها دليل على إثبات الربوبية و النبوة و العبادة .
أما ( من ربك ) ؛ فواضح ، يعني أنه لا رب إلا الله تعالى .
أما (من نبيك ) ؛ فمن إخباره بالغيب ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)(1)؛ فوقع كما أخبر .
أما ( ما دينك ) ؛ فمن قولهم : ( اجعل لنا إلها )؛ أي : مألوها معبودا ، و العبادة هي الدين .(115/159)
والمؤلف محمد بن عبد الوهاب رحمه الله فهمه دقيق جدا لمعاني النصوص؛ فأحيانا يصعب على الإنسان بيان وجه استنباط المسألة من الدليل .
· · الحادية و العشرون : أن سنة أهل الكتاب مذمومة كسنة المشركين ، تؤخذ من قوله : ( كما قالت بنو إسرائيل لموسى ) .
* الثانية و العشرون : أن المنتقل من الباطل الذي اعتاده قلبه لا يؤمن أن يكون في قلبه بقية من تلك العبادة ، وهذا صحيح ؛ فالإنسان المنتقل من شيء ، سواء كان باطلا أو لا ؛ لا يؤمن ان يكون في قلبه بقية منه، وهذه البقية لا تزول إلا بعد مدة؛ لقوله: (ونحن حدثاء عهد بكفر)؛ فكأنه يقول: ما سألناه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا لأن عندنا بقية من بقايا الجاهلية، ولهذا كان من الحكمة تغريب الزاني بعد جلده عن مكان الجريمة؛ لئلا يعود إليها.
فالإنسان ينبغي أن يبتعد عن مواطن الكفر والشرك والفسوق؛ حتى لا يقع في قلبه شيء منها.
* * *
باب ما جاء في الذبح لغير الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في الذبح)، أي: ذبح البهائم.
قوله: (لغير الله)، اللام للتعليل، والقصد: أي قاصداً بذبحه غير الله، والذبح لغير الله ينقسم إلى قسمين:
1ـ أن يذبح لغير الله تقرباً وتعظماً؛ فهذا لا يخرج من الملة، بل هو من الأمور العادية التي قد تكون مطلوبة أحياناً وغير مطلوبة أحياناً؛ فالأصل أنها مباحة.
ومراد المؤلف هنا القسم الأول.
فلو قدم السلطان إلى بلد، فذبحنا له، فإن كان تقرباً وتعظيماً؛ فإنه شرك أكبر، وتحرم هذه الذبائح، وعلامة ذلك: أننا نذبحها في وجهه ثم ندعها.
أما لو ذبحنا له إكراماً وضيافة، وطبخت وأكلت؛ فهذا من باب الإكرام، وليس بشرك.
وقوله: (لغير الله) يشمل الأنبياء، والملائكة، والأولياء، وغيرهم؛ فكل من ذبح لغير الله تقرباً وتعظماً؛ فإنه داخل في هذه الكلمة بأي شيء كان.(115/160)
وقوله في الترجمة: (باب ما جاء في الذبح لغير الله)، أشار إلى الدليل دون الحكم، ومثل هذه الترجمة يترجم بها العلماء للأمور التي لا يجزمون بحكمها، أو التي فيها تفصيل، وأما الأمور التي يجزمون بها؛ فإنهم يقولونها
وقول الله تعالى: (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ* لا شَرِيكَ لَهُ ) الآية (الأنعام: 162-163).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالجزم؛ مثل باب وجوب الصلاة، وباب تحريم الغيبة، ونحو ذلك.
والمؤلف رحمه الله تعالى لا شك أنه يرى تحريم الذبح لغير الله على سبيل التقرب والتعظيم، وأنه شرك أكبر، لكنه أراد أن يمرن الطالب على أخذ الحكم من الدليل، وهذا نوع من التربية العلمية؛ فإن المعلم أو المؤلف يدع الحكم مفتوحاً، ثم يأتي بالأدلة لأجل أن يكل الحكم إلى الطالب؛ فيحكم به على حسب ما سيق له من هذه الأدلة، وقد ذكر المؤلف في هذا الباب ثلاث آيات:
* * *
الآية الأولى: قوله: (قل): الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، أي: قل لهؤلاء المشركين معلناً لهم قيامك بالتوحيد الخالص؛ لأن هذه السورة مكية.
قوله: (إن صلاتي)، الصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: عبادة الله ذات أقوال وأفعال معلومة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم.
قوله: (ونسكي)، مفتتحة لغة: العبادة، وفي الشرع: ذبح القربان.
فهل تحمل هذه الآية على المعنى اللغوي أو على المعنى الشرعي؟
سبق أن ما جاء في لسان الشرع يحمل على الحقيقة الشرعية؛ كما أن ما جاء في لسان العرف؛ فهو محمول على الحقيقة العرفية وفي لسان العرب على الحقيقة اللغوية.
فعندما أقول لشخص: عندك شاه؟ يفهم الأنثى من الضأن، لكن في اللغة العربية الشاة تطلق على الواحدة من الضأن والمعز، ذكراً كان أو أنثى،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/161)
وعلى هذا؛ فيحمل النسك في الآية على المعنى الشرعي.
وقيل: تحمل على المعنى اللغوي؛ لأنه أعم؛ فالنسك العبادة، كأنه يقول: أنا لا أدعو إلا الله، ولا أعبد إلا الله، وهذا عام للدعاء والتعبد.
وإذا حملت على المعنى الشرعي؛ صارت خاصة في نوع من العبادات، وهي: الصلاة، والنسك، ويكون هذا كمثال، فإن الصلاة أعلى العبادات البدنية، والذبح أعلى العبادات المالية؛ لأنه على سبيل التعظيم لا يقع إلا قربة، هكذا قرر شيخ الإسلام ابن تيميه في هذه المسألة.
ويحتاج إلى مناقشة في مسألة أن القربان أعلى أنواع العبادات المالية؛ فإن الزكاة لا شك أنها أعظم ، وهي عبادة مالية.
وهناك رأي ثالث يقول: إن الصلاة هي الصلاة المعروفة شرعاَ، والنسك: العبادة مطلقاً، ويكون ذلك من عطف العام على الخاص.
قوله: (محياي ومماتي)، أي: حياتي وموتي؛ أي: التصرف في وتدبير أمري حياً وميتاً لله.
وفي قوله: (صلاتي ونسكي) إثبات توحيد العبادة.
وفي قوله: (محياي ومماتي) إثبات توحيد الربوبية.
قوله: (الله)، خبر إن، والله: علم على الذات الإلهية، وأصله: الإله، فحذفت الهمزة؛ لكثرة الاستعمال تخفيفا.
وهو بمعنى مألوه؛ فهو فعال بمعنى مفعول، مثل غراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش ، والمألوه: المحبوب المعظم.
قوله: (رب العالمين)، والمراد بـ (العالمين): ما سوى الله، وسمي بذلك؛ لأنه علم على خالقه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الشاعر:
فواعجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وهي تطلق على العالمين بهذا المعنى، وتطلق على العالمين في وقت معين، مثل قوله تعالى: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ)(البقرة: من الآية47) ؛ يعني: عالمي زمانهم.
والرب هنا: المالك المتصرف، وهذه ربوبية مطلقة.(115/162)
الآية الثانية: قوله: (لا شريك له)، الجملة حالية من قوله: (لله)؛ أي: حال كونه لا شريك له، والله ـ سبحانه ـ لا شريك له في عبادته ولا في ربوبيته ولا في أسمائه وصفاته، ولهذا قال تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11).
وقد ضل من زعم أن لله شركاء كمن عبد الأصنام أو عيسى بن مريم عليه السلام، وكذلك بعض غلاة الشعراء الذين جعلوا المخلوق بمنزلة الخالق؛ كقوله بعضهم يخاطب ممدوحاً له:
فكن كمن شئت يا من لا شبيه له وكيف شئت فما خلق يدانيك
وكقول البوصيري في قصيدته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذاً يوم المعاد يدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا من أعظم الشرك؛ لأنه جعل الدنيا والآخرة من جود الرسول، ومقتضاه أن الله جل ذكره ليس له فيهما شيء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال: إن (من علومك علم اللوح والقلم)، يعني: وليس ذلك كل علومك؛ فما بقي لله علم ولا تدبير ـ والعياذ بالله ـ .
قوله: (بذلك)، الجار والمجرور متعلق بـ (أمرت)؛ فيكون دالاً على الحصر والتخصيص، وإنما خص بذلك؛ لأنه أعظم المأمورات، وهو الإخلاص لله تعالى ونفي الشرك، فكأنه ما أمر إلا بهذا، ومعلوم أن من أخلص لله تعالى؛ فسيقوم بعبادة الله ـ سبحانه وتعالى ـ في جميع الأمور.
قوله: (أمرت)، إبهام الفاعل هنا من باب التعظيم والتفخيم، وإلا؛ فمن المعلوم أن الآمر هو الله تعالى.
قوله: (وأنا أول المسلمين)، يحتمل أن المراد الأولية الزمنية، فيتعين أن تكون أولية إضافية ويكون المراد أنا أول المسلمين من هذه الأمة؛ لأنه سبقه في الزمن من أسلموا.(115/163)
ويحتمل أن المراد الأولية المعنوية؛ فإن أعظم الناس إسلاماً وأتمهم انقياداً هو الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فتكون الأولية أولية مطلقة.
ومثل هذا التعبير يقع كثيراً أن تقع الأولية أولية معنوية، مثل أن تقول: أنا أول من يصدق بهذا الشيء، وإن كان غيرك قد صدق قبلك، لكن تريد أنك أسبق الناس تصديقاً بذلك، ولن يكون عندك إنكاراً أبداً، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم : (نحن أولى بالشك من إبراهيم حينما قال : (رب أرني كيف تحيي الموتى)(البقرة:260) (1) ؛ فليس معناه أن إبراهيم شاك، لكن إن قدر أن يحصل شك؛ فنحن
وقول : (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) (الكوثر:2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أولى بالشك منه، وإلا؛ فلسنا نحن شاكين، وكذلك إبراهيم ليس شاكاً.
قوله: (المسلمين)، الإسلام عند الإطلاق يشمل الإيمان؛ لأن المراد به الاستسلام لله ظاهراً وباطناً، ويدل لذلك قوله تعالى: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ)(البقرة: من الآية112) ، وهذا إسلام الباطن.
وقوله: (وهو محسن)، هذا إسلام الظاهر، وكذا قوله تعالى: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ )(آل عمران: من الآية85) يشمل الإسلام الباطن والظاهر، وإذا ذكر الإيمان دخل فيه الإسلام، قال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار)(التوبة: من الآية72).
ومتى وجد الإيمان حقاً لزم من وجوده الإسلام.
واما إذا قرنا جميعاً صار الإسلام في الظاهر والإيمان في الباطن، مثل حديث جبريل، وفيه: أخبرني عن الإسلام؛ فأخبره عن أعمال ظاهرة، وأخبرني عن الإيمان؛ فأخبره عن أعمال باطنة (1) .
وكذا قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ )(الحجرات: من الآية14).(115/164)
والشاهد من الآية التي ذكرها المؤلف: أن الذبح لا بد أن يكن خالصاً لله. الآية الثالثة : قوله: (فصل) ، الفاء للسببية عاطفة على قوله : ( إنا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أعطيناك الكوثر)(الكوثر:1)؛ أي بسبب إعطائنا لك ذلك صل لربك وانحر شكراً لله تعالى على هذه النعمة.
والمراد بالصلاة هنا الصلاة المعروفة شرعاً.
وقوله: (وانحر)، المراد بالنحر: الذبح، أي اجعل نحرك لله كما أن صلاتك له؛ فأفادت هذه الآية الكريمة أن النحر من العبادة، ولهذا أمر الله به وقرنه بالصلاة.
وقوله: (وانحر)، مطلق؛ فيدخل فيه كل ما ثبت في الشرع مشروعيته، وهي ثلاثة أشياء: الأضاحي، والهدايا، والعقائق؛ فهذه الثلاثة يطلب من الإنسان أن يفعلها.
أما الهدايا؛ فمنها واجب، ومنها مستحب، فالواجب كما في التمتع: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ)(البقرة: من الآية196)، وكما في المحصر: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْي)(البقرة: من الآية196)، وكما في حلق الرأس : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ )(البقرة: من الآية196)، هذا إن صح أن نقول : إنها هدي ، ولكن الأولى أن نسميها فدية كما سماها الله ـ عز وجل ـ ؛ لأنها بمنزلة الكفارة.
وأما الأضاحي؛ فاختلف العلماء فيها:
فمنهم من قال: إنها واجبة.
ومنهم من قال: إنها مستحبة.
وأكثر أهل العلم على أنها مستحبة، وأنه يكره للقادر تركها.
ومذهب أبي حنيفة رحمه الله أنها واجبة على القادر، واختاره شيخ الإسلام ابن تيميه.
عن علي رضي الله عنه؛ قال: (حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/165)
والأضحية ليست عن الأموات كما يفهمه العوام، بل هي للأحياء، وأما الأموات؛ فليس من المشروع أن يضحى لهم استقلالا ، إلا إن أوصوا به ؛ فعلى ما أوصوا به لأن ذلك لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأما العقيقة : وهي التي تذبح عن المولود في يوم سابعه إن كان ذكرا فاثنتان ، وإن كان أنثي فواحدة ، وتجزيء الواحدة مع الإعسار في الذكور . وهي سنة عند أكثر أهل العلم ، وقال بعض أهل العلم : إنها واجبة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( كل غلام مرتهن بعقيقته)(1) .
* * *
قوله : (كلمات ) : جمع كلمة ، والكلمة في اصطلاح النحويين : القول المفرد. أما في اللغة ؛ فهي كل قول مفيد، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أصدق كلمة قالها شاعر : ألا كل شيء ما خلا الله باطل )(2) ، وقال تعالى:( كلا إنها كلمة هو قائلها ) ، وهي قوله : ( رَبِّ ارْجِعُون لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ)(المؤمنون: من الآية99-100) .
قال شيخ الإسلام : لا تطلق الكلمة في اللغة العربية إلا على الجملة المفيدة.
لعن الله من ذبح لغير الله ، لعن الله من لعن والديه ، لعن الله من آوى محدثا ، لعن الله من غير منار الأرض ) رواه مسلم(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( لعن الله ) ، اللعن من الله : الطرد و الإبعاد عن رحمه الله ، فإذا قيل : لعنه الله ؛ فالمعنى : طرده و أبعده عن رحمته ، وإذا قيل : اللهم العن فلانا ؛ فالمعنى أبعده عن رحمتك واطرده عنها .
قوله : ( من ذبح لغير الله ) ، عام يشمل من ذبح بعيرا ، أو بقرة ، أو دجاجة ، أو غيرها .
قوله : ( لغير الله ) ، يشمل كل من سوى الله حتى لو ذبح لنبي ، أو ملك ، أو جني ، أو غيرهم .(115/166)
وقوله : (لعن ) يحتمل أن يكون الجملة خبرية ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أن الله لعن من ذبح لغير الله ، ويحتمل أن تكون إنشائية بلفظ الخبر ؛ أي: اللهم العن من ذبح لغير الله ، و الخبر أبلغ ؛ لأن الدعاء قد يستجاب ، وقد لا يستجاب.
قوله : ( والديه ) ، يشمل الأب و الأم ، ومن فوقهما ؛ لأن الجد أب ، كما أن أولاد الابن و البنت أبناء في وجوب الاحترام لأصولهم .
و المسألة هنا ليست مالية، بل هي من الحقوق، ولعن الأدنى أشد من لعن الأعلى ؛ لأنه أولى بالبر ، ولعنه ينافي البر .
قوله : ( من لعن والديه ) ، أي : سبهما وشتمهما ؛ فاللعن من الإنسان السب و الشتم ، فإذا سببت إنسانا أو شتمته ؛ فهذا لعنه النبي صلى الله عليه وسلم قيل له : كيف يلعن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرجل والديه ؟ قال : ( يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه)(1)
وأخذ الفقهاء من هذا الحديث قاعدة ، وهي : أن السبب بمنزلة المباشرة في الإثم ؛ وإن كان يخالف في الضمان على تفصيل في ذلك عند أهل العلم .
قوله : ( من آوى محدثا ) ، أي : ضمه إليه وحماه ، والإحداث : يشمل الإحداث في الدين ؛ كالبدع التي أحدثها الجهمية والمعتزلة ، وغيرهم .
والإحداث في الأمر : أي في شؤون الأمة ؛ كالجرائم وشبهها ، فمن آوى محدثا ؛ فهو ملعون ، وكذا من ناصرهم ؛ لأن الإيواء أن تأويه لكف الأذى عنه ، فمن ناصره ؛ فهو أشد و أعظم .
والمحدث أشد منه ؛ لأنه إذا كان إيواؤه سببا للعنه ؛ فإن نفس فعله جرم أعظم . ففيه التحذير من البدع و الإحداث في الدين ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إياكم ومحدثات الأمور ؛ فإن كل بدعة ضلالة )(2)، وظاهر الحديث : ولو كان أمرا يسيرا .(115/167)
قوله:( منار الأرض) ، أي : علاماتها ومراسيمها التي تحدد بين الجيران ، فمن غيرها ظلما ؛ فهو ملعون ، وما أكثر الذين يغيرون منار الأرض ، ولاسيما إذا زادت قيمتها ، وما علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( من اقتطع شبرا من الأرض ظلما ؛ طوقه من سبع أرضين ) (3)؛ فالأمر عظيم ، مع أن هذا الذي يقتطع من الأرض ويغير المنار ، ويأخذ ما لا يستحق لا يدري : قد يستفيد منها في دنياه ، وقد يموت قبل ذلك ، وقد يسلط عليه آفة تأخذ ما أخذ
وعن طارق بن شهاب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( دخل الجنة رجل في ذباب ودخل النار رجل في ذباب ) قالوا:وكيف ذلك يا رسول الله ؟ قال : (مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه أحد حتى يقرب له شيئا ، فقالوا لأحدهما: قرب . قال : ليس عندى شيء أقربه . قالوا له : قرب ولو ذبابا . فقرب ذبابا ، فخلوا سبيله ، فدخل النار . وقالوا للآخر : قرب . فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل . فضربوا عنقه ، فدخل الجنة ) رواه أحمد.(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالحاصل : أن هذا دليل على أن تغيير منار الأرض من كبائر الذنوب،ولهذا قرنه النبي صلى الله عليه وسلم بالشرك و بالعقوق وبالإحداث؛ مما يدل على أن أمره عظيم ، وأنه يجب على المرء أن يحذر منه ، وأن يخاف الله ـ سبحانه و تعالى ـ حتى لا يقع فيه .
* * *
قوله : ( عن طارق بن شهاب ) .
في الحديث علتان :
الأولى : أن طارق بن شهاب اتفقوا على أنه لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم ، واختلفوا في صحبته ، و الأكثرون على أنه صحابي .
لكن إذا قلنا : إنه صحابي ؛ فلا يضر عدم سماعه من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مرسل الصحابي حجة ، وإن كان غير صحابي ؛ فإنه مرسل غير صحابي، وهو من أقسام الضعيف .(115/168)
الثانية : أن الحديث معنعن من قبل الأعمش ، وهو من المدلسين ، وهذه آفة في الحديث ؛ فالحديث في النفس منه شيء من أجل هاتين العلتين .
ثم للحديث عله ثالثة ، وهي أن الإمام أحمد رواه عن طارق عن سلمان موقوفا من قوله ، وكذا أبو نعيم وابن أبي شيبة ؛ فيحتمل أن سلمان أخذه عن بني إسرائيل
قوله : ( في ذباب ) ، في : السببية ، وليست للظرفية ؛ أي : بسبب ذباب، ونظيره قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( دخلت النار امرأة في هرة حبستها….) الحديث ؛ أي : بسبب هرة .
قوله : ( فدخل النار ) ، مع أنه ذبح شيئا حقيرا لا يؤكل ، لكن لما نوى التقرب به إلى هذا الصنم ؛ صار مشركا ، فدخل النار .
· · فيه مسائل :
الأولى : تفسير ( قل أن صلتي و نسكي ) . الثانية : تفسير ( فصل لربك وانحر ) . الثالثة : البداءة بلعنة من ذبح لغير الله . الرابعة : لعن من لعن والديه، ومنه أن تلعن والدي الرجل فيلعن والديك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
* الأولى : تفسير ( قل إن صلاتي ونسكي ) ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
الثانية : تفسير : ( فصل لربك وانحر ) ، وقد سبق ذلك في أول الباب.
*الثالثة : البداءة بلعنة من ذبح لغير الله ، بدأ به ؛ لأنه من الشرك ، والله إذا ذكر الحقوق يبدأ أولا بالتوحيد ؛ لأن حق الله أعظم الحقوق ، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً)(النساء: من الآية36)، وقال تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَان)(الاسراء: من الآية2)، وينبغي أن يبدأ في المناهي والعقوبات بالشرك وعقوبته .
الرابعة : لعن من لعن والديه .
ولعن الرجل للرجل له معنيان :
الأول : الدعاء عليه باللعن .(115/169)
الثاني : سبه و شتمه ؛لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فسره بقوله:( يسب أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه )(1).
الخامسة : لعن من آوى محدثا ، وهو الرجل يحدث شيئا يجب فيه حق الله؛ فيلتجىء إلى من يجيره من ذلك . السادسة : لعن من غير منار الأرض ، وهي المراسيم التي تفرق بين حقك وحق جارك من الأرض ، فتغيرها بتقدم أو تأخير. السابعة : الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الخامسة : لعن من آوى محدثا ، وقد سبق أنه يشمل الإحداث في الدين و الجرائم ، فمن آوى محدثا ببدعة ؛ فهو داخل في ذلك ، ومن آوى محدثا بجريمة ؛ فهو داخل في ذلك .
* السادسة : لعن من غير منار الأرض ، وسواء كانت بينك وبين جارك، أو بينك وبين السوق مثلا ؛ لأن الحديث عام .
* السابعة : الفرق بين لعن المعين ولعن أهل المعاصي على سبيل العموم، فالأول ممنوع ، والثاني جائز ، فإذا رأيت من آوى محدثا ؛ فلا تقل لعنك الله ، بل قل : لعن الله من آوى محدثا على سبيل العموم ، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صار يلعن أناسا من المشركين من أهل الجاهلية بقوله : ( اللهم العن فلانا وفلانا و فلانا ) نهي عن ذلك بقوله تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)(1) (آل عمران:128)؛ فالمعين ليس لك أن تلعنه ، وكم من إنسان صار على وصف يستحق به اللعنة ثم تاب فتاب
الثامنة : هذه القصة العظيمة ، وهي قصة الذباب . التاسعة : كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده ، بل فعله تخلصا من شرهم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/170)
الله عليه ، إذن يؤخذ هذا من دليل منفصل ، وكأن المؤلف رحمه الله قال : الأصل عدم جواز إطلاق اللعن ؛ فجاء هذا الحديث لاعنا للعموم ، فيبقى الخصوص على أصله ؛ لأن المسلم ليس بالطعان ولا باللعان ، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس طعانا ولا لعانا ، ولعل هذا وجه أخذ الحكم من الحديث ، وإلا ؛ فالحديث لا تفريق فيه .
* الثامنة : هذه القصة العظيمة وهي قصة الذباب ، كأن المؤلف رحمه الله يصحح الحديث ، ولهذا بنى عليه حكما ، و الحكم المأخوذ من فرع عن صحته، والقصة معروفة .
* التاسعة : كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده ، بل فعله تخلصا من شرهم ، هذه المسألة ليست مسلمة ، فإن قوله : قرب ولو ذبابا يقتضي أنه فعله قاصدا التقرب ، أما لو فعله تخلصا من شرهم فإنه لا يكفر لعدم قصد التقرب ، ولهذا قال الفقهاء : لو أكره على طلاق امرأته فطلق تبعا لقول المكره ؛ لم يقع الطلاق ، بخلاف ما لو نوى الطلاق ؛ فإن الطلاق يقع ، وإن طلق دفعا للإكراه؛ لم يقع، وهذا حق لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الأعمال بالنيات )(1) .
وظاهر القصة أن الرجل ذبح بنية التقرب ؛ لأن الأصل أن الفعل المبني
العاشرة : معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين ؛ كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبهم مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر ؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على طلب يكون موافقا لهذا الطلب .
ونحن نرى خلاف ما يرى المؤلف رحمه الله ، أي أنه لو فعله بقصد التخلص ولو ينو التقرب لهذا الصنم لا يكفر ؛ لعموم قوله تعالى : (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً)(النحل: من الآية106).
وهذا الذي فعل ما يوجب الكفر تخلصا مطمئن قلبه بالإيمان .(115/171)
والصواب أيضا : أنه لا فرق بين القول المكره عليه والفعل ، وإن كان بعض العلماء يفرق ويقول : إذا أكره على القول لم يكفر ، وإذا أكره على الفعل كفر ، ويستدل بقصة الذباب ، وقصة الذباب فيها نظر من حيث صحتها ، وفيها نظر من حيث الدلالة ؛ لما سبق أن الفعل المبني على طلب يكون موافقا لهذا الطلب .
ولو فرض أن الرجل تقرب بالذباب تخلصا من شرهم ؛ فإن لدينا نصا محكما في الموضوع ، وهو قوله تعالى : ( من كفر بالله ….) ( النحل : 1069 الآية ، ولم يقل : بالقول ، فما دام عندنا نص قرآني صريح ؛ فإنه لو وردت السنة صحيحة على وجه مشتبه ؛ فإنها تحمل على النص المحكم.
الخلاصة أن من أكره على الكفر ؛ لم يكن كافرا ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان ولم يشرح بالكفر صدرا .
*العاشرة : معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين … إلخ ، وقد بينها المؤلف رحمه الله تعالى .
................................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مسألة :
هل الأولى للإنسان إذا أكره على الكفر أن يصبر ولو قتل، أو يوافق ظاهراً ويتأول؟
هذه المسألة فيها تفصيل:
أولاً: أن يوافق ظاهراً وباطناً، وهذا لا يجوز لأنه رده.
ثانياً: أن يوافق ظاهراً لا باطناً، ولكن يقصد التخلص من الإكراه؛ فهذا جائز.
ثالثاً: أن لا يوافق لا ظاهراً ولا باطناً ويقتل وهذا جائز، وهو من الصبر.
لكن أيهما أولى أن يصبر ولو قتل، أو أن يوافق ظاهراً؟
فيه تفصيل:
إذا كان موافقة الإكراه لا يترتب عليه ضرر في الدين للعامة؛ فإن الأولى أن يوافق ظاهراً، لا سيما إذا كان بقاؤه فيه مصلحة للناس، مثل: صاحب المال الباذل فيما ينفع أو العلم النافع وما أشبه ذلك، حتى وإن لم يكن فيه مصلحة؛ ففي بقائه على الإسلام زيادة عمل، وهو خير، وهو قد رخص له أن يكفر ظاهراً عند الإكراه؛ فالأولى أن يتأول، ويوافق ظاهراً لا باطناً.(115/172)
أما إذا كان في موافقته وعدم صبره ضرر على الإسلام؛ فإنه يصبر، وقد يجب الصبر؛ لأنه من باب الصبر على الجهاد في سبيل الله، وليس من باب إبقاء النفس، ولهذا لما شكى الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم ما يجدونه من مضايقة المشركين؛ قص عليهم قصة الرجل فيمن كان قبلنا بأن الإنسان كان يمشط ما بين لحمه وجلده بأمشاط الحديد (1) ويصبر، فكأنه يقول لهم: اصبروا على الأذى.
الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافراً؛ لم يقل: (دخل النار في ذباب). الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك) (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولو حصل من الصحابة رضي الله عنهم في ذلك الوقت موافقة للمشركين وهم قلة؛ لحصل بذلك ضرر عظيم على الإسلام.
والإمام أحمد رحمه الله في المحنة المشهورة لو وافقهم ظاهراً؛ لحصل في ذلك مضرة على الإسلام.
* الحادية عشرة: أن الذي دخل النار مسلم؛ لأنه لو كان كافراً لم يقل: دخل النار في ذباب، وهذا صحيح، أي أنه كان مسلماَ ثم كفر بتقريبه للصنم؛
فكان تقريبه هو السبب في دخوله النار.
ولو كان كافراً قبل أن يقرب الذباب؛ لكان دخوله النار لكفره أولى، لا بتقريبه الذباب.
* الثانية عشرة: فيه شاهد للحديث الصحيح: (الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك)، والغرض من هذا: الترغيب والترهيب، فإذا علم أن الجنة أقرب إليه من شراك النعل؛ فإنه ينشط على السعي، فيقول: ليست بعيدة؛ كقوله صلى الله عليه وسلم لما سئل عما يدخل الجنة ويباعد من النار، فقال: (لقد سألت
الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم، حتى عند عبدة الأصنام.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(115/173)
عن عظيم، وأنه ليسير على من يسره الله عليه) (1) ، والنار إذا قيل له : إنها أقرب من شراك النعل يخاف، ويتوقى في مشيه لئلا يزل فيهلك، ورب كلمة توصل الإنسان إلى أعلى عليين، وكلمة أخرى توصله إلى أسفل سافلين.
* الثالثة عشرة: معرفة أن عمل القلب هو المقصود الأعظم حتى عند عبدة الأوثان، والحقيقة أن هذه المسألة مع التاسعة فيها شبه تناقض؛ لأنه في هذه المسألة أحال الحكم على عمل القلب، وفي التاسعة أحاله على الظاهر؛ فقال: بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده بل فعله تخلصاً من شرهم، ومقتضى ذلك أن باطنه سليم، وهنا يقول: إن العمل بعمل القلب، ولا شك أن ما قاله المؤلف رحمه الله حق بالنسبة إلى أن المدار على القلب.
والحقيقة أن العمل مركب على القلب، والناس يختلفون في أعمال القلوب أكثر من اختلافهم في أعمال الأبدان، والفرق بينهم قصداً وذلاً أعظم من الفرق بين أعمالهم البدنية؛ لأن من الناس من يعبد الله لكن عنده من الاستكبار ما لا يذل معه ولا يذعن لكل حق، وبعضهم يكون عنده ذل للحق، لكن عنده نقص في القصد؛ فتج عنده نوعاً من الرياء مثلاً.
فأعمال القلب وأقواله لها أهمية عظيمة، فعلى الإنسان أن يخلصها لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأقوال القلب هي اعتقاداته؛ كالإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.
وأعماله هي تحركاته؛ كالحب ، والخوف، والرجاء، والتوكل، والاستعانة، وما أشبه ذلك.
والدواء لذلك: القرآن والسنة، والرجوع إلى سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بمعرفة أحواله وأقواله وجهاده ودعوته، هذا مما يعين على جهاد القلب.
ومن أسباب صلاح القلب أن لا تشغل قلبك بالدنيا.
* * *
---
(1) البخاري : كتاب اللباس/ باب عذاب المصورين يوم القيامة، ومسلم : كتاب اللباس والزينة/ باب تحريم تصوير صورة الحيوان.(115/174)
(1) البخاري : كتاب الطب/ باب من اكتوى أو كوى غيره، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب.
(1) البخاري : كتاب بدء الخلق / باب ما جاء في قول الله تعالى : (وهو الذي يبدأ الخلق).
(2) البخاري : كتاب التهجد / باب الدعاء والصلاة آخر الليل، ومسلم: كتاب صلاة المسافر/ باب الترغيب في الدعاء والذكر آخر الليل
(1) ص 5 .
(1) البخاري : كتاب الجهاد/باب الحراسة في الغزو.
(2) انظر: (ص21).
(1) (1) البخاري : كتاب الشهادات/باب ما قيل في شهادة الزور، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بيان الكبائر).
(2) (2) البخاري: كتاب الديات/باب قول الله تعالى : أن النفس بالنفس ... ) ، ومسلم كتاب القسامة/ باب ما يباح به دم المسلم.
(1) البخاري : كتاب الحدود/ باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، ومسلم: كتاب الحدود/ باب قطع السارق الشريف
(1) البخاري : كتاب الديات / باب العاقلة.
(1) البخاري: كتاب الجهاد/ باب اسم الفرس والحمار، ومسلم : كتاب الإيمان / باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.
(1) مسلم : كتاب الزهد/ باب من أشرك في عمله غير الله.
(1) مسند الإمام أحمد 1/299، سنن أبي داود : كتاب الطهارة / باب المواضع التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التبول فيها ، وابن ماجة: كتاب الطهارة/باب النهي عن الخلاء على قارعة الطريق، والحاكم ـ وقال: (صحيح)، ووافقه الذهبي.
(1) البخاري: كتب الأدب/ باب شراء من وصل رحمه في الشرك ثم أسلم، ومسلم: كتاب الإيمان/باب بيان حكم عمل الكافر إذا أسلم بعده.
(2) سبق تخريجه (ص 31)
(1) سبق تخريجه (ص 34) .
(1) مسلم: كتاب الإيمان/باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.
(2) البخاري: كتاب العلم/ باب ترك بعض الاختيار مخافة أن يقصر فهم بعض الناس عنه، ومسلم: كتاب الحج/باب نقض الكعبة.
(1) سبق تخريجه (ص 34) .(115/175)
(2) مسلم: كتاب الفضائل/باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال.
(3) مسند الإمام أحمد 1/396، وقال أحمد شاكر : إسناده حسن على الأقل. وسنن أبي داود: كتاب الأدب/باب في رفع الحديث من المجلس، ـ وسكت عنه ـ .
(1) مسند الإمام أحمد (1/214)، وابن ماجة: كتاب الكفارات/باب النهي أن يُقال: ما شاء الله وشئت، وقال أحمد شاكر : إسناده صحيح (1839).
(1) رواه : مسلم : المقدمة/ باب النهي عن الحديث بكل ما سمع.
(2) البخاري: كتاب العلم/باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا.
(1) البخاري : كتاب الجماعة والإمامة/ باب فضل صلاة الجماعة، ومسلم: كتاب المساجد/ باب فضل صلاة الجماعة.
(1) البخاري: كتاب الإيمان/باب ظلم دون ظلم، مسلم: كتاب الإيمان/ باب صدق الإيمان وإخلاصه.
(1) البخاري: كتاب أحاديث الأنبياء/باب قوله تعالى : (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم)، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على أن من مات على التوحيد دخل الجنة.
(1) البخاري: كتاب الجنائز/باب ما قيل في أولاد المشركين، ومسلم: كتاب القدر/باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.
(1) سبق تخريجه (ص 23) .
(2) مسلم: كتاب الإيمان/باب الوسوسة في الإيمان.
(1) البخاري: كتاب المغازي/ باب غزوة ذات الرقاع، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين/باب صلاة الخوف.
(1) البخاري: كتاب التوحيد/ باب قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء/باب الحث على ذكر الله تعالى.
(1) (1) البخاري: كتاب التهجد/باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم حتى تورم قدماه، ومسلم: كتاب صفات المنافقين/باب إكثار الأعمال.
(2) (2) ذكره ابن هشام في (السيرة النبوية) (2/416) ، وابن كثير في (البداية والنهاية) (3/133).
(1) مسلم: كتاب الآداب/باب النهي عن التكني بأبي القاسم وما يستحب من الأسماء(115/176)
(1) البخاري : كتاب الصلاة/ باب المساجد في البيوت، ومسلم: كتاب المساجد/باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر.
(1) مسلم : كتاب المساجد/ باب الرخصة في التخلف عن الجماعة بعذر.
(1) الإمام أحمد في (المسند) 5/242، والهيثمي في (المجمع) 1/16، والخطيب في (المشكاة) 1/91 ، قال الهيثمي : (رواه أحمد والبزار وفيه القطاع)، وضعفه الألباني في (الضعيفة) 3/477
(2) البخاري: كتاب الأشربة/باب قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر ...)، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب نقصان الإيمان بالمعاصي
(1) ابن حبان (2324)، والحاكم (1/528) – وصححه ووافقه الذهبي ـ ، وقال الحافظ في (الفتح) : أخرجه النسائي بسند صحيح.
(1) مسند الإمام أحمد (5/147)، والترمذي: كتاب الدعوات/باب غفران الذنوب، وقال: أحسن غريب).
(1) سبق تخريجه (ص 23) .
(1) سبق تخريجه (ص 49).
(1) البخاري: بلفظ (من ظلم قيد شبر . . . ) : كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، ومسلم: كتاب المساقاة/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض.
(1) سبق تخريجة (ص 15) .
(1) مسلم: كتاب الحيض/ باب ذكر الله تعالى حال الجنابة.
(1) انظر: (ص 889) باب قول الله تعالى: (فلما آتاهما صالحاً جعلا له شركاه فيما آتاهما . . . ) .
(1) انظر (ص 54) .
(1) البخاري : كتاب الطب/ باب الرقى بفاتحة الكتاب، ومسلم: كتاب السلام/ باب جواز أخذ الأجرة على الرقية بالقرآن.
(1) مسند الإمام أحمد (3/486)، وموطأ الإمام مالك (211/938)، وشرح السنة (1211/164)0
(1) البخاري : كتاب فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم / باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لو كنت متخذاً خليلاً)، ومسلم : كتاب فضائل الصحابة/ باب تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم.
(1) مسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.(115/177)
(2) البخاري: كتاب الطب/ باب رقية النبي صلى الله عليه وسلم ، ومسلم: كتاب السلام/ باب استحباب الرقية من العين.
(3) مسلم: كتاب السلام/ باب الطب والمرض والرقى.
(4) البخاري: كتاب فضائل القرآن/ باب فضل المعوذات، ومسلم: كتاب السلام/باب رقية المريض.
(5) كما في قصة صاحب السرية.
(1) مسلم: كتاب النكاح/ باب استحباب التزوج والتزويج في شوال.
(1) (1) البخاري : كتاب الرقاق/ باب يدخل الجنة سبعون ألفاً)، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.
(2) سبق تخريجه (91).
(1) سبق تجريجه (ص 94).
( 1) انظر : ( ص91 ) .
(1) يأتي تخريجه (487) .
(2) البخاري : كتاب الإيمان / باب خوف المؤمن أن يحبط عمله .
(2) (2) انظر ك ( طريق الهجرتين ) لابن القيم آخر الطبقة الخامسة عشرة .
0(1) موطأ الإمام مالك (1/172) .
(1) مسند الإمام أحمد ( 5/428) و شرح السنة ( 14/324) .
(1) مسند الإمام أحمد (5/428)و شرح السنة (14/324).
(2) سبق تخريجه ( ص 37) .
(1) البخاري : كتاب التفسير /باب ( و من الناس من يتخذ من دون الله أندادا ) .
(1) مسند الإمام أحمد (3/198)، والترمذي: كتاب الاستئذان/ باب ما جاء في المصافحة، وقال: (حديث حسن)، وابن ماجة: كتاب الأدب/ باب في المصافحة.
(2) مسند الإمام أحمد (2/68)، وأبو داود (3/17)، والنسائي (5/28) ، والحاكم وصحح.
(1) مسلم : كتاب الإيمان/ باب من مات وهو لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة.
(2) البخاري : كتاب الرقاق/ باب سكرات الموت، ومسلم (كتاب الزهد والرقاق.
(1) سبق تخريجه (112).
(1) سبق تخريجه (ص 112).
(1) يأتي (126).
(1) سبق تخريجه (ص6).
(2) البخاري: كتاب المغازي/ باب بعض أبي موسى ومعاذ إلى اليمن، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدعاء إلى الشهادتين.(115/178)
(3) البخاري: كتاب المغازي/ باب قول الله تعالى: (ويوم حنين إذ أعجبتكم...) ، ومسلم : كتاب الجهاد/ باب استحقاق القاتل سلب القتيل.
(1) البخاري : كتاب الخمس / باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي المؤلفة، ومسلم: كتاب الزكاة/ باب إعطاء المؤلفة .
(1) البخاري : كتاب المغازي/باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن.
(1) البخاري: كتاب الجنائز/ باب إذا قال المشرك عند الموت لا إله إلا الله، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت.
(2) أنظر (ص 53).
(1) تقدم تخريجه (119)0
(1) البخاري: كتاب الجهاد / باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، ومسلم: كتاب فضائل الصحابة/ باب من فضائل علي.
(2) البخاري : كتاب الأذان/ باب ما يحقن بالأذان من الدماء ، ومسلم: كتاب الحج/باب فضل المدينة.
([1][1]) انظر : (ص1)
(1) انظر : (ص 83) .
(1) البخاري : كتاب الأحكام/ باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، ومسلم: كتاب الإمام/ باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية.
(1) سبق (ص 45)
(1) سبق (ص 23).
(1) البخاري : كتاب فضائل الصحابة/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (لو كنت متخذاً خليلاً)، ومسلم : كتاب الفضائل / باب فضائل أبي بكر.
(1) مسلم : كتاب الإيمان/ باب الأمر بقتال الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله.
(1) البخاري : كتاب الجنائز/ باب الأمر باتباع الجنائز، ومسلم: كتاب السلام/ باب من حق المسلم للمسلم رد السلام.
(1) مسند الإمام أحمد ( 4/445) ـ واللفظ له ـ ، وابن ماجة (كتاب الطب، باب تعليق التمائم) وليس فيه : (فإنك لو مت …) إلخ . وفي (الزوائد) : (إسناده حسن؛ لأ، مبارك هذا هو ابن فضالة). ورواه ابن حبان أيضاً (1410) بلفظ (إنك إن نمت وهي عليك وكلت إليها). ومن طريق أبي عامر الخراز عن الحسن عن عمران بنحوه ، رواه ابن حبان(1411) والحاكم (4/216)، وصححه ووافقه الذهبي.(115/179)
(1) مسند الإمام أحمد ( 4/154)، و الحاكم (4/216) ، وصححه ووافقه الذهبي .
(1) مسند الإمام أحمد (4/156)، والحاكم(4/219،كتاب الطب).
(1) مصنف عبد الرزلق (8/469)، و الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) ( 4/177)، وقال : أخرجه الطبراني في الكبير ورجاله رجال الصحيح ) .
(1) مسند الإمام أحمد ( 4/130) ، والترمذي ( أبواب الطب ، باب ما في كراهة التعليق (7302) .
(1) (1) مسلم : كتاب المساجد /باب النهي عن نشد الضالة في المسجد .
(1) الترمذي : كتاب البيوع /باب النهي عن البيع في المسجد ، 2/472 ، وحسنه و صححه الحاكم ، ووافقه الذهبي ، و قال الألباني : ( حديث صحيح ) الإرواء 5/134 .
(1) (1) البخاري : كتاب الجهاد /باب ما قيل في الجرس و نحوه في أعناق الإبل ، و مسلم : كتاب اللباس /باب كراهة قلادة الوتر في رقبة البعير .
(1) مسند الإمام أحمد ( 1/381) وحسن إسنادة أحمد شاكر (3615)، وأبو داود (كتاب الطب، باب في تعليق التمائم، 5/212)، والحاكم في (الرقى والتمائم، 4/418) ـ وقال: (صحيح الإسناد على شرط الشيخين)، وأقره الذهبي.
(2) سبق (ص 87).
(1) البخاري: كتاب الحج/باب تقبيل الحجر، ومسلم: كتاب الحج/ باب استحباب تقبيل الحجر.
(1) تقدم تخريجه (165).
(1) البخاري : كتاب التفسير/ باب (الذين قال لهم الناس ….) .
(1) انظر : (مجموع فتاوى ورسائل فضيلة الشيخ محمد العثيمين) ، (1/58).
(1) البخاري: كتاب المرضى/باب دعاء العائد للمريض، ومسلم: كتاب السلام/باب استحباب رقية المريض.
(1) البخاري: كتاب فضائل القرآن / باب فضل المعوذات ، ومسلم: كتاب السلام/باب رقية المريض بالمعوذات والنفث.
(2) سق (ص 87).
(1) مسند الإمام أحمد (4/108 ، 109).
(1) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الطب/ باب في تعليق التمائم والرقى.
(2) مسلم: كتاب الأشربة/ باب استحباب لعق الأيادي والقصعة.(115/180)
(1) مصنف ابن أبي شيبة: كتاب الطب/ باب في تعليق التمائم والرقى.
(1) (ص 91) .
(1) (ص94) .
(2) انظر : ( ص174) .
(1) مسلم: كتاب الإيمان/ باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : (من غشنا فليس منا).
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة / باب قوله صلى الله عليه وسلم : (لو كنت متخذاً خليلاً)، ومسلم: كتاب الحيض/ باب التميم.
(1) (مجموع الفتاوى) (1/83).
(1) سبق (171) .
(1) مسند الإمام أحمد (1/47) وسنن أبي داود: كتاب النكاح/ باب في الولي، 2/568 ـ وسكت عنه ـ ، والترمزي: كتاب النكاح / باب لا نكاح إلا بولي ، رقم 1102 ـ وقال : (حديث حسن) ـ .
(1) مسند الإمام أحمد (5/218)، والترمذي: أبواب الفتن/ باب ما جاء: (لتركبن سنن من كان قبلكم) ، 6/343 ـ وقال (حسن صحيح).
(1) مسند الإمام أحمد (2/125) ، وسنن أبي داود : كتاب الأيمان / باب من كراهية الحلف بالآباء ـ وسكت عنه ـ ، و الترمذي : النذور / باب كراهية الحلف بغير الله تعالى ـوحسنه ـ.
(1) مسلم : كتاب الإيمان / باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة .
(1) تقدم (ص163).
(2) البخاري : كتاب الاعتكاف / باب هل يخرج المعتكف ، ومسلم : كتاب السلام / باب بيان أنه يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة ...
(1) تقدم (ص31) .
(2) البخاري تعليقا : كتاب الأشربة /باب فيمن يستحل الخمر و يسميه بغير اسمه .
(3) البخاري : كتاب المناقب / باب علامات النبوة .
(4) مسلم : كتاب صفات المنافقين /باب تحريش الشيطان .
(1) مسلم : كتاب الأقضية /باب نقض الأحكام الباطلة.
(2) مسند الإمام أحمد (4/126) ، وسنن أبي داود : كتاب السنة /باب لزوم السنة ، 5/13، و الترمذي : العلم /باب الأخذ بالسنة ، رقم 2678-وقال : ( حسن صحيح ) -.
(1) تقدم (ص 192) .
(1) البخاري : كتاب الأنبياء/باب قوله تعالى (ونبثهم عن ضيف إبراهيم)، ومسلم: كتاب الفضائل/ باب من فضائل إبراهيم عليه السلام.(115/181)
(1) البخاري: كتاب الإيمان/باب سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم . . . ، ومسلم : كتاب الإيمان/باب الإيمان والإسلام والإحسان.
(1) مسند الإمام أحمد (5/7)، والترمذي : كتاب الأضحية /باب في العقيقة ـ وقال : ( حديث حسن صحيح ) ، وصححه الألباني في الإرواء ، 4/385.
(2) البخاري : كتاب الأدب /باب ما ييجوز من الشعر و الرحز ، ومسلم : في أوائل كتاب الشعر .
(1) مسلم كتاب الأضاحي /باب تحريم الذبح لغير الله .
(1) (1) البخاري كتاب الأدب /باب لا يسب الرجل والديه ، ومسلم : كتاب الإيمان /باب بيان الكبائر
(2) سبق (ص203).
(3) سبق (ص75).
(1) رواه الإمام أحمد في ( الزهد ) ( ص15،16).
(1) سبق (ص215) .
(1) البخاري : كتاب التفسير /باب قول الله تعالى : ( وليس لك من الأمر شيء ) .
(1) البخاري : كتاب بدء الوحي /باب كيف كان بدء الوحي ، ومسلم : كتاب الإمارة /باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ) .
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة/ باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
(1) البخاري : كتاب الرقاق/باب الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله.
(1) (1) مسند الإمام أحمد (5/231)، والترمذي : كتاب الإيمان / باب ما جاء في حرمة الصلاة ـ وقال: (حسن صحيح) ـ .(115/182)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد التاسع
القول المفيد شرح كتاب التوحيد - الأول / ب
محمد بن صالح العثيمين
باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله
وقول الله تعالى: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً )(التوبة: من الآية108).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الانتقال من المؤلف من أحسن ما يكون؛ ففي الباب السابق ذكر الذبح لغير الله؛ فنفس الفعل لغير الله.
وفي هذا الباب ذكر الذبح لله، ولكنه في مكان يذبح فيه لغيره، كمن يريد أن يضحي لله في مكان يذبح فيه للأصنام؛ فلا يجوز أن تذبح فيه؛ لأنه موافقة للمشركين في ظاهر الحال، وربما أدخل الشيطان في قلبك نية سيئة؛ فتعتقد أن الذبح في هذا المكان أفضل، وما أشبه ذلك، وهذا خطر.
* * *
قوله: (لا تقم فيه)، ضمير الغيبة يعود إلى مسجد الضرار، حيث بني على نية فاسدة، قال تعالى: (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادَاً لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ )(التوبة: من الآية107) ، والمتخذون هم المنافقون، وغرضهم من ذلك :
1ـ مضارة مسجد قباء: ولهذا يسمى مسجد الضرار.
2ـ الكفر بالله: لأنه يقرر فيه الكفر ـ والعياذ بالله ـ؛ لأن الذين اتخذوه هم المنافقون.
3ـ التفريق بين المؤمنين: فبدلاً من أن يصلي في مسجد قباء صف أو صفان يصلي فيه نصف صف، والباقون في المسجد الآخر، والشرع له نظر في
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اجتماع المؤمنين.(116/1)
4ـ الإرصاد لمن حارب الله ورسوله يقال: إن رجلاً ذهب إلى الشام، وهو أبو عامر الفاسق، وكان بينه وبين المنافقين الذين اتخذوا المسجد مراسلات، فاتخذوا هذا المسجد بتوجيهات منه، فيجتمعون فيه لتقرير ما يريدونه من المكر والخديعة للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قال الله تعالى: (وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلّا الْحُسْنَى)(التوبة: من الآية107)؛ فهذه سنة المنافقين: الأيمان الكاذبة.
(إن): نافية، بدليل وقوع الاستثناء بعدها، أي: ما أردنا إلا الحسنى، والجواب عن هذا اليمين الكاذب: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)(التوبة: من الآية10).
فشهد الله تعالى على كذبهم؛ لأن ما يسرونه في قلوبهم ولا يعلم ما في القلوب إلا علام الغيوب؛ فكأن هذا المضمر في قلوبهم بالنسبة إلى الله أمر مشهود يرى بالعين؛ كما قال الله تعالى في سورة المنافقين: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(المنافقون: من الآية1).
قوله: (لا تقم فيه)، لا: ناهية، وتقم: مجزوم بلا الناهية وعلامة جزمة السكون، وحذفت الواو ؛ لانه سكن آخره، والواو ساكنة؛ فحذفت تخلصاً من التقاء الساكنين.
قوله: (أبداً) إشارة إلى أن هذا المسجد سيبقى مسجد نفاق.
قوله: (لمسجد أسس على التقوى)، اللام: للابتداء، ومسجد: مبتدأ وخبره: (أحق أن تقوم فيه)، وفي هذا التنكير تعظيم للمسجد، بدليل قوله: (أسس على التقوى)(التوبة:109)؛ أى جعلت التقوى أساساً له، فقام عليه.
وهذه الأحقية ليست على بابها، وهو أن اسم التفضيل يدل على مفضل ومفضل عليه اشتراكاً في أصل الوصف؛ لأنه لا حق لمسجد الضرار أن يقام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه، وهذا (أعني: كون الطرف المفضل عليه ليس فيه شيء من الأصل الذي وقع فيه التفضيل) موجود في القرآن كثيراَ؛ كقوله تعالى: (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً) (الفرقان:24) .(116/2)
قوله: (فيه)، أي: في هذا المسجد المؤسس على التقوى.
قوله: (يحبون أن يتطهروا)، بخلاف من كان في مسجد الضرار؛ فإنهم رجس؛ كما قال الله تعالى في المنافقين (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ)(التوبة: من الآية95) .
قوله:(يتطهروا)، يشمل طهارة القلب من النفاق والحسد والغل وغير ذلك، وطهارة البدن من الأقذار والنجاسات والأحداث.
قوله: (والله يحب المطهرين)، هذه محبة حقيقية ثابتة لله ـ عز وجل ـ تليق بجلاله وعظمته، ولا تماثل محبة المخلوقين، وأهل التعطيل يقولون: المراد بالمحبة: الثواب أو إرادته؛ فيفسرونها إما بالفعل أو إرادته، وهذا خطأ.
وقوله: (المطهرين) أصله المتطهرين، وأدغمت التاء بالطاء لعلة تصريفية معروفة.
* وجه المناسبة من الآية:
أنه لما كان مسجد الضرار مما اتخذ للمعاصي ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين؛ نهى الله رسوله أن يقوم فيه، مع أن صلاته فيه لله؛ فدل على أن كل مكان يعصى الله فيه أنه لا يقام فيه، فهذا المسجد متخذ للصلاة، لكنه محل معصية؛ فلا تقام فيه الصلاة.
وكذا لو أراد إنسان أن يذبح في مكان يذبح فيه لغير الله كان حراماً ؛ لأنه يشبه الصلاة في مسجد الضرار.
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه؛ قال: نذر رجل أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: (هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد؟ . قالوا: لا . قال: (فهل كان فيها عيد من أعيادهم؟). قالوا: لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (أوف بنذرك؛ فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم). رواه أبو داود، وإسناده على شرطهما (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/3)
وقريب من ذلك النهي عن الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنهما وقتان يسجد فيهما الكفار للشمس؛ فهذا باعتبار الزمن والوقت، والحديث الذي ذكره المؤلف باعتبار المكان.
* * *
قوله: (نذر)، النذر في اللغة: الإلزام والعهد.
واصطلاحاً: إلزام المكلف نفسه لله شيئاً غير واجب.
وقال بعضهم: لا نحتاج أن نقيد بغير واجب، وأنه إذا نذر والواجب صح النذر وصار المنذور واجباً من وجهين: من جهة النذر، ومن جهة الشرع، ويترتب على ذلك وجوب الكفارة إذا لم يحصل الوفاء.
والنذر في الأصل مكروه، بل إن بعض أهل العلم يميل إلى تحريمه؛ بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وقال: (لا يأتي بخير، وإنما يستخرج به من البخيل) (2) ، ولأنه إلزام
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لنفس الإنسان بما جعله الله في حل منه، وفي ذلك زيادة تكليف على نفسه.
ولأن الغالب أن الذي ينذر يندم، وتجده يسأل العلماء يميناً وشمالاً يريد الخلاص مما نذر لثقله ومشقته عليه، ولا سيما ما يفعله بعض العامة إذا مرض، أو تأخر له حاجة يريدها؛ تجده ينذر كأنه يقول: إن الله لا ينعم عليه بجلب خير أو دفع الضرر إلا بهذا النذر.
قوله: (إبلاً)، اسم جمع لا واحد له من لفظه، لكن له واحد من معناه، وهو البعير.
قوله: (ببوانه)، الباء بمعنى في، وهي للظرفية، والمعنى: بمكان يسمى بوانة.
قوله: (هل كان فيها وثن)، الوثن: كل ما عبد من دون الله؛ من شجر، أو حجر، سواء نحت أو لم ينحت.
والصنم يختص بما صنعه الآدمي.
قوله: (يعبد)، صفة لقوله: (وثن)، وهو بيان للواقع؛ لأن الأوثان هي التي تعبد من دون الله.
قوله: (قالوا: لا)، السائل واحد، لكنه لما كان عنده ناس أجابوا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا مانع أن يكون المجيب غير المسؤول.(116/4)
قوله: (عيد)، العيد: اسم لما يعود أو يتكرر، والعود بمعنى الرجوع؛ أي: هل اعتاد أهل الجاهلية أن يأتوا إلى هذا المكان ويتخذوا هذا اليوم عيداً وإن لم يكن فيه وثن؟ قالوا: لا . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أمرين: عن الشرك، ووسائله.
فالشرك: هل كان فيها وثن؟ ووسائله: هل كان فيها عيد من أعيادهم؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أوف بنذرك)، فعل أمر مبني على حذف حرف العلة الياء، والكسرة دليل عليها.
وهل المراد به المعنى الحقيقي أو المراد به الإباحة؟
الجواب: يحتمل أن يراد به الإباحة، ويحتمل أن يراد به المعنى الحقيقي؛ فبالنسبة لنحر الإبل المراد به المعنى الحقيقي.
وبالنسبة للمكان المراد به الإباحة؛ لأنه لا يتعين أن يذبحها في ذلك المكان؛ إذ إنه لا يتعين أي مكان في الأرض إلا ما تميز بفضل، والمتميز بفضل المساجد الثلاثة؛ فالأمر هنا بالنسبة لنحر الإبل من حيث هو نحر اجب.
وبالنسبة للمكان؛ فالأمر للإباحة، بدليل أنه سأل هذين السؤالين، فلو أجيب بنعم؛ لقال: لا توف، فإذا كان المقام يحتمل النهي والترخيص؛ فالأمر للإباحة.
وقوله: (أوف بنذرك) علل صلى الله عليه وسلم ذلك بانتفاء المانع؛ فقال: (فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله).
قوله: (لا وفاء)، لا: نافية للجنس، وفاء: اسمها، لنذر: خبرها.
قوله: (في معصية الله)، صفة لنذر؛ أي: لا يمكن أن توفي بنذر في معصية الله؛ لأنه لا يتقرب إلى الله بمعصيته، وليست المعصية مباحة حتى يقال افعلها.
* أقسام النذر:
الأول: ما يجب الوفاء به، وهو نذر الطاعة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (من نذر أن يطع الله؛ فليطعه) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني: ما يحرم الوفاء به، وهو نذر المعصية لقوله صلى الله عليه وسلم : (ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) (1) ، وقوله: (فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله) (2).(116/5)
الثالث: ما يجري مجرى اليمين، وهو نذر المباح؛ فيخير بين فعله وكفارة اليمين، مثل لو نذر أن يلبس هذا الثوب؛ فإن شاء لبسه وإن شاء لم يلبسه، وكفر كفارة يمين.
الرابع: نذر اللجاج والغضب، وسمي بهذا الاسم؛ لأن اللجاج والغضب يحملان عليه غالباً، وليس بلازم أن يكون هناك لجاج وغضب، وهو الذي يقصد به معنى اليمين، الحث، أو المنع، أو التصديق، أو التكذيب.
مثل لو قال: حصل اليوم كذا وكذا، فقال الآخر: لم يحصل، فقال: إن كان حاصلاً؛ فعلي لله نذر أن أصوم سنة؛ فالغرض من هذا النذر التكذيب، فإذا تبين أنه حاصل؛ فالناذر مخير بين أن يصوم سنة، وبين أن يكفر كفارة يمين؛ لأنه إن صام فقد وفى بنذره، وإن لم يصم حنث، والحانث في اليمين يكفر كفارة يمين.
الخامس: نذر المكروه، فيكره الوفاء به، وعليه كفارة يمين.
السادس: النذر المطلق، وهو الذي ذكر فيه صيغة النذر؛ مثل أن يقول: لله علي نذر فهذا كفارته كفارة يمين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (كفارة النذر إذا لم يسم كفارة يمين) (3) .
* مسألة هل ينعقد نذر المعصية؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب: نعم، ينعقد، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم : (من نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه) (1) ، ولو قال: من نذر أن يعصي الله فلا نذر له؛ لكان لا ينعقد؛ ففي قوله: (فلا يعصه) دليل على أنه ينعقد لكن لا ينفذ.
وإذا انعقد هل تلزمه كفارة أو لا ؟
اختلف في ذلك أهل العلم، وفيها روايتان عن الإمام أحمد:
فقال بعض العلماء: إنه لا تلزمه الكفارة، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم (لا وفاء لنذر في معصية الله) (2) .
وبقوله صلى الله عليه وسلم : (ومن نذر أن يعصي الله؛ فلا يعصه)، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم كفارة، ولو كانت واجبة؛ لذكرها.(116/6)
القول الثاني: تجب الكفارة، وهو المشهور من المذهب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في حديث آخر غير الحديثين أن كفارته كفارة يمين (3) وكون الأمر لا يذكر في حديث لا يقتضي عدمه؛ فعدم الذكر ليس ذكراً للعدم، نعم، لو قال الرسول: لا كفارة؛ صار في الحديثين تعارض، وحينئذ نطلب الترجيح، لكن الرسول لم ينف الكفارة، بل سكت والسكوت لا ينافي المنطوق؛ فالسكوت وعدم الذكر يكون اعتماداً على ما تقدم، فإن كان الرسول قاله قبل أن ينهى هذا الرجل؛ فاعتماداً عليه لم يقله؛ لأنه ليس بلازم أن كل مسألة فيها قيد أو تخصيص يذكرها الرسول عند كل عموم، فلو كان يلزم هذا؛ لكانت تطول السنة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر حديثاً عاماً وله ما يخصصه في مكان آخر حمل عليه وإن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لم يذكره حين تكلم بالعموم.
وأيضاً من حيث القياس لو ان الإنسان أقسم ليفعلن محرماً، وقال: والله؛ لأفعلن هذا الشيء وهو محرم؛ فلا يفعله، ويكفر كفارة يمين، مع أنه أقسم على فعل محرم، والنذر شبيه بالقسم ، وعلى هذا؛ فكفارته كفارة يمين، وهذا القول أصح.
وقوله: ( ولا فيما لا يملك ابن آدم ) الذي لا يملكه ابن آدم يحتمل معنيين :
الأول : مالا يملك فعله شرعا ؛ كما لو قال : لله على أن أعتق عبد فلان ؛ فلا يصح لأنه لا يملك إعتاقه .
الثاني : ما لا يملك فعله قدرا ، كما لو قال : لله على نذر أن أطير بيدي؛ فهذا لا يصح لأنه لا يملكه .
والفقهاء رحمهم الله يمثلون بمثل هذا للمستحيل .
* ويستفاد من الحديث :
أنه لا يذبح بمكان يذبح فيه لغير الله ، وهو ما ساقه المؤلف من أجله ، والحكمة من ذلك ما يلي :
الأول : أنه يؤدي إلى التشبيه بالكفار
الثاني : أنه يؤدي إلى الاعتزاز بهذا الفعل ؛ لأن من رأك تذبح بمكان يذبح فيه المشركون ظن أن فعل المشركين جائز .(116/7)
الثالث : أن هؤلاء المشركين سوف يقوون على فعلهم إذا رأوا من يفعل مثلهم، ولاشك أن تقوية المشركين من الأمور المحظورة ، وإغاظتهم من الأعمال الصالحة ، قال تعالى : ( وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ)(التوبة: من الآية120)
*فيه مسائل :
الأولي : تفسير قوله : ( لا تقم فيه أبدا ) . الثانية : أن المعصية قد تؤثر في الأرض ، وكذلك الطاعة . الثالثة : رد المسألة المشكلة إلى المسألة
البينة ؛ ليزول الإشكال .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
· · الأولي : تفسير قوله تعالى : ( لا تقم فيه أبدا ) ، وقد سبق ذلك في أول الباب .
· · الثانية : أن المعصية قد تؤثر في الأرض ، وكذلك الطاعة ، أي : لما كانت هذه الأرض مكان شرك ؛ حرم أن يعمل الإنسان ما يشبه الشرك فيها لمشابهة المشركين .
أما بالنسبة للصلاة في الكنيسة ؛ فإن الصلاة تخالف صلاة أهل الكنيسة ؛ لا يكون الإنسان متشبها بهذا العمل ، بخلاف الذبح في مكان يذبح فيه لغير الله ، فإن الفعل واحد بنوعه وجنسه ، ولهذا لو أراد إنسان أن يصلي في مكان يذبح فيه لغير الله لجاز ذلك ؛ لأنه ليس من نوع العبادة التي يفعلها المشركون في هذا المكان .
وكذا الطاعة تؤثر في الأرض ، ولهذا؛ فإن المساجد أفضل من الأسواق ، والقديم منها أفضل من الجديد .
* الثالثة : رد المسألة المشكلة إلى البينة ليزول الإشكال ، فالمنع من الذبح في هذا المكان أمر مشكل، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين ذلك بالاستفصال.
الرابعة : استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك . الخامسة : أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع . السادسة : المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ، ولو بعد زواله .(116/8)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الرابعة : استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم استفصل ، لكن هل يجب الاستفصال على كل حال ، أو إذا وجد الاحتمال ؟
الجواب : لا يجب إذا وجد الاحتمال ؛ لأننا لو استفصلنا في كل مسألة ؛ لطال الأمر .
مثلا : لو سألنا سائل عن عقد بيع لم يلزم أن نستفصل عن الثمن : هل هو معلوم ؟ وعن المثمن : هل هو معلوم ؟ وهل وقع البيع أو معلقا أو غير معلق ؟ وهل كان ملكا للبائع ؟ وكيف ملكه ؟ وهل انتفت موانعه أو لا ؟
أما إذا وجد الاحتمال ؛ فيجب الاستفصال ، مثل : أن يسأل عن رجل مات عن بنت وأخ وعم شقيق ؛ فيجب الاستفصال عن الأخ:هل هو شقيق أو لأم ؟ فإن كان لأم ؛ سقط ، وأخذ الباقي العم ، وإلا ؛ سقط العم ، وأخذ الباقي الأخ .
· · الخامسة : أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع لقوله:(أوف بنذرك )، وسواء كانت هذه الموانع واقعة أو متوقعة
فالواقعة : أن يكون فيها وثن أو عيد من الجاهلية .
والمتوقعة : أن يخشى من الذبح في هذا المكان تعظيمه ، فإذا خشي ؛ كان ممنوعا ، مثل : لو أراد أن يذبح عند جبل ؛ فالأصل أنه جائز ، لكن لو خشي أن العوام يعتقدون أن في هذا المكان مزية ؛ كان ممنوعا .
· · السادسة : المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ، ولو بعد زواله ،
السابعة : المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ، ولو بعد زواله .
الثامنة : أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة ؛ لأنه نذر معصية .
التاسعة : الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ، ولو لم يقصده .
العاشرة : لا نذر في معصية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقوله : ( هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية ؟ ) ؛ لأن ( كان ) فعل ماض ،
والمحظور بعد زوال الوثن باق ؛ لأنه ربما يعاد .(116/9)
*السابعة : المنع منه إذا كان فيها عيد من أعيادهم ، ولو بعد زواله ، لقوله: ( فهل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ )
*الثامنة : أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة ؛ لأنه نذر معصية ، لقوله : ( فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ) .
*التاسعة : الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده ، وقد نص شيخ الإسلام ابن تيميه على أن حصول التشبه لا يشترط فيه القصد ؛ فإنه يمنع منه ولو لم يقصده ، لكن مع القصد يكون أشد إثما ، ولهذا قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : ولو لم يقصده .
*العاشرة : لا نذر في معصية الله ،هكذا قال المؤلف ، ولفظ الحديث المذكور : ( لا وفاء لنذر ) ، وبينها فرق .
فإذا قيل : لا نذر في معصية ؛ فالمعنى أن النذر لا ينعقد ، وإذا قيل : لا وفاء ؛ فالمعنى ان النذر ينعقد ، لكن لا يوفى ، وقد وردت السنة بهذا وبهذا .
لكن : ( لا نذر ) يحمل على أن المراد لا وفاء لنذر ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث
الحادية عشرة : لا نذر لابن آدم فيما لا يملك .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصحيح : ( ومن نذر أن يعصي الله ؛ فلا يعصه )(1).
الحادية عشرة : لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ، يقال فيه ما قيل في : لا نذر في معصية .
والمعنى : لا وفاء لنذر فيما لا يملك ابن آدم ، ويشتمل ما لا يملكه شرعا ، وما لا يملكه يقدرا
* * *
باب من الشرك النذر لغير الله
وقول الله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ)(الإنسان: من الآية7).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النذر لغير الله مثل أن يقول : لفلان علي نذر ، أو لهذا القبر علي نذر ، أو لجبريل علي نذر ، يريد بذلك التقرب إليهم ، وما أشبه ذلك(116/10)
و الفرق بينه و بين المعصية : أن النذر لغير الله ليس لله أصلا ، ونذر المعصية لله ، ولكنه على معصية من معاصيه ، مثل أن يقول : لله علي نذر أن أفعل كذا وكذا من معاصي الله ؛ فيكون النذر و المنذور معصية ، ونظير هذا الحلف بالله على شيء محرم ، و الحلف بغير الله ؛ فالحلف بغير الله مثل : والنبي ؛ لأفعلن كذا و كذا ، ونظيره النذر لغير الله ، و الحلف بالله على محرم؛ مثل : والله ؛ لأسرقن ، ونظيره نذر المعصية ، وحكم النذر لغير الله شركا ؛ لأنه عبادة للمنذور له ، وإذا كان عبادة ؛ فقد صرفها لغير الله فيكون مشركا .
وهذا النذر لغير الله لا ينعقد إطلاقا ، و لا تجب فيه كفارة ، بل هو شرك تجب التوبة منه ؛ كالحلف بغير الله ؛ فلا ينعقد ، وليس فيه كفارة .
وأما نذر المعصية ؛ فينعقد ، لكن لا يجوز الوفاء به ، وعليه كفارة يمين ؛ كالحلف بالله على المحرم ينعقد ، وفيه كفارة .
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب آيتين :
* * *
· · لأولى : قوله : ( يوفون بالنذر ) ، هذه الآية سيقت لمدح الأبرار ، (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً) (الانسان:5) .
وقوله : (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ)(البقرة: من الآية270).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومدحهم بهذا يقتضي أن يكون عبادة ؛ لأن الإنسان لا يمدح ولا يستحق دخول الجنة إلا بفعل شيء يكون عبادة .
ولو أعقب المؤلف هذه الآية بقوله تعالى : ( وليوفون نذورهم ) ( الحج : 29) ؛ لكان أوضح ؛ لأن قوله : ( وليوفون نذورهم ) أمر ، والأمر بوفائه يدل على أنه عبادة ؛ لأنه العبادة ما أمر به شرعا .(116/11)
وجه استدلال المؤلف بالآية على أن النذر لغير الله من الشرك : أن الله تعالى أثنى عليهم بذلك ، وجعله من الأسباب التي بها يدخلون الجنة ، ولا يكون سببا يدخلون به الجنة إلا وهو عبادة ؛ فيقتضي أن صرفه لغير الله شرك .
· · الآية الثانية قوله : ( وما أنفقتم ) .
( ما ) : شرطية ، و ( أنفقتم ) : فعل الشرط ، وجوابه : ( فإن الله يعلمه).
قوله : ( من نفقة ) ، بيان لـ (ما ) في قوله : ( ما أنفقتم ) ، و النفقة : بذل المال، وقد يكون في الخير ، وقد يكون في غيره .
قوله : ( أو نذرتم ) ، معطوف على قوله : ( وما أنفقتم ) .
قوله : ( فإن الله يعلمه ) ، تعليق الشيء بعلم الله دليل على أنه محل جزاء؛ إذ لا نعلم فائدة لهذا الإخبار بالعلم إلا لترتب الجزاء عليه ، وترتب الجزاء عليه يدل على أنه من العبادة التي يجازى الإنسان عليها ، وهذا وجه استدلال المؤلف بهذه الآية .
* * *
وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من نذر أن يطيع الله ؛ فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله ؛ فلا يعصه)(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( وفي الصحيح ) ، سبق الكلام على مثل هذا التعبير في باب تفسير التوحيد ( ص146) .
قوله : ( من نذر ) ، جملة شرطية تفيد العموم ، وهل تشمل الصغير ؟
قال بعض العلماء : تشمله ؛ فينعقد النذر منه .
وقيل : لا تشمله ؛ لأن الصغير ليس أهلا للإلزام ولا للالتزام ، وبناء على هذا يخرج الصغير من هذا العموم ؛ لأنه ليس أهلا للإلزام ولا للالتزام.
قوله : ( أن يطيع الله ) ، الطاعة : هي موافقة الأمر؛ أي : توافق الله فيما يريد منك إن أمرك ؛ فالطاعة فعل المأمور به ، وإن نهاك ؛ فالطاعة ترك المنهي عنه ، هذا معنى الطاعة إذا جاءت مفردة .
أما إذا قيل : طاعة و معصية ؛ فالطاعة لفعل الأوامر ، والمعصية لفعل النواهي .(116/12)
قوله : ( فليطعه ) ، الفاء واقعة في جواب الشرط ؛ لأن الجملة إنشائية طلبية ، واللام لام الأمر .
وظاهر الحديث : يشمل ما إذا كانت الطاعة المنذورة جنسها واجب ؛ كالصلاة و الحج وغيرهما ، أو غير واجب ؛ كتعليم العلم وغيره .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال بعض أهل العلم : لا يجب الوفاء بالنذر إلا إذا كان جنس الطاعة واجبا ، وعموم الحديث يرد عليهم .
وظاهر الحديث أيضا يشمل من نذر طاعة نذرا مطلقا ليس له سبب ، مثل: ( لله علي أن أصوم ثلاثة أيام ) .
ومن نذر نذرا معلقا ، مثل : إن نجحت ؛ فلله علي أن أصوم ثلاثة أيام .
ومن فرق بينهما ؛ فليس بجيد لأن الحديث عام .
واعلم أن النذر لا يأتي بخير ولو كان بطاعة ، وإنما يستخرج به من البخيل(1) ، ولهذا نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم ، وبعض العلماء يحرمه ، وإليه يميل شيخ الإسلام ابن تيميه للنهي عنه ، ولأنك تلزم نفسك بأمر أنت في عافية منه ، وكم من إنسان نذر وأخيرا ندم ، وربما لم يفعل .
ويدل لقوة القول بتحريم النذر قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنّ)(النور: من الآية53)؛ فهذا التزام موكد بالقسم ، فيشبه النذر .
قال الله تعالى : ( قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ )(النور: من الآية53)؛ أي: عليكم طاعة معروفة بدون يمين ، والإنسان الذي لا يفعل الطاعة إلا بنذر ، أو حلف على نفسه يعني أن الطاعة ثقيلة عليه .
ومما يدل على قوة القول بالتحريم أيضا خصوصا النذر المعلق : أن النادر كأنه غير واثق بالله ـ عز وجل ـ ؛ فكأنه يعتقد أن الله لا يعطيه الشفاء إلا إذا أعطاه مقابلة ولهذا إذا أيسوا من البرء ذهبوا ينذرون ، وفي سوء ظن بالله ـ عز وجل ـ .
و القول بالتحريم قول وجيه .
*فيه مسائل :(116/13)
الأولى : وجوب الوفاء بالنذر . الثانية : إذا ثبت كونه عبادة لله ، فصرفه إلى غير الله شرك . الثالثة : أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل : كيف تحرمون ما أثنى الله على من وفى به ؟
فالجواب : أننا لا نقول: إن الوفاء هو المحرم حتى يقال : إننا هدمنا النص ، إنما نقول : المحرم أو المكروه كراهة شديدة هو عقد النذر ، وفرق بين عقده ووفائه ؛ فالعقد ابتدائي ، و الوفاء في ثاني الحال تنفيذ لما نذر .
قوله : ( ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه ) ، لا : ناهية ، والنهي بحسب المعصية ، فإن كانت حراما ؛ فالوفاء بالنذر حرام ، وإن كانت المعصية مكروهة؛ فالوفاء بالنذر مكروه ؛ لأن المعصية الوقوع فيما نهي عنه ، والمنهي عنه ينقسم عند أهل العلم إلى قسمين : منهي عنه نهي تحريم ، ومنهي عنه نهي تنزيه .
* * *
فيه مسائل :
*الأولى : وجوب الوفاء بالنذر ، يعني : نذر الطاعة فقط ؛ لقوله : ( من نذر أن يطيع الله ؛ فليطعه ) ، ولقول المؤلف في المسألة الثالثة : إن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به .
*الثانية : إذا ثبت كونه عبادة ؛ فصرفه إلى غير الله شرك ، وهذه قاعدة في توحيد العبادة ، فأي فعل كان عبادة ؛ فصرفه لغير الله شرك .
*الثالثة : أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من نذر أن يعصي الله ؛ فلا يعصه ) .
باب من الشرك الاستعاذة بغير الله
وقول الله تعالى : (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقاً) (الجن:6).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( من الشرك) ، من : للتبغيض ، وهذه الترجمة ليست على إطلاقها؛ لأنه إذا استعاذ بشخص مما يقدر عليه ؛ فإنه جائز ؛ كالاستعانة .
* * *(116/14)
قوله تعالى: ( وأنه كان رجال من الإنس )، الواو: حرف عطف ، و (أن) : فتحت همزتها بسبب عطفها على قوله : ( أنه استمع نفر من الجن ).
قال ابن مالك :
وهمز إن افتح لسد مصدر مسدها وفي سوى ذاك اكسر
فيؤول بمصدر ، أي : قل أوحي إلي استماع نفر وكون رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن .
قوله : ( من الإنس ) ، صفة لرجال ؛ لأن رجال نكرة ، وما بعد النكرة صفة لها .
قوله : ( يعوذون ) ، الجملة خبر كان ، ويقال : عاذ به ولاذ به ؛ فالعياذ مما يخاف ، واللياذ فيما يؤمل ، وعليه قول الشاعر يخاطب ممدوحه ، ولا يصلح ما قاله إلا لله :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يا من ألوذ به فيما أأمله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنتكاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره
قوله : ( يعوذون برجال من الجن ) ، أي : يلتجئون إليهم مما يحاذرونه، يظنون أنهم يعيذونهم ، ولكن زادوهم رهقا ؛ أي : خوفا وذعرا ، وكانت العرب في الجاهلية إذا نزلوا في واد نادوا بأعلى أصواتهم : أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه .
قوله : ( رهقا ) ، أي : ذعرا وخوفا ، بل الرهق أشد من مجرد الذعر و الخوف ؛ فكأنهم مع ذعرهم وخوفهم أرهقهم وأضعفهم شيء ؛ فالذعر و الخوف في القلوب والرهق في الأبدان .
وهذه الآية تدل على أن الاستعاذة بالجن حرام ؛ لأنها لا تفيد المستعيذ، بل تزيده رهقا ؛ فعوقب بنقيض قصده ، وهذا ظاهر ؛ فتكون الواو ضمير الجن والهاء ضمير الإنس .
وقيل: إن الإنس زادوا الجن رهقا؛ أي:استكبارا وتوا، ولكن الصحيح الأول.
قوله : ( برجال من الجن ) ، يستفاد منه أن للجن رجالا ، ولهم إناث ، وربما يجامع الرجل من الجن الأنثى من بني آدم ، وكذلك العكس الرجل من بني آدم قد يجامع الأنثى من الجن ، وقد ذكر الفقهاء الخلاف في وجوب الغسل بهذا الجماع .(116/15)
والفقهاء يقولون في باب الغسل : لو قالت : إن بها جنيا يجامعها كالرجل ؛ وجب عليها الغسل ، وأما أن الرجل يجامع الأنثى من الجن ؛ فقد قيل ذلك ، لكن لم أره في كلام أهل العلم ، وإنما أساطير تقال ، والله أعلم .
وعن خولة بنت حكيم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من نزل منزلاً، فقال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق؛ لم يضره شيء حتى يرحل من منزله ذلك) رواه مسلم (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكن علينا أن نصدق بوجودهم، وأنهم مكلفون، وبأن منهم الصالحين ومنهم دون ذلك، وبأن منهم المسلمين والقاسطين، وبأن منهم رجالاً ونساء.
وجه الاستشهاد بالآية: ذم المستعيذين بغير الله، والمستعيذ بالشيء لا شك أنه قد علق رجاءه به، واعتمد عليه، وهذا نوع من الشرك.
* * *
قوله: (كلمات)، من جموع القلة؛ لأنه جمع مؤنث سالم، وجموع القلة من ثلاثة إلى عشرة، والكثرة ما فوق ذلك.
وقيل: جموع الكثرة من ثلاثة إلى ما لا نهاية له؛ فيكون جمع القلة والكثرة يتفقان في الابتداء، ويختلفان في الانتهاء.
قال ابن مالك:
أفعله أفعل ثم فعله ثمت أفعال جموع قله
وبعض ذي بكثرة وضعاً يفي كأرجل والعكس جاء كالصفي
والراجح: أن جموع القلة تدل على الكثرة بالدليل.
و(كلمات): جمع قلة دال على الكثرة لوجود الدليل، قال تعالى : (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَدَداً) (الكهف:109).
وأبلغ من هذا قوله تعالى: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ )(لقمان: من الآية27).
والمراد بالكلمات هنا: الكلمات الكونية والشرعية.(116/16)
وقوله: (من نزل منزلاً) يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة، أو الطارئة، بدليل أنه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم.
وقوله: (من نزل منزلاً) يشمل من نزله على سبيل الإقامة الدائمة، أو الطارئة بدليل أنه نكرة في سياق الشرط، والنكرة في سياق الشرط تفيد العموم. وقوله: (أعوذ) بمعنى: ألتجىء وأعتصم.
1ـ الصدق في الأخبار.
2ـ العدل في الأحكام.
قال الله تعالى: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً)(الأنعام:115).
قوله: (من شر ما خلق)، أي: من شر الذي خلق؛ لأن الله خلق كل شيء: الخير والشر، ولكن الشر لا ينسب إليه؛ لأنه خلق الشر لحكمة، فعاد بهذه الحكمة خيراً، فكان خيراً.
وعلى هذا نقول: الشر ليس في فعل الله، بل في مفعولاته؛ أي: مخلوقاته.
وعلى هذا تكون (ما) موصولة لا غير؛ أي: من شر الذي خلق؛ لأنك لو أولتها إلى المصدرية وقلت: من شر خلقك؛ لكان الخلق هنا مصدراً يجوز أن يراد به الفعل، ويجوز أيضاً المفعول، لكن لو جعلتها اسماً موصولاً تعين أن يكون المراد بها المفعول، وهو المخلوق.
وليس كل ما خلق الله فيه شر، لكن تستعيذ من شره إن كان فيه؛ شر لأن مخلوقات الله تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ شر محض إبليس باعتبار ذاتيهما، أما باعتبار الحكمة التي خلقهما الله من أجلها؛ فهي خير.
2ـ خير محض؛ كالجنة، والرسل، والملائكة.
3ـ فيه شر وخير؛ كالإنس، والجن، والحيوان.
وأنت إنما تستعيذ من شر ما فيه شر.
قوله: (لم يضره شيء)، نكرة في سياق النفي؛ فتفيد العموم من شر كل ذي شر من الجن والإنس وغيرهم والظاهر الخفي حتى يرتحل من منزله؛ لأن هذا خبر لا يمكن أن يتخلف مخبره؛ لأنه كلام الصادق المصدوق، لكن إن تخلف؛ فهو لوجود مانع لا لقصور السبب أو تخلف الخبر.(116/17)
ونظير ذلك كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأسباب الشرعية إذا فعلت ولم يحصل المسبب فليس ذلك لخلل في السبب، ولكن لوجود مانع، مثل:
قراءة الفاتحة على المرضى شفاء، ويقرأها بعض الناس ولا يشفى المريض، وليس ذلك قصوراً في السبب، بل لوجود مانع بين السبب وأثره.
ومنه: التسمية عند الجماع؛ فإنها تمنع ضرر الشيطان للولد، وقد توجد التسمية ويضر الشيطان الولد؛ لوجود مانع يمنع من حصول أثر هذا السبب، فعليك أن تفتش ما هو المانع حتى تزيله فيحصل لك أثر السبب.
قال القرطبي: وقد جربت ذلك؛ حتى إني نسيت ذات يوم، فدخلت منزلي ولم أقل ذلك، فلدغتني عقرب.
والشاهد من الحديث: قوله: (أعوذ بكلمات الله).
والمؤلف يقول في الترجمة: الاستعاذة بغير الله، وهنا استعاذة بالكلمات، ولم يستعذ بالله؛ فلماذا ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أجيب: أن كلمات الله صفة من صفاته، ولهذا استدل العلماء بهذا الحديث على أن كلام الله من صفاته غير مخلوق؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق لا تجوز في مثل هذا الأمر، ولو كانت الكلمات مخلوقة ما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاستعاذة بها.
ولهذا كان المراد من كلام المؤلف: الاستعاذة بغير الله؛ أي: أو صفة من صفاته.
وفي الحديث: (أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر) (1) ، وهنا استعاذ بعزة الله وقدرته، ولم يستعذ بالله، والعزة والقدرة من صفات الله، وهي ليست مخلوقة.
ولهذا يجوز القسم بالله وبصفاته؛ لأنها غير مخلوقة.
أما القسم بالآيات،فإن أراد الآيات الشرعية؛ فجائز، وإن أراد الآيات الكونية؛ فغير جائز.
أما الاستعاذة بالمخلوق؛ ففيها تفصيل، فإن كان المخلوق لا يقدر عليه؛ فهي من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيميه: (لا يجوز الاستعاذة بالمخلوق عند أحد من الأئمة)، وهذا ليس على إطلاقه، بل مرادهم مما لا يقدر عليه إلا الله؛ لأنه لا يعصمك من الشر الذي لا يقدر عليه إلا الله؛ سوى الله.(116/18)
ومن ذلك أيضاً الاستعاذة بأصحاب القبور؛ فإنهم لا ينفعون ولا يضرون؛ فالاستعاذة بهم شرك أكبر، سواء كان عند قبورهم أم بعيداً عنهم.
أما الاستعاذة بمخلوق فيما يقدر عليه؛ فهي جائزة، وقد أشار إلى ذلك الشارح الشيخ سليمان في (تيسير العزيز الحميد)، وهو مقتضى الأحاديث
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الواردة في (صحيح مسلم) لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الفتن؛ قال: (فمن وجد من ذلك ملجأ؛ فليعذ به) (1) .
وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة (2) ، والغلام الذي عاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم (3) ، وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة (4) ، وما أشبه ذلك.
وهذا هو مقتضى النظر، فإذا اعترضني قطاع طريق، فعذت بإنسان يستطيع أن يخلصني منهم؛ فلا شيء فيه.
لكن تعليق القلب بالمخلوق لا شك أنه من الشرك، فإذا علقت قلبك ورجاءك وخوفك وجميع أمورك بشخص معين، وجعلته ملجأ؛ فهذا شرك؛ لأن هذا لا يكون إلا لله.
وعلى هذا؛ فكلام الشيخ رحمه الله في قوله؛ (إن الأئمة لا يجوزون الاستعاذة بمخلوق) مقيد بما لا يقدر عليه إلا الله، ولولا أن النصوص وردت بالتفصيل لأخذنا الكلام على إطلاقه، وقلنا: لا يجوز الاستعاذة بغير الله مطلقاً.
* * *
· · فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الجن. الثانية: كونه من الشرك. الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث ؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ قالوا: لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك. الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره. الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية؛ من كف شر أو جلب نفع؛ لا يدل على أنه ليس من الشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الجن ، وقد سبق ذلك في أول الباب.(116/19)
الثانية : كونه من الشرك، أي: الاستعاذة بغير الله، وقد سبق التفصيل في ذلك .
الثالثة: الاستدلال على ذلك بالحديث؛ لأن العلماء يستدلون به على أن كلمات الله غير مخلوقة؛ لأن الاستعاذة بالمخلوق شرك، وجه الاستشهاد: أن الاستعاذة بكلمات الله لا تخرج عن كونها استعاذة بالله؛ لأنها صفة من صفاته.
الرابعة: فضيلة هذا الدعاء مع اختصاره، أي: فائدته، وهي أنه لا يضرك شيء ما دمت في هذا المنزل.
الخامسة: أن كون الشيء يحصل به منفعة دنيوية من كف شر أو جلب نفع، لا يدل على أنه ليس من الشرك، ومعنى كلامه: أنه قد يكون الشيء من الشرك، ولو حصل لك فيه منفعة؛ فلا يلزم من حصول النفع أن ينتفي الشرك؛ فالإنسان قد ينتفع بما هو شرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مثال ذلك: الجن؛ فقد يعيذونك، وهذا شرك مع أن فيه منفعة.
مثال آخر: قد يسجد إنسان لملك، فيهبه أموالاً وقصوراً، وهذا شرك مع أن فيه منفعة، ومن ذلك ما يحصل لغلاة المداحين لملوكهم لأجل العطاء؛ فلا يخرجهم ذلك عن كونهم مشركين.
قال بعضهم:
فكن كما شئت يا من لا نظير له وكيف شئت فما خلق يدانيك
وفي الحديث فائدة، وهي: أن الشرع لا يبطل أمراً من أمور الجاهلية إلا ذكر ما هو خير منه؛ ففي الجاهلية كانوا يستعيذون بالجن، فأبدل بهذه الكلمات، وهي: أن يستعيذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
وهذه الطريقة هي الطريقة السليمة التي ينبغي أن يكون عليها الداعية، أنه إذا سد الناس باب الشر؛ وجب عليه أن يفتح لهم باب الخير، ولا يقول: حرام، ويسكت، بل يقول: هذا حرام، وافعل كذا وكذا من المباح بدلاً عنه، وهذا له أمثلة في القرآن والسنة.(116/20)
فمن القرآن قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا)(البقرة: من الآية104) ، فلما نهاهم عن قول (راعنا) ذكر لهم ما يقوم مقامه وهو (أنظرنا).
ومن السنة قوله صلى الله عليه وسلم : لمن نهاه عن بيع الصاع من التمر الطيب بالصاعين، والصاعين بالثلاثة:(بع الجمع بالدراهم، واشتر بالدراهم جنيباً)(1)
فلما منعه من المحذور؛ فتح له الباب السليم الذي لا محذور فيه.
* * *
باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من الشرك)، من : للتبعيض ؛ فيدل على أن الشرك ليس مختصا بهذا الأمر .
و الاستغاثة : طلب الغوث ، وهو إزالة الشدة .
وكلام المؤلف رحمه الله ليس على إطلاقه ، بل يقيد بما لا يقدر عليه المستغاث به ، إما لكونه ميتا ، أو غائبا ، أو يكون الشيء مما لا يقدر على أزالته إلا الله تعالى، فلو استغاث بميت ليدفع عنه أو بغائب أو بحي حاضر لينزل المطر، فهذا كله من الشرك ، و لو استغاث بحي حاضر فيما يقدر عليه كان جائزا ، قال الله تعالى:(ِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)(القصص: من الآية15).
وإذا طلبت من أحد الغوث وهو قادر عليه ؛ فإنه يجب عليك تصحيحا لتوحيدك أن تعتقد أنه مجرد سبب ، وأنه لا تأثير له بذاته في إزالة الشدة ؛ لأنك ربما تعتمد عليه وتنسى خالق السبب ، وهذا قادح في كمال التوحيد .
قوله : ( أو يدعو غيره ) ، معطوف على قوله : ( أن يستغيث ) ؛ فيكون المعنى : من الشرك أن يدعو غير الله ، وذلك لأن الدعاء من العبادة ، قال الله تعالى : (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) (غافر:60) ، ( عبادتي ) ؛ أي دعائي ؛ فسمى الله الدعاء عبادة .(116/21)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقال صلى الله عليه وسلم : ( إن الدعاء هو العبادة )(1) .
والدعاء ينقسم إلى قسمين :
1-ما يقع عبادة ، وهذا صرفه لغير الله شرك ، وهو المقرون بالرهبة و الرغبة ، والحب ، و التضرع .
2-ما لا يقع عبادة ؛ فهذا يجوز أن يوجه إلى المخلوق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من دعاكم فأجبيوه )(2)،وقال : ( إذا دعاك فأجبه )(3)، وعلى هذا ؛ فمراد المؤلف بقوله : ( أو يدعو غيره ) دعاء العبادة أو دعاء المسألة فيما لا يمكن للمسئول إجابته .
قوله : ( أن يستغيث ) ، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر مبتدأ مؤخر، وخبرها مقدم ، وهو قوله : من الشرك ، و التقدير : من الشرك بغير الله ، والمبتدأ يكون صريحا ومؤولا .
فالمبتدأ الصريح مثل : زيد قائم ، والمؤول مثل : ( وأن تصوموا خير لكم) ( البقرة 184) ؛ أي : وصوموا خير لكم .
وقوله : (أو يدعو ) هذا من باب عطف العام على الخاص ؛ لأن الاستغاثة دعاء بإزالة الشدة فقط ، والدعاء عام لكونه لجلب منفعة ، أو لدفع مضرة .
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات :
* * *
وقول الله تعالى (وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) (يونس:106).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الأولى قوله : ( ولا تدع من دون الله) .
ظاهر سياق الآية أن الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وسواء كان خاصا به أو عاما له ولغيره ؛ فإن بعض العلماء قال : لا يصح أن يكون للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يستحيل أن يقع منه ذلك ، والآية على تقدير قل ، وهذا ضعيف جدا ، وإخراج للآيات عن سياقها .(116/22)
والصواب : أنه خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم والحكم له ولغيره ، وأما عام لكل من يصح خطابه ويدخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم .
وكونه يوجه إليه مثل هذا الخطاب لا يقتضي أن يكون ممكنا منه ، قال تعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر:65)؛ فالخطاب له ولجميع الرسل ، ولا يمكن أن يقع منه باعتبار حاله لا باعتبار كونه إنسانا وبشرا .
إذا؛ فالحكمة من النهي أن يكون غيره متأسيا به ، فإذا كان النهي موجها إلى من لا يمكن منه باعتبار حاله ؛ فهو إلى من يمكن منه من باب أولى .
وقوله : ( ولا تدع من دون الله ) ، الدعاء : طلب ما ينفع ، أو طلب دفع ما يضر ، وهو نوعان كما قال أهل العلم :
الأول:دعاءعبادة وهو أن يكون قائما بأمرالله؛لأن القائم بأمر الله –كالمصلي، و الصائم ، والمزكي – يريد بذلك الثواب و النجاة من العقاب ، ففعله متضمن للدعاء بلسان الحال ، وقد يصحب فعله هذا دعاء بلسان المقال .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني : دعاء مسألة ، وهو طلب ما ينفع ، أو طلب دفع ما يضره .
فالأول لا يجوز صرفه لغير الله ، والثاني فيه تفصيل سبق .
قوله : ( من دون الله ) ، أي : سوى الله .
قوله : ( مالا ينفعك ) ، أي : ما لا يجلب لك النفع لو عبدته .
( ولا يضرك ) : قيل : لا يدفع عنك الضر ، وقيل : لو تركت عبادته لا يضرك ؛ لأنه لا يستطيع الانتقام ، وهو الظاهر من اللفظ .(116/23)
قوله : ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) ؛ أي : لأنه لا ينفعك و لا يضرك ، وهذا القيد ليس شرطا بحيث يكون له مفهوم ؛ فيكون لك أن تدعو من ينفعك ويضرك ، بل هو لبيان الواقع ؛ لأن المدعو من دون الله لا يحصل منه نفع ولا ضرر ، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الاحقاف:5،6).
ومن القيد الذي ليس بشرط ، بل هو لبيان الواقع قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(البقرة: من الآية21).
فإن قوله: ( والذي خلقكم و الذين من قبلكم ) لبيان الواقع ؛ إذ ليس هناك رب ثان لم يخلقنا والذين من قبلنا .
ومنه قوله تعالى : ( وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ )(النساء: من الآية23)؛ فهذا بيان للواقع الأغلب .
ومنه قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)(لأنفال: من الآية24)؛ فهذا بيان للواقع ؛ إذ دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم إيانا كله لما يحينا .
وكل قيد يراد به بيان الواقع؛ فإنه كالتعليل للحكم؛ فمثلا قوله تعالى: (يا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم)(البقرة: من الآية21)
وقوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ؛ أي : لأنه لا يدعوكم إلا لما يحييكم .
وكذلك قوله تعالى : ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك و لا يضرك)؛ أي : لأنه لا ينفعك ولا يضرك ؛ فعلى هذا لا يكون هذا القيد شرطا ، وهذه يسميها بعض الناس صفة كاشفة .(116/24)
قوله : ( فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين ) ، أي : إن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم .
( إن ) : شرطية ، وجواب الشرط جملة : ( فإنك إذا ) .
و( إذا ) ؛ أي : حال فعلك من الظالمين ، وهو قيد ، لأن ( إذا ) للظرف الحاضر ، أي : فإنك حال فعله من الظالمين ، لكن قد تتوب منه فيزول عنك وصف الظلم ؛ فالإنسان قبل الفعل ليس بظالم ، وبعد التوبة ليس بظالم ، لكن حين فعل المعصية يكون ظالما كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )(1) ؛ فنفى الإيمان عنه حال الفعل .
ونوع الظلم هنا ظلم شرك ، قال الله تعالى : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13)، وعبر الله بقوله : ( من الظالمين ) ، ولم يقل : من المشركين ؛ لأجل أن يبين أن الشرك ظلم ؛ لأن كون الداعي لغير الله مشركا أمر بين ، لكن كونه ظالما قد لا يكون بينا من الآية .
* * *
(وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ )(يونس: من الآية107).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الآية الثانية قوله : ( وإن يمسسك )، أي : يصيبك بضر ؛ كالمرض ، و الفقر ، ونحوه .
قوله : ( فلا كاشف له إلا هو ) . ( لا ): نافية للجنس و اسمها : (كاشف)، وخبرها:(له)، و(إلا هو) بدل، وإن قلنا بجواز كون خبرها معرفة صار ( هو ) الخبر .
أي : ما أحد يكشفه أبدا إذا مسك الله بضر إلا الله ، وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك )(1) .
قوله : ( وإن يردك بخير ) ، هنا قال ( يردك ) ، وفي الضر قال : (يمسسك ) فهل هذا من باب تنويع العبارة ، أو هناك فرق معنوي ؟
الجواب : هناك فرق معنوي ، وهو أن الأشياء المكروهة لا تنسب إلى إرادة الله ، بل تنسب إلى فعله ؛ أي : مفعوله .(116/25)
فالمس من فعل الله ، والضر من مفعولاته ؛ فالله لا يريد الضر لذاته ، بل يريده لغيره ؛ لما يترتب عليه من الخير ، ولما وراء ذلك من الحكم البالغة ، وفي الحديث القدسي : ( إن من عبادي من لو أغنيته أفسده الغنى )(2) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما الخير ؛ فهو مراد لله لذاته ، ومفعول له ، ويقرب من هذا ما في سورة الجن:(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) (الجن:10) .
فإذا أصيب الإنسان بمرض؛ فالله لم يرد به الضرر لذاته، بل أراد المرض ، وهو يضره ، لكن لم يرد ضرره ، بل أراد خيرا من وراء ذلك ، وقد تكون الحكمة ظاهرة في نفس المصاب، وقد تكون ظاهرة في غيره؛ كما قال الله تعالى : (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (لأنفال:25) .
فالمهم أنه ليس لنا أن نتحجر حكمة الله ؛ لأنها أوسع من عقولنا ، لكننا نعلم علم اليقين أن الله لا يريد الضرر لأنه ضرر ؛ فالضرر عند الله ليس مرادا لذاته ، بل لغيره ، ولا يترتب عليه إلا الخير ، أما الخير ؛ فهو مراد لذاته ، ومفعول له ، والله أعلم بما أراد بكلامه ، لكن هذا الذي يتبين لي .
قوله : ( فلا راد لفضله ) ، أي : لا يستطيع أن يرد فضل الله أبدا ، ولو اجتمعت الأمة على ذلك ، وفي الحديث: ( اللهم ! لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت )(1) .
وعليه ؛ فنعتمد على الله في جلب النافع ، ودفع المضار ، وبقاء ما أنعم علينا به ، ونعلم أن الأمة مهما بلغت من المكر والكيد والحيل لتمنع فضل الله؛ فإنها لا تستطيع .
قوله : ( يصيب به من يشاء ) ، الضمير إما أن يعود إلى الفضل ؛ لأنه أقرب ، أو إلى الخير ؛ لأنه هو الذي يتحدث عنه ، ولا يختلف المعنى بذلك .
قوله : ( من يشاء ) ، كل فعل مقيد بالمشيئة ؛ فإنه مقيد بالحكمة ؛ لأن(116/26)
وقوله : ( فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ )(العنكبوت: من الآية17).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشيئة الله ليست مجردة يفعل ما يشاء لمجرد أنه يفعله فقط ؛ لأن من صفات الله الحكمة ، ومن أسمائه الحكيم ، قال الله تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (الانسان:30).
قوله : ( وهو الغفور الرحيم ) ، أي : ذو المغفرة ، والمغفرة : ستر الذنب والتجاوز عنه ، مأخوذ من المغفر ، وهو ما يتقي به السهام ، والمغفرة فيه ستر ووقاية .
والرحيم ؛ أي : ذو الرحمة ، وهي صفة تليق بالله ـ عز وجل ـ ، تقتضي الإحسان والإنعام .
الشاهد قوله : ( ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك ) في الآية الأولى ؛ فقد نبه الله نبيه أن من يدعو أحدا من دون الله ( أي : من سواه ) ) لا ينفعه و لا يضره .
قوله في الآية الثانية : ( وإن يمسسك الله ضر فلا كاشف له فلا هو ) .
* * *
الآية الثالثة قوله : ( فابتغوا عند الله الرزق ) .
لو أتي المؤلف بأول الآية : ( إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا ) لكان أولى ؛ فهم يعبدون هذه الأوثان من شجر وحجر وغيرها ، وهي لا تملك لهم رزقا أبدا ، لو دعوها إلى يوم القيامة ما أحضرت لهم ولا حبة بر ، ولا دفعت عنهم أدنى مرض أو فقر، فإذا كانت لا تملك الرزق؛ فالذي يملكه هو الله ، ولهذا قال : ( فابتغوا عند الله الرزق )؛ أي : اطلبوا عند الله الرزق ؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنه سبحانه هو الذي لا ينقضي ما عنده ، (مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاق)(النحل: من الآية96)، والرزق هو العطاء كما قال الله تعالى : ( فارزقوهم منه ) .(116/27)
قوله: ( عند الله ) : عند الله : حال من الرزق ، وقدم الحال مع أن موضعها التأخير عن صاحبها لإفادة الحصر؛ إذ إن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر؛ أي : فابتغوا الرزق حال كونه عند الله لا عند غيره .
قوله : ( واعبدوه ) ، أي : تذللوا بالطاعة ؛ لأن العبادة مأخوذة من التعبيد، وهو التذليل ، ومنه قولهم : طريق معبد ؛ أي : مذلل للسالكين ، قد أزيل عنه الأحجار والأشجار المؤذية ؛ لأنكم إذا تذللتم له بالطاعة ؛ فهو من أسباب الرزق ، قال تعالى : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجا ًوَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ )(الطلاق: من الآية3،4)؛ فأمر أن نطلب الرزق عنده، ثم أعقبه بقوله:( واعبدوه ) إشارة إلى أن تحقيق العبادة من طلب الرزق ؛ لأن العابد ما دام يؤمن أن من يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب ؛ فعبادته تتضمن طلب الرزق بلسان الحال .
قوله : ( واشكروا له ) ، إذا أضاف الله الشكر له متعديا باللام ؛ فهو إشارة إلى الإخلاص ؛ أي : واشكروا نعمة الله لله ؛ فاللام هنا لإفادة الإخلاص ؛ لأن الشاكر قد يشكر الله لبقاء النعمة ، وهذا لا بأس به ، ولكن كونه شكر لله وتأتي إرادة بقاء النعمة تبعاً هذا هو الأكمل والأفضل.
والشكر فسروه بأنه: القيام بطاعة المنعم، وقالوا: إنه يكون في ثلاثة مواضع:
1ـ في القلب، وهو أن يعترف بقلبه أن هذه النعمة من الله، فيرى لله فضلاً عليه بها، قال تعالى: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ )(النحل: من الآية53)، وأعظم نعمة هي نعمة الإسلام، قال تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/28)
عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ )(الحجرات: من الآية17)، وقال تعالى: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ)(آل عمران: من الآية164).
2ـ اللسان، وهو أن يتحدث بها على وجه الثناء على الله والاعتراف وعدم الجحود، لا على سبيل الفخر والخيلاء والترفع على عباد الله؛ فيتحدث بالغنى لا ليكسر خاطر الفقير، بل لأجل الثناء على الله، وهذا جائز كما في قصة الأعمى من بني إسرائيل لما ذكرهم الملك بنعمة الله، قال: (نعم، كنت أعمى فرد الله علي بصري، وكنت فقيراً فأعطاني الله المال)؛ فهذا من باب التحدث بنعمة الله.
والنبي صلى الله عليه وسلم تحدث بنعمة الله عليه بالسيادة المطلقة: فقال: (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة) (1)
3ـ الجوارح، وهو أن يستعملها بطاعة المنعم، وعلى حسب ما يختص بهذه النعمة.
فمثلاً: شكر الله على نعمة العلم: أن تعمل به، وتعلمه الناس.
وشكر الله على نعمة المال: أن تصرفه بطاعة الله، وتنفع الناس به.
وشكر الله على نعمة الطعام: أن تستعمله فيما خلق له، وهو تغذية البدن؛ فلا تبني من العجين قصراً مثلاً؛ فهو لم يخلق لهذا الشيء.
قوله: (إليه ترجعون)، الجار والمجرور متعلق بـ (ترجعون)، وتقديمه دل على الحصر، أي أن رجوعنا إلى الله ـ سبحانه ـ ، وهو الذي سيحاسبنا
وقوله: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(الاحقاف: من الآية5) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على ما حملنا إياه من الأمر بالعبادة، والأمر بالشكر، وطلب الرزق منه.(116/29)
والشاهد من هذه الآية: (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ)(العنكبوت: من الآية17)؛ فالفقير يستغيث بالله لكي ينجيه من الفقر، والله هو الذي يستحق الشكر، وإذا كانت هذه الأصنام لا تملك الرزق؛ فكيف تستغيث بها ؟ !
* الآية الرابعة قوله تعالى: (ومن أضل) ، (من): اسم استفهام مبتدأ، و(أضل) : اسم تفضيل؛ أي: لا أحد أضل من هذا.
والضلال: أنه يتيه الإنسان عن الطريق الصحيح.
وإذا كان الاستفهام مراد به النفي كان أبلغ من النفي المجرد؛ لأنه يحوله من نفي إلى تحد؛ أي: بين لي عن أحد أضل ممن يدعو من دون الله ؟ فهو متضمن للتحدي، وهو أبلغ من قوله: لا أضل ممن يدعو؛ لأنه هذا نفي مجرد، وذلك نفي مشرب معنى التحدي.
قوله: (ممن يدعو)، متعلق بأضل، ويراد بالدعاء هنا دعاء المسألة ودعاء العبادة.
قوله: (من دون الله)، أي: سواه.
قوله: (من لا يستجيب له إلى يوم القيامة)، (من): مفعول يدعو؛ أي لو بقي كل عمر الدنيا يدعو ما استجاب له، قال الله تعالى : (إنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ )(فاطر: من الآية14)، والخبر هنا عن الله تعالى، قال تعالى: (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ)(فاطر: من الآية14)، يعني: نفسه سبحانه وتعالى.(116/30)
وقوله: (من لا يستجيب) أتى بـ (من)، وهي للعاقل، مع أنهم يعبدون الأصنام والأحجار والأشجار، وهي عاقلة؛ لأنهم لما عبدوها نزلوها منزلة العاقل، فخوطبوا بمقتضى ما يدعون؛ لأنه أبلغ في إقامة الحجة عليهم في أنهم يدعون من يرونهم عقلاء، ومع ذلك لا يستجيبون لهم، وهذا من بلاغة القرآن؛ لأنه خاطبهم بما تقتضيه حالهم ليقيم الحجة عليهم؛ إذ لو قيل: ما لا يستجيب له؛ لقالوا: هناك عذر في عدم الاستجابة لأنهم غير عقلاء.
قوله: (وهم عن دعائهم)، الضمير في قوله: (هم) يعود على (من) باعتبار المعنى؛ لأنهم جماعة، وضمير يستجيب يعود على (من) باعتبار اللفظ؛ لأنه مفرد، فأفرد الضمير باعتبار لفظ (من)، وجمعه باعتبار لفظ (من)، وجمعه باعتبار المعنى؛ لأن (من) تعود على الأصنام، وهي جماعة، و(من) قد يراعى لفظها ومعناها في كلام واحد.
ومنه قوله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً)(الطلاق: من الآية11)؛ فهنا راعي اللفظ، ثم المعنى، ثم اللفظ.
قوله: (عن دعائهم)، الضمير في دعائهم يعود إلى المدعوين، وهل المعنى: (وهم)؛ أي: الأصنام، (عن دعائهم)، أي: دعاء الداعين إياهم، فيكون من باب إضافة المصدر إلى مفعوله، أو المعنى: و(هم) عن دعاء العابدين لهم؛ فيكون (دعاء) مضافاً إلى فاعله، والمفعول محذوف ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول أبلغ، أي عن دعاء العابدين إياهم أبلغ من دعاء العابدين على سبيل الإطلاق، فإذا قلت: (عن دعائهم)؛ أي: عن دعاء العابدين إياهم، وجعلت الضمير هنا يعود على المدعوين؛ صار المعني أن هذه الأصنام غافلة عن دعوة هؤلاء إياهم، ويكون هذا أبلغ في أن هذه الأصنام لا تفيد شيئاً في الدنيا ولا في الآخرة.(116/31)
قوله: (وإذا حشر الناس)، أي: يوم القيامة، (كانوا لهم أعداء) ، هل المعنى: كان العابدون للمعبودين أعداء، أو كان المعبودون للعابدين أعداء؟
الجواب: يشمل المعنيين، وهذا من بلاغة القرآن.
الشاهد: قوله: (من لا يستجيب له إلى يوم القيامة)، فإذا كان من سوى الله لا يستجيب إلى يوم القيامة؛ فكيف يليق بك أن تستغيث به دون الله؟ ! فبطل تعلق هؤلاء العابدين بمعبوداتهم.
فالذي يأتي للبدوي أو للدسوقي في مصر، فيقول: المدد ! المدد ! أو: أغثني؛ لا يغني عنه شيئاً، ولكن قد يبتلى فيأتيه المدد عند حصول هذا الشيء لا بهذا الشيء، وفرق بين ما يأتي بالشيء وما يأتي عند الشيء.
مثال ذلك: امرأة دعت البدوي أن تحمل، فلما جامعها زوجها حملت، وكانت سابقاً لا تحمل؛ فنقول هنا: إن الحمل لم يحصل بدعاء البدوي، وإنما حصل عنده لقوله تعالى: (من لا يستجيب له إلى يوم القيامة).
أو يأتي للجيلاني في العراق، أو ابن عربي في سوريا، فيستغيث به؛ فإنه لا ينتفع، ولو بقي الواحد منهم إلى يوم القيامة يدعو ما أجابه أحد.
والعجب أنهم في العراق يقولون: عندنا الحسين، فيطوفون بقبره ويسألونه، وفي مصر كذلك، وفي سوريا كذلك ، وهذا سفه في العقول ،
وقوله : (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ)(النمل: من الآية62).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وضلال في الدين، والعامة قد لا يلامون في الواقع، لكن الذي يلام من عنده علم من العلماء ومن غير العلماء.
* * *
* الآية الخامسة قوله تعالى : (أمن)، أم: منقطعة، والفرق بين المنقطعة والمتصلة ما يلي :
1ـ المنقطعة بمعنى بل، والمتصلة بمعنى أو.
2ـ المتصلة لا بد فيها من ذكر المعادل، والمتصلة لا يشترط فيها ذكر المعادل.(116/32)
مثال ذلك: أعندك زيد أم عمرو؟ فهذه متصلة، وقوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور:35) متصلة، وقوله تعالى: )أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)(النمل: من الآية62) منقطعة؛ لأنه لم يذكر لها معادل؛ فهي بمعنى بل والهمزة.
قوله: (المضطر)، أصلها: المضتر؛ أي: الذي أصابه الضرر، قال تعالى: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ)(الانبياء: من الآية84)؛ فلا يجيب المضطر إلا الله، لكن قيده بقوله: (إذا دعاه)، أما إذا لم يدعه؛ فقد يكشف الله ضره، وقد لا يكشفه.
قوله: (ويكشف السوء)، أي: يزيل السوء، والسوء: ما يسوء المرء، وهو دون الضرورة؛ لأن الإنسان قد يساء بما لا يضره، لكن كل ضرورة سوء.
وقوله: (ويكشف السوء) هل هي متعلقة بما قبلها في المعنى، وإنه إذا أجابه كشف سوءه، أو هي مستقلة يجيب المضطر إذا دعاه ثم أمر آخر يكشف السوء؟
الجواب: المعنى الأخير أعم؛ لأنها تشمل كشف سوء المضطر وغيره،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومن دعا الله ومن لم يدعه، وعلى التقدير الأول تكون خاصة بكشف سوء المضطر، ومعلوم أنه كلما كان المعنى أعم كان أولى، ويؤيد العموم قوله: (ويجعلكم خلفاء الأرض).(116/33)
قوله: (ويجعلكم خلفاء الأرض) ، الذين يجعلهم الله خلفاء الأرض هم عباد الله الصالحون ، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ) (الانبياء:105)،وقال تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً ) (النور: من الآية55).
قوله: (أإله مع الله)، الاستفهام للإنكار أو بمعنى النفي، وهما متقاربان أي: هل أحد مع الله يفعل ذلك؟!
الجواب: لا ، وإذا كان كذلك؛ فيجب أن تصرف العبادة لله وحده، وكذلك الدعاء؛ فالواجب على العبد أن يوجه السؤال إلى الله تعالى، ولا يطلب من أحد أن يزيل ضرورته ويكشف سوءه وهو لا يستطيع.
* إشكال وجوابه:
وهو أن الإنسان المضطر يسأل غير الله ويستجاب له، كمن اضطر إلى طعام وطلب من صاحب الطعام أن يعطيه فأعطاه؛ فهل يجوز أم لا؟
الجواب: أن هذا جائز، لكن يجب أن نعتقد أن هذا مجرد سبب لا أنه مستقل؛ فالله جعل لكل شيء سبباً، فيمكن أن يصرف الله قلبه فلا يعطيك، ويمكن أن تأكل ولا تشبع فلا تزول ضرورتك، ويمكن أن يسخره الله ويعطيك.
* * *
روى الطبراني بإسناده (1) : أنه كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم منافق يؤذي المؤمنين، فقال بعضهم: قوموا بنا نستغيث برسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا المنافق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بإسناده)، يشير إلى أن هذا الإسناد ليس على شرط الصحيح، أو المتفق عليه بين الناس، بل هو إسناده الخاص، وعليه؛ فيجب أن يراجع هذا الإسناد فليس كل إسناد محدث قد تمت فيه شروط القبول.(116/34)
وذكر الهيثمي في (مجمع الزوائد): (إن رجاله رجال الصحيح)؛ غير ابن لهيعة، وهو حسن الحديث، وابن لهيعة خلط في آخر عمره لاحتراق كتبه)، ولم يذكر المؤلف الصحابي، وفي الشرح هو عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
قوله: (في زمن النبي)، أي: عهده، وكان الكافر أولاً يعلن كفره ولا يبالي، ولما قوي المسلمون بعد غزوة بدر خاف الكفار؛ فصاروا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر.
قوله: (منافق)، المنافق: هو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، وهؤلاء ظهروا بعد غزوة بدر.
ولم يسم المنافق في هذا الحديث؛ فيحتمل أنه عبد الله بن أبي؛ لأنه مشهور بإيذاء المسلمين، ويحتمل غيره.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لا يستغاث بي، وإنما يستغاث بالله).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أن أذية المنافقين للمسلمين ليست بالضرب أو القتل؛ لأنهم يتظاهرون بمحبة المسلمين، ولكن بالقول والتعريض كما صنعوا في قصة الإفك.
قوله: (فقال بعضهم)، أي: الصحابة.
قوله: (نستغيث)، أي: نطلب الغوث وهو إزالة الشدة.
قوله: (من هذا المنافق)، إما بزجره، أو تعزيزه، أو بما يناسب المقام.
وفي الحديث إيجاز حذف دل عليه السياق؛ أي: فقاموا إلى رسول الله، فقالوا: يا رسول الله ! إنا نستغيث بك من هذا المنافق.
قوله: (إنه لا يستغاث بي) ، ظاهر هذه الجملة النفي مطلقاً، ويحتمل أن المراد: لا يستغاث به في هذه القضية المعينة.
فعلى الأول: يكون نفي الاستغاثة من باب سد الذرائع والتأدب في اللفظ، وليس من باب الحكم بالعموم؛ لأن نفي الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم ليس على إطلاقه، بل تجوز الاستغاثة به فيما يقدر عليه.(116/35)
أما إذا قلنا: إن النفي عائد إلى القضية المعنية التي استغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم منها؛ فإنه يكون على الحقيقة، أي: على النفي الحقيقي، أي: لا يستغاث بي في مثل هذه القضية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل المنافقين معاملة المسلمين، ولا يمكنه حسب الحكم الظاهر للمنافقين أن ينتقم من هذا المنافق انتقاماً ظاهراً؛ إذ إن المنافقين يستترون، وعلى هذا؛ فلا يستغاث للتخلص من المنافق إلا بالله.
* * *
· · فيه مسائل:
الأولى : أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص. الثانية: تفسير قوله: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك). الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
* الأولى : أن عطف الدعاء على الاستغاثة من عطف العام على الخاص، يعني: حيث قال في الترجمة باب من الشرك أن يستغيث بغير الله أو يدعو غيره، ووجه ذلك أن الاستغاثة طلب إزالة الشدة والدعاء طلب ذلك وغيره، إذاً الاستغاثة نوع من الدعاء، والدعاء أعم؛ فهو من باب عطف العام على الخاص، وهذا سائغ في اللغة العربية؛ فهو كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ)(الحج: من الآية77).
* الثانية : تفسير قوله: (ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك)، الخطاب في هذه الآية للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة، بدليل الآيات التي قبلها، قال تعالى: (وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (يونس:105).
فإن قيل: كيف ينهاه الله عن أمر لا يمكن أن يقع منع شرعاً؟
أجيب: إن الغرض هو التنديد بمن فعل ذلك، كأنه يقول: لا تسلك هذا الطريق التي سلكها أهل الضلال، وإن كان الرسول لا يمكن أن يقع منه ذلك شرعاً.(116/36)
* الثالثة: أن هذا هو الشرك الأكبر، يؤخذ من قوله تعالى: (فَإِنْ فَعَلْتَ
الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره؛ صار من الظالمين. الخامسة: تفسير الآية التي بعدها. السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً. السابعة: تفسير الآية الثالثة. الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله؛ كما أن الجنة لا تطلب إلا منه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ)، مضافاً إلى قوله تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)(لقمان: من الآية13).
* الرابعة: أن أصلح الناس لو فعله إرضاء لغيره؛ صار من الظالمين، تؤخذ من كون الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو أصلح الناس، فلو فعل ذلك إرضاء لغيره؛ صار من الظالمين، حتى ولو فعله مجاملة لإنسان مشرك، فدعا صاحب قبر إرضاء لذلك المشرك؛ فإنه يكون مشركاً؛ إذ لا تجوز المحاباة في دين الله.
* الخامسة: تفسير الآية التي بعدها، وهي قوله تعالى: (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ . . .) الآية (الأنعام: من الآية17)، فإذا كان لا يكشف الضر إلا الله؛ وجب أن تكون العبادة له وحده والاستغاثة به وحده.
* السادسة: كون ذلك لا ينفع في الدنيا مع كونه كفراً، تؤخذ من قوله تعالى: (وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو)، فلم ينتفع من دعائه هذا؛ فخسر الدنيا بذلك، والآخره بكفره.
* السابعة: تفسير الآية الثالثة، وهي قوله تعالى: (فابتغوا عند الله الرزق). وقوله: (عند الله) حال من الرزق، وعليه يكون ابتغاء الرزق عند الله وحدة.
* الثامنة: أن طلب الرزق لا ينبغي إلا من الله، كما أن الجنة لا تطلب إلا(116/37)
التاسعة: تفسير الآية الرابعة . العاشرة : أنه لا أضل ممن دعا غير الله الحادية عشرة : أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه . الثانية عشرة : أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعدواته له . الثالثة عشرة : تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منه، تؤخذ من قوله تعالى : ( واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون ) ؛ لأن العبادة سبب لدخول الجنة ، وقد أشار الله إلى ذلك بقوله : ( إليه ترجعون ) .
· · التاسعة : تفسير الآية الرابعة ،وهي من قوله تعالى : (َمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)(الاحقاف: من الآية5) .
· · العاشرة : أنه لا أضل ممن غير الله ، تؤخذ من قوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَ)(الاحقاف: من الآية5)؛ لأن الاستفهام هنا بمعنى النفي .
· · الحادية عشرة : أنه غافل عن دعاء الداعي لا يدري عنه ، لقوله تعالى: ( وهم عن دعائهم غافلون ) ، (وهم ) ؛ أي : دعاء الداعين ، أو عن دعاء الداعين إياهم ؛ فالاحتمال في الضمير الثاني وهو قوله : ( عن دعائهم ) ، أما الضمير الأول ؛ فإنه يعود إلى المدعون لا ريب ، وقد سبق بيانه بالتفصيل .
*الثانية عشرة :أن تلك الدعوة سبب لبغض المدعو للداعي وعداوته له ، تؤخذ من قوله تعالى : (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الاحقاف:6) .
*الثالثة عشرة : تسمية تلك الدعوة عبادة للمدعو ، تؤخذ من قوله تعالى :(116/38)
الرابعة عشرة : كفر المدعو بتلك العبادة . الخامسة عشرة : هي سبب كونه أضل الناس . السادسة عشرة : تفسير الآية الخامسة . السابعة عشرة : الأمر العجيب ، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله ، ولأجل هذا يدعونه في الشدائد مخلصين له الدين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(وكانوا بعبادتهم كافرين ) .
· · الرابعة عشرة : كفر المدعو بتلك العبادة ، معنى كفر المدعو : رده وإنكاره ، فإذا كان يوم القيامة تبرأ منه وأنكره . تؤخذ من قوله : ( وكانوا بعبادتهم كافرين ) .
· · الخامسة عشرة : هي سبب كونه أضل الناس ، وذلك لأمور ، وهي :
1-أنه يدعو من دون الله من لا يستجيب له .
2-أن المدعوين غافلون عن دعائهم .
3-أنه إذا حشر الناس كانوا له أعداء.
4 -أنه كافر بعبادتهم .
· · السادسة عشرة : تفسير الآية الخامسة ، وهي قوله تعالى : ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ) وقد سبق ذلك .
· · السابعة عشرة : الأمر العجيب ، وهو إقرار عبدة الأوثان أنه لا يجيب المضطر إلا الله ….إلخ ، وهو كما قال رحمه الله : وهذا موجود الآن ؛ فمن الناس من يسجد للأصنام التي صنعوها بأنفسهم تعظيما ، فإذا وقعوا في الشدة دعو الله مخلصين له الدين ، وكان عليهم أن يلجؤوا للأصنام لو كانت عبادتها
الثامنة عشرة : حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم حمى التوحيد و التأدب مع الله .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
حقا ، إلا أن من المشركين اليوم من هو أشد شركا من المشركين السابقين، فإذا وقعوا في الشدة دعو أولياءهم ؛ كعلي والحسين ، وإذا كان الأمر سهلا دعوا الله، وإذا حلفوا حلفا هم فيه صادقون حلفوا بعلي أو غيره من أوليائهم ، وإذا حلفوا حلفا هم فيه كاذبون حلفوا بالله ولم يبالوا .(116/39)
· · الثامنة عشرة : حماية المصطفى حمى التوحيد ، والتأدب مع الله . اختار المؤلف أن قوله : ( لايستغاث بي ) من باب التأدب بالألفاظ ، والبعد عن التعلق بغير الله ، وأن يكون تعلق الإنسان دائما بالله وحده ؛ فهو يعلم الأمة أن تلجأ إلى الله وحده إذا وقعت في الشدائد ، ولا تستغيث إلا به وحده .
* * *
باب قول الله تعالى :
(أَيُشْرِكُونَ مَا لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ *وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً)(لأعراف: من الآية 191،192).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مناسبة الباب لما قبله :
لما ذكر رحمه الله الاستعاذة و الاستغاثة بغير الله ـ عز وجل ـ ؛ ذكر البراهين الدالة على بطلان عبادة ما سوى الله ، ولهذا جعل الترجمة لهذا الباب نفس الدليل ، وذكر رحمه الله ثلاث آيات :
* * *
· · الآية الأولى و الثانية قوله : ( أيشركون ) ، الاستفهام للإنكار والتوبيخ؛ أي : يشركونه مع الله .
قوله : ( ما لا يخلق ) ، هنا عبر بـ (ما ) دون (من ) ، وفي قوله : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ )(الاحقاف: من الآية5) عبر بـ (من ) .
والمناسبة ظاهرة ؛ لأن الداعين هناك نزلوهم منزلة العاقل ، أما هنا؛ فالمدعو جماد ؛ لأن الذي لا يخلق شيئا ولا يصنعه جماد لا يفيد .
قوله : ( شيئا ) ، نكرة في سياق النفي ؛ فتفيد العموم .
قوله : ( وهم يخلقون ) ، وصف هذه الأصنام بالعجز والنقص .
والرب المعبود لا يمكن أن يكون مخلوقا ، بل هو الخالق ؛ فلا يجوز عليه الحدوث ولا الفناء .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمخلوق : حادث ، والحادث يجوز عليه العدم ؛ لأن ما جاز انعدامه أولا؛ جاز عقلا انعدامه آخرا .(116/40)
فكيف يعبد هؤلاء من دون الله ؛ إذ المخلوق هو بنفسه مفتقر إلى خالقه وهو حادث بعد أن لم يكن ؛ فهو ناقص في إيجاده وبقائه ؟!
· · إشكال وجوابه :
قوله : ( ما لا يخلق ) الضمير بالإفراد ، وقوله : ( وهم يخلقون ) الضمير بالجمع ؛ فما الجواب ؟
أجيب : بأن قوله : ( ما لا يخلق ) عاد الضمير على ( ما) باعتبار اللفظ ؛ لأن ( ما ) اسم موصول ، لفظها مفرد ، لكن معناها الجمع ؛ فهي صالحة بلفظها للمفرد ، وبمعناها للجمع ؛ كقوله : ( من لا يستجيب له ) .
قوله:(وهم يخلقون) عاد الضمير على ( ما ) باعتبار المعنى ؛ كقوله: ( وهم عن دعائهم غافلون ) .
قوله : ( ولا يستطيعون لهم نصرا ) ، أي : لا يقدرون على نصرهم لو هاجمهم عدو ؛ لأن هؤلاء المعبودين قاصرون .
والنصر : الدفع عن المخذول بحيث ينتصر على عدوه.
قوله : ( ولا أنفسهم ينصرون ) ، بنصب أنفسهم على أنه مفعول مقدم ، وليس من باب الاشتغال ؛ لأن العامل لم يشتغل بضمير السابق .
أي : زيادة على ذلك هم عاجزون عن الانتصار لأنفسهم ؛ فكيف ينصرون غيرهم ؟!
فبين الله عجز هذه الأصنام ، وأنها لا تصلح أن تكون معبودة من أربعة وجوه ، هي :
وقوله:(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ)(فاطر: من الآية13).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-أنها لا تخلق ، ومن لا يخلق لا يستحق أن يعبد.
2-أنهم مخلوقون من العدم ؛ فهم مفتقرون إلى غيرهم ابتداء ودواما .
3-أنهم لا يستطعون نصر الداعين لهم ، وقوله : ( لا يستطيعون ) أبلغ من قوله : ( لا ينصرونهم ) ؛ لأنه لو قال : ( لا ينصرونهم ) ؛ فقد يقول قائل : لكنهم يستطيعون ، لكن لما قال : ( لا يستطيعون لهم نصرا ) كان أبلغ لظهور عجزهم .
4-أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم .
* * *
· · الآية الثالثة قوله : ( والذين تدعون من دونه ) .(116/41)
يشمل دعاء المسالة ، ودعاء العبادة ، و (من دونه ) ؛ أي : سوى الله .
قوله : ( ما يملكون من قطمير ) ، ( ما ) : نافية ، (من ) حرف زائد لفظا، وقيل : لا ينبغي أن يقال : حرف جر زائد في القرآن ، بل يقال : من : حرف صلة ، وهذا فيه نظر ؛ لأن الحروف الزائدة لها معنى ، وهو التوكيد ، وإنما يقال: زائد من حيث الإعراب ، وجملة ( ما يملكون ) خبر المبتدأ الذي هو ( الذين ).
وقوله : ( من قطمير ) ، القطمير : سلب نواة التمرة .
وفي النواة ثلاثة أشياء ذكرها الله في القرآن لبيان حقارة الشيء .
القطمير : وهو اللفافة الرقيقة التي على النواة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الفتيل : وهو سلك يكون في الشق الذي في النواة .
النقير : وهي النقرة التي تكون على ظهر النواة .
فهؤلاء لا يملكون من قطمير ، فإن قيل : أليس الإنسان يملك النخل كله كاملا ؟
أجيب : إنه يملكه ، ولكنه ملك ناقص ليس حقيقا ؛ فلا يتصرف فيه إلاعلى حسب ما جاء به الشرع ، فلا يملك مثلا إحراقه للنهي عن إضاعة المال .
قوله : ( إن تدعوهم ) ، جملة شرطية ، تدعو : فعل الشرط مجزوم بحذف النون ، والواو فاعل ، وأصلها : تدعونهم .
قوله : ( لا يسمعوا دعاءكم ) جواب الشرط مجزوم بحذف النون ، والواو فاعل .
قوله : ( ولو سمعوا ما استجابوا لكم ) ، أي : إن هذه الأصنام لو دعوتموها ما سمعت ، ولو فرض أنها سمعت ما استجابت ؛ لأنها لا تقدر على ذلك ، ولهذا قال إبراهيم عليه السلام لأبيه : (ِيَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)(مريم: من الآية42).(116/42)
فإذا كانت كذلك ؛ فأي شيء يدعو إلى أن تدعى من دون الله ؟ ! بل هذا سفه ، قال الله تعالى : (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ )(البقرة: من الآية130) قوله : ( ويوم القيامة يكفرون بشرككم ) هو كقوله تعالى : (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الاحقاف:6) .
فهؤلاء المعبودون إن كانوا يبعثون ويحشرون ؛ فكفرهم بشركهم ظاهر كمن يعبد عزيزا و المسيح .
وإن كانوا أحجارا وأشجارا ونحوها ؛ فيحتمل أن يشملها ظاهر الآية، وهو أن الله يأتي بهذه الأحجار ونحوها ؛ فتكفر بشرك من يشرك بها ، ويؤيده
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى:(إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّم)(الانبياء:من الآية98) ، وما ثبت في (الصحيحين ) عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه عند بعث الناس يقال لكل أمة : لتتبع كل أمة ما كانت تعبد من دون الله )(1) ؛ فالحجر يكون أمامهم يوم القيامة ، ويكون له كلام ينطق به ، ويكفر بشركهم ، فإذا كانت المعبودات تحضر وتحصب في النار إهانة لعابديها وتحضر لتتبع إلى النار ؛ فلا غرو أن تكفر بعابديها إذا أحضرت .
قوله : ( ولا ينبئك مثل خبير ) (فاطر 14) ، هذا مثال يضرب لمن أخبر بخبر ورأى شكا عند خاطبه به ؛ فيقول : ولا ينبئك مثل خبير ، معناه : أنه لا يخبرك بالخبر مثل خبير به ، وهو الله ؛ لأنه لا يعلم أحد ما يكون في يوم القيامة إلا الله ، وخبره خبر صدق؛ لأن الله تعالى يقول:(ومن أصدق من الله قيلا)( النساء :122).
والخبير : العالم ببواطن الأمور .
· · مسألة :
هل يسمع الأموات السلام ويردونه على من سلم عليهم ؟
اختلف في ذلك على قولين :(116/43)
القول الأول : أن الأموات لا يسمعون السلام ، وأن قول النبي صلى الله عليه وسلم حين زيارة القبور:(السلام عليكم ) دعاء لا يقصد به المخاطبة ، ثم على فرض أنهم يسمعون كما جاء الحديث الذي صححه ابن عبد البر وأقره ابن القيم :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الإنسان إذا سلم على شخص يعرفه في الدنيا رد الله عليه روحه فرد السلام)(1) وعلى تقدير صحة هذا الحديث إذا كانوا يسمعون السلام ويردونه؛ فلا يلزم أن يسمعوا كل شيء ، ثم لو فرض أنهم يسمعون غير السلام ؛ فإن الله صرح بأن المدعوين من دون الله لا يسمعون دعاء من يدعونهم ؛ فلا يمكن أن نقول : أنهم يسمعون دعاء من يدعون ؛ لأن هذا كفر بالقرآن ؛ فتبين هذا أنه لا تعارض بين قوله صلى الله عليه وسلم : ( السلام عليكم دار قوم مؤمنين )(2) وبين هذه الآية .
وأما قوله : ( ولو سمعوا ) ؛ فمعناه : لو سمعوا فرضا ما استجابوا لكم ؛ لأنهم لا يستطيعون .
القول الثاني : أن الأموات يسمعون .
واستدلوا على ذلك بالخطاب الواقع في سلام الزائر لهم بالمقبرة .
وبما ثبت في ( الصحيح ) من أن المشيعين إذا انصرفوا سمع المشيع قرع نعالهم(3) .
والجواب عن هذين الدليلين : أما الأول ؛ فإنه لا يلزم من السلام عليهم أن يسمعوا ، ولهذا كان المسلمون يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم في حياته في التشهد(4) ،
وهو لا يسمعهم قطعا .
وفي الصحيح ، عن أنس قال : شج النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد ، وكسرت رباعيته ، فقال : ( كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟) ، فنزلت : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْء)(آل عمران: من الآية128)(1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما الثاني؛ فهو وارد في وقت خاص، وهو انصراف المشيعين بعد الدفن. وعلى كل؛ فالقولان متكافئان، والله أعلم بالحال.
* * *
قوله: (وفي الصحيح) ، سبق الكلام على مثل هذا العتبير.(116/44)
قوله: (أحد)، جبل معروف شمالي المدينة، ولا يقال: المنورة؛ لأن كل بلد دخله الإسلام فهو منور بالإسلام، ولأن ذلك لم يكن معروفاً عند السف، وكذلك جاء اسمها في القرآن بالمدينة فقط، لكن لو قيل: المدينة النبوية لحاجة تمييزها؛ فلا بأس، وهذا الجبل حصلت فيه وقعة في السنة الثالثة من الهجرة في شوال هزم فيها المسلمون بسبب ما حصل منهم من مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ؛ كما أشار الله إلى ذلك بقوله: (حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّون)(آل عمران: من الآية152)، وجواب الشرط محذوف تقديره: حصل لكم ما تكرهون.
وقد حصلت هزيمة المسلمين لمعصية واحدة، ونحن الآن نريد الانتصار والمعاصي كثيرة عندنا، ولهذا لا يمكن أن نفرح بنصر مادمنا على هذه الحال؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا أن يرفق الله بنا ويصلحنا جميعاً.
قوله: (شج)، الشجة: الجرح في الرأس والوجه خاصة.
قوله: (وكسرت رباعيته) ، السنان المتوسطان يسميان ثنايا، وما يليهما يسميان رباعيتين.
قوله: (فقال: كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟ ! )، الاستفهام يراد به الاستبعاد؛ أي: بعيد أن يفلح قوم شجوا نبيهم صلى الله عليه وسلم .
قوله : (يفلح) من الفلاح، وهو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
قوله : (فنزلت: (ليس لك من الأمر شيئ)، أي: نزلت هذه الآية، والخطاب فيها للرسول صلى الله عليه وسلم .
و (شيء) : نكرة في سياق النفي؛ فتعم.
قوله: (الأمر)؛ أي: الشأن، والمراد: شأن الخلق، فشأن الخلق إلى خالقهم، حتى النبي صلى الله عليه وسلم ليس له فيهم شيء.(116/45)
ففي الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وقد شج وجهه، وكسرت رباعيته، ومع ذلك ما عذره الله ـ سبحانه ـ في كلمة واحدة: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟)، فإذا كان الأمر كذلك؛ فما بالك بمن سواه؟ فليس لهم من الأمر شيء؛ كالأصنام، والأوثان، والأولياء، والأنبياء؛ فالأمر كله لله وحده، كما أنه الخالق وحده، والحمد لله الذي لم يجعل أمرنا إلى أحد سواه؛ لأن المخلوق لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً؛ فكيف يملك لغيره؟!
ونستفيد من هذا الحديث أنه يجب الحذر من إطلاق اللسان فيما إذا رأى الإنسان مبتلى بالمعاصي؛ فلا نستبعد رحمة الله منه، فإن الله تعالى قد يتوب عليه.
وفيه : عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ـ إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر ـ :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهؤلاء الذين شجوا نبيهم لما استبعد النبي صلى الله عليه وسلم فلاحهم؛ قيل له: (ليس لك من الأمر شيء).
والرجل المطيع الذي يمر بالمعاصي من بني إسرائيل ويقول: (والله؛ لا يغفر الله لفلان. قال الله له: من ذا الذي يتألى علي أن لا أغفر لفلان؟ قد غفرت له وأحبطت عملك) (1) ؛ فيجب على الإنسان أن يمسك اللسان لأن زلته عظيمة، ثم إننا نشاهد أو نسمع قوماً كانوا من أكفر عباد الله وأشدهم عداوة انقلبوا أولياء لله، فإذا كان كذلك؛ فلماذا نستبعد رحمة الله من قوم كانوا عتاة ؟ !
وما دام الإنسان لم يمت؛ فكل شيء ممكن، كما أن المسلم ـ نسأل الله الحماية ـ قد يزيغ قلبه لما كان فيه من سريرة فاسدة.
فالمهم أن هذا الحديث يجب أن يتخذ عبرة للمعتبر في أنك لا تستبعد رحمة الله من أي إنسان كان عاصياً.
قوله: (فنزلت)، الفاء للسببية، وعليه؛ فيكون سبب نزول هذه الآية هذا الكلام: (كيف يلفح قوم شجوا وجه نبيهم ؟ !).
* * *
قوله: (وفيه)، أي الصحيح.(116/46)
قوله: (إذا رفع رأسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر)، قيد مكان
(اللهم العن فلاناً وفلاناً) بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)، فأنزل الله (ليس لك من الأمر شيء) (1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الدعاء من الصلوات بالفجر، ومكانة من الركعات بالأخيرة، ومكانة من الركعة بما بعد الرفع من الركوع.
قوله: (يقول: اللهم العن فلاناً وفلاناً)، اللعن: الطرد والإبعاد عن رحمة الله؛ أي: أبعدهم عن رحمتك، وأطردهم منها.
و(فلاناً وفلاناً): بينه في الرواية الثانية أنهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام.
قوله: (بعدما يقول: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد)، أي: يقول ذلك إذا رفع رأسه وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد.
قوله: (فأنزل الله: "ليس لك من الأمر شيء" )، هنا قال: (فأنزل)، وفي الحديث السابق قال: (فنزلت)، وكلها بالفاء، وعلى هذا يكون سبب نزول الآية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم على هؤلاء، وقوله: (كيف يفلح قوم شجوا نبيهم ؟)، ولا مانع أن يكون لنزول الآية سببان.
وقد أسلم هؤلاء الثلاثة وحسن إسلامهم رضي الله عنهم؛ فتأمل الآن أن العداوة قد تنقلب ولاية؛ لأن القلوب بيد الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، ولو أن الأمر كان على ظن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لبقي هؤلاء على الكفر حتى الموت، إذ لو قبلت الدعوة عليهم، وطردوا عن الرحمة؛ لم يبق إلا العذاب.
وفي رواية يدعو على صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث ابن هشام، فنزلت: (ليس لك من الأمر شيء) (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء؛ فالأمر كله لله، ولهذا هدى الله هؤلاء القوم، وصاروا من أولياء الله الذابين عن دينه، بعد أن كانوا من أعداء الله القائمين صده، والله ـ سبحانه ـ يمن على من يشاء من عباده.(116/47)
وليس بعيداً من ذلك قصة أصيرم بن عبد الأشهل الأنصاري، حيث كان معروفاً بالعداوة لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما جاءت وقعة أحد ألقى الله الإسلام في قلبه دون أن يعلم به النبي صلى الله عليه وسلم أو احد من قومه، وخرج للجهاد وقتل شهيداً، فلما انتهت المعركة جعل الناس يتفقدون قتلاهم؛ فإذا هو في آخر رمق، فقالوا: ما جاء بك يا فلان؟ أحدث على قومك، أم رغبة في الإسلام؟ قال: بل رغبة في الإسلام، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله؛ فأخبروا عني رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبروه، فقال: (هو من أهل الجنة)؛ فهذا الرجل لم يصل لله ركعة واحدة ، ومع هذا جعله الله من اهل الجنة؛ فالله حكيم يهدي من يشاء لحكمته، ويضل من يشاء لحكمة؛ فالمهم أننا لا نستبعد رحمة الله ـ عز وجل ـ من أي إنسان.
* * *
وفيه: عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزل عليه: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) ؛ فقال: (يا معشر قريش (أو كلمة نحوها) اشتروا أنفسكم؛ لا أغني عنكم من الله شيئاً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قول: (قام)، أي: خطيباً.
قوله: (أنزل عليه)، أي: أنزل عليه بواسطة جبريل: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ) (الشعراء:214).
قوله: (أنذر)، أي: حذر وخوف، والإنذار: الإعلام المقرون بتخويف.
قوله: (عشيرتك)، العشيرة: قبيلة الرجل من الجد الرابع فما دون.
قوله: (الأقربين)، أي: الأقرب فالأقرب؛ فأول من يدخل في عشيرة الرجل أولاده، ثم آباؤه، ثم إخوانه، ثم أعمامه، وهكذا.
ويؤخذ من هذا أن الأقرب فالأقرب أولى بالإنذار؛ لأن الحكم المعلق على وصف يقوى بقوة هذا الوصف ، وذلك أن الوصف الموجب للحكم كلما كان أظهر وأبين؛ كان الحكم فيه أظهر وأبين.(116/48)
وقوله: (حين أنزل عليه) يفيد أنه لم يتأخر صلى الله عليه وسلم، بل قام، فقال: (يا معشر قريش!)؛ أي: يا جماعة قريش.
وقريش: هو فهر بن النضر بن مالك، أحد أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أو كلمة نحوها)، أي: أو قال كلمة نحوها، أي شبهها، وهذا من احتراز الرواة أنهم إذا شكوا أدنى شك قالوا: أو كما قال، أو كلمة نحوها، وما أشبه ذلك! وعليه فـ (أو): للشك والتردد.
قوله: (اشتروا أنفسكم)، أي: أنقذوها؛ لأن المشتري نفسه كأنه أنقذها من
يا عباس بن عبد المطلب ! لا أغني عنك من الله شيئاً. يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ! لا أغني عنك من الله من شيئاً. ويا فاطمة بنت محمد ! سليني من مالي ما شئت ؛ لا أغني عنك من الله شيئا) (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هلاك، والمشتري راغب، ولهذا عبر بالاشتراء كأنه يقول: اشتروا أنفسكم راغبين.
وفي قوله: (اشتروا أنفسكم) من الحض على هذا الأمر ما هو ظاهر؛ لأن المشتري يكون راغباً.
قوله: (لا أغني عنكم من الله شيئاً)، هذا هو الشاهد؛ أي: لا أدفع أو لا أنفع، أي: لا أنفعكم بدفع شيء عنكم دون الله، ولا أمنعكم من شيء أراده الله لكم؛ لأن الأمر بيد الله، ولهذا أمر الله نبيه بذلك؛ فقال: (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً)(الجن:21-22) .
قوله: (شيئاً)، نكرة في سياق النفي؛ فتعم أي شيء.
قوله: (يا عباس بن عبدالمطلب)، هو عم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبدالمطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، وعباس؛ بالضم؛ لأن المنادي إذا كان معرفة يبنى على الضم، ونعته إذا كان مضافاً ينصب، وهنا ابن عبدالمطلب مضاف، ولهذا نصب.
فإن قيل: كيف يقول النبي صلى الله عليه وسلم: عبدالمطلب أنه لا يجوز أن يضاف عبد إلا إلى الله ـ عز وجل ـ ؟(116/49)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالجواب: إن هذا ليس إنشاء، بل هو خبر؛ فاسمه عبدالمطلب، ولم يسمه النبي صلى الله عليه وسلم لكن اشتهر بعبدالمطلب، ولهذا انتمى إليه الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فقال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبدالمطلب (1)
فلو فرض أن لك أباً يسمى عبدالمطلب، أو عبدالعزى؛ فإنك تنتسب إليه، ولا يعد هذا إقراراً، ولكنه خبر عن أمر واقع؛ كما لو قلت: كفر فلان، ونافق فلان، وما أشبه ذلك، ولكن إذا كان موجوداً غيرنا اسمه إذا كان لا يجوز.
قوله: (لا أغنى عنك من الله شيئاً) ، أي: لا أنفعك بشيء دون الله، ولا أمنعك من شيء أراده الله لك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن أحد شيئاً حتى عن أبيه وأمه.
قوله: (يا صفية عمة رسول الله !) ، يقال في إعرابها كما قيل في عباس بن عبدالمطلب.
قوله: (يا فاطمة بنت محمد ! سليني من مالي ما شئت)، أي: اطلبي من مالي ما شئت ؛ فلن أمنعك لأنه صلى الله عليه وسلم مالك لما له، ولكن بالنسبة لحق الله قال : (لا أغني عنك من الله شيئاً).
فهذا كلام النبي صلى الله عليه وسلم لأقاربه الأقربين: عمه، وعمته، وابنته؛ فما بالك بمن هم أبعد ؟ ! فعدم إغنائه عنهم شيئاً من باب أولى؛ فهؤلاء الذين يتعلقون بالرسول صلى الله عليه وسلم ويلوذون به الموجودين في هذا الزمن وقبله قد غرهم الشيطان واجتالهم عن طريق الحق؛ لأنهم تعلقوا بما ليس بمتعلق؛ إذ الذي ينفع بالنسبة للرسول صلى الله عليه وسلم هو الإيمان به واتباعه.
* فيه مسائل:
الأولى: تفسير الآيتين. الثانية: قصة أحد. الثالثة: قنوت سيد المرسلين وخلفه سادات الأولياء يؤمنون في الصلاة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما دعاؤه والتعلق به رجاؤه فيما يؤمل، وخشية فيما يخاف منه؛ فهذا شرك بالله ، وهو مما يبعد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن النجاة من عذاب الله.(116/50)
ففي الحديث امتثال النبي صلى الله عليه وسلم لأمر ربه في قوله تعالى: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ) (الشعراء:214)، فإنه قام بهذا الامر أتم القيام؛ فدعا وعم وخصص، وبين أنه لا ينجي أحداً من عذاب الله بأي وسيلة، بل الذي ينجي هو الإيمان به واتباع ما جاء به.
وإذا كان القرب من النبي صلى الله عليه وسلم لا يغني عن القريب شيئاً؛ دل ذلك على منع التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن جاه النبي صلى الله عليه وسلم لا ينتفع به إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كان أصح قولي أهل العلم تحريم التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم .
* * *
فيه مسائل :
* الأولى: تفسير الآيتين ، وهما آيتا الأعراف، ويتفق ذلك في أول الباب، والاستفهام فيهما للتوبيخ والإنكار، وكذلك سبق تفسير الآية الثالثة آية فاطر.
* الثانية: قصة أحد، يعني: حيث شج النبي صلى الله عليه وسلم ... الحديث..
* الثالثة: قنوت سيد المرسلين...إلخ، أراد المؤلف بهذه المسألة أن النبي
الرابعة : أن المدعو عليهم كفار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلى الله عليه وسلم سيد المرسلين، وأصحابه سادت الأولياء، ومع هذا ما أنقذوا أنفسهم؛ فكيف ينقذون غيرهم ؟ ! وليس مراده رحمه الله مجرد إثبات القنوت والتأمين عليه، ولهذا جاءت العبارات بسيد وسادات؛ فلا أحد من هذه الأمة أقرب إلى الله من الرسول وأصحابه، ومع ذلك يلجئون إلى الله ـ سبحانه ـ في كشف الكربات، ومن كانت هذه حاله؛ فكيف يمكن أن يلجأ إليه في كشف الكربات ؟ ! فليس مراد المؤلف إثبات مسألة فقهية.
* الرابعة: أن المدعو عليهم كفار، تؤخذ من قوله تعالى : (أو يتوب عليهم) ؛ فهذا دليل على أنهم الآن ليسوا على حال مرضية، ومن المعلوم أن صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وقت الدعاء عليهم كانوا كفاراً.(116/51)
وهذه المسألة ـ أي أن المدعو عليهم كفار ـ ترمي إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم وإن كان يرى أنه دعا عليهم بحق؛ فقد قطع الله ـ سبحانه وتعالىـ أن يكون له من الأمر شيء لأنه قد يقول قائل: إذا كانوا كفاراً؛ أليس يملك الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم ؟
نقول: حتى في هذه الحال لا يملك من أمرهم شيئاً، هذا وجه قول المؤلف أن المدعو عليهم كفار، وليس مراده الإعلام بكفرهم؛ لأن هذا معلوم لا يستحق أن يعنون له، بل المراد في هذه الحال الذي كان هؤلاء كفاراً لم يملك النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بالنسبة إليهم.
الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار؛ منها: شجهم نبيهم، وحرصهم على قتله، ومنها التمثيل بالقتلى مع أنهم بنو عمهم. السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: (ليس لك من الأمر شيء). السابعة: قوله: (أو يتوب عليهم أو يعذبهم) ، فتاب عليهم؛ فآمنوا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الخامسة: أنهم فعلوا أشياء ما فعلها غالب الكفار، أي: إنهم مع كفرهم كانوا معتدين، ومع ذلك قيل له في حقهم: (ليس لك من الأمر شيء)، وإلا؛ فهم شجوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومثلوا بالقتلى مثل حمزة بن عبدالمطلب، وكذلك أيضاً حرصوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، مع أن كل هؤلاء فيهم من بني عمهم، وفيهم من الأنصار.
* السادسة: أنزل الله عليه في ذلك: (ليس لك من الأمر شيء)، أي: مع ما تقدم من الأمور التي تقتضي أن يكون للنبي صلى الله عليه وسلم حق بأن يدعو عليهم أنزل الله: (ليس لك من الأمر شيء)؛ فالأمر لله وحده، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قطع عنه هذا الشيء؛ فغيره من باب أولى.(116/52)
* السابعة: قوله: (أو يتوب عليهم)، فتاب عليهم، فآمنوا، وهذا دليل على كمال سلطان الله وقدرته؛ فهؤلاء الذين جرى منهم ما جرى تاب الله عليهم وآمنوا؛ لأن الأمر كله بيده سبحانه، وهو الذي يذل من يشاء ويعز من يشاء، ومن ذلك ما جرى من عمر رضي الله عنه قبل إسلامه من العداوة الظاهرة للإسلام، وما جرى منه بعد إسلامه من الولاية والنصرة لدين الله تعالى؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دونه لا يستطيعون أن يغيروا شيئاً من أمر الله.
الثامنة: القنوت في النوازل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الثامنة: القنوت في النوازل، وهذه هي المسألة الفقهية، فإذا نزل بالمسلمين نازلة؛ فإنه ينبغي أن يُدعى لهم حتى تنكشف.
وهذا القنوت مشروع في كل الصلوات، كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما الذي رواه أحمد وغيره (1) ؛ إلا أن الفقهاء رحمهم الله استثنوا الطاعون، وقالوا: لا يقنت له لعدم ورود ذلك، وقد وقع في عهد عمر (2) رضي الله عنه ولم يقنت، ولأنه شهادة؛ فلا ينبغي الدعاء برفع سبب الشهادة.
وظاهر السنة أن القنوت إنما يشرع في النوازل التي تكون من غير الله، مثل: إيذاء المسلمين والتضييق عليهم، أما ما كان من فعل الله؛ فإنه يشرع له ما جاءت به السنة، مثل الكسوف؛ فيشرع له صلاة الكسوف، والزلازل شرع لها صلاة الكسوف كما فعل ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: هذه صلاة الآيات، والجدب يشرع له الاستسقاء، وهكذا.
وما علمت لساعتي هذه أن القنوت شرع لأمر نزل من الله، بل يدعى له بالأدعية الواردة الخاصة، لكن إذا ضيق على المسلمين وأوذوا وما أشبه ذلك؛ فإنه يقنت اتباعاً للسنة في هذا الأمر.
ثم من الذي يقنت: الإمام الأعظم، أو إمام كل مسجد، أو كل مصل؟
التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المذهب: أن الذي يقنت هو الإمام الأعظم فقط الذي هو الرئيس الأعلى للدولة.(116/53)
وقيل: يقنت كل إمام مسجد.
وقيل:يقنت كل مصل،وهو الصحيح؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم : (صلوا كما رأيتموني أصلي) (1) ، وهذا يتناول قنوته صلى الله عليه وسلم عند النوازل.
* التاسعة: تسمية المدعو عليهم في الصلاة بأسمائهم وأسماء آبائهم، وهم: صفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، والحارث بن هشام؛ فسماهم بأسمائهم وأسماء آبائهم، لكن هل هذا مشروع أو جائز؟
الجواب : هذا جائز، وعليه، فإذا كان في تسمية المدعو عليهم مصلحة؛ كانت التسمية أولى، ولو دعاء، والدعاء مخاطبة الله تعالى، ولا يدخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس)(2).
مسألة: هل الذي نهي عنه الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاء أو لعن المعينين؟
الجواب: المنهي عنه هو لعن الكفار في الدعاء على وجه التعيين، أما لعنهم عموماً؛ فلا بأس به، وقد ثبت عن أبي هريرة أنه كان يقنت ويلعن الكفرة عموماً، ولفظ ما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أنه قال: (لأقربن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فكان أبو هريرة يقنت في الركعة الأخرى من صلاة الظهر وصلاة العشاء وصلاة الصبح بعدما يقول: سمع الله لمن حمده؛ فيدعو للمؤمنين ويلعن الكفار) (1) ، ولا بأس بدعائنا على الكافر بقولنا: اللهم ! أرح المسلمين منه، واكفهم شره، واجعل شره في نحره، ونحو ذلك.
أما الدعاء بالهلاك لعموم الكفار؛ فإنه محل نظر، ولهذا لم يدع النبي صلى الله عليه وسلم على قريش بالهلاك ، بل قال: (اللهم ! عليك بهم، اللهم ! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف) (2) ، وهذا دعاء عليهم بالتضييق، والتضييق قد يكون من مصلحة الظالم بحيث يرجع إلى الله من ظلمه.
فالمهم أن الدعاء بالهلاك لجميع الكفار عندي تردد فيه.(116/54)
وقد يستدل بدعاء خبيب حيث قال: (اللهم أحصهم عدداً، ولا تبق منهم أحداً) (3) على جواز ذلك؛ لأنه وقع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
ولأن الأمر وقع كما دعا؛ فإنه ما بقي منهم أحد على رأس الحول، ولم ينكر الله تعالى ذلك، ولا أنكره النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن إجابة الله دعاءه يدل على رضاه به وإقراره عليه.
فهذا قد يستدل به على جواز الدعاء على الكفار بالهلاك، لكن يحتاج أن ينظر في القصة؛ فقد يكون لها أسباب خاصة لا تتأتى في كل شيء.
العاشرة: لعن المعين في القنوت. الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين). الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر؛ بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، وكذلك لو يفعله مسلم الآن.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم إن خبيباً دعا بالهلاك لفئة محصورة من الكفار لا لجميع الكفار.
وفيه أيضاً إن صح الحديث: دعاؤه على عتبة بن أبي لهب: (اللهم ! سلط عليه كلباً من كلابك) (1) فيه دليل على الدعاء بالهلاك، لكن هذا على شخص معين لا على جميع الكفار.
* العاشرة: لعن المعين في القنوت، هذا غريب، فإن أراد المؤلف رحمه الله أن هذا أمر وقع، ثم نهى عنه؛ فلا إشكال، وإن أراد أنه يستفاد من هذا جواز لعن المعين في القنوت أبداً؛ فهذا فيه نظر لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك.
* الحادية عشرة: قصته صلى الله عليه وسلم لما أنزل عليه: (وأنذر عشيرتك الأقربين) ، وهي أنه لما نزلت عليه الآية نادى قريشاَ؛ فعم، ثم خصص، فامتثل أمر الله في هذه الآية.
* الثانية عشرة: جده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث فعل ما نسب بسببه إلى الجنون، أي: اجتهاده صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر، بحيث قالوا: إن محمداً جن، كيف يجمعنا وينادينا هذا النداء ؟ !(116/55)
الثالثة عشرة : قوله للأبعد والأقرب: (لا أغني عنك من الله شيئاً)، حتى قال: (يا فاطمة بنت محمد ! لا أغني عنك من الله شيئاً). فإذا صرح وهو سيد المرسلين بأنه لا يغني شيئاً عن سيدة نساء العالمين، وآمن الإنسان بأنه لا يقول إلا الحق ن ثم نظر فيما وقع في قلوب خواص الناس اليوم ؛ تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقول: (وكذلك لو يفعله مسلم الآن)، أي لو أن إنساناً جمع الناس، ثم قام يحذرهم كتحذير النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقالوا: مجنون، إلا إذا كان معتاداً عند الناس، قال تعالى: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(آل عمران: من الآية140)، وقال تعالى: (يقلب الله الليل والنهار)(النور:44)؛ فهذا يختلف باختلاف البلاد والزمان، ثم إنه يجب على الإنسان أن يبذل جهده واجتهاده في الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، والنبي صلى الله عليه وسلم قام بهذا الأمر ولم يبال بما رمي به من الجنون.
* الثالثة عشرة: قوله للأبعد : (لا أغني عنك من الله شيئاً)، صدق رحمه الله فيما قال؛ فإنه إذا كان هذا القائل سيد المرسلين، وقاله لسيدة نساء العالمين، ثم نحن نؤمن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول إلا الحق، وأنه لا يغني عن ابنته شيئاً؛ تبين لنا الآن أن ما يفعله خواص الناس ترك للتوحيد؛ لأنه يوجد أناس خواص يرون أنفسهم علماء، ويراهم من حولهم علماء وأهلاً للتقليد، يدعون الرسول صلى الله عليه وسلم لكشف الضر وجلب النفع دعوة صريحة، ويرددون:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
وغير ذلك من الشرك، وإذا أنكر عليهم ذلك ردوا إلى المنكر بأنه لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/56)
يعرف حق الرسول صلى الله عليه وسلم ومقامة عند الله ، وأنه سيد الكون، وما خلقت الجن والإنس إلا من أجله، وأنه خلق من نور العرش، ويلبسون بذلك على العامة، فيصدقهم البعض لجهلهم، ولو جاءهم من يدعوهم إلى التوحيد لم يستجيبوا له؛ لأن سيدهم وعالمهم على خلاف التوحيد، (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ )(البقرة: من الآية145)، ثم إن المؤمن عاطفته وميله للرسول صلى الله عليه وسلم أمر لا ينكر، لكن الإنسان لا ينبغي له أن يحكم العاطفة، بل يجب عليه أن يتبع ما دل عليه الكتاب والسنة وأيده العقل الصريح السالم من الشبهات والشهوات.
ولهذا نعى الله ـ سبحانه ـ على الكفار الذين اتبعوا ما ألفوا عليه آباءهم بأنهم لا يعقلون، وكلام المؤلف حق؛ فإن من تأمل ما عليه الناس اليوم في كثير من البلدان الإسلامية تبين له ترك التوحيد وغربة الدين.
* * *
باب قول الله تعالى :
(حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(سبأ: من الآية23).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مناسبة الترجمة :
أن هذا من البراهين الدالة على أنه لا يستحق أحد أن يكون شريكا مع الله؛ لأن الملائكة وهم أقرب ما يكون من الخلق لله ـ عز وجل ـ ، ما عدا خواص بني آدم يحصل منهم عند كلام الله ـ سبحانه ـالفزع .
* * *
قوله تعالى : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) ، قال ذلك و لم يقل : ( فزعت قلوبهم ) ، إذ (عن ) تفيد المجاوزة ، والمعنى : جاوز الفزع قلوبهم ؛ أي : أزيل الفزع عن قلوبهم .
الفزع : الخوف المفاجئ ؛لأن الخوف المستمر لا يسمى فزعا .
وأصله : النهوض من الخوف .(116/57)
وقوله تعالى : ( عن قلوبهم ) ؛ أي : قلوب الملائكة ؛ لأن الضمير يعود عليهم بدليل ما سيأتي من حديث أبي هريرة ، ولا أحد من الخلق أعلم بتفسير القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : ( قالوا ماذا قال ربكم ) جواب الشرط ، والمعنى : قال بعضهم لبعض : وإنما قلنا ذلك لأن الكلام قائلا ومقولا له ، فلو جعلنا الضمير في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قالوا عائدا على الجميع ؛ فأين المقول له ؟ والمعنى : أي شيء قال ربكم ؟
وإعراب ماذا على أوجه :
1-ما : اسم استفهام مبتدأ ، وذا : اسم موصول خبر ؛ أي : ما الذي .
2-ماذا : اسم استفهام مركب من ما و ذا .
3-ما اسم استفهام ، وذا زائدة ، قال ابن مالك :
ومثل ماذا بعدما استفهام أو من إذا لم تلغ في الكلام
وقوله : ( قالوا الحق ) ، أي : قال المسؤولون .
والحق : صفة لمصدر محذوف مع عامله ، والتقدير قال القول الحق .
والمعنى : أن الله ـ سبحانه ـ قال القول الحق لأنه سبحانه هو الحق، ولا يصدر عنه إلا الحق ، ولا يقول ولا يفعل إلا الحق.
والحق في الكلام هو الصدق في الأخبار ، والعدل في الأحكام ؛ كما قال الله تعالى : (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً )(الأنعام: من الآية115).
ولا يفهم من قوله : ( قالوا الحق ) أنه قد يكون قوله باطلا ، بل هو بيان للواقع ، فإن قيل : ما دام بيانا للواقع ومعروفا عند الملائكة أنه لا يقول إلا الحق؛ فلماذا الاستفهام ؟!
أجيب : أن هذا من باب الثناء على الله بما قال ، وأنه سبحانه لا يقول إلا الحق .
قوله تعالى:( وهو العلي الكبير ) ، أي : العلي في ذاته وصفاته ، والكبير : ذو الكبرياء ، وهي العظمة التي لا يداينها شيء ، أي العظيم الذي لا أعظم منه .
مناسبة الآية للتوحيد : أنه إذا كان منفردا في العظمة والكبرياء ؛ فيجب أن يكون منفردا في العبادة .(116/58)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والعلو قسمان :
الأول : علو الصفات ، وقد أجمع عليه كل من ينتسب للإسلام حتى الجهمية ونحوهم .
الثاني : علو الذات ، وقد أنكره كثير من المنتسبين للإسلام مثل الجهمية وبعض الأشاعرة غير المحققين منهم ؛ فإن المحققين منهم أثبتوا علو الذات .
وعلوه لا ينافي مع كونه مع الخلق يعلمهم ويسمعهم ويراهم ؛ لأنه ليس كمثله شيء في جميع صفاته .
وفي الآية فوائد :
1-أن الملائكة يخافون الله ؛ كما قال تعالى : (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ)(النحل: من الآية50).
2-إثبات القلوب للملائكة ؛ لقوله : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) .
3-إثبات أنهم أجسام وليسوا أرواحا مجردة من الجسمية ، وهو أمر معلوم بالضرورة ، قال تعالى : (جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ)(فاطر: من الآية1) ،وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم جبريل له ست مئة جناح قد سد الأفق(1) ؛ فالقول بأنهم أرواح فقط إنكار لهم في الواقع ، وهو قول باطل .
لكنهم لا يأكلون ولا يشربون ، وإنما أكلهم وشربهم التسبيح بدليل قوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20)؛ ففي هذا دليل على أن ليلهم ونهارهم مملؤان بذلك ، ولهذا جاء : ( يسبحون الليل ) ، ولم يقل يسبحون في الليل ؛ أي : أن تسبيحهم دائم ، والتسبيح تنزيه الله عما لا يليق به.
4-أن لهم عقولا ؛ إذ إن القلوب هي محل العقول خلافا لمن قال : إنهم لا يعقلون ، ولأنهم يسبحون الله ، ويطوفون بالبيت المعمور .
5-إثبات القول لله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وأنه متعلق بمشيئته ؛ لأنه جاء بالشرط : ( إذا فزع ) ، وإذا الشرطية تدل على حدوث الشرط والمشروط ، خلافا للأشاعرة الذين يقولون : إن الله لا يتكلم بمشيئة ، وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه ؛ فهو قائم بالله أزلي أبدي ؛ كقيام العلم والقدرة والسمع والبصر .(116/59)
ولا ريب أن هذا باطل ، وأن حقيقته إنكار كلام الله ، ولهذا يقولون : أن الله يتكلم بكلام نفسي أزلي أبدي ، كما يقولون : هذا الكلام الذي سمعه موسى ، وسمعه النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم شيء مخلوق للتعبير عن كلام الله القائم بنفسه.
وهذا في الحقيقة قوله الجهمية؛ كما قال بعض المحققين من الأشاعرة: ليس بيننا وبين الجمهية فرق، فإننا اتفقنا على أن هذا الذي بين دفتي المصحف مخلوق، لكن نحن قلنا عبارة عن كلام الله، وهم قالوا: هو كلام الله.
6ـ إثبات أن قول الله حق، وهذا جاء في القرآن: (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ)(الأحزاب: من الآية4) ، وقال: (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) (صّ:84)؛ فالله تعالى لا يقول إلا حقاً؛ لأنه هو الحق، ولا يصدر عن الحق إلا الحق.
* * *
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: (إذا قضى الله الأمر في السماء ؛ ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله ، كأنه سلسلة على صفوان ، ينفذهم ذلك ، ( حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ)(سبأ: من الآية23) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( وفي الصحيح ) ، سبق الكلام عليها .
قوله : ( قضي الله الأمر في السماء ) ، المراد بالأمر الشأن ، ويكون القضاء بالقول ؛ لقوله تعالى : ( إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون ) ( آل عمران : 47) .
قوله : ( خضعانا ) ، أي : خضوعا ؛ لقوله : ( كأنه ) ؛ أي : صوت القول في وقعه على قلوبهم .
قوله: ( صفوان ) هو الحجر الأملس الصلب ، والسلسلة عليه يكون لها صوت عظيم .(116/60)
وليس المراد تشبيه صوت الله تعالى بهذا ؛ لأن الله ( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ) ( الشورى : 11) ، بل المراد تشبيه ما يحصل لهم من الفزع عندما يسمعون كلامه بفزع من يسمع سلسلة على صفوان.
قوله : ( ينفذهم ذلك ) ، النفوذ : هو الدخول في الشيء ، ومنه : نفذ السهم
في الرمية ؛ أي دخل فيها ، والمعنى : إن هذا الصوت يبلغ منهم كل مبلغ .
قوله : ( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) ، أي : أزيل عنها الفزع .
قوله : ( قالوا ) ، أي : قال بعضهم لبعض .
قوله : (ماذا قال ربكم قالوا الحق )، أي: قالوا : قال الحق ؛ أي : قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القول الحق ؛ فالحق صفة لمصدر محذوف مع عامله ، تقديره : قال القول الحق ، وهذا الجواب الذي يقولونه هل هم يقولونه لأنهم سمعوا ما قال وعلموا أنه حق ، وأنهم كانوا يعلمون أنه لا يقول إلا الحق ؟
يحتمل أن يكونوا قد علموا ما قال ، وقالوا : إنه الحق ؛ فيكون هذا عائدا إلى الوحي الذي تكلم الله به .
ويحتمل أنهم قالوا ذلك لعلمهم أن الله ـ سبحانه ـ لا يقول إلا الحق ؛ فلذلك قالوا هذا لأن ذلك صفته سبحانه وتعالى .
وهذا الحديث مطابق للآية تماما ، وعلى هذا يجب أن يكون هذا تفسير الآية، ولا يقبل لأي قائل أن يفسرها بغيره ؛ لأن تفسير القرآن إذا كان بالقرآن
أو السنة ؛ فإنه نص لا يمكن لأحد أن يتجاوزه .
وأما تفسير الصحابي ؛ فإنه حجة عند أكثر المفسرين ، وأما التابعين ؛ فإن أكثر العلماء يقول : إنه ليس بحجة إلا من اختص منهم بشيء ؛ كمجاهد ؛ فإنه عرض المصحف على ابن عباس عشرين مرة أو أكثر ، يقف عند كل آية ويسأله عن معناها ، وأما من بعد التابعين ؛ فليس تفسيره حجة على غيره ، لكن إن أيده سياق القرآن كان العمدة سياق القرآن .(116/61)
فلا يقبل أن يقال : إذا فزع عن قلوب الناس يوم القيامة ، بل نقول : الرسول صلى الله عليه وسلم فسر الآية بتفسير غيبي لا مجال للاجتهاد فيه ، وما كان غيبيا وجاء به النص ؛ فالواجب علينا قبوله ، ولهذا نقول في مسألة ما يعذر فيه بالاجتهاد وما لا يعذر : إنه ليس عائدا على أن هذا من الأصول وهذا من الفروع؛ كما قال بعض العلماء : الأصول لا مجال للاجتهاد فيها ، ويخطئ المخالف مطلقا ، بخلاف الفروع .
فيسمعها مسترق السمع ، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ، وصفة سفيان بكفه، فحرفها وبدد بين أصابعه ، فيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى من تحته
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لكن شيخ الإسلام ابن تيميه أنكر تقسيم الدين إلى أصول وفروع ، ويدل على بطلان هذا التقسيم : أن الصلاة عند الذين يقسمون من الفروع ، مع أنها من أجل الأصول .
والصواب : أن مدار الإنكار على ما للاجتهاد فيه مجال وما لا مجال فيه؛ فالأمور الغيبية ينكر على المخالف فيها ولا يعذر ، سواء كانت تتعلق بصفات الله أو اليوم الآخر أو غير ذلك ؛ لأنه لا مجال للاجتهاد فيها .
أما الأمور العملية التي للاجتهاد فيها مجال ؛ فلا ينكر على المخالف فيها إلا إذا خالف نصا صريحا ، وإن كان يصح تضليله بهذه المخالفة ؛ كقول ابن مسعود في بنت وبنت ابن وأخت : ( للبنت النصف ، ولابنه الابن السدس ، تكملة الثلثين ، وما بقي ؛ فللأخت ) ؛ وذكر له قسمة أبي موسى : ( للابنة النصف ، وللأخت النصف ) ، وقوله : ( ائت ابن مسعود ؛ فسيتابعني ) ؛ فأخبر ابن مسعود بذلك ، فقال : ( قد ضللت إذا ، وما أنا من المهتدين )(1) .
قوله : ( فيسمعها مسترق السمع ) ، أي : هذه الكلمة التي تكلمت بها الملائكة .
و(مسترق) : مفرد مضاف ؛ فيعم جميع المسترقين .(116/62)
وتأمل كلمة ( مسترق ) ؛ ففيها دليل على أنه بيادر ، فكأنه يختلسها اختلاسا بسرعة ، ويؤيده قوله:(إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) (الصافات:10).
ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ) ، يحتمل أن يكون هذا من كلامه صلى الله عليه وسلم ، أو من كلام أبي هريرة ، أو من كلام سفيان .
قوله : ( وصفه سفيان بكفه ) ، أي : أنها واحد فوق الثاني ، أي الأصابع: فالجن يتراكبون واحدا فوق الآخر ، إلى أن يصلوا إلى السماء، فيقعدون لكل واحد مقعد خاص ، قال تعالى : (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً) (الجن:9).
قوله : ( فيسمع الكلمة ، فيلقيها إلى من تحته ) ، أي : سمع أعلى المسترقين الكلمة ، فيلقيها إلى من تحته؛ أي : يخبره بها ، و(من ) : اسم موصول ، وقوله : ( تحته ) شبه جملة صلة الموصول لأنه ظرف .
قوله : ( ثم يلقيها الآخر إلى من تحته حتى يلقيها ) ، أي : يلقي الكلمة آخرهم الذي في الأرض على لسان الساحر أو الكاهن .
والسحر:عزائم ورقى و تعوذات تؤثر في بدن المسحور وقلبه وعقله وتفكيره .
والكاهن : هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل .
وقد التبس على بعض طلبة العلم ؛ فظنوا أنه كل من يخبر عن الغيب ولو فيما مضى ؛ فهو كاهن ، لكن ما مضى مما يقع في الأرض ليس غيبا مطلقا ، بل هو غيب نسبي ، مثل ما يقع في المسجد يعد غيبا بالنسبة لمن في الشارع ، وليس غيبا بالنسبة لمن في المسجد .
وقد يتصل الإنسان بجني ، فيخبره عما حدث في الأرض ولو كان بعيدا ؛
فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/63)
فيستخدم الجن ، لكن ليس على وجه محرم ؛ فلا يسمى كاهنا ؛ لأن الكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل .
وقيل : الذي يخبر عما في الضمير ، وهو نوع من الكهانة في الواقع ، إذا لم يستند إلى فراسة ثاقبة ، أما إذا كان يخبر عما في الضمير استنادا إلى فراسة ؛ فإنه ليس من الكهانة في شيء ؛ لأن بعض الناس قد يفهم ما في الإنسان اعتمادا على أسارير وجهه ولمحاته ، وإن كان لا يعلمه على وجه التفصيل ، لكن يعلمه على سبيل الإجمال .
فمن يخبر عما وقع في الأرض ليس من الكهان، ولكن ينظر في حاله، فإذا كان غير موثوق في دينه ؛ فإننا لا نصدقه ؛ لأن الله تعالى يقول : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا )(الحجرات: من الآية6) .
وإن كان موثوقا في دينه ، ونعلم أنه لا يتوصل إلى ذلك بمحرم من شرك أو غيره ؛ فإننا لا ندخله في الكهان الذين يحرم الرجوع إلى قولهم ، ومن يخبر بأشياء وقعت في مكان ولم يطلع عليها أحد دون أن يكون موجودا فيه ؛ فلا يسمى كاهنا ؛ لأنه لم يخبر عن مغيب مستقبل يمكن أن يكون عنده جني يخبره ، والجني قد يخدم بني آدم بغير المحرم؛ إما محبة لله ـ عز وجل ـ ، أو لعلم يحصله منه ، أو لغير ذلك من الأغراض المباحة .
والسحرة قد يكون لهم من الجن من يسترق لهم السمع .
ولا يصل هؤلاء المسترقون إلا إلى السماء الدنيا ؛ لقوله تعالى : (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً)(الانبياء: من الآية32)؛ فلا يمكن نفوذه إلى ما فوقه .
فيكذب معها مئة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا و كذا : كذا و كذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء)(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( فربما أدركه الشهاب …...إلخ ) ، الشهاب : جزء منفصل من النجوم ، ثاقب ، قوي ، ينفذ فيما يصطدم به .(116/64)
قال العلماء في التفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ)(الملك: من الآية5)؛ أي : جعلنا شهابها الذي ينطلق منها ؛ فهذا من باب عود الضمير إلى الجزء لا إلى الكل .
فالشهب : نيازك تنطلق من النجوم .
وهي كما قال أهل الفلك : تنزل إلى الأرض ، وقد تحدث تصدعا فيها. أما النجم ، فلو وصل إلى الأرض ؛ لأحرقها .
واختلف العلماء : هل المسترقون انقطعوا عن الاستراق بعد بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الأبد ، أو انقطعوا في وقته فقط ؟
الثاني هو الأقرب : أنهم انقطعوا في وقت البعثة فقط ، حتى لا يلتبس كلام الكهان بالوحي ، ثم بعد ذلك زال السبب الذي من أجله انقطعوا .
قوله : ( فيكذب معها مئة كذبة ) ، هل هذا على سبيل التحديد ، أو المراد المبالغة ، أي أنه يكذب معها كذبات كثيرة ؟
الثاني هو الأقرب ، وقد تزيد عن ذلك وقد تنقص ؛ فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والناس في هذه الأمور الغريبة على حسب ما أخبر به المخبر يأخذون كل ما يقوله صدقا ، فإذا أخبر بشيء فوقع ، ثم أخبر بشيء ثان ؛ قالوا : إذن لابد أن يصدق .
· · فوائد الحديث :
1-إثبات القول لله ـ عز وجل ـ .
2-عظمة الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
3- إثبات الأجنحة للملائكة .
4-خوف الملائكة من الله ـ عز وجل ـ وخضوعهم له .
5-أن الملائكة يتكلمون و يعقلون .
6-أنه لا يصدر عن الله إلا الحق
7-أن الله ـ سبحانه ـ يمكن هؤلاء الجن من الوصول إلى السماء فتنة للناس ، وهي ما يلقونه على الكهان ، فيحصل بذلك فتنة ، والله ـ عز وجل ـ حكيم .
وقد يوجد الله أشياء تكون ضلالا لبعض الناس ، لكنها لبعضهم هدى امتحانا وابتلاء .(116/65)
8- كثرة الجن ؛ لأنهم يترادفون إلى السماء ، ومعنى ذلك أنهم كثيرون جدا ، وأجسامهم خفيفة يطيرون طيرانا .
وذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيميه في السحرة الذين يستخدمون الجن وتطير بهم : أنهم يصبحون يوم عرفة في بلادهم ويقفون مع الناس في عرفة ، وهذا ممكن الآن في الطائرات ، لكن في ذلك الوقت ليس هناك طائرات ؛ فتحملهم الشياطين ، ويجعلون للناس المكانس التي تكنس بها
وعن النواس بن سمعان ( رضي الله عنه ) ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر تكلم بالوحي ؛ أخذت السماوات منه رجفة ( أو قال : رعدة شديدة ) خوفا من الله عز وجل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
البيوت ، ويقول : أنا أركب المكنسة وأطير بها إلى مكة ؛ فيفعلون هذا ، وشيخ الإسلام يقول : إن هؤلاء كذبة ومستخدمون للشياطين ، ويسيئون حتى من الناحية العملية ؛ لأنهم يمرون الميقات ولا يحرمون منه .
9-أن الكهان من أكذب الناس ، ولهذا يضيفون إلى ما سمعوا كذبات كثيرة يضللون بها الناس ، ويتوصلون بها إلى باطلهم تارة بالترهيب وتارة بالترغيب، كأن يقولوا : ستقوم القيامة يوم كذا وكذا ، وسيجري عليك كذا من موت أو سرقة مال ونحو ذلك .
10-أن الساحر يصور للمسحور غير الواقع ، وفي هذا تحذير من أهل التمويه والتلبيس ، وأنهم إن صدقوا في شيء ؛ فيجب الحذر منهم بكل حال .
* * *
* قوله : ( وعن النواس …..) ، هذا الحديث لم يخرجه المؤلف ، لكن قد ذكره ابن كثير من رواية ابن أبي حاتم ، وذكر فيه علة ؛ وهي في سنده الوليد بن مسلم ، وهو مدلس ، وقد رواه عن شيخه بالعنعنة ؛ فيكون في الحديث ضعف، إلا أنه قد روى مسلم (1) وأحمد من الحديث ابن عباس حديثا قد يكون شاهدا له ، حيث أخبر أن الله إذا تكلم بالوحي سمعه حملة العرش ، فسبحوا،(116/66)
فإذا سمع ذلك أهل السماوات صعقوا و خروا لله سجدا ، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء ؛ سأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثم سمعه أهل كل سماء ، فيسبحون كما سبح أهل السماء السابعة ، حتى يصل إلى السماء الدنيا ، فتخطفه الجن أو الشياطين .
وهذا وإن لم يكن فيه ذكر رجفة السماء أو السجود ؛ لكن يدل على أن له أصلا .
قوله : ( إذا أراد أن يوحي بالأمر ) ، أي : بالشأن .
قوله : ( تكلم بالوحي ) ، جملة شرطية تقتضي تأخر المشروط عن الشرط؛ فالإرادة سابقة ، والكلام لاحق ؛ فيكون فيه رد على الأشاعرة الذين يقولون : إن الله لا يتكلم بإرادة، وإن كلامه أزلي؛ كالسمع والبصر؛ ففيه إثبات الكلام الحادث ، ولا ينقص كمال الله إذا قلنا : إنه يتكلم بما شاء ، كيف شاء ، متى شاء ، بل هذا صفة كمال ، لكن النقص أن يقال : إنه يتكلم بحرف وصوت، إنما الكلام معنى قائم بنفسه .
قوله : ( أخذت السماوات منه رجفة ) ، السماوات : مفعول به جمع مؤنث سالم ، أو ملحق به ؛ فيكون منصوبا بالكسرة ، ورجفة : فاعل .
قوله : ( أو قال : رعدة شديدة ) ، شك من الراوي ، وإنما تأخذ السماوات الرجفة أو الرعدة ؛ لأنه سبحانه عظيم يخافه كل شيء ، حتى السماوات التي ليس فيها روح .
قوله : ( فإذا سمع ذلك أهل السماوات ؛ صعقوا وخروا لله سجدا ) .
فيقول : قال الحق ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل )(1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل : كيف يمكن أن يصعقوا ويخروا سجدا ؟
فالجواب : أن الصعق هنا ـ والله أعلم ـ يكون قبل السجود ، فإذا أفاقوا سجدوا .
قوله : ( فيكون أول من يرفع رأسه جبريل ) ، أول : بالنصب على أنها خبر مقدم ، وجبريل بالرفع على أنها اسم يكون مؤخرا .(116/67)
قوله : ( بما أراد ) ، أي : بما شاء ؛ لأن الله تعالى يتكلم بمشيئة .
قوله : ( ثم يمر جبريل على الملائكة )، لأنه يريد النزول من عند الله إلى حيث أمره الله أن ينتهي إليه بالوحي .
قوله : ( قال الحق وهو العلي الكبير ) ، سبق في تفسير ذلك أنه يحتمل قال الحق في هذه القضية المعنية ، أو قال الحق ؛ لأن من عادته سبحانه ألا يقول إلا الحق ، وأيا كان ؛ فإن جبريل لا يخبر الملائكة بما أوحي الله إليه ، بل يقول: قال الحق مبهما ، ولهذا سمي عليه السلام بالأمين ، والأمين : هو الذي لا يبوح بالسر.
قوله : ( وهو العلي الكبير ) ، تقدم الكلام عليه .
قوله : ( فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ) ، أي : قال الحق ، وهو العلي الكبير .
قوله : ( فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله ـ عز وجل ـ ) ، أي: يصل بالوحي إلى حيث أمره الله من الأنبياء والرسل .
من فوائد الحديث :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إثبات الإرادة لقوله : ( إذا أراد الله ) وهي قسمان : شرعية وكونية.
والفرق بينهما أولا : من حيث المتعلق ؛ فالإرادة الشرعية تتعلق بما يحبه الله ـ عز و جل ـ ، سواء وقع أو لم يقع ، وأما الكونية ؛ فتتعلق بما يقع ، سواء كان يحبه الله أو مما لا يحبه .
ثانيا : الفرق بينهما من حيث الحكم ، أي حصول المراد ؛ فالشرعية لا يلزم منها وقوع المراد ، أما الكونية ؛ فيلزم منها وقوع المراد .
فقوله تعالى : (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُم)(النساء: من الآية27) هذه إردة شرعية ؛ لأنها لو كانت كونية لتاب على كل الناس ، وأيضا متعلقها فيما يحبه الله وهو التوبة .
وقوله ( إن كان الله يريد أن يغويكم)(هود:34) هذه كونية؛ لأن الله لا يريد الإغواء شرعاً، أما كوناً وقدراً؛ فقد يريده.(116/68)
وقوله: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ)(النساء: من الآية26) هذه كونية، لكنها في الأصل شرعية؛ لأنه قال: (ويتوب عليكم)(النساء:26).
وقوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر)(البقرة: من الآية185) هذه شرعية؛ لأن قوله: (ولا يريد بكم العسر) لا يمكن أن تكون كونية؛ إذ إن العسر يقع ولو كان الله لا يريده قدراً وكوناً؛ لم يقع.
2- أن المخلوقات وإن كانت جماداً تحس بعظمة الخالق، قال تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ)(الاسراء: من الآية44).
3- إثبات أن الملائكة يتكلمون ويفهمون ويعقلون لأنهم يسألون: (ماذا قال ربكم)؟ ويجابون: قال(الحق)، خلافاً لمن قال: إنهم لا يوصفون
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بذلك؛ فيلزم من قولهم هذا أننا تلقينا الشريعة ممن لا عقول لهم، وهذا قدح في الشريعة بلا ريب.
4- إثبات تعدد السماوات؛ لقوله (كلما مر بسماء).
5- أن لكل سماء ملائكة متخصصين؛ لقوله: (سأله ملائكتها).
6- فضيلة جبريل عليه السلام حيث إنه المعروف بأمانة الوحي، ولهذا قال ورقة بن نوفل: (هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى) (1) ، والناموس بالعبرية بمعنى صاحب السر.
7- أمانة جبريل عليه السلام، حيث ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله ـ عز وجل ـ ؛ فيكون فيه رد على الرافضة الكفرة الذين يقولون: بأن جبريل أمر أن يوحي إلى علي فأوحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، ويقولون: خان الأمين فصدها عن حيدرة، وحيدرة لقب لعلي بن أبي طالب؛ لأنه كان يقول في غزوة خيبر: أنا الذي سمتني أمي حيدرة (2) .
وفي هذا تناقض منهم؛ لأن وصفه بالأمانة يقتضي عدم الخيانة.(116/69)
8- إثبات العزة والجلال لله ـ عز وجل ـ ؛ لقوله: (عز وجل)، والعزة بمعنى الغلة والقوة، وللعزيز ثلاثة معان:
1 1 - عزيز: بمعنى ممتنع أن يناله أحد بسوء
2 2 - عزيز: بمعنى ذي قدر لا يشاركه في أحد.
3 3 - عزيز: بمعنى غالب قاهر.
*فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآية. الثانية: ما فيها من الحجة على إبطال الشرك، خصوصاً من تعلق على الصالحين، وهي الآية التي قيل: إنها تقطع عروق شجرة الشرك من القلب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال ابن القيم في النونية:
وهو العزيز فلن يرام جنابه أني يرام جناب ذي السلطان
وهو العزيز القاهر الغلاب لم يغلبه شيء هذه صفتان
وهو العزيز بقوة هي وصفه فالعز حينئذ ثلاث معان
وأما جل: فالجلال بمعنى العظمة التي ليس فوقها عظمة.
* * *
فيها مسائل :
* الأولى: تفسير الآية، أي قوله تعالى: (حتى إذا فزع عن قلوبهم…) الآية، وقد سبق تفسيرها.
* الثانية: ما فيه من الحجة على إبطال الشرك، وذلك أن الملائكة وهم من هم في القوة والعظمة يصعقون ويفزعون من تعظيم الله؛ فكيف بالأصنام التي تعبد من دون الله وهي أقل منهم بكثير؛ فكيف يتعلق الإنسان بها ؟ !
ولذلك قيل: إن هذه الآية هي التي تقطع عروق الشرك من القلب؛ لأن الإنسان إذا عرف عظمة الرب سبحانه حيث ترتجف السماوات ويصعق أهلها بمجرد تكلمه بالوحي؛ فكيف يمكن للإنسان أن يشرك بالله شيئاً مخلوقاً ربما يصنعه بيده حتى كان جهال العرب يصنعون آلهة من التمرإذا جاع أحدهم أكلها؟!
الثالثة: تفسير قوله: (قالوا الحق وهو العلي الكبير). الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك. الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: (قال كذا وكذا). السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل. السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه. الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم.(116/70)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وينزل أحدهم بالوادي فيأخذ أربعة أحجار: ثلاثة يجعله تحت القدر، والرابع ـ وهو أحسنها ـ يجعلها إلهاً له.
* الثالثة: تفسير قوله: (قالوا الحق وهو العلي الكبير)، وسبق تفسيرها.
* الرابعة: سبب سؤالهم عن ذلك، فالسؤال: ماذا قال ربكم؟ وسببه شدة خوفهم منه وفزعهم خوفاً من أن يكون قد قال فيهم ما لا يطيقونه من التعذيب.
* الخامسة: أن جبريل يجيبهم بعد ذلك بقوله: قال كذا وكذا؛ أي: يقول: قال الحق.
* السادسة: ذكر أن أول من يرفع رأسه جبريل، لحديث النواس بن سمعان، وفيه فضيلة جبريل.
*السابعة: أنه يقول لأهل السماوات كلهم لأنهم يسألونه، وفي هذا دليل على عظمته بينهم.
* الثامنة: أن الغشي يعم أهل السماوات كلهم، تؤخذ من قوله: (فإذا سمع ذلك أهل السماوات؛ صعقوا وخروا لله سجداً).
التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله. العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره الله. الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين. الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً. الثالثة عشرة: إرسال الشهب. الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل أن يدركه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* التاسعة: ارتجاف السماوات لكلام الله: (أخذت السماوات منه رجفة)؛ أي: لأجله تعظيماً لله.
* العاشرة: أن جبريل هو الذي ينتهي بالوحي إلى حيث أمره، أي: لا أحد يتولى إيصال الوحي غير جبريل حتى يوصله إلى حيث أمره به؛ لأنه الأمين على الوحي.
*الحادية عشرة: ذكر استراق الشياطين، أي: الذين يسترقون ما يسمع في السماوات، فيلقونه على الكهان، فيزيد فيه الكهان وينقصون.
* الثانية عشرة: صفة ركوب بعضهم بعضاً، وصفها سفيان رحمه الله بأن حرف يده وبدد بين أصابعة.(116/71)
* الثالثة عشرة: إرسال الشهب، يعني: التي تحرق مسترقي السمع، قال تعالى: (إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) (الحجر:18).
· · الرابعة عشرة: أنه تارة يدركه الشهاب قبل أن يلقيها، وتارة يلقيها في أذن وليه من الإنس قبل ان يدركه.
الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان. السادسة عشرة: كونه يكذب معها مئة كذبة. السابعة عشرة: أنه لم يصدق كذبة إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الخامسة عشرة: كون الكاهن يصدق بعض الأحيان، لأنه يأتي بما سمع من السماء ويزيد عليه، وإذا وقع ما في السماء؛ صار صادقاً.
* اعتراض وجوابه:
كيف يسمع المسترقون الكلمة وعندما يسأل الملائكة جبريل يجابون بقال الحق فقط؟
والجواب: إن الوحي لا يعلمه أهل السماء، بل هو من الله إلى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
أما الأمور القدرية التي يتكلم الله بها؛ فليست خاصة بجبريل، بل ربما يعلمها أهل السماء مفصلة، ثم يسمعها مسترقو السمع.
* السادسة عشرة: كونه يكذب معها مئة كذبة، أي: يكذب مع الكلمة التي تلقاها من المسترق.
وقوله: (مئة كذبة) هذا على سبيل المبالغة كما سبق وليس على سبيل التحديد.
· · السابعة عشرة: أنه لم يصدق إلا بتلك الكلمة التي سمعت من السماء، وأما ما قاله من عنده؛ فهو تخرص؛ فالكلمة التي سمعها تصدق، والذي يضيفه كله كذب يموه به على الناس.
الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل ! كيف يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمئة ؟ ! التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها ويستدلون بها. والعشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/72)
* الثامنة عشرة: قبول النفوس للباطل يتعلقون بواحدة ولا يعتبرون بمئة؟! وهذا صحيح، وليس صفة عامة لعامة الناس، بل لأهل الجهل والسفة؛ فهم يتعلقون بالكاهن من أجل صدقه مرة واحدة، وأما مئة كذبة؛ فلا يعتبرون بها، ولا شك أن بعض السفهاء بغترون بالصالح المغمور بالمفاسد، ولكن لا يغتر به أهل العقل والإيمان ولهذا لما نزل قوله تعالى: (يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا )(البقرة: من الآية219)، تركهما كثير من الصحابة اعتباراً بالموازنة، والعاقل لا يمكن إذا وازن بين الأشياء أن يرجح جانب المفسدة؛ فهو وإن لم يأت الشرع بالتعيين يعرف ويميز بين المضار والمنافع.
* التاسعة عشرة: كونهم يتلقى بعضهم من بعض تلك الكلمة ويحفظونها ..الخ، الكلمة: هي الصدق؛ لأنها هي التي تروج بضاعتهم، ولو كانت بضاعتهم كلها كذباً ما راجت بين الناس.
* العشرون: إثبات الصفات خلافاً للأشعرية المعطلة: هم الذين ينتسبون إلى أبي الحسن الأشعري وسموا معطلة لأنهم يعطلون النصوص عن المعنى المراد بها ويعطلون ما وصف الله به نفسه. والمراد تعطيل أكثر ذلك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإنهم يعطلون أكثر الصفات ولا يعطلون جميعها، بخلاف المعتزلة؛ فالمعتزلة ينكرون الصفات ويؤمنون بالأسماء، هؤلاء عامتهم، وإلا؛ فغلاتهم ينكرون حتى الأسماء، وأما الأشاعرة؛ فهم معطلة اعتباراً بالأكثر؛ لأنهم لا يثبتون من الصفات إلا سبعاً، وصفاته تعالى لا تحصى، وإثباتهم لهذه السبع ليس كإثبات السلف؛ فمثلاً: الكلام عند أهل السنة أن الله يتكلم بمشيئته بصوت وحرف.(116/73)
والأشاعرة قالوا: الكلام لازم لذاته كلزومه الحياة والعلم، ولا يتكلم بمشيئته، وهذا الذي يسمع عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، بل هو مخلوق؛ فحقيقة الأمر أنهم لم يثبتوا الكلام، ولهذا قال بعضهم: إنه لا فرق بيننا وبين المعتزلة في كلام الله؛ لأننا أجمعنا على أن ما بين دفتي المصحف مخلوق، وحجتهم في إثبات الصفات السبع: أن العقل دل عليها.
وشبهتهم في إنكار البقية: زعموا أن العقل لا يدل عليها.
والرد عليهم بما يلي :
1- أن كون العقل يدل على الصفات السبع لا يدل على انتفاء ما سواها؛ فإن انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول؛ فهب أن العقل لا يدل على بقية الصفات، لكن السمع دل عليها؛ فنثبتها بالدليل السمعي.
2- أنها ثابته بالدليل العقلي بنظير ما أثبتم هذه السبع؛ فمثلاً: الإرادة ثابته لله عندهم بدليل التخصيص، حيث إن الله جعل الشمس شمساً والقمر قمراً والسماء سماء والأرض أرضاً، وكونه يميز بين ذلك معناه أنه سبحانه وتعالى يريد؛ إذ لولا الإرادة؛ لكانت الدنيا كلها سواء، فأثبتوها لأن العقل دل عليها.
فنقول لهم: الرحمة لحظة على الخلق إلا وهم في نعمة من
الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله عز وجل. الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله؛ فهذه النعم العظيمة من الله تدل على رحمته لخلقه أدل من التخصيص على الإرادة.
والانتقام من العصاة يدل على بغضه لهم، وإثابة الطائعين ورفع درجاتهم في الدنيا والآخرة يدل على محبته لهم أدل على التخصيص من الإرادة، وعلى هذا فقس؛ فالمؤلف رحمه الله لما كان الأشعرية لا يثبتون إلا سبع صفات على خلاف في إثباتها مع أهل السنة جعلهم معطلة على سبيل الإطلاق، وإلا؛ فالحقيقة أنهم ليسوا معطلة على سبيل الإطلاق.(116/74)
* الحادية والعشرون: التصريح بأن تلك الرجفة والغشي خوفاً من الله ـ عز وجل ـ ، فيدل على عظمة الخالق جل وعلا، حيث بلغ خوف الملائكة منه هذا المبلغ.
* الثانية والعشرون: أنهم يخرون لله سجداً، أي: تعظيماً لله وإتقاء لما يخشونه؛ فتفيد تعظيم الله ـ عز وجل ـ كالتي قبلها.
* * *
باب الشفاعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذكر المؤلف رحمه الله الشفاعة في كتاب التوحيد ؛ لأن المشركين الذي يعبدون الأصنام يقولون : إنها شفاعة لهم عند الله ، وهم يشركون بالله ـ سبحانه وتعالى ـ فيها بالدعاء والاستغاثة وما أشبه ذلك .
وهم بذلك يظنون أنهم معظمون لله ، ولكنهم منتقصون له ؛ لأنه عليم بكل شيء ، وله الحكم التام المطلق والقدرة التامة ؛ فلا يحتاج إلى شفعاء .
ويقولون : إننا نعبدهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله ، فيقربنا إلى الله، وهم ضالون في ذلك ؛ فهو سبحانه عليم وقدير وذو سلطان ،ومن كان كذلك ؛ فإنه لا يحتاج إلى شفعاء .
والملوك في الدنيا يحتاجون إلى شفعاء ؛ إما لقصور علمهم ، أو لنقص قدرتهم ؛ فيساعدهم الشفعاء في ذلك ، أو لقصور سلطانهم ؛ فيتجرأ عليهم الشفعاء، فيشفعون بدون استئذان، ولكن الله ـ عز وجل ـ كامل العلم والقدرة و السلطان ، فلا يحتاج لأحد أن يشفع عنده ، ولهذا لا تكون الشفاعة عنده سبحانه إلا بإذنه لكمال سلطانه و عظمته .
ثم الشفاعة لا يراد بها معونة الله ـ سبحانه ـ في شيء مما شفع فيه؛ فهذا ممتنع كما سيأتي في كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله(1) ، ولكن يقصد بها أمران ، هما :
وقول الله عز و جل : (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ )(الأنعام: من الآية51).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- إكرام الشافع . 2- نفع المشفوع له .(116/75)
والشفاعة لغة : اسم من شفع يشفع ، إذا جعل الشيء اثنين ، والشفع ضد الوتر ، قال الله تعالى : ( والشفع والوتر ) ( الفجر : 3).
واصطلاحا : التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة .
مثال جلب المنفعة: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الجنة بدخولها .
مثال دفع المضرة : شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لمن استحق النار أن لا يدخلها .
* * *
وذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب عدة آيات :
· · الآية الأولي قوله تعالى : ( وأنذر به ) ، الإنذار : هو الإعلام المتضمن للتخويف ، أما مجرد الخبر ؛ فليس بإنذار ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
والضمير في (به ) يعود للقرآن ؛ كما قال تعالى : (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(الشورى: من الآية7)، وقال الله تعالى : ( لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ)(لأعراف: من الآية2).
وقوله : (يخافون أن يحشروا ) ، أي : يخافون مما يقع لهم من سوء العذاب في ذلك الحشر .
والحشر : الجمع ، وقد ضمن هنا معنى الضم والانتهاء ؛ فمعنى يحشرون؛ أي يجمعون حتى ينتهوا إلى الله .
قوله :( ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع )، ( ولي ) ؛ أي ناصر ينصرهم .
وقوله : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً )(الزمر: من الآية44).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ولا يشفع ) ؛ أي : شافع يتوسط لهم ، وهذا محل الشاهد .
ففي هذه الآية نفي الشفاعة من دون الله ، أي من دون إذنه ، ومفهومها : أنها ثابتة بإذنه ، وهذا هو المقصود ؛ الشفاعة من دونه مستحيله ، وبإذنه جائزة وممكنة .
أما عند الملوك ؛ فجائزة بإذنهم وبغير إذنهم ، فيمكن لمن كان قريبا من السلطان أن يشفع بدون أن يستأذن .
ويفيد قوله : ( من دونه ) أن لهم بإذنه وليا وشفيعا ؛ كما قال تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله ) ( المائدة : 55) .(116/76)
الآية الثانية قوله تعالى:( لله الشفاعة ) ، مبتدأ وخبر ، وقدم الخبر للحصر ، والمعنى : لله وحده الشفاعة كلها، لا يوجد شيء منها خارج عن إذن الله وإرادته ؛ فأفادت الآية في قوله : ( جميعا ) أن هناك أنواع للشفاعة .
وقد قسم أهل العلم رحمهم الله الشفاعة إلى قسمين رئيسيين ، هما :
القسم الأول : الشفاعة الخاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وهي أنواع:
النوع الأول : الشفاعة العظمى ، وهي من المقام المحمود الذي وعده الله؛ فإن الناس يلحقهم يوم القيامة في ذلك الموقف العظيم من الغم والكرب ما لا يطيقونه ، فيقول بعضهم لبعض : اطلبوا من يشفع لنا عند الله ، فيذهبون إلى آدم أبي البشر ، فيذكرون من أوصافه التي ميزه الله بها : أن الله خلقه بيده ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، فيقولون : اشفع لنا عند ربك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ؟!فيعتذر لأنه عصى الله بأكله من الشجرة ، ومعلوم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الشافع إذا كان عنده شيء يخدش كرامته عند المشفوع إليه ؛ فإنه لا يشفع لخجله من ذلك ، مع أن آدم عليه السلام قد تاب الله عليه واجتباه وهداه ، قال الله تعالى: (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى*ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (طه:121-122) ، لكن لقوة حيائه من الله اعتذر .
ثم يذهبون إلى نوح ، ويذكرون من أوصافه التي امتاز بها بإنه أول رسول إرسله الله الأرض ، فيعتذر بأنه سأل الله ما ليس له به علم حين قال: ( رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ)(هود: من الآية45).(116/77)
ثم يذهبون إلى عيسى عليه الصلاة و السلام ، فيذكرون من أوصافه ما يقتضي أن يشفع ؛ فلا يعتذر بشيء ، لكن يحيل إلى من هو أعلى مقاما ، فيقول : اذهبوا إلى محمد ، عبد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيحيلهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم دون أن يذكر عذرا يحول بينه وبين الشفاعة(1) ، فيأتون محمدا صلى الله عليه وسلم ، فيشفع إلى الله ليريح أهل الموقف .
الثاني : شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوها ؛ لأنهم إذا عبروا الصراط ووصلوا إليها وجدوها مغلقة ، فيطلبون من يشفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله في فتح أبواب الجنة لأهلها ، ويشير إلى قوله تعالى : (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا)(الزمر: من الآية73) ؛ فقال : ( وفتحت ) ؛ فهناك شيء محذوف ، أي : وحصل ما حصل من الشفاعة ، وفتحت الأبواب ، أما النار ؛ فقال فيها ( حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابها …..) الآية .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثالث : شفاعتة صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب أن يخفف عنه العذاب(1) ، وهذه مستثناه من قوله تعالى : (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) (المدثر:48)، وقوله تعالى: (يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً) (طه:109)، وذلك لما كان لأبي طالب من نصرة للنبي صلى الله عليه وسلم ودفاع عنه ، وهو لم يخرج من النار ، لكن خفف عنه حتى صار ـ والعياذ بالله ـ في ضحضاح من نار ، وعليه نعلان يغلي منهما دماغه ، وهذه الشفاعة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم لا أحد يشفع في كافر أبدا إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، ومع ذلك لم تقبل الشفاعة كاملة ، وإنما هي تخفيف فقط .
القسم الثاني : الشفاعة العامة له صلى الله عليه وسلم ولجميع المؤمنين .
وهي أنواع :(116/78)
النوع الأول : الشفاعة فيمن استحق النار أن لا يدخلها ، وهذه قد يستدل لها بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا ؛ إلا شفعهم الله فيه )(2) ؛ فإن هذه شفاعة قبل أن يدخل النار ، فيشفعهم الله في ذلك .
النوع الثاني : الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها ، وقد تواترت بها الأحاديث وأجمع عليها الصحابة ، واتفق عليها أهل الملة ما عدا طائفتين ، وهما: المعتزلة والخوارج ؛ فإنهم ينكرون الشفاعة في أهل المعاصي مطلقا لأنهم يرون أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فاعل الكبيرة مخلد في النار ، ومن يستحق الخلود ؛ فلا تنفع فيه الشفاعة ، فهم ينكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره يشفع في أهل الكبائر أن لا يدخلون النار ، أو إذا دخلوها أن يخرجوا منها ، لكن قولهم هذا باطل بالنص والإجماع .
النوع الثالث : الشفاعة في رفع درجات المؤمنين ، وهذه تؤخذ من دعاء المؤمنين بعضهم لبعض كما قال صلى الله عليه وسلم في أبي سلمة : ( اللهم اغفر لأبي سلمة ، وارفع درجته في المهديين ، وأفسح له في قبره ، و نور له فيه ، واخلفه في عقبه)(1)، و الدعاء شفاعة ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( ما من مسلم يموت ، فيقوم على جنازته أربعون رجلا لا يشركون بالله شيئا ؛ إلا شفعهم الله فيه ) .
· · إشكال و جوابه :
فإن قيل : إن الشفاعة لا تكون إلا بإذنه سبحانه ؛ فكيف يسمى دعاء الإنسان لأخيه شفاعة وهو لم يستأذن من ربه ؟
والجواب : إن الله أمر بأن يدعو الإنسان لأخيه الميت ، وأمره بالدعاء إذن
وزيادة .
وأما الشفاعة الموهومة التي يظنها عباد الأصنام من معبودتهم ؛ فهي شفاعة باطلة لأن الله لا يأذن لأحد بالشفاعة إلا من ارتضاه من الشفعاء والمشفوع لهم .
إذا قوله : ( لله الشفاعة جميعا ) تفيد أن الشفاعة متعددة كما سبق(2) .(116/79)
* * *
وقوله : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(البقرة: من الآية255).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثالثة قوله تعالى : ( من ذا الذي ) ، ( من ) : اسم استفهام بمعنى النفي ؛ أي : لا يشفع أحد عند الله إلا بإذنه .
( ذا ) : هل تجعل ذا اسما موصولا كما قال ابن مالك في ( الألفية ) ، أو لا تصح أن تكون اسما موصولا هنا لوجود الاسم الموصول ( الذي ) ؟
الثاني هو الأقرب ، وإن كان بعض المعربين قال : يجوز أن تكون ( الذي) توكيدا لها .
والصحيح أن ( ذا ) هنا إما مركبة مع ( من ) ، أو زائدة للتوكيد ، وأيا كان الإعراب ؛ فالمعنى : أنه لا أحد يشفع عند الله إلا بإذن الله .
وسبق أن النفي إذا جاء في سياق الاستفهام ؛ فإنه يكون مضمنا معنى التحدي ، أي إذا كان أحد يشفع بغير إذن الله فأت به .
قوله : ( عنده ) ، ظرف مكان ، وهو سبحانه في العلو ؛ فلا يشفع أحد عنده ولو كان مقربا ؛ كالملائكة المقربين ؛ إلا بإذنه الكوني ، والإذن لا يكون إلا بعد الرضا .
وأفادت الآية : أنه يشترط للشفاعة إذن الله فيها لكمال سلطانه جل وعلا ، فإنه كلما كمل سلطان الملك ؛ فإنه لا أحد يتكلم عنده ولو كان بخير إلا بعد إذنه ، ولذلك يعتبر اللغط في مجلس الكبير إهانة له ودليلا على أنه ليس كبيرا في نفوس من عنده ، كان الصحابة مع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنما على رؤوسهم الطير من الوقار وعدم الكلام إلا إذا فتح اكلام ؛ فإنهم يتكلمون .
* * *
وقوله : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (لنجم:26) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الآية الرابعة قوله تعالى : ( وكم من ملك ) .(116/80)
( كم ) خبرية للتكثير ، والمعنى : ما أكثر الملائكة الذين في السماء ، ومع ذلك لا تغني شفاعتهم شيئا إلا بعد إذن الله ورضاه .
قوله : ( إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضي ) ، فللشفاعة شرطان، هما :
1- 1- الإذن من الله ؛ لقوله : ( أن يأذن الله ) .
2- 2- رضاه عن الشافع والمشفوع له ؛ لقوله : ( ويرضي )، وكما قال تعالى : ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(الانبياء: من الآية28)؛ فلابد من إذنه تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له ؛ إلا في التخفيف عن أبي طالب ، وقد سبق ذلك(1) .
وهذه الآية في سياق بيان بطلان ألوهية اللات والعزى ، قال تعالى بعد ذكر المعراج وما حصل للنبي صلى الله عليه وسلم فيه: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) (لنجم:18)؛ أي : العلامات الدالة عليه عز وجل ؛ فكيف به سبحانه ؟! فهو أكبر وأعظم .
ثم قال : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى*وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى) (لنجم:20،19)، وهذا استفهام للتحقير ؛ فبعد أن ذكر الله هذه العظمة قال : (أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى* تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى*إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ
وقوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ)(سبأ: من الآية22).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى*أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى*فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى*وَكَمْ مِنْ مَلَك….) الآية (لنجم: من الآية21ـ26 ).(116/81)
فإذا كانت الملائكة وهي في السماوات في العلو لا تغني شفاعتهم إلا بعد إذنه تعالى ورضاه ؛ فكيف باللات و العزى وهي في الأرض ؟!
ولهذا قال : ( وكم من ملك في السماوات ) ، مع أن الملائكة تكون في السماوات وفي الأرض ، ولكن التي في السماوات العلى ، وهي عند الله ـ سبحانه ـ ؛ فحتى الملائكة المقربون حملة العرش لا تغني شفاعتهم إلا من أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى .
* * *
· · الآية الخامسة قوله تعالى : ( قل ادعوا ) .
الأمر في قوله : (ادعوا ) للتحدي والتعجيز ، وقوله : ( ادعوا ) يحتمل معنيين ، هما :
1- 1- أحضروهم .
2- ادعوهم دعاء مسألة .
فلو دعوهم دعاء مسألة لا يستجيبون لهم ؛ كما قال تعالى : (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) (فاطر:14)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكفرون : يتبرؤون ، ومع هذه الآيات العظيمة يذهب بعض الناس يشرك بالله ويستنجد بغير الله ، وكذلك لو دعوهم دعاء حضور لم يحضروا ، ولو حضروا ما انتفعوا بحضورهم .
قوله : ( لا يملكون مثقال ذرة ) ، واحدة الذر : وهي صغار النمل ، ويضرب بها المثل في القلة .
قوله : ( مثقال ذرة ) ، وكذلك ما دون الذرة لا يملكونه ، والمقصود بذكر الذرة المبالغة ، وإذا قصد المبالغة بالشيء قلة أو كثرة ؛ فلا مفهوم له ؛ فالمراد الحكم العام ؛ فمثلا قوله تعالى : ( إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) (التوبة: من الآية80)؛ أي : مهما بالغت في الاستغفار .
ولا يرد على هذا أن الله اثبت ملكا للإنسان ؛ لأن ملك الإنسان قاصر وغير شامل ومتجدد وزائل ، وليس كملك الله .
قوله : ( مالهم فيهما من شرك ) ، أي : ما لهؤلاء الذين تدعون من دون الله.(116/82)
(فيهما) ؛ أي : في السماوات والأرض .
( من شرك ) ؛ أي : مشاركة ، أي لا يملكون انفرادا ولا مشاركة .
قوله : ( من شرك ) : مبتدأ مؤخر دخلت عليه ( من ) الزائدة لفظا ، لكنها للتوكيد معنى .
وكل زيادة في القرآن ؛ فهي زيادة في المعنى .
وأتت ( من ) للمبالغة في النفي ، وأنه ليس هناك شرك لا قليل و لا كثير.
قوله : ( وما له منهم من ظهير ) ، الضمير في ( ما له ) يعود إلى الله تعالى ، وفي ( منهم ) يعود إلى الأصنام ؛ أي : ما لله تعالى من الأصنام ظهير.
و(من ) : حرف جر زائد ، و( ظهير ) : مبتدأ مؤخر بمعنى معين ؛ كما
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الاسراء:88)؛ أي: معينا، وقال تعالى : ( وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ)(التحريم: من الآية4)؛ أي : ليس لله معين في أفعاله ، وبذلك ينتفي عن هذه الأصنام كل ما يتعلق به العابدون ؛ فهي لا تملك شيئا على سبيل الانفراد و لا المشاركة ولا الإعانة ؛ لأن من يعينك وإن كان غير شريك لك يكون له منة عليك ؛ فربما تحابيه في إعطائه ما يريد.(116/83)
فإذا انتفت هذه الأمور الثلاثة ؛ لم يبق إلا الشفاعة ، وقد أبطلها الله بقوله : (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ )(سبأ: من الآية23)؛ فلا تنفع عند الله الشفاعة لهؤلاء ؛ لأن هذه الأصنام لا يأذن الله لها ، فانقطعت كل الوسائل والأسباب للمشركين ، وهذا من أكبر الآيات الدالة على بطلان عبادة الأصنام ؛ لأنها لا تنفع عابديها لا استقلالا و لا مشاركة ولا مساعدة ولا شفاعة ؛ فتكون عبادتها باطلة ، قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )(الاحقاف: من الآية5)،حتى ولو كان المدعو عاقلا؛ لقوله:(من) ، ولم يقل : ( ما ) ، ثم قال تعالى : (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ *وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ) (الاحقاف:6،5)، وكل هذه الآيات تدل على أنه يجب على الإنسان قطع جميع تعلقاته إلا بالله عبادة وخوفا ورجاء واستعانة ومحبة وتعظيما ؛ حتى يكون عبدا لله حقيقة ، يكون هواه وإرادته وحبه وبغضه وولاؤه ومعاداته لله وفي الله ؛ لأنه مخلوق للعبادة فقط، قال تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) (المؤمنون:115)؛ أي : لا نأمركم ولا ننهاكم ، إذ لو خلقناكم فقط للأكل والشرب والنكاح؛ لكان ذلك عين العبث ، ولكن هناك شيء وراء ذلك ، وهو عبادة الله سبحانه في هذه الدنيا.
قال أبو العباس : ( نفي الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون ، فنفي أن يكون لغيره ملك أو قسط منه ، أو يكون عونا لله ، ولم يبق إلا الشفاعة ، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب ؛ كما قال : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(الانبياء: من الآية28).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/84)
وقوله : ( إلينا ترجعون )، أي : وحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون ، فنجازيكم إذا كان هذا هو حسبانكم ؛ فهو حسبان باطل .
* * *
قوله : ( قال أبو العباس ) ، هو شيخ الإسلام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميه رحمه الله يكنى بذلك ، ولم يتزوج ؛ لأنه كان مشغولا بالعلم والجهاد،وليس زاهدا في السنة ، مات سنة 727هـ وله 67سنة و 10أشهر.
قوله : ( لغيره ملك ) ، أي : لغير الله في قوله : ( لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ) .
قوله : ( أو قسط منه ) في قوله : ( وما لهم فيهما من شرك ) .
قوله : ( أو يكون عونا لله ) في قوله تعالى : ( وما له منهم من ظهير ) بدون استثناء .
قوله : ( ولم يبق إلا الشفاعة ) ، فبين أنها لا تنفع إلا من أذن له الرب ؛ كما قال تعالى : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضي ) ، وقال : ( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ )(البقرة: من الآية255)، ومعلوم أنه لا يرضى هذه الأصنام لأنها باطلة ، وحينئذ فتكون شفاعتهم منتفية .
واعلم أن شرك المشركين في السابق كان في عبادة الأصنام ، أما الآن؛
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة ؛ كما نفاها القرآن وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم : ( أنه يأتي فيسجد لربه و يحمده ـ لا يبدأ بالشفاعة أولا ـ ثم يقال له : ارفع رأسك ، وقل يسمع ، وسل تعط ، واشفع تشفع )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهو في طاعة المخلوق في المعصية ؛ فإن هؤلاء يقدسون زعمائهم أكثر من تقديس الله إن أقروا به ، فيقال لهم : إنهم بشر مثلكم ، خرجوا من مخرج البول والحيض ، وليس لهم شرك في السماوات ولا في الأرض ، ولا يملكون الشفاعة لكم عند الله ، إذا ؛ فكيف تتعلقون بهم ؟! حتى إن الواحد منهم يركع لرئيسه أو يسجد له كما يسجد لرب العالمين .(116/85)
والواجب علينا نحو ولاة الأمور طاعتهم ، وطاعتهم من طاعة الله ، وليست استقلالا ، أما عبادتهم كعبادة الله ؛ فهذه جاهلية وكفر .
فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة ، كما نفاها القرآن؛ فالله ـ سبحانه وتعالى ـ نفى أن تنفعهم أصنامهم ، بل قال : (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ* لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ) (الانبياء:98،99 ) حتى الأصنام لا تنفع نفسها و لا يشفع لها ؛ فكيف تكون شافعة ؟! بل هي في النار وعابدوها .
قوله : ( وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ) ، أي : وكما أخبر؛ فالواو
وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم : من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال: (من قال: لا إله إلا الله؛ خالصاً من قلبه) (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عاطفة، ويجوز أن تكون استئنافية، فإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أعظم الناس جاهاً عند الله لا يشفع إلا بعد أن يحمد الله ويثني عليه، فيحمد الله بمحامد عظيمة يفتحها الله عليه لم يكن يعلمها من قبل، ويطول سجوده؛ فكيف بهذه الأصنام؛ هل يمكن أن تشفع لأصحابها؟
قوله: (ارفع رأسك)، أي: من السجود.
قوله: (وقل تعط)، أي: سل ما بدا لك تعط إياه، وتعط: مجزوم بحذف حرف العلة جواباً لسل.
قوله: (واشفع تشفع)، وحينئذ يشفع النبي صلى الله عليه وسلم في الخلائق أن يقضى بينهم.
قوله: (وقال أبو هريرة له صلى الله عليه وسلم : من أسعد الناس بشفاعتك؟) هذا السؤال من أبي هريرة للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فقال هل النبي صلى الله عليه وسلم : (لقد كنت أظن أن لا يسألني أحد غيرك عنه لما أرى من حرصك على العلم)، وفي هذا دليل على أن من وسائل تحصيل العلم السؤال.(116/86)
قوله: (من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، وعليه؛ فالمشركون ليس لهم حظ من الشفاعة لأنهم لا يقولون: لا إله إلا الله، قال تعالى: (إنهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون * ويقولون أئنا لتاركوا آلهتنا لشاعر مجنون)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(الصافات: 35-36)، وقال تعالى حكاية عنهم: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (صّ:5) .
والحقيقة أن صنيعهم هو العجاب، قال تعالى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) (الصافات:12)، وقال تعالى: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ )(الرعد: من الآية5).
وقوله: (خالصاً من قلبه) خرج بذلك من قالها نفاقاً؛ فإنه لا حظ له في الشفاعة، فإن المنافق يقول: لا إله إلا الله، ويقول: أشهد أن محمداً رسول الله، لكن الله ـ عز وجل ـ قابل شهادتهم هذه بشهادته على كذبهم، قال تعالى: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)(المنافقون: من الآية1)؛ أي: في شهادتهم، في قولهم: إنك لرسول الله؛ فهم كاذبون في شهادتهم وفي قولهم : لا إله إلا الله؛ لأنهم لو شهدوا بذلك حقاً ما نافقوا ولا أبطنوا الكفر.
قوله: (خالصاً)، أي: سالماً من كل شوب؛ فلا يشوبها رياء ولا سمعة، بل هي شهادة يقيق.
قوله: (من قلبه)، لأن المدار على القلب، وهو ليس معنى من المعاني، بل هو مضغة في صدور الناس، قال الله تعالى: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)(الحج: من الآية46) ، وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا )، وقال صلى الله عليه وسلم : (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله) (1) .(116/87)
فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله، ولا تكون لمن أشرك بالله، وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص، فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع؛ ليكرمه، وينال المقام المحمود.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وبهذا يبطل قول من قال: إن العقل في الدماغ، ولا ينكر أن للدماغ تأثيراً في الفهم والعقل، لكن العقل في القلب، ولهذا قال الإمام أحمد: (العقل في القلب، ولا اتصال في الدماغ).
ومن قال كلمة الإخلاص خالصاً من قلبه؛ فلا بد أن يطلب هذا المعبود بسلوك الطرق الموصلة إليه؛ فيقوم بأمر الله ويدع نهيه.
قوله: (فتلك الشافعة لأهل الإخلاص)، لأن من أشرك بالله قال الله فيه: (فما تنفعهم شفاعة الشافعين).
قوله: (وحقيقته أن الله ـ سبحانه ـ هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص؛ فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع).
وحقيقته؛ أي: حقيقة أمر الشفاعة، أي الفائدة منها : أن الله ـ عز وجل ـ أراد أن يغفر للمشفوع له، ولكن بواسطة هذه الشفاعة.
والحكمة من هذه الواسطة بينها بقوله: (ليكرمه وينال المقام المحمود)، ولو شاء الله لغفر لهم بلا شفاعة، ولكنه أراد بيان فضل هذا الشافع وإكرامه أمام الناس، ومن المعلوم أن من قبل الله شفاعته؛ فهو عنده بمنزلة عاليه؛ فيكون في هذا إكرام للشافع من وجهين:
فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد). انتهى كلامه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول: إكرام الشافع بقبول شفاعته.
الثاني: ظهور جاهه وشرفه عند الله تعالى.
قوله: (المقام المحمود)، أي: المقام الذي يحمد عليه وأعظم الناس في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإن الله وعده أن يبعثه مقاماً محموداً، ومن المقام المحمود: أن الله يقبل شفاعته بعد أن يتراجع الأنبياء أولو العزم عنها.(116/88)
ومن يشفع من المؤمنين يوم القيامة؛ فله مقام يحمد عليه على قدر شفاعته.
قوله: (فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك) ، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله.
(ما) اسم موصول ؛ أي : التي كان فيها شرك.
قوله: (وقد أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع)، ومن ذلك قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(البقرة: من الآية255)، وقوله: (وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ)(سبأ: من الآية23) ، وقوله: (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى) (لنجم:26).
قوله: (وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل الإخلاص والتوحيد).
أما أهل الشرك؛ فإن الشفاعة لا تكون لهم؛ لأن شفعاءهم هي الأصنام، وهي باطلة.
* فيه مسائل :
الأولى : تفسير الآيات . الثانية: صفة الشفاعة المنفية. الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة. الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى وهي المقام المحمود. الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم أنه لا يبدأ بالشفاعة، بل يسجد، فإذا أذن له؛ شفع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجه إدخال باب الشفاعة في كتاب التوحيد: أن الشفاعة الشركية تنافي التوحيد، والبراءة منها هو حقيقة التوحيد.
* * *
· · فيه مسائل:
· · الأولى : تفسير الآيات، وهي خمس، وسبق تفسيرها في حالها.
· · الثانية : صفة الشفاعة المنفية، وهي ما كان فيها شرك، فكل شفاعة فيها شرك؛ فإنها منفية.
· · الثالثة: صفة الشفاعة المثبتة، وهي شفاعة أهل التوحيد بشرط إذن الله تعالى ورضاه عن الشافع والمشفوع له .(116/89)
· · الرابعة: ذكر الشفاعة الكبرى، وهي المقام المحمود، وهي الشفاعة في أهل الموقف أن يقضي بينهم، وقول الشيخ: (وهي المقام المحمود)؛ أي: منه (1) .
· · الخامسة: صفة ما يفعله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لا يبدأ بالشفاعة بل يسجد، فإذا أذن له؛
السادسة: من أسعد الناس بها ؟ السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله. الثامنة: بيان حقيقتها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شفع، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، وهو ظاهر، وهذا يدل على عظمة الرب وكمال أدب النبي صلى الله عليه وسلم.
· · السادسة: من أسعد الناس بها ؟ هم أهل التوحيد والإخلاص من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه.
· · ولا إله إلا الله معناها: لا معبود حق إلا الله، وليس المعنى: لا معبود إلا الله؛ لأنه لو كان كذلك؛ لكان الواقع يكذب هذا، إذ إن هناك معبودات من دون الله تعبد وتسمى آلهة، ولكنها بالطلة، وحينئذ يتعين أن يكون المراد لا إله حق إلا الله.
ولا إله إلا الله تتضمن نفياً وإثباتاً، هذا هو التوحيد؛ لأن الإثبات المجرد تعطيل محض، فلو قلت: لا إله معناه عطلت كل إله، ولو قلت: الله إله ما وحدت؛ لأن مثل هذه الصيغة لا تمنع المشاركة، ولهذا قال الله تعالى:(وإلهكم إله واحد)(البقرة:163) لما جاء الإثبات فقط أكده بقوله: واحد.
· · السابعة: أنها لا تكون لمن أشرك بالله، لقوله تعالى: (فما شفاعة الشافعين)(المدثر:48)، وغير ذلك مما نفى الله فيه الشفاعة للمشركين، ولقوله صلى الله عليه وسلم: (خالصاً من قلبه).
· · الثامنة: بيان حقيقتها، وحقيقتها: أن الله تعالى يتفضل على أهل الإخلاص؛ فيغفر لهم بواسطة من أذن له أن يشفع ليكرمه وينال المقام المحمود.
* * *
باب قول الله تعالى :(116/90)
(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) الآية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مناسبة هذا الباب لما قبله:
مناسبته أنه نوع من الباب الذي قبله، فإذا كان لا أحد يستطيع أن ينفع أحداً بالشفاعة والخلاص من العذاب، كذلك لا يستطيع أحد أن يهدي أحداً؛ فيقوم بما أمر الله به.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ)(القصص:56)، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكان يحب هداية عمه أبي طالب أو من هو أعم.
فأنت يا محمد المخاطب بكاف الخطاب، وله المنزلة الرفيعة عند الله لا تستطيع أن تهدي من أحببت هدايته، ومعلوم أنه إذا أحب هدايته؛ فسوف يحرص عليه، ومع ذلك لا يتمكن من هذا الأمر؛ لأن الأمر كله بيد الله، قال تعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ)(آل عمران: من الآية128) ، وقال تعالى:(وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)(هود: من الآية123)؛ فأتى بـ (أل) الدالة على الاستغراق؛ لأن (أل) في قوله؛ (الأمر) للاستغراق؛ فهي نائبة مناب كل؛ أي: وإليه يرجع كل الأمر، ثم جاءت مؤكدة بكل، وذلك توكيدان.
والهداية التي نفاها الله عن رسوله صلى الله عليه وسلم هداية التوفيق، والتي أثبتها له
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/91)
هداية الدلالة والإرشاد، ولهذا أتت مطلقة لبيان أن الذي بيده هو هداية الدلالة فقط، لا أن يجعله متهدياً، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى: من الآية52)، فلم يخصص سبحانه فلاناً وفلاناً ليبين أن المراد: أنك تهدي هداية دلالة، فأنت تفتح الطريق أمام الناس فقط وتبين لهم وترشدهم، وأما إدخال الناس في الهداية؛ فهذا أمر ليس إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما هو مما تنفرد الله به سبحانه؛ فنحن علينا أن نبين وندعو، واما هداية التوفيق(أي الإنسان يهتدي)؛ فهذا إلى الله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وهذا هو الجمع بين الآيتين.
وقوله: (إنك لا تهدي من أحببت) ظاهره أن النبي صلى الله عليه وسلم يحب أبا طالب؛ فكيف يؤول ذلك؟
والجواب: إما أن يقال: إنه على تقدير أن المفعول محذوف، والتقدير: من أحببت هدايته لا من أحببته هو.
أو يقال: إنه أحب عمه محبة طبيعية كمحبة الابن أباه ولو كان كافراً.
أو يقال: إن ذلك قبل النهي عن محبة المشركين.
والأول أقرب؛ أي: من أحببت هدايته لا عينه، وهذا عام لأبي طالب وغيره.
ويجوز أن يحبه محبة قرابة، لا ينافي هذا المحبة الشرعية، وقد أحب أن يهتدي هذا الإنسان وإن كنت أبغضه شخصياً لكفره، ولكن لأني أحب أن الناس يسلكون دين الله.
* * *
وفي (الصحيح) عن ابن المسيب عن أبيه؛ قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة؛ جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبدالله بن أبي أمية وأبو جهل، فقال له: (يا عم ! قل: لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في الصحيح)، سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: (أبا) بالألف: مفعول به منصوب بالألف؛ لأنه من الأسماء الخمسة، و(الوفاة) يعني: الموت، فاعل حضرت.(116/92)
قوله: (فقال: يا عم ! قل لا إله إلا الله)، أتى صلى الله عليه وسلم بهذه الكنية الدالة على العطف؛ لأن العم صنو الأب؛ أي: كالغصن معه.
والصنو: الغصن الذي أصله واحد؛ فكأنه معه كالغصن.
قوله: (ياعم) فيها وجهان.
يا عم؛ بكسر الميم: على تقدير أنها مضافة إلى الياء.
وياعم؛ بضم الميم: على تقدير قطعها عن الإضافة.
قوله: (قل: لا إله إلا الله) يجوز أنه قاله على سبيل الأمر والإلزام؛ لأنه يجب أن يأمر كل أحد أن يقول : لا إله إلا الله .
ويجوز أنه قاله على سبيل الترجي والتلطف معه ، وأبو طالب والذين عنده يعرفون هذه الكلمة ويعرفون معناها ، ولهذا بادر بالإنكار.
قوله: (كلمة)، منصوبة؛ لأنها بدل لا إله إلا الله، ويجوز إذا لم تكن الرواية بالنصب أن تكون بالرفع؛ أي: هي كلمة، ولكن النصب أوضح.
قول: (أحاج)، بضم الجيم وفتحها: فعلى ضم الجيم فهي صفة لكلمة،
فقالا له : أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فأعادا ، فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول: لا إله إلا الله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وإذا كانت بالفتح فهي مجزومة جواباً للأمر: (قل)؛ أي: قل أحاج.
وقال بعض المعربين: إنها جواب لشرط مقدر؛ أي: إن تقل أحاج، وبعضهم يرى أنها جواب للأمر مباشرة، وهذا والأول أسهل؛ لأن الأصل عدم التقدير.
والمعنى: أذكرها حجة لك عند الله ، وليس أخاصم وأجادل لك بها عند الله، وإن كان بعض أهل العلم قال: إن معناها أجادل الله بها، ولكن الذي يظهر لي أن المعنى: أحاج لك بها عند الله ؛ أي: أذكرها حجة لك كما جاء في بعض الروايات: (أشهد لك بها عند الله) (1) .(116/93)
قوله: فقالا له: (أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ ) ، القائلان هما: عبد الله بن أبي أمية، وأبو جهل، والاستفهام للإنكار عليه؛ لأنهما عرفا انه إذا قالها ـ أي كلمة الإخلاص ـ وحد، وملة عبد المطلب الشرك، وذكرا له ما تهيج به نعرته، وهي ملة عبد المطلب حتى لا يخرج عن ملة آبائه.
وقد مات أبو جهل على ملة عبد المطلب، أما عبدالله بن أبي أمية والمسيب الذي روى الحديث، فأسلما؛ فأسلم من هؤلاء الثلاثة رجلان، رضي الله عنهما.
قوله: (ملة عبدالمطلب) ، أي: دين عبدالمطلب.
قوله: (فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: قوله قل لا إله إلا الله، كلمة أحاج لك بها عند الله.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لأستغفرن لك ما لم أنه عنك).
فأنزل الله عز وجل : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى)(التوبة: من الآية113).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فأعادا عليه)، أي قولهما: أترغب عن ملة عبد المطلب.
قوله: (فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك … إلخ) جملة (لأستغفرن لك) مؤكدة بثلاث مؤكدات: القسم، واللام، ونون التوكيد الثقيلة.
والاستغفار: طلب المغفرة ، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم في نفسه شيء من القلق ، حيث قال : ( ما لم أنه عنك ) ؛ فوقع الأمر كما توقع ونهى عنه .
قوله : ( ما لم أنه عنك ) ، فعل مضارع مبني للمجهول ، والناهي عنه هو الله . قوله ( ما كان ) ، ما : نافية ، وكان فعل ماض ناقص .
قوله : ( أن يستغفروا ) ، أن وما دخلت عليه في تأويل مصدر اسم كان مؤخر .
قوله : ( للنبي ) ، خبر مقدم ؛ أي : ما كان استغفاره .(116/94)
واعلم أن ما كان أو ما ينبغي أو لا ينبغي ونحوها إذا جاءت في القرآن والحديث ؛ فالمراد أن ذلك ممتنع غاية الامتناع ؛ كقوله تعالى : (مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ )(مريم: من الآية35)، وقوله : (وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (مريم:92) ، وقوله : (لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ)(يّس: من الآية40)، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام )(1) .
وأنزل الله في أبي طالب : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ )(1)(القصص: من الآية56).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ( أن يستغفروا )؛ أي : طلبوا المغفرة للمشركين .
قوله : ( ولو كانوا أولي قربى ) ، أي : حتى ولو كانوا أقارب لهم ، ولهذا لما اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم ، ومر بقبر أمه استأذن الله أن يستغفر لها فما أذن الله له ، فاستأذنه أن يزور قبرها فأذن له ؛ فزاره للاعتبار وبكى وأبكى من حوله من الصحابة((2).
فالله منعه من طلب المغفرة للمشركين ؛ لأن هؤلاء المشركين ليسوا أهلا للمغفرة لأنك إذا دعوت الله أن يفعل ما لا يليق ؛ فهو اعتداء في الدعاء .
قوله : ( وأنزل الله في أبي طالب ) ، أي : في شأنه .
قوله: ( إنك لا تهدي من أحببت ) ، الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أي لا توفق من أحببت للهداية .
قوله : ( يهدي من يشاء ) ، أي يهدي هداية التوفيق من يشاء . واعلم أن كل فعل يضاف إلى مشيئة الله تعالى ؛ فهو مقرون بالحكمة ؛ أي : من اقتضت حكمته أن يهديه فإنه يهتدي ، ومن اقتضت حكمته أن يضله أضله .
وهذا الحديث يقطع وسائل الشرك بالرسول وغيره ؛ فالذين يلجؤون إليه صلى الله عليه وسلم ويستنجدون به مشركون ، فلا ينفعهم ذلك لأنه لم يؤذن له أن يستغفر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/95)
لعمه ، مع أنه قد قام معه قياما عظيما ، ناصره وآزره في دعوته ؛ فكيف بغيره ممن يشركون بالله ؟!
· · الإشكالات الواردة في الحديث :
الإشكال الأول : الإثبات و النفي في الهداية ، وقد سبق بيان ذلك(1) .
الإشكال الثاني : قوله لما حضرت أبا طالب الوفاة يشكل مع قوله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)(النساء: من الآية18)، وظاهر الحديث قبول توبته .
والجواب عن ذلك من أحد وجهين :
الأول : أن يقال لما حضرت أبا طالب الوفاة ، أي ظهر عليه علامات الموت ولم ينزل به ، ولكن عرف موته لا محالة ، وعلى هذا ؛ فالوصف لا ينافي الآية .
الثاني : أن هذا خاص بأبي طالب مع النبي صلى الله عليه وسلم ، ويستدل لذلك بوجهين:
ا- أنه قال : ( كلمة أحاج لك بها عند الله ) ، ولم يجزم بنفعها له ، ولم يقل : كلمة تخرجك من النار .
2- 2- أنه سبحانه أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لعمه مع كفره ، وهذا لا يستقيم إلا له ، والشفاعة له ليخفف عنه العذاب .
ويضعف الوجه الأول أن المعنى ظهرت عليه علامات الموت : بأن قوله: ( لما حضرت أبا طالب الوفاة ) مطابقا تماما لقوله تعالى : ( حتى إذا حضر أحدهم الموت ) ، وعلى هذا يكون الأوضح في الجواب أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم مع
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أبي طالب نفسه .
الإشكال الثالث : أن قوله تعالى : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ )(التوبة: من الآية113) في سورة التوبة ، وهي متأخرة مدنية ، وقصة أبي طالب مكية ، وهذا يدل على تأخر النهي عن الاستغفار للمشركين ، ولهذا استأذن النبي صلى الله عليه وسلم للاستغفار لأمه(1) وهو ذاهب للعمرة .(116/96)
ولا يمكن أن يستأذن بعد نزول النهي ؛ فدل على تأخر الآية ، وأن المراد بيان دخولها في قوله تعالى: ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) ، وليس المعنى أنها نزلت في ذلك الوقت .
وقيل : أن سبب نزول الآية هو استئذانه ربه في الاستغفار لأمه ، ولا مانع من أن يكون للآية سببان.
الإشكال الرابع : أن أهل العلم قالوا : يسن تلقين المحتضر لا إله إلا الله ، لكن بدون قول قل ؛ لأنه ربما مع الضجر يقول : لا؛ لضيق صدره مع نزول الموت ، أو يكره هذه الكلمة أو معناها ، وفي هذا الحديث قال : ( قل ).
والجواب : إن أبا طالب كان كافر ، فإذا قيل له : قل وأبي ؛ فهو باق على كفره، لم يضره التلقين بهذا ؛ فأما أن يبقي على كفره ولا ضرر عليه بهذا التلقين ، وإما أن يهديه الله ، بخلاف المسلم ؛ فهو على خطر لأنه ربما يضره التلقين على هذا الوجه .
* * *
فيه مسائل :
الأولي : تفسير قوله : ( إنك لا تهدي من أحببت ) الآية . الثانية : تفسير قوله : ( ما كان للنبي …) الآية . الثالثة : وهي المسألة الكبيرة ، تفسير قوله: ( لا إله إلا الله ) ؛ بخلاف ما عليه من يدعي العلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
*الأولي : تفسير قوله تعالى ( إنك لا تهدي من أحببت ) ، أي : من أحببت هدايته ، و سبق تفسيرها ، وبينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان لا يستطيع أن يهدي أحدا وهو حي ؛ فكيف يستطيع أن يهدي أحدا وهو ميت ؟! وأنه كما قال الله تعالى في حقه : (قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً) (الجن:21).
*الثانية : تفسير قوله : ( ما كان للنبي … ) الآية ، وقد سبق تفسيرها وبيان تحريم استغفار المسلمين للمشركين ولو كانوا أولي قربي .(116/97)
والخطر من قول بعض الناس لبعض زعماء الكفر إذا مات : المرحوم؛ فإنه حرام لأن هذا مضادة لله ـ سبحانه وتعالى ـ ، وكذلك يحرم إظهار الجزع و الحزن على موتهم بالإحداد أو غيره ؛ لأن المؤمنين يفرحون بموتهم ، بل لو كان عندهم القدرة و القوة لقاتلوهم حتى يكون الدين كله لله
· · الثالثة: وهي المسألة الكبيرة ، أي: الكبيرة من هذا الباب ، وقوله ( أي النبي صلى الله عليه وسلم ) لعمه : ( قل : لا إله إلا الله ) ، وعمه المعنى أنه التبرؤ من كل إله سوى الله ، ولهذا أبى أن يقولها لأنه يعرف معناها ومقتضاها وملزوماتها .
وقوله : ( بخلاف ما عليه من يدعي العلم ) كأنه يشير إلى تفسير المتكلمين
الرابعة : أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل قال للرجل : قل : ( لا إله إلا الله ) ؛ فقبح الله أبا جهل ! من أعلم منه بأصل الإسلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمعنى لا إله إلا الله ، حيث يقولون : إن الإله هو القادر على الاختراع ، وإنه لا قادر على الاختراع والإيجاد والإبداع إلا الله ، وهذا تفسير باطل .
نعم ، هو حق لا قادر على الاختراع إلا الله ، لكن ليس هذا معنى لا إله إلا الله ، ولكن المعنى : لا معبود حق إلا الله ؛ لأننا لو قلنا : إن معنى لا إله إلا الله : لا قادر على الاختراع إلا الله ح صار المشركون الذين قاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم و استباح نساءهم وذريتهم وأموالهم مسلمين ؛ فالظاهر من كلامه رحمه الله أنه أراد أهل الكلام الذين يفسرون لا إله إلا الله بتوحيد الربوبية ، وكذلك الذين يعبدون الرسول والأولياء ويقولون : نحن نقول لا إله إلا الله .(116/98)
· · الرابعة : أن أبا جهل ومن معه يعرفون مراد النبي صلى الله عليه وسلم ، أبو جهل ومن معه يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بقول : لا إله إلا الله ، ولذا ثاروا وقالوا له : ( أترغب عن ملة عبد المطلب ؟) ، وهو أيضا أبى أن يقولها لأنه يعرف مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة ، قال الله تعالى : (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ*وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ) (الصافات:36).
· · فالحاصل أن الذين يدعون أن معنى لا إله إلا الله ؛ أي : لا قادر على الاختراع إلا هو، أو يقولونها وهم يعبدون غيره كالأولياء هم أجهل من أبي جهل .
الخامسة : جده صلى الله عليه وسلم ومبالغته في إسلام عمه . السادسة : الرد على من زعم إسلام عبد المطلب و أسلافه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واحترز المؤلف في عدم ذكر من مع أبي جهل لأنهم أسلموا ،وبذلك صاروا أعلم ممن بعدهم، خاصة من هم في العصور المتأخرة في زمن المؤلف رحمه الله.
*الخامسة : جده ومبالغته في إسلام عمه ، حرصه صلى الله عليه وسلم وكونه يتحمل أن يحاج بالكلمة عند الله واضح من نص الحديث ؛ لسببين هما :
1- 1- القرابة .(116/99)
2- 2- لما أسدى للرسول والإسلام من المعروف ، فهو على هذا مشكور ، وإن كان على كفره مأزورا وفي النار ، ومن مناصرة أبي طالب أنه هجر قومه من أجل معاضدة النبي صلى الله عليه وسلم ومناصرته ، وكان يعلن على الملأ صدقه ويقول قصائد في ذلك ويمدحه ، ويصبر على الأذى من أجله ، وهذا جدير بأن يحرص على هدايته ، لكن الأمر بيد مقلب القلوب كما في الحديث : ( إن قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد ، يصرفه حيث يشاء ) ، ثم قال صلى الله عليه وسلم في نفس الحديث : ( اللهم ! مصرف القلوب ! صرف قلوبنا على طاعتك )(1) .
3- 3- * السادسة:الرد على من زعم إسلام عبد المطلب، بدليل أن يقول قولهما:(أترغب عن ملة عبد المطلب ؟ ) حين أمره النبي صلى الله عليه وسلم لا إله إلا الله ؛ فدل على أن ملة عبد المطلب الكفر و الشرك .
وفي الحديث رد على من قال بإسلام أبي طالب أو نبوته كما تزعمه
السابعة : كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له ، بل نهي عن ذلك . الثامنة: مضرة أصحاب السوء على الإنسان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الرافضة ، قبحهم الله ؛ لأن آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلا الله .
* السابعة : كونه صلى الله عليه وسلم استغفر له فلم يغفر له ، الرسول صلى الله عليه وسلم أقرب الناس أن يجيب الله دعاءه ، ومع ذلك اقتضت حكمة الله أن لا يجيب دعاءه لعمه أبي طالب؛ لأن الأمر بيد الله لا بيد الرسول ولا غيره، قال تعالى: ( قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ )(آل عمران: من الآية154)، وقال تعالى:( وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ)(هود: من الآية123) ليس لأحد تصرف في هذا الكون إلا رب الكون .(116/100)
وكذا أمه صلى الله عليه وسلم لم يؤذن له في الاستغفار لها ؛ فدل على أن أهل الكفر ليسوا أهلا للمغفرة بأي حال ، ولا يجاب لنا فيهم ، ولا يحل الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة ، وإنما يدعى لهم بالهداية وهم أحياء .
· · الثامنة : مضرة أصحاب السوء على الإنسان ، المعنى أنه لولا هذان الرجلان ؛ لربما وفق أبوطالب إلى قبول ما عرضه النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن هؤلاء ـوالعياذ بالله ـ ذكراه نعره الجاهلية ومضرة رفقاء السوء ، ليس خاصا بالشرك، ولكن في جميع سلوك الإنسان ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم جليس السوء بنافخ الكير ؛ إما أن يحرق ثيابك ، أو تجد منه رائحة كريهة(1) ،وقال صلى الله عليه وسلم : ( فأبواه يهودانه أو
التاسعة : مضرة تعظيم الأسلاف والأكابر .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينصرانه أو يمجسانه )(1) ،وذلك لما بينهما من الصحبة و الاختلاط ، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم بسند لا بأس به : ( المرء على دين خليله ؛ فلينظر أحدكم من يخالل )(2) ؛ فالمهم أنه يجب على الإنسان أن يفكر في أصحابه : هل هم أصحاب سوء ؟ فليبعد عنهم لأنهم أشد عداء من الجرب ، أو هم أصحاب خير: يأمرونه بالمعروف ، وينهونه عن المنكر، ويفتحون له أبواب الخير ؛ فعليه بهم .
· · التاسعة : مضرة تعظيم الأسلاف و الأكابر ، لأن أبا طالب اختار أن يكون على ملة عبد المطلب حين ذكروه بأسلافه مع مخالفته لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم .
وهذا ليس على إطلاقه ؛ فتعظيمهم إن كانوا أهلا لذلك فلا يضر ، بل هو خير ؛ فأسلافنا من صدر هذه الأمة لا شك أن تعظيمهم وإنزالهم منازلهم خير لا ضرر فيه .(116/101)
وإن كان تعظيم الأكابر لما هم عليه من العلم والسن ؛ فليس فيه مضرة وإن كان تعظيمهم لما هم عليه من الباطل ؛ فهو ضرر عظيم على دين المرء ، فمثلا : من يعظم أبا جهل لأنه سيد أهل الوادي ، وكذلك عبد المطلب وغيره؛ فهو ضرر عليه ، ولا يجوز أن يرى الإنسان في نفسه لهؤلاء أي قدر ؛ لأنهم أعداء الله ـ عز وجل ـ ، وكذلك لا يعظم الرؤساء من الكفار في زمانه ؛ فإن
العاشرة : الشبهة للمبطلين في ذلك ؛ لاستدلال أبي جهل بذلك .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مضرة لأنه قد يورث ما يضاد الإسلام ، فيجب أن يكون التعظيم حسب ما تقتضيه الأدلة من الكتاب و السنة .
· · العاشرة : الشبهة للمبطلين في تعظيم الأسلاف هي استدلال أبي جهل بذلك في قوله : ( أترغب عن ملة عبد المطلب ؟) وهذه الشبهة ذكرها الله في القرآن في قوله تعالى : (وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ) (الزخرف:23).
فالمبطلون يقولون في شبهتهم : إن أسلافهم على الحق وسيقتدون بهم، ويقولون: كيف نسفه أحلامهم ، ونضلل ما هم عليه ؟
وهذا يوجد في المتعصبين لمشايخهم وكبرائهم ومذاهبهم ، حيث لا يقبلون قرآنا و لا سنة في معارضة الشيخ أو الإمام ، حتى إن بعضهم يجعلهم معصومين؛ كالرافضة ، والتيجانية ، والقاديانية ، وغيرهم ؛ فهم يرون أن إمامهم لا يخطئ ، والكتاب والسنة يمكن أن يخطئا .(116/102)
والواجب على المرء أن يكون تابعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما من خالفه من الكبراء والأئمة؛ فإنهم لا يحتج بهم على الكتاب والسنة، لكن يعتذر لهم عن مخالفة الكتاب و السنة إن كانوا أهلا للاعتذار ، بحيث لم يعرف عنهم معارضة للنصوص ، فيعتذر لهم بما ذكره أهل العلم ، ومن أحسن ما ألف كتاب شيخ الإسلام ابن تيميه : ( رفع الملام عن الأئمة الأعلام ) ، أما من يعرف بمعارضة الكتاب والسنة؛ فلا يعتذر له .
الحادية عشرة : الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم ؛ لأنه لو كان قالها لنفعته. الثانية عشرة : التأمل في كبر هذه الشبهة في القلوب الضالين ؛ لأن في القصة أنهم لم يجادلوه إلا بها ، مع مبالغته صلى الله عليه وسلم وتكريره ؛ فلأجل عظمتها ووضوحها عندهم اقتصروا عليها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الحادية عشرة : الشاهد لكون الأعمال بالخواتيم ، وهذا مبني على القول بأن معنى حضرته الوفاة ؛ أي : ظهرت عليه علاماتها ولم ينزل به كما سبق.
· · الثانية عشرة : التأمل في كبر هذه الشبهة في قلوب الضالين …إلخ، وهذه الشبهة هي تعظيم الأسلاف والأكابر .
* * *
باب ما جاء أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم
هو الغلو في الصالحين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( سبب كفر بني آدم ) ، السبب في اللغة : ما يتوصل به إلى غيره، ومنه قوله تعالى : ( فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ)(الحج: من الآية15) ؛ أي: بشيء يوصله إلى السماء.
ومنه أيضا سمي الحبل سببا ؛ لأنه يتوصل به إلى استسقاء الماء من البئر.
و أما في الاصطلاح عند أهل الأصول؛ فهو الذي يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم .
أي : إذا وجد السبب وجد المسبب ، وإذا عدم عدم المسبب ؛ إلا أن يكون هناك سبب آخر يثبت به المسبب .(116/103)
قوله : ( بني آدم ) ، يشمل الرجال والنساء؛ لأنه إذا قيل: بون فلان، وهم قبيلة: شمل ذكورهم وإناثهم، أما إذا قيل: بنو فلان، أي رجل معين؛ فالمراد بهم الذكور.
قوله: (وتركهم)، يعني: وسبب تركهم.
قوله: (دينهم)، مفعول ترك؛ لأن ترك مصدر مضاف إلى فاعله، و(دينهم) يكون مفولاً به.
قوله: (هو الغلو)، هذا الضمير يسمى ضمير الفصل، وهو من أدوات التوكيد، والغلو: خبر لأن ضمير الفصل على القول الراجح ليس له محل من الإعراب.
وقول الله عز وجل : ( يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ) (النساء : من الآية171).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والغلو: هو مجاوزة الحد في الثناء مدحاً أو قدحاً.
والقدح: يسمى ثناء، ومنه الجنازة التي مرت فأثنوا عليها شراً (1) .
والغلو هنا: مجاوزة الحد في الثناء مدحاً.
قوله: (الصالحين)، الصالح: هو الذي قام بحق الله وحق العباد، وفي هذه الترجمة إضافة الشيء إلى سببه بدون أن ينسب إلى الله بقوله: (أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم هو الغلو في الصالحين)، وهذا جائز إذا كان السبب حقيقة وصحيحاً، وذلك إذا كان السبب قد ثبت من قبل الشرع أو الحس أو الواقع.
وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لولا أنا؛ لكان في الدرك الأسفل من النار) (2) ؛ يعني : عمه أبا طالب.
* * *
قوله: (وقول الله ـ عز وجل ـ ) ، يعني : وباب قول الله ـ عز وجل ـ .
قوله: (يا أهل الكتاب) ، نداء، وهم اليهود والنصارى، والكتاب: التوراة لليهود، والإنجيل للنصارى.
قوله: (لا تغلو في دينكم)، أي: لا تتجاوزوا الحد مدحاً أو قدحاً، والأمر واقع كذلك بالنسبة لأهل الكتاب عموماً؛ فإنهم غلوا في عيسى بن مريم عليه السلام
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مدحاً وقدحاً، حيث قال النصارى: إنه ابن الله ، وجعلوه ثالث ثلاثة.(116/104)
واليهود غلوا فيه قدحاً، وقالوا: إن أمه زانية، وإنه ولد زنا، قاتلهم الله؛ فكل من الطرفين غلا في دينه وتجاوز الحد بين إفراط أو تفريط.
قوله: (ولا تقولوا على الله إلا الحق)، وهو ما قاله سبحانه وتعالى عن نفسه بأنه: إله واحد، أحد، صمد، لم يتخذ صاحبه ولا ولداً.
قوله: (إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله)، هذه صيغة حصر، وطريقه (إنما)؛ فيكون المعنى: ما المسيح عيسى بن مريم إلا رسول الله ، وأضافه إلى أمه ليقطع قول النصارى الذي يضيفونه إلى الله.
وفي قوله: (رسول الله) إبطال لقول اليهود: إنه كذاب، ولقول النصارى: إنه إله.
وفي قوله: (وكلمته) إبطال لقول اليهود: إنه ابن زنا.
(وكلمته ألقاها إلى مريم): أن قال له كن فكان.
قوله: (وروح منه)، أي: إنه عز وجل جعل عيسى عليه الصلاة والسلام كغيره من بني آدم من جسد وروح، وأضاف روحه إليه تشريفاً وتكريماً؛ كما في قوله تعالى في آدم: (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي)(الحجر: من الآية29)؛ فهذا للتشريف والتكريم.
قوله: (فآمنوا بالله ورسله)، الخطاب لأهل الكتاب، ومن رسله محمد صلى الله عليه وسلم الذي هو آخرهم وخاتمهم وأفضلهم.
قوله: (ولا تقولوا ثلاثة) ، أي: إن الله ثالث ثلاثة.
قوله: (انتهوا خيراً لكم) ، (خيراً) : خبر ليكن المحذوفة؛ أي: انتهوا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكن خيراً لكم.
قوله: (إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض)، أي: تنزيهاً له أن يكون له ولد؛ لأنه مالك لما في السماوات وما في الأرض، ومن جملتهم عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام؛ فهو من جملة المملوكين المربوبين؛ فكيف يكون إلهاً مع الله أو ولداً لله ؟
· · (تنبيه):
لم يشر المؤلف رحمه الله تعالى إلى إكمال الآية، ونرجو أن يكون في إكمالنا لها فائدة.(116/105)
قوله : (وكفي بالله وكيلاً)، أي: كفى الله تعالى أن يكون حفيظاً على عباده، مدبراً لأحوالهم، عالماً بأعمالهم.
والشاهد من هذه الآية قوله؛ (لا تغلو في دينكم)؛ فنهى عن الغلو في الدين؛ لأنه يتضمن مفاسد كثيرة: منها:
1- أنه تنزيل للمغلو فيه فوق منزلته إن كان مدحاً، وتحتها إن كان قدحاً.
2- أنه يؤدي إلى عبادة هذا المغلو فيه كما هو الواقع من أهل الغلو.
3- أنه يصد عن تعظيم الله ـ سبحانه وتعالى ـ ؛ لأن النفس إما أن تنشغل بالباطل أو بالحق، فإذا انشغلت بالغلو بهذا المخلوق وإطرائه وتعظيمه؛ تعلقت به ونسيت ما يجب لله تعالى من حقوق.
4- أن المغلو فيه إن كان موجوداً؛ فإنه يزهو بنفسه، ويتعاظم ويعجب بها، وهذه مفسدة تفسد المغلو فيه إن كانت مدحاً، وتوجب العداوة والبغضاء وقيام الحروب والبلاء بين هذا وهذا وإن كانت قدحاً.
قوله: (في دينكم)، الدين يطلق على العمل والجزاء، والمراد به هنا: العمل.
وفي الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمعنى: لا تجعلوا عبادتكم غلواً في المخلوقين وغيرهم.
وهل يدخل في هذا الغلو في العبادات؟
الجواب: نعم، يدخل الغلو في العبادات، مثل أن يرهق الإنسان نفسه بالعبادة ويتعبها؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك (1) ، ومثل أن يزيد عن المشروع، كأن يرمي بجمرات كبيرة، أو يأتي بأذكار زائدة عن المشروع أدبار الصلوات تكميلاً للوارد أو غير هذا؛ فالنهي عن الغلو في الدين يعم الغلو من كل وجه.
* * *
قوله: ( وفي (الصحيح) ) ، أي: في (صحيح البخاري)، وهذا الأثر اختصره المصنف، وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله.
قوله: (وقالوا)، أي: قال بعضهم لبعض.(116/106)
قوله: (لا تذرن) ، أي: لا تدعن وتتركن، وهذا نهي مؤكد بالنون.
قوله: (آلهتكم)، هل المراد: لا تذروا عبادتها أو تمكنوا أحداً من إهانتها؟
قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا؛ أوحى الشيطان إلى قومهم: أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً، وسموها بأسمائهم، ففعلوا، ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك، ونسي العلم؛ عبدت) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب: المعنيان؛ أي: انتصروا لآلهتكم، ولا تمكنوا أحداً من إهانتها، ولا تدعوها للناس، ولا تدعوا عبادتها أيضاً، بل احرصوا عليها، وهذا من التواصي بالباطل عكس الذين آمنوا وعملوا الصالحات يتواصون بالحق.
قوله: (ولا سواعاً)، لا: زائدة للتوكيد، مثلها في قوله تعالى: (ولا الضالين)(الفاتحة:7)، وفائدتها أنهم جعلوا مدخولها كالمستقل، بخلاف يعوق ونسر؛ فهما دون مرتبة من سبقهما.
قوله تعالى: (وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً)(نوح: من الآية23)، هذه الخمسة كأن لها مزية على غيرها؛ لأن قوله: (آلهتكم) عام يشمل كل ما يعبدون، وكانها كبار آلهتهم؛ فخصوها بالذكر.
والآلهة: جمع إله، وهو كل ما عبد، سواء بحق أو بباطل، لكن إذا كان المعبود هو الله؛ فهو حق، وإن كان غير الله؛ فهو باطل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/107)
وفي هذا التفسير إشكال، حيث قال: (هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح)، وظاهر القرآن أنها قبل نوح، قال تعالى : (قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَاراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ )(نوح: 21-23) ؛ ظاهر الآية الكريمة: أن قوم نوح كانوا يعبدونها، ثم نهاهم نوح عن عبادتها، وأمرهم بعبادة الله وحده، ولكنهم أبوا وقالوا: (لا تذرن آلهتكم) ، وهذا (أعني: القول بأنهم قبل نوح) قول محمد بن كعب ومحمد بن قيس، وهو الراجح لموافقته ظاهر القرآن.
ويحتمل ـ وهو بعيد ـ أن هذا في أول رسالة نوح، وأنه استجاب له هؤلاء الرجال وآمنوا به، ثم بعد ذلك ماتوا قبل نوح ثم عبدوهم، لكن هذا بعيد حتى من سياق الأثر عن ابن عباس.
فالمهم أن تفسير الآية أن يقال: هذه أصنام في قوم نوح كانوا رجالاً صالحين، فطال على قومهم الأمد، فعبدوهم.
قوله: (أوحى الشيطان)، أي: وحي وسوسة، وليس وحي إلهام.
قوله: (أن انصبوا إلى مجالسهم)، الأنصاب: جمع نصب، وهو كل ما ينصب من عصا أو حجر أو غيره.
قوله: (وسموها بأسمائهم)، أي: ضعوا أنصاباً في مجالسهم، وقولوا: هذا ود، وهذا سواع، وهذا يغوث، وهذا يعوق، وهذا نسر؛ لأجل إذا رأيتوهم تتذكروا عبادتهم فتنشطوا عليها، هكذا زين لهم الشيطان، وهذا غرور ووسوسة من الشيطان كما قال لأدم: (هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى)(طه: من الآية120)
وإذا كان العبد لا يتذكر عبادة الله إلا برؤية أشباح هؤلاء؛ فهذه عبادة
قال ابن القيم: (قال غير واحد من السلف: لما ماتوا؛ عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاصرة أو معدومة.(116/108)
قوله: (ففعلوا ولم تعبد، حتى إذا هلك أولئك ونسي العلم؛ عبدت من دون الله)، ذكر ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون، والقرن مئة سنة، حتى إذا طال عليهم الأمد حصل النزاع والتفرق، فبعث الله النبيين؛ كما قال تعالى: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ…)(البقرة: من الآية213) .
هذا هو تفسير ابن عباس رضي الله عنهما للآية، وهل تفسيره حجة؟
الجواب: يرجع في التفسير أولاً إلى القرآن؛ فالقرآن يفسر بعضه بعضاً، مثل قوله تعالى: (وما أدراك ما هيه) تفسيرها: (نار حامية)(القارعة:10،11)، فإن لم نجد في القرآن؛ فإلى سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن لم نجد؛ فإلى تفسير الصحابة، وتفسير الصحابي حجة بلا شك؛ لأنهم أدرى بالقرآن حيث نزل بعصرهم وبلغتهم، ويعرفون عنه أكثر من غيرهم، حتى قال بعض العلماء: إن تفسير الصحابي في حكم المرفوع، وهذا ليس بصحيح، لكنه لا شك أنه حجة على من بعدهم، فإن اختلف الصحابة في التفسير أخذنا بما يرجحه سياق الآية، والآية تدل على ما ذكره ابن عباس؛ إلا أن ظاهر السياق أن هؤلاء القوم الصالحين كانوا قبل نوح صلى الله عليه وسلم ، وقد عرفت القول الراجح.
قوله: (الأمد)، الزمن.
وهذا كتفسير ابن عباس؛ إلا أن ابن عباس يقول: (إنهم جعلوا الأنصاب في
وعن عمر؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، إنما أنا عبد ، فقولوا : عبد الله ورسوله ) . أخرجاه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجالسهم)، وهنا يقول : ( عكفوا على قبورهم ) ، ولا يبعد أنهم فعلوا هذا وهذا ، أو أنهم قبروا في مجالسهم ؛ فتكون هي محل القبور .
والشاهد قوله : ( ثم طال عليهم الأمد ؛ فعبدوهم ) ؛ فسبب العبادة إذا الغلو في هؤلاء الصالحين حتى عبدوهم .
* * *
قوله : ( لا تطروني ) ، الإطراء : المبالغة في المدح .(116/109)
وهذا النهي يحتمل أنه منصب على هذا التشبيه ، وهو قوله : ( كما أطرت النصارى ابن مريم ) ، حيث جعلوه إلها أو ابنا لله ، وبهذا يوحي قول البوصيري:
دع ما ادعته النصارى في نبيهم واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم
أي : دع ما قاله النصارى أن عيسى عليه الصلاة و السلام ابن الله أو ثالث ثلاثة ، والباقي املأ فمك في مدحه ولو بما لا يرضيه .
ويحتمل أن النهي عام ؛ فيشمل ما يشابه غلو النصارى في عيسى بن مريم وما دونه ، ويكون قوله : ( كما أطرت ) لمطلق التشبيه لا للتشبيه المطلق ؛ لأن إطراء النصارى عيسى بن مريم سببه الغلو في هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث جعلوه ابنا لله وثالث ثلاثة ، والدليل على أن المراد هذا قوله : ( إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( إنما أنا عبد ) ، أي : ليس لي حق من الربوبية ، ولا مما يختص به الله ـ عز و جل ـ أبدا .
قوله : ( فقولوا عبد الله ورسوله ) ، هذان الوصفان أصدق وصف وأشرفه في الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فأشرف وصف للإنسان أن يكون من عباد الله ، قال تعالى : (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً )(الفرقان: من الآية63)، وقال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ) (الصافات:171)؛ فوصفهم الله بالعبودية قبل الرسالة مع أن الرسالة شرف عظيم ، لكن كونهم عبادا لله ـ عز وجل ـ أشرف وأعظم ، وأشرف وصف له وأحق وصف به ، ولهذا يقول الشاعر في محبوبته :
لا تدعني إلا بيا عبدهم فإنه أشرف أسمائي
أي : أنت إذا أردت أن تكلمني قل : يا عبد فلانة ؛ لأنه أشرف أسمائي وأبلغ في الذل .(116/110)
فمحمد صلى الله عليه وسلم عبد لا يعبد ، ورسول لا يكذب ، ولهذا نقول في صلاتنا عندما نسلم عليه ونشهد له بالرسالة : وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ؛ فهذا أفضل وصف اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنفسه .
واعلم أن الحقوق ثلاثة أقسام ، وهي :
الأول : حق لله لا يشرك فيه غيره : لا ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، وهو ما يختص به من الربوبية والألوهية و الأسماء والصفات .
الثاني : حق خاص للرسل ، وهو إعانتهم وتوقيرهم وتبجيلهم بما يستحقون.
الثالث : حق مشترك ، وهو الإيمان بالله ورسله ، وهذه الحقوق موجودة في الآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : ( لتؤمنوا بالله ورسوله ) ؛ فهذا حق
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مشترك ، ( وتعزروه وتوقروه ) هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم ، ( وتسبحوه بكرة وأصيلا ) ( الفتح : 9) هذا خاص بالله ـ سبحانه وتعالى ـ .
والذين يغلون في الرسول صلى الله عليه وسلم يجعلون حق الله له؛ فيقولون: ( وتسبحوه) ؛ أي : الرسول ، فيسبحون الرسول كما يسبحون الله ، ولا شك أنه شرك ؛ لأن التسبيح من حقوق الله الخاصة به ، بخلاف الإيمان ؛ فهو من الحقوق المشتركة بين الله ورسوله .
ونهى عن الإطراء في قوله عليه الصلاة و السلام : ( كما أطرت النصارى عيسى بن مريم )؛ لأن الإطراء والغلو يؤدي إلى عبادته كما هو واقع الآن ؛ فيوجد عند قبره في المدينة من يسأل ، فيقول يا رسول الله ! المدد، المدد، يا رسول الله ! أغثنا ، يا رسول الله ! بلادنا يابسة ، وهكذا ، ورأيت بعيني رجلا يدعو الله تحت ميزاب الكعبة موليا ظهره البيت مستقبلا المدينة ؛ لأن استقبال القبر عنده أشرف من استقبال الكعبة والعياذ بالله .
ويقول بعض المغالين : الكعبة أفضل من الحجرة ، فأما والنبي صلى الله عليه وسلم فيها؛ فلا والله ، ولا الكعبة ، ولا العرش وحملته ، ولا الجنة .(116/111)
فهو يريد ان يفضل الحجرة على الكعبة وعلى العرش وحملته وعلى الجنة، وهذه مبالغة لا يرضاها النبي صلى الله عليه وسلم لنا ولا لنفسه .
وصحيح أن جسده صلى الله عليه وسلم أفضل ، ولكن كونه يقول : إن الحجرة أفضل من الكعبة والعرش والجنة ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم فيها هذا خطأ عظيم ، نسأل الله السلامة من ذلك .
قوله : ( إياكم ) ، للتحذير .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إياكم والغلو ؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو)(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( والغلو ) ، معطوف على إياكم ، وقد اضطرابا كثيرا ، وأقرب ما قيل للصواب وأقله تكلفا: أن إيا منصوبة بفعل أمر مقدر تقديره إياك أحذر ؛ أي: احذر نفسك أن تغرك ، والغلو معطوف على إياك ؛ أي : واحذر الغلو .
والغلو كما سبق : هو مجاوزة الحد مدحا أو ذما ، وقد يشمل ما هو أكثر من ذلك أيضا ؛ فيقال : مجاوزة الحد في الثناء وفي التعبد وفي العمل ؛ لأن هذا الحديث ورد في رمي الجمرات ، حيث روى ابن عباس ؛ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة العقبة وهو على ناقته : ( القط لي حصى . فلقطت له سبع حصيات هن حصى الخذف؛ فجعل ينفضهن في كفه ، ويقول : أمثال هؤلاء فارموا ، وإياكم والغلو في الدين ؛ فإنما أهلك من قبلكم الغلو في الدين ) . هذا لفظ ابن ماجة.
والغلو : فاعل أهلك .
قوله : ( من كان قبلكم ) ، مفعول مقدم .
قوله : ( فإنما )، أداة حصر ، والحصر : إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه.
قوله : ( أهلك )، يحتمل معنيين :
الأول : أن المراد هلاك الدين ، وعليه يكون الهلاك واقعا مباشرة من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الغلو ؛ لأن مجرد الغلو هلاك .
الثاني : أنه هلاك الأجسام وعليه يكون الغلو سببا للهلاك ؛ أي : إذا غلوا خرجوا عن طاعة الله فأهلكهم الله .(116/112)
وهل الحصر في قوله : ( فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو ) حقيقي أو إضافي؟
الجواب : إن قيل : إنه حقيقي ؛ حصل إشكال ، وهو أن هناك أحاديث أضاف النبي صلى الله عليه وسلم الهلاك فيها إلى أعمال غير الغلو ، مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ( إنما أهلك من كان قبلكم أنهم إذا سرق فيهم الشريف تركوه ، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد )(1) ؛فهنا حصران متقابلان ، فإذا قلنا : إنه حقيقي بمعنى أنه لا هلاك إلا بهذا حقيقة ؛ صار بين الحديثين تناقص .
وإن قيل : إن الحصر إضافي ؛ أي : باعتبار عمل معين ؛ فإنه لا يحصل تناقص بحيث يحمل كل منهما على جهة لا تعارض الحديث الآخر لئلا يكون في حديثه صلى الله عليه وسلم تناقض ، وحينئذ يكون إضافيا ، فيقال : أهلك من كان قبلكم الغلو هذا الحصر باعتبار الغلو في التعبد في الحديث الأول ، وفي الآخر يقال : أهلك من كان قبلكم باعتبار الحكم ، فيهلك الناس إذا أقاموا الحد على الضعيف دون الشريف.
وفي هذا الحديث يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو ، ويبرهن على أن الغلو سبب للهلاك لأنه مخالف للشرع ولإهلاكه للأمم السابقة ؛ فيستفاد منه تحريم الغلو من وجهين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوجه الأول : تحذيره صلى الله عليه وسلم ، والتحذير نهي وزيادة .
الوجه الثاني : أنه سبب لإهلاك الأمم كما من قبلنا ، وما كان سببا للهلاك كان محرما .
· · أقسام الناس في العبادة :
والناس في العبادة طرفان ووسط ؛ فمنهم المفرط ، ومنهم المفرط ، ومنهم المتوسط .
فدين الله بين الغالي فيه والجافي عنه ، وكون الإنسان معتدلا لا يميل إلى هذا ولا إلى هذا هذا هو الواجب ؛ فلا يجوز التشدد في الدين والمبالغة ، ولا التهاون وعدم المبالاة ، بل كن وسطا بين هذا و هذا .
والغلو له أقسام كثيرة ؛ منها : الغلو في العقيدة ، ومنها : الغلو في العبادة،(116/113)
ومنها : الغلو في المعاملة ، ومنها : الغلو في العادات .
والأمثلة عليها كما يلي : أما الغلو في العقيدة ؛ فمثل ما تشدق فيه أهل الكلام بالنسبة لإثبات الصفات ، فإن أهل الكلام تشدقوا وتعمقوا حتى وصلوا إلى الهلاك قطعا ، حتى أدى بهم هذا التعمق إلى واحد من أمرين :
إما التمثيل ، أو التعطيل .
إما أنهم مثلوا الله بخلقه ، فقالوا : هذا معنى إثبات الصفات ، فغلوا في الإثبات حتى أثبتوا ما نفي الله عن نفسه ، أو عطلوه وقالوا : هذا معنى تنزيهه عن مشابهة المخلوقات ، وزعموا أن إثبات الصفات تشبيه ؛ فنفوا ما أثبته الله لنفسه .
لكن الأمة الوسط اقتصدت في ذلك ؛ فلم تتعمق في الإثبات ولا في النفي والتنزيه ؛ فأخذوا بظواهر اللفظ ، وقالوا : ليس لنا أن نزيد على ذلك ؛ فلم يهلكوا، بل كانوا على الصراط المستقيم ، ولما دخل هؤلاء الفرس والروم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغيرهم في الدين ؛ صاروا يتعمقون في هذه الأمور ويجادلون مجادلات ومناظرات لا تنتهي أبدا ؛ حتى ضاعوا ، نسأل الله السلامة .
وكل الإيرادات التي أوردها المتأخرون من هذه الأمة على النصوص ، لم يوردها الصحابة الذين هم الأمة الوسط .(116/114)
أما الغلو في العبادات ؛ فهو التشدد فيها ، بحيث يرى أن الإخلاص بشيء منها كفر وخروج عن الإسلام ؛ كغلو الخوارج والمعتزلة ، حيث قالوا : إن من فعل كبيرة من الكبائر ؛ فهو خارج عن الإسلام وحل دمه وماله ، وأباحوا الخروج على الأئمة وسفك الدماء ، وكذا المعتزلة ، حيث قالوا : من فعل كبيرة؛ فهو بمنزلة بين المنزلتين : الإيمان والكفر ؛ فهذا تشدد أدى إلى الهلاك ، وهذا التشدد قابله تساهل المرجئة ، فقالوا : إن القتل والزنا والسرقة وشرب الخمر ونحوها من الكبائر ، لا تخرج من الإيمان ، ولا تنقص من الإيمان شيئا ، وإنه يكفي في الإيمان الإقرار ، وإن إيمان فاعل الكبيرة كإيمان جبريل ورسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يختلف الناس في الإيمان حتى إنهم ليقولون : إن إبليس مؤمن لأنه مقر ، وإذا قيل : إن الله كفره ؛ قالوا : إذن إقراره ليس بصادق ، بل هو كاذب .
هؤلاء في الحقيقة يصلحون لكثير من الناس في هذا الزمان ، ولاشك أن هذا تطرف بالتساهل ، والأول تطرف بالتشدد ، ومذهب أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص ، وفاعل المعصية ناقص الإيمان بقدر معصيته ، ولا يخرج من الإيمان إلا بما برهنت النصوص على أنه كفر .
وأما الغلو في المعاملات ؛ فهو التشدد في الأمور بتحريم كل شيء حتى ولو كان وسيلة ، وأنه لا يجوز للإنسان أن يزيد عن واجبات حياته الضرورية، وهذا مسلك سلكه الصوفية ، حيث قالوا : من اشتغل بالدنيا ؛ فهو غير مريد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للآخرة ، وقالوا : لا يجوز أن تشتري ما زاد على حاجتك الضرورية ، وما أشبه ذلك .
وقابل هذا التشدد تساهل من قال : يحل كل شيء ينمي المال ويقوي الاقتصاد ؛ حتى الربا والغش وغير ذلك.
فهؤلاء ـ والعياذ بالله ـ متطرفون بالتساهل ؛ فتجده يكذب في ثمنها وفي وصفها وفي كل شيء لأجل أن يكسب فلسا أو فلسين ، وهذا لا شك أنه تطرف .(116/115)
والتوسط أن يقال : تحل المعاملات وفق ما جاءت به النصوص ، ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ( البقرة : 275) ؛ فليس كل شيء حراما ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم باع واشترى ، والصحابة رضي الله عنهم يبيعون ويشترون ، والنبي صلى الله عليه وسلم يقرهم.
وأما الغلو في العادات ؛ فإذا كانت هذه العادة يخشى أن الإنسان إذا تحول عنها انتقل من التحول في العادة إلى التحول في العبادة ؛ فهذا لا حرج أن الإنسان يتمسك بها ، ولا يتحول إلى عادة جديدة ، أما إذا كان الغلو في العادة يمنعك من التحول إلى عادة جديدة مفيدة أفيد من الأولى ؛ فهذا من الغلو المنهي عنه ، فلو أن أحدا تمسك بعادته في أمر حدث من عادته التي هو عليها
نقول : هذا في الحقيقة غال ومفرط في هذه العادة.
وأما إن كانت العادات متساوية المصالح ، لكنه يخشى أن ينتقل الناس من هذه العادة إلى التوسع في العادات التي قد تخل بالشرف أو الدين ؛ فلا يتحول إلى العادة الجديدة.
* * *
ولمسلم عن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هلك المتنطعون ). قالها ثلاثا(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( المتنطعون ) ، المتنطع : هو المتعمق المتقعر المتشدق ، سواء كان في الكلام أو في الأفعال ؛ فهو هالك ، حتى ولو كان ذلك في الأقوال المعتادة ؛ فبعض الناس يكون بهذه الحال ، حتى إنه ربما يقترن بتعمقه وتنطعه الإعجاب بالنفس في الغالب ، وربما يقترن به الكبر ، فتجده إذا تكلم يتكلم بأنفه، فتسلم عليه فتسمع الرد من الأنف إلى غير ذلك من الأقوال .
والتنطع بالأفعال كذلك أيضا قد يؤدي إلى الإعجاب أو إلى الكبر ، ولهذا قال : ( هلك المتنطعون ) .(116/116)
والتنطع أيضا في المسائل الدينية يشبه الغلو فيها ؛ فهو أيضا من أسباب الهلاك ، ومن ذلك ما يفعله بعض الناس من التنطع في صفات الله تعالى والتقعر فيها ، حيث يسألونه عما لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم ، وهم يعلمون أن الصحابة خير منهم وأشد حرصا على العلم ، وفيهم رسول الله الذي عنده من الإجابة على الأسئلة ما ليس عند غيره من الناس مهما بلغ علمهم .
فهذه الأحاديث الثلاثة كلها تدل على تحريم الغلو ، وأنه سبب للهلاك ، وأن الواجب أن يسير العبد إلى الله بين طرفي نقيض بالدين الوسط ، فكما أن هذه الأمة هي الوسط ودينها هو الوسط ؛ فينبغي أن يكون سيرها في دينها على الطريق الوسط.
* * *
* فيه مسائل
الأولي : أن من فهم هذا الباب وبابين بعده ؛ تبين له غربة الإسلام، ورأى من قدرة الله وتقليبه للقلوب العجب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
· · الأولى : أن من فهم هذا الباب ـ أي: بما مر من تفسير الآية الكريمة:( وقالوا لا تذرن آلهتكم ) ـ وبابين بعده ؛ تبين له غربة الإسلام .
وهذا حق ؛ فإن الإسلام المبني على التوحيد الخالص غريب ، فكثير من البلدان الإسلامية تجد فيها الغلو في الصالحين في قبورهم ؛ فلا تجد بلدا مسلما إلا وفيه غلو في قبور الصالحين ، وقد يكون ليس قبر رجل صالح ،قد يكون وهما مثل قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما ؛ فأهل العراق يقولون : هو عندنا ، وأهل الشام يقولون : عندنا ، وأهل مصر يقولون : عندنا ، وبعضهم يقول : هو في المغرب ؛ فصار الحسين إما أنه أربعة رجال ، أو مقطع أوصالا، وهذا كله ليس بصحيح ؛ فالمهم أنه كما قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب : تبين لك غربة الإسلام أي في المسلمين .(116/117)
وكذلك الجزيرة العربية قبل دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب فيها قبور وقباب تعبد من دون الله ويحج إليها وتقصد،ولكن بتوفيق الله ـ سبحانه وتعالى ـ أنه أعان هذا الرجل مع الإمام محمد بن سعود حتى قضى عليها وهدمها، وصارت البلاد ولله الحمد على التوحيد الخالص .
الثانية : معرفة أول شرك حدث في الأرض ؛ كان بشبهة الصالحين .
الثالثة:معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء،وما سبب ذلك،مع معرفة أن الله أرسلهم. الرابعة : قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الثانية : معرفة أول شرك حدث في الأرض ، وجه ذلك : أن هذه الأصنام التي عبدها قوم نوح كانوا أقواما صالحين ، فحدث الغلو فيهم ، ثم عبدوا من دون الله ؛ ففيه الحذر من الغلو في الصالحين .
* الثالثة : معرفة أول شيء غير به دين الأنبياء ، وما سبب ذلك ، مع معرفة أن الله أرسلهم ، أول شيء غير به دين الأنبياء هو الشرك ، وسببه هو الغلو في الصالحين ، وقوله : ( مع معرفة أن الله أرسلهم ) ، قال الله تعالى : (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)(البقرة: من الآية213)؛ أي : كانوا أمة واحدة على التوحيد ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ؛ فهذا أول ما حدث من الشرك في بني آدم .
· · الرابعة : قبول البدع مع كون الشرائع والفطر تردها .
قوله : ( قبول البدع ) ، أي : أن النفوس تقبلها لا لأنها مشروعة ، بل إن الشرائع تردها ، وكذلك الفطر السليمة تردها ؛ لأن الفطر السليمة جبلت على عبادة الله وحده لا شريك له ؛ كما قال الله تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(الروم: من الآية30) ؛ فالفطر السليمة لا تقبل تشريعا إلا ممن يملك ذلك .(116/118)
الخامسة : أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل : فالأول محبة الصالحين، والثاني فعل أناس من أهل العلم والدين شيئا أرادوا به خيرا فظن من بعدهم أنهم أرادوا به غيره .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الخامسة: أن سبب ذلك كله مزج الحق بالباطل، أراد المؤلف رحمه الله أن يبين أن مزج الحق بالباطل حصل بأمرين:
الأول: محبة الصالحين، ولهذا صوروا تماثيلهم محبة لهم، ورغبة في مشاهدة أشباحهم.
الثاني: أن أهل العلم والدين أرادوا خيراً، وهو أن ينشطوا على العبادة، ولكن من بعدهم أرادوا غير الخير الذي أراده أولئك، ويؤخذ منه: أن من أراد تقوية دينة ببدعة؛ فإن ضررها أكثر من نفعها.
مثال ذلك: أولئك الذين يغلون في الرسول صلى الله عليه وسلم ويجعلون له الموالد هم يريدون بذلك خيراً، لكن أرادوا خيراً بهذه البدعة، فصار ضررها أكثر من نفعها؛ لأنها تعطي الإنسان نشاطاً غير مشروع في وقت معين، ثم يعقبه فتور غير مشروع في بقية العام.
ولهذا تجد هؤلاء الذين يغالون في هذه البدع فاترين في الأمور المشروعة الواضحة ليسوا كنشاط غيرهم، وهذا مما يدل على تأثير البدع في القلوب وأنها مهما زينها أصحابها؛ فلا تزيد الإنسان إلا ضلالاَ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل بدعة ضلالة) (1) 0
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل: إن للاحتفال بمولده صلى الله عليه وسلم أصلاً من السنة، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين؛ فقال : (ذاك يوم ولدت فيه، وبعثت فيه، أو أنزل على فيه) (1) ، وكان صلى الله عليه وسلم يصومه مع الخميس ويقول: (إنهما يومان تعرض فيهما الأعمال على الله؛ فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم) (2)
فالجواب على ذلك من وجوه:
الأول: أن الصوم ليس احتفالاً بمولده كاحتفال هؤلاء، وإنما هو صوم وإمساك، أما هؤلاء الذين يجعلون له الموالد؛ فاحتفالهم على العكس من ذلك.(116/119)
فالمعنى: أن هذا اليوم إذا صامه الإنسان؛ فهو يوم مبارك حصل فيه هذا الشي، وليس المعنى أننا نحتفل بهذا اليوم.
الثاني: أنه عمل فرض أن يكون هذا أصلاً؛ فإنه يجب أن يقتصر فيه على ما ورد؛ لأن العبادات توقيفية، ولو كان الاحتفال المعهود عند الناس اليوم مشروعاً لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، إما بقوله، أو فعله، أو إقراره.
الثالث: أن هؤلاء الذين يحتفلون بمولد النبي صلى الله عليه وسلم لا يقيدونه بيوم الاثنين، بل في اليوم الذي زعموا مولده فيه، وهو اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول، مع أن ذلك لم يثبت من الناحية التاريخية، وقد حقق بعض الفلكيين المتأخرين ذلك؛ فكان في اليوم التاسع لا في اليوم الثاني عشر.
الرابع: أن الاحتفال بمولده على الوجه المعروف بدعة ظاهرة؛ لأنه لم
السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكن معروفاً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، مع قيام المقتضي له وعدم المانع منه.
* مسألة حكم الاحتفال بعيد ميلاد الأطفال:
فائدة: كل شيء يتخذ عيداً يتكرر كل أسبوع، أو كل عام وليس مشروعاً؛ فهو من البدع، والدليل على ذلك: أن الشارع جعل للمولود العقيقة، ولم يجعل شيئاً بعد ذلك، واتخاذهم هذه الأعياد تتكرر كل أسبوع أو كل عام معناه أنهم شبهوها بالأعياد الإسلامية، وهذا حرام لا يجوز، وليس في الإسلام شيء من الأعياد إلا الأعياد الشرعية الثلاثة: عيد الفطر، وعيد الأضحى، وعيد الأسبوع، وهو يوم الجمعة.
وليس هذا من باب العادات لأنه يتكرر، ولهذا لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم فوجد للأنصار عيدين يحتفلون بهما؛ قال: (إن الله أبدلكما بخير منهما: عيد الأضحى، وعيد الفطر) (1) ، مع أن هذا من الأمور العادية عندهم.(116/120)
· · السادسة: تفسير الآية التي في سورة نوح، وقد سبق ذلك وبيان أنهم يتواصلون بالباطل، وهذا خلاف طريق المؤمنين الذين يتواصون بالحق والصبر والمرحمة، ويشبههم أهل الباطل والضلال الذين يتواصون بما هم عليه، سواء كانوا رؤساء سياسيين أو رؤساء دينيين ينتسبون إلى الدين، فتجد الواحد منهم لا يموت إلا وقد وضع له ركيزة من بعده يعني هذا الأمر الذي هو عليه.
السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه والباطل يزيد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* السابعة: جبلة الآدمي في كون الحق ينقص في قلبه، والباطل يزيد، هذه العبادة تقيد من حيث كونه آدمياً بقطع النظر على من يمن الله عليه من تزكية النفس؛ فإن الله يقول:(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) (الشمس:9-10).
قوله: (جبلة) على وزن فعلة، وهو ما يجبل المرء عليه؛ أي: يخلق عليه ويطبع ويبدع، بمعنى الطبيعة التي عليها الإنسان من حيث هو إنسان بقطع النظر عن كونه زكى نفسه أو دساها.
فالإنسان من حيث هو إنسان وصفه الله بوصفين؛ فقال تعالى: (إِنَّ الْأِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ)(ابراهيم: من الآية34) ، وقال تعالى: (وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)(الأحزاب: من الآية72) .
أما من حيث ما يمن الله به عليه من الإيمان والعمل الصالح؛ فإنه يرتقي عن هذا، قال تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (التين:4-6) ؛ فالإنسان الذي يمن الله عليه بالهدي؛ فإن الباطل الذي في قلبه يتناقص وربما يزول بالكلية؛ كعمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، وغيرهم.(116/121)
وكذلك أهل العلم؛ كأبي الحسن الأشعري، كان معتزلياً، ثم كلابياً، ثم سنياً، وابن القيم كان صوفياً، ثم من الله عليه بصحبة شيخ الإسلام ابن تيميه؛ فهداه الله على يده حتى كان ربانياً.
الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الثامنة: فيه شاهد لما نقل عن السلف أن البدع سبب الكفر، قال أهل العلم: إن الكفر له أسباب متعددة، ولا مانع أن يكون للشيء الواحد أسباب متعددة، ومن ذلك الكفر، ذكروا من أسبابه البدعة، وقالوا: إن البدعة لا تزال في القلب، يظلم منها شيئاً فشيئاً؛ حتى يصل إلى الكفر، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم (كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار) (1) .
وقالوا أيضاً: (إن المعاصي بريد الكفر، وبريد الشيء ما يوصل إلى الغاية).
والمعاصي كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم تتراكم على القلب، وتنكت فيه نكتة سوداء، فإن تاب؛ صقل قلبه وابيض (2) ، وإلا؛ فلا تزال هذه النكتة السوداء تتزايد حتى يصبح مظلماً.
وكذلك حذر من محقرات الذنوب، وضرب لها مثلاً بقوم نزلوا أرضاً ، فأرادوا أن يطبخوا، فذهب كل واحد منهم وأتى بعود، فأتى هذا بعود وهذا بعود، فجمعوها، فأضرموا ناراً كبيرة، وهكذا المعاصي (3) ؛ فالمعاصي لها تأثير قوي على القلب، وأشدها تأثيراً الشهوة فهي أشد من الشبهة؛ لأن الشبهة أيسر زوالاً
التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة، ولو حسن قصد الفاعل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زوالاً على من يسرها الله عليه؛ إذ إن مصدرها الجهل وهو يزول بالتعلم.(116/122)
أما الشهوة، وهي إرادة الإنسان الباطل؛ فهي البلاء الذي يقتل به العالم والجاهل، ولذا كانت معصية اليهود أكبر من معصية النصارى؛ لأن معصية اليهود سببها الشهوة وإرادة السوء والباطل، والنصارى سببها الشبهة، ولهذا كانت غالبها شبهة، ولكن كثيراً منها سببه الشهوة، ولهذا يبين الحق لأهل الشهوة من أهل البدع، فيصرون عليها، وغالبهم يقصد بذلك بقاء جاهه ورئاسته بين الناس دون صلاح الحق، ويظن في نفسه ويملي عليه الشيطان أنه لو رجع عن بدعته لنقصت منزلته بين الناس، وقالوا: هذا رجل متقلب وليس عنده علم، لكن الأمر ليس كذلك؛ فأبو الحسن الأشعري مضرب المثل في هذا الباب؛ فإنه لما كان من المعتزلة لم يكن إماماً، ولما رجع إلى مذهب أهل السنة صار إماماً؛ فكل من رجع إلى الحق ازدادت منزلته عند الله ـ سبحانه ـ ، ثم عند خلقه.
والخلاصة: أن البدعة سبب للكفر، ولا يرد على هذا قول بعض أهل العلم: إن المعاصي بريد الكفر؛ لأنه لا مانع من تعدد الأسباب.
* التاسعة: معرفة الشيطان بما تؤول إليه البدعة ولو حسن قصد الفاعل، لأن الشيطان هو الذي سول لهؤلاء المشركين أن يصوروا هذه التماثيل والتصاوير؛ لأنه يعرف أن هذه البدعة تؤول إلى الشرك.
وقوله: (ولو حسن قصد الفاعل)، أي:إن البدعة شر ولو حسن قصد فاعلها ، ويأثم إن كان عالماً أنها بدعة ولو حسن قصده؛ لأنه أقدم على المعصية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/123)
كمن يجيز الكذب والغش ويدعي أنه مصلحة، أما لو كان جاهلاً فإنه لا يأثم؛ لأن جميع المعاصي لا يأثم بها إلا مع العلم، وقد يثاب على حسن قصده، وقد نبه على ذلك شيخ الإسلام ابن تيميه في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم)؛ فيثاب على نيته دون عمله، فعمله هذا غير صالح ولا مقبول عند الله ولا مرضي لكن لحسن نيته مع الجهل يكون له أجر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي صلى وأعاد الوضوء بعدما وجد الماء وصلى ثانية: (لك الأجر مرتين) (1) ؛ لحسن قصده، ولأن عمله عمل صالح في الأصل، لكن لو أراد أحد أن يعمل العمل مرتين مع علمه أنه غير مشروع؛ لم يكن له أجر لأن عمله غير مشروع لكونه خلاف السنة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للذي لم يعد : (أصبت السنة) (2) .
فإن قال: إني أريد بهذه البدعة إحياء الهمم والتنشيط وما أشبه ذلك.
أجيب: بأن هذه الإرادة طعن في رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه اتهام له بالتقصير أو القصور، أي مقصر في الإخبار عن ذلك أو قاصر في العلم، وهذا أمر عظيم وخطر جسيم ، ولأن هذا لم يكن عليه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون، أما إذا كان حسن القصد، ولم يعلم أن هذا بدعة؛ فإنه يثاب على نيته ولا يثاب على عمله؛ لأن عمله شر حابط كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد) (3) .
العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو، ومعرفة ما يؤول إليه. الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأما العامة الذين لا يعلمون، وقد لبس عليهم هذه البدعة وغيرها؛ نقول: ما داموا قاصدين للحق ولا علموا به؛ فإثمهم على من أفتاهم ومن أضلهم.(116/124)
ولهذا يوجد في مجاهل أفريقيا وغيرها من لا يعرفون عن الإسلام شيئاً، فلو ماتوا لا نقول: إنهم مسلمون ونصلي عليهم ونترحم عليهم مع أنهم لم تقم عليهم الحجة، لكننا نعاملهم في الدنيا بالظاهر، أما في الآخرة؛ فأمرهم إلى الله.
* العاشرة: معرفة القاعدة الكلية، وهي النهي عن الغلو ومعرفة ما يؤول إليه، هذا ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الغلو مجاوزة الحد، وهو كما يكون في العبادات يكون في غيرها، قال تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا)(لأعراف: من الآية31)، وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا)(الفرقان: من الآية67)، وقد سبق بيان ذلك.
* الحادية عشرة: مضرة العكوف على القبر لأجل عمل صالح، المضرة الحاصلة: هي أنها توصل إلى عبادتهم.
ومثل ذلك: ما لو قرئ القرآن عند قبر رجل صالح، أو تصدق عند هذا القبر يعتقد أن لذلك مزية على غيره؛ فإن هذا من البدع، وهذه البدعة قد تؤدي
الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها. الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة وشدة الحاجة إليها مع الغفلة عنها. الرابعة عشرة: وهي أعجب العجب: قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث، ومعرفتهم بمعنى الكلام، وكون الله حال بينهم وبين قلوبهم حتى اعتقدوا أن فعل قوم نوح هو أفضل العبادات، واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصاحبها إلى عبادة هذا القبر.
* الثانية عشرة: معرفة النهي عن التماثيل والحكمة في إزالتها، التماثيل: هي الصور على مثال رجل، أو حيوان، أو حجر، والغالب أنها تطلق على ما صنع ليعبد من دون الله، والحكمة في إزالتها سد ذرائع الشرك.(116/125)
* الثالثة عشرة: معرفة عظم شأن هذه القصة، أي: قصة هؤلاء الذين غلوا في الصالحين وغير الصالحين، لكن اعتقدوا فيهم الصلاح، حتى تدرج بهم الأمر إلى عبادتهم من دون الله؛ فتجب معرفة هذه القصة، وأن أمر الغلو عظيم، ونتائجه وخيمة؛ فالحاجة شديدة إلى ذلك، والغفلة عنها كثيرة، والناس لو تدربت أحوالهم وسبرت قلوبهم وجدت أنهم في غفلة عن هذا الأمر، وهذا موجود في البلاد الإسلامية.
* الرابعة عشرة ـ وهي أعجب العجب ـ : قراءتهم إياها في كتب التفسير والحديث.
قوله: (وأعجب)، أي: أكثر عجباً وأشد، والعجب نوعان:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الأول: بمعنى الاستحسان، وهو ما إذا تعلق بمحمود؛ كقول عائشة في الحديث: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله) (1) .
الثاني: بمعنى الإنكار، وذلك فيما إذا تعلق بمذموم، قال تعالى: (وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ)(الرعد: من الآية5).
وكلام المؤلف هنا من باب الإنكار.
وكلام المؤلف هنا عما كان في زمنه، حيث غفلوا عن هذه القصة مع قراءتهم لها في كتب التفسير والحديث، واعتقدوا أن فعل قوم نوح أفضل العبادات، وهذا من أضر ما يكون على المرء أن يعتقد السئ حسناً، قال تعالى: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ)(فاطر: من الآية8)، وقال تعالى: (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (الكهف:103،104).(116/126)
قوله: (واعتقدوا أن ما نهى الله ورسوله عنه فهو الكفر المبيح للدم والمال)، أي: من اعتقد أن الشرك والكفر من أفضل العبادات، وأنه مقرب إلى الله؛ فهذا كفر مبيح لدمه وماله، هذا ما أراد المؤلف، وإن كان لا يسعفه ظاهر كلامه ثم بدا لي ما لعله المراد أن هؤلاء الغالين اعتقدوا أن المنهي عنه هو الكفر المبيح للدم والمال، وأما ما دونه من الغلو؛ فلا نهي فيه، والله أعلم.
الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة. السادسة عشرة: ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك. السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله:(لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم)، فصلوات الله وسلامه عليه، بلغ البلاغ المبين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الخامسة عشرة: التصريح بأنهم لم يريدوا إلا الشفاعة، أي: ما أرادوا إلى الشفاعة، ومع ذلك وقعوا في الشرك.
* السادسة عشرة:ظنهم أن العلماء الذين صوروا الصور أرادوا ذلك،أي: أرادوا أن تشفع لهم،بل ظنوا أنها تنشطهم على العبادة،وهذا ظن فاسد كما سبق(1).
* السابعة عشرة: البيان العظيم في قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تطروني) الحديث، معنى الإطراء: الغلو في المدح، والمبالغة فيه.
وهذا الذي نهى عنه صلى الله عليه وسلم وقع فيه بعض هذه الأمة، بل أشد؛ حتى جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم المرجع في كل شيء، وهذا أعظم من قول الناصرى: المسيح ابن الله، وثالث ثلاثة.
ومعنى: (بلغ)؛ أي: أوصل وبين.
الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين. التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم؛ ففيها بيان معرفة قدر وجوده ومضرة فقده. العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الثامنة عشرة: نصيحته إيانا بهلاك المتنطعين، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم : (هلك المتنطعون)؛ فلم يرد مجرد الخبر، ولكن التحذير من التنطع.(116/127)
* التاسعة عشرة: التصريح بأنها لم تعبد حتى نسي العلم، أي: لم تعبد هذه التمائيل إلا بعد أن نسي العلم واضمحل؛ ففيه دليل على معرفة قدر وجوده أي العلم، وأن وجوده أمر ضروري للأمة؛ لأنه إذا فقد العلم؛ حل الجهل محله، وإذا حل الجهل؛ فلا ضروري للأمة؛ لأنه إذا فقد العلم؛ حل الجهل محله، وإذا حل الجهل؛ فلا تسأل عن حال الناس؛ فسوف لا يعرفون كيف يعبدون الله، ولا كيف يتقربون إليه.
* العشرون: أن سبب فقد العلم موت العلماء، فهذا من أكبر الأسباب لفقد العلم، فإذا مات العلماء؛ لم يبق إلا جهال الخلق يفتون بغير علم.
ومن أسباب فقده أيضاً: الغفلة والإعراض عنه، والتشاغل بأمور الدنيا، وعدم المبالاة به.
ثم إن العلم قد يكون موجوداً وهو معدوم، وذلك فيما إذا كثر القراء الذين يقرؤون العلم ولا يعلمون به، وقل الفقهاء الذين يعملون به؛ فبهذا يصبح العلم عديم الفائدة ووجوده كعدمه ، بل إن في وجوده ضرراً على الأمة؛ لأن العامة إذا رأوا من ينتسب إليه ساكتاً غير عامل بما علم؛ ظنوا أن ما عليه الناس حق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فضرر العلم الذي لا ينفع أشد من ضرر الجهل ، وإذا وجد الجهل ؛ فإن الناس قد يطلبون العلم ويتلمسونه.
· · الخلاصة للباب :
بيان أن الغلو في الصالحين من أسباب الكفر ، وليس هو السبب الوحيد للكفر .
وأن خطر الغلو عظيم ونتائجه وخيمة؛ فالواجب تنزيل الصالحين منازلهم؛ فلا يستوي الصالح والفاسد ، بل ينزل كل منزلته ، ولكن لا نتجاوز به المنزلة فنغلو فيه ؛ فدين الله وسط لا يعطي الإنسان أكثر مما يستحق ، ولا يسلبه ما يستحق ، وهذا هو العدل .
س1 : ما الفرق بين التنطع والغلو والاجتهاد ؟
الجواب : الغلو مجاوزة الحد .
والتنطع معناه : التشدق بالشيء والتعمق فيه ، وهو من أنواع الغلو.(116/128)
أما الاجتهاد ؛ فإنه بذل الجهد لإدراك الحق ، وليس فيه غلو إلا إذا كان المقصود بالاجتهاد كثرة الطاعة غير المشروعة ؛ فقد تؤدي إلى الغلو ، فلو أن الإنسان مثلا أراد أن يقوم ولا ينام ، وأن يصوم النهار ولا يفطر ، وأن يعتزل ملاذ الدنيا كلها ؛ فلا يتزوج ولا يأكل اللحم ولا الفاكهة وما أشبه ذلك ؛ فإن هذا الغلو ، وإن كان الحامل على ذلك الاجتهاد والبر ، ولكن هذا خلاف هدي النبي صلى الله عليه وسلم .
س2 : ما حكم الذهاب إلى قبور الصالحين لقراءة الفاتحة ؟
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجواب : هذا من البدع ، وسواء قلنا يصل الثواب أو لا يصل ؛ فكونك تتخذ القراءة عند القبر خاصة هذا من البدع .
وإنما اختلف السلف فيما إذا قرئت الفاتحة عند الميت بعد دفنه مباشرة أو غيرها من القرآن .
والصحيح أيضا أنه ليس بسنة ، والسنة أن تستغفر له وتسأل له التثبيت.
* * *
باب ما جاء في التغليظ فيمن عبد الله
عند قبر رجل صالح ؛ فكيف إذا عبده؟!
في الصحيح عن عائشة ؛ أن أم سلمة ذكرت لر سول الله صلى الله عليه وسلم كنيسة رأتها بأرض الحبشة ، وما فيها من الصور ، فقال :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( التغليظ ) ، التشديد .
قوله : ( من عبد الله عند قبر رجل صالح ) ، أي : عمل عملا تعبد الله به من قراءة أو صلاة أو صدقة أو غير ذلك .
قوله : ( فكيف إذا عبده ؟ ) ، أي : يكون أشد وأعظم ، وذلك لأن المقابر والقبور للصالحين أو من دونهم من المسلمين أهلها بحاجة إلى الدعاء ؛ فهم يزارون لينفعوا لا لينتفع بهم إلا باتباع السنة في زيارة المقابر ، والثواب الحاصل بذلك ، لكن هذا ليس انتفاعا بأشخاصهم ، بل انتفاع بعمل الإنسان بما أتى به من السنة .
فالزيارة التي يقصد منها الانتفاع بالأموات زيارة بدعية .(116/129)
والزيارة التي يقصد بها نفع الأموات والاعتبار بحالهم زيارة شرعية .
* * *
قوله : ( في (الصحيح) ) ، أي : ( الصحيحين ) وقد سبق الكلام على مثل هذه العبارة في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
( أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح ؛ بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصور ، أولئك شرار الخلق عند الله )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( أم سلمة ) ، كانت ممن هاجر مع زوجها إلى أرض الحبشة ، ولما توفي زوجها أبو سلمة تزوجها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأخبرته وهو في مرض موته بما رأت ؛ كما في ( الصحيح ) .
قولها ( من الصور ) الظاهر أن هذه الصور صور مجسمة وتماثيل منصوبة .
قوله : ( أولئك ) ، المشار إليهم نصارى الحبشة ، ويحتمل أن يراد من فعلوا هذه الأفعال أيا كانوا .
قوله : ( أولئك ) ، يجوز في الكاف الكسر إذا كان الخطاب لأم سلمة، والفتح إذا كان الخطاب باعتبار الجنس .
وقد ذكر العلماء أن في كاف الخطاب المتصل باسم الإشارة ثلاثة أوجه:
الوجه الأول : أن يكون مطابقا للمخاطب المفرد للمفرد والمثنى للمثنى والجمع للجمع ، مذكرا كان أم مؤنثا .
الوجه الثاني : الفتح مطلقا .
الوجه الثالث : الكسر للمؤنث مطلقا ، والفتح للمذكر مطلقا .
فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين(1) : فتنة القبور ، وفتنة التماثيل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأشهرها : أن يكون مطابقا للمخاطب ، ثم الفتح مطلقا ، ثم الفتح للمذكر ، والكسر للمؤنث .
قوله : ( الرجل الصالح أو العبد الصالح ) ، أو : شك من الراوي.
قوله : ( بنوا على قبره ) ، أي : قبر ذلك الرجل الصالح .
قوله : ( صوروا فيه تلك الصور ) ، أي : التي رأت ، والأقرب أنها صورة ذلك الرجل ، وربما أنهم يضيفون إلى صورته صورة بعض الصالحين، وربما تكون الصور على أحجام مختلفة ، فتجمع منها صور كثيرة .(116/130)
قوله : ( أولئك شرار الخلق عند الله ) ، لأن عملهم هذا وسيلة إلى الكفر والشرك ، وهذا أعظم الظلم وأشده ، فما كان وسيلة إليه ؛ فإن صاحبه جدير بأن يكون من شرار الخلق عند الله ـ سبحانه وتعالى ـ .
قوله : ( فهؤلاء جمعوا بين الفتنتين : فتنة القبور ، وفتنة التماثيل )، هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله .
قوله : ( فتنة القبور ) ؛ لأنهم بنوا المساجد عليها .
قوله:( فتنة التماثيل ) ؛ لأنهم صوروا فجمعوا بين فتنتين ، وإنما سمي ذلك فتنة ؛ لأنها سبب لصد الناس عن دينهم،وكل ما كان كذلك ؛ فإنه من الفتنة، قال تعالى : (ألم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (العنكبوت: 1،2 ) ، وقال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) (البروج: من الآية10) ؛ أي : صدوهم ، أو فعلوا ما يصدونهم به عن دين الله .
* * *
ولهما عنها ؛ قالت : لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ طفق يطرح خميصة له على وجهه ، فإذا اغتم بها ؛ كشفها ،فقال وهو كذلك : ( لعنة الله على اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( ولهما ) ، الضمير يعود على البخاري ومسلم ، وإن لم يسبق لهما ذكر ، ولكنه لما كان ذلك مصطلحا معروفا ؛ صح أن يعود الضمير عليهما، وهما لم يذكر اعتمادا على المعروف المعهود .
وقوله : ( عنها ) ؛ أي : عن عائشة .
قالت : ( لما نزل برسول الله ) ، أي : نزل به ملك الموت لقبض روحه.
قوله : ( طفق ) ، من أفعال الشروع ، واسمها مستتر ، وجملة ( يطرح ) خبرها .
قوله : ( خميصة ) ، هي كساء مربع له أعلام كان يطرحه النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه.
قوله : ( فإذا اغتم بها ) ، أي : أصابه الغم بسببها ، وقد احتضر صلى الله عليه وسلم .(116/131)
قوله : ( وهو كذلك ) ، أي : وهو في هذه الحال عند الاحتضار .
قوله : ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، يقول هذا في سياق الموت ، و( لعنة الله ) ؛ أي : طرده وإبعاده ، وهذه الجملة يحتمل أنه يراد بها ظاهر اللفظ ؛ أي : أن النبي صلى الله عليه وسلم يخبر بإن الله لعنهم.
ويحتمل أن يراد بها الدعاء ؛ فتكون خبرية لفظا إنشائية معنى ، والمعنى على هذا الاحتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم وهو في سياق الموت بسبب هذا الفعل .
يحذر ما صنعوا ، ولولا ذلك ؛ أبرز قبره ؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا . أخرجاه(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ) ، الجملة هذه تعليل لقوله : ( لعنة الله على اليهود و النصارى ) ، كأن قائلا يقول : لماذا لعنهم النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فكان الجواب : أنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ؛ أي : أمكنة للسجود ، سواء بنوا مساجد أم لا، يصلون ويعبدون الله تعالى فيها مع أنها مبنية على القبور.
قوله : ( يحذر ما صنعوا ) ، أي : أنه صلى الله عليه وسلم قال في سياق الموت تحيرا لأمته مما صنع هؤلاء ؛ لأنه علم أنه سيموت وأنه ربما يحصل هذا ولو في المستقبل البعيد .
قوله : ( ولولا ذلك أبرز قبره ) ، أبرز؛ أي : أخرج من بيته؛ لأن البروز معناه الظهور ، أي لولا التحذير وخوف أن يتخذ قبره مسجدا ؛ لأخرج ودفن في البقيع مثلا ، لكنه في بيته أصون له، وأبعد عن اتخاذه مسجدا؛ فلهذا لم يبرز قبره، وهذا أحد الأسباب التي أوجبت أن لا يبرز مكان قبره صلى الله عليه وسلم .
ومن أسباب ذلك : إخباره صلى الله عليه وسلم انه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض(2)،ولا مانع أن يكون للحكم الواحد سببان فأكثر ، كما أن السبب الواحد قد يترتب عليه حكمان أو أكثر ؛ كغروب الشمس يترتب عليه جواز إفطار الصائم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/132)
وصلاة المغرب .
قوله : ( غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا ) ، خشي فيها روايتان : خشي وخشي(1) .
فعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منهم الخشية الصحابة رضي الله عنهم وعلى رواية خشي يكون الذي وقعت منه الخشية النبي صلى الله عليه وسلم .
والحقيقة أن الأمر كله حاصل ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأنه ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض ، ولعن اليهود والنصارى لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد خوفا من اتخاذ قبره مسجدا ، والصحابة رضي الله عنهم اتفقوا على أن يدفن صلى الله عليه وسلم في بيته بعد تشاورهم لأنهم خشوا ذلك .
ويجوز أن يكون بعضهم أشار بأن يدفن في بيته ، وليس في ذهنه إلا هذه الخشية ، وبعضهم أشار أن يدفن في بيته وعنده علم بأنه صلى الله عليه وسلم قال ( ما قبض نبي إلا دفن حيث قبض ) ، وخوفا من اتخاذه مسجدا.
في هذا الحديث والحديث السابق : التحذير من اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ، وهم أفضل الصالحين ؛ لأن مرتبة النبيين هي المرتبة الأولي من المراتب الأربع التي قال الله تعالى عنها:(وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً) (النساء:69) .
· · اعتراض وجوابه :
إذا قال قائل : نحن الآن واقعون في مشكلة بالنسبة لفبر الرسول صلى الله عليه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآن ، فإنه في وسط المسجد ؛ فما هو الجواب ؟
قلنا : الجواب على ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن المسجد لم يبن على القبر ؛ بل بني المسجد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .
الوجه الثاني : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدفن في المسجد حتى يقال : إن هذا من دفن الصالحين في المسجد ، بل دفن في بيته .(116/133)
الوجه الثالث : أن إدخال بيوت الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنها بيت عائشة مع المسجد ليس باتفاق من الصحابة ، بل بعد أن انقرض أكثرهم ولم يبق منهم إلا القليل ، وذلك عام 94م تقريبا؛ فليس مما أجازه الصحابة أو أجمعوا عليه، مع أن بعضهم خالف في ذلك ، وممن خالف أيضا سعيد بن المسيب من التابعين ؛ فلم يرض بهذا العمل.
الوجه الرابع : أن القبر ليس في المسجد ، حتى بعد إدخاله ؛ لأنه في حجرة مستقلة عن المسجد ؛ فليس مبنيا عليه ، ولهذا جعل هذا المكان محفوظا ومحوطا بثلاثة جدران ، وجعل الجدار في زاوية منحرفة عن القبلة ، أي مثلث، والركن في الزاوية الشمالية ، بحيث لا يستقبله الإنسان إذا صلى لأنه منحرف .
فبهذا كله يزول الإشكال الذي يحتج به أهل القبور ، ويقولون هذا منذ عهد التابعين إلى اليوم ، والمسلمون قد أقروه ولم ينكروه؛ فنقول : إن الإنكار قد وجد حتى في زمن التابعين ، وليس محل إجماع ، وعلى فرض أنه إجماع ؛ فقد تبين الفرق من الوجوه الأربعة التي ذكرناها .
* * *
ولمسلم عن جندب بن عبد الله ؛ قال : ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول : ( إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل ، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ، ولو كنت متخذا من أمتي خليلا؛ لاتخذت أبا بكر خليلا . ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد ، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ؛ فإني أنهاكم عن ذلك )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( بخمس ) ، أي : خمس ليال ، لكن العرب تطلقها على الأيام والليالي .
قوله : ( أبرأ ) ، البراءة : هي التخلي ؛ أي : أتخلي أن يكون لي منكم خليل .
قوله : ( خليل ) ، هو الذي يبلغ في الحب غايته ؛ لأن حبه يكون قد تخلل الجسم كله ، قال الشاعر يخاطب محبوبته :
قد تخللت مسلك الروح مني وبهذا سمي الخليل خليلا(116/134)
والخلة أعظم أنواع المحبة وأعلاها ، ولم يثبتها الله ـ عز وجل ـ فيما نعلم إلا لاثنين من خلقه ، هما :إبراهيم في قوله تعالى : ( وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً)(النساء: من الآية125)، ومحمد لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ) .
وبهذا تعرف الجهل العظيم الذي يقوله العامة : إن إبراهيم خليل الله، ومحمدا حبيب الله ، وهذا تناقض في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم بهذه المقالة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جعلوا مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم دون مرتبة إبراهيم ، لأنهم إذا جعلوا حبيب الله لم يفرقوا بينه وبين غيره من الناس ؛ فإن الله يحب المحسنين والصابرين ، وغيرهم ممن علق الله بفعلهم المحبة ؛ فعلى رأيهم لا فرق بين الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره ، لكن الخلة ما ذكرها الله إلا لإبراهيم ، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الله اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا .
فالمهم : أن العامة مشكل أمرهم ، دائما يصفون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه حبيب الله ، فنقول : أخطأتم وتنقصتم نبيكم ؛ فالرسول خليل الله ؛ لأنكم إذا وصفتموه بالمحبة أنزلتموه عن بلوغ غايتها .
قوله:( فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا )، هذا تعليل لقوله : ( إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل )؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم ليس في قلبه خلة لأحد إلا لله ـ عز وجل ـ .
قوله : ( ولو كنت متخذا من أمتي خليلا ؛ لاتخذت أبا بكر خليلا ) .
وهذا نص صريح على أن أبا بكر أفضل من علي ، رضي الله عنهما، وفي هذا رد على الرافضة الذين يزعمون أن عليا أفضل من أبي بكر .
وقوله : ( لو ) ، حرف امتناع لامتناع ؛ فيمتنع الجواب لامتناع الشرط ، وعلى هذا امتنع صلى الله عليه وسلم من اتخاذ أبي بكر خليلا لأنه يمتنع أن يتخذ من أمته خليلا.(116/135)
قوله : ( ألا وإن من كان قبلكم )، للتنبيه ، وهذه الجملة في أثناء الحديث لكنه ابتدأها بالتنبيه لأهمية المقام .
قوله : ( ألا فلا تتخذوا )، هذا تنبيه آخر للنهي عن اتخاذ القبور مساجد، وهذا عام يشمل قبره وقبر غيره .
قوله : ( فإني أنهاكم عن ذلك )، هذا نهي باللفظ دون الأداة تأكيدا لهذا
فقد نهى عنه في آخر حياته ، ثم إنه لعن ـ وهو في السياق ـ من فعله .
والصلاة عندها من ذلك وإن لم يبن مسجد .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النهي لأهمية المقام .
· · من فوائد الحديث:
1- 1- أن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ من أن يتخذ أحدا خليلا ؛ لأن قلبه مملوء بمحبة الله تعالى .
2- 2- أن الله تعالى اتخذه خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ؛ ففيه فضيلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم .
3- 3- فضيلة إبراهيم صلى الله عليه وسلم باتخاذه خليلا .
4- 4- فضيلة أبي بكر ، وأنه أفضل الصحابة لأن الحديث يدل على أنه أحب الصحابة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم .
5- 5- التحذير من اتخاذ القبور مساجد في قوله : ( ألا فلا تتخذوا القبور مساجد ) ، قوله : ( فإني أنهاكم عن ذلك ) .
6- 6- أن من دفن شخصا في مسجد وجب عليه نبشه وإخراجه من المسجد.
7- 7- حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في إبعادهم عن الشرك وأسبابه ؛ لأن اتخاذ القبور مساجد من وسائل الشرك وذرائعه ، ولهذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على تحذير أمته منه ، وهذا من كمال رأفته ورحمته بالأمة
8- 8- أن من بنى مسجدا على قبر وجب عليه هدمه .
قوله : ( فقد نهى عنه في آخر حياته …) هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيميه .(116/136)
وهو معنى قولها : ( خشي أن يتخذ مسجدا )؛ فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا ، وكل موضع قصدت الصلاة فيه ؛ فقد اتخذ مسجدا ، بل كل موضع يصلي فيه ؛ يسمى مسجدا ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : ( جعلت لي الأرض مسجدا وطهور )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ( فقد نهى عنه في آخر حياته ) الضمير يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، والمنهي عنه هم اتخاذ القبور مساجد .
قوله : ( ثم إنه لعن وهو في سياق من فعله ) ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو عند فراق الدنيا لعن من اتخذ القبور مساجد .
قوله : ( والصلاة عندها من ذلك ، وإن لم يبن مسجد).
( عندها ) ؛ أي : عند القبور ، وقوله : ( من ذلك ) ؛ أي : من اتخاذها مساجد، وعلى هذا ؛ فلا تجوز عند القبور ، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما في (صحيح مسلم ) من حديث أبي مرثد الغنوي أن يصلى إلى القبور ؛ فقال : ( لا تصلوا إلى القبور ) (2) .
قوله : ( وهو معنى قولها : خشي أن يتخذ مسجدا ) الضمير في ( قولها ) يرجع إلى عائشة رضي الله عنها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( فإن الصحابة لم يكونوا ليبنوا حول قبره مسجدا ) هذا من كلام شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله تعالى .
قد يقال : ( خشي أن يتخذ مسجدا ) معناه : خشي أن يبنى عليه مسجد ، لكن يبعده أن الصحابة لا يمكن أن يبنوا حول قبره مسجدا؛ لأن مسجده لبيته؛ فكيف يبنون مسجدا آخر؟ ! هذا شيء مستحيل بحسب العادة ؛ فيكون معنى قولها: ( خشي أن يتخذ مسجدا ) ؛ أي : مكانا يصلى فيه ، وإن لم يبن المسجد.(116/137)
ولا ريب أن أصل تحريم بناء المساجد على القبور أن المساجد مكان الصلاة، والناس يأتون إليها للصلاة فيها ، فإذا صلى الناس في المسجد بني على قبر ؛ فكأنهم صلوا عند القبر ، والمحذور الذي يوجد في بناء المساجد على القبور يوجد فيما إذا اتخذ هذا المكان للصلاة ؛ وإن لم يبن مسجد .
فتبين بهذا أن اتخاذ القبور مساجد له معنيان :
الأول : أن تبنى عليها مساجد .
الثاني : أن تتخذ مكانا للصلاة عندها وإن لم يبن المسجد فإذا كان هؤلاء القوم مثلا يذهبون إلى هذا القبر ويصلون عنده ويتخذونه مصلي؛ فإن هذا بمعنى بناء المساجد عليها ، وهو أيضا من اتخاذها مساجد .
قوله : ( وكل موضع قصدت الصلاة فيه ؛ فقد اتخذ مسجدا ) .
وهذا يشهد له العرف ؛ فإن الناس الذين لهم مساجد في مكان أعمالهم ؛ كالوزارات و الإدارات لو سألت واحدا منهم أين المسجد ؟ لأشار إلى المكان الذي اتخذوه مصلى يصلون فيه ، مع أنه لم يبن ، لكن لما كانت الصلاة تقصد فيه ؛ صار مسجدا.
قوله : ( بل كل مكان يصلى ….. ) ، فقوله : ( مسجدا )؛ أي : مكانا
ولأحمد بسند جيد عن ابن مسعود (رضي الله عنه) مرفوعاً: إن من شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، والذين يتخذون القبور مساجد) . رواه أبو حاتم في (صحيحه) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للسجود، وهذا معنى ثالث زائد على المعنيين الأولين، وهو أن يقال: كل شيء تصلي فيه، فإنه مسجد ما دمت تصلي فيه، كما يقال للسجادة التي تصلي عليها مسجد مصلى وإن كان الغالب عليها اسم مصلي.
* الخلاصة :
إنه لا يجوز بناء المساجد على القبور؛ لأنها وسيلة إلى الشرك، وهو عبادة صاحب القبر.(116/138)
ولا يجوز أيضاً أن تقصد القبور للصلاة عندها، وهذا من اتخاذها مساجد؛ لأن العلة من اتخاذها مساجد موجودة في الصلاة عنها، فلو فرض أن رجلاً يذهب إلى المقبرة ويصلي عند قبر ولي من الأولياء على زعمه؛ فلنا: إنك اتخذت هذا القبر مسجداً، وإنك مستحق لما استحقه اليهود والنصارى من اللعنة، وفي كلام شيخ الإسلام ابن تيميه دليل على صحة تسمية كل شيء يصلي فيه مسجداً بالمعنى العام.
* * *
قوله: (مرفوعاً) ، المرفوع: ما أسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إن من شرار الناس)، من: للتبعيض، وشرار : جمع شر، مثل صحاب جمع صحب، والمعنى: أصحاب الشر، وفي هذا دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر ، وأن بعضهم أشد من بعض.
قوله: (من تدركهم الساعة)، من: اسم موصول اسم إن ، والساعة؛ أي: يوم القيامة، وسميت بذلك لأنها داهية، وكل شيء داهية عظيمة يسمى ساعة، كما يقال: هذه ساعتك في الأمور الداهية التي تصيب الإنسان.
قوله: (وهم أحياء)، الجملة حال من الهاء في (تدركهم).
وفي قولهم: (تدركهم الساعة وهم أحياء) إشكال، وهو أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله) (1) ، وفي رواية: (حتى تقوم الساعة) (2) ؛ فكيف نوفق بين الحديثين؛ لأن ظاهر الحديث الذي ساقه المؤلف إن كل من تدركهم الساعة وهم أحياء؛ فهم من شرار الخلق ؟ !
والجمع بينهما أن يقال: إن المراد بقوله؛ (حتى تقوم الساعة)؛ أي: إلى قرب قيام الساعة، وليس إلى قيامها بالفعل؛ لأنها لا تقوم إلا على شرار الخلق؛ فالله يرسل ريحاً تقبض نفس كل مؤمن ولا يبقى إلا شرار الخلق، وعليهم تقوم الساعة.
قوله: (الذين يتخذون القبور مساجد)، فهم من شرار الخلق، وإن لم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/139)
يشركوا؛ لأنهم فعلوا وسيلة من وسائل الشرك، والوسائل لها أحكام المقاصد، لكنها تعطى حكمها بالمعنى العام، فإن كانت وسيلة لواجب صارت واجبة، وإن كانت وسيلة لمحرم؛ فهي محرمة.
فشر الناس في هذا الحديث ينقسمون إلى صنفين:
الأول: الذين تدركهم الساعة وهم أحياء.
الثاني: الذين يتخذون القبور مساجد.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم : (إن من شرار الناس) دليل على أن الناس يتفاوتون في الشر؛ لأن بعضهم أشد من بعض فيه، كما أنهم يتفاوتون في الخير أيضاً؛ لقوله تعالى: (هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) (آل عمران:163)، وذلك من حيث الكمية، فمن صلى ركعتين؛ فليس كمن صلى أربعاً.
ومن حيث الكيفية، فمن صلى وهو قانت خاشع حاضر القلب؛ ليس كمن صلى وهو غافل.
ومن حيث النوعية، فالفرض أفضل من النفل، وجنس الصلاة أفضل من جنس الصدقة؛ لأن الصلاة أفضل الأعمال البدنية.
وهذا الذي تدل عليه الأدلة مذهب أهل السنة والجماعة، وهو التفاضل في
الأعمال، حتى في الإيمان الذي هو في القلب يتفاضل الناس فيه، بل إن الإنسان يحس في نفسه أنه في بعض الأحيان يجد في قلبه من الإيمان ما لا يجده في بعض الأحيان؛ فكيف بين شخص وشخص ؟ فهو يتفاضل أكثر.
· · وخلاصة الباب:
أنه يجب البعد عن الشرك ووسائله ، ويغلظ على من عبد الله عند قبر رجل صالح.
* فيه مسائل :
الأولى: ما ذكر الرسول فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكلام المؤلف رحمه الله في قوله: (فيمن عبد الله) يشمل الصلاة وغيرها والأحاديث التي ساقها في الصلاة، لكنه رحمه الله كأنه قاس غيرها عليها، فمن زعم أن الصدقة عند هذا القبر أفضل من غيره؛ فهو شبيه بمن اتخذه مسجداً لأنه يرى أن لهذه البقعة أو لمن فيها شاناً يفضل به على غيره؛ فالشيخ عمم، والدليل خاص.(116/140)
فإن قيل: لا يستدل بالدليل الخاص على العام؟
أجيب: إن الشيخ أراد بذلك أن العلة هي تعظيم هذا المكان؛ لكونه قبراً، وهذا كما يوجد في الصلاة يوجد في غيرها من العبادات؛ فيكون التعميم من باب القياس لا من باب شمول النص له لفظاً.
* * *
فيه مسائل:
* الأول: ما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن بنى مسجداً يعبد الله فيه عند قبر رجل صالح، ولو صحت نية الفاعل، تؤخذ من لعن النبي صلى الله عليه وسلم الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
قوله: (ولو صحت نية الفاعل)؛ لأن الحكم علق على مجرد صورته؛ فهذا العمل لا يحتاج إلى نية لأنه معلق بمجرد الفعل.
فالنية تؤثر في الأعمال الصالحة وتصحيحها، وتؤثر في الأعمال التي لا
الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك. الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك؛ فكيف بين لهم هذا أولاً ، ثم قبل موته بخمس قال ما قال، ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقدر عليها فيعطي أجرها، وما أشبه ذلك، بخلاف ما علق على فعل مجرد؛ فلا حاجة فيه إلى النية.
أي: ولو كان يعبد الله، ولو كان يريد التقرب إلى الله ببناء هذا المسجد اعتباراً بما يؤول إليه الأمر، وبالنتيجة السيئة التي تترتب على ذلك، وهذه النقطة نتدرج منها إلى نقطة أخرى، وهي التحذير من مشابهة المشركين وإن لم يقصد الإنسان المشابهة، وهذه قد تخفى على بعض الناس، حيث يظن أن التشبه إنما يحرم إذا قصدت المشابهة، والشرع إنما علق الحكم بالتشبه؛ أي: بأن يفعل ما يشبه فعلهم، سواء قصد أو لم يقصد، ولهذا قال العلماء في مسألة التشبه: وإن لم ينو ذلك؛ فإن التشبه يحصل بمطلق الصورة.
فإن قيل: قاعدة (إنما الأعمال بالنيات) هل تعارض ما ذكرنا؟
الجواب: لا تعارضه؛ لأن ما علق بالعمل ثبت له حكمة وإن لم ينو الفعل؛ كالأشياء المحرمة؛ كالظهار، والزنا، وما أشبهها.(116/141)
· · الثانية: النهي عن التماثيل وغلظ الأمر في ذلك، تؤخذ من قوله: (وصوروا فيه تلك الصور)، ولا سيما إذا كانت هذه الصور معظمة عادة؛ كالرؤساء، والزعماء، والأب، والأخ، والعم.
* الثالثة: العبرة في مبالغته صلى الله عليه وسلم في ذلك، كيف بين لهم هذا أولاً، ثم قبل موته بخمس قال ما قال ؟ ! ثم لما كان في السياق لم يكتف بما تقدم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا مما يدل على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على حماية جانب التوحيد؛ لأنه خلاصة دعوة الرسل، ولأن التوحيد أعظم الطاعات؛ فالمعاصي ولو كبرت أهون من الشرك، حتى قال ابن مسعود: (لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلى من أن أحلف بغيره صادقاً) (1) ؛ لأن الحلف بغيره نوع من الشرك، والحلف بالله كاذباً معصية، وهي أهون من الشرك.
فالشرك أمره عظيم جداُ، ونحن نحذر إخواننا المسلمين مما هم عليه الآن من الانكباب العظيم على الدنيا حتى غفلوا عما خلقوا له، واشتغلوا بما خلق لهم؛ فعامة الناس الآن تجدهم مشتغلين بالدنيا، وليس في أفكارهم إلا الدنيا قائمين وقاعدين ونائمين ومستيقظين، وهذا في الحقيقة نوع من الشرك؛ لأنه يوجب الغفلة عن الله ـ عز وجل ـ ، ولهذا سمى النبي صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك عبداً لما تعبد له، فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) (2) ، ولو أقبل العبد على الله بقلبه وجوارحه لحصل ما قدر له من الدنيا؛ فالدنيا وسيلة وليست غاية، وتعس من جعلها غاية، كيف تجعلها غاية وأنت لا تدري مقامك فيها ؟ ! وكيف تجعلها غاية وسرورها مصحوب بالأحزان؛ كما قال الشاعر:
فيوم علينا ويوم لنا ويوم نُساء ويوم نُسر
فالحاصل : أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث لتحقيق عبادة الله، ولهذا كان حريصاً على سد كل الأبواب التي تؤدي إلى الشرك؛ فالرسول صلى الله(116/142)
الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره قبل أن يوجد القبر. الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم. السادسة: لعنه إياهم على ذلك. السابعة: أن مراده صلى الله عليه وسلم تحذيره إيانا عن قبره.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليه وسلم حذر من اتخاذ القبور مساجد ثلاث مرات:
الأولى: في سائر حياته.
والثانية: قبل موته بخمس.
والثالثة: وهو في السياق.
· · الرابعة: نهيه عن فعله عند قبره أن يوجد القبر، تؤخذ من قوله: (ألا فلا تتخذوا القبور مساجد) ؛ فإن قبره داخل في ذلك بلا شك، بل أول ما يدخل فيه.
· · الخامسة: أنه من سنن اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم، تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، وبئس رجلاً جعل إمامه اليهود والنصارى وتشبه بهم في قبيح أعمالهم.
· · السادسة: لعنه إياهم على ذلك، تؤخذ من قوله: (لعنه الله على اليهود والنصارى).
· · السابعة: أن مراده تحذيره إيانا عن قبره، تؤخذ من قول عائشة: (يحذر ما صنعوا)؛ أي: ما صنعه اليهود والنصارى في قبور أنبيائهم.
الثامنة: العلة في عدم إبرار قبره. التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً. العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليهم الساعة، فذكر الذرية إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الثامنة: العلة في عدم إبراز قبره، تؤخذ من قول عائشة: (ولولا ذلك أبرز قبره؛ غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً).
هناك علة أخرى،وهي:إخباره بأنه ما من نبي يموت إلا دفن حيث يموت(1)، ولا يمتنع أن يكون للحكم علتان، كما لا يمتنع أن يكون للعلة حكمان.
* التاسعة: في معنى اتخاذها مسجداً، سبق أن ذكرنا أن لها معنيين:
1 ـ بناء المساجد عليها.
2 ـ اتخاذها مكاناً للصلاة تقصد فيصلى عندها، بل إن من صلى عندها ولم يتخذها للصلاة؛ فقد اتخذها مسجداً بالمعنى العام.(116/143)
* العاشرة: أنه قرن بين من اتخذها مسجداً وبين من تقوم عليه الساعة؛ فذكر الذريعة إلى الشرك قبل وقوعه مع خاتمته.
ومعنى هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر التحذير من الشرك قبل أن يموت.
وقوله: (مع خاتمته)، وهي أن من تقوم عليهم شرار الخلق والذين تقوم عليهم الساعة وهم أحياء هؤلاء الكفار، والذين يتخذون القبور مساجد هؤلاء فعلوا أسباب الشرك والكفر.
الحادية عشرة: ذكره في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع، بل أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة، وهم الرافضة والجهمية، وبسبب الرافضة حدث الشرك وعبادة القبور، وهم أول من بنى عليها المساجد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· · الحادية عشرة: ذكر في خطبته قبل موته بخمس الرد على الطائفتين اللتين هما أشر أهل البدع
قوله: (قبل أن يموت بخمس) ، أي: خمس ليال، والعرب يعبرون عن الأيام بالليالي وبالعكس.
قوله: (أشر أهل البدع) ، يقال: أشر، ويقال: شر؛ بحذف الهمزة، وهو الأكثر استعمالاً.
وإنما تكلم المؤلف رحمه الله عن حال الرافضة والجهمية وحكمهما قبل ذكر اسمهما من أجل تهييج النفس على معرفتهما والاطلاع عليهما؛ لأن الإنسان إذا ذكر له الحكم والوصف قبل ذكر الموصوف والمحكوم عليه؛ صارت نفسه تتطلع وتتشوق إلى هذا، فلو قال من أول الكلام: الرد على الرافضة والجهمية؛ فلا يكون للإنسان التشوق مثل ما لو تكلم عن حالهما وحكمهما أولاً.
وحالهما: أنها أشر أهل البدع.
وحكمهم: أن بعض أهل العلم أخرجهم من الثنتين والسبعين فرقة.
والرافضة: اسم فاعل من رفض الشيء إذا استبعده، وسموا بذلك لأنهم رفضوا زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب حين سألوه: ما تقول في
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/144)
أبي بكر وعمر ؟ فأثنى عليهما ، وقال: هما وزيرا جدي. فرفضوه وتركوه، وكانوا في السابق معه، لكن لما قال الحق المخالف لأهوائهم، نفروا منه والعياذ بالله، فسموا رافضة.
وأصل مذهبهم من عبدالله بن سبأ، وهو يهودي تلبس بالإسلام، فأظهر التشيع لآل البيت والغلو فيهم ليشغل الناس عن دين الإسلام ويفسده كما أفسد بولص دين النصارى عندما تلبس بالنصرانية.
وأول ما أظهر ابن سبأ بدعته في عهد علي بن أبي طالب، حتى إنه جاءه وقال: أنت الله حقاً ـ والعياذ بالله ـ . فأمر علي بالأخدود فحفرت، وأمر بالحطب فجمع، وبالنار فأوقدت، ثم أحرقهم بها؛ إلا أنه يقال: إن عبدالله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر ونشر بدعته؛ فالله أعلم.
فالمهم أن علياً رضي الله عنه رأى أمراً لم يحتمله، حيث ادعوا فيه الألوهية فأحرقهم بالنار إحراقاً، ثم بدأت هذه الفرقة الخبيثة تتكاثر؛ لأن شعارها في الحقيقة النفاق الذي يسمونه التقية، ولهذا كانت هذه الفرقة أخطر ما يكون على الإسلام؛ لأنها تتظاهر بالإسلام والدعوة إليه، وتقيم شعائره الظاهرة؛ كتحريم الخمور وما أشبه ذلك، لكنها تناقضه في الباطن؛ فهم يرون أئمتهم آلهة تدير الكون، وأنهم أفضل من الأنبياء والملائكة والأولياء، وأنهم في مرتبة لا ينالها ملك مقرب ولا نبي مرسل، وهؤلاء كيف يصح أن تقبل منهم دعوى الإسلام، ولذلك يقول عنهم شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله في كثير من كتبه قولاً إذا اطلع عليه الإنسان عرف حالهم: (إنهم أشد الناس ضرراً على الإسلام، وأنهم هجروا المساجد وعمروا المشاهد)؛ فهم يقولون: لا نصلي جماعة إلا خلف إمام معصوم ولا معصوم الآن، وهم أول من بنى المشاهد على القبور كما قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/145)
الشيخ هنا، ورموا أفضل أتباع الرسول على الإطلاق ـ وهما أبو بكر وعمر ـ بالنفاق، وإنهما ماتا على ذلك؛ كعبدالله بن أبي بن سلول والعياذ بالله؛ فانظر بماذا تحكم على هؤلاء بعد معرفة معتقدهم ومنهجهم ؟ !
وأما الجهمية؛ فهم أتباع الجهم بن صفوان، وأول بدعته أنه أنكر صفات الله، وقال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً؛ فأنك المحبة والكلام ، ثم بدأت هذه البدعة تنتشر وتتسع، فاتقنها طوائف غير الجهمية؛ كالمعتزلة ومتأخري الرافضة؛ لأن الرافضة كانوا بالأول مشبهة، ولهذا قال أهل العلم: أول من عرف بالتشبيه هشام بن الحكم الرافضي، ثم تحولوا من التشبيه إلى التعطيل، وصاروا ينكرون الصفات.
والجهم بن صفوان أخذ بدعته عن الجعد بن درهم، والجعد أخذ بدعته عن أبان بن سمعان، وأبان أخذها عن طالوت الذي أخذها عن لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم؛ فتكون بدعة التعطيل أصلها من اليهود، ثم إن الجهم بن صفوان نشأ في بلاد خرسان، وفيها كثير من الصائبة وعباد الكواكب والفلاسفة، فأخذ منهم أيضاً ما أخذ، فصارت هذه البدعة مركبة من اليهودية والصابئة والمشركين.
وانتشرت هذه البدعة في الأمة الإسلامية، وهؤلاء الجهمية معطلة في الصفات ينكرون الصفات، ومنهم من أنكر الأسماء مع الصفات، وهذه الأسماء التي يضيفها الله ـ سبحانه ـ إلى نفسه جعلوها إضافات وليست حقيقة، أو أنها أسماء لبعض مخلوقاته؛ فالسميع عندهم بمعنى من خلق السمع في غيره والبصير كذلك، وهكذا .
ومنهم من أنكر أن يكون الله متصفاً بالإثبات أو العدم ، فقالوا: لا يجوز
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(116/146)
أن نثبت لله صفة أو ننفي عنه صفة؛ حتى قالوا: لا يجوز أن نقول عنه: إنه موجود ولا إنه معدوم؛ لأننا قلنا موجود شبهناه بالموجودات، وإن قلنا بأنه معدوم شبهناه بالمعدومات؛ فنقول: لا موجود ولا معدوم؛ فكابروا المعقول، وكذبوا المنقول، وهذا لا يمكن؛ لأن تقابل الوجود والعدم من تقابل النقيضين اللذين لا يمكن ارتفاعهما ولا اجتماعهما، بل لابد أن يوجد أحدهما، فوصف الله بذلك تشبيه له بالممتنعات على قاعدتهم.
ومذهبهم في القضاء والقدر: الجبر، فيقولون: إن الإنسان مجبر على عمله يعمل بدون اختياره إن صلى؛ فهو مجبر، وإن قتل؛ فهو مجبر، وهكذا؛ فعطلوا بذلك حكمة الله لأنه إذا كان كل عامل مجبراً على عمله لم يكن هناك حكمة في الثواب والعقاب، بل بمجرد المشيئة يعاقب هذا ويثيب هذا، وبذلك عطلوا عن الفاعلين أوصاف المدح والذم، فلا يمكن أن تمدح إنساناً أو تذمه؛ لأن العاصي مجبر والمطيع مجبر.
ويقال لهم: إنكم إذا قلتم ذلك أثبتم أن الله أظلم الظالمين؛ لأنه كيف يعاقب العاصي وهو مجبر على المعصية ؟ ويثيب الطائع وهو مجبر على طاعته ؟ فيكون أعطى من لا يستحق؛ وعاقب من لا يستحق، وهذا ظلم.
فقالوا: هذا ليس بظلم؛ لأن الظلم تصرف المالك في غير ملكه، وهذا تصرف من المالك في ملكه يفعل به ما يشاء.
وأجيب: بأنه باطل؛ لأنه المالك إذا كان متصفاً بصفات الكمال لن يخلف وعده، وقد قال الله تعالى: (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (طه:112) ، فلو أخلف هذا الوعد؛ لكان نقصاً في حقه وظلماً لخلقه، حيث وعدهم فأخلفهم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومذهبهم في أسماء الإيمان والدين الإرجاء، فيقولون: إن الإيمان مجرد اعتراف الإنسان بالخالق على الوصف المعطل عن الصفات حسب طريقتهم، وأن الأقوال والأعمال لا مدخل لها في الإيمان، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص.(116/147)
ومن هذه الأمور الثلاثة قالوا: إن أفسق وأعدل عباد الله في الإيمان سواء، بل قالوا إن فرعون مؤمن كامل الإيمان، وجبريل مؤمن كامل الإيمان، لكن فرعون كفر؛ لأنه ادعى الربوبيه لنفسه فقط، فصار بذلك كافراً.
قال ابن القيم عنهم:
والناس في الإيمان شيء واحد كالمشط عند تماثل الأسنان
فمذهبهم من أخبث المذاهب إن لم نقل أخبثها، لكن أخبث من مذهب الرافضة، حتى قال شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله: (إن جميع البدع أصلها من الرافضة)؛ فهم أصل البلية في الإسلام، ولهذا قال المؤلف: (أخرجهم بعض أهل العلم من الثنتين والسبعين فرقة)، ولعل الصواب من الثلاث والسبعين فرقة، أو أن الصواب أخرجهم إلى الثنتين والسبعين؛ أي: أخرجهم من الثالثة التي كان عليها الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ لأن المعروف أن هذه الأمة تفترق على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، وهي من كانت على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وصدق رحمه الله في قوله عن هاتين الطائفتين الرافضة والجهمية: (شر أهل البدع).
وقد قتل الجهم بن صفوان سلمة بن أحوز شرطة نصر بن سبأ لأن اظهر هذا المذهب ونشره.
وقول المؤلف: (وبسبب الرافضة حديث الشك، وعبادة القبور، وهم أول من
الثانية عشرة: ما بلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع.
الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بنى عليها المساجد)، ولهذا يجب الحذر من بدعتهم وبدعة الجهمية وغيرها، ولا شك أن البدع دركات بعضها أسفل من بعض؛ فعلى المرء الحذر من البدع، وأن يكون متبعاً لمنهج السلف الصالح في هذا الباب وفي غيره.(116/148)
* الثانية عشرة: ما بُلي به صلى الله عليه وسلم من شدة النزع، تؤخذ من قولها: (طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها)، وفي هذا دليل على شدة نزعه، وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمرض ويوعك كما يوعك الرجلان (1) من الناس، وهذا من حكمة الله ـ عز وجل ـ ؛ فهو صلى الله عليه وسلم شدد عليه البلاء في مقابلة دعوته وأُوذي إيذاءً عظيماً ، وكذلك أيضاً فيما يصيبه من الأمراض يضاعف عليه، والحكمة من ذلك لأجل أن ينال أعلى درجات الصبر؛ لأن الإنسان إذا ابتلي بالشر وصبر كان ذلك أرفع لدرجته.
والصبر درجة عالية لا تنال إلا بوجود أسبابها، ومنها الابتلاء؛ فيصبر ويحتسب حتى ينال درجة الصابرين.
* الثالثة عشرة: ما أكرم به من الخلة، ويدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، ولا شك أن هذه الكرامة عظيمة؛ لأننا لا نعلم أحداً نال هذه المرتبة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم صلى الله عليه وسلم .
الرابعة عشر: التصريح بأنها أعلى من المحبة. الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الرابعة عشرة: التصريح بأنها أعلى من المحبة، ودليل ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يحب أبا بكر، وكان أحب الناس إليه؛ فأثبت له المحبة، ونفى عنه الخلة؛ فدل هذا على أنها أعلى من المحبة، ، والتصريح ليس من هذا الحديث فقط، بل بضمه إلى غيره؛ فقد ورد من حديث آخر أنه صرح: (بأن أبا بكر أحب الرجال إليه) (1) ، ثم قال هنا : (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً؛ لاتخذت أبا بكر خليلاً) فدل على أن الخلة أعلى من المحبة.
* الخامسة عشرة: التصريح بأن الصديق أفضل الصحابة، تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم : (ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً؛ لاتخذت أبا بكر خليلاً)، فلو كان غيره أفضل منه عند النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لكان أحق بذلك.
ومن المسائل الهامة أيضاً:(116/149)
أن الأفضلية في الإيمان والعمل الصالح فوق الأفضلية بالنسب؛ لأننا لو راعينا الأفضلية بالنسب؛ لكان حمزة بن عبدالمطلب والعباس رضي الله عنهما أحق من أبي بكر في ذلك ، ومن ثم قدم أبو بكر رضي الله عنه على علي بن أبي طالب وغيره من آل النبي صلى الله عليه وسلم.
السادسة عشرة : الإشارة إلى خلافته.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* السادسة عشرة: الإشارة إلى خلافته، لم يقل التصريح، وإنما قال: الإشارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: إن أبا بكر هو الخليفة من بعده، لكن لما قال: (لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً؛ لاتخذت أبا بكر خليلاً) علم أنه رضي الله عنه أولى الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فيكون أحق الناس بخلافته.
* * *
---
(1) مسند الإمام أحمد (3/419)، وسنن أبي داود: كتاب الأيمان والنذور/باب ما يؤمن به من الوفاء بالنذر.
(2) البخاري: كتاب القدر/ باب إلقاء العبد النذر إلى القدر، ومسلم: كتاب النذر/ باب النهي عن النذر.
(1) البخاري: كتاب الأيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة.
(1) البخاري : كتاب الأيمان والنذور/ باب النذر في الطاعة.
(2) مسلم: كتاب النذر/ باب لا وفاء لنذر في معصية الله.
(3) رواه ابن ماجة والترمذي وصححه، وأصله في مسلم.
(1) تقدم (ص 232).
(2) تقدم( ص 232).
(3) تقدم ( ص 232).
(1) تقدم (ص232) .
(1) البخاري : كتاب الأيمان و النذور /باب النذر في الطاعة .
(1) تقدم (ص229) .
(1) مسلم: كتاب الذكر والدعاء، باب في التعوذ من سوء القضاء.
(1) مسلم: كتاب السلام/باب استحباب وضع يده على موضع الألم.
(1) البخاري: كتاب الفتن/باب تكون فتنة القاعد فيها خير من القائم، ومسلم: كتاب الفتن/باب نزول الفتن.
(2) مسلم: كتاب الحدود/ باب حد قطع السارق الشريف وغيره …….
(3) مسلم: كتاب الأيمان/ باب صحبة المماليك وكفارة من لطم عبده.(116/150)
(4) مسلم: كتاب الفتن/ باب الخسف بالجيش الذي يؤم البيت
(1) البخاري : كتاب البيوع/باب إذا أراد بيع تمر بتمر خير منه، ومسلم: كتاب المساقاة، باب بيع الطعام مثلاً بمثل.
(1) مسند الإمام أحمد (4/267) ، والترمذي : الدعوات /باب الدعاء مخ العبادة ، وقال : ( حديث حسن صحيح ) ـ، والحاكم (1/490) ـ وصححه ووافقه الذهبي ـ.
(2) تقدم ( ص110) .
(3) تقدم (ص149) .
(1) سبق (ص66) .
(1) مسند الإمام أحمد (1/293) –وصححه أحمد شاكر ( 2669)، والترمذي: أبواب صفة القيامة /باب ولكن يا حنظلة ساعة و ساعة ، 7/203-وقال : ( حديث حسن صحيح ) -.
(2) من حديث أنس ، رواه : الطبراني .
(1) البخاري : كتاب صفة الصلاة / باب الذكر بعد الصلاة ، ومسلم : كتاب المساجد /باب استحباب الذكر بعد الصلاة.
(1) مسلم: كتاب الفضائل/ باب تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق.
(1) الطبراني في (المعجم الكبير)، كما في (معجم الزوائد) (10/159).
(1) البخاري : كتاب التوحيد /باب قول الله تعالى : ( وجوه يومئذ ناضرة )، ومسلم : كتاب الإيمان /باب معرفة طريق الرؤية .
(1) (1)ذكره السيوطي في ( الجامع الصغير ) ، 2/151، وابن عبد البر في ( الاستذكار ) ، 2/164، وانظر ( الروح ) لابن القيم (1/167) ، وفتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية (24/331) .
(2) (2)مسلم : كتاب الجنائز /باب ما يقال عند دخول القبور .
(3)البخاري /كتاب الجنائز /باب الميت يسمع خفق النعال ، ومسلم : كتاب الجنة ونعيمها /باب عرض مقعد الميت..
(4)البخاري /كتاب الاستئذان /باب السلام اسم من أسماء الله تعالى ، ومسلم : كتاب الصلاة /باب التشهد في الصلاة.
(1) البخاري : تعلقا ( الفتح ، 7/365) ، ومسلم موصولا : كتاب الجهاد /باب غزوة أحد .
(1) مسلم : كتاب البر والصلة/ باب النهي عن تقنيط الإنسان من رحمة الله.
(1) البخاري : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة/باب (ليس لك من الأمر شيء).(116/151)
(1) البخاري: كتاب المغازي/باب (ليس لك من الأمر شيء) مرسلاً ، ووصله الإمام أحمد في (المسند)2/93 .
(1) البخاري: كتاب التفسير/باب (وأنذر عشيرتك الأقربين)، ومسلم: كتاب الإيمان/باب (وأنذر عشيرتك الأقربين).
(1) البخاري: كتاب الجهاد/باب من صف أصحابه عند الهزيمة، ومسلم: كتاب الجهاد/ باب غزوة حنين.
(1) مسند الإمام أحمد (1/301) ، والحاكم (1/255) ، وصححه ووافقه الذهبي.
(2) البخاري: كتاب الحيل/باب ما يكره من الاحتيال في الفرار من الطاعون … ، ومسلم: كتاب السلام/باب الطاعون والطيرة.
(1) البخاري : كتاب الأذان/باب الأذان للمسافرين.
(2) مسلم: كتاب المساجد/باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته.
(1) البخاري: كتاب صفة الصلاة/ باب فضل اللهم ربنا ولك الحمد، ومسلم: كتاب المساجد/باب استحباب القنوت في جميع الصلاة إذا نزلت بالمسلمين نازلة.
(2) البخاري: كتاب الاستسقاء/باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم : (اجعلها عليهم سنين كسني يوسف)، ومسلم: كتاب المساجد/باب استحباب القنوت . . . .
(3) البخاري: كتاب المغازي/باب فضل من شهد بدراً.
(1) الحاكم في (المستدرك) (كتاب التفسير، تفسير سورة أبي لهب، 2/539)، وقال: (صحيح الإسناد)، ولم يخرجاه)، ووافقه الذهبي.
(1) البخاري : كتاب التفسير /باب قول الله تعالى : ( فكان قاب قوسين ) ، ومسلم : كتاب الإيمان /باب في ذكر سدرة المنتهى .
(1) البخاري : كتاب الفرائض /باب ميراث ابنة ابن مع ابنة .
(1) البخاري : كتاب التفسير /باب ( حتى إذا فزع عن قلوبهم ) .
(1) (كتاب السلام /باب تحريم الكهانة).
(1) تفسير ابن جرير الطبري (22/91) ، وابن كثير في تفسيره (6/504).
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي/باب بدء الوحي، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بدء الوحي.
(2) مسلم: كتاب الجهاد/باب غزوة ذي قرد.
(1) يأتي (ص332).(116/152)
(1) البخاري : كتاب التفسير /باب ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبد شكورا ) ، ومسلم : كتاب الإيمان /باب أدنى أهل الجنة منزلة .
(1) البخاري : كتاب الفضائل / باب قصة أبي طالب ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب.
(2) مسلم : كتاب الجنائز / باب من صلى عليه أربعون .
(1) مسلم : كتاب الجنائز /باب في إغماض الميت .
(2) تقدم (ص325) .
(1) (ص325).
(1) البخاري : كتاب الرقاق / باب صفة الجنة والنار ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها .
(1) البخاري ك كتاب العلم/ باب الحرص على الحديث.
(1) البخاري : كتاب الإيمان/باب فضل من استبرأ لدينه، ومسلم : كتاب المساقاة/باب أخذ الحلال وترك الشبهات .
(1) تقدم (ص 336).
(1) مسلم: كتاب الإيمان/باب الدليل على صحة إسلام من حضره الموت.
(1) مسلم : كتاب الإيمان / باب في قوله عليه الصلاة و السلام : ( إن الله لا ينام ) .
(1)البخاري : كتاب التفسير / باب ( إنك لا تهدي من أحببت ) ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب الدليل على صحة إسلامه من حضره الموت .
(2) مسلم : كتاب الجنائز / باب استئذان النبي صلي الله عليه وسلم ربه عز وجل زيارة أمه .
(1) (ص340) .
(1) (1) تقدم (ص345).
(1) مسلم : كتاب القدر / باب تصريف الله تعالى للقلوب كيف يشاء .
(1) البخاري : كتاب البيوع/ في العطار وبيع المسك ، ومسلم كتاب البر / باب استحباب مجالسة الصالحين .
(1) تقدم (ص25).
(2) مسند الإمام أحمد (2/303) ، والترمذي : كتاب الزهد / باب الرجل على دين خليله ) ـ وقال : ( حسن غريب ) ـ، والحاكم (4/188) ـ وقال : ( صحيح ووافقه الذهبي ) ـ.
(1) البخاري: كتاب الجنائز/باب ثناء الناس على الميت، ومسلم: كتاب الجنائز/باب فيمن يثنى عليه خير أوشر.(116/153)
(2) البخاري: كتاب فضائل الصحابة/باب قصة أبي طالب، ومسلم: كتاب الإيمان/باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي طالب.
(1) البخاري : كتاب التهجد/باب ما يكره من التشديد في العبادة، ومسلم: كتاب صلاة المسافر/باب أمر من نعس في صلاته . . . .
(1) البخاري: كتاب التفسير/باب (وداً ولا سواعاً ولا يغوث).
(1) البخاري : كتاب الأنبياء / باب ( واذكر في الكتاب مريم ) .
(1) مسند الإمام أحمد (1/215،347)، وابن ماجة : كتاب المناسك / باب قدر الحصى ، 2/1008، والحاكم (1/466) ـ وصححه على شرط الشيخين ، ووافقه الذهبي ـ.
(1) البخاري : كتاب الأنبياء / باب قول الله تعالى ( أم حسبت أن أصحاب الكهف ) ، ومسلم : كتاب الحدود / باب قطع السارق الشريف وغيره.
(1) مسلم : كتاب العلم / باب هلك المتنطعون .
(1) مسلم : كتاب الجمعة/ باب تخفيف الصلاة والخطبة.
(1) مسلم: كتاب الصيام/باب استحباب صيام ثلاثة أيام من كل شهر.
(2) الرمزي: كتاب الصوم/ باب ما جاء في صوم الاثنين والخميس، 3/94، وقال: (حديث حسن غريب).
(1) مسند الإمام أحمد (3/103)، وسنن أبي داود: كتاب الصلاة/ باب صلاة العيدين.
(1) تقدم (ص 203).
(2) مسند الإمام أحمد (2/297) وصححه أحمد شاكر، والترمذي: كتاب التفسير/باب (ويل للمطففين)، 9/69ـ وقال: (حسن صحيح) ـ ، والحاكم (2/517) ـ وصححه ووافقه الذهبي ـ .
(3) مسند الإمام أحمد (5/231)، وصححه الألباني في (الصحيحة) (1/389).
(1) سنن أبو داود: كتاب الطهارة/باب في المتيمم يجد الماء بعد ما صلى، والحاكم (1/179)، وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، صحيح أبي داود (1/69).
(2) الحديث السابق (رقم 1).
(3) تقدم (ص 203).
(1) البخاري: كتاب الوضوء/باب التيمن في الوضوء والغسل، ومسلم: كتاب الطهارة/باب التيمن في الطهور وغيره.
(1) أنظر : (ص 374).(116/154)
(1) البخاري : كتاب الصلاة / باب بناء المسجد على القبر ، ومسلم : كتاب المساجد / باب النهي عن بناء المساجد على القبور .
(1) نسخة : ( فتنتين ) .
(1) البخاري : كتاب الجنائز / باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور ، ومسلم : كتاب المساجد / باب النهي عن بناء المساجد على القبور .
(2) مسند الإمام أحمد (1/7)، والترمذي : كتاب الجنائز /باب حدثنا أبو كريب ، 3/394ـ وضعفه ـ.
(1) البخاري : كتاب الجنائز / باب ما جاء في قبر النبي صلى الله عليه وسلم .
(1) مسلم : كتاب المساجد / باب النهي عن بناء المساجد على القبور .
(1) البخاري : كتاب المساجد / باب قول النبي صلي الله عليه وسلم : ( حعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ) ، ومسلم : أوائل كتاب المساجد .
(2) مسلم : كتاب الجنائز / باب النهي عن الجلوس على القبر .
(1) مسند الإمام أحمد (1/435)، وابن خزيمة في (الصحيح) (789) ـ وقال شيخ الإسلام : (إسناد جيد) ـ ، (الاقتضاء)، (2/568).
(1) البخاري: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة/باب (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق)، ومسلم: كتاب الإمارة/باب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي).
(2) مسلم : كتاب الإمارة/باب قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي).
(1) تقدم ( ص 199) .
(2) تقدم ( ص 23) .
(1) تقدم (ص 392)
(1) البخاري : كتاب المرضى/باب أشد بلاء الأنبياء، ومسلم: كتاب البر والصلة/باب ثواب المؤمن فيما يصيبه من مرض أو حزن.
(1) البخاري : كتاب الفضائل/ باب فضائل أبي بكر، ومسلم : كتاب الفضائل / باب باب فضائل أبي بكر .(116/155)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد التاسع
القول المفيد شرح كتاب التوحيد - الأول / ج
محمد بن صالح العثيمين
باب ما جاء أن الغلو في قبور الصالحين
يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب له صلة بما قبله، وهو أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله.
أي: يؤول الأمر بالغالين إلى أن يعبدوا هذه القبور أو أصحابها.
والغلو: مجاوزة الحد مدحاً أو ذماً ، والمراد هنا مدحاً.
والقبور لها حق علينا من وجهين:
1- أن لا نفرط فيما يجب ليها من الاحترام؛ فلا تجوز إهانتها ولا الجلوس عليها، وما أشبه ذلك.
2- أن لا نغلو فيها فنتجاوز الحد.
وفي (صحيح مسلم) قال علي بن أبي طالب لأبي الهياج الأسدي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ أن لا تدع تمثالاً إلا طمسته، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته) (1) ، وفي رواية : (ولا صورة إلا طمستها).
والقبر المشرف : هو الذي يتميز عن سائر القبور؛ فلا بد أن يسوى ليساويها لئلا يظن أن لصاحب هذا القبر خصوصية ولو بعد زمن : إذ هو وسيلة إلى الغلو فيه .
قوله : (الصالحين)، يشمل الأنبياء والأولياء ، بل ومن دونهم.
روى مالك في (الموطأ)؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أوثاناً)، جمع وثن، وهو كل ما نصب للعبادة، وقد يقال له: صنم، والصنم: تمثال ممثل؛ فيكون الوثن أعم.
ولكن ظاهر كلام المؤلف أن كل ما يعبد من دون الله يسمى وثناً، وإن لم يكن على تمثال نصب؛ لأن القبور قد لا يكون لها تمثال ينصب على القبر فيعبد.(117/1)
قوله: (تعبد من دون الله)، أي: من غيره، وهو شامل لما إذا عبدت وحدها أو عبدت مع الله؛ لأن الواجب في عبادة الله إفراده فيها، فإذا قرن بها غيره صارت عبادة لغير الله، وقد ثبت في الحديث القدسي أن الله تعالى يقول: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيره تركته وشريكه)(2).
* * *
قوله: (في (الموطأ) ) ، كتاب مشهور من أصح الكتب؛ لأنه رحمه الله تحرى فيه صحة السند ، وسنده أعلى من سند البخاري لقربه من الرسول صلى الله عليه وسلم وكلما كان السند أعلى كان إلى الصحة أقرب، وفيه مع الأحاديث آثار عن الصحابة، وفيه أيضاً كلام وبحث للإمام مالك نفسه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقد شرحه كثير من أهل العلم، ومن أوسع شروحه وأحسنها في الرواية والدراية: (التمهيد) لابن عبدالبر، وهذا ـ أعني (التمهيد) ـ فيه علم كثير.
قوله: (اللهم)، أصلها: يا الله ! فحذفت يا النداء لأجل البداءة باسم الله، وعوض عنها الميم الدالة على الجمع؛ فكأن الداعي جمع قلبه على الله، وكانت الميم في الآخر لأجل البداءة باسم الله.
قوله: (لا تجعل قبري وثناً يعبد)، لا: للدعاء؛ لأنها طلب من الله، وتجعل: تصير، والمفعول الأول لها : (قبري)، والثاني: (وثناً).
وقوله: (يعبد)، صفة لوثن، وهي صفة كاشفة؛ لأنه الوثن هو الذي يعبد من دون الله.
وإنما سأل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك لأن من كان قبلنا جعلوا قبور أنبيائهم مساجد وعبدوا صالحيهم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه أن لا يجعل قبره وثناً يعبد؛ لأن دعوته كلها بالتوحيد ومحارببة الشرك.
قوله: (اشتد)، أي: عظم.
قوله: (غضب الله)، صفة حقيقية ثابتة لله ـ عز وجل ـ لا تماثل غضب المخلوق لا في الحقيقة ولا في الأثر. وقال أهل التأويل: غضب الله هو الانتقام ممن عصاه، وبعضهم يقول: إرادة الانتقام ممن عصاه.(117/2)
وهذا تحريف للكلام عن مواضعه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: انتقم الله، وإنما قال: اشتد غضب الله، وهو صلى الله عليه وسلم يعرف كيف يعبر، ويعرف الفرق بين غضب الله وبين الانتقام، وهو أنصح الخلف وأعلم الخلق بربه، فلا يمكن أن يأتي بكلام وهو يريد خلافه؛ لأنه لو أتى بذلك لكان ملبساً ، وحاشاه أن يكون كذلك؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالغضب غير الانتقام وغير إرادة الانتقام؛ فالغضب صفة حقيقية ثابتة لله تليق بجلاله لا تماثل غضب المخلوق، لا في الحقيقة ولا في الأثر.
وهناك فروق بين غضب المخلوق وغضب الخالق، منها:
1 – غضب المخلوق حقيقة هو : غليان دم القلب، وجمرة يلقيها الشيطان في قلب ابن آدم حتى يفور، أما غضب الخالق؛ فإنه صفة لا تماثل هذا، قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: من الآية11) .
2 – أن غضب الآدمي يؤثر آثاراً غير محمودة؛ فالآدمي إذا غضب قد يحصل منه ما لا يحمد، فيقتل المغضوب عليه، وربما يطلق زوجته، أو يكسر الإناء، ونحو ذلك، أما غضب الله؛ فلا يترتب عليه إلا آثار حميدة لأنه حكيم؛ فلا يمكن أن يترتب على غضبه إلا تمام الفعل المناسب الواقع في محله.
فغضب الله ليس كغضب المخلوقين، لا في الحقيقة ولا في الآثار، وإذا قلنا ذلك؛ فلا نكون وصفنا الله بما يماثل صفات المخلوقين، بل وصفناه بصفة تدل على القوة وتمام السلطان؛ لأن الغضب يدل على قدرة الغاضب على الانتقام وتمام سلطانه؛ فهو بالنسبة للخالق صفة كمال، وبالنسبة للمخلوق صفة نقص.
ويدل على بطلان تأويل الغضب بالانتقام قوله تعالى: (فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)(الزخرف: من الآية55).
فإن معنى (آسفونا): أغضبونا؛ فجعل الانتقام غير الغضب، بل أثراً مترتباً عليه؛ فدل هذا على بطلان تفسير الغضب بالانتقام.(117/3)
واعلم أن كل من حرف نصوص الصفات عن حقيقتها وعما أراد الله بها ورسوله؛ فلا بد أن يقع في زلة ومهلكة؛ فالواجب علينا أن نسلم لما جاء به
ولابن جرير بسنده، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى) (لنجم:19) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الكتاب والسنة من صفات الله تعالى على ما ورد إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل.
قوله: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، أي: جعلوها مساجد؛ إما بالبناء عليها، أو بالصلاة عندها؛ فالصلاة عند القبور من اتخاذها مساجد، والبناء عليها من اتخاذها مساجد.
وهنا نسأل: هل استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم بأن لا يجعل قبره وثناً يعبد، أم اقتضت حكمته غير ذلك ؟
الجواب: يقول ابن القيم: إن الله استجاب له؛ فلم يذكر أن قبره صلى الله عليه وسلم جعل وثناً، بل إنه حمي بثلاثة جدران؛ فلا أحد يصل إليه حتى يجعله وثناً يعبد من دون الله، ولم يسمع في التاريخ أنه جعل وثناً.
قال ابن القيم في (النونية):
فأجاب رب العالمين دعاءه وأحاطه بثلاثة الجدران
صحيح أنه يوجد أناس يغلون فيه، ولكن لم يصلوا إلى جعل قبره وثناً، ولكن قد يعبدون الرسول صلى الله عليه وسلم ولو في مكان بعيد، فإن وجد من يتوجه له صلى الله عليه وسلم بدعائه عند قبره؛ فيكون قد اتخذه وثناً، لكن القبر نفسه لم يجعل وثناً.
* * *
قوله: (ولابن جرير)، هو محمد بن جرير بن يزيد الطبري، الإمام المشهور في التفسير، توفى سنة 310هـ
وتفسيره: هو أصل التفسير بالأثر ومرجع لجميع المفسرين بالأثر ، ولا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يخلو من بعض الآثار الضعيفة، وكأنه يريد أن يجمع ما روي عن السلف من الآثار في تفسير القرآن، ويدع للقارئ الحكم عليها بالصحة أو الضعف بحسب تتبع رجال السند، وهي طريقة جيدة من وجه، وليست جيدة من وجه آخر.(117/4)
فجيدة من جهة أنها تجمع الآثار الواردة حتى لا تضيع، وربما تكون طرقها ضعيفة ويشهد بعضها لبعض.
وليست جيدة من جهة أن القاصر بالعلم ربما يخلط الغث بالسمين ويأخذ بهذا وهذا، لكن من عرف طريقة السند، وراجع رجال السند، ونظر إلى أحوالهم وكلام العلماء فيهم؛ علم ذلك.
وقد أضاف إلى تفسيره بالأثر: التفسير بالنظر، ولا سيما ما يعود إلى اللغة العربية، ولهذا دائماً يرجح الرأي ويستدل له بالشواهد الواردة في القرآن وعن العرب.
ومن الناحية الفقهية؛ فالطبري مجتهد، لكنه سلك طريقة خالف غيره فيها بالنسبة للإجماع؛ فلا يعتبر خلاف الرجل والرجلين، وينقل الإجماع ولو خالف في ذلك رجل أو رجلان، وهذه الطريقة تؤخذ عليه؛ لأن الإجماع لا بد أن يكون من جميع أهل العلم المعتبرين في الإجماع، وقد يكون الحق مع هذا الواحد المخالف.
والعجيب أني رأيت بعض المتأخرين يحذرون الطلبة من تفسيره؛ لأنه مملوء على زعمهم بالإسرائيليات، ويقولون: عليكم بـ (تفسير الكشاف) للزمخشري وما أشبه ذلك، وهؤلاء مخطئون؛ لأنهم لجهلهم بفضل التفسير بالآثار عن السلف واعتزازهم بأنفسهم وإعجابهم بآرائهم صاروا يقولون هذا.
قوله: (عن سفيان) ، إما سفيان الثوري، أو ابن عيينة، وهذا مبهم،
قال: (كان يلت لهم السويقي، فمات، فعكفوا على قبره) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والمبهم يمكن معرفته شيوخه وتلاميذه، وفي الشرح ـ أعني (تيسير العزيز الحميد) يقول: الظاهر أنه الثوري.
قوله: (عن مجاهد)، هو مجاهد بن جبر المكي، إما المفسيرين من التابعين، ذكر عنه أنه قال: (عرضت المصحف على عبدالله بن عباس رضي الله عنهما من فاتحته إلى خاتمته؛ فما تجاوزت آية إلى وقفت عندها أسأله عن تفسيرها).
قوله: (أفرأيتم)، الهمزة: للاستفهام ، والمراد به التحقير، والخطاب لعابدي هذه الأصنام اللات والعزى … إلخ.(117/5)
لما ذكر الله تعالى قصة المعراج وما حصل فيه من الآيات العظيمة التي قال عنها: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)؛ قال: (أفرأيتم اللات والعزى)؛ أي: ما نسبة هذه الأصنام للآيات الكبيرة التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج.
قوله: (اللات)، (كان يلت لهم . . . ) إلخ، على قراءة التشديد: من لت يلت؛ فهو لات.
أما على قراءة التخفيف؛ فوجهها أنها خففت لتسهيل الكلام؛ أي: حذف منها التضعيف تخفيفاً.
وقد سبق أنهم قالوا: إن اللات من الإله.
وأصله: رجل كان يلت السويق للحجاج، فلما مات؛ عظموه، وعكفوا على قبره، ثم جعلوه إلهاً، وجعلوا التسمية الأولى مقترنة بالتسمية الأخيرة؛ فيكون أصله من لت السويق، ثم جعلوه من الإله، وهذا على قراءة التخفيف أظهر من التشديد؛ فالتخفيف يرجح أنه من الإله، والتشديد يرجح أن أصله رجل يلت السويق.
وكذا قال أبو الجوزاء، عن ابن عباس : (كان يلت السويق للحاج) (1).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغلوا في قبره، وقالوا: هذا الرجل المحسن الذي يلت السويق للحجاج ويطعمهم إياه، ثم بعد ذلك عبدوه؛ فصار الغلو في القبور يصيرها أوثاناً تعبد من دون الله.
وفي هذا التحذير من الغلو في القبور، ولهذا نهى عن تخصيصها والبناء عليها والكتابة عليها خوفاً من هذا المحظور العظيم الذي يجعلها تعبد من دون الله، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يأمر إذا بعث بعثاً: بأن لا يدعوا قبراً مشرفاً إلا سووه (2) ؛ لعلمه أنه مع طول الزمان سيقال: لولا أن له مزية ما اختلف عن القبور؛ فالذي ينبغي أن تكون القبور مستاوية لا ميزة لواحد منها عن البقية.
قوله: (السويق)، هو عبارة عن الشعير يحمص، ثم يطحن، ثم يخلط بتمر أو شبهه، ثم يؤكل.
وقوله: (كان يلت لهم السويق، فمات، فعكفوا على قبره)، يعني: ثم عبدوه وجعلوه إلهاً مع الله.(117/6)
قوله: (وكذا قال أبو الجوزاء عن ابن عباس: كان يلت السويق للحاج)، والغربي أن الناس في جاهليتهم يكرمون حجاج بيت الله، ويلتون لهم السويق، وكان العباس يسقي لهم من زمزم، وربما يجعل في زمزم نبيذاً يحليه زبيباً أو نحوه، وفي الوقت الحاضر صار الناس بالعكس يستغلون الحجاج
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور، والمتخذين عليها المساجد والسرج) رواه أهل السنن (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
غاية الاستغلال ـ والعياذ بالله ـ ؛ حتى يبيعوا عليهم ما يساوي ريالاً بريالين وأكثر حسب ما يتيسر لهم، وهذا في الحقيقة خطأ عظيم؛ لأن الله تعالى يقول: (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الحج: من الآية25)؛ فكيف بمن يفعل الإلحاد ؟ !
* * *
قوله: (لعن) ، اللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، ومعنى (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ أي : دعا عليهم باللعنة.
قوله: (زائرات القبور)، زائرات: جمع زائرة، والزيارة هنا معناها: الخروج إلى المقابر، وهي أنواع:
منها ما هو سنة، وهي زيارة الرجال للاتعاظ والدعاء للموتى
ومنها ما هو بدعة، وهي زيارتهم للدعاء عندهم وقراءة القرآن ونحو ذلك.
ومنها ما هو شرك، وهي زيارتهم لدعاء الأموات والاستنجاد بهم والاستغاثة ونحو ذلك.
وزائر: اسم فاعل يصدق بالمرة الواحدة، وفي حديث أبي هريرة: (لعن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رسول الله صلى الله عليه وسلم زوارات القبور) (1) ؛ بتشديد الواو، وهي صيغة مبالغة تدل على الكثرة أي كثرة الزيارة.
قوله: (والمتخذين عليها المساجد)، هذا الشاهد من حديث ؛ أي : الذين يضعون عليها المساجد ، وقد سبق أن اتخاذ القبور مساجد ، صورتان :
1- 1- أن يتخذها مصلى يصلى عندها .(117/7)
2- 2- بناء المساجد عليها .
قوله : ( والسرج ) جمع سراج ، توقد عليها السرج ليلا ونهارا تعظيما وغلوا فيها .
وهذا الحديث يدل على تحريم زيارة النساء للقبور ، على أنه من كبائر الذنوب ؛ لأن اللعن لا يكون إلا على كبيرة ، ويدل على تحريم اتخاذ المساجد والسرج عليها ، وهو كبيرة من كبائر الذنوب للعن فاعلة .
· · المناسبة للباب :
إن اتخاذ المساجد عليها وإسراجها غلو فيها ؛ فيؤدي بعد ذلك إلى عبادتها.
مسألة : ما هي الصلة بين الجملة الأولى : ( زائرات القبور ) ، والجملة الثانية ( المتخذين عليها المساجد والسرج ) ؟
الصلة بينهما ظاهرة : هي أن المرأة لرقة عاطفتها وقلة تمييزها وضعف صبرها ربما تعبد أصحاب القبور تعطفا على صاحب القبر ؛ فلهذا قرنها بالمتخذين عليها المساجد و السرج .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهل يدخل في اتخاذ السرج على المقابر ما وضع فيها مصابيح كهرباء لإنارتها ؟
الجواب : أما في المواطن التي لا يحتاج الناس إليها ، كما لو كانت المقبرة واسعة و فيها موضع قد انتهى الناس من الدفن فيه ؛ فلا حاجة إلى إسراجه ، فلا يسرج ، أما الموضع الذي يقبر فيه فيسرج ما حوله ؛ فقد يقال بجوازه؛ لأنها لا تسرج إلا بالليل؛ فليس في ذلك ما يدل على تعظيم القبر ، بل اتخذ الإسراج للحاجة.
ولكن الذي نرى أنه ينبغي المنع مطلقا للأسباب الآتية :
1- 1- أنه ليس هناك ضرورة .
2- 2- أن الناس إذا وجدوا ضرورة لذلك ؛ فعندهم سيارات يمكن أن يوقدوا الأنوار التي فيها و يتبين لهم الأمر ، ويمكنهم أن يحملوا سراجا معهم.
3- 3- أنه إذا فتح هذا الباب ؛ فإن الشر سيتسع في قلوب الناس ولا يمكن ضبطه فيما بعد ، فلو فرضنا أنهم جعلوا الإضاءة بعد صلاة الفجر ودفنوا الميت ؛ فمن يتولى قفل هذه الإضاءة ؟(117/8)
الجواب : قد تترك ، ثم يبقي كأنه متخذ عليها السرج؛ فالذي نرى أنه يمنع نهائيا .
أما إذا كان في المقبرة حجرة يوضع فيها اللبن ونحوه؛ فلا بأس بإضاءتها لأنها بعيدة عن القبور، والإضاءة داخلة لا تشاهد ؛ فهذا نرجو أن لا يكون به بأس.
والمهم أن وسائل الشرك يجب على الإنسان أن يبتعد عنها ابتعادا عظيما، ولا يقدر للزمن الذين هو فيه الآن ، بل يقدر للأزمان البعيدة ؛ فالمسألة ليست هينة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي الحديث ما يدل على تحريم زيارة النساء للقبور ، وأنها من كبائر الذنوب ، والعلماء اختلفوا في ذلك على ثلاثة أقوال :
القول الأول : تحريم زيارة النساء للقبور ، بل إنها من كبائر الذنوب؛ لهذا الحديث.
القول الثاني : كراهة زيارة النساء للقبور كراهة لا تصل إلى التحريم ، وهذا هو المشهور من مذهب أحمد عن أصحابه ؛ لحديث أم عطية : ( نهينا عن اتباع الجنائز ، ولم يعزم علينا )(1) .
القول الثالث : أنها تجوز زيارة النساء للقبور ؛ لحديث المرأة : التي مر النبي صلى الله عليه وسلم بها وهي تبكي عند قبر ، فقال لها : ( اتقي الله واصبري ). فقالت له: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمثل مصيبتي . فانصرف الرسول صلى الله عليه وسلم عنها ، فقيل لها: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فجاءت إليه تعتذر ؛ فلم يقبل عذرها ، وقال:(إنما الصبر عند الصدمة الأولى) (2) ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم شاهدها عند القبر ولم ينهها عن الزيارة ، وإنما أمرها أن تتقي الله وتصبر .
ولما ثبت في( صحيح مسلم )(3) من حديث عائشة الطويل ، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أهل البقيع في الليل، واستغفر لهم ودعا لهم، وأن جبريل أتاه في الليل وأمره ، فخرج صلى الله عليه وسلم مختفيا عن عائشة، وزار ودعا ورجع، ثم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/9)
أخبرها الخبر ؛ فقالت : ما أقول لهم يا رسول الله؟ قال : ( قولي : السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ….. ) إلخ .
قالوا : فعلمها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء زيارة القبور ، وتعليمه هذا دليل على جواز .
ورأيت قولا رابعا : أن زيارة النساء للقبور سنة كالرجال؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ؛ فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة )(1) ، وهذا عام للرجال و النساء .
ولأن عائشة رضي الله عنها زارت قبر أخيها ، فقال لها عبد الله بن أبي مليكة : أليس النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن زيارة القبور؟ قالت : إنه أمر بها بعد ذلك(2) .
وهذا دليل على أنه منسوخ .
والصحيح القول الأول ، ويجاب عن أدلة الأقوال الأخرى : بأن الصريح منها غير صحيح ، والصحيح غير صريح ؛ فمن ذلك:
أولا : دعوى النسخ غير صحيحة ؛ لأنها لا تقبل إلا بشرطين :
1- 1- تعذر الجمع بين النصين ، والجمع هنا سهل و ليس بمعتذر لأنه يمكن أن يقال : إن الخطاب في قوله : ( كنت نهيتكم عن زيارة القبور ؛ فزوروها) للرجال ، والعلماء اختلفوا فيما إذا خوطب الرجال بحكم:هل يدخل فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
النساء أو لا ؟ وإذا قلنا بالدخول ـ وهو الصحيح ـ ؛ فإن دخولهن في هذا الخطاب من باب دخول أفراد العام بحكم يخالف العام ، وهنا نقول : قد خص النبي صلى الله عليه وسلم النساء من هذا الحكم ، فأمره بالزيارة للرجل فقط ؛ لأن النساء أخرجن بالتخصيص من هذا العموم بلعن الزائرات ، وأيضا مما يبطل النسخ قوله: ( لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج)(1) ، ومن المعلوم أن قوله: ( والمتخذين عليها المساجد والسرج) لا أحد يدعي أنه منسوخ ، والحديث واحد؛ فادعاء النسخ في جانب منه دون آخر غير مستقيم، وعلى هذا يكون الحديث محكما غير منسوخ .(117/10)
2- العلم بالتاريخ ، وهنا لم نعلم التاريخ ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل:
كنت لعنت من زار القبور، بل قال : ( كنت نهيتكم ) ، والنهي دون اللعن.
وأيضا قوله : ( كنت نهيتكم ) خطاب للرجال ، ولعن زائرات القبور خطاب للنساء؛ فلا يمكن حمل خطاب الرجال على خطاب النساء ، إذا ؛ فالحديث لا يصح فيه دعوى النسخ .
وثانيا : وأما الجواب عن حديث المرأة وحديث عائشة ؛ أن المرأة لم تخرج للزيارة قطعا ، لكنها أصيبت ، ومن عظم المصيبة عليها لم تتمالك نفسها لتبقى في بيتها ، ولذلك خرجت وجعلت تبكي عند القبر مما يدل على أن في قلبها شيئا عظيما لم تتحمله حتى ذهبت إلى ابنها وجعلت تبكي عند القبر ، ولهذا أمرها صلى الله عليه وسلم أن تصبر ؛ لأنه علم أنها لم تخرج للزيارة ، بل خرجت لما في قلبها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من عدم تحمل هذه الصدمة الكبيرة ؛ فالحديث ليس صريحا بأنها خرجت للزيارة ، وإذا لم يكن صريحا ؛ فلا يمكن أن يعارض الشيء الصريح بشيء غير صريح .
وأما حديث عائشة ؛ فإنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم : ماذا أقول؟ فقال: (قولي : السلام عليكم ) ؛ فهل المراد أنها تقول ذلك إذا مرت ، أو إذا خرجت زائرة؟ فهو محتمل ؛ فليس فيه تصريح بأنها إذا خرجت زائرة ؛ إذ من الممكن أن يراد به إذا مرت بها من غير خروج للزيارة ، وإذا كان ليس صريحا ؛ فلا يعارض الصريح.
وأما فعلها مع أخيها رضي الله عنهما ؛ فإن فعلها مع أخيها لم يستدل عليها عبد الله بن أبي مليكة بلعن زائرات القبور، وإنما استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور مطلقا؛ لأنه لو استدل عليها بالنهي عن زيارة النساء للقبور أو بلعن زائرات القبور ؛ لكنا ننظر بماذا ستجيبه .(117/11)
فهو استدل عليها بالنهي عن زيارة القبور ، ومعلوم أن النهي عن زيارة القبور كان عاما ، ولهذا أجابته بالنسخ العام ، وقالت : إنه قد أمر بذلك ، ونحن وإن كنا نقول : إن عائشة رضي الله عنها استدلت بلفظ العموم ؛ فهي كغيرها من العلماء لا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، على أنه روي عنها ؛ أنها قالت: ( لو شهدتك ما زرتك)، وهذا دليل على أنها رضي الله عنها خرجت لتدعو له ؛ لأنها لم تشهد جنازته ، لكن هذه الرواية طعن فيها بعض العلماء ، وقال : إنها لا تصح عن عائشة رضي الله عنها ، لكننا نبقى على الراوية الأولى الصحيحة ؛ إذ ليس فيها دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم نسخه، وإذا فهمت هي؛ فلا يعارض بقولها قول الرسول صلى الله عليه وسلم .
* فيه مسائل :
الأولى : تفسير الأوثان . الثانية : تفسير العبادة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* إشكال وجوابه :
في قوله : ( زوارات القبور ) ألا يمكن أن يحمل النهي عن تكرار الزيارة لأن ( زوارات )صيغة مبالغة ؟
الجواب : هذا ممكن ، لكننا إذا حملناه على ذلك ؛ فإننا أضعنا دلالة المطلق (زائرات) .
والتضعيف قد يحمل على كثرة الفاعلين لا على كثرة الفعل ؛ فـ (الزوارات) يعني : النساء إذا كن مئة كان فعلهن كثيرا ، والتضعيف باعتبار الفاعل موجود في اللغة العربية ، قال تعالى : (جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ) (صّ:50) ، فلما كانت الأبواب كثيرة كان فيها التضعيف ؛ إذ الباب لا يفتح إلا مرة واحدة ، وأيضا قراءة (حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَت)(الزمر: من الآية73)؛ فهي مثلها.
فالراجح تحريم زيارة النساء للمقابر، وأنها من كبائر الذنوب.
وانظر كلام شيخ الإسلام ابن تيميه في ( مجموع الفتاوى ) (343/24).
* * *
فيه مسائل :(117/12)
* الأولى : تفسير الأوثان ، وهي : كل ما عبد من دون الله، سواء كان صنما أو قبرا أو غيره .
* الثانية : تفسير العبادة ، وهي : التذلل و الخضوع للمعبود خوفا ورجاء ومحبة وتعظيما ؛ لقوله : ( لا تجعل قبري وثنا يعبد ) .
الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف وقوعه . الرابعة : قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد . الخامسة : ذكر شدة الغضب من الله. السادسة : وهي من أهمها: معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان . السابعة : معرفة أنه قبر رجل صالح .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الثالثة : أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعذ إلا مما يخاف من وقوعه، وذلك في قوله : (اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد ) .
* الرابعة : قرنه بهذا اتخاذ قبور الأنبياء مساجد ، وذلك في قوله : ( اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) .
* الخامسة : ذكر شدة الغضب من الله ، تؤخذ من قوله : ( اشتد غضب الله).
وفيه : إثبات الغضب من الله حقيقة، لكنه كغيره من صفات الأفعال التي نعرف معناها ولا نعرف كيفيتها .
وفيه أنه يتفاوت كما ثبت في الحديث الصحيح حديث الشفاعة : ( إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب مثله قبله ولا بعده )(1) .
* السادسة ـ وهي من أهمها ـ : معرفة صفة عبادة اللات التي هي من أكبر الأوثان ، وذلك في قوله : ( فمات ، فعكفوا على قبره ) .
* السابعة : معرفة أنه قبر رجل صالح ، تؤخذ من قوله ( كان يلت لهم السويق)؛ أي للحجاج ؛ لأنه معظم عندهم ، والغالب لا يكون معظما إلا
الثامنة : أنه اسم صاحب القبر ، وذكر معنى التسمية . التاسعة : لعنه زوارات القبور. العاشرة : لعنه من أسرجها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/13)
صاحب دين .
* الثامنة : أنه اسم صاحب القبر ، وذكر معنى التسمية، وهو أنه كان يلت السويق.
* التاسعة : لعنه زوارات القبور ، أي : النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر رحمة الله لفظ : (زوارات القبور ) مراعاة للفظ الآخر.
*العاشرة : لعنه من أسرجها، وذلك في قوله : ( والمتخذين عليها المساجد والسرج).
وهنا مسألة مهمة لم تذكر ، وهي : أن الغلو في قبور الصالحين يصيرها أوثانا كما في قبر اللات ، وهذه من أهم الوسائل ، ولم يذكرها المؤلف رحمه الله ، ولعله اكتفى بالترجمة عن هذه المسألة بما حصل للات ، فإذا قيل بذلك ؛ فله وجه.
مسألة: المرأة إذا ذهبت للروضة في المسجد النبوي لتصلي فيها، فالقبر قريب منها ، فتقف وتسلم ، ولا مانع فيه .
والأحسن البعد عن الزحام ومخالطة الرجال، ولئلا يظن من يشاهدها إن المرأة يجوز لها قصد الزيارة ؛ فيقع الإنسان في محذور ، وتسليم المرء على النبي صلى الله عليه وسلم يبلغه حيث كان .
* * *
باب ما جاء في حماية المصطفى صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد
وسده كل طريق يوصل إلى الشرك
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( المصطفى )، أصلها : المصتفى، من الصفوة، وهو خيار الشيء؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أفضل المصطفين لأنه أفضل أولي العزم من الرسل ، والرسل هم المصطفون ، المراد به : محمد صلى الله عليه وسلم ، والاصطفاء على درجات أعلاها اصطفاء أولي العزم من الرسل، ثم اصطفاء الرسل ، ثم اصطفاء الأنبياء ، ثم اصطفاء الصديقين ، ثم اصطفاء الشهداء ، ثم اصطفاء الصالحين .
قوله : ( حماية ) ، من حمى الشيء ، إذا جعل له مانعا يمنع من يقرب حوله، ومنه حماية الأرض عن فيها ونحو ذلك .(117/14)
قوله : ( جناب )، بمعنى جانب ، والتوحيد : تفعيل من الوحدة، وهو إفراد الله تعالى بما يجب له من الربوبية و الألوهية والأسماء و الصفات.
قوله : ( وسده كل طريق )، أي : مع الحماية لم يدع الأبواب مفتوحة يلج إليها من شاء ، ولكنه سد كل طريق يوصل إلى الشرك ؛ لأن الشرك أعظم الذنوب ، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: من الآية48) .
قال شيخ الإسلام ابن تيميه : الشرك الأصغر لا يغفره الله ؛ لعموم قوله: ( أن يشرك به ) ، وعلى هذا ؛ فجميع الذنوب دونه لقوله:( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ؛ فيشمل كبائر الذنوب وصغائرها ؛ فالشرك ليس بالأمر الهين الذي
وقول الله تعالى : (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ )(التوبة: من الآية128).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتهاون به، فالشرك يفسد القلب والقصد ، وإذا فسد العمل ؛ إذ العمل مبناه على القصد، قال تعالى : (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ* أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:15،16)، وقال صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات)(1).
إذا ؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم حمى جانب التوحيد حماية محكمة، وسد كل طريق يوصل إلى الشرك ولو من بعيد ؛ لأن من سار على الدرب وصل ، والشيطان يزين للإنسان أعمال السوء شيئا فشيئا حتى يصل إلى الغاية .
* * *(117/15)
قوله : ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم ) ، الجملة مؤكدة بثلاثة مؤكدات: القسم، واللام ، وقد ، وهي مؤكدة لجميع مدخولها بأنه رسول ، وأنه من أنفسهم ، وأنه عزيز عليه ما يشق علينا ، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم؛ فالقسم منصب على كل هذه الأوصاف الأربعة.
والخطاب في قوله : ( جاءكم ) قيل للعرب ؛ لقوله : ( من أنفسكم )؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم من العرب ، قال الله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ)(الجمعة:من الآية2).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويحتمل أن يكون عاما للأمة كلها ، ويكون المراد بالنفس هنا الجنس؛ أي : ليس من الجن ولا الملائكة ، بل هو من جنسكم ؛ كما قال تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ)(لأعراف: من الآية189).
وعلى الاحتمال الأول فيه إشكال ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى جميع الناس من العرب والعجم.
لكن يقال في الجواب : إنه خوطب العرب بهذا ؛ لأن منة الله عليهم به أعظم من غيرهم ، حيث كان منهم ، وفي هذا تشريف لهم بلا ريب .
والاحتمال الثاني أولي ؛ للعموم ، ولقوله : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(آل عمران: من الآية164)، ولما كان المراد العرب ، قال (منهم ) لا ( من أنفسكم ) ، قال الله تعالى : ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم)، وقال تعالى عن إبراهيم وإسماعيل : ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم ) ، وعلى هذا ، فإذا جاءت ( من أنفسهم ) ؛ فالمراد : عموم الأمة ، وإذا جاءت ( منهم)؛ فالمراد العرب ؛ فعلى الاحتمال الثاني لا إشكال في الآية.
قوله ( رسول ) ، أي : من الله ؛ كما قال الله تعالى ( رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ) ، وفعول هنا بمعنى مفعل ؛ أي : مرسل.(117/16)
و ( من أنفسكم ) ، سبق الكلام فيها .
قوله : ( عزيز) ، أي : صعب ؛ لأن هذه المادة العين والزاي في اللغة العربية تدل على الصلابة ، ومنه : ( أرض عزاز )؛ أي : صلبة قوية ، والمعنى : أنه يصعب عليه ما يشق عليكم ، ولهذا بعث بالحنيفية السمحة ، وما خير بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما ، وهذا من التيسير الذي بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم.
0
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( ما عنتم ) ، ( ما ) : مصدرية ، وليست موصولة ؛ أي : عنتكم؛ أي: مشقتكم ؛ لأن العنت بمعنى المشقة ، قال تعالى : ( ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ)(النساء: من الآية25) .
والفعل بعد : ( ما ) يؤول إلى مصدر مرفوع ، لكن بماذا هو مرفوع ؟
يختلف باختلاف ( عزيز ) إذا قلنا : بأن ( عزيز ) صفة لرسول ؛ صار المصدر المؤول فاعلا به ؛ أي : عزيز عليه عنتكم ، وإن قلنا: عزيز خبر مقدم، صار عنتكم مبتدأ ، والجملة حينئذ تكون كلها صفة لرسول ، أو يقال : عزيز مبتدأ، وعنتكم فاعل سد مسد الخبر على رأي الكوفيين الذي أشار ابن مالك في قوله : وقد يجوز نحو فائز أو لو الرشد.
قوله : ( حريص عليكم ) ، الحرص : بذل الجهد لإدراك أمر مقصود ، والمعنى : باذل غاية جهده في مصلحتكم ؛ فهو جامع بين أمرين : دفع المكروه الذي أفاده قوله : ( عزيز عليه ما عنتم )، وحصول المحبوب الذي أفاده قوله : ( حريص عليكم ) ؛ فكان النبي صلى الله عليه وسلم جامعا بين هذين الوصفين ، وهذا من نعمة الله علينا وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون على هذا الخلق العظيم الممثل بقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4) .(117/17)
قوله : ( بالمؤمنين رؤوف رحيم ) ،( بالمؤمنين) : جار و مجرور خبر مقدم، و( رؤوف ) : مبتدأ مؤخر ،و ( رحيم ) : مبتدأ ثان ، وتقديم الخبر يفيد الحصر.
والرأفة : أشد الرحمة وأرقها .
والرحمة : رقة بالقلب تتضمن الحنو على المرحوم والعطف عليه بجلب الخير له ودفع الضرر عنه.
وقولنا : رقة في القلب هذا باعتبار المخلوق ، أما بالنسبة لله تعالى؛ فلا
0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نفسرها بهذا التفسير ؛ لأن الله تعالى ليس كمثله شيء، ورحمة الله أعظم من رحمة المخلوق لا تدانيها رحمة المخلوق ولا تماثلها؛ فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال : ( إن لله مئة رحمة وضع منها رحمة واحدة يتراحم بها الخلق منذ خلقوا إلى يوم القيامة، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه)(1).
فمن يحصي هذه الرحمة التي في الخلائق منذ خلقوا إلى يوم القيامة كمية ؟ ومن يستطيع أن يقدرها كيفية ؟ لا أحد يستطيع إلا الله ـ عز وجل ـ الذي خلقها؟
فهذه رحمة واحدة، فإذا كان يوم القيامة رحم الخلق بتسع وتسعين رحمة بالإضافة إلى الرحمة الأولى، وهل هذه الرحمة تدانيها رحمة المخلوق؟
الجواب: أبداً، لا تدانيها، والقدر المشترك بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق أنها صفة تقتضي الإحسان إلى المرحوم، ورحمة الخالق غير مخلوقة؛ لأنها من صفاته، ورحمة المخلوق مخلوقة؛ لأنها من صفاته؛ فصفات الخالق لايمكن أن تنفصل عنه إلى مخلوق لأننا لو قلنا بذلك لقلنا بحلول صفات الخالق بالمخلوق، وهذا أمر لا يمكن؛ لأن صفات الخالق يتصف بها وحده، وصفات المخلوق يتصف بها وحده، لكن صفات الخالق لها آثار تظهر في المخلوق، وهذه الآثار هي الرحمة التي نتراحم بها.(117/18)
وقوله: (بالمؤمنين رؤوف رحيم)؛ أي: إن النبي صلى الله عليه وسلم في غير المؤمنين ليس رؤوفاً ولا رحيماً، بل هو شديد عليهم كما وصفه الله هو وأصحابه بذلك
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ )(الفتح: من الآية29).
قوله: (فإن تولوا)، أي: أعرضوا مع هذا البيان الواضح بوصف الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ لأن التولي مع هذا البيان مكروه، ولهذا لم يخاطبوا به؛ فلم يقل: فإن توليتم.
والبلاغيون يسمونه التفاتاً، ولو قيل: إنه انتقال؛ لكان أحسن.
قوله: (فقل حسبي الله)، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: قل ذلك معتمداً على الله، متوكلاً عليه، معتصماً به: حسبي الله، وارتباط الجواب بالشرط واضح، أي: فإن أعرضوا؛ فلا يهمنك إعراضهم، بل قل بلسانك وقلبك: حسبي الله، و(حسبي) خبر مقدم، و(لفظ الجلالة) مبتدأ مؤخر، ويجور العكس بأن نجعل: (حسبي) مبتدأ و(لفظ الجلالة) خبر، لكن لما كانت حسب نكرة لا تتعرف بالإضافة؛ كان الأولى أن نجعلها هي الخبر.
قوله: (لا إله إلى هو)، أي: لا معبود حق حقيق بالعبادة سوى الله ـ عز وجل ـ .
قوله: (عليه توكلت)، عليه: جار ومجرور متعلق بتوكلت، وقدم للحصر.
والتوكل: هو الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار مع الثقة به، وفعل الأسباب النافعة.
وقوله: (عليه توكلت) مع قوله: (لا إله إلا هو) فيها جمع بين توحيدي الربوبية والعبودية، والله تعالى يجمع بين هذين الأمرين كثيراً، (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) ، وقوله: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ )(هود: من الآية123).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهو رب العرش العظيم)، الضمير يعود على الله ـ سبحانه).(117/19)
و(رب العرش)؛ أي: خالقه، وإضافة الربوبية إلى العرش ـ وإن كانت ربوبية الله ـ عامة تشريفاً للعرش وتعظيماً له.
ومناسبة التوكل لقوله: (رب العرش العظيم)؛ لأن من كان فوق كل شيء ولا شيء فوقه؛ فإنه لا أحد يغلبه، فهو جدير بأن يتوكل عليه وحده.
وقوله: (العرش) فسره بعض الناس بالكرسي، ثم فسروا الكرسي بالعلم، وحينئذ لا يكون هناك كرسي ولا عرش، وهذا التفسير باطل، والصحيح ان العرش غير الكرسي، وأن الكرسي غير العلم، ولا يصح تفسيره بالعلم، بل الكرسي من مخلوقات الله العظيمة الذي وسع السماوات والأرض، والعرش أعظم وأعظم، ولهذا وصفه بأنه عظيم بقوله تعالى: (وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ)(التوبة: من الآية129)، وبأنه مجيد بقوله: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (البروج:15) على قراءة كسر الدال، وبأنه كريم في قوله: (لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)(المؤمنون: من الآية116)؛ لأنه أعظم المخلوقات التي بلغنا علمها وأعلاها لأن الله استوى عليه.
وفيه دليل على أن كلمة العظيم يوصف بها المخلوق؛ لأن العرض مخلوق، وكذلك الرحيم، والرؤوف، والحكيم.
ولا يلزم من اتفاق المسمين، فإذا كان الإنسان رؤوفاً؛ فلا يلزم أن يكون مثل الخالق، فلا تقل: إذا كان الإنسان سميعاً بصيراً عليماً لزم أن يكون مثل الخالق؛ لأن الله سميع بصير عليم، كما أن وجود الباري سبحانه لا يستلزم أن تكون ذاته كذوات الخلق؛ فإن أسماءه كذلك لا يستلزم أن تكون كأسماء الخلق، وهناك فرق عظيم بين هذا وهذا.
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً، ولا تجعلوا قبري عيداً، وصلوا علي؛ فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (فقل حسبي الله)؛ أي: كافيني، وهكذا يجب أن يعلن المؤمن اعتماده على ربه، ولا سيما في مثل هذا المقام الذي يتخلى الناس عنه؛ لأنه قال: (فإن تولوا).(117/20)
وهذه الكلمة ـ كلمة الحسب ـ تقال في الشدائد، قالها إبراهيم حين ألقي في النار، والنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حيث قيل لهم: (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران: من الآية173).
* (تنبيه) :
في سياقنا للآية الثانية فوائد نسأل الله أن ينفع بها.
* * *
قوله: (لا تجعلوا)، الجملة هنا نهي؛ فلا ناهية، والفعل مجزوم وعلامة جزمة حذف النون، والواو فاعل.
قوله: (بيوتكم)، جمع بيت، وهو مقر الإنسان وسكنه، سواء كان من طين أو حجارة أو خيمة أو غير ذلك، وغالب ما يراد به الطين والحجارة.
قوله: (قبوراً)، مفعول ثان لتجعلوا، وهذه الجملة اختلف في معناها؛ فمنهم من قال: لا تجعلوها قبوراً؛ أي: لا تدفنوا فيها، وهذا لا شك أنه ظاهر اللفظ، ولكن أورد على ذلك دفن النبي صلى الله عليه وسلم في بيته.
وأجيب عنه بأن من خصائصه صلى الله عليه وسلم ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم دفن في بيته لسببين:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- ما روي عن أبي بكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من نبي يموت إلا دفن حيث قبض) (1) ، وهذا ضعفه بعض العلماء.
2- 2- ما روته عائشة رضي الله عنهما: (أنه خشي أن يتخذ مسجداً) (2) .
وقال بعض العلماء: المراد بـ (لا تجعلوا بيوتكم قبوراً)؛ أي: لا تجعلوها مثل القبور، أي: المقبرة لا تصلون فيها، وذلك لأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلى فيها، وأيدوا هذا التفسير بأنه سبقها جملة في بعض الطرق: (اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، ولا تجعلوها قبرواً) ، وهذا يدل على أن المراد: لا تدعوا الصلاة فيها.(117/21)
وكلا المعنيين صحيح؛ فلا يجوز أن يدفن الإنسان في بيته، بل يدفن مع المسلمين ؛ لأن هذه هي العادة المتبعة منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم، ولأنه إذا دفن في بيته ؛ فإنه ربما يكون وسيلة إلى الشرك ، فربما يعظم هذا المكان ، ولأنه يحرم من دعوات المسلمين الذين يدعون بالمغفرة لأموات المسلمين عند زيارتهم للمقابر ، ولأنه يضيق على الورثة من بعده فيسأمون منه، وربما يستوحشون منه ، وإذا باعوه لا يساوي إلا قليلا ، ولأنه قد يحدث عنده من الصخب واللعب واللغو والأفعال المحرمة ما يتنافى مع مقصود الشارع؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول : ( زوروا القبور ؛ فإنها تذكركم الآخرة )(3) .
وأما أن المعنى : لا تجعلوها قبورا ؛ أي : مثل القبور في عدم الصلاة فيها؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهو دليل على أنه ينبغي إن لم نقل : يجب أن يجعل الإنسان من صلاته في بيته ولا يخليه من الصلاة .
وفيه أيضا : أنه من المتقرر عندهم أن المقبرة لا يصلي فيها.
إذا ؛ فيكون هذا النهي عن ترك الصلاة في البيوت لئلا تشبه المقابر؛ فيكون دليل واضح على أن المقابر ليست محلا للصلاة، وهذا هو الشاهد من الحديث للباب ؛ لأن اتخاذ المقابر مساجد سبب قريب جدا للشرك.
واتخاذها مساجد سبق أن له مرتبتين :
الأولي : أن يبني عليها مسجدا .
الثانية : أن يتخذها مصلى يقصدها ليصلي عندها .
والحديث يدل على أن الأفضل : أن المرء يجعل من صلاته في بيته وذلك جميع النوافل ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أفضل صلاة المرء في بيته؛ إلا المكتوبة )(1) ؛ إلا ما ورد الشرع أن يفعل في المسجد ، مثل : صلاة الكسوف، وقيام الليل في رمضان ، حتى ولو كنت في المدينة النبوية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك وهو في المدينة، وتكون المضاعفة بالنسبة للفرائض أو النوافل التي تسن لها الجماعة.(117/22)
قوله : ( عيدا )، اسم لما يعتاد فعله، أو التردد إليه ، فإذا اعتاد الإنسان أن يعمل عملا كما لو كان كلما حال عليه الحول صنع طعاما ودعا الناس ؛ فهذا يسمي عيدا لأنه جعله يعود و يتكرر .
وكذلك من العيد : أن تعتاد شيئا فتتردد إليه ، مثل ما يفعل بعض الجهلة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في شهر رجب وهو ما يسمي بالزيارة الرجبية، حيث يذهبون من مكة إلى المدينة ، ويزورون كما زعموا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وإذا أقبلوا على المدينة تسمع لهم صياحا ، وكانوا سابقا يذهبون من مكة إلى المدينة على الحمير خاصة، ولما جاءت السيارات صاروا يذهبون على السيارات .
وأيهما المراد من كلام النبي صلى الله عليه وسلم : الأول ؛ أي العمل الذي يتكرر بتكرر العام ،أو التردد إلى المكان ؟
الظاهر الثاني ، أي : لا تترددوا على قبري وتعتادوا ذلك، سواء قيدوه بالسنة أو بالشهر أو بالأسبوع ؛ فإنه صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ، وإنما يزار لسبب ، كما لو قدم الإنسان من سفر ، فذهب إلى قبره فزاره، أو زاره ليتذكر الآخرة كغيره من القبور .
وما يفعله بعض الناس في المدينة كلما صلى الفجر ذهب إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أجل السلام عليه، فيعتاد هذا كل فجر ، يظنون أن هذا مثل زيارته في حياته ؛ فهذا من الجهل ، وما علموا أنهم إذا سلموا عليه في أي مكان ؛ فإن تسليمهم يبلغه .
قوله : ( وصلوا علي ) ، هذا أمر ؛ أي : قولوا : اللهم صل على محمد، وقد أمر الله بذلك في قوله : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (الأحزاب:56).
وفضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم معروف، ومنه أن من صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/23)
والصلاة من الله على رسوله ليس معناها كما قال بعض أهل العلم : إن الصلاة من الله الرحمة ، ومن الملائكة الاستغفار ، ومن الآدميين الدعاء .
فهذا ليس بصحيح ، بل إن الصلاة على المرء ثناؤه عليه في الملأ الأعلى، كما قال أبو العالية وتبعه على ذلك المحققون من أهل العلم .
ويدل على بطلان القول الأول قوله تعالى : (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(البقرة: من الآية157)؛ فعطف الرحمة على الصلوات ، والأصل في العطف المغايرة ، لأن الرحمة تكون لكل أحد ، ولهذا اجمع العلماء على أنه يجوز أن تقول : فلان رحمه الله ، واختلفوا : هل يجوز أن تقول : فلان صلى الله عليه؟
فمن صلى على محمد صلى الله عليه وسلم مرة أثنى الله عليه في الملأ الأعلى عشر مرات ، وهذه نعمة كبيرة .
قوله : ( فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم ) ، حيث : ظرف مبني على الضم في محل نصب ، ويقال فيها: حيث ،وحوث، وحاث ، لكنها قليلة .
كيف تبلغه الصلاة عليه ؟
الجواب : نقول : إذا جاء مثل هذا النص وهو من أمور الغيب ؛ فالواجب أن يقال : الكيف مجهول لا نعلم بأي وسيلة تبلغه ، لكن ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن لله ملائكة سياحين يسيحون في الأرض يبلغون النبي صلى الله عليه وسلم سلام أمته عليه)(1)، فإن صح ؛ فهذه هي الكيفية .
رواه أبو داود بإسناد حسن ورواته ثقات(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/24)
قوله : ( رواه أبو داود بإسناد حسن ، ورواته ثقات )، هذا التعبير من الناحية الاصطلاحية ، ظاهره أن بينهما اختلافا ، ولكننا نعرف أن الحسن: هو أن يكون الراوي خفيف الضبط؛ فمعناه أن فيه نوعا من الثقة، فيجمع بين كلام المؤلف رحمه الله وبين ما ذكره عن رواية أبي داود بإسناد حسن : أن المراد بالثقة ليس غاية الثقة ؛ لأنه لو بلغ إلى حد الثقة الغاية لكان صحيحا ؛ لأن الراوي تعود على تحقيق الوصفين فيه، وهما : العدالة والضبط، فإذا خف الضبط خفت الثقة ، كما إذا خفت العدالة أيضا تخف الثقة فيه.
فيجمع بينهما على أن المراد : مطلق الثقة ، ولكنه لاشك فيما أروى أنه إذا أعقب قوله : ( حسن ) بقوله : ( رواته ثقات ) أنه أعلى مما لو اقتصر على لفظ : ( حسن ) .
ومثل هذا ما يعبر به ابن حجر في ( تقريب التهذيب ) بقوله : ( صدوق يهم) ، وأحيانا يقول : ( صدوق)، وصدوق أقوي ؛ فيكون توثيق الرجل الموصوف بصدوق أشد من توثيق الرجل الذي يوصف بأنه يهم.
لا يقول قائل : إن كلمة يهم لا تزيده ضعفا ؛ لأنه ما من إنسان إلا ويهم.
فنقول : هذا لا يصح؛ لأن قولهم : (يهم) لا يعنون به الوهم الذي لا
وعن على بن الحسين رضي الله عنه ؛ أنه رأى رجلا يجيء إلى فرجة كانت عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فيدخل فيها ، فيدعو ، فنهاه، وقال : ألا أحدثكم حديثا سمعته من أبي عن جدي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يخلو منه أحد ، ولولا أن هناك غلبة في أوهامه ما وصفوه بها .
* * *
قوله : ( وعن على بن الحسين )، هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، يسمى بزين العابدين ، من أفضل أهل البيت علما وزهدا وفقها.
والحسين معروف : ابن فاطمة رضي الله عنها ، أبوه : على رضي الله عنه.(117/25)
قوله : ( يجيء إلى فرجة ) ، هذ الرجل لاشك أنه لم يتكرر مجيئه إلى هذه الفرجة إلا لاعتقاده أن فيها فضلا ومزية، وكونه يظن أن الدعاء عند القبرله مزية فتح باب ووسيلة إلى الشرك، بل جميع العبادات إذا كانت عند القبر؛ فلا يجوز أن يعتقد أن لها مزية ، سواء كانت صلاة أو دعاء أو قراءة ، ولهذا نقول: تكره القراءة عند القبر إذا كان الإنسان يعتقد أن القراءة عند القبر أفضل .
قوله : ( فنهاه )، أي : طلب منه الكف.
قوله : ( ألا أحدثكم حديثا )، قال أحدثكم والرجل واحد؛ لأن الظاهر أنه كان عند أصحابه يحدثهم ، فجاء هذا الرجل إلى الفرجة.
و( ألا ) : أداة عرض؛ أي : أعرض عليكم أن أحدثكم .
وفائدتها : تنبيه المخاطب إلى ما يريد أن يحدثه به .
قوله : ( عن أبي عن جدي )، أبوه : الحسن ، وجده : علي بن أبي طالب.
( لا تتخذوا قبري عيدا ، ولا بيوتكم قبورا ، وصلوا علي؛ فإن تسليمكم يبلغني أين كنتم ) . رواه في ( المختارة )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ) ، السند متصل وفيه عنعنة لكنها لا تضر ؛ لأنها من غير مدلس، فتحمل على السماع .
قوله : ( لا تتخذوا قبري عيدا ) ، يقال فيه كما في الحديث السابق: أنه نهى أن تتخذ قبره عيدا يعتاد ويتكرر إليه ؛ لأنه وسيلة إلى الشرك .
قوله : ( ولا بيوتكم قبورا ) ، سبق معناه.
قوله : ( وصلوا علي ؛ فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم ) ، اللفظ هكذا، وأشك في صحته ؛ لأن قوله : ( صلوا علي ) يقتضي أن يقال : فإن صلاتكم تبلغني؛ إلا أن يقال هذا من باب الطي والنشر.
والمعنى : صلوا علي وسلموا؛ فإن تسليمكم وصلاتكم تبلغني، وكأنه ذكر الفعلين والعلتين ، لكن حذف من الأولى ما دلت عليه الثانية، ومن الثانية ما دلت عليه الأولى.(117/26)
وقوله : ( وصلوا علي ) ، سبق معناها ، المراد : صلوا علي في أي مكان كنتم ، ولا حاجة إلى أن تأتوا إلى القبر وتسلموا علي وتصلوا علي عنده.
*فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية براءة . الثانية : إبعاده أمته عن هذا الحمى غاية البعد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( يبلغني )، تقدم كيف يبلغه صلى الله عليه وسلم .
قوله : ( رواه في المختارة ) ، الفاعل مؤلف المختارة ، والمختارة : اسم الكتاب ؛ أي : الأحاديث المختارة .
والمؤلف هو عبد الغني المقدسي، من الحنابلة .
وما أقل الحديث في الحنابلة ، يعني المحدثين ، وهذا من أغرب ما يكون، يعني أصحاب الإمام أحمد أقل الناس تحديثا بالنسبة للشافعية .
فالحنابلة غلب عليهم رحمهم الله الفقه مع الحديث ؛ فصاروا محدثين وفقهاء، ولكنهم رحمهم الله بشر ، فإذا أخذ من هذا العلم صار ذلك زحاما للعلم الآخر ، أما الأحناف؛ فإنهم أخذوا بالفقه، لكن قلت بضاعتهم في الحديث، ولهذا يسمون أصحاب الرأي ( يعني : العقل و القياس)؛ لقلة الحديث عندهم ، والشافعية أكثر الناس عناية بالحديث والتفسير ، والمالكية كذلك ، ثم الحنابلة وسط ، وأقلهم في ذلك الأحناف مع أن لهم كتبا في الحديث.
* * *
فيه مسائل :
* الأولي : تفسير آية براءة ، وسبق ذلك في أول الباب .
*الثانية : إبعاد صلى الله عليه وسلم أمته عن هذا الحمى غاية البعد ، تؤخذ من قوله : ( لا تجعلوا بيوتكم قبورا ، ولا تجعلوا قبري عيدا) .
الثالثة : ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته . الرابعة : نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص مع أن زيارته من أفضل الأعمال . الخامسة : نهيه عن الإكثار من الزيارة . السادسة : حثه على النافلة في البيت . السابعة : أنه مقرر عندهم أنه لا يصلى في المقبرة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الثالثة : ذكر حرصه علينا ورأفته ورحمته، وهذا مذكور في آية براءة.(117/27)
*الرابعة:نهيه عن زيارة قبره على وجه مخصوص،تؤخذ من قوله: ( ولا تجعلوا قبري عيدا ) ؛ فقوله : (عيدا) هذا هو الوجه المخصوص.
وزيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم من أفضل الأعمال من جنسها ؛ فزيارة فيها سلام عليه ، وحقه صلى الله عليه وسلم أعظم من غيره .
وأما من حيث التذكير بالآخرة ؛ فلا فرق بين قبره وقبر غيره .
*الخامسة : نهيه عن الإكثار من الزيارة ، تؤخذ من قوله : ( لا تجعلوا قبري عيدا ) ، لكنه لا يلزم منه الإكثار ؛ لأنه قد لا يأتي إلا بعد سنة، ويكون قد اتخذه عيدا ؛ فإن فيه نوعا من الإكثار .
*السادسة : حثه على النافلة في البيت ، تؤخذ من قوله : ( ولا تجعلوا بيوتكم قبورا ) ، سبق أن فيها معنيين :
المعنى الأول : أن لا يقبر في البيت ، وهذا ظاهر الجملة .
الثاني : الذي هو من لازم المعنى أن لا تترك الصلاة فيها.
*السابعة : أنه متقرر عندهم أنه لا يصلي في المقبرة، تؤخذ من قوله: ( لا
الثامنة : تعليل ذلك بأن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد ؛ فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب . التاسعة : كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة و السلام عليه .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تجعلوا بيوتكم قبورا ) ؛ لأن المعنى : لا تجعلوها قبورا، أي : لا تتركوا الصلاة فيها على أحد الوجهين ؛ فكأنه من المتقرر عندهم أن المقابر لا يصلي فيها.
*الثامنة : تعليل ذلك بإن صلاة الرجل وسلامه عليه يبلغه وإن بعد ؛ فلا حاجة إلى ما يتوهمه من أراد القرب ، أي : كونه نهى صلى الله عليه وسلم أن يجعل قبره عيدا، لعلة في ذلك : أن الصلاة تبلغه حيث كان الإنسان فلا حاجة إلى أن يأتي إلى قبره ، ولهذا نسلم ونصلي عليه في أي مكان ؛ فيبلغه السلام والصلاة.
ولهذا قال علي بن الحسين : ( ما أنت ومن في الأندلس إلا سواء) .(117/28)
*التاسعة : كونه صلى الله عليه وسلم في البرزخ تعرض أعمال أمته في الصلاة والسلام عليه ، أي : فقط فكل من صلى عليه أو سلم عرضت عليه صلاته وتسليمه، ويؤخذ من قوله : ( فإن تسليمكم يبلغني حيث كنتم ) .
* * *
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سبب مجيء المؤلف بهذا الباب لدحض حجة من يقول : إن الشرك لا يمكن أن يقع في هذه الأمة ، وأنكروا أن تكون عبادة القبور والأولياء من الشرك؛ لأن هذه الأمة معصومة منه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن في التحريش بينهم )(1) .
والجواب عن هذا سبق عند الكلام على المسألة الثامنة عشرة من مسائل باب من تبرك بشجر أو حجر ونحوهما .
قوله : ( أن بعض هذه الأمة )، أي : لا كلها ؛ لأن في هذه الأمة طائفة لا تزال منصورة على الحق إلى قيام الساعة، لكنه سيأتي في آخر الزمان ريح تقبض روح كل مسلم ؛ فلا يبقى إلا شرار الناس.
وقوله : ( تعبد ) ؛ بفتح التاء ، وفي بعض النسخ : ( يعبد ) ؛ بفتح الياء المثناة من تحت .
فعلى قراءة ( يعبد ) لا إشكال فيها ؛ لأن ( بعض ) مذكر .
وعلى قراءة ( تعبد )؛ فإنه داخل في قوله ابن مالك :
وربما أكسب ثان أولا تأنيثا أن كان لحذف موهلا
ومثلوا لذلك بقولهم : قطعت بعض أصابعه؛ فالتأنيث هنا من أجل أصابعه لا من أجل بعض .
وقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)(النساء: من الآية50) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا صحت النسخة ( تعبد ) ؛ فهذا التأنيث اكتسبه المضاف من المضاف إليه .
قوله : ( الأوثان )، جمع وثن ، وهو : كل ما عبد من دون الله .
* * *
ذكر المؤلف في هذا الباب عدة آيات :(117/29)
*الآية الأولى قوله تعالى : ( ألم تر )، الاستفهام هنا للتقرير و التعجيب ، والرؤية بصرية بدليل أنها عديت بإلى ، وإذا عديت بإلى صارت بمعنى النظر.
والخطاب إما للنبي صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يصح توجيه الخطاب إليه ، أي: ألم تر أيها المخاطب ؟
قوله : ( إلى الذين أوتوا )، أي : أعطوا، ولم يعطوا كل الكتاب؛ لأنهم حرموا بسبب معصيتهم؛ فليس عندهم العلم الكامل بما في الكتاب.
قوله : ( نصيبا من الكتاب ) المنزل .
والمراد بالكتاب : التوارة و الأنجيل .
وقد ذكروا مثلا ، وهو كعب بن الأشرف حين جاء إلى مكة، فاجتمع إليه المشركون، وقالوا: ما تقول في هذا الرجل ( أي : النبي صلى الله عليه وسلم ) الذي سفه أحلامنا ورأى أنه خير منا ؟ فقال لهم : أنتم : خير من محمد ، ولهذا جاء في آخر الآية : ( وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً)(النساء: من الآية50).
قوله : ( يؤمنون بالجبت والطاغوت ) ، أي : يصدقون بهما ، ويقرونهما لا
وقوله تعالى: (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوت) (المائدة: من الآية60).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينكرونهما ، فإذا أقر الإنسان هذه الأوثان ؛ فقد آمن بها.
والجبت : قيل : السحر ، وقيل : هو الصنم، والأصح: أنه عام لكل صنم أو سحر أو كهانة أو ما أشبه ذلك.
والطاغوت : ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
فالمعبود كالأصنام ، والمتبوع كعلماء الضلال ، والمطاع كالأمراء؛ فطاعتهم في تحريم ما أحل الله ، أو تحليل ما حرم الله تعد من عبادتهم .(117/30)
والمراد من كان راضيا بعبادتهم إياه، أو يقال : هو طاغوت باعتبار عابديه؛ لأنهم تجاوزوا به حده، حيث نزلوه فوق منزلته التي جعلها الله له، فتكون عبادتهم لهذا المعبود طغيانا؛ لمجاورتهم الحد بذلك.
والطاغوت : مأخوذ من الطغيان ؛ فكل شيء يتعدى به الإنسان حده يعتبر طاغوتا.
وجه الناسبة في الآية للباب لا يتبين إلا بالحديث ، وهو ( لتركبن سنن من كان قبلكم )، فإذا كان الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت، وأن من هذه الأمة من يرتكب سنن من كان قبله يلزم من هذا أن في هذه الأمة من يؤمن بالجبت و الطاغوت ؛ فتكون الآية مطابقة للترجمة تماما.
* * *
*الآية الثانية قوله تعالى : ( قل هل أنبئكم )، الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ردا على هؤلاء اليهود الذي اتخذا دين الإسلام هزوا و لعبا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ( أنبئكم )، أي : أخبركم ، والاستفهام هنا للتقرير و التشويق، أي: سأقرر عليكم هذا الخبر.
قوله : ( بشر من ذلك )، شر : هنا اسم تفضيل ، وأصلها أشر لكن حذفت الهمزة تخفيفا لكثرة الاستعمال ، ومثلها كلمة خير مخففة من أخير ، والناس مخففة من الأناس، وكذا كلمة الله مخففة من الإله.
وقوله : (ذلك ) المشار إليه ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ فإن اليهود يزعمون أنهم خير من الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليسوا على الحق؛ فقال الله تعالى : ( قل هل أنبئكم).
قوله : ( مثوبة عند الله ) ، مثوبة : تمييز لشر ؛ لأن شر اسم تفضيل، وما جاء بعد أفعل التفضيل مبنيا له منصوبا على التمييز.
قال بن مالك :
اسم بمعنى من مبين نكرة ينصب تمييزا بما قد فسره
إلى أن قال :
والفاعل المعنى انصبن بأفعلا مفضلا كأنت أعلى منزلا(117/31)
والمثوبة : من ثاب يثوب إذا رجع ، ويطلق على الجزاء؛ أي : بشر من ذلك جزاء عند الله .
قوله : ( عند الله ) ، أي : في عمله وجزائه عقوبة أو ثوابا.
قوله : ( من لعنه الله ) ، من : اسم موصول خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هو من لعنه الله ؛ لأن الاستفهام انتهى عند قوله : ( مثوبة عند الله ) ، وجواب الاستفهام: ( من لعنه الله ).
0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولعنه؛ أي: طرده وأبعده عن رحمته.
قوله: (وغضب عليه)، أي: أحل عليه غضبه، والغضب: صفة من صفات الله الحقيقية تقتضي الانتقام من المغضوب عليه، ولا يصح تحريفه إلى معنى الانتقام، وقد سبق الكلام عليه (ص 418).
والقاعدة العامة عند أهل السنة: أن آيات الصفات وأحاديثها تجرى على ظاهرها اللائق بالله ـ عز وجل ـ ؛ فلا تجعل من جنس صفات المخلوقين، ولا تحرف فتنفى عن الله؛ فلا نغلو في الإثبات ولا في النفي.
قوله: (وجعل منهم القردة والخنازير)، القردة: جمع قرد، وهو حيوان معروف أقرب ما يكون شبهاً بالإنسان، والخنازير: جمع خنزير، وهو ذلك الحيوان الخبيث المعروف الذي وصفه الله بأنه رجس.
والإشارة هنا إلى اليهود؛ فإنهم لعنوا كما قال تعالى: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ )(المائدة: من الآية78).
وجعلوا قردة بقوله تعالى: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)(البقرة: من الآية65)، وغضب الله عليهم بقوله: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ)(البقرة: من الآية90).
قوله: (وعبد الطاغوت)، فيها قراءتان في (عبد) وفي (الطاغوت):
الأول: بضم الباء (عبد)، وعليها تكسر التاء في (الطاغوت)؛ لأنه مجرور بالإضافة.(117/32)
الثانية: بفتح الباء (عبد) على أنه فعل ماض معطوف على قوله؛ (لعنه الله) صلة الموصول، أي: ومن عبد الطاغوت، ولم يعد (من) مع طول الفصل؛ لأن هذا ينطبق على موصوف واحد، فلو أعيدت من لأوهم أنهم جماعة آخرون وهم جماعة واحدة؛ فعلى هذه القراءة يكون (عبد) فعلاً ماضياَ والفاعل ضمير مستتر
وقوله تعالى : ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)(الكهف: من الآية21).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
جوازاً تقديره هو يعود على (من) في قوله: (من لعنه الله)، (الطاغوت) بفتح التاء مفعولاً به.
وبهذا نعرف اختلاف الفاعل في صلة الموصول وما عطف عليه؛ لأن الفاعل في صلة الموصول هو (الله)، والفاعل في عبد يعود على (من).
وعلى كل حال؛ فالمراد بها عابد الطاغوت.
فالفرق بين القراءتين بالباء فقط؛ فعلى قراءة الفعل مفتوحة، وعلى قراءة الاسم مضمومة.
والطاغوت على قراءة الفعل في (عبد) تكون مفتوحة (عبد الطاغوت)، وعلى قراءة الاسم تكون مكسورة بالإضافة (عبد الطاغوت).
وذكر في تركيب (عبد) مع (الطاغوت) أربع وعشرون قراءة، ولكنها قراءات شاذة غير القراءتين السبعيتين (عَبَد) (عَبُد).
* * *
* الآية الثالثة قوله تعالى: ( قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) ، هذه الآية في سياق قصة أصحاب الكهف، وقصتهم عجيبة؛ كما قال تعالى: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً) (الكهف:9)، وهم فتية آمنوا بالله وكانوا في بلاد شرك، فخرجوا منها إلى الله ـ عز وجل ـ ، فيسر الله لهم غاراً، فدخلوا فيه، وناموا فيه نومه طويلة بلغت
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/33)
(ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً)(الكهف: من الآية25) وهم نائمون لا يحتاجون إلى أكل وشرب، ومن حكمة الله أن الله يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال حتى لا يتسرب الدم في أحد الجانبين، ولما خرجوا بعثوا بأحدهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاماً، وآخر الأمر أن أهل المدينة اطلعوا على أمرهم، وقالوا: لا بد أن نبني على قبورهم مسجداً.
وقوله: (قال الذين غلبوا على أمرهم)، المراد بهم: الحكام في ذلك الوقت قالوا مقسمين مؤكدين: (لنتخذن عليهم مسجداً)، وبناء المساجد على القبور من وسائل الشرك كما سبق.
* فوائد الآيات السابقة:
من فوائد الآية الأولى ما يلي:
1- 1- أن من العجب أن يعطى الإنسان نصيباً من الكتاب ثم يؤمن بالجبت والطاغوت
2- 2- أن العلم قد لا يعصم صاحبه من المعصية؛ لأن الذين أوتوا الكتاب آمنوا بالكفر، والذي يؤمن بالكفر يؤمن بما دونه من المعصي.
3- 3- وجوب إنكار الجبت والطاغوت؛ لأن الله تعالى ساق الإيمان بهما مساق العجب والذم؛ فلا يجوز إقرار الجبت والطاغوت.
4- 4- ما ساقها المؤلف من أجله أن من هذه الأمة من يؤمن بالجبت والطاغوت لقوله صلى الله عليه وسلم : (لتركبن سنن من كان من قبلكم) (1) ، فإذا وجد في بني إسرائيل من يؤمن بالجبت والطاغوت؛ فإنه سيوجد في هذه الأمة أيضاً من يؤمن بالجبت والطاغوت.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* ومن فوائد الآية الثانية ما يلي:
1- تقرير الخصم والاحتجاج عليه بما لا يستطيع إنكاره، بمعنى أنك تحتج على خصمك بأمر لا يستطيع إنكاره؛ فإن اليهود يعرفون بأن فيهم قوماً غضب الله عليهم ولعنهم وجعل منهم القردة والخنازير، فإذا كانوا يقرون بذلك وهم يستهزئون بالمسلمين؛ فنقول لهم: أين محل الاستهزاء ؟ ! الذين حلت عليهم هذه العقوبات أم الذين سلموا منها ؟
والجواب: الذين حلت بهم العقوبة أحق بالاستهزاء.(117/34)
2- اختلاف الناس بالمنزلة عند الله؛ لقوله: (بشر من ذلك مثوبة عند الله)، ولا شك أن الناس يختلفون بزيادة الإيمان ونقصه وما يترتب عليه من الجزاء.
3- 3- سوء حال اليهود الذي حلت بهم هذه العقوبات من اللعن والغضب والمسخ وعبادة الطاغوت.
4- 4- إثبات أفعال الله الاختيارية، وأنه سبحانه يفعل ما يشاء؛ لقوله: (لعنه الله)؛ فإن اللعن من صفات الأفعال.
5- 5- إثبات الغضب لله؛ لقوله: (وغضب عليه).
6- 6- إثبات القدرة لله؛ لقوله: (وجعل منهم القردة والخنازير).
وهل المراد بالقردة والخنازير هذه الموجودة ؟
والجواب: لا؛ لما ثبت في (صحيح مسلم) عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن كل أمة مسخت لا يبقى لها نسل) (1)، وإن القردة والخنازير كانوا قبل ذلك،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعلى هذا؛ فليس هذا الموجود من القردة والخنازير هو بقية أولئك الممسوخين.
7- أن العقوبات من جنس العمل؛ لأن هؤلاء الذين مسخوا قردة، والقرد أشبه ما يكون شبهاً بالإنسان، فعلوا فعلاً ظاهرة الإباحة والحل وهو محرم، وذلك أنه حرم عليهم الصيد يوم السبت ابتلاء من الله، فإذا جاء يوم السبت امتلاء البحر بالحيتان، وظهرت على سطح الماء، وفي غيره من الأيام تختفي ولا يأتي منها شيء، فلما طال عليهم الأمد صنعوا شباكاً؛ فصاروا ينصبونها في يوم الجمعة ويدعون الحيتان تدخل فيها يوم السبت، فإذا أتى يوم الأحد أخذوها، وهذه حيلة ظاهرها الحل، ولكن حقيقتها ومعناها الوقوع في الإثم تماماً، ولهذا مسخوا إلى حيوان يشبه الإنسان وليس بإنسان، وهو القرد، قال تعالى: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ)(البقرة: من الآية65) ، وهو يفيد أن الجزاء من جنس العمل، ويدل عليه صراحة قوله تعالى: (فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ)(العنكبوت: من الآية40).(117/35)
7- 7- أن هؤلاء اليهود صاروا يعبدون الطاغوت؛ لقوله: (وعبد الطاغوت)، ولا شك أنهم حتى الآن يعبدونه؛ لأنهم عبدوا الشيطان وأطاعوه وعصوا الله ورسوله.
وفي الآية نكتة نحوية في قوله: (عليه) و (منهم) في قوله تعالى: (من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير)؛ فالضمير في (لعنه) الهاء، و(غضب عليه) مفرد، و(منهم) جمع، مع أن المرجع واحد، وهو(من).
والجواب: أنه روعي في الإفراد اللفظ، وفي الجمع المعنى، وذلك أن (من) اسم موصول صالحة للمفرد وغيره، قال ابن مالك:
ومن وما وال تساوي ما ذكر
عن أبي سعيد (رضي الله عنه)؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لما ذكر الأسماء الموصولة من المفرد والمثنى والجمع من مذكر ومؤنث قال: ومن وما ... إلخ.
وقال: (من لعنة الله وغضب عليه وجعل منهم القردة)، ولم يقل: وجعلهم قردة؛ لأن اللعن والغضب عام لهم جميعاً، والعقوبة بمسخهم إلى قردة وخنازير خاص ببعضهم، وليس شاملاً لبني إسرائيل.
* ومن فوائد الآية الثالثة ما يلي :
1- 1- ما تضمن سياق هذه الآية من القصة العجيبة في أصحاب الكهف وما تضمنته من الآيات الدالة على كمال قدرة الله وحكمته.
2- 2- أن من أسباب بناء المساجد على القبور الغلو في أصحاب القبور؛ لأن الذين غلبوا على أمرهم بنوا عليهم المساجد؛ لأنهم صاروا عندهم محل الاحترام والإكرام فغلبوا فيهم.
3- 3- أن الغلو في القبور وإن قل قد يؤدي إلى ما هو أكبر منه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي حين بعثه: (ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته) (1)
* * *
عن أبي سعيد (رضي الله عنه)؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب؛ لدخلتموه). قالوا: يا رسول الله ! اليهود والنصارى ؟ قال: (فمن). أخرجاه (1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/36)
قوله في الحديث: (لتتبعن) ، اللام موطئة للقسم، والنون للتوكيد، فالكلام مؤكد بثلاثة مؤكدات: القسم المقدر، واللام، والنون، والتقدير: والله لتتبعن.
قوله : (سنن من كان قبلكم)، فيها روايتان: (سنن) و (سنن).
أما (سنن)؛ بضم السين: جمع سنة، وهي الطريقة.
وأما (سنن)؛ بالفتح: فهي مفردة بمعنى الطريق.
وفعل تأتي مفردة مثل: فنن جمعها أفنان، وسبب جمعها أسباب.
وقوله: (من كان قبلكم) ، أي: من الأمم.
وقوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم) ليس على ظاهره؛ بل هو عام مخصوص؛ لأننا لو أخذنا بظاهره كانت جميع هذه الأمة تتبع سنن من كان قبلها، لكننا نقول: إنه عام مخصوص؛ لأن في هذه الأمة من لا يتبع كما أخبر النبي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صلى الله عليه وسلم أنه لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق، وقد يقال: إن الحديث على عمومه وأنه لا يلزم أن تتبع هذه الأمة الأمم السابقة في جميع سننها، بل بعض الأمة يتبعها في شيء وبعض الأمة يتبعها في شيء آخر، وحينئذ لا يقتضي خروج هذه الأمة من الإسلام، وهذا أولى لبقاء الحديث على عمومه، ومن المعلوم أن من طرق من كان قبلنا ما لا يخرج من الملة، مثل: أكل الربا، والحسد، والبغي، والكذب.
ومنه ما يخرج من الملة: كعبادة الأوثان.
السنن: هي الطرائق، وهي متنوعة، منها ما هو اعتداء على حق الخالق، ومنها ما هو اعتداء على حق المخلوق، ولنستعرض شيئاً من هذه السنن:
فمن هذه السنن: عبادة القبور والصالحين؛ فإنها موجودة في الأمم السابقة وقد وجدت في هذه الأمة، قال تعالى عن قوم نوح: (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) (نوح:23).
ومن ذلك الغلو في الصالحين كما وجد في الأمم السابقة وجد في هذه الأمة.
ومنها: دعاء غير الله ، وقد وجد في هذه الأمة.(117/37)
ومنها: بناء المساجد على القبور موجود في السابقين، وقد وجد في هذه الأمة.
ومنها: وصف الله بالنقائض والعيوب؛ فقد قالت اليهود: (يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)(المائدة: من الآية64) ، وقالوا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)(آل عمران: من الآية181)، وقالوا: إن الله تعب من خلق السماوات والأرض، وقد وجد في هذه الأمة من قال بذلك أو أشد منه؛ فقد وجد من قال: ليس له يد، ومن من قال: لا يستطيع أن يفعل ما يريد فلم يستو على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا ولا يتكلم، بل وجد في هذه الأمة من يقول: بأنه ليس داخلاً في العالم، وليس خارجاً
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عنه ولا متصلاً به ولا منفصلاً عنه؛ فوصفوه بما لا يمكن وجوده، ومنهم من قال: لا تجوز الإشارة الحسية إليه، ولا يفعل، ولا يغضب، ولا يرضى، ولا يحب، وهذا مذهب الأشاعرة.
ومنها: أكل السحت؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: أكل الربا؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: التحيل على محارم الله؛ فقد وجد في الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: إقامة الحدود على الضعفاء ورفعها عن الشرفاء؛ فقد وجد في هذه الأمم السابقة ووجد في هذه الأمة.
ومنها: تحريف كلام الله عن مواضعه لفظاً ومعنى؛ كاليهود حين قيل لهم: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ)(البقرة: من الآية58)، فدخلوا على قفاهم، وقالوا: حنطة ولم يقولوا حطة، ووجد في هذه الأمة من فعل كذلك؛ فحرف لفظ الاستواء إلى الاستيلاء، قال تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه:5)، وقالوا هم: الرحمن على العرش استولى.
قال ابن القيم: إن اللام في استولى مزيدة زادها أهل التحريف كما زاد اليهود النون في (حطة) فقالوا: (حنطة).
نون اليهود ولام جهمي هما في وحي رب العرش زائدان(117/38)
أمر اليهود بأن يقولوا حطة فأبوا وقالوا حنطة لهوان
وكذلك الجهمي قيل له استوى فأبى وزاد الحرف للنقصان
ووجد في الأمم السابقة من اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله، ووجد في هذه الأمة من يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول شيخه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإذا تأملت كلام النبي صلى الله عليه وسلم وجدته مطابقاً للواقع: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)، ولكن يبقى النظر: هل هذا للتحذير أو للإقرار ؟
الجواب: لا شك أنه للتحذير وليس للإقرار؛ فلا أحد: سأحسد وسأكل الربا، وسأعتدي على الخلق؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ذلك، فمن قال ذلك؛ فإننا نقول له: أخطأت؛ لأن قول النبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه للتحذير، ولهذا قال الصحابة: اليهود والنصاري؟ قال: فمن؟
ثم نقول لهم أيضاً: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بأشياء ستقع، ومع ذلك أخبر بأنها حرام بنص القرآن .
فمن ذلك أنه أخبر أن الرجل يكرم زوجته ويعق أمه، وأخبر أن الإنسان يعصي أباه ويدني صديقه(1) ، وهذا ليس بجائز بنص القرآن ، لكن قصد التحذير من هذا العمل .
ووجد في الأمم السابقة من يقول للمؤمنين : إن هؤلاء لضالون ، ووجد في هده الأمة من يقول للمؤمنين : إن هؤلاء لرجعيون.
فالمعاصي لها أصل في الأمم على حسب ما سبق، ولكن من وقفه الله للهداية اهتدى.
والحاصل : أنك لا تكاد تجد معصية في هذه الأمة إلا وجدت لها أصلا في الأمم السابقة .
ولا تجد معصية في الأمم السابقة إلا وجدت لها وارثا في هذه الأمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*أما مناسبة الحديث للباب :
فلأنه لما عبدت الأمم السابقة الأصنام والأوثان؛ فسيكون في هذه الأمة من يعبد الأصنام والأوثان.(117/39)
قوله : ( حذو القذة القذة ) ، حذو بمعني : محاذيا، وهي منصوبة على الحال من فاعل تتبعن؛ أي : حال كونكم محاذين لهم حذو لهم القذة القذة .
والقذة : هي ريشة السهم ، السهم له ريش لا بد أن تكون متساوية تماما، وإلا ؛ صار الرمي به مختلا.
قوله : ( حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه ) ، هذه الجملة تأكيد منه صلى الله عليه وسلم للمتابعة.
وجحر الضب من أصغر الجحور ، ولو دخلوا جحر أسد من باب أولي أن ندخله؛ قال صلى الله عليه وسلم ذلك على سبيل المبالغة ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : ( من اقتطع شبرا من الأرض ظلما طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين )(1) ، ومن اقتطع ذراعا؛ فمن باب أولى .
قوله : ( قالوا اليهود والنصارى) يجوز فيها وجهان :
الأول : نصب اليهود و النصارى على أنه مفعول لفعل محذوف تقديره: أتعني اليهود و النصارى؟
الثاني: الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره : أهم اليهود و النصارى؟
وعلى كل تقدير؛ فالجملة إنشائية لأنهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فهي استفهامية، والاستفهام من باب الإنشاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واليهود: أتباع موسى عليه الصلاة و السلام ، وسموا يهودا نسبة إلى يهوذا من أحفاد إسحاق ، أو لأنهم هادوا إلى الله؛ أي : رجعوا إليه بالتوبة من عبادة العجل.
والنصارى : هم أتباع عيسى عليه الصلاة و السلام ، وسموا بذلك نسبة إلى بلدة تسمى الناصرة، وقيل من النصرة ؛ كما قال الله تعالى:(مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ ) (الصف: من الآية14).
قوله : ( قال فمن ) ، من هنا : اسم استفهام ، والمراد به التقرير؛ أي : فمن أعني غير هؤلاء ، أو فمن هم غير هؤلاء؟ فالصحابة رضي الله عنهم لما حدثهم صلى الله عليه وسلم بهذا الحديث كأنه حصل في نفوسهم بعض الغرابة ، فلما سألوا قرر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم اليهود و النصارى .
*من فوائد الحديث :(117/40)
1 -ما أراده المؤلف بسياقه، وهو أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان؛ لأنه من سنن من قبلنا، وقد اخبر صلى الله عليه وسلم أننا سنتبعهم.
2-ويستفاد أيضا من فحوى الكلام التحذير من متابعة من قبلنا في معصية الله .
3- أنه ينبغي معرفة ما كان عليه من كان قبلنا مما يجب الحذر منه لنحذره، وغالب ذلك ـ ولله الحمد ـ موجود في القرآن و السنة.
4-استعظام هذا الأمر عند الصحابة؛ لقولهم اليهود النصارى، فإن الاستفهام للاستعظام ؛ أي : استعظام الأمر أن نتبع سنن من كان قبلنا بعد أن جاءنا الهدى من النبي صلى الله عليه وسلم .
5-أنه كلما طال العهد بين الإنسان وبين الرسالة؛ فإنه يكون أبعد من الحق ؛ لأنه أخبر عن مستقبل ولم يخبر عن الحاضر ، ولأن من سنن من
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قبلنا أنه لما طال عليهم الأمد قست قلوبهم ، قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد:16).(117/41)
فإذا كان طول الأمد سببا لقسوة القلب فيمن قبلنا؛ فسيكون فينا، ويشهد لذلك ما جاء في (البخاري ) من حديث أنس رضي الله عنه؛ أنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يأتي على الناس زمان إلا وما بعده شر منه، حتى تلقوا ربكم)(1).ومن تتبع أحوال هذه الأمة وجد الأمر كذلك ، لكن يجب أن نعرف الفرق بين الجملة و الأفراد؛ فحديث أنس رضي الله عنه حديث صحيح سندا و متنا؛ فالمتن ليس فيه شذوذ، والسند في ( البخاري ) ، والمراد به من حيث الجملة، ولذلك يوجد في أتباع التابعين من هو خير من كثير من التابعين ؛ فلا تيأسوا ، فتقولوا : إذا لا يمكن أن يوجد في زماننا هذا من سبق؛ لأننا نقول : إن مثل هذا الحديث يراد به الجملة ، وإذا شئتم أن يتضح الأمر؛ فانظروا إلى جنس الرجال وجنس النساء؛ أيهما خير؟
والجواب : جنس الرجال خير، قال الله تعالى : (وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) (البقرة: من الآية228)، لكن يوجد في النساء من هي خير من كثير من الرجال؛ فيجب أن نعرف الفرق بين الجملة والأفراد .
فإذا نظرنا إلى مجموع القرن كله نجد أن ما بعد القرن شر منه، لا باعتبار الأفراد ولا باعتبار مكان دون مكان ، فقد تكون أمة في الجهات يرتفع الناس فيها من حسن إلى أحسن، كما لو نشأ فيها علماء نفع الله بهم؛ فإنهم
ولمسلم(1) عن ثوبان ( رضي الله عنه)؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها، وأعطيت الكنزين: الأحمر و الأبيض،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكونون أحسن ممن سبقهم.
أما الصحابة ؛ فلا أحد يساويهم في فضل الصحبة، حتى أفرادهم لا يمكن لأحد من التابعين أن يساويهم فيها مهما بلغ من الفضل ؛ لأنه لم يدرك الصحبة.
مسألة: ما هي الحكمة من ابتلاء الأمة بهذا الأمر : ( لتتبعن سنن …)إلخ، وأن يكون فيها من كل مساوئ من سبقها؟(117/42)
الجواب: الحكمة ليتبين بذلك كمال الدين ؛ فإن الدين يعارض كل هذه الأخلاق، فإذا كان يعارضها دل هذا على أن كل نقص في الأمم السابقة ، فإن هذه الشريعة جاءت بتكميله؛ لأن الأشياء لا تتبين إلا بضدها؛ كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء .
*( تنبيه ) :
قوله : ( حذو القذة بالقذة )(2) لم أجده في مظانه في ( الصحيحين)؛ فليحرر.
* * *
قوله : ( زوى لي )، بمعنى جمع وضم؛ أي : جمع له الأرض وضمها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( فرأيت ) ، أي: بعيني؛ فهي رؤية عينية، ويحتمل أن يكون رؤية منامية .
قوله : ( مشارقها ومغاربها )، وهذا ليس على الله بعزيز؛ لأنه على كل شيء قدير، فمن قدرته أن يجمع الأرض حتى يشاهد النبي صلى الله عليه وسلم ما سيبلغ ملك أمته منها .
وهل المراد هنا بالزوي أن الأرض جمعت ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قوي نظره حتى رأى البعيد ؟
الأقرب إلى ظاهر اللفظ : أن الأرض جمعت، لا أن بصره قوي حتى رأى البعيد.
وقال بعض العلماء : المراد قوة بصر النبي صلى الله عليه وسلم : أي : أن الله أعطاه قوة بصر حتى أبصر مشارق الأرض ومغاربها، لكن الأقرب الأول ، ونحن إذا أردنا تقريب هذا الأمر نجد أن صورة الكرة الأرضية الآن مجموعة يشاهد الإنسان فيها مشارق الأرض ومغاربها ؛ فالله على كل شيء قدير؛ فهو قادر على أن يجمع له صلى الله عليه وسلم الأرض حتى تكون صغيرة فيدركها من مشارقها إلى مغاربها.
*اعتراض وجوابه :
فإن قيل : هذا إن حمل على الواقع؛ فليس بموافق للواقع؛ لأنه لو حصرت الأرض بحيث يدركها بصر النبي صلى الله عليه وسلم المجرد ؛ فأين يذهب الناس والبحار و الجبال و الصحارى؟(117/43)
والجواب : بأن هذا من الأمور الغيبية التي لا يجوز أن تورد عليها كيف ولم ، بل نقول : إن الله على كل شيء قدير ؛ إذ قوة الله ـ سبحانه ـ أعظم من قوتنا وأعظم من أن نحيط بها، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يجري من
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ابن آدم مجرى الدم(1) ؛ فلا يجوز أن نقول : كيف يجري مجرى الدم؟ فالله أعلم بذلك .
وهذه المسائل التي لا ندركها يجب التسليم المحض لها ، ولهذا نقول في باب الأسماء و الصفات: تجرى على ظاهرها مع التنزيه عن التكييف و التمثيل، وهذا ما اتفق عليه أهل السنة و الجماعة .
وقوله : ( فرأيت مشارقها و مغاربها ) ، أي : أماكن الشرق و الغرب منها.
قوله : ( وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها ) ،والمراد : أمة الإجابة التي آمنت بالرسول صلى الله عليه وسلم سيبلغ ملكها ما زوي للرسول صلى الله عليه وسلم منها ، وهذا هو الواقع؛ فإن ملك هذه الأمة اتسع من المشرق ومن المغرب اتساعا بالغا، لكنه من الشمال والجنوب أقل بكثير ، والأمة الإسلامية وصلت من المشرق إلى السند و الهند وما وراء ذلك ، ومن المغرب إلى ما وراء المحيط ، وهذا يحقق ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : ( وأعطيت الكنزين : الأحمر و الأبيض ) ، الذي أعطاه هو الله .
والكنزان : هما الذهب و الفضة كنوز كسرى و قيصر؛ فالذهب عند قيصر، و الفضة عند كسرى ، وكل منهما عنده ذهب وفضة ، لكن الأغلب على كنوز قيصر الذهب ، وعلى كنوز كسرى الفضة .
وقوله : ( أعطيت ) هل النبي صلى الله عليه وسلم أعطيها في حياته ، أم بعد موته؟
الجواب: بعد موته أعطيت أمته ذلك ، لكن ما أعطيت أمته؛ فهو
وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة، وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، وإن ربي قال : يا محمد!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/44)
كالمعطى له؛ لأن امتداد ملك الأمة لا لأنها أمة عربية كما يقوله الجهال، بل لأنها أمة إسلامية أخذت بما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله : ( وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة)، هكذا في الأصل : ( بعامة)، والمعنى بمهلكة عامة ، وفي رواية في النسخ : ( بسنة عامة).
السنة: الجدب و القحط، وهو يهلك ويدمر ، قال صلى الله عليه وسلم : (اللهم ! اجعلها عليهم سنين كسني يوسف )(1) ،وقال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ)(لأعراف: من الآية130) ، ويحتمل أن يكون المعنى بعام واحد؛ فتكون الباء للظرفية.
وعامة؛ أي : عموما تعمهم ، هذه دعوة .
قوله : ( وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ) ، أي: لا يسلط عليهم عدوا، والعدو : ضد الولي ، وهو : المعادي المبغض الحاقد، وأعداء المسلمين هنا: هم الكفار، ولهذا قال : ( من سوى أنفسهم ) .
ومعنى: ( يستبيح ) : يستحل ، والبيضة : ما يجعل على الرأس وقاية من السهام.
والمراد : يظهر عليهم ويغلبهم.
قوله : ( إذا قضيت قضاء ؛ فإنه لا يرد) ،
اعلم أن قضاء الله نوعان :
1-قضاء شرعي قد يرد ؛ فقد يريده الله ولا يقبلونه.
إني إذا قضيت قضاء ؛ فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة ، وأن لا أسلط عليهم من بأقطارهم، حتى يكون بعضهم يهلك بعضا، ويسبي بعضهم بعضا ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
2- قضاء كوني لا يرد ، ولابد أن ينفذ .
وكلا القضاءين قضاء بالحق ، وقد جمعهما قوله تعالى : (وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقّ)(غافر: من الآية20).
ومثال القضاء الشرعي : قال تعالى : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)(الاسراء: من الآية23)؛ لأنه لو كان كونيا؛ لكان كل الناس لا يعبدون إلا الله.(117/45)
ومثال القضاء الكوني : قوله تعالى : (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرائيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً) (الاسراء:4)؛ لأن الله تعالى لا يقضي شرعا بالفساد ، لكنه يقضي به كونا وإن كان يكرهه سبحانه؛ فإن الله لا يحب الفساد ولا المفسدين ، لكنه يقضي بذلك لحكمة بالغة، كما قسم خلقه إلى مؤمنين وكافرين؛ لما يترتب على ذلك من المصالح العظيمة.
والمراد بالقضاء في هذا الحديث : القضاء الكوني؛ فلا أحد يستطيع رده مهما كان من الكفر والفسوق؛ فقضاء الله نافذ على أكبر الناس عتوا واستكبارا، فقد نفذ على فرعون وأغرق بالماء الذي كان يفتخر به، وعلى طواغيت بني آدم فأهلكهم الله ودمرهم.
0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي قوله : ( إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد) من كمال سلطان الله وقدرته وربوبيته ما هو ظاهر؛ لأنه ما من ملك سوى الله إلا يمكن أن يرد ما قضى به.
واعلم أن قضاء الله كمشيئته بالحكمة؛ فهو لا يقضي قضاء إلا والحكمة تقتضيه، كما لا يشاء شيئا إلا والحكمة تقتضيه، ويدل عليه قوله تعالى : (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً) (الانسان:30)؛ فيتبين أنه لا يشاء شيئا إلا عن علم وحكمة، وليس لمجرد المشيئة.
خلافا لمن أنكر حكمة الله من الجهمية وغيرهم، فقالوا: إنه لا يفعل الأشياء إلا لمجرد المشيئة ، فجعلوا على زعمهم المخلوقين أكمل تصرفا من الله؛ لأن كل عاقل من المخلوقين لا يتصرف إلا لحكمة، ولهذا كان الذي يتصرف بسفه يحجر عليه، قال تعالى: ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً )(النساء: من الآية5).
فنحن نقول : إن الله ـ جل وعلاـ لا يفعل شيئا ولا يحكم بشيء إلا لحكمة، ولكن هل يلزم من الحكمة أن نحيط بها علما؟(117/46)
الجواب: لا يلزم ؛ لأننا أقصر من أن نحيط علما بحكم الله كلها، صحيح أن بعض الأشياء نعرف حكمتها، لكن بعض الأشياء تعجز العقول عن إدراكها.
والمقصود من قوله : ( إذا قضيت قضاء ؛ فإنه لا يرد) بيان أن من الأشياء التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يعطها؛ لأنه الله قضى بعلمه وحكمته ذلك ، ولا يمكن أن يرد ما قضاه الله ـ عز وجل ـ .
والقضاء قد يتوقف على الدعاء ، بل إن كل قضاء أو أكثر القضاء له أسباب إما معلومة أو مجهولة ؛ فدخول الجنة لا يمكن إلا بسبب يترتب دخول الجنة عليه، وهو الإيمان والعمل الصالح.
0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كذلك حصول المطلوب، قد يكون الله ـ عز وجل ـ منعه حتى نسأل ، لكن من الأشياء ما لا تقتضي الحكمة وجوده، وحينئذ يجازى الداعي بما هو أكمل، أو يؤخر له ويدخر له عند الله ـ عزو جل ـ ، أو يصرف عنه من السوء ما هو أعظم ، والدعاء إذا تمت فيه شروط القبول ولم يجب؛ فإننا نجزم بأنه ادخر له.
وقوله : ( وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة) هذه واحدة.
والثانية : قوله : ( أن أسلط عليهم من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا و يسبي بعضهم بعضا).
وهذه الإجابة قيدت بقوله : ( حتى يكون بعضهم يهلك بعضا و يسبي بعضهم بعضا ) إذا وقع ذلك منهم؛ فقد يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم ، فيستبيح بيضتهم؛ فكأن إجابة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في الجملة الأولى بدون استثناء، وفي الجملة الثانية باستثناء ( حتى يكون بعضهم …) .
وهذه هي الحكمة من تقديم قوله : ( إذا قضيت قضاء؛ فإنه لا يرد)؛ فصارت إجابة الله لرسوله مقيدة.
ومن نعمة الله أن هذه الأمة لن تهلك بسنة بعامة أبدا ؛ فكل من يدين بدين الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فإنه لن يهلك ، وإن هلك قوم في جهة بسنة؛ فإنه لا يهلك الآخرون.(117/47)
فإذا صار بعضهم يقتل ويسبي بعضهم بعضا؛ فإنه يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم، وهذا هو الوقع؛ فالأمة الإسلامية حين كانت أمة واحدة عونا في الحق ضد الباطل كانت أمه مهيبة، ولما تفرقت وصار بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ؛ سلط الله عليهم عدوا من سوى أنفسهم، وأعظم
ورواه البرقاني في ( صحيحه ) ، وزاد : ( وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين، وإذا وقع عليهم السيف؛ لم يرفع إلى يوم القيامة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من سلط عليهم فيما أعلم التتار، فقد سلطوا على المسلمين تسليطا لا نظير له؛ فيقال: إنهم قتلوا في بغداد وحدها أكثر من خمسمائة عالم في يوم واحد، وهذا شيء عظيم، وقتلوا الخليفة ، وجعلوا الكتب الإسلامية جسرا على نهر دجلة يطؤونها بأقدامهم ويفسدونها ، وكانوا يأتون إلى الحوامل ويبقرون بطونهن ويخرجون أولادهن يتحركون أمامهم فيقتلونهم، وهي حية تشاهد ثم تموت .
قال ابن الأثير في (الكامل) : ( لقد بقيت عدة سنين معرضا عن ذكر هذه الحادثة استعظاما لها كارها لذكرها فأنا أقدم رجلا وأوخر أخرى ، فمن الذي يسهل عليه نعي الإسلام والمسلمين ؟! ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك ؟! فيا ليت أمي لم تلدني! ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا ! إلا أني حثني جماعة من الأصدقاء على تسطيرها وأنا متوقف، ثم رأيت أن ذلك لا يجدي …) ، وذكر كلاما طويلا ووقائع مفجعة، ومن أراد مزيدا من ذلك؛ فليرجع إلى حوادث سنة 617 من الكتاب المذكور.
وفي الحديث دليل على تحريم القتال بين المسلمين ، وإهلاك بعضهم بعضا، وسبي بعضهم بعضا ، وأنه يجب أن يكونوا أمة واحدة حتى تبقى هيبتهم بين الناس وتخشاهم الأمم .
قوله : ( إنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين )، بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يخاف على الأمة إلا الأئمة المضلين .
والأئمة : جمع إمام ، والإمام قد يكون إماما في الخير أو الشر، قال(117/48)
ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى في الخير : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24).
وقال تعالى عن آل فرعون أئمة : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ) (القصص:41).
والذي في الحديث الباب : ( الأئمة المضلين )، أئمة الشر ، وصدق النبي صلى الله عليه وسلم ، إن أعظم ما يخاف على الأمة الأئمة المضلون ؛ كرؤساء الجهمية و المعتزلة وغيرهم الذين تفرقت الأمة بسببهم.
والمراد بقوله : ( الأئمة المضلين ) : الذين يقودون الناس باسم الشرع، والذين يأخذون الناس بالقهر و السلطان ؛ فيشمل الحكام الفاسدين، والعلماء المضلين ، الذين يدعون أن ما هم عليه شرع الله، وهم أشد الناس عداوة له.
قال الإمام أحمد رحمه الله : لو كان لي دعوة مستجابة؛ لصرفتها للسلطان؛ فإن بصلاحه صلاح الأمة.
قوله : ( إذا وقع عليهم السيف … ) إلخ ، هذا من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا حق واقع ؛ فإنه لما وقع السيف في هذه الأمة لم يرفع، فما زال بينهم القتال منذ قتل الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وصارت الأمة يقتل بعضهم بعضا ويسبي بعضا بعضا .
قوله : ( ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين )، الحي: بمعنى القبيلة.
0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهل المراد باللحوق هنا اللحوق البدني، بمعنى أنه يذهب هذا الحي إلى المشركين ويدخلون فيهم ، أو اللحوق الحكمي، بمعنى أن يعملوا بعمل المشركين أو الأمران معا ؟
الظاهر أن المراد جميع ذلك.(117/49)
وأما الحي؛ فالظاهر أن المراد به الجنس، وليس واحد الأحياء، وإن قيل: إن المراد واحد الأحياء ؛ فلابد أن يكون لهذا الحي أثره وقيمته في الأمة الإسلامية، بحيث يتبين ويظهر، وربما يكون لهذا الحي إمام يزيغ ـ والعياذ بالله ـ ويفسد ؛ فيتبعه كل الحي، ويتبين ويظهر أمره .
قوله : ( وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان )، الفئام ؛أي: الجماعات ، وهذا وقع ؛ ففي كل جهة من جهات المسلمين من يعبدون القبور ويعظمون أصحابها ويسألون الحاجات والرغبات ويلتجئون إليهم ، وفئام؛ أي: ليسوا أحياء ؛ فقد يكون بعضهم من قبيلة ، والبعض الآخر من قبيلة ؛ فيجتمعون.
قوله : ( وإنه سيكون من أمتي كذابون ثلاثون )، حصرهم النبي صلى الله عليه وسلم بعدد ، وكلهم يزعم أنه نبي أوحي إليه ، وهو كذابون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ولا نبي بعده ، فمن زعم أنه نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ؛ فهو كاذب كافر حلال الدم و المال ، فمن صدقه في ذلك؛ فهو كافر حلال الدم والمال ، وليس من المسلمين ولا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ومن زعم أنه أفضل من محمد، وأنه يتلقى من الله مباشرة ومحمد صلى الله عليه وسلم يتلقى منه بواسطة الملك ؛ فهو كاذب كافر حلال الدم و المال.
وقوله : ( كذابون ثلاثون ) هل ظهروا أم لا ؟
الجواب : ظهر بعضهم ، وبعضهم ينتظر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحصرهم في
يزعم أنه نبي، وأنا خاتم النبيين ، لا نبي بعدي ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زمن معين ، وما دامت الساعة لم تقم ؛ فهم ينتظرون .
قوله : ( كلهم يزعم )، أي : يدعي .(117/50)
قوله : ( وأنا خاتم النبيين ) ، أي : آخرهم، وأكد ذلك بقوله : ( لا نبي بعدي) ، فإن قيل : ما الجواب عما ثبت في نزول عيسى بن مريم في آخر الزمان، مع أنه نبي ويضع الجزية و لا يقبل إلا الإسلام ؛ فالجواب: إن نبوته سابقة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأما كونه يضع الجزية و لا يقبل إلا الإسلام ؛ فليس تشريعا جديدا ينسخ قبول الجزية ، بل هو تشريع من محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر به مقررا له .
قوله : ( ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ) ، المعنى : أنهم يبقون إلى آخر وجودهم منصورين .
هذا من نعمة الله، فلما ذكر أن حيا من الأحياء يلتحقون بالمشركين، وأن فئاما يعبدون الأصنام، وأن أناسا يدعون النبوة؛ فيكون هنا الإخلال بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله بالشرك ، وأن محمدا رسول الله بادعاء النبوة، وذلك أصل التوحيد، بل أصل الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله و أن
0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمدا رسول الله .
فلما بين ذلك لم يجعل الناس ييأسون ، فقال : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ).
والطائفة : الجماعة.
وقوله : ( على الحق ) ، جار ومجرور خبر تزال .
قوله : ( منصورة )، خبر ثان ، ويجوز أن يكون حالا، والمعنى : لا تزال على الحق، وهي كذلك أيضا منصورة.
قوله : ( لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم )، خذلهم؛ أي: لم ينصرهم ويوافقهم على ما ذهبوا إليه ، وفي هذا دليل على أنه سيوجد من يخذلهم ، لكنه لا يضرهم ؛ لأن الأمور بيد الله، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك )(1) ، وكذلك لا يضرهم من خالفهم ؛ لأنهم منصورون بنصر الله؛ فالله ـ عز وجل ـ إذا نصر أحد أن يذله.(117/51)
قوله : ( حتى يأتي أمر الله ) ، أي : الكوني، وذلك عند قيام الساعة عندما يأتي أمره سبحانه وتعالى بأن تقبض نفس كل مؤمن ، حتى لا يبقى إلا شرار الخلق؛ فعليهم تقوم الساعة.
الشاهد من هذا الحديث : قوله في رواية البرقاني : ( حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين ويعبد فئام من أمتي الأوثان ).
0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله : ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ) هذه لم يحدد مكانها؛ فتشمل جميع بقاع الأرض في الحرمين و العراق وغيرهما .
فالمهم أن لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله .
مسألة : قال بعض السلف : إن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث؛ فما مدى صحة هذا القول؟
الجواب : هذا ليس بصحيح على إطلاقه، بل لابد من التفصيل، فإن أريد بذلك أهل الحديث المصطلح عليه، الذين يأخذون الحديث رواية ودراية وأخرج منهم الفقهاء وعلماء التفسير وما أشبه ذلك؛ فهذا ليس بصحيح؛ لأن علماء التفسير والفقهاء الذين يتحرون على الدليل هم في الحقيقة من أهل الحديث، ولا يختص بأهل الحديث صناعة؛ لأن العلوم الشرعية تفسير ، وحديث، وفقه … إلخ .
فالمقصود: إن كل من تحاكم إلى الكتاب والسنة؛ فهو من أهل الحديث بالمعنى العام .
وأهل الحديث هم : كل من يتحرى العمل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيشمل الفقهاء الذين يتحرون العمل بالسنة، وإن لم يكونوا من أهل الحديث اصطلاحا .
فشيخ الإسلام ابن تيميه مثلا لا يعتبر اصطلاحا ، من المحدثين ، ومع ذلك؛ فهو رافع لراية الحديث .
والإمام أحمد رحمه الله تنازعه طائفتان : أهل الفقه قالوا: إنه فقيه، وأهل الحديث قالوا: إنه محدث.
*فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النساء . الثانية : تفسير آية المائدة . الثالثة: تفسير آية الكهف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/52)
وهو إمام في الفقه والحديث والتفسير ، ولاشك أن أقرب الناس تمسكا بالحديث هم الذين يعتنون به .
ويخشى من التعبير بأن الطائفة المنصورة هم أهل الحديث أن يظن أنهم أهل الحديث الذين يعتنون به اصطلاحا ، فيخرج غيرهم .
فإذا قيل : أهل الحديث بالمعنى الأعم الذين يأخذون بالحديث ، سواء انتسبوا إليه اصطلاحا واعتنوا به أو لم يعتنوا، لكنهم أخذوا به ؛ فحينئذ يكون صحيحا.
* * *
*فيه مسائل :
*الأولى : تفسير آية النساء ، وهي قوله تعالى : ( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ) ، وقد سبق ذلك .
*الثانية : تفسير آية المائدة ، وهي قوله تعالى : ( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ) ، وقد سبق تفسيرها ، والشاهد منها هنا قوله : ( وعبد الطاغوت ) .
*الثالثة : تفسير آية الكهف، يعني: قوله تعالى : ( قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا ) ، وقد سبق بيان معناها .
الرابعة : وهي أهمها : ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت ؟ هل هو اعتقاد قلب ؟ أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها ؟ الخامسة : قولهم :إن الكفار يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين . السادسة : وهي المقصود بالترجمة : أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد. السابعة : تصريحه بوقوعها ـ أعني : عبادة الأوثان ـ .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*الرابعة : ـ وهي أهمها ـ : ما معنى الإيمان بالجبت والطاغوت؟ هل هو اعتقاد القلب ، أو موافقة أصحابها مع بغضها ومعرفة بطلانها؟
أما إيمان القلب واعتقاده؛ فهذا لاشك في دخوله في الآية.(117/53)
وأما موافقة أصحابها في العمل مع بغضها ومعرفة بطلانها ؛ فهذا يحتاج إلى تفصيل ، فإن كان وافق أصحابها بناء على أنها صحيحة؛ فهذا كفر، وإن كان وافق أصحابها ولا يعتقد أنها صحيحة؛ فإنه لا يكفر، لكنه لاشك على خطر عظيم يخشى أن يؤدي به الحال إلى الكفر والعياذ بالله .
*الخامسة : قولهم إن الكفار الذين يعرفون كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين، يعني: إن هذا القول كفر وردة ؛ لأن من زعم أن الكفار الذين يعرف كفرهم أهدى سبيلا من المؤمنين ؛ فإنه كافر لتقديمه الكفر على الإيمان.
*السادسة ـ وهي المقصود بالترجمة ـ : أن هذا لابد أن يوجد في هذه الأمة كما تقرر في حديث أبي سعيد.
*السابعة : تصريحه بوقوعها ؛ أعني: عبادة الأوثان، والترجمة التي أشار
الثامنة: العجب العجاب : خروج من يدعي النبوة؛ مثل المختار، مع تكلمه بالشهادتين، وتصريحه بأنه من هذه الأمة ، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة، وتبعه فئام كثيرة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إليهما رحمه الله هي قوله : ( باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان)، وحديث أبي سعيد هو قوله صلى الله عليه وسلم : ( لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة القذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه . قالوا : يا رسول الله ! اليهود والنصارى؟ قال : فمن ؟ ) أخرجاه.
وهذا يتضمن التحذير من أن تقع هذه الأمة في مثل ما وقع فيه من سبقها.
*الثامنة : العجب العجاب : خروج من يدعي النبوة، مثل المختار مع تكلمه بالشهادتين ، وتصريحه بأنه من هذه الأمة، وأن الرسول حق، وأن القرآن حق، وفيه أن محمدا خاتم النبيين ، ومع هذا يصدق في هذا كله، مع التضاد الواضح، وقد خرج المختار في آخر عهد الصحابة ، وتبعه فئام كثيرة.(117/54)
والمختار هو ابن أبي عبيد الثقفي ، خرج وغلب على الكوفة في أول خلافة ابن الزبير رضي الله عنه ، وأظهر محبة آل البيت، ودعا الناس إلى الثأر من قتلة الحسين ؛ فتتبعهم، وقتل كثيرا ممن باشر ذلك أو أعان عليه ، فانخدع به العامة، ثم ادعى النبوة وزعم أن جبريل يأتيه.
ولاشك أن هذه المسألة من العجب العجاب أن يدعي النبوة وهو يؤمن
التاسعة : البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضى، بل لا تزال عليه طائفة. العاشرة : الآية العظمى : أنهم مع قلتهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم . الحادية عشرة : أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة . الثانية عشرة: ما فيه من الآيات العظيمة :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أن القرآن حق ، وفي القرآن أن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين ؛ فكيف يكون صادقا، وكيف يصدق مع هذا التناقض؟ ! ولكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور .
*التاسعة : البشارة بأن الحق لا يزول بالكلية كما زال فيما مضي ، بل لا تزال عليه طائفة ، يعني: من هذه الأمة منصورة إلى يوم القيامة.
يؤخذ من آخر الحديث : ( لا تزال من أمتي على الحق منصورة، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى ) .
*العاشرة : الآية العظمى أنهم مع قتلهم لا يضرهم من خذلهم و لا من خالفهم، وهذه آية عظمى : أن الكثرة الكاثرة من بني آدم خلاف ذلك، ومع ذلك لا يضرونهم ، ( كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)(البقرة: من الآية249).
*الحادية عشرة : أن ذلك الشرط إلى قيام الساعة ، قد سبق .
*الثانية عشرة : ما فيه من الآيات العظيمة ، أي : ما في هذا الحديث من الآيات العظيمة، والآيات : جمع آية ، وهي العلامة، والآيات التي يؤيد الله بها رسله عليهم الصلاة و السلام هي العلامات الدالة على صدقهم .(117/55)
منها إخباره بأن الله زوى له المشارق و المغارب، وأخبر بمعنى ذلك فوقع كما أخبر؛ بخلاف الجنوب و الشمال . وإخباره بأنه أعطي الكنزين . وإخباره بإجابة دعوته لأمته في الاثنتين . وإخباره بأنه منع الثالثة. وإخباره بوقوع السيف، وأنه لا يرفع إذا وقع. وإخباره بإهلاك بعضهم بعضا ، وسبي بعضهم بعضا. وخوفه على أمته من الأئمة المضلين . وإخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة. وإخباره ببقاء الطائفة المنصورة . وكل هذا كما أخبر ، مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فما في هذا الحديث : إخباره بأن الله ـ سبحانه وتعالى ـ زوى له المشارق و المغارب ، وأخبر بمعنى ذلك ؛ فوقع كما أخبر بخلاف الجنوب و الشمال، فإن رسالة النبي صلى الله عليه وسلم امتدت نحو الشرق و الغرب أكثر من امتدادها نحو الجنوب و الشمال ، وهذا من علم الغيب الذي أطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم عليه.
ومنها: إخباره أنه صلى الله عليه وسلم أعطي الكنزين، وهما كنز كسرى و قيصر.
ومنها : إخباره بإجابة دعوته في الاثنتين، وهما ألا يهلكها بسنة بعامة، وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم حتى يكون بعضهم يهلك بعضا… إلخ ، ومنع الثالثة ، وهي ألا يجعل بأس هذه الأمة بينها؛ فإن هذا سوف يكون كما صرح به حديث عامر بن سعد عن أبيه : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية؛ فركع فيه ركعتين وصلينا معه، ودعا دعاء طويلا، وانصرف إلينا ؛ فقال : ( سألت ربي ثلاثا فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة: سألت ربي ألا يهلك أمتي بالسنة؛ فأعطانيها، وسألته
الثالثة عشرة : حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ألا يهلك أمتي بالغرق؛ فأعطانيها ، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم؛ فمنعنيها)(1)؛(117/56)
ومن هذه الآيات التي تضمنها هذا الحديث : إخباره بوقوع السيف في أمته، وأنه إذا وقع؛ فإنه لا يرفع حتى تقوم الساعة، وقد كان الأمر كذلك؛ فإنه منذ سلت السيوف على المسلمين من بعضهم بعض بقي هذا إلى يومنا هذا .
ومنها : إخباره بإهلاك بعضهم بعضا وسبي بعضهم بعضا، هذا واقع.
ومنها : خوفه على أمته من الأئمة المضلين ، والأئمة : جمع إمام ، والإمام : هو من يقتدى به، إما لعلمه، وإما لسلطته ، وإما لعبادته.
ومنها : إخباره بظهور المتنبئين في هذه الأمة، وأنهم ثلاثون، قال ابن حجر: ( هذا الحصر بالثلاثين لا يعنى انحصار المتنبئين بذلك؛ لأنهم أكثر من ذلك) .
قلت : فيكون ذكر الثلاثين لبيان الحد الأدنى؛ أي : أنهم لا ينقصون عن ذلك العدد، وإنما عدلنا عن ظاهر اللفظ للأمر الواقع، وهذا ـ والله أعلم ـ هو السر في ترك المؤلف رحمه الله العدد في مسائل الباب مع أنه صريح في الحديث.
ومنها : إخباره ببقاء الطائفة المنصورة، وهذا كله وقع كما أخبر.
قال الشيخ رحمه الله: ( مع أن كل واحدة منها أبعد ما يكون في العقول).
*الثالثة عشرة : حصر الخوف على أمته من الأئمة المضلين، ووجه هذا
الرابعة عشرة : التنبيه على معنى عبادة الأوثان .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحصر أن الأئمة ثلاثة أقسام : أمراء وعلماء و عباد ؛ فهم الذين يخشى من إضلالهم لأنهم متبوعون؛ فالأمراء لهم السلطة و التنفيذ ، والعلماء لهم التوجيه والإرشاد ، والعباد لهم تغرير الناس وخداعهم بأحوالهم ؛ فهؤلاء يطاعون ويقتدى بهم، فيخاف على الأمة منهم؛ لأنهم إذا كانوا مضلين ضل بهم كثير من الناس، وإذا كانوا هادين اهتدى بهم كثير من الناس .
*الرابعة عشرة : التنبيه على معنى عبادة الأوثان ، يعني أن عبادة الأوثان لا تختص بالركوع و السجود لها ، بل تشمل اتباع المضلين الذين يحلون ما حرم الله فيحله الناس ، ويحرمون ما أحله الله فيحرمه الناس .(117/57)
والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
* * *
باب ما جاء في السحر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
السحر لغة : ما خفي ولطف سببه، ومنه سمي السحر لآخر الليل؛ لأن الأفعال التي تقع فيه تكون خفية، وكذلك سمي السحور ؛ لما يؤكل في آخر الليل؛ لأنه يكون خفيا ؛ فكل شيء خفي سببه يسمى سحرا.
وأما في الشرع ؛ فإنه ينقسم إلى قسمين :
الأول : عقد ورقى ؛ أي: قراءات وطلاسم يتوصل بها الساحر إلى استخدام الشياطين فيما يريد به ضرر المسحور، لكن قد قال الله تعالى: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ )(البقرة: من الآية102).
الثاني : أدوية وعقاقير تؤثر على بدن المسحور وعقله وإرادته وميله؛ فتجده ينصرف ويميل ، وهو ما يسمى عندهم بالصرف و العطف.
فيجعلون الإنسان ينعطف على زوجته أو امرأة أخرى، حتى يكون كالبهيمة تقوده كما تشاء، والصرف بالعكس من ذلك.
فيؤثر في بدن المسحور بإضعافه شيئا فشيئا حتى يهلك .
وفي تصوره بأن يتخيل الأشياء على خلاف ما هي عليه .
وفي عقله؛ فربما يصل إلى الجنون و العياذ بالله .
فالسحر قسمان :
ا- شرك، وهو الأول الذي يكون بواسطة الشياطين؛ يعبدهم و يتقرب إليهم ليسلطهم على المسحور .
ب - ب - عدوان ، وفسق وهو الثاني الذي يكون بواسطة الأدوية والعقاقير ونحوها .
وبهذا التقسيم الذي ذكرناه نتوصل به إلى مسألة مهمة، وهي: هل يكفر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الساحر أو لا يكفر؟
اختلف في هذا أهل العلم :
فمنهم من قال : إنه يكفر.
ومنهم من قال : إنه لا يكفر .(117/58)
ولكن التقسيم السابق الذي ذكرناه يتبين به حكم هذه المسألة، فمن كان سحره بواسطة الشياطين؛ فإنه يكفر لأنه لا يتأتى ذلك إلا بالشرك غالبا ؛ لقوله تعالى : (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ …) إلى قوله: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(البقرة:102)، ومن كان سحره بالأدوية والعقاقير ونحوهما؛ فلا يكفر، ولكن يعتبر عاصيا معتديا.
وأما قتل الساحر ، فإن كان سحره كفرا؛ قتل ردة، إلا أن يتوب على القول بقبول توبته، وهو الصحيح ، وإن كان سحره دون الكفر؛ قتل قتل الصائل؛ أي: قتل لدفع أذاه و فساده في الأرض ، وعلى هذا يرجع في قتله إلى اجتهاد الإمام، وظاهر النصوص التي ذكرها المؤلف أنه يقتل بكل حال؛ فالمهم أن السحر يؤثر بلا شك ، لكنه لا يؤثر بقلب الأعيان إلى أعيان أخرى؛ لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله ـ عز وجل ـ ، وإنما يخيل إلى المسحور أن هذا الشيء انقلب وهذا الشيء تحرك أو مشى وما أشبه ذلك، كما جرى لموسى عليه الصلاة و السلام أمام سحرة آل فرعون ، حيث كان يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى.
إذا قال قائل : ما وجه إدخال باب السحر في كتاب التوحيد؟
وقول الله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ)(البقرة: من الآية102).
وقوله : ( يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ)(النساء: من الآية50).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/59)
نقول مناسبة الباب لكتاب التوحيد :
لأن من أقسام السحر ما لا يتأتى غالبا إلا بالشرك؛ فالشياطين لا تخدم الإنسان غالبا إلا لمصلحة، ومعلوم أن مصلحة الشيطان أن يغوي بني آدم فيدخلهم في الشرك و المعاصي .
* * *
وقد ذكر المؤلف في الباب آيتين :
الآية الأولى : قوله تعالى : ( ولقد علموا ) .
ضمير الفاعل يعود على متعلمي السحر، والجملة مؤكدة بالقسم و اللام وقد.
ومعنى ( اشتراه ) ؛ أي: تعلمه.
قوله : ( ما له في الآخرة من خلاق ) ؛ أي: ما له من نصيب، وكل من ليس له في الآخرة من خلاق ؛ فمقتضاه أن عمله حابط باطل ، لكن إما أن ينتفي النصيب انتفاء كليا فيكون العمل كفرا، أو ينتفي كمال النصيب فيكون فسقا.
* * *
الآية الثانية قوله تعالى : ( يؤمنون ) ؛ أي: اليهود. ( بالجبت)؛ أي السحر كما فسرها عمر بن الخطاب.
واليهود كانوا من أكثر الناس تعلما للسحر و ممارسة له ، و يدعون أن سليمان عليه السلام علمهم إياه، وقد اعتدوا ؛ فسحروا النبي صلى الله عليه وسلم
قال عمر : ( الجبت : السحر ، والطاغوت: الشيطان)(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( الطاغوت ) . أجمع ما قيل فيه: هو ما تجاوز به العبد حده؛ من معبود ، أو متبوع، أو مطاع .
ومعنى ( من معبود ) ؛ أي: بعلمه ورضاه، هكذا قال ابن القيم رحمه الله، وقد سبق في أول الكتاب(2) تعليق على هذا القول عند قوله : ( واجتنبوا الطاغوت).
الشاهد : قوله : ( بالجبت)، حيث فسرها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه بأنها السحر.
وأما تفسير الطاغوت بالشيطان ؛ فإنه من باب التفسير بالمثال.(117/60)
والسلف رحمهم الله يفسرون الآية أحيانا بمثال يحتذى عليه، مثل قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)(فاطر: من الآية32).
قال بعض المفسرين : الظالم لنفسه: الذي لا يصلي إلا بعد خروج الوقت، والمقتصد: الذي يصلي في آخر الوقت، و السابق بالخيرات: الذي يصلي في أول الوقت.
وهذا مثال من الأمثلة، وليس ما تدل عليه الآية على وجه الشمول،
وقال جابر : ( الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان ، في كل حي واحد)(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ولهذا فسرها بعضهم بأن الظالم لنفسه الذي لا يخرج الزكاة، والمقتصد من يخرج الزكاة و لا يتصدق، و السابق بالخيرات من يخرج الزكاة و يتصدق.
فتفسير عمر رضي الله عنه للطاغوت بالشيطان تفسير بالمثال؛ لأن الطاغوت أعم من الشيطان؛ فالأصنام تعتبر من الطواغيت؛ كما قال الله تعالى: (وعبد الطاغوت) ( المائدة : 60) ، والعلماء والأمراء الذين يضلون الناس يعتبرون طواغيت؛ لأنهم طغوا وزادوا ما ليس لهم به حق.
* * *
قوله : ( الطواغيت كهان كان ينزل عليهم الشيطان، في كل حي واحد ) .
هذا أيضا من باب التفسير بالمثال ، حيث إنه جعل من جملة الطواغيت الكهان .
والكاهن ؛ قيل : هو الذي يخبر عما في الضمير.
وقيل : الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل .
وكان هؤلاء الكهان تنزل عليهم الشياطين بما استرقوا من السمع من السماء، وكان كل حي من أحياء العرب لهم كاهن يستخدم الشياطين، فتسترق له السمع، فتأتي بخبر السماء إليه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اجتنبوا السبع الموبقات. قالوا: يا رسول الله ! وما هن ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكانوا يتحاكمون إليهم في الجاهلية.(117/61)
والطواغيت ليسوا محصورين في هؤلاء ؛ فتفسير جابر رضي الله عنه تفسير بالمثال كتفسير عمر رضي الله عنه .
* * *
قوله : ( اجتنبوا السبع الموبقات ) .
النبي صلى الله عليه وسلم أنصح الخلق للخلق ؛ فكل شيء يضر الناس في دينهم و دنياهم يحذرهم منه، ولهذا قال: ( اجتنبوا )، وهي أبلغ من قوله: اتركوا ؛ لأن الاجتناب معناه أن تكون في جانب وهي في جانب آخر، وهذا يستلزم البعد عنها.
و( اجتنبوا ) ؛ أي: اتركوا، بل أشد من مجرد الترك ؛ لأن الإنسان قد يترك الشيء وهو قريب منه، فإذا قيل: اجتنبه؛ يعني: اتركه مع البعد.
وقوله : ( السبع الموبقات ) . هذا لا يقتضي الحصر ؛ فإن هناك موبقات أخرى، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم يحصر أحيانا بعض الأنواع والأجناس ، ولا يعني بذلك عدم وجود غيرها.
ومن ذلك حديث : ( السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)(1)؛ فهناك غيرهم ، ومثله :
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم ، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم) ، ثم قال : ( المسبل و المنان و المنفق سلعته بالحلف الكاذب)(1) ، وأمثلة هذا كثيرة، وإن قلنا بدلالة حديث أبي هريرة في الباب على الحصر لكونه وقع بـ (أل) المعرفة؛ فإنه حصرها لأن هذه أعظم الكبائر .
قوله : ( قالوا : يا رسول الله ! وما هن؟).(117/62)
كان الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم إذا ألقى الشيء مبهما طلبوا تفسيره وتبيينه، فلما حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم من السبع الموبقات قالوا ذلك لأجل أن يجتنبوهن ، فأخبرهم، وعلى هذه القاعدة ( أن الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على العلم )، لكن ما كانت الحكمة في إخفائه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخبرهم؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن لله تسعة و تسعين اسما، من أحصاها دخل الجنة)(2)،ولم يرد تبيينها عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث صحيح.
وقد حاول بعض الناس أن يصحح حديث سرد الأسماء التسعة و التسعين(3)، ولم يصب، بل نقل شيخ الإسلام اتفاق أهل المعرفة في الحديث على أن عدها و سردها لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم(4) ، وصدق رحمه الله بدليل الاختلاف الكبير فيها.
فمن حاول تصحيح هذا الحديث؛ قال : إن الثواب عظيم، ( من أحصاها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
دخل الجنة)؛ فلا يمكن للصحابة أن يفوتوه، فلا يسألوا عن تعيينها فدل هذا على أنها قد عينت من قبل النبي صلى الله عليه وسلم.
لكن يجاب عن ذلك بأنه ليس بلازم، ولو عينها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لكانت هذه الأسماء التسع و التسعين معلومة للعالم أشد من علم الشمس، ولنقلت في ( الصحيحين ) وغيرهما ؛ لأن هذا مما تدعو الحاجة إليه ، وتلح بحفظه و العناية به ؛ فكيف لا يأتي إلا عن طريق واهية وعلى صور مختلفة؟!
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يبينها لحكمة بالغة ، وهي أن يطلبها الناس و يتحروها في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ حتى يعلم الحريص من غير الحريص.(117/63)
كما ولم يبين النبي صلى الله عليه وسلم ساعة الإجابة يوم الجمعة، و العلماء اختلفوا في حديث أبي موسى الذي في مسلم؛ حيث قال فيه : ( إنها ما بين أن يخرج الإمام إلى أن تقضى الصلاة )(1)؛ فإن بعضهم صححه وبعضهم ضعفه، لكن هو عندي صحيح؛ لأن علة التضعيف فيه واهية، والحال تؤيد صحته؛ لأن الناس مجتمعون أكبر اجتماع في البلد على صلاة مفروضة؛ فيكون هذا الوقت في هذه الحال حريا بإجابة الدعاء ، وكذلك ليلة القدر لم يبينها النبي صلى الله عليه وسلم مع أنها من أهم ما يكون.
وقوله:(الموبقات)؛ أي: المهلكات ، قال تعالى:(وجعلنا بينهم موبقا) ( الكهف :52)؛ أي: مكان هلاك.
قوله : ( قالوا : يا رسول الله ! وما هن ؟) . سألوا عن تبيينها، وبه تتبين الفائدة من الإجمال ، وهي أن يتطلع المخاطب لبيان هذا المجمل؛ لأنه إذا جاء مبينا من أول وهلة؛ لم يمكن له التلقي و القبول كما إذا أجمل ثم بين.
قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (وما هن ) . ( ما ) : اسم استفهام مبتدأ ، و(هن ) : خبرالمبتدأ.
وقيل : بالعكس ، ( ما) : خبر مقدم وجوبا؛ لأن الاستفهام له الصدارة،
و(هن) : مبتدأ مؤخر .
لأن (هن ) ضمير معرفة، و( ما ) نكرة، والقاعدة المتبعة أنه يخبر بالنكرة عن المعرفة والعكس .
قوله : ( قال : الشرك بالله ) . قدمه لأنه أعظم الموبقات؛ فإن أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك.
والشرك بالله يتناول الشرك بربوبيته أو ألوهيته أو أسمائه أو صفاته.(117/64)
فمن اعتقد أن مع الله خالقا أو معينا؛ فهو مشرك، أو أن أحدا سوى الله يستحق أن يعبد؛ فهو مشرك وإن لم يعبده ، فإن عبده ؛ فهو أعظم ، أو أن لله مثيلا في أسمائه؛ فهو مشرك، أو أن الله استوى على العرش كاستواء الملك على عرش مملكته؛ فهو مشرك ، أو أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كنزول الإنسان إلى أسفل بيته من أعلى ؛ فهو مشرك.
قال تعالى : (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(النساء: من الآية48)، وقال تعالى: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ)(المائدة: من الآية72).
وبين صلى الله عليه وسلم أن الشرك أعظم ما يكون من الجناية والجرم بقوله حين سئل: أي الذنب أعظم: (أن تجعل لله نداً وهو خلقك) (1) .
فالذي خلقك وأوجدك وأمدك وأعدك ورزقك كيف تجعل له نداً؟ فلو أن أحداً من الناس أحسن إليك بما دون ذلك، فجعلت له نظيراً؛ لكان هذا الأمر بالنسبة إليه كفراً وجحوداً.
قوله: (والسحر)؛ أي: من الموبقات، وظاهر كلام النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا فرق بين أن يكون ذلك بواسطة الشياطين؛ فالذي لا يأتي إلا بالإشراك بهم؛ فهو داخل في الشرك بالله.
وإن كان دون ذلك؛ فهو أيضاً جرم عظيم؛ لأن السحر من أعظم ما يكون في الجناية على بني آدم؛ فهو يفسد على المسحور أمر دينه ودنياه، ويقلقه فيصبح كالبهائم، بل أسوأ من ذلك؛ لأن البهيمة خلقت هكذا على طبيعتها، أما الآدمي؛ فإنه إذا صرف عن طبيعته وفطرته لحقه من الضيق والقلق ما لا يعلمه إلا رب العباد، ولهذا كان السحر يلي الشرك بالله ـ عز وجل ـ .(117/65)
قوله: (وقتل النفس)؛ القتل: إزهاق الروح، والمراد بالنفس: البدن الذي فيه الروح، والمراد بالنفس هنا: نفس الآدمي وليس البعير والحمار وما أشبهها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (التي حرم الله) . مفعول (حرم) محذوف تقديره: حرم قتلها؛ فالعائد على الموصول محذوف.
وقوله: (إلا بالحق)؛ أي: بالعدل؛ لأن هذا حكم، والحق إذا ذكر بإزاء الأحكام؛ فالمراد به العدل، وإذا ذكر بإزاء الأخبار؛ فالمراد به الصدق، والعدل: هو ما أمر الله به ورسوله، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ)(النحل: من الآية90).
والنفس المحرمة أربعة أنفس، هي: نفس المؤمن، والذمي، والمعاهد، والمستأمن؛ بكسر الميم: طالب الأمان.
فالمؤمن لإيمانه، والذمي لذمته، والمعاهد لعهده، والمستأمن لتأمينه.
والفرق بين الثلاثة ـ الذمي، والمعاهد، والمستأمن ـ : أن الذمي هو الذي بيننا وبينه ذمة؛ أي: عهد على أن يقيم في بلادنا معصوماً مع بذل الجزية.
وأما المعاهد؛ فيقيم في بلاده، لكن بيننا وبينه عهد أن لا يحاربنا ولا نحاربه.
وأما المستأمن؛ فهو الذي ليس بيننا وبينه ذمة ولا عهد، لكننا أمناه في وقت محدد؛ كرجل حربي دخل إلينا بأمان للتجارة ونحوها، أو ليفهم الإسلام، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ) (التوبة: من الآية6) ، وهناك فرق آخر، وهو أن العهد يجوز من جميع الكفار، والذمة لا تجوز إلا من اليهود والنصارى والمجوس دون بقية الكفار، وهذا هو المشهور من المذهب، والصحيح: أنها تجوز من جميع الكفار.
فهذه الأنفس الأربع قتلها حرام، لكنها ليست على حد سواء في التحريم؛ فنفس المؤمن أعظم، ثم الذمي، ثم المعاهد، ثم المستأمن.
وهل المستأمن مثل المعاهد أو أعلى ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/66)
أشك في ذلك؛ لأن المستأمن من له عهد خاص، بخلاف المعاهدين؛ فالمعاهدون يتولى العهد أهل الحل والعقد منهم؛ فليس بيننا عقود تأمينات خاصة، وأياً كان؛ فالحديث عام، وكل منهم معصوم الدم والمال.
وقوله؛ (إلا بالحق)؛ أي: مما يوجب القتل، مثل: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.
قوله: (وأكل الربا). الربا في اللغة: الزيادة، ومنه قوله تعالى: (فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَت)(الحج: من الآية5)؛ يعني: زادت.
وفي الشرع: تفاضل في عقد بين أشياء يجب فيها التساوي، ونسأ في عقد بين أشياء يجب فيها التناقض.
والربا: ربا فضل؛ أي: زيادة، وربا نسيئة؛ أي: تأخير، وهو يجري في ستة أموال بينها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح) (1) ؛ فهذه هي الأموال الربوية بنص الحديث وإجماع المسلمين، وهذه الأصناف الستة إن بعث منها جنساً بمثله جرى فيه ربا الفضل وربا النسيئة، فلو زدت واحداً على آخر؛ فهو ربا فضل، أو سويته لكن أخرت القبض؛ فهو ربا نسيئة، وربما يجتمع النوعان كما لو بعث ذهباً بذهب متفاضلاً والقبض متأخر؛ فقد اجتمع في هذا العقد ربا الفضل وربا النسيئة، وعلى هذا، فإذا بعت جنساً بجنسه؛ فلا بد من أمرين: التساوي، والتقابض في مجلس العقد.
وإذا اختلفت الأجناس واتفقت العلة؛ أي: اتفق المقصود في العوضين؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإنه يجري ربا النسيئة دون ربا الفضل؛ فذهب بفضة متفاضلاً مع القبض جائز، وذهب بفضة متساوياً مع التأخير ربا لتأخر القبض.
قال صلى الله عليه وسلم : (فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) (1).
وقولنا: اتفقا في الغرض والمقصود احترازاً مما إذا اختلف الغرض منها.
فالمذهب مثلاً ثمن للأشياء، والفضة ثمن للأشياء، والبر قوت.(117/67)
وعلى هذا يجوز بيع صاع من البر بدينار من الذهب مع التفرق وعدم التساوي لاختلاف القصد؛ لأن هذا يقصد به النقد والثمنية، وهذا يقصد به القوت.
فإن قيل: الحديث يدل على أنه لا يصح إلا بالقبض؛ فما هو الجواب؟
نقول: حقيقة إن هذا مقتضى الحديث أنك إذا بعت ذهباَ ببر وجب التقابض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : (فإذا اختلفت هذه الأصناف؛ فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد).
والجواب عن هذا أن نقول: قد دلت السنة من وجه آخر على أن القبض ليس بشرط فيما إذا كان أحدهما ثمناً، قال ابن عباس: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والنستين، فقال: (من أسلف في شيء؛ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم) (2) .
وعلى هذا ؛ فحديث : (فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد) لا عموم لمفهومه؛ فلا يشترط القبض في كل صورة من صور المخالفة ، وإنما يشترط
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
القبض فيما إذا اتفقا في الغرض؛ كذهب بفضة، أو بر بشعير، وأما ذهب أو فضة بشعير ونحوه؛ فلا يشترط القبض.
واختلف العلماء فيما عدا هذه الأصناف الستة؛ فالظاهرية قالوا: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة؛ لأنهم لا يرون القياس، فيقتصر على ما جاء به النص، فيجوز عندهم مبادلة أرز بذرة متفاضلاً مع تأخر القبض؛ لأنهما لا يدخلان في المنصوص عليه.
وأما أهل القياس من المذاهب الأربعة؛ فإنهم عدوا الحكم إلى غيرها؛ إلا أن بعضاً منهم لم يعد الحكم إلى غيرها، وهو من أهل القياس، مثل ابن عقيل رحمه الله؛ فإنه يعد الحكم إلى غيرها، وهو من أهل القياس، مثل ابن عقيل رحمه الله؛ فإنه قال: لا يجري الربا إلا في هذه الأصناف الستة، لا لأنه لا قياس، ولكن لأن العلماء اختلفوا واضطربوا في العلة التي من أجلها كان الربا، فلما اضطروا في العلة ألغينا جميع هذه العلل، وأبقينا النص على ما هو عليه من الحصر في المنصوص عليه.(117/68)
والصحيح أن الربا يجري في غير الأصناف الستة، وأن العلة هي الكيل والادخار مع الطعم، وهو أن يكون قوتاً مدخراً، وهذا بالنسبة للبر والتمر والشعير.
وبالنسبة للذهب والفضة: العلة هي الجنس والثمنية، فقولنا: (الجنس) لأجل أن يشمل الحلي إذا بيع بعضه ببعض، فيجري فيه الربا، مع أنه ليس بثمن، والثمنية مثل الدراهم والدنانير والأوراق النقدية المعروفة؛ فإنها بمنزلة الذهب والفضة، أو يقال: العلة الثمنية فقط والحلي خارج عن الثمنية خروجاً طارئاً؛ لأن التحلي طاريء، والأصل في الذهب والفضة الثمنية؛ لأنهما ثمن الأشياء.
وأما الملح؛ فقال شيخ الإسلام إنه يصلح به القوت؛ أي: فهو تابع له؛ فالعلة ليس أنه قوت، لكنه من ضرورياته، ولهذا لو طحنت براً ولم يكن فيه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ملح: لم يبق إلا أياماً يسيرة، فيفسد، فإذا كان فيه الملح منعه من الفساد؛ فيقول: لما كان يصلح به القوت جعل له حكمة.
وقوله: (وأكل الربا). ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الأكل؛ لأنه أعم وجوده الانتفاع، هكذا قال أهل العلم، ولهذا قال تعالى في بني إسرائيل: (وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ )(النساء: من الآية161)، ولم يقل أكلهم، والأخذ أعم من الأكل؛ فأكل الربا معناه أخذه، سواء استعمله في الأكل أو الفرش أو البناء أو المسكن أو غير ذلك.
قوله: (وأكل مال اليتيم). اليتيم: هو الذي مات أبوه قبل بلوغه، سواء كان ذكراً أم أنثى، أما من ماتت أمه قبل بلوغه؛ فليس يتيماً لا شرعاً ولا لغة.
لأن اليتيم مأخوذ من اليتم، وهو الانفراد؛ أي: انفرد عن الكاسب له؛ لأن أباه هو الذي يكسب له.
وخص اليتيم؛ لأنه لا أحد يدافع عنه؛ ولأنه أولى أن يرحم، ولهذا جعل الله له حقاً في الفيء ، وإذا كان أحق أن يرحم؛ فكيف يسطو هذا الرجل الظالم على ماله فيأكله ؟ !(117/69)
ويقال في أكل مال اليتيم ما قيل في أكل الربا؛ فليس خاصاً بالأكل، بل حتى لو استعمله في السكن أو الفرش أو الكتب أو غيرها؛ فهو داخل في ذلك.
وأكل مال غير اليتيم ليس من الكبائر؛ لأن اليتيم له شأن خاص، ولهذا توعد الله من تأكل أموال اليتامى، قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10).
قوله: (والتولي يوم الزحف). التولي: بمعنى الإدبار والإعراض، ويوم الزحف؛ أي: يوم تلاحم الصفين في القتال مع الكفار، وسمي يوم الزحف؛
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأن، الجموع إذا تقابلت تجد أن بعضها يزحف إلى بعض، كالذي يمشي زحفاً كل واحد منهم يهاب الآخر، فيمشي رويداً رويداً.
والتولي يوم الزحف من كبائر الذنوب؛ لأنه يتضمن الإعراض عن الجهاد في سبيل الله، وكسر قلوب المسلمين، وتقوية أعداء الله، وهذا يؤدي إلى هزيمة المسلمين.
لكن هذا الحديث خصصته الآية، وهي قوله تعالى: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ )(لأنفال: من الآية16).
فالله سبحانه استثنى حالتين:
الأولى: أن يكون متحرفاً لقتال؛ أي: متهيئاً له، كمن ينصرف ليصلح من شأنه أو يهيئ الأسلحة ويعدها، ومنه الانحراف إلى مكان آخر يأتي العدو من جهته؛ فهذا لا يعد متولياً، إنما يعد متهيئاً.(117/70)
الثانية: المتحيز إلى فئة كما إذا حصرت سرية للمسلمين يمكن أن يقضي عليها العدو، فانصرف من هؤلاء لينقذها ؛ فهذا لا بأس به لدعاء الضرورة إليه بشرط ألا يكون على الجيش ضرر، فإن كان الجيش ضرر وذهبت طائفة كبيرة إلى هذه السرية بحيث توهن قوة الجيش وتكسره أمام العدو؛ فإنه لا يجوز؛ لأن الضرر هنا متحقق، وإنقاذ السرية غير متحقق ؛ فلا يجوز لأن المقصود إظهار دين الله ، وفي هذا إذلال لدين الله، إلا إذا كان الكفار أكثر من مثلي المسلمين، فيجوز الفرار حينئذ؛ لقوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ)(لأنفال: من الآية66) ، أو كان عندهم عدة لا يمكن للمسلمين مقاومتها، كالطائرات إذا لم يكن عند المسلمين من صواريخ ما يدفعهم ، فإذا علم أن
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الصمود يستلزم الهلاك و القضاء على المسلمين ؛ فلا يجوز لهم أن يبقوا؛ لأن مقتضى ذلك أنهم يغررون بأنفسهم .
وفي هاتين الآيتين تخصيص السنة بالكتاب ، وهو قليل ، ومن تخصيص السنة بالكتاب أن من الشروط التي بين النبي صلى الله عليه وسلم و المشركين في الحديبية أن من جاء من المشركين مسلما يرد إليهم(1) ، وهذا الشرط عام يشمل الذكر والأنثى؛ فأنزل الله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)(الممتحنة: من الآية10).
قوله : ( وقذف المحصنات ). القذف : بمعنى الرمي، والمراد به هنا الرمي بالزنا، والمحصنات هنا الحرائر، وهو الصحيح، وقيل: العفيفات عن الزنا.(117/71)
والغافلات : وهن: العفيفات عن الزنا البعيدات عنه، اللاتي لا يخطر على بالهن هذا الأمر.
والمؤمنات احترازا من الكافرات، فمن قذف امرأة هذه صفاتها؛ فإن ذلك من الموبقات، ومع ذلك يقام عليه الحد ـ ثمانون جلدةـ ، ولا تقبل شهادته ويكون فاسقا؛ فجعل الله عليه ثلاثة أمور، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:4) ثم قال : (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا )(النور: من الآية5) .
وهذا الاستثناء لا يشمل أول الجمل بالاتفاق، ويشمل آخر الجمل
0
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالاتفاق ، واختلف العلماء في الجملة الثانية، وهي قوله : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا )؛ 0فقيل : إنه يعود إليها ، وقيل : لا يعود.
وبناء على ذلك إذا تاب القاذف: هل تقبل شهادته أم لا ؟
الجواب: اختلف في ذلك أهل العلم:
فمنهم من قال : لا تقبل شهادته أبدا ولو تاب، وأيدوا قولهم بأن الله أبد ذلك بقوله : ( ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا) ( النور : 4)، وفائدة هذا التأبيد أن الحكم لا يرتفع عنهم مطلقا.
وقال الآخرون : بل تقبل ؛ لأن مبنى قبول الشهادة وردها على الفسق، فإذا زال وهو المانع من قبول الشهادة؛ زال ما يترتب عليه.
وينبغي في مثل هذا أن يقال : إنه يرجع إلى نظر الحاكم، فإذا رأى من المصلحة عدم قبول الشهادة لردع الناس عن التهاون بأعراض المسلمين؛ فليفعل.
وإلا؛ فالأصل أنه إذا زال الفسق وجب قبول الشهادة، وهل قذف المحصنين الغافلين المؤمنين كقذف المحصنات من كبائر الذنوب؟(117/72)
الجواب: الذي عليه جمهور أهل العلم أن قذف الرجل كقذف المرأة ، وإنما خص بذلك المرأة؛ لأن الغالب أن القذف يكون للنساء أكثر؛ إذ البغايا كثيرات قبل الإسلام ،وقذف المرأة أشد؛ لأنه يستلزم الشك في نسب أولادها من زوجها، فيلحق بهن القذف ضررا أكثر؛ فتخصيصه من باب التخصيص بالغالب، والقيد الأغلبي لا مفهوم له؛ لأنه لبيان الواقع .
والشاهد من هذا الحديث قوله : ( السحر)
* * *
وعن جندب مرفوعا : ( حد الساحر ضربة بالسيف ) . رواه الترمذي، وقال : ( الصحيح أنه موقوف)(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( وعن جندب ) . ليس هو جندب بن عبد الله البجلي، بل جندب الخير المعروف بقاتل الساحر.
قوله : ( مرفوعا) ؛ أي: إلى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فيكون من قول النبي عليه الصلاة و السلام، لكن نقل المؤلف عن الترمذي قوله: و الصحيح أنه موقوفا، أي: من قول جندب.
قوله : ( حد الساحر ضربة بالسيف ) حده يعني: عقوبته المحددة شرعا.
وظاهره أنه لا يكفر؛ لأن الحدود تطهر المحدود من الإثم.
والكافر إذا قتل على ردته؛ فالقتل لا يطهره.
وهذا محمول على ما سبق: أن من أقسام السحر مالا يخرج الإنسان عن الإسلام ، وهو ما كان بالأدوية و العقاقير التي توجب الصرف و العطف وما أشبه ذلك .
قوله : ( ضربة بالسيف ) . روي بالتاء بعد الباء، وروي بالهاء، وكلاهما صحيح، لكن الأولى أبلغ ؛ لأن التنكير وصيغة الوحدة يدلان على أنها ضربة قوية قاضية.
وفي ( صحيح البخاري) عن بجالة بن عبدة؛ قال : ( كنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن اقتلوا كل ساحر و ساحرة) . قال : ( فقلنا ثلاث سواحر)(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا كناية عن القتل ، وليس معناه أن يضرب بالسيف مع ظهره مصفحا.(117/73)
قوله : ( وفي صحيح البخاري) . ذكر في الشرح ـ أعني ( تفسير العزيز الحميد) ـ أن هذا اللفظ ليس في ( البخاري)، والذي في ( البخاري) أنه : ( أمر بأن يفرق بين كل ذي محرم من المجوس)(2) ؛ لأنهم يجوزون نكاح المحارم ـ والعياذ بالله؛ فأمر عمر أن يفرق بين ذوي الرحم ورحمه، لكن ذكر الشارح صاحب ( تيسير العزيز الحميد ): أن القطيعي رواه في الجزء الثاني من ( فوائده)،
وفيه : ( ثم اقتلوا كل كاهن وساحر) ، وقال ( أي: الشارح) : إسناده حسن.
قال: وعلى هذا فعزو المصنف إلى البخاري يحتمل أنه أراد أصله لا لفظه. أ هـ .
وهذا القتل هل هو حد أم قتله لكفره؟
يحتمل هذا وهذا بناء على التفصيل السابق(3) في كفر الساحر، ولكن بناء على ما سبق من التفصيل نقول : من خرج به السحر إلى الكفر فقتله قتل ردة ، ومن لم يخرج به السحر إلى الكفر من باب دفع الصائل يجب تنفيذه حيث رآه الإمام .
والحاصل : أنه يجب أن تقتل السحرة، سواء قلنا بكفرهم أم لم نقل؛
وصح عن حفصة رضي الله عنها؛ ( أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها، فقتلت)(1) . وكذلك صح عن جندب(2) . قال أحمد : عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لأنهم يمرضون ويقتلون ، ويفرقون بين المرء و زوجه، وكذلك بالعكس؛ فقد يعطفون فيؤلفون بين الأعداء ، ويتوصلون إلى أغراضهم ؛ فإن بعضهم قد يسحر أحدا ليعطفه إليه وينال مأربه منه، كما لو سحر امرأة ليبغي بها، ولأنهم كانوا يسعون في الأرض فسادا ؛ فكان واجبا على ولي الأمر قتلهم بدون استتابة ما دام انه لدفع ضررهم وفظاعة أمرهم، فإن الحد لا يستتاب صاحبه، متى قبض عليه وجب أن ينفذ فيه الحد.
قوله : ( قال أحمد عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ) .
وهم : عمر ، وحفصة، وجندب الخير؛ أي: صح قتل الساحر عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم .(117/74)
والقول بقتلهم موافق للقواعد الشرعية؛ لأنهم يسعون في الأرض فسادا،وفسادهم من أعظم الفساد؛ فقتلهم واجب على الإمام، ولا يجوز للإمام أن يتخلف عن قتلهم؛ لأن مثل هؤلاء إذا تركوا وشأنهم انتشر فسادهم في أرضهم و في أرض غيرهم، وإذا قتلوا سلم الناس من شرهم، وارتدع الناس عن تعاطي السحر.
* فيه مسائل :
الأولى: تفسير آية البقرة. الثانية: تفسير آية النساء. الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما. الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن وقد يكون من الإنس. الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
* الأولى: تفسير آية البقرة؛ وهي قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاق)(البقرة: من الآية102)؛ أي: نصيب؛ ومن لا خلاق له في الآخرة ؛ فإنه كافر؛ إذ كل من له نصيب في الآخرة فإن مآله إلى الجنة.
* الثانية: تفسير آية النساء؛ وهي قوله تعالى: (يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوت)(النساء: من الآية50)، وفسر عمر الجبت بالسحر والطاغوت بالشيطان، وفسر بأن الجبت: كل ما لا خير فيه من السحر وغيره.
* الثالثة: تفسير الجبت والطاغوت والفرق بينهما؛ وهذا بناءً على تفسير عمر رضي الله عنه.
* الرابعة: أن الطاغوت قد يكون من الجن، وقد يكون من الإنس. تؤخذ من قول جابر: الطواغيت كهان، وكذلك قول عمر: الطاغوت الشيطان، فإن الطاغوت إذا أطلق؛ فالمراد به شيطان الجن، والكهان شياطين الإنس.
* الخامسة: معرفة السبع الموبقات المخصوصات بالنهي. وقد سبق بيانها.
* السادسة: أن الساحر يكفر. تؤخذ من قوله تعالى: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ…)(البقرة: من الآية102).
السادسة: أن الساحر يكفر. السابعة: أنه يقتل ولا يستتاب. الثامنة وجود هذا في المسلمين على عهد عمر؛ فكيف بعده ؟ !(117/75)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* السابعة:أنه يقتل ولا يستتاب.يؤخذ من قوله(حد الساحرضربة بالسيف) (1) والحد إذا بلغ الإمام لا يستتاب صاحبه، بل يقتل بكل حال، أما الكفر؛ فإنه يستتاب صاحبه، وهذا هو الفرق بين الحد وبين عقوبة الكفر، وبهذا نعرف خطأ من أدخل حكم المرتد في الحدود، وذكروا من الحدود قتل الردة.
فقتل المرتد ليس من الحدود؛ لأنه يستتاب، فإذا تاب ارتفع عنه القتل، وأما الحدود؛ فلا ترتفع بالتوبة إلا أن يتوب قبل القدرة عليه، ثم إن الحدود كفارة لصاحبها وليس بكافر، والقتل بالردة كفارة وصاحبها كافر؛ لا يصلي عليه، ولا يغسل، ولا يدفن في مقابر المسلمين.
* الثامنة: وجود هذا في المسلمين في عهد عمر؛ فكيف فيما بعده ؟ ! تؤخذ من قوله: (كتب عمر: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة)؛ فهذا إذا كان في زمن الخليفة الثاني في القرون المفضلة، بل أفضلها؛ فكيف بعده من العصور التي بعدت عن وقت النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه وأصحابه ؟ ! فهو أكثر انتشاراً بين المسلمين، وكلما بعد الناس عن زمن الرسالة استولت عليهم الضلالة والجهالة؛ فالضلالة: ارتكاب الخطأ عن جهل، والجهالة: ارتكاب الخطأ عن عمد، ولهذا نقول: من عمل سوءً بجهالة؛ فهو أثم، ومن عمل سوءً بجهل؛ فليس بآثم، قال تعالى: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَة)(النساء: من الآية17)، والمراد بالجهالة هنا ليست ضد العلم، بل ضد الرشد، وهي السفه.
* * *
باب بيان من أنواع السحر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* قوله: (باب بيان شيء من أنواع السحر).
أي: بيان حقائق هذه الأشياء مع حكمها.
وقد سبق أن السحر ينقسم إلى قسمين: كفر، وفسق (1) ، فإن كان باستخدام الشياطين وما أشبه ذلك؛ فهو كفر.
وكذلك ما ذكره هنا من أنواع السحر: منها ما هو كفر، ومنها ما هو فسق حسب ما تقتضيه الأدلة الشرعية.(117/76)
والأنواع: جمع نوع، والنوع أخص من الجنس؛ لأن الجنس اسم يدخل تحته أنواع، والنوع يدخل تحته أفراد، وقد يكون الجنس نوعاً باعتبار ما فوقه، والنوع جنساً باعتبار ما تحته.
فالإنسان نوع باعتبار الحيوان، والحيوان باعتبار الإنس جنس؛ لأنه يدخل فيه الإنسان والإبل والبقر والغنم، والحيوان باعتبار الجسم نوع؛ لأنه الجسم يشمل الحيوان والجماد.
و (أنواع) هنا باعتبار الجنس العام.
وسبق ان السحر في اللغة: كل ما كان خفي السبب دققاً في إدراكه حتى عد الفخر الرازي من جملة أنواع السحر الساعات، وهي في القديم عبارة عن آلات مركبة؛ فكيف بالساعات الإلكترونية اليوم ؟ !
* * *
قال أحمد: حدثنا محمد بن جعفر، حدثنا عوف، عن حيان بن العلاء، حدثنا قطن بن قبيصة، عن أبيه؛ أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العيافة، والطرق، والطيرة من الجبت).
قال عوف: العيافة: زجر الطير، والطرق: الخط يخط بالأرض،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (العيافة). مصدر عاف يعيف عيافة، وهي: زجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل؛ فعند العرب قواعد في هذا الأمر؛ لأن زجر الطير له أقسام.
فتارة يزجرها للصيد، كما قال أهل العلم في باب الصيد: إن تعليم الطير بأن ينزجر إذا زجر؛ فهذا ليس من هذا الباب.
وتارة يزجر الطير للتشاؤم أو التفاؤل، فإذا زجر الطائر وذهب شمالاً تشاءم، وإذا ذهب يميناً تفاءل، وإن ذهب أماماً؛ فلا أدري أيتوقفون أم يعيدون الزجر؟ فهذا من الجبت.
قوله: (الطرق). فسره عوف: بأنه الخط يخط في الأرض، وكأنه من الطريق، من طرق الأرض يطرقها إذا سار عليها، وتخطيطها مثل المشي عليها يكون له أثر في الأرض كأثر السير عليها.(117/77)
ومعنى الخط بالأرض معروف عندهم، يضربون به على الرمل على سبيل السحر والكهانة، ويفعله النساء غالباً، ولا أدري كيف يتوصلون إلى مقصودهم وما يزعمونه من علم الغيب، وأنه سيحصل كذا على ما هو معروف عندهم ؟ ! وهذا نوع من السحر.
أما خط الأرض ليكون سترة في الصلاة، أو لبيان حدودها ونحو ذلك؛ فليس داخلاً في الحديث.
والجبت: قال الحسن: رنة الشيطان (1) . إسناده جيد. ولأبي داود والنسائي وابن حبان في (صحيحه) لهم المسند منه (2) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل: قد صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن نبي من الأنبياء يخط؛ فقال: من وافق خطه؛ فذاك (3) .
قلنا: يجاب عنه بجوابين:
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم علقه بأمر لا يتحقق الوصول إليه؛ لأنه قال: فمن وافق خطه فذاك، وما يدرينا هل وافق خطه أم لا ؟
الثاني: أنه إذا كان الخط بالوحي من الله تعالى كما في حال هذا النبي؛ فلا بأس به؛ لأن الله يجعل له علامة ينزل الوحي بها بخطوط يعلمه إياها.
أما هذه الخطوط السحرية؛ فهي من الوحي الشيطاني، فإن قيل: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يسد الأبواب جميعاً خاصة في موضوع الشرك؛ فلماذا لم يقطع ويسد هذا الباب؟
فالجواب: كان هذا والله أعلم أمر معلوم، وهو أن فيه نبياً من الأنبياء يخط، فلا بد أن يجيب عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
قوله: (من الجبت). سبق أن الجبت السحر، وعلى هذا فتكون (من)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
للتبعيض على الصحيح، وليست للبيان؛ فالمعنى أن هذه الثلاثة: العيافة، والطرق، والطيرة، من الجبت.
وقوله: (الطيرة)؛ أي: من الجبت، على وزن فعلة، وهي اسم مصدر تطير، والمصدر منه تطير، وهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وقيل: التشاؤم بمعلوم مرئياً كان أو مسموعاً، زماناً كان أو مكاناً، وهذا أشمل؛ فيشمل ما لا يرى ولا يسمع؛ كالتطير بالزمان.(117/78)
وأصل التطير: التشاؤم، لكن أضيفت إلى الطير؛ لأن غالب التشاؤم عند العرب بالطير، فعلقت به، وإلا؛ فإن تعريفها العام: التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم.
وكان العرب يتشاءمون بالطير وبالزمان وبالأشخاص، وهذا من الشرك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (1) .
والإنسان إذا فتح على نفسه باب التشاؤم؛ ضاقت عليه الدنيا، وصار يتخيل كل شيء أنه شؤم، حتى إنه يوجد أناس إذا أصبح وخرج من بيته ثم قابله رجل ليس له إلا عين واحدة تشاءم، وقال: اليوم يوم سوء، وأغلق دكانه، ولم يبع ولم يشتر ـ والعياذ بالله ـ ، وكان بعضهم يتشاءم بيوم الأربعاء، ويقول: إنه يوم نحس وشؤم، ومنهم من يتشاءم بشهر شوال، ولا سيما في النكاح، وقد نقضت عائشة رضي الله عنها هذا التشاؤم، بأنه صلى الله عليه وسلم عقد عليها في شوال، وبنى بها في شوال؛ فكانت تقول: (أيكن كان أحظى عنده مني ؟ ) (2) ، والجواب : لا أحد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فالمهم أن التشاؤم ينبغي للإنسان أن لا يطرأ له على بال؛ لأنه ينكد عليه عيشه؛ فالواجب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث كان يعجبه الفأل (1)؛ فينبغي للإنسان أن يتفاءل بالخير ولا يتشاءم، كذلك بعض الناس إذا حاول الأمر مرة بعد أخرى تشاءم بأنه لن ينجح فيه فيتركه، وهذا خطأ؛ فكل شيء ترى فيه المصلحة؛ فلا تتقاعس عنه في أول محاولة، وحاول مرة بعد أخرى حتى يفتح الله عليك.
وأما قول الحسن:الجبت:رنة الشيطان، قال صاحب(تيسير العزيز الحميد)(2): لم أجد فيه كلاماً.
والظاهر أن رنة الشيطان؛ أي: وحي الشيطان؛ فهذه من وحي الشيطان وإملائه، ولا شك أن الذي يتلقى أمره من وحي الشيطان أنه أتى نوعاً من الكفر، وقول الحسن جاء في (تفسير ابن كثير) باللفظ الذي ذكره المؤلف، وجاء في (المسند) (5/60) بلفظ: إنه الشيطان.(117/79)
ووجه كون العيافة من السحر أن العيافة يستند فيها الإنسان إلى أمر لا حقيقة له؛ فماذا يعني كون الطائر يذهب يميناً أو شمالاً أو أماماً أو خلفاً ؟ فهذا لا أصل له، وليس بسبب شرعي ولا حسي، فإذا اعتمد الإنسان على ذلك؛ فقد اعتمد على أمر خفي لا حقيقة له، وهذا سحر كما سبق تعريف السحر في اللغة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وكذلك الطرق من السحر؛ لأنهم يستعملونه في السحر، ويتوصلون به إليه.
والطيرة كذلك؛ لأنها مثل العيافة تماماُ تستند إلى أمر خفي لا يصح الاعتماد عليه، وسيأتي في باب الطيرة ما يستثنى منه (1) .
قوله: (إسناده جيد …) . قال الشيخ: إسناده جيد، وعندي أنه أقل من الجيد في الواقع؛ إلا أن يكون هناك متابعات، وكان بعض العلماء يذهب إلى أن الحديث إذا صح متنه، وكان موافقاً للأصول؛ فإنه يتساهل في سنده، والعكس بالعكس، إذا كان مخالفاً للأصول؛ فإنه لا يبالي بالسند، وهذا مسلك جيد بالنسبة لأخذ الحكم من الحديث، لكن بالنسبة للحكم على السند بأنه جيد بمجرد شهادة الأصول لهذا الحديث بالصحة؛ فهذا مشكل لأنه يلزم أنه لو جاءنا هذا السند في حديث آخر حكمنا بأنه جيد؛ فالأولى أن يقال: إن السند فيه ضعف، ولكن المتن صحيح، فأنا أرى أن مثل هذا لا يحكم له بالجودة؛ إذ جيد أرقى من حسن، ثم الحكم بالحسن في مثل هذا السند في نفسي منه شيء؛ لأنه ينبغي لنا أن نتحرى في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن الذي يخفف الأمر هو صحة المتن، وأيهما أهم: السند أم المتن ؟
الجواب: كلاهما مهمان، لكن المتن إذا كان صحيحاً تشهد له الأصول قد تستغني عنه بما تشهد به الأصول، أما السند؛ فلابد منه، يقول ابن المبارك: لولا السند؛ لقال كل من شاء ما شاء.(117/80)
وعن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر، زاد ما زاد). رواه أبو داود، وإسناده صحيح (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من). شرطية، وفعل الشرط: (اقتبس)، وجوابه: (فقد اقتبس).
قوله: (اقتبس). أي تعلم؛ لأن التعلم وهو أخذ الطالب من العالم شيئاً من علمه بمنزلة الرجل يقتبس من صاحب النار شعلة.
قوله: (شعبة). أي: طائفة، ومنه وله تعالى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِل)(الحجرات: من الآية13)؛ أي: طوائف وقبائل.
قوله: (من النجوم). المراد: علم النجوم، وليس المراد النجوم أنفسها؛ لأن النجوم لا يمكن أن تقتبس وتتعلم، والمراد به هنا علم النجوم الذي يستدل به على الحوادث الأرضية؛ فيستدل مثلاً باقتران النجم الفلاني بالنجم الفلاني على أنه سيحدث كذا وكذا.
ويستدل بولادة إنسان في هذا النجم على أنه سيكون سعيداً، وفي النجم الآخر على أنه سيكون شقياً؛ فيستدلون باختلاف أحوال النجوم على اختلاف الحوادث الأرضية، والحوادث الأرضية من عند الله، قد تكون أسبابها معلومة لنا، وقد تكون مجهولة، لكن ليس للنجوم بها علاقة، ولهذا جاء في حديث زيد بن خالد
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الجهني في غزوة الحديبية؛ قال؛ صلى بنا رسول الله ذات ليلة على إثر سماء من الليل؛ فقال؛ (قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فمن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا ـ بنوء يعني: بنجم، والباء للسببية؛ يعني: هذا المطر من النجم ـ؛ فإنه كافر بي مؤمن بالكوكب، ومن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب) (1) .(117/81)
فالنجوم لا تأتي بالمطر ولا تأتي بالرياح أيضاً، ومنه نأخذ خطأ العوام الذين يقولون: إذا هبت الريح طلع النجم الفلاني؛ لأن النجوم لا تأثير لها بالرياح، صحيح أن بعض الأوقات والفصول يكون فيها ريح ومطر؛ فهي ظرف لهما، وليست سبباً للريح أو المطر.
* وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين:
الأول: علم التأثير، وهو أن يستدل بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية: فهذا محرم باطل لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (من اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر) (2) ، وقوله في حديث زيد بن خالد: (من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم في الشمس والقمر:(إنهما آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)(3) ؛ فالأحوال الفلكية لا علاقة بينها وبين الحوادث الأرضية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني: علم التسيير، وهو ما يستدل به على الجهات والأوقات؛ فهذا جائز، وقد يكون واجباً أحياناً، كما قال الفقهاء: إذا دخل وقت الصلاة يجب على الإنسان أن يتعلم علامات القبلة من النجوم والشمس والقمر، قال تعالى: (وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (النحل:15) ، فلما ذكر الله العلامات الأرضية انتقل إلى العلامات السماوية؛ فقال تعالى: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل:16)، فالاستدلال بهذه النجوم على الأزمان لا بأس به، مثل أن يقال: إذا طلع النجم الفلاني دخل وقت السيل ودخل وقت الربيع، وكذلك على الأماكن؛ كالقبلة، والشمال، والجنوب.
قوله: (زاد ما زاد). أي: كلما زاد شعبة من تعلم النجوم ازداد شعبة من السحر.
ووجه ذلك: أن الشيء إذا كان من الشيء؛ فإنه يزداد بزيادته.
* ووجه مناسبة الحديث لترجمة المؤلف:(117/82)
ان من أنواع السحر: تعلم النجوم ليستدل بها على الحوادث الأرضية وهذا الحديث وإن كان ضعيف السند؛ لكن من حيث المعنى صحيح تشهد له النصوص الأخرى.
* * *
وللنسائي من حديث أبي هريرة: (من عقد عقدة، ثم نفث فيها؛ فقد سحر، ومن سحر؛ فقد أشرك، ومن تعلق شيئاً؛ وكل إليه) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (من عقد عقدة). (من) شرطية، والعقد معروف.
قوله: (ثم نفث فيها). النفث: النفخ بريق خفيف، والمراد هنا النفث من أجل السحر.
أما لو عقد عقدة، ثم نفث فيها من أجل أن تحتكم بالرطوبة؛ فليس بداخل في الحديث، والنفث من أجل السحر يفعلونه بعض الأحيان للصرف؛ فيصرفون به الرجل عن زوجته، ولا سيما عند عقد النكاح؛ فيبعد الرجل عن زوجته، فلا يقوى على جماعها، فمن عقد هذه العقدة؛ فقد وقع في السحر، كما قال تعالى: (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ) (الفلق:4) .
قوله: (ومن سحر فقد أشرك). (من) هذه شرطية، وفعل الشرط: (سحر)، وجوابه: (فقد أشرك).
وقوله: (فقد أشرك). هذا لا يتناول جميع السحر، إنما المراد من سحر بالطرق الشيطانية.
أما من سحر بالأدوية والعقاقير وما أشبهها ؛ فقد سبق أنه لا يكون مشركاً (2) ، لكن الذي يسحر طاعة الشياطين واستخدامهم فيما يريد؛ فهذا لا شك أنه مشرك.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ومن تعلق شيئاً وكل إليه). (تعلق شيئاً)؛ أي: استمسك به، واعتمد عليه.
( وكل إليه )؛ أي: جعل هذا الشيء الذي تعلق به عمادا له، ووكله الله إليه، وتخلى عنه.
ومناسبة هذه الجملة للتي قبلها: أن النافخ في العقد يريد أن يتوصل بهذا الشيء إلى حاجته ومآربه، فيوكل إلى هذا الشيء المحرم.(117/83)
ووجه آخر: وهو أن من الناس من إذا سحر عن طريق النفخ بالعقد ذهب إلى السحرة وتعلق بهم، ولا يذهب إلى القراء والأدوية المباحة و الأدعية المشروعة، ومن توكل على الله كفاه، قال تعالى : ( وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ)(الطلاق: من الآية3)، وإذا كان الله حسبك؛ فلا بد أن تصل إلى ما تريد .
لكن من تعلق شيئا من المخلوقين وكل إليه، ومن وكل إلى شيء من المخلوقين وكل ضعف وعجز وعورة ، وقد يشمل الحديث من اعتمد على نفسه وصار معجبا بما يقول ويفعل؛ فإنه يوكل إلى نفسه، ويوكل إلى ضعف وعجز و عورة، ولهذا ينبغي أن تكون دائما متعلقا بالله في كل أفعالك و أحوالك حتى في أهون الأمور.
ونقول للإنسان : اعتمد على نفسك بالنسبة للناس ، فلا تسألهم ولا تستذل أمامهم، واستغن عنهم ما استطعت ، أما بالنسبة لله؛ فلا تستغن عنه، بل كن دائما معتمدا على ربك حتى تتيسر لك الأمور ، ومن هذا النوع من يتعلقون ببعض الأحراز يعلقونها؛ فإنهم يوكلون إلى هذا، ولا يحصل لهم مقصودهم ، لكنهم لو اعتمدوا على الله، وسلكوا السبل الشرعية؛ حصل لهم
وعن ابن مسعود ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا هل أنبئكم ما العضة؟ هي النميمة، القالة بين الناس)(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ما يريدون، ومن هذا النوع أيضا من تعلق شيئا من القبور، وجعلها ملجأه ومغيثه عند طلب الأمور؛ فإنه يوكل إليه ، والإنسان قد يفتن و يحصل له المطلوب بدعاء هؤلاء، ولكن هذا المطلوب الذي حصل حصل عند دعائهم لا بدعائهم، و الآية صريحة في ذلك ، قال تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَة)(الاحقاف: من الآية5)، لكن الله تعالى قد يفتن من شاء من عباده.
*مناسبة الحديث :(117/84)
أن هؤلاء الذين يتعلقون بالسحر، ويجعلونه صناعة يصلون بها إلى مآربهم يوكلون إلى ذلك ، وآخر أمرهم الخسارة و الندم .
* * *
قوله : ( ألا ) . أداة استفتاح، والغرض تنبيه الخاطب والاعتناء بما يلقى إليه لأهميته.
قوله : ( هل أنبئكم ما العضة ) . الاستفهام للتشويق؛ كقوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) (الصف:10).
لأن الإنسان مشتاق إلى العلوم يحب أن يعلم ، وقد يكون المراد به التنبيه؛ لأن الموجه إليه الخطاب ينبغي أن يتنبه ليعلم، وهي تصلح للجميع.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى أنبئكم : أخبركم ، وهي مرادفة للخبر في اصطلاح المحديثن، وقال بعض العلماء من ناحية اللغة لا الاصطلاح: إن الإنباء لغة يكون في الأمور الهامة، والإخبار أعم منه يكون في الهامة و غير الهامة.
قوله : ( العضه) على وزن الحبل و الصمت و الوعد، بمعنى القطع، وأما رواية العضة على وزن عدة ؛ فإنها بمعنى التفريق، وأيا كان؛ فإنها تتضمن قطعا و تفريقا.
قوله : ( هي النميمة) . فعلية بمعنى مفعول، وهي من نم الحديث إلى غيره؛ أي: نقله، والنميمة فسرها بقوله : ( القالة بين الناس)؛ أي: نقل القول بين الناس، فينقل من هذا إلى هذا ، فيأتي لفلان ويقول : فلان يسبك؛ فهو نم إليه الحديث ونقله، وسواء كان صادقا أو كاذبا، فإن كان كاذبا؛ فهو بهت و نميمة، وإن كان صادقا ؛ فهو نميمة.
والنميمة كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم تقطع الصلة، وتفرق بين الناس(1) ؛فتجد هذين الرجلين صديقين، فيأتي هذا النمام ، فيقول لأحدهما: صاحبك يسبك، فتنقلب هذه المودة إلى عداوة، فيحصل التفرق ، وهذا يشبه السحر بالتفرق؛ لأن السحر فيه تفريق، قال تعالى : (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)(البقرة: من الآية102).(117/85)
والنميمة من كبائر الذنوب، وهي سبب لعذاب القبر، ومن أسباب حرمان دخول الجنة ، قال صلى الله عليه وسلم : ( لا يدخل الجنة قتات )(2)؛ أي: نمام، وفي حديث ابن عباس المتفق عليه: أنه صلى الله عليه وسلم ( مر بقبرين يعذبان، أحدهما كان يمشي
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بالنميمة)(1) .
والنميمة كما هي من كبائر الذنوب ؛ فهي في الحقيقة خلق ذميم، ولا ينبغي للإنسان أن يطيع النمام مهما كانت حاله، قال تعالى : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ* هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) (القلم:11-10)، واعلم أن من نم إليك نم فيك أو منك ؛ فاحذره.
وهي أيضا من أسباب فساد المجتمع؛ لأن هذا النمام إذا أراد أن يعتدي على كل صديقين متحابين، ويفرق بينهما بنميمته فسد المجتمع ؛ لأن المجتمع مكون من أفراد، فإذا تفرقت صار كما قال الله ـ عز و جل ـ : (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ )(لأنفال: من الآية46)، وإذا لم يكن المجتمع كإنسان واحد؛ فإنه لا يمكن أن يكون مجتمعا؛ فهو أفراد متناثرة ، والأفراد المتناثرة ليس لها قوة، و لهذا قال الشاعر :
لا تخاصم بواحد أهل بيت فضعيفان يغلبان قويا
وقال الآخر
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا فإذا افترقن تكسرت أفرادا
ونحن لو تأملنا النصوص الشرعية؛ لوجدنا تحرم كل ما يكون سببا للتفرق و القطيعة، قال صلى الله عليه وسلم : ( ولا يبيع بعضكم على بيع أخيه )(2) ، وقال : ( لا
ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إن من البيان لسحرا)(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يخطب الرجل على خطبة أخيه )(2) ، وكل هذا لدفع ما يوجب العداوة و البغضاء بين الناس .
* * *(117/86)
قوله : ( إن من البيان ). ( إن ) : حرف توكيد، ينصب الاسم و يرفع الخبر، و(من ) : يحتمل أن تكون للتبعيض ، ويحتمل أن تكون لبيان الجنس؛ فعلى الأول يكون المعنى : إن بعض البيان سحر و بعضه ليس بسحر، وعلى الثاني يكون المعنى : إن جنس البيان كله سحر.
قوله : ( لسحرا ) . اللام للتوكيد، و( سحرا) : اسم إن .
والبيان : هو الفصاحة و البلاغة ، وهو من نعمة الله على الإنسان، قال تعالى : ( خلق الإنسان *علمه البيان ) ( الرحمن : 3-4) .
والبيان نوعان .
الأول : بيان لابد منه ، وهذا يشترك فيه جميع الناس، فكل إنسان إذا جاع قال : إني جعت، وإذا عطش قال : إني عطشت ، وهكذا .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني : بيان بمعنى الفصاحة التامة التي تسبي العقول و تغير الأفكار، وهي التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحرا ) .
وعلى هذا التقسيم تكون ( من ) للتبعيض؛ أي: بعض البيان ـ وهو البيان الكامل الذي هو الفصاحة ـ سحر .
أما إذا جعلنا البيان بمعنى الفصاحة فقط؛ صارت ( من ) لبيان الجنس.
ووجه كون البيان سحرا: أنه يأخذ بلب السامع، فيصرفه أو يعطفه، فيظن السامع أن الباطل حق لقوة تأثير المتكلم ، فينصرف إليه، ولهذا إذا أتى إنسان يتكلم بكلام معناه باطل، لكن لقوة فصاحته و بيانه يسحر السامع حقا، فينصرف إليه ، وإذا تكلم إنسان بليغ يحذر من حق، ولفصاحته وبيانه يظن السامع أن هذا الحق باطل، فينصرف عنه، وهذا من جنس السحر الذي يسمونه العطف و الصرف، و البيان يحصل به عطف وصرف ؛ فالبيان في الحقيقة بمعنى الفصاحة، ولاشك أنها تفعل فعل السحر، وابن القيم يقول عن الحور: حديثها السحر الحلال .
قوله : ( إن من البيان لسحرا) ، وهل هذا على سيبل الذم ، أو على سبيل المدح ، أو لبيان الواقع ثم ينظر إلى أثره ؟(117/87)
الجواب : الأخير هو المراد ؛ فالبيان من حيث هو بيان لا يمدح عليه ولا يذم ، ولكن ينظر إلى أثره، و المقصود منه، فإن كان المقصود منه رد الحق و إثبات الباطل؛ فهو مذموم؛ لأنه استعمال لنعمة الله في معصيته، وإن كان المقصود منه إثبات الحق وإبطال الباطل ؛ فهو ممدوح ، و إذا كان البيان يستعمل في طاعة الله وفي الدعوة إلى الله ؛ فهو خير من العي، لكن إذا ابتلي الإنسان ببيان ليصد الناس عن دين الله؛ فهذا لا خير فيه ، و العي خير منه، و البيان من حيث هو لا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شك أنه نعمة، ولهذا امتن الله به على الإنسان ؛ فقال تعالى : ( علمه البيان) ( الرحمن : 4).
* وجه مناسبة الحديث للباب :
المؤلف كان حكيما في تعبيره بالترجمة، حيث قال : باب بيان شيء من أنواع السحر، ولم يحكم عليها بشيء؛ لأن منها ما هو شرك ، ومنها ما هو من كبائر الذنوب، ومنها دون ذلك، ومنها ما هو جائز على حسب ما يقصد به وعلى حسب تأثيره و آثاره .
* * *
*فيه مسائل :
الأولي: أن العيافة و الطرق و الطيرة من الجبت . الثانية : تفسير العيافة و الطرق. الثالثة : أن علم النجوم نوع من السحر. الرابعة: العقد مع النفث من ذلك . الخامسة: أن النميمة من ذلك . السادسة: أن من ذلك بعض الفصاحة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال : ( فيه مسائل ) ؛ أي: في هذا الباب وما تضمنه من الأحاديث و الآثار مسائل:
*المسألة الأولي : أن العيافة و الطرق و الطيرة من الجبت. وقد سبق تفسير هذه الثلاثة و تفسير الجبت .
*الثانية : تفسير العيافة و الطرق . وقد بينت في الباب أيضا وشرحت.
*الثالثة : أن علم النجوم نوع من السحر. لقوله : ( من اقتبس شعبة من النجوم؛ فقد اقتبس شعبة من السحر )، وسبق الكلام أيضا .(117/88)
*الرابعة : العقد مع النفث من ذلك . لحديث أبي هريرة: ( من عقد عقدة ثم نفث فيها؛ فقد سحر ) ، وقد تقدم الكلام على ذلك .
*الخامسة : أن النميمة من ذلك . لحديث ابن مسعود: ( ألا هل أنبئكم ما العضة ؟ هي النميمة ) ، وهي من السحر؛ لأنها تفعل ما يفعل الساحر من التفريق بين الناس و التحريش بينهم ، وقد سبق بيان ذلك .
*السادسة : أن من ذلك بعض الفصاحة. أي: من السحر بعض الفصاحة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن من البيان لسحرا )، والمؤلف رحمه الله قال: بعض الفصاحة استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم:(إن من البيان)؛ لأن(من) هنا عند المؤلف للتبعيض، ووجه كون ذلك من السحر أن لسان البليغ ذي البيان قد يصرف الهمم وقد يلهب بما عنده من الفصاحة .
* * *
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/89)
الكهان : جمع كاهن ، والكهنة أيضا جمع كاهن، وهم قوم يكونون في أحياء العرب يتحاكم الناس إليهم ، وتتصل بهم الشياطين ، و تخبرهم عما كان في السماء، تسترق السمع من السماء، وتخبر الكاهن به، ثم الكاهن يضيف إلى هذا الخبر ما يضيف من الأخبار الكاذبة، ويخبر الناس ، فإذا وقع مما أخبر به شيء؛ اعتقده الناس عالما بالغيب، فصاروا يتحاكمون إليهم؛ فهم مرجع للناس في الحكم، ولهذا يسمون الكهنة؛ إذ هم يخبرون عن الأمور في المستقبل، يقولون : سيقع كذا و سيقع كذا، وليس من الكهانة في شيء من يخبر عن أمور تدرك بالحساب ؛ فإن الأمور التي تدرك بالحساب ليست من الكهانة في شيء ، كما لو أخبر عن كسوف الشمس أو خسوف القمر؛ فهذا ليس من الكهانة لأنه يدرك بالحساب، وكما لو أخبر أن الشمس تغرب في 20من برج الميزان مثلا في الساعة كذا و كذا؛ فهذا ليس من علم الغيب، كما يقولون:إنه سيخرج في أول العام أو العام الذي بعده مذنب( هالي)، وهو نجم له ذنب طويل؛ فهذا ليس من الكهانة في شيء؛ لأنه من الأمور التي تدرك بالحساب؛ فكل شيء يدرك بالحساب، فإن الإخبار عنه ولو كان مستقبلا لا يعتبر من علم الغيب ، ولا من الكهانة .
وهل من الكهانة ما يخبر به الآن من أحوال الطقس في خلال أربع وعشرين ساعة أو ما أشبه ذلك ؟
الجواب: لا ؛ لأنه أيضا يستند إلى أمور حسية ، وهي تكيف الجو؛ لأن الجو يتكيف على صفة معينة تعرف بالموازين الدقيقة عندهم ؛ فيكون صالحا لأن
روى مسلم في ( صحيحه ) عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ؛ قال : ( من أتى عرافا، فسأله عن شيء ، فصدقه بما يقول لم تقبل له صلاة أربعين يوما )(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يمطر ، أو لا يمطر، ونظير ذلك في العلم البدائي إذا رأينا تجمع الغيوم و الرعد و البرق و ثقل السحاب ، نقول : يوشك أن ينزل المطر .(117/90)
فالمهم أن ما استند إلى شيء محسوس؛ فليس من علم الغيب، وإن كان بعض العامة يظنون أن هذه الأمور من علم الغيب، ويقولون : أن التصديق بها تصديق بالكهانة .
والشيء الذي يدرك بالحس إنكاره قبيح ؛ كما قال السفاريني :
فكل معلوم بحس أو حجا فنكره جهل قبيح بالهجا
فالذي يعلم بالحس لا يمكن إنكاره ولو أن أحدا أنكره مستندا بذلك إلى الشرع؛ لكان ذلك طعنا بالشرع .
* * *
قوله : ( من ) : شرطية؛ فهي للعموم .
والعراف:صيغة مبالغة من العارف ، أو نسبة؛ أي: من ينتسب إلى العرافة.
والعراف قيل : هو الكاهن، وهو الذي يخبر عن المستقبل .
وقيل : هو اسم عام للكاهن و المنجم والرمال و نحوهم ممن يستدل على
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
معرفة الغيب بمقدمات يستعملها، وهذا المعنى أعم ، يدل عليه الاشتقاق؛ إذ هو مشتق من المعرفة ، فيشمل كل من تعاطى هذه الأمور و ادعى بها المعرفة.
قوله : ( فسأله؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوما ) . ظاهر الحديث أن مجرد سؤاله يوجب عدم قبول صلاته أربعين يوما، ولكنه ليس على إطلاقه؛ فسؤال العراف و نحوه ينقسم إلى أقسام :
القسم الأول : أن يسأله سؤالا مجردا؛ فهذا حرام لقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أتي عرافا … )(1) ؛ فإثبات العقوبة على سؤاله يدل على تحريمه؛ إذ لا عقوبة إلا على فعل محرم .
القسم الثاني : أن يسأله فيصدقه، ويعتبر قوله ؛ فهذا كفر لأن تصديقه في علم الغيب تكذيب للقرآن ، حيث قال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )(النمل: من الآية65).
القسم الثالث : أن يسأله ليختبره : هل هو صادق أو كاذب ، لا لأجل أن يأخذ بقوله؛ فهذا لا بأس به ، ولا يدخل في الحديث .
وقد سأل النبي صلى الله عليه وسلم ابن صياد ؛ فقال : ( ماذا خبأت لك ؟ قال : الدخ.(117/91)
فقال : (اخسأ ؛ فلن تعدو قدرك )(2) ؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم سأله عن شيء أضمره له؛ لأجل أن يختبره ؛ فأخبره به .
القسم الرابع : أن يسله ليظهر عجزه وكذبه، فيمتحنه في أمور يتبين بها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كذبه وعجزه، وهذا مطلوب ، وقد يكون واجبا.
وإبطال قول الكهنة لاشك أنه أمر مطلوب ، وقد يكون واجبا؛ فصار السؤال هنا ليس على إطلاقه، بل يفصل فيه هذا التفصيل على حسب ما دلت عليه الأدلة الشرعية الأخرى .
وقد ذكر شيخ الإسلام أن الجن يخدمون الإنس في أمور، و الكهان يستخدمون الجن ليأتوهم بخبر السماء، فيضيفون إليه من الكذب ما يضيفون، وخدمة الجن للإنس ليست محرمة على كل حال ، بل هي على حسب الحال.
فالجني يخدم الإنس في أمور لمصلحة الإنس ، وقد يكون للجن فيها مصلحة، وقد لا يكون له فيها مصلحة، بل لأنه يحبه في الله و لله ، ولاشك أن من الجن مؤمنين يحبون المؤمنين من الإنس؛ لأنه يجمعهم الإيمان بالله .
وقد يخدمونهم لطاعة الإنس لهم فيما لا يرضي الله ـ عز و جل ـ ؛ إما في الذبح لهم، أو عبادتهم، أو ما أشبه ذلك .
والأغرب من ذلك أنهم ربما يخدمون الإنس لأمر محرم من زنا أو لواط؛ لأن الجنية قد تستمتع بالإنسي بالعشق و التلذذ بالاتصال به، أو العكس، وهذا أمر معلوم مشهود ، حتى ربما كان الجني الذي في الإنسان ينطق بذلك ، كما بعلم من الذين يقرؤون على المصابين بالجن .
والنبي صلى الله عليه وسلم حضر إليه الجن وخاطبهم و أرشدهم، ووعدهم بعطاء لا نظير له؛ فقال لهم : ( كل عظم ذكر اسم الله عليه تجدونه أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة؛ فهي علف لدوابكم) ، وذكر أن في عهد عمر رضي الله عنه امرأة لها رئيُ من الجن، وكانت توصيه بأشياء، حتى إنه تأخر عمر ذات يوم، فأتوا إليها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/92)
فقالوا: ابحثي لنا عنه. فذهب هذا الجني الذي فيها، وبحث وأخبرهم أنه في مكان كذا، وأنه يسم إبل الصدقة (1) .
قوله: (فصدقة). ليست في (صحيح مسلم)، بل الذي في (مسلم): (فسأله؛ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة)، وزيادتها في نقل المؤلف؛ إما لأن النسخة التي نقل منها بهذا اللفظ (فصدقة)، أو أن المؤلف عزاه أو أن المؤلف عزاه إلى (مسلم) باعتبار أصله، فأخذ من (مسلم) : (فسأله)، وأخذ من أحمد: (فصدقه).
قوله: (لم تقبل له صلاة أربعين ليلة). نفي القبول هنا يلزم منه نفي الصحة أولاً؟
نقول: نفي القبول إما أن يكون لفوات شرط، أو لوجود مانع؛ ففي هاتين الحالين يكون نفي القبول نفياً للصحة، كما لو قلت: من صلى بغير وضوء لم يقبل الله صلاته، ومن صلى في مكان مغصوب لم يقبل الله صلاته عند من يرى ذلك.
وإن كان نفي القبول لا يتعلق بفوات شرط ولا وجود مانع؛ فلا يلزم من نفي القبول نفي الصحة، وإنما يكون المراد بالقبول المنفي: إما نفي القبول التام؛ أي: لم تقبل على وجه التمام الذي يحصل به تمام الرضا وتمام المثوبة.
وإما أن يُراد به أن هذه السيئة التي فعلها تقابل تلك الحسنة في الميزان، فتسقطها، ويكون وزرها موازياً لأجر تلك الحسنة، وإذا لم يكن له أجر صارت كأنها غير مقبولة، وإن كانت مجزئة ومبرئة للذمة، لكن الثواب الذي حصل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بها قوبل بالسيئة فأسقطته.
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم : (من شرب الخمر؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) (1) .(117/93)
وقوله: (أربعين يوماً). تخصيص هذا العدد لا يمكننا أن نعلله؛ لأن الشيء المقدر بعدد لا يستطيع الإنسان غالباً أن يعرف حكمته، فكون الصلاة خمس صلوات أو خمسين لا نعلم لماذا خُصصت بذلك؛ فهذا من الأمور التي يُقصد بها التعبُد لله، والتعبد لله بما لا تعرف حكمته أبلغ من التعبد له بما تعرف حكمته؛ لأنه أبلغ في التذلل، صحيح أن الإنسان إذا عرف الحكمة اطمأنت نفسه أكثر، لكن كون الإنسان ينقاد لما لا يعرف حكمته دليل على كمال الانقياد والتعبد لله ـ عز وجل ـ ؛ فهو من حيث العبودية أبلغ وأكمل ، أما ذاك؛ فهو من حيث الطمأنينة إلى الحكم يكون أبلغ؛ لأن النفس إذا علمت بالحكمة في شيء اطمأنت إليه بلا شك، وازدادت أخذاً له وقبولاً؛ فهناك أشياء مما عينه الشرع بعدد أو كيفية لا نعلم ما الحكمة فيه، ولكن سبيلنا أن نكون كما قال الله تعالى عن المؤمنين: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(الأحزاب: من الآية36).
فعلينا التسليم والانقياد وتفويض الأمر إلى الله تعالى.
ويؤخذ من الحديث : تحريم إتيان العراف وسؤاله؛ إلا ما استثني؛ كالقسم الثالث والرابع؛ لما في إتيانهم وسؤالهم من المفاسد العظيمة، التي ترتب على
وعن أبي هريرة (رضي الله عنه)، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال: (من أتى كاهناً، فصدقة بما يقول؛ فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه أبو داوود (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تشجيعهم وإغراء الناس بهم، وهم في الغالب يأتون بأشياء كلها باطلة.
* * *
قوله: (من أتى كاهناً). تقدم معنى الكهان، وأنهم كانوا رجالاً في أحياء العرب تنزل عليهم الشياطين، وتخبرهم بما سمعت من أخبار السماء.(117/94)
قوله: (فصدقة). أي: نسبه إلى الصدق، وقال: إنه صادق، وتصديق الخبر يعني: تثبيته وتحقيقه، فقال: هذا حق وصحيح وثابت.
قوله: (بما يقول). (ما) عامة في كل ما يقول، حتى ما يحتمل أنه صدق؛ فإنه لا يجوز أن يصدقه؛ لأن الأصل فيهم الكذب.
قوله (فقد كفر بما أُنزل على محمد)؛ أي: بالذي أنزل، والذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم القرآن أنزل إليه بواسطة جبريل، قال تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) (الشعراء:192،193)، وقال تعالى: (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ)(النحل: من الآية102)، وبهذا نعرف أن القول الراجح في الحديث القدسي أنه من كلام الله تعالى معنى، وأما لفظه؛ فمن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه حكاه عن الله؛ لأننا لو لم نقل بذلك لكان الحديث القدسي أرفع سنداً من القرآن، حيث إن الرسول صلى الله عليه وسلم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يرويه عن ربه مباشرة والقرآن بواسطة جبريل.
ولأنه لو كان من كلام الله لفظاً؛ لوجب أن تثبت له أحكام القرآن؛ لأن الشرع لا يفرق بين المتماثلين، وقد علم أن أحكام القرآن لا تنطبق على الحديث القدسي؛ فهو لا يُتعبد بتلاوته، ولا يُقرأ في الصلاة، ولا يُعجز لفظه، ولو كان من كلام الله؛ لكان معجزاً؛ لأن كلام الله لا يماثله كلام البشر، وأيضاً باتفاق أهل العلم فيما أعلم أنه لو جاء مُشرك يستجير ليسمع كلام الله وأسمعناه الأحاديث القدسية؛ فلا يصح أن يقال: إنه سمع كلام الله.
فدل هذا على أنه ليس من كلام الله، وهذا هو الصحيح، وللعلماء في ذلك قولان: هذا أحدهما، والثاني: أنه من قول الله لفظاً.
فإن قال قائل: كيف تصححون هذا والنبي صلى الله عليه وسلم ينسب القول إلى الله، ويقول: قال الله تعالى، ومقول القول هو هذا الحديث المسوق ؟(117/95)
قلنا: هذا كما قال الله تعالى عن موسى وفرعون وإبراهيم: قال موسى، قال فرعون، قال إبراهيم … مع أننا نعلم أن هذا اللفظ ليس من كلامهم ولا قولهم؛ لأن لغتهم ليست اللغة العربية، وإنما نُقل نقلاً عنهم، ويدل هذا أن القصص في القرآن تختلف بالطول والقصر والألفاظ، مما يدل على أن الله سبحانه ينقلها بالمعنى، ومع ذلك ينسبها إليهم؛ كما قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إلا الذي فطرني) (الزخرف:26) ، وقال عن موسى: (وقَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ)(الأعراف: من الآية128)، وقال عن فرعون: (قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ) (الشعراء:34).
قوله: (بما أنزل على محمد) . ذكر أهل السنة أن كل كلمة وصف فيها القرآن بأنه منزل أو أنزل من الله؛ فهي دالة على علو الله ـ سبحانه وتعالى ـ
وللأربعة، والحاكم ـ وقال: (صحيح على شرطهما) ـ عن أبي هريرة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بذاته، وعلى أن القرآن كلام الله؛ لأن النزول يكون من أعلى، والكلام لا يكون إلا من متكلم به.
قوله: (كفر بما أنزل على محمد). وجه ذلك: أن ما أنزل على محمد قال الله تعالى فيه: (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )(النمل: من الآية65)، وهذا من أقوى طرق الحصر؛ لأن فيه النفي والإثبات؛ فالذي يصدق الكاهن في علم الغيب وهو يعلم أنه لا يعلم الغيب إلا الله؛ فهو كافر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وإن كان جاهلاً ولا يعتقد أن القرآن فيه كذب؛ فكفره كفر دون كفر.
قوله: (وللأربعة والحاكم). الأربعة هم : أبو داود، والنسائي، والترمزي، وابن ماجة، والحاكم ليس من أهل (السنن)، لكن له كتاب سمي (صحيح الحاكم).(117/96)
قوله: (صحيح على شرطهما)؛ أي: شرط البخاري ومسلم، لكن قول (على شرطهما) هذا على ما يعتقد، وإلا؛ فقد يكون الأمر على خلاف ذلك.
ومعنى قوله: (على شرطهما)؛ أي: أن رجاله (الصحيحين)، وأن ما اشترطه البخاري ومسلم موجود فيه.
ونحن لا ننكر أن هناك أحاديث صحيحة لم يذكرها البخاري ومسلم؛ لأنهما لم يستوعبا الصحيح كله، وهذا أمر واقع، ولكن ينظر في قول من قال: إن هذا الحديث على شرطهما؛ فقد تكون فيه علة خفية خفيت على هذا القائل، ويكون البخاري ومسلم علماها وتركا الحديث من أجلها.
(من أتى عرافاً أو كاهناً، فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : (صحيح) . يقولون: الحاكم ممن يتساهل بالتصحيح، ولهذا قالوا: لا عبرة بتصحيح الحاكم، ولا بتوثيق ابن حبان، ولا بوضع ابن الجوزي، ولا بإجماع ابن المنذر.
وهذا القول فيه مجازفة في الحقيقة؛ لأن كلمة (لا عبرة)؛ أي: لا يلتفت إليه، والصواب أنه لا يؤخذ مقبولاً في كل حال، مع أني تدبرت كلام ابن المنذر رحمه الله، ووجدت أنه دائماً إذا نقل الإجماع يقول: إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم، وهو بهذا قد احتفظ لنفسه، ولا يكلف الله نفساً إلى وسعها.
ولكننا مع ذلك نقول: إذا كان لا يعرف إلا ما حوله؛ فإن قوله هذا لا يكون إجماعاً ولا يوثق به، ولا نحكم بأنه إجماع.
مثاله: فلو قال رجل : لم يدرس إلا المذهب الحنبلي في مسألة ، وقال هذا إجماع من نحفظ قوله من أهل العلم؛ فإن قوله هذا لا يعتبر؛ لأنه لم يحفظ إلا قولاً قليلاً من أقوال أهل العلم.
قوله: (من أتى عرافاً أو كاهناً) . (أو) يحتمل أن تكون للشك ، ويحتمل
ولأبي يعلى بسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً (1) .
وعن عمران بن حصين مرفوعاً: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/97)
أن تكون للتنويع؛ فالحديث الأول بلفظ عراف، والثاني بلفظ كاهن، والثالث جمع بينهما؛ فتكون (أو) للتنويع.
وجاء المؤلف بهذا الحديث مع أن الأول والثاني مغنيان عنه؛ لأن كثرة الأدلة مما يقوي المدلول، أرأيت لو أن رجلاً أخبرك بخبر فوثقت به، ثم جاء آخر وأخبرك به ازددت توثقاً وقوة، ولهذا فرق الشارع بين أن يأتي الإنسان بشاهد واحد أو شاهدين.
وظاهر صنيع المؤلف: أن حديث أبي هريرة: (من أتى عرافاً أو كاهناً) أنه موقوف؛ لأنه قال عن أبي هريرة، لكنه لما قال في الذي بعده: (موقوفاً) ترجح عندنا أن الحديث الذي قبله مرفوع.
قوله: (ليس منا). تقدم الكلام على هذه الكلمة، وأنها لا تدل على خروج الفاعل من الإسلام، بل على حسب الحال.
قوله: (مرفوعاً)؛ أي إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (تطير). التطير: هو التشاؤم بالمرئي أو المسموع أو المعلوم أو غير ذلك، وأصله من الطير؛ لأن العرب كانوا يتشاءمون أو يتفاءلون بها، وقد سبق ذلك (2) .
أو تكهن له، أو سحر له، ومن أتى كاهناً، فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) . رواه البزار بإسناد جيد (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومنه ما يحصل لبعض الناس إذ شرع في عمل، ثم حصل له في أوله تعثر تركه وتشاءم؛ فهذا غير جائز، بل يتعمد على الله ويتوكل عليه، وما دمت أنك تعلم أن في هذا الأمر خيراً، ولا تشاءم؛ لأنك لم توفق فيه لأول مرة؛ فكم من إنسان لم يوفق في العمل أول مرة، ثم وفق في ثاني مرة أو ثالث مرة ؟ !
ويقال: إن الكسائي ـ إمام النحو ـ طلب النحو عدة مرات، ولكنه لم يوفق، فرأى نملة تحمل نواة تمر، فتصعد إلى الجدار، فتسقط، حتى كررت ذلك عدة مرات، ثم صعدت بها إلى الجدار وتجاوزته؛ فقال: سبحان الله ! هذه النملة تكابد هذه النواة حتى نجحت، إذن أنا سأكابد على النحو حتى أنجح. فكابد؛ فصار إمام أهل الكوفة في النحو.(117/98)
قوله: (أو تطير له). بالبناء للمفعول؛ أي: أمر من يتطير له، مثل أن يأتي شخص، ويقول: سأسافر إلى المكان الفلاني، وأنت صاحب طير، وأريد أن تزجر طيرك لأنظر: هل هذه الوجهة مباركة أم لا، فمن فعل ذلك؛ فقد تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقوله: (من تطير) يشمل من تطير لنفسه، أو تطير لغيره.
ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد حسن من حديث ابن عباس؛ دون قوله: (ومن أتى كاهناً … ، إلى آخره (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (أو تكهن أو تكهن له) . سبق أن الكهانة ادعاء علم الغيب في المستقبل (2) ، يقول سيكون كذا وكذا، وربما يقع؛ فهذا متكهن، ومن الغريب أنه شاع الآن في أسلوب الناس قولهم: تكهن بأن فلاناً سيأتي، ويطلقون هذا اللفظ الدال على عمل محرم على أمر مباح، وهذا لا ينبغي؛ لأن العامي الذي لا يفرق بين الأمور يظن أن الكهانة كلها مباحة، بدليل إطلاق هذا اللفظ على شيء مباح معلوم إبحاحته.
قوله: (أو تكهن له) ؛ أي: طلب من الكاهن أن يتكهن له، كان يقول للكاهن: ماذا يصيبني غداً، أو في الشهر الفلانية، وهذا تبرأ منه الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أو سَحَرَ أو سُحرَ له) . تقدم تعريف السحر، وتقدمه بيان أقسامه.
قوله: (أو سُحر له)؛ أي: طلب من الساحر أن يسحر له، ومنه النشرة عن طريق السحر؛ فهي داخلة فيه، وكانوا يستعملونها على وجوه متنوعة، منها أنهم يأتون بطست فيه ماء، ويصبون فيه رصاصاً، فيتكون هذا الرصاص بوجه الساحر؛ أي: تكون صورة الساحر في هذا الرصاص، ويسمونها العامة
قال البغوي: (العراف: الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك) (1) .
وقيل : هو الكاهن. والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/99)
عندنا (صب الرصاص)، وهذا من أنواع السحر المحرم، وقد تبرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم من فاعله (2) .
الشاهد من هذا الحديث: قوله: (ومن أتى كاهناً …) إلخ ، وقوله: (ورواه الطبراني في (الأوسط) بإسناد جيد من حديث ابن عباس …) إلخ؛ فيكون هذا مقوياً للأول.
* قوله: ( قال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات …). العراف: صيغة مبالغة فإما أن يراد بها الصيغة، وإما أن يراد بها النسبة.
وهو الذي يدعى معرفة تتعلق بعلم الغيب، فيدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها.
وظاهر كلام البغوي رحمه الله: أنه شامل لمن ادعى معرفة المستقبل والماضي؛ لأن مكان المسروق يعلم بعد السرقة، وكذلك الضالة قد حصل
وقال أبو العباس ابن تيميه : العراف : اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق) (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الضياع، ولكن المسألة ليست اتفاقية بين أهل العلم، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وقيل: هو)؛ أي: العراف الكاهن.
والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
قوله: (وقيل: هو الذي يخبر عما في الضمير)؛ أي: أن تضمر شئياً فتقول: ما أضمرت؟ فيقول: أضمرت كذا وكذا.
أو المغيبات في المستقبل، تقول: ماذا سيحدث في الشهر الفلاني في اليوم الفلاني؟ ماذا ستلد امرأتي؟ متى يقدم ولدي؟ وهو لا يدري.
والخلاصة: أن العلماء اختلفوا في تعريف العراف؛ فقيل: هو الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على مكان المسروق والضالة ونحوها؛ فيكون شاملاً لمن يخبر عن أمور وقعت.
وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.
وقيل: هو الكاهن، والكاهن: هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل.
* * *(117/100)
قوله: (وقال أبو العباس ابن تيميه). هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيميه، يكنى بأبي العباس، ولم يتزوج، ولم يتركه من باب الرهبانية، ولكنه والله أعلم كان مشغولاً بالجهاد العلمي مع قلة الشهوة، وإلا لو كان قوي الشهوة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لتزوج، وليس كما يدعي المزورون أن له ولداً مدفوناً إلى جانبه في دمشق؛ فإنه غير صحيح قطعاً.
وظاهر كلام الشيخ : أن شيخ الإسلام جزم بهذا ، ولكن شيخ الإسلام قال : وقيل العراف ،وذكره بقيل، ومعلوم أن ما ذكر بقيل ليس مما يجزم بأن الناقل يقول به، صحيح أنه إذا نقله ولم ينقضه؛ فهذا دليل على أنه ارتضاه.
وعلى كل حال؛ فشيخ الإسلام ساق هذا القول و ارتضاه، ثم قال: ولو قيل : إنه اسم خاص لبعض هؤلاء الرمال و المنجم ونحوهم ؛ فإنهم يدخلون فيه بالعموم المعنوي؛ لأن عندنا عموما معنويا، وهو ما ثبت عن طريق القياس، و عموما لفظيا، وهو ما دل عليه اللفظ، بحيث يكون اللفظ شاملا له .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله أن استخدام الإنس للجن له ثلاث حالات .
الحال الأولى : أن يستخدم في طاعة الله ، كأن يكون له نائبا في تبليغ الشرع ؛ فمثلا: إذا كان له صاحب من الجن مؤمن يأخذ عنه العلم، ويتلقى منه ، وهذا شيء ثبت أن الجن قد يتعلمون من الإنس، فيستخدم في تبليغ الشرع لنظرائه من الجن، أو في المعونة على أمور مطلوبة شرعا؛ فهذا لا بأس به، بل إنه قد يكون أمرا محمودا أو مطلوبا، وهو من الدعوة إلى الله ـ عز و جل ـ ، والجن حضروا النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن، وولوا إلى قومهم منذرين ، والجن فيهم الصلحاء و العباد و الزهاد و العلماء؛ لأن المنذر لابد أن يكون عالما بما ينذر، عابدا مطيعا لله ـ سبحانه ـ في الإنذار .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/101)
الحال الثانية : أن يستخدمهم في أمور مباحة ، مثل أن يطلب منهم العون على أمر من الأمور المباحة، قال : فهذا جائز بشرط أن تكون الوسيلة مباحة، فإن كانت محرمة؛ صار حراما، كما لو كان الجني لا يساعده في أموره إلا إذا ذبح له أو سجد له أو ما أشبه ذلك .
ثم ذكر ما ورد أن عمر تأخر ذات مرة في سفره، فاشتغل فكر أبي موسى، فقالوا له : إن امرأة من أهل المدينة لها صاحب من الجن ، فلو أمرتها أن ترسل صاحبها للبحث عن عمر، ففعل، فذهب الجني، ثم رجع، فقال: إن أمير المؤمنين ليس به بأس، وهو يسم إبل الصدقة في المكان الفلاني(1)؛ فهذا استخدام في أمر مباح .
الحال الثالثة : أن يستخدمهم في أمور محرمة؛ كنهب أموال الناس وترويعهم، وما أشبه ذلك؛ فهذا محرم، ثم إن كانت الوسيلة شركاً صار شركاً، وإن كانت وسيلته غير شرك صار معصية، كما لو كان هذا الجني الفاسق يألف هذا الإنسي الفاسق ويتعاون معه على الإثم والعدوان؛ فهذا يكون إثماً وعدواناً، ولا يصل إلى حد الشرك.
ثم قال: إن من يسأل الجن، أو يسأل الجن، ويصدقهم في كل ما يقولون؛ فهذا معصية وكفر، والطريق للحفظ من الجن هو قراءة آية الكرسي، فمن قرأها في ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح، كما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم (2) ، وهي : (الله لا إله إلا هو الحي القيوم …) الآية.
وقال ابن عباس في قوم يكتبون (أبا جاد) وينظرون في النجوم: (ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم) . الواو هنا ليست عطفاً، ولكنها للحال، يعني: والحال أنهم ينظرون، فيربطون ما يكتبون بسير النجوم وحركتها.
قوله: (ما أرى من فعل ذلك) . ويجوز بفتح الهمزة بمعنى: أعلم، وبالضم بمعنى: ما أظن.
وقوله: (أباجاد) . هي: أبجد هوز حطي كلمن سعفص قرشت ثخذ ضطغ … وتعلم أباجاد ينقسم إلى قسمين:(117/102)
الأول: تعلم مباح بأن نتعلمها لحساب الجمل ، وما أشبه ذلك؛ فهذا لا بأس به، وما زال أناس يستعملونها، حتى العلماء يؤرخون بها ، قال شيخنا عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله في تاريخ بناء المسجد الجامع القديم :
جد بالرضا وعط المنى من ساعدوا في ذا البنا
تاريخه حين انتهى قول المنيب اغفر لنا
والشهر في شوال يا رب تقبل سعينا
فقوله: (اغفر لنا) لو عددناها حسب الجمل صارت 1362هـ .
وقد اعتنى بها العلماء في العصور الوسطى، حتى في القصائد الفقهية والنحوية وغيرها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويؤرخون بها مواليد العلماء ووفياتهم، ولم يرد ابن عباس هذا القسم.
الثاني: محرم، وهو كتابة (أباجاد) كتابة مربوطة بسير النجوم وحركتها وطلوعها وغروبها، وينظرون في النجوم ليستدلوا بالموافقة أو المخالفة على ما سيحدث في الأرض، إما على سبيل العموم؛ كالجدب والمرض والجرب وما أشبه ذلك، أو على سبيل الخصوص؛ كأن يقول لشخص: سيحدث لك مرض أو فقر أو سعادة أو نحس في هذا وما أشبه ذلك؛ فهم يربطون هذه بهذه، وليس هناك علاقة بين حركات النجوم واختلاف الوقائع في الأرض.
وقوله: (ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق).
قوله: (خلاق)؛ أي: نصيب.
ظاهر كلام ابن عباس أنه يرى كفرهم؛ لأن الذي ليس له نصيب عند الله هو الكافر؛ إذ لا ينفى النصيب مطلقاً عن أحد من المؤمنين، وإن كان له ذنوب عذب بقدر ذنوبه، أو تجاوز الله عنها، ثم صار آخر أمره إلى نصيبه الذي يجده عند الله.
ولم يبين المؤلف رحمه الله حكم الكاهن والمنجم والرمال من حيث العقوبة في الدنيا، وذلك أننا إن حكمنا بكفرهم؛ فحكمهم في الدنيا أنهم يستتابوا، فإن تابوا، وإلا؛ قتلوا كفراً.(117/103)
وإن حكمنا بعدم كفرهم؛ إما لكون السحر لا يصل إلى الكفر، أو قلنا: إنهم لا يكفرون؛ لأن المسألة فيها خلاف؛ فإنه يجب قتلهم لدفع مفسدتهم ومضرتهم، حتى وإن قلنا بعدم كفرهم؛ لأن أسباب القتل ليست مختصة بالكفر فقط، بل للقتل أسباب متعددة ومتنوعة، قال تعالى : (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ )(المائدة: من الآية33)؛ فكل من أفسد على الناس أمور دينهم أو دنياهم؛ فإنه يستتاب، فإن تاب، وإلا قُتل، ولا سيما إذا كانت هذه الأمور تصل إلى الإخراج من الإسلام.
والنظر في النجوم ينقسم إلى أقسام:
الأول: أن يستدل بحركاتها وسيرها على الحوادث الأرضية، سواء كانت عامة أو خاصة؛ فهو شرك إن اعتقد أن هذه النجوم هي المدبرة للأمور، أو أن لها شركاً؛ فهو كفر مخرج عن الملة، وإن اعتقد أنها سبب فقط؛ فكفره غير مخرج من الملة، ولكن يسمى كفراً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم على إثر سماء كنت من الليل: (هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، أما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب،وأما من قال: مُطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب) (1) .
وقد سبق لنا أن هذا الكفر ينقسم إلى قسمين بحسب اعتقاد قائله (2) .
الثاني: أن يتعلم علم النجوم ليستدل بحركاتها وسيرها على الفصول وأوقات البذر والحصاد والغرض وما أشبهه؛ فهذا من الأمور المباحة؛ لأنه يستعان بذلك على أمور دنيوية.
القسم الثالثة: أن يتعلمها لمعرفة أوقات الصلوات وجهات القبلة، وما أشبه ذلك من الأمور المشروعة؛ فالتعلم هنا مشروع، وقد يكون فرض كفاية أو فرض عين.(117/104)
* فيه مسائل :
الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. الثانية: التصريح بأنه كفر. الثالثة: ذكر من تكهن له. الرابعة: ذكر من تطير له. الخامسة: ذكر من سحر له. السادسة: ذكر من تعلم أباجاد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
· · الأولى: لا يجتمع تصديق الكاهن مع الإيمان بالقرآن. يؤخذ من قوله (من أتى كاهناً، فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد) ، ووجهه: أنه كذب بالقرآن، وهذا من أعظم الكفر.
· · الثانية: التصريح بأنه كفر. تؤخذ من قوله: (فقد كفر بما أنزل على محمد).
· · الثالثة: ذكر من تكهن له. تؤخذ من حديث عمران بن حصين؛ حيث قال: (ليس منا)؛ أي: إنه كالكاهن في براءة النبي صلى الله عليه وسلم منه.
· · الرابعة: ذكر من تطير له. تؤخذ من قوله: (أو تطير له).
· · الخامسة: ذكر من سحر له. تؤخذ من قوله: (أو سحر له).
وأتى المؤلف بذكر من تكهن له، أو سحر له، أو تطير له؛ لأنه قد يعارض فيه معارض، فيقول هذا في الكهان، وهذا في المتطيرين، وهذا في السحرة؛ فقال: إن من طلب أن يفعل له ذلك؛ فهو مثلهم في العقوبة.
· · السادسة: ذكر من تعلم أباجاد. وتعلم ذلك فيه تفصيل لا يحمد ولا يذم؛ إلا على حسب الحال التي تنزل عليها، وقد سبق ذلك.
السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
· · السابعة: ذكر الفرق بين الكاهن والعراف. وفي هذه المسألة خلاف بين أهل العلم:
القول الأول: أن العراف هو الكاهن؛ فهما مترادفان؛ فلا فرق بينهما.
القول الثاني: أن العراف هو الذي يستدل على معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها؛ فهو أعم من الكاهن؛ لأنه يشمل الكاهن وغيره، فهما من باب العام والخاص.(117/105)
القول الثالث: أن العراف يخبر عن أمور بمقدمات يستدل عليها، والكاهن هو الذي يخبر عما في الضمير، أو عن المغيبات في المستقبل.
فالعراف أعم، أو أن العراف يختص بالماضي، والكاهن بالمستقبل؛ فهما متباينان، والظاهر أنهما متباينان؛ فالكاهن من يخبر عن المغيبات في المستقبل والعراف من يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك.
* * *
باب ما جاء في النشرة
عن جابر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن النشرة ؟ فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تعريف النشرة:
في اللغة؛ بضم النون: فعلة من النشر، وهو التفريق.
وفي الاصطلاح: حل السحر عن المسحور.
لأن هذا الذي يحل السحر عن المسحور: يرفعه، ويزيله، ويفرقه.
أما حكمها؛ فهو يتبين مما قاله المؤلف رحمه الله، وهو من أحسن البيانات.
ولا ريب أن حل السحر عن المسحور من باب الدواء والمعالجة، وفيه فضل كبير لمن ابتغى به وجه الله، لكن في القسم المباح منها.
لأن السحر له تأثير على بدن المسحور وعقله ونفسه وضيق الصدر، حيث لا يأنس إلا بمن استعطف عليه.
وأحياناً يكون أمراضاً نفسية بالعكس، تنفر هذا المسحور عمن تنفره عنه من الناس، وأحياناً يكون أمراضاً عقلية؛ فالسحر له تأثير إما على البدن، أو العقل، أو النفس.
* * *
قوله في (عن النشرة). أل للعهد الذهني؛ أي: المعروفة في الجاهلية التي كانوا يستعملونها في الجاهلية، وذلك عن طريق من طرق حل السحر، وهي على نوعين:
الأول: أن تكون باستخدام الشياطين ، فإن كان لا يصل إلى حاجته منهم
(هي من عمل الشيطان). رواه أحمد بسند جيد، وأبو داود (1) ، وقال: (سُئل أحمد عنها ؟ فقال: ابن مسعود يكره هذا كله).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إلا بالشرك؛ كانت شركاً، وإن كان يتوصل لذلك بمعصية دون الشرك؛ كان لها حكم تلك المعصية.(117/106)
الثاني: أن تكون بالسحر؛ كالأدوية والرقى والعقد والنفث وما أشبه ذلك؛ فهذا له حكم السحر على ما سبق.
ومن ذلك ما يفعله بعض الناس، أنهم يضعون فوق رأس المسحور طشتاً فيه ماء ويصبون عليه رصاصاً ويزعمون أن الساحر يظهر وجهه في هذا الرصاص؛ فيستدل بذلك على من سحره، وقد سئل الإمام أحمد عن النشرة، فقال: إن بعض الناس أجازها، فقيل له: إنهم يجعلون ماء في طشت، وإنه يغوص فيه، وإنه يبدو وجهه، فنفض يده وقال: ما أدري ما هذا ؟ ما أدري ما هذا ؟ فكأنه رحمه الله توقف في الأمر وكره الخوض فيه.
قوله: (من عمل الشيطان)؛ أي: من العمل الذي يأمر به الشيطان ويوحي به؛ لأن الشيطان يأمر بالفحشاء ويوحي إلى أوليائه بالمنكر، وهذا يغني عن قوله: إنها حرام ، بل هو أشد ؛ لأن نسبتها للشيطان أبلغ في تقبيحها والتنفير منها، ودلالة النصوص على التحريم لا تنحصر في لفظ التحريم أو نفي الجواز ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل إذا رتبت العقوبات على الفعل كان دليلاً على تحريمه.
قوله: (رواه أحمد بسند جيد وأبو داود). سند أبي داود إلى أحمد متصل؛ لأنه قد حدثه وأدركه.
قوله: (فقال: ابن مسعود يكره هذا كله). أجاب رحمه الله بقول الصحابي، وكأنه ليس عنده أثر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، وإلا لاستدل به.
والمشار إليه في قوله: (يكره هذا كله) كل أنواع النشرة، وظاهره: ولو كانت على الوجه المباح على ما يأتي، لكنه غير مراد؛ لأن النشرة بالقرآن والتعوذات المشروعة لم يقل أحد بكراهته، وسبق أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يكره تعليق التمائم من القرآن وغير القرآن.
وعلى هذا؛ فالكلية في قول أحمد: (يكره هذا كله) يراد بها النشرة التي من عمل الشيطان، وهي النشرة بالسحر والنشرة التي من التمائم.(117/107)
وقوله: (يكره). الكراهة عند المتقدمين يراد بها التحريم غالباً ، ولا تخرج عنه إلا بقرينة، وعند المتأخرين خلاف الأولى؛ فلا تظن أن لفظ المكروه في عرف المتقدمين أو كلامهم مثله في كلام المتأخرين، بل هو يختلف، انظر إلى قوله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً … )(الاسراء: من الآية23)، إلى أن قال بعد أن ذكر أشياء محرمة: (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (الاسراء:38)، ولا شك أن المراد بالكراهة هنا التحريم.
* * *
وفي (البخاري) عن قتادة: (قلت لابن المسيب: رجل به طب أو يؤخذ عن امرأته؛ أيحل عنه أو ينشر ؟ قال: لا بأس به؛ إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع؛ فلم ينه عنه) (1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (رجل به طب) . أي: سحر، ومن المعلوم أن الطب هو علاج المرض، لكن سمي السحر طباً من باب التفاؤل، كما سمي اللديغ سليماً والكسير جبيراً.
قوله: (أو يؤخذ عن امرأته). أي: يحبس عن زوجته؛ فلا يتمكن من جماعها، وهو ليس به بأس، وهذا نوع من السحر.
والعجيب أنه مشتهر عند الناس أنه إذا كان عند العقد، وعقد أحد عقده عند العقد؛ فإنه يحصل حبسه عن امرأته، وبالغ بعضهم؛ فقال: إذا شبك أحدهم بين أصابعه عند العقد حبس الزوج عن أهله، وهذا لا أعرف له أصلاً.
ولكن كثيراً ما يقع حبس الزوج عن زوجته ويطلبون العلاج.
وقد ذكر بعض أهل العلم أن من العلاج أن يطلقها، ثم يراجعها؛ فينفك السحر.
لكن لا أدري هل هذا يصح أم لا ؟ فإذا صح؛ فالطلاق هنا جائز؛ لأنه طلاق للاستبقاء، فيطلق كعلاج، ونحن لا نفتي بشيء من هذا، بل نقول: لا نعرف عنه شيئاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
و (أو) في قوله: (أو يؤخذ) يحتمل أنها للشك من الراوي: هل قال قتادة (به طب) أو قال: (يؤخذ عن امرأته) ؟(117/108)
أي: أو قلت: يؤخذ ، ويحتمل أن تكون للتنويع، أي أنه سأله عن أمرين: عن المسحور، وعن الذي يؤخذ عن امرأته.
قوله: (أيحل عنه أو ينشر) . لا شك أن (أو) هنا للشك؛ لأن الحل هو النشرة.
قوله: (لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح). كأن ابن المسيب رحمه الله قسم السحر إلى قسمين: ضار، ونافع.
فالضار محرم، قال تعالى: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ)(البقرة: من الآية102)، والنافع لا بأس به، وهذا ظاهر ما روي عنه، وبهذا أخذ أصحابنا الفقهاء، فقالوا: يجوز حل السحر بالسحر للضرورة ، وقال بعض أهل العلم: إنه لا يجوز حل السحر بالسحر، وحملوا ما روي عن ابن المسيب بأن المراد به ما لا يعلم عن حاله: هل هو سحر، أم غير سحر ؟ أما إذا علم أنه سحر؛ فلا يحل ، والله أعلم.
ولكن على كل حال حتى ولو كان ابن المسيب ومن فوق ابن المسيب ممن ليس قوله حجة يرى أنه جائز؛ فلا يلزم من ذلك أن يكون جائزاً في حكم الله حتى يعرض على الكتاب والسنة، وقد سُئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن النشرة ؟ فقال: (هي من عمل الشيطان) (1) 0
وروي عن الحسن؛ أنه قال: ( لا يحل السحر إلا ساحر) (1) .
قال ابن القيم: ( النشرة : حل السحر عن المسحور، وهي نوعان: أحدهما: حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان، وعليه يحمل قول الحسن، فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور. والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة؛ فهذا جائز) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وروي عن الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر). هذا الأثر إن صح؛ فمراد الحسن الحل المعروف غالباً ، وأنه لا يقع إلا من السحرة.
قوله: (قال ابن القيم: النشرة حل السحر عن المسحور … ) إلخ.
هذا الكلام جيد ولا مزيد عليه.
* * *
* فيه مسائل :
الأولى: النهي عن النشرة.(117/109)
الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه مما يزيل الإشكال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل:
* الأولى: النهي عن النشرة. تؤخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (هي من عمل الشيطان)، وهنا ليس فيه صيغة نهي، لكن فيه ما يدل على النهي؛ لأن طرق إثبات النهي ليست الصيغة فقط، بل ذم فاعله ونحوه، وتقبيح الشيء وما أشبه ذلك يدل على النهي.
* الثانية: الفرق بين المنهي عنه والمرخص فيه. تؤخذ من كلام ابن القيم رحمه الله وتفصيله.
* إشكال وجوابه :
ما الجمع بين قول الفقهاء رحمهم الله يجوز حل السحر بالسحر، وبين قولهم يجب قتل الساحر ؟
الجمع أن مرادهم بقتل الساحر من يضر بسحره دون من ينفع؛ فلا يقتل، أو أن مرادهم بيان حكم حل السحر بالسحر للضرورة، وأما الإبقاء على الساحر؛ فله نظر آخر ، والله أعلم .
* * *
باب ما جاء في التطير
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* تعريف التطير :
في اللغة : مصدر تطير، وأصله مأخوذ من الطير؛ لأن العرب يتشاءمون أو يتفاءلون بالطيور على الطريقة المعروفة عندهم بزجر الطير، ثم ينظر: هل يذهب يميناً أو شمالاً أو ما أشبه ذلك، فإن ذهب إلى الجهة التي فيها التيامن؛ أقدم، أو فيها التشاؤم؛ أحجم.
أما في الاصطلاح؛ فهي التشاؤم بمرئي أو مسموع، وهذا من الأمور النادرة؛ لأن الغالب أن اللغة أوسع من الاصطلاح؛ لأن الاصطلاح يدخل على الألفاظ قيوداً تخصصها، مثل الصلاة لغة: الدعاء، وفي الاصطلاح أخص من الدعاء، وكذلك الزكاة وغيرها.
وإن شئت؛ فقل التطير: هو التشاؤم بمرئي، أو مسموع، أو معلوم.
بمرئي مثل: لو رأى طيراً فتشاءم لكونه موحشاً.
أو مسموع مثل: من هم بأمر فسمع أحداً يقول لآخر: يا خسران، أو يا خائب؛ فيتشاءم.
أو معلوم؛ كالتشاؤم ببعض الأيام أو بعض الشهور أو بعض السنوات؛ فهذه لا تُرى ولا تسمع.
واعلم أن التطير ينافي التوحيد، ووجه منافاته له من وجهين:(117/110)
الأول: أن المتطير قطع توكله على الله واعتمد على غير الله .
الثاني: أنه تعلق بأمر لا حقيقة له، بل هو وهم وتخييل؛ فأي رابطة بين هذا الأمر، وبين ما يحل له، وهذا لا شك أنه يخل بالتوحيد ؛ لأن التوحيد عبادة
وقول الله تعالى: (أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ)(لأعراف: من الآية131) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واستعانة، قال تعالى: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5) ، وقال تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ)(هود: من الآية123) .
فالطيرة محرمة، وهي منافية للتوحيد كما سبق، والمتطير لا يخلو من حالين:
الأول: أن يحجم ويستجيب لهذه الطيرة ويدع العمل، وهذا من اعظم التطير والتشاؤم.
الثاني: أن يمضي لكن في قلق وهم وغم يخشى من تأثير هذا المتطير به، وهذا أوهن.
وكلا الأمرين نقص في التوحيد وضرر على العبيد، بل انطلق إلى ما تريد بانشراح صدر وتيسير واعتماد على الله ـ عز وجل ـ ، ولا تسيء الظن بالله ـ عز وجل ـ .
* * *
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين:
* الآية الأولى قوله تعالى: (ألا إنما طائرهم عند الله).
هذه الآية نزلت في قوم موسى كما حكى الله عنهم في قوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ)(لأعراف: من الآية131)، قال الله تعالى: (ألا إنما طائرهم عند الله)، ومعنى: (يطيروا بموسى ومن معه): أنه إذا جاءهم البلاء والجدب والقحط قالوا: هذا من موسى وأصحابه؛ فأبطل الله هذه العقيدة بقوله: (ألا إنما طائرهم عند الله).
وقوله: (قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) (يّس:19) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ألا إنما طائرهم عند الله) . (ألا): أداة استفتاح تفيد التنبيه والتوكيد، و(إنما) : أداة حصر.(117/111)
وقوله: (طائر) مبتدأ ، و(عند الله) خبر، والمعنى: أن ما يصيبهم من الجدب والقحط ليس من موسى وقومه، ولكنه من الله؛ فهو الذي قدره ولا علاقة لموسى وقومه به، بل إن الأمر يقتضي أن موسى وقومه سبب للبركة والخير، ولكن هؤلاء ـ والعياذ بالله ـ يلبسون على العوام ويوهمون الناس خلاف الواقع.
قوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) . فهم في جهل؛ فلا يعلمون أن هناك إلهاً مدبراً، وأن ما أصابهم من الله وليس من موسى وقومه.
* الآية الثانية قوله تعالى : (قالوا طائركم معكم).
أي: قال الذين أرسلوا إلى القرية في قوله تعالى: (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ )(الزمر: من الآية13).
فقالوا ذلك رداً على قوله أهل القرية: (إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ )(يّس: من الآية18)؛ أي: تشاءمنا بكم، وإننا لا نرى أنكم تدلوننا على الخير، بل على الشر وما فيه هلاكنا؛ فأجابهم الرسل بقولهم: (طائركم معكم) ؛ أي: مصاحب لكم، فما يحصل لكم؛ فإنه منكم ومن أعمالكم، فأنتم السبب في ذلك.
ولا منافاة بين هذه الآية والتي ذكرها المؤلف قبلها؛ لأن الأولى تدل على أن المقدر لهذا الشيء هو الله، والثانية تبين سببه، وهو أنه منهم؛ فهم في الحقيقة طائرهم معهم (أي الشؤم) الحاصل عليهم معهم ملازم لهم؛ لأن أعمالهم تستلزمه؛
عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا عدوىن ولا طيرة ولا هامة، ولا صفر) . أخرجاه (1) ، وزاد مسلم (2) : (ولا نوء ، ولا غول).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)(الروم: من الآية41) ، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (الأعراف:96).(117/112)
ويُستفاد من الآيتين المذكورتين في الباب: أن التطير كان معروفاً من قبل العرب وفي غير العرب؛ لأن الأولى في فرعون وقومه، والثانية في أصحاب القرية.
وقوله: (أإن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون). ينبغي أن تقف على قوله: (ذكرتم)؛ لأنها جملة شرطية، وجواب الشرط محذوف تقديره: أإن ذكرتم تطيرتم، وعلى هذا؛ فلا تصلها بما بعدها.
وقوله: (بل أنتم قوم مسرفون) . (بل) هنا للاضراب الإبطالي؛ أي: ما أصابكم ليس منهم، بل هو من إسرافكم.
وقوله: (مسرفون) . أي: متجاوزن للحد الذي يجب أن تكونوا عليه .
* * *
قوله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى). لا نافية للجنس، ونفي الجنس أعم من نفي الواحد والاثنين والثلاثة؛ لأنه نفي للجنس كله ، فنفي الرسول صلى الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عليه وسلم العدوى كلها
والعدوى: انتقال المرض من المريض إلى الصحيح، وكما يكون في الأمراض الحسية يكون أيضاً في الأمراض المعنوية الخلقية، ولهذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن جليس السوء كنافخ الكير؛ إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه رائحة كريهة (1) .
فقوله: (لا عدوى) يشمل الحسية والمعنوية، وإن كانت في الحسية أظهر.
قوله: (ولا طيرة) . اسم مصدر تطير؛ لأن المصدر منه تطير، مثل الخيرة اسم مصدر اختار، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(الأحزاب: من الآية36)؛ أي: الاختيار، أي يختاروا خلاف ما قضى الله ورسوله من الأمر.
واسم المصدر يوافق المصدر في المعنى، ولذلك تقول كلمته كلاماً بمعنى كلمته تكليماً، وسلمت عليه سلاماً بمعنى سلمت عليه تسليماً.
لكن لما كان يخالف المصدر في البناء سموه اسم مصدر، والطيرة تقدم أنها هي التشاؤم بمرئي أو مسموع أو معلوم (2) .
قوله: (ولا هامة). الهامة؛ بتخفيف الميم فسرت بتفسيرين:(117/113)
الأول: أنها طير معروف يشبه البومة، أو هي البومة، تزعم العرب أنه إذا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قُتل القتيل؛ صارت عظامة هامة تطير وتصرخ حتى يؤخذ بثأره، وربما اعتقد بعضهم أنها روحه.
التفسير الثاني: أن بعض العرب يقولون: الهامة هي الطير المعروف، لكنهم يتشاءمون بها، فإذا وقعت على بيت أحدهم ونعقت؛ قالوا: إنها تنعق به ليموت، ويعتقدون أن هذا دليل قرب أجله، وهذا كله ـ بلا شك ـ عقيدة باطلة.
قوله: (ولا صفر). قيل: إنه شهر صفر، كانت العرب يتشاءمون به ولاسيما في النكاح.
وقيل: إنه داء في البطن يصيب الإبل وينتقل من بعير إلى آخر، وعلى هذا؛ فيكون عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
وقيل: إنه نهي عن النسيئة، وكانوا في الجاهلية ينسئون، فإذا أرادوا القاتل في شهر المحرم استحلوه، وأخروا الحرمة إلى شهر صفر، وهذه النسيئة التي ذكرها الله بقوله تعالى : (فيحلوا ما حرم الله)(التوبة: 37)، وهذا القول ضعيف، ويضعفه أن الحديث في سياق التطير، وليس في سياق التغيير، والأقرب أن صفر يعني الشهر، وأن المراد نفي كونه مشؤوماً؛ أيك لا شؤم فيه، وهو كغيره من الأزمان يقدر فيه الخير ويقدر فيه الشر.
وهذا النفي في هذه الأمور الأربعة ليس نفياً للوجود؛ لأنها موجودة، ولكنه نفي للتأثير؛ فالمؤثر هو الله، فما كان منها سبباً معلوماً؛ فهو سبب صحيح، وما كان منها سبباً موهوماً؛ فهو سبب باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه إن كان صحيحاً، ولكونه سبباً إن كان باطلاً.
فقوله: (لا عدوى): العدوى موجودة، ويدل لوجودها قوله صلى الله عليه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وسلم: (لا يورد ممرض على مصح) (1) ؛ أي: لا يورد صاحب الإبل المريضة على صاحب الإبل الصحيحة؛ لئلا تنتقل العدوى.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (فر من المجذوم فرارك من الأسد) (2) .(117/114)
والجذام مرض خبيث معد بسرعة ويتلف صاحبه؛ حتى قيل: إنه الطاعون؛ فالأمر بالفرار من المجذوم لكي لا تقع العدوى منه إليك، وفيه إثبات لتأثير العدوى، لكن تأثيرها ليس أمراً حتمياً، بحيث تكون علة فاعله، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالفرار، وأن لا يورد ممرض على مصح من باب تجنب الأسباب لا من باب تأثير الأسباب نفسها؛ فالأسباب لا تؤثر بنفسها، لكن ينبغي لنا أن نتجنب الأسباب التي تكون سبباً للبلاء؛ لقوله تعالى: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)(البقرة: من الآية195)، ولا يمكن أن يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ينكر تأثير العدوى؛ لأن هذا أمر يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
فإن قيل: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال: (لا عدوى. قال رجل: يا رسول الله ! الإبل تكون صحيحة مثل الظباء، فيدخلها الجمل الأجرب فتجرب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن أعدى الأول؟) (3) يعني أن المرض نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله ـ عز وجل ـ ؛ فكذلك إذا انتقل بالعدوى؛ فقد أنتقل بأمر الله، والشيء قد يكون له سبب معلوم وقد لا يكون له سبب معلوم، فجرب الأول ليس سببه معلوماً؛ إلا أنه بتقدير الله تعالى، وجرب الذي بعده له سبب معلوم ، لكن لو شاء الله تعالى لم يجرب، ولهذا أحياناً تُصاب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت، وكذلك الطاعون والكوليرا أمراض معدية، وقد تدخل البيت فتصيب البعض فيموتون ويسلم آخرون ولا يصابون.
فعلى الإنسان أن يعتمد على الله، ويتوكل عليه، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل مجذوم، فأخذ بيده وقال له: (كل) يعني من الطعام الذي كان يأمل منه الرسول صلى الله عليه وسلم ) (1) ؛ لقوة توكله صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا التوكل مقاوم لهذا السبب المعدي.(117/115)
وهذا الجمع الذي أشرنا إليه هو أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وادعى بعضهم النسخ؛ فمنهم من قال: عن الناسخ قوله: (لا عدوى)، والمنسوخ قوله: (فر من المجذوم) ، و (ولا يورد ممرض على مصح) ، وبعضهم عكس، والصحيح أنه لا نسخ؛ لأن من شروط النسخ تعذر الجمع، وإذا أمكن الجمع وجب الرجوع إليه؛ لأن في الجمع إعمال الدليلين، وفي النسخ إبطال أحدهما، وإعمالهما أولى من إبطال أحدهما؛ لأننا اعتبرناهما وجعلناهما حجة، وأيضاً الواقع يشهد أنه لا نسخ.
وقوله: (ولا صفر). فيه ثلاثة أقوال سبقت ، وبيان الراجح منها.
والأزمنة لا دخل لها في التأثير وفي تقدير الله ـ عز وجل ـ ؛ فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر، وبعض الناس إذا انتهى من شيء في صفر أرخ ذلك وقال: انتهى في صفر الخير، وهذا من باب مداواة البدعة ببدعة،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والجهل بالجهل؛ فهو ليس شهر خير ولا شهر شر.
أما شهر رمضان، وقولنا: إنه شهر خير؛ فالمراد بالخير العبادة، ولا شك أنه شهر خير، وقولهم: رجب المعظم؛ بناءً على أنه من الأشهر الحرم.
ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال؛ خيراً إن شاء الله؛ فلا يُقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
فهذه الأربعة التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تُبين وجوب التوكل على الله وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلم أمام هذه الأشياء؛ لأن الإنسان لا يخلو من حالين:
إما أن يستجيب لها بأن يقدم أو يحجم أو ما أشبه ذلك؛ فيكون حينئذ قد علق أفعاله بما لا حقيقة له ولا أصل له، وهو نوع من الشرك.
وإما أن لا يستجيب بأن يكون عنده نوع من التوكل ويقدم ولا يبالي، لكن يبقى في نفسه نوع من الهم أو الغم، وهذا وإن كان أهون من الأول، لكن يجب ألا يستجيب لداعي هذه الأشياء التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم مطلقاً، وأن يكون معتمداً على الله ـ عز وجل ـ .(117/116)
وبعض الناس قد يفتح المصحف لطلب التفاؤل، فإذا نظر ذكر النار تشاءم، وإذا نظر ذكر الجنة قال: هذا فأل طيب؛ فهذا مثل عمل الجاهلية الذين يستقسمون بالأزلام.
فالحاصل أننا نقول: لا تجعل على بالك مثل هذه الأمور إطلاقاً؛ فالأسباب المعلومة الظاهرة تقي أسباب الشر، وأما الأسباب الموهومة التي لم يجعلها الشرع سبباً بل نفاها؛ فلا يجوز لك أن تتعلق بها، بل احمد الله على العافية، وقل: ربنا عليك توكلنا.
قوله: (لا نوء) . واحد الأنواء، والأنواء: هي منازل القمر، وهي ثمان
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وعشرون منزلة، كل منزلة لها نجم تدوم بمدار السنة.
وهذه النجوم بعضها يسمى النجوم الشمالية، وهي لأيام الصيف، وبعضها يسمى النجوم الجنوبية، وهي لأيام الشتاء، وأجرى الله العادة أن المطر في وسط الجزيرة العربية يكون أيام الشتاء، أما أيام الصيف؛ فلا مطر.
فالعرب كانوا يتشاءمون بالأنواء، ويتفاءلون بها؛ فبعض النجوم يقولون: هذا نجم نحس لا خير فيه، وبعضها بالعكس يتفاءلون به فيقولون: هذا نجم سعود وخير، ولهذا إذا أُمطروا قالوا: مُطرنا بنوء كذا، ولا يقولون: مُطرنا بفضل الله ورحمته، ولا شك أن هذا غاية الجهل.
ألسنا أدركنا هذا النوء بعينه في سنة يكون فيه مطر وفي سنة أخرى لا يكون فيه مطر ؟
ونجد السنوات تمر بدون مطر مع وجود النجوم الموسمية التي كانت كثيراً ما يكون في زمنها الأمطار.
فالنوء لا تأثير له؛ فقولنا: طلع هذا النجم، كقولنا: طلعت الشمس؛ فليس له إلا طلوع وغروب، والنوء وقت تقدير، وهو يدل على دخول الفصول فقط.(117/117)
وفي عصرنا الحاضر يعلق المطر بالضغط الجوي والمنخفض الجوي، وهذا وإن كان قد يكون سبباً حقيقياً ، ولكن لا يفتح هذا الباب للناس، بل الواجب أن يُقال: هذا من رحمة الله، هذا من فضله ونعمه، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ )(النور: من الآية43)، وقال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ )(الروم: من الآية48).
فتعليق المطر بالمنخفضات الجوية من الأمور الجاهلية التي تصرف الإنسان
ولهما عن أنس؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا عدوى، ولا طيرة،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن تعلقه بربه.
فذهبت أنواء الجاهلية، وجاءت المنخفضات الجوية، وما أشبه ذلك من الأقوال التي تصرف الإنسان عن ربه ـ سبحانه وتعالى ـ .
نعم، المنخفضات الجوية قد تكون سبباً لنزول المطر، لكن ليست هي المؤثر بنفسها؛ فتنبه.
قوله: (ولا غول). جمع غولة أو غولة، ونحن نسميها باللغة العامية: (الهولة)؛ لأنها تهول الإنسان.
والعرب كانوا إذا سافروا أو ذهبوا يميناً وشمالاً تلونت لهم الشياطين بألوان مفزعة مخيفة، فتدخل في قلوبهم الرعب والخوف، فتجدهم يكتئبون ويستحسرون عن الذهاب إلى هذا الوجه الذي أرادوا، وهذا لا شك أنه يضعف التوكل على الله، والشيطان حريص على إدخال القلق والحزن على الإنسان بقدر ما يستطيع، قال تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ)(المجادلة: من الآية10).(117/118)
وهذا الذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو تأثيرها؛ وليس المقصود بالنفي نفي الوجود، وأكثر ما يبتلى الإنسان بهذه الأمور إذا كان قلبه معلقاً بها، أما إن كان معتمداً على الله غير مبال بها؛ فلا تضره ولا تمنعه عن جهة قصدة.
* * *
قوله في حديث أنس: (لا عدوى، ولا طيرة) . تقدم الكلام على ذلك.
ويعجبني الفأل) . قالوا : وما الفأل ؟ قال : (الكلمة الطيبة) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (ويعجبني الفأل). أي: يسرني، والفأل بينه بقوله : (الكلمة الطيبة). فـ (الكلمة الطيبة) تعجبه صلى الله عليه وسلم ؛ لما فيها من إدخال السرور على النفس والانبساط ، والمضي قدماً لما يسعى إليه الإنسان، وليس هذا من الطيرة، بل هذا مما يشجع الإنسان؛ لأنها لا تؤثر عليه، بل تزيده طمأنينة وإقداماً وإقبالاً.
وظاهر الحديث: الكلمة الطيبة في كل شيء؛ لأن الكلمة الطيبة في الحقيقة تفتح القلب وتكون سبباً لخيرات كثيرة، حتى إنها تُدخل المرء في جملة ذوي الأخلاق الحسنة.
وهذا الحديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم فيه بين محذورين ومرغوب؛ فالمحذوران هما العدوى والطيرة، والمرغوب هو الفأل، وهذا من حُسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فمن ذكر المرهوب ينبغي أن يذكر معه ما يكون مرغوباً ، ولهذا كان القرآن مثاني إذا ذكر أوصاف المؤمنين ذكر أوصاف الكافرين، وإذا ذكر العقوبة ذكر المثوبة، وهكذا.
قوله: (عن عقبة بن عامر). صوابه عن عروة بن عامر؛ كما ذكره في (التيسير)، وقد اختلف في نسبه وصحبته.
قوله: (ذكرت الطيرة عند رسول الله) . وهذا الذكر إما ذكر شأنها ، أو ذكر أن الناس يفعلونها، والمراد: تحدث الناس بها عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.(117/119)
ولأبي داود ـ بسند صحيح ـ عن عقبة بن عامر؛ قل: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره؛ فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك) (1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أحسنها الفأل) . سبق أن الفأل ليس من الطيرة (2) ، لكنه شبيه بالطيرة من حيث الإقدام؛ فإنه يزيد الإنسان نشاطاً وإقداماً فيما توجه إليه؛ فهو يشبه الطيرة من هذا الوجه، وإلا؛ فبينهما فرق لأن الطيرة توجب تعلق الإنسان بالمتطير به، وضعف توكله على الله، ورجوعه عما هم به من أجل ما رأى، لكن الفأل يزيده قوة وثباتاً ونشاطاً؛ فالشبه بينهما هو التأثير في كل منهما.
قوله: (ولا ترد مسلماً) . يفهم منه أن من ردته الطيرة عن حاجته؛ فليس بمسلم.
قوله: (فإذا رأى أحدكم ما يكره) . فحينئذ قد ترد على قلبه الطيرة، ويبتعد عما يريدن ولا يقدم عليه، وقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم دواء لذلك وقال: (فليق: اللهم لا يأتيي بالحسنات …) إلخ.
قوله: ( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ) . وهذا هو حقيقة التوكل ،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: (اللهم) . يعني: يا الله، ولهذا بُنيت على الضم؛ لأن المنادي علم ، بل هو أعلم الأعلام وأعرف المعارف على الإطلاق، والميم عوض عن يا المحذوفة، وصارت في آخر الكلمة تبركاً بالابتداء باسم الله ـ سبحانه وتعالى ـ، وصارت ميماً؛ لأنها تدل الجمع؛ فكأن الداعي جمع قلبه على الله.
قوله: (لا يأتي بالحسنات إلا أنت) . أي: لا يقدرها ولا يخلقها ولا يوجدها للعبد إلا الله وحده لا شريك له، وهذا لا ينافي أن تكون الحسنات بأسباب خلقها الله؛ صار الموجد حقيقة هو الله.
والمراد بالحسنات: ما يستحسن المرء وقوعه، ويحسن في عينه.(117/120)
ويشمل ذلك الحسنات الشرعية؛ كالصلاة والزكاة وغيرها؛ لأنها تسر المؤمن ، ويشمل الحسنات الدنيوية؛ كالمال والولد ونحوها، قال تعالى : (إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ) (التوبة:50)، وقال تعالى في آية أخرى: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا)(آل عمران: من الآية120) .
وقوله : (إلا أنت). فاعل يأتي ؛ لأن الاستثناء هنا مفرغ.
قوله: (ولا يدفع السيئات إلا أنت) . السيئات: ما يسوء المرء وقوعه وينفر منه حالاً أو مآلاً ، ولا يدفعها إلا الله، ولهذا إذا أصيب الإنسان بمصيبة التجأ إلى ربه تعالى، حتى المشركون إذا ركبوا في الفلك ، وشاهدوا الغرق؛ دعوا الله مخلصين له الدين.
ولا ينافي هذا أن يكون دفعها بأسباب ؛ فمثلاً لو رأى رجلاً غريقاً، فأنقذه؛ فإنما أنقذه بمشيئة الله، ولو شاء الله لم ينقذه؛ فالسبب من الله.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فعقيدة كل مسلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا لله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وبمقتضى هذه العقيدة؛ فإنه يجب أن لا يسأل المسلم الحسنات ولا يسأل دفع السيئات ويسألون دفع السيئات ، قال تعالى عن زكريا : ( رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً )(آل عمران: من الآية38)، وقال تعالى عن أيوب: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (الانبياء:83) ، وهكذا يجب أن يكون المؤمن أيضا .
قوله : ( ولا حول ولا قوة إلا بك ) . في معناها وجهان:(117/121)
الأول : أنه لا يوجد حول ولا قوة إلا بالله؛ فالباء بمعنى في، يعني: إلا في الله وحده، ومن سواه ليس لهم حول ولا قوة، ويكون الحول و القوة المنفيان عن غير الله هما الحول المطلق و القوة المطلقة؛ لأن غير الله فيه حول و قوة، لكنها نسبية ليست بكاملة؛ فالحول الكامل والقوة الكاملة في الله وحده.
الثاني : أنه لا يوجد لنا حول و لا قوة إلا بالله؛ فالباء للاستعانة أو للسببية، وهذا المعنى أصح، وهو مقتضى ورودها في مواضعها؛ إذ إننا لا نتحول من حال إلى حال، ولا نقوى على ذلك إلا بالله ؛ فيكون في هذه الجملة كمال التفويض إلى الله، وأن الإنسان يبرأ من حوله وقوته إلا بما أعطاه الله من الحول و القوة .
فإن صح الحديث؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أرشدنا إذا رأينا ما نكره مما يتشاءم به المتشائم أن نقول : ( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك ) .
* * *
وعن ابن مسعود مرفوعا : ( الطيرة شرك ، الطيرة شرك ، وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل )(1) رواه أبو داود و الترمذي و صححه . جعل آخره من قول ابن مسعود .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( مرفوعا ) . أي : إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : ( الطيرة شرك ، الطيرة شرك ) . هاتان الجملتان يؤكد بعضهما بعضا من باب التوكيد اللفظي.
وقوله : ( شرك ) . أي : إنها من أنواع الشرك، وليست الشرك كله، وإلا؛ لقال : الطيرة شرك .
وهل المراد بالشرك هنا الشرك الأكبر المخرج من الملة ، أو أنها نوع من أنواع الشرك ؟
نقول: هي نوع من أنواع الشرك؛ كقوله صلى الله عليه وسلم : ( اثنتان في الناس هما بهم كفر )(2) ؛ أي : ليس الكفر المخرج عن الملة ، وإلا ، لقال : ( هما بهم الكفر ) ، بل هما نوعان من الكفر .(117/122)
لكن في ترك الصلاة قال : ( بين الرجل و بين الشرك و الكفر ترك الصلاة)(3) ، فقال : ( الكفر ) ؛ فيجب أن نعرف الفرق بين ( أل ) المعرفة أو الدالة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
على الاستغراق ، وبين خلو اللفظ منها، فإذا قيل : هذا كفر؛ فالمراد أنه نوع من الكفر لا يخرج من الملة، وإذا قيل: هذا الكفر ؛ فهو المخرج من الملة.
فإذا تطير إنسان بشيء رآه أو سمعه؛ فإنه لا يعد مشركا شركا يخرجه من الملة، لكنه أشرك من حيث إنه اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سببا، وهذا يضعف التوكل على الله ويوهن العزيمة ، وبذلك يعتبر شركا من هذه الناحية، والقاعدة : ( إن كل إنسان اعتمد على سبب لم يجعله الشرع سببا؛ فإنه مشركا شركا أصغر ) .
وهذا نوع من الإشراك مع الله ؛ إما في التشريع إن كان هذا السبب شرعيا، وإما في التقدير إن كان هذا السبب كونيا، لكن لو اعتقد هذا المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله ؛ فهو مشركا شركا أكبر؛ لأنه جعل لله شريكا في الخلق والإيجاد .
قوله : ( وما منا ) . ( منا) : جار و مجرور خبر لمبتدأ محذوف، إما قبل (إلا) إن قدرت ما بعد إلا فعلا ؛ أي : وما منا إلا تطير، أو بعد ( إلا) ؛ أي: وما منا إلا متطير .
والمعنى : ما منا إنسان يسلم من التطير؛ فالإنسان يسمع شيئا فيتشاءم، أو يبدأ في فعل؛ فيجد أو له ليس بالسهل فيتشاءم و يتركه .
والتوكل : صدق الاعتماد على الله في حلب النافع ودفع المضار مع الثقة بالله ، وفعل الأسباب التي جعلها الله تعالى أسبابا .
فلا يكفي صدق الاعتماد فقط ، بل لابد أن تثق به؛ لأنه سبحانه يقول: ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) !
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/123)
قوله : ( وجعل آخره من قول ابن مسعود ). وهو قوله : ( وما منا إلا…) إلخ . وعلى هذا يكون موقوفا، وهو مدرج في الحديث، والمدرج: أن يدخل أحد الرواة كلاما في الحديث من عنده بدون بيان، ويكون في الإسناد و المتن، ولكن أكثره في المتن، وقد يكون في أول الحديث، وقد يكون في وسطه، وقد يكون في آخره ، وهو الأكثر .
مثال ما كان في أول الحديث: قول أبي هريرة رضي الله عنه: ( أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار )(1) ؛ فقوله : ( اسبغوا الوضوء) من كلام أبي هريرة، وقوله : ( ويل للأعقاب من النار) من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومثال ما كان في وسطه قول الزهري في حديث بدء الوحي : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء ، والتحنث : التعبد )(2) ، ومثال ما كان في آخره: هذا الحديث الذي ذكره المؤلف، وكذا حديث أبي هريرة، وفيه : ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته؛ فليفعل )(3) ؛ فهذا من كلام أبي هريرة .
قوله : ( من ردته الطيرة عن حاجته). ( من ) . شرطية، وجواب الشرط: (فقد أشرك ) ، واقترن الجواب بالفاء؛ لأنه لا يصلح لمباشرة الأداة، وحينئذ يجب اقترانه بالفاء ، وقد جمع ذلك في بيت شعر معروف، وهو قوله:
ولأحمد من حديث ابن عمرو : ( من ردته الطيرة عن حاجته؛ فقد أشرك). قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : ( أن تقولوا: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك)(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اسمية طلبية و بجامد وبما وقد وبلن وبالتنفيس
وقوله : ( عن حاجته ) . الحاجة : كل ما يحتاجه الإنسان بما تتعلق به الكمالات، وقد تطلق على الأمور الضرورية .(117/124)
قوله : ( فقد أشرك ). أي: شركا أكبر إن اعتقد أن هذا المتشاءم به يفعل ويحدث الشر بنفسه، وإن اعتقده سببا فقط فهو أصغر؛ لأنه سبق أن ذكرنا قاعدة مفيدة في هذا الباب ، وهي: ( إن كل من اعتقد في شيء أنه سبب ولم يثبت أنه سبب لا كونا و لا شرعا؛ فشركه شرك أصغر؛ لأنه ليس لنا أن يثبت أن هذا سبب إلا إذا كان الله قد جعله سببا كونيا أو شرعيا؛ فالشرعي: كالقراءة و الدعاء، والكوني: كالأدوية التي جرب نفعها) .
قوله : ( فما كفارة ذلك ) . أي: ما كفارة هذا الشرك، أو ما هو الدواء الذي يزيل هذا الشرك؟ لأن الكفارة قد تطلق على كفارة الشيء بعد فعله، وقد تطلق على الكفارة قبل الفعل، وذلك لأن الاشتقاق مأخوذ من الكفر ، وهو الستر، والستر واق؛ فكفارة ذلك إن وقع وكفارة ذلك إن لم يقع .
وقوله : ( اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ) . يعني: فأنت الذي بيدك الخير المباشر؛ كالمطر و النبات، وغير المباشر ؛ كالذي يكون سببه من عند
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الله على يد مخلوق، مثل: أن يعطيك إنسان درهم صدقة أو هداية، وما أشبه ذلك؛ فهذا الخير من الله، لكن بواسطة جعلها الله سببا، وإلا فكل الخير من الله ـ عز و جل ـ .
وقوله : ( فلا خير إلا خيرك ) . هذا الحصر حقيقي؛ فالخير كله من الله، سواء كان بسبب معلوم أو بغيره .(117/125)
وقوله : ( لا طير إلا طيرك ) . أي : الطيور كلها ملكك ؛ فهي لا تفعل شيئا ، وإنما هي مسخرة، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) (الملك:19)، وقال تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (النحل:79) ؛ فالمهم أن الطير مسخرة بإذن الله ؛ فالله تعالى هو الذي يدبرها و يصرفها و يسخرها تذهب يمينا و شمالا ، ولا علاقة لها بالحوادث.
ويحتمل أن المراد بالطير هنا ما يتشاءم به الإنسان؛ فكل ما يحدث للإنسان من التشاؤم و الحوادث المكروهة؛ فإنه من الله كما أن الخير من الله؛ كما قال تعالى : ( ألا إنما طائرهم عند الله ) ( الأعراف :31).
لكن سبق لنا أن الشر في فعل الله ليس بواقع، بل الشر في المفعول لا في الفعل، بل فعله تعالى كله خير؛ إما خير لذاته، وإما لما يترتب عليه من المصالح العظيمة التي تجعله خيرا .
فيكون قوله : ( لا طير إلا طيرك ) مقابلا لقوله : ( ولا خير إلا خيرك ).
قوله : ( ولا إله غيرك ) . ( لا ) نافية للجنس ، و( إله ) بمعنى: مألوه؛ كغراس بمعنى مغروس، وفراش بمعنى مفروش، والمألوه: هو المعبود محبة و تعظيما يتأله إليه الإنسان محبة له و تعظيما له .
وله من حديث الفضل بن عباس : ( إنما الطيرة ما أمضاك أوردك )(1) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل : إن هناك آلهة دون الله؛ كما قال تعالى : ( فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْء)(هود: من الآية101) .
أجيب : أنها وإن عبدت من دون الله و سميت آلهة؛ فليست آلهة حقا لأنها لا تستحق أن تعبد ؛ فلهذا نقول : لا إله إلا الله ؛ أي: حق لا إله إلا الله .
*يستفاد من الحديث :(117/126)
1-أنه لا يجوز للإنسان أن ترده الطيرة عن حاجته، وإنما يتوكل على الله ولا يبالي بما رأى أو سمع أو حدث له عند مباشرته للفعل أول مرة؛ فإن بعض الناس إذا حصل له ما يكره في أول مباشرته الفعل تشاءم، وهذا خطأ؛ لأنه ما دامت هناك مصلحة دنيوية أو دينية؛ فلا تهتم بما حدث.
2- أن الطيرة نوع من الشرك؛ لقوله : ( من ردته الطيرة عن حاجته؛ فقد أشرك) .
3-أن من وقع في قلبه التطير ولم ترده الطيرة؛ فإن ذلك لا يضر كما سبق في حديث ابن مسعود : ( وما منا إلا ، ولكن الله يذهبه بالتوكل)(2) .
4- أن الأمور بيد الله خيرها و شرها .
5-انفراد الله بالألوهية ؛ كما انفرد بالخلق و التدبير .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وحصرا ؛ أي: ما الطيرة إلا ما أمضاك أو ردك لا ما حدث في قلبك ولم تلتفت إليه ، ولا ريب أن السلامة منها حتى في تفكير الإنسان خير بلا شك، لكن إذا وقعت في القلب ولم ترده ولم يلتفت لها ؛ فإنها لا تضره، لكن عليه أن لا يستسلم ، بل يدافع ؛ إذ الأمر كله بيد الله .
قوله : ( ما أمضاك أو ردك ) . أما ( ما ردك) ؛ فلا شك أنه من الطيرة؛ لأن التطير يوجب الترك و التراجع .
وأما ( ما أمضاك ) ؛ فلا يخلو من لأمرين :
الأول : أن تكون من جنس التطير ، وذلك بأن يستدل لنجاحه أو عدم نجاحه بالتطير، كما لو قال : سأزجر هذا الطير، فإذا ذهب إلى اليمين؛ فمعنى ذلك اليمن و البركة، فيقدم؛ فهذا لاشك أنه تطير؛ لأن التفاؤل بمثل انطلاق الطير عن اليمين غير صحيح؛ لأنه لا وجه له؛ إذ الطير إذا طار؛ فإنه يذهب إلى الذي يرى أنه وجهته، فإذا اعتمد عليه؛ فقد اعتمد على سبب لم يجعله الله سببا، وهو حركة الطير.(117/127)
الثني : أن يكون سبب المضي كلاما سمعه أو شيئا شاهده يدل على تيسير هذا الأمر له؛ فإن هذا فأل، وهو الذي يعجب النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن إن اعتمد عليه وكان سببا لإقدامه؛ فهذا حكمه الطيرة ، وإن لم يعتمد عليه ولكنه فرح ونشط وازداد نشاطا في طلبه؛ فهذا من الفأل المحمود .
والحديث في سنده مقال ، لكن على تقدير صحته هذا حكمه .
* * *
*فيه مسائل
الأولي: التنبيه على قوله: ( ألا إنما طائرهم عند الله ) ( الأعراف : 131)، مع قوله : ( طائركم معكم ) (يس : 19) الثانية : نفي العدوى. الثالثة : نفي الطيرة. الرابعة : نفي الهامة . الخامسة : نفي الصفر. السادسة : أن الفأل ليس من ذلك بل مستحب .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
*الأولى : التنبيه على قوله : ( ألا إنما طائرهم عند الله )، مع قوله : ( طائركم معكم).
أي : لكي يتنبه الإنسان، فإن ظاهر الآيتين التعارض، وليس كذلك؛ فالقرآن و السنة لا تعارض بينهما و لا تعارض في ذاتهما، إنما يقع التعارض حسب فهم المخاطب ، وقد سبق بيان الجمع أن قوله : ( ألا إنما طائرهم عند الله) أن الله هو المقدر ذلك ، وليس موسى و لا غيره من الرسل، وأن قوله: ( طائركم معكم) من باب السبب؛ أي: أنتم سببه.
*الثانية : نفي العدوى . وقد سبق أن المراد بنفيها نفي تأثيرها بنفسها لا أنها سبب للتأثير؛ لأن الله قد جعل بعض الأمراض سببا للعدوى و انتقالها.
*الثالثة : نفي الطيرة . أي : نفي التأثير لا نفي الوجود .
*الرابعة : نفي الهامة . والخامسة : نفي الصفر. وقد سبق تفسيرهما .
*السادسة : أن الفأل ليس من ذلك، بل مستحب. تؤخذ من قول النبي
السابعة : تفسير الفأل . الثامنة : أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهية لا يضر بل يذهبه الله بالتوكل . التاسعة: ذكر ما يقول من وجده.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ(117/128)
صلى الله عليه وسلم : (يعجبني الفأل)(1)،وكل ما أعجب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فهو حسن ، قالت عائشة رضي الله عنها : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله )(2) .
*السابعة : تفسير الفأل. فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأنه : الكلمة الطيبة، وسبق أن هذا التفسير على سبيل المثال لا على سبيل الحصر ؛ لأن الفأل كل ما ينشط الإنسان على شيء محمود؛ من قول، أو فعل مرئي أو مسموع.
*الثامنة : أن الواقع في القلوب من ذلك مع كراهته لا يضر، بل يذهبه الله بالتوكل. أي: إذا وقع في قلبك وأنت كاره له؛ فإنه لا يضرك ويذهبه الله بالتوكل؛ لقول ابن مسعود : ( وما منا إلا … ولكن الله يذهبه بالتوكل )(3) .
*التاسعة : ذكر ما يقول من وجده . سبق أنه شيئان :
أن يقول: ( اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك ) . أو يقول : ( اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك) .
العاشرة: التصريح بأن الطيرة شرك. الحادية عشرة : تفسير الطيرة المذمومة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*العشرة : التصريح بأن الطيرة شرك . وسبق أن الطيرة شرك ، لكن بتفصيل ، فإن اعتقد تأثيرها بنفسها؛ فهو شرك أكبر ، وإن اعتقد أنها سبب؛ فهو شرك أصغر .
*الحادية عشرة : تفسير الطيرة المذمومة . أي: ما أمضاك أو ردك.
* * *
باب ما جاء في التنجيم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
التنجيم : مصدر نجم بتشديد الجيم ؛ أي: تعلم علم النجوم ، أو اعتقد تأثير النجوم .
وعلم النجوم ينقسم إلى قسمين :
1- علم التأثير. 2- علم التسيير
فالأول : علم التأثير. وهذا ينقسم إلى ثلاثة أقسام :(117/129)
ا- أن يعتقد أن هذه النجوم مؤثرة فاعلة، بمعنى أنها هي التي تخلق الحوادث و الشرور ؛ فهذا أكبر؛ لأن من ادعى أن مع الله خالقا؛ فهو شركا أكبر؛ فهذا جعل المسخر خالقا مسخرا.
ب- أن يجعلها سبب يدعي به علم الغيب، فيستدل بحركاتها وتنقلاتها و تغيراتها على أنه سيكون كذا و كذا ؛ لأن النجم الفلاني صار كذا و كذا ، مثل أن يقول : هذا الإنسان ستكون حياته شقاء؛ لأنه ولد في النجم الفلاني ، وهذا حياته ستكون سعيدة؛ لأنه ولد في النجم الفلاني ؛ فهذا اتخذ تعلم النجوم وسيلة لادعاء علم الغيب، ودعوى علم الغيب كفر مخرج عن الملة؛ لأن الله يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ)(النمل: من الآية65)، وهذا من أقوى أنواع الحصر؛ لأنه بالنفي و الإثبات، فإذا ادعى أحد علم الغيب؛ فقد كذب القرآن.
ج- أن يعتقدها سببا لحدوث الخير و الشر، أي أنه إذا وقع شيء نسبه إلى النجوم، ولا ينسب إلى النجوم شيئا إلا بعد وقوعه؛ فهذا شرك أصغر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فإن قيل: ينتقض هذا بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله في الكسوف : (إن الشمس و القمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده) (1) ؛ فمعنى ذلك أنهما علامة إنذار.
والجواب من وجهين :
الأول : أنه لا يسلم أن للكسوف تأثيرا في الحوادث و العقوبات من الجدب و القحط و الحروب، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إتهما لا ينكسفان لوت أحد و لا لحياته)(2) ، لا في ما مضى و لا في المستقبل ، وإنما يخوف الله بهما العباد لعلهم يرجعون، وهذا أقرب .
الثاني : أنه لو سلمنا أن لهما تأثيراً؛ فإن النص قد دل على ذلك، وما دل عليه النص يجب القول به، لكن يكون خاصاً به.(117/130)
لكن الوجه الأول هو الأقرب: أننا لا نسلم أصلاً أن لهما تأثيراً في هذا؛ لأن الحديث لا يقتضيه؛ فالحديث ينص على التخويف، والمخوف هو الله تعالى، والمخوفة عقوبته، ولا أثر للكسوف في ذلك، وإنما هو علامة فقط.
الثاني: علم التيسير. وهذا ينقسم إلى قسمين:
الأول: أن يستدل بسيرها على المصالح الدينية؛ فهذا مطلوب، وإذا كان يعين على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجباً، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على مصالح دينية واجبة كان تعلمها واجباً، كما لو أراد أن يستدل بالنجوم على جهة القبلة؛ فالنجم الفلاني يكون ثلث الليل قبلة، والنجم الفلاني يكون ربع الليل قبلة؛ فهذا فيه فائدة عظيمة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الثاني: أن يستدل بسيرها على المصالح الدنيوية؛ فهذا لا بأس به، وهو نوعان:
النوع الأول: أن يستدل بها على الجهات؛ كمعرفة أن القطب يقع شمالاً، والجدي وهو قريب منه يدور حوله شمالاً، وهكذا ؛ فهذا جائز ، قال تعالى: (وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (النحل:16).
النوع الثاني: أن يستدل بها على الفصول، وهو ما يعرف بتعلم منازل القمر؛ فهذا كرهه بعض السلف، وأباحه آخرون.
والذين كرهوه قالوا: يُخشى إذا قيل: طلع النجم الفلاني؛ فهو وقت الشتاء أو الصيف: أن بعض العامة يعتقد أنه هو الذي يأتي بالبرد أو بالحر أو بالرياح.
والصحيح عدم الكراهة ؛ كما سيأتي إن شاء الله (1)
* * *
قال البخاري في (صحيحه): (قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء، ورجوماً للشياطين، وعلامات يهتدي بها، فمن تأول فيها غير ذلك؛ أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به) (1) انتهى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله في أثر قتادة: (خلق الله هذه النجوم ثلاث). اللازم للتعليل؛ أي: لبيان العلة والحكمة.(117/131)
قوله: (لثلاث). ويجوز لثلاثة، لكن الثلاث أحسن، أي: لثلاث حكم، لهذا حذف تاء التأنيث من العدد.
والثلاث هي:
الأولى: زينة للسماء، قال تعالى: (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ)(الملك: من الآية5)؛ لأن الإنسان إذا رأى السماء صافية في ليلة غير مقمرة وليس فيها كهرباء يجد لهذه النجوم من الجمال العظيم ما لا يعلمه إلا الله؛ فتكون كأنها غابة محلاة بأنواع من الفضة اللامعة، هذه نجمة مضيئة كبيرة تميل إلى الحمرة، وهذه تميل إلى الزرقة، وهذه خفيفة، وهذه متوسطة، وهذا شيء مشاهد.
وهل نقول: إن ظاهر الآية الكريمة أن النجوم مرصعة في السماء، أو نقول: لا يلزم ذلك؟
الجواب: لا يلزم من ذلك أن تكون النجوم مرصعة في السماء ، قال
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (الانبياء:33)؛ أي: يدورون، كل له فلك.
وأنا شاهدت بعيني أن القمر خسف نجمة من النجوم، أي غطاها، وهي من النجوم اللامعة الكبيرة كان يقرب حولها في آخر الشهر، وعند قرب الفجر غطاها؛ فكنا لا نراها بالمرة، وذلك قبل عامين في آخر رمضان.
إذن هي أفلاك متفاوتة في الارتفاع والنزول، ولا يلزم أن تكون مرصعة في السماء.
فإن قيل: فما الجواب عن قوله تعالى: (زينا السماء الدنيا) ؟
قلنا: إنها لا يلزم من تزيين الشيء بالشيء أن يكون ملاصقاً له، أرأيت لو أن رجلاً عمر قصراً وجعل حوله ثريات من الكهرباء كبيرة وجميلة، وليست على جدرانه؛ فالناظر إلى القصر من بعد يرى أنها زينة له، وإن لم تكن ملاصقة له.(117/132)
الثانية: رجوماً للشياطين؛ أي: لشياطين الجن، وليسوا شياطين الإنس؛ لأن شياطين الإنس لم يصلوها، لكن شياطين الجن وصلوها؛ فهم أقدر من شياطين الإنس، ولهم قوة عظيمة نافذة، قال تعالى عن عملهم الدال على قدرتهم: (وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ) (صّ:37)؛ أي: سخرنا لسليمان: (وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ) (صّ:38) وقال تعالى : (قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ)(النمل: من الآية39)، أي: من سبأ إلى الشام، وهو عرش عظيم لملكة سبأ؛ فهذا يدل على قوتهم وسرعتهم ونفوذهم.
وقال تعالى: (وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَصَداً) (الجن:9). والرجم: الرمي.
الثالثة: علامات يهتدى بها، من قوله تعالى : (وألقى في الأرض
وكره قتادة تعلم منازل القمر. ولم يرخص ابن عيينة فيه . ذكره حرب عنهما. ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
رواسي أن تميد بكم وأنهاراً وسبلاً لعلكم تهتدون * وعلامات وبالنجم هو يهتدون)(النحل:16)؛ فذكر الله تعالى نوعين من العلامات التي يهتدي بها:
الأول : أرضية، وتشمل كل ما جعل الله في الأرض من علامة ؛كالجبال، والأنهار ، والطرق، والأودية، ونحوها.
والثاني : أفقية في قوله تعالى : ( وبالنجم هم يهتدون).
والنجم : اسم جنس يشمل كل ما يهتدى به، ولا يختص بنجم معين؛ لأن لكل قوم في الاستدلال بهذه النجوم على الجهات، سواء جهات القبلة أو المكان ، برا أو بحرا .
وهذا من نعمة الله أن جعل علامات علوية لا يحجب دونها شيء، وهي النجوم؛ لأنك في الليل لا تشاهد جبالا أودية ، وهذا من تسخير الله، قال تعالى: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْه)(الجاثية: من الآية13).(117/133)
قوله : ( وكره قتادة تعلم منازل القمر ) . أي: كراهة تحريم بناء على أن الكراهة في كلام السلف يراد بها التحريم غالبا .
وقوله : ( تعلم منازل القمر ) يحتمل أمرين :
الأول أن المراد به معرفة منزلة القمر، الليلة يكون في الشرطين، ويكون في الإكليل؛ فالمراد معرفة منازل القمر كل ليلة؛ لأن كل ليلة له منزلة حتى يتم ثمانيا وعشرين و في تسع و عشرين وثلاثين لا يظهر في الغالب .
الثاني : أن المراد به تعلم منازل النجوم؛ أي: يخرج النجم الفلاني في
وعن أبي موسى ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
اليوم الفلاني، وهذه النجوم جعلها الله أوقاتا للفصول؛ لأنها (28) نجما، منها (14) يمانية و (14) شمالية؛ فإذا حلت الشمس في المنازل الشمالية صار الحر ، وإذا حلت في الجنوبية صار البرد ، ولذلك كان من علامة دنو البرد خروج سهيل، وهو من النجوم اليمانية .
قوله : ( ولم يرخص فيه ابن عيينة ) . هو سفيان بن عيينة المعروف، وهذا يوافق قول قتادة بالكراهة .
قوله : ( وذكره حرب). من أصحاب أحمد، روى عنه مسائل كثرة.
قوله : ( إسحاق ). هو إسحاق بن راهويه .
والصحيح أنه لا بأس بتعلم منازل القمر؛ لأنه لا شرك فيها؛ إلا إن تعلمها ليضف إليها نزول المطر وحصول البرد، وأنها هي الجالبة لذلك ؛ فهذا نوع من الشرك، أما مجرد معرفة الوقت بها: هل الربيع ، أو الخريف، أو الشتاء؛ فهذا لا بأس به .
* * *
قوله في حديث أبي موسى : ( الجنة ) . هي الدار التي أعدها الله لأوليائه المتقين، وسميت بذلك؛ لكثرة أشجارها لأنها تجن من فيها أي تستره .
قوله : ( مدمن خمر) . هو الذي يشرب الخمر كثيرا، و الخمر حده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله : ( كل مسكر خمر )(1)ومعنى (أسكر )؛ أي: غطى العقل، وليس(117/134)
مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدق بالسحر) . رواه أحم وابن حبان في ( صحيحه)(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كل ما غطى العقل فهو خمر؛ فالبنج مثلا ليس بخمر، وإذا شرب دهنا فأغمي عليه؛ فليس ذلك بخمر، وإنما الخمر الذي يغطي العقل على وجه اللذة و الطرب؛ فتجد الشارب يحس أنه منزلة عظيمة و سعادة وما أشبه ذلك، قال الشاعر:
ونشربها فتتركنا ملوكا وأسدا ما يهنئها اللقاء
وقال حمزة بن عبد المطلب ـ وكان قد سكر قبل تحريم الخمر ـ للنبي صلى الله عليه وسلم : ( وهل أنتم إلا عبيد أبي )(2) ؛ فالذي يغطي العقل على سبيل اللذة محرم بالكتاب و السنة، بمجرد إنكاره تحريمه .
قوله : ( قاطع رحم ) . الرحم : هم القرابة، قال تعالى : ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ) ( الأنفال :75) ، وليس كما ومن استحله؛ فهو كافر، إلا إن كان ناشئا ببادية بعيدة، أو حديث عهد بالإسلام ، ولا يعلم الحكم الشرعي في ذلك؛ فإنه يعرف و لا يكفر يظنه العامة أنهم أقارب الزوجين؛ لأن هذه تسمية غير شرعية، و الشرعية في أقارب الزوجين: أن
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ومعنى قاطع الرحم : أن لا يصله، و الصلة جاءت مطلقة في الكتاب و السنة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ )(الرعد:من الآية21)، ومنه الأرحام وما جاء مطلقا غير مقيد؛ فإنه يتبع فيه العرف كما قيل :
وكل ما أتى ولم يحدد بالشرع كالحرز فبالعرف احدد
فالصلة في زمن الجوع و الفقر : أن يعطيهم و يلاحظهم بالكسرة و الطعام دائما، وفي زمن الغنى لا يلزم ذلك .
وكذلك الأقارب ينقسمون إلى قريب و بعيد؛ فأقربهم يجب له من الصلة أكثر مما يجب للأبعد.(117/135)
ثم الأقارب ينقسمون إلى قسمين من جهة أخرى : قسم من الأقارب يرى أن لنفسه حقا لابد من القيام به، ويريد أن تصله دائما ، وقسم آخر يقدر الظروف و ينزل الأشياء منازلها؛ فهذا له حكم، وذلك له حكم .
والقطيعة يرجع فيها العرف؛ إلا أنه يستثنى من ذلك مسألة، وهي: ما لو كان العرف عدم الصلة مطلقا، بأن كنا في أمة تشتتت وتقطعت عرى صلتها كما يعرف الآن في البلاد الغربية؛ فإنه لا يعمل حينئذ بالعرف، ونقول: لابد من صلة، فإذا كان هناك صلة في العرف اتبعناها، وإذا لم يكن هناك صلة؛ فلا يمكن أن نعطل هذه الشريعة التي أمر الله بها ورسوله .
والصلة ليس معناها أن تصل من وصلك؛ لأن هذا مكافأة، وليست صلة؛ لأن الإنسان يصل أبعد الناس عنه إذا وصله، إنما الواصل؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من إذا قطعت رحمه وصلها )(1) ، هذا هو الذي يريد وجه الله
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
والدار الآخرة .
وهل صلة الرحم حق لله أو للآدمي؟
الظاهر أنها حق للآدمي، وهي حق لله باعتبار أن الله أمر بها .
قوله : ( ومصدق بالسحر ). هذا هو شاهد الباب، ووجهه أن علم التنجيم نوع من السحر، فمن صدق به؛ فقد صدق بنوع من السحر، فقد سبق : ( أن من اقتبس شعبه من النجوم ؛ فقد اقتبس شعبة من السحر )(1) ، والمصدق به هو المصدق بما يخبر به المنجمون ، فإذا قال المنجم : سيحدث كذا وكذا، وصدق به؛ فإنه لا يدخل الجنة؛ لأنه صدق بعلم الغيب لغير الله، قال تعالى : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ )(النمل: من الآية65).
فإن قيل : لماذا لا يجعل السحر هنا عاما ليشمل التنجيم و غير التنجيم؟(117/136)
أجيب : إن المصدق بما يخبره به السحرة من علم الغيب يشمله الوعيد هنا، وأما المصدق بأن للسحر تأثيرا؛ فلا يلحقه هذا الوعيد؛ إذ لاشك أن للسحر تأثيرا، لكن تأثيره تخييل ، مثل ما وقع من سحرة فرعون حيث سحروا أعين الناس حتى رأوا الحبال و العصي كأنها حيات تسعى، وإن كان لا حقيقة لذلك، وقد يسحر الساحر شخصا فيجعله يحب فلانا ويبغض فلانا؛ فهو مؤثر،قال تعالى: ( فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ)(البقرة: من الآية102)؛ فالتصديق بأثر السحر على هذا الوجه لا يدخله الوعيد لأنه تصديق بأمر واقع .
أما من صدق بأن السحر يؤثر في قلب الأعيان بحيث يجعل الخشب ذهبا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أو نحو ذلك ؛ فلا شك في دخوله في الوعيد ؛ لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله ـ عز وجل ـ .
قوله : ( ثلاثة لا يدخلون الجنة ) . هل المراد الحصر وأن غيرهم يدخل الجنة ؟
الجواب : لا ؛ لأن هناك من لا يدخلون الجنة سوى هؤلاء؛ فهذا الحديث لا يدل على الحصر .
وهل هؤلاء كفار لأن من لا يدخل الجنة كافر؟
اختلف أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من أحاديث الوعيد على أقوال:
القول الأول : مذهب المعتزلة و الخوارج الذين يأخذون بنصوص الوعيد، فيرون الخروج من الإيمان بهذه المعصية، لكن الخوارج يقولون: هو كافر، و المعتزلة يقولون : هو في منزلة بين المنزلتين، وتتفق الطائفتان على أنهم مخلدون في النار، فيجرون هذا الحديث و نحوه على ظاهره ، ولا ينظرون إلى الأحاديث الأخرى الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل؛ فإنه لابد أن يدخل الجنة .(117/137)
القول الثاني : أن هذا الوعيد فيمن استحل هذا الفعل بدليل النصوص الكثيرة الدالة على أن من في قلبه إيمان وإن قل؛ فلابد أن يدخل الجنة، وهذا القول ليس بصواب؛ لأن من استحله كافر ولو لم يفعله، فمن استحل قطيعة الرحم أو شرب الخمر مثلا؛ فهو كافر وإن لم يقطع الرحم ولم يشرب الخمر.
القول الثالث : أن هذا من باب أحاديث الوعيد التي تمر كما جاءت ولا يتعرض لمعناها،بل يقال: هكذا قال الله وقال رسوله و نسكت؛ فمثلا : قوله تعالى : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً) (النساء:93)، هذه الآية من نصوص الوعيد؛ فنؤمن بها، ولا نتعرض لمعناها ومعارضتها للنصوص الأخرى، ونقول : هكذا قال الله، والله أعلم بما أراد، وهذا مذهب كثير من السلف ؛ كمالك وغيره، وهذا أبلغ في الزجر .
القول الرابع : أن هذا نفي مطلق، والنفي المطلق يحمل على المقيد؛ فيقال: لا يدخلون الجنة دخولا مطلقا يعني لا يسبقه عذاب، ولكنهم يدخلون الجنة دخولا يسبقه عذاب بقدر ذنوبهم، ثم مرجعهم إلى الجنة، وذلك لأن نصوص الشرع يصدق بعضها بعضا، ويلائم بعضها بعضا، وهذا أقرب إلى القواعد وأبين حتى لا تبقى دلالة النصوص غير معلومة؛ فتقيد النصوص بعضها ببعض .
وهناك احتمال : أن من كانت هذه حاله حري أن يختم له بسوء الخاتمة، فيموت كافرا ، فيكون هذا الوعيد باعتبار ما يؤول حاله إليه، وحينئذ لا يبقى في المسألة إشكال؛ لأن من مات على الكفر ؛ فلن يدخل الجنة، وهو مخلد في النار ، وربما يؤيده قوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزال المرء في فسحه من دينه ما لم يصب دما حراما )(1) ؛ فيكون هذا قولا خامسا .
* * *
*فيه مسائل :(117/138)
الأولى : الحكمة في خلق النجوم . الثانية : الرد على من زعم غير ذلك . الثالثة : ذكر الخلاف في تعلم المنازل . الرابعة : الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
الأولى : الحكمة في خلق النجوم . وهي ثلاث:
- - أنها زينة للسماء .
- - ورجوم للشياطين .
- - وعلامات يهتدى بها .
وربما يكون هناك حكم اخرى لا نعلمها .
الثانية : الرد على من زعم غير ذلك . لقول قتادة : ( من تأول فيها غير ذلك؛ أخطأ ، وأضاع نصيبه، وتكلف ما لا علم له به ) .
ومراد قتادة في قوله : ( غير ذلك ) ما زعمه المنجمون من الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية ، وأما ما يمكن أن يكون فيها من أمور حسية سوى الثلاث السابقة؛ فلا ضلال لمن تأوله .
الثالثة : ذكر الخلاف في تعلم المنازل . سبق ذلك(1) .
الرابعة : الوعيد فيمن صدق بشيء من السحر ولو عرف أنه باطل .
من صدق بشيء من التنجيم أو غيره من السحر بلسانه ولو اعتقد بطلانه بقلبه ؛ فإن عليه هذا الوعيد، كيف يصدق وهو يعرف أنه باطل؛ لأنه يؤدي إلى إغراء الناس به و بتعلمه و بممارسته ؟ !
---
(1) مسلم : كتاب الجنائز/ باب الأمر بتسوية القبر.
(1) تقدم (ص 105) .
(2) تقدم (ص 37).
(1) البخاري : كتاب التفسير/ باب (أفرأيتم اللات والعزى)
(2) مسلم : كتاب الجنائز/باب الأمر بتسوية القبر.
(1) مسند الإمام أحمد (1/229)، وسنن أبو داود: كتاب الجنائز/باب في زيارة النساء القبور، 4/95، والترمزي: الصلاة/باب كراهة أن يتخذ على القبر مسجداً، 320 – وقال : (حديث حسن) ـ .
(1) مسند الإمام أحمد (2/337) ، والترمزي: الجنائز/باب ما جاء في كراهة زيارة القبور للنساء، 4/12 ـ وقال: (حسن صحيح) ـ .(117/139)
(1) البخاري : كتاب الجنائز / باب اتباع النساء للجنائز ، ومسلم : كتاب الجنائز / باب نهي النساء عن اتباع الجنائز.
(2) البخاري : كتاب الجنائز / باب زيارة القبور ، ومسلم : كتاب الجنائز / باب في الصبر على المعصية عند الصدمة الأولى .
(3) مسلم : كتاب الجنائز / باب ما يقال عند دخول ا لقبر …. .
(1) مسند الإمام أحمد (1/145)، ومسلم بلفظ : ( نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي .)، كتاب الجنائز / باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم في زيارة قبر أمه.
(2) الترمذي : كتاب الجنائز / باب زيارة النساء للقبور ، وذكره الهيثمي في ( المجمع ) ، وقال: رواه الطبراني في ( الكبير ) ورجاله رجال الصحيح ، والبغوي في ( شرح السنة).
(1) تقدم (ص424).
(1) تقدم ( ص324).
(1) (1) تقدم ( ص220).
(1) البخاري : كتاب الأدب / باب جعل الله الرحمة في مئة جزء، ومسلم : كتاب التوبة/ باب في سعة رحمة الله.
(1) سبق (ص 292) .
(2) سبق (ص 392) .
(3) سبق (ص428)
(1) البخاري : كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة / باب ما يكره من كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ، ومسلم : كتاب صلاة المسافر / باب استحباب صلاة النافلة في بيته.
(1) مسلم كتاب الصلاة / باب استحباب القول مثل قول المؤذن لمن سمعه .
(1) النسائي : كتاب السهو / باب السلام على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال ابن القيم في( جلاء الأفهام) ( ص23): ( وهذا إسناد صحيح ) .
(1) مسند الإمام أحمد (2/367)، وسنن أبي داود : كتاب المناسك / باب زيارة القبور، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) : إسناده حسن ،و قال النووي ( إسناده صحيح ) .
(1) (1)البخاري في ( التاريخ الكبير ) ، أبو يعلى ؛ كما في ( مجمع الزوائد ) .
وقال الهيثمي : ( وفيه جعفر بن إبراهيم الجعفري ، ذكره أبو حاتم ولم يذكر فيه جرحا، وبقية رجاله ثقات).(117/140)
وفيه أيضا علي بن عمر بن الحسين ، مستور ؛ كما في ( التقريب) .
ورواه أيضا : الضياء في ( المختارة )؛ كما في ( اقتضاء الصراط المستقيم ) ( ص322).
(1) سبق (ص201).
(1) سبق (ص 192).
(1) مسلم: كتاب القدر/باب بيان أن الأرزاق والآجال لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر.
(1) مسلم: كتاب الجنائز/باب الأمر بتسوية القبر.
(1) البخاري: كتاب الأنبياء/باب ما ذكر عن بني إسرائيل، ومسلم: كتاب العلم/باب اتباع سنن اليهود والنصاري، وأما لفظ (حذو القذة بالقذة) فقد أخرجه الإمام أحمد في المسند.
(1) الترمذي : كتاب الفتن / باب ما جاء في علامة حلول المسخ والخسف، قال الألباني: ( ضعيف) السلسلة الضعيفة .
(1) سبق( ص75).
(1) كتاب الفتن / باب لا يأتي على الناس زمان إلا والذي بعده شر منه .
(1) (1) كتاب الفتن / باب هلاك هذه الأمة بعضهم ببعض .
(2) (2) قوله : حذو القذة بالقذة ) لم تخرج في ( الصحيحين )، وإنما هي من حديث شداد بن أوس، أخرجه الإمام أحمد في المسند .
(1) البخاري : كتاب الاعتكاف / باب زيارة المرأة زوجها في اعتكافه ، ومسلم : كتاب السلام / باب يستحب لمن رؤي خاليا بامرأة…..
(1) تقدم (ص294).
(1) مسند الإمام أحمد (5/278) وأبو داود (4252)، وابن ماجة(4100).
(1) تقدم (ص259).
(1) مسلم : كتاب الفتن وأشراط الساعة / باب هلاك هذه الأمة بعضهم بعضا .
(2) (2) علقه البخاري في ( الصحيح ) ـ كتاب التفسير ، قال الحافظ في الفتح 8/252: (إسناده قوي).
(2) سبق (ص16).
(1) علقه البخاري في ( الصحيح) ـ كتاب التفسير ، وقال ابن حجر في ( الفتح) (8/252) : ( وصله ابن أبي حاتم من طريق وهب بن منبه) .
(1) أخرجه البخاري: كتاب الجماعة والإمامة/ باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، ومسلم: كتاب الزكاة/ باب فضل إخفاء الصدقة.(117/141)
(1) أخرجه مسلم في ( الإيمان ، باب غلظ تحريم إسبال الإزار).
(2) أخرجه البخاري وغيره .
(3) أخرجه الترمذي (3507)، وابن حبان (2384)، و الحاكم (1/22).
(4) قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ( الفتاوى) (6/382) : ( تعيينها ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم باتفاق أهل المعرفة بحديثه ) .
(1) أخرجه مسلم : كتاب الجمعة / باب في الساعة التي في يوم الجمعة.
(1) أخرجه البخاري ( كتاب الحدود ، باب رمي المحصنات ) ، ومسلم ( كتاب الإيمان ، باب بيان الكبائر).
(1) أخرجه البخاري (كتاب الديات، باب قوله تعالى: (ومن يقتل مؤمناً . . )) ، ومسلم في (الإيمان، باب كون أقبح الذنوب).
(1) أخرجه مسلم (كتاب المساقاة، باب الصرف)
(1) أخرجه مسلم ( كتاب المساقاة، باب الصرف)
(2) أخرجه البخاري (كتاب السلم، باب السلم في وزن معلوم)، ومسلم (كتاب المساقاة، باب السلم)
(1) أخرجه البخاري ( كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية)
(1) أخرجه الترمذي في ( الحدود ، باب ما جاء في الساحر) ، و الطبراني في ( الكبير) ( رقم 1665)، والدار قطني (3/114) ، والحاكم(4/360) . قال الترمذي: ( لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه، وإسماعيل بن مسلم الملكي يضعف في الحديث و الصحيح عن جندب موقوفا) . وقال الحافظ في ( الفتح) ( 10/236) : (إسناده ضعيف)، وضعفه الألباني ( السلسلة الضعيفة ( 3/641) .
(1) أخرجه الإمام أحمد في ( المسند ) (1/190)، وأبو داود في ( السنن) (3043) .
(2) البخاري : كتاب الجزية / باب الجزية و الموادعة.
(3) تقدم ( ص 490) .
(1) الإمام مالك في ( الموطأ ) ( كتاب العقول، باب ما جاء في الغيلة و السحر) .
(2) البخاري في ( التاريخ الكبير ) ( 2/222) ، و البيهقي (8/136)، والطبراني في ( الكبير) (1725).
(1) تقدم (ص 507) .
(1) انظر (ص 489)
(1) الإمام أحمد في (المسند) 5/60 0(117/142)
(2) أبو داود في (السنن) 3907، والنسائي في (الكبرى) كما في (تحفة الأشراف) 8/275، وبن حبان في (الصحيح) 7/656، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إسناده حسن (الفتاوى 35/192)، وكذلك النووي في (رياض الصالحين) 612
(3) مسلم: كتاب المساجد/ باب تحريم الكلام في الصلاة.
(1) يأتي (78) .
(2) مسلم: كتاب النكاح/باب التزوج في شوال.
(1) البخاري (كتاب الطب، باب لا عدوى) ، ومسلم (كتاب السلام، باب الطيرة والفأل).
(2) انظر: (تيسير العزيز الحميد) (ص 398).
(1) يأتي (ص 571),
(1) الإمام أحمد في (المسند) (1/227، 311) ، وأبو داود في (الطب، باب في النجوم، 4/226)، وابن ماجة في (الأدب، باب تعليم التجوم)، وصححه النووي في (رياض الصالحين) (ص 630) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الفتاوى) (35/193): (إسناده صحيح).
(1) البخاري: كتاب الأذان/باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم، ومسلم: كتاب الإيمان/باب بيان كفر من قال مطرنا بالنوء.
(2) سبق (ص 518).
(3) البخاري: كتاب الكسوف/باب الصلاة في كسوف الشمس، ومسلم: كتاب الكسوف/باب ذكر النداء بصلاة الكسوف.
(1) أخرجه النسائي في (كتاب تحريم الدم، باب الحكم في السحرة).
(2) تقدم (ص 490).
(1) مسلم : كتاب البر و الصلة/ باب تحريم النميمة .
(1) الإمام أحمد (6/459).
(2) البخاري : كتاب الأدب /باب ما يكره من النميمة، ومسلم : كتاب الإيمان / باب غلط تحريم النميمة، ولفظه : ( لا يدخل الجنة نمام) .
(1) البخاري : كتاب الجنائز / باب عذاب القبر من الغيبة، ومسلم : كتاب الطهارة/ باب الدليل على نجاسة البول .
(2) البخاري : كتاب البيوع / باب لا يبيع الرجل على بيع أخيه، ومسلم : كتاب البيوع/ باب تحريم بيع الرجل على بيع أخيه .
(1) البخاري : كتاب الطب / باب إن من البيان لسحرا، ومسلم كتاب الجمعة / باب تخفيف الصلاة والخطبة(117/143)
(2) البخاري : كتاب النكاح / باب لا يخطب على خطبة أخيه، ومسلم : كتاب النكاح / باب تحريم الخطبة على خطبة أخيه .
(1) مسلم : كتاب السلام / باب تحريم الكهانة و إتيان الكهان ، دون قوله : ( فصدقه بما يقول ) . وهي عند الإمام أحمد في ( المسند ) (4/68 ، 5/380) .
(1) تقدم ( ص531) .
(2) البخاري : كتاب الجهاد / باب كيف يعرض الإسلام على الصبي ، ومسلم: كتاب الفتن / باب ابن صياد.
(1) (أحكام المرجان في أحكام الجان) (ص 38).
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/35)، والترمذي: كتاب الأشربة/ باب ما جاء في شارب الخمر، وقال (حديث حسن)، والبغوي في (شرح السنة) (11/357)، والحاكم (4/162)، وصححه ووافقه الذهبي، وقال أحمد شاكر: (إسناده حسن) المسند (4917).
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/8-4، 476) ، وأبو داوود : كتاب الطب/باب في الكاهن، والترمذي: كتاب الطهارة/ باب في كراهية إتيان الحائض، وابن ماجة: كتاب الطهارة/باب النهي عن إتيان الحائض.
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/429)، والبيهقي في (السنن) (7/195) ، والهيثمي في (المجمع) (5/11). قال في تفسير العزيز) ص 409 : فعزو المصنف إلى الأربعة ليس كذلك فإنه لم يروه أحد منهم ... ولعله أراد الذي قبله) ، والحاكم في (المستدرك) (1/12) وصححه ووافقه الذهبي.
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/428)، وأبو يعلى في (المسند) (5408)، والهيثمي في (المجمع) (5/118- 119).
(2) تقدم (ص 515).
(1) البزار في (المسند) (3044)، والهيثمي في (المجمع) (5/118) . قال المنذري في (الترغيب) : (إسناده جيد)، وقال الهيثمي: (ورجاله ، رجال الصحيح).
(1) الطبراني في (الأوسط) كما في (مجمع الزوائد) (5/117)، وقال: وفيه زمعة بن صالح، وهو ضعيف. وال المنذري في (الترغيب) (4/33): (إسناده حسن).
(2) تقدم (ص 530).
(1) شرح السنة (12/182) .
(2) تقدم (ص 540).
(1) مجموع الفتاوى (35/137).
(1) تقدم ( ص 534) .(117/144)
(2) البخاري: كتاب الخلق/باب صفة إبليس وجنوده.
(1) عبد الرزاق في (المصنف) (11/26)، والبيهقي في (السنن الكبرى) (8/139).
(1) تقدم (ص 519).
(2) (ص 519).
(1) الإمام أحمد في (المسند) (3/294)، وأبو داود: كتاب الطب/باب في النشرة، والحاكم في (المستدرك) (4/420)، وصححه ووافقه الذهبي . قال الحافظ في (الفتح) (10/233): (إسناده حسن).
(1) البخاري في (الصحيح) تعليقاً: كتاب الطب/باب هل يستخرج السحر.
(1) تقدم (ص 553) .
(1) فتح الباري ( 10/233) .
(1) البخاري: كتاب الطب/باب لا هامة، ومسلم: كتاب السلام/باب لا عدوى ولا طيرة.
(2) في الموضع السابق (4/1744).
(1) البخاري: كتاب البيوع/ باب في العطار وبيع المسك، ومسلم: كتاب البر والصلة/باب استحباب مجالسة الصالحين.
(2) تقدم ( ص 559)ز
(1) مسلم: كتاب السلام/باب لا عدوى ولا طيرة.
(2) البخاري في (الصحيح) تعليقاً في (كتاب الطب، باب الجذام).
(3) البخاري: كتاب الطب/باب لا صفر، ومسلم: كتاب السلام/باب لا عدوى ولا طيرة.
(1) أبو داود: كتاب الطب/باب في الطيرة، والترمذي: كتاب الأطعمة/باب في الأكل مع المجذوم، وابن ماجة: كتاب الطب/ باب الجذام، والحاكم (4/139)، وصححه ووافقه الذهبي.
(1) تقدم (ص 516) .
(1) أبو داود (كتاب الطب، باب في الطيرة) ، والبيهقي في (السنن) (8/139).
قال النووي في (رياض الصالحين) (ص 620) : (رواه أبو داود بإسناد صحيح).
(2) (ص 570) .
(1) الإمام أحمد في ( المسن ) ( 1/389) ، وأبو داود : كتاب الطب / باب الطيرة )، و الترمذي: كتاب السير / باب ما جاء في الطيرة ـ وقال : ( حسن صحيح ) ـ ، و الحاكم (1/23) ـ وصححه ووافقه الذهبي.
(2) : كتاب الإيمان / باب إطلاق اسم الكفر على الطعن في النسب .
(3) أخرجه مسلم ( كتاب الإيمان ، باب إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة ) .(117/145)
(1) البخاري : كتاب الوضوء / باب غسل الأعقاب ، ومسلم: كتاب الطهارة / باب وجوب غسل الرجلين .
(2) البخاري : كتاب بدء الوحي / باب كيف بدء الوحي، ومسلم: كتاب الإيمان/ باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم .
(3) البخاري: كتاب الوضوء / باب فضل الوضوء ، ومسلم : كتاب الطهارة/ باب استحباب إطالة الغرة .
(1) الإمام أحمد في ( المسند ) (2/220)
(1) الإمام أحمد في ( المسند) ، وقال الشيخ حفظه الله : ( في سنده مقال ) ( ص580) .
(2) تقدم ( ص89) .
(1) تقدم (ص516) .
(2) البخاري : كتاب الوضوء / باب التيمن في الوضوء و الغسل، ومسلم : كتاب الطهارة/ باب التيمن في الطهور .
(3) تقدم ( ص 574) .
( 1، 2 ) البخاري : كتاب الكسوف / باب الصدقة في الكسوف ، مسلم : كتاب الكسوف / باب ذكر النداء بصلاة الكسوف .
(1) انظر (ص 105) .
(1) البخاري : كتاب بدء الخلق، باب في النجوم، معلقاً.
(1) مسلم ( كتاب الأشربة ، بيان أن كل مسكر خمر.
(1) الإمام أحمد في ( المسند) ( 4/339) ، وابن حبان ( 7/365) .
قال الهيثمي في ( المجمع) (5/74) : ( رجال أحمد و أبي يعلى ثقات ) .
(2) البخاري : كتاب المساقاة/ باب بيع الحطب، ومسلم : كتاب الأشربة / باب تحريم الخمر .
(1) البخاري : كتاب الآداب / باب ليس الواصل بالمكافئ
(1) تقدم (ص518)
(1) البخاري : كتاب الديانات / باب قوله تعالى : ( ومن يقتل مؤمنا متعمدا … ) .
(1) انظر (ص105) .(117/146)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد التاسع
القول المفيد شرح كتاب التوحيد - الثاني / أ
محمد بن صالح العثيمين
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
ـــــــــــــــــــــــ
الاستسقاء : طلب السقيا كالاستغفار : طلب المغفرة ، والاستعانة : طلب المعونة ، والاستعاذة : طلب العوز ، والاستهداء : طلب الهداية ، لأن مادة استفعل في الغالب تدل على الطلب، وقد لا تدل على الطلب ، بل تدل على المبالغة في الفعل ، مثل : استكبر ، أي بلغ في الكبر غايته، وليس المعنى طلب الكبر، والاستسقاء بالأنواء ، أي : أن تطلب منها أن تسقيك .
والاستسقاء بالأنواء ينقسم إلى قسمين :
القسم الأول : شرك أكبر ، وله صورتان :
الأولى : أن يدعو الأنواء بالسقيا ، كأن يقول : يا نوء كذا ! اسقنا أو أغثنا ، وما أشبه ذلك ، فهذا شرك أكبر ، لأنه دعي غير الله ، ودعاء غير الله من الشرك الأكبر ، قال تعالى (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ)(المؤمنون:117) وقال تعالى (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجن:18) وقال تعالى ( وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ)(يونس:106) .إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على النهي عن دعاء غير الله وأنه من الشرك الأكبر .
الثانية : أن ينسب حصول الأمطار إلى هذه الأنواء على أنها هي الفاعلة بنفسها دون الله ولو لم يدعها ، فهذا شرك أكبر في الربوبية ، والأول في العبادة ، لأن الدعاء من العبادة ، وهو متضمن للشرك في الربوبية ، لأنه لم يدعها إلا وهو يعتقد أنها تفعل وتقضي الحاجة .(118/1)
القسم الثاني : شرك أصغر ، وهو أن يجعل هذه الأنواء سببا مع اعتقاده أن الله هو الخالق الفاعل ، لأن كل من جعل سببا لأن كل من جعل سببا لم يجعله الله سببا لا بوحيه ولا بقدره ، فهو مشرك شركا أصغر .
وقول الله تعالى (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(الواقعة:82)
ـــــــــــــــــــ
***
قوله تعالى:( وتجعلون) . أي : تصيرون ، وهي تنصب مفعولين : الأول (رزق ) ، والثاني : (أن) ، وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول ثان ، والتقدير : وتجعلون رزقكم كونكم تكذبون أو تكذيبكم .
والمعنى : تكذبون أنه من عند الله ، حيث تضيفون حصوله إلى غيره .
قوله:(رزقكم).الرزق هو العطاء، والمراد به هنا: ما هو أعم من المطر ، فيشمل معنيين :
الأول : أن المراد به رزق العلم ، لأن الله قال : ( فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إنه لقرآن كريم * في كتاب مكنون* لا يمسه آلا المطهرون* تنزيل من رب العالمين * أفبهذا الحديث أنتم مدهنون *وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ)(الواقعة: 75 -83) أي تخافونهم فتداهنوهم ، وتجعلون شكر ما رزقكم الله به من العلم والوحي أنكم تكذبون به وهذا هو ظاهر سياق الآية.
الثاني : أن المراد بالرزق المطر ، وقد روى في ذلك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لكنه ضعيف (1)إلا أنه صح عن ابن عباس رضى الله عنهما في تفسير الآية : أن المراد بالرزق المطر ، وأن التكذيب به ونسبته إلى الأنواء( 2 ) ، وعليه يكون ما ساق المؤلف الآية من أجله مناسبا للباب تماما .
والقاعدة في التفسير أن الآية إذا كانت تحتمل المعنيين جميعا بدون منافاة تحمل عليهما جميعا، وإن حصل بينهما منافاة طلب المرجح .(118/2)
ومعنى الآية : أن الله يوبخ هؤلاء الذين يجعلون شكر الرزق التكذيب والاستكبار والبعد ، لأن شكر الرزق يكون بالتصديق والقبول والعمل بطاعة المنعم ، والفطرة كذلك لا تقبل أن تكفر بمن ينعم عليها، فالفطرة والعقل والشرع كل منها يوجب أن تشكر من ينعم عليك ، سواء قلنا: المراد بالرزق المطر الذي به حياة الأرض ، أو قلنا أن المراد به القرآن الذي به حياة القلوب، فإن هذا من أعظم الرزق ، فكيف يليق بالإنسان أن يقابل هذه النعمة بالتكذيب ؟!
واعلم أن التكذيب نوعان :
أحدهما : التكذيب بلسان المقال ، بأن يقول : هذا كذب ، أو المطر من النوء ، ونحو ذلك .
والثاني : التكذيب بلسان الحال ، بأن يعظم الأنواء والنجوم معتقدا أنها السبب ، ولهذا وعظ عمر بن عبد العزيز الناس يوما ، فقال : ( يا أيها الناس ! إن كنت مصدقين ، فأنتم حمقى ، وإن كنتم مكذبين ، فأنتم هلكى ) وهذا صحيح ، فالذي يصدق ولا يعمل أحمق ، والمكذب هالك ، فكل إنسان عاص نقول له الآن أنت بين أمرين : إما أنك بين مصدق بما رتب هذه المعصية ، أو مكذب ، فإن كنت مصدقا ، فأنت أحمق ، كيف لا تخاف فتستقيم ؟! وإن كنت غير مصدق ، فالبلاء أكبر ، فأنت هالك كافر .
وعن أبي مالك الأشعري رضى الله عنه ، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : ( أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة ) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله في حديث أبي مالك : ( أربع في أمتي ) . الفائدة من قوله : ( أربع ) ليس الحصر ، لأن هناك أشياء تشاركها في المعنى ، وإنما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك من حصر العلوم وجمعها بالتقسيم والعدد ، لأنه يقرب الفهم ، ويثبت الحفظ .(118/3)
قوله:(من أمر الجاهلية ) . أمر هنا بمعنى شأن ، أي : من شأن الجاهلية وهو واحد الأمور ، وليس واحد الأوامر ، لأن واحد الأوامر طلب الفعل على وجه الاستعلاء .
وقوله:( من أمر الجاهلية ) إضافتها إلى الجاهلية الغرض منها التقبيح والتنفير ، لأن كل إنسان يقال:فعلك فعل الجاهلية لا شك أنه يغضب ، إذ إنه لا أحد يرضى أن يوصف بالجهل ، ولا بأن فعله من أفعال الجاهلية ، فالغرض من الإضافة هنا أمران :
1. التنفير
2. بيان أن هذه الأمور كلها جهل وحمق بالإنسان ، إذ ليست أهلا
بأن يراعيها الإنسان أو يعتني بها ، فالذي يعتني بها فهو جاهل ,
والمراد بالجاهلية هنا : ما قبل البعثة ، لأنهم كانوا على جهل وضلال عظيم حتى إن العرب كانوا أجهل خلق الله ، ولهذا يسمون بالأميين ، والأمي هو الذي لا يقرأ ولا يكتب ، نسبة إلى الأم ، كأن أمه ولدته الآن . لكن لما بعث فيهم هذا النبي الكريم ، قال تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(آل عمران:164) . فهذه منة عظيمة أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأمور السامية :
1 – يتلو عليهم آيات الله .
2 – ويزكيهم ، فيطهر أخلاقهم وعبادتهم وينميها .
3 – ويعلمهم كتاب الله .
4 – والحكمة .(118/4)
هذه فوائد أربع عظيمة لو وزنت الدنيا بواحدة منها لوزنتها عند من يعرف قدرها ، ثم يبين الحال من قبل ( وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)(آل عمران:164) . فهذه منة عظيمة أن بعث فيهم النبي عليه الصلاة والسلام لهذه( وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِين)،و(إن)هذه ليست نافية، بل مؤكدة، فهي مخففة من الثقيلة ، يعني : وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين .
إذا المراد بالجاهلية ما قبل البعثة ، لأن الناس كانوا على جهل عظيم . فجهلهم شامل للجهل في حقوق الله وحقوق عباده ، فمن جهلهم أنهم ينصبون النصب ويعبدونها من دون الله ، ويقتل أحدهم ابنته لكي لا يعير بها ، ويقتل أولاده من ذكور وإناث خشية الفقر .
قوله:(لا يتركونهن ) . المراد لا يتركون كل واحد منها باعتبار المجموع
بالمجموع ، بأن يكون كل واحد منها عند جماعة ، والثاني عند آخرين ، والثالث عند آخرين ، والرابع عند آخرين ، وقد تجتمع هذه الأقسام في قبيلة ، وقد تخلو بعض القبائل منها جميعا ، إنما الأمة كمجموع لا بد أن يوجد فيها شي من ذلك ، لأن خبر من الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ، والمراد بهذا الخبر التنفير ، لأنه صلى الله عليه وسلم قد يخبر بأشياء تقع وليس غرضه أن يؤخذ بها ، كما قال صلى الله عليه وسلم : ( لتركبن سنن من كان قبلكم اليهود والنصارى ) ( 1 ) أي : فاحذروا ، فأخبر صلى الله عليه وسلم ( أن الظعينة تخرج من صنعاء إلى حضر موت لا تخشى الله ) ( 2 ) ، أي بلا محرم ، وهذا خبر واقع وليس إقرارا له شرعا .
قوله : ( أمتي ) . أي : أمة الإجابة .
قوله ( الفخر بالأحساب ) . الفخر : التعالي ، والتعاظم ، والباء للسببية ، أي : يفخر بسبب الحسب الذي هو عليه .(118/5)
والحسب : ما يحتسبه الإنسان من شرف وسؤدد ، كأنه يكون من بني هاشم فيفتخر بذلك أو من آباء وأجداد مشهورين بالشجاعة ، فيفتخر بذلك ، وهذا من أمر الجاهلية ، لأن الفخر في الحقيقة يكون بتقوى الله الذي يمنع الإنسان من التعالي والتعاظم ، والمتقي حقيقة هو الذي كلما ازدادت نعم الله عليه ازداد تواضعا للحق والخلق .
وإذا كان الفخر بالحسب من فعل الجاهلية ، فلا يجوز لنا أن نفعله ، ولهذا قال تعالى لنساء نبيه صلى الله عليه وسلم ( وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى َ )(الأحزاب: الآية33) وأعلم أن كل ما ينسب للجاهلية ، فهو مذموم ومنهي عنه .
قوله : ( الطعن في الأنساب ) الطعن : العيب ، لأنه وحز معنوي كوخز([1][1]) الطاعون في الجسد ، ولهذا سمي العيب طعنا .
والأنساب : جمع نسب ، وهو أصل الإنسان وقرابته ، فيطعن في نسبه كأن يقول : أنت ابن الدباغ،أو أنت ابن مقطعة البظورـ وهي شي في فرج المرأة يقطع عند ختان النساء.
قوله : ( والاستسقاء بالنجوم ) . أي : نسبة المطر إلى النجوم ، مع اعتقاد أن الفاعل هو الله – عز وجل - ، أما أن اعتقد أن النجوم هي التي تخلق المطر والسحاب أو دعاها من دون الله لتنزل المطر فهذا شرك أكبر مخرج من الملة .
قوله ( النياحة على الميت ) هذا هو الرابع ، والنياحة : هي رفع الصوت بالبكاء على الميت قصدا ، وينبغي أن يضاف إليه على سبيل النوح ، كنوح الحمام .
والندب : تعداد محاسن الميت .
والنياحة من أمر الجاهلية ، ولابد أن تكون في هذه الأمة ، وإنما كانت من أمر الجاهلية :
إما من الجهل الذي هو ضد العلم .
أو من الجهالة التي هي السفه ، وهي ضد الحكمة .
وإنما كانت كذلك لأمور ، هي :
1 – أنها لا تزيد النائح إلا شدة وحزنا وعذابا .
2 – أنها تسخط من قضاء الله وقدره واعتراض عليه .(118/6)
3 – أنها تهيج أحزان غيره .
وقد ذكر عن ابن عقيل رحمه الله ـ وهو من علمائنا الحنابلة ـ أنه خرج في جنازة ابنه عقيل وكان أكبر أولاده وطالب علم ، فلما كانوا في المقبرة صرخ رجل وقال : ( يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ) ( يوسف :78) ، فقال له ابن عقيل رحمه الله : إن القرآن إنما نزل لتسكين الأحزان ، وليس لتهيج الأحزان .
4 - أنه مع هذه المفاسد لا يرد القضاء ، ولا يرفع ما نزل .
والنياحة تشمل ما إذا كانت من رجل أو امرأة ، لكن الغالب وقوعها من النساء ، ولهذا قال : ( النائحة إذا لم تتب قبل موتها ) ، أي : إن تابت قبل الموت ، تاب الله عليها ، وظاهر الحديث أن هذا الذنب لا تكفره إلا التوبة ، وأن الحسنات لا تمحوه ، لأن من كبائر الذنوب ، والكبائر لا تمحى بالحسنات ، فلا يمحوها إلا التوبة .
وقال : ( النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ) رواه مسلم(1).
ــــــــــــــــــــــــــ
****
قولة : ( تقوم يوم القيامة ) . أي تقام من قبرها .
قوله : ( وعليها سربال من قطران ) السربال : الثوب السابغ كالدرع ، والقطران معروف ، ويسمى ( الزفت ) ، وقيل : إنه النحاس المذاب .
قوله : ( ودرع من جرب ) الجرب : مرض معروف يكون في الجلد ، يؤرق الإنسان ، وربما يقتل الحيوان ، والمعنى أن جلدها يكون جربا بمنزلة الدرع ، وإذا اجتمع القطران وجرب زاد البلاء ، لأن الجرب أي شي يمسه يتأثر به ، فكيف ومعه قطران ؟
والحكمة أنها لم تغط المصيبة بالصبر غطيت بهذا الغطاء سربال من قطران ودرع من جرب ، فكانت العقوبة من جنس العمل .
ويستفاد من الحديث :
1 – ثبوت رسالته صلى الله عليه وسلم ، لأنه أخبر عن أمر من أمور الغيب فوقع كما أخبر.(118/7)
2 – التنفير من هذه الأشياء الأربعة : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة على الميت .
3 – أن النياحة من كبائر الذنوب لوجود الوعيد عليها في الآخرة ، وكل ذنب عليه الوعيد في الآخرة ، فهو من الكبائر .
4 – أن كبائر الذنوب لا تكفر بالعمل الصالح ، لقوله (إذا لم تتب قبل موتها )
5 – أن من شروط التوبة أن تكون قبل الموت ، لقوله ( إذا لم تتب قبل موتها ) ولقوله (وليْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ) (النساء: من الآية18) .
6 – أن الشرك الأصغر لا يخرج من الملة ، فمن أهل العلم من قال إنه داخل تحت المشيئة : إن شاء الله عذبه ، وإن شاء غفر له .
ومن أهل العلم من قال : إنه ليس بداخل تحت المشيئة ، وإنه لا بد أن يعاقب ، وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تميمة لإطلاق قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ )(النساء: من الآية48) ، فقال : والشرك لا يغفره الله ولو كان أصغر ، وبهذا نعرف عظم سيئة الشرك ، فقال ابن مسعود رضى الله عنه:(لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا(1) . لأن الحلف بغير الله من الشرك ، والحلف بالله كاذبا من كبائر الذنوب وسيئة الشرك أعظم من سيئة الذنب .
7 – ثبوت الجزاء والبعث .
8 – أن الجزاء من جنس العمل .
ولهما عن زيد بن خالد رضى الله عنه ، قال: ( صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح الحديبية على إثر سماء كانت من الليل ، فلما انصرف ، أقبل على الناس ، فقال : ( هل تدرون ماذا قال ربكم ؟ )
ـــــــــــــــــــــ
*****(118/8)
قوله في حديث زيد بن خالد(صلي لنا.أي:إماما ، لأن الإمام يصلي لنفسه ولغيره ، ولهذا يتبعه المأموم، وقيل إن اللام بمعنى الباء، وهذا قريب ، وقيل : إن اللام للتعليل ، أي صلي لأجلنا .
قوله : ( صلاة الصبح بالحديبية ) . أي صلاة الفجر ، والحديبية فيها لغتان : التخفيف ، وهو أكثر ، والتشديد ، وهي اسم بئر سمي بها المكان ، وقيل : إن أصلها شجرة حدباء تسمى حديبية ، والأكثر على أنه بئر ، وهذا المكان قريب من مكة بعضه في الحل وبعضه في الحرم، نزل به الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة السادسة من الهجرة عندما قدم معتمرا، فصده المشركون عن البيت ، وما كانوا أولياؤه إلا المتقون ، ويسمى الآن الشميسي .
قوله : ( على إثر سماء كانت من الليل ) . الإثر معناه العقب ، والأثر : ما ينتج عن السير .
قوله : ( سماء ) . المراد به المطر .
قوله : ( كانت من الليل ) . (من) لابتداء الغاية ، هذا هو الظاهر – والله أعلم – ويحتمل أن تكون بمعنى الظرفية .
قوله : ( فلما انصرف ) . أي : من صلاته وليس من مكانه بدليل قوله : ( أقبل على الناس )
قوله:(هل تدرون ماذا قال ربكم؟).الاستفهام يراد به التنبيه والتشويق لما سيلقى عليهم ، وإلا فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم لا يعلمون ماذا قال الله ، لأن الوحي لا ينزل عليهم .
ومعنى قولة ( هل تدرون ) . أي : هل تعلمون .
والمراد بالربوبية هنا الربوبية الخاصة ، لأن ربوبية الله خاصة كما أن عبودية المؤمن له خاصة،ولكن الخاصة لا تنافي العامة ،لأن العامة تشمل هذا وهذا ، والخاصة تختص بالمؤمن.
قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته ، فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مُطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب )(1)
ـــــــــسـ(118/9)
قوله : ( قالوا : الله ورسوله أعلم ) فيه إشكال نحوي ، لأن ( أعلم ) خبر عن اثنين ، وهي مفرد ، فيقال إن اسم التفضيل إذا نوى به معنى ( من ) وكان مجردا من ال والإضافة لزم فيه الإفراد والتذكير .
وفيه أيضا إشكال معنوي ، وهو أنه جمع بين الله ورسوله بالواو ، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما قال له الرجل : ( ما شاء الله وشئت . قال : أجعلتني لله ندا ! )(2) فيقال : إن هذا أمر شرعي ، وقد نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم .
وأما إنكاره على من قال ما شاء وشئت ، فلأنه أمر كوني ، والرسول صلى الله عليه وسلم ليس له شأن في الأمور الكونية .
والمراد بقولهم : ( الله ورسوله اعلم ) تفويض العلم إلى الله ورسوله ، وأنهم لا يعلمون .
قوله : ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ) . ( مؤمن ) صفة لموصوف محذوف ، أي عبد مؤمن ، وعبد كافر .
و( أصبح ) : من أخوات كان ، واسمها : ( مؤمن ) وخبرها : ( من عبادي ) ويجوز أن يكون ( أصبح ) فعل ماضي ناقصا ، وأسمها ضمير الشأن ، أي : أصبح الشأن ، ف ( من عبادي)خبر مقدم،و( مؤمن ) : مبتدأ مؤخر ، أي أصبح شأن الناس منهم مؤمن ومنهم كافر .
قوله : ( فأما من قال مُطرنا بفضل الله ورحمته ) . أي : قال بلسانه وقلبه ، والباء للسببية ، والفضل : العطاء والزيادة .
والرحمة : صفة من صفات الله . يكون بها الإنعام والإحسان إلى الخلق .
وقوله : ( فذلك مؤمن بي وكافر بالكوكب). لأنه نسب المطر إلى الله ولم ينسبه إلى الكوكب ، ولم ير له تأثيرا في نزوله ، بل نزل بفضل الله .
قوله:(وأما من قال مُطرنا بنوء كذا وكذا ) . الباء للسببية ، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ، وصار كافرا بالله ، لأنه أنكر نعمة الله ونسبها إلى سبب لم يجعله الله سببا ، فتعلقت نفسه بهذا السبب ، ونسى نعمة الله ، وهذا الكفر لا يخرج من الملة ، لأن المراد نسبة المطر إلى النوء على أنه سبب وليس النوء على أنه فاعل .(118/10)
لأنه قال ( مطرنا بنوء كذا ) ولم يقل : أنزل علينا المطر نوء كذا ، لأنه لو قال ذلك ، لكان نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد ، وبه نعرف خطأ من قال : إن المراد بقوله ( مُطرنا بنوء كذا ) نسبة المطر إلى النوء نسبة إيجاد ، لأنه لو كان هذا هو المراد ، لقال : أنزل علينا المطر نوء كذا ولم يقل مُطرنا به .
فعلم أن المراد أن من أقر بأن الذي خلق المطر وأنزله هو الله ، وذلك النوء هو السبب ، فهو كافر ، وعليه يكون من باب الكفر الأصغر الذي لا يخرج من الملة .
والمراد بالكوكب النجم ، وكانوا ينسبون المطر إليه ، ويقولون : إذا سقط النجم الفلاني جاء المطر ، وليسو ينسبونه إلى هذا نسبة وقت ، وإنما نسبة سبب ، المطر إلى النوء تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
1 – نسبة إيجاد ، وهذه شرك أكبر .
2 – نسبة سبب ، وهذا شرك أصغر .
3 – نسبة وقت ، وهذه جائزة بأن يريد بقوله: مُطرنا بنوء كذا ، أي : جاءنا المطر في هذا النوء أي وقته .
ولهذا قال علماء العلماء:يحرم أن يقول: مطرنا بنوء كذا، ويجوز مطرنا في نوء كذا ، وفرقوا بينهما أن الباء للسببية،و(في) للظرفيه،ومن ثم قال أهل العلم:إنه إذا قال مطرنا بنوء كذا وجعل الباء للظرفية فهذا جائز،وهذا وإن كان له من حيث المعنى ، لكن لا وجه له من حيث اللفظ ، لأن اللفظ الحديث :(مطرنا بنوء كذا ) ، والباء للسببية أظهر منها للظرفية ، وهي وإن جاءت للظرفية كما في قوله تعالى (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ) (الصافات:137)
لكن كونه للسببية أظهر منها ، والعكس بالعكس ، ف ( في ) للظرفية أظهر منها للسببية ، كما في قوله صلى الله عليه وسلم ( دخلت امرأة النار في هرة )(1).(118/11)
والحاصل أن الأقرب المنع ولو قصد الظرفية ، لكن إذا كان المتكلم لا يعرف من الباء إلا الظرفية مطلقا ، ولا يظن أنها تأتي سببية، فهذا جائز ، ومع ولهما من حديث ابن عباس معناه ، وفيه : ( قال بعضهم : لقد صدق نوء كذا وكذا ، فأنزل الله هذه الآيات (1): ( َلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ*وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ* فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ*لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ* تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ*وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)(الواقعة:75 -82) .
ــــــــــــــــــــــــ
ذلك فالأولى لهم: قولوا : في نوء كذا .
***
قوله:(ولهما). الظاهر أنه سبق قلم، وإلا، فلا، فالحديث في(مسلم ) وليس في ( الصحيحين ) .
ومعنى الحديث : أنه لما نزل المطر نسبه بعضهم إلى رحمة الله وبعضهم قال : لقد صدق نوء كذا وكذا ، فكأنه جعل النوء هو الذي أنزل المطر أو نزل بسببه .
ومنه ما يذكر في بعض كتب التوقيت ( وقل أن يخلف نوؤه ) أو : ( هذا نوؤه صادق ) ، وهذا لا يجوز ، وهو الذي أنكره الله - عز وجل – على عباده وهذا شرك أصغر ، ولو قال بإذن الله ، فإنه لا يجوز لأن كل الأسباب من الله ، والنوء لم يجعله الله سببا .
قوله:(فلا أُقسم بمواقع النجوم ) . اختلف في (لا ) فقيل نافية ، والمنفي محذوف ، والتقدير : لا صحة لما تزعمون من أن القرآن كذب أو سحر وشعر وكهانة ، أُقسم بمواقع النجوم إنه لقرآن كريم .
فأقسم لا علاقة ب (لا ) إطلاقا ، وهذا له بعض الوجه ، وقيل : إن المنفي القسم ، فهي داخلة على أُقسم ، أي : لا أُقسم ولن أُقسم على أن القرآن قرآن كريم ، لأن الأمر أبين من أن يحتاج إلى قسم ، وهذا ضعيف جدا .(118/12)
وقيل : إن ( لا ) للتنبيه ، والجملة بعدها مثبتة ، لأن ( لا ) بمعنى انتبه ، أقسم بمواقع النجوم ... وهذا هو الصحيح .
فإن قيل : ما الفائدة من إقسامه سبحانه مع أنه صادق بلا قسم ، لأن القسم إن كان لقوم يؤمنون به ويصدقون كلامه ، فلا حاجة إليه ، وإن كان لقوم لا يؤمنون به ، فلا فائدة منه ، قال تعالى : (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)(البقرة: من الآية145) .
أُجيب : أن فائدة القسم من وجوه :
الأول : أن هذا أسلوب عربي لتأكيد الأشياء بالقسم ، وإن كانت معلومة عند الجميع ، أو كانت منكرة عند المخاطب ، والقرآن نزل بلسان عربي مبين .
الثاني : أن المؤمن يزداد يقينا من ذلك ، ولا مانع من زيادة المؤكدات التي تزيد في يقين العبد ، قال تعالى عن إبراهيم ( رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(البقرة: من الآية260) .
الثالث : أن الله يقسم بأمور عظيمة دالة على كمال قدرته وعظمته وعلمه ، فكأنه يقيم في هذا المقسم به على البراهين على صحة ما أقسم عليه بواسطة عظم ما أقسم به .
الرابع : التنويه بحال المقسم به ، لأنه لا يقسم إلا بشي عظيم ، وهذان
الوجهان لا يعودان إلى تصديق الخبر ، بل إلى ذكر الآيات التي أقسم بها تنويها له بها وتنبيها على عظمها .
الخامس : الاهتمام بالمقسم عليه ، وأنه جدير بالعناية والإثبات .(118/13)
وقوله : ( فلا اُقسم بمواقع النجوم). الله .- سبحانه – يتحدث عن نفسه بضمير المفرد ، لأنه يدل على الانفراد والتوحيد، فهو سبحانه واحد لا شريك له ، يتحدث عن نفسه بضمير الجمع ، لأنه يدل على العظمة، كقوله تعالى( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)(الحجر:9) وقوله : ( إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ... ) (يس:12) ، ولا يتحدث عن نفسه بالمثنى ، لأن المثنى محصور باثنين .والباء حرف قسم ، والمواقع جمع موقع .
واختلف في النجوم ، فقيل : إنها النجوم المعروفة ، فيكون المراد بمواقعها مطالعها ومغاربها.
وأقسم الله بها ، لما فيها من الدلالة على كمال القدرة في هذا الانتظام البديع لما فيها من مناسبة المقسم به والمقسم عليه ، وهو القرآن المحفوظ بواسطة الشهب ، فإن السماء عند نزول الوحى ملئت حرسا شديدا وشهبا .
وقيل : إن المراد آجال نزول القرآن ، ومنه قولهم : ( نزل القرآن مُنجّما ) وقول الفقهاء : يجب أن يكون دين المكاتب مؤجلا بنجمين فأكثر ، فيكون الله أقسم بمواقع نزول القرآن ، وقد سبقت لنا قاعدة مفيدة ، وهي أنه إذا كان المعنيان لا يتنافيان تحمل الآية على كل منهما ، وإلا ، طلب المرجح .
قوله : ( وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ) . ( قسم ) : خبر إن ، وهذا القسم أكد الله عظمته بإن واللام تنويها بالمقسم عليه وتعظيمه .
وقوله : ( لو تعلمون ) . مؤكد ثالث كأنه قال : ينبغي أن تعلموا هذا الأمر ولا تجهلوه ، فهو أعظم من أن يكون مجهولا ، فإنه يحتاج إلى علم وانتباه ، فلو تعلمون حق العلم لعرفتم عظمته ، فانتبهوا.(118/14)
قوله : ( لقرآن ) مصدر مثل الغفران والشكران بمعنى أسم الفاعل ، وبمعنى اسم المفعول ، فعلى الأول يكون المراد أنه جامع للمعاني التي تضمنتها الكتب السابقة من المصالح والمنافع ، قال تعالى ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(المائدة: من الآية48) ، وعلى الثاني يكون بمعنى المجموع ، لأنه مجموع مكتوب .
قوله : ( كريم ) يطلق على كثير العطاء ، وهذا كمال في العطاء متعد للغير ، ويطلق على الشي البهي الحسن ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إياك وكرائم أموالهم )(1) ، أي : البهي منها والحسن ، وهذا كمال في الذات وهذان المعنيان موجودان في القرآن ، فالقرآن لا أحسن منه بذاته، قال تعالى : ( وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا ) ( الأنعام :115) .
والقرآن يعطى أهله من الخيرات الدينية والدنيوية والجسمية والقلبية ، قال تعالى ( فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبِيراً)(الفرقان:52) . فهو سلاح لمن تمسك به ، ولكن يحتاج إلى أن نتمسك به بالقول والعمل والعقيدة ، فلا بد أن يصدق العقيدة والعمل ، قال صلى الله عليه وسلم : ( ألا إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا وهى القلب ) (1)، ووصف الله القرآن في آية أخرى بأنه مجيد ، والمجد صفة العظمة والعزة والقوة ، والقرآن جامع بين الأمرين : فيه قوة وعظمة ، وكذا خيرات كثيرة وإحسان لمن تمسك به .
قوله : ( في كتاب مكنون ) كتاب فعال بمعنى مفعول ، مثل : فراش بمعنى مفروش ، وغراس بمعنى مغروس ، وكتاب بمعنى مكتوب .
والمكنون : المحفوظ ، قال تعالى ( كأنهن بيض مكنون ) ( الصافات : 49 ) واختلف المفسرون في هذا الكتاب على قولين :
الأول : أنه اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه كل شي .(118/15)
الثاني : وإليه ذهب ابن القيم أنه الصحف التي في أيدي الملائكة ، قال تعالى ( كلا إنها تذكرة * فمن شاء ذكره * في صحف مكرمة *مرفوعة مطهرة * بأيدي سفرة ..) (عبس:11-15) فقوله : ( بأيدي سفرة ) يرجح أن المراد الكتب التي في أيدي الملائكة ، لأن قوله ( لا يمسه إلا المطهرون ) أي : الملائكة ، يوازن قوله ( بأيدي سفرة ) ، وعلى هذا يكون المراد بالكتاب الجنس لا الواحد .
قوله : ( لا يمسه إلا المطهرون ) . الضمير يعود إلى الكتاب المكنون ، لأنه أقرب شي ، وهو بالرفع ( لا يمسه ) باتفاق القراء ، وإنما نبهنا على ذلك ، لدفع قول من يقول : إنه خبر
بمعنى النهي ، والضمير يعود على القرآن ، أي ، نهى أن يمس القرآن إلا طاهر ، والآية ليس فيها ما يدل على ذلك ، بل هي ظاهرة في أن المراد به اللوح المحفوظ ، لأنه أقرب مذكور ، ولأنه خبر ، والأصل في الخبر أن يبقى على ظاهره خبرا لا أمرا ولا نهيا حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك ، ولم يرد ما يدل على خلاف ذلك ، بل الدليل على أنه لا يراد به إلا ذلك ، وأنه يعود إلى الكتاب المكنون ، ولهذا قال تعالى ( إلا المطهرون ) باس المفعول ، ولم يقل : إلا المطّهرون ، ولو كان المراد المطّهّرون لقال ذلك ، أو قال : إلا المتطهرون ، كما قال تعالى ( إن الله يحب التوابين المتطهرين ) .(118/16)
والمطهرون : هم الذين طهرهم الله تعالى ، وهم الملائكة ، طهروا من الذنوب وأدناسها ، قال تعالى ( لا يعصون الله ما أمرهم ) ( التحريم : 6 ) . وقال الله تعالى ( يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ) (الانبياء:20) وقال تعالى ( بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)(الانبياء:26 – 27 ) ، وفرق بين المطهر الذي يريد أن يفعل الكمال بنفسه ، وبين المطهر الذي كمله غيره وهم الملائكة ، وهذا مما يؤيد ما ذهب إليه ابن القيم أن المراد بالكتاب الكتب التي في أيدي الملائكة ، وفي الآية إشارة على أن من طهر قلبه من المعاصي كان أفهم للقرآن ، وأن من تنجس قلبه بالمعاصي كان أبعد فهما عن القرآن ، لأنه إذا كانت الصحف التي في أيدي الملائكة لم يمكن الله من مسها إلا هؤلاء المطهرين ، فكذلك معني القران . فاستنبط شيخ الإسلام من هذه الآية : أن المعاصي سبب لفهم القرآن ، كما قال تعالى ( كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(المطففين:14) وهم الذين قال الله فيهم : (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ)(القلم:15) فهم لا يصلون إلى معانيها وأسرارها ، لأنه ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون .
وقد ذكر بعض أهل العلم : أنه ينبغي لمن استُفتي أن يقدم بين يدي الفتوى الاستغفار لمحو أثر الذنب من قلبه حتى يتبين له الحق ، واستنبطه من قوله تعالى ( إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً)(النساء:105) .
قوله:(تنزيل من رب العالمين) خبر ثان لقوله:(وإنه) وهو كقوله:(وإنه لتنزيل رب العالمين ) (الشعراء : 192 ) وكقوله : ( تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته ) ( فصلت : 2-3) فهو خبر مكرر مع قوله : ( لقرآن ) .(118/17)
و( تنزيل) أي : منزل ، فهي مصدر بمعنى اسم المفعول منزل من رب العالمين ، أنزله الله على قلب النبي صلى عليه وسلم، لأنه محل الوعي والحفظ بواسطة جبريل، قال تعالى(وإنه لتنزيل رب العالمين * نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين )
وقوله : ( من رب العالمين ) . أي خالقهم ، ويستفد من الآية ما يلي :
1 – أن القرآن نازل لجميع الخلق ، ففيه دليل على عموم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم .
2 – أنه نازل من ربهم ، وإذا كان كذلك ، فهو الحكم بينهم الحاكم عليهم .
3 – أن نزول القرآن من كمال ربوبية الله ، فإذا أضيف إلى هذه الآية قوله تعالى : (تنزيل من الرحمن الرحيم * كتاب فصلت آياته ) ، علم أن القرآن رحمة للعباد أيضا ، وربوبية الله
مبنية على الرحمة ، قال تعالى ( الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم ) (الفاتحة: 2-3)
وكل ما أمر الله به عباده أو نهاهم عنه ، فهو رحمة بهم .
4 – أن القرآن كلام الله،لأنه إذا كان الله أنزله،فهو كلامه لا كلام غيره كما قاله السلف رحمهم الله ، وهو غير مخلوق ، لأن جميع صفات الله حتى الصفات الفعلية ليست مخلوقة .
والقرآن كلام الله منزل غير مخلوق .
فإن قيل : هل كل منزل غير مخلوق ؟
قلنا لا ، لكن كل منزل يكون وصفا مضافا إلى الله ، فهو غير مخلوق ، كالكلام ، وإلا فإن الله أنزل من السماء ماء فهو مخلوق،وقال تعالى:(وأنزلنا الحديد ) ( الحديد : 25 ) ، وقال تعالى ( وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ)(الزمر: من الآية6) والأنعام مخلوقة ، فإذا كان المنزل من عند الله صفة لا تقوم بذاتها ، وإنما تقوم بغيرها ، لزم أن يكون غير مخلوق ، لأنه من صفات الله .
قوله : ( أفبهذا الحديث أنتم مدهنون ) ، الاستفهام للإنكار والتوبيخ ، والحديث : القرآن ، والمدهن : الخائف من غيره الذي يحابيه بقوله وفعله .(118/18)
والمعنى : أتدهنون بهذا الحديث وتخافون وتستخفون ؟! لا ينبغي لكم هذا ، بل ينبغي لمن معه القرآن أن يصدع به وأن يبينه ويجتهد به ، قال تعالى(وجاهدهم به جهادا كبيرا)(الفرقان :52)
قوله:(وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) . أكثر المفسرين على أنه على حذف مضاف ، أي :أتجعلون شكر رزقكم ، أي : ما أعطاكم الله من شي من المطر ومن إنزال القرآن ، أي تجعلون شكر هذه النعمة العظيمة أن تكذبوا بها ، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان ذكرها في المطر ، فأنه تشمل المطر وغيره .
وقيل : إنه ليس في الآية حذف ، والمعنى : تجعلوا شكركم تكذيبا ، وقال : إن الشكر رزق، وهذا هو الصحيح ، بل هو من أكبر الأرزاق ، قال الشاعر :
إذا كان شكري نعمة الله نعمة علىّ له في مثلها يجب الشكر
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر
فالنعمة تحتاج إلى شكر ، ثم إذا شكرتها ، فهي نعمة أخرى تحتاج إلى شكر ثان ، وإن شكرت في الثانية ، فهي نعمة تحتاج إلى شكر ثالث ، وهكذا أبدا ، قال تعالى ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ)(النحل:18) .
قوله : ( أنكم تكذبون ) . ( أن ) وما دخلت عليه في تأويل مصدر مفعول تجعلون الثاني ، أي : تصيرون شكركم تكذيبا ، ولا شك أن هذا من السفه أن يقابل الإنسان نعمة ربه بالتكذيب ،إن كانت وحيا كذب خبره ولم يمتثل أمره ولم يجتنب نهيه ، وإن كانت عطاء تنمو به الأجسام نسبة إلى غير الله ، قال : هذا من النوء أو هذا من عملي ، كما قال قارون :(َ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)(القصص: من الآية78) .
***
فيه مسائل :(118/19)
الأولى : تفسير آية الواقعة . الثانية : ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية . الثالثة : ذكر الكفر في بعضها . الرابعة : أن من الكفر ما لا يخرج من الملة . الخامسة : قوله : ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ) بسبب نزور النعمة .
ــــــــــــــ
الأولى : تفسير آية الواقعة ، وهي قوله تعالى (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون ) وقد مر تفسيرها .
الثانية ذكر الأربع التي من أمر الجاهلية . وهي الطعن في الأنساب ، والفخر بالأحساب ، والاستسقاء بالأنواء ، والنياحة على الميت .
ذكر الكفر في بعضها . وهي الاستسقاء بالأنواء ، وكذلك الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ، كما في حديث (اثنتان في الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت )(1).
الرابعة : أن من الكفر ما لا يخرج من الملة . وهي أن الاستسقاء بالأنواء بعضه كفر مخرج من الملة وبعضه كفر دون ذلك ، وقد سبق بيان ذلك .
الخامسة : قوله : ( أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ) بسبب نزول النعمة . أي : إن الناس ينقسمون عند نزول النعمة إلى مؤمن بالله وكافر به ، وقد سبق بيان حكم إضافة نزول المطر إلى النوء .، والواجب على الإنسان إذا جاءته النعمة أن لا يضيفها إلى أسبابها مجردة عن الله . بل يعتقد أن هذا سبب محض إن كان هذا سببا ، مثال ذلك : رجل غرق في ماء ، وكان عنده رجل قوي ، فنزل وأنقذه ، فإنه يجب على هذا الذي نجا أن يعرف نعمة الله عليه ، ولولا أن الله أمر أمرا قدريا وأمرا شرعيا أن ينقذك هذا الرجل ما حصل إنقاذ ، فأنت تعتقد أن هذا سبب محض .(118/20)
أما إن غرق ويسر الله له ، فخرج ، فقال : إن الولي الفلاني أنقذني ، فهذا شرك أكبر ، لأنه سبب غير صحيح ، ثم إن إضافته إليه لا يظهر منها أنه يريد أنه سبب، بل يريد أنه منقذ بنفسه ، لأن اعتقاد أنه سبب وهو في قبره غير وارد ، ولذلك كان أصحاب الأولياء إذا نزلت بهم شدة يسألون الأولياء دون الله تعالى ، فيقعون في الشرك الأكبر من حيث لا يعلمون أو من حيث يعلمون ،ثم قد يفتنون ، فيحصل لهم ما يريدون عند دعاء الأولياء لا به ، لأننا نعلم أن هؤلاء لا يستجيبون لهم ، لقوله تعالى (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ َ )(فاطر: من الآية14) وقوله تعالى ( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )(الاحقاف: من الآية5) .
السادسة : التفطن للإيمان في هذا الموضع . وهو نسبة المطر إلى فضل الله ورحمته .
السابعة : التفطن للكفر في هذا الموضع . وهو نسبة المطر إلى النوء .
الثامنة : التفطن لقوله : ( لقد صدق نوء كذا وكذا ) .
فيقال هذا بسبب النوء الفلاني وما أشبه بذلك .
الثامنة : التفطن لقوله:(لقد صدق نوء كذا وكذا ) وهذا قريب من قوله : ( مطرنا بنوء كذا ) لأن الثناء بالصدق على النوء مقتضاه أن هذا المطر بوعده ، ثم بتنفيذ وعده .
التاسعة : إخراج العالم للمتعلم المسألة بالاستفهام عنها لقوله : ( أتدرون ماذا قال ربكم ) وذلك أن يلقي العالم على المتعلم السؤال لأجل أن ينتبه له ، وإلا ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الصحابة لا يعلمون ماذا قال الله ، لكن أراد أن ينبههم لهذا الأمر ، فقال : ( أتدرون ماذا قال ربكم ؟ ) وهذا يوجب استحضار قلوبهم .
العاشرة : وعيد النائحة . وذلك بقوله : ( إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب ) وهذا وعيد عظيم .
باب قوله تعالى :(118/21)
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّه)(البقرة: من الآية165) ــــــــــــــــــــــ
قوله : باب قول الله تعالى : ( ومن يتخذ من دون الله أندادا ... ) . جعل المؤلف رحمه الله تعالى الآية هي الترجمة ، ويمكن أن يعنى بهذه الترجمة باب المحبة.
وأصل الأعمال كلها هو المحبة ، فالإنسان لا يعمل ألا لما يحب ، إما لجلب منفعة ، أو لدفع مضرة ، فإذا عمل شيئا ، فلأنه يحبه إما لذاته كالطعام ، أو لغيره كالدواء .
وعبادة الله مبنية على المحبة ، بل هي حقيقة العبادة ، إذ لو تعبدت بدون محبة صارت عبادتك قشرا لا روح فيها ، فإذا كان الإنسان في قلبه محبة الله وللوصول إلى جنته ، فسوف يسلك الطريق الموصل إلى ذلك . ولهذا لما أحب المشركون آلهتهم توصلت بهم هذه المحبة إلى أن عبدوها من دون الله أو مع الله .
والمحبة تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : محبة عبادة ، وهي التي توجب التذلل والتعظيم ، وأن يقوم بقلب الإنسان من إجلال المحبوب وتعظيمه ما يقتضي أن يمتثل أمره ويجتنب نهيه ، وهذه خاصة بالله ، فمن أحب مع الله غيره محبة عبادة، فهو مشرك شركا أكبر ، ويعبر العلماء عنها بالمحبة الخاصة.
القسم الثاني : محبة ليست بعبادة في ذاتها ، وهذه أنواع :
النوع الأول : المحبة لله وفي الله ، وذلك بأن يكون الجالب لها محبة الله ، أي : كون الشي محبوبا لله تعالى من أشخاص ، كالأنبياء ، والرسل ، والصديقين ، والشهداء ، والصالحين .
أو أعمال ، كالصلاة ، والزكاة ، وأعمال الخير ، أو غير ذلك .
وهذا النوع تابع للقسم الأول الذي هو محبة الله .
النوع الثاني : محبة إشفاق ورحمة ، وذلك كمحبة الولد ، والصغار ، والضعفاء ، والمرضى.
النوع الثالث : محبة إجلال وتعظيم لا عبادة ، كمحبة الإنسان لوالده ، ولمعلمه ، ولكبير من أهل الخير .(118/22)
النوع الرابع : محبة طبيعية ، كمحبة الطعام ، والشراب ، والملبس ، والمركب ، والمسكن .
وأشرف هذه الأنواع النوع الأول ، والبقية من قسم المباح ، إلا إذا اقترن بها ما يقتضي التعبد صارت عبادة ، فالإنسان يحب والده محبة إجلال وتعظيم ، وإذا اقترن بها أن يتعبد لله بهذا الحب من أجل أن يقوم ببر والده صارت عبادة ، وكذلك يحب ولده محبة شفقة ، وإذا اقترن بها ما يقتضي أن يقوم بأمر الله بإصلاح هذا الولد صارت عبادة .
وكذلك المحبة الطبيعية ، كالأكل والشرب والملبس والمسكن إذا قصد بها الاستعانة على عبادة صارت عبادة ، ولهذا ( ولهذا حبب للنبي صلى الله عليه وسلم النساء والطيب ) ( 2 ) .
من هذه الدنيا ، فحبب إليه النساء ، لأن ذلك مقتضى الطبيعية ولما يترتب عليه من المصالح العظيمة ، وحبب إليه الطيب ، لأنه ينشط النفس ويريحها ويشرح الصدر، ولأن الطيبات للطيبين ، والله طيب لا يقبل إلا طيبا .
فهذه الأشياء إذا اتخذها الإنسان بقصد العبادة صارت عبادة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امري ما نوى ) ( 1 ) ، وقال العلماء : إن ما لا يتم الواجب إلا به ، فهو واجب ، وقالوا : الوسائل لها أحكام المقاصد ، وهذا أمر متفق عليه .
****
وقد ذكر المؤلف رحمه الله في هذا الباب آيتين :
الأولى التي ترجم بها وهي قوله ( ومن الناس )
( من ) تبعيضية ، وهي و مجرورها خبر مقدم ، و ( من يتخذ ) مبتدأ مؤخر .
قوله : ( أندادا ) جمع ند ، وهو الشبيه والنظير .
قوله:( يحبونهم كحب الله ) . أي : في كيفيته ونوعه ، فالنوع أن يحب غير الله محبة عبادة .
والكيفية : أن يحبه كمحبة الله أو أشد ، حتى أن بعضهم يعظم محبوبه ويغار له أكثر مما يعظم الله ويغار له ، فلو قيل : احلف بالله ، لحلف ، وهو كاذب ولم يبال ، ولو قيل : احلف بالند ، لم يحلف ، وهو كاذب ، وهذا شرك أكبر .(118/23)
وقوله : (كحب الله ) للمفسرين فيها قولان :
الأول : أنها على ظاهرها ، وأنها مضافة إلى مفعولها ، أي : يحبونهم كحبهم لله ، والمعنى يحبون هذه الأنداد كمحبة الله ، فيجعلونه شركاء لله في المحبة ، لكن الذين آمنوا أشد حبا لله من هؤلاء لله ، وهذا هو الصواب .
الثاني : أن المعنى كحب الله الصادر من المؤمنين .
أي : كحب المؤمنين لله ، فيحبون هذه الأنداد كما يحب المؤمنون الله – عز وجل – وهذا وإن احتمله اللفظ ، لكن السياق يأباه ، لأنه لو كان المعنى ذلك ، لكان مناقضا لقوله تعالى فيما بعد ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) . وكانت محبة المؤمنين لله أشد ، لأنها محبة خالصة ليس فيها شرك فمحبة المؤمنين اشد من حب هؤلاء لله .
فإن قيل:قد ينقدح في ذهن الإنسان أن المؤمنين يحبون هذه الأنداد نظرا لقوله:( أشد حبا لله ) فما الجواب ؟
أُجيب : أن اللغة العربية يجري فيها التفضيل بين شيئين وأحدهما خال منه تماما ، ومنه قوله تعالى (أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً)(الفرقان:24) . مع أن مستقر أهل النار ليس فيه خير ، وقال تعالى (الله خير أما يشركون ) ( النمل :59 ) ، والطرف الآخر ليس فيه شي من هذه الموازنة ، ولكنها من باب مخاطبة الخصم بحسب اعتقاده .
مناسبة الآية لباب المحبة :
منع الإنسان أن يحب أحدا كمحبة الله ، لأن هذا من الشرك الأكبر المخرج عن الملة ، وهذا يوجد في بعض العُبّاد وبعض الخدم ، فبعض العباد يعظمون ويحبون بعض القبور أو الأولياء كمحبة الله أو أشد ، وكذلك بعض
الخدم تجدهم يحبون هؤلاء الرؤساء أكثر مما يحبون الله ويعظمونهم أكثر مما يعظمون الله ، قال تعالى : ( وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا* رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً)(الأحزاب : 67 - 68 ) .(118/24)
وقوله : ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24) .
ـــــ
***
الآية الثانية قوله تعالى ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ ) .
(آباؤكم).اسم كان،وباقي الآية مرفوع معطوف عليه، وخبر كان(أحب إليكم من الله ورسوله)، والخطاب في قوله:(قل) للرسول صلى الله عليه وسلم والمخاطب في قوله:(آباؤكم ) الأمة .
والأمر في قوله( فتربصوا ) يراد به التهديد ، أي : انتظروا عقاب الله ، ولهذا قال : ( حتى يأتي الله بأمره ) بإهلاك هؤلاء المؤثرين لمحبة هؤلاء الأصناف الثمانية على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله .فدلت الآية على أن محبة هؤلاء وإن كانت غير محبة العبادة إذا فضلت على محبة الله صارت سببا للعقوبة .
ومن هنا نعرف أن الإنسان إذا كان يهمل أوامر الله لأوامر والده، فهو يحب أباه أكثر من ربه.
وما في القلوب وإن كان لا يعلمه إلا الله ، لكن له شاهد في الجوارح ، ولذا يروى عن الحسن رحمه الله أنه قال : ( ما أسر أحد سريرة إلا أظهرها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه ) فالجوارح مرآة القلب .
فإن قيل : المحبة في القلب و لا يستطيع الإنسان أن يملكها ، ولهذا يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال ( اللهم هذا قسمي فيما أملك ، فلا تلمني فيما لا أملك ) ( 1 ) وكيف للإنسان أن يحب شيئا وهو يبغضه ، وهل هذا إلا من محاولات جعل الممتنع ممكنا ؟(118/25)
أجيب : أن هذا إيراد ليس بوارد ، فالإنسان قد تنقلب محبته لشي كراهة وبالعكس ، إما لسبب ظاهر أو لإرادة صادقة ، فمثلا : لك صديق تحبه فيسرق منك وينتهك حرمتك ، فتكرهه لهذا السبب ، أو لإرادة كرجل يحب شرب الدخان ، فصار عنده إرادة صادقة وعزيمة ثابتة ، فكره الدخان ، فأقلع عنه .
وقال عمر رضى الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم ( إنك لأحب إلى من كل شي إلا من نفسي. قال النبي صلى الله عليه وسلم : لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك . قال:الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي . فقال النبي صلى الله عليه وسلم:الآن يا عمر)( 2 ) ،
فقد ازدادت محبة عمر رضى الله عنه للنبي صلى الله ، وأقره النبي صلى الله عليه وسلم على أن الحب قد يتغير .
وربما تسمع عن شخص كلاما وأنت تحبه فتكرهه ، ثم يتبين لك أن هذا الكلام كذب ، فتعود محبتك إياه .
عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين ) . أخرجاه ( 1 )
ــــــــــــــــــ
****
قوله في حديث أنس : ( لا يؤمن ) . هذا نفي للإيمان ، ونفي الإيمان تارة يراد به نفي الكمال الواجب ، وتارة يراد به نفى الوجود ، أي : نفي الأصل .
والمنفي في هذا الحديث هو كمال الإيمان الواجب ، إلا إذا خلا القلب من محبة الرسول صلى الله عليه وسلم إطلاقا ، فلا شك أن هذا نفي لأصل الإيمان .قوله:(من ولده). يشمل الذكر والأنثى، وبدأ بمحبة الولد، لأن تعلق القلب به أشد من تعلقه بأبيه غالبا .
قوله : ( ووالده ) يشمل أباه ، وجده وإن علا ، وأمه ، وجدته وإن علت .
قوله:( والناس أجمعين ) . يشمل اخوته وأعمامه وأبناءهم وأصحابه ونفسه ، لأنه من الناس ، فلا يتم الإيمان حتى يكون حب الرسول أحب إليه من جميع المخلوقين .
وإذا كان هذا في محبة الرسول صلى الله وسلم ، فكيف بمحبة الله تعالى ؟
ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون لأمور :(118/26)
الأول:أنه رسول الله، وإذا كان الله أحب إليك من كل شي،فرسوله أحب إليك من كل مخلوق .
الثاني : لما قام به من عبادة الله وتبليغ رسالته .
الثالث : لما آتاه الله من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال .
الرابع : أنه سبب هدايتك وتعليمك وتوجيهك .
الخامس لصبره على الأذى في تبليغ الرسالة .
الخامس : لبذل جهده بالمال والنفس لإعلاء كلمة الله .
***
ويستفاد من هذا الحديث :
1. وجوب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة النفس .
2. فداء الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال،لأنه يجب أن تقدم محبته على نفسك ومالك .
3. أنه يجب على الإنسان أن ينصر سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبذل لذلك نفسه و ماله وكل طاقته ، لأن ذلك من كمال محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذلك قال بعض أهل العلم في قوله : ( إن شانئك هو الأبتر ) ( الكوثر : 3 ) ، أي : مبغضك ، قالوا : وكذلك من أبغض شريعته صلى الله عليه وسلم ، فهو مقطوع لا خير فيه .
4. جواز المحبة التي للشفقة والإكرام والتعظيم ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( أحب إليه من ولده ووالده ... ) فأثبت أصل المحبة ، وهذا أمر طبيعي لا ينكره أحد .
5. وجوب تقديم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على قول كل الناس ، لأن من لازم كونه أحب من كل أحد أن يكون قوله مقدما على كل أحد من الناس ،
حتى على نفسك ، فمثلا : أنت تقول شيئا وتهواه وتفعله ، فيأتي إليك رجلا ويقول لك : هذا يخالف قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإذا كان الرسول أحب إليك من نفسك فأنت تنتصر للرسول أكثر مما تنصر لنفسك ، وترد على نفسك بقول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فتدع ما تهواه من أجل طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهذا عنوان تقديم محبته على محبة النفس،ولهذا قال بعضهم :
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس بديع(118/27)
لو كان حبك صادق لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
إذا يؤخذ من هذا الحديث وجوب تقديم قول الرسول صلى الله عليه وسلم على قول كل الناس حتى على قول أبي بكر وعمر وعثمان، وعلى قول الأئمة الأربعة ومن بعدهم، وقال تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ)(الأحزاب: من الآية36) .
لكن إذا وجدنا حديثا يخالف الأحاديث الأخرى الصحيحة أو مخالفا لقول أهل العلم وجمهور الأمة ، فالواجب التثبت والتأني في الأمر ، لأن اتباع الشذوذ يؤدي إلى الشذوذ .
ولهذا إذا رأيت حديثا يخالف ما عليه أكثر الأمة أو يخالف الأحاديث الصحيحة التي كالجبال في رسوها ، فلا تتعجل في قبوله ، بل يجب عليك أن تراجع وتطالع في سنده حتى يتبين لك الأمر ، فإذا تبين ، فإنه لا بأس أن يخصص الأقوى بأضعف منه إذا كان حجة ، فالمهم التثبت في الأمر ، وهذه القاعدة تنفعك في كثير من الأقوال التي ظهرت أخيرا ، وتركها الأقدمون وصارت محل نقاش بين الناس ، فإنه يجب اتباع هذه القاعدة ، ويقال : أين
الناس من هذه الأحاديث ؟ ولو كانت هذه الأحاديث من شريعة الله ،لكانت منقولة باقية معلومة مثل ما ذكر أن الإنسان إذا لم يطف طواف الإفاضة قبل أن تغرب الشمس يوم العيد، فإنه يعود محرما، فأن هذا الحديث(1) وإن كان ظاهر سنده الصحة، لكنه ضعيف وشاذ، ولهذا لم يذكر أن عمل به إلا رجل أو رجلان من التابعين، وإلا، فلأمة على خلافه، فمثل هذه الأحاديث يجب أن يتحرى الإنسان فيه ويتثبت ، ولا نقول : إنها لا يمكن أن تكون صحيحة .
مناسبة الحديث للباب :
مناسبة هذا الحديث ظاهرة ، إذ محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من محبة الله ، ولأنه إذا كان لا يكمل الإيمان حتى يكون الرسول صلى الله عليه أحب إلى الإنسان من نفسه والناس أجمعين ، فمحبة الله أولى وأعظم .(118/28)
ولهما عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( ثلاث من كن فيه ، وجد بهن حلاوة الإيمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب
ـــــــــــــــــ
****
قوله في حديث أنس الثاني:(ثلاث من كن فيه). أي: ثلاث خصال ، ( كن ) بمعنى وجدن فيه.
وإعراب ( ثلاث ) : مبتدأ ، وجاز الابتداء بها لأنه مفيدة على حد قول ابن مالك :
المرء لا يحبه إلا الله ، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يقذف في النار) ( 1 ).
ـــــــــــــــــــــــ
ولا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تفد ... ... ... ... .... .....
وقوله : ( من كن فيه ) . ( من ) : شرطيه ، ( كن ) : أصلها كان ، فتكون فعلا ماضيا ناسخا ، والنون اسمها ، و( فيه ) : خبرها .
قوله : ( وجد بهن ) . وجد : فعل ماضي في محل جزم جواب الشرط ، والجملة من فعل الشرط وجوابه في محل رفع خبر المبتدأ .
وقوله : ( وجد بهن حلاوة الإيمان ).الباء للسببية ، وحلاوة : مفعول وجد ، وحلاوة الإيمان : ما يجده الإنسان في نفسه وقلبه من الطمأنينة والراحة والانشراح ، وليست مدركة باللهاب و الفم ، والمقصود بالحلاوة هنا الحلاوة القلبية .
الخصلة الأولى من الخصال الواردة في الحديث :
قوله : ( أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ) الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وكذا جميع الرسل تجب محبتهم .
قوله : ( أحب إليه مما سواهما ) . أي احب إليه من الدنيا كلها ونفسه وولده ووالده وزوجته وكل شي سواهما ، فإن قيل : لماذا جاء الحديث بالواو ( الله ورسوله ) وجاء الخبر لهما جميعا ( أحب إليه مما سواهما ) ؟
وفي رواية : ( لا يجد أحد حلاوة الإيمان حتى ... )( 1 ) إلى آخره .
ـــــــــــــــــــــــ(118/29)
فالجواب : لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم من محبة الله ، ولهذا جعل قوله : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ركنا واحدا ، لأن الإخلاص لا يتم إلا بالمتابعة التي جاءت عن طريق النبي صلى الله عليه وسلم .
الخصلة الثانية :
قوله : ( وأن يحب المرء لا يحبه إلا الله )
قوله : (وأن يحب المرء ) يشمل الرجل والمرأة . قوله : ( لا يحبه إلا الله ) : اللام للتعليل ، أي : من أجل الله ، لأنه قائم بطاعة الله – عز وجل - .
وحب الإنسان للمرء له أسباب كثيرة : يحبه للدنيا ، ويحبه للقرابة ، ويحبه للزمالة ، ويحب المرء زوجته الاستمتاع ، ويحب من أحسن إليه ، ولكن إذا أحببت هذا المرء لله ، فإن ذلك من أسباب وجود حلاوة الإيمان .
الخصلة الثالثة :
قوله : ( وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار ) .
هذه الصورة في كافر أسلم ، فهو يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه ، كما يكره أن يقذف في النار ، وإنما ذكر هذه الصورة ، لأن الكافر يألف ما كان عليه أولا ، فربما يرجع إليه بخلاف من لا يعرف الكفر أصلا .
فمن كره العود في الكفر كما يكره القذف في النار،فإن هذا من أسباب وجود حلاوة الإيمان .
قوله : ( وفى رواية لا يجد أحد حلاوة الإيمان ) .
أتى المؤلف بهذه الرواية ، لأن انتفاء وجدان حلاوة الإيمان بالنسبة للرواية الأولى عن طريق المفهوم ، وهذه المفهوم ، وهذه عن طريق المنطوق ، ودلالة المنطوق أقوى دلالة المفهوم .
وعن ابن عباس ، قال : " من أحبّ في الله ، وأبغض في الله ، ووالى في الله ، وعادى في الله ، فإنما تنال ولاية الله بذلك ، ولن يجد عبدُُُ طعم الإيمان – وإن كثرت صلاته وصومه –
حتى يكون كذلك ، وقد صارت عامة مُؤاخاة الناس على أمر الدنيا وذلك لا يُجدي على أهله
شيئا " رواه ابن جرير( 1 ) .
ــــــــــــــــــــــ
****(118/30)
قوله في أثر ابن عباس رضى الله عنهما : ( من أحب في الله ) . ( من ) شرطية ، وفعل الشرط أحب ، وجوابه جملة : ( فإنما تنال ولاية الله بذلك ) .
و( في ) : يحتمل أن تكون للظرفية ، لأن الأصل فيها للظرفية ، ويحتمل أن تكون للسببية ، لأن في) تأتي أحيانا للسببية كما في قوله صلى الله عليه وسلم(دخلت امرأة النار في هرة )( 1 ) أي : بسبب هرة .
وقوله:( في الله ) . أي : من أجله ، إذا قلنا : إن في للسببية ، وأما إذا قلنا: إنها للظرفية ، فالمعنى : من أحب في ذات الله ، أي في دينه وشرعه لا عرض الدنيا .
قوله : ( وأبغض في الله ) . البغض الكره ، لأي : أبغض في ذات الله إذا رأى من يعصي الله كرهه . وفرق بين ( في ) التي للسببية و( في ) التي للظرفية ، فالسببية الحامل له على المحبة أو البغضاء هو الله، والظرفية موضع الحب أو الكراهة هو في ذات الله –عز وجل - فيبغض من أبغضه الله ، ويحب من أحبه .
قوله : ( ووالى في الله ) . الموالاة : هي المحبة والنصرة وما أشبه ذلك .
قوله:(وعادى في الله). المعاداة ضد الموالاة ، أي : يبتعد عنهم ويبغضهم ويكرههم في الله .
قوله : ( فإنما تنال ولاية الله بذلك ) . هذا جواب الشرط ، أي : يدرك اإنسان ولاية الله ويصل إليها ، لأنه جعل محبته وبغضه وولايته ومعاداته لله .
وقوله:(ولاية). يجوز في الواو وجهان:الفتح والكسر،قيل:معناهما واحد ، وقيل : بالفتح بمعنى النصرة،قال تعالى:(ما لكم من ولايتهم من شي)،وبالكسر بمعنى الولاية على الشي.
قوله:(بذلك).الباء للسببية،والمشار إليه الحب في الله والبغض فيه،والموالاة فيه والمعاداة فيه .(118/31)
وهذا الأثر موقوف ، لكنه بمعنى المرفوع ، لأن ترتيب الجزاء على العمل لا يكون إلا بتوقيف ، إلا أن الأثر ضعيف . فمعنى الحديث : أن الإنسان لا يجد طعم الإيمان وحلاوته ولذته حتى يكون كذلك ، ولو كثرت صلاته وصومه ، وكيف يستطيع عاقلا فضلا عن مؤمن أن يوالي أعداء الله ، فيرى أعداء الله يشركون به ويكفرون به ويصفونه بالنقائص والعيوب ، ثم يواليهم ويحبهم ؟ ! فهذا لو صلى وقام الليل كله وصام الدهر كله ، فإنه يكون لا يمكن أن ينال طعم الإيمان ، فلا بد أن يكون قلبك مملوء بمحبة الله وموالاته ، ويكون مملوء ببغض أعداء الله ومعاداتهم ، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى :
أتحب أعداء الحبيب وتدّعي حبا ما ذاك في إمكان
وقال الإمام احمد رحمه الله : ( إذا رأيت النصراني أغمض عيني ، كراهة أن أرى بعيني عدو الله ) .
هذا الذي يجد طعم الإيمان ، أما – والعياذ بالله – الذي يرى أن اليهود أو النصارى على دين مرضي ومقبول عند الله بعد بعثت النبي صلى الله عليه وسلم، فهو خارج عن الإسلام ، مكذب بقول الله : ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) ( المائدة : 3 ) وقوله ( إن الدين عند الله الإسلام ) ( آل عمران : 19 ) وقوله (ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين ) ( آل عمران : 85 ) ، ولكثرة اليهود والنصارى والوثنين صار في هذه المسالة خطر على المجتمع ، وأصبح كثير من الناس الآن لا يفرقون بين مسلم وكافر ، ولا يدري أن غير المسلم عدو لله(118/32)
–عز وجل – بل هو عدو له أيضا ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ )(الممتحنة: من الآية1) فهم أعداء لنا ولو تظاهروا بالصداقة ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظالمين )(المائدة: من الآية51) .
فالآن أصبحنا في محنة وخطر عظيم ، لأنه يخشى على أبنائنا وأبناء قومنا أن يركنوا إلى هؤلاء و يوادوهم يحبوهم ، ولذلك يجب أن تخلص هذه البلاد بالذات منهم ، فهذه البلاد قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ( لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع إلا مسلما ) ( 1 ) وقال : ( أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب ) ( 2 ) وقال ( أخرجوا المشركين من جزيرة العرب ) ( 3 ) ، وهذا كله من أجل أن لا يشتبه الأمر على الناس ويختلط الله بأعدائه .
قوله : ( وقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا ، وذلك لا يجدي على أهله شيئا ) .
قوله : ( عامة ) أي : أغلبية .
وقوله : ( مؤاخاة الناس ) . أي : مودتهم ومصاحبتهم .
أي : أكثر مودة الناس ومصاحبتهم على أمر الدنيا ، وهذا ما قاله ابن عباس ، وهو بعيد العهد منا قريب العهد من النبوة ، فإذا كان الناس قد تغيروا في زمنه ،
فما بالك بالناس اليوم ؟(118/33)
فقد صارت مؤاخاة الناس – إلا نادر- على أمر الدنيا ، بل صار أعظم من ذلك ، يبيعون دينهم بدنياهم ، قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (لأنفال:27) ، ولما كان غالب ما يحمل على الخيانة هو المال وحب الدنيا أعقبها بقوله : ( وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (لأنفال:28)
ويستفاد من أثر بن عباس رضى الله عنهما : أن لله تعالى أولياء ، وهو ثابت بنص القرآن ، قال تعالى : ( الله ولي الذين آمنوا ) ( البقرة: 257) وقال تعالى : ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا ) ( المائدة : 55 ) فلله أولياء يتولون أمره ويقيمون دينه ، وهو يتولاهم بالمعونة والتسديد والحفظ والتوفيق ، والميزان لهذه الولاية قوله تعالى (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (يونس:62) .
قال شيخ الإسلام : ( من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا ) ، والولاية سبق أنها النصرة والتأييد والإعانة .
والولاية تنقسم إلى:ولاية من الله للعبد،وولاية من العبد لله،فمن الأولى قوله تعالى(الله ولى الذين آمنوا)(البقرة:257) ومن الثانية قوله تعالى ( ومن يتولى الله ورسوله والذين آمنوا ...) ( المائدة : 56 ) .
والولاية التي من الله للعبد تنقسم إلى عامة وخاصة ، فالولاية العامة هي الولاية على العباد بالتدبير والتصريف ، وهذه تشمل المؤمن والكافر وجميع الخلق ، فالله هو الذي يتولى عباده بالتدبير والتصريف والسلطان وغير ذلك ، ومنه قوله تعالى : (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع
الحاسبين ) (الأنعام : 62 ) .(118/34)
والولاية الخاصة : أن يتولى الله العبد بعنايته وتوفيقه وهدايته ، وهذه خاصة بالمؤمنين ، وقال تعالى : ( اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ )(البقرة: من الآية257) وقال : (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)(يونس:63) .
وقال ابن عباس في قوله تعالى:( وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)(البقرة:من الآية166)قال:" المودة " .
ـــــــــــــــــــــــ
***
قوله:(وقال أبن عباس رضى الله عنهما في قوله : (وتقطعت بهم الأسباب ) ، قال : المودة). يشير إلى قوله تعالى ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) (البقرة:166)
الأسباب : جمع سبب ، وهو كل ما يتوصل به إلى شي .
وفي اصطلاح الأصوليين : ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم ، فكل ما يوصل إلى شي ، فهو سبب ، قال تعالى : ( مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ )(الحج: من الآية15) ، وسمي الحبل سببا ، لأن الإنسان يتوصل به إلى استخراج الماء من البئر .(118/35)
وقوله : ( قال : المودة ) . هذا الأثر ضعفه بعضهم ، لكن معناه صحيح ، فإن جمع الأسباب التي يتعلق بها المشركون لتنجيهم تتقطع بهم ، ومنها محبتهم لأصنامهم وتعظيمهم إياها ، فإنها لا تنفعهم ، ولعل ابن عباس رضى الله عنهما أخذ من سياق الآيات ، فقد قال الله تعالى ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ )(البقرة: من الآية165) ثم قال : ( إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِين اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ) (البقرة:166) .
وبه تعرف أن مراده المودة الشركية ، فأما المودة الإيمانية كمودة الله تعالى ومودة ما يحبه من الأعمال والأشخاص ، فإنها نافعة موصلة للمراد ، وقال الله تعالى : ( الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (الزخرف:67) .
****
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية البقرة . الثانية : تفسير آية براءة . الثالثة : وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال . الرابعة : نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام .
ــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية البقرة . وهي قوله تعالى ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) ، وسبق ذلك .
الثانية : تفسير آية براءة . وهي قوله تعالى ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم .... ) الآية ، وسبق تفسيرها .
الثالثة : وجوب محبته صلى الله عليه وسلم على النفس والأهل والمال . وفي نسخه ( وتقديمها على النفس والأهل والمال ) .
ولعل الصواب : وجوب تقديم محبته كما هو مقتضى الحديث ، وأيضا قوله : ( على النفس ) يدل على أنها قد سقطت كلمة تقديم أو تقديمها ، وتؤخذ من حديث أنس السابق ومن قوله تعالى : ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم .... أحب إليكم من الله ورسوله ، فذكر الأقارب والأموال .(118/36)
الرابعة : أن نفي الإيمان لا يدل على الخروج من الإسلام . سبق أن المحبة كسبية ، وذكرنا في ذلك حديث عمر رضى الله لما قال : ( والله إنك لأحب إلى من كل شي إلا نفسي ، فقال له ومن نفسك . فقال الآن ، أنت أحب إلى من نفسي ) ، وقوله : ( الآن ) يدل على حدوث هذه المحبة ، وهذا أمر ظاهر ، وفيه أيضا أن نفي الإيمان المذكور في قوله ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ... ) لا يدل على الخروج من الإسلام لقوله في الحديث الآخر ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ) لأن حلاوة الإيمان أمر زائد على أصله ، أي إن الدليل مركب من الدليلين .
ونفي الشي له ثلاث حالات : فالأصل أنه نفي للوجود ، وذلك مثل : ( لا إيمان لعابد صنم ) ، فإن منع مانع من نفي الوجود ، فهي نفي للصحة ، مثل : ( لا صلاة بغير وضوء ) فإن منع مانع من نفي الصحة ، فهو نفي للكمال، مثل ( لا صلاة بحضرة الطعام ) ، فقوله : ( لا يؤمن أحدكم ) نفي للكمال الواجب لا المستحب ، قال شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله ( لا ينفى الشي إلا لانتفاء واجب فيه ما لم يمنع من ذلك مانع )
الخامسة أن للإيمان حلاوة قد يجدها الإنسان وقد لا يجدها . تؤخذ من قوله : ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ) ، وهذا دليل انتفاء الحلاوة إذا انتفت هذه الأشياء .
السادسة : أعمال القلب الأربعة آلتي لا تنال ولاية الله إلا بها ، ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها . وهي : الحب في الله ، والبغض في الله ، والولاء في الله ، والعداء في الله .
لا تنال ولاية الله إلا بها ، فلو صلى الإنسان وصام ووالى أعداء الله ، فإنه
السابعة : فهم الصحابي للواقع ، أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا.
الثامنة: تفسير( تقطعت بهم الأسباب ) . التاسعة : أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا .
ــــــــــــــــــــــــــ
لا ينال ولاية الله ، قال ابن القيم :(118/37)
أتحب أعداء الحبيب وتدّعي حبا له ما ذاك في إمكان
وهذا لا يقبله حتى الصبيان أن توالى من عاداهم .
وقوله : ( ولا يجد أحد طعم الإيمان إلا بها ) مأخوذة من قول ابن عباس ( ولن يجد عبد طعم الإيمان .... ) الخ .
* سابعة فهم الصحابي للواقع أن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا . الصحابي يعني به ابن عباس رضى الله عنهما ، وقوله : ( إن عامة المؤاخاة على أمر الدنيا ) هذا زمنه ، فكيف بزمننا ؟!
الثامنة : تفسير قولة : ( تقطعت بهم الأسباب ) فسرها بالمودة ، وتفسير الصحابي إذا كانت الآية من صيغ العموم تفسير بالمثال ، لأن العبرة في نصوص الكتاب والسنة بعموماتها ، فإذا ذكر فرد من أفراد هذا العموم ، فإنما يقصد به التمثيل ، أي : مثل المودة ، لكن حتى الأسباب الأخرى التي يتقربون بها إلى الله وليست بصحيحة ، فإنها تنقطع بهم ولا ينالون منها خيرا .
التاسعة : أن من المشركين من يحب الله حبا شديدا . كحب . تؤخذ من قوله تعالى ( ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله ) ، وهم يحبون الأصنام حبا شديدا ، وتؤخذ من قوله ( والذين آمنوا أشد حبا لله ) ، فاشد : اسم تفضيل يدل على الاشتراك بالمعنى مع الزيادة ، فقد اشتركوا في شدة الحب ، وزاد المؤمنون بكونهم أشد حبا لله من هؤلاء لأصنامهم .
العاشرة : الوعيد على من كان الثمانية أحب إليه من دينه . الثمانية هي المذكورة في قوله تعالى ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا ) (التوبة: 24)
والوعيد في قوله : ( فتربصوا ) ، فأفاد المؤلف رحمه الله تعالى إن الأمر هنا للوعيد.(118/38)
الحادية عشرة: أن من اتخذ ندا تساوى محبته محبة الله فهو الشرك الأكبر. لقوله تعالى: (يحبونهم كحب الله ) ، ثم بين في سياق الآيات أنهم مشركون شركا أكبر ، بدليل ما لهم من عذاب .
****
باب قوله تعالى :
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(آل عمران:175)
ــــــــــــــــــــ
مناسبة الباب لما قبله :
أن المؤلف رحمه الله أعقب باب المحبة بباب الخوف،لأن العبادة ترتكز على شيئين : المحبة ، والخوف .
فالمحبة يكون امتثال الأمر ، وبالخوف يكون اجتناب النهي ، وإن كان تارك المعصية يطلب الوصول إلى الله ، ولكن هذا من لازم ترك المعصية ، وليس هو الأساس .
فلو سألت من لا يزني لماذا ، لقال : خوفا من الله .
ولو سألت الذي يصلي ، لقال : طمعا في ثواب الله ومحبه له .
كل منهما ملازم الآخرة، فالخائف والمطيع يريدان النجاة من عذاب الله والوصول إلى رحمته.
وهل الأفضل للإنسان أن يغلب جانب الخوف أو يغلب جانب الرجاء ؟
اختلف في ذلك :
فقيل : ينبغي أن يغلب جانب الخوف ، ليحمله ذلك على اجتناب المعصية ثم فعل الطاعة.
وقيل:يغلب جانب الرجاء،ليكون متفائلا،والرسول صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل ( 1 ) .
وقيل في فعل الطاعة : يغلب جانب الرجاء ، فالذي منّ بفعل هذه الطاعة سيمن عليه بالقبول ، ولهذا قال بعض السلف : إذا وفقك الله للدعاء ، فانتظر الإجابة ، لأن الله يقول : ( قال ربكم ادعوني أستجب لكم ) ( غافر : 60 ) وفي فعل المعصية يغلب جانب الخوف ، لأجل أن يمنعه منها إذا خاف من العقوبة تاب .(118/39)
وهذا أقرب شي ، ولكن ليس بذاك القرب الكامل ، لأن الله يقول : ( وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون:60) ، أي : يخافون أن لا يقبل منهم ، لكن قد يقال بأن هذه الآية يعارضها أحاديث أخرى ، كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن ربه ( أنا عند ظن عبدي بي ، وأنا معه حين يذكرني ) ( 2 ) .
وقيل : في حال المرض يغلب جانب الرجاء ، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف ، فهذه أربعة أقوال .
وقال الإمام احمد : ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحدا ، فأيهما غلب هلك صاحبه ، أي : يجعلهما كجناحي الطائر، والجناحان للطائر إذا لم يكونا متساويين سقط .
وخوف الله تعالى درجات ، فمن الناس من يغلو في خوفه ، ومنهم من يفرط ، ومنهم من يعتدل في خوفه .
والخوف العدل هو الذي يرد عن محارم الله فقط ، وإن زدت على هذا فإنه يوصلك إلى اليأس من روح الله .
ومن الناس من يفرط في خوفه بحيث لا يردعه عما نهى الله عنه .
والخوف أقسام :
الأول : خوف العبادة والتذلل والتعظيم والخضوع ، وهو ما يسمى من خوف السر .
وهذا لا يصلح إلا لله – سبحانه وتعالى – فمن أشرك فيه مع الله غيره ، فهو مشرك شركا أكبر ، وذلك مثل : من يخاف من الأصنام أو الأموات ، أو من يزعمونهم أولياء ويعتقدون نفعهم وضرهم ، كما يفعله بعض عباد القبور : يخاف من صاحب القبر أكثر مما يخاف الله .
الثاني : الخوف الطبيعي والجبلَّي ، فهذا في الأصل مباح ، لقوله : تعالى عن موسى ( فخرج منها خائفا يترقب ) وقوله عنه أيضا : ( رب إنى قتلت منهم نفسا فأخاف أن يقتلون ) ،
لكن إن حمل على ترك واجب أو فعل محرم، فهو محرم، وإن استلزم شيئا مباحا كان مباحا ، فمثلا من خاف من شي لا يؤثر عليه وحمله هذا الخوف على ترك صلاة الجماعة مع وجوبها، فهذا الخوف محرم ، والواجب عليه أن لا يتأثر به .(118/40)
وإن هدده إنسان على فعل محرم ، فخاف وهو لا يستطيع أن ينفذ ما هدده به ، فهذا خوف محرم يؤدي إلى فعل محرم بلا عذر ، وإن رأى نارا ثم هرب منها ونجا بنفسه ، فهذا خوف مباح ، وقد يكون واجبا إذا كان يتوصل به إلى إنقاذ نفسه .
وهناك ما يسمى بالوهم وليس بخوف ، مثل أن يرى ظل شجرة تهتز ، فيظن أن هذا عدو يهدده ، فهذا لا ينبغي للمؤمن أن يكون كذلك ، بل يطارد هذه الأوهام لأنه لا حقيقة لها ، وإذا لم تطاردها ،فإنه تهلك . مناسبة الخوف للتوحيد : أن من أقسام الخوف ما يكون شركا منافيا للتوحيد .
***
وقد ذكر المؤلف فيه ثلاث آيات :
أولها ما جعلها ترجمة للباب ، وهي قوله تعالى : (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه )
( إنما ذلكم ) صيغة حصر والمشار إليه التخويف من المشركين .
( ذلكم ) : ذا : مبتدأ ، و( الشيطان) : يحتمل أن يكون خبر المبتدأ وجملة ( يخوف ) حال من الشيطان .
ويحتمل أن يكون ( الشيطان ) صفة ل (ذلكم ) ، أو عطف بيان ، ( ويخوف ) خبر المبتدأ والمعنى : ما هذا التخويف الذي حصل إلا من شيطان يخوف أولياه .
و( يخوف ) تنصب مفعولين ، الأول محذوف تقديره : يخوفكم ، والمفعول الثاني : ( أولياه) .
ومعنى يخوفكم ، أي : يوقع الخوف في قلوبكم منهم ، (أولياه ) أي : أنصاره الذين ينصرون الفحشاء والمنكر ، لأن الشيطان يأمر بذلك ، فكل من نصر الفحشاء والمنكر ، فهو من أولياء الشيطان ، ثم يكون النصر في الشرك وما ينافي التوحيد ، فيكون عظيما وقد يكون دون ذلك .
وقوله : ( يخوف أولياه ) من ذلك ما وقع في الآية التي قبلها ، حيث
قالوا : ( إن الناس قد جمعوا لكم فأخشوهم ) ( آل عمران : 173 )، وذلك ليصدوهم عن واجب من واجبات الدين ، وهو الجهاد ، فيخوفهم بذلك ، وكذلك ما يحصل في نفس من أراد أن يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر ، فيخوفه الشيطان ليصده عن هذا العمل ، وكذلك ما يقع في قلب الداعية .(118/41)
والحاصل : أن الشيطان يخوف كل من أراد أن يقوم بواجب ، فإذا ألقى الشيطان نفسك في الخوف ، فالواجب عليك أن تعلم أن الإقدام على كلمة الحق ليس هو الذي يدني الأجل ، فكم من داعية صدع بالحق ومات على فراشه ؟ وكم من جبان قتل في بيته ؟
وانظر خالد بن الوليد،كان شجاعا مقداما ومات على فراشه ، ومادام الإنسان قائما بأمر الله ، فليثق بأن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، وحزب الله هم الغالبون .
باب قول الله تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ)(البقرة:165). قوله: ( فلا تخافوهم ) . لا ناهية ، والضمير يعود على أولياء الشيطان ، وهذا النهي للتحريم بلا شك ، أي : بل أمضوا فيما أمرتكم به وفيما أوجبته عليكم من الجهاد ، ولا تخافوا هؤلاء ، وإذا كان الله مع الإنسان ، فإنه لا يغلبه أحد ، لكن نحتاج في الحقيقة إلى صدق النية والإخلاص والتوكل التام ، ولهذا قال تعالى : ( إن كنتم مؤمنين ) ، وعلم من هذه الآية أن للشيطان وساوس يلقيها في قلب ابن آدم منها التخويف من أعدائه ، وهذا ما وقع فيه كثير من الناس ، وهو الخوف من أعداء الله فكانوا فريسة لهم ، وإلا تكلموا على الله وخافوه قبل كل شي ، ومن اتقى الله اتقاه كل شي ، ومن خاف غير الله خاف من كل شي .
ويفهم من الآية أن الخوف من الشيطان وأوليائه مناف للإيمان ، فإن كان الخوف يؤدي إلى الشرك ، فهو مناف لأصله ، وإلا , فهو مناف لكماله .
وقوله : (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى
الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) (التوبة:18)
ــــــــــــــــــــــــــ
****
* الآية الثانية قوله تعالى ( إنما يعمر ) .(118/42)
( إنما ) أداة حصر ، والمراد بالعمارة العمارة المعنوية ، وهي عمارتها بالصلاة والذكر وقراءة القرآن ونحوها ، وكذلك الحسية بالبناء الحسي ، فأن عمارتها به حقيقة لا تكون إلا ممن ذكرهم الله ، لأن من يعمرها وهو لم يؤمن بالله واليوم الآخر لم يعمرها حقيقة ، لعدم انتفاعه بهذه العمارة ، فالعمارة النافعة الحسية والمعنوية من الذين آمنوا بالله واليوم الآخر ، ولهذا لما افتخر المشركون بعمارة المسجد الحرام ، قال تعالى (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر ) ، وأضاف سبحانه المساجد إلى نفسه تشريفا ، لأنها موضوع عبادته .
قوله : ( ومن آمن بالله ) . ( من ) : فاعل يعمر ، والإيمان بالله يتضمن أربعة أمور هي :
الإيمان بوجوده ، وربوبيته ، وألوهيته ، وأسمائه وصفاته .
واليوم الآخر : هو يوم القيامة ، وسمي بذلك لأنه لا يوم بعده .
وقال شيخ الإسلام : ويدخل في الأيمان بالله واليوم الآخر كل ما أخبر به النبي صلى الله عليه لأن حقيقة الأمر أن الإنسان إذا مات قامت قيامته وارتحل إلى دار الجزاء .
ويقرن الله الإيمان به بالإيمان باليوم الآخر كثيرا ، لأن الإيمان باليوم الآخر يحمل الإنسان إلى الامتثال ، فإنه إذا آمن أن هناك بعثا وجزاء ، حمله ذلك على العمل لذلك اليوم ، ولكن من لا يؤمن باليوم الآخر لا يعمل ، إذ كيف يعمل لشي وهو لا يؤمن به ؟!
قوله : ( وأقام الصلاة ) . أي : أتى بها على وجه قويم لا نقص فيه ، والإقامة نوعان :
إقامة واجبة ، وهي التي يقتصر فيها على فعل الواجب من الشروط والأركان والواجبات.
و إقامة مستحبة : وهي التي يزيد فيها على فعل ما يجب فيأتي بالواجب والمستحب .
و قوله : ( وآتي الزكاة ) . ( آتي ) تنصب مفعولين : الأول هنا الزكاة ، والثاني : محذوف تقديره مستحقها .(118/43)
والزكاة : هي المال الذي أوجبه الشارع في الأموال الزكوية وتختلف مقاديرها حسب ما تقتضيه حكمة الله – عز وجل - .
وقوله : ( ولم يخش إلا الله ) . في هذه الآية حصر طريقة الإثبات والنفي .
( لم يخش ) نفي ، ( إلا الله ) إثبات ، والمعنى : أن خشيته انحصرت في الله -عز وجل ، فلا يخشى غيره .
والخشية نوع من الخوف ، لكنها أخص منه والفرق بينهما :
1. أن الخشية تكون مع العلم بالمخشي وحاله ، لقوله تعالى ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) ( فاطر : 28 ) ، والخوف قد يكون من الجاهل .
2. أن الخشية تكون بسبب عظمة المخشى ، بخلاف الخوف ، فقد يكون من ضعف الخائف لا من قوة المخّوف .
قوله : ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) . قال ابن عباس : ( عسى من الله واجبه )( 1 ) وجاءت بصيغة الترجي، لئلا يأخذ الإنسان الغرور بأنه حصل على هذا الوصف ، وهذا كقوله تعالى: ( إلا المستضعفين من الرجال والنساء والوالدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون * فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً ) ( النساء : 98- 99) فالله لا يكلف نفسا إلا وسعها ، فالذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا جديرون بالعفو . الشاهد من الآية: قوله:(ولم يخش إلا الله ) ، ولهذا قال تعالى : ( فلا تخشوا الناس واخشون ) ( المائدة : 44) ومن علامات صدق الإيمان أن لا يخشى إلا الله في كل ما يقول ويفعل .
ومن أراد أن يصحح هذا المسير ، فليتأمل قول الرسول صلى الله عليه وسلم : ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك )( 2 ) .
وقوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) (العنكبوت: من الآية10) .(118/44)
ــــــــــــــــــــــــ
الآية الثالثة قوله تعالى : ( ومن الناس ) . جار ومجرور خبر مقدم ، ( ومن ) تبعيضية.
وقوله : ( من يقول ) . ( من ) : مبتدأ مؤخر ، والمراد بهؤلاء : من لا يصل الإيمان إلى قرارة قلبه ، فيقول : آمنا بالله ، لكنه إيمان متطرف ، كقوله تعالى : ( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ) ( الحج : 11) ، (على حرف )،أي : على طرف .
فإذا امتحنه الله بما يقدر عليه من إيذاء الأعداء في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله .
قوله : ( فإذا أوذى في الله ) ( في ) : للسببية ، أي : بسبب الإيمان بالله وإقامة دينه .
ويجوز أن تكون ( في ) للظرفية على تقدير : ( فإذا أوذى في شرع الله ) ، أي : إيذاء في هذا الشرع الذي تمسك به .
قوله : ( جعل فتنة الناس ) . ( جعل ) : صيّر ، والمراد بالفتنة هنا الإيذاء ، وسمي فتنة ، لأن الإنسان يفتن به ، فيصد عن سبيل الله ، كما قال تعالى :( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ )(البروج: من الآية10) ، وأضاف الفتنة إلى الناس من باب إضافة المصدر إلى فاعله .
قوله : ( كعذاب الله ) . ومعلوم أن الإنسان يفر من عذاب الله ، فيوافق أمره ، فهذا يجعل فتنة الناس كعذاب الله ، فيفر من إيذائهم بموافقة أهوائهم وأمرهم جعلا
لهذه الفتنة كالعذاب ، فحينئذ يكون قد خاف من هؤلاء كخوفه من الله ، لأنه جعل إيذاءهم كعذاب الله ، ففر منه بموافقة أمرهم ، فالآية موافقة للترجمة .
وفي هذه الآية من الحكمة العظيمة ، وهي ابتلاء الله للعبد لأجل أن يمحص إيمانه ، وذلك على قسمين :(118/45)
الأول : ما يقدره الله نفسه على العبد ، كقوله تعالى:( ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن قلبه وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة)(الحج : 11 ) وقوله تعالى: ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله و إنا إليه راجعون ) (البقرة : 155-156 ) .
الثاني : ما يقدره الله على أيدي الخلق من الإيذاء امتحانا واختبارا ، وذلك كالآية التي ذكر المؤلف . وبعض الناس إذا أصابته مصائب لا يصبر ، فيكفر ويرتد أحيانا – والعياذ بالله - ، وأحيانا يكفر بما خالف فيه أمر الله – عز وجل – في موقفه في تلك المصيبة ، وكثير من الناس ينقص إيمانه بسبب المصائب نقصا عظيما ، فليكن المسلم على حذر ، فالله حكيم يمتحن عباده بما يتبين به تحقق الإيمان ، قال تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) (محمد:31)
قوله : ( الآية ) أي : إلى آخر الآية ، وهي قوله تعالى ( ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) .
كانوا يدعون أن ما يحصل لهم من الإيذاء بسبب الإيمان ، فإذا انتصر المسلمون قالوا : نحن معكم نريد أن يصيبنا مثل ما أصابكم من غنيمة وغيرها .
وقوله تعالى ( أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) . قيل في مثل هذا السياق : إن الواو عاطفة على محذوف يقدر بحسب ما يقتضيه السياق .
وقيل : إنها عاطفة على ما سبقها على تقدير أن الهمزة بعده ، أي : وأليس الله .
قوله : ( أعلم ) مجرور بالفتحة ، لأنه ممنوع من الصرف للوصفية ووزن الفعل .
فالله أعلم بما في صدور العالمين ، أي بما في صدور الجميع ، فالله أعلم بما في نفسك منك ، وأعلم بما في نفس غيرك ، لأن علم الله عام .(118/46)
وكلمة ( أعلم ) : اسم تفضيل ، وقال بعض المفسرين ولا سيما المتأخرون منهم : ( أعلم ) بمعنى عالم ، وذلك فرارا من أن يقع التفضيل بين الخالق والمخلوق ، وهذا التفسير الذي ذهبوا إليه كما أنه خلاف اللفظ ، ففيه فساد للمعنى ، لأنك إذا قلت : أعلم بمعنى عالم ،فإن كلمة عالم تكون لإنسان وتكون لله ، ولا تدل على التفاضل ، فالله عالم والإنسان عالم .
وأما تحريم اللفظ ، فهو ظاهر ، حيث حرفوا اسم التفضيل الدال على ثبوت المعنى وزيادة إلى اسم فاعل لا يدل على ذلك .
والصواب أن ( أعلم ) على بابها ، وأنها اسم تفضيل ، وإذا كانت اسم تفضيل ، فهي دالة دلالة واضحة على عدم تماثل علم الخالق وعلم المخلوق ، وأن علم الخالق أكمل .
وقوله : ( بما في صدور العالمين ) . المراد بالعالمين : كل من سوى الله ، لأنهم علم على خالقهم ، فجميع المخلوقات دالة على كمال الله وقدرته وربوبيته .
والله أعلم بنفسك منك ومن غيرك ، لعموم الآية .
وفي الآية تحذير من أن يقول الإنسان خلاف ما في قلبه ، ولهذا لما تخلف
كعب بن مالك في غزوة تبوك قال للرسول صلى الله عليه وسلم حين رجع : إني قد أُوتيت جدلا ، ولو جلست إلى غيرك من ملوك الدنيا ، لخرجت منهم بعذر ، لكن لا أقول شيئا تعذرني فيه فيفضحني الله فيه ) ( 2 ) .
الشاهد من الآية : قوله : ( فإذا أُوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ) فحذف الناس مثل خوف الله تعالى .
عن أبي سعيد رضى الله عنه مرفوعا : (إن من ضعف اليقين أن ترضي الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله، أن رزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره)(1)
ــــــــــــــــــــــــ
****
قوله في حديث أبي سعيد : ( إن من ضعف اليقين ) . ( من ) للتبعيض ، والضعف ضد القوة ، ويقال : ضَعف بفتح الضاد ، أو ضُعف بضم الضاد ، وكلاهما بمعني واحد ، أي من علامة ضعف اليقين .(118/47)
قوله : (أن ترضى الناس ) . ( أن ترضى الناس ) : اسم مؤخر ، و( من ضعف اليقين ) خبرها مقدما ، والتقدير : إن إرضاء الناس بسخط الله من ضعف اليقين .
قوله : ( بسخط الله ) . الباء للعوض، يعني : أي تجعل عوض إرضاء الناس سخط الله ، فتستبدل هذا بهذا ، فهذا من ضعف اليقين .
واليقين أعلى درجات الإيمان ، وقد يراد به العلم ، وكما تقول : تيقنت هذا الشي ، أي علمته يقينا لا يعتريه الشك ، فمن ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله ، إذ إنك خفت الناس أكثر مما تخاف الله ، وهذا مما ابتليت به الأمة الإسلامية اليوم ، فتجد الإنسان يجيء إلى شخص فيمدحه ، وقد يكون خاليا من هذا المدح ، ولا يبين ما فيه من عيوب ، وهذا من النفاق وليس من النصح والمحبة ، بل النصح أن تبين له عيوبه ليتلافاها ويحترز منها ، ولا بأس أن تذكر له محامده تشجيعا إذا أُمن في ذلك من الغرور.
قوله:( وأن تحمدهم على رزق الله ) . الحمد : وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
ولكن هنا ليس بشرط المحبة والتعظيم ، لأنه يشمل المدح .
و ( رزق الله ) : عطاء الله ، أي : إذا أعطوك شيئا حمدتهم ونسيت المسبب وهو الله ، والمعنى : أن تجعل الحمد كله لهم متناسيا بذلك المسبب ، وهو الله ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إنما أنا قاسم ، والله يعطي ) ( 1 ).
أما إن كان في قلبك أن الله هو الذي من عليك بسياق هذا الرزق ، ثم شكرت الذي أعطاك ، فليس هذا داخلا في الحديث ، بل هو من الشرع ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( من صنع إليكم معروفا، فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئوه به، فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه)( 1 ).(118/48)
إذاً الحديث ليس على ظاهره من كل وجه ، فالمراد بالحمد : أن تحمدهم الحمد المطلق ناسيا أن المسبب هو الله – عز وجل – وهذا من ضعف اليقين ، كأنك نسيت المنعم الأصلي ، وهو الله – عز وجل – الذي له النعمة الأولى ، وهو سفه أيضا ، لأن حقيقة الأمر أن الذي أعطاك هو الله ، فالبشر الذي أعطاك هذا الرزق لم يخلق ما أعطاك ، فالله هو الذي خلق ما بيده ، وهو الذي عطف قلبه حتى أعطاك ، أرأيت لو أن إنسانا له طفل ، فأعطى طفله ألف درهم وقال له : أعطها فلانا ، فالذي أحذ الدراهم يحمد الأب، لأنه لو حمد الطفل فقط لعد هذا سفها، لأن الطفل ليس إلا مرسلا فقط ، وعلى هذا ، فنقول : إنك إذا حمدتهم ناسيا بذلك ما يجب لله من الحمد والثناء ، فهذا هو الذي من ضعف اليقين ، أما إذا حمدتهم على أنهم سبب من الأسباب ، وأن الحمد كله لله – عز وجل - ، فهذا حق ، وليس من ضعف اليقين .
قوله : ( وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله ) . هذه عكس الأولى ، فمثلا : لو أن إنسانا جاء إلى شخص يوزع دراهم ، فلم يعطه ، فسبه وشتمه ، فهذا من الخطأ لأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن .
لكن من قصر بواجب عليه ، فيذم لأجل أنه قصر بالواجب لا لأجل لأنه لم يعط ، فلا يذم من حيث القدر ، لأن الله لو قدر ذلك لوجدت الأسباب التي يصل بها إليك هذا العطاء .
وقوله : ( ما لم يؤتك ) . علامة جزمه حذف الياء ، والمفعول الثاني محذوف ، لأنه فضلة، والتقدير : ما لم يؤتك .
قوله : ( إن رزق الله لا يجره حرص حريص ولا يرده كراهية كاره )
هذا تعليل ، لقوله : ( أن تحمدهم وأن تذمهم ) .(118/49)
و( رزق الله ) : عطاؤه ، لكن حرص الحريص من سببه بلا شك ، فإذا بحث عن الرزق وفعل الأسباب ، فإنه يكون فعل الأسباب الموجبة للرزق ، لكن ليس المعنى أن هذا السبب موجب مستحق ، وإنما الذي يرزق هو الله تعالى ، وكم من إنسان يفعل أسبابا كثيرة للرزق ولا يرزق ، وكم من إنسان يفعل أسباب قليلة فيرزق، وكم من إنسان يأتيه الرزق بدون سعي، كما لو وجد ركازا في الأرض أو مات له قريب غني يرثه ، أو ما أشبه ذلك .
وقوله : _ ولا يرده كراهية كاره ) . أي : أن رزق الله إذا قدر للعبد ، فلن يمنعه عنه كراهية كاره ، فكم من إنسان حسده الناس ، وحاولوا منع رزق الله فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا .
وعن عائشة رضى الله عنها ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (من التمس
ــــــــــــــــــــ
****
قوله في حديث عائشة رضى الله عنها : ( من التمس رضا الله بسخط الناس ) .
( التمس ) : طلب ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر:( التمسوها في العشر ) ( 1 )
رضا الله بسخط الناس، رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله، سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) رواه ابن حبان في (صحيحه)(1) .
ـــــــــــــــــــــــ
قوله : ( رضا الله ) . أي : أسباب رضاه ، وقوله : ( بسخط الناس ) : الباء للعوض ، أي أنه طلب ما يرضي الله ولو سخط الناس به بدلا من هذا الرضا ، وجواب الشرط : ( رضى الله عنه وأرضى عنه الناس ) .
وقوله : ( رضى الله عنه وأرضى الناس ) . هذا ظاهر ، فإذا التمس العبد رضا ربه بنية صادقة رضى الله عنه ، لأنه أكرم من عبده ، وأرضى عنه الناس ، وذلك بما يلقى في قلوبهم من الرضا عنه ومحبته ، لأن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .(118/50)
قوله : ( ومن التمس رضا الناس بسخط الله ) . ( التمس ) : طلب ، أي: طلب ما يرضى الناس ، ولو كان يسخط الله ، فنتيجة ذلك أن يعامل بنقيض قصده ، ولهذا قال : ( سخط الله عليه وأسخط عليه الناس ) ، فألقى في قلوبهم سخط وكراهيته .
مناسبة الحديث للترجمة :
قوله : ( من التمس رضا الناس بسخط الله ) ، أي : خوفا منهم حتى يرضوا عنه ، فقدم خوفهم على مخافة الله تعالى .
فيستفاد من الحديث ما يلي :
1. وجوب طلب ما يرضي الله وإن سخط الناس ، لأن الله هو الذي ينفع ويضر .
2. أنه لا يجوز أن يلتمس ما يسخط الله من أجل إرضاء الناس كائنا من كان .
3. إثبات الرضا والسخط لله على وجه الحقيقة ، لكن بلا مماثلة للمخلوقين ، لقوله تعالى : ( ليس كمثله شي ) وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، وأما أهل التعطيل، فأنكروا حقيقة ذلك ، قالوا : لأن الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام ، وهذا لا يليق بالله ، وهذا خطأ ، لأنهم قاسوا سخط الله أو غضبه بغضب المخلوق ، فنرد عليهم بأمرين : بالمنع ، ثم النقض :
فالمنع : أن تمنع أن يكون معنى الغضب المضاف إلى الله - عز وجل – كغضب المخلوقين .
والنقض : فنقول للأشاعرة : أنتم أثبتم لله – عز وجل – الإرادة ، وهي ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة ، والرب عز وجل لا يليق به ذلك ، فإذا قالوا : هذه إرادة المخلوق . نقول : والغضب الذي ذكرتم هو غضب المخلوق .
وكل إنسان أبطل ظواهر النصوص بأقيسة عقلية ، فهذه الأقيسة باطلة لوجوه :
الأول : أنها تبطل دلالة النصوص، وهذا يقتضي أن تكون هي الحق ومدلول النصوص باطل، وهذا ممتنع .
الثاني : أن تقول على الله بغير علم ، لأن الذي يبطل ظاهر النص يؤوله إلى معنى آخر ، فيقال له : ما الذي أدراك أن الله أراد هذا المعنى دون ظاهر النص ؟ ففيه تقول على الله في النفي والإثبات في نفي الظاهر ، وفي إثبات ما لم يدل عليه دليل .(118/51)
الثالث : أن فيه جناية على النصوص ، حيث اعتقد أنها دالة على التشبيه ، لأنه لم يعطل إلا لهذا السبب ، فيكون ما فهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كفرا أو ضلالا .
الرابع : أن فيه طعنا في الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، لأننا نقول : هذه المعاني التي صرفتم النصوص إليها هل الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه يعلمون بها أم لا ؟
فإن قالوا : لا يعلمون ، فقد اتهموهم بالقصور ، وإن قالوا : يعلمون ولم يبينوها ، فقد اتهموهم بالتقصير .
فلا تستوحش من نص دل على صفة أن تثبتها. لكن يجب عليك أن تجتنب أمرين هما :
التمثيل والتكييف ، لقوله تعالى ( فلا تضربوا لله الأمثال ) ( النحل :74 ) وقوله : ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء:36)
فإذا أثبت الله لنفسه وجها أو يدين ، فلا تستوحش من إثبات ذلك ، لأن الذي أخبر به عن نفسه أعلم بنفسه من غيره وأصدق قيلا وأحسن حديثا ، وهو يريد لخلقه الهداية ، وإذا أثبت رسوله ذلك له ، فلا تستوحش من إثباته ، لأنه صلى الله عليه وسلم : أصدق الخلق ، وأعلمهم بما يقول عن الله ، وأبلغهم نطقا وفصاحة ، وأنصح الخلق للخلق.
فمن أنكر صفة أثبتها الله لنفسه أو أثبتها له رسوله ، وقال : هذا تقشعر منه الجلود وتنكره القلوب ، فيقال : هذا لا ينكره ، فيقال : هذا لا ينكره إلا إنسان في قلبه مرض ، أما الذين آمنوا ، فلا تنكره قلوبهم ، بل تؤمن به وتطمئن إليه ، ونحن لم نكلف إلا بما بلغنا ، والله يريد لعباده البيان والهدى ، قال تعالى ( يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (النساء:26) ، فهو لا يريد أن يعمى عليهم الأمر ، فيقول : إنه يغضب وهو لا يغضب ، وقول : إنه يهرول وهو لا يهرول ، هذا خلاف البيان .
فيه مسائل :(118/52)
الأولى : تفسير آية آل عمران . وهي قوله تعالى ( إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وسبق .
الثانية : تفسير آية براءة . وهي قوله تعالى ( إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ). وسبق .
الثالثة : تفسير آية العنكبوت . وهي قوله تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّه) . وقد تكلمنا على تفسيرها فيما سبق .
الرابعة:أن اليقين يضعف ويقوى . تؤخذ من الحديث : ( إن من ضعف اليقين ... ) الحديث .
الخامسة : علامة ضعفه ، ومن ذلك هذه الثلاث . وهي أن ترضى الناس بسخط الله ، وأن تحمدهم على رزق الله ، وأن تذمهم على ما لم يؤتك الله .
السادسة:أن إخلاص الخوف لله من الفرائض.وتؤخذ من قوله في الحديث:(من التمس ) الحديث ، ووجهة ترتيب العقوبة على من قدم رضا الناس على رضا الله تعالى .
السابعة : ذكر ثواب من فعله . وهو رضا الله عنه ، وأن يرضى عنه الناس ، وهو العاقبة الحميدة .
الثامنة : ذكر عقاب من تركه . وهو أن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس ، ولا ينال مقصوده .
وخلاصة الباب :
أنه يجب على المرء أن يجعل الخوف من الله فوق كل خوف ، وأن لا يبالي بأحد في شريعة الله تعالى ، وأن يعلم أن من التمس رضا الله تعالى وإن سخط الناس عليه ، فالعاقبة له ، وإن التمس رضا الناس وتعلق بهم وأسخط الله ، انقلبت عليه الأحوال ، ولم ينل مقصوده ، بل حصل له عكس مقصوده ، وهو أ ن يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس .
***(118/53)
باب قول الله تعالي :( وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)(المائدة: من الآية23)
ــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لما قبله :
هي أن الإنسان إذا أفرد الله –سبحانه – بالتوكل ، فإنه يعتمد عليه في حصول مطلوبه وزوال مكروهه ، ولا يعتمد على غيره .
والتوكل : هو الاعتماد على الله – سبحانه وتعالى – في حصول المطلوب ، ودفع المكروه ، مع الثقة به وفعل السباب المأذون فيها ، وهذا أقرب تعريف له ، ولا بد من أمرين :
الأول : أن يكون الاعتماد على الله اعتمادا صادقا حقيقيا .
الثاني : فعل الأسباب المأذون فيها .
فمن جعل أكثر اعتماده على الأسباب ، نقص توكله على الله ، ويكون قادحا في كفاية الله ، فكأنه جعل السبب وحده هو العمدة فيما يصبو إليه من حصول المطلوب وزال المكروه .
ومن جعل اعتماده على الله ملغيا للأسباب ، فقد طعن في حكمة الله ، لأن الله جعل لكل شي سببا ، فمن اعتمد على الله اعتمادا مجردا ، كان قادحا في حكمة الله ، لأن الله حكيم ، يربط الأسباب بمسبباتها ، كمن يعتمد على الله في حصول الولد وهو لا يتزوج .
والنبي صلى الله عليه وسلم أعظم المتوكلين ، ومع ذلك كان يأخذ بالأسباب ، فكان يأخذ الزاد في السفر ، ولما خرج إلى أُحد ظاهر بين درعين ، أي : لبس درعين اثنين، ( 1) ولما خرج مهاجرا أخذ من يدله الطريق( 2 )ولم يقل سأذهب مهاجرا وأتوكل على الله ، ولن أصطحب معي من يدلني الطريق ، وكان صلى الله عليه وسلم يتقي الحر والبرد ، ولم ينقص ذلك من توكله .
ويذكر عن عمر رضى الله عنه أنه قدم ناس من أهل اليمن إلى الحج بلا زاد ، فجيء بهم إلى عمر ، فسألهم فقالوا : نحن المتوكلون على الله . فقال : لستم المتوكلين ، بل المتواكلون .
والتوكل نصف الدين ولهذا نقول في صلاتنا ( إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (الفاتحة:5)(118/54)
فنطلب من الله العون اعتمادا عليه سبحانه بأنه سيعيننا على عبادته .
وقال تعالى : ( فاعبده وتوكل عليه ) ( هود :123) وقال تعالى : ( عليه توكلت وإليه أنيب ) ( هود : 88 ) ، ولا يمكن تحقيق العبادة إلا بالتوكل ، لأن الإنسان لو ُوكل إلى نفسه وُكل إلى ضعف وعجز ، ولم يتمكن من القيام بالعبادة ، فهو حين يعبد الله يشعر أنه متوكل على الله ، فينال بذلك أجر العبادة وأجر التوكل ، ولكن الغالب عندنا ضعف التوكل ، وأننا لا نشعر حين نقوم بالعبادة أو العادة بالتوكل على الله والاعتماد عليه في أن ننال هذا الفعل ، بل نعتمد في الغالب على الأسباب الظاهرة وننسى ما وراء ذلك،فيفوتنا ثواب عظيم ، وهو ثواب التوكل ، كما أننا لا نوفق إلى الحصول المقصود كما هو الغالب سواء حصل لنا عوارض توجب انقطاعها أو عوارض توجب نقصها .
والتوكل ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : توكل عبادة وخضوع ، وهو الاعتماد المطلق على من توكل عليه ، بحيث يعتقد أن بيده جلب النفع ودفع الضر ، فيعتمد عليه اعتمادا كاملا ، مع شعوره بافتقاره إليه ، فهذا يجب إخلاصه لله تعالى ، ومن لغير الله ، فهو مشرك شركا أكبر ، كالذين يعتمدون على الصالحين من الأموات والغائبين ، وهذا لا يكون إلا ممن يعتقد أن لهؤلاء تصرفا خفيا في الكون ، فيعتمد عليهم في جلب المنافع ودفع المضار.
الثاني : الاعتماد على شخص في رزقه ومعاشه وغير ذلك ، وهذا من الشرك الأصغر ، وقال بعضهم:من الشرك الخفي، مثل اعتماد كثير من الناس على وظيفته في حصوله على رزقه ، ولهذا تجد الإنسان يشعر من نفسه أنه معتمد على هذا اعتماد افتقار ، فتجد في نفسه من المحاباة لمن يكون هذا الرزق عنده ما هو ظاهر ، فهو لم يعتقد أنه مجرد سبب ، بل جعله فوق السبب .(118/55)
الثالث : أن يعتمد على شخص فيما فوّض إليه التصرف فيه ، كما لو وكلت شخصا في بيع شي أو شرائه ، وهذا لا شي فيه ، لأنه اعتمد عليه وهو يشعر أن المنزلة العليا له فوقه ، لأنه جعله نائبا عنه ، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم علي ابن أبي طالب أن يذبح ما بقى من هديه ( 2 )، وككل أبا هريرة على الصدقة ( 3 )، ووكل عروة بن الجعد أن يشتري له شاه ( 4 )، وهذا بخلاف القسم الثاني ، لأنه يشعر بالحاجة إلى ذلك ، ويرى اعتماده على المتوكل عليه اعتماد افتقار .
ومما سبق يتبين أن التوكل من أعلى المقامات ، وأنه يجب على الإنسان أن يكون مصطحبا له في جميع شؤونه ، قال شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله : ( و لا يكون للمعطلة أن يتوكلوا على الله ولا المعتزلة للمعتزلة القدرية ) لأن المعطلة يعتقدون انتفاء الصفات عن الله تعالى ، والإنسان لا يعتمد إلا على من كان كامل الصفات المستحقة لأنه يعتمد عليه .
وكذلك القدرية ، لأنهم يقولون : إن العبد مستقل بعمله ، والله ليس له تصرف في أعمال العباد.
ومن ثم نعرف أن طريق السلف هو خير الطرق ، وبه تكمل جميع العبادات وتتم به جميع أحوال العابدين .
****
وقد ذكر المؤلف في هذا الباب أربع آيات ، أولها ما جعله ترجمة للباب وهي :
قوله تعالى:(وعلى الله فتوكلوا ) . ( على الله ) متعلقة بقوله : ( فتوكلوا ) ، أي : اعتمدوا .
والفاء لتحسين اللفظ وليست عاطفة ، لأن في الجملة حرف عطف وهو الواو ، ولا يمكن أن نعطف الجملة بعاطفين ، فتكون لتحسين اللفظ ، كقوله تعالى:(بل الله فاعبد ) و التقدير:(بل الله اعبد ) .
قوله ( إن كنتم مؤمنين ) . ( إن ) : شرطية ، وفعل الشرط ( كنتم ) ، وجوابه قيل إنه محذوف دل عليه ما قبله ، وتقدير الكلام : إن كنتم مؤمنين فتوكلوا ، وقيل : إنه في مثل هذا التركيب لا يحتاج إلى جواب اكتفاء بما سبق ، فيكون ما سبق كأنه فعل معلق بهذا الشي ، وهذا أرجح ، لأن الأصل عدم الحذف .(118/56)
وقول أصحاب موسى في هذه الآية يفيد أن التوكل من الإيمان ومن مقتضياته ، كما لو قلت : إن كنت كريما فأكرم الضيف . فيقتضي أن إكرام الضيف من الكرم .
وهذه الآية تقتضي انتفاء كمال الإيمان بانتفاء التوكل على الله ، إلا إن حصل اعتماد كلى على غير الله ، فهو شرك أكبر ينتفي له الإيمان كله .
وقوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوُبهُم) (لأنفال: من الآية2)
ـــــــــــــــــــــ
****
الآية الثانية : قوله تعالى : ( إنما المؤمنون ) . ( إنما ) : أداة حصر ، والحصر هو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما عداه ، والمعنى : ما المؤمنون إلا هؤلاء.
وذكر الله تعالى في هذه الآية وما بعدها خمسة أوصاف :
أحدهما: قوله : ( الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم )، أي : خافت لما فيه من تعظيم الله تعالى ، مثال ذلك : رجل هم بمعصية ، فذكر الله أو ذكر به ، وقيل له : اتق الله . فإن كان مؤمنا ، فإنه سيخاف ، وهذا هو علامة الإيمان .
الوصف الثاني : قوله : ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) ، أي : تصديق وامتثالا ، وفي هذا دليل على أن الإنسان قد ينتفع بقراءة غيره أكثر مما ينتفع بقراءة نفسه كما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود أن يقرأ عليه ، فقال :
كيف أقرأ عليك وعليك أُنزل ؟ فقال: (إني أُحب أن أسمعه من غيري ) فقرأ عليه سورة النساء حتى بلغ قوله تعالى : ( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً) (النساء:41) . قال : ( حسبك ) فنظرت ، فإذا عيناه تذرفان( 1 )
الوصف الثالث : قوله : ( وعلى ربهم يتوكلون ) . أي : يعتمدون على الله لا على غيره ، وهم مع ذلك يعملون الأسباب ، وهذا هو الشاهد .
الوصف الرابع : قوله : ( الذين يقيمون الصلاة ) أي : يأتون بها مستقيمة كاملة ، والصلاة : اسم جنس تشمل الفرائض والنوافل .(118/57)
الوصف الخامس : قوله : ( ومما رزقناهم ينفقون ) . ( من ) للتبعيض ، فيكون الله يمدح من أنفق بعض ماله لا كله، أو تكون لبيان الجنس، فيشمل الثناء من أنفق البعض ومن أنفق الكل ، والصواب : أنها لبيان الجنس ، وأن من أنفق الكل يدخل في الثناء إذا توكل على الله تعالى في أن يرزقه وأهله كما فعل أبو بكر( 2 ) ، أما إن كان أهله في حاجة أو كان المنفق عليه ليس بحاجة ماسة تستلزم إنفاق المال كله ، فلا ينبغي أن ينفق ماله عليه .
****
قوله : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ........) (لأنفال:64) الآية .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثالثة قوله تعالى : ( يا أيها النبي ) . المراد به الرسول صلى الله عليه وسلم يخاطب الله رسوله بوصف النبوة أحيانا ، فحينما يأمره أن يبلغ يناديه بوصف الرسالة ، وأما في الأحكام الخاصة ، فالغالب أن يناديه بوصف النبوة ، قال تعالى : ( يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك )( التحريم : 1 ) وقال تعالى : ( يا أيها النبي إذا طلقتم النساء ) ( الطلاق : 1 ) .
و ( النبي ) فعيل بمعنى مفعل بفتح العين ومفعل بكسرها ، أي : منبأ ، ومنبئي ، فالرسول صلى الله عليه وسلم منبأ من قبل الله ، ومنبئ لعباد الله .
قوله : ( حسبك الله ) . أي : كافيك ، والحسب : الكافي ، ومنه قوله أعطى درهما فحسب ، وحسب خبر مقدم ، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر، والمعنى: ما الله إلا حسبك ، ويجوز العكس ، أي : أن تكون حسب مبتدأ ولفظ الجلالة خبره ، ويكون المعنى : ما حسبك إلا الله وهذا هو الأرجح .(118/58)
قوله : ( ومن اتبعك من المؤمنين ) . ( من ) : اسم موصول مبنية على السكون ، وفي عطفها رأيان لأهل العلم : قيل : حسبك الله ، وحسبك من اتبعك من المؤمنين ، ف ( من ) معطوفة على الله لأنه أقرب ، ولو كان العطف على الكاف في حسبك ، لوجب إعادة الجار ، وهذا كقوله تعالى ( هو الذي أيدك بنصره والمؤمنين ) ( الأنفال :62) ، فالله أيد رسوله بالمؤمنين ، فيكونون حسبا له كما كان الله حسبا له .
وهذا ضعيف ، والجواب عنه من وجوه :
أولا : قولهم : عطف عليه لكونه أقرب ليس بصحيح ، فقد يكون العطف على شيء سابق ، حتى أن النحويين قالوا : إذا تعددت المعطوفات يكون العطف على الأول .
ثانيا : قولهم : لوعطف على الكاف لوجب إعادة الجار ، والصحيح أنه ليس بلازم ، كما قال ابن مالك :
ليس عندي لازما إذ قد أتى في النثر والنظم الصحيح مثبتا
ثالثا : استدلالهم بقوله تعالى ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) .
فالتأييد لهم غير كونهم حسبه ، لأن المعنى كونهم حسبه أن يعتمد عليهم ، ومعنى كونهم يؤيدونه أي ينصرونه مع استقلاله بنفسه ، وبينهما فرق .
رابعا : أن الله – سبحانه وتعالى – حينما يذكر الحسب يخلصه لنفسه ، قال تعالى : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ)(لتوبة:59) ففرق بين الحسب والإيتاء ، وقال تعالى(قل حسبي الله عليه يتوكل المؤمنون)(الزمر: 38) فكما أن التوكل على غير الله لا يجوز ، فكذلك الحسب لا يمكن أن يكون غير الله حسبا ، فلو كان ، لجاز التوكل عليه ، ولكن الحسب هو الله ، وهو الذي عليه يتوكل المتوكلون .(118/59)
خامسا : أن في قوله : ( ومن اتبعك ) ما يمنع الصحابة حسبا للرسول صلى الله عليه وسلم ، وذلك لأنهم تابعون ، فكيف يكون التابع حسبا للمتبوع ؟ هذا لا يستقيم أبدا ، فالصواب أنه معطوف على الكاف في قوله : ( حسبك ) ، أي : وحسب من أتبعك من المؤمنين ، فتوكلوا عليه جميعا أنت ومن اتبعك .
قوله : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) (الطلاق : 3) الآية .
ـــــــــــــــــــــ
****
الآية الرابعة : قوله تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) . جملة شرطية تفيد بمنطوقها أن من يتوكل على الله ، فإن الله يكفيه مهماته وييسر له أمره ، فالله حسبه ولو حصل بعض الأذية ، فإن الله يكفيه الأذى ، والرسول صلى الله عليه وسلم سيد المتوكلين ، ومع ذلك يصيبه الأذى ولا تحصل له المضرة ، لأن الله حسبه ، فالنتيجة لمن اعتمد على الله أن يكفيه ربه المؤونة .
والآية تفيد بمفهومها أن من توكل على غير الله خذل ، لأن غير الله لا يكون حسبا كما تقدم ، فمن توكل على غير الله تخلى عنه ، وصار موكولا إلى هذا الشي ولم يحصل له مقصوده ، وابتعد عن الله بمقدار توكله على غير الله .
وعن ابن عباس ، قال : (حسبنا الله ونعم الوكيل) ، قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقى في النار،وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له:(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)(آل عمران:173) . رواه البخاري (1) .
ــــــــــــــــــــــ
****
قوله في أثر ابن عباس رضى الله عنهما:" قال محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: ( إن الناس قد جمعوا لكم ) .(118/60)
وهذا في نص القرآن لما انصرف أبو سفيان من أُحد أراد أن يرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليقضي عليهم بزعمه ، فلقي ركبا فقال لهم : إلى أين ذهبون ؟ قالوا نذهب إلى المدينة . فقال : بلغوا محمدا وأصحابه أنّا راجعون إليهم فقاضون عليهم . فجاء الركب إلى المدينة، فبلغوهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه: حسبنا الله ونعم الوكيل . وخرجوا في نحو سبعين راكبا ، حتى بلغوا حمراء الأسد ، ثم إن أبا سفيان تراجع عن رأيه وانصرف إلى مكة ، وهذا من كفاية الله لرسوله وللمؤمنين ، حيث اعتمدوا عليه تعالى .
قوله : ( قال لهم الناس ) . أي : الركب .
قوله : ( إن الناس ) . أي : أبا سفيان ومن معه ، وكلمة الناس يمثل بها الأصوليون للعام الذي أُريد به الخصوص .
قوله : ( حسبنا ) . أي : كافينا ، وهي مبتدأ ولفظ الجلالة خبره .
قوله : ( نعم الوكيل ) . ( نعم ) : فعل ماضي ، ( الوكيل ) : فاعل ، والمخصوص محذوف تقديره : هو ، أي : الله ، والوكيل : المعتمد عليه سبحانه ، والله – سبحانه –يطلق عليه اسم وكيل، وهو أيضا مُوكّل، والوكيل في مثل قوله تعالى: ( نعم الوكيل )، وقوله تعالى: ( وكفى بالله وكيلا ) ( النساء : 81) ، وأما الموكل ، ففي مثل قوله تعالى : ( فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها كافرين ) ( الأنعام :89)
وليس المراد بالتوكيل هنا إنابة الغير فيما يحتاج إلى الاستنابة فيه ، فليس توكيله سبحانه من حاجة له ، بل المراد بالتوكيل الاستخلاف في الأرض لينظر كيف يعملون .
وقول ابن العباس رضى الله عنهما : " إن إبراهيم قالها حين أُلقى في النار " قول لا مجال للرأي فيه ، فيكون له حكم الرفع .
وابن عباس ممن يروي عن بني إسرائيل ، فيحتمل أنه أخذه منه ، ولكن جزمه بهذا ، وقرنه لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم مما يبعد أن يكون أخذه من بني إسرائيل.(118/61)
الشاهد من الآية : قوله تعالى:(وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ) حيث جعلوا حسبهم الله وحده .
( تنبيه ) :
قولنا : " وابن عباس ممن يروى عن بني إسرائيل " قول مشهور عند علماء المصطلح ، لكن فيه نظر ، فإن ابن عباس رضى الله عنهما ممن ينكر الأخذ عن بني إسرائيل ، ففي ( صحيح البخاري ) ( 5/291 – فتح ) أنه قال ( يا معشر المسلمين ! كيف تسألون أهل الكتاب وكتابكم الذي أُنزل على نبيه صلى الله عليه وسلم أحدث الأخبار بالله تقرؤونه لم يُشب ، وقد حدثكم الله أن أهل الكتاب بدلوا ما كتب الله وغيروا بأيديهم الكتاب ؟ ! فقالوا : هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ؟! لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أُنزل عليكم "
***
فيه مسائل :
الأولى : أن التوكل من الفرائض.ووجهه أن الله علق الإيمان بالتوكل في قوله تعالى ( وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين ) ، وقد سبق تفسيرها .
الثانية : أنه من شروط الإيمان . تؤخذ من قوله تعالى : ( إن كنتم مؤمنين ) . وسبق تفسيرها .
الثالثة : تفسير آية الأنفال وهي قوله تعالى : ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم . . . ) والمراد بالإيمان هنا الإيمان الكامل ، وإلا ، فالإنسان يكون مؤمنا وأن لم يتصف بهذه الصفات ، لكن معه مطلق الإيمان ، وقد سبق تفسير ذلك .
الرابعة : تفسير الآية في آخرها ، أي : آخر الأنفال . وهي قوله تعالى : ( يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ) ، أي : حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين ، وهذا هو الراجح على ما سبق .
الخامسة : تفسير آية الطلاق . وهي قوله تعالى : ( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ) وقد سبق تفسيرها .
السادسة : عظم شأن هذه الكلمة ، وأنها قول إبراهيم عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم في الشدائد . يعني قول : ( حسبنا الله ونعم الوكيل ) .(118/62)
وفي الباب مسائل غير ما ذكره المؤلف ، منها :
زيادة الإيمان ، لقوله تعالى : ( وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا ) .
ومنها : أنه عند الشدائد ينبغي أن يعتمد على الله مع فعل الأسباب ، لأن الرسول صلى الله عليه وأصحابه قالوا ذلك عندما قيل لهم : إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم ، ولكنهم فوّضُوا الأمر إلى الله ، وقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل .
ومنها : أن اتباعه النبي صلى الله عليه وسلم مع الإيمان سبب لكفاية الله للعبد .
***
باب قوله تعالى :
(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (لأعراف:99) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا الباب اشتمل على موضوعين :
الأول : الأمن من مكر الله .
والثاني : القنوط من رحمة الله ، وكلاهما طرفا نقيض .
واستدل المؤلف بقوله تعالى : ( أفأمنوا ) .
الضمير يعود على أهل القرى ، لأن ما قبلها قوله تعالى : ( أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ* أو أمن أهل القرى أن يأتيهم باسنا ضحى وهم يلعبون * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (الأعراف:97،98،99).
فقوله : ( وهم نائمون ) يدل على كمال الأمن لأنهم في بلادهم ،وأن الخائف لا ينام ، وقوله : ( ضحى وهم يلعبون ) يدل على كمال الأمن والرخاء وعد الضيق ، لأنه لو كان عندهم ضيق في العيش لذهبوا يطلبون الرزق والعيش وما صاروا في الضحى – في رابعة النهار – يلعبون .
والاستفهامات هنا كلها للإنكار والتعجب من حال هؤلاء ، فهم نائمون وفي رغد ، ومقيمون على معاصي الله وعلى اللهو ، وذاكرون لترفهم ، غافلون عن ذكر خالقهم(118/63)
فهم في الليل نوم ، وفي النهار لعب ، فبين الله – عز وجل – أن هذا من مكره بهم ، ولهذا قال : ( أفأمنوا مكر الله ) ، ثم ختم الآية بقوله : ( فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ) ، فالذي يمن الله عليه بالنعم والرغد والترف وهو مقيم على معصيته يظن أن رابح وهو في الحقيقة خاسر .
فإذا أنعم الله عليك من كل ناحية:أطعمك من جوع، و آمنك من خوف ، وكساك من عرى ، فلا تظن أنك رابح وأنت مقيم على معصية الله ، بل أنت خاسر ، لأن هذا من مكر الله بك .
قوله : ( إلا القوم الخاسرون ) . الاستثناء للحصر ، وذلك ما قبله مفرغ له ، فالقوم فاعل ، والخاسرون صفتهم .
وفي قوله تعالى : ( أفأمنوا مكر الله ) دليل على أن لله مكرا ، والمكر هو التوصل إلى الإيقاع بالخصم من حيث لا يشعر، ومنه ما جاء في الحديث( الحرب خدعة)( 1 )
فإن قيل كيف يوصف الله بالمكر مع أن ظاهره مذموم ؟
قيل : إن المكر في محله محمود يدل على قوة الماكر ، وأنه غالب على خصمه ، ولذلك لا يوصف الله به على الإطلاق ، فلا يجوز أن تقول أن الله ماكر ، وإنما تذكر هذه الصفة في مقام تكون فيه مدحا، مثل قوله تعالى ( ويمكرون ويمكر الله ) ( الأنفال :30) ، وقال تعالى : ( ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون ) ( النمل : 50 ) ومثل قوله تعالى (أفأمنوا مكر الله ) ( الأعراف:99) ولا تنفي عنه هذه الصفة على سبيل الإطلاق ، بل إنها في المقام الأول التي تكون مدحا يوصف بها وفي المقام التي لا تكون مدحا لا يوصف بها .
وكذلك لا يسمى الله بها ، فلا يقال : إن من أسماء الله الماكر .
وأما الخيانة،فلا يوصف الله بها مطلقا لأنها ذم بكل حال ، إذ أنها مكر في موضع الائتمان ، وهو مذموم ، قال تعالى : ( وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ)(لأنفال: من الآية71) ولم يقل : فخانهم .(118/64)
وأما الخداع ، فهو كالمكر يوصف به الله حيث يكون مدحا ، لقوله تعالى : ( إن المنافقين يخادعون الله وهو يخادعهم ) ( النساء : 142) ، والمكر من الصفات الفعلية ، لأنها تتعلق بمشيئة الله – سبحانه - .
ويستفاد من هذه الآية :
الحذر من النعم التي يجلبها الله للعبد لئلا تكون استدراجا ، لأن كل نعمة فلله عليك وظيفة شكرها،وهي القيام بطاعة المنعم ، فإذا لم تقم بها مع توافر النعم ، فأعلم أن هذا من مكر الله .
تحريم الأمن من مكر الله ، وذلك لوجهين :
الأول : أن الجملة بصيغة الاستفهام الدال على الإنكار والتعجب .
الثاني : قوله تعالى : ( فلا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون ) .
قوله : (قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ) (الحجر:56)
ـــــــــــــــــــــــــ
****
الموضوع الثاني مما اشتمل عليه هذا الباب القنوط من رحمة الله .
( من ) اسم استفهام ، لأن الفعل بعدها مرفوع ، ثم إنها لم يكن لها جواب ، والقنوط : أشد اليأس ، لأن الإنسان يقنط ويبعد الرجاء والأمل ، بحيث يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبة .
قوله: (من رحمة ربه)، هذه رحمة مضافة إلى الفاعل، ومفعولها محذوف، والتقدير(من رحمة ربه إياه ) .
قوله : ( إلا الضالون ) ، إلا أداة حصر ، لأن الاستفهام في قوله : ( ومن يقنط ) مراد به النفي ، و ( الضالون ) فاعل يقنط .
والمعنى لا يقنط من رحمة الله إلا الضالون ، والضال : فاقد الهداية ، التائه الذي لا يدري ما يجب لله تعالى ، مع أنه سبحانه قريب الغير ، ولهذا جاء في الحديث : ( عجب ربنا من قنوط عباده ، وقرب غيره ، ينظر إليكم أزلين قنطين ، فيظل يضحك يعلم أن فرجكم قريب ) ( 1 ) .(118/65)
وأما معنى الآية ، فإن إبراهيم عليه السلام لما بشرته الملائكة بغلام عليم قال لهم ( قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ* قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ ) (الحجر:54- 56 ) .
فالقنوط من رحمة الله لا يجوز ، لأنه سوء ظن بالله – عز وجل - ، وذلك من وجهين :
الأول : أنه طعن في قدرته سبحانه ، لأن من علم أن الله على كل شي قدير لم يستبعد شيئا على قدرة الله .
الثاني : أنه طعن في رحمته سبحانه ، لأن من علم أن الله رحيم لا يستبعد أن يرحمه الله – سبحانه - ، ولهذا كان القانط من رحمة الله ضالا.
ولا ينبغي للإنسان إذا وقع في كربة أن يستبعد حصول مطلوبه أو كشف مكروبه ، وكم من إنسان وقع في كربة وظن أن لا نجاة منها ، فنجاه الله – سبحانه - : إما بعمل صالح سابق مثل ما وقع ليونس عليه السلام ، قال تعالى : ( فلو لا أنه كان من المسبحين * للبث في بطنه إلى يوم يبعثون ) ( الصافات :144) أو بعمل لاحق ، وذلك كدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر( 2 ) و ليلة الأحزاب( 3 ) وكذلك أصحاب الغار( 4 ) .
وتبين مما سبق أن المؤلف رحمه الله أراد أن يجمع الإنسان في سيره إلى الله تعالى بين الخوف فلا يأمن مكر الله ، وبين الرجاء فلا يقنط من رحمته ، فالأمن من مكر الله ثلم في جانب الخوف ، والقنوط من رحمته ثلم في جانب الرجاء .
***
وعن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر ؟ فقال :
(الشرك بالله، واليأس من روح الله، والأمن من مكر الله) .(1)
ـــــــــــــــــــــــــــــــ(118/66)
قوله : في حديث ابن عباس رضى الله عنهما : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكبائر ) . جمع كبيرة ، والمراد بها : كبائر الذنوب ، وهذا السؤال يدل على أن الذنوب تنقسم إلى صغائر وكبائر ، وقد دل على ذلك القرآن،قال تعالى:(إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) (النساء:31) قال تعالى(الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ) ( النجم : 32 ) والكبائر ليست على درجة واحدة ، فبعضها اكبر من بعض .
واختلف العلماء هل هي معدودة أو محدودة ؟
فقال بعض أهل العلم : إنها معدودة ، وصار يعددها ويتتبع النصوص الواردة في ذلك .
وقيل : إنها محدودة ، وقد حدها شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله ، فقال : ( كل ما رتب عليه عقوبة خاصة ، سواء كانت في الدنيا أو الآخرة ، وسواء كانت بفوات محبوب أو بحصول مكروه ) وهذا واسع جدا يشمل ذنوبا كثيرة .
ووجه ما قاله : أن المعاصي قسمان :
قسم نهى عنه فقط ولم يذكر عليه وعيد ، فعقوبة هذا تأتي بالمعنى العام للعقوبات ، وهذه المعصية مكفرة بفعل الطاعات ، كقوله صلى الله عليه وسلم ( الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان كفارة لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ) ( 1 )وكذلك ما ورد في العمرة إلى العمرة ( 2 ) ، والوضوء من تكفير الخطايا ( 3 )، فهذه من الصغائر.
وقسم رتب عليه عقوبة خاصة ، كاللهن ، أو الغضب ، أو التبرؤ من فاعله ، أو الحد في الدنيا ، أو نفي الإيمان ، وما أشبه ذلك ، فهذه كبيرة تختلف في مراتبها .
والسائل في هذا الحديث إنما قصده معرفة الكبائر ليجتنبها ، خلاف لحال كثير من الناس اليوم حيث يسأل ليعلم فقط ، ولذلك نقصت بركة علمهم .(118/67)
قوله: ( الشرك بالله ) . ظاهر الإطلاق: أن المراد به الشرك الصغر والأكبر ، وهو الظاهر ، لأن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر ، قال ابن مسعود : ( لأن أحلف بالله كاذبا أحب إلي من أن أحلف بغيره صادقا ) ( 4 ) ، وذلك لأن سيئة الشرك أعظم من سيئة الكذب ، فدل على أن الشرك من الكبائر مطلقا .
والشرك بالله يتضمن الشرك بربوبيته ، أو بألوهيته ، أو بأسمائه وصفاته .
قوله : ( اليأس من روح الله ) . اليأس : فقد الرجاء ، والروح بفتح الراء ريب من معنى الرحمة ، وهو الفرج والتنفيس ، واليأس من روح الله من كبائر الذنوب لنتائجه السيئة .
قوله : ( الأمن من مكر الله ) . بأن يعصي الله مع استدراجه بالنعم ، قال تعالى : ( وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف :183:182) .
وظاهر هذا الحديث : الحصر ، وليس كذلك : لأن هناك كبائر غير هذه ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يجيب كل سائل بما يناسب حاله ، فلعله رأى هذا السائل عنده شي من الأمن من مكر الله أو اليأس من روح الله ، فأراد أن يبين له ذلك ، وهذه مسألة ينبغي أن يفطن لها الإنسان فيما يأتي من النصوص الشرعية مما ظاهره التعارض ، فيحمل كل واحد منها على الحال المناسبة ليحصل التآلف بين النصوص الشرعية .
وعن ابن مسعود، قال : (أكبر الكبائر : الإشراك بالله والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله ) . رواه عبد الرازق(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــ
****
قوله في أثر ابن مسعود : ( الإشراك بالله ) : هذا أكبر الكبائر ، لأنه انتهاك لأعظم الحقوق ، وهو حق الله تعالى الذي أوجدك وأعدك وأمدك،فلا أحد أكبر عليك نعمة من نعمة الله تعالى .
قوله : ( الأمن من مكر الله ) . سبق شرحه .(118/68)
قوله : ( القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله ) . المراد بالقنوط : أن يستبعد رحمة الله ويستبعد حصول المطلوب ، والمراد باليأس هنا أن يستبعد الإنسان زوال المكروه، وإنما قلنا ذلك ، لئلا يحصل تكرار في كلام ابن مسعود .
والخلاصة : أن السائر إلى الله يعتريه شيئان يعوقانه عن ربه ، وهما الأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، فإذا أُصيب بالضراء أو فات عليه ما يجب ، تجده إن لم يتداركه ربه يستولي عليه القنوط ويستبعد الفرج ولا يسعى لأسبابه ، وأما الأمن من مكر الله ، فتجد الإنسان مقيما على المعاصي مع توافر النعم عليه ، ويرى أنه على حق فيستمر فلا شك أن هذا استدراج .
****
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الأعراف . وهي قوله : ( أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (لأعراف:99) . وقد سبق تفسيرها .
الثانية : تفسير آية الحجر . وهي قوله تعالى ( ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون ) ، وقد سبق تفسيرها .
الثالثة : شدة الوعيد فيمن أمن مكر الله . وذلك بأنه من أكبر الكبائر ، كما في الآية والحديث ، وتؤخذ من الآية الأولى ، والحديثين .
الرابعة : شدة الوعيد في القنوط . تؤخذ من الآية الثانية والحديثين .
****
باب من الإيمان بالله الصبر على أقدار الله
ــــــــــــــــــــــ
( الصبر ) . في اللغة : الحبس ، ومنه قولهم : ( قتل صبرا ) ، أي : محبوسا مأسورا.
وفي الاصطلاح : حبس النفس عن أشياء وأشياء ، وهو ثلاثة أقسام :(118/69)
الأول : الصبر على طاعة الله ، كما قال تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) (طه: من الآية132) ، وقال تعالى : ( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً * فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ )(الانسان: 23-24 ) ، وهذا من الصبر على الأوامر ، لأنه إنما نزل عليه القرآن ليبلغه ، فيكون مأمورا بالصبر على الطاعة وقال تعالى : ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ )(الكهف : الآية28) . وهذا صبر على طاعة الله .
الثاني : الصبر عن معصية الله ، كصبر يوسف عليه السلام عن إجابة امرأة العزيز حيث دعته إلى نفسها في مكانة لها فيها العزة والقوة والسلطان عليه ، ومع ذلك صبر وقال : ( قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف:33) . فهذا صبر عن معصية الله .
الثالث : الصبر على أقدار الله ، قال تعالى : ( فاصبر لحكم ربك ) (الإنسان :24) فيدخل في هذه الآية حكم الله القدري ، ومنه قوله تعالى : ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ) ( الأحقاف : 35) لأن هذا صبر على تبليغ الرسالة وعلى أذى قومه ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم لرسول إحدى بناته : (مرها، فلتصبر ولتحتسب) ( 1 ) .
إذن الصبر ثلاثة أنواع ، أعلاها الصبر على طاعة الله ، ثم الصبر على معصية الله، ثم الصبر على أقدار الله .(118/70)
وهذا الترتيب من حيث هو لا باعتبار من يتعلق به ، وإلا فقد يكون الصبر على المعصية أشق على الإنسان من الصبر على الطاعة إذا فتن الإنسان مثلا بامرأة جميلة تدعوه إلى نفسها في مكان خال لا يطلع عليه إلا الله وهو رجل شاب ذو شهوة ، فالصبر عن هذه المعصية أشق ما يكون على النفوس ، وقد يصلي الإنسان مائة ركعة وتكون أهون عليه من هذا .
وقد يصاب الإنسان بمصيبة يكون الصبر عليها أشق من الصبر على الطاعة ، فقد يموت له مثلا قريب أو صديق أو عزيز عليه جدا ، فتجده يتحمل من الصبر على هذه المصيبة مشقة عظيمة .
وبهذا يندفع الإيراد الذي يورده بعض الناس ويقول : إن هذا الترتيب فيه نظر ، إذ بعض المعاصي يكون الصبر عليها أشق من بعض الطابعات ، وكذلك بعض الأقدار يكون الصبر عليها أشق ، فنقول : نحن نذكر المراتب من حيث هي بقطع النظر عن الصابر .
وكان الصبر على الطاعة أعلى ، لأنه يتضمن إلزاما وفعلا ، فتلزم نفسك الصلاة فتصلي ، والصوم فتصوم ، والحج فتحج ... ففيه إلزام وفعل وحركة فيها نوع من المشقة والتعب ، ثم الصبر على المعصية لأن فيه كفا فقط ، أي :
إلزاما للنفس بالترك ، أما الصبر على الأقدار ، فلأن سببه ليس باختيار العبد ، فليس فعلا ولا تركا ، وإنما هو من قدر الله المحض .
وخص المؤلف رحمه الله في هذا الباب الصبر على أقدار الله ، لأنه مما يتعلق بتوحيد الربوبية ، لأن تدبير الخلق والتقدير عليهم من مقتضيات ربوبية الله تعالى .
قوله : ( على أقدار الله ). جمع قدر، وتطلق على المقدور وعلى فعل المقدر، وهو الله تعالى ، أما بالنسبة لفعل المقدر ، فيجب على الإنسان الرضا به والصبر ، وبالنسبة للمقدور ، فيجب عليه الصبر ويستحب له الرضا .
مثال ذلك : قدر الله على سيارة شخص أن تحترق ، فكون الله قدر أن تحترق هذا قدر يجب على الإنسان أن يرضى به ، لأنه من تمام الرضا بالله ربا .(118/71)
وأما للمقدور الذي هو احتراق السيارة ، فالصبر عليه واجب ، والرضا به مستحبا وليس بواجب على القول الراجح .
والمقدور قد يكون طاعات ، وقد يكون معاصي ، وقد يكون من أفعال الله المحضة ، فالطاعات يجب الرضا بها ، والمعاصي لا يجوز الرضا بها من حيث هي مقدور ، أما من حيث كونها قدر الله ، فيجب الرضا بتقدير الله بكل حال ، ولهذا قال ابن القيم:
فلذاك نرضى بالقضاء ونسخط الـ ـمقضي حين يكون بالعصيان
فمن نظر بعين القضاء والقدر إلى رجل يعمل بمعصية ، فعليه الرضا لأن الله هو الذي قدر هذا ، وله الحكمة في تقديره ، وإذا نظر إلى فعله ، فلا يجوز له أن يرضى به لأنه معصية ، وهذا هو الفرق بين القدر والمقدور .
قوله تعالى : ( ومن يؤمن بالله ) . ( من ) : اسم شرط جازم ، فعل الشرط ( يؤمن ) ، وجوابه (يهد ) ، والمراد بالإيمان بالله هنا الإيمان بقدره .
قوله : ( يهد قلبه ) . يرزقه الطمأنينة ، وهذا يدل على أن الإيمان يتعلق بالقلب ، فإذا اهتدى القلب اهتدت الجوارح ، لقوله صلى الله عليه وسلم : ( إن في الجسد مضغة ، إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت فسد الجسد كله ، ألا هو القلب ) ( 1 ) .
وقول الله تعالى : ( وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَه ُ)(التغابن: من الآية11) .
وقال علقمة : (هو الرجل تصيبه المصيبة ، فيعلم أنها من عند الله، فيرضى ويسلم).
ـــــــــــــــــــــــ
****
قوله : " قال علقمة " . وهو من أكابر التابعين .
قوله : ( هو الرجل تصيبه المصيبة ... ) إلخ . وتفسير علقمة هذا من لازم الإيمان ، لأن من آمن بالله علم أن التقدير من الله ، فيرضى ويسلم ، فإذا علم أن المصيبة من الله اطمأن القلب وارتاح ، ولهذا كان من أكبر الراحة والطمأنينة الإيمان بالقضاء والقدر .
وفي (صحيح مسلم) عن أبي هريرة ، أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال : (اثنتان في(118/72)
الناس هما بهم كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ) .(1)
ــــــــــــــــــــــ
قوله : في حديث أبي هريرة ( اثنتان ) . مبتدأ وسوغ الابتداء به التقسيم ، أو أنه مفيد للخصوص .
قوله : ( بهم كفر ) : الباء يحتمل أن تكون بمعنى ( من ) ، أي : هما منهم كفر ، ويحتمل أن تكون بمعنى ( في ) ، أي : هما فيهم كفر . قوله : ( كفر ) . أي هاتان الخصلتان كفر ولا يلزم من وجود خصلتين من الكفر في المؤمن أن يكون كافرا ، كما لا يلزم من وجود خصلتين في الكافر من خصال الإيمان ، كالحياء ، والشجاعة ، والكرم ، أن يكون مؤمنا .قال شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله : ( بخلاف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : (بين الرجل والشرك والكفر ترك الصلاة ) (2 ) . فإنه هنا أتى بال الدالة على الحقيقة ، فالمراد بالكفر هنا الكفر المخرج عن الملة ، بخلاف مجي ( كفر ) نكرة ، فلا يدل على الخروج عن الإسلام .
قوله : ( الطعن في النسب ) . أي : العيب فيه أو نفيه ، فهذا عمل من أعمال الكفر .
قوله : ( النياحة على الميت). أي : أن يبكي إنسان على الميت بكاء على صفة نوح الحمام ، لأن هذا يدل على التضجر وعدم الصبر ، فهو مناف للصبر الواجب ، وهذه الجملة هي الشاهد للباب . والناس حال المصيبة على مراتب أربع :
الأولى : التسخط ، وهو إما أن يكون بالقلب كأن يسخط على ربه ، ويغضب على قدر الله عليه ، وقد يؤدي إلى الكفر ، وقال تعالى : ( وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) (الحج:11) وقد يكون باللسان ، كالدعاء بالويل والثبور وما أشبه ذلك ، وقد يكون بالجوارح ، كلطم الخدود ، وشق الجيوب ، ونتف الشعور ، وما أشبه ذلك .
الثانية : الصبر ، وهو كما قال الشاعر :(118/73)
الصبر مثل اسمه مر مذاقته لكن عواقبه أحلى من العسل
فيرى الإنسان أن هذا الشي ثقيل عليه ويكرهه ، لكنه يتحمله ويتصبر ، وليس وقوعه وعدمه سواء عنده ، بل يكره هذا ولكن إيمانه يحميه من السخط .
الثالثة : الرضا ، وهو أعلى من ذلك ، وهو أن يكون الأمران عنده سواء بالنسبة لقضاء الله وقدره وإن كان قد يحزن من المصيبة ، لأنه رجل يسبح في القضاء والقدر ،أينما ينزل به القضاء والقدر فهو نازل به على سهل أو جبل، أن أصيب بنعمة أو أُصيب بضدها، فالكل عنده سواء ، لا لأن قلبه ميت، بل لتمام رضاه بربه –سبحانه وتعالى – يتقلب في تصرفات الرب –عز وجل- ولكنها عنده سواء ، إذ ينظر إليها باعتبارها قضاء لربه وهذا الفرق بين الرضا والصبر .
ولهما عن ابن مسعود مرفوعا : (ليس منا من ضرب الخدود ، وشق الجيوب ، ودعا بدعوى الجاهلية)(1) .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرابعة : الشكر، وهو أعلى المراتب ، وذلك أن يشكر الله ما أصابه من مصيبة، وذلك يكون في عباد الله الشاكرين حين يرى أن هناك مصائب أعظم منها، وأن مصائب الدنيا أهون من مصائب الدين، وأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وأن هذه المصيبة سبب لتكفير سيئاته وربما لزيادة حسناته شكر الله على ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم :(ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا شي إلا كفر له بها ، حتى الشوكة يشاكها ( 2 ).
كما أنه قد يزداد إيمان المرء بذلك .
قوله في حديث ابن مسعود : (مرفوعا) . أي : إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : ( من ضرب الخدود ) . العموم يراد به الخصوص ، أي: من أجل المصيبة.
قوله : (من شق الجيوب) . هو طوق القميص الذي يدخل منه الرأس، وذلك عند المصيبة تسخطا وعدم تحمل لما وقع عليه .
قوله : (ودعا بدعوى الجاهلية) . ودعوى مضاف والجاهلية مضاف إليه ، وتنازع أمران :
الأول : صيغة العموم (دعوى الجاهلية ) ، لأنه مفرد مضاف فيعم .(118/74)
الثاني : القرينة، لأن ضرب الخدود وشق الجيوب يفعلان عند المصيبة فيكون دعا بدعوى الجاهلية عند المصيبة، مثل قولهم : وا ويلاه ! وا انقطاع ظهراه !
والأولى أن ترجح صيغة العموم ، والقرينة لا تخصصه ، فيكون المقصود بالدعوى كل دعوى منشؤها الجهل .
وذكر هذه الأصناف الثلاثة ، لأنها غالبا ما تكون عند المصائب، وإلا فمثله هدم البيوت ، وكسر الأواني ، وتخريب الطعام، ونحوه مما يفعله بعض الناس عند المصيبة .
وهذه الثلاثة من الكبائر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرا من فاعلها .
ولا يدخل في الحديث ضرب الخد في الحياة العادية ، مثل : ضرب الأب لأبنه ، لكن يكره الضرب على الوجه للنهي عنه ، وكذلك شق الجيب لأمر غير المصيبة .
وعن أنس ، أن رسول الله قال : (إذا أراد الله بعبده الخير عجل له
ــــــــــــــــــــــــ
****
قوله في حديث انس : ( إذا أراد الله بعبده الخير) . الله يريد بعبده الخير والشر ، ولكن الشر المراد لله تعالى ليس مرادا لذاته بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم :
العقوبة في الدنيا ، وإذا أراد بعبده الشر أمسك عنه بذنبه ، حتى يوافي به يوم القيامة )(1) .
ــــــــــــــــــــــــ
(والشر ليس إليك)(2) ومن أراد الشر لذاته كان إليه ، ولكن الله يريد الشر لحكمه ، وحينئذ يكون خيرا باعتبار ما يتضمنه من الحكمة .
قوله : (عجل له بالعقوبة في الدنيا) . العقوبة : مؤاخذة المجرم بذنبه،وسميت بذلك، لأنها تعقب الذنب ، لكنها لا تقال إلا في المؤاخذة على الشر .
وقوله : (عجل له العقوبة في الدنيا) . كان ذلك خيرا من تأخيرها في الآخرة ، لأنه يزول وينتهي ، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين :(إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة)(3)(118/75)
وهناك خير أولى من ذلك وهو العفو عن الذنب ، وهذا أعلى، لأن الله إذا لم يعاقبه في الدنيا ولا في الآخرة، فهذا هو الخير كله ، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل تعجيل العقوبة خيرا باعتبار أن تأخر العقوبة إلى الآخرة أشد ، كما قال تعالى (ولعذاب الآخرة أشد وأبقى)(طه:127)
والعقوبة أنواع كثيرة :
منها : ما يتعلق بالدين ، وهي اشدها لأن العقوبات الحسية قد ينتبه لها الإنسان ، أما هذه،فلا ينتبه لهل إلا من وفقه الله، وذلك كما لو خفت المعصية في نظر العاصي، فهذه عقوبة دينية تجعله يستهين بها، وكذلك التهاون بترك الواجب، وعدم الغيرة على حرمات الله ، وعدم القيام بها.
الأمر بالمعروف والنهي على المنكر ، وكل ذلك من المصائب ، ودليله قوله تعالى : ( فإن تولوا فأعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ) (المائدة:49)
ومنها : العقوبة بالنفس ، وذلك كالأمراض العضوية والنفسية .
ومنها : العقوبة بالأهل ، كفقدانهم ، أو أمراض تصيبهم .
ومنها العقوبة بالمال ، كنقصه أو تلفه وغير ذلك .
قوله : (وإذا أراد بعبده الشر ، أمسك عنه بذنبه) . (أمسك عنه) أي : ترك عقوبته .
والإمساك فعل من أفعال الله ، وليس معناه تعطيل الله عن الفعل ، بل هو لم يزل ولا يزال فعالا لما يريد، لكنه يمسك عن الفعل في شي ما لحكمة بالغة ، ففعله حكمة ، وإمساكه حكمة .
قوله : (حتى يوافي به يوم القيامة ) . أي : يوافيه الله به : أي : يجازيه به يوم القيامة ، وهو الذي يقوم فيه الناس من قبورهم لله رب العالمين .
وسمي بيوم القيامة لثلاثة أسباب :
1. قيام الناس من قبورهم لقوله تعالى : (يوم يقوم الناس لرب العالمين )(المطففين:6)
2.قيام الأشهاد ، لقوله تعالى: (إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ) (غافر : 51) .
3. قيام العدل ، لقوله تعالى : (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) (الأنبياء:47) .(118/76)
والغرض من سياق المؤلف لهذا الحديث : تسلية الإنسان إذا أُصيب بالمصائب لئلا يجزع ،فإن ذلك قد يكون خيرا، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، فيحمد الله أنه لم يؤخر عقوبته إلى الآخرة .
وعلى فرض أن أحدا لم يأت بخطيئة وأصابته مصيبة ، فنقول له : إن هذا من باب امتحان الإنسان على الصبر ، ورفع درجاته باحتساب الأجر ، لكن لا يجوز للإنسان إذا أصيب بمصيبة، وهو يرى أنه لم يخطيء أن يقول : أنا لم أُخطي ، فهذه تزكية ، فلو فرضنا أن أحدا لم يصب ذنبا وأصيب بمصيبة ، فإن هذه المصيبة لا تلاقي ذنبا وأصيب بمصيبة ، فإن هذه المصيبة لا تلاقي ذنبا تكفره لكنها تلاقي قلبا تمحصه ، فيبتلى الله الإنسان بالمصائب لينظر هل يصبر أم لا؟ ولهذا كان أخشى الناس لله –عز وجل- وأتقاهم محمد صلى الله عليه وسلم ، يوعك كما يوعك رجلان منا(1) وذلك لينال أعلى درجات الصبر فينال مرتبة الصابرين على أعلى وجوهها ، ولذلك شدد عليه صلى الله عليه وسلم عند النزع ، ومع هذه الشدة كان ثابت القلب ، ودخل عليه عبد الرحمن ابن أبي بكر وهو يستاك ، فأمده بصره ( يعني : ينظر إليه ) فعرفت عائشة رضى الله عنها أنه يريد السواك ، فقالت : آخذه لك ؟ فأشار برأسه نعم ، فأخذت السواك وقضمته وألانته للرسول صلى الله عليه،فأعطته إياه ،فاستن به، قالت عائشة: ما رأيته استن استنانا أحسن منه ، ثم رفع يده قال : (في الرفيق الأعلى)(2) .
فانظر إلى هذا الثبات واليقين والصبر العظيم مع هذه الشدة العظيمة ، كل هذا لأجل أن يصل الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى درجات الصابرين ، صبر لله ، وصبر
بالله وصبر في الله حتى نال أعلى الدرجات .
فمن أصيب بمصيبة ، فحدثته نفسه أن مصائبه أعظم من معائبه ، فإنه يدل على ربه بعمله ويمن عليه به ، فليحذر هذا .
ومن ذلك يتضح لنا أمران :(118/77)
1. أن إصابة الإنسان بالمصائب تعتبر تكفيرا لسيئاته وتعجيلا للعقوبة في الدنيا ، وهذا خير من تأخيرها له في الآخرة .
2. قد تكون المصائب أكبر من المعائب ليصل المرء بصبره أعلى درجات الصابرين ، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاءِ، وإنَّ اللهَ تَعَالَى إذَا أحَبَّ قَوماً ابتَلاهٌم، فَمَن رَضِيَ؛ فَلَهٌ الرِّضا، ومَن سَخِطَ فَلَهٌ السٌّخطٌ). حَسَّنٌه التِّرمِذِي (1)
ــــــــــــــــــــــ
****
قوله : ( وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) . وهذا حديث رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضى الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم – فصحابيُّه صحابي الحديث الذي قبله .
قوله : (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء) . أي : يتقابل عظم الجزاء مع عظم البلاء، فكلما كان البلاء أشد وصبر الإنسان صار الجزاء أعظم ، لأن الله عدل لا يجزى المحسن بأقل من إحسانه ، فليس الجزاء على الشوكة يشاكها كالجزاء على الكسر إذا كسر ، وهذا دليل على كمال عدل الله ، وأنه لا يظلم أحدا ، وفيه تسلية المصاب .
قوله :(وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم) . أي : اختبرهم بما يقدر عليهم من الأمور الكونية، كالأمراض، وفقدان الأهل، أو بما يكلفهم به من الأمور الشرعية ، قال تعالى : (إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا *فاصبر لحكم ربك) (الإنسان :23،24) فذكره الله بالنعمة وأمره بالصبر، لأن هذا الذي نزل عليه يكلف به .
كذلك من الابتلاء الصبر على محارم الله، كما في الحديث (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال : إني أخاف الله)(1) ، فهذا جزاؤه أن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله .(118/78)
قوله : (فمن رضى، فله الرضا،ومن سخط، فله السخط) .( من) : شرطية، والجواب : (فله الرضا)، أي : فله الرضا من الله، وإذا رضى الله عن شخص أرضى الناس عنه جميعا، والمراد بالرضا : الرضا بقضاء الله من حيث إنه قضاء الله، وهذا واجب بدليل قوله : (ومن سخط) فقابل الرضا بالسخط، وهو عدم الصبر على ما يكون من المصائب القدرية الكونية .
ولم يقل هنا (فعليه السخط) مع أن مقتضى السياق أن يقول فعليه، كقوله تعالى : (ومن عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها) (فصلت :46).
فقال بعض العلماء: إن اللام بمعنى على،كقوله تعالى : (أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار) (الرعد : 25)، أي : عليهم اللعنة .
وقال آخرون : إن اللام على ما هي عليه ، فتكون للاستحقاق، أي : صار عليه السخط باستحقاقه له ، فتكون أبلغ من (على)، كقوله تعالى : ( أولئك لهم اللعنة) ، أي حقت عليهم باستحقاقهم لها ،وهذا أصح .
ويستفاد من الحديث :
إثبات المحبة والسخط والرضا لله – عز وجل -، وهي من الصفات الفعلية لتعلقها بمشيئة الله تعالى،لأن (إذا) في قوله : (إذا أحب الله قوما) للمستقبل، فالحب يحدث، فهو من الصفات الفعلية .
الله تعالى يحب العبد عند وجود سبب المحبة،ويبغضه عند وجود سبب البغض، وعلى هذا، فقد يكون هذا الشخص في يوم من الأيام محبوبا إلى الله وفي آخر مبغضا
إلى الله ،لأن الحكم يدور مع علته .
ويجب في كل صفة أثبتها الله لنفسه أمران :
1. إثباتها على حقيقتها وظاهرها .
2. الحذر من التمثيل أوالتكييف .
****
فيه مسائل :
الأولى تفسير آية التغابن . الثانية : أن هذا من الإيمان بالله . الثالثة : الطعن في النسب . الرابعة : شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، و شق الجيوب،أو دعا بدعوى الجاهلية . لخامسة : علامة إرادة الله بعبده الخير . السادسة : إرادة الله به الشر السابعة : علامة حب الله للعبد ،
ـــــــــــــــــــ
فيه مسائل :(118/79)
الأولى تفسير آية التغابن . وهي قوله تعالى : (ومن يؤمن بالله يهد قلبه)، وقد فسرها علقمه كما سبق تفسير مناسبا للباب .
الثانية : أن هذا من الإيمان . المشار إليه بقوله : (هذا) هو الصبر على أقدار الله .
الثالثة : الطعن في النسب . وهو عيبه أو نفيه، وهو من الكفر، لكنه لا يخرج من الملة .
الرابعة : شدة الوعيد فيمن ضرب الخدود، أو شق الجيوب،أو دعا بدعوى الجاهلية . لأن النبي صلى الله عليه وسلم تبرأ منه .
الخامسة : علامة إرادة الله بعبده الخير . وهو أن يجعل له العقوبة في الدنيا.
السادسة : إرادة الله به الشر . أي علامة إرادة الله به الشر، وهو أن يؤخر له العقوبة في الآخرة .
السابعة : علامة حب الله للعبد ، وهي الابتلاء .
الثامنة : تحريم السخط .يعني: مما به العبد، لقوله صلى الله عليه وسلم (ومن سخط،فله السخط)، وهذا وعيد .
التاسعة : ثواب الرضا بالبلاء . وهو رضا الله عن العبد، لقوله صلى الله عليه وسلم : (من رضى،فله الرضى) .
***
باب ما جاء في الرياء
ــــــــــــــ
المؤلف رحمه الله تعالى أطلق الترجمة ، فلم يفصح بحكمه لأجل أن يحكم الإنسان بنفسه على الرياء على ما جاء فيه .
تعريف الرياء :
مصدر راءي يرائي، أي عمل عملا ليراه الناس، ويقال مراءاة كما يقال : جاهد جهادا ومجاهدة، ويدخل في ذلك من عمل العمل ليسمعه الناس ويقال له مسمع، وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ،أنه قال : (من راءي راءى الله به، ومن سمع سمع الله به )(1)
والرياء خلق ذميم، وهو منصفات المنافقين، قال الله تعالى : ( وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً)(النساء: من الآية142).
والرياء يبحث في مقامين :
المقام الأول : في حكمه .(118/80)
فنقول : الرياء من الشرك الأصغر، قصد بعبادته غير الله،وقد يصل إلى الأكبر، وقد مثل ابن القيم للشرك الأصغر، فقال : (مثل يسير الرياء)، وهو يدل على أن الرياء كثير قد يصل إلى الأكبر .
المقام الثاني : في حكم العبادة إذا خالطها الرياء، وهو على ثلاثة أوجه :
الأول : أن يكون الباعث على العبادة مراءاة الناس من الأصل ، كمن قام يصلي من أجل مراءاة الناس ولم يقصد وجه الله ، فهذا شرك والعبادة باطلة .
الثاني : أن يكون مشاركا للعبادة في أثنائها، بمعنى أن يكون الحامل له في أول أمره الإخلاص لله ثم يطرأ الرياء في أثناء العبادة .
فإن كانت العبادة لا ينبني آخرها على أولها ، فأولها صحيح بكل حال، وباطل آخرها .
مثال ذلك : رجل عنده مائة ريال قد أعدها للصدقة فتصدق بخمسين مخلصا وراءى في الخمسين الباقية، فالأولى حكمها صحيح، والثانية باطلة.
أما إذا كانت العبادة ينبني آخرها على أولها ، فهي على حالين :
أن يدافع الرياء ولا يسكن إليه، بل يعرض عنه ويكرهه ، فإنه لا يؤثر عليه شيئا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به نفسها ما لم تعمل أو تتكلم)(2) .
مثال ذلك : رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية أحس بالرياء فصار يدافعه، فإن ذلك لا يضره ولا يؤثر على صلاته شيئا .
2 . أن يطمئن إلى هذا الرياء ولا يدافعه ، فحينئذ تبطل جميع العبادة ، لأن آخرها مبني على أولها ومرتبط به .
مثال ذلك : رجل قام يصلي ركعتين مخلصا لله، وفي الركعة الثانية طرأ عليه الرياء لإحساسه بشخص ينظر إليه ، فاطمأن لذلك ونزع إليه، فتبطل صلاته كلها لارتباط بعضها ببعض .(118/81)
الثالث : ما يطرأ بعد انتهاء العبادة، فإنه لا يؤثر عليها شيئا، اللهم إلا إن يكون فيه عدوان ، كالمن والأذى بالصدقة،فإن هذا العدوان يكون إثمه مقابلا لأجر الصدقة فيبطلها، لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى)(البقرة:264) .
وليس من الرياء أن يفرح الإنسان بعلم الناس بعبادته، لأن هذا إنما طرأ بعد الفراغ من العبادة. وليس من الرياء أيضا أن يفرح الإنسان بفعل الطاعة في نفسه، بل ذلك دليل على إيمانه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (من سرته حسناته وساءته سيئاته،فذلك المؤمن)(1). وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، فقال : (تلك عاجل بشرى المؤمن)(2)
وقول الله تعالي: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِد)(الكهف: من الآية110) الآية .
ــــــــــــــــــــــ
****
قوله تعالى : (قل إنما أنا بشر مثلكم) . يأمر الله نبيه أن يقول للناس : إنما أنا بشر مثلكم،وهو قصر النبي صلى اله عليه وسلم على البشرية، وأنه ليس ربا ولا ملكا،وأكد هذه البشرية بقوله: (مثلكم)، فذكر المثل من باب تحقيق البشرية .
قوله : (يوحي إلىّ) . الوحي في اللغة : الإعلام بسرعة وخفاء، ومنه قوله تعالى (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) (مريم:11) .
وفي الشرع : إعلام الله بالشرع .
والوحي : هو الفرق بيننا وبينه صلى الله عليه وسلم ، فهو متميز بالوحي كغيره من الأنبياء والرسل .(118/82)
قوله : (أنما إلهكم إله واحد) . هذه الجملة في تأويل مصدر نائب فاعل (يوحى) ،وفيها حصر طريقه (إنما) ، فيكون معناها : ما إلهكم إلا إله واحد، وهو الله، فإذا ثبت ذلك، فإنه لا يليق بك أن تشرك معه غيره في العبادة التي هي خالص حقه ، ولذلك قال الله تعالى بعد ذلك ( فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا )( الكهف : 110) .
قوله تعالى : (فمن كان يرجو لقاء ربه) المراد بالرجاء : الطلب والأمل، أي : من كان يؤمل أن يلقى ربه ، والمراد باللقيا هنا الملاقاة الخاصة ، لأن اللقيا على نوعين :
الأول : عامة لكل إنسان ، قال تعالى (يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه) (الانشقاق : 6) ولذلك قال مفرعا على ذلك : (فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا) (الانشقاق : 7) (وأما من أوتي كتابه وراء ظهره ...) الآية (الانشقاق :10)
الثاني : الخاصة بالمؤمنين، وهو لقاء الرضا والنعيم كما في هذه الآية، وتتضمن رؤيته تبارك وتعالى، كما ذكر ذلك بعض أهل العلم .
فقوله : (فليعمل عملا صالحا) الفاء رابطة لجواب الشرط، والأمر لإرشاد، أي : من كان يريد أن يلقى الله على الوجه الذي يرضاه سبحانه،فليعمل عملا صالحا ، والعمل الصالح : ما كان خالصا صوابا .
وهذا وجه الشاهد من الآية .
فالخالص : ما قصد به وجه الله، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الاعمال بالنيات )(1)
والصواب : ما كان على شريعة الله والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا،فهو رد)(3) .
ولهذا قال العلماء : هذان الحديثان ميزان الأعمال، فالأول ميزان الأعمال الباطنة . والثاني : ميزان الأعمال الظاهرة .
قوله : (ولا يشرك) . لا : ناهية، والمراد بالنهي الإرشاد .(118/83)
قوله : (بعبادة ربه أحدا) . خص العبادة لأنها خالص حق الله ، ولذلك أتى بكلمة (رب) إشارة إلى العلة، فكما أن ربك خلقك ولا يشاركه أحد في خلقك ، فيجب أن تكون العبادة له وحده، ولذلك لم يقل : (لا يشرك بعبادة الله )، فذكر الرب من باب التعليل ، كقوله تعالى : (يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم ) .
وقوله : (أحدا) نكرة في سياق النهي، فتكون عامة لكل أحد .
والشاهد من الآية : أن الرياء من الشرك ، فيكون داخلا في النهي عنه .
وفي هذه الآية دليل على ملاقاة الله تعالى، وقد استدل بها بعض أهل العلم على ثبوت رؤية الله، لأن الملاقاة معناها المواجهة .
وفيه دليل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم بشر لا يستحق أن يعبد ، لأنه حصر حاله بالبشرية، كما حصر الألوهية بالله .
وعن أبي هريرة مرفوعا : قال : قال الله تعالى :(أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك معي فيه غيري ، تركته وشركه ) رواه مسلم . (1)
ـــــــــــــــــــــــ
****
قوله في حديث أبي هريرة : (قال الله تعالى). هذا الحديث يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه، ويسمى هذا النوع بالحديث القدسي .
قوله : (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) . قوله : (أغنى). اسم تفضيل،وليست فعلا ماضيا، ولهذا أُضيفت إلى الشركاء .
يعني:إذا كان بعض الشركاء يستغني عن شركته مع غيره،فالله أغنى الشركاء عن المشاركة .
فاله لا يقبل عملا له فيه شرك أبدا، ولا يقبل إلا العمل الخالص له وحده، فكما أنه الخالق له وحده، فكيف تصرف شيئا من حقه إلى غيره !فهذا ليس عدلا، ولهذا قال الله عن لقمان : (إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان :13)، فالله الذي خلقك وأعدك إعدادا كاملا بكل مصالحك وأمدك بما تحتاج إليه، ثم تذهب وتصرف شيئا من حقه إلي غيره ؟! فلا شك أن هذا من أظلم الظلم .
قوله : (عملا) . نكرة في سياق الشرط، فتعم أي عمل من صلاة ،أو صيام، أو حج ، أو جهاد، أو غيره .(118/84)
قوله : (تركته وشركه) . أي : لم أثبه على عمله الذي أشرك فيه .
وقد يصل هذا الشرك إلى حد الكفر، فيترك الله جميع أعماله، لأن الشرك يحبط الأعمال إذا مات عليه .
والمراد بشركه : عمله الذي أشرك فيه، وليس المراد شريكه، لأن الشريك الذي أشرك به مع الله قد لا يتركه ، كمن أشرك نبيا أو وليا،فإن الله لا يترك ذلك النبي والولي .
ويستفاد من هذا الحديث :
1 . بيان غنى الله تعالى، لقوله : (أنا أغنى الشركاء عن الشرك) .
بيان عظم حق الله وأنه لا يجوز لأحد أن يشرك أحدا مع الله في حقه .
بطلان العمل الذي صاحبه الرياء، لقوله : ( تركته وشركه)
تحريم الرياء، لأن ترك الإنسان وعمله وعدم قبوله يدل على الغضب، وما أوجب الغضب، فهو محرم
أن صفات الأفعال لا حصر لها، لأنها متعلقة بفعل الله ، ولم يزل الله ولا يزال فعالا .
***
وعن أبي سعيد مرفوعا : ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟) قالوا بلي . قال : ( الشرك الخفي ، يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته ، لما يري من نظر رجل إليه )رواه احمد (1)
ــــــــــــــــ
قوله في حديث أبي سعيد : (ألا) .أداة عرض، والغرض منه تنبيه المخاطب، فهو ابلغ من عدم الإتيان بها .
قوله : (بما هو) . ما : اسم موصول بمعني الذي .
قوله : (أخوف عليكم عندي). أي عند الرسول صلى الله عليه وسلم من رحمته بالمؤمنين يخاف عليهم كل الفتن، واعظم فتنة في الأرض هي فتنة المسيح الدجال،لكن خوف النبي صلى الله عليه وسلم من فتنة هذا الشرك الخفي أشد من خوفه من فتنة المسيح الدجال، وإنما كان كذلك، لأن التخلص منه صعب جدا ، ولذلك قال بعض السلف : (ما جاهدت نفسي على شي مجاهدتها على الإخلاص)،وقال النبي صلى الله عليه وسلم:(أسعد الناس بشفاعتي من قال : لا إله إلا الله خالصا من قلبه)(2) ، ولا يكفي مجرد اللفظ بها، بل لا بد من إخلاص وأعمال يتعبد بها الإنسان لله – عز وجل - .(118/85)
قوله : (المسيح الدجال). المسيح، أي : ممسوح العين اليمنى، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم عيبين في الدجال :
أحدهما حسي، وهو أن الدجال أعور العين اليمنى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الله لا يخفي عليكم، إنه ليس بأعور وإن الدجال أعور العين اليمنى)(2) .
والثاني معنوي، وهو الدجال، فهو صيغة مبالغة، أو يقال بأنه نسبة إلى وصف الملازم له، وهو الدجل والكذب والتمويه، وهو رجل من بني آدم، ولكن الله –سبحانه وتعالى – بحكمته يخرجه ليفتن الناس به، وفتنة عظيمة، إذ ما في الدنيا منذ خلق آدم إلى أن تقوم الساعة فتنة أشد من فتنة الدجال .
والمسيح الدجال ثبتت به الأحاديث واشتهرت حتى كان من المعلوم بالضرورة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أمته أن يتعوذوا بالله منه في كل صلاة، وقد حاول بعض الناس إنكاره وقالوا : ما ورد من صفته متناقض ولا يمكن أن يصدق به ، ولكن هؤلاء يقيسون الأحاديث بعقولهم وأهوائهم ، وقدرة الله بقدرتهم، ويقولون كيف يكون اليوم عن سنة والشمس لها نظام لا تتعداه؟ وهذا لا شك جهل منهم بالله ، فالذي جعل هذا النظام هو الله، وهو القادر على أن يغيره متى شاء، فيوم القيامة تكور الشمس، وتتكدر النجوم، وتكشط السماء،كل ذلك بكلمة (كن) ، ورود هذه الأحاديث بمثل هذه التعاليل دليل على ضعف الإيمان وعدم تقدير الله حق قدره، قال تعالى : (وما قدروا الله حق قدره) (الزمر: 67) .
فالذي نؤمن به أنه سيخرج في آخر الزمان ، ويحصل منه كل ما ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم .(118/86)
ونؤمن أن الله على كل شي قدير ، وأنه قادر على أن يبعث على الناس من يفتنهم عن دينهم، ليتميز المؤمن من الكافر والخبيث من الطيب، مثل ما ابتلى الله بني إسرائيل بالحيتان يوم سبتهم شرعا ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ، ومثل ما ابتلى الله المؤمنين بأن أرسل عليهم الصيد وهم حرم ،تناله أيديهم ورماحهم ليعلم الله من يخافه بالغيب، وقد يبتلى الله أفراد الناس بأشياء يمتحنهم بها، قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ) (الحج:11) .
قوله : (الشرك الخفي) . الشرك قسمان خفي وجلي.
فالجلي : ما كان بالقول مثل الحلف بغير الله أو قول ما شاء الله وشئت، أو بالفعل مثل : مثل الانحناء لغير الله تعظيما .
والخفي : ما كان في القلب ، مثل : الرياء، لأنه لا يبين ،إذ لا يعلم ما في القلوب إلا الله، ويسمى أيضا (شرك السرائر) وهذا هو الذي بينه الله بقوله: ( يوم تبلى السرائر)(الطارق: 9) لأن الحساب يوم القيامة على السرائر، قال تعالى (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور* وحصل ما في الصدور) (العاديات : 10،9) ، وفي الحديث الصحيح فيمن كان يأمر بالمعروف ولا يفعله وينهى عن المنكر ويفعله : أنه (يلقى في النار حتى تندلق أقتاب بطنه، فيدور عليها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع عليه أهل النار فيسألونه، فيخبرهم أنه كان يأمر بالمعروف ولا يفعله، وينهى عن المنكر ويفعله)(1) .
قوله : (يقوم الرجل، فيصلي فيزين صلاته) . يتساوى في ذلك الرجل والمرأة، والتخصيص هنا يسمى مفهوم اللقب، أي أن الحكم يعلق بما هو أشرف ، لقصد التخصيص ولكن لضرب المثل.
قوله : (فيزين صلاته) . أي : يحسنها بالطمأنينة، ورفع اليدين عند التكبير، ونحو ذلك .(118/87)
قوله : (لما يرى من نظر الرجل إليه) . (ما) موصولة، وحذف العائد، أي : للذي يراه من نظر رجل ، وهذه هي العلة لتحسين الصلاة، فقد زين صلاته ليراه هذا الرجل فيمدحه بلسانه أو يعظمه بقلبه ، وهذا شرك .
****
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الكهف. الثانية : الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شي لغير الله . الثالثة : ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى. الرابعة : أن من السباب أنه تعالى خير الشركاء. الخامسة : خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء
ـــــــــــ
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية الكهف وسبق الكلام عليها .
الثانية : الأمر العظيم في رد العمل الصالح إذا دخله شي لغير الله . وذلك لقوله : ( تركته وشركه) ، وصار عظيما، لأنه ضاع على العامل خسارا،وفحوى الحديث تدل على غضب الله – عز وجل – من ذلك .
الثالثة : ذكر السبب الموجب لذلك، وهو كمال الغنى . يعني : الموجب للرد هو كمال غنى الله – عز وجل – عن كل عمل فيه شرك ، وهو غني عن كل عمل ، لكن العمل الصالح يقبله ويثيب عليه .
الرابعة : أن من السباب أنه تعالى خير الشركاء. أي : من أسباب رد العمل إذا أشرك فيه العامل مع الله أحدا، أن الله خير الشركاء، فلا ينازع من جعل شريكا له فيه .
الخامسة : خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه من الرياء. وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم ( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال) . وإذا كان يخاف ذلك على أصحابه ، فالخوف على من بعدهم من ذلك من باب أولى .
السادسة : أنه فسر ذلك بأن يصلي المرء لله ، لكن يزينها لما يرى من نظر رجل إليه . وهذا التفسير ينطبق تماما على الرياء، فيكون أخوف علينا عند رسوله صلى الله عليه وسلم من المسيح الدجال .(118/88)
ولم يذكر المؤلف مسألة خوف النبي صلى الله عليه وسلم على أمته من المسيح الدجال، لأن المقام في الرياء لا فيما يخافه النبي صلى الله عليه وسلم على أمته .
****
باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله في الدنيا
ــــــــــــــــــ
قوله : (من الشرك) . للتبعيض، أي : بعض الشرك .
قوله (الدنيا). مفعول بإرادة ، لأن إرادة المصدر مضاف إلى فاعله ، وإذا أردت أن تعرف المصدر إن كان مضافا إلى فاعله أو مفعوله، فحوله إلى فعل مضارع مقرون بأن، فإذا قلنا : باب من الشرك أن يريد الإنسان بعمله الدنيا ، فالإنسان فاعل ، وعلى هذا ، فإرادة مصدر مضاف إلى فاعله ، والدنيا مفعول به .
وعنوان الباب له ثلاثة احتمالات :
الأول : أن يكون مكررا مع ما قبله، وهذا بعيد أن يكتب المؤلف ترجمتين متتابعتين لمعنى واحد
الثاني : أن يكون الباب الذي قبله أخص من هذا الباب، لأنه خاص في الرياء، وهذا أعم،وهذا محتمل .
الثالث : أن يكون هذا الباب نوعا مستقلا عن الباب الذي قبله، وهذا هو الظاهر، لأن الإنسان في الباب السابق، يعمل رياء يريد أن يمدح في العبادة، فيقال : هو عابد، ولا يريد النفع المادي .
وفي هذا الباب لا يريد أن يمدح بعبادته ولا يريد المراءاة ، بل يعبد الله مخلصا له، ولكنه يريد شيئا من الدنيا كالمال، والمرتبة، والصحة في نفسه وأهله وولده وما أشبه ذلك، فهو يريد بعمله نفعا في الدنيا، غافلا عن ثواب الآخرة .
* أمثلة تبين كيفية إرادة الإنسان بعمله الدنيا :
1. أن يريد المال، كمن أذن ليأخذ راتب المؤذن، أو حج ليأخذ المال .
2. أن يريد المرتبة، كمن تعلم في كلية ليأخذ الشهادة فترتفع مرتبته .
3. أن يريد دفع الأذى والأمراض والآفات عنه، كمن تعبد الله كي يجزيه الله بهذا في الدنيا بمحبة الخلق له ودفع السوء عنه وما أشبه ذلك .
4. أن يتعبد لله يريد صرف وجوه الناس إليه بالمحبة والتقدير .
وهناك أمثلة كثيرة .
تنبيه :(118/89)
فإن قيل : هل يدخل من يتعلمون في الكليات أو غيرها يريدون شهادة أو مرتبة بتعلمهم ؟
فالجواب : أنهم يدخلون في ذلك إذا لم يريدوا غرضا شرعيا ، فنقول لهم :
أولا : لا تقصدوا بذلك المرتبة الدنيوية، بل اتخذوا هذه الشهادات وسيلة للعمل في الحقول النافعة للخلق، لأن الأعمال في الوقت الحاضر مبنية على الشهادات ، والناس لا يستطيعون الوصول إلى منفعة الخلق إلا بهذه الوسيلة، وبذلك تكون النية سليمة .
ثانيا : أن المراد العلم لذاته قد لا يجده إلا في الكليات، فيدخل كلية أو نحوها لهذا الغرض، وأما بالنسبة للمرتبة، فإنها لاتهمه .
ثالثا : أن الإنسان إذا أراد بعمله الحسنيين – حسنى الدنيا وحسني الآخرة - ،فلا شي عليه لأن الله يقول:(ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (الطلاق : 3،2)، رغبه في التقوى بذكر المخرج من كل ضيق والرزق من حيث لا يحتسب .
فإن قيل : من أراد بعمله الدنيا كيف يقال إنه مخلص مع أنه أراد المال مثلا ؟
أجيب : إنه أخلص العبادة ولم يرد بها الخلق إطلاقا، فلم يقصد مراءاة الناس ومدحهم ، بل قصد أمرا ماديا، فإخلاصه ليس كامل لأن فيه شركا، ولكن ليس كشرك الرياء يريد أن يمدح بالتقرب إلى الله ، وهذا لم يرد مدح الناس بذلك ، بل أراد شيئا دنيئا غيره .
ولا مانع أن يدعو الإنسان في صلاته ويطلب أن يرزقه الله المال، ولكن لا يصلى من أجل هذا الشي ، فهذه مرتبة دنيئة .
أما طلب الخير في الدنيا بأسبابه الدنيوية ، كالبيع، والشراء، والزراعة، فهذا لا شي فيه ، والأصل أن لا نجعل في العبادات نصيبا من الدنيا، وقد سبق البحث في حكم العبادة إذا خالطها الرياء في باب الرياء.
ملاحظة :(118/90)
بعض الناس عندما يتكلمون على فوائد العبادات يحولونها إلى فوائد دنيوية. فمثلا يقولون : في الصلاة رياضة وإفادة الأعصاب ، وفي الصيام فائدة إزالة الرطوبة وترطيب الوجبات، والمفروض ألا نجعل الفوائد الدنيوية هي الأصل ، لأن الله لم يذكر ذلك في كتابه، بل ذكر أن الصلاة تنهي عن الفحشاء والمنكر .
وعن الصوم أنه سبب للتقوى، فالفوائد الدينية في العبادات هي الأصل والدنيوية ثانوية ، لكن عندما نتكلم عند عامة الناس ، فإننا نخاطبهم بالنواحي الدينية ، وعندما نتكلم عند من لا يقتنع إلا بشي مادي ، فإننا نخاطبه بالنواحي الدينية والدنيوية ، ولكل مقام مقال .
****
قوله تعالى : (من ) (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ) (هود:15)
ـــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى : (من كان يريد الحياة الدنيا) . أي : البقاء في الدنيا .
قوله : (وزينتها) . أي : المال، والبنين، والنساء، والحرث، والأنعام، والخيل المسومة ، كما قال الله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (آل عمران:14) .
قوله :(نوف إليهم) . فعل مضارع معتل مجزوم بحذف حرف العلة – الياء - ،لأنه جواب الشرط .
والمعني : أنهم يعطون ما يريدون في الدنيا ، ومن ذلك الكفار لا يسعون إلا للدنيا وزينتها ، فعجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا، كما قال تعالى: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا) (الاحقاف: من الآية20).(118/91)
ولهذا لما بكى عمر حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم وقد أثر في جنبه الفراش، فقال : (ما يبكيك؟) . قال: يا رسول الله ! كسرى وقيصر يعيشان فيما يعيشان فيه من نعيم وأنت على هذا الحال. فقال رسول صلى الله عليه وسلم : (أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم )(1) ، وفي الحقيقة هي ضرر عليهم ، لأنهم إذا انتقلوا من دار النعيم إلى الجحيم ، صار عليهم أشد وأعظم في فقد ما متعوا به في الدنيا .
قوله : (وهم فيها لا يبخسون) . البخس : النقص، أي : لا ينقصون مما يجازون فيه ، لأن الله عدل لا يظلم ، فيعطون ما أرادوه .
قوله : (أولئك) . المشار إليه الذين يريدون الحياة الدنيا وزينتها .
قوله : (ليس لهم في الآخرة إلا النار) . فيه حصر وطريقة النفي والإثبات ، وهذا يعني أنهم لن يدخلوا الجنة، لأن الذي ليس له إلا النار محروم من الجنة والعياذ بالله .
قوله :(وحبط ما صنعوا فيها) . الحبوط : الزوال، أي : زال عنهم ما صنعوا في الدنيا .
قوله : (وباطل ما كانوا يعملون) . (باطل) : خبر مقدم لأجل مراعاة الفواصل في الآيات والمبتدأ (ما) في قوله : (ما كانوا يعملون) ، فأثبت الله أنه ليس لهؤلاء إلا النار، وأن ما صنعوا في الدنيا قد حبط ، وأن أعمالهم باطلة . وقوله تعالى : ( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها لا يبخسون) مخصوصة بقوله تعالى : (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا)( الإسراء : 18) .
فإن قيل : لماذا لا نجعل آية هود حاكمة على آية الإسراء ويكون الله توعد من يريد العاجلة في الدنيا أن يجعل له ما يشاء لمن يريد ؟ ثم وعد أن يعطيه ما يشاء ؟
أجيب : إن هذا المعنى لا يستقيم لأمرين :
أولا : أن القاعدة الشرعية(118/92)
في النصوص أن الأخص مقدم على الأعم ، وآية هود عامة ، لأن كل من أراد الحياة الدنيا وزينتها وفي إليه العمل وأعطى ما أراد أن يعطي ، أما آية الإسراء ، فهي خاصة : ( عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) (الإسراء : 18) ، ولا يمكن أن يحكم بالأعم على الأخص .
الثاني : أن الواقع يشهد على ما تدل عليه آية الإسراء : لأن في فقراء الكفار من هو أفقر من فقراء المسلمين، فيكون عموم آية هود مخصوصا بآية الإسراء ، فالأمر موكول إلى مشيئة الله و فيمن يريده .
واختلف فيمن نزلت فيه آية هود :
1. قيل : نزلت في الكفار، لأن الكافر لا يريد إلا الحياة الدنيا ، ويدل لهذا سياقها والجزاء المرتب على هذا، وعليه يكون وجه مناسبتها للترجمة أنه إذا كان عمل الكافرين يراد به الدنيا، فكل من شاركهم في شي من ذلك ، ففيه شي من شر كهم وكفرهم .
2. وقيل : نزلت في المرائين، لأنهم لا يعلمون إلا للدنيا، فلا ينفعهم يوم القيامة .
3. وقيل : نزلت فيمن يريد مالا بعمله الصالح .
والسياق يدل للقول الأول ، لقوله تعالى : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (هود:16) .
تنبيه :
اقتصر المؤلف رحمه الله على الإشارة إلى تكميل الآية الأولى، وزدنا الآية التالية سهوا أن يكون خيرا .
***
وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (تعس عبد الدينار ؛ تعس عبد الدرهم ؛ تعس عبد الخميصة؛ تعس عبد الخميلة ؛ إن اعطي رضي وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ؛ وإذا شيك فلا انتفش. طوبي لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، اشعث راسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة ، كان في الحراسة ، وغن كان في الساقة ، كان في الساقة ، إن إستاذن ، لم يؤذن له ، وإن شفع ، لم يشفع له )(1)
ـــــــــــــــــــــــــ(118/93)
قوله : (وفي الصحيح عن أبي هريرة) . سبق الكلام على قول المؤلف : ( وفي الصحيح) في باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله .
قوله (تعس) . بفتح العين أو كسرها ، أي خاب وهلك .
قوله : (عبد الدينار). الدينار : هو النقد من الذهب ، والدينار الإسلامي زنته مثقال ، وسماه عبد الدينار، لأنه تعلق به تعلق العبد بالرب فكان أكبر همه، وقدمه على طاعة ربه ، فيقول في عبد الدرهم ما قيل في عبد الدينار ، والدرهم هو النقد من الفضة ، وزنة الدرهم الإسلامي سبعة أعشار المثقال ، فكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل .
وقد أراد المؤلف لهذا الحديث أن يتبين أن من الناس من يعبد الدنيا ، أي : يتذلل لها ويخضع لها، وتكون مناه وغايته ، فيغضب إذا فقدت ويرضى إذا وجدت ، ولهذا سمي النبي صلى الله عليه وسلم من هذا شأنه عبدا لها ، وهذا من يعني بجمع المال من الذهب والفضة ، بعمله في الدنيا .
قوله (تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة) . وهذا من يعني بمظهره وأثاثه، لأن الخميصة كساء جميل والخميلة فراش وثير، ليس له هم إلا هذا الأمر ، فإذا كان عابدا لهذه الأمور لأنه صرف لها لا جهوده وهمته ، فكيف بمن أراد بالعمل الصالح شيئا من الدنيا فجعل الدين وسيلة للدنيا ؟ فهذا أعظم .(118/94)
قوله : (إن أعطى رضى ، وإن لم يعط سخط ) . يحتمل أن يكون المعطي هو الله فيكون الإعطاء قدريا ، أي : أن قدر الله له الرزق والعطاء رضى واشرح صدره ، وإن منع وحرم المال سخط بقلبه وقوله ، كأن يقول : لماذا كنت فقيرا وهذا غنيا ؟ وما أشبه ذلك ، فيكون ساخطا على قضاء الله وقدره لأن الله منعه . والله – سبحانه وتعالى – يعطي ويمنع لحكمة، ويعطي الدنيا لمن يحب ومن لا يحب ، ولا يعطى الدين إلا لمن يحب . والواجب على المؤمن أن يرضى بقضاء الله وقدره ، إن أعطي شكر ، وأن منع صبر . ويحتمل أن يراد بالإعطاء الشرعي، أي : إن أعطي من مال يستحقه من الأموال الشرعية رضي، وأن لم يعط سخط، وكلا المعنيين حق، وهما يدلان على أن هذا الرجل لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له ، ولهذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم عبدا له . قوله ( تعس وانتكس) . تعس، أي : خاب وهلك ، وانتكس، أي : انتكست عليه الأمور بحيث لا تتيسر له ، فكلما أراد شيئا انقلبت عليه الأمور خلاف ما يريد ، ولهذا قال : (وإذا شيك فلا انتفش) . أي إذا أصابته شوكة، فلا يستطيع أن يزيل ما يؤذيه عن نفسه . وهذه الجمل الثلاث يحتمل خبرا منه صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الرجل، وأنه في تعاسة وانتكاس وعدم خلاص من الأذى،ويحتمل أن يكون من باب الدعاء على من هذه حالة ، لأنه لا يهتم إلا للدنيا ، فدعا عليه أن يهلك، وأن لا يصيب من الدنيا شيئا ، وأن لا يتمكن من إزالة ما يؤذيه ، وقد يصل إلى الشرك عندما يصده ذلك عن طاعة الله حتى أصبح لا يرضى إلا للمال ولا يسخط إلا له .
قوله :طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله) . هذا عكس الأول ، فهو لا يهتم للدنيا ، وإنما يهتم للآخرة ، فهو في استعداد دائم للجهاد في سبيل الله .(118/95)
و(طوبى) فُعلى من الطيب ، وهي اسم تفضيل ، فأطيب للمذكر وطوبى للمؤنث، والمعني : أطيب حال تكون لهذا الرجل ، وقيل : إن طوبى شجرة في الجنة ، والأول أعم ، كما قالوا في ويل : كلمة وعيد ، وقيل : واد في جهنم ، والأول أعم .
وقوله : (آخذ بعنان فرسه) . أي : ممسك بمقود فرسه الذي يقاتل عليه .
قوله : (في سبيل الله) . ضابطه أن يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا لا للحمية أو الوطنية أو ما أشبه ذلك ، لكن إن قاتل وطنية وقصد حماية وطنه لكونه بلدا إسلاميا يجب الذود عنه ، فهو في سبيل الله ، وكذلك من قاتل دفاعا عن نفسه أو ماله أو أهله ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (من قُتل دون ذلك، فهو شهيد) ، فأما من قاتل للوطنية المحضة ، فليس في سبيل الله لأن هذا قتال عصبية يستوي فيه المؤمن والكافر ، فإن الكافر يقاتل من أجل وطنه .
قوله : ( أشعث رأسه، مغبرة قدماه) . أي : رأسه أشعث من الغبار في سبيل الله ، فهو لا يهتم بحاله ولا بدنه ما دام هذا الأمر ناتجا عن طاعة الله – عز وجل – وقدماه مغبرة في السير في سبيل الله ، وهذا دليل على أن أهم شي عنده هو الجهاد في سبيل الله، أما أن يكون شعره أو ثوبه نظيفا ، فليس له هم فيه .
قوله : (إن كان في الحراسة، فهو في الحراسة، وإن كان في الساقة، فهو في الساقة) . الحراسة والساقة ليست من مقدم الجيش، فالحراسة أن يحرس الإنسان الجيش، والساقة أن يكون في مؤخرته، وللجملتين معنيان :
أحدهما : أنه لا يبالي أين وضع ، إن قيل له : احرس، حرس، وإن قيل له : كن في الساقة، كان فيها ، فلا يطلب مرتبة أعلى من هذا المحل كمقدم الجيش مثلا .(118/96)
الثاني ، إن كان في الحراسة أدى حقها، وكذا إن كان في الساقة، والحديث الصالح لمعنيين، يحمل عليهما جميعا إذا لم يكن بينهما تعارض، ولا تعارض هنا . قوله : (إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع له). أي:هو عند الناس ليس له جاه ولا شرف، حتى إن استأذن لم يؤذن له، وهكذا عند أهل السلطة ليس له مرتبة، فإن شفع لم يشفع، ولكنه وجيه عند الله وله المنزلة العالية، لأنه يقاتل في سبيل الله . والشفاعة : هي التوسط لغير يجلب منفعة أو دفع مضرة .
والاستئذان : طلب الإذن بالشي . والحديث قسم الناس إلى قسمين :
الأول : ليس له هم إلا الدنيا، أما لتحصيل المال ، أو تجميل الحال ، فقد استعبدت قلبه حتى أشغلته عن ذكر الله وعبادته .
الثاني : أكب همه الآخرة ، فهو يسعى لها في أعلى ما يكون مشقة وهو الجهاد في سبيل الله، ومع ذلك أدى ما يجب عليه من جميع الوجوه .
ويستفاد من الحديث :
1. أن الناس قسمان كما سبق .
2. أن الذي ليس له هم إلا الدنيا قد تنقلب عليه الأمور، ولا يستطيع الخلاص من أدنى أذية وهي الشوكة، بخلاف الحازم الذي لا تهمه الدنيا ، بل أراد الآخرة ولم ينس نصيبه من الدنيا، وقنع بما قدره الله له .
3. أنه ينبغي لمن جاهد في سبيل الله ألا تكون همه المراتب، بل يكون همه القيام بما يجب عليه ، إما في الحراسة ،أو الساقة ، أو القلب، أو الجنب، حسب المصلحة.
4. أن دنو مرتبة الإنسان عند الناس لا يستلزم منه دنو مرتبته عند الله – عز وجل – فهذا الرجل الذي إن شفع لم يشفع وإن استأذن لم يؤذن له قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم (طوبى له) ، ولم يقل إن سأل لم يعط، بل لا تهمه الدنيا حتى يسال عنها، لمن يهمه الخير فيشفع للناس ويستأذن للدخول على ذوي السلطة للمصالح العامة .
فيه مسائل :(118/97)
الأولى : إرادة الإنسان الدنيا بعمل الآخرة . وهذا من الشرك، لأنه جعل عمل الآخرة وسيلة لعمل الدنيا، فيطغى قلبه حب الدنيا حتى يقدمها على الآخرة ، والحزم والإخلاص أن يجعل عمل الدنيا للآخرة .
الثانية : تفسير آية هود. وقد سبق ذلك .
الثالثة : تسمية الإنسان المسلم عبد الدينار والدرهم والخميصة. وهذه العبودية لا تدخل في الشرك ما لم يصل بها إلى حد الشرك، ولكنها نوع آخر يخل بالإخلاص ، لأنه جعل في قلبه محبة زاحمت محبة الله – عز وجل – ومحبة أعمال الخير.
الرابعة : تفسير ذلك بأنه إن أعطى رضى وإن لم يعط سخط. وهذا تفسير لقوله صلى الله عليه وسلم : (عبد الدينار، عبد الدرهم ،عبد الخميصة، إن أعطي رضى وإن لم يعط سخط) ، وهذه علامة عبوديته لهذه الأشياء أن يكون رضاه وسخطه تابعا لهذه الأشياء .
الخامسة : قوله (تعس وانتكس) .
السادسة : قوله : (إذا شيك فلا انتفش) يحتمل أن تكون الجمل الثلاث خبرا أو دعاء ، وسبق شرح ذلك .
السابعة : الثناء على المجاهد الموصوف بتلك الصفات .
فقوله في الحديث (طوبى لعبد ....) يدل على الثناء عليه، وأنه هو الذي يستحق أن يمدح لا أصحاب الدراهم والدنانير وأصحاب الفرش والمراتب .
****
باب من أطاع الله العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحيل ما حرمه فقد اتخذهم أربابا
ــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله ( من أطاع العلماء). (من) يحتمل أن تكون شرطية، بدليل قوله : (فقد اتخذهم ) ، لأنه جواب الشرط ، ويحتمل أن تكون موصولة ، أي : (باب الذي أطاع العلماء) .
قوله : ( فقد اتخذهم) . خبر مبتدأ ، وقرنت بالفاء، لأن الاسم الموصول كالشرط في العموم،وعلى الأول تقرأ (باب) بالتنوين ، وعلى الثاني بدون تنوين ، والأول أحسن .(118/98)
والمراد بالعلماء : العلماء بشرع الله ، والأمراء: أولو الأمر المنفذون له ، وهذا الصنفان هم المذكوران في قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم) (النساء :59) ، فجعل الله طاعته مستقلة، وطاعة رسوله مستقلة، وطاعة أولي الأمر تابعة، ولهذا لم يكرر الفعل (أطيعوا) فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وأولو الأمر هم أولو الشأن، وهم العلماء ، لأنه يستند إليهم في أمر الشرع والعلم به ، والأمراء ، لأنه يستند إليهم في تنفيذ الشرع وإمضائه، وإذا استقام العلماء والأمراء استقامت الأمور، وبفسادهم تفسد الأمور، لأن العلماء أهل الإرشاد والدلالة ، والأمراء أهل الإلزام والتنفيذ.
قوله : (في تحريم ما أحل الله) . أي : في جعله حراما، أي : عقيدة أو عملا.
(أو تحليل ما حرم الله) . أي : في جعله حلالا عقيدة أو عملا ، فتحريم ما احل الله لا ينقص درجة في الإثم عن تحليل ما حرم الله ، وكثير من ذوي الغيرة من الناس تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين ، وكلاهما خطأ، ومع ذلك ، فإن تحليل الحرام فيما الأصل فيه الحل أهون من تحريم الحلال ، لأن تحليل الحرام إذا لم يتبين تحريمه فهو مبني على الأصل وهو الحل ، ورحمة الله – سبحانه – سبقت غضبه، فلا يمكن أن نحرم إلا ما تبين تحريمه ، ولأنه أضيق وأشد ، والأصل أن تبقى الأمور على الحل والسعة حتى يتبين التحريم .
أما في العبادات فيشدد ، لأن الأصل المنع والتحريم حتى يبينه الشرع كما قيل :
والأصل في الأشياء حل وامنع عبادة إلا بإذن الشارع
قوله : (أربابا) . جمع رب ، وهو المتصرف المالك .
والتصرف نوعان : تصرف قدري ، وتصرف شرعي .(118/99)
فمن أطاع العلماء في مخافة أمر الله ورسوله ، فقد اتخذهم أربابا من دون الله باعتبار التصرف الشرعي، لأنه اعتبرهم مشرعين واعتبر تشريعهم شرعا يعمل به ، وبالعكس الأمراء .
وقال ابن عباس : ( يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء ،
ــــــــــــــــــــــ
****
قول ابن عباس : (حجارة من السماء) . أي : من فوق تنزل عليكم عقوبة لكم ، ونزول الحجارة من السماء ليس بالأمر المستحيل، بل هو ممكن ، قال تعالى في أصحاب الفيل : (وأرسل عليهم طيرا أبابيل *ترميهم بحجارة من سجيل) (الفيل : 4،3) وقال تعالى في قوم لوط : (إنا أرسلنا عليهم حاصبا إلا آل لوط نجيناهم بسحر) (القمر :24) .
والحاصب : الحجارة تحصبهم من السماء .
قوله : (أقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقولون قال أبو بكر وعمر؟!) أبو بكر وعمر أفضل هذه الأمة وأقربها إلى الصواب، قال النبي صلي الله عليه وسلم : (إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا) . رواه مسلم(2) ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال : (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)(3) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ)(4) . ولم يعرف عن أبي بكر أنه خالف نصا في رأيه ، فإذا كان قول أبي بكر وعمر إذا عارض الإنسان بقولهما قول الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنه يوشك أن تنزل عليه حجارة من السماء ، فما بالك بمن يعارض قوله صلى الله عليه وسلم بمن هو دون أبي بكر وعمر؟ والفرق بين ذلك كما بين السماء والأرض ، فيكون هذا أقرب للعقوبة .(118/100)
وقال أحمد بن حنبل : ( عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي شفيلن ، والله تعالى يقول : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور: من الآية63) اتدري ما الفتنة ؟ الفتنة الشرك ، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك ) (1)
ـــــــــــــــــــ
وفي الأثر التحذير عن التقليد الأعمى والتعصب المذهبي الذي ليس مبنيا على أساس سليم .
وبعض الناس يرتكب خطأ فاحشا إذا قيل له : قال رسول الله صلى الله عيه وسلم ، قال : لكن في الكتاب الفلاني كذا وكذا ، فعليه أن يتقي الله الذي قال في كتابه : (ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين) (القصص :65) ، ولم يقل ماذا أجبتم فلانا وفلانا ، أما صاحب الكتاب ، فإنه علم أنه يحب الخير ويريد الحق ، فإنه يدعى له بالمغفرة والرحمة إذا أخطأ ، ولا يقال : إنه معصوم ، يعارض بقوله قول الرسول صلى الله عليه وسلم .
****
قول أحمد رحمه الله : (عجبت) العجب نوعان :
الأول : عجب استحسان، كما في حديث عائشة رضى الله عنها : (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في شأنه كله : في طهوره، وترجله، وتنعله)(2) .
الثاني : عجب إنكار ، كما في قوله تعالى : (بل عجبت ويسخرون) (الصافات :12) ، والعجب في كلام الإمام أحمد هنا عجب إنكار .
قوله : (الإسناد) . المراد به هنا رجال السند لا نسبة الحديث إلى راويه، أي : عرفوا صحة الحديث بعرفة الرجال .
قوله : ( يذهبون إلى رأي سفيان ) . أي : سفيان الثوري ، لأنه صاحب المذهب المشهور وله أتباع لكنهم انقرضوا ، فهم يذهبون إلى رأي سفيان وهو من الفقهاء ويتركون ما جاء به الحديث!(118/101)
قوله : (والله يقول : (فليحذر) ) . الفاء عاطفة ، واللام للأمر ، ولهذا سكنت وجزم الفعل بها، لكن حرك بالكسر، لالتقاء الساكن .
قوله : (عن أمره) . الضمير يعود للرسول صلى الله عليه وسلم ،بدليل أول الآية قال تعالى (لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) (النور:63) .
فإن قيل : لماذا عدى الفعل ب: (عن) مع أن (يخالف) يتعدى بنفسه ؟
أجيب:أن الفعل ضمن معنى الإعراض، أي : يعرضون عن أمره زهدا فيه وعدم مبالاة به .
و(أمره) : واحد الأوامر وليس واحد الأمور ، لأن الأمر هو الذي يخالف فيه ، وهو مفرد مضاف ، فيعم جميع الأوامر .
(فتنة).الفتنة فسرها الإمام أحمد بالشرك ، وعلى هذا يكون الوعد بأحد أمرين : إما الشرك ، وإما العذاب الأليم
***
وعن عدي بن حاتم : انه سمع النبي صلي الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية :( )اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة:31) ، فقلت له : إنا لسنا نعبدهم . قال : ( أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ، ويحلون ما حرم الله فتحلونه؟) فقلت بلي ، قال : ( فتلك عبادتهم) . رواه أحمد والترمزي وحسنه (1)
ــــــــــــــــــــ
قوله في حديث عدى بن حاتم : (اتخذوا) . الضمير يعود للنصارى ، لأن اليهود لم يتخذوا المسيح ابن مريم إلها ، بل ادعوا أنه ابن زانية وحاولوا قتله، وادعوا أنهم قتلوه، ويحتمل أن يعود الضمير لليهود والنصارى جميعا ويختص النصارى باتخاذ المسيح ابن مريم ، وهذا هو المتبادر من السياق مع الآية التي قبلها .(118/102)
قوله : (أحبارهم ورهبانهم) . الأحبار : جمع حبر ، وحبر بفتح الحاء وكسرها ، وهو العالم الواسع العلم، والرهبان : جمع راهب، وهو العابد الزاهد .
قوله : (والمسيح ابن مريم) . أي : اتخذوه إلها مع الله ، بدليل قوله تعالى : ( وما أُمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا ) ، والعبادة : التذلل والخضوع ، واتباع الأوامر واجتناب النواهي .
قوله : (إلها واحدا) . هو الله – عز وجل - ، وإله، أي : مألوه معبود مطاع ، وليس بمعنى آله ، أي : قادر على الاختراع ، فإن هذا المعنى فاسد ذهب إليه المتكلمون أو عامتهم ، فيكون معنى (لا إله إلا الله) على هذا القول : لا رب إلا الله ، وهذا ليس بالتوحيد المطلوب بهذه الكلمة، إذ لو كان كذلك لكان المشركون الذين قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم موحدين ، لأنهم يقولون : لا رب إلا الله ، قال تعالى : (قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله) ( المؤمنون : 86) وهذه إحدى القراءتين ، وهي سبعيه .
قوله : (سبحانه عما يشركون) . (سبحان) : اسم مصدر ، وهي معمول أو مفعول لفعل محذوف وجوبا تقديره يسبح سبحانا ، أي : تسبيحا ، لأن اسم المصدر بمعنى المصدر ، فسبحان : مفعول مطلق عاملها محذوف وجوبا وهي ملازمة للإضافة : إما إلى مضمر ، كما في الآية :( سبحانه)، أو إلى مظهر كما في (سبحان الله) .
والتسبيح : التنزيه، أي : تنزيه الله عن كل نقص ، ولا يحتاج أن نقول : ومماثلة المخلوقين ، لأن المماثلة نقص ، ولكن إذا قلناها ، فذلك من باب زيادة الإيضاح حتى لا يظن أن تمثيل الخالق بالمخلوق في الكمال من باب الكمال، فيكون المعنى : تنزيه الله عن كل ما لا يليق به من نقص أو مماثلة المخلوقين .
وقوله : (عما يشركون) . أي : مما سواه من المسيح ابن مريم والأحبار والرهبان ، فهو متنزه عن كل شرك وعن كل مشرك به .(118/103)
قوله : (عما يشركون) . هذا من البلاغة في القرآن ، لأنها جاءت محتملة أن تكون (ما) مصدرية، فيكون المعنى من شركهم ، أو موصولة، ويكون المعنى : سبحان الله عن الذين يشركون به، وهي صالحة الأمرين ، فتكون شاملة لهما لأن الصحيح جواز استعمال المشترك في معنييه إذا لم يكن بينهما تعارض، فيكون التنزيه عن الشرك وعن المشرك به .
قوله : (إنا لسنا نعبدهم) . أي : لا نعبد الأحبار والرهبان، ولا نسجد لهم ولا نركع ولا نذبح ولا ننذر لهم ، وهذا صحيح بالنسبة للأحبار والرهبان بدليل قوله : (أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلون ما حرم الله فتحلونه ؟!) .
فإن هذا الوصف لا ينطبق على عيسى أبدا ، لأنه رسول الله ، فما أحله ، فقد أحله الله ، وما حرمه ، فقد حرمه الله ، وقد حاول بعض الناس أن يعل الحديث لهذا المعنى مع ضعف سنده ، والحديث حسنة الترمذي والألباني وآخرون وضعفه آخرون .
ويجاب على التعليل المذكور بأن قول عدى : (لسنا نعبدهم) يعود على الأحبار والرهبان ، أما عيسى ابن مريم ، فالمعروف أنهم يعبدونه .
وبدأ بتحريم الحلال ، لأنه أعظم من تحليل الحرام ، وكلاهما محرم ، لقوله تعالى : (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ) (النحل:116) .
قوله : (فتلك عبادتهم) ووجه كونه عبادة : أن من معنى العبادة الطاعة ، وطاعة غير الله عبادة للمطاع ، ولكن بشرط أن تكون في غير طاعة الله ، أما إذا كانت في طاعة الله فهي عبادة لله، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله ، كما لو أمرك أبوك بالصلاة فصليت ، فلا تكون قد أباك أبوك بطاعتك له ، ولكن عبدت الله ، لأنك أطعت غير الله في طاعة الله ، ولأن أمر غير الله بطاعة الله وامتثال أمره هو امتثال لأمر الله .
ويستفاد من هذا الحديث :(118/104)
1. أن الطاعة بمعنى العبادة عبودية مقيدة .
2. أن الطاعة في مخالفة شرع الله من عبادة المطاع ، أما في عبادة الله ، فهي عبادة لله .
3. أن اتباع العلماء والعباد في مخالفة شرع الله من اتخاذهم أربابا.
واعلم أن اتباع العلماء أو الأمراء في تحليل ما حرم الله أو العكس ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : أن يتابعهم في ذلك راضيا بقولهم ، مقدما له ، ساخطا لحكم الله فهو كافر لأنه كره ما أنزل الله ، فأحبط الله عمله ، ولا تحبط الأعمال إلا بالكفر ، فكل من كره ما أنزل الله ، فهو كافر.
الثاني : أن يتابعهم في ذلك راضيا بحكم الله وعالما بأنه أمثل وأصلح للعباد والبلاد ، ولكن لهوى في نفسه اختاره ، كأن يريد مثلا وظيفة ، فهذا لا يكفر ، ولكنه فاسق وله حكم غيره من العصاة .
الثالث : أن يتابعهم جاهلا ، فيظن أن ذلك حكم الله ، فينقسم إلى قسمين :
أ – أن يمكنه أن يعرف الحق بنفسه ، فهو مفرط أو مقصر ، فهو آثم ، لأن الله أمر بسؤال أهل العلم عند عدم العلم .
ب – أن لا يكون عالما ولا يمكنه التعلم فيتابعهم تقليدا ويظن أن هذا هو الحق ، فهذا لا شي
عليه لأنه فعل ما أمر به وكان معذور بذلك ،ولذلك ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:(من أفتي بغير علم ، فإنما إثمه على من أفتاه) (1)،لو قلنا : بإثمه بخطأ غيره ، لزم من ذلك الحرج والمشقة ، ولم يثق الناس بأحد لاحتمال خطئه .
فإن قيل : لماذا لا يكفر أهل القسم الثاني ؟
أجيب : إننا لو قلنا بكفرهم لزم من ذلك تكفير كل صاحب معصية يعرف أنه عاص لله ويعلم أنه حكم الله .
فائدة :
وصف الله الحاكمين بغير ما أنزل الله بثلاث أوصاف :
1. قال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ)(المائدة: من الآية44) .(118/105)
2. قال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْظالمون) (المائدة: من الآية45) .
3. قال تعالى : ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفاسقون) (المائدة: من الآية47) .
واختلف أهل العلم في ذلك :
فقيل:إن هذه الأوصاف لموصوف واحد،لأن الكافر ظالم،لقوله تعالى(والكافرون هم الظالمون) (البقرة:254) وفاسق، لقوله تعالى:(وأما الذين فسقوا فمأواهم النار)(السجدة:33)،أي:كفروا .
وقيل : إنها لموصفين متعددين ، وإنها على حسب الحكم ، وهذا هو الراجح .
فيكون كافرا في ثلاثة أحوال :
أ – إذا اعتقد جواز الحكم بغير الله ما أنزل الله ، بدليل قوله تعالى : (أفحكم الجاهلية يبغون) (المائدة :50) فكل ما خالف حكم الله، فهو من حكم الجاهلية ، بدليل الإجماع القطعي على أنه لا يجوز الحكم بغير ما أنزل الله فالمحل والمبيح للحكم بغير ما أنزل الله مخالف لإجماع المسلمين القطعي، وهذا كافر مرتد، وذلك كمن اعتقد حل الزنا أو الخمر أو تحريم الخبز أو اللبن .
ب – إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله .
ج – إذا اعتقد أن حكم غير الله أحسن من حكم الله .
بدليل قوله تعالى : (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (المائدة : 50) ، فتضمنت الآية أن حكم الله أحسن الأحكام ، بدليل قوله تعالى مقررا ذلك : (أليس الله بأحكم الحاكمين) (التين : 8) فإذا كان الله أحسن الحاكمين أحكاما وهو أحكم الحاكمين ، فمن أدعى أن حكم الله أو أحسن فهو كافر لأنه مكذب للقرآن .
ويكون ظالما : إذا اعتقد أن الحكم بما أنزل الله أحسن الأحكام ، وأنه أنفع للعباد والبلاد ، وأنه الواجب تطبيقه، ولكن حمله البغض والحقد للمحكوم عليه حتى حكم بغير ما أنزل الله ، فهو ظالم .(118/106)
ويكون فاسقا : إذا كان حكمه بغير ما أنزل الله لهوى في نفسه مع اعتقاده أن حكم الله هو الحق ، لكن حكم بغيره لهوى في نفسه، أي محبة لما حكم به لا كراهة لحكم الله ولا يضر أحدا به، مثل : أن يحكم لشخص لرشوة رشي إياها ، أو لكونه قريبا أو صديقا ، أو يطلب من ورائه حاجة، وما أشبه ذلك مع اعتقاده بأن حكم الله هو الأمثل والواجب اتباعه ، فهذا فاسق ، وإن كان أيضا ظالما ، لكن وصف الفسق في حقه أولى من وصف الظلم .
أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله ، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين ، فهو كافر لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه الخير للعباد والبلاد من شريعة الله ، وعندما نقول بأنه كافر ، فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر .
ولكن قد يكون الواضع له معذورا ، مثل أن يغرر به كأن يقال : إن هذا لا يخالف الإسلام ، أو هذا من المصالح المرسلة ، أو هذا مما رده الإسلام إلى الناس .
فيوجد بعض العلماء – وإن كانوا مخطئين – يقولون : إن مسألة المعاملات لا تعلق لها بالشرع ، بل ترجع إلى ما يصلح الاقتصاد في كل زمان بحسبه ، فإذا اقتضى الحال أن نضع بنوكا للربا أو ضرائب على الناس، فهذا لا شي فيه .
وهذا لا شك في خطئه ، فإن كان مجتهدين غفر الله لهم ، وإلا ، فهم على خطر عظيم ، واللائق بهؤلاء أن يلقبوا بأنهم من علماء الدولة لا علماء الملة .
ومما لا شك فيه أن الشرع جاء بتنظيم العبادات التي بين الإنسان وربه والمعاملات التي بين الإنسان مع الخلق في العقود والأنكحة والمواريث وغيرها ، فالشرع كامل من جميع الوجوه ، قال تعالى : (اليوم أكملت لكم دينكم ) (المائدة : 3) .
وكيف يقال:إن المعاملات لا تعلق لها بالشرع وأطول آية في القرآن نزلت في المعاملات ، ولولا نظام الشرع في المعاملات لفسد الناس ؟(118/107)
وأنا لا أقول : نأخذ بكل ما قاله الفقهاء ، لأنهم قد يصيبون وقد يخطئون ، بل يجب أن نأخذ بكل ما قاله الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يوجد حال من الأحوال تقع بين الناس إلا في كتاب الله وسنة رسوله ما يزيل إشكالها ويحلها ، ولكن الخطأ إما من نقص العلم أو الفهم ، وهذا قصور ، أو نقص التدبر ، وهذا تقصير .
أما إذا وفق الإنسان بالعلم والفهم وبذل الجهد في الوصول إلى الحق ، فلا بد أن يصل إليه حتى في المعاملات ، قال تعالى (أفلا يتدبرون القرآن) (النساء :82 ) وقال تعالى : (أفلم يدبروا القول) (المؤمنون : 68) وقال تعالى : (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته) (ص : 29) ، وقال تعالى : (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي) (النحل : 89) فكل شي يحتاجه الإنسان في دينه أو دنياه ، فإن القرآن بينه بيانا شافيا .
ومن سن قوانين تخالف الشريعة وادعى أنها من المصالح المرسلة ، فهو كاذب في دعواه لأن المصالح المرسلة والمقيدة إن اعتبرها الشرع ودل عليها فهي حق ومن الشرع ، وإن لم يعتبرها ، فليست مصالح ، ولا يمكن أن تكون كذلك ، ولهذا كان الصواب أنه ليس هناك دليل يسمى بالمصالح المرسلة ، بل ما اعتبره الشرع ، فهو مصلحة ، وما نفاه ، ليس بمصلحة ، وما سكت عنه فهو عفو .
والمصالح المرسلة توسع فيها كثير من الناس ، فأدخل فيها بعض المسائل المنكرة من البدع وغيرها ، كعيد ميلاد الرسول ، فزعموا أن فيه شحذا للهمم وتنشيطا للناس لأنهم نسوا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا باطل ، لأن جميع المسلمين في صلاة يشهدون أن محمدا عبده ورسوله ويصلون عليه ، والذي لا يحي قلبه بهذا وهو يصلي بين يدي ربه كيف يحي قلبه بساعة يؤتى فيها بالقصائد الباطلة التي فيها من الغلو ما ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهذه مفسدة وليست مصلحة .(118/108)
فالمصلحة المرسلة وإن وضعها بعض أهل العلم المجتهدين الكبار ، فلاشك أن مرادهم نصر الله ورسوله ، ولكن استخدمت هذا المصالح في غير ما أولئك العلماء وتوسع فيها ، وعيه ، فإنها تقاس بالمعيار الصحيح ، فإن اعتبرها الشرع قبلت ، وإلا ، فكما قال الإمام مالك : (كل أحد يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر ) وهنالك قواعد كليات تطبق عليه الجزئيات .
وليعلم أنه يجب أن يجب على الإنسان أن يتقي ربه في جميع الأحكام ، فلا يتسرع في البت بها خصوصا في التكفير الذي صار بعض أهل الغيرة والعاطفة يطلقونه بدون تفكير ولا روية، مع إن الإنسان إذا كفر شخصا ولم يكن الشخص أهلا له عاد ذلك إلى قائله ، وتكفير الشخص يترتب عليه أحكام كثيرة،فيكون مباح الدم والمال ، ويترتب عليه جميع أحكام الكفر ، وكما لا يجوز أن نطلق الكفر على شخص معين حتى يتبين شروط التكفير في حقه يجب أن لا نجبن عن تكفير من كفره الله ورسوله ، ولكن يجب أن نفرق بين المعين وغير المعين ، فالمعين يحتاج الحكم بتكفيره إلى أمرين :
1. ثبوت أن هذه الخصلة التي قام بها مما يقتضي الكفر .
2. انطباق شروط التكفير عليه ، وأهمها بأن هذا مكفر ، فإن كان جاهلا ،فإنه لا يكفر ، ولهذا ذكر العلماء أن من شروط إقامة الحد أن يكون عالما بالتحريم ، وهذا وهو إقامة حد وليس بتكفير ، والتحرز من التكفير أولى وأحرى .(118/109)
قال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ )(النساء: من الآية165) وقال تعالى : (وما كنا معذبين حتى نبعث رسول) (الإسراء : 15) وقال تعالى : (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ )(التوبة: من الآية115) ولابد من توفر الشروط من عدم الموانع ، فلو قام الشخص بما يقتضي الكفر إكراها أو ذهولا لم يكفر،لقوله تعالى:(من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من إكراه و قلبه مطمئن ) (النحل : 106) ولقول الرجل الذي وجد دابته في مهلكة:(اللهم!أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح(1)، فلم يؤاخذ على بذلك) .
***
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية النور . وهي قوله تعالى : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصبهم عذاب أليم) . وسبق تفسيرها
الثانية : تفسير آية براءة . وهي قوله تعالى:(اتخذوا أحبارهم و رهبانهم أرباب من دون الله .) الآية ، وقد سبق ذلك .
الثالثة : التنبيه على معنى العبادة التي أنكرها عدي . لأن العبادة هي التعبد لهم بالطاعة ، والتذلل لهم بالركوع والسجود والنذر وما أشبه ، ولكن بين صلى الله عليه وسلم المراد من عبادتهم بأنها طاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال .
الرابعة : تمثيل ابن عمر عباس بأبي بكر وعمر، وتمثيل أحمد بسفيان . أي : إذا كان أبو بكر وعمر لا يمكن أن يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقولهما ، فما بالك بمن عارض قول النبي صلى الله عليه وسلم بقول من دونهما ؟ فهو اشد وأقبح ، وكذلك مثل الإمام احمد بسفيان الثوري وأنكر على من أخذ برأيه وترك ما صح به الإسناد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستدل بقوله تعالى : (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) . الآية .(118/110)
الخامسة : تحول الأحوال إلي هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ... الخ .
يقول المؤلف رحمه الله تعالى : تغيرت الأحوال إلى هذه الغاية حتى صار عند الأكثر عبادة الرهبان هي أفضل الأعمال ... وهذا لاشك أنه أشد من معرضة قول الرسول صلى الله عليه وسلم بقول أبي بكر وعمر .
ثم قال : ( ثم تغيرت الأحوال إلى أن عبد من دون الله من ليس من الصالحين ) ، أي / يركع ويسجد له ، ويعظم تعظيم الرب ، ويوصف بما لا يستحق ، وهذا يوجد عند كثير من الشعراء الذين يمدحون الملوك والوزراء وهم لا يستحقون أن يكونوا بمنزلة أبي بكر وعمر .
ثم قال : (وعبد بالمعنى الثاني ) : وهو الطاعة والاتباع من هو من الجاهلين ، فأطيع الجاهل في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله ، كما يوجد في بعض النظم والقوانين المخالفة للشريعة الإسلامية ، فإن واضعيها جهال لا يعرفون من الشريعة ولا الأديان شيئا ، فصاروا يعبدون بهذا المعنى ، فيطاعون في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله .
وهذا في زمان المؤلف ، فكيف بزماننا ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أنس بن مالك رضى الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال : (لا يأتي زمان على الناس إلا وما بعده شر منه ، حتى تلقوا ربكم (1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة : (ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا(2) ، وعصر الصحابة أقرب إلى الهدى من عصر من بعدهم .
والناس لا يحسون بالتغير ، لأن الأمور تأتي رويدا رويدا ، ولو غاب أحد مدة طويلة ثم جاء ، لوجد التغير الكثير المزعج – نسأل الله السلامة - ، فعلينا الحذر ، وأن نعلم أن شرع الله يجب أن يحمي وأن يصان ، ولا يطاع أحد في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله أبدا مهما كانت منزلته ، وأن الواجب أن نكون عبادا لله – عز وجل – تذللا وتعبدا وطاعة .(118/111)
هذا الباب له صلة قوية بما قبله ، لأن ما قبله فيه حكم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله أو تحريم ما أحل الله ، وهذا فيه الإنكار على من أراد التحاكم إلى غير الله ورسوله ، وقد ذكر الشيخ رحمه الله فيه أربع آيات :
باب قوله تعالي :
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء:60)
ــــــــــــــــ
****
الآية الأولى ما جعلها ترجمة للباب ، وهي قوله تعالى : (أم تر) .
الاستفهام يراد به التقرير والتعجب من حالهم ، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم .
قوله : (يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك) . هذا يعين أن يكون الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم هنا ، ولم يقل الذين آمنوا ، لأنهم لم يؤامنوا ، بل يزعمون ذلك وهم كاذبون .
والذي أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم الكتاب والحكمة ، قال تعالى : (وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة) (النساء : 113) قال المفسرون : الحكمة السنة ، وهم يزعمون أنهم آمنوا بذلك ، لكن أفعالهم تكذب أقوالهم ، حيث يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت لا إلى الله ورسوله .
قوله : (إلى الطاغوت) . صيغة مبالغة من الطغيان ، ففيه اعتداء وبغي، والمراد به هنا كل حكم خالف حكم الله ورسوله ، وكل حاكم يحكم بغير ما أنزل الله على رسوله ، أما الطاغوت بالمعنى الأعم فقد حده ابن القيم بأنه : (كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع ) وقد تقدم الكلام عليه في أول كتاب التوحيد .
قوله : (وقد أمروا أن يكفروا) . أي : أمرهم الله بالكفر بالطاغوت أمرا ليس فيه لبس ولا خفاء ، فمن أراد التحاكم إليه ، فهذه الإرادة على بصيرة ، إذ الأمر بين لهم .(118/112)
قوله : (ويريد الشيطان) . جنس يشمل شياطين الإنس والجن .
قوله : (أن يضلهم ضلالا بعيدا) . أي : يوقعهم في الضلال البعيد عن الحق، ولكن لا يلزم من ذلك أن ينقلهم إلى الباطل مرة واحدة ، ولكن بالتدريج .
فقوله : (بعيدا) . أي : ليس قريبا ، لكن بالتدرج شيئا فشيئا حتى يوقعهم في الضلال البعيد.
قوله : (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ) . أي : قال لهم الناس : أقبلوا (إلى ما أنزل الله) من القرآن (وإلى الرسول) نفسه في حياته وسنته بعد وفاته ، والمراد هنا الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه في حياته .
قوله : (رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) . الرؤية هنا رؤية حال لا رؤية بصر ، بدليل قوله : (تعالوا) ، فهي تدل على أنهم ليسوا حاضرين عنده . والمعنى : كأنما تشاهدهم .
قوله : (رأيت المنافقين) . إظهار في موضع الإضمار لثلاث فوائد :
الأولى : أن هؤلاء الذين يزعمون الإيمان كانوا منافقين .
الثانية : أن هذا لا يصدر إلا من منافق ، لأن المؤمن حقا لا بد أن ينقاد لأمر الله ورسوله بدون صد .
الثالثة : التنبيه ، لأن الكلام إذا كان على نسق واحد قد يغفل الإنسان عنه ، فإذا تغير ، حصل له انتباه .
قوله : (رأيت المنافقين) جواب (إذا) ، وكلمة (صد) تستعمل لازمة ،أي : يوصف به الشخص ولا يتعداه إلى غيره ، ومصدرها صدود ، كما في هذه الآية ، ومتعدية ، أي : صد غيره ، ومصدرها صد ، كما في قوله تعالى : (وصدوكم عن المسجد الحرام) (الفتح : 25) .
وقوله : (فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاؤوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا) . الاستفهام هنا يراد به التعجب ، أي : كيف حالهم إذا أصابتهم مصيبة ، والمصيبة هنا تشمل المصيبة الشرعية والدنيوية لعد تضاد المعنيين .(118/113)
فالدنيوية مثل : الفقر، والجدب، وما أشبه ذلك ، فيأتون يشكون إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : أصابتنا هذه المصائب ونحن ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق .
والشرعية : إذا أظهر الله رسوله على أمرهم ، خافوا وقالوا : يا رسول الله ! ما أردنا إلا الإحسان والتوفيق .
قوله : (بما قدمت أيديهم) . الباء : هنا للسببية ، و(ما) اسم موصول ، و(قدمت) صلته ، والعائد محذوف تقديره بما قدمته أيديهم ، وفي اللغة العربية يطلق هذا التعبير باليد ويراد به نفس الفاعل ، أي : بما قدموه من الأعمال السيئة .
وقوله : (إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا ) . (إن) بمعني : (ما) ، أي : ما أردنا إلا إحسانا بكوننا نسلم من الفضيحة والعار ، وتوفيقا بين المؤمنين والكافرين أو بين طريق الكفر وطريق الإٌيمان ،أي : نمشي معكم ونمشي الكفار ، وهذه حال المنافقين ، فهم قالوا : أردنا أن حسن المنهج والمسلك مع هؤلاء وهؤلاء ونوفق بين الطرفين .
قوله : (أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم ) . توعدهم الله بأنه يعلم ما في قلوبهم من النفاق والمكر والخداع ، فالله علام الغيوب ، قال تعالى : (ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه) (ق : 16) بل الله أعلم منك بما فيك ، قال تعالى : ( واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) (الأنفال : 24) ، وهذا من أعظم ما يكون من العلم والخبرة أن الله يحول بين المرء وقلبه ، ولهذا قيل لأعرابي : (بم عرفت ربك ؟) قال : بنقض العزائم ، وصرف الهمم ).
فالإنسان يعزم على الشي ثم لا يدري إلا وعزيمته منتقضة بدون سبب ظاهر .
قوله : (فأعرض عنهم) وهذا من أبلغ ما يكون من الإهانة والاحتقار .
قوله : (وعظهم) . أي : ذكرهم وخوفهم ، ولكن لا تجعلهم أكبر همك ، فلا تخافهم ، وقم بما يجب عليك من الموعظة لتقوم عليهم الحجة .
قوله : (وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا) . اختلف المفسرون فيها على ثلاثة أقوال :(118/114)
الأول : أن الجار والمجرور في أنفسهم متعلق ببليغ ، أي : قل لهم قولا بليغا في أنفسهم ، أي : يبلغ في أنفسهم مبلغا مؤثرا .
الثاني : أن المعنى : انصحهم سرا في أنفسهم .
الثالث : أن المعنى : قل لهم في أنفسهم (أي : في شأنهم وحالهم) قولا بليغا في قلوبهم يؤثر عليها ، والصحيح أن الآية تشمل المعاني الثلاثة ، لأن اللفظ صالح لها جميعا ، ولا منافاة بينها ، وهذه قاعدة في التفسير ينبغي التنبيه لها ، وهي أن المعاني المحتملة للآية والتي قال بها أهل العلم إذا كانت الآية تحتملها وليس بينها تعارض : فإنه يؤخذ بجميع المعاني .
وبلاغة القول تكون في أمور :
الأول : هيئة المتكلم بأن يكون إلقاؤه على وجه مؤثر .
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خطب ، احمرت عيناه وعلا صوته ، واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيشا ، يقول : صبحكم ومساكم (1).
الثاني : أن تكون ألفاظه جزلة مترابطة محددة الموضوع .
الثالث : أن يبلغ من الفصاحة غايتها بحسب الإمكان ، بأن يكون كلامه : سليم التركيب ، موافقا لللغة العربية ، مطابقا لمقتضى الحال .
قال شيخ الإسلام ابن تميمة : (إن هذه الآيات تنطبق تماما على أهل التحريف والتأويل في صفات الله ، لأن هؤلاء يقولون : أنهم يؤمنون بالله ورسوله ، وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ، يعرضون ، ويصدون ، ويقولون : نذهب إلى فلان وفلان ، وإذا اعترض عليهم ، قالوا : نريد الإحسان والتوفيق ، وأن نجمع بين دلالة العقل ودلالة السمع ) ذكره رحمه الله في (الفتوى الحموية) .
***
قوله : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) (البقرة:11)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الآية الثانية قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض ) .(118/115)
الإفساد في الأرض نوعان :
الأول : إفساد حسي مادي ، وذلك مثل هدم البيوت وإفساد الطرق وما أشبه ذلك .
الثاني : إفساد معنوي ، وذلك بالمعاصي ، فهي من أكبر الفساد في الأرض ، قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم:41) ، وقال تعالى : (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) (الشورى : 30) وقال تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (لأعراف:96)
وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيم *ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم ِ) (المائدة : 65 -66) .
قوله : (إنما نحن مصلحون) . وهذه دعوى من أبطل الدعاوى ، حيث قالوا : ما حالنا وما شأننا إلا الإصلاح .
ولهذا قال تعالى : (ألا إنهم هم المفسدون). (ألا) : أداة استفتاح ، والجملة مؤكدة بأربع مؤكدات ، وهي (ألا) ، و(إن) ،و ضمير الفصل (هم) والجملة الاسمية ، فالله قابل حصرهم بأعظم منه ، فهؤلاء الذين يفسدون في الأرض ويدعون الإصلاح هم المفسدون حقيقة لا غيرهم. ومناسبة الآية للباب ظاهرة ، وذلك أن التحاكم إلى غير ما أنزل الله من أكبر الفساد في الأرض.
الآية الثالثة قوله تعالى: (لا تفسدوا في الأرض).يشمل الفساد المادي والمعنوي كما سبق .
قوله : (بعد إصلاحها). من قبل المصلحين ، ومن ذلك الوقوف ضد دعوة أهل العلم والوقوف ضد دعوة السلف ، والوقوف ضد من ينادي بأن يكون الحكم بما في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .(118/116)
وقوله (بعد إصلاحها) من باب تأكيد اللوم والتوبيخ ، إذ كيف يفسد الصالح وهذا غاية ما يكون من الوقاحة والخبث والشر؟ فالإفساد بعد الإصلاح أعظم وأشد من أن يمضي الإنسان في فساده قبل الإصلاح ، وإن كان المطلوب هو الإصلاح قبل بعد الفساد .
ومناسبة الآية للباب : أن التحاكم إلى ما أنزل الله هو الإصلاح ، وإن التحاكم إلى غيره هو الإفساد .
وقوله :(وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا )(لأعراف: من الآية56)
وقوله : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) (المائدة:50)
ــــــــــــــــ
****
الآية الرابعة قوله تعالى : ( أفحكم الجاهلية يبغون )
الاستفهام للتوبيخ ، و(حكم) مفعول مقدم ل (يبغون) ، وقدم لإفادة الحصر، والمعنى : أفلا يبغون إلا حكم الجاهلية .
و(يبغون) : يطلبون ، والإضافة في قوله : ( حكم الجاهلية) تحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون المعنى : أفحكم أهل الجاهلية الذين سبقوا الرسالة يبغون ، فيريدون أن يعبدوا هذه الأمة إلى طريق الجاهلية التي أحكامها معروفة ، ومنها : البحائر، والسوائب، وقتل الأولاد .
ثانيهما : أن يكون المعنى : أفحكم الجهل الذي لا يبني على العلم يبغون ، سواء كانت عليه الجاهلية السابقة أم لم تكن ، وهذا أعم . والإضافة للجاهلية تقتضي التقبيح والتنفير .
وكل حكم يخالف حكم الله ، فهو جهل وجهالة . فإن كان مع العلم بالشرع ، فهو جهالة ، وإن كان مع خفاء الشرع ، فهو جهل، والجهالة هي العمل بالخطأ سفها لا جهلا ،قال تعالى: (إنما التوبة على الذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب) (النساء :17) ، وأما من يعمل السوء بجهل فلا ذنب عليه ، لكن عليه أن يتعلم .(118/117)
قوله : (ومن أحسن من الله حكما) . (من) : اسم استفهام بمعنى النفي، أي : لا أحد أحسن من الله حكما، وهذا النفي مشرب معنى التحدي ، فهو أبلغ من قول : ( لا أحسن من الله حكما) لأنه متضمن للنفي وزيادة . وقوله : (حكما) .تمييز ، لأنه بعد اسم التفضيل ، وهو مبهم ، فبين هذا التمييز المبهم وميزه . والحكم هنا يشمل الكوني والشرعي .
فإن قيل : يوجد في الأحكام الكونية ما هو ضار مثل الزلازل والفيضانات وغيرها، فأين الحسن في ذلك ؟
أجيب أن الغايات المحمودة في هذا الأمور تجعله حسنة، كما يضرب الإنسان ولده تربية له ، فيعد هذا الضرب فعلا حسنا ، فكذلك الله يصيب بعض الناس بهذه المصائب لتربيتهم ، قال تعالى في القرية التي قلب الله أهلها قردة خاسئين : ( فجعلناها نكالا لما بين يديها وما خلفها وموعظة للمتقيين) (البقرة : 66) وهذا الحسن في حكم الله ليس بينا لكل أحد ، كما قال تعالى : ( لقوم يوقنون) ، وكلما ازداد العبد يقينا وإيمانا ازداد معرفة بحسن أحكام الله ، وكلما نقص إيمانه ويقينه ازداد جهلا بحسن أحكام الله ، ولذلك تجد أهل العلم الراسخين فيه إذا جاءت الآيات المتشابهات بينوا وجه ذلك بأكمل بيان ولا يرون في ذلك تناقضا ، وعلى هذا فإنه يتبين قوة الإيمان واليقين بحسب ما حصل للإنسان من معرفته بحسن أحكام الله الكونية والشرعية .
وقوله : (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) . خبر لا يدخله الكذب ولا النسخ إطلاقا ، ولذلك هدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فجمعوا بين المتشابهات والمختلفات من النصوص ، وقالوا : (كل من عند ربنا) (آل عمران :7) وعرفوا حسن أحكام الله تعالى ، وأنها أحسن الأحكام وأنفعها للعباد وأقومها لمصالح الخلق في المعاش والمعاد ، فلم عنها بديلا .
وعن عبد الله بن عمر ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا يؤمن احدكم
ــــــــــــــــــــ
****(118/118)
قوله في حديث عبد الله بن عمر : (لا يؤمن أحدكم) . أي : إيمانا كاملا إلا إذا كان لا يهوى ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم بالكلية ، فإنه ينتفي عنه الإيمان بالكلية ، لأنه إذا كره ما أنزل الله ، فقد حبط عمله لكفره ، قال تعالى : (ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم)(محمد:9)
قوله : ( حتى لا يكون هواه تبعا لما جئت به ) . الهوى بالقصر : هو الميل ، وبالمد هو : الريح ، والمراد الأول .
و (حتى) : للغاية ، والذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم هو القرآن والسنة .
وإذا كان هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، لزم من ذلك أن يوافقه تصديقا بالأخبار ، وامتثالا للأوامر ، واجتنابا للنواهي .
واعلم أن أكثر ما يطلق الهوى على هوى الضلال لا على هوى الإيمان ، قال تعالى : (أفرأيت من أتخذ إلهه هواه)(الجاثية : 23)، وقال تعالى : (واتبعوا أهواءهم)(محمد : 14)، وغيرها من الآيات الدالة على ذم من اتبع هواه ، ولكن إذا كان الهوى تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، كان محمودا ، وهو من كمال الإيمان .
وقد سبق بيان أن من اعتقد أن حكم الله غير الله مساو لحكم الله ، أو أحسن ، أو أنه يجوز التحاكم إلى غير الله ، فهو كافر .
وأما من لم يكن هواه تبعا لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم ، فإن كان كارها له ، فهو كافر، وإن لم يكن كارها ولكن آثر محبة الدنيا على ذلك ، فليس كافر ، ولكن يكون ناقص الإيمان .
قوله : (قال النووي : حديث صحيح) . صححه النووي وغيره ، وضعفه جماعة من أهل العلم ، منهم ابن رجب في كتابه (جامع العلوم والحكم) ولكن معناه صحيح .(118/119)
وقال الشعبي : ( وكان بين رجل من المنافقين ورجل من اليهود خصومة ، فقال اليهودي نتحاكم إلى محمد ؛ عرف أنه لا ياخذ الرشوة ، وقال المنافق ، نتحاكم إلى اليهود ؛ لعلمه أنهم يأخذون الرشوة ، فأتفقا أن ياتيا كاهنا في جهينة ، فيتحاكما غليه ، فنزلت : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ)(النساء: من الآية60) (1)
ــــــــــــــــــــــ
***
قوله في أثر الشعبي : (وقال الشعبي) أي : في تفسير الآية .
قوله : (رجل من المنافقين) . وهو من يظهر الإسلام ويبطن الكفر ، وسمي منافقا من النّافقاء ، وهي جحر اليربوع ، واليربوع له جحر له باب وله نافقاء – أي يحفر حفرة في الأرض خندقا حتى يصل منتهى جحره ثم يحفر إلى أعلى، فإذا بقى شي قليل بحيث يتمكن من دفعه برأسه توقف – فإذا حجر عليه من الباب خرج من النافقاء .
قوله :( ورجل من اليهود ) . اليهود هم المنتسبون إلى دين موسى عليه السلام ، وسموا بذلك إما من قوله : (إنّا هُدنا إليك) ، أي : رجعنا ، أو نسبة إلى أبيهم يهوذا ، ولكن بعد التعريب صار بالدال .
قوله : (إلى محمد) . أي : النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم يذكره بوصف الرسالة ، لأنهم لا يؤمنون برسالته ، ويزعمون أن النبي الموعود سيأتي .
قوله : (عرف أنه لا يأخذ الرشوة) . تعليل لطلب التحكم إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
والرشوة : مثلثة الراء ، فيجوز الرشوة ، الرًّشوة ، الرُّشوة ، وهي المال المدفوع للتوصل إلى شي .
قال أهل العلم:( لا تكون محرمة إلا إذا أراد الإنسان أن يتوصل بها إلى باطل أو دفع حق ، أما من بذلها ليتوصل بها إلى حق له منع منه أو ليدفع بها باطلا عن نفسه ، فليست حراما على الباذل ، أما على آخذها ، فحرام) .
قوله:(فاتفقا أن ياتيا كاهنا في جهينة ) كأنه صار بينهما خلاف ، وأبي المنافق أن يتحاكما إلى النبي صلى الله عليه وسلم .(118/120)
والكاهن : من يدعي علم الغيب في المستقبل ، وكان للعرب كهان تنزل عليهم الشياطين بخبر السماء ، فيقولون : سيحدث كذا وكذا ، فربما أصابوا مرة من المرات ، وربما أخطؤوا ، فإذا أصابوا ادعوا علم الغيب ، فكان العرب يتحاكمون إليهم ، فنزل قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ). الآية .
***
قوله : (وقيل) . ذكر هذه القصة بصيغة التمريض ، لكن ذكر في (تيسير العزيز الحميد) أنه رويت من طرق متعددة ، وأنها مشهورة متداولة بين السلف والخلف تداولا يغني عن الإسناد ، ولها طرق كثيرة ولا يضرها ضعف إسنادها . أ . ه .
قوله : (رجلين) . هما مبهمان ، فيحتمل أن يكونا من المسلمين المؤمنين ، ويحتمل أن يكونا من المنافقين ، ويحتمل غير ذلك .
قوله : (إلى كعب بن الأشرف) . وهو رجل من زعماء بني النضير .
قوله : (أ كذلك) . خبر لمبتدأ محذوف ،التقدير أ كذلك الأمر .
قوله : (فضربه بالسيف) . الضارب عمر .
وهذه القصة والتي قبلها تدل على أن من لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كافر يجب قتله ، ولهذا قتله عمر رضي الله عنه .
فإن قيل:كيف يقتله عمر رضي الله عنه والأمر إلى الإمام وهو النبي صلى الله عليه وسلم ؟
أجيب : أن الظاهر أن عمر لم يملك نفسه لقوة غيرته فقتله ، لأنه عرف أن هذا ردة عن الإسلام ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (من بدل دينه فأقتلوه) (2) .
وقيل نزلت في رجلين اختصما فقال أحدهما : نترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال الأخر : إلى كعب بن الأشرف ، ثم ترافعا إلى عمر فذكر له أحدهما القصة ، فقال للذي لم لم يرض برسول الله صلى الله عليه وسلم: أكذلك ؟ قال : نعم . فضربه بالسيف فقتله . )(1)
ــــــــــــــــــــ
****
فيه مسائل :(118/121)
الأولى : تفسير آية النساء وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت . وهي قوله تعالى : (ألم تر الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك)
وقوله : (وما فيها من الإعانة على فهم الطاغوت) . أي : أن الطاغوت مشتق من الطغيان ، وإذا كان كذلك ، فيشمل كل ما تجاوز به العبد حده من متبوع أو معبود أو مطاع ، فالأصنام والأمراء والحكام الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال طواغيت .
الثانية : تفسير آية البقرة . (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون) . ففيها دليل على أن النفاق فساد في الأرض ،لأنها في سياق المنافقين ، والفساد يشمل جميع المعاصي .
الثالثة : تفسير أية الأعراف : (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها) . وقد سبق .
الرابعة : تفسير (أ فحكم الجاهلية يبغون). وقد سبق ذلك ، وقد بينا أن المراد بحكم الجاهلية كل ما خالف الشرع ، وأضيف للجاهلية للتنفير منه وبيان قبحه ، وأنه مبني على الجهل والضلال .
الخامسة : ما قاله الشعبي في سبب نزول الآية الأولى . وقد سبق .
السادسة : تفسير الإيمان الصادق والكاذب . فالإيمان الصادق يستلزم الإذعان التام والقبول والتسليم لحكم الله ورسوله ، والإيمان الكاذب بخلاف ذلك .
السابعة : قصة عمر مع المنافق . حيث جعل عدوله عن الترافع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مبيحا لقتله لردته ، وأقدم على قتله لقوة غيرته فلم يملك نفسه .
الثامنة : كون الإيمان لا يحصل لأحد حتى يكون هواه تبعا لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم . وهذا واضح من الحديث .
باب جحد شيئا من الأسماء والصفات
ــــــــــــــــــــــ
الجحد : الإنكار، والإنكار نوعان :(118/122)
الأول : إنكار تكذيب ، وهذا كفر بلا شك ، فلو أن أحدا أنكر اسما من أسماء الله أو صفة من صفاته الثابتة في الكتاب والسنة، مثل أن يقول : ليس لله يد ، أو أن الله لم يستو على عرشه ، أو ليس له عين ، فهو كافر بإجماع المسلمين ، لأن تكذيب خبر الله ورسوله كفر مخرج عن الملة بالإجماع .
الثاني : إنكار تأويل، وهو أن لا ينكرها ولكن يتأولها إلى معنى يخالف ظاهرها، وهذا نوعان :
1. أن يكون للتأويل مسوغ في اللغة العربية ، فهذا لا يوجب الكفر .
2.أن لا يكون له مسوغ في اللغة العربية ، فهذا حكمه الكفر لأنه إذا لم يكن له مسوغ صار في الحقيقة تكذيب ، مثل أن يقول : المراد بقوله تعالى : (تجري بأعيننا) (القمر : 14) تجري بأراضينا ، فهذا كافر لأنه نفاها نفيا مطلقا ، فهو مكذب .
ولو قال في قوله تعالى : (بل يداه مبسوطتان) (المائدة :64) المراد بيديه : السماوات والأرض ، فهو كفر أيضا لأنه مصوغ في اللغة العربية،ولا هو مقتضى الحقيقة الشرعية ، فهو منكر ومكذب ، لكن إن قال:المراد باليد النعمة أو القوة ، فلا يكفر لأن اليد في اللغة تطلق بمعنى النعمة ، قال الشاعر :
وكم لظلام الليل عندك من يد حدث أنّ المانويّة تكذب
فقوله : من يد، أي : من نعمة ، لأن المانوية يقولون : أن الظلمة لا تخلق الخير ، وإنما تخلق الشر .
قوله :(من الأسماء) جمع اسم، واختلف في اشتقاقه ، فقيل : من السمو ، وهو الارتفاع ، ووجه هذا أن المسمى يرتفع باسمه ويتبين ويظهر .
وقيل : من السمة وهى العلامة ، ووجهه : أنه علامة على مسماه ، والراجح أن مشتق من كليهما
والمراد بالأسماء هنا أسماء الله – عز وجل – والفرق بين الاسم والصفة أن الاسم ما تسمى به الله والصفة ما اتصف بها .
* البحث في أسماء الله :
المبحث الأول :(118/123)
أن أسماء الله أعلام وأوصاف ، وليست أعلاما محضة ، فهي من حيث دلالتها على الصفة التي يتضمنها هذا الاسم أوصاف ، بخلاف أسمائنا ، فالإنسان يسمي ابنه محمدا وعليا دون أن يلحظ معنى الصفة ، فقد يكون اسم عليه هو من أوضع الناس ، أو عبد الله وهو من أكفر الناس، بخلاف أسماء الله ، لأنها متضمنة للمعاني ، فالله هو العلي لعلو ذاته وصفاته ، والعزيز يدل على العزة ، والحكيم يدل على الحكمة ، وهكذا .
ودلالة الاسم على الصفة تنقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : دلالة مطابقة ، وهي دلالته على جميع معناه المحيط به .
الثاني : دلالة تضمن ، وهي دلالته على جزء معناه .
الثالث : دلالة التزام ، وهي دلالته على أمر خارج لازم .
مثال ذلك : الخالق يدل على ذات الله وحده ، وعلى صفة الخلق وحدها دلالة تضمن ، ويدل على ذات الله وعلى صفة الخلق فيه دلالة مطابقة ، ويدل على العلم والقدرة دلالة التزام .
كما قال الله تعالى : (الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شي قدير وأن الله قد أحاط بكل شي علما) (الطلاق : 12) فعلمنا القدرة من كونه خالق السماوات والأرض ، وعلمنا العلم من ذلك أيضا ، لأن الخلق لابد فيه من علم ، فمن لا يعلم لا يخلق ، وكيف يخلق شيئا لا يعلمه ؟ !
المبحث الثاني :
أن أسماء الله مترادفة متباينة ، المترادف : ما أختلف لفظه واتفق معناه ، والمتباين : ما اختلف لفظه ومعناه ، فأسماء الله مترادفة باعتبار دلالتها على ذات الله – عز وجل – لأنها تدل على مسمى واحد ، فالسميع ، البصير، العزيز ، الحكيم ، كلها تدل على شي واحد هو الله ، ومتباينة باعتبار معانيها ، لأن معنى الحكيم غير معنى السميع وغير معنى البصير وهكذا .
المبحث الثالث :(118/124)
أسماء الله ليست محصورة بعدد معين ، والدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود الحديث الصحيح المشهور : (اللهم! إني عبدك ، ابن عبدك ،ابن أمتك ...- إلى أن قال : أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ،أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك(2)، وما استأثر الله به في علم الغيب لا يمكن أن يعلم به ، وما ليس بمعلوم فليس بمحصور .
أما قوله صلى الله عليه وسلم : (إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة(1) ، فليس معناه أنه ليس له إلا هذه الأسماء ، لكن معناه أن من أحصى من أسمائه هذه التسعة والتسعين فإنه يدخل الجنة، فنقول : (من أحصاها) تكميل للجملة الأولى ، وليست استئنافية منفصلة ، ونظير هذا قول القائل : عندي مئة فرس أعددتها للجهاد في سبيل الله ، فليس معناه أنه ليس عنده إلا هذه المئة بل معناه أن هذه المئة معدة لهذا الشي .
المبحث الرابع :
الاسم من أسماء الله دل على الذات وعلى المعنى كما سبق ، فيجب علينا أن نؤمن به اسما من الأسماء ، ونؤمن بما تدل عليه الصفة من الثر والحكم إن كان متعديا ، فمثلا : السميع نؤمن بأن من أسمائه تعالى السميع ، وأنه دال على صفة السمع ، وأن لهذا السمع حكما وأثرا وهو أنه يسمع به ، كما قال تعالى : (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير) (المجادلة : 1) أما إن كان الاسم غير متعد ، كالعظيم ، والحي ، والجليل ، فثبت الاسم والصفة ، ولا حكم يتعدى إليه .
المبحث الخامس :
هل أسماء الله تعالى غيره، أو أسماء الله هي الله ؟
إن أريد بالاسم اللفظ الدال على المسمى ، فهي غير الله – عز وجل – وإن أريد بالاسم مدلول ذلك اللفظ ، فهي المسمى .(118/125)
فمثلا : الذي خلق السماوات والأرض هو الله ، فالاسم هنا هو المسمى ، فليست ( اللام – والهاء) هي التي خلقت السماوات والأرض ، وإذا قيل : اكتب باسم الله . فكتبت بسم الله ، فالمراد به هو الاسم دون المسمى ، وإذا قيل : اضرب زيدا ، فضربت زيدا المكتوب في الورقة لم تكن ممتثلا ، لأن المقصود المسمى ، وإذا قيل : اكتب زيد قائم . فالمراد الذي هو غير المسمى .
البحث في صفات الله :
المبحث الأول :
تنقسم صفات الله إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ذاتية ويقال معنوية .
الثاني : فعلية .
الثالث : خبريه .
فالصفات الذاتية : هي الملازمة لذات الله ، والتي لم يزل ولا يزال متصفا بها مثل : السمع والبصر وهي معنوية ، لأن هذه الصفات معان .
والفعلية : هي التي تتعلق بمشيئته إن شاء فعلها وإن لم يشأ لم يفعلها ، مثل : النزول إلى سماء الدنيا ، والاستواء على العرش ، والكلام من حيث آحاده ، والخلق من حيث آحاده ، لا من حيث الأصل ، فأصل الكلام صفة ذاتية وكذلك الخلق .
والخبرية:هي أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا ، أما بالنسبة إلى الله ، فلا يقال هكذا ، بل يقال : صفات خبرية ثبت بها الخبر من الكتاب والسنة ، وهي ليست معنى ولا فعلا مثل : الوجه ، والعين ، والساق ، واليد .
المبحث الثاني :
الصفات أوسع من الأسماء ، لأن كل اسم متضمن لصفة ، وليس كل صفة تكون اسما ، وهناك صفات كثيرة تطلق على الله وليست من أسمائه ، فيوصف الله بالكلام والإرادة ، ولا يسمى بالمتكلم أو المريد .
المبحث الثالث :
إن كل ما وصف الله به نفسه ، فهو حق على حقيقته ، لكنه ينزه عن التمثيل والتكييف ، أما التمثيل ، فلقوله تعالى : (ليس كمثله شي وهو السميع البصير) (الشورى : 11) وقوله : (فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وانتم لا تعلمون) (النمل : 74) والتعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه ، لوجوه ثلاثة :(118/126)
أحدهما : أن التمثيل هو الذي جاء به القرآن وهو منفي مطلقا ، بخلاف التشبيه ، فلم يأت القرآن بنفيه .
الثاني : أن نفي التشبيه على الإطلاق لا يصح ، لأن كل موجودين فلا بد أن يكون بينهما قدر مشترك يشتبهان فيه ويتميز كل واحد بما يختص به ، ف : (الحياة) مثلا وصف ثابت في الخالق والمخلوق ، فبينهما قدر مشترك ، لكن حياة الخالق تليق به وحياة المخلوق به .
الثالث : إن الناس اختلفوا في مسمى التشبيه ، حتى جعل بعضهم إثبات الصفات التي أثبتها الله لنفسه تشبيها ، فإذا قيل من غير تشبيه ، فهم هذا البعض من هذا القول نفي الصفات التي الله لنفسه .
وأما التكييف ، فلا يجوز أن نكيف صفات الله ، فمن كيف صفة من الصفات ، فهو كاذب عاص، كاذب لأنه قال بما لا علم عنده فيه ، عاص لأنه واقع فيما نهى الله عنه وحرمه في قوله تعالى : (ولا تقل ما ليس لك به علم) (الإسراء : 36) وقوله تعالى : (وأن تقولوا على الله ما تعلمون) بعد قوله (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن.)(الأعراف : 33) ولأنه لا يمكن إدراك الكيفية ، لقوله تعالى : (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علم)(طه : 110) وقوله:(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار)(الأنعام : 103)
وسواء كان التكييف بالسان تعبيرا أو بالجنان تقديرا أو بالبيان تحريرا ، ولهذا قال مالك رحمه الله حين سئل عن كيفية الاستواء : (الكيف مجهول ، والسؤال عنه بدعة) وليس معنى هذا أن لا نعتقد أن لها كيفية ، بل لها كيفية ،ولكنها ليست معلومة لنا ، لأن ما ليس له كيفية ليس بموجود ، فالاستواء والنزول واليد والوجه والعين لها كيفية ، لكننا لا نعلمها ، ففرق بين أن نثبت كيفية معينة ولو تقديرا وبين أن نؤمن بأن لها كيفية غير معلومة ، وهذا هو الواجب ، فنقول : لها كيفية، لكن غير معلومة .
قول الله تعالى : ( وهم يكفرون بالرحمن .........)(الرعد : 30) الآية .
ـــــــــــــــــــــــــ(118/127)
فإن قيل : كيف يتصور أن نعتقد للشي و كيفية نحن لا نعلمها؟
أجيب : إنه متصور ، فالواحد منا يعتقد أن لهذا القصر كيفية من داخله ، ولكن لا يعلم هذه الكيفية إلا إذا شاهدها ، أو شاهد نظيرها ، أو أخبره شخص صادق عنها .
***
قوله تعالى : (وهم يكفرون بالرحمن) الآية
(وهم) . أي : كفر قريش .
(يكفرون بالرحمن) . المراد : أنهم يكفرون بهذا الاسم لا بالمسمى ، فهم يقرون به ، قال تعالى : (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله) (لقمان : 25) ، وفي حديث سهيل بن عمر : (لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب الصلح في غزوة الحديبية قال للكاتب : [اكتب بسم الله الرحمن الرحيم] ، قال سهيل : أما الرحمن، والله ما أدرى ما هي ولكن اكتب باسمك اللهم(1) ، وهذا من الأمثلة التي يراد بها الاسم دون المسمى .
وقد قال الله تعالى : (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى) (الإسراء :110) ، أي : بأي اسم من أسمائه تدعونه ، فإن له الأسماء الحسنى ، فكل أسمائه حسنى ، فادعوا بما شئتم من الأسماء ، ويراد بهذه الآية الإنكار على قريش .
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسمائه تعالى فإنه يكفر ، لقوله تعالى : (وهم يكفرون بالرحمن) (الرعد :30) ، ولأنه مكذب لله ولرسوله ، وهذا كفر ، وهذا وجه استشهاد المؤلف بهذه الآية .
قوله : (لا إله إلا هو) . خبر(لا) النافية للجنس محذوف ، والتقدير : لا إله إلا هو ، وأما الإله الباطل ، فكثير ، قال تعالى : (ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه الباطل)(لقمان:30).
قوله ( عليه توكلت) . أي : عليه وحده ، لأن تقديم المعمول يدل على الحصر ، فإذا قلت مثلا : (ضربت زيدا)، فإنه يدل على أنك ضربته ، ولكن لا يدل على أنك لم تضرب غيره ، وإذا قلت : (زيدا ضربت) دلت على أنك ضربت زيدا ولم تضرب غيره ، وسبق معنى التوكل وأحكامه .(118/128)
قوله : (وإليه المتاب) . أي : إلى الله . و(متاب) أصلها متابي ، فحذفت الياء تخفيفا ، والمتاب بمعنى التوبة ، فهي مصر ميمي ، أي : وإليه توبتي .
والتوبة : هي الرجوع إلى الله تعالى من المعصية إلى الطاعة ، ولها شروط خمسة :
1. الإخلاص لله تعالى بأن لا يحمل الإنسان على التوبة مراعاة أحد أو محاباته أو شي من الدنيا .
2. أن تكون في وقت قبول التوبة ، وذلك قبل طلوع الشمس من مغاربها،وقبل حضور الموت .
3. الندم على ما مضى من فعله،وذلك بأن يشعر بالتحسر على ما سبق ويتمنى أنه لم يكن .
4. الإقلاع عن الذنب ، وعلى هذا ، فإذا كانت التوبة من مظالم الخلق فلا بد من رد المظالم إلى أهلها أو استحلالهم منها .
5. العزم على عدم العودة ، والتوبة التي لا تكون إلا لله هي توبة العبادة ، كما في الآية السابقة ، وأما التوبة التي بمعنى الرجوع ، فإنها تكون له ولغيره ، ومنها قول عائشة حين جاء النبي صلى الله عليه وسلم فوجد نمرقة فيها صور ، فوقف بالباب ولم يدخل ، وقالت : (أتوب إلى الله ورسوله ، ماذا أذنبت؟)(2) فليس المراد بالتوبة هنا توبة العبادة لأن توبة العبادة لا تكون للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لغيره من الخلق بل لله وحده ، ولكن هذه توبة رجوع ، ومن ذلك أيضا حين يضرب الإنسان ابنه لسوء أدبه ، يقول الابن : أتوب .
وفي صحيح البخاري : قال علي : ( حدثوا الناس بما يعرفون ، اتريدون أن يكذب الله ورسوله )(1)
ــــــــــــــــــ
****
قوله في أثر علي رضى الله عنه:(حدثوا الناس) . أي : كلموهم بالمواعظ وغير المواعظ .(118/129)
قوله : (بما يعرفون) . أي : بما يمكن أن يعرفوه وتبلغه عقولهم حتى لا يفتنوا ، ولهذا جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : (إنك لن تحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة )(3) ولهذا كان من الحكمة في الدعوة ألا تباغت الناس بما لا يمكنهم إدراكه ،بل تدعوهم رويدا رويدا حتى تستقر عقولهم ، وليس معنى (بما يعرفون) ، أي : بما يعرفون من قبل ، لأن الذي يعرفونه من قبل يكون التحديث به من تحصيل الحاصل .
قوله : (أتريدون أن يكذب الله ورسوله ؟!) . الاستفهام للإنكار ، أي : أتريدون إذا حدثتم الناس بما لا يعرفون أن يكذب الله ورسوله ، لأنك إذا قلت : قال الله وقال رسوله كذا وكذا ، قالوا : هذا كذب إذا كذبت إذا كانت عقولهم لا تبلغه ، وهم لا يكذبون الله ورسوله ، ولكن يكذبونك بحديث تنسبه إلى الله ورسوله ، فيكونون مكذبين لله ورسوله ، لا مباشرة ولكن بواسطة الناقل .
فإن قيل : هل ندع الحديث بما لا تبلغه عقول الناس وإن كانوا محتاجين لذلك؟
أجيب : لا ندعه ، ولكن نحدثهم بطريقة تبلغه عقولهم ، وذلك بأن ننقلهم رويدا رويدا حتى يتقبلوا هذا الحديث ويطمئنوا إليه ، ولا ندع ما لا تبلغه عقولهم ونقول : هذا شي مستنكر لا نتكلم به .
ومثل ذلك العمل بالسنة التي لا يعتادها الناس ويستنكرونها ، فإننا نعمل بها ولكن بعد أن نخبرهم بها ، حتى تقبلها نفوسهم ويطمئنوا إليها .
ويستفاد من هذا الأثر أهمية الحكمة في الدعوة إلى الله – عز وجل – وأنه يجب على الداعية أن ينظر في عقول المدعوين وينزل كل إنسان منزلته .
مناسبة هذا الأثر لباب الصفات :(118/130)
مناسبة ظاهرة ، لأن بعض الصفات لا تحتملها أفهام العامة فيمكن إذا حدثتهم بها كان لذلك أثر سيي عليهم ، كحديث النزول إلى السماء الدنيا مع ثبوت العلو ، فلو حدثت العامي بأنه نفسه ينزل إلى السماء الدنيا مع علوه على عرشه ، فقد يفهم أنه إذا نزل ، صارت السماوات فوقه وصار العرش خاليا منه ، وحينئذ لابد في هذا من حديث تبلغه عقولهم فتبين لهم أن الله – عز وجل – ينزل نزولا لا يماثل نزول المخلوقين مع علوه على عرشه ، وأنه لكمال فضله ورحمته يقول : (من يدعوني فاستجيب له ...)(3) الحديث .
والعامي يكفيه أن يتصور مطلق المعنى ، وأن المراد بذلك بيان فضل الله – عز وجل – في هذه الساعة من الليل .
وروي عبد الرازق عن معمر ، عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس : (أنه رأي رجلا انتفض لما سمع حديثا عن النبي صلى الله عيله وسلم في الصفات ،
ـــــــــــــــــــــ
***
قوله في أثر ابن عباس : (انتفض) . أي : اهتز جسمه ، والرجل مبهم والصفة التي حُدث بها لم تُبين، وبيان ذلك ليس مهما ، وهذا الرجل انتفض استنكار لهذه الصفة لا تعظيما لله ، وهذا أمر عظيم صعب، لأن الواجب على المرء إذا صح عند شي عن الله ورسوله أن يقر به ويصدق ليكون طريقه طريق الراسخين في العلم حتى وإن لم يسمعه من قبل أو يتصوره .
الصفات استنكارا لذلك ، فقلت : ما فرق هؤلاء ؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه؟!) انتهي (1)
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : (ما فرق) . فيها : ثلاث روايات :
1. (فَرَقُ) ، بفتح الراء وضم القاف .
2. (فرَّقَ) ، بفتح الراء مشددة ، وفتح القاف .
3. (فَرَقَ) ، بفتح الراء مخففة ، وفتح القاف .(118/131)
فعلى رواية (فَرَقُ) تكون (ما) استفهامية مبتدأ، و(فرق) خبر المبتدأ ، أي : ما خوف هؤلاء من إثبات الصفة تليت عليهم وبلغتهم ،لماذا لا يثبتونها لله – عز وجل – كما أثبتها الله لنفسه وأثبتها لرسوله ؟ وهذا ينصب تماما على أهل التعطيل والتخريف الذين ينكرون الصفات ، فما الذي يخوفهم من إثباتها والله تعالى قد أثبتها لنفسه ؟
وعلى رواية (فرّق) أو( فَرَقَ) تكون فعلا ماضيا بمعنى ما فرقهم ، كقوله تعالى : (وقرآنا فرقناه) (الإسراء : 106) ، أي : فرقناه : و(ما) يحتمل أن تكون نافية، والمعنى : ما فرق هؤلاء بين الحق والباطل ، فجعلوا هذا من المتشابه وأنكروه ولم يحملوه على المحكم ، ويحتمل أن تكون استفهامية والمعنى : أي شي فرقهم فجعلهم يؤمنون بالمحكم ويهلكون عند المتشابه ؟
قوله : ( يجدون رقة عند محكمه) . الرقة : اللين والقبول ، و(محكمه) ، أي : محكم القرآن .
قوله : (ويهلكون عند متشابهه) . أي : متشابه القرآن .
والمحكم الذي اتضح معناه وتبين ، والمتشابه هو الذي يخفي معناه ، فلا يعلمه الناس ، وهذا إذا جمع بين المحكم والمتشابه، وأما إذا ذكر المحكم مفردا دون المتشابه ، فمعناه المتقن الذي ليس فيه خلل : لا كذب في أخباره ، ولا جور في أحكامه ، قال تعالى : (وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا) (الأنعام :115) وقد ذكر الله الإحكام في القرآن دون المتشابه ، وذلك مثل قوله تعالى : (كتاب أُحكمت آياته) (هود :1) .
وإذا ذكر المتشابه دون المحكم صار المعنى أنه يشبه بعضه بعضا في جودته وكماله ، ويصدق بعضه بعضا ولا يتناقض ، قال تعالى : (الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثانى)(الزمر:23) والتشابه نوعان : تشابه نسبي ، وتشابه مطلق .(118/132)
والفرق بينهما : أن المطلق يخفي على كل أحد ، ونسبي يخفي على أحد دون أحد، وبناء على هذا التقسيم ينبني الوقف في قوله تعالى : (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) (آل عمران : 7)، فعلى الوقوف على (إلا الله) يكون المراد بالمتشابه المطلق ، وعلى الوصل (إلا الله والراسخون في العلم) يكون المراد بالمتشابه المتشابه النسبي ، وللسلف قولان :
القول الأول : الوقف على (إلا الله) ، وعليه أكثر السلف ، وعلى هذا ، فالمراد بالمتشابه المتشابه المطلق الذي لا يعلمه إلا الله ، وذلك مثل كيفية وحقائق صفات الله ، وحقائق ما أخبر الله به من نعيم الجنة وعذاب النار ، وقال الله تعالى في نعيم الجنة : (فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قُرة أعين) (السجدة :17)،أي : لا تعلم حقائق ذلك ، ولذلك قال بن عباس : (ليس في الجنة شي مما في الدنيا إلا الأسماء)(2) .
والقول الثاني : الوصل ، فيقرأ : (إلا الله والراسخون في العلم) ، وعلى هذا فالمراد بالمتشابه المتشابه النسبي ، وهذا يعلمه الراسخون في العلم ويكون عند غيرهم متشابها ، ولهذا يروى عن ابن عباس ، أنه قال : (أنا من الراسخين في العلم الذي يعلمون تأويله )(3) ولم يقل هذا مدحا لنفسه أو ثناء عليها ، ولكن ليعلم الناس أنه ليس في كتاب الله شي لا يعرف معناه ، فالقرآن معانيه بينه ، ولكن بعض القرآن يشتبه على ناس دون آخرين حتى العلماء الراسخون في العلم يختلفون في معنى القرآن،وهذا يدل على أنه خفي على بعضهم ، والصواب بلا شك مع أحدهم إذا كان اختلافهم اختلاف تضاد لا تنوع، أما إذا كانت الآية تحتمل المعنيين جميعا بلا منافاة ولا مرجح لأحدهما ، فإنها تحمل عليها جميعا .(118/133)
وبعض أهل العلم يظنون أن في القرآن ما لا يمكن الوصول إلى معناه ، فيكون من المتشابه المطلق ، ويحملون آيات الصفات على ذلك ، وهذا من الخطأ العظيم ، إذ ليس من المعقول أن يقول تعالى : (كتاب أنزلناه مبارك ليدبروا آياته) (ص :29) ثم تستثنى الصفات وهي أعظم وأشرف موضوعا وأكثر من آيات الأحكام ، ولو قلنا بهذا القول ، لكان مقتضاه أن أشرف ما في القرآن موضوعا خفيا ، ويكون معنى قوله تعالى (ليدبروا آياته) ، أي : آيات الأحكام فقط ،
وهذا غير معقول ، بل جميع القرآن يفهم معناه ، إذ لا يمكن أن تكون هذه الأمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى آخرها لا تفهم معنى القرآن ، وعلى رأيهم يكون الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وجميع الصحابة يقرؤون آيات الصفات وهم لا يفهمون معناها ، بل هي عندهم بمنزلة الحروف الهجائية أ، ب، ت ... والصواب أنه ليس في القرآن شي متشابه على جميع الناس من حيث المعنى ، ولكن الخطأ في الفهم .
فقد يقصر الفهم عن إدراك المعني أو يفهمه على معنى خطأ ، وأما بالنسبة للحقائق ، فما أخبر الله به من أمر الغيب ، فمتشابه على جميع الناس .
ولما سمعت قريش رسول الله صلي الله عليه وسلم يذكر الرحمن ، انكروا ذلك ، فأنزل الله فيهم ( وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ)(الرعد: من الآية30)(1)
ــــــــــــــــــــــ
****
قوله : (ولما سمعت قريش رسول الله يذكر الرحمن) . أصل ذلك أن سهيل بن عمرو أحد الذين أرسلتهم قريش لمفاوضة النبي صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) ، فقال (أما الرحمن ، فلا والله ما أدري ما هي ، وقالوا : إننا لا نعرف رحمانا إلا رحمن اليمامة ، فأنكروا الاسم دون المسمى ، فأنزل الله : ( وهم يكفرون بالرحمن) ، أي : بهذا الاسم من أسماء الله .(118/134)
وفي الآية دليل على أن من أنكر اسما من أسماء الله الثابتة في الكتاب أو السنة ، فهو كافر لقوله تعالى :(وهم يكفرون بالرحمن) .
وقوله : (ولما سمعت قريش) . الظاهر – والله أعلم – أنه من باب العام الذي أريد به الخاص، وليس كل قريش تنكر ذلك ، بل طائفة منهم ، ولكن إذا أقرت الأمة الطائفة على ذلك ولم تنكر ، صح أن ينسب لهم جميعا ، بل إن الله نسب إلى اليهود في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما فعله أسلافهم في زمن موسى عليه السلام ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ )(البقرة: من الآية63) ، وهذا لم يكن في عهد المخاطبين .
****
قوله فيه مسائل :
الأولى : عدم الإيمان بجحد شي من الأسماء والصفات . عدم بمعنى انتفاء ، أي : انتفاء الإيمان بسبب جحد شي من السماء والصفات ، وسبق التفصيل في ذلك .
الثانية : تفسير آية الرعد . وهي قوله تعالى : (وهم يكفرون بالرحمن) وسبق تفسيرها.
الثالثة : ترك التحديث بما لا يفهم السامع . وهذا ليس على إطلاقه ، وقد سبق التفصيل عند شرح الأثر .
الرابعة : ذكر العلة أنه يفضي إلى تكذيب الله ورسوله ولو لم يتعمد المنكر . وهي أن الذي لا يبلغ عقله ما حدث به يفضي به التحديث إلى تكذيب الله ورسوله ، فيكذب ويقول : هذا غير ممكن ، وهذا يوجد من بعض الناس في أشياء كثيرة مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون يوم القيامة ، كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم : (إن الأرض يوم القيامة تكون خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته)(1) وما أشبه ذلك ، وكما أن الصراط أحد من السيف وأدق من الشعرة وغير هذه الأمور ، لو حدثنا بها إنسانا عاميا لأوشك أن ينكر ، لكن يجب أن تبين له بالتدريج حتى يتمكن من عقلها مثل ما نعلم الصبي شيئا فشيئا .(118/135)
قوله : ( ولو لم يتعمد المنكر) أي : ولو لم يقصد المنكر تكذيب الله ورسوله ، ولمن كذب نسبة هذا الشي إلى الله ورسوله ، وهذا يعود بالتالي إلى رد خبر الله ورسوله .
الخامسة : كلام ابن عباس لمن استنكر شيئا من ذلك وأنه أهلكه. وذلك قوله : (ما فرق هؤلاء؟ يجدون رقة – أي لينا – عند محكمه فيقبلونه، ويهلكون عند متشابهه فينكرونه ؟)
---
(1) الإمام أحمد في المسند (1/ 89،108 ) والترمذي (كتاب التفسير ، سورة الواقعة ، وقال احمد بن شاكر : ( إسناده ضعيف ) المسند (_677)
( 2 ) يأتي ( 609 )
[1][1] ) ) الإمام احمد في ( المسند ) (5/218) والترمذي : كتاب الفتن / باب ما جاء ( لتركبن ...) وقال : (حسن الصحيح ) ، وابن حبان( 1835) والطبراني في ( الكبير) (3290) والبيهقي (108/1)
(2) البخاري ( كتاب المناقب ، باب علامة النبوة )
(1) مسلم كتاب الجنائز / باب التشديد في النياحة
(1) عبد الرزاق (8/469)، والطبراني في الكبير (8902) ، والهيثمي في مجمع الزوائد
(1) تقدم تخريجه ص 519
(2) الإمام أحمد في المسند (1/214) والبخاري في الأدب المفرد (783) وابن ماجه كتاب الكفارات ، باب النهي أن يقال : ما شاء الله وشئت ) قال أحمد شاكر : إسناده صحيح ( المسند 1839)
(1) البخاري كتاب المساقاة / باب فضل سقي الماء ، ومسلم : كتاب السلام / باب تحريم قتل الهرة
(1) مسلم كتاب الإيمان / باب بيان كفر من قال مطر بالنوء .
(1) البخاري كتاب الزكاة / باب أخذ الصدقة من الأغنياء ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام .
(1) البخاري كتاب الغيمان / باب فضل من استبرا لدينه ، ومسلم : كتاب المساقاة / باب أخذ الحلال .
(1) مسلم كتاب الإيمان / باب إطلاق اسم الكافر على الطعن في النسب والنياحة
(2) الإمام أحمد في ( المسند ) ( 3/ 128) . قال الحاكم في (المستدرك ) (2/147 ) : حديث(118/136)
( 1 )البخاري : كتاب بدء الوحي/ باب كيف كان بدء الوحي ، ومسلم : كتاب الإمارة / باب قوله صلى الله عليه وسلم ( إنما الأعمال بالنيات )
( 1 ) الإمام احمد في ( المسند ) (6/ 144 ) ، وأبو داود : كتاب النكاح / باب في القسم بين النساء ، والترمذي : كتاب النكاح / باب التسوية بين الضرائر ، والنسائي : كتاب عشرة النساء / باب ميل الرجل إلى بعض نسائه دون بعض ، وابن ماجه : كتاب النكاح / باب القسمة بين النساء ، والحاكم (2/204 ) – صححه ووافقه الذهبي - .
( 2 ) البخاري كتاب الأيمان والنذور / باب كيف كانت يمين النبي صلى الله عليه وسلم .
( 1 ) البخاري : كتاب الإيمان / باب حب رسول الله صلى عليه وسلم من الإيمان ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب وجوب محبة الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل .
( 1 ) أبو داود في ( السنن ) : كتاب المناسك / باب الإفاضة في الحج .
( ** ) البخاري : كتاب الإيمان / باب حلاوة الإيمان ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان .
( 1 ) البخاري : كتاب الأدب / باب الحب في الله
( 1 ) ابن المبارك في ( الزهد (353 ) ، وأبو نعيم في ( الحلية ) ( 1/312) ، والطبراني في ( الكبير )(13537) .
قال الهيثمي في ( مجمع الزوائد ) (1/90) : ( وفيه ليث بن أبي سليم ، والأكثر على ضعفه ) .
( 1 ) مسلم : كتاب التوبة / باب في سعة رحمة الله .
( 1 ) مسلم : كتاب الجهاد / باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب .
( 2 ) الجامع الصغير (1/ 15 ) .
( 3 ) البخارى : كتاب الجهاد / باب جوائز الوفد ، ومسلم : كتاب الوصية / باب ترك الوصية
( 1 ) تقدم (ص 516 )
( 2 ) البخاري : كتاب التوحيد / باب ( ويحذركم الله نفسه ) ، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء /باب الحث على ذكر الله .
( 1 ) تفسير أبن كثير ( 2/ 130 )(118/137)
( 2 ) الإمام احمد في ( المسند ) ( 1/ 293 ) ، والترمذي ( كتاب صفة القيامة ، 2516) ، وابن أبي عاصم في ( السنة )(216) ، والاجري في ( الشريعة ) ص 197 ، والطبراني في ( الكبير) (12988) وأبي نعيم في ( الحلية ) (1/314 ) .
قال ابن رجب :أصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي أخرجها الترمذي ) جامع العلوم والحكم (360) ، وقال احمد شاكر : ( إسناده صحيح ) ( المسند ) (2669) ، وصححه اللباني في تعليقه على ( السنة لابن أبي عاصم ) ( 316 ) .
(2 ) البخاري : كتاب المغازى / باب حديث كعب بن مالك ، ومسلم : كتاب التوبة / باب حديث توبة كعب .
(1) أبو نعيم في (الحلية) (5/106، 10/410) ، والبيهقى في (شعب الإيمان) رقم (203) .
(1) البخاري : كتاب العلم /باب من يرد الله به خيرا ، ومسلم : كتاب الزكاة / باب النهي عن المسألة .
(1) الإمام احمد ( 2/68 ، 99 ، 127 ) ، والبخاري في ( الأدب المفرد ) (216) ، وأبو داود كتاب الزكاة / باب عطية من سأل بالله ، والنسائي : كتاب الزكاة / باب من سال بالله ، والحاكم (1/412) – وصححه ووافقه الذهبي _
( 1 ) البخاري : كتاب التراويح / باب تحري ليلة القدر .
(1) ابن حبان (1- 248) ، والترمذي : كتاب الزهد / باب من التمس رضى الله بسخط الناس، (7/ 132)
( 1 ) الإمام أحمد في ( المسند ) ( 3/ 449 )
(2) البخاري : / باب استئجار المشركين
( 2 ) مسلم : كتاب الحج / باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم .
( 3 ) البخاري : كتاب الوكالة / باب إذا وكل رجلا فترك الوكيل شيئا ...
( 4 ) البخاري : كتاب المناقب / باب سؤال المشركين أن يريهم النبي صلى الله عليه وسلم آية .
( 1 ) البخاري : كتاب التفسير / باب ( فكيف إذا جئنا من أمة بشهيد ) ومسلم : كتاب صلاة المسافرين / باب فضل استماع القرآن .
( 2 ) أبو داود : كتاب الزكاة / باب الرخصة في ذلك ( أي : خروج الرجل من ماله )(118/138)
(1) البخاري : كتاب التفسير / باب (الذين قال لهم الناس ...)
( 1 ) البخاري : كتاب الجهاد / باب الحرب خدعة ، ومسلم : كتاب الجهاد / باب جواز الخداع في الحرب .
( 1 ) الإمام احمد في مسنده ( 4/ 11، 12) وابن ماجه ( المقدمة،1/64) ، وابن عاصم في ( السنة ) (544) والآجري في ( الشريعة ) . قال شيخ الإسلام ابن تميمة : ( حديث حسن ) ( الواسطية ، ص 13)
( 2 ) البخاري: كتاب المغازي / باب قوله تعالى ( إذا تستغيثون ... ) ومسلم : كتاب الجهاد / باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر .
( 3 ) البخاري : كتاب المغازي / باب غزوة الخندق ، ومسلم : كتاب الجهاد / باب استحباب الدعاء بالنصر .
( 4 ) البخاري : كتاب الأنبياء / باب حديث الغار ، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء / باب قصة أصحاب الغار .
(1) البزار ، كما في (كشف الأستار) (106) ، وابن أبي حاتم في (التفسير) كما في (الدر المشور)(2/148)،وقال :(إسناده حسن) .
وقال الهيثمي (1/104) رواه البزار والطبراني ، ورجاله موثوقون .
( 1 ) مسلم : كتاب الطهارة / باب الصلوات الخمس ...
( 2 ) البخاري : كتاب العمرة / باب وجوب العمرة وفضلها ، ومسلم : كتاب الحج / باب فضل الحج والعمرة .
( 3 ) مسلم : كتاب الطهارة / باب فضل الوضوء .
( 4 ) تقدم ( 606 ) .
(1) عبد الرازق في (المصنف)(10/ 459) ، وابن جرير (5/26) ، والطبراني في (الكبير) (8783) .
( 1 ) البخاري : كتاب الجنائز / باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : ( يعذب الميت ببعض بكاء أهله ) ومسلم : كتاب الجنائز / باب البكاء على الميت .
( 1 ) البخاري : كتاب الإيمان / باب فضل من أستبرأ لدينه ، ومسلم : كتاب المساقاة / باب أخذ الخلال وترك الشبهات .
(1) تقدم (ص 574) .
(2) تقدم ( ص 574 )
(1) البخاري : كتاب المناقب / باب ما ينهى من دعوى الجاهلية ، ومسلم : كتاب الإيمان / باب تحريم ضرب الخدود . ..(118/139)
( 2 ) البخاري : كتاب المرضى / باب كفارة المرض، ومسلم : كتاب البر والصلة / باب ثواب المؤمن .
(1) الترمذي : كتاب الزهد / باب ما جاء في الصبر على البلاء، والحاكم في (المستدرك)(4/651) ، والبيهقي في (السماء والصفات) (154) ، والبغوي في (شرح السنة) (5/245) .
2) مسلم : كتاب المسافرين / باب الدعاء في صلاة الليل .
(3) أخرجه البخلري ومسلم .
(1) البخاري : كتاب المرضى/باب أشد الناس بلاء الأنبياء، ومسلم: كتاب البروالصلة /باب ثواب المؤمن .
(2) البخاري : كتاب المغازي /باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم .
(1) الترمذي: كتاب الزهد/ باب ما جاء في الصبر على البلاء، وابن ماجة: كتاب الفتن/ باب الصبر على البلاء.
(1) البخاري : كتاب الجماعة والإمامة / باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة، ومسلم: كتاب الزكاة / باب إخفاء الصدقة .
(1) البخاري : كتاب الرقاق / باب الرياء والسمع، ومسلم : كتاب الزهد /باب تحريم الرياء .
(2) البخاري : كتاب العتق / باب الخطأ والنسيان، ومسلم : كتاب الإيمان / باب تجاوز الله عن حديث النفس .
(1) الإمام احمد في (المسند) (1/18،26)، والترمذي (كتاب الفتن،باب ما جاء في لزوم الجماعة)
(2) مسلم : كتاب البر والصلة / باب إذا أثنى على الصالح .
(1) البخاري : كتاب بدء الوحي / باب كيف كان بدء الوحي ، ومسلم : كتابالإمارة إنما الأعمال بالنيات .
(3) البخاري : كتاب البيوع / باب النجش، ومسلم : كتاب الأقضية / باب نقص الأحكام .
(1) مسلم كتاب الزهد / باب من أشرك في عمله غير الله
(1) الإمام أحمد ( 3 / 30) وابن ماجة : كتاب الزهد / باب الرياء والسمعة ، والحاكم (4/ 329)وصححه .
(2) البخاري : كتاب الرقاق / باب صفة الجنة والنار .
(2) البخاري : كتاب المغازي / باب حجة الوداع، ومسلم : كتاب الفتن / باب ذكر الدجال.(118/140)
البخاري : كتاب بدء الخلق / باب صفة النار، ومسلم : كتاب الزهد / باب عقوبة من يأمر بمعروف ولا يفعله .
(1) البخاري : كتاب اللباس/ باب ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتجوز من اللباس ، ومسلم : كتاب الطلاق / باب في الإيلاء واعتزال النساء .
(1) لبخاري : كتاب / الرقاق باب ما يتقي من فتنة المال
(1) الإمام أحمد في المسند ) بنحوه ، والخطيب في (الفقيه والمتفقه ( 1/145)
(2) مسلم : كتاب المساجد / باب قضاء الصلاة الفائتة .
(3) الإمام احمد في (المسند)(5/382)، والترمذي:كتاب المناقب/ باب في مناقب أبي بكر وعمر/ وابن ماجة في (المقدمة)(1/37).
(4) الإمام احمد في (المسند) (4/126)، وأبو داود : كتاب السنة/باب في لزوم السنة، وابن ماجة في (المقدمة) (1/15)، وصححه شيخ الإسلام ابن تميمة في (الفتاوى) (28/ 493)، والحاكم ووافقه الذهبي(1-150)، وابن رجب في (جامع العلوم) ( ص 246) .
(1)
(2)البخاري : (كتاب الوضوء، باب التيمن في الوضوء) ، ومسلم ( كتاب الطهارة، باب التيمن في الطهور)
(1) الترمزي : كتاب تفسير القرأن ، تفسير سورة التوبة .
(1) الإمام أحمد في (المسند) (2/321، 365) ، وأبو داود : كتاب العلم / باب التوقي في الفتيا ، وابن ماجة : كتاب المقدمة/ باب اجتناب الرأي. قال الألباني: (إسناده حسن) (المشكاة 242)
(1) البخاري : كتاب الدعوات /باب التوبة ، ومسلم : كتاب التوبة /باب الدعوات/ باب في الحض على التوبة .
(1) البخاري : كتاب الفتن / باب لا يأتي زمان إلا الذي بعده شر منه .
(2) تقدم تخريجه (ص733) .
(1) مسلم : كتاب الجمعة / باب تخفيف الصلاة والخطبة .
(1) ابن جرير الطبري (9891) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (5/37) روي اسحق بن راهويه في تفسيره باسناد صحيح عن الشعبي
(2) البخاري : كتاب استتابة المرتدين / باب حكم المرتد .(118/141)
(1) قال الحافظ في الفتح (5/37) رواه الكلبي في تفسيره عن ابن عباس ...... ، واسناده وإن كان ضعيفا لكن تقوي بطريق مجاهد .
(2) الإمام احمد في (المسند) (1/391، 452) وابن حيان (2372) ، والطبراني في (الكبير) (10352) ، والحاكم (1/ 509) ، والهيثمي (10/ 136) ، وقال : (رجال أحمد وأبي يعلي رجال الصحيح) وصححه ابن القيم في (شفاء العليل) (277) ، واحمد شاكر في (المسند) (3712) .
(1) البخاري : كتاب الدعوات / باب لله مائة اسم غير واحد ، ومسلم : كتاب الذكر والدعاء / باب في أسماء الله تعالى .
(1) البخاري : كتاب الشروط / باب الشروط في الجهاد .
(1) البخاري : كتاب العلم / باب من خص بالعلم قوما دون قوم
(2) البخاري : كتاب النكاح / باب هل يرجع إذا رأي منكرا في الدعوة
(3) مسلم في مقدمة (صحيحه) (1 / 11) .
(3) البخاري : كتاب التهجد /باب الدعاء والصلاة من آخر الليل ، ومسلم : صلاة المسافرين / باب الترغيب في الدعاء .
(1) عبد الرزاق في المصنف ( 20895) وابن ابي عاصم في كتاب السنة (485)
(2) ابن حزم في (الفصل) (2 /108) – وقال: (هذا سند في غاية الصحة) – و قال المنذري في (الترغيب) (4/560) : ( رواه البيهقي موقوفا بإسناد جيد)
(3) انظر قوله في : (تفسير الطبري) (3/183)
(1) ابن جرير الطبري في التفسير (20397).
(1) البخاري : كتاب الرقاق / باب يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ومسلم كتاب صفات المنافقين / باب منزلة أهل الجنة .(118/142)
مجموع فتاوى و رسائل - المجلد التاسع
القول المفيد شرح كتاب التوحيد - الثاني /ب
محمد بن صالح العثيمين
باب قوله تعالي :
(يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) (النحل:83)
ـــــــــــــــــــ
قوله تعالى : (يعرفون) . أي : يدركون بحواسهم أن النعمة من عند الله .
قوله تعالى:(نعمة الله) . واحدة والمراد بها الجمع ، فهي ليست واحدة ،بل هي لا تحصى ، قال تعالى : (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها) (إبراهيم :34) ، والقاعدة الأصولية : أن المفرد المضاف يعم ، والنعمة بجلب المحبوبات ، وتطلق أحيانا على رفع المكروهات .
قوله : (ثم ينكرونها) أي : ينكرون إضافتها إلى الله لكونهم يضيفونها إلى السبب متناسين المسبب الذي هو الله – سبحانه وتعالى – وليس المعنى أنهم ينكرون هذه النعمة ، مثل أن يقولوا : ما جاءنا مطر أو ولد أو صحة ، ولكن ينكرونها بإضافتها إلى غير الله متناسين الذي خلق السبب فوجد به المسبب .
قوله : (الآية) أي : إلى آخر الآية ، وهي منصوبة بفعل محذوف تقديره أكمل الآية .
قوله : (وأكثرهم الكافرون) . أي أكثر العارفين بأن النعمة من الله الكافرون ، أي الجاحدون كونها من الله ، أو الكافرون بالله عز وجل .
وقوله : (أكثرهم ) بعد قوله : (يعرفون)الجملة الأولى أضافها إلى الكل ، والثانية أضافها إلى الأكثر ، وذلك لأن منهم من هو عامي لا يعرف ولا يفهم ، ولكن أكثرهم يعرفون ثم يكفرون .
مناسبة هذا الباب التوحيد :(119/1)
أن من أضاف نعمة الخالق إلى غيره ، فقد جعل معه شريكا في الربوبية ، لأن أضافها إلى السبب على أنه فاعل ، هذا من وجه ، ومن وجه آخر : أنه لم يقم بالشكر الذي هو عبادة من العبادات ، وترك الشكر مناف للتوحيد ، لأن الواجب أن يشكر الخالق المنعم – سبحانه وتعالى – فصارت له صلة بتوحيد الربوبية وبتوحيد العبادة ، فمن حيث إضافتها إلى السبب على أنه فاعل هذا إخلال بتوحيد الربوبية ، ومن حيث ترك القيام بالشكر الذي هو العبادة هذا إخلال بتوحيد الألوهية .
قال مجاهد ما معناه ( هو قول الرجل هذا مالي ورثته عن أبائي
ـــــــــــــــــــــ
****
قوله : (قال مجاهد) هو إمام المفسرين في التابعين ، عرض المصحف على ابن عباس رضى الله عنهما يوقفه عند كل آية ويسأله عن تفسيرها ، وقال سفيان الثوري : إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به . أي : كافيك ، ومع هذا ، فليس معصوما من الخطأ .
قوله : ( ما معناه) . أي : كلاما معناه ، وعلى هذا ف (ما) نكرة موصوفة، وفيه أن الشيخ رحمه الله لم ينقله بلفظه .
قوله:(و قول الرجل).هذا من باب التغليب والتشريف ، لأن الرجل أشرف من المرأة وأحق
بتوجيه الخطاب إليه منها ، وإلا ، فالحكم واحد .
قوله:(هذا مالي ورثته عن آبائي) . ظاهر هذه الكلمة أنه لا شي فيها ، فلو قال لك واحد : من أين لك هذا البيت ؟ قلت : ورثته عن آبائي ، فليس فيه شي لأنه خبر محض .
لكن مراد مجاهد أن يضيف القائل تملكه للمال إلى السبب الذي هو الإرث متناسيا المسبب الذي هو الله ، فبتقدير الله – عز وجل – انتقل هذا البيت إلى ملكك عن طريق الإرث ، فكيف تتناسى المسبب للأسباب القدرية والشرعية فتضيف الأمر إلى ملك آبائك وإرثك إياه بعدهم ؟! فمن هنا صار هذا القول نوعا من كفر النعمة .(119/2)
أما إذا كان قصد الإنسان مجرد الخبر كما سبق ، فلا شي في ذلك ، ولهذا ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له يوم الفتح : (أتنزل في دارك غدا؟) فقال : (وهل ترك لنا عقيل من دار أو رباع)(1) فبين صلى الله عليه وسلم أن هذه الدور انتقلت إلى عقيل بالإرث .
فتبين أن هناك فرقا بين إضافة الملك إلى الإنسان على سبيل الخبر ، وبين إضافته إلى سببه متناسيا أن المسبب هو الله – عز وجل - .
وقال عون بن عبد الله : ( يقولون لولا فلان لم يكن كذا .
ــــــــــــــــــــــ
***
قوله : ( وقال عون بن عبد الله : يقولون : لو لا فلان لم يكن كذا) .
وهذا القول من قائله فيه تفصيل إن أراد به الخبر وكان الخبر صدقا مطابقا للواقع ، فهذا لا باس به ، وإن أراد بها السبب ، فلذلك ثلاث حالات :
الأولى : أن يكون سببا خفيا لا تأثير له إطلاقا ، كأن يقول : لولا الولي الفلاني ما حصل كذا وكذا ، فهذا شرك أكبر لأنه يعتقد بهذا القول أن لهذا الولي تصرفا في الكون مع أنه ميت ، فهو تصرف سري خفي .
الثانية : أن يضيفه إلى سبب صحيح ثابت شرعا أو حسا ، فهذا جائز بشرط أن لا يعتقد أن السبب مؤثر بنفسه ، وأن لا يتناسى المنعم بذلك .
الثالثة : أن يضيفه إلى سبب ظاهر ، ولكن يثبت كونه سببا لا شرعا ولا حسا ، فهذا نوع من الشرك الأصغر ، وذلك مثل : التولة ، والقلائد التي يقال : أنها تمنع العين ، وما أشبه ذلك ، لأنه أثبت سببا لم يجعله الله سببا ، فكان مشاركا لله في إثبات الأسباب .(119/3)
ويدل هذا التفضيل أنه ثبت إضافة (لولا) إلى السبب وحده بقول النبي صلى الله عليه وسلم في عمه أبي طالب : (لولا أنا ، لكان في الدرك الأسفل من النار)(1) ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم أبعد الناس عن الشرك ، وأخلص الناس توحيدا لله تعالى ، فأضاف النبي صلى الله عليه وسلم الشي إلى سببه ، لكنه شرعي حقيقي ، فإنه أُذن له بالشفاعة لعمه بأن يخفف عنه ، فكان في ضحضاح من النار ، عليه نعلان يغلي منه دماغه لا يرى أن أحدا أشد عذابا منه ، لأنه لو يرى أن أحدا أشد عذابا منه أو مثله هان عليه بالتسلي ، كما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر :
ولولا كثرة الباكين حولي لى إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن سلي النفس عنه بالتأسي
وابن القيم رحمه الله – وإن كان قول العالم ليس بحجة لكن يستأنس به – قال في القصيدة الميمية يمدح الصحابة :
أولئك أتباع النبي وحزبه ولولا هُمُو ما كان في الأرض مسلم
ولولا همو كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هم
ولولا همو كانت ظلاما بأهلها ولكن همو فيها بدور وأنجم
فأضاف (لولا) إلى سبب صحيح .
وقال ابن قتيبة : ( يقولون هذا بشفاعة آلهتنا
ـــــــــــــــــــــ
****
قوله : (وقال ابن قتيبة : هذا بشفاعة آلهتنا ). هؤلاء أخبث ممن سبقهم ، لأنهم مشركون يعبدون غير الله ، ثم يقولون : إن هذه النعم حصلت بشفاعة آلهتهم ، فالعزى مثلا شفعت عند الله أن ينزل المطر ، فهؤلاء أثبتوا سببا من أبطل الأسباب لأن الله – عز وجل – لا يقبل شفاعة آلهتهم ، لأن الشفاعة لا تنفع إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولا ، والله – عز وجل – لا يأذن لهذه الأصنام بالشفاعة ، فهذا أبطل من الذي قبله لأن فيه محذورين :
1. الشرك بهذه الأصنام .
2. إثبات سبب غير صحيح .
****(119/4)
قال أبو العباس بعد حديث زيد بن خالد الذي فيه : ( إن الله تعالى قال ( أصبح من عبادي مؤمن وكافر .... ) الحديث(1) وقد تقدم : ( وهذا كثير من الكتاب والسنة ، يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ويشرك به )
ــــــــــــــــــــــ
قوله : (وقال أبو العباس) . وهو شيخ الإسلام أحمد بن تميمة .
قوله : (هذا كثير من الكتاب والسنة يذم سبحانه من يضيف إنعامه إلى غيره ...) . وذلك مثل الاستسقاء بالأنواء ، وإنما كان مذموما ، لأنه لو أتى إليك عبد فلان بهدية من سيده فشكرت العبد دون السيد ، كان هذا سوء أدب مع السيد وكفرانا لنعمته ، وأقبح من هذا لو أضفت النعمة إلى السبب دون الخالق ، لما يأتي :
1. أن الخالق لهذه الأسباب هو الله ، فكان الواجب أن يشكر وتضاف النعمة إليه .
2. أن السبب لا يؤثر، كما ثبت في ( صحيح مسلم) أنه صلى الله عليه وسلم قال : (ليس السنة أن لا تمطروا، ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا، ولا تنبت الأرض شيئا) . (2)
3. أن السبب قد يكون له مانع يمنع تأثيره ، وبهذا عرف بطلان إضافة الشي إلى سببه دون الالتفات إلى المسبب جل وعلا .
قال بعض السلف : هو كقولهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقا ...... ونحو ذلك مماهو جار على ألسنة كثيرة ))
ــــــــــــــــــــ
***
قوله : (كانت الريح طيبة) . هذا في السفن الشراعية التي تجري بالريح ، قال تعالى : ( حتى إذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) (يونس:22) . فكانوا إذا طاب سير السفينة قالوا كانت الريح طيبة ، وكان الملاح – هو قائد السفينة – حاذقا ، أي : مجيدا للقيادة ، فيضيفون الشي إلى سببه وينسون الخالق – جل وعلا - .
****
فيه مسائل :
الأولى : تفسير معرفة النعمة وإنكارها . وسبق ذلك .
الثانية : معرفة أن هذا جار على ألسنة كثيرة . وذلك مثل قول بعضهم : كانت الريح طيبة ، والملاح حاذقا ، وما أشبه ذلك .(119/5)
الثالثة : تسمية هذا إنكارا للنعمة . يعني : إنكار لتفضل الله تعالى بها وليس إنكارا لوجودها ، لأنهم يعرفونها ويحسون بوجودها .
الرابعة : اجتماع الضدين في القلب . وهذا من قوله : (يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها) ، فجمع بين المعرفة والإنكار،وهذا كما يجتمع في الشخص الواحد خصلة إيمان وخصلة كفر ، وخصلة فسوق وخصلة عدالة .
****
باب قول الله تعالى :
( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)(البقرة: من الآية22)
ـــــــــــــــــــــ
قوله : (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون)
لما ذكر سبحانه ما يقر به هؤلاء من أفعاله التي لم يفعلها غيره : (الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ) (البقرة: 21-22) . فكل من أقر بذلك لزمه أن لا يعبد إلا المقر له ، لأنه لا يستحق العبادة من لا يفعل ذلك ، ولا يبغي أن يعبد إلا من فعل ذلك ، ولذلك أتى بالفاء الدالة على التفريع والسببية ، أي : فبسبب ذلك لا تجعلوا لله أندادا .
و(لا) هذه ناهية ، أي : فلا تجعلوا له أندادا في العبادة ، كما أنكم لم تجعلوا له أندادا في الربوبية، وأيضا لا تجعلوا له أندادا في أسمائه وصفاته ، لأنهم قد يصفون غير الله بأوصاف الله – عز وجل - ، كاشتقاق العزى من العزيز ، وتسميتهم رحمن اليمامة .
قوله : (أندادا) . جمع ند ، وهو الشبيه والنظير ، والمراد هنا : أندادا في العبادة .(119/6)
قوله : (وأنتم تعلمون) . الجملة في موضع نصب حال من فاعل (تجعلوا) ، أي : والحال أنكم تعلمون ، والمعنى : وأنتم تعلمون أنه لا أنداد له – يعني في الربوبية -، لأن هذا محط التقبيح من هؤلاء أنهم يجعلون له أندادا وهم يعلمون أنه لا أنداد له في الربوبية ، أما الألوهية ، فيجعلون له أندادا ، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشي عجاب) (ص : 5) ، ويقولون في تلبيتهم : (لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك) ، وهذا من سفههم ، فإنه إذا صار مملوكا ، فكيف يكون شريكا ، ولهذا أنكر الله عليهم في قوله : (فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون) ، إذ الأنداد بالمعنى العام – بقطع النظر عن كونه يخاطب أقواما يقرون بالربوبية – يشمل الأنداد في الربوبية والألوهية والأسماء والصفات .
وقال ابن عباس في الآية : ( الأنداد هو الشرك ، أخفي من دبيب النمل على صفاة سوداء في ظلمة الليل وهو ان تقول : والله وحياتك يا
ــــــــــــــــــــ
****
قوله :(وقال ابن عباس في الآية) . أي : في تفسيرها .
قوله : (هو الشرك) . هذا تفسير بالمراد ، لأن التفسير تفسيران :
تفسير بالمراد ، وهو المقصود بسياق الجملة بقطع النظر عن مفرداتها .
تفسير بالمعنى ، وهو الذي يسمى تفسير الكلمات ، فعندنا الآن وجهان للتفسير :
أحدهما : التفسير اللفظي وهو تفسير الكلمات ، وهذا يقال فيه : معناه كذا وكذا .
الثاني : التفسير بالمراد ، فيقال : المراد بكذا وكذا ، والأخير هنا هو المراد .
فإذا قلنا : الأنداد الأشباه والنظراء ، فهو تفسير بالمعنى ، وإذا قلنا : الأنداد الشركاء أو الشرك ، فهو تفسير بالمراد ، يقول رضى الله عنه(الأنداد هو الشرك)، فإذا الند الشريك المشارك لله – سبحانه وتعالى – فيما يختص به .(119/7)
فلان، وحياتي ، وتقول : لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص ، ولولا البط في الدار ، لأتي اللصوص، وقول الرجل لصاحبه لا تجعل فيها فلانا، هذا كله به شرك)رواه ابن أبي حاتم(1)
ـــــــــــــــــــــــ
وقوله : (دبيب) . أي : أثر دبيب النمل وليس فعل النمل .
وقوله : (على صفاة) هي الصخرة الملساء .
وقوله :(سوداء) . وليس على بيضاء ، إذ لو كان على بيضاء لبان أثر السير أكثر .
وقوله : (في ظلمة الليل) . وهذا أبلغ ما يكون في الخفاء .
فإذا كان الشرك في قلوب بني آدم أخفى من هذا ، فنسأل الله أن يعين على التخلص منه ، ولهذا قال بعض السلف : (ما عالجت نفسي معالجتها على الإخلاص)، ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قال مثل هذا، قيل له :كيف نتخلص منه ؟ قال : قولوا : اللهم! إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه ، ونستغفرك لما لا نعلم ) (2).
وقوله : (والله وحياتك) . فيها نوعان من الشرك :
الأول : الحلف بغير الله .
الثاني : الإشراك مع الله بقوله : والله ! وحياتك ! فضمها إلى الله بالواو المقتضية للتسوية فيها نوع من الشرك ، والقسم بغير الله إن اعتقد الحالف أن المقسم به بمنزلة الله في العظمة ، فهو شرك أكبر، وإلا ، فهو شرك أصغر .
وقوله : (وحياتي) فيه حلف بغير الله فهو شرك .
وقوله : (لولا كليبة هذا لأتانا اللصوص) ، كليبة تصغير كلب ، والكلب ينتفع به للصيد وحراسة الماشية والحرث .
قوله : (لولا كليبة هذا) يكون فيه شرك إذا نظر إلى السبب دون المسبب، وهو الله –عز وجل – أما الاعتماد على السبب الشرعي أو الحسي المعلوم، فقد تقدم أنه لا بأس به ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (لولا أنا ، لكان في الدرك السفل من النار)(1) لكن قد يقع في قلب الإنسان إذا قال لولا كذا لحصل كذا أو ما كان كذا وكذا ، قد يقع في قلبه شي من الشرك بالاعتماد على السبب بدون نظر إلى المسبب ، وهو الله – عز وجل - .(119/8)
وقوله : (لولا البط في الدار لأتى اللصوص) . البط طائر معروف ، وإذا دخل اللص البيت وفيه بط ، فإنه يصرخ ، فينتبه أهل البيت ثم يجتنبه اللصوص .
وقوله : (وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت) فيه شرك ، لأنه شرك غير الله مع الله بالواو ، فإن اعتقد أنه يساوي الله – عز وجل – في التدبير والمشيئة ، فهو شرك أكبر ، وأن لم يعتقد ذلك ، واعتقد أن الله – سبحانه وتعالى – فوق كل شي ، فهو شرك أصغر ، وكذلك قوله : (لولا الله فلان) .
وقوله : (هذا كله به شرك) . المشار إليه ما سبق ، وهو شرك أكبر أو اصغر وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ؛ أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك ) رواه الترمزيوحسنه وصححه الحاكم (1)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
حسب ما يكون في قلب الشخص من نوع هذا التشريك .
قوله : (وعن عمر) . صوابه عن ابن عمر ، نبه عليه الشارح في (تيسير العزيز الحميد) .
قوله في حديث ابن عمر رضي الله عنهما : (من حلف بغير الله) . (من) شرطية ، فتكون للعموم.
قوله : (أو أشرك) . شك من الراوي ، والظاهر أن الصواب الحديث (أشرك)
قوله : (من حلف بغير الله) . يشمل كل محلوف به سوى الله ، سواء بالكعبة أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الأسماء أو غير ذلك ، ولا يشمل الحلف بصفات الله ، لأن الصفة تابعة للموصوف ، وعلى هذا فيجوز أن تقول : وعزة الله لأفعلن كذا .
وقوله : (بغير الله ) . ليس المراد بغير هذا الاسم ، بل المراد بغير المسمى بهذا الاسم ، فإذا حلف بالله أو بالرحمن أو بالسميع ، فهو حلف بالله .
والحلف : تأكيد الشي بذكر معظم بصيغة مخصوصة بالباء أو التاء أو الواو . وحروف القسم ثلاثة : الباء ، والتاء ، والواو .(119/9)
والباء : أعمها، لأنه تدخل على الظاهر والمضمر وعلى أسم الله وغيره ، ويذكر معها فعل القسم ويحذف ، فيذكر معها فعل القسم ، كقوله تعالى : (وأقسموا بالله جهد أيمانكم) (الأنعام :109) ، ويحذف مثل قولك : بالله لأفعلن ، وتدخل على المضمر مثل قولك : الله عظيم أحلف به لأفعلن ، وعلى الظاهر كما في الآية وعلى غير لفظ الجلالة ، مثل قولك : بالسميع لأفعلن ، وأما الواو ، فإنه لا يذكر معها فعل القسم ، ولا تدخل على الضمير ، ويحلف بها مع كل اسم ، وأما التاء ، فإنه لا يذكر معها فعل القسم وتختص بالله ورب ، قال بن مالك : ( والتاء لله ورب) . والحلف بغير الله شرك أكبر إن اعتقد أن المحلوف به مساو لله تعالى في التعظيم والعظمة ، وإلا ، فهو شرك أصغر .
وهل يغفر الله الشرك الأصغر؟
قال بعض العلماء : إن قوله تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به) (النساء : 116) ، أي : الشرك الكبر (ويغفر ما دون ذلك) ، يعني : الشرك الصغر والكبائر .
وقال شيخ الإسلام ابن تميمة رحمه الله:إن الشرك لا يغفره لله ولو كان أصغر ، لأن قوله : (أن يشرك به) مصدر مؤول ، فهو نكرة في سياق النفي ، فيعم الصغر والأكبر ،والتقدير : لا يغفر شركا به أو إشراكا به .
وأما قوله تعالى:(والشمس وضحاها)(الشمس:1)،وقوله:(لا أقسم بهذا البلد) (البلد : 1)، وقوله : (والليل إذا يغشى) (الليل : 1) وما أشبه ذلك من المخلوقات التي اقسم الله بها ، فالجواب على وجهين :
الأول:أن هذا من فعل الله والله لا يسأل عما يفعل،وله أن يقسم سبحانه بما شاء من خلقه ، وهو سائل غير مسؤول وحاكم غير محكوم عليه .
الثاني : أن قسم الله بهذه الآيات دليل على عظمته وكمال قدرته وحكمته ، فيكون القسم به الدال على تعظيمها ورفع شأنها متضمنا للثناء على الله – عز وجل – بما تقتضيه من الدلالة على عظمته .
وأما نحن ، فلا نقسم بغير الله أو صفاته ، لأننا منهيون عن ذلك .(119/10)
وأما ما ثبت في (صحيح مسلم)من قوله صلى الله عليه وسلم : (أفلح وأبيه إن صدق)(2) .
فالجواب عنه من وجوه :
الأول : أن بعض العلماء أنكر هذه اللفظة ، وقال : إنها لم تثبت في الحديث ، لأنها مناقضة للتوحيد،وما كان كذلك ، فلا تصح نسبته إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيكون باطلا .
الثاني : أنها تصحيف من الرواة ، والأصل : (أفلح والله إن صدق) .
وكانوا في السابق لا يشكلون الكلمات ، و(أبيه) تشبه (الله) إذا حذفت النقط السفلي .
الثالث : أن هذا ما يجري على الألسنة بغير قصد، وقد قال الله تعالى : (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الإيمان)(المائدة : 89)، وهذا لم ينو فلا يؤاخذ .
الرابع : أنه وقع من النبي صلى الله عليه وسلم وهو أبعد الناس عن الشرك ، فيكون من خصائصه ، وإما من غيره ، فهم منهيون عنه لأنهم لا يساوون النبي صلى الله عليه وسلم في الإخلاص والتوحيد .
الخامس : أنه على حذف مضاف ، والتقدير : (أفلح ورب أبيه) .
السادس : أن هذا على منسوخ ، وأن النهي هو الناقل من الأصل ، وهذا من أقرب الوجوه .
ولو قال قائل : نحن نقلب عليكم الأمر ، ونقول : إن المنسوخ هو النهي ، لأنهم لما كانوا حديثي عهد بشرك نهوا أن يشركوا به كما نهي الناس حين كانوا حديثي عهد بشرك عن زيارة القبور ثم أذن لهم فيها(1) ؟
فالجواب عنه : أن هذا اليمين كان جاريا على ألسنتهم ، فتركوا حتى استقر الإيمان في نفوسهم ثم نهوا عنه ، ونظيره إقرارهم على شرب الخمر أولا ثم أمروا باجتنابه .
أما بالنسبة للوجه الأول، فضعيف لأن الحديث ثابت، وما دام يمكن حمله على وجه صحيح ، فإنه يجوز إنكاره .
أما الوجه الثاني ، فبعيد ، وإن أمكن ، فلا يمكن في قوله صلى الله عليه وسلم لما سئل : أي الصدقة افضل؟ فقال : (أما وأبيك لتنبأنه)(2) .(119/11)
وأما الوجه الثالث ، فغير صحيح لأن النهي وارد مع أنه كان يجري على ألسنتهم كما جرى على لسان سعد فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم(3) ، ولو صح هذا ، لصح أن يقال لمن فعل شركا اعتاده لا ينهى ، لأن هذا من عادته ، وهذا باطل .
وأما الرابع ، فدعوى الخصوصية تحتاج إلى دليل ، وإلا ، فالأصل التأسي به .
وأما الخامس : فضعيف لأن الأصل عدم الحذف، ولأن الحذف هنا يستلزم فهما باطلا ، ولا يمكن أن يتكلم الرسول صلى الله عليه بما يستلزم ذلك بدون بيان المراد ، وعلى هذا يكون أقربها الوجه السادس أنه منسوخ ، ولا نجزم بذلك لعدم العلم بالتاريخ ، ولهذا قلنا أقربها والله أعلم ، وإن كان النووي رحمه الله ارتضى أن هذا مما يجري على اللسان بدون قصد ، لكن هذا ضعيف لا يمكن القول به ، ثم رأيت بعضهم جزم بشذوذها لانفراد مسلم بها عن البخاري مع مخالفة راويها للثقات ، فالله أعلم .
قال ابن مسعود : ( لأن أحلف بلله كاذبا أحلب إلي من أن أحلف بغيره صادقا )(1)
ـــــــــــــــــــــــــ
****
قوله في اثر ابن مسعود : (لأن أحلف بالله كاذبا) . اللام : لام الابتداء ، و(أن) مصدرية ، فيكون قوله : (أن أحلف) مؤولا بمصدر مبتدأ تقديره لحلفي بالله .
قوله : (أحب إلىّ) . خبر مبتدأ ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : (وأن تصوموا خير لكم) (البقرة : 184) .
قوله : (كاذبا) حال من فاعل أحلف .
قوله:( أحب إلىّ) هذا من باب التفضيل الذي ليس فيه من الجانبين ، وهذا نادر في الكلام ، لأن التفضيل في الأصل يكون فيه المعنى ثابتا في المفضل وفي المفضل عليه ، وأحيانا في المفضل دون المفضل عليه ، وأحيانا لا يوجد في الجانبين ، فابن مسعود رضى الله عنه لا يحب لا هذا ولا هذا ، ولكن الحلف بالله كاذبا أهون عليه من الحلف بغيره صادق، فالحلف كاذبا محرم من وجهين :
1. أن كذب ، والكذب محرم لذاته .(119/12)
2. أن هذا الكذب قرن باليمين ، واليمين تعظيم لله – عز وجل - ، فإذا كان على كذب صار فيه شي من تنقص لله – عز وجل - ، حيث جعل اسمه مؤكدا لأمر كذب ، ولذلك كان الحلف بالله كاذبا عند بعض أهل العلم من اليمين المغموس التي تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار .
وأما الحلف بغير الله صادقا ، فهو محرم من وجه واحد وهو الشرك ، لكن سيئه الشرك أعظم من سيئة الكذب ، وأعظم من سيئة الحلف بالله كاذبا ، وأعظم من اليمين الغموس إذا قلنا : إن الحلف بالله كاذبا ، من اليمين الغموس ، لأن الشرك لا يغفر ، قال تعالى : (إن الله لا يغفر أن يشرك به)(النساء:116) وما أرسل الله الرسل وأنزل الكتب إلا لإبطال الشرك، فهو أعظم الذنوب ، قال تعالى : ( إن الشرك لظلم عظيم) (لقمان : 13) ، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم : أي الذنب أعظم؟ قال : (إن تجعل لله ندا وهو خلقك)(1) ، والشرك متضمن للكذب ، فإن الذي جعل غير الله شريكا لله كاذب ، بل من أكذب الكاذبين ، لأن الله لا شريك له .
****
وعن حذيفة رضي الله عنه ؛ أن الرسول صلي الله عليه وسلم قال : ( لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان ) رواه أبو داوود بسند صحيح (1)
ـــــــــــــــــــــــ
قوله في حديث حذيفة رضى الله عنه : (لا تقولوا) . (لا) الناهية ، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون .
قوله : (ما شاء الله وما شاء فلان) . والعلة في ذلك أن الواو تقتضي تسوية المعطوف بالمعطوف عليه ، فيكون القائل : ما شاء الله وشئت مسويا مشيئة الله بمشيئة المخلوق ، وهذا شرك، ثم إن اعتقد أن المخلوق أعظم من الخالق ، أو أنه مساو له ، فهو شرك اكبر ، وإن اعتقد أنه أقل ، فهو شرك اصغر .
قوله : (ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان) . لما نهي عن اللفظ المحرم بين اللفظ المباح ، لأن (ثم) للترتيب والتراخي ، فنفيد أن المعطوف أقل مرتبة من المعطوف عليه .(119/13)
أما بالنسبة لقوله :(ما شاء الله فشاء فلان) ، فالحكم فيه أنها مرتبة بين مرتبة (الواو) ومرتبة (ثم) فهي تختلف عن (ثم) بأن (ثم) للتراخي والفاء للتعقيب ، وتوافق (ثم) بأنها للترتيب ، فالظاهر أنها جائزة ، ولكن التعبير ب (ثم) أولى لأنه اللفظ الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ولأنه أبين في إظهار الفرق بين الخالق والمخلوق .
ويستفاد من هذا الحديث :
1. إثبات المشيئة للعبد ، لقوله : (ثم شاء فلان) ، فيكون فيه رد على الجبرية حيث قالوا : إن العبد لا مشيئة له ولا اختيار .
2. أنه ينبغي لمن سد على الناس بابا محرما أن يفتح لهم الباب المباح ، لقوله : (ولكن قولوا : ما شاء الله ثم شاء فلان) ، ونظير ذلك قوله تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) (البقرة : 104) ، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما جي له بتمر جيد وأخبره الآتي به أنه أخذ الصاع بالصاعين والصاعين بالثلاثة ، وقال : (لا تفعل ، ولكن بع الجمع بالدراهم ، ثم اشتر بالدراهم جنيبا (1)، أي : تمرا جيدا، فأرشده إلى الطريق المباح حين نهاه عن الطريق المحرم.
وفي هذا فائدتان عظيمتان :
الأولى : بيان كمال الشريعة وشمولها ، حيث لم تسد على الناس بابا إلا فتحت لهم ما هو خير منه .
الثانية : التسهيل على الناس ورفع الحرج عنهم ، فعامل الناس بهذا ما استطعت ، كلما سددت عليهم بابا ممنوعا ، فافتح لهم من المباح ما يغني عنه ما استطعت إلى ذلك سبيلا حتى لا يقعوا في الحرج .
****
وجاء عن ابراهيم النخعي : ( أنه يكره : أعوذ بلله وبك ، ويجوز أن يقول بلله ثم بك ). قال : ويقول : (ولولا الله ثم فلان ، ولا تقولوا لولا اله وفلان ).
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : (عن إبراهيم النخعي) . من فقهاء التابعين ، لكنه قليل البضاعة في الحديث ، كما ذكر ذلك حماد بن زيد .(119/14)
قوله : ( يكره أعوذ بالله وبك) . العياذ الاعتصام بالمستعاذ به عن المكروه ، واللياذ بالشخص : هو اللجوء إليه لطلب المحبوب ، قال الشاعر :
يا من ألوذ به فيما أومله ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظما أنت كاسره ولا يهيضون عظما أنت جابره
وهذان البيتان يخاطب بهما رجلا، لكن كما قال بعضهم: هذا القول لا ينبغي أن يكون إلا لله .
وقوله : (أعوذ بالله وبك) . هذا محرم ، لأنه جمع بين الله والمخلوق بحرف يقتضي التسوية وهو الواو .
ويجوز بالله ثم بك ، لأن (ثم) تدل على الترتيب والتراخي .
فإن قيل : سبق أن من الشرك الاستعاذة بغير الله ، وعلى هذا يكون قوله : أعوذ بالله ثم بك محرما .
أجيب : أن الاستعاذة بمن يقدر على أن يعيذك جائزة ، لقوله صلى الله عليه وسلم في (صحيح مسلم) وغيره : (من وجد ملجأ، فليعذ به)(2) ، لكنه قال : أعوذ بالله ثم بفلان . وهو ميت ، فهذا شرك أكبر لأنه لا يقدر على أن يعيذك ، وأما استدلال الإمام أحمد على أن القرآن غير مخلوق بقوله صلى الله عليه وسلم : (أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق) ، ثم قال رحمه الله : والاستعاذة لا تكون بمخلوق فيحمل كلامه على أن الاستعاذة بكلام لا تكون بكلام مخلوق بل بكلام غير مخلوق،وهو كلام الله ، والكلام تابع للمتكلم به ، إن كان مخلوقا ، وإن كان غير مخلوق، فهو غير مخلوق .
فيه مسائل :
الأولى : تفسير آية البقرة في الأنداد . وقد سبق
الثانية : أن الصحابة يفسرون الآية النازلة في الشرك الأكبر أنها تعم الصغر ، لأن قوله تعالى : (فلا تجعلوا لله أندادا وانتم تعلمون) نازلة في الأكبر، لأن المخاطب بها هم المشركون، وابن عباس فسرها بما يقتضي الشرك الأصغر ، لأن الند يشمل النظير المساوي على سبيل الإطلاق أو في بعض الأمور .
الثالثة : الحلف بغير الله شرك. لحديث ابن عمر رضى الله عنهما .(119/15)
الرابعة : أنه إذا حلف بغير الله صادقا ، فهو أكبر من اليمين الغموس . واليمين الغموس عند الحنابلة أن يحلف بالله كاذبا ، وقال بعض العلماء – وهو الصحيح : أن يحلف بغير الله كاذبا ليقتطع بها مال امري مسلم .
الخامسة : الفرق بين الواو وثم في اللفظ . لأن الواو تقتضي المساواة ، فتكون شركا ، وثم تقتضي الترتيب والتراخي ، فلا تكون شركا .
****
باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بلله
ـــــــــــــــــــــــــــ
مناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد :
أن الاقتناع بالله من تعظيم الله ، لأن الحالف أكد ما حلف عليه بالتعظيم باليمين وهو تعظيم المحلوف به ، فيكون من تعظيم المحلوف به أن يصدق ذلك الحالف ، وعلى هذا يكون عدم الاقتناع بالحلف بالله فيه شي من نقص تعظيم الله ، وهذا ينافي كمال التوحيد ، والاقتناع بالحلف بالله لا يخلو من أمرين :
الأول : أن يكون ذلك من الناحية الشرعية، فإنه يجب الرضا بالحلف بالله فيما إذا توجهت اليمين على المدعى عليه فحلف،فيجب الرضا بهذا اليمين بمقتضى الحكم الشرعي .
الثاني : أن يكون ذلك من الناحية الحسية ، فإن كان الحالف موضع صدق وثقة ، فإنك ترضى بيمينه ، وإن كان غير ذلك ، فلك أن ترفض الرضا بيمينه ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لحويصة ومحيصة : (تبرئكم يهود بخمسين يمينا . فقالوا : كيف نرضى يا رسول الله بأيمان اليهود؟) .(1) فأقرهم النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك .
****
عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لا تحلفوا بآبائكم ، من حلف بلله فليصدق ، ومن حلف له بالله فليرض ، ومن لم يرض فليس من الله ، ) رواه ابن ماجة بسند حسن (1)
ـــــــــــــــــــــــــ
قوله في الحديث : (لا تحلفوا) .(لا): ناهية، ولهذا جزم الفعل بعدها بحذف النون ، و (آباؤكم) : جمع أب ، ويشمل الأب والجد ، وإن علا فلا يجوز الحلف بهم ، لأنه شرك ، وقد سبق بيانه .(119/16)
قوله صلى الله عليه وسلم : (من حلف بالله ، فليصدق، ومن حلف له بالله ، فليرض) هنا أمران :
الأمر الأول: للحالف، فقد أُمر أن يكون صادقا ، والصدق : هو الإخبار بما يطابق الواقع ، وضده الكذب ، وهو : الإخبار بما يخالف الواقع ، فقوله : (من حلف بالله ،فليصدق) ، أي : فليكن صادقا في يمينه ، وهل يشترط أن يكون مطابقا للواقع أو يكفي الظن ؟
الجواب : يكفي الظن، فله أن يحلف على ما يغلب على ظنه ، كقول الرجل للنبي صلى الله عليه وسلم : والله ما بين لابتيها أهل بيت أفقر مني . فأقره النبي صلى الله عليه وسلم .
الثاني : للمحلوف له ،فقد أمر أن يرضى بيمين الحالف له .
فإذا قرنت هذين الأمرين بعضهما ببعض،فإن الأمر الثاني ينزل على إذا كان الحالف صادقا، لأن الحديث جمع أمرين : أمرا موجها للحالف ، وأمرا موجها للمحلوف له ، فإن كان الحالف صادقا ، وجب على المحلوف له الرضا .
فإن قيل : إن كان صادقا فإننا نصدقه وإن لم يحلف؟
أجيب : أن اليمين تزيده توكيدا .(119/17)
قوله : (ومن لم يرض، فليس من الله ) أي : من لم يرض بالحلف بالله إذا حلف له ، فليس من الله ، وهذا تبرؤ منه يدل على أن عدم الرضا من كبائر الذنوب ، ولكن لابد من ملاحظة ما سبق ، وقد أشرنا أن في حديث القسامة دليلا على أنه إذا كان الحالف غير ثقة ، فلك أن ترفض الرضا به ، لأنه غير ثقة ، فلو أن أحدا حلف لك ، وقال : والله ، إن هذه الحقيبة من خشب . وهي من جلد ، فيجوز أن لا ترضى به لأنك قاطع بكذبه ، والشرع لا يأمر بشي يخالف الحس والواقع، بل يأمر إلا بشي يستحسنه العقل ويشهد له بالصحة والحسن ، وإن كان العقل لا يدرك أحيانا مدى حسن هذا الشي الذي أمر به الشرع ، ولكن ليعلم علم اليقين أن الشرع لا يأمر إلا بما هو حسن ، لأن الله تعالى يقول : (ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (المائدة : 50) فإذا اشتبه عليك حسن شي من أحكام الشرع ، فاتهم نفسك بالقصور أو بالتقصير ، أما أن تتهم الشرع ، فهذا لا يمكن ، وما صح عن الله ورسوله ، فهو حق وهو من أحسن الأحكام .
****
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الحلف بالآباء . الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى . الثالثة : وعيد من لم يرض .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الحلف بالآباء . لقوله : (لا تحلفوا بآبائكم) ، والنهي للتحريم .
الثانية : الأمر للمحلوف له بالله أن يرضى . لقوله : (من حلف له بالله، فليرض) ، وسبق التفصيل في ذلك .
الثالثة : وعيد من لم يرض . لقوله : (ومن لم يرض، فليس من الله) .
الرابعة : ولم يذكرها المؤلف - : أمر الحالف أن يصدق لأن الصدق واجب في غير اليمين ، فكيف باليمين ؟
وقد سبق أن من حلف على يمين كاذبة أنه آثم، وقال بعض العلماء : أنها اليمين الغموس .
وأما بالنسبة للمحلوف له ، فهل يلزمه أن يصدق أم لا؟
المسألة لا تخلو من أحوال خمس :
الأولى : أن يعلم كذبه ، فلا أحد يقول : إنه يلزم تصديقه .(119/18)
الثانية : أن يترجح كذبه ، فكذلك لا يلزم تصديق .
الثالثة : أن يتساوى الأمران ، فهذا يجب تصديقه .
الرابعة: أن يترجح صدقه ، فجب أن يصدق .
الخامسة : أن يعلم صدقه ، فيجب أن يصدق .
وهذا في الأمور الحسية ، أما الأمور الشرعية في باب التحاكم ، فيجب أن يرضى باليمين ويلتزم بمقتضاها ، لأن هذا من باب الرضا بالحكم الشرعي ، وهو واجب .
مناسبة الباب لكتاب التوحيد :
أن قول : (ما شاء الله وشئت) من الشرك الأكبر أو الأصغر ، لأنه إن اعتقد أن المعطوف مساو لله ، فهو شرك أكبر ، وإن اعتقد أنه دونه لكن أشرك به في اللفظ ، فهو أصغر ، وقد ذكر بعض أهل العلم : أن من جملة ضوابط الشرك الصغر أن ما كان وسيلة للأكبر فهو أصغر .
باب قول : ما شاء الله وشئت :
عن قتيلة : أن يهوديا أتي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أنكم تشركون تقولون : ما شاء الله وشئت ، وتقولون والكعبة ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم إذا ارادوا أن يحلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، وان يقولوا : ما شاء الله ثم شئت . رواه النسائي وصححه (1)
ــــــــــــــــــــــــــ
****
قوله : ( أن يهوديا) . اليهودي : هو المنتسب إلى شريعة موسى عليه السلام ، وسموا بذلك من قوله تعالى : (إنا هدنا إليك) ، أي : رجعنا ، أو لأن جدهم يهوذا ابن يعقوب ، فتكون التسمية من أجل النسب ، وفي الأول تكون التسمية من أجل العمل ، ولا يبعد أن تكون من الاثنين جميعا .
قوله : ( إنكم تشركون) . أي : تقعون في الشرك أيها المسلمون .
قوله : (ما شاء الله وشئت) . الشرك هنا أنه جعل المعطوف مساويا للمعطوف عليه ، وهو الله - عز وجل - ، حيث كان العطف بالواو المفيدة للتسوية .
قوله : (والكعبة) . الشرك هنا أنه حلف بغير الله ، ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ما قاله اليهودي ، بل أمر بتصحيح هذا الكلام ، فأمرهم إذا حلفوا أن يقولوا : ورب الكعبة ، فيكون القسم بالله .(119/19)
وأمرهم أن يقولوا : ما شاء الله ، ثم شئت، فيكون الترتيب بثم بين مشيئة الله ومشيئة المخلوق ، وبذلك يكون الترتيب صحيحا ، أما الأول ، فلأن الحلف صار بالله ، وأما الثاني ، فلأنه جعل بلفظ يتبين به تأخر مشيئة العبد عن مشيئة الله ، وأنه لا مساواة بينهما .
ويستفاد من هذا الحديث :
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على اليهودي مع أن ظاهر قصده الذم واللوم للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لأن ما قاله حق .
مشروعية الرجوع إلى الحق وإن كان من نبه عليه ليس من أهل الحق .
أنه ينبغي عند تغيير الشي أن يغير إلى شي قريب منه ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يقولوا : (ورب الكعبة)، ولم يقل : احلفوا بالله ، وأمرهم أن يقولوا : (ما شاء الله، ثم شئت) .
إشكال وجوابه :
هو أن يقال : كيف لم ينبه على هذا العمل إلا هذا اليهودي ؟
جوابه : أنه يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمعه ولم يعلم به .
ولكن يقال : بأن الله يعلم ، فكيف يقرهم؟
فيبقى الإشكال ، ولكن يجاب : إن هذا من الشرك الأصغر دون الأكبر ، فتكون الحكمة هي ابتلاء هؤلاء اليهود الذين انتقدوا المسلمين بهذه اللفظة مع أنهم يشركون شركا أكبر ولا يرون عيبهم .
وله أيضا عن ابن عباس ، ان رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : ما شاء الله وشءت ، فقال : ( أجعلتني لله ندا ؟! بل قل ما شاء الله وحده )(1)
ـــــــــــــــــــــــــــ
***
قوله في حديث ابن عباس رضى الله عنهما : (أن رجلا قال للنبي صلى الله علي وسلم . الظاهر أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم تعظيما ، وأنه جعل الأمر مفوضا لمشيئة الله ومشيئة رسوله .
قوله : (أجعلتني لله ندا؟!) . الاستفهام للإنكار ، وقد ضمن معنى التعجب ، ومن جعل للخالق ندا فقد أتى شيئا عجابا .
والند : هو النظير والمساوي ، أي جعلتني لله مساويا في هذا الأمر ؟(119/20)
قوله : (بل ما شاء الله وحده) . أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يقطع عنه الشرك، ولم يرشده إلى أن يقول ما شاء الله ثم شئت حتى يقطع عنه كل ذريعة عن الشرك وإن بعدت .
يستفاد من الحديث :
1. أن تعظيم النبي صلى الله عليه بلفظ مساواته للخالق شرك ، فإن كان يعتقد المساواة ، فهو شرك اكبر ، وإن كان يعتقد أنه دون ذلك ، فهو أصغر وإذا كان هذا شركا ، فكيف بمن يجعل حق الخالق للرسول صلى الله عليه وسلم ؟
هذا أعظم ، لأنه صلى الله عليه وسلم ليس له شي من خصائص الربوبية ، بل يلبس الدرع ، ويحمل السلاح ، ويجوع ، ويتألم ، ويمرض ، ويعطش كبقية الناس ، ولكن الله فضله على البشر بما أوحى إليه من هذا الشرع العظيم ، قال تعالى : (قل إنما أنا بشر مثلكم) ، فهو بشر ، وأكد هذه البشرية بقوله : (مثلكم)، ثم جاء التمييز بينه وبين بقية البشر بقوله تعالى : (يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد) (الكهف :110)، ولاشك أن الله أعطاه من الأخلاق الفاضلة التي بها الكمالات من كل وجه : أعطاه من الصبر العظيم ، وأعطاه من الكرم ومن الجود ، لكنها كلها في حدود البشرية ، أما أن تصل إلى خصائص الربوبية ، فهذا أمر لا يمكن ، ومن ادعى ذلك، فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفر بمن أرسله . فالمهم أننا لا نغلو في الرسول عليه الصلاة والسلام فننزله في منزلة هو ينكرها ، ولا نهضم حقه الذي يجب علينا فنعطيه ما يجب له ، ونسأل الله أن يعيننا على القيام بحقه ، ولكننا لا ننزله منزلة الرب – عز وجل - .
2. إنكار المنكر وإن كان في أمر يتعلق بالمنكر ، لقوله صلى الله عليه وسلم : (أجعلتني لله ندا؟) ، مع أنه فعل ذلك تعظيما للنبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى هذا إذا انحنى لك شخص عند السلام ، فالواجب عليك الإنكار .(119/21)
3. أن من حسن الدعوة إلى الله – عز وجل – أن نذكر ما يباح إذا ذكرت ما يحرم ، لأنه صلى الله عليه وسلم لما منعه من قول : (ما شاء الله وشئت) أرشده إلى الجائز وهو قوله : (بل ما شاء الله وحده) .
لابن ماجه عن الطفيل ـ أخي عائشة لأمها ـ قال : رأيت كاني أتيت على نفر من اليهود قلت: إنكم لأنتم القوم لولا انكم تقولون : عزيز ابن الله ، قالوا : لأنتم القوم لولا أنكم تقولون : ما شاء الله وشاء محمد ، ثم مررت بنفر من النصاري ، فقلت إنكم لأنتم القوم لولا انكم تقولون : المسيح ابن الله ، قالوا :لأنتم القوم لولا انكم
ـــــــــــــــــــــــ
****
قوله في حديث الطفيل : (رأيت كأني أتيت على نفر من اليهود) . أي رؤيا في المنام .
قوله : (كأن) : اسمها الياء، وجملة (أتيت) خبرها .
وقوله : (على نفر) من الثلاثة إلى التسعة ، واليهود أتباع موسى .
قوله : (لأنتم القوم) . كلمة مدح ، كقولك : هؤلاء هم الرجال .
وقوله : (عزيز) هو رجل صالح ادعى اليهود أنه ابن الله ، وهذا من كذبهم ، وهو كفر صريح ، واليهود لهم مثالب كثيرة ، لكن خصت هذه لأنها من أعظمها وأشهرها عندهم .
تقولون ما شاء الله وشاء محمد ،فلما اصبحت أخبرت بها من اخبرت ثم أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، قال : ( هل أخبرت أحدا ؟ قلت : نعم . قال : فحمد الله ، وأثني عليه ثم قال:أما بعد فإن طفيلا رأي رؤيا أخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم قلتم كلمة يمنعني كذا وكذا أن أنهاكم عنها فلا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد،ولكن قولوا ما شاء الله وحده )(1)
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( ما شاء الله وشاء محمد) هذا شرك أصغر ، لأن الصحابة الذين قالوا هذا ولا شك أنهم لا يعتقدون أن مشيئة الرسول صلى الله عليه وسلم مساوية لمشيئة الله ، فانتقدوا عليهم تسوية مشيئة الرسول بمشيئة الله - عز وعلا - .(119/22)
قوله : (تقولون : المسيح ابن الله) : هو عيسى ابن مريم وسمي مسيحا بمعنى ماسح ، وهو فعيل بمعنى فاعل ، لأنه كان لا يمسح ذا عاهة إلا برى بإذن الله ، كالأكمه والأبرص .
والشيطان لعب بالنصارى فقالوا : هو ابن الله ، لأنه أتى بدون أب ، كما في القرآن : (فنفخنا فيها من روحنا) (الأنبياء : 91) ، قالوا : هو جزء من الله ، لأن أضافه إليه ، والجزء هو الابن .
والروح على الراجح عند أهل السنة : ذات لطيفة تدخل الجسم وتحل فيه كما يحل الماء في الطين اليابس ، ولهذا يقبضها الملك عند الموت وتكفن ويصعد بها ويراها الإنسان عند موته ، فالصحيح أنها ذات وإن كان بعض الناس يقول : إنها صفة، ولكنه ليس كذلك ، والحياة صحيح أنها صفة لكن الروح ذات ، إذا نقول لهؤلاء النصارى : إن الله أضاف روح عيسى إليه كما أضاف البيت والمساجد والناقة وما أشبه ذلك على سبيل التشريف والتعظيم، ولا شك أن المضاف إلى الله يكتسب شرفا وعظمة ، حتى إن بعض الشعراء يقول في معشوقته :
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
قوله : (فما أصبحت أخبرت بها من أخبرت) (طه : 78) ، والإبهام قد يكون للتعظيم كما في الآية المذكورة، وقد يكون للتحقير حسب السياق ، وقد يراد به معنى آخر .
قوله:(هل أخبرت بها أحدا؟) . سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال ، لأنه لو قال : لم أخبر أحدا، هذا هو الظاهر ، ثم بين الحكم عليه الصلاة والسلام ، لكن لما قال : إنه أخبر بها ، صار لابد من بيانها للناس عموما ، لأن الشي إذا انتشر يجب أن يعلن عنه ، بخلاف إذا كان خاصا ، فهذا اخبر بها ، صار لابد من بيانها للناس عموما ، لأن الشي إذا انتشر يجب أن يعلن عنه ، بخلاف إذا كان خاصا ، فهذا يخبر من وصله الخبر .
قوله : (فحمد الله) . الحمد : وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم .
قوله :(وأثني عليه) . أي كرر ذلك الوصف .(119/23)
قوله:(أما بعد) . سبق أنها بمعنى مهما يكن من شي بعد ، أي : بعد ما ذكرت ، فكذا وكذا .
قوله : ( يمنعني كذا وكذا) . أي : يمنعه الحياء كما في رواية أخرى ، ولكن ليس الحياء من إنكار الباطل ، ولكن من أن ينهى عنها دون أن يأمره الله بذلك ، هذا الذي يجب أن تحمل عليه هذه اللفظة إن كانت محفوظة : أن الحياء الذي يمنعه ليس الحياء من الإنكار ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستحي من الحق ، ولكن الحياء من أن ينكر شيئا درج على الألسنة وألفه الناس قبل أن يؤمر بالإنكار ، مثل الخمر بقي الناس يشربونها حتى حرمت في سورة المائدة ، فالرسول صلى الله عليه لما لم يؤمر بالنهي عنها سكت ، ولما حصل التنبيه على ذلك بإنكار هؤلاء اليهود والنصارى رأي صلى الله عليه وسلم أنه لابد من إنكارها لدخول اللوم على المسلمين للنطق بها .
قوله : (قولوا ما شاء الله وحده) . نهاهم عن الممنوع ، وبين لهم الجائز .
فيه مسائل :
الأولى : معرفة اليهود بالشرك الأصغر . لقوله : (إنكم لتشركون) .
الثانية : فهم الإنسان إذا كان له هوى . أي : إذا كان له هوى فهم شيئا ، وإن كان هو يرتكب مثله أو أشد منه ، فاليهود – مثلا – أنكروا على المسلمين قولهم : (ما شاء الله وشئت) ، وهم يقولون أعظم من هذا ، يقولون : عزيز ابن الله ، ويصفون الله تعالى بالنقائص والعيوب .(119/24)
ومن ذلك بعض المقلدين يفهم النصوص على ما يوافق هواه ، فتجده يحمل النصوص على من الدلالات ما لا تحتمل ، كذلك أيضا بعض العصريين يحمل النصوص ما لا تحتمله حتى توافق ما اكتشفه العلم الحديث في الطب والفلك وغير ذلك ، وكل هذا من الأمور التي لا يحمد الإنسان عليها ، فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه، ثم يكون فهمه تابعا لها ، فالإنسان يجب أن يفهم النصوص على ما هي عليه ، ثم يكون فهمه تابعا لها ، لا أن يخضع النصوص لفهمه أو لما يعتقده ، ولهذا يقولون : استدل ثم اعتقد ، ولا تعتقد ثم تستدل ، لأنك إذا اعتقدت ثم استدللت ربما يحملك اعتقادك على أن تحرف النصوص إلى ما تعتقده كما هو ظاهر في جميع الملل والمذاهب المخالفة لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، تجدهم يحرفون هذه النصوص لتوافق ما هم عليه ، والحاصل أن الإنسان إذا كان له هوى ، فإنه يحمل النصوص ما لا تحتمله من أجل أن توافق هواه .
الثالثة : قوله صلى الله عليه وسلم : (أجعلتني لله ندا؟!) وهو قوله : (ما شاء وشئت) .
وقوله : (فكيف بمن قال : ما لي ألوذ به سواك ... ) يشير رحمه الله إلى أبيات للبوصيري في البردة – القصيدة المشهورة -، يقول فيها :
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العمم
إن لم تكن آخذا يوم المعاد يدي عفوا وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح و القلم
وهذا غاية الكفر والغلو ، فلم يجعل لله شيئا ، والنبي صلى الله عليه وسلم شرفه بكونه عبد الله ورسوله ، لا مجرد كونه محمد بن عبد الله .
الرابعة : أن هذا ليس من الشرك الأكبر ، لقوله : (يمنعني كذا وكذا) لأنه لو كان من الشرك الأكبر ما منعه شي من إنكاره .(119/25)
الخامسة : أن الرؤيا الصالحة من أقسام الوحي . تؤخذ من حديث الطفيل ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : (الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة) (1) . لأن أول الوحي كان بالرؤيا الصالحة من ربيع الأول إلى رمضان، وهذا ستة أشهر ، فإذا نسبت هذا إلي بقية زمن الوحي ، كان جزءا من ستة وأربعين جزءا ، لأن الوحي كان ثلاثة وعشرين سنة وستة أشهر مقدمة له .
والرؤيا الصالحة : هي التي تضمن الصلاح ، وتأتي منظمة وليست بأضغاث أحلام .
أما أضغاث الأحلام ، فإنها مشوشة غير منظمة ، وذلك مثل التي قصها رجل على النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إني رأيت رأسي قد قطع ، وإني جعلت أشتد وراءه سعيا . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تحدث الناس بتلاعب الشيطان بك في منامك)(2)، والغالب أن المرائي المكروهة من الشيطان ، قال الله تعالى : (إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله) (المجادلة : 10) ولذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم لمن رأى ما يكره أن يتفل عن يساره ، أو ينفث ثلاث مرات ، وأن يقول : (أعوذ بالله من شر الشيطان ومن شر ما رأيت . وان يتحول إلى الجانب الآخر ، وأن لا يخبر أحدا)(3) ، وفي رواية : (أمره أن يتوضأ وأن يصلي)(4) .(119/26)
السادسة : أنه قد تكون سببا لشرع بعض الأحكام ، من ذلك رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه يذبح ابنه ، وهذا الحديث ، وكذلك أثبت النبي صلى الله عليه رؤيا عبد بن زيد في الأذان ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (إنها رؤيا حق)(5)، وأبو بكر رضى الله عنه أثبت رؤيا من رأى ثابت بن قيس بن شماس، فقال للذي رآه : إنكم ستجدون درعي تحت برمة ، وعنده فرس يستن . فلما أصبح الرجل ذهب إلى خالد بن الوليد وأخبره ، فذهبوا إلى المكان ورأوا الدرع تحت البرمة عندها الفرس(6)، فنفّذ أبوبكر وصيته؛ لوجد القرائن التي تدل على صدقها، لكن لو دلّت على ما يخالف الشريعة؛ فلا عبرة بها، ولا يلتفت إليها؛ لأنها ليست رؤيا صالحة.
باب من سب الدهر
ــــــــــــــــــــــــ
السبّ : الشتم، والتقبيح، والذم، وما أشبه ذلك.
الدَّهر : هو الزمان والوقت.
وسب الدهر ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
الأول: أن يقصد الخبر المحض دون اللّوم، فهذا جائز، مثل أن يقول: تعبنا من شدة حر هذا اليوم أو برده، وما أشبه ذلك؛ لأن الأعمال بالنيات، ومثل هذا اللفظ صالح لمجرد الخبر، ومنه قول لوط عليه الصلاة والسلام: (هذا يوم عصيب) (هود: 77).
الثاني: أن يسب الدهر على أنه هو الفاعل، كأن يعتقد بسبِّه الدهر أن الدهر هو الذي يٌقلِّب الأمور إلى الخير والشر؛ فهذا شرك أكبر لأنه اعتقد أن مع الله خالقاً؛ لأنه نسب الحوادث إلى غير الله، وكل من اعتقد أن مع الله خالقاً؛ فهو كافر، كما أن من اعتقد أن مع الله إلهاً يستحق أن يٌعبَد؛ فإنه كافر.(119/27)
الثالث: أن يسب الدهر لا لاعتقاد أنه هو الفاعل، بل يعتقد أن الله هو الفاعل، لكن يسبه لأنه محل لهذا الأمر المكروه عنده؛ فهذا محرم، ولا يصل إلى درجة الشرك، وهو من السَّفه في العقل والضلال في الدين؛ لأن حقيقة سبِّه تعود إلى الله –سبحانه-؛ لأن الله تعالى هو الذي يصرف الدهر ويكون فيه ما أراد من خير أو شر، فليس الدهر فاعلاً، وليس هذا السبب يٌكفِّر؛ لأنه لم يسب الله تعالى مباشرة.
قوله: (فقد آذى الله). لا يلزم من الأذية الضرر؛ فالإنسان يتأذى بسماع القبيح أو مشاهدته، ولكنه لا يتضرر بذلك، ويتأذى بالرائحة الكريهة كالبصل والثوم ولا يتضرر بذلك، ولهذا أثبت الله الأذية في القرآن، قال تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهيناً) (الأحزاب: 57)، وفي الحديث القدسي: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار)(1)، ونفى عن نفسه أن يضره شيء، قال تعالى: (إنهم لن يضروا الله شيئاً) (آل عمران: 176)، وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني)(2) رواه مسلم.
وقول الله تعالى : (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (الجاثية:24)
ــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله تعالى: (وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا). المراد بذلك المشركون الموافقون للدٌّهرية –بضم الدال على الصحيح عند النسبة؛ لأنه مما تغيّر فيه الحركة-، والمعنى وما الحياة والوجود إلا هذا؛ فليس هناك آخرة، بل يموت بعض ويحيا آخرون، هذا يموت فيدفن وهذا يولد فيحيا، ويقولون: إنها أرحام تدفع وأرض تبلع ولا شيء سوى هذا.(119/28)
قوله: (وما يهلكنا إلا الدهر). أي: ليس هلاكنا بأمر الله وقدره، بل بطول السنين لمن طالت مدته، والأمراض والهموم والغموم لمن قصرت مدته؛ فالمهلك لهم هو الدهر.
قوله: (وما لهم بذلك من علم). (ما): نافية، و(علم): مبتدأ خبره مقدم (لهم)، وأكد بـ(من)؛ فيكون للعموم: أي ما لهم علم لا قليل ولا كثير، بل العلم واليقين بخلاف قولهم.
قوله: (إن هم إلا يظنون). (إن): هنا نافية لوقوع (إلا) بعدها؛ أي: ما هم إلا يظنون.
الظن هنا بمعنى الوهم؛ فليس ظناً مبنياً على دليل يجعل الشيء مظنوناً، بل هو مجرد وهم لا حقيقة له؛ فلا حجة لهم إطلاقاً، وفي هذا دليل على أن الظن يستعمل بمعنى الوهم، وأيضاً يستعمل بمعنى العلم واليقين؛ كقوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم) (البقرة: 46).
والرد على قولهم بما يلي:
أولاً: قولهم: (وما هي إلى حياتنا الدنيا نموت ونحيا).
وهذا يرده المنقول والمعقول.
أما المنقول؛ فالكتاب والسنة تدل على ثبوت الآخرة ووجوب الإيمان باليوم الآخر، وأن للعباد حياة أخرى سوى هذه الحياة الدنيا، والكتب السماوية الأخرى تقرر ذلك وتؤكده.
وأما المعقول، فإن الله فرض على الناس الإسلام والدعوة إليه والجهاد لإعلاء كلمة الله، مع ما في ذلك من استباحة الدماء والأموال والنساء والذرية، فمن غير المعقول أن يكون الناس بعد ذلك تٌراباً لا بعث ولا حياة ولا ثواب ولا عقاب، وحكمة الله تأبى هذا، قال تعالى: (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد) (القصص: 85)؛ أي: الذي أنزل عليك القرآن وفرض العمل به والدعوة إليه لابد أن يردك إلى معاد تجازى فيه ويجازى فيه كل من بلغته الدعوة.
ثانياً: قولهم: (وما يهلكنا إلا الدهر)؛ أي: إلا بمرور الزمن.(119/29)
وهذا يرده المنقول والمحسوس:فأما المنقول؛ فالكتاب والسنة تدل على أن الإحياء والإماتة بيد الله –عز وجل-؛ كما قال الله تعالى: (هو يٌحيي ويٌميت وإليه تٌرجَعون) (يونس: 56)، وقال عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (وأحيي الموتى بإذن الله) (آل عمران: 49).
وأما المحسوس؛ فإننا نعلم من يبقى سنين طويلة على قيد الحياة؛ كنوح عليه السلام وغيره ولم يهلكه الدهر، ونشاهد أطفالاً يموتون في الشهر الأول من ولادتهم، وشباباً يموتون في قوة شبابهم؛ فليس الدهر هو الذي يميتهم.
مناسبة الآية للباب:
أن في الآية نسب الحوادث إلى الدهر، ومن نسبها إلى الدهر؛ فسوف يَسٌبٌّ الدهر إذا وقع فيه ما يكرهه.
وفي الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : ( قال الله تعالى : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار)(1)
ـــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله: (وفي الصحيح) عن أبي هريرة... إلى آخره). هذا الحديث يٌسمى الحديث القدسي أو الإلهي أو الرباني، وهو كل ما يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه -عز وجل-، وسبق الكلام عليه في باب فضل التوحيد وما يكفر الذنوب.(119/30)
قوله: (قال الله تعالى). تعالى من العلو، وجاءت بهذه الصيغة للدلالة على ترَفٌّعِه –جل وعلا- عن كل نقص وسفل؛ لأنها تحمل معنى التَّرَفٌّع والتَّنَزٌّه عما يقوله المعتدون علواً كبيراً. قوله: (يؤذيني ابن آدم). أي: يلحق بي الأذى؛ فالأذية لله ثابتة ويجب علينا إثباتها؛ لأن الله أثبتها لنفسها، فلسنا أعلم من الله بالله، ولكنها ليست كأذية المخلوق؛ بدليل قوله تعالى: (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (الشورى: 11) وقدم النفي في هذه الآية على الإثبات، لأجل أن يرد الإثبات على قلب خال من توهم المماثلة، ويكون الإثبات حينئذ على الوجه اللائق به تعالى، وأنه لا يماثل في صفاته كما لا يماثل في ذاته، وكل ما وصف الله به نفسه؛ فليس فيه احتمال للتمثيل؛ إذ لو كان احتمال التمثيل جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله فيما وصف به نفسه؛ لكان احتمال الكفر جائزاً في كلامه سبحانه وكلام رسوله.
قوله: (ابن آدم). شامل للذكور والإناث، وآدم هو أبو البشر، خلقه الله تعالى من طين وسواه ونفخ فيه من روحه وأسجد له الملائكة وعلَّمَه الأسماء كلها.
واعلم أنه من المؤسف أنه يوجد فكرة مضلة كافرة، وهي أن الآدميين نشؤوا من قرد لا من طين، ثم تطور الأمر بهم حتى صاروا على هذا الوصف، ويمكن على مر السنين أن يتطوروا حتى يصيروا ملائكة، وهذا القول لا شك أنه كفر وتكذيب صريح للقرآن؛ فيجب علينا أن ننكره إنكاراً بالغاً، وأن لا نقره في كتب المدارس، فمن زعم هذه الفكرة يٌقال له: بل أنت قرد في صورة إنسان، ومثلك كما قال الشاعر:
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله وتزويجه بنتيه بابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا
وأجابه بعض العلماء بجواب؛ فقال: أنت الآن أقررت أنك ولد زنا، وإقرارك على نفسك مقبول وعلى غيرك غير مقبول، ومثلك كما قال الشاعر:(119/31)
كذلك إقرار الفتى لازم له وفي غيره لغوُ كما جاء شرعٌنا
ولكن أنا في الحقيقة يؤلمني أن يوجد هذا بين أيدي شبابنا؛ فبعض الناس أخذوا به على أنه أمر محتمل، والواقع أنه لا يحتمل سوى البطلان والكذب والدس على المسلمين بالتشكيك بما أخبرهم الله به عن خلق آدم وبنيه.
وأيضاً مما يحذر عنه كلمة (فكر إسلامي)؛ إذ معنى هذا أننا جعلنا الإسلام عبارة عن أفكار قابلة للأخذ والرد، وهذا خطر عظيم أدخله علينا أعداء الإسلام من حيث لا نشعر، والإسلام شرع من عند الله وليس فكراً لمخلوق.
قوله: (يسب الدهر). الجملة تعليل للأذية أو تفسير لها؛ أي: بكونه يسب الدهر؛ أي: يشتمه ويٌقَبِّحٌه ويلومه وربما يلعنه –والعياذ بالله- يؤذي الله، والدهر: هو الزمن والوقت، وقد سبق بيان أقسام سب الدهر.
قوله: (وأنا الدهر). أي: مٌدبِّر الدهر ومٌصَرِّفه، لقوله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) (آل عمران: 140)، ولقوله في الحديث: (أقلب الليل والنهار)، والليل والنهار هما الدهر.
ولا يقال بأن الله هو الدهر نفسه، ومن قال ذلك؛ فقد جعل الله مخلوقاً، والمقلِّب بكسر اللام مقلَّباً بفتح اللام.
فإن قيل: أليس المجاز ممنوعاً في كلام الله وكلام رسوله وفي اللغة؟(119/32)
أٌجيب: إن الكلمة حقيقة في معناها الذي دل عليه السياق والقرائن، وهنا في الكلام المحذوف تقديره: وأنا مٌقلب الدهر؛ لأنه فسره بقوله: (أقلب الليل والنهار)، والليل والنهار هما الدهر، ولأن العقل لا يمكن أن يجعل الخالق الفاعل هو المخلوق المفعول، المقلب هو المقلب، وبهذا عرف خطأ من قال: إن الدهر من أسماء الله، كابن حزم رحمه الله؛ فإنه قال: (إن الدهر من أسماء الله)، وهذا غفلة عن مدلول هذا الحديث، وغفلة عن الأصل في أسماء الله، فأما مدلول الحديث؛ فإن السابين للدهر لم يريدوا سب الله، وإنما أرادوا سبَّ الزمن؛ فالدهر هو الزمن في مرادهم، وأما الأصل في أسماء الله؛ أن تكون حسنى؛ أي: بالغة في الحسن أكمله، فلابد أن تشتمل على وصف ومعنى هو أحسن ما يكون من الأوصاف والمعاني في دلالة هذه الكلمة، ولهذا لا تجد في أسماء الله تعالى اسماً جامداً أبداً؛ لأن الاسم الجامد ليس فيه معنى أحسن أو غير أحسن، لكن أسماء الله كلها حسنى؛ فيلزم من ذلك أن تكون دالة على معان، والدهر اسم من أسماء الزمن ليس فيه معنى إلا أنه اسم زمن، وعلى هذا؛ فينتفي أن يكون اسماً لله تعالى لوجهين:
الأول: أن سياق الحديث يأباه غاية الإباء.
الثاني: أن أسماء الله حسنى، والدهر اسم جامد لا يحمل معنى إلا أنه اسم للأوقات.
فلا يحكم المعنى الذي يوصف بأنه أحسن، وحينئذ فليس من أسماء الله تعالى، بل إنه الزمن، ولكن مقلب الزمن هو الله، ولهذا قال: (أقلب الليل والنهار).(119/33)
قوله: (أقلب الليل والنهار). أي: ذواتهما وما يحدث فيهما؛ فالليل والنهار يٌقَلَّبان من طول إلى قصر إلى تساوٍ، والحوادث تتقلب فيه في الساعة وفي اليوم وفي الأسبوع وفي الشهر وفي السنة، قال تعالى: (قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير) (آل عمران: 26)، وهذا أمر ظاهر، وهذا التقليب له حكمة قد تظهر لنا وقد لا تظهر؛ لأن حكمة الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا، ومجرد ظهور سلطان الله –عز وجل- وتمام قدرته هو من حكمة الله لأجل أن يخشى الإنسان صاحب هذا السلطان والقدرة، فيتضرع ويلجأ إليه.
قوله: (وفي رواية: لا تسبوا الدهر؛ فإن الله هو الدهر). وفائدة هذه الرواية أن فيها التصريح في النهي عن سب الدهر.
قوله: (فإن الله هو الدهر). وفي نسخة: (فإن الدهر هو الله)، والصواب: (فإن الله هو الدهر).
وقوله: (فإن الله هو الدهر)؛ أي: فإن الله هو مدبر الدهر ومصرفه، وهذا تعليل للنهي، ومن بلاغة كلام الله ورسوله قرن الحكم بالعلة لبيان الحكمة وزيادة الطمأنينة، ولأجل أن تتعدى العلة إلى غيرها فيما إذا كان المٌعَلِّل حكماً؛ فهذه ثلاث فوائد في قَرن العلة بالحكم.
* * *
فيه مسائل:
الأولى: النهي عن سب الدهر. لقوله: (لا تسبوا الدهر).
الثانية: تسميته أذى لله. تؤخذ من قوله: (يؤذيني ابن آدم).
الثالثة: التأمل في قوله: فإن الله هو الدهر. فإذا تأملنا فيه وجدنا أن معناه أن الله مٌقَلِّب الدهر ومٌصَرِّفه وليس معناه أن الله هو الدهر، وقد سبق بيان ذلك.
الرابعة: أنه قد يكون ساباً ولو لم يقصده بقلبه. تؤخذ من قوله: (يؤذيني ابن آدم، يسب الدهر)، ولم يذكر قصداً ولو عَبَّر الشيخ بقوله: أنه قد يكون مؤذياً لله وإن لم يقصده؛ لكان أوضح وأصح، لأن الله صرح بقوله: (يسب الدهر)، والفعل لا يضاف إلا لمن قصده.(119/34)
وقد فات على الشيخ رحمه الله بعض المسائل، منها: تفسير آية الجاثية، وقد سبق ذلك.
باب التسمي بقاضي القضاة ونحوه
ـــــــــــــــــــــ
قوله: (باب التسمي بقاضي القضاة). أي: وضع الشخص لنفسه هذا الاسم، أو رضاه به من غيره.
قوله: (قاضي القضاة). قاضي: بمعنى حاكم، والقضاة؛ أي: الحكام، و(أل) للعموم.
والمعنى: التسمي بحاكم الحكام ونحوه، مثل ملك الأملاك، وسلطان السلاطين، وما أشبه ذلك، مما يدل على النفوذ والسلطان؛ لأن القاضي جمع بين الإلزام والإفتاء، بخلاف المفتي؛ فهو لا يٌلزم، ولهذا قالوا: القاضي جمع بين الشهادة، والإلزام، والإفتاء؛ فهو يشهد أن هذا الحكم حكم الله، وأن الحق للمحكوم له على المحكوم عليه، ويفتي؛ أي : يخبر عن حكم الله وشرعه، ويٌلزم الخصمين بما حكم به.
* مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أن من تسمى بهذا الاسم؛ فقد جعل نفسه شريكاً مع الله فيما لا يستحقه إلا الله؛ لأنه لا أحد يستحق أن يكون قاضي القضاة أو حاكم الحكام أو ملك الأملاك إلا الله –سبحانه وتعالى-؛ فالله هو القاضي فوق كل قاض، وهو الذي له الحكم، ويٌرجع إليه الأمر كله كما ذكر الله ذلك في القرآن.
وقد تقدم أن قضاء الله ينقسم إلى قسمين:
1- قضاء كوني .
2- قضاء شرعي.
والقضاء الكوني لابد من وقوعه، ويكون فيما أحب الله وفيما كرهه، قال تعالى: (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) (الإسراء: 4)؛ فهذا قضاء كوني متعلق بما يكرهه الله؛ لأن الفساد في الأرض لا يحبه الله، والله لا يحب المفسدين، وهذا القضاء الكوني لابد أن يقع ولا معارض له إطلاقاً.(119/35)
وأما النوع الثاني من القضاء، وهو القضاء الشرعي؛ فمثل قوله تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) (الإسراء: 23)، والقضاء الشرعي لا يلزم منه وقوع المقضي، فقد يقع وقد لا يقع، ولكنه متعلق فيما يحبه الله، وقد سبق الكلام عن ذلك.
فإن قلت: إذا أضفنا القضاة وحصرناها بطائفة معينة، أو ببلد معين، أو بزمان معين، مثل أن يٌقال: قاضي القضاة في الفقه، أو قاضي قضاة المملكة العربية السعودية، أو قاضي قضاة مصر أو الشام، أو ما أشبه بذلك؛ فهل يجوز هذا؟
فالجواب: أن هذا جائز؛ لأنه مٌقَيَّد، ومعلوم أن قضاء الله لا يتقيد، فحينئذ لا يكون فيه مشاركة لله –عز وجل-، على أنه لا ينبغي أيضاً أن يتسمى الإنسان بذلك أو يٌسمَّى به وإن كان جائزاً؛ لأن النفس قد تصعب السيطرة عليها فيما إذا شعر الإنسان بأنه موصوف بقاضي قضاة الناحية الفلانية، فقد يأخذه الإعجاب بالنفس والغرور حتى لا يقبل الحق إذا خالف قوله، وهذه مسألة عظيمة لها خطرها إذا وصلت بالإنسان إلى الإعجاب بالرأي بحيث يرى أن رأيه مفروض على من سواه؛ فإن هذا خطر عظيم، فمع القول بأن ذلك جائز لا ينبغي أن يقبله اسماً لنفسه أو وصفاً له، ولا أن يتسمى به.
فإذا قٌيِّد بزمان أو مكان ونحوهما؛ قلنا: إنه جائز، ولكن الأفضل ألا يفعل، ولكن إذا قٌيِّد بفن من الفنون؛ هل يكون جائزاً؟
مقتضى التقييد أن يكون جائزاً، لكن إن قٌيِّد بالفقه بأن قيل: (عالم العلماء في الفقه)، وقلنا: إن الفقه يشمل أصول الدين وفروعه على حد قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً فليفقهه في الدين)(1)؛ صار فيه عموم واسع، ومعنى هذا أن مرجع الناس كلهم في الشرع إليه؛ فهذا في نفسي منه شيء، والأولى التنزه عنه.(119/36)
وأما إن قٌيَّد بقبيلة؛ فهو جائز، لكن يجب مع الجواز مراعاة جانب الموصوف أن لا يغتر ويٌعجب بنفسه، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم للمادح: (قطعت عنق صاحبك)(2).
وأما التسمي بـ(شيخ الإسلام)؛ مثل أن يٌقال: شيخ الإسلام ابن تيمية، أو شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب، أي أنه الشيخ المطلق الذي يرجع إليه الإسلام؛ فهذا لا يصح؛ إذ أن أبا بكر رضي الله عنه أحق بهذا الوصف؛ لأنه أفضل الخلق بعد النبيين، ولكن إذا قٌصد بهذا الوصف أنه جَدَّد في الإسلام وحصل له أثر طيب في الدفاع عنه؛ فلا بأس بإطلاقه.
وأما بالنسبة للتسمية بـ(الإمام)؛ فهو أهون بكثير من التسمي بـ(شيخ الإسلام)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى إمام المسجد إماماً ولو لم يكن عنده إلا اثنان.
لكن ينبغي أن ينبه أنه لا يتسامح في إطلاق كلمة إمام إلا على من كان قدوة وله أتباع؛ كالإمام أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم ممن له أثر في الإسلام؛ لأن وصف الإنسان بما لا يستحق هضم للأمة، لأن الإنسان إذا تصور أن هذا إمام وهذا إمام هان الإمام الحق في عينه، قال الشاعر:
ألم تر أن السيف ينقص قدره إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
ومن ذلك أيضاً: (آية الله، حجة الله، حجة الإسلام)؛ فإنها ألقاب حادثة لا تنبغي لأنه لا حجة لله على عباده إلا الرسل.
وأما آية الله، فإن أٌريد به المعنى الأعم؛ فلا مدح فيه لأن كل شيء آية لله ، كما قيل:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
وإن أريد المعنى الأخص؛ أي: أن هذا الرجل آية خارقة؛ فهذا في الغالب يكون مبالغاً فيه، والعبارة السليمة أن يقال: عالم مفت، قاض، حاكم، إمام لم كان مستحقاً لذلك.
** *
قوله (في الصحيح) انظر الكلام عليها (ص 146)(119/37)
قوله: (إن أخنع اسم). أي: أوضع اسم، والمراد بالاسم المسمى، فأوضع اسم عند الله رجل تسمى ملك الأملاك، لأنه جعل نفسه في مرتبة عليا، فالملوك أعلى طبقات البشر من حيث السلطة؛ فجعل مرتبته فوق مرتبتهم، وهذا لا يكون إلا لله –عز وجل-، ولهذا عوقب بنقيض قصده؛ فصار أوضع اسم عند الله إذا قصده أن يتعاظم حتى على الملوك، فأٌهين، ولهذا كان أحبٌّ اسم عند الله ما دل على التذلل والخضوع، مثل: عبدالله وعبدالرحمن، وأبغض اسم عند الله ما دل على الجبروت والسلطة والتعظيم.
قوله: (لا مالك إلا الله). أي لا مالك على الحقيقة الملك المطلق إلا الله تعالى.
وأيضاً لا ملك إلا الله –عز وجل-، ولهذا جاءت آية الفاتحة بقراءتين: (ملك يوم الدين) و(مالك يوم الدين) (الفاتحة: 4)؛ لكي يجمع بين الملك وتمام السلطان؛ فهو –سبحانه- ملك مالك، ملك ذو سلطان وعظمة وقول نافذ، ومالك متصرف مدبر لجميع مملكته.
فالله له الخلق والملك والتدبير؛ فلا خالق إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا مالك إلا الله، قال تعالى: (هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض) (فاطر: 3)؛ فالاستفهام بمعنى النفي، وقد أٌشرب معنى التحدي، أي إن وجدتموه فهاتوه، وقال تعالى: (إن ربك هو الخلاق العليم) (الحجر: 86) فيها توكيد وحصر، وهذا دليل انفراده بالخلق، وقال تعالى: (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له) (الحج: 73)؛ فـ(الذين): اسم موصول يشمل كل من يٌدعى من دون الله (لن يخلقوا ذباباً)، وهذا على سبيل المبالغة؛ وما كان على سبيل المبالغة؛ فلا مفهوم له كثرة أو قلة.
وقال تعالى: (تبارك الذي بيده الملك) (الملك: 1)، وقال تعالى: (قل اللهم مالك الملك) (آل عمران: 26)، وهذا دليل انفراده بالملك، وقال تعالى:(119/38)
(قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله) (يونس: 31)، وقال تعالى: (قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون الله) (المؤمنون: 88).
قال سفيان : ( مثل شاهان شاه ) وفي رواية ( أغيظ رجل على الله يوم القيامة ةأخبثه)(1)
قوله : ( أخنع) يعني : أوضع
ـــــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله: (قال سفيان (هوابن عيينة): مثل شاهان شاه). وهذا يدل باللغة الفارسية؛ فشاهان: جمع بمعنى أملاك، وشاه مفرد بمعنى ملك، والتقدير أملاك ملك؛ أي: ملك الأملاك، لكنهم في اللغة الفارسية يقدمون المضاف إليه على المضاف.
قوله: وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة وأخبثه).
أغيظ: من الغيظ وهو الغضب؛ أي: إن أغضب شيء عند الله –عز وجل- وأخبثه هو هذا الاسم، وإذا كان سبباً لغضب الله وخبيثاً؛ فإن التسمي به من الكبائر.
وقوله : (أغيظ). فيه إثبات الغيظ لله – عز وجل-؛ فهي صفة تليق بالله –عز وجل- كغيرها من الصفات، والظاهر أنها أشد من الغضب.
الرابعة: التفطن أن هذا لأجل الله –سبحانه-. يؤخذ من قوله: (لا مالك إلا الله)؛ فالرسول صلى الله عليه وسلم أشار إلى العلة، وهي: (لا مالك إلا الله)؛ فكيف تقول : ملك الأملاك وهو لا مالك إلا الله –عز وجل-؟!
* الفرق بين ملك ومالك:
ليس كل ملك مالكاً، وليس كل مالك ملكاً؛ فقد يكون الإنسان ملكاً، ولكنه لا يكون بيده التدبير، وقد يكون الإنسان مالكاً ويتصرف فيما يملكه فقط؛ فالملكٌ من ملك السلطة المطلقة، لكن قد يملك التصرف فيكون ملكاً مالكاً، وقد لا يملك فيكون ملكاً وليس بمالك، أما المالك؛ فهو الذي له التصرف بشيء معين؛ كمالك البيت، ومالك السيارة وما أشبه ذلك ؛ فهذا ليس بملك؛ يعني: ليس له سلطة عامة.
ويستفاد من الحديث أيضاً:(119/39)
1- إثبات صفة الغيظ لله –عز وجل-، وأنه يتفاضل لقوله: (أغيظ)، وهو اسم تفضيل.
2- حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في التعليم؛ لأنه لما بيّن أن هذا أخنع اسم وأغيظه أشار إلى العلة، وهو: (لا مالك إلا الله)، وهذا من أحسن التعليم والتعبير، ولهذا ينبغي لكل إنسان يعلم الناس أن يقرن الأحكام بما تطمئن إليه النفوس من أدلة شرعية أو علل مرعية، قال ابن القيم:
العلم معرفة الهدى بدليله ما ذاك والتقليد يستويان
فالعلم أن تربط الأحكام بأدلتها الأثرية أو النظرية؛ فالأثرية ما كان من كتاب أو سنة أو إجماع، والنظرية: العقلية؛ أي: العلل المرعية التي يعتبرها الشرع.
باب احترام أسماء الله ........ إلخ
ـــــــــــــــــــــــــــ
أسماء الله –عز وجل- هي: التي سمَّى بها نفسه أو سمَّاه بها رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد سبق لنا الكلام فيها في مباحث كثيرة ، منها:
هل أسماء الله مترادفة أو متباينة؟
وقلنا باعتبار دلالتها على الذات مترادفة؛ لأنها تدل على ذات واحدة، وهو الله –عز وجل-، وباعتبار دلالتها على المعنى والصفة التي تحملها متباينة، وإن كان بعضها قد يدل على ما تضمَّنه الآخر من باب دلالة اللزوم؛ فمثلاً: (الخلاق) يتضمن الدلالة على العلم المستفاد من اسم العليم، لكنه بالالتزام، وعلى القدرة المستفادة من اسم التقدير، لكن بالالتزام.
الثاني: هل أسماء الله مشتقة أو جامدة (يعني: هل المراد بها الدلالة على الذات فقط، أو على الذات والصفة)؟
الجواب: على الذات والصفة، أما أسماؤنا نحن؛ فيراد بها الدلالة على الذات فقط، فقد يٌسمّى محمداً وهو من أشد الناس ذماً، وقد يسمى عبدالله وهو من أفجر عباد الله.
أما أسماء الله –عز وجل-، وأسماء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسماء القرآن، وأسماء اليوم الآخر، وما أشبه ذلك؛ فإنها أسماء متضمنة للأوصاف.(119/40)
الثالث: أسماء الله بعضها معلوم لنا وبعضها غير معلوم بدليل قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح في دعاء الكرب: (أسألك اللهم بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي….)(1). ومعلوم أن ما استأثر الله بعلمه لا يعلمه أحد.
الرابع: أسماء الله؛ هل هي محصورة بعدد معين؟
والجواب: غير محصورة، وقد سبق الكلام على ذلك، والجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة)(2).
الخامس: أن هذه التسعة والتسعين غير معينة، بل موكولة لنا لنبحث حتى نحصل على التسعة والتسعين، وهذا من حكمة إبهامها لأجل البحث حتى نصل إلى هذه الغاية، ولهذا نظائر، منها: أن الله أخفى ليلة القدر، وساعة الإجابة يوم الجمعة، وساعة الإجابة في الليل؛ ليجتهد الناس في الطلب.
السادس: معنى إحصاء هذه التسعة والتسعين الذي يترتب عليه دخول الجنة ليس معنى ذلك أن تكتب في رقاع ثم تكرر حتى تحفظ فقط، ولكن معنى ذلك:
أولاً : الإحاطة بها لفظاً .
ثانياً : فهمها معنىً.
ثالثاً : التعبد لله بمقتضاها، ولذلك وجهان:
الوجه الأول : أن تدعو الله بها؛ لقوله تعالى: (ولله الأسماء الحسنى فأدعوه بها) (الأعراف:180) بأن تجعلها وسيلة إلى مطلوبك، فتختار الاسم المناسب لمطلوبك، فعند سؤال المغفرة تقول: يا غفور! وليس من المناسب أن تقول: يا شديد العقاب! اغفر لي، بل هذا يشبه الاستهزاء، بل تقول: أجرني من عقابك.(119/41)
الوجه الثاني : أن تتعرض في عبادتك لما تقتضيه هذه الأسماء؛ فمقتضى الرحيم الرحمة، فاعمل العمل الصالح الذي يكون جالباً لرحمة الله، ومقتضى الغفور المغفرة، إذاً افعل ما يكون سبباً في مغفرة ذنوبك، هذا هو معنى إحصائها، فإذا كان كذلك؛ فهو جدير لأن يكون ثمناً لدخول الجنة، وهذا الثمن ليس على وجه المقابلة، ولكن على وجه السبب؛ لأن الأعمال الصالحة سبب لدخول الجنة وليست بدلاً، ولهذا ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لن يدخل الجنة أحد بعمله. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته)(1).
فلا تغتر يا أخي بعملك،ولا تعجب فتقول: أنا عملت كذا وكذا وسوف أدخل الجنة، قال تعالى: (يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا عليّ إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان) (الحجرات: 17)، هذا باعتبار ما نراه نحن نحو أعمالنا؛ فيجب أن نرى لله المنة والفضل علينا، لكن باعتبار الجزاء، قال تعالى: (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان) (الرحمن: 60)؛ فتؤمن بأن الله تعالى يجزي الإحسان بالإحسان.
السابع : أسماء الله –عز وجل- ودلالتها على الذات والصفة جميعاً دلالة مطابقة، ودلالتها على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمّن، ودلالتها على أمر خارج دلالة التزام.
مثال ذلك: (الخلاق) دلّ على الذات، وهو الرب –عز وجل-، وعلى الصفة وهي الخلق جميعاً دلالة مطابقة، ودل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن، ودلّ على القدرة والعلم دلالة التزام.(119/42)
الثامن: أسماء الله –عز وجل- لا يتم الإيمان بها إلا بثلاثة أمور إذا كان الاسم متعدياً: الإيمان بالاسم اسماً لله، والإيمان بما تضمنه من صفة، وما تضمنه من أثر وحكم؛ فالعليم مثلاً لا يتم الإيمان به حتى نؤمن بأن العليم من أسماء الله، ونؤمن بما تضمنه من صفة العلم، ونؤمن بالحكم المترتب على ذلك ، وهو أنه يعلم كل شيء، وإذا كان الاسم غير متعد؛ فنؤمن بأنه من أسماء الله وبما يتضمنه من صفة.
التاسع : أن من أسماء الله ما يختص به؛ مثل الله، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك، ومنها ما لا يختص به، مثل: الرحيم، السميع، العليم، قال تعالى: (إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً) (الإنسان : 2)، وقال تعالى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (بالمؤمنين رؤوف رحيم) (التوبة: 128)(2).
قوله : (باب احترام أسماء الله). أي: وجوب احترام أسماء الله، لأن احترامها احترام لله –عز وجل- ومن تعظيم الله –عز وجل-؛ فلا يسمى أحد باسم مختص بالله، وأسماء الله تنقسم إلى قسمين:
الأول : ما لا يصح إلا لله ، فهذا لا يٌسمَّى به غيره، وإن سٌمِّيَ وجب تغييره؛ مثل: الله، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه ذلك.
الثاني: ما يصح أن يوصف به غير الله؛ مثل: الرحيم، والسميع، والبصير، فإن لوحظت الصفة منع من التسمي به، وإن لم تلاحظ الصفة جاز التسمي به على أنه علم محض.
عن أبي شريح أنه كان يكني أبا الحكم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الله هو الحكم وإليه الحكم ) فقال ‘ن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني ، فحكمت بينهم فرضي كلا الفريقين ، فقال : ما أحسن هذا ! فما لك من الولد ؟ قلت : شريح ، ومسلم ، وعبد الله . قال : ( قلت : شريح . قال : ( فأنت أبو شريح ) رواه أبو داوود وغيره (1)
ــــــــــــــــــــــــ
* **
قوله : (عن أبي شريح) هو هاني بن يزيد الكندي، جاء وافداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع قومه.(119/43)
وقوله: يكنى أبا الحكم. أي ينادى به. والكنية ما صدر بأب أو أم أو أخ أو عم أو خال، وتكون للمدح كما في هذا الحديث، وتكون للذم كأبي جهل، وقد تكون لمصاحبة الشيء مثل : أبي هريرة، وقد تكون لمجرد العلمية كأبي بكر رضي الله عنه، وأبي العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لأنه ليس له ولد.
قوله: (إن الله هو الحَكم وإليه الحٌكم). (هو الحكم)؛ أي: المستحق أن يكون حاكماً على عباده، حاكماً بالفعل، يدل له قوله: (وإليه الحكم).
وقوله: (وإليه الحكم). الخبر جار ومجرور مقدم، وتقديم الخبر يفيد الحصر، وعلى هذا يكون الحكم راجعاً إلى الله وحده.
وحكم الله ينقسم إلى قسمين:
الأول: كوني، وهذا لا راد له؛ فلا يستطيع أحد أن يرده، ومنه قوله تعالى: (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين) (يوسف: 80).
الثاني : شرعي، وينقسم الناس فيه إلى قسمين: مؤمن وكافر؛ فمن رضيه وحكم به فهو مؤمن، ومن لم يرض به ولم يحكم به فهو كافر، ومنه قوله تعالى: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله) (الشورى: 10)
وأما قوله : (أليس الله بأحكم الحاكمين) (التين: 8)، وقوله تعالى : (ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون) (المائدة: 50)؛ فهو يشمل الكوني والشرعي، وإن كان ظاهر الآية الثانية أن المراد الحكم الشرعي؛ لأنه في سياق الحكم الشرعي، والشرعي يكون تابعاً للمحبة والرضا والكراهة والسخط، والكوني عام في كل شيء.
وفي الحديث دليل على أن من أسمائه تعالى: (الحكم).
وأما بالنسبة للعدل؛ فقد ورد عن بعض الصحابة أنه قال: (إن الله حكم عدل) ولا أعرف فيه حديثاً مرفوعاً ، ولكن قوله تعالى : (ومن أحسن من الله حكماً) (المائدة: 50) لا شك أنه متضمن للعدل، بل هو متضمن للعدل وزيادة.
قوله : (فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني). هذا بيان لسبب تسميته بأبي الحكم.(119/44)
قوله: (ما أحسن هذا). الإشارة تعود إلى إصلاحه بين قومه لا إلى تسميته بهذا الاسم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غيّره.
قوله: (شريح ومسلم وعبدالله). الظاهر: أنه ليس له إلا الثلاثة؛ لأن الولد في اللغة العربية يشمل الذكر والأنثى، فلو كان عنده بنات لعدهن.
قوله : (فأنت أبو شريح). غيره النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأمرين:
الأول : أن الحكم هو لله ، فإذا قيل : يا أبا الحكم! كأنه قيل: يا أبا الله!
الثاني : إن هذا الاسم الذي جعل كنية لهذا الرجل لوحظ فيه معنى الصفة وهي الحكم، فصار بذلك مطابقاً لاسم الله، وليس لمجرد العَلَميّة المحضة، بل للعلمية المتضمنة للمعنى، وبهذا يكون مشاركاً لله – سبحانه وتعالى- في ذلك، ولهذا كنّاه النبي صلى الله عليه وسلم بما ينبغي أن يٌكنَّى به.
***
فيه مسائل :
الأولى : احترام أسماء الله وصفاته ولما لم يقصد معناه .
قوله : (ولو لم يقصد معناه) هذا في النفس منه شي ، لأنه لم يقصد معناه فهو جائز ، إلا إذا سمي بما لا يصح إلا لله ، مثل : الله ، الرحمن، رب العالمين، وما أشبه، فهذه لا تطلق إلا على الله مهما كان ، وأما لا يختص بالله ، فإنه يسمى به غير الله إذا لم يلاحظ معنى الصفة، بل كان المقصود مجرد العلمية فقط ، لأنه لا يكون مطابقا لاسم الله ، ولذلك كان في الصحابة من اسمه(الحكم)(1) ولم يغيره النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يقصد إلا العلمية ، وفي الصحابة من اسمه(حكيم (2)) واقره النبي صلى الله عليه وسلم .
فالذي يحترم من أسمائه تعالى ما يختص به، أو ما يقصد به ملاحظة الصفة .
الثانية : تغيير الاسم لأجل ذلك . وقد سبق الكلام عليه .
الثالثة : اختيار أكبر الأبناء للكنية . تؤخذ من سؤال النبي صلى الله عليه وسلم (فمن أكبرهم؟ قال : شريح . قال فأنت أبو شريح ) .(119/45)
ولا يؤخذ من الحديث استحباب التكني، لأن النبي صلى الله عليه وسم أراد أن يغير كنيته إلى كنية مباحة ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يكنى ابتداء .
ويستفاد من الحديث ما يلي :
أنه ينبغي لأهل الوعظ والإرشاد والنصح إذا أغلقوا بابا محرما أن يبنوا للناس المباح، وقد سبق تقرير ذلك .
أن الحكم لله وحده، لقوله صلى الله عليه وسلم (وإليه الحكم) ، أما الكوني، فلا نزاع فيه إذ لا يعارض الله أحد في أحكامه الكونية .
أما الشرعي، فهو محل الفتنة والامتحان والاختبار، فمن شرع للناس شرعا سوى شرع الله ورى أنه أحسن من شرع الله وأنفع للعباد، وأنه مساو لشرع الله، وأنه يجوز ترك شرع الله إليه، فإنه كافر لأنه جعل نفسه ندا لله – عز وجل – سواء في العبادات أو المعاملات، والدليل على ذلك قوله تعالى : (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون) (المائدة :50) فدلت الآية على أنه لا أحد أحسن من حكم الله ولا مساو لحكم الله، لأن أحسن اسم : معناه لا يوجد شي في درجته ، ومن زعم ذلك، فقد كذب الله – عز وجل - . قال تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) (المائدة : 44) وهذا دليل على أنه لا يجوز العدول عن شرع الله إلى غيره ، وأنه كفر .
فإن قيل : قال تعالى : (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون(المائدة : 47) .
قلنا : قال الله تعالى : (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أُمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيد * وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا) (النساء :60-61)، وهذا دليل على كفرهم ، لأنه قال : (يزعمون أنهم آمنوا) ، وهذا إنكار لإيمانهم ، فظاهر الآية أنهم يزعمون بلا صدق و لا حق .(119/46)
فقوله صلى الله عليه وسلم : (وإليه الحكم) يدل على أن من جعل الحكم لغير الله ، فقد أشرك .
فائدة :
يجب على طالب العلم أن يعرف الفرق بين التشريع الذي يجعل نظاما يمشي عليه ويستبدل به القرآن، وبين أن يحكم في قضية معينة بغير ما أنزل الله، فهذا قد يكون كفرا أو فسقا أو ظلما .
فيكون كفرا إذا اعتقد أنه أحسن من حكم الشرع أو مماثل له .
ويكون فسقا إذا كان لهوى في نفس الحاكم .
ويكون ظلما إذا أراد مضرة المحكوم عليه ، وظهور الظلم في هذه أبين من ظهوره في الثانية أبين من ظهوره في الثالثة .
3 – تغيير الاسم إلى ما هو مباح أحسن إذا تضمن أمرا لا ينبغي، كما غير النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأسماء المباحة، ولا يحتاج ذلك إلى إعادة العقيقة كما يتوهمه بعض العامة .
* * *
باب من هزل بشيء فيه ذكرالله أو القرآن أو الرسول
ــــــــــــــــــــــــــ
هذه الترجمة فيها شي من الغموض، والظاهر أن المراد من هزل بشي فيكون فيه ذكر الله مثل الأحكام الشرعية، أو هزل بالقرآن أو هزل بالرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون معطوفا على قوله بشي .
والمراد بالرسول هنا : اسم الجنس، فيشمل جميع الرسل، وليس المراد محمدا صلى الله عليه وسلم، ف (أل) للجنس وليس للعهد .
قوله : (من هزل) . سخر واستهزأ لعبا ليس جدا .
ومن هزل بالله أو بآياته الكونية الشرعية أو برسله، فهو كافر، لأن منافاة الاستهزاء للإيمان منافاة عظيمة .
كيف يسخر ويستهزأ بأمر يؤمن به ؟ فالمؤمن بالشي لابد أن يعظمه وأن يكون في قلبه من تعظيمه ما يليق به .
والكفر كفران : كفر إعراض، وكفر معارضة، والمستهزي كافر كفر معارضة، فهو أعظم ممن يسجد لصنم فقط، وهذه المسألة خطيرة جدا، ورب كلمة أوقعت بصاحبها البلاء بل الهلاك وهو لا يشعر، فقد يتكلم الإنسان بالكلمة من سخط الله – عز وجل – لا يلقى لها بالا يهوى بها في النار .(119/47)
فمن استهزأ بالصلاة - ولو نافلة -، أو بالزكاة، أو بالصوم، أو بالحج، فهو كافر بإجماع المسلمين، كذلك من استهزأ بالآيات الكونية بأن قال مثلا : إن وجود الحر في أيام الشتاء سفه، أو قال : إن وجود البرد في أيام الصيف سفه، فهذا كفر مخرج عن الملة، لأن الرب – عز وجل – كل أفعاله مبنية على الحكمة وقد لا نستطيع بلوغها بل لا نستطيع بلوغها .
ثم أعلم أن العلماء اختلفوا فيمن سب الله أو رسوله أو كتابه: هل تقبل توبته؟ على قولين :
القول الأول : أنه لا تقبل، وهو المشهور عن الحنابلة، بل يقتل كافرا، ولا يصلى عليه، ولا يدعى له بالرحمة، ويدفن في محل بعيد عن قبور المسلمين، ولو قال : إنه تاب أو إنه أخطأ؛ لأنهم يقولون : إن هذه الردة أمرها عظيم وكبير لا تنفع فيه التوبة .
وقال بعض أهل العلم : إنها تقبل إذا علمنا صدق توبته إلى الله، وأقر على نفسه بالخطأ، ووصف الله تعالى بما يستحق من صفات التعظيم، وذلك لعموم الأدلة الدالة على قبول التوبة، كقوله تعالى : (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا) (الزمر : 53) ومن الكفار من يسبون الله، ومع ذلك تقبل توبتهم .
وهذا هو الصحيح، إلا أن ساب الرسول صلى الله عليه وسلم تقبل توبته ويجب قتله، بخلاف من سب الله، فإنه تقبل توبته ولا يقتل، لا لأن حق الله دون حق الرسول صلى الله عليه وسلم، بل لأن الله أخبرنا بعفوه عن حقه إذا تاب العبد إليه بأنه يغفر الذنوب جميعا، أما ساب الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يتعلق به أمران :
الأول:أمر شرعي لكونه رسول الله صلى الله عليه سلم، ومن هذا الوجه تقبل توبته إذا تاب.
الثاني : أمر شخصي لكونه من المرسلين، ومن هذا يجب قتله لحقه صلى الله عليه وسلم ويقتل بعد توبته على أنه مسلم، فإذا قتل،غسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين .(119/48)
وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تميمة، وقد ألف كتابا في ذلك اسمه(الصارم المسلول في حكم قتل ساب الرسول) أو : (الصارم المسلول على شاتم الرسول) ، وذلك لأنه استهان بحق الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذا لو قذفه، فإنه يقتل و لا يجلد .
فإن قيل : أليس قد ثبت أن من الناس من سب الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل منه وأطلقه؟
أجيب : بلى ، وهذا صحيح، لكن هذا في حياته صلى الله عليه وسلم، وقد اسقط حقه، أما بعد موته، فلا ندري، فننفذ ما نراه واجبا في حق من سبه صلى الله عليه وسلم .
فإن قيل : احتمال كونه يعفو عنه أو لا يعفوا موجب للتوقف؟
أُجيب : إنه لا يوجب التوقف، لأن المفسدة حصلت بالسب، وارتفاع أثر هذا السب غير معلوم، والأصل بقاؤه .
فإن قيل : أليس الله الغالب أن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عمن سبه؟
أُجيب : بلى، وربما كان في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا عفا قد تحصل المصلحة ويكون في ذلك تأليف، كما أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أعيان المنافقين،ولم يقتلهم، لئلا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، لكن الآن لو علمنا أحدا بعينه من المنافقين لقتلناه، وقال ابن القيم:إن عدم قتل المنافق المعلوم إنما هو في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم .
* * *
وقول الله تعالي : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَب)(التوبة: من الآية65)
ــــــــــــــــــــــــ
قوله تعالى : (ولئن سألتهم) . الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، أي سالت هؤلاء الذين يخوضون ويلعبون بالاستهزاء بالله وكتابه ورسوله والصحابة .
قوله : (ليقولن) . جواب القسم، قال بن مالك :
واحذف لدي اجتماع شرط وقسم جواب ما أخرت فهو ملتزم
ولهذا جاءت اللام التي تقترن بجواب القسم دون الفاء التي تقع في جواب الشرط .
قوله : (ليقولن)، أي : المؤولون .(119/49)
قوله : (إنما كنا نخوض ونلعب) . أي : ما لنا قصد، ولكننا نخوض ونلعب، واللهب يقصد به الهزء، وأما الخوض، فهو كلام عائم لا زمام له .
هذا إذا وصف بذلك القول، وأما إذا لم يوصف به القول ، فإنه يكون الخوض في الكلام واللهب في الجوارح .
وقوله (إنما كنا نخوض ونلعب) : (إنما) : أداة حصر،أي : ما شأننا وحالنا إلا أننا نخوض ونلعب .
قوله : (قل أبا لله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون) . الاستفهام للإنكار والتعجب، فينكر عليهم أن يستهزئوا بهذه الأمور العظيمة، ويتعجب كيف يكون الحق محلا للسخرية؟
قوله : (أبا لله ) . أي : بذاته وصفاته .
قوله : (وآياته) : جمع آية، ويشمل :
الآيات الشرعية، كالاستهزاء بالقرآن، بل يقال : هذا أساطير الأولين- والعياذ بالله – أو يستهزأ بشي من الشرائع، كالصلاة والزكاة والصوم والحج .
والآيات الكونية، كأن يسخر بما قدره الله تعالى، فكيف يأتي هذا في هذا الوقت؟ كيف يخرج هذا الثمر من هذا الشي؟ كيف يخلق هذا الذي يضر الناس ويقتلهم؟ استهزاء وسخرية .
قوله : (ورسوله) . المراد هنا محمد صلى الله عليه وسلم .
قوله : (لا تعتذروا) . المراد بالنهي التيئيس، أي : أنهم عن الاعتذار تيئيسا لهم بقبول اعتذارهم .
قوله : (قد كفرتم بعد إيمانكم) . أي : بالاستهزاء وهم لم يكونوا منافقين خالصين بل مؤمنين، ولكن إيمانهم ضعيف، ولهذا لم يمنعهم من الاستهزاء بالله وآياته ورسوله .
قوله : (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة بأنهم كانوا مجرمين).
(نعف) : ضمير الجمع للتعظيم، أي : الله – عز وجل - .
قوله : (عن طائفة منكم) قال بعض أهل العلم : هؤلاء حضروا وصار عندهم كراهية لهذا الشي، لكنهم داهنوا فصاروا في حكمهم لجلوسهم إليه، لكنهم أخف لما في قلوبهم من الكراهة، ولهذا عفا الله عنهم وهداهم إلى الإيمان وتابوا .(119/50)
قوله : (نعذب طائفة) . هذا جواب الشرط، أي : لا يمكن أن نعفو عن الجميع، بل إن عفونا عن طائفة، فلا بد أن نعذب الآخرين .
قوله : (بأنهم كانوا مجرمين) . الباء للسببية، أي : بسبب كونهم مجرمين بالاستهزاء وعندهم جرم – والعياذ بالله -، فلا يمكن أن يوفقوا للتوبة حتى يعفي عنهم .
ويستفاد من الآيتين :
1. بيان علم الله – عز وجل – بما سيكون، لقوله : (ولئن سألتهم ليقولن)، وهذا مستقبل، فالله عالم ما كان وما سيكون، قال تعالى : (ولله غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله) (هود :123) .
2. . أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحكم بما أنزل الله عليه حيث أمره أن يقول : (أبا لله وآياته ...) .
3. أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله من أعظم الكفر، بدليل الاستفهام والتوبيخ .
4. أن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله أعظم استهزاء وقبحا، لقوله : (أبا لله وآياته ... )، وتقديم المتعلق يدل على الحصر كأنه ما بقي إلا أن تستهزؤا بهؤلاء الثلاثة .
5. أن المستهزي بالله يكفر، لقوله : (لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) .
6. استعمال الغلظة في محلها، وإلا فالأصل إن من جاء يعتذر يرحم يرحم، لكنه ليس أهلا للرحمة .
7.. قبول توبة المستهزي بالله، لقوله : (إن تعف عن طائفة ...) ، وهذا أمر قد وقع، فإن من هؤلاء من عُفي عنه وهُدي للإسلام تاب وتاب الله عليه، وهذا دليل للقول الراجح أن المستهزي بالله تقبل توبته، لكن لابد من دليل بين على صدق توبته، لأنه كفره من أشد الكفر أو هو أشد الكفر، فليس مثل كفر الإعراض أو الجحد .(119/51)
وهؤلاء الذين حضروا السب مثل الذين سبوا، قال تعالى : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ) (النساء:140) . وهم يستطيعون المفارقة، والنبي صلى الله عليه وسلم امتثل أمر الله بتبليغهم، حتى أن الرجل الذي جاء يعتذر صار يقول له : (أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) (التوبة : 65، 66)، ولا يزيد عن هذا أبدا مع إمكان أن يزيده توبيخا وتقريعا .
عن ابن عمر ومحمد بن كعب وزبد ابن اسلم وقتاده دخل حديث بعضهم في بعض :أنه قال رجل في غزوة تبوك . ما راينا مثل قرائنا هؤلاء ؛ ارغب بطونا ولا أكذب ألسنا ولا اجبن عند اللقاء : ( يعني :
ـــــــــــــــــــــــــ
***
قوله : (عن ابن عمر) . وهو عبد الله .
(ومحمد بن كعب، وزيد بن أسلم، وقتادة) . والثلاثة تابعيون ، فالرواية عن ابن عمر مرفوعة، وعن الثلاثة الآخرين مرسلة .
قوله : (دخل حديثهم بعضهم في بعض) . أي : إن هذا الحديث مجموع من كلامهم، وهذا يفعله بعض أئمة الرواة كالزهري وغيره، فيحدثه جماعة بشأن قصة من القصص كحديث الإفك مثلا، فيجمعون هذا ويجعلون في حديث واحد، ويشيرون إلى هذا، فيقولون - مثلا - دخل حديث بعضهم في بعض، أو يقول : حدثني بعضهم بكذا وبعضهم بكذا، وما أشبه ذلك .(119/52)
قوله : (في غزوة تبوك) . تبوك في أطراف الشام، وكانت هذه الغزوة في رجب حيث طابت الثمار، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة نحو ثلاثين ألفا، ولما خرجوا رجع عبد الله بن أُبي بنحو نصف المعسكر، حتى قيل له : إنه لا يدري أي الجيشين أكثر : الذين رجعوا، أو الذين ذهبوا؟ مما يدل على وفرة النفاق في تلك السنة، وكانت في السنة التاسعة، وسببها أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوما من الروم ومن متنصرة العرب يجمعون له، فأراد أن يغزوهم صلى الله عليه وسلم إظهارا للقوة وإيمانا بنصر الله – عز وجل -.
قوله : ( ما رأينا) تحتمل أن تكون بصرية، وتحتمل أن تكون علمية قلبية.
قوله : (مثل قرائنا) المفعول الأول، والمراد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
قوله : (أرغب بطونا ) . المفعول به الثاني، أي : أوسع، وإنما كانت الرغبة هنا بمعنى السعة، لأنه كلما اتسع البطن رغب الإنسان في الأكل .
قوله : (ولا أكذب ألسنا) . الكذب : هو الإخبار بخلاف الواقع، والألسن : جمع لسان، والمراد : ولا أكذب قولا، واللسان يطلق على القول كثيرا في اللغة العربية، كما في قوله تعالى : (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) (إبراهيم : 49) أي : بلغتهم .(119/53)
قوله : (و لا أجبن عند اللقاء) . الجبن : هو خور في النفس يمنع من الإقدام على ما يكره، فهو خلق نفسي ذميم، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ منه(1) لما يحصل فيه من الإحجام عما ينبغي الإقدام إليه، فلهذا كان صفة ذميمة، وهذه الأوصاف تنطبق على المنافقين لا على المؤمنين، فالمؤمن يأكل بمعي واحد : ثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه، والكافر يأكل بسبعة أمعاء، والمؤمن أصدق الناس لسانا ولا سيما النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإن الله وصفهم بالصدق في قوله : (للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون) (الحشر :8) والمنافقون أكذب الناس، كما قال الله فيهم : (والله يشهد إنهم كاذبون) (الحشر : 11) ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الكذب من علامات النفاق (2) ، والمنافقون من أجبن الناس، قال تعالى : (يحسبون كل صيحة عليهم ...) (المنافقون : 4) فلو سمعوا أحدا ينشد ضالته، لقالوا : عدو، عدو، وهم أحب الناس للدنيا، إذ أصل نفاقهم من أجل الدنيا ومن أجل أن تحمي دماؤهم واموالهم وأعراضهم .
قوله : (كذبت) . أي : أخبرت بخلاف الواقع ، وفي ذلك دليل على تكذيب الكذب مهما كان الأمر، وأن السكوت عليه لا يجوز .
قوله : (ولكنك منافق) . لأنه لا يطلق هذه الأوصاف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رجل تسمى بالإسلام إلا منافق، وبهذا يعرف أن من يسب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر، لأن الطعن فيهم طعن في الله ورسوله وشريعته .
فيكون طعنا في الله، لأنه طعن في حكمته، حيث اختار لأفضل خلقه أسوأ خلقه .
وطعنا في الرسول صلى الله عليه وسلم : لأنهم أصحابه، والمرء على دين خليله، والإنسان يستدل على صلاحه أو فساده أو سوء أخلاقه أو صلاحها بالقرين .(119/54)
وطعنا في الشريعة : لأنهم الواسطة بيننا وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في نقل الشريعة، وإذا كانوا بهذه المثابة، فلا يوثق بهذه الشريعة .
قوله : ( فوجد القرآن قد سبقه) . أي : بالوحي من الله تعالى، والله عليم بما يفعلون وبما يريدون وبما يبيتون، قال تعالى : (يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضي من القول) ( النساء : 108)
قوله : (وقد ارتحل وركب ناقته) . الظاهر أن هذا من باب عطف التفسير، لأن ركوب الناقة هو الارتحال .
قوله : (كأني أنظر إليه) . كأن إذا دخلت على مشتق، فهي للتوقع، وإذا دخلت على جامد، فهي للتشبيه، وهنا دخلت على جامد، والمعنى : كأنه الآن أمامي من شدة يقيني به .
قوله (بنسعة) . هي الحزام الذي يربط به الرحل .
قوله : (والحجارة تنكب رجليه) . أي : يمشي والحجارة تضرب وكأنه – والله أعلم – يمشي بسرعة، ولكنه لا يحس في تلك الحال، لأنه يريد أن يعتذر .
قوله:(وما يزيده عليه).أي:لا يزيده على ما ذكر من توبيخ امتثالا لأمر الله – عز وجل - ، وكفي بالقول الذي أرشد الله إليه نكاية وتوبيخا .
فيه مسائل :
الأولى - وهي العظيمة - : أن من هزل بهذا كافر . أي من الهزل : بالله وآياته ورسوله.
الثانية : أن هذا هو تفسير الآية فيمن فعل ذلك كائنا من كان . أي سواء كان منافقا أو غير منافق ثم استهزأ ، فإنه يكفر كائنا من كان .(119/55)
الثالثة : الفرق بين النميمة والنصيحة لله ولرسوله . النميمة : من نمًّ الحديث، أي : نقله ونسبه إلى غيره، وهي نقل كلام للغير بقصد الإفساد، وهي من أكبر الذنوب، قال صلى الله عليه وسلم : (لا يدخل الجنة نمام)(1)، وأخبر عن رجل يعذب في قبره، لأنه كان يمشي بالنميمة (2) ، وأما النصيحة لله ورسوله، فلا يقصد بها ذلك، وإنما يقصد بها احترام شعائر الله – عز وجل – وإقامة حدوده وحفظ شريعته، وعوف بن مالك نقل كلام هذا الرجل لأجل أن يقام عليه الحد أو ما يجب أن يقام عليه وليس قصده مجرد النميمة .
ومن ذلك لو أن رجلا اعتمد على شخص ووثق به، وهذا الشخص يكشف سره ويستهزأ به في المجالس، فإنك إذا أخبرت هذا الرجل بذلك، فليس من النميمة، بل من النصيحة .
الرابعة : الفرق بين العفو الذي يحبه الله وبين الغلظة على أعداء الله .
العفو الذي يحبه الله : هو الذي فيه إصلاح، لأن الله اشترط ذلك في العفو فقال : (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) (الشورى : 40) أي : كان عفوه مشتملا على الإصلاح ، وقال بعضهم : أي أصلح الود بينه وبين من أساء إليه، وهذا تفسير قاصر والصواب أن المراد به اصلح من عفوه، أي : كان في عفوه إصلاح .
فمن كان في عفوه إفسادا لا إصلاحا، فإنه آثم بهذا العفو،ووجه ذلك من الآية ظاهر، لأن الله قال : (عفا وأصلح) ، ولأن العفو إحسان والفساد إساءة، ودفع الإساءة أولى، بل العفو حينئذ محرم .(119/56)
والنبي صلى الله عليه وسلم غلظ على هذا الرجل لكونه صلى الله عليه وسلم لم يلتفت إليه، ولا يزيد على هذا الكلام الذي أمره الله به مع أن الحجارة تنكب رجل الرجل، ولم يرحمه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يرق له، ولكل مقام مقال ، فينبغي أن يكون الإنسان شديدا في موضع الشدة، لينا في موضع اللين، لكن أعداء الله – عز وجل - الأصل في معاملتهم الشدة، قال تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه (أشداء على الكفار رحماء بينهم) (الفتح :29)
وقال تعالى : (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير) (التحريم : 9) ذكرها الله في سورتين من القرآن مما يدل على أنها من أهم ما يكون، لكن استعمال اللين أحيانا للدعوة والتأليف قد يكون مستحسنا .
الخامسة : أن من الاعتذار ما لا ينبغي أن يقبل . فالأصل في الاعتذار أن يقبل لا سيما إذا كان المعتذر محسنا، لكن حصلت منه هفوة، فإن علم أنه اعتذار باطل ، فإنه لا يقبل .
* * *
مناسبة الباب ل(كتاب التوحيد) : أن الإنسان إذا أضاف النعمة إلى عمله وكسبه، ففيه نوع من الإشراك بالربوبية، وإذا أضافها إلى الله لكنه زعم أنه مستحق لذلك، وإن ما أعطاه الله ليس محض تفضيل، لكن لأنه أهل، ففيه نوع من التعلي والترفع في جانب العبودية .
وقد ذكر الشيخ في آيتين :
باب قول الله تعالى :
(وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي)(فصلت: من الآية50)
ــــــــــــــــــــــــ
* * *
الآية الأولى ما ترجم به المؤلف، وهي قوله تعالى : (ولئن أذقناه) .
الضمير يعود على الإنسان ، والمراد به الجنس. وقيل : المراد به الكافر .(119/57)
والظاهر أن المراد به الجنس، إلا أنه من هذه الحال الإيمان، فلا يقول ذلك المؤمن، قال تعالى : (إليه يرد علم الساعة وما تخرج من ثمرات من أكمامها وما تحمل الأنثى ولا تضع إلا بعلمه ويوم يناديهم أين شركائي قالوا آذناك ما منا من شهيد* وضل عنهم ما كانوا يدعون من قبل وظنوا ما لهم من محيص* لا يسأم الإنسان من دعاء الخير وإن مسه الشر فيئوس قنوط) (فصلت : 47-49) هذه حال الإنسان من حيث هو إنسان، لكن الإيمان يمنع الخصال السيئة المذكورة .
قوله : (منا) أضافه الله إليه، لوضوح كونها من الله، ولتمام منته بها.
قوله : (من بعد ضراء مسته) . أي : أنه لم يذق الرحمة من أول أمره، بل أصيب بضراء، كالفقر وفقد الأولاد وغير ذلك ، ثم أذاقه بعد ذلك الرحمة حتى يحس بها وتكون لذتها والسرور به أعظم مثل الذائق للطعام بعد الجوع .
قوله : (مسته) أي : أصابته وأثرت فيه .
قوله : (ليقولن هذا لي) . هذا كفر بنعمة الله وإعجاب بالنفس، واللام في قوله (ليقولن) واقعة في جواب القسم المقدر قبل اللام في قوله : (لئن أذقناه) .
قوله : (وما أظن الساعة قائمة) . بعد أن انغمس في الدنيا نسي الآخرة، بخلاف المؤمن إذا أصابته الضراء لجأ إلى الله، ثم كشفها، ثم وجد بعد ذلك لذة وسرورا يشكر الله على ذلك، أما هذا، فنسي الآخرة وكفر بها .
قوله : (ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى) .
(إن) : شرطية وتأتي فيما يمكن وقوعه وفيما لا يمكن رجوعه وفيما لا يمكن وقوعه، كقوله تعالى:(لئن أشركت ليحبطن عملك) (الزمر : 65)، والمعنى : على فرض أن أرجع إلى الله إن لي عنده للحسنى .
والحسنى : أسم تفضيل، أي : الذي هو أحسن من هذا، واللام للتوكيد.
قوله : (فلننبئن الذين كفروا بما عملوا) أي : فلننبئن هذا الإنسان، وأظهر في مقام الإضمار من أجل الحكم على هذا القائل بالكفر ولأجل أن يشمله الوعيد وغيره .(119/58)
قول مجاهد : هذا بعملي، وأنا محقوق به . أي هذا بكسبي وأنا مستحق له .
قول ابن عباس : يريد من عندي . أي من حذقي وتصرفي وليس من عند الله .
الآية الثانية قوله تعالى :(إنما أوتيته على علم) .
في القرآن آيتان : آية قال الله فيها : (إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون)، والثانية : (إنما أوتيته على علم عندي)،والظاهر من تفسير المؤلف انه يريد الآية الثانية .
قوله : (على علم) . في معناه أقوال :
الأول : قال قتادة : على علم مني بوجوه المكاسب، فيكون العلم عائدا على الإنسان، أي : عالم بوجوه المكاسب ولا فضل لأحد عليّ فيما أوتيته، وإنما الفضل لي ، وعليه يكون هذا كفرا بنعمة الله وإعجابا بالنفس .
الثاني : قال آخرون : على علم من الله أني له أهل ، فيكون بذلك مدلا على الله ،وأنه أهل ومستحق لينعم الله عليه، والعلم هنا عائد على الله،أي : أوتيت هذا الشي على علم من الله أني مستحق له وأهل له .
الثالث : قول مجاهد : (أوتيته على شرف)، وهو معنى القول الثاني، فصار معنى الآية يدور على وجهين :
الوجه الأول : أن هذا إنكار أن يكون ما أصابه من النعمة من فضل الله، بل زعم أنها من كسب يده وعلمه ومهارته .
الوجه الثاني : أنه أنكر أن يكون الفضل لله عليه، وكأنه هو الذي له الفضل على الله، لأن الله أعطاه ذلك كونه أهلا لهذه النعمة .(119/59)
فيكون على كلا الأمرين غير شاكر لله – عز وجل – والحقيقة أن كل ما نؤتاه من النعم فهو من الله، فهو الذي يسرها حتى حصلنا عليها، بل كان ما نحصل من علم أو قدرة أو إرادة فمن الله ، فالواجب علينا أن نضيف هذه النعم إلى الله سبحانه وتعالى، قال تعالى : (وما بكم من نعمة من الله) (النحل : 53) حتى لو حصلت لك هذه النعمة بعلمك أو مهارتك، فالذي أعطاك هذا العلم أو المهارة هو الله – عز وجل -، ثم أن المهارة أو العلم قد لا يكون سببا لحصول الرزق،فكم من إنسان عالم أو ماهر حاذق ومع ذلك لا يوفق بل يكون عاطلا؟!
وشكر النعمة يكون له ثلاثة أركان :
الاعتراف بها في القلب .
الثناء على الله باللسان .
العمل بالجوارح بما يرضي المنعم .
فمن كان عنده شعور في داخل نفسه أنه هو السبب لمهارته وجودته وحذقه، فهذا لم يشكر النعمة، وكذلك لو أضاف النعمة بلسانه إلى غير الله أو عمل بمعصية الله في جوارحه، فليس بشاكر لله تعالى .
* * *
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلي الله عليه وسلم يقول : ( أن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمي،فأراد الله ان يبتليهم فبعث إليهم ملكا فأتي الأبرص فقال : أي شيء احب إليك ؟ قال : لون حسن )
ــــــــــــــــــــــــ
قوله : (وعن أبي هريرة رضى الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أن ثلاثة من بني إسرائيل) .
جميع القصص الواردة في القرآن وصحيح السنة ليس المقصود بها مجرد الخبر، بل يقصد منها العبرة والعظة مع ما تكسب النفس من الراحة والسرور، قال الله تعالى : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) (يوسف : 111) .
قوله : (من بني إسرائيل) في محل نصب نعت ل (لثلاثة)، وبنو إسرائيل هم ذرية يعقوب بن إسحاق أبن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام .(119/60)
وقوله : (أبرص) . أي : في جلده برص، والبرص داء معروف، وهو من الأمراض المستعصية التي لا يمكن علاجها بالكلية، وربما توصلوا أخيرا إلى عدم انتشارها وتوسعها في الجلد، لكن رفعها لا يمكن، ولهذا جعلها الله آية لعيسى، قال الله تعالى : (تبريء الأكمة والأبرص بإذني) (المائدة : 110)
قوله : (أقرع) . من ليس على رأسه شعر .
قوله : (أعمى) . من فقد البصر .
قوله : (فأراد الله)وفي بعض النسخ : (أراد الله) . فعلى إثبات الفاء يكون خبر(إن) محذوفا دل على السياق تقديره : إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص وأقرع وأعمى أنعم الله عليهم فأراد الله أن يبتليهم .
ولا يمكن أن يكون (أبرص وأقرع وأعمى) خبرا، لأنها بدل، وعلى حذف الفاء يكون الخبر جملة : (أراد الله)، والإرادة هنا كونية .
وجلد حسن ويذهب عني الذي قد قذرني الناس به ) قال : ( فمسحه فذهب عنه قذره ، فأعطي لونا حسنا وجلدا حسنا . قال : فأي المال أحب إليك ؟ قال : الإبل او البقر ( شك اسحق) فأعطي ناقة عشراء ، وقال : بارك الله لك فيها )
ـــــــــــــــــــــــــ
قولهم : (يبتليهم) . أي : يختبرهم، كما قال الله تعالى : (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) (الأنبياء : 35)، وقال تعالى : (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) (النمل : 40) .
قوله : (ملكا) . أحد الملائكة : هم عالم غيبي خلقهم الله من نور وجعلهم قائمين بطاعة الله، لا يأكلون، ولا يشربون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لهم أشكال وأعمال ووظائف مذكورة في الكتاب والسنة، ويجب الإيمان بهم، وهم أحد أركان الإيمان الستة .
قال أهل اللغة : واصل ال( ملك) مأخوذ من الألوكة، وهي الرسالة، وعلى هذا يكون أصله مألك، فصار فيه إعلال قلبي، فصار ملأك، ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام الساكنة وحذفت الهمزة تخفيفا، فصار ملك ، ولهذا في الجمع تأتي الهمزة : ملائكة.
قوله : (ويذهب) . يجوز فيه الرفع والنصب، والرفع أولى .(119/61)
قوله : (قذرني) . أي : استقذرني وكرهوا مخالطتي من أجله .
وقوله : (به) . الباء للسببية، أي : بسببه .
قوله : (فمسحه) . ليتبين أن لكل شي سببا وبرى بإذن الله – عز وجل -، (فذهب عنه قذره) : بدأ بذهاب القذر قبل اللون الحسن والجلد الحسن، لأنه يبدأ بزوال المكروه قبل حصول المطلوب، كما يقال : التخلية قبل التحلية .
قوله : (قال : الإبل أو البقر – شك إسحاق -) . والظاهر : أنه الإبل كما يفيده السياق، وإسحاق أحد رواة الحديث .
قوله : (عشراء) . قيل : هي الحامل مطلقا ، وقال في (القاموس): هي التي بلغ حملها عشرة أشهر أو ثمانية، سخرها الله – عز وجل – وذللها ولعلها كانت قريبة من الملك فأعطاها إياها .
قوله : (بارك الله لك فيها). فيحتمل أن لفظه الخبر ومعناه الدعاء، وهو الأقرب، لأنه أسلم من التقدير، ويحتمل أنه خبر محض، كأنه قال : هذه ناقة عشراء مبارك لك فيها ويكون المعنى على تقدير (قد)، أي : قد بارك الله لك فيها .
قوله : (فأتى الأقرع) . وهو الرجل الثاني في الحديث .
قوله : (فقال : أي شي أحب إليك؟ قال : شعر حسن) . ولم يكتف بالشعر الحسن، بل طلب شعرا حسنا .
قوله : (الذي قذرني الناس به) . أي : القرع، لأنه كان أقرع كرهه الناس واستقذروه، وهذا يدل على أنهم لا يغطون رؤوسهم بالعمائم ونحوها، وقد يقال يمكن أن يكون عليه عمامة يبدو بعض الرأس من جوانبها فيكرهه الناس مما بدا منها .
قوله : (فذهب عنه قذره) . يقال في تقديم ذهاب القذر ما سبق، وهذه نعمة من الله عز وجل أن يستجاب للإنسان.
قوله : (البقر أو الإبل). الشك في إسحاق، وسياق الحديث يدل على أنه أعطى البقر .
قوله : (فأتى الأعمى) . هذا هو الرجل الثالث في هذه القصة.
قوله : (فأبصر به الناس) . لم يطلب بصرا حسنا كما طلبه صاحباه، وإنما طلب بصرا يبصر الناس فقط مما يدل على قناعته بالكفاية.(119/62)
قوله : (فرد الله إليه بصره)الظاهر أن بصره الذي كان معه من قبل هو ما يبصر به الناس فقط .
قوله : (قال: الغنم) . هذا يدل على زهده كما يدل على أنه صاحب سكينة وتواضع، لأن السكينة في أصحاب الغنم .
قوله : (شاة والدا) . قيل : إن المعنى قريبة الولادة، ويؤيده أن صاحبيه أعطيا أنثى حاملا، ولما يأتي من قوله : (فأنتج هذان وولد هذا)، والشي قد يسمى بالاسم القريب، فقد يعبر عن الشي حاصلا وهو لم يحصل، لكنه قريب الحصول .
قوله : (فأُنتج هذان) . بالضم ، وفيه رواية بالفتح: (فأًنتج)، وفي رواية : (فَنتج هذان) .
والأصل في اللغة في مادة (نتج) : أنها مبنية للمفعول والإشارة إلى صاحب الإبل والبقر ، و(أنتج)، أي : حصل لهما نتاج الإبل والبقر .
قوله : (وولد هذا) . أي : صار لشاته أولاد، قالوا: والمنتج من أنتج، والناتج من نتج، والمولد من ولد، ومن تولى توليد النساء يقال له القابلة، ومن تولى توليد غير النساء يقال له : منتج أو ناتج أو مولد .
قوله : (فكان لهذا واد من الإبل) . مقتضى السياق أن يقول : فكان لذلك، لأنه أبعد المذكورين، لكنه استعمل الإشارة للقريب في مكان البعيد، وهذا جائز ، وكذا العكس .
قوله : (في صورته وهيئته) . الصورة في الجسم ، والهيئة في الشكل واللباس، وهذا الفرق بينهما .
قوله : (رجل مسكين) . خبر لمبتدأ محذوف تقديره : أنا رجل مسكين، والمسكين : الفقير، وسمي الفقير مسكينا، لأن الفقر أسكنه وأذله، والغني في الغالب يكون عند قوة وحركة .
قوله : (وابن السبيل) . أي : مسافر سمي بذلك لملازمته للطريق، ولهذا سمي طير الماء ابن الماء لملازمته له غالبا، فكل شي يلازم شيئا، فإنه يصح أن يضاف إليه بلفظ البنوة .(119/63)
قوله : (انقطعت بي الحبال في سفري) . الحبال الأسباب، فالحبل يطلق على السبب وبالعكس، قال تعالى : (فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع) (الحج : 15)، ولأن الحبل سبب يتوصل به الإنسان إلى مقصوده كالرشاء يتوصل به الإنسان إلى الماء الذي في البئر .
قال : ثم أنه أتي الأبرص في صورته وهيئته ، وقال : رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي اعطاك اللون الحسن والجلد الحسن والمال ، بعيرا اتبلغ به في سفري . فقال : الحقوق كثيرة . فكأني اعرفك! ألم تكن ابرص يقذرك الناس فقيرا فأعطاك الله عز وجل المال ؟ فقال : إنما ورثت هذا المال كابرا عن كابر . فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت )
ـــــــــــــــــــــ
قوله : ( فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك) . (لا) نافية للجنس، والبلاغ بمعنى الوصول،ومنه تبليغ الرسالة، أي : إيصالها إلى المرسل إليه، والمعنى : لا شي يوصلني إلى أهلي إلا بالله ثم بك، فالمسألة فيها ضرورة .
قوله : (أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن والجلد الحسن).
السؤال هنا ليس سؤال استخبار بل سؤال استجداء، لأن (سال) تأتي بمعنى استجدى وبمعنى استخبر، تقول : سألته عن فلان، أي : استخبرته، وسألته مالا، أي : استجديته واستعطيته، وإنما قال : (أسألك بالذي أعطاك)، ولم يقل : أسألك بالله، لأجل أن يذكره بنعمة الله عليه، ففيه إغراء له على الإعانة لهذا المسكين، لأنه جمع بين أمرين : كونه مسكينا، وكونه ابن سبيل، ففيه سببان يقتضيان الإعطاء .
قوله : ( بعيرا) . يدل على أن الأبرص أُعطي الإبل، وتعبير إسحاق (الإبل أو البقر) من باب ورعه .
قوله : (أتبلغ به في سفري) . أي : ليس أطيب الإبل وإنما يوصلني إلى أهلي فقط .(119/64)
قوله : (الحقوق كثيرة) . أي : هذا المال الذي عندي متعلق به حقوق كثيرة، ليس من حقك أنت فقط، وتناس – والعياذ بالله – أن الله هو الذي من عليه بالجلد الحسن واللون الحسن والمال .
قوله : (كأني أعرفك) . كأن هناك للتحقيق لا للتشبيه، لأنها إذا دخلت على جامد فهي للتشبيه، وإذا دخلت على مشتق، فهي للتحقيق أو للظن والحسبان، والمعنى : أني أعرفك معرفة تامة .
قوله : (ألم تكن أبرص يقذرك الناس) ذكره الملك بنعمة الله عليه، وعرفه بما فيه من العيب السابق حتى يعرف قدر النعمة، والاستفهام للتقرير لدخوله على (لم)، كقوله تعالى : (ألم نشرح لك صدرك) (الشرح : 1) .
قوله : (كابرا عن كابر) . أنكر أن المال من الله ، لكنه لم يستطيع أن ينكر البرص.
و(كابرا) منصوبة على نزع الخافض، أي : من كابر، أي : إننا شرفاء وسادة وفي نعمة من الأصل، وليس هذا المال مما تجدد، واللفظ يحتمل المعنيين جميعا .
قوله : (إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت) . (إن) : شرطية ولها مقابل، يعني : وإن كنت صادقا فأبقى الله عليك النعمة .
فإن قيل : كيف يأتي ب (إن) الشرطية الدالة على الاحتمال مع أنه يعرف أنه كاذب ؟
أجيب : إن هذا من باب التنزل مع الخصم، والمعنى : إن كنت كما ذكرت عن نفسك، فأبقى الله عليك هذه النعمة، وإن كنت كاذبا وأنك لم ترثه كابرا عن كابر، فصيرك الله إلى ما كنت من البرص والفقر، ولم يقل : (إلى ما أقول) لأنه كان على ذلك بلا شك .
والتنزل مع الخصم يرد كثيرا في الأمور المتيقنة، كقوله تعالى : (الله خير
قال : (وأتي الأقرع في صورته ، وقال له مثل ما قال لهذا ، ورد عليه مثل ما رد عليه هذا فقال : إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت )
ــــــــــــــــــــــ
أمّا يشركون) (النمل : 59)، ومعلوم أنه لا نسبة، وأن الله خير مما يشركون، ولكن هذا من باب محاجة الخصم لإدحاض حجته .(119/65)
قوله : (وأتى الأقرع في صورته) . الفاعل الملك، وهنا قال : (في صورته ) فقط وفي الأول قال : (في صورته وهيئته) ، فالظاهر أنه تصرف من الرواة، وإلا، فالغالب أن الصورة قريبة من الهيئة، وإن كانت الصورة قريبة من الهيئة، وإن كانت الصورة تكون خلقه، والهيئة تكون تصنعا في اللباس ونحوه، وقد جاء في رواية البخاري :في صورته وهيئته) .
قوله : (فقال له مثل ما قال لهذا) المشار إليه الأبرص .
قوله : (فرد عليه) . أي : الأقرع .
قوله : (مثل ما رد عليه هذا). أي : الأبرص .
فكلا الرجلين – والعياذ بالله – غير شاكر لنعمة الله ولا معترف بها ولا راحم لهذا المسكين الذي انقطع به السفر .
قوله : (فصيرك الله على بصري) . اعترف بنعمة الله، وهذا أحد أركان الشكر، والركن الثاني : العمل بالجوارح في طاعة المنعم، والركن الثالث : الاعتراف بالنعمة في القلب، قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
قوله : ( فوالله، لا أجهدك بشي أخذته لله) . الجهد : المشقة، والمعنى : لا
قال : (و أتي الأعمي في صورته ،فقال : رجل مسكين وابن سبيل قد انقطعت بي الحبال في سفري فلا بلاغ لي اليوم إلا بالله ثم بك ، أسألك بالذي رد عليك بصرك ،شاةً اتبلغ به في سفري . قال : قد كنت أعمي فرد الله على بصري .فخذ ما شئت فو الله ؛ لا اجهدك اليوم بشيء أخذته لله فقال : أمسك مالك؛ فإنما ابتليتم؛ فقد رضي الله عنك، وسخط على صاحبيك) أخرجاه (1)
ـــــــــــــــــــــــــ
أشق عليكم بمنع ولا منة،واعترافه بلسانه مطابق لما في قلبه، فيكون دالا على الشكر بالقلب بالتضمن .
قوله : (خذ ما شئت ودع ما شئت) . هذا من باب الشكر بالجوارح، فيكون هذا الأعمى قد أتم أركان الشكر .
قوله : (لله) . اللام للاختصاص، والمعنى : لأجل الله، وهذا ظاهر في إخلاصه لله، فكل ما تأخذه لله فأنا لا أمنعك منه ولا أردك .(119/66)
قوله : (إنما ابتليتم) . أي : اختبرتم، والذي ابتلاهم هو الله تعالى، وظاهر الحديث أن قصتهم مشهورة معلومة بين الناس، لأن قوله : (إنما ابتليتم) يدل على أن عنده علما بما جرى لصاحبيه وغالبا أن مثل هذه القصة تكون مشهورة بين الناس .
قوله : (فقد رضى الله عنك) . يعني : لأنك شكرت نعمة الله بالقلب واللسان والجوارح .
قوله : (وسخط على صاحبيك) . لأنهما كفرا نعمة الله – سبحانه -، وأنكرا أن يكون الله منّ عليهما بالشفاء والمال .
وفي هذا الحديث من العبر شي كثير، منها :
1. أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقص علينا أنباء بني إسرائيل لأجل الاعتبار والاتعاظ بما جرى، وهو أحد الأدلة لمن قال : إن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه،ولا شك أن هذه قاعدة صحيحة .
2. بيان قدرة الله – عز وجل – بإبراء الأبرص والأقرع والأعمى من هذه العيوب التي فيهم بمجرد مسح الملك لهم .
3. أن الملائكة يتشكلون حتى يكونوا على صورة البشر، لقوله : (فأتى الأبرص في صورته)، وكذلك الأقرع والأعمى، لكن هذا – والله أعلم – ليس إليهم وإنما يتشكلون بأمر الله تعالى .
4. أن الملائكة أجسام وليسوا أرواحا أو معاني أو قوى فقط .
5. حرص الرواة على نقل الحديث بلفظه .
6. إن الإنسان لا يلزمه الرضاء بقضاء الله – أي بالمقضى، لأن هؤلاء الذين أصيبوا قالوا : أحب إلينا كذا وكذا، وهذا يدل على عدم الرضا . وللإنسان عند المصائب أربع مقامات :
- جزع، وهو محرم .
- صبر، وهو واجب .
- رضا، وهو مستحب.
- شكر، وهو أحسن وأطيب .
وهنا إشكال وهو : كيف يشكر الإنسان ربه على المصيبة وهي لا تلائمه؟
أجيب : أن الإنسان إذا آمن بما يترتب على هذه المصيبة من الأجر العظيم عرف أنه تكون بذلك نعمة، والنعمة تشكر .(119/67)
وأما قوله صلى الله عليه وسلم : (فمن رضى، فله الرضا، ومن سخط، فعليه السخط)(2) ، فالمراد بالرضا هنا الصبر، أو الرضا بأصل القضاء الذي هو فعل الله والمقضي .
والمقضي ينقسم إلى : مصائب لا يلزم الرضا بها، وإلى أحكام شرعية يجب الرضا بها .
7 – جواز الدعاء المعلق، لقوله : (إن كنت كاذبا، فصيرك الله إلى ما كنت) ،وفي القرآن الكريم قال تعالى : (والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) (النور :7)، (والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين) (النور :9) وفي دعاء الاستخارة (اللهم ! إن كنت تعلم ... إلخ) .
8 – جواز التنزل مع الخصم فيما لا يقر به الخصم المتنزل لأجل إفحام الخصم، لأن الملك يعلم أنه كاذب، ولكن بناء على قوله : أن هذا ما حصل، وإن المال ورثه كابرا عن كابر، وقد سبق بيان وروده في القرآن، ومنه أيضا قوله تعالى : (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين ) (سبأ :24) ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه على هدى وأولئك على ضلال، ولكن هذا من باب التنزل معهم من باب العدل .
9 – أن بركة الله لا نهاية لها، ولهذا كان لهذا واد من الإبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من غنم .
10 – هل يستفاد منه أن دعاء الملائكة مستجاب أو أن هذه قضية عين ؟
الظاهر أنه قضية عين، وإلا ، لكان الرجل إذا دعا لأخيه بظهر الغيب، وقال الملك : آمين ولك بمثله، علمنا أن الدعاء قد استجيب .
11- بيان أن شكر كل نعمة بحسبها،فشكر نعمة المال أن يبذل في سبيل الله، وشكر نعمة العلم أن يبذل لمن سأله بلسان الحال أو المقال، و الشكر الأعم أن يقوم بطاعة المنعم في كل شي .
12- جواز التمثيل، وهو أن يتمثل الإنسان بحال ليس هو عليها في الحقيقة، مثل ن يأتي بصورة مسكين وهو غني وما أشبه ذلك إذا كان فيه مصلحة وأراد أن يختبر إنسانا بمثل هذا، فله ذلك .(119/68)
13 – أن الابتلاء قد يكون عاما وظاهرا يؤخذ من قوله : (فإنما ابتليتم)، وقصتهم مشهورة كما سبق .
14 – فضيلة الورع والزهد، وأنه قد يجر صاحبه إلى ما تحمد عقباه، لأن الأعمى كان زاهدا في الدنيا، فكان شاكرا لنعمة الله.
15 – ثبوت الإرث في الأمم السابقة، لقوله : (ورثته كابرا عن كابر) .
16- أن من صفات الله – عز وجل – الرضا والسخط والإرادة، وأهل السنة والجماعة يثبتونها على المعنى اللائق بالله على أنها حقيقة .
وإرادة الله نوعان : كونية، وشرعية .
والفرق بينهما أن الكونية يلزم فيها وقوع المراد ولا يلزم أن يكون محبوبا لله، فإذا أراد الله شيئا قال له كن فيكون .
وأما الشرعية : فإنه لا يلزم فيه وقوع المراد ويلزم إن يكون محبوبا لله، ولهذا نقول : الإرادة الشرعية بمعنى المحبة والكونية بمعنى المشيئة، فإن قيل : هل لله يريد الخير والشر كونا أو شرعا؟
أجيب : إن الخير إذا وقع ، فهو مراد لله كونا وشرعا، وإذا لم يقع، فهو مراد شرعا فقط، وأما الشر فإذا وقع، فهو مراد لله كونا لا شرعا وإذا لم يقع، فهو غير مراد كونا ولا شرعا، واعلم أن الشر لا ينسب إلى فعل الله – سبحانه -، ولكن إلى مخلوقات الله، فكل فعل الله تعالى خير ، لأنه صادر عن حكمة ورحمة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الخير كله في يديك، والشر ليس إليك)(1) وأما مخلوقات الله، ففيها خير وشر .
وإثبات صفة الرضا لله – سبحانه – لا يقتضي انتفاء صفة الحكمة، بخلاف رضا المخلوق، فقد تنتفي معه الحكمة، فإن الإنسان إذا رضى عن شخص مثلا فإن عاطفته قد تحمله على أن يرضى عنه في كل شي ولا يضبط نفسه في معاملته لشدة رضاه عنه، قال الشاعر :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا(119/69)
لكن رضا الله مقرون بالحكمة، كما أن غضب الخالق ليس كغضب المخلوق، فلا تنتفي الحكمة مع غضب الخالق، بخلاف غضب المخلوق، فقد يخرجه عن الحكمة فيتصرف بما لا يليق لشدة غضبه .
ومن فسر الرضا بالثواب أو إرادته، فتفسيره مردود عليه، فإنه إذا قيل : إن معني (رضى)، أي : أراد أن يثيب، فمقتضاه أنه لا يرضي ، ولو قالوا : لا يرضي لكفروا، لأنهم نفوها نفي جحود، لكن أولوها تأويلا يستلزم جواز نفي الرضا، لأن المجاز معناه نفي الحقيقة، وهذا أمر خطير جدا.
ولهذا بين شيخ الإسلام ابن تميمة وابن قيم : أنه لا مجاز في القرآن ولا في اللغة، خلافا لمن قال : كل شي في اللغة مجاز .
17- أن الصحابة تطلق على المشاكلة في شي من الأشياء ولا يلزم منه المقارنة، لقوله : (وسخط على صاحبيك)، فالصاحب هنا : من يشبه حاله في أن الله أنعم عليه بعد البؤس .
18- اختبار الله – عز وجل – بما أنعم عليهم به .
19 – أن التذكير قد يكون بالأقوال أو الأفعال أو الهيئات .
20 – أنه يجوز للإنسان أن ينسب لنفسه شيئا لم يكن من أجل الاختبار، لقول الملك : إنه فقير وابن سبيل .
21 – أن هذه القصة كانت معروفة مشهورة ، لقوله : (فقد رضى الله عنك وسخط على صاحبيك) .
* * *
فيه مسائل :
الأولي :تفسير الآية . وهي قوله تعالى : (ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي)،وقد سبق أن الضمير في قوله: (أذقناه) يعود على الإنسان باعتبار الجنس .
الثانية : ما معنى(ليقولن هذا لي).اللام للاستحقاق، والمعنى : إني : حقيق به وجدير به.
الثالثة : ما معنى قوله : (إنما أوتيته على علم) . وقد سبق بيان ذلك .(119/70)
الرابعة : ما في هذه القصة العجيبة من العبر العظيمة. وقد سبق ذكر عبر كثيرة منها، وهذا ليس استيعابا، ومن ذلك الفرق بين الأبرص والأقرع والأعمى، فإن الأبرص والأقرع جحدا بنعمة الله – عز وجل – والأعمى اعترف بنعمة الله، عندما طلب الملك من الأعمى المساعدة، قال : (خذ ما شئت) فدل هذا على جوده و إخلاصه، لأنه قال : (فوالله ، لا أجهدك اليوم بشي أخذته لله - عز وجل -) بخلاف الأبرص والأقرع حيث كانوا بخلاء منكرين نعمة الله – عز وجل - .
* * *
باب قوله تعالي :
(فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (لأعراف:190)
ـــــــــــــــــــــ
قوله : ( فلما آتاهما) . الضمير يعود على ما سبق من النفس وزوجها ، ولهذا ينبغي أن يكون الشرح من قوله تعالى : (هو الذي خلقكم من نفس واحدة ... ) .
قوله : (خلقكم من نفس واحدة) فيها قولان :
الأول : أن المراد بالنفس الواحدة : العين الواحدة، أي : من شخص معين ، وهو آدم عليه السلام، وقوله : (وجعل منها زوجها)،أي حواء، لأن حواء خلقت من ضلع آدم .
الثاني : أن المراد بالنفس الجنس، وجعل هذا الجنس زوجه، ولم يجعل زوجه من جنس آخر، والنفس قد يراد بها الجنس، كما في قوله تعالى (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيه رسولا من أنفسهم) (آل عمران : 164) أي : من جنسهم .
قوله : (ليسكن إليها) سكون الرجل إلى زوجته ظاهر من أمرين:
أولهما : لأن بينهما من المودة والرحمة ما يقتضي الأنس والاطمئنان والاستقرار.
ثانيا : سكون من حيث الشهوة، وهذا سكون خاص لا يوجد له نظير حتى بين الأم وأبنها .
وقوله : (ليسكن إليها) تعليل لكونها من جنسه أو من النفس المعينة.(119/71)
قوله : (فلما تغشاها) . أي : جامعها،وعبرة القرآن والسنة التكنية عن الجماع، قال تعالى : (أو لامستم النساء) (النساء:43)، وقال : (اللاتي دخلتم بهن) (النساء : 23) وقال تعالى : (وقد أفضى بعضكم إلى بعض) (النساء21) كأن الاستحياء من ذكره بصريح أسمه أمر فطري، ولأن الطباع السليمة تكره أن تذكر هذا الشي باسمه إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، فإنه قد يصرح به، كما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لماعز وقد أقرّ عنده بالزنى : (أنكتها لا يكني)(1) ، لأن الحاجة هنا داعية للتصريح حتى يتبين الأمر جليا، ولأن الحدود تدرأ بالشبهات .
وتشبيه علو الرجل بالمرأة بالغشيان أمر ظاهر، كما أن الليل يستر الأرض بظلامه، قال تعالى : (والليل إذا يغشى) (الليل : 1) وعبر بقوله (تغشاها) ولم يقل : غشيها، لأن تغشى أبلغ، وفيه شي من المعالجة، ولهذا جاء في الحديث: (إذا جاس بين شعبها الأربع ثم جهدها)(2)، والجلوس بين شعبها الأربع هذا غشيان، (جهدها)(2) هذا تغشي .
قوله : (حملت حملا خفيفا ً). الحمل في أوله خفيف : نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة .
قوله : (فمرت به) . المرور بالشي تجاوزه من غير تعب ولا إعياء، والمعنى : تجاوزت هذا الحمل الخفيف من غير تعب ولا إعياء.
قوله : (فلما أثقلت). الأثقال في آخر الحمل .
قوله : (دعوا الله) ولم يقل : دعيا، لأن الفعل واوي، فعاد إلى أصله .
قوله ( الله ربهما) أتي بالألوهية والربوبية ، لأن الدعاء يتعلق به جانبان :
الأول : جانب الألوهية من جهة العبد أنه داع ، والدعاء عبادة .
الثاني : جانب الربوبية ؛ لأن في الدعاء تحصيلا للمطلوب ، وهذا يكون متعلقا بالله من حيث الربوبية .
والظاهر أنهما قالا : اللهم ربنا ، ويحتمل ان يكون بصيغة أخري .
قوله ( لئن آتيتنا صالحا ) . أي أعطيتنا .(119/72)
وقوله : ( صالحا ) ؛ هل المراد صلاح البدن أو المراد صلاح الدين ، اي : لئن آتيتنا بشرا سويا ليس فيه عاهة لا نقص ، أو صالحا بالدين ، فيكون تقيا قائما بالواجبات ؟
الجواب يشمل الأمرين جميعا ، وكثير من المفسرين لم يذكر إلا الأمر الاول ، وهو الصلاح البدني ، لكن لا مانع من ان يكون شاملا للأمرين جميعا قوله : (لنكونن من الشاكرين ) ، أي : من القائمين بشكرك على الولد الصالح .
والجملة هنا جواب قسم وشرط قسم متقدم وشرط متاخر ، والجواب فيه للقسم ولهذا جاء مقرونا باللام : لنكونن .
قوله : ( فلما آتاهما صالحا )هنا حصل المطلوب ، لكن لم يحصل الشكر الذي وعد الله به ، بل جعلا له شركاء فيما أتاهما .
وقوله : ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) هذا هو جواب (لما ) .
والجواب متعقب للشرط وهذا يدل على أن الشرك منهما حصل حين إتيانه وهو صغير ، ومثل هذا لا يعرف ايصلح في دينه في المستقبل أم لا يصلح؟ ولهذا كان أكثر المفسرين على أن المراد بالصلاح الصلاح البدني .
فمعاهدة الإنسان ربه ان يفعل العبادة مقابل تفضل الله عليه بالنعمة الغالب أنه لا يفي بها ؛ ففي سورة التوبة قال تعالي : (وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ* فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) (التوبة:75-76) وفي هذه الآية قال الله تعالى : (لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين * فلما آتاهما صالحا جعلا له شركاء ) فكانا من المشركين لا من الشاكرين ، ولهذا نعرف الحكمة من نهي النبي صلى الله عليه وسلم النذر وقال : ( أنه لا يرد شيئا ، وإنما يستخرج به من البخيل ) (1)وقد ذهب كثير من اهل العلم إلى تحريم النذر ، وظاهر كلام شيخ الإسلام ابن تيميه أنه يميل إلى تحريم النذر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهي عنه ونفى أنه ياتي بخير .(119/73)
إذا ما الذي نستفيد من أمر نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وقال : انه لا ياتي بخير.
الجواب : لا نستفيد إلا المشقة على انفسنا وإلزام أنفسنا بمن نحن منه في عافية ، ولهذا ، فالقول بتحريم النذر قول قوي جدا ، ولا يعرف مقدار وزن هذا القول إلا من عرف أسئلة الناس وكثرتها ورأي أنهم يذهبون إلى كل عالم لعلهم يجدون خلاصا مما نذروا .
فإن قيل : هذا الولد الذي آتاهما الله ـ عز وجل ـ كان واحدا ؛ فكيف جعلا في هذا الولد الواحد شركا بل شركاء ؟
فالجواب أن نقول هذا على ثلاثة أوجه :
الوجه الأول : أن يعتقد بأن هذا الذي اتي بهذا الولد هو الولي الفلاني والصالح الفلاني ونحو ذلك ؛ فهذا شرك أكبر ، لأنهما أضافا الخلق إلى غير الله .
ومن هذا ما يوجد أيضا عند بعض الأمم الإسلامية الأن ، فتجد المرأة التي لا يأتيها الولد تأتي إلى قبر الولي الفلاني ، كما يزعمون أنه ولي الله ـ والله اعلم بولايته ـ ، فتقول : يا سيدي فلان أرزقني ولداً .
الوجه الثاني: أن يضيف سلامة المولود ووقايته إلى الأطباء وإرشاداتهم وإلى القوابل وما أشبه ذلك فيقولون مثلا : سلم هذا الولد من الطلق ؛ لأن القابلة إمرأة متقنة جيدة ، فهنا أضاف النعمة إلى غير الله ، وهذا نوع من الشرك ولا يصل إلى حد الشرك الأكبر، لأنه اضاف النعمة إلى السبب ونسي المسبب وهو الله ـ عز وجل ـ
الوده الثالث: أن لا يشرك من ناحية الربوبية بل يؤمن أن هذا الولد خرج سالما بفضل الله ورحمته ، ولكن يشرك من ناحية العبودية ، فيقدم محبته على محبة الله ورسوله ويلهيه عن طاعة الله ورسوله قال تعالى : (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) (التغابن:15) فكيف تجعل هذا الولد ندا لله في المحبة وربما قدمت محبته على محبة الله ، والله هو المتفضل عليك به ؟!(119/74)
وفي قوله ( فلما آتاهما ) نقد لاذع أن يجعلا في هذا الولد شريكا مع الله ، مع أن الله هو المتفضل به ، ثم قال : ( فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : ترفع وتقدس عما يشركون به من هذه الأصنام وغيرها .
ومن تأويل الآية وحدها دالة على أن قوله : ( خلقكم من نفس واحدة ) أي : من جنس واحد ، وليس فيها تعرض لأدم وحواء بوجه من الوجوه ، ويكون السياق فيهما جاريا على الأسلوب العربي الفصيح الذي له نظير في القرآن ، كقوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ)(آل عمران: من الآية164) أي : من جنسهم ، وبهذا التفسير الواضح البين يسلم الإنسان من إشكالات كثيرة .
أما على القو الثاني بان المراد بقوله تعالى(من نفس واحدة ) أي : آدم ، (وجعل منها زوجها ) (النساء :1) حواء ، فيكون معني الآية خلقكم من آدم وحواء .
فلما جامع حواء حملت حملا خفيفا ، فمرت به ، فلما أثقلت دعواـ أي:آدم وحواءـ الله بهما (لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكَاءََ) فأشرك آدم وحواء بالله ، لكن قالوا: أنه إشراك طاعة لا إشراك عبادة (فتعالى الله عما يشركون ) ، وهذا التفسير منطبق على المروي عن ابن عباس رضي الله عنه ، وسنبين إن شاء الله تعالى وجه ضعفه وبطلانه .(119/75)
وهناك قول ثالث: أن المراد بقوله تعالى (من نفس واحدة ) أي : آدم وحواء (فلما تغشاها ) انتقل من العين إلى النوع أي : من آدم إلى النوع الذي هم بنوه ، أي : فلما تغشي الإنسان الذي تسلل من آدم وحواء زوجته ... إلخ ، ولهذا قال تعالى :(فتعالى الله عما يشركون ) بالجمع ولم يقل عما يشركان ، ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ) (الملك:5) أي جعلنا الشهب الخارجة منها رجوما للشياطين وليست المصابيح نفسها ، وقوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ*ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ) (المؤمنون:12-13) أي جعلناه بالنوع
قال بن حزم: " اتفقوا على تحريم كل اسم معبد لغير الله ، كعبد عمرو وعبد الكعبة وما أشبه ذلك حاشا عبدالمطلب "
ـــــــــــــــــــــــ
وعلى هذا فأول الآية في آدم وحواء ، ثم صار الكلام من العين إلى النوع 0
وهذا التفسير له وجه ، وفيه تنزيه آدم وحواء من الشرك ، لكن فيه شيء من الركاكة لتشتت الضمائر 0
وأما قوله تعالى ( فتعالى الله عما يشركون ) ، فجمع لأن المراد بالمثنى اثنان من هذا الجنس ، فصح أن يعود الضمير إليهما مجموعاً ، كما في قوله تعالى : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) } الحجرات : 9 { ولم يقل : اقتتلتا ، لأن الطائفتين جماعة 0
***
قوله : " اتفقوا " أي : أجمعوا والإجماع أحد الأدلة الشرعية التي ثبتت بها الأحكام ، والأدلة هي : الكتاب ، والسنة والإجماع ، والقياس 0
قوله : " وما أشبه ذلك " 0 مثل : عبدالحسين ، وعبدالرسول ، وعبدالمسيح ، وعبد علي 0(119/76)
وأما قوله صلي الله عليه وسلم : ( تعس عبدالدينار ، تعس عبدالدرهم … )(1) الحديث ، فهذا وصف وليس علماً ، فشبه المنهمك بمحبة هذه الأشياء المقدم لها على ما يرضي الله بالعابد لها ، كقولك : عابد الدينار ، فهو وصف ، فلا يعارض الإجماع 0
ـــــــــــــ
(1) تقدم تخريجه (ص 724)
قوله ( حاشا عبدالمطلب ) حاشا الاستثنائية إذا دخلت عليها (ما) وجب نصب ما بعدها ، وإلا جاز فيه النصب والجر
وبالنسبة لعبدالمطلب مستثنى من الإجماع على تحريمه ، فهو مختلف فيه ، فقال بعض أهل العلم : لا يمكن أن نقول بالتحريم والرسول صلي الله عليه وسلم قال :
( أنا النبي صلي الله عليه وسلم لا كذب أنا ابن عبد المطلب ) (1)
فالنبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم لا يفعل حراماً، فيجوز أن يعبد للمطلب إلا إذا وجد ناسخ ، وهذا تقرير ابن حزم رحمه الله ، ولكن الصواب تحريم التعبيد للمطلب ، فلا يحوز لأحد أن يسمي ابنه عبد المطلب ، وأما قوله صلي الله عليه وسلم ( انا ابن عبد المطلب ) ، فهو من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء ، فالنبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم أخبر أن له جداً اسمه عبد المطلب ، ولم يرد عنه صلي الله عليه وسلم أنه سمى عبد المطلب ، أو أنه أذن لأحد صحابته بذلك ، ولا أنه أقر أحداً على تسميته عبدالمطلب ، والكلام في الحكم لا في الإخبار ، وفرق بين الإخبار وبين الإنشاء والإقرار ، ولهذا قال النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم : ( إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد ) (2) ، وقال صلي الله عليه وسلم ( يابني عبد مناف ) (3) ولا يجوز التسمي بعبد مناف
وقد قال العلماء : إن حاكي الكفر ليس بكافر ، فالرسول صلي الله عليه وسلم يتكلم عن(119/77)
وعن ابن عباس في الآية ، قال : ( لما تغشاها آدم ، حملت ، فأتاهما إبليس ، فقال : إني صاحبكما الذي أخرجتكما من الجنة ، لتطيعاني أو لأجعلن له قرني أيل ، فيخرج من بطنك ، فيشقه ، ولأفعلن ، يخوفهما ، سمياه عبد الحارث ، فأبيا أن يطيعانه ، فخرج ميتاً
ــــــــــــــــــــــــــ
شيء قد وقع وانتهى ومضى ، فالصواب أنه لا يجوز أن يعتبد لغير الله مطلقاً لا بعبد المطلب ولا غيره ، وعليه ، فيكون التعبد لغير الله من الشرك
***
قوله : ( إبليس ) . على وزن إفعيل ، فقيل : من أبلس إذا يئس ، لأنه يئس من حرمة الله تعالى
قوله : ( لتطيعانني ) جملة قسمية ، أي : والله لتطيعاني .
قوله : ( ايل ) هو ذكر الأوعال
قوله ( سمياه عبد الحارث ) اختار هذا الاسم ، لأنه اسمه فأراد أن يعبدان لنفسه
قوله: ( فخرج ميتاً ) لم يحصل التهديد الأول، ويجوز أن يكون من جملة : ( ولأفعلن ) ، ولأنه قال : ( ولأخرجنه ميتاً )
قوله : ( شركاء في طاعته ) أي : أطاعاه فيما أمرهما به ، لا في العبادة لكن عبدا الولد لغير الله ، وفرق بين الطاعة والعبادة ، فلو أن أحداً أطاع شخصاً في معصية لله لم يجعله شريكاً مع الله في العبادة ، لكن أطاعه في معصية الله
قوله ( أشفقا أن لا يكون إنساناً ) أي : خاف آدم وحواء أن يكون حيواناً أو جنياً أو غير ذلك
ثم حملت ، فأتاهما ، فذكر لهما ، فأدركهما حب الولد ، فسمياه عبد الحارث ، فذلك قوله : ( جعلا له شركاء فيما آتاهما ) رواه ابن أبي حاتم (1)
وله بسند صحيح عن قتادة ، قال : ( شركاء في طاعته ، ولم يكن في عبادته ) (2)
ــــــــــــــــــــــ(119/78)
قوله ( وذكر معناه عن الحسن ) 0 لكن الصحيح أن الحسن رحمه الله قال : إن المراد بالآية غير آدم وحواء، وإن المراد بها المشركون من بني آدم كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في ( تفسيره ) وقال : ( أما نحن ، فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق آدم وحواء ، وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ) أ هـ
وهذه القصة باطلة من وجوه :
الوجه الأول : أنه ليس في ذلك خبر صحيح عن النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم ، وهذا من الأخبار التي لا تتلقى إلا بالوحي ، وقد قال ابن حزم عن هذه القصة : إنها رواية خرافة مكذوبة موضوعة
الوجه الثاني : أنه لو كانت هذه القصة في آدم وحواء ، لكان حالهما إما أن يتوبا من الشرك أو يموتا عليه ، فإن قلنا : ماتا عليه ، كان ذلك أعظم من قول بعض الزنادقة :
إذا ماذكرنا آدماً وفعاله وتزويجه بنتيه بابنيه بالخنا
علمنا بأن الخلق من نسل فاجر وأن جميع الناس من عنصر الزنا
فمن جوز موت أحد من الأنبياء على الشرك فقد أعظم الفرية ، وإن كان تابا من الشرك ، فلا يليق بحكمة الله وعدله ورحمته أن يذكر خطأهما ولا يذكر توبتهما منه ، فيمتنع غاية الامتناع أن يذكر الله الخطيئة من آدم وحواء وقد تابا ، ولم يذكر توبتهما ، والله تعالى إذا ذكر خطيئة بعض أنبيائه ورسله ذكر توبتهم منها كما في قصة آدم نفسه حين أكل من الشجرة وزوجه وتابا من ذلك
الوجه الثالث : أن الأنبياء معصومون من الشرك باتفاق العلماء
الوجه الرابع : أنه ثبت في حديث الشفاعة أن الناس يأتون إلى آدم يطلبون منه الشفاعة ، فيعتذر بأكله من الشجرة (2) وهو معصية ، ولو وقع منه الشرك ، لكان اعتذاره به أقوى وأولى وأحرى(119/79)
الوجه الخامس : أن في هذه القصة أن الشيطان جاء إليهما وقال : ( أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة ) ، وهذا لا يقوله من يريد الإغواء ، وإنما يأتي بشيء يقرب قبول قوله ، فإذا قال : ( أنا صاحبكما الذي أخرجكما من الجنة ) ، فسيعلمان علم اليقين أنه عدو لهما ، فلا يقبلان منه صرفاً ولا عدلاً
الوجه السادس : أن في قوله في هذه القصة : ( لأجعلن له قرني إيل ) : إما أن يصدقا أن ذلك ممكن في حقه ، فهذا شرك في الربوبية لأنه لا يقدر على ذلك إلا الله ، أو لا يصدقا ، فلايمكن أن يقبلا قوله وهما يعلمان أن ذلك غير ممكن في حقه
الوجه السابع : قوله تعالى : ( فتعالى الله عما يشركون ) بضمير الجمع ، ولو كان آدم وحواء ، لقال عما يشركان فهذه الوجوه تدل على أن هذه القصة باطلة من أساسها ، وأنه لا يجوز أن يعتقد في آدم وحواء أن يقع منهما شرك بأي حال من الأحوال ، والأنبياء منزهون عن الشرك مبرؤون منه باتفاق أهل العلم ، وعلى هذا ، فيكون تفسير الآية كما أسلفنا أنها عائدة إلى بني آدم الذي أشركوا شركاً حقيقياً ، فإن منهم مشركاً ومنهم موحداً
***
فيه مسائل :
الأولى : تحريم كل اسم معبد لغير الله 0 تؤخذ من الإجماع على ذلك ، ولاإجماع الأصل الثالث من الأصول التي يعتمد عليها في الدين ، والصحيح أنه ممكن وأنه حجة إذا حصل لقوله تعالى : ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول ) (النساء : 58) ، و(إن) هذه شرطية لا تدل على وقوع التنازع ، بل إن فرض ووقع ، فالمردّ إلى الله ورسوله ، فعلم منه أننا إذا أجمعنا فهو حجة
لكن ادعاء الإجماع يحتاج إلى بينة ، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية : الإجماع الذي ينضبط ما كان عليه السلف الصالح، إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة ، ولما قيل للإمام أحمد : إن فلاناً يقول : أجمعوا على كذلك ، أنكر ذلك وقال : وما يدريه لعلهم اختلفوا ، فمن ادعى الإجماع ، فهو كاذب(119/80)
ولعل الإمام أحمد قال ذلك ، لأن المعتزلة وأهل التعطيل كانوا يتذرعون إلى إثبات تعطيلهم وشبههم بالإجماع ، فيقولون : هذا إجماع المحققين ، وما أشبه ذلك
وقد سبق أن الصحيح أنه لا يجوز التعبيد للمطلب ، وأن قول الرسول صلي الله عليه وسلم ( أنا ابن عبد المطلب ) (1) أنه من قبيل الإخبار ولي إقرار ولا إنشاء ، والإنسان له أن ينتسب إلى أبيه وإن كان معبداً لغير الله ، وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم ( يابني عبد مناف ) (1) ، وهذا تعبيد لغير الله لكنه من باب الإخبار
الثانية : تفسير الآية
يعني قوله تعالى : ( فلما آتاهما صالحاً …. ) الآية ، وسبق تفسيرها
الثالثة : أن هذا الشرك في مجرد تسمية لم تقصد حقيقتها
وهذا بناء على ما ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية ، والصواب : أن هذا الشرك حق حقيقة ، وأنه شرك من إشراك بني آدم من آدم وحواء ، ولهذا قال تعالى في الآية نفسها : ( ايشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يخلقون ) ، فهذا الشرك الحقيقي الوقع من بني آدم
الرابعة: أن هبة الله للرجل البنت السوية من النعم. هذا بناء على ثبوت القصة، وأن المراد بقوله: (صالحاً ) ، أي : بشراً سوياً ، وأتى المؤلف بالبنت دون الولد ، لأن بعض الناس يرون أن هبة البنت من النقم ، قال تعالى : ( وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم * يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون ) ( النحل : 58-59) ، وإلا ، فهبة الولد الذكر السوي من باب النعم أيضاً ، بل هو أكبر نعمة من هبة الأنثى ، وإن كانت هبة البنت بها أجر عظيم فيمن كفلها ورباها وقام عليها
الخامسة : ذكر السلف الفرق بين الشرك في الطاعة والشرك في العبادة
وقبل ذلك نبين الفرق بين الطاعة وبين العبادة ، فالطاعة إذا كانت منسوبة لله فلا فرق بينها وبين العبادة ، فإن عبادة الله طاعته(119/81)
وأما الطاعة المنسوبة لغير الله ، فإنها غير العبادة ، فنحن نطيع الرسول صلي الله عليه وسلم لكن لا نعبده ، والإنسان قد يطيع ملكاً من ملوك الدنيا وهو يكرهه
فالشرك بالطاعة : أنني أطعته لا حباً وتعظيماً وذلاً كما أحب الله وأتذلل له وأعظمه ، ولكن طاعته اتباع لأمره فقط ، هذا هو الفرق
وبناء على القصة، فإن آدم وحواء أطاعا الشيطان ولم يعبداه عبادة، وهذا مبني على صحة القصة
***
باب قول الله تعالى
(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا
الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ) (لأعراف:180)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذا ال يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات ، لأن هذا الكتاب جامع لأنواع التوحيد الثلاثة : توحيد العبادة ، وتوحيد الربوبية ، وتوحيد الأسماء والصفات
وتوحيد الأسماء والصفات : هو إفراد الله – عز وجل – بما ثبت له من صفات الكمال على وجه الحقيقة بلا تمثيل ولا تكييف ولا تعطيل
لأنك إذا عطلت لم تثبت ، وإن مثلت لم توحد ، والتوحيد مركب من إثبات ونفي ، أي : إثبات الحكم للموحد ونفيه عما عداه ، فمثلاً إذا قلت : زيد قائم ، لم توحده بالقيام ، وإذا قلت : زيد غير قائم ، لم تثبت له القيام ، وإذا قلت : لا قائم إلا زيد ، وحدته بالقيام
وإذا قلت : لا إله إلا الله ، وحدته بالألوهية ،وإذا أثبت لله الأسماء والصفات دون أن يماثله أحد ، فهذا هو توحيد الأسماء والصفات ، وإن نفيتها عنه ، فهذا تعطيل ، وإن مثلت ، فهذا إشراك
***
قوله تعالى : ( ولله الأسماء الحسنى )
طريق التوحيد هنا تقديم الخبر لأن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر ، ففي الآية توحيد الأسماء لله(119/82)
وقوله : ( الحسنى ) مؤنث أحسن ، فهي اسم تفضيل ، ومعنى الحسنى ، أي : البالغة في الحسن أكمله ، لأن اسم التفضيل يدل على هذا ، والتفضيل هنا مطلق ، لأن اسم التفضيل قد يكون مطلقاً مثل:زيد الأفضل ، وقد يكون مقيداً مثل : زيد أفضل من عمرو
وهنا التفضيل مطلق ، لأنه قال : ( ولله الأسماء الحسنى )
فأسماء الله تعالى بالغة في الحسن أكمله من كل وجه ، ليس فيها نقص لا فرضاً ولا احتمالاً
وما يخبر به عن الله أوسع مما يسمى به الله ، لأن الله يخبر عنه بالشيء ويخبر عنه بالمتكلم والمريد ، مع أن الشيء لا يتضمن مدحاً والمتكلم والمريد يتضمنان مدحاً من وجه وغير مدح من وجه ، ولا يسمى الله بذلك ، فلا يسمى بالشيء ولا بالمتكلم ولا بالمريد ، لكن يخبر بذلك عنه
وقد سبق لنا مباحث قيمة في أسماء الله تعالى :
الأول : هل أسماء الله تعالى أعلام أو أوصاف ؟
الثاني : هل أسماء الله مترادفة أو متباينة ؟
الثالث : هل أسماء الله هي الله أو غيره ؟
الرابع : أسماء الله توقيفية
الخامس : أسماء الله غير محصورة بعدد معين
السادس : أسماء الله إذا كانت متعدية ، فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة وبالحكم الذي يسمى أحياناً بالأثر ، وإن كانت غير متعدية ، فإنه يجب أن تؤمن بالاسم والصفة
السابع : إحصاء أسماء الله معناه :
1 - الإحاطة بها لفظاً ومعنى
2 - دعاء الله بها ، لقوله تعالى:( فادعوه بها ) ، وذلك بأن تجعلها وسيلة لك عند الدعاء ، فتقول : يا ذا الجلال والإكرام ! ياحي يا قيوم ! وما أشبه ذلك
3 - أن تتعبد لله بمقتضاها ، فإذا علمت أنه رحيم تتعرض لرحمته وإذا علمت أنه غفور تتعرض لمغفرته ، وإذا علمت أنه سميع اتقيت القوم الذي يغضبه ، وإذا علمت أنه بصير اجتنب الفعل الذي لا يرضاه(119/83)
قوله تعالى : ( فادعوه بها ) . الدعاء هو السؤال ، والدعاء قد يكون بلسان المقال ، مثل : اللهم ! اغفر لي يا غفور وهكذا ، أو بلسان الحال وذلك بالتعبد له ، ولهذا قال العلماء : إن الدعاء دعاء مسألة ودعاء عبادة ، لأن حقيقة الأمر أن المتعبد يرجو بلسان حاله رحمة الله ويخاف عقابه
والأمر بدعاء الله بها يتضمن الأمر بمعرفتها ، لأنه لا يمكن دعاء الله بها إلا بعد معرفتها
وهذا خلافا لما قاله بعض المداهنين في وقتنا الحاضر : إن البحث في الأسماء والصفات لا فائدة فيه ولا حاجة إليه
أيريدون أن يعبدوا شيئاً لا أسماء له ولا صفات ؟!
أم يريدون أن يداهنوا هؤلاء المحرفين حتى لا يحصل جدل ولا مناظرة معهم ؟!
وهذا مبدأ خطير أن يقال للناس لا تبحثوا في الأسماء والصفات ، مع أن الله أمرنا بدعائه بها ، والأمر للوجوب ، ويقتضي وجوب علمنا بأسماء الله ، ومعلوم أيضاً أننا لا نعلمها أسماء مجردة عن المعاني ، بل لا بد أن لها معاني فلا بد أن نبحث فيها ، لأن علمها ألفاظاً مجردة لا فائدة فيه ، وإن قدر أن فيه فائدة بالتعبد باللفظ ، فإنه لا يحصل به كمال الفائدة
أن دعاء الله بأسمائه له معنيان :
الأول:دعاء العبادة ، وذلك بأن تتعبد لله بما تقتضيه تلك الأسماء ، ويطلق على الدعاء عبادة ، قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي)( غافر : 60 ) ، ولم يقل: عن دعائي ، فدل على أن الدعاء عبادة
فمثلاً : الرحيم يدل على الرحمة ، وحينئذ تتطلع إلى أسباب الرحمة وتفعلها
والغفور يدل على المغفرة ، وحينئذ تتعرض لمغفرة الله – عز وجل – بكثرة التوبة والاستغفار كذلك وما أشبه ذلك
والقريب : يقتضي أن تتعرض إلى القرب منه بالصلاة وغيرها ، وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد
والسميع : يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى السمع ، بحيث لا تسمع الله قولاً يغضبه ولا يرضاه منك(119/84)
والبصير : يقتضي أن تتعبد لله بمقتضى ذلك البصر بحيث لا يرى منك فعلاً يكرهه منك
الثاني : دعاء المسألة ، وهو أن تقدمها بين يدي سؤالك متوسلاً بها إلى الله تعالى
مثلاً : يا حي يا قيوم اغفر لي وارحمني ، وقال صلي الله عليه وسلم : ( فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ) (1) ، والإنسان إذا دعا وعلل ، فقد أثنى على ربه بهذا الاسم طالباً أن يكون سبباً للإجابة ، والتوسل بصفة المدعو المحبوبة له سبب للإجابة ، فالثناء على الله بأسمائه من أسباب الإجابة
قوله تعالى : ( وذروا الذين يلحدون )
(ذروا ) : اتركوا ، ( الذين ) : مفعول به ، وجملة يلحدون صلة الموصول
ثم توعدهم بقوله : ( سيجزون ما كانوا يعملون ) ، وهو الإلحاد ، أي : سيجزون جزاءه المطابق للعمل تماماً ، ولهذا يعبر الله تعالى بالعمل عن الجزاء إشارة للعدل ، وأنه لا يجزى الإنسان إلا بقدر عمله
والمعنى : ذروهم ، أي : لا تسلكوا مسلكهم ولا طريقهم : فإنهم على ضلال وعدوان ، وليس المعنى عدم مناصحتهم وبيان الحق لهم ، إذ لا يترك الظالم على ظلمه ، ويحتمل أن المراد بقوله ( ذروا ) تهديداً للملحدين
والإلحاد : مأخوذ من اللحد ، وهو الميل ، لحد وألحد بمعنى مال ، ومنه سمي الحفر بالقبر لحداً ، لأنه مائل إلى جهة القبلة
والإلحاد في أسماء الله : الميل بها عما يجب فيها ، وهو أنواع :
الأول : أن ينكر شيئاً من الأسماء أو مما دلت عليه من الصفات أو الأحكام ، ووجه كونه إلحاداً أنه مال بها عما يجب لها ، إذ الواجب إثباتها وإثبات ما تتضمنه من الصفات والأحكام
الثاني : أن يثبت لله أسماء لم يسم الله بها نفسه ، كقول الفلاسفة في الله : إنه علة فاعلة في هذا الكون تفعل وهذا الكون معلول لها ، وليس هناك إله وبعضهم يسميه العقل الفعال ، فالذي يدير هذا الكون هو العقل الفعال ، وكذلك النصارى يسمون الله أباً وهذا إلحاد(119/85)
الثالث : أن يجعلها دالة على التشبيه فيقول : الله سميع بصير قدير ، والإنسان سميع بصير قدير ، اتفقت هذه الأسماء ، فيلزم أن تتفق المسميات ، ويكون الله – سبحانه وتعالى – مماثلاً للخلق ، فيتدرج بتوافق الأسماء إلى التوافق بالصفات
ووجه الإلحاد : أن أسماءه دالة على معان لائقة بالله لا يمكن أن تكون مشابهة لما تدل عليه من المعاني في المخلوق
الرابع: أن يشتق من هذه الأسماء للأصنام، كتسمية اللات من الإله أو من الله ، والعزى من العزيز ، ومناة من المنان حتى يلقوا عليها شيئاً من الألوهية ليبرروا ما هم عليه
واعلم أن التعبير بنفي التمثيل أحسن من التعبير بنفي التشبيه ، لوجوه ثلاثة :
1 -أنه هو الذي نفاه الله في القرآن،فقال:(ليس كمثله شيء وهو السميع البصير)(الشورى:11)
2 -أنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه من بعض الوجوه واشتراك في المعنى من بعض الوجوه
فمثلاً : الخالق والمخلوق اشتركا في معنى الوجود ، لكن وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه ، وكذلك العلم والسمع والبصر ونحوها اشترك فيها الخالق والمخلوق وفي اصل المعنى ، ويتميز كل واحد منهما بما يختص به
3 - أن الناس اختلفوا في معنى التشبيه حتى جعل بعضهم إثبات الصفات تشبيهاً ، فيكون معنى بلا تشبيه ، أي : بلا إثبات صفات على اصطلاحهم
قوله تعالى : ( سيجزون ماكانوا يعملون ) لم يقل يجزون العقاب إشارة إلى أن الجزاء من جنس العمل ، وهذا وعيد ، وهو كقوله تعالى ( سنفرغ لكم أيه الثقلان ) ( الرحمن 31 ) ، وليس المعنى أن الله – عز وجل – مشغول الآن وسيخلفه الفراغ فيما بعد
قوله : ( يعملون ) العمل يطلق على القول والفعل ، قال تعالي ( فمن ذكر ابن أبي حاتم عن ابن عباس : ( يلحدون في أسمائه ) : ( يشركون ) 0 وعنه ( سموا اللات من الإله ، والعزى من العزيز )
ـــــــــــــــــــــــــ(119/86)
يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ) ( الزلزلة : 7-8) ، وهذا يكون في الأفعال والأقوال 0
***
قول ابن عباس : ( يشركون ) تفسير للإلحاد ، ويتضمن الإشراك بها في جهتين :
1 - أن يجعلوها دالة على المماثلة
2 - أو يشتقوا منها أسماء للأصنام ، كما في الرواية الثانية عن ابن عباس التي ذكرها المؤلف ، فمن جعلها دالة على المماثلة ، فقد أشرك لأنه جعل لله مثيلاً ، ومن أخذ منها أسماء لأصنامه ، فقد أشرك لأنه جعل مسميات هذه الأسماء مشاركة لله – عز وجل
وقوله : ( وعنه ) 0 أي : ابن عباس
قوله: ( سموا اللات من الإله ….. ) وهذا أحد نوعي الإشراك بها أن يشتق منها أسماء للأصنام 0
* تنبيه :
فيه كلمة تقولها النساء عندنا وهي : ( وعزالي ) ، فما هو المقصود بها ؟
الجواب : المقصود أنها من التعزية ، أي : أنها تطلب الصبر والتقوية وليست تندب العزى التي هي الصنم ، لأنها قد لا تعرف أن هناك صنماً اسمه العزى ولا يخطر ببالها هذا ، وبعض الناس قال : يجب إنكارها ، لأن ظاهر اللفظ أنها تندب العزى ، وهذا شرك ، ولكن نقول : لو كان هذا هو المقصود لوجب الإنكار ، لكننا نعلم علم اليقين أن هذا غير مقصود ، بل يقصد بهذا اللفظ التقوي والصبر والثبات على هذه المصيبة
قوله : ( عن الأعمش : يدخلون فيها ما ليس منها ) هذا أحد أنواع الإلحاد ، وهو أن يسمى الله بما لم يسم به نفسه ، ومن زاد فيها فقد ألحد ، لأن الواجب فيها الوقوف على ما جاء به السمع
تتمة :
جاءت النصوص بالوعيد على الإلحاد في آيات الله تعالى كما في قوله تعالى : ( إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا ) ( فصلت : 40 ) ، فقوله : ( لا يخفون علينا ) فيها تهديد ، لأن المعنى سنعاقبهم ، والجملة مؤكدة بأن
وآيات الله تنقسم إلى قسمين :
1 - آيات كونية ، وهي كل المخلوقات من السماوات والأرض والنجوم والجبال والشجر والدواب وغير ذلك ، قال الشاعر :(119/87)
فواعجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
والإلحاد في الآيات الكونية ثلاثة أنواع :
1 - اعتقاد أن أحداً سوى الله منفرد بها أو ببعضها
2 - اعتقاد أن أحداً مشارك لله فيها
3 - اعتقاد أن لله فيها معيناً في إيجادها وخلقها وتدبيرها
والدليل قوله تعالى : ( قل ادعو الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ) ( سبأ : 22 ) ظهير ، أي معين
وكل ما يخل بتوحيد الربوبية ، فإنه داخل في الإلحاد في الآيات الكونية
2 - آيات شرعية ، وهو ما جاء به الرسل من الوحي كالقرآن ، قال تعالى : ( بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ) ( العنكبوت : 49 )
والإلحاد في الآيات الشرعية ثلاثة أنواع :
1 - تكذيبها فيما يتعلق بالأخبار
2 - مخالفتها فيما يتعلق بالأحكام
3 - التحريف في الأخبار والأحكام
والإلحاد في الآيات الكونية والشرعية حرام
ومنه ما يكون كفراً ، كتكذيبها ، فمن كذب شيئاً مع اعتقاده أن الله ورسوله أخبرا به ، فهو كافر
ومنه ما يكون معصية من الكبائر ، كقتل النفس والزنا
ومنه ما يكون معصية من الصغائر ، كالنظر لأجنبية لشهوة
قال الله تعالى في الحرم : ( ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ) ( الحج : 25 ) ، فسمى الله المعاصي والظلم إلحاداً ، لأنها ميل عما يجب أن يكون عليه الإنسان ، إذ الواجب عليه السير على صراط الله تعالى ، ومن خالف ، فقد ألحد
***
فيه مسائل :
الأولى : إثبات الأسماء يعني لله تعالى ، وتؤخذ من قوله : ( ولله الأسماء ) ، وهذا خبر متضمن لمدلوله من ثبوت الأسماء لله ، وفي الجملة حصر لتقديم الخبر ، والحصر باعتبار كونها حسنى لا باعتبار الأسماء
وأنكر الجهمية وغلاة المعتزلة ثبوت الأسماء لله تعالى(119/88)
الثانية : كونها حسنى أي : بلغت في الحسن أكمله ، لأن ( حسنى ) مؤنث أحسن ، وهي اسم تفضيل
الثالثة : الأمر بدعائه بها والدعاء نوعان : دعاء مسألة ، ودعاء عبادة ، وكلاهما مأمور فيه أن يدعى الله بهذه الأسماء الحسنى وسبق تفصيل ذلك (1)
الرابعة : ترك من عارض من الجاهلين الملحدين أي ترك سبيلهم ، وليس المعنى أن لا ندعوهم ولا نبين لهم ، والآية تتضمن أيضاً التهديد
الخامسة : تفسير الإلحاد فيها وقد سبق بيان أنواعه
السادسة : وعيد من ألحد وتؤخذ من قوله تعالى : ( سيجزون ما كانوا يعملون )
باب لا يقال : السلام على الله
ــــــــــــــــــــــــ
هذه الترجمة أتى بها المؤلف بصيغة النفي ، وهو محتمل للكراهة والتحريم ، لكن استدلاله بالحديث يقتضي أنه للتحريم وهو كذلك
والسلام له عدة معان :
1 - التحية ، كما قال : سلم على فلان ، أي : حياه بالسلام
2 - السلامة من النقص والآفات ، كقولنا :( السلام عليك أيها النبي صلي الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته )
3 - السلام:اسم من أسماء الله تعالى ، قال تعالى : ( الملك القدوس السلام ) ( الحشر : 23 )
قوله: ( لا يقال السلام على الله ) أي : لا تقل : السلام عليكم يا رب ، لما يلي :
أ - أن مثل هذا الدعاء يوهم النقص في حقه ، فتدعو الله أن يسلم نفسه من ذلك ، إذ لا يدعى لشيء بالسلام من شيء إلا إذا كان قابلاً أن يتصف به ، والله – سبحانه – منزه عن صفات النقص
ب - إذا دعوت الله أن يسلم نفسه ، فقد خالفت الحقيقة ، لأن الله يدعى ولا يدعى له ، فهو غني عنا ، لكن يثنى عليه بصفات الكمال مثل غفور ، سميع ، عليم …..
ومناسبة الباب لتوحيد الصفات ظاهرة ، لأن صفاته عليا كاملة كما أن أسمائه حسنى ، والدليل على أن صفاته عليا قوله تعالى : ( للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء ولله المثل الأعلى ) ( النحل : 60 )(119/89)
وقوله تعالى : ( وله المثل الأعلى في السماوات والأرض ) ( الروم : 27 )
والمثل الأعلى : الوصف الأكمل ، فإذا قلنا : السلام على الله أوهم ذلك أن الله – سبحانه – قد يلحقه النقص ، وهذا ينافي كمال صفاته
ومناسبة هذا الباب لما قبله ظاهرة ، لأن موضوع الباب الذي قبله إثبات الأسماء الحسنى لله المتضمنة لصفاته ، وموضوع هذا الباب سلامة صفاته من كل نقص ، وهذا يتضمن كمالها ، إذ لا يتم الكمال إلا بإثبات صفات الكمال ونفي ما يضادها ، فإنك لو قلت : زيد فاضل أثبت له الفضل ، وجاز أن يلحقه نقص ، وإذا قلت : زيد فاضل ولم يسلك شيئاً من طرق السفول ، فالآن أثبت له الفض المطلق في هذه الصفة والرب – سبحانه وتعالى – يتصف بصفات الكمال ، ولكنه إذا ذكر ما يضاد تلك الصفة صار ذلك أكمل ، ولهذا أعقب المؤلف رحمه الله الباب السابق بهذا الباب إشارة إلى أن الأسماء الحسنى والصفات العلى لا يلحقها نقص والسلام إسم ثبوتي سلبي فسلبي : أي أنه يراد به نفي كل نقص أو عيب يتصوره الذهن أو يتخيله العقل ، فلا يلحقه نقص في ذاته أو صفاته أو أفعاله أو أحكامه
وثبوتي : أي يراد به ثبوت هذا الاسم له ، والصفة التي تضمنها وهي السلامة
***
في الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : كنا إذا كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم في الصلاة ، قلنا : السلام على الله من عباده ، السلام على فلان وفلان فقال النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم : ( لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام ) (1)
ــــــــــــــــــــــ
قوله : ( في الصحيح ) هذا أعم من أن يكون ثابتاً في ( الصحيحين ) ، أو أحدهما ، أو غيرهما ، وانظر:(ص 146 ) باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، وهذا الحديث المذكور في (الصحيحين )(119/90)
قوله : ( كنا إذا كنا مع النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم في الصلاة ) الغالب أن المعية مع النبي صلي الله عليه وسلم صلي الله عليه وسلم في الصلاة لا تكون إلا في الفرائض ، لأنها هي التي يشرع لها صلاة الجماعة ، ومشروعية صلاة الجماعة في غير الفرائض قليلة ، كالاستسقاء
قوله : ( قلنا السلام على الله من عباده ) أي : يطلبون السلامة لله من الآفات ، يسألون الله أن يسلم نفسه من الآفات ، أو أن اسم السلام على الله من عباده ، لأن قول الإنسان السلام عليكم خبر بمعنى الدعاء ، وله معنيان :
1 - اسم السلام عليك ، أي : عليك بركاته باسمه
2 - السلامة من الله عليك ، فهو سلام بمعنى تسليم ، ككلام بمعنى تكليم
قوله : ( السلام على فلان وفلان ) أي : جبريل وميكائيل ، وكلمة فلان
يكنى بها عن الشخص ، وهي مصروفة ، لأنها ليست علماً ولا صفة ، كصفوان في قوله تعالى : ( كمثل صفوان عليه تراب ) ( البقرة :264)
وقد جاء في لفظ آخر : ( السلام على جبريل وميكال ) (1) كانوا يقولون هكذا في السلام فقال النبي صلي الله عليه وسلم ( لا تقولوا : السلام على الله ، فإن الله هو السلام )
وهذا نهي تحريم ، والسلام لا يحتاج إلى سلام ، هو نفسه – عز وجل – سلام سالم من كل نقص ومن كل عيب
وفيه دليل على جواز السلام على الملائكة ، لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم ينه عنه ، ولأنه عليه الصلاة والسلام لما أخبر عائشة أن جبريل يسلم عليها قالت:(عليه السلام ) (2)
فيه مسائل :
الأولى : تفسير السلام فبالنسبة لكونه اسماً من أسماء الله معناه السالم من كل نقص وعيب ، وبالنسبة لكونه تحية له معنيان :
الأول : تقدير مضاف ، أي ، اسم السلام عليكم ، أي : اسم الله الذي هو السلام عليكم
الثاني : أن السلام بمعنى التسليم اسم مصدر كالكلام بمعنى التكليم ، أي : تخبر خبراً يراد به الدعاء ، أي : أسأل الله أن يسلمك تسليماً(119/91)
الثانية : أنه تحية وسبق ذلك
الثالثة : أنها لا تصلح لله وإذا كانت لا تصلح له كانت حراماً
الرابعة : العلة في ذلك وهي أن الله هو السلام ، وقد سبق بيانها
الخامسة : تعليمهم التحية التي تصلح لله وتؤخذ من تكملة الحديث : ( فإذا صلى أحدكم ، فليقل : التحيات لله ….. ) ، وفيه حسن تعليم الرسول صلي الله عليه وسلم من وجهين :
الأول : أنه حينما نهاهم علل النهي
وفي ذلك فوائد :
1 - طمأنينة الإنسان إلى الحكم إذا قرن بالعلة
2 -بيان سمو الشريعة الإسلامية وأن أوامرها ونواهيها مقرونة بالحكمة ، لأن العلة حكمة
3 - القياس على ما شارك الحكم المعلل بتلك العلة
الثاني : أنه حين نهاهم عن ذلك بين لهم ما يباح لهم ، فيؤخذ منه أن المتكلم إذا ذكر ما ينهى عنه فليذكر ما يقوم مقامه مما هو مباح ، ولهذا شواهد كثيرة من القرآن والسنة سبق شيء منها
ويستفاد من الحديث : أنه لا يجوز الإقرار على المحرم ، لقوله : ( لا تقولوا : السلام على الله ) ، وهذا واجب على كل مسلم ، ويجب على العلماء بيان الأمور الشرعية لئلا يستمر الناس فيما لا يجوز ويرون أنه جائز ، قال تعالى : ( وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ) ( آل عمران : 187)
***
باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت
ـــــــــــــــــــــــــ
قوله : ( باب قول : اللهم اغفر لي إن شئت )
عقد المؤلف هذا الباب لما تضمنه هذا الحديث من كمال سلطان الله وكمال جوده وفضله ، ولك من صفات الكمال
قوله : ( اللهم ) معناه : يا الله ، لكن لكثرة الاستعمال حذفت يا النداء وعوض عنها الميم ، وجعل العوض في الآخر تيمناً بالابتداء بذكر الله(119/92)
قوله : ( اغفر لي ) المغفرة : ستر الذنب مع التجاوز عنه ، لأنها مشتقة من المغفر ، وهو ما يستر به الرأس للوقاية من السهام ، وهذا لا يكون إلا بشيء ساتر واق ، ويدل له قول الله – عز وجل – للعبد المؤمن حينما يخلو به ويقرره بذنوبه يوم القيامة : ( قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ) (1)
قوله : ( إن شئت ) 0 أي : إن شئت أن تغفر لي فاغفر ، وإن شئت فلا تغفر
***
في الصحيح عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال : ( لا يقل أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة ، فإن الله لا مكره له ) (1)
ـــــــــــــــــــــــــــ
قوله ( في الصحيح ) سبق الكلام على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف ، والمراد هنا الحديث الصحيح ، لأن الحديث في ( الصحيحين ) كليهما قوله صلي الله عليه وسلم : ( لا يقل أحدكم ) لا : ناهية بدليل جزم الفعل بعدها
قوله : ( اللهم اغفر لي ، اللهم أرحمني ) ففي الجملة الأولى : ( اغفر لي ) النجاة من المكروه ، وفي الثانية : ( أرحمني ) الوصول إلى المطلوب ، فيكون هذا الدعاء شاملاً لكل ما فيه حصول المطلوب وزوال المكروه
قوله : ( ليعزم المسألة ) اللازم لام الأمر ، ومعنى عزم المسألة : أن لا يكون في تردد بل يعزم بدون تردد ولا تعليق و( المسألة ) : السؤال ، أي : ليعزم في سؤاله فلا يكون متردداً بقوله : إن شئت
قوله : ( فإن الله لا مكره له ) تعليل للنهي عن قول : ( اللهم اغفر لي إن شئت ، اللهم ارحمني إن شئت ) ، أي : لا أحد يكرهه على ما يريد فيمنعه منه ، أو ما لا يريد فيلزمه بفعله ، لأن الأمر كله لله وحده
والتحذير في التعليق من وجوه ثلاثة :
ولمسلم : ( وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ) (1)
ــــــــــــــــــــــــ(119/93)
الأول : أنه يشعر بأن الله له مكره على الشيء ، وأن وراءه من يستطيع أن يمنعه ، فكأن الداعي بهذه الكيفية يقول : أنا لا أكرهك ، إن شئت فاغفر وإن شئت فلا تغفر
الثاني : أن أقول القائل : ( إن شئت ) كأنه يرى أن هذا أمر عظيم على الله فقد لا يشاؤه لكونه عظيماً عنده ، ونظير ذلك أن تقول لشخص من الناس – والمثال للصورة بالصورة لا للحقيقة بالحقيقة – أعطني مليون ريال إن شئت ، فإنك إذا قلت له ذلك ، ربما يكون الشيء عظيماً يتثاقله ، فقولك : إن شئت ، لأجل أن تهون عليه المسألة ، فالله – عز وجل – لا يحتاج أن تقول له : إن شئت ، لأنه – سبحانه وتعالى – لا يتعاظمه شيء أعطاه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: (وليعظم الرغبة ، فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه )
قوله: ( وليعظم الرغبة ) ، أي : ليسأل ما شاء من قليل وكثير ولا يقل : هذا كثير لا أسأل الله إياه ، ولهذا قال : ( فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه ) ، أي : لا يكون الشيء عظيماً عنده حتى يمنعه ويبخل به – سبحانه وتعالى – كل شيء يعطيه ، فإنه ليس عظيماً عنده ، فالله – عز وجل – يبعث الخلق بكلمة واحدة ، وهذا أمر عظيم ، لكنه يسير عليه ، قال تعالى : ( قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبئن بما علمتم وذلك على الله يسير ) ( التغابن : 7 ) وليس بعظيم ، فكل مايعطيه الله – عز وجل – لأحد من خلقه فليس بعظيم يتعاظمه ، أي : لا يكون الشيء عظيماً
عنده حتي لا يعطيه ، بل كل شيء عنده هين .(119/94)
الثالث: أنه يشعر بأن الطالب مستغن عن الله ، كانه يقول : إن شئت فأفعل ، وإن شئت فلا تفعل فأنا لا يهمني ، ولهذا قال : ( وليعظم الرغبة ) أي يسأل برغبة عظيمة ، والتعليق ينافي ذلك ، لأن المعلق للشيء المطلوب يشعر تعليقه بانه مستغن عنه ، والإنسان ينبغي أن يدعو الله تعالى وهو يشعر أنه مفتقر إليه غاية الإفتقار ، وأن الله قادر على ان يعطيه ما سأل ، وأن الله ليس يعظم عليه شيء ، بل هو هين عليه ، إذا من آداب الدعاء أن لا يدعو بهذه الصيغة ، بل يجزم فيقول : اللهم أغفر لي ، اللهم أرحمني ، اللهم وفقني ، وما اشبه ذلك ، وهل يجزم بالإجابة ؟
الجواب : إذا كان الأمر عائدا إلى قدرة الله! فهذا يجب أن تجزم بان الله قادر على ذلك ، قال الله تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر: من الآية60)
أما من حيث دعائك أنت باعتبار ما عندك من الموانع ، او عوم توافر الأسباب فإنك قد تتردد في الاجابة ، ومع ذلك ينبغي أن تحسن الظن بالله ، لأن الله ـ عز وجل ـ قال : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) فالذي وفقك لدعائه أولا سيمن عليك بالاجابة آخراً ، لا سيما إذا أتي الإنسان بأسباب الإجابة وتجنب الموانع ، ومن الموانع الاعتداء في الدعاء ، كأن يدعو بأثم أو قطيعة رحم .
ومنها أن يدعو بما لا يمكن شرعا وقدرا .
فشرعا كأن يقول : اللهم اجعلني نبيا .
وقدرا ً بأن يدعو الله تعالى بأن يجمع بين النقيضين ، وهذا أمر لا يمكن ، فالاعتداء بالدعاء مانع من اجابته ، وهو محرم لقوله تعالى:(ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)(لأعراف:55) وهو اشبه ما يكون بالاستهزاء بالله ـ سبحانه ـ
مناسبة الباب للتوحيد : من وجهين :(119/95)
1. من جهة الربوبية ، فإن من أتى بما يشعر بأن الله مكره لم يقم بتمام ربوبيته تعالى، لأن تمام الربوبية أنه لا مكره له، بل أن لا يسأل عما يفعل، كما قال تعالى : (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) (الأنبياء :23).
وكذلك فيه من ناحية الربوبية من جهة أخرى، وهو أن الله يتعاظم الأشياء التي يعطيها، فكان فيه قدح في جودة و كرمه .
2 – من ناحية العبد، فإنه يشعر باستغنائه عن ربه، وهذا نقص في توحيد الإنسان، سواء من جهة الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات، ولهذا ذكره المصنف في الباب الذي يتعلق بالأسماء والصفات .
فإن قلت : ما الجواب عما ورد في دعاء الاستخارة: (اللهم ! إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم ! إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فأصرفه عني و اصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به .(1) ، وكذا ما ورد في الحديث المشهور : ( اللهم ! أحيني ما كانت الحياة خيرا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خير لي (2) .(119/96)
فالجواب : أنني لم أعلق هذا بالمشيئة، ما قلت : فاقدره لي إن شئت، لكن لا أعلم أن هذا الخير لي أو شر والله يعلم، فأقول إن كنت تعلم إن هذا الأمر خير فاقدره لي، فالتعليق عندي مجهول لا اعلم هل هو خير لي أو لا؟ وكذا بالنسبة للحديث الآخر ، لأن الإنسان لا يعلم هل طول حياته خير أوشر؟ ولهذا كره أهل العلم أن تقول للشخص : أطال الله بقاءك، لأن طول البقاء لا يعلم، فقد يكون خيرا، وقد يكون شرا، ولكن يقال : أطال الله بقاءك على طاعته وما أشبه ذلك حتى يكون الدعاء خيرا بكل حال، وعلى هذا، فلا يكون في حديث الباب معارضة لحديث الاستخارة ولا حديث : (اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرا لي)، لأن الدعاء مجزوم به وليس معلقا بالمشيئة، والنهي إنما هو عما كان معلقا بالمشيئة .
لكن لو قال : اللهم اغفر إن أردت وليس إن شئت، فالحكم واحد لأن الإرادة هنا كونية، فهي بمعنى المشيئة، فالخلاف باللفظ لا يعتبر مؤثرا بالحكم .
* * *
فيه مسائل :
الأولى : النهي عن الاستثناء في الدعاء. والمراد بالاستثناء هنا الشرط، فإن الشرط يسمى استثناء بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير (حجي واشترطي، فإن لك على ربك ما استثنيت)(1)، ووجهه أنك إذا قلت : أكرم زيدا إن أكرمك، فهو كقولك : أكرم زيدا إلا ألا يكرمك، فهو بمعنى الاستنثناء في الحقيقة.
الثانية : بيان العلة في ذلك . وقد سبق أنها ثلاث علل :
أنه تشعر بأن الله له مكره، والأمر ليس كذلك .
أنها تشعر بأن هذا أمر عظيم على الله قد يثقل عليه ويعجز عنه، والأمر ليس كذلك .
أنها تشعر باستغناء الإنسان عن الله، وهذا غير لائق وليس من الأدب .
الثالثة : قوله : (ليعزم المسالة) . تفيد أنك إذا سألت فاعزم ولا تردد .
الرابعة : إعظام الرغبة . لقوله صلى الله عليه وسلم : (وليعظم الرغبة)، أي : ليسال
الخامسة : التعليل لهذا الأمر ..
ما بدا له فلا شي عزيز أو ممتنع على الله .(119/97)
الخامسة : التعليل لهذا الأمر . يستفاد من قوله : (فإن الله لا يتعاظمه شي، أو لا مكره له) وقوله : (وليعظم الرغبة، وفي هذا حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم إذا ذكر شيئا قرنه بعلته .
وفي ذكر علة الحكم فوائد :
الأولى : بيان سمو هذه الشريعة، وأنه ما من شي تحكم به إلا وله علة وحكمه .
الثانية : زيادة طمأنينة الإنسان، لأنه إذا فهم العلة مع الحكم اطمأن، ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر لم يقل حلال أو حرام، بل قال : (أينقص إذا جف؟) قالوا : نعم . فنهى عنه (2).
(والرجل الذي قال : إن امرأتي ولدت غلاما أسود – لم يقل صلى الله عليه وسلم الولد لك – بل قال : هل لك من إبل ؟ قال : نعم . قال : ما ألوانها؟ قال : حمر. قال : هل فيها من أورق – الأورق : الأشهب الذي بين البياض والسواد - ؟ قال : نعم . قال : من أين؟ قال : لعله نزعة عرق (3)، قال لعل ابنك نزعة عرق ، فاطمأن ، وعرف الحكم، وأن هذا هو الواقع، فقرن الحكم بالعلة يُوجب الطمأنينة ومحبة الشريعة والرغبة فيها .
الثالثة : القياس إذا كانت المسألة في حكم من الأحكام، فليحق بها ما شاركها في العلة .
باب لا يقول : عبدي وأمتي
في الصحيح عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقل أحدكم : أطعم ربك، وضيء ربك، وليقل : سيدي ومولاي. ولا يقل أحدكم : عبدي أمتي . وليقل : فتاي وفتاتي وغلامي (1)) .
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
هذه الترجمة تحتمل كراهة هذا القول وتحريمه، وقد اختلف العلماء في ذلك وسيأتي التفصيل فيه.
قوله : (في الصحيح) . سبق التنبيه على مثل هذه العبارة في كلام المؤلف، وهذا الحديث في (الصحيحين)، أي : في الحديث الصحيح، ولعله أراد (صحيح البخاري) ، لأن هذا لفظه، أما لفظ مسلم، فيختلف .
قوله صلى الله عليه وسلم : (لا يقل) . الجملة نهي .
(عبدي)، أي : للغلام .
و(أمتي)، أي : للجارية .(119/98)
والحكم في ذلك ينقسم إلى قسمين :
الأول : أن يضيفه إلى غيره، مثل أن يقول : عبد فلان أو أمة فلان، فهذا جائز، قال تعالى : (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم) (النور :32) وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة)(2).
الثاني : أن يضيفه إلى نفسه ، وله صورتان :
الأولى : أن يكون بصيغة الخبر، مثل : أطعمت عبدي، كسوت عبدي، أعتقت عبدي، فإن قاله في غيبة العبد أو الأمة، فلا بأس به، وإن قاله في حضرة العبد أو الأمة، فإن ترتب عليه مفسدة تتعلق بالعبد أو السيد منع، وإلا، فلا لأن قائل ذلك لا يقصد العبودية التي هي الذل، وإنما يقصد أنه مملوك .
الثانية : أن يكون بصيغة النداء فيقول السيد : يا عبدي! هات كذا، فهذا منهي عنه، وقد اختلف العلماء في النهي : هل هو للكراهة أو التحريم ؟ والراجح التفصيل في ذلك، وأقل أحواله الكراهة.
قوله صلى الله عليه وسلم :(لا يقل أحدكم : أطعم ربك ...الخ) . أي : لا يقل أحدكم لعبد غيره، ويحتمل أن يشمل قول السيد لعبده حيث يضع الظاهر موضع المضمر تعاظما .
واعلم أن إضافة الرب إلى غير الله تعالى تنقسم إلى أقسام :
القسم الأول : أن تكون الإضافة إلى ضمير المخاطب، مثل : أطعم ربك، وضيء ربك ، فيكره ذلك للنهي عنه، لأن فيه محذورين :
من جهة الصيغة، لأنه يوهم معنى فاسدا بالنسبة لكلمة رب، لأن الرب من أسمائه سبحانه، وهو يطعم ولا يُطعم، وإن كان بلا شك أن الرب هنا غير رب العالمين الذي يطعم ولا يطعم، ولكن من باب الدب في اللفظ.
من جهة المعنى أنه يشعر العبد أو الأمة بالذل، لأنه إذا كان السيد ربا كان العبد أو الأمة مربوبا .(119/99)
القسم الثاني : أن تكون الإضافة إلى ضمير الغائب، لا بأس به، كقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أشراط الساعة : (أن تلد الأمة ربها)(3)، وأما لفظ (ربتها)(4) ، فلا إشكال فيه لوجود تاء التأنيث فلا اشتراك مع الله في اللفظ ، لأن الله لا يقال له إلا رب ، وفي حديث الضالة – وهو متفق عليه – ( حتي يجدها ربها)(5) وقال بعض أهل العلم– وهو متفق عليه : إن حديث الضالة في بهيمة لا تتعبد ولا تتذلل، فليست كالإنسان، والصحيح عدم الفارق، لأن البهيمة تعبد الله عبدة خاصة، قال تعالى : (ولله يسجد من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب)، وقال في الناس : (وكثير من الناس) ليس جميعهم : (وكثير حق عليه العذاب) ( الحج : 18) ، وعلى هذا، فيجوز أن تقول : أطعم الرقيق ربه، ونحوه ...
القسم الثالث:أن تكون الإضافة إلى ضمير المتكلم، بان يقول العبد: هذا ربي، فهل يجوز هذا؟
قد يقول قائل : إن هذا جائز، لأن هذا من العبد لسيده، وقد قال تعالى عن صاحب يوسف : (إنه ربي أحسن مثواي) ( يوسف :32)، أي : سيدي، ولأن المحذور من قول (ربي) هو إذلال العبد، وهذا منتف، لأنه هو بنفسه يقول : هذا ربي .
القسم الرابع: أن يضاف الاسم إلى الظاهر، فيقال: هذا رب الغلام، فظاهر الحديث الجواز، وهو كذلك ما لم يوجد محذور فيمنع، كما لو ظن السامع أن السيد رب حقيقي خالق ونحو ذلك.
قوله : (وليقل : سيدي ومولاي) . المتوقع أن يقول : وليقل سيدك ومولاك، لأن مقتضى الحال أن يرشد إلى ما يكون بدلا عن اللفظ المنهي عنه بما يطابقه، وهنا ورد النهي بلفظ الخطاب، والإرشاد بلفظ التكلم، وليقل : (سيدي ومولاي)، ففهم المؤلف رحمه الله – كما سيأتي في المسائل- أن فيه لإشارة إلى أنه إذا كان الغير قد نهى أن يقول للعبد : أطعم ربك، فالعبد من باب أولى أن ينهي عن قول : أطعمت ربي، وضأت ربي، بل يقول : سيدي ومولاي .(119/100)
وأما إذا قلنا بأن أطعم ربك خاص بمن يخاطب العبد لما فيه من إذلال العبد بخلاف ما إذا قال هو بنفسه : أطعمت ربي، فإنه ينتفي الإذلال، فإنه يقال : إن الرسول صلى الله عليه وسلم لما وجه الخطاب إلى العبد نفسه ، فقال : (وليقل : سيدي ومولاي) ، أي بدلا عن قوله : أطعمت ربي، وضأت ربي .
وقوله : (سيدي) السيادة في الأصل علو المنزلة، لأنها من السؤدد والشرف والجاه وما أشبه ذلك.
والسيد يطلق على معان ، منها : المالك، والزوج ، والشريف المطاع .
وسيدي هنا مضافة إلى ياء المتكلم وليست على وجه الإطلاق .
فالسيد على وجه الإطلاق لا يقال إلا لله – عز وجل – قال صلى الله عليه وسلم(السيد الله)(1)
وأما السيد مضافة، فإنها تكون لغير الله، قال تعالى:(وألفيا سيدها لدى الباب) (سورة يوسف : 25) وقال صلى الله عليه وسلم : (أنا سيد ولد آدم يوم القيامة)(2) ، والفقهاء يقولون : إذا قال السيد لعبده، أي : سيد العبد لعبده .
· تنبيه :
اشتهر بعض الناس إطلاق السيدة على المرأة، فيقولون مثلا : هذا خاص بالرجال، وهذا خاص بالسيدات، وهذا قلب للحقائق، لأن السادة هم الرجال، قال تعالى : (وألفيا سيدها لدى الباب) وقال : (الرجال قوامون على النساء) (الأنعام :62) ، وقال صلى الله عليه وسلم : (إن النساء عوان عندكم)(3) . أي : بمنزلة السير، وقال في الرجل : (راع في أهله ومسؤول عن رعيته)(4) ، فالصواب أن يقال للواحدة امرأة وللجماعة منهن نساء .
قوله : (ومولاي) . أي : وليقل مولاي، والولاية تنقسم إلى قسمين :
القسم الأول : ولاية مطلقة، وهذه لله – عز و جل - لا تصلح لغيره،
كالسيادة المطلقة .
وولاية الله نوعان :
النوع الأول : عامة، وهي الشاملة لكل أحد، قال تعالى : (ثم ردوا إلى الله مولاهم الحق وضل عنهم ما كانوا يفترون) (الأنعام : 62) ، فجعل له ولاية على هؤلاء المفترين، وهذه ولاية عامة .(119/101)
النوع الثاني : خاصة بالمؤمنين، قال تعالى : (ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم) (محمد :11) ، وهذه ولاية خاصة ، ومقتضى السياق أن يقال: وليس مولى الكافرين، لكن قال : (لا مولى لهم)، أي : لا هو مولى للكافرين ولا أولياؤهم الذين يتخذونهم آلهة من دون الله موالي لهم لأنهم يوم القيامة يتبرؤون منهم .
القسم الثاني : ولاية مقيدة مضافة، فهذه تكون لغير الله، ولها في اللغة معان كثيرة، منها : الناصر، والمتولي للأمور، والسيد، والعتيق.
قال تعالى : (وإن تظاهرا عليه فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين) (التحريم : 4)، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه : ( من كنت مولاه، فعليّ مولاه)(1)، وقال صلى الله عليه وسلم : (إنما الولاء لمن اعتق)(2) . ويقال للسلطان ولي الأمر، والعتيق مولى فلان لمن أعتقه، وعليه يعرف أنه لا وجه لاستنكار بعض الناس لمن خاطب ملكا بقوله : مولاي، لأن المراد
بمولاي أي متولي أمري، ولا شك أن رئيس الدولة يتولى أمورها، كما قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) (النساء :59)
قوله صلى الله عليه وسلم : (ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي) ، هذا خطاب للسيد أن لا يقول : عبدي وأمتي لمملوكه ومملوكته، لأننا جميعا عباد الله، ونساؤنا إماء لله ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)(3) .
فالسيد منهي أن يقول ذلك، لأنه إذا قال : عبدي وأمتي، فقد تشبه بالله – عز وجل – ولو من حيث ظاهر اللفظ، لأن الله – عز وجل – يخاطب عباده بقوله : عبدي، كما في الحديث : (عبدي استطعمتك فلم تطعمني ...)(4) وما أشبه ذلك .
وإن كان السيد يريد بقوله : (عبدي)، أي : مملوكي، فالنهي من باب التنزه عن اللفظ الذي يوهم الإشراك، وقد سبق بيان حكم ذلك(5) .
وقوله : (وأمتي) . الأمة : الأنثى من المملوكات، وتسمى الجارية .(119/102)
والعلة من النهي : أن فيه إشعارا بالعبودية، وكل هذا من باب حماية التوحيد والبعد عن التشريك حتى في اللفظ، ولهذا ذهب بعض أهل العلم ومنهم شيخنا عبد الرحمن السعدي رحمه الله إلى أن النهي في الحديث ليس على سبيل التحريم، وأنه على سبيل الأدب والأفضل والأكمل، وقد سبق بيان حكم ذلك مفصلا .
قوله : (وليقل فتاي وفتاتي) .مثله جاريتي وغلامي، فلا بأس به .
وفي الحديث فوائد :
حسن تعليم الرسول صلى الله عليه وسلم،حيث إنه إذا نهى عن شيء فتح للناس ما
يباح لهم فقال : (لا يقل : عبدي وأمتي، وليقل : فتاي وفتاتي) ، وهذه كما هي طريقة القرآن أيضا، قال تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا) (البقرة :104) ، وهكذا ينبغي لأهل العلم وأهل الدعوة إذا سدوا على الناس ويسدوا الطرق أمامهم، لأن في ذلك فائدتين عظيمتين :
الأولى : تسهيل ترك المحرم على هؤلاء، لأنهم إذا عرفوا أن هناك بدلا عنه هان عليهم تركه.
الثانية : بيان أن الدين الإسلامي فيه سعة، وأن كل ما يحتاج إليه الناس، فإن الدين الإسلامي يسعه، فلا يحكم على الناس أن يتكلموا بشي أو لا يفعلوا شيئا إلا وفتح لهم ما يغني عنه، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية .
2 – أن الأمر يأتي للإباحة ، لقوله : (وليقل : سيدي ومولاي)، وقد قال العلماء : إن الأمر إذا أتى في مقابلة شي ممنوع صار للإباحة ، وهنا جاء الأمر في مقابلة شي ممنوع، ومثله قوله تعالى : (وإذا حللتم فاصطادوا) (المائدة :2) .
* * *
فيه مسائل :
* الأولى : النهي عن قول : عبدي وأمتي. تؤخذ من قوله : (ولا يقل أحدكم عبدي وأمتي)، وقد سبق بيان ذلك .
* الثانية : لا يقول العبد : ربي، ولا يقال له :أطعم ربك . تؤخذ من الحديث، وقد سبق بيان ذلك .
* الثالثة : تعليم الأول (وهو السيد) قول : فتاي وفتاتي وغلامي .
* الرابعة : تعليم الثاني (وهو العبد) قول : سيدي ومولاي .(119/103)
* الخامسة : التنبيه للمراد، وهو تحقيق التوحيد حتى في الألفاظ . وقد سبق ذلك .
وفي الباب مسائل أخرى لكن هذه المسائل هي المقصود .
* * *
باب لا يرد من سال بالله
ـــــــــــــــــــــــــ
قوله : (باب لا يرد) . (لا) نافية بدليل رفع المضارع بعدها، والنفي يحتمل أن يكون للكراهة، وأن يكون للتحريم .
وقوله : (من سأل بالله) . أي : من سأل غيره بالله، والسؤال بالله ينقسم إلى قسمين :
أحدهما : السؤال بالله بالصيغة، مثل أن يقول : أسألك بالله كما تقدم في حديث الثلاثة حيث قال الملك : (أسألك بالذي أعطاك الجلد الحسن واللون الحسن بعيرا)(1) .
الثاني : السؤال بشرع الله – عز وجل -، أي : يسأل سؤالا يبيحه الشرع، كسؤال الفقير من الصدقة، والسؤال عن مسألة من العلم، وما شابه ذلك .
وحكم من رد من سأل بالله الكراهة أو التحريم حسب حال المسؤول والسائل ، وهنا عدة مسائل :
المسألة الأولى : هل يجوز للإنسان أن يسأل بالله أم لا؟
وهذه المسألة لو يتطرق إليه المؤلف رحمه الله، فنقول أولا : السؤال من حيث هو مكروه ولا ينبغي للإنسان أن يسأل أحدا شيئا إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، ولهذا كان مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يسألوا الناس شيئا، حتى إن عصا أحدهم ليسقط منه وهو على راحلته، فلا يقول لأحد : ناولينه، بل ينزل ويأخذه(2) .
والمعنى يقتضيه، لأنك إذا أعززت نفسك ولم تذلها لسؤال الناس بقيت محترما عند الناس، وصار لك منعة من أن تذل وجهك لأحد، لأن من أذل وجهه لأحد، فإنه ربما يحتاجه ذلك الأحد لأمر يكره أن يعطيه إياه، ولكنه سأله اضطر إلى يجيبه، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (ازهد فيما عند الناس يحبك الناس)(1) ، فالسؤال أصلا مكروه أو محرم إلا لحاجة أو ضرورة .(119/104)
فسؤال المال محرم، فلا يجوز أن يسال من أحد مالا إلا إذا دعت الضرورة إلى ذلك، وقال الفقهاء رحمهم الله في باب الزكاة : (إن من أبيح له أخذ شي أبيح له سؤاله)، ولكن فيما قالوه نظر،فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حذر من السؤال ، وقال : ( إن الإنسان لا يزال يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم)(2)، وهذا يدل على التحريم إلا للضرورة .
وأما سؤال المعونة بالجاه أو المعونة بالبدن، فهذا مكروه، إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك .
وأما إجابة السائل، فهو موضوع بابنا، ولا يخلو السائل من أحد الأمرين :
الأول : أن يسأل سؤالا مجردا، كأن يقول مثلا : يا فلان ! أعطني كذا وكذا، فإن كان مما أباحه الشارع له فإنك تعطيه، كالفقير يسأل شيئا من الزكاة.
الثاني : أن يسأل بالله ، فهذا تجيبه وإن لم يكن مستحقا، لأنه سال بعظيم، فإجابته من تعظيم هذا التعظيم، لكن لو سال إثما أو كان في إجابته ضرر على المسؤول، فإنه يجاب.
مثال الأول : أن يسألك بالله نقودا ليشتري بها محرما كالخمر.
ومثال الثاني : أن يسألك بالله أن تخبره عما في سرك وما تفعله مع أهلك ، فهذا لا يجاب لأن في الأول إعانة على الإثم، وإجابته في الثاني ضرر على المسؤول .
عن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : (من سأل بالله فأعطوه ؛ ومن استعاذ بالله ؛ فأعيذوه ، ومن دعاكم ؛ فأجيبوه ، ومن صنع إليكم معرروفا ؛ فكافئوه ، فإن لم تجدوا ما تكافئوه ، فأدعوا له حتي تروا أنكم قد كافأتموه ) . رواه أبو داوود والنسائي بسند صحيح (1)
ـــــــــــــــــــــــ
* * *
قوله صلى الله عليه وسلم : (من سال بالله) . (من) : شرطية للعموم .
قوله : (فأعطوه) الأمر هنا للوجوب ما لم يتضمن السؤال إثما أو ضررا على المسؤول، لأن في إعطائه إجابة لحاجته وتعظيما لله - عز وجل – الذي سال به .(119/105)
ولا يشترط أن يكون سؤاله بلفظ الجلالة بل بكل اسم يختص بالله، كما قال الملك الذي جاء إلى الأبرص والقرع والأعمى : (أسألك بالذي أعطاك كذا وكذا)(3) .
قوله : (ومن استعاذ بالله فأعيذوه) . أي قال : أعوذ بالله منك ، فإنه يجب عليك أن تعيذه، لأنه استعاذ بعظيم، ولهذا لما قالت ابنة الجون للرسول صلى الله عليه وسلم: أعوذ بالله منك، قال لها : (لقد عذت بعظيم- أو معاذ -، الحقي بأهلك(4).
لكن يستثنى من ذلك لو استعاذ من أمر واجب عليه، فلا تعذه، مثل أن تلزمه بصلاة الجماعة، فقال أعوذ بالله منك .
وكذلك لو ألزمته بالإقلاع عن أمر محرم، فاستعاذ بالله منك، فلا تعذه لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، ولأن الله لا يعيذ عاصيا، بل العاصي يستحق العقوبة لا الانتصار له وإعادته .
وكذلك من استعاذ بملجأ صحيح يقتضي الشرع أن يعيذه – وإن لم يقل أستعيذ بالله -، فإنه يجب عليك أن تعيذه كما قال أهل العلم : لو جنى أحد جناية ثم لجأ إلى الحرم، فإنه لا يقام عليه الحد ولا القصاص في الحرم، ولكنه يضيق عليه، فلا يبايع، ولا يشترى منه، ولا يؤجر حتى يخرج .
قوله:(ومن دعاكم فأجيبوه). (من) : شرطية للعموم، والظاهر أن المراد بالدعوة هنا للإكرام، وليس المقصود بالدعوة هنا النداء .
وظاهر الحديث وجوب إجابة الدعوة في كل دعوة، وهو مذهب الظاهرية .
وجمهور أهل العلم : أنها مستحبة إلا دعوة العرس ، فإنها واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم فيها:(شر الطعام طعام الوليمة، يدعى إليها من يأباها ويمنعها من يأتيها ، ومن لم يجب ، فقد عصى الله ورسوله)(1) . وسواء قيل بالوجوب أو الاستحباب، فإنه يشترط لذلك شروط :
1. أن يكون الداعي ممن لا يجب هجره أو يسن .
2. ألا يكون هناك منكر في مكان الدعوة، فإن كان هناك منكر، فإن أمكنة إزالته، وجب عليه الحضور لسببين :
- إجابة الدعوة .
- وتغيير المنكر .(119/106)
وإن كان لا يمكن إزالته حرم عليه الحضور، لأن حضوره يستلزم إثمه، وما استلزم الإثم ، فهو إثم .
3. أن يكون الداعي مسلما، وإلا لم تجب الإجابة، لقوله صلى الله عليه وسلم : (حق المسلم على المسلم خمس ...) وذكر منها: ( إذا دعاك فأجبه)(1). قالوا : وهذا مقيد للعموم الوارد .
4. أن لا يكون كسبه حرام، لأن إجابته تسلتزم أن تأكل طعاما حراما، وهذا لا يجوز، وبه قال بعض أهل العلم .
وقال آخرون : ما كان محرما لكسبه، فإنما إثمه على الكاسب لا على من أخذه بطريق مباح من الكاسب، بخلاف ما كان محرما لعينه، كالخمر والمغصوب ونحوهما، وهذا القول وجيه قوي، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم اشتري من يهودي طعاما لأهله(3)، واكل من الشاة التي أهدتها له اليهودية بخيبر(4)، وأجاب دعوة اليهودي،(5) ومن المعلوم أن اليهود معظمهم يأخذون الربا ويأكلون السحت، وربما يقوي هذا القول قوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة : (هو لها صدقة ولنا منها هدية) (6) .
وعلى القول الأول، فإن الكراهة تقوي وتضعف حسب كثرة المال الحرام وقلته، فكلما كان الحرام أكثر كانت الكراهة أشد، وكلما قل كانت الكراهة أقل .
5. أن لا تتضمن الإجابة إسقاط واجب أو ماهو أوجب منها، فإن تضمنت ذلك حرمت الإجابة .
6. أن لا تتضمن ضررا على المجيب، مثل أن تحتاج إجابة الدعوة إلى سفر أو مفرقة هله المحتاجين إلى وجوده بينهم .
مسألة : هل إجابة الدعوة حق على لله أو للآدمي؟
الجواب : حق للآدمي، ولهذا طلبت من الداعي أن يقيلك فقبل، فلا إثم عليك، لكنها واجبة بأمر الله عز وجل- ، ولهذا ينبغي أن تلاحظ أن إجابتك طاعة لله وقيام بحق أخيك، لكن صاحبها أن يسقطها كما أن له أن لا يدعوك أيضا، ولكن إذا أقالك حياء منه وخجلا من غير اقتناع، فإنه لا ينبغي أن تدع الإجابة .
مسألة : هل بطاقات الدعوة التي توزع كالدعوة بالمشافهة ؟(119/107)
الجواب : البطاقات ترسل إلى الناس ولا يدري لمن ذهبت إليه، فيمكن أن نقول : إنها تشبه دعوة الجفلي فلا تجب الإجابة، أما إذا علم أو غلب على الظن أن الذي أرسلت إليه مقصود بعينه، فإنه لها حكم الدعوة بالمشافهة .
قوله : (من صنع إليكم معروفا، فكافئوه) . المعروف : الإحسان، فمن أحسن إليك بهدية أو غيرها، فكافئه، فإذا أحسن إليك بإنجاز معاملة وكان عملا زائدا عن الواجب عليه،فكافئه، وهذا، كالملك أو الرئيس ... مثلا إذا أعطاك هدية، فمثل هذا يدعي له، لأنك لو كافأته لرأى أن في ذلك غضا من حقه فتكون مسيئا له، والنبي صلى الله عليه وسلم أن تكافئه إحسانه .
وللمكافأة فائدتان :
1. تشجيع ذوي المعروف على فعل المعروف .
2. أن الإنسان يكسر بها الذل الذي حصل له يصنع المعروف إليه ، لأن من صنع إليك
معروفا فلا بد أن يكون في نفسك رقة له، فإذا رددت إليه معروفه زال عنك ذلك، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : (اليد العليا خير من اليد السفلى)(7)، واليد العليا هي يد المعطي، وهذه فائدة عظيمة لمن صنع له معروفا، لئلا يرى لأحد عليه منة إلا الله – عز وجل -، لكن بعض الناس يكون كريما جدا، فإذا كافأته بدل هديته أكثر مما أعطيته ، فهذا لا يريد مكافأة ، ولكن يدعي له، لقوله صلى الله عليه وسلم : (فإن لم تجدوا ما تكافئونه، فادعوا له) وكذلك الفقير إذا لم يجد مكافأة الغني فإنه يدعو له .
ويكون الدعاء بعد الإهداء مباشرة، لأنه من باب المسارعة إلى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأنه به سرور صانع المعروف .
قوله : (حتى تروا أنكم قد كافأتموه) . (تروا) ، بفتح التاء بمعنى تعلموا، وتجوز بالضم بمعنى تظنوا، أي : حتى تعلموا أو يغلب على ظنكم أنكم قد كافأتموه، ثم أمسكوا .
* * *
* فيه مسائل :
* الأولى : إعاذة من استعاذ بالله. وسبق أن من استعاذ بالله وجبت إعاذته، إلا أن يستعيذ عن شي واجب فعلا أو تركا، فإنه لا يعاذ .(119/108)